والصفات والكميات، والفضائل، والانفعالات، والنفس والجسم، والله والنجوم، كلها صور مادية أو عمليات، تختلف في درجة رقتها، ولكنها واحدة في جوهرها (54). غير أن المادة كلها حركية، مملوءة بالتوتر والقوى، لا تنقطع عن العمل على الانتشار أو التركيز، يبعث فيها الحياة من داخلها وخارجها النشاط والحرارة أو النار. والعالم يعيش بواسطة عدد لا يحصى من دورات التمدد والانكماش، والتطور والانحلال، يحترق من آن إلى آن في لهب عظيم، ثم يتشكل على مهل من جديد. ثم يعود فيمر في تاريخه القديم كله بأدق تفاصيله (1) لأن تسلسل العلل والمعلولات يسير في دائر مفرغة ويتكرر إلى غير نهاية. وكل الحوادث وكل أعمال الإدارة مقررة معينة، ومن المستحيل على شيء ما أن يحدث على نحو يخالف ما حدث عليه، كما أنه يستحيل على شيء أن ينشأ من لا شيء؛ ولو حدثت أية ثغرة في السلسلة لتمزق العالم.
والله في هذا النظام هو البداية والوسط والنهاية. وكان الرواقيون يعترفون بضرورة وجود الدين ليكون أساساً للأخلاق الفاضلة؛ فكانوا ينظرون نظرة التسامح اللطيفة لعقائد الشعب الدينية وما فيها من شياطين، ومن تنبؤ بالغيب، وكانوا يجدون لهذه تفسيرات مصوغة في تشبيهات ومجازات يسدون بها الثغرة الفاضلة بين الخرافة والفلسفة. وكانوا يقبلون علم التنجيم الكلداني ويعتقدون بصحته في جوهره، ويرون أن شؤون الأرض تنطبق انطباقاً خفياً مستمراً على حركات النجوم (55). فكان ذلك لديهم صورة من صور التعاطف العالمي الذي يجعل كل ما يحدث في جزء منه يؤثر في سائر الأجزاء. وكأنهم أرادوا ألا يكتفوا بوضع نظام أخلاقي للمسيحية، بل شاءوا أن يضعوا لها أيضاً نظامها الديني، ففكروا في العالم، والشرائع، والحياة، والنفس، والأقدار من حيث
_________
(1) وإنا ليسرنا ويقضي على مخاوفنا أن نعلم أن من الرواقيين من لم يكونوا واثقين كل الثقة من هذه المسألة.(8/181)
صلتها بالله، وعرفوا الأخلاق الفاضلة بأنها الاستسلام عن رضا واختيار لإرادة الله. والله عندهم، كالإنسان، مادة حية؛ فالعلم كله جسمه، ونظام العالم وقانونه عقله وإرادته؛ والكون كائن حي ضخم، الله روحه، ونسمته المنعشة، وعقله المخصب، وناره المحركة المنشطة (56). وترى الرواقيين أحياناً يفكرون في الله تفكيراً مجرداً غير مجسد؛ ولكنهم يصورونه في الأكثر الأهم على أنه قوة مدبرة تضع للكون خطته وترشده بعقلها الأعلى، وتنظم أجزاءه كلها لتؤدي أغراضاً تنطبق على العقل، وتجعل كل شيء فيه يعود بالنفع على الأفاضل من الناس. ويوحد أقلانيتوس بين الله وزيوس في ترنيمة توحيدية خليقة بأن ينطبق بها إخناتون أو إشعيا:
حمداً لك يا زيوس، حمداً يفوق حمد جميع الآلهة: إن أسماءك لكثيرة،
وإن قوتك لأعظم القوى إلى أبد الدهر.
منك بدأ العالم، وأنت تحكم الأشياء كلها بقوة القانون،
وإليك تتحدث كل الأجسام لأننا نحن جميعاً أبناؤك.
ومن أجل هذا أرفع إليك نشيداً أتغنى فيه بقوتكَ:
إن نظام الكون بأجمعه يطيع كلمتك في تحركها حول الأرض
حيث تختلط الأضواء الصغيرة والكبيرة: ألا ما أجل شأنك
لك الملك إلى أبد الدهر!
لا شيء يحدث على الأرض إلا بعلمك، ولا في السماء ولا في البحار:
إلا ما يفعله الأشرار: مدفوعين إليه بحمقهم؛
ولكن لك من الحذق ما يصلح المعوج نفسه، وما لا صورة له يصور
والبعيد أمامك قريب
وهكذا نظمت الأشياء كلها فجعلتها وحدة: خيرها وشرها:
حتى تكون كلمتك واحدة في الأشياء جميعها: باقية إلى الأبد.(8/182)
طهر نفوسنا من الحماقة، حتى نرد إليك
الفضل الذي تفضلت علينا به:
فنتغنى بمدح أعمالك إلى أبد الآبدين:
غناء يليق ببني الإنسان.
وما أشبه الإنسان والعالم بالكون الصغير في الكون الكبير، فهو أيضاً كائن حي ذو جسم مادي والنفس مادية، ذلك بأن كل ما يحرك الجسم أو يؤثر فيهِ، وكل ما يحركه الجسم أو يؤثر فيه، لا بد أن يكون ذا جسم. والنفس نسيم ناري (نيوما Pneuma) منبثة في جميع أجزاء الجسم، كما أن النفس العالمية منبثة في جميع العالم. وهي تبقى بعد الجسم إذا مات، ولكنها تبقى على هيئة طاقة غير شخصية. وحين يحدث اللهب الأخير تمتص الروح مرة أخرى في محيط الطاقة وهو الله كما يمتص أتمان Atman في برهمان Brahman.
وإذ كان الإنسان جزءاً من الله أو الطبيعة فإن من اليسير أن تحل المشكلة الأخلاقية على النحو الآتي: الخير هو التعاون مع الله أي مع الطبيعة ونعني بها قانون العالم. وليس الخير هو الجري وراء الاستمتاع أو اللذة لأن هذا الجري يخضع العقل للشهوة، وكثيراً ما يؤذي الجسم أو العقل، وقلما يرضينا في آخر الأمر. ولا يمكن أن تتحقق السعادة إلا بالمواءمة بين أغراضنا وسلوكنا من جهة، وبين أغراض العالم وقوانينه من جهة أخرى؛ وليس ثمة تعارض بين صالح الفرد وصالح الكون، لأن قانون الخير في حالة الفرد يتفق مع قانون الطبيعة. وإذا لحق الشر بالرجل الطيب فإن هذا لا يكون إلا إلى أجل قصير، وليس هو في واقع الأمر شراً؛ ولو أننا استطعنا أن نفهم الأمر كله لرأينا ما وراءه من خير مهما يظهر في أجزائه من الشر (1). والرجل العاقل لا يدرس العلوم
_________
(1) يقول أقريسبوس إن الحروب تصحيح مفيد لازدحام العالم بالسكان، وبق الفراش يفيد في منعنا من الإفراط في النوم.(8/183)
الطبيعية إلا بالقدر الذي يكفي لمعرفة قانون الطبيعة ثم يكيف حياته وفق هذا القانون، وغرض العلم والفلسفة والمبرر الوحيد لدراستها هما تمكيننا من أن نعيش وفق الطبيعة Zen Kata physin. ويسلم أقلانيتوس إرادته لإرادة الله في ألفاظ تكاد أن تكون هي بعينها ألفاظ نيومن Neunam:
أهدني يا الله، وأنتَ يا قدري،
إلى ذلك المكان الوحيد الذي تريدني أن أشغله.
وسأتبع هديكما مسروراً. فإذا ما وصلتُ معكما
ثم نكثتُ العهد، فلا بد لي من أن أواصل السير معكما.
ومن أجل هذا يتجنب الرواقي الترف والتعقيد، والمنازعات السياسية والاقتصادية؛ وهو يقنع بالقليل، ويقبل بلا تذمر صعاب الحياة وما يلاقيه فيها من خيبة. ولا يأبه بشيء غير الفضيلة والرذيلة- ر يبالي بالمرض والألم، بحسن السمعة أو سوئها، بالحرية أو الرق، بالحياة أو الموت. ويقمع كل شعور يقف في وجه سير الطبيعة أو يبعث على الارتياب في حكمتها: فإذا مات ولده لم يحزن، بل يرضى بحكم القدر معتقداً أنه أحسن الأحكام وإن خفي الأمر عليه؛ ويسعى لأن يكون مجرداً من الشعور تجرداً تاماً، حتى يكون هدوء عقله آمناً من جميع تقلبات الحظ، أو الرحمة، أو الحب، ومن وقعها عليه (1). وعلى الرواقي أن يكون معلماً قاسياً، وإداريا صارماً. والجبرية لا تتضمن الانطلاق من القيود، بل يجب علينا أن نكبح جماح أنفسنا وأنفس غيرنا، وأن نتحمل من الناحية الخلقية تبعات جميع أعمالنا. ولما أن ضرب
_________
(1) واقترح كريسبوس أن يقتصر في العناية بالموتى من الأقارب على دفنهم بأبسط الوسائل وأهدئها، ثم قال إن خيراً من هذا العمل نفسه أن نتخذ لحمهم طعاماً.(8/184)
زينون عبده لأنه سرق، وكان العبد يعرف قليلاً من العلم، قال له: "ولكني قد قدر عليَّ أن أسرق"، فرد عليه زينون بقولهِ: "وقدر أيضاً أن أضربك" (61). ويرى الرواقي أن جزاء الفضيلة هو الفضيلة نفسها، وأنها واجب مطلق وأمر محتوم، مستمد من اشتراكه في الألوهية؛ وإذا أصابه مكروه عزى نفسه بأنه حين يتبع القانون الإلهي يصبح هو الله مجسداً (62). فإذا سئم الحياة، واستطاع أن يفارقها من غير أن يسبب الأذى لغيره، فلا حرج عليه من أن ينتحر. ولما بلغ أقلانتيوس سن السبعين شرع يصوم صوماً طويلاً، ثم قال إنه لن يعود بعد أن قطع نصف الطريق، وواصل الصوم حتى مات (63).
على أن الرواقي مع هذا ليس بالرجل غير الاجتماعي، وهو لا يفخر بالفقر كالكلبي، ولا يغرم بالوحدة كالأبيقوري. وهو يوافق على الزواج وعلى وجود الأسرة ويراهما لازمين، وإن كان لا يمتدح الحب الروائي؛ وهو يتطلع إلى وجود مدينة فاضلة تكون فيها النساء شركة بين الرجال (64). ويقبل وجود الدولة، بل يقبل الملكية المطلقة نفسها؛ وليست لديه ذكريات عزيزة عن دولة- المدينة، ويرى أن أوساط الناس مغفلون شديدوا الخطر، ويفضل الملوك المطلقي السلطة على تحكم الغوغاء. والحق أنه قلما يعنى بأية حكومة، ويتمنى أن يكون الناس كلهم فلاسفة، حتى تصبح القوانين لا ضرورة لها. وهو لا يفكر في الكمال كما يفكر فيه أفلاطون أو أرسطو من حيث علاقته بخير المجتمع، بل يفكر فيه من حيث علاقته بالرجل الصالح. ولا يرى حرجاً في أن يشترك في الشؤون السياسية، ويناصر كل حركة ضعيفة، تهدف إلى الحرية والكرامة الإنسانية، ولكنه لا يقيد سعادته بقيود المنصب أو السلطان. وهو يرضى بأن يضحي بحياتهِ في سبيل بلاده، ولكنه يرفض(8/185)
كل وطنية تقف في سبيل ولائه للإنسانية بأجمعها؛ فهو والحالة هذه مواطن عالمي. وكان زينون، وهو الذي يجري في عروقه، كما سبق القول، الدم اليوناني والدم السامي، يتوق كما يتوق الإسكندر لتحطيم الحواجز العنصرية والقومية؛ وإن نزعته الدُّوَلية لتكشف عن فكرة الإسكندر التي كانت آخذة في الزوال، فكرة توحيد بلاد شرق البحر الأبيض المتوسط. وكان زينون وكريسبوس يأملان في آخر الأمر أن يحل مجتمع واحد كبير محل تلك الدول والطبقات المتطاحنة؛ وألا يكون في هذا المجتمع الجديد أغنياء وفقراء، أو سادة وعبيد؛ يحكمه الفلاسفة فلا يظلمون، ويكون فيه الناس جميعاً أخوة لأنهم أبناء إله واحد (65).
وملاك القوى أن الرواقية كانت فلسفة نبيلة، وأنها كانت فلسفة عملية إلى حد أبعد مما يتوقعه الساخر منها في الوقت الحاضر. لقد وحدت هذه الفلسفة جميع عناصر الفكر اليوناني وبذلتها في مجهود نهائي قام به العقل الوثني لوضع نظام أخلاقي ترتضيه الطبقات التي خرجت على الدين القديم؛ ومع أنه لم ينضوِ تحت لوائها إلا أقلية ضئيلة، فإن هذه الأقلية أينما وجدت كانت خير العناصر. وقد أنتجت كما أنتج المذهبان المسيحيان المقابلان لها- وهما الكلفنية والمتزمتة- أقوى الأخلاق في زمنها. على أننا إذا نظرنا إلى هذه الفلسفة من الوجهة النظرية رأينا عقيدة شاذة مروعة تهدف إلى كمال قاسٍ يتطلب من أصحابهِ اعتزال المجتمع، لكنها في واقع الأمر قد خلقت رجالاً شجعاناَ، قديسين أطهاراً، خيرين أمثال كاتو الأصغر، وإبكتتس Epictetus، وماركس أورليوس. ولقد تأثر بها الروماني فوضع على هديها تشريعاً للأمم غير الرومانية، وأعانت على حفظ كيان المجتمع القديم حتى ظهر له دين جديد. ولسنا ننكر أن الرواقيين قد شدوا من أزر الخرافات، وأنهم كان لهم أثر سيئ في العلوم الطبيعية، ولكنهم رأوا بنافذ بصيرتهم المشكلة الأساسية القائمة في عصرهم(8/186)
-وهي أساس الأخلاق الديني- وبذلوا مجهوداً شريفاً لملء الهوة الفاصلة بين الدين والفلسفة. لقد كسب أبيقور اليونان وضمهم إلى لوائهِ، أما زينون فقد كسب أرستقراط رومة، وظل الرواقيون إلى آخر تاريخ الوثنية يحكمون الأبيقوريين، وسيظلون على الدوام هم الحاكمين لهم. ولما أن نشأ دين جديد من أنقاض الفوضى العقلية والأخلاقية الضاربة أطنابها في العالم الهلنستي، كانت السبيل قد مهدتها لهذا الدين فلسفة آمنت بضرورة الدين، ونادت بعقيدة تقشفية من مبادئها البساطة وضبط النفس، عقيدة ترى في الله كل شيء.(8/187)
الفصل الرّابع
العودة إلى الدين
لقد مر النزاع بين الدين والفلسفة حتى الوقت الذي نتحدث عنه في ثلاث مراحل: مهاجمة الدين كما حدث قبل عهد السقراطيين؛ والمحاولة التي تهدف إلى استبدال قانون أخلاقي طبيعي بالدين كما فعل أرسطو وأبيقور؛ ثم العودة إلى الدين كما فعلت المتشككة والرواقية- وتلك هي الحركة التي انتهت بظهور الأفلاطونية الجديدة والمسيحية. وقد حدث مثل هذا التعاقب أكثر من مرة في تاريخ العالم، ولعله يحدث في هذه الأيام. فطاليس يقابل جالليو، ودمقريطس يقابل هُبز، والسوفسطائيون يقابلون رجال دوائر المعارف الفرنسيين، وبروتاغوراس يقابل فلتير؛ ثم إن أرسطو يقابل اسبنسر، وأبيقور يقابل أناطول فرانس؛ وبيرون يقابل بسكال، وأرسسلوس يقابل هيوم، وأقرانيداس يقابل كانت، زينون يقابل شوبنهور، وأفلوطين Plotinus يقابل برجسن. نعم إن الترتيب التاريخي لهؤلاء الفلاسفة يجعل التشابه بينهم غير يسير، ولكن الاتجاه الأساسي للتطور واحد في جميع الأحوال.
لقد تخلى عصر النظم العظيمة عن مكانه إلى التشكك في قدرة العقل الإنساني على فهم العالم أو السيطرة على غرائز الناس وإخضاعها للنظام وللحضارة. ولقد كانت هذه حال المتشككة بالمعنى الذي يقصده منها كانت لاهيوم: فقد كان هؤلاء يرتابون في الفلسفة كما يرتابون في العقائد التحكمية، وحطموا أسس المادية، وأشاروا بقبول الطقوس الدينية القديمة في هدوء. ولم يبعد التشكك الناس على يد بيرون، كما لم يبعدهم على يد بسكال، عن الدين بل قادهم إليه، وقد ختم بيرون نفسه حياته بأن كان كاهن المدينة الأكبر المبجل. ولم يكن هجر(8/188)
الأبيقوريين للسياسة واتجاههم نحو القوانين الأخلاقية، وفرارهم من الدولة إلى الروح، لم يكن هذا كله إلا لحظة قصيرة في الرجعة إلى العهد الأول؛ وقد مهد قصر الاهتمام على النجاة الفريدية الطريق إلى ظهور دين يستهوي الفرد أكثر مما يستهوي الدولة. وكان ثمة كثيرون من الناس لا يستطيعون أن يجدوا في الحياة ما وجده فيها أبيقور من سلوى اقتنع بها ورضي، فقد حلت بهم الفاقة، أو مصائب الدهر، أو المرض، أو الثكل، أو الثروة، أو الحرب؛ وتركت نصائح الدهر كلها أفئدتهم فارغة. وها هو ذا هجسياس القوريني Hegesias of Cyrene قد بدأ في نظر القوريين كما بدأ أبيقور، ولكنه انتهى إلى الاعتقاد بأن في الحياة من الألم أكثر مما فيها من اللذة، ومن الحزن أكثر مما فيها من الفرح، وأن النتيجة الوحيدة التي تتمخض عنها الفلسفة الطبيعية هي الانتحار (1). وقد فعلت الفلسفة ما تفعله الابنة الضالة بعد المغامرات المبهجة وزوال الخدع عن بصيرتها، فأقلعت عن الجري وراء الحقيقة والبحث عن السعادة، وعادت بعد أن تابت وأنابت إلى أمها الدين، تبحث فيه مرة أخرى عن أسس تقيم عليها آمالها ومبادئ تؤيد بها صدقاتها.
وبينما كانت الرواقية تسعى لإقامة صرح القانون الأخلاقي للطبقات المفكرة، كانت تعمل أيضاً للاحتفاظ بمعونة القوى غير الطبيعية لتدعم بها أخلاق الرجل العادي، وصبغت فكرتها الميتافيزيقية والأخلاقية صبغة دينية أخذت تقوى على مر الزمان. وكان زينون ينكر كل وجود حقيقي للآلهة التي يقول بها العامة (67)، ولكن أقلانيتوس بعد جيل واحد اقترح محاكمة أرستارخوس لأنه ملحد. ولم يكن زينون يدعو إلى شيء من الفساد الخلقي الشخصي، ولكن سكنا كان يتحدث عن النعيم في الدار الآخرة بألفاظ لا تكاد تفترق في شيء
_________
(1) وقد بلغ من فصاحته في تأييد ما أدلى به من حجج أن ثارت في الإسكندرية موجة من الانتحار اضطر بطليموس الثاني على أثرها أن يخرجه من مصر (66).(8/189)
عن العقائد الأليوزينية Eleusinian والمسيحية (68). ولقد أصبحت الرواقية بعد زينون ديناً أكثر منها فلسفة، واتخذ كل مبدأ من مبادئها صورة دينية. وكان الجزء الأكبر من نظامها يتألف من جدل يدور حول الله وطبيعته، وانبعاث العالم من الله، وحقيقة القوة المدبرة، واتفاق الفضيلة مع الإرادة الإلهية، وأخوة البشر تحت سيطرة أبوة الله، وعودة العالم في آخر الأمر إلى الله. وفي هذه الفلسفة نجد معنى الخطيئة الذي كان له شأن أيما شأن في المسيحية الأولى وفي البوتستنتية؛ ونجد فيها ذلك الشمول السامي يرحب كما رحب في المسيحية من بعد بكل الأجناس والطبقات؛ والزهد وعدم الزواج المأخوذين عن الكلبيين واللذين أثمرا ذلك العدد العظيم من الرهبان المسيحيين. والحق أنه لم يكن بين زينون الطرسوسي إلا خطوة واحدة يخطوها العالم في الطريق إلى دمشق.
ولقد كانت عناصر كثيرة في العقيدة الرواقية أسيوية في أصلها، وكان بعضها سامياً خالصاً- ولم تكن الرواقية في جوهرها إلا مرحلة واحدة أولية من مراحل انتصار الشرق على الحضارة الهلنية. إن بلاد اليونان لم تعد بلاد اليونان قبل أن تفتحها رومة.(8/190)
الباب الثلاثون
مجيء رومة
الفصل الأوَّل
بيرس
يقول بولبيوس متسائلاً: "منذا الذي تبلغ به الحقارة أو البلادة حداً لا يريد معه أن يعرف بأية وسائل وفي ظل أي نظام سياسي أفلح الرومان في أن يخضعوا إلى سلطانهم في أقل من خمسين عاماً جميع العالم المعمور- وهو عمل فذ لا نظير له في التاريخ؟ ومنذا الذي أولع بغير هذه الدراسات ولعاً يحمله على أن يرى أن أية دراسة أخرى أجل شأناً من هذه الدراسة (1)؟ ". ذلك سؤال لا نراه مخطئاً في إلقائهِ، وقد يشغلنا نحن فيما بعد، ولكن الفتوح قد توالت وكثرت مذ كتب بولبيوس تاريخه إلى درجة لا نستطيع معها أن نصرف كثيراً من الوقت في دراسة شيء منها. ولقد حاولنا في الفصول السابقة أن نظهر أن السبب الرئيسي الذي يسر للرومان فتح بلاد اليونان هو انحلال الحضارة اليونانية من الداخل؛ ذلك أنه ما من أمة عظيمة قد غلبت على أمرها إلا بعد أن دمرت هي نفسها. وقد دمرت بلاد اليونان نفسها بتقطيع غاباتها، وإتلاف تربتها، واستنفاد ما في باطن أرضها من معادن ثمينة، وبتحول طرق التجارة عنها، واضطراب الحياة الاقتصادية نتيجة لاختلال النظام السياسي، وفساد الديمقراطية وانحلال الأسر الحاكمة، وفساد الأخلاق، وانعدام الروح الوطنية، ونقص السكان وتدهور قوتهم الجسمية، واستبدال الجنود المرتزقة بالجيوش(8/191)
الوطنية، وما أدت إليه الحروب الأهلية من تطاحن بين الإخوة وإتلاف لموارد البلاد، والقضاء على الكفايات بالفتن المتضادة الصماء- كل هذه قد استنفدت موارد هلاس في الوقت الذي كانت فيه الدولة الصغيرة القائمة على ضفة نهر التيبر، والتي كانت تحكمها أرستقراطية صارمة بعيدة النظر، تدرب جحافلها القوية المجندة من طبقة الملاك، وتتغلب على جيرانها ومنافسيها، وتستولي على ما في البحر الأبيض المتوسط من طعام ومعادن، وتزحف عاماً فعاماً على المستعمرات اليوناني في جنوبي إيطاليا. لقد كانت هذه المحلات القديمة في سابق عهدها تزهو بثرائها، وحكمائها، وفنونها، ولكنها الآن قد أفقرتها الحروب وغارات ديونيشيوس وسلبه ونهبه، ونشأة رومة وتقدمها ومنافستها لهذه المستعمرات في مركزها التجاري. يضاف إلى هذا أن القبائل الأصلية التي كان اليونان قد استعبدوا أفرادها أو طردوهم إلى ما وراء حدودها، قد ازدادت وتضاعفت، في الوقت الذي كان سادتها ينشدون النعيم والراحة بقتل أطفالهم وإسقاط الحاملات من نسائهم؛ وما لبث السكان الأصليين أن أخذوا ينازعون المستعمرين السيطرة على جنوبي إيطاليا، واستغاثت المدن الإيطالية برومة فأغاثتها والتهمتها.
وخشيت تاراس بأس رومة النامية فاستعانت بملك إبيروس الشاب الجريء؛ وكانت الثقافة اليونانية قد امتدت إلى هذه البلاد الجبلية الجميلة المعروفة إلينا باسم ألبانيا الجنوبية، منذ أن شاد الدوريون معبداً ازيوس في دودونا Dodona، ولكن هذه الثقافات ظلت مزعزعة غير موطدة الأركان (1). حتى عام 295 حين تولى بيرس Pyrrhus ملك الملوسيين Mollosians وهم أقوى القبائل الإبيروسية وأعظمها سلطاناً. وكان بيرس هذا يدعي أنه من سلالة البطل أخيل، وكان وسيماً، شجاعاً، وحاكماً مستبداً، ولكنه محبوب. وكان رعاياه
_________
(1) وعثر علماء الآثار الإيطاليون في عام 1929 عند بترينو Butaino ( وهي بثروتم Buthrotum القديمة) على طائفة كبيرة من آثار المباني والتماثيل الباقية من عهد الحضارتين اليونانية والرومانية، ومنها دار تمثيل يونانية من القرن الثالث قبل الميلاد.(8/192)
يعتقدون أن في مقدوره أن يشفيهم من مرض الطحال بوضع قدمه اليمنى على ظهورهم وهم مستلقون على الأرض، ولم يكن هو يأبى هذا العلاج على أفقر فقير في البلاد (2). ولما استغاث بهِ أهل تارنتم رأى في هذا فرصة له مغرية: فقد قدر أنه يستطيع فتح رومة، وهي الخطر الذي يتهدده من الغرب، كما فتح الإسكندر بلاد الفرس وهي الخطر الذي كان يتهدده من الشرق، فيثبت بذلك نسبه ببسالته. ولهذا عبر البحر (الأدرياوي) في عام 281 على رأس قوة مؤلفة من 25. 000 من المشاة، وثلاثة آلاف من الفرسان وعشرين فيلاً. وكان اليونان قد أخذوا الفيلة كما أخذوا التصوف عن الهند. والتقى بالرومان عند هرقلية Heracleia، وانتصر عليهم "نصراً بيرسياً": أي أن خسارته في هذا النصر كانت عظيمة، وأن موارده من الرجال والعتاد قد نقصت إلى حد جعله يرد على أحد أعوانه حين هنأه به بهذه العبارة التي أضحت مثلاً سائراً مدى الأجيال إذ قال إن نصراً آخر مثله كفيل بأن يقضي عليه (2). وأرسل الرومان كيس فبريسيوس ليفاوضه في أمر تبادل الأسرى. ويروي أفلوطرخس ما دار وقتئذ من الحديث فيقول:
وفي أثناء العشاء دار الحديث حول كثير من الشؤون، وكان أهمها كلها شؤون بلاد اليونان وفلاسفتها. وتحدث قنياس Cineas ( الدبلوماسي الإبيروسي) عن أبيقور، وأخذ يشرح آراء أتباعه في الآلهة، والدولة، وأغراض الحياة، مؤكداً أن اللذة أكبر سعادة للإنسان؛ ووصف الشؤون العامة بأن لها أسوأ الأثر في الحياة السعيدة لأنها تسبب لها الاضطراب. وقال إن الآلهة لا شأن لها بنا جميعاً ولا تعني بنا أية عناية، فهي مجردة من الرحمة بنا أو الغضب علينا، وهي تحيا حياة لا تقوم فيها بعمل وتقضيها في النعيم والترف. وقبل أن ينتهي قنياس من كلامهِ صاح فبرسيوس قائلاً لبيرس "إي هرقل! دع بيرس والسمنيين (1) يمتعون أنفسهم بمثل هذه الآراء ما داموا في حرب معنا (4) ".
_________
(1) أقوى أعداء رومة في إيطاليا.(8/193)
تأثر بيرس بما رآه من صفات الرومان، فدعاه هذا كما دعاه يأسه من تلقي العون الكافي من يونان إيطاليا، إلى أن يرسل قنياس إلى رومة ليفاوضها في الصلح. وأوشك مجلس الشيوخ أن يوافق على هذا، ولكنه فوجئ بأبيوس كلوديوس Appius Claudius، وكان أعمى يشرف على الموت، يحمل إليه ليحتج على عقد الصلح مع جيش أجنبي في أرض إيطالية. فلما عجز بيرس عن نيل بغيته اضطر أن يواصل الحرب، وانتصر انتصاراً انتحارياً آخر في أسكولوم Asculum، ثم عاوده اليأس من الفوز على رومة فعبر البحر إلى صقلية معتزماً أن يخلصها من القرطاجيين. وفيها صد القرطاجيين ببطولتهِ المتهورة، ولكن يونان صقلية كانوا أجبن من أن يخفوا لنجدتهِ، أو لعله كان يحكمهم حكماً استبدادياً كما يحكم كل طاغية. وسواء كان هذا أو ذاك هو السبب فإن أهل صقلية لم يمدوه بما يحتاجه من العون، فاضطر إلى ترك الجزيرة بعد أن ظل يحارب فيها ثلاث سنين. ونطق وهو يغادر بنبوءتهِ المأثورة: "أي ميدان قتال اتركه لقرطاجة ورومة! " ولما وصل إلى إيطاليا كانت قواته قد نقصت نقصاً كبيراً، فهزم في بنفنتوم Beneventum (275) ، حيث أثبتت الكتائب المتحركة الخفيفة السلاح لأول مرة تفوقها على الصفوف المتراصة الحركة، فكان ذلك بداية مرحلة جديد في تاريخ الحروب (5). وعاد إلى إبيروس، كما يقول الفيلسوف أفلوطرخس:
"بعد أن قضى في هذه الحروب ست سنين؛ ومع أنه قد أخفق في أغراضهِ فقد احتفظ بشجاعة لم تنل منها كل هذه المصائب، ويضعه الناس لكثرة تجاربهِ الحربية، وبأسهِ، وجرأتهِ، في منزلة أعلى من منزلة سائر أمراء عصره. ولكن الذي ناله بشجاعتهِ قد خسره مرة أخرى بسبب آماله المتطرفة؛ وكانت رغبته في نيل ما لا يملك سبباً في ضياع ما كان يملك (6) ".(8/194)
واشتبك بيرس وقتئذ في حروب جديدة ثم قتل بقرميدة ألقتها عليه عجوز في أرجوس. واستسلمت تراس لرومة في تلك السنة نفسها.
وبعد ثمان سنين من ذلك الوقت بدأت رومة كفاحها الطويل مع قرطاجة، وهو الكفاح الذي دام مائة عام، من أجل السيادة على غربي البحر الأبيض المتوسط. ونزلت قرطاجة لرومة بعد حرب دامت جيلاً كاملاً عن سردينية، وقورسقة، والأجزاء التي كانت تمتلكها في صقلية. وارتكبت سرقوسة في الحرب اليونانية الثانية تلك الغلطة الموبقة فانضمت في هذه الحرب إلى قرطاجة، فأجاعها مرسلس Marcellus حتى استسلمت. وانطلق المنتصرون في المدينة ينهبون ويسلبون حتى لم يبقوا فيها على شيء ولم تقم لها بعد ذلك قائمة. ويقول ليفي إن مرسلس "نقل إلى رومة ما كانت تزدان به سرقوسة من تماثيل كانت غاصة بها ... وقد بلغت الغنائم حداً أكثر مما كان يحصل عليه لو أن قرطاجة نفسها هي التي فتحت". ولم يحل عام 210 حتى كانت صقلية كلها قد سقطت في يد رومة جزاء لها على فعلتها. واستحالت المدينة هرياً يورد الحبوب لرومة وعادت مزرعة يقوم فيها بالعمل كله تقريباً عبيد لا آمال لهم في الحياة. ووضعت القيود الشديدة على الصناعة والتجارة، ونقلت ثروتها إلى رومة، ونقص عدد سكانها نقصاً كبيراً، واختفت صقلية من تاريخ الحضارة مدى ألف عام.(8/195)
الفصل الثاني
رومة المحرّرة
لقد كان يساعد رومة في كل خطوة من خطى توسعها أخطاء أعدائها. من ذلك أنها أرسلت في عام 230 رجلين من أهلها إلى أشقودرة Scodra عاصمة اليريا Illyria ( شمالي ألبانيا) ليحتجا على هجوم القراصنة الإليريين على السفن الرومانية، فردت الملكة توتا Teuta، وكانت تقاسم القراصنة الأسلاب، على احتجاجهما بقولها "أن ليس من عادة الحكام الإليريين أن يمنعوا رعاياهم من الاستحواذ على الغنائم في البحار (8) ". ولما أن أنذرها رسول من قبل رومة بالحرب أمرت بقتلهِ. وسرت رومة إذ تهيأت لها هذه الحجة الرخيصة للاستيلاء على ساحل دلماشيا Dalmatia، فسيرت حملة إلى إليريا فرضت عليها حماية رومة ولم تكد تكلفها من العناء في عام 229 ق. م أكثر مما كلفتها حملة 1939 م%=@يقصد الحملة التي سيرتها إيطاليا في عهد موسوليني على ألبانيا واستولت عليها وأخرجت منها مليكها. (المترجم) @. وأصبحت كرسيرا Corcyra ( كورفو)، وإبداموس Epidamus وغيرهما من الحملات اليوناني مدناً تابعة لرومة. ولما كانت التجارة اليونانية قد عطلتها أيضاً أعمال القرصنة الإليرية فإن أثينة وكورنثة، والعصبتين اليونانيتين قد رحبت برومة وعدتها منقذة لها، وقبلت سفراءها، ورضيت أن يشترك الرومان في الطقوس الإليزينية الحفية وفي ألغاب برزخ كورنثة.
وفي عام 216 مزق هنيبال الجيش الروماني في كاني شر ممزق، وزحف بجيشهِ حتى دق أبواب رومة. وبينما كانت تواجه أشد أزمة في تاريخ الجمهورية عقد فيليب الخامس ملك مقدونيا حلفاً مع هنيبال وأعد العدة لغزو(8/196)
إيطاليا (214). وعقد مؤتمر في نوبكتس Naupactus (213) قام فيه أجلوس Agelaus مندوب إيتوليا يناشد اليونان جميعاً أن يوحدوا صفوفهم في هذه الحرب المقدونية الأولى ضد القوة التي أخذت تنمو في الغرب؟
"ما أحسن أن يمتنع اليونان عن أن يحارب بعضهم بعضاً، وأن يروا أن أعظم النعم التي تنعم بها عليهم الآلهة أن ينطقوا على الدوام بقلب واحد وصوت واحد، وأن يسيروا وأيديهم متماسكة، كما يسير الرجال الذين يخوضون نهراً، فيصدوا البرابرة المغيرين ويوحدوا صفوفهم ليحافظوا على أنفسهم وعلى مدنهم .. ذلك أنه لا جدال في أن من أبعد الأشياء وأقلها احتمالاً، سواء انتصر القرطاجيون على الرومان أو انتصر الرومان على القرطاجيين، أن يقنع المنتصرون بالسيادة على إيطاليا وصقلية، بل الذي لا ريب فيه أنهم سيأتون إلى بلادنا وأن أطماعهم ستمتد إلى أبعد ما تخوله لهم العدالة. لهذا أضرع إليكم جميعاً أن تحصنوا أنفسكم من هذا الخطر الداهم، وأتوجه بندائي هذا إلى الملك فليب على الأخص. إن خير ضمان لك يا مولاي، ليس هو إنهاك اليونان، وجعلهم فريسة سهلة للغزاة، بل هو عكس هذا، هو أن تعنى بسلامة كل إقليم من أقاليم اليونان كأنه جزء لا يتجزأ من أملاكك الخاصة" (9).
وأنصت إليه فليب في أدب جم، وأصبح إلى وقت ما معبود بلاد اليونان. ولكن معاهدته مع هنيبال، إذا جاز لنا أن نصدق ليفي المتطرف في وطنيته، قد نصت على أن تساعد قرطاجة فليب، إذا خرجت من الحرب القائمة وقتئذ ظافرة، على إخضاع جميع بلاد اليونان الأصلية إلى مقدونية، مقابل هجومه على إيطاليا. وربما كان سبب الميثاق الذي عقدته معظم الدول اليونانية، ومنها عصبة أجلوس الإيتولية Agelaus Aetolian League، مع رومة ضد مقدونية أن هذه الولايات قد عرفت شروط هذا الاتفاق؛ وكانت نتيجة هذا الميثاق أن وضعت العراقيل في سبيل فليب في داخل البلاد وتأجل غزوه إلى إيطاليا(8/197)
إلى أجل غير مسمى. وفي عام 205 عقدت إيطاليا معاهدةمع فليب لكي توجه اهتمامه كله إلى هنيبال؛ وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت بدد سبيو الأكبر شمل القرطاجيين في زاما Zama. ولما بلغ القرن الأخير العظيم من قرون الحضارة اليونانية غايته لجأت مصر، ورودس، وبرجموم، إلى رومة لتساعدها على فليب. واستجابت رومة لهذه الدعوة بأن أثارت الحرب المقدونية الثانية. ووجد فليب جميع البلاد اليونانية تقريباً ومعها رومة تقف في وجهه، فحارب بشراسة الوحش إذا وقع في المحظور. فلم يتردد في أن يستخدم كل أنواع الغدر، أو سرقة كل ما يوصله إلى غرضهِ، أو التنكيل بالأسرى تنكيلاً يدفع كل رجل في أبيدوس، حين بدا لهم أن حصار فليب لمدينتهم لا يمكن مقاومته، أن يقتل زوجته وأطفاله ثم يقتل بعدئذ نفسه (11). وفي عام 197 أوقع تيتس كونكتيوس فلامنينوس Titus Quinctius Flamininus، وهو رجل ينتمي إلى ذلك الصنف من الأشراف الذين قلبوا بولبيوس مناصراً متحمساً للرومان، أوقع بفليب هزيمة منكرة عند سينوسفلي Cynoscephalea وسقطت على أثرها كل مقدونية- أو بالأحرى بلاد اليونان كلها- تحت رحمة رومة. وقد استاء من فلامنينوس أحلافه الإيتوليون (وقد ادعوا أنهم الذين كسبوا المعركة) لأنه سمح لفليب بعد أن أمن جانبه لشدة ضعفهِ، أن يحتفظ بعرشهِ واكتفى بأن فرض عليه غرامة باهظة واستولى على وسق سفينة من الأسلاب. وكانت حجة فلامنينوس في المطالبة بإبعاد فليب عن العرش أنه في حاجة إلى مقدونية لوقاية البلاد من البرابرة الضاربين في شمالها.
وكان القائد الروماني قد تعلم اللغة اليونانية في تارنتم (وهو الاسم الذي أطلقه الرومان على تاراس) وعرف ما في الأدب اليوناني، والفلسفة اليونانية، والفن اليوناني من بهجة وروعة. ويبدو أنه كان يعتزم مخلصاً أن يحرر دول المدن اليونانية من سيطرة مقدونية، وأن يتيح لها كل فرصة تمكنها من أن تستمتع(8/198)
بالحرية والسلم. ولما استطاع بعد صعاب جمة أن يقنع المبعوثين الرومان بأن هذه خطة حكيمة، ذهب إلى الألعاب البرزخية في كورنثة (196)، حيث كان جميع العالم اليوناني الخطير الشأن مجتمعاً (وكان كل واحد يحدث جاره، على حد قول بولبيوس، بما يستطيع الرومان وقتئذ أن يفعلوه) وأعلن في الحاضرين على لسان منادٍ أن "مجلس الشيوخ الروماني، وأن تيتس كونكتيوس القنصل الأكبر بعد أن هزما الملك فليب والمقدونيين يتركان الأقوام الآتي ذكرهم بعد أحراراً، فلا يضعان في بلادهم حاميات عسكرية، ولا يطالبانهم بجزية، يحكمون أنفسهم بمقتضى قوانينهم. وهؤلاء الأقوام هم الكورنثيون، الفوقيون، واللكريون، والعوبيون، والآخيون الفثيوتيون، والمجنيزيون، والساليون، والبرهيبيون (1) - أي جميع سكان بلاد اليونان القارية الذين لم يكونوا من قبل أحراراً. وصاح الجزء الأكبر من المجتمعين أن يعاد هذا النداء لأنهم لم يستطيعوا أن يصدقوا هذا الإجراء الذي أصبحوا بمقتضاه أحراراً والذي لم يعهدوا له من قبل مثيلاً. فلما أن أعاده المنادي "ارتفعت في الجو عاصفة من التهليل" على حد قول بولبيوس "ليس من السهل على من يستمعون هذه القصة الآن أن يتصوروا قوتها" (12). وارتاب الكثيرون منهم في صدق هذا الإعلان وفي إخلاص أصحابه فيهِ، وتوقعوا أن تكون من ورائه حيلة ماكرة، ولكن فلامنينوس شرع من ذلك اليوم ينقل الجنود اليونان من كورنثة، ولم تحل سنة 194 حتى كان جيشه كله قد عاد إلى إيطاليا. ورحبت به اليونان وعدته "منقذاً ومحرراً" وبدت مغتبطة سعيدة تعيش في آخر أيام حريتها.
_________
(1) Crinthian, Phocian, Locrians, Euboeans, Phihiotic Achaeans, Magnesians, Thessalians, & Perrhaebians.(8/199)
الفصل الثالث
رومة الفاتحة
غير أن الإيتوليين لم يرضوا عن هذه الخطة؛ ذلك أن بعض المدن التي حررتها رومة كانت من قبل تحت سيطرة إيتوليا فلم تعد وقتئذ كما كانت من قبل أعضاء في العصبة الإيتولية. لهذا لم تكد الحرب المقدونية الثانية تضع أوزارها حتى دعا الإيتوليون أنتيوخوس الثالث لإنقاذ بلاد اليونان من رومة. وألفت برجموم ولمبسكس نفسيهما بين الغاليين القلقين في الشمال وقوة السلوقيين المتزايدة في الجنوب، فاستغاثتا برومة لتساعدهما على أنتيوخوس. وأرسل مجلس الشيوخ سبيو أفركانس Scipio Africanus بطل زاما Nama لمعونته. واستطاع القواد الرومان بعدد قليل من الفيالق الرومانية وجنود يومنيز الثاني أن يهزموا أنتيوخوس في مجنيزيا، ثم اتجهوا نحو الشمال وطردوا الغاليين، ووسع الرومان على أثر هذا النصر حمايتهم حتى شملت ساحل آسية الممتد على البحر الأبيض المتوسط، ثم عادوا بعدئذ إلى إيطاليا. وحمد لهم يومنيز فعلهم ولكن بلاد اليونان الأصلية عدته خائناً لهلاس لأنه استعان بالرومان البرابرة على مواطنيه اليونان.
ذلك أن بلاد اليونان المذبذبة كانت قد أخذت تندم على قبولها ما أسدته إليها منقذتها غير المثقفة القادمة إليها من الغرب. فقال أهلها إن فلامنينوس وخلفاءه، وإن كانوا قد ردوا إلى البلاد وحريتها، قد نالوا أجرهم عن هذا وهو الغنائم الكثيرة التي استولوا عليها في كل مدينة أيدت فليب أو أنتيوخوس أو الإيتوليين حتى بات اليونان يخشون أن يتكرر هذا التحرر مرة أخرى. وقد ظلت الأسلاب التي استولى عليها فلامنينوس بعد انتصاراته في الحروب اليونانية تمر بلا انقطاع أمام أعين الرومان؛ ففي اليوم الأول أسلحة ودروع وتماثيل(8/200)
من الرخام والبرنز لا حصر لها، وفي اليوم الثاني 18. 000 رطل من الفضة، و 3. 714 رطلاً من الذهب، 100. 000 قطعة من العملة الفضية؛ وفي اليوم الثالث 144 تاجاً من تيجان الأمراء والأشراف (13). يضاف إلى هذا أن الرومان كانوا قد أيدوا، وظلوا وقتئذ يؤيدون على أيدي ممثليهم، الطبقات الغنية في بلاد اليونان على المواطنين الفقراء، وحرموا جميع مظاهر حرب الطبقات. ولم يرَ اليونان أن يشتروا السلم بهذا الثمن الغالي، بل كانوا يريدون أن يكونوا أحراراً في تسوية ما بينهم من نزاع، وأن ينفسوا عما في صدورهم من مطامع إقليمية قومية؛ ولم يكونوا يطيقون الحياة الرتيبة الخالية من التغيير. وسرعان ما قامت الأحلاف المتنافسة ينازع بعضها بعضاً، ودب الشقاق والانقسام بينها في كل مكان. وأخذت كل مدينة وكل جماعة تتقدم بمطالب خاصة إلى مجلس الشيوخ الروماني، وبعث مجلس الشيوخ لجاناً لبحث هذه المطالب والفصل فيها. وكانت أغلال السيطرة الأجنبية خفية غير بادية للعين ولكنها كانت مع ذلك حقيقة واقعة؛ وأخذ اليونان جميعهم ما عدا الأغنياء منهم يحسون بهذه الأغلال تضيق على أعناقهم عاماً بعد عام ويتمنون أن ينقضي عهد هذه الحرية. وشرع مجلس الشيوخ يستمع إلى أعضائه الذين كانوا يقولون إن بلاد اليونان لا يمكن أن يستتب فيها الأمن والنظام إلا إذا فرضت عليها رومة سيطرتها الكاملة.
وتوفي فليب الخامس في عام 179 وخلفه على العرش ابنه برسيوس بعد فترة سفك فيها الدماء. وكانت السبعة عشر عاماً التي سبقت جلوسه على العرش والتي ساد فيها السلم قد أعادت إلى مقدونية رخاءها الاقتصادي، وأوجدت فيها جيلاً جديداً من الشبان تطعم بهم نار الحرب. ودخل برسيوس في مفاوضات مع سلوقس الرابع لعقد حلف بين بلديهما وتزوج بابنة سلوقس. وانضمت رودس إلى هذا الحلف وأرسلت أسطولاً ضخماً ليحرس العروس في طريقها إلى زوجها. وابتهجت بلاد اليونان جميعها، ورأت في برسيوس(8/201)
أملاً حياً يقف في وجه سلطان رومة. وخشي بومنيز الثاني على استقلال برجموم فهرول إلى رومة وألح على مجلس الشيوخ أن يبادر إلى تدمير مقدونية إبقاء على مصالح هذا المجلس نفسه. وكاد يومنيز أن يفقد حياته في مشاجرة خاصة وهو عائد إلى بلاده. ورأت رومة أن من مصلحتها أن تفسر هذا الشجار بأنه مؤامرة دبرها برسيوس لاغتيال الملك، وتبادل الطرفان عدة مهارات دبلوماسية وطنية أعقبها اشتعال نار الحرب المقدونية الثالثة. ولم يجرؤ على مساعدة برسيوس إلا إبيروس وإليريا، أما دول اليونان الأخرى فقد بعثت إليه برسائل سرية تبدي فيها عطفها عليه ولكنها لم تفعل أكثر من هذا. وفي عام 168 فرق إيمليوس بولس Aemilius Paulus الجيش اليوناني في بدنا، وخرب سبعين مدينة مقدونية، ونفى الطبقات العليا من أهلها إلى إيطاليا، وقسم المملكة أربع جمهوريات مستقلة استقلالاً ذاتياً ولكنها تؤدي الجزية إلى رومة، وحرم عليها أن تتبادل فيما بينها التجارة والصلات أياً كان نوعها. وسجن برسيوس في إيطاليا وقضى في السجن سنتين توفي بعدهما مما لقيه من سوء المعاملة. وخربت إبيروس وبيع مائة ألف من أهلها أرقاء بسعر ريال أمريكي لكل واحد منهم (14) وعوقبت رودس- وهي التي لم يكن لها نصيب جدي في الحرب- بتحرير ممتلكاتها الممتدة على سواحل آسية، وبإنشاء مرفأ حر منافس لها في ديلوس واستحوذ الرومان على أوراق برسيوس الخاصة، ونفى أو زج في السجن كل من مد له يد المعونة أو أظهر العطف عليهِ. ونقل إلى إيطاليا ألف من الرجال البارزين في العصبة الآخية ومنهم بولبيوس، حيث ظلوا في النفي ستة عشر عاماً مات في خلالها سبعمائة منهم. ولم يكن إعجاب بلاد اليونان السابق برومة المحررة أشد من حقدها وقتئذ على رومة الفاتحة.
وكان لهذه القسوة من جانب المنتصرين عواقب لم يكونوا يريدونها. فقد كان إضعاف رودس سبباً في القضاء على ما كانت تقوم به من حراسة في بحر إيجة، وانتعشت على أثر هذا القرصنة الغاضبة على التجارة المشروعة. كذلك(8/202)
كان إخراج هذا العدد الكبير من الأشراف سبباً في إخلاء الميدان للزعامة المتطرفة في مدن العصبة الآخية، وتجددت الفتن والحروب الأهلية وبلغت فيها أوجها. واستمسك الأغنياء في هذه الحروب بحماية رومة، وطالب الفقراء بإخراج الأغنياء والقوات الرومانية من البلاد. وفي عام 150 عاد من إيطاليا من كان باقياً فيها على قيد الحياة من الآخيين المنفيين، وكان عددهم لا يتجاوز المائة والخمسين، وانضموا إلى المطالبين بالقضاء على سلطان الرومان في بلاد اليونان. وأرادت رومة أن تضعف قوة الآخيين فأرسلت إلى بلاد اليونان بعثة سياسية أمرت كورنثة، وأركنوس، وأرجوس بأن تخرج من الحلف. وردت سيدات كورنثة على هذا الأمر بأن أفرغت دلاء من الأقذار على رؤوس المبعوثين (15)؛ وفي عام 146 أعلنت العصبة حرب التحرير، وكانت ترجو أن اشتباك رومة في الحرب في أسبانيا وإفريقية سيشغل جيوشها فيحملها على أن تعقد معها صلحاً ترتضيه، وطغت على مدائن العصبة موجة من الحماسة الوطنية فحرر العبيد وسلحوا، وأعلن إيقاف أداء الديون، ووعد الفقراء بقسط من الأرض الزراعية، وألفى الأغنياء التعساء أنفسهم بين الاشتراكية ورومة، فقدموا كارهين جواهرهم وأموالهم لقضية الحرية، ونفضت أثينة وإسبارطة أيديهما من النزاع كله وبقيتا بمعزل عنه، أما بؤوتية، ولكريا، وعوبية، فقد انضمتا بشجاعة إلى حرب التحرير. وثارت جمهوريات مقدونية الأربع علناً على رومة.
واستشاط مجلس الشيوخ الروماني غضباً فسير إلى بلاد اليونان جيشاً بقيادة مميوس وأسطولاً بقيادة متلوس Metillus. وقضت قوة الجيش والأسطول مجتمعين على كل مقاومة، واستولى مميوس Mummius في عام 146 على كورنثة حصن العصبة الحصين. وأشعل الفاتحون النار في المدينة الغنية مدينة التجار والعاهرات، وذبحوا جميع رجالها وباعوا جميع نسائها وأطفالها في أسواق الرقيق. ولعلهم أرادوا بعملهم هذا أن يقضوا على منافس تجاري لرومة في شرق البحر الأبيض المتوسط كما كان سبيو وقتئذ يقضي بتدمير قرطاجة على(8/203)
منافس لها في غربه، أو لعلهم أرادوا أن يلقوا على بلاد اليونان درساً مثل الدرس الذي ألقاه الإسكندر على طيبة من قبل. ونقل مميوس إلى إيطاليا كل ما استطاع نقله من الأموال، ومظاهر الثراء ومنها جميع التحف الفنية التي كان الكورنثيون بها مدينتهم وبيوتهم. ويحدثنا بولبيوس أن الجنود الرومان كانوا يستخدمون الرسوم الفنية ذات الشهرة العالمية لوحات في لعب الدَّاما أو النرد. وحلت رومة العصبة، وقتلت زعمائها، وأنشأت من بلاد اليونان ومقدونية ولاية تحت حكمها. وفرضت على بؤوتية، ولكريس، وكورنثة، وعوبية جزية. أما أثينة وإسبارطة فلم تمسسهما بسوء وأجيز لهما أن تبقيا خاضعتين لقوانينهما. وأيدت رومة حزب الملاك والنظام في جميع البلاد وأعلنت أن كل محاولة تبذل لإشعال نار الحرب، أو الفتن، أو تبديل الدستور، تعد خروجاً على القانون. وهكذا وجدت المدن الهائجة المضطربة السلم في آخر الأمر.(8/204)
الخاتمة
ما ورثناه عن اليونان
لم تمت الحضارة اليونانية حين استولت رومة على بلاد اليونان، بل عاشت بعد ذلك عدة قرون، ولما أن ماتت أورثت أمم أوربا والشرق الأدنى تراثاً ليس له مثيل، فقد أخذت كل مستعمرة يونانية ماء حياة الفن اليوناني والفكر اليوناني في الدم الثقافي الذي يجري في عروق ما يجاورها من البلاد- في أسبانيا وبلاد الغالة؛ وفي إتروريا ورومة؛ وفي مصر وفلسطين؛ وفي سوريا وآسية الصغرى؛ وعلى طول شواطئ البحر الأسود. وكانت الإسكندرية هي الثغر الذي تصدر منه الأفكار كما تصدر منه السلع: فمن المتحف والمكتبة انتشرت مؤلفات شعراء اليونان، ومتصوفتهم، وفلاستفتهم وعلمائهم كما انتشرت آراؤهم على يد الطلاب والعلماء في كل مدينة في حوض البحر المتوسط وملتقى طرقه. وأخذت رومة تراث اليونان في شكله الهلنستي: فأخذ كتاب مسرحياتها عن مناندر وفليمون؛ وقلد شعراؤها أساليب الأدب الإسكندري وأوزانهِ وموضوعاته؛ واستخدم فنَّها الصناع اليونان والأشكال اليونانية؛ واندمجت في شرائعها قوانين المدن اليونانية، وصيغ نظامها الإمبراطوري المتأخر على مثال الملكيات اليونانية- الشرقية. وبذلك يصح القول بأن الهلينية قد فتحت رومة بعد الفتح الروماني كما كانت بلاد اليونان، فكان كل امتداد لسلطان الرومان انتشاراً للحضارة اليونانية. وعقدت الإمبراطورية البيزنطية قران الحضارة اليونانية والحضارة الأسيوية (1)، ونقلت بعض تراث اليونان
_________
(1) في وسعنا أن نؤرخ هذا تعسفاً بعام 325 ق. م.، حين أسس قسطنطين مدينة القسطنطينية، وأخذت الحضارة البيزنطية المسيحية تحل محل الثقافة "الوثنية" اليونانية في شرق البحر الأبيض المتوسط.(8/205)
إلى الشرق الأدنى وصقالبة الشمال. وأمسك المسيحيون السوريون بشعلة الحضارة اليونانية وأسلموها للعرب واخترق بها هؤلاء إفريقية إلى أسبانية. وأخذ البيزنطيون، والمسلمون، واليهود ينقلون الروائع اليونانية إلى إيطاليا أو يترجمونها لها؛ لينشئوا بها أول الأمر فلسفة المدرسيي، ثم يوقدون بها شعلة النهضة الأوربية، وأخذت روح اليونان منذ ميلاد العقل الأوربي للمرة الثانية تسري في الثقافة الحديثة سريانا بلغ من قوتهِ أن "جميع الأمم المتحضرة أضحت اليوم مستعمرات لهلاس في كل ما يتصل بالنشاط الذهني (1).
وإذا لم ندخل في التراث اليوناني ما اخترعه اليونان فحسب بل أدخلنا فيه أيضاً ما أخذوه عن ثقافات أقدم من ثقافاتهم ونقلوه بشتى الطرق إلى ثقافتنا، وجدنا هذا التراث في كل ناحية من نواحي الحياة الحديثة. فصناعاتنا اليدوية، وفن التعدين، وأصول الهندسية العلمية، وأساليب المل والتجارة، وتشريعات العمل، وتنظيم التجارة والصناعة- كل هذا قد انتقل إلينا خلال مجرى التاريخ من رومة، ومن بلاد اليونان عن طريق رومة. فديمقراطياتنا ودكتاتورياتنا على السواء ترجعان إلى المثل اليونانية؛ ومع أن اتساع رقعة الدول قد أوجدت نظاماً تمثيلياً لم يكن معروفاً لهلاس، فإن الفكرة الديمقراطية القائلة بقيام حكومة مسؤولة أمام المحكومين، وفكرة المحاكمة على أيدي المحلفين، والحريات المدنية التي تشمل حرية الفكر، والتعبير، والكتابة، والاجتماع، والعبادة، كل هذه قد استمدت قوتها من التاريخ اليوناني. وهذه هي الخصائص التي تميز اليوناني عن الشرقي، والتي وهبته استقلالاً في الروح وفي المغامرة جعله يسخر من الخضوع والاستسلام والقصور الذاتي.
_________
(1) إن ازدياد معلوماتنا عن الحضارتين المصرية والأسيوية ليضطرنا إلى تعديل كبير في قول سير هنري مين Sir Henry Maine المأثور والمبالغ فيهِ كثيراً وهو: "إذا استثنينا قوى الطبيعة العمياء، لم نجد شيئاً يتحرك في هذا العالم إلا وهو يوناني في أصله" (2).(8/206)
فمدارسنا وجامعاتنا، ومدارس التدريب الرياضي وملاعبه، والمباريات الرياضية الأولمبية، كل هذه ترجع أصولها إلى اليونان. ونظرية تحسين النسل، وفكرة ضبط الشهوة الجنسية، والسيطرة على الغرائز والعواطف، وعبادة الصحة والحياة الطبيعية، ومذهب إشباع الحواس، كل هذه وجدت صيغها التاريخية في بلاد اليونان. وقد تفرع الجزء الأكبر من الدين المسيحي والعبادات المسيحية (ولفظا Christian و Theology نفسيهما لفظان يونانيان) من الطقوس الخفية التي كانت منتشرة في بلاد اليونان ومصر، ومن المراسم الإليوزينية والأرفية، والأزريسية؛ ومن العقيدة اليونانية القائلة بموت الابن المقدس لتخليص الجنس البشري ثم بعثه من بين الموتى، ومن الطقوس اليونانية والمواكب الدينية وحفلات التطهير، والتضحية المقدسة، والطعام العام المقدس، ومن الآراء اليونانية عن الجحيم، والشياطين، والمطهر، والغفران، والجنة، ومن النظريات الروائية والأفلاطونية الجديدة عن الكلمة والخلق، واحتراق العالم في آخر الأمر. ونحن مدينون بخرافاتنا نفسها لما كان لدى اليونان من أغوال وساحرات، ولعنات، وتفاؤل وتشاؤم، وأيام منحوسة. ومنذا الذي يستطيع أن يفهم الأدب الإنجليزي، أو يستمتع بقصيدة واحدة من قصائد كيتس Keats إلا إذا كانت لديهِ فكرة عن الأساطير الدينية اليونانية.
ولولا ما كتبه اليونان وما نُقل إلينا عنهم لكان وجود أدبنا من أشق الأمور. فحروفنا الهجائية جاءتنا من بلاد اليونان عن طريق كومي ورومة، ولغتنا تكثر فيها الكلمات اليونانية؛ وعلومنا قد أنشأت لها لغة عامة دولية بوساطة المصطلحات اليونانية؛ ونحونا، وبلاغتنا، وحتى علامات الترقيم، وتقسيم هذه الصفحة إلى فقرات، كل هذا من اختراع اليونان (1)، وكل ما لدينا من صور أدبية- الشعر الغنائي، والقصائد، وأناشيد الرعاة، والرواية
_________
(1) يقصد الكاتب بطبيعة الحال الإنجليز والأمريكيين.(8/207)
القصصية، والمقالة والخطبة، والسيرة، والتاريخ، والمسرحية وهي أهمها جميعاً، كل ما لدينا من هذا يوناني وكل مسمياته تقريباً مأخوذة عن اليونانية. والألفاظ والإنجليزية التي تُطلق على المسرحيات الحديثة وأشكالها- المأساة والمسلاة، والمسرحية الصامتة المضحكة التي تُستَخدم فيها الإشارات Pantomime, Comedy, Tragedy يونانية. نعم إن المأساة الإنجليزية في عصر اليصابات فذة في نوعها، ولكن المسلاة المضحكة التي كانت تمثل في ذلك العصر قد انتقلت إليه من مناندر، وفليمون بوساطة يلوتس، وترنس؛ وبن جنس، ومليير، لم يكد يتبدل فيها شيء. وإن المآسي اليونانية نفسها لمن أثمن ما خلفه اليونان من تراثهم القيم.
وما من شيء في بلاد اليونان يبدو لنا غريباً عنا أكثر من موسيقاها؛ ومع هذا فإن الموسيقى الحديثة كانت (إلى أن عاد بها الموسيقيون إلى أفريقية وبلاد الشرق) مستقاة من ترانيم العصور الوسطى ورقصها، وهذه الترانيم وهذا الرقص يرجع بعضها إلى أصل يوناني. والأناشيد الدينية، والتمثيليات الغنائية مدينة بعض الدين إلى الرقص الغنائي الجماعي اليوناني وإلى المسرحيات اليونانية؛ ومبلغ علمنا أن اليونان من فيثاغورس إلى أرستكسنوس Aristoxenus كانوا أول من وضعوا وشرحوا نظريات الموسيقى. وديننا لليوناني في الرسم أقل اليون، ولكن في وسعنا أن نتتبع تسلسل المظلات تسلسلاً غير منقطع من يولجنوتس إلى رسوم الجدران التي تستلفت الأنظار في هذه الأيام عن طريق الإسكندرية وبمبي، وجيتو Giotto وميكل أنجلو. ولا تزال أشكال النحت الحديث وقواعده الفنية يونانية، لأن العبقرية اليونانية لم تطبع شيئاً بطابعها وتستبد به كما طبعت فن النحت واستبدت بهِ. وقد بلغ من قوه هذا الاستبداد أننا لم نبدأ نتحرر من الافتتان بفن العمارة اليونانية إلا في هذه الأيام. وليس في أوربا ولا في أمريكا مدينة تخلو من صرح تجاري أو مالي قد أخذ شكله أو أخذت واجهته ذات العمد من معابد الآلهة اليونانية. ولسنا ننكر أننا لا نجد في الفن(8/208)
اليوناني دراسة الخلق وتصوير خلجات النفس، وأن افتتانه بجمال الجسم وصحته يجعله أقل نضجاً من تماثيل مصر التي تنطق بالرجولة الكاملة ومن تصوير الصينيين النافذ العميق. غير أن ما نتلقاه عن هذا الفن اليوناني من دروس في الاعتدال، والطهارة والنقاء، والتناسق البادي في النحت والعمارة في عصر اليونان الزاهر- كل هذا من أثمن تراث الإنسانية.
وإذا كانت الحضارة اليونانية تبدو لنا الآن أقرب "وأحدث" من أية حضارة أخرى قبل فلتير، فما ذلك إلا لأن اليونان كانوا يحبون العقل بقدر ما يحبون الشكل، ولذلك كانوا جريئين في سعيهم إلى تفسير الطبيعة على أسس مستمدة من الطبيعة نفسها، ولقد كان تحرير العلم من قيود الدين، وتطور البحث العلمي تطوراً مستقلاً عن كل ما عداه، كان هذا التحرر والتطور مظهرين من مغامرات العقلية اليونانية الجاحدة. وعلماء الرياضة اليونان هم واضعو قواعد حساب المثلثات، وحساب التفاضل والتكامل، وهم الذين بدءوا وأتموا دراسة القطاعات المخروطية، ووصلوا بهندسة الأبعاد الثلاثة إلى درجة من الكمال النسبي ظلت محتفظة بها دون تبديل إلى أيام ديكارت وبسكال. وقد أنار دمقريطس ميدان علم الطبيعة والكيمياء بأكمله بنظريتهِ الذرية. واستطاع أركميدز في أوقات تسليته وفراغه من الدراسات المجردة أن يبتدع من الأجهزة والآلات الجديدة ما يكفي لأن يقرن اسمه بأعظم الأسماء في سجل الاختراعات. وقد سبق أرستارخوس كوبرنيق في كشوفه الفلكية ولعله هو الذي أوحى إليهِ بها (1)، وأقام هباركوس على يدي كلوديوس بطليموس نظاماً فلكياً يعد من المعالم الخطيرة في تاريخ الثقافة البشرية. ورسم أنكساغورس وأنبادوقليس الخطوط الأساسية لنظرية النشوء والارتقاء. وصنَّف أرسطو وثاوفراسطوس
_________
(1) كان كوبرنيق على علم بنظرية أرستارخوس القائلة إن الشمس هي مركز المجموعة الشمسية لأنه ذكر ذلك في فقرة اختفت من الطبعات المتأخرة من كتابهِ.(8/209)
مملكتي الحيوان والنبات، وأوشكا أن يبتدعا الأرصاد الجوية، والحيوان، والأجنة والنبات. وحرر أبقراط الطب من التصوف والنظريات الفلسفية ورفع من منزلته بأن ضم إليه قانوناً أخلاقياً سامياً. وارتقى هروفيلس وإراستراتس بعلمي التشريح ووظائف الأعضاء إلى درجة لم تصل إليها أوربا بعدهما- إذا استثنينا جالينوس وحده- إلا في عهد النهضة. ونحن نتنفس في أعمال أولئك الرجال نسيم العقل الهادئ، غير الواثق أو الآمن على الدوام، ولكنه العقل المبرأ من العواطف والأساطير. ولعلنا لو كانت لدينا روائعه كاملة لحكمنا من فورنا بأن العلوم الطبيعية اليونانية أجل الأعمال الذهنية الرائعة في تاريخ الإنسانية.
غير أن الرجل المولع بالفلسفة لا يرضى بسهولة أن يجعل للعلوم الطبيعية والفنون الجميلة أعلى منزلة فيما ورثناه عن اليونان الأقدمين. ذلك أن علم اليونان الطبيعي كان هو نفسه وليد الفلسفة اليونانية- وليد ذلك التحدي الجريء للأقاصيص الخرافية، وذلك الحب القوي للبحث، الذي ظل عدة قرون يجمع بين العلم والفلسفة في مغامرات البحث والتنقيب. ولم يشهد العالم قبل اليونان رجالاً يفحصون عن الطبيعة بمثل دقتهم وبمثل ولعهم بها وحبهم إياها. ولم ينقص اليونان من مكانة العالم السامية باعتقادهم أنه كون منظم وأن نظامه هذا يجعله قابلاً للفهم والإدراك. وقد ابتدعوا المنطق لنفس السبب الذي جعلهم يبتدعون التماثيل التي بلغت ذروة الكمال؛ والتناسق، والوحدة، والتناسب، والشكل هي في رأيهم معين فن المنطق ومنطق الفن. وقد دفعهم تشوفهم وتطلعهم لمعرفة كل حقيقة وكل نظرية إلى أن يجعلوا الفلسفة مغامرة ممتازة من مغامرات العقل الأوربي، وهم لا يكتفون بهذا بل نراهم لا يكادون يتركون فرضاً من الفروض أو نظاماً من الأنظمة إلا فكروا فيه، ولا يكادون يتركون لغيرهم شيئاً يقولونه عن مشاكل الحياة الكبرى. فالواقعية، والقول بأن الأشياء موجودة بالاسم دون الحقيقة، والمثالية والمادية، والتوحيد، ووحدة الوجود،(8/210)
والشرك، والحركة النسائية والشيوعية، والبحث والتحليل الكانتي Kantian واليأس الشوبنهوري، والعودة إلى الحياة البدائية التي يقول بها روسو، ومذهب نتشه في التحليل من القيود الأخلاقية، ومذهب اسبنسر التركيبي، ومذهب فرويد في التحليل النفسي- وبالجملة كل أحلام الفلسفة وحكمتها نشهدها هنا في مهدها وبداية عهدها. ولم يكن الناس في بلاد اليونان يتحدثون عن الفلسفة فحسب، بل كانوا فوق ذلك يعيشون فيها: فقد كان الحكيم لا المحارب أو القديس، صاحب أسمى مكانة في اليونانية وكان هو مثلها الأعلى. وقد وصل إلينا هذا التراث الفلسفي المبهج من أيام طاليس خلال القرون الطوال، وكان هو الملهم للأباطرة الرومان، وآباء الكنيسة المسيحيين، وعلماء الدين المدرسيين، وملحدي عصر النهضة، وفلاسفة كمبردج الأفلاطونيين، ومتمردي عصر الاستنارة الفرنسيين، وعشاق الفلسفة في هذه الأيام. ولعله لا يوجد قطر من أقطار العالم إلا فيهِ من يقرأ فلسفة أفلاطون ويقرؤها بشغف شديد وإذا عددت هؤلاء القراء في هذه اللحظة وجدتهم ألوفاً مؤلفة.
وآخر ما نقوله في هذا المجال أن الحضارة لا تموت ولكنها تهاجر من بلد إلى بلد، فهي تغير مسكنها وملبسها، ولكنها تظل حية. وموت إحدى الحضارات كموت أحد الأفراد يفسح المكان لنشأة حضارة أخرى؛ فالحياة تخلع عنها غشاءها القديم وتفاجئ الموت بشباب غض جديد. فالحضارة اليونانية حية، وتتحرك في كل نسمة من نسمات العقل نستنشقها، وإن ما بقي منها ليبلغ من الضخامة حداً يستحيل على الفرد في حياته أن يستوعبه كله. ونحن نعرف عيوبها ونقائضها- نعرف حروبها الجنونية التي خلت من الرحمة، وما فيها من استرقاق دام إلى آخر أيام بنيها، ونعرف إخضاعها النساء وإذلالهن، وتحللها من القيود الأخلاقية، ونزعتها الفردية الفاسدة، وعجزها المحزن عن أن تجمع(8/211)
بين الحرية والنظام السلم. ولكن الذين يحبون الحرية، والعقل، والجمال، لا يطيلون التفكير في هذه العيوب، بل أنهم سوف يستمعون من وراء صحب التاريخ السياسي إلى أصوات صولون وسقراط، وأفلاطون ويوربديز، وفدياس وبركستليز، وأبيقور، وأركميدس، وسوف يحمدون الله لوجود أمثال أولئك الرجال ويحرصون على صحبتهم في بلاد غير بلادهم. ويقرنون بلاد اليونان بفجر تلك الحضارة الغريبة المنير التي هي غذاؤنا وحياتنا رغم ما فيها من عيوب ترجع أصولها إلى معينها القديم.
إلى الذين وصلوا معي إلى هذا الحد:
أشكركم لكم صحبتكم التي لا أراها بعيني ولكنني لا أفتأ احسها بقلبي.(8/212)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الترجمة
الحمد لله على جزيل عطائه والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والرسل. وبعد فهذا هو الجزء الأول من المجلد الثالث من مجلدات قصة الحضارة، وقد سماه المؤلف قيصر والمسيح لأن هذا المجلد يبحث في حضارة روما وبداية الحضارة المسيحية حتى عام 325 بعد الميلاد. وسيكون هذا الجزء الذي بين يدي القارئ واحدًا من أربعة أجزاء يكمل بها المجلد الثالث من هذه الموسوعة، ويشمل أولها قصة الحضارة الرومانية من أقدم العهود إلى مقتل يوليوس قيصر والحرب الأهلية التي أعقبت موته، ويقص الثاني قصة الحضارة الرومانية من 30 ق. م إلى منتصف القرن الثاني بعده، ويشمل الثالث عهد الإمبراطورية إلى نهاية القرن الثاني، وينتهي هذا المجلد بالجزء الرابع، ويروي قصة الصراع بين المسيحية والوثنية من بدايتها إلى انتصار المسيحية في عهد قسطنطين. وقد كانت خطة المؤلف الأولى تهدف إلى أن تتم السلسلة في خمسة مجلدات كبرى لكنه حين أصدر هذا المجلد الثالث جعلها ستة ثم عاد في أواخر العام الماضي حين أصدر المجلد الخامس في عصر النهضة فزادها إلى سبعة لأنه خص النهضة بمجلد والإصلاح الديني بمجلد آخر. والحق أن عصر النهضة خليق بأن يفرد له مجلد خاص لأنه بداية العصر الحديث، وفيه استيقظ العقل البشري من سباته الطويل نبتت بذور الحضارة التي ازدهرت في هذه الأيام.(/)
ولسنا في حاجة إلى التنويه بقيمة هذا المجلد فهو كالمجلدين السابقين تراث الشرق القديم وتراث اليونان في غزارة المادة ودقة البحث، وحسب القارئ أن يطلع على ثبت المراجع مجملة ومفصلة ليعرف الجهد الذي بذله المؤلف في جمع مادته وتحقيقها.
ولا يسعنا هنا إلا أن ننوه مرة أخرى بفضل الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية التي اختارت الكتاب وعهدت إلينا ترجمته، ولجنة التأليف والترجمة والنشر التي تولت طبعه ونشره، والقراء في مصر وسائر البلاد العربية الذين أقبلوا على اقتنائه إقبالاً كان له أكبر الأثر في تشجيعنا على مواصلة العمل في ترجمة هذه الموسوعة التي نسأل الله أن يوفقنا لإتمامها.
محمد بدران
مارس سنة 1955(/)
تمهيد بقلم المؤلف
هذا المجلد -وإن يكن وحدة مستقلة بذاتها- هو القسم الثالث من كتب تاريخ الحضارة التي كان المجلد الأول فيها تراث الشرق، والمجلد الثاني حياة اليونان. وإذا سمحت لنا ظروف الحرب القائمة (1)، ووهبنا الله نعمة الصحة فسيكون المجلد الرابع وهو عصر الإيمان معدًا للنشر في عام 1950. والخطة التي نسير عليها في هذا العمل هي الخطة التاريخية التركيبية، التي تقضي بدراسة النواحي الهامة في حياة الشعب وعمله وثقافته وتفاعلها وتأثير كل منها في الأخرى.
أما الطريقة التحليلية في كتابة التاريخ- وهي كذلك طريقة لا غنى عنها من الناحية العلمية ولا تقل الحاجة إليها عن الحاجة إلى الطريقة التركيبية- فهي التي تدرس ناحية واحدة من نواحي النشاط الإنساني- كالناحية السياسية أو الاقتصادية أو الخليقة أو الدينية أو العلمية أو الفلسفية أو الأدبية أو الفنية- في حضارة بعينها أو في جميع حضارات العالم. وعيب هذه الطريقة التحليلية أنها تفصل جزءًا من كل فصلاً يشوهه. أما عيب الطريقة التركيبية فهو أنها، إذ تتطلب من عقل واحد أن تعتمد على معرفته الشخصية في حديثه عن كل ناحية من نواحي إحدى المدنيات المعقدة التي تمتد آلاف السنين، إنما تطلب المستحيل. وليس في وسع من يتصدى إلى هذا العمل أن يتجنب الأخطاء في الدقائق والتفاصيل، ولكن العقل الهائم بحب الفلسفة- وهي إدراك الأشياء عن طريق علاقاتها بعضها ببعض- هي الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها عقل لا يقدر بغير هذه الطريقة أن يقنع بسبر أغوار الماضي. إن في وسعنا أن نطلب
_________
(1) ظهرت الطبعة الأولى من هذا المجلد في عام 1944 ونار الحرب العالمية الثانية مشتعلة. (المترجم)(9/1)
الفلسفة عن طريق العلم، وذلك بدراسة ما بين الأشياء من علاقات في المكان، أو أن نطلبها عن طريق التاريخ بدراسة ما بين الحوادث من صلات في الزمان، وفي مقدورنا أن نعرف عن طبيعة الإنسان بدراسة سلوكه وأعماله في خلال ستين قرنًا من الزمان أكثر مما نعرفه عنها بقراءة مؤلفات أفلاطون وأرسطو، وسبنوزا وكانت وما أصدق قول نتشة في هذا المعنى: "ما أضيع الفلسفة كلها أمام التاريخ في هذه الأيام" (1).
وإن دراسة الماضي لتعد بحق عديمة النفع إذا لم يجعل هذا الماضي مسرحية حية، أو إذا لم تضيء لنا دراسة ظلمات حياتنا الحاضرة. أليس قيام مدينة روما وارتقاؤها من بلدة صغيرة في مفترق الطرق حتى سادت العالم المعروف وقتئذ، وما أسبغته من أمن وسلام على رقعة واسعة من الأرض تمتد من جزيرة القرم إلى مضيق جبل طارق، ومن نهر الفرات إلى سور هدريان، وما نشرته من أصول الحضارة القديمة في عالم البحر الأبيض المتوسط وفي غرب أوربا، وما قامت به من كفاح للاحتفاظ بملكها المنظم من أن تطغى عليه بحار الهمجية التي تكتنفه من كل جوانبه، ثم تصدعها الطويل البطيء، وانهيارها آخر الأمر، وترديها المشئوم في ظلمات الجهالة والفوضى، أليس هذا كله أعظم مسرحية مثلها الإنسان، اللهم إلا إذ ظننا أن أعظم منها وأكثر روعة تلك المسرحية الأخرى التي بدأت حين وقف قيصر والمسيح وجهًا لوجه في ساحة بيليت Pilate والتي دامت حتى أضحت حفنة من المسيحيين المضطهدين المطاردين بما أوتيت من صبر وجلد وما قاست من اضطهاد وما حل بها من رعب وهول، نقول حتى أضحت هذه الحفنة من المسيحيين في بداية الأمر حليفة لأعظم إمبراطورية في التاريخ، ثم سيدتها، ثم وريثتها بعد تصرم أجلها.
_________
(1) Human, All Too Human الترجمة الإنجليزية طبعة نيويورك سنة 1911 المجلد الثاني ص17.(9/2)
ولكن لهذه المسرحية الكبيرة بالنسبة لنا معنى أعظم مما يبدو بالنظر إلى فخامتها وطول زمانها واتساع المسرح التي تمثل عليه: ذلك أنها تشبه شبهًا عجيبًا عظيم الدلالة حضارة هذه الأيام، والمشاكل القائمة فيها، وتلقى ضوءًا ينذرنا بسوء المصير. وهذا هو ما نفيده من دراسة حضارة من الحضارات دراسة تشمل جميع نواحيها وأدوار حياتها- ففي وسعنا بهذه الدراسة الشاملة أن نوازن كل مرحلة من مراحلها وكل ناحية من نواحيها بما يقابلها من مراحل وعناصر في مجرى ثقافتنا نحن، فنتخذ من هذه الموازنة، وبما أعقب المراحل الماضية الشبيهة بمرحلتنا الحاضرة، عظة لنا تبعث فينا الحذر أو الإقدام. وما أشبه الكفاح الذي قام بين الحضارة الرومانية والهمجية في داخل الإمبراطورية وخارجها بالكفاح القائم في العالم في هذه الأيام. وفي مشاكل روما البيولوجية وانحلالها الخلقي معالم تهدينا نحن سواء السبيل؛ وإن الصراع الطائفي الذي قام بين ولدي جراكس The Cracchi وبين مجلس الشيوخ ثم بين ماريوس وسلا Marius & Sulla، وبين قيصر وبمبي؛ وبين أنطونيوس وأكتافيان لهو عين الصراع القائم بيننا في هذه الأيام، والذي لا تكاد تخبو ناره حتى تشتعل من جديد، فتلتهم فترات السلم التهامًا؛ وإن فيما كانت تبذله شعوب البحر الأبيض المتوسط من جهود المستيئس لتحتفظ لنفسها بقبس من ضياء الحرية تنتزعه من تلك الدولة الطاغية لنذيرًا بما ينتظرنا نحن من واجب ثقيل.
وإن قصة روما لهي في واقع الأمر قصتنا نحن.(9/3)
المدخل
أصل الرومان(9/4)
الباب الأول
ديباجة في التسكان
800 - 508 ق. م
الفصل الأول
إيطاليا
ليتصور القارئ في خياله صورة ضياع ساكنة في أودية الجبال، ومروج فسيحة على منحدراتها، وبحيرات معلقة في وهاد التلال، وحقول خضراء أو صفراء تمتد إلى شُطئان البحار الزرقاء، وقرى وبلدان يخيم عليها السكون والخمول حين تسطع عليها شمس الظهيرة، فإذا مالت نحو المغيب انتعشت وسرت فيها الحياة، ومدن تحيط بها الأتربة والأقذار ولكن كل ما فيها جميل من أصغر الأكواخ إلى أفخم الكنائس الكبرى- لقد كانت هذه هي صورة إيطاليا منذ ألفي عام، ولا تزال هي صورتها في هذه الأيام. وقد تحدث بلني Pliny الأكبر عن بلاده (1) فقال عنها: "ليس على ظهر الأرض أو تحت قبة السماء بلاد تماثلها في جمالها وروعة مناظرها". وأنشد فيها فرجيل يقول: "هنا الربيع الدائم والصيف حتى في غير أشهره. هنا تلد الأنعام مرتين في العام، وتثمر الأشجار مرتين (2) ". ولقد كانت أشجار الورد في بيستم Paestum تزهر في السنة مرتين، وكانت في شمال البلاد سهول خصبة كثيرة كسهول منتوا Mantua(9/5)
"يَطعم التُّم (1) من مجاريها المعشوشبة (3) ". وتمتد في شبه الجزيرة العظيمة سلسلة جبال الأبنين امتداد العمود الفقري في جسم الإنسان، فيتقي بها شاطئ البلاد الغربي الرياح الشمالية الشرقية الباردة، وتنبع منها أنهار تروي الأرض بمائها وتنحدر مسرعة لتصبه في خلجان البحر ذات المنظر الخلاب. وتقوم جبال الألب في الشمال لتصد عن البلاد المغيرين، أما في سائر أطراف البلاد فإن أمواج البحر الصاخبة تتلاطم بشطئان كثير منها وعر قائم صعب المرتقى. لقد كانت هذه البلاد في تاريخها القديم خليقة بأن تجزي أهلها المجدين خير الجزاء وأوفاه، وكانت ذات موقع حربي هام في حوض البحر الأبيض المتوسط يمكنها من السيطرة على العالم القديم.
وكانت جبالها مصدر كوارثها كما كانت مصدر جمالها وروعتها، ذلك أن الزلازل والثورات البركانية كانت من حين إلى حين تبتلع جهود الأجيال المتعددة وتطمرها في أطباق الرماد أو تحرقها بحمم البراكين؛ ولكن الموت كان في هذه البلاد، كما هو في معظم بلاد العالم، مصدرًا للحياة ونعمة من أنعمها. ذلم أن الحمم المختلطة بالمواد العضوية كانت موردًا لإخصاب التربة لا ينضب له على مدى الأيام معين (4). لقد كانت بعض الأرضين منحدرة وعرة لا تصلح للزراعة، وكان بعضها الآخر مناقع تنتشر منها حمى الملاريا؛ ولكن الكثير منها قد بلغ من خصب التربة ما جعل بوليبيوس Polybius يعجب من وفرة الطعام وقلة ثمنه في إيطاليا القديمة (5)، ويقول إن في وسع الإنسان أن يدرك مقدار ما تخرجه من الغلات ونوعها حين يشاهد نشاط أهلها وقوتهم وشجاعتهم. ويظن ألفيري Alfieri أن "الشجرة- الآدمية" تنتعش في إيطاليا خيرًا مما تنتعش في سائر بلاد العالم (6). بل أن الطالب الهياب في هذه الأيام نفسها ليعتريه بعض الوجل
_________
(1) هكذا يسميه الدميري وهو الذي يسميه العامة في مصر بالإوز العراقي Olor واسمه العلمي Cygnum ( المترجم)(9/7)
من قوة مشاعر ذلك الشعب المدهش الخلاب- من عضلاته المفتولة، ومن سرعة حبه وغضبه، ومن عيونه الكتومة أو البراقة الملتهبة؛ وإن الكبرياء والحميا اللذين كانا منشأ عظمة إيطاليا، واللذين قطعا أوصالها في أيام ماريوس Marius وقيصر Caesar وفي عصر النهضة الأوربية، لا يزالان يجريان حتى الآن في الدم الإيطالي في انتظار قضية عادلة أو حجة طلية. والرجال كلهم إلا القليل النادر منهم مكتملو الرجولة وسيموا الخلق، والنساء كلهن تقريباً حسان، يمتزن بالقوة والشجاعة. وهل في العالم بلاد أنجبت من العباقرة مثل ما أنجبت الأمهات الإيطاليات طوال الثلاثين قرنًا التي يشملها تاريخ تلك البلاد؟ وهل في العالم بلاد غير إيطاليا كانت رحى التاريخ- في نظم الحكم أولاً ثم في الدين، ثم في الفن؟ لقد ظلت روما مدى سبعة عشر قرنًا- من كاتو الرقيب Cato Censor إلى ميكل أنجلو مركز العالم الغربي.
أما أصل الإيطاليين فيقول عنه أرسطو: "يقول أصدق الناس حكمًا في هذا البلد إنه لما أصبح إيطالس Itaus ملك أئنتريا Oenotria بدَّل أهل البلاد اسمهم فلم يعودوا يسمون أنفسهم أئنتوريين بل تسموا إيطاليين (7) ". ولقد كانت أئنتريا هي مكان الإصبع الكبرى في الحذاء الإيطالي، ومعنى هذا اللفظ هو "أرض النبيذ" لكثرة ما كان فيها من الكروم. ويقول توكيديدس Thucydides إن إيطالس هذا كان ملك الصقليين الذين احتلوا أئنتريا في طريقهم لاحتلال جزيرة صقلية وتسميتها بهذا الاسم (8). وكما أن الرومان قد أطلقوا على الهلينيين جميعًا اسم الأغارقة، وهو اسم جماعة قليلة هاجرت من شمال أتيكا Attica إلى نابلي، فكذلك توسع الإغريق في معنى إيطاليا حتى شمل هذا الاسم جميع أرض شبه الجزيرة من جنوب نهر البو Po إلى أقصى طرفها الجنوبي.
وما من شك في أن فصولاً كثيرة من تاريخ إيطاليا لا تزال مطمورة في أطباق ثراها المزدحم بالأهلين. ويدل ما كشف فيها من آثار ثقافة العصر(9/8)
الحجري القديم على أن سهولها كانت عامرة بالسكان قبل ميلاد المسيح بثلاثين ألف عام على أقل تقدير. ثم ظهرت فيها ثقافة تنتمي إلى العصر الحجري الحديث بين عامي 10. 000، 6000 قبل الميلاد: وكان أصحاب هذه الحضارة أقوامًا طوال الرؤوس تسميهم الروايات القديمة لجوري Liguri أو صقلي Siceli، وكانوا يصنعون الفخار الساذج الخشن ويزينونه بنقوش مؤلفة من خطوط. كذلك كان هؤلاء أدوات وأسلحة من الحجارة المصقولة، ويؤنسون الحيوان ويصيدونه هو والسمك، ويدفنون موتاهم. ومنهم من كانوا يسكنون الكهوف، ومنهم آخرون يسكنون أكواخًا من القش والطين. ومن هذه الأكواخ الأسطوانية تدرج فن العمارة تدرجاً مستمراً حتى وصل إلى "بيت رميولوس Romulus" المستدير القائم على البلاتين Palatine والى هيكل فستا Vesta في السوق العامة Forum وقبر هدريان Hadrian الفخم.
وغزت قبائل من أوربا الوسطى شمالي إيطاليا حوالي عام 2000 ق. م ولعل هذا الغزو لم يكن الأول من نوعه. وقد أدخلوا في البلاد عادة إقامة المباني على قوائم خشبية في الماء ليتقوا هجمات الوحوش والآدميين. واستقر هؤلاء الغزاة في بحيرات جاردا Garda، وكومو Como، وميجوري Maggiore وغيرها من البحيرات الساحرة التي لا تزال تغري الأجانب بالذهاب إلى إيطاليا؛ ثم نزحوا فيما بعد إلى جنوب البلاد، فلما لم يجدوا فيها من البحيرات الكثيرة ما كانوا يجدونه في الشمال، أقاموا مساكنهم على الأرض اليابسة، ولكنهم رفعوها أيضاً على أسس من القوائم الخشبية. وكان من عادتهم أن يحيطوا هذه المساكن بالأسوار والخنادق، وقد انتقلت هذه العادة إلى غير إيطاليا وأضحت من المظاهر المألوفة في المعسكرات الرومانية وفي قصور العصور الوسطى. وكانوا يشتغلون برعي الماشية والضأن، وفلاحة الأرض، وصناعة النسيج، وحرق الفخار، وصناعة العدد الجم من الآلات والأسلحة البرونزية، ومنها الأمشاط ومشابك الشعر(9/9)
والأمواس والملاقط وغيرها من الأدوات التي لا يكاد الإنسان يصدق أنها ظهرت في ذلك العهد البعيد. وكان البرونز قد ظهر في إيطاليا في أواخر أيام العصر الحجري الحديث (حوالي 2500 ق. م) (9). وكانوا يتركون فضلات منازلهم تتراكم حول قراهم، وبلغ من كثرتها أن أطلق على ثقافتهم اسم ثقافة ترامار Terramare- أي الثمط (1) الأرضي- وهي نفايات غنية بالعناصر المخصبة. ومبلغ علمنا أن هؤلاء الأقوام هم الأسلاف الأقربون للكثرة العظمى من سكان إيطاليا في العصور التاريخية.
وأخذ المقيمون في وادي البو من أبناء أهل هذه الأثماط استخدام الحديد عن ألمانيا، وصنعوا منه أدوات خيرًا من ادواتهم السابقة، واستعانوا بها على نشر ثقافتهم الفلانوفية من مركزها في فلانوفا Villanova القريبة من مدينة بولونيا Bologna إلى أقاصي جنوب إيطاليا. ومن حقنا أن نعتقد أن دماء الأمبريين Umbrians والسبيين Sabines واللاتين Latins ولغاتهم، وأهم فنونهم، كلها مستمدة من هؤلاء الأقوام. ثم حدثت هجرة أخرى جديدة حوالي عام 800 ق. م أخضع أصحابها الفلانوفيين وأنشئوا بين نهر التيبر وجبال الألب أعجب حضارة في سجلات الجنس البشري.
_________
(1) الثمط الطين الرقيق أو العجين، وقد اخترنا هذا اللفظ لترجمة كلمة Marl الإنجليزية (المترجم)(9/10)
الفصل الثاني
الحياة التسكانية
يكتنف تاريخ التسكان غموض شديد يضايق المؤرخ أشد الضيق. لقد حكم هؤلاء الأقوام مدينة روما مائة عام أو أكثر من مائة، وخلفوا في أنماط الحياة الرومانية آثارًا تجعل فهم هذه الحياة وفهم تاريخ روما متعذرين دون دراسة تاريخهم. ولكن الآداب الرومانية رغم هذه الآثار قد أغفلت ذكرهم كما تغفل المرأة النصف الجهر بأنها جاوزت سن الشباب. ومع ذلك فإن الحضارة الإيطالية، أو ما سجل منها، تبدأ من أيامهم؛ فقد وجد مختلطًا بمخلفاتهم نحو ثمانية آلاف نقش وكثير من أعمال الفن، كما وجدت شواهد على أدب ضائع يشمل الشعر والمسرحيات وكتب التاريخ (10). غير أن لغتهم لم يحل من رموزها إلا عدد قليل من الألفاظ لا غناء فيه، ولا يزال العلماء الآن حيارى أمام ما يكتنف هذه المعضلة التسكانية من غموض أشد مما كان يكتنف تاريخ مصر الفرعونية قبل شمبليون.
ومن أجل هذا لا يزال الجدل يثور حول التسكانيين: من هم؟ ومن أين جاءوا إلى إيطاليا؟ ومتى جاءوا إليها؟ ولعل الباحثين قد عجلوا بنبذ الروايات القديمة أسرع مما ينبغي؛ ذلك أن المتحذلقين مولعون على الدوام بتنفيذ ما يقبله الناس من الآراء، ويسوءهم ما يبقى في عقولهم منها. لقد كان معظم المؤرخين اليونان والرومان يرون أن القضايا التي لا تحتاج إلى برهان أن التسكانيين قد جاءوا من آسيا الصغرى (10). والحق أن في دينهم، وثيابهم، وفنهم، شواهد كثيرة توحي بأصلهم الأسيوي، وإن كان فيها أيضًا عناصر كثيرة يلوح أنها من أصل إيطالي. وأغلب الظن أن حضارة إتروريا Etruria قد نشأت من الثقافة(9/11)
الفلانوفية Villanovan وأنها تأثرت من الناحية التجارية بحضارات اليونان والشرق الأدنى، وأن التسكانيين أنفسهم، كما كانوا هم يعتقدون، قد غزوا البلاد من آسية الصغرى؛ والراجح أنهم جاءوا من بلاد ليديا Lydia. ومهما يكن أصلهم فإن تفوقهم في التقتيل قد جعلهم هم الطبقة الحاكمة في تسكانيا.
ولسنا نعرف المكان الذي رسوا فيه حين قدموا بحراً إلى إيطاليا، ولكننا نعرف أنهم شادوا أو فتحوا أو وسعوا مدناً كثيرة- مدناً لا قرى من القش والطين كما كانت الحال قبل مجيئهم، بل بلادًا مسورة ذات شوارع منظمة على قواعد هندسية وبيوتاً من اللبن فحسب، بل مقامة كثرتها من الأجر المحروق أو الحجارة. ثم ارتبطت اثنتا عشرة محلة من هذه المحلات فتكون منها اتحاد غير وثيق تسيطر عليه تاركوناي Tarquinii ( المعروفة حتى هذه الأيام باسم كرنيتو Corento) ، وأرتيوم Arretinm ( أرزو Arezzo) ، وبروزيا Perusia ( بروجيا Perugia) ، وفياي Veii ( ايولا فارنيزي Iola Farnese (1)) .
وتضافرت في هذه البلاد صعاب النقل في الجبال والغابات مع التحاسد والتنافر المتأصلين في الطبيعة البشرية، كما تضافرا في بلاد اليونان، على إنشاء دويلات من مدن مستقلة، إذا اتحدت لصد غارات أعدائها اعتزت كل منها بسلامتها منفردة عن غيرها؛ وكثيرًا ما كانت تقف لتشاهد العدو الخارجي يغير على أخواتها حتى خضعت كلها لرومه واحدة في إثر واحدة. ولكن هذه المدن المتحالفة ظلت طوال القرن السادس قبل الميلاد أقوى سلطة سياسية في إيطاليا، وكان لها جيش حسن التنظيم، به فرق من الفرسان ذائعة الصيت، وأسطول بحري كان في وقت من الأوقات هو المسيطر على البحر الذي لا يزال إلى اليوم يسمى
_________
(1) هذه هي الأسماء الرومانية، أما الأسماء التسكانية فغير معروفة.(9/12)
البحر الترهيني (أو البحر الإتروري أي التسكاني (1)).
وبدأ الحكم في المدن التسكانية كما بدأ في روما بالنظام الملكي، ثم صار حكماً ألجركياً تقوم به "الأسر الأولى"، ثم تخلى هذا الحكم تدريجاً للأسر ذات الأملاك عن حق اختيار الحكام الذين كانوا يبدلون في كل عام. وفي وسعنا أن نستدل مما على قبور الأهلين من رسوم ملونة ونقوش محفورة على أن هذا النظام كان نظامًا إقطاعيًا خالصًا يمتلك فيه الأعيان الأرض ويستمتعون بما يخرجه الأقنان والأرقاء الفلانوفيون بكدحهم من خيرات، بعد أن يتركوا لهم حاجتهم منها. وقد أصلحت أرض تسكانيا في عهد هذا النظام، فجففت مستنقعاتها وقطعت غاباتها، وأنشئ في قراها نظام للري، وفي مدنها نظام للمجاري لم يكشف حتى الآن عما يماثله في بلاد اليونان في ذلك العهد نفسه. وقد أنشأ المهندسون التسكانيون مجاري تحت الأرض يسير فيها ما زاد من مياه البحيرات، وطرقًا في الصخور والتلال (12). ونرى العمال التسكانيين في ذلك العهد البعيد وهو عام 700 ق. م يستخرجون النحاس من شاطئ إيطاليا الغربي، والحديد من جزيرة إلبا Elba، وترى الحديد الغفل يصهر في ببيولونيا Populonia، والحديد المطاوع يباع في جميع أنحاء إيطاليا (13). وكان التجار التسكانيون يتجرون مع جميع البلاد الواقعة على شاطئ البحر الترهاني ويأتون بالكهرمان والقصدير والرصاص والحديد من بلاد أوربا الشمالية، وينقلونها في نهري الرين والرون وفوق جبال الألب، ويبيعون المنتجات التسكانية في جميع ثغور البحر الأبيض المتوسط الكبرى. وما وافى عام 500 ق. م أو نحوه حتى أصدرت المدن التسكانية الكبرى عملة خاصة بها.
_________
(1) كان اليونان يسمون الإترسكيين Etruscans التوهيني Tyrrkeni والترسيني Tyrseni. أما الرومان فكانوا يسمونهم الإترسكي Etrusci أو التسكي Tusci. ولعل الاسم اليوناني مأخوذ كما أخذ لفظ Tyrant من كلمة ترها Tyrrha وهي اسم غابة في ليديا. والراجح أن كلمة Tower ( البرج) مشتقة هي الأخرى من هذا الأصل.(9/13)
وتمثل الرسوم التي نراها على القبور هؤلاء الأقوام في صورة خلائق قصار القامات، ممتلئ الأجسام، كبار الرؤوس، لا يكاد يوجد فرق بيم ملامحهم وملامح أهل الأناضول، موردي البشرة وخاصة نساءهم؛ وإن تكن الأصباغ الحمراء قديمة قدم الحضارة ذاتها (14). واشتهرت نساؤهم بجمالهن (15)، وتلمح في وجوه بعض الرجال الرقة والنبل. وكانت الحضارة في ذلك العهد قد بلغت من الرقي مرحلة الخطر كما نستدل مما عثر عليه في قبورهم من قناطر للأسنان الصناعية (16). وقد انتقل إليهم طب الأسنان، كما انتقل الطب والجراحة، من بلاد مصر واليونان (17). وكانوا جميعًا رجالاً ونساء يطيلون شعر الرأس، وكان رجالهم يرسلون لحاهم. أما ثيابهم فكانت على الطراز الأيوني Ionian. تتكون من قميص داخلي ومئزر خارجي هو الذي تطور حتى أصبح الكساء الروماني المعروف باسم التوجا Toga. وكان الرجال والنساء على السواء مولعين بالتزين، وقد عثر المنقبون في قبورهم على كثير من الحلي.
وإذا كان لنا أن نحكم على التسكانيين من الصور المرحة التي نراها على قبورهم، قلنا إن حياة هؤلاء الأقوام كان فيها مشاق الحرب، ونعيم الترف، وبهجة الأعياد والألعاب. فكان الرجال يشنون الحرب العوان، ويمارسون ضروباً من ألعاب الرجولة، ويصيدون الحيوان، ويصارعون الثيران في المتجلد، ويسوقون بأنفسهم عرباتهم في الطرق الخطرة، وكانت تجرها في بعض الأحيان أربعة جياد تسير في صف. وكانوا يتبارون في رمي القرص والحربة، والقفز من فوق الأعمدة، والسباق والمصارعة والملاكمة والمجالدة. وكانت هذه الألعاب تمتاز بقسوتها، لأن التسكان كالرومان كانوا يرون أن من الخطر أن يتركوا الحضارة تبتعد كثيراً عن الوحشية. وكان قليلو الشجاعة منهم يتبارون في رفع الأثقال، ولعب النرد، والنفخ في الناي،(9/14)
والرقص. وتتخلل الرسوم التي في القبور مناظر من مرح الشراب تزيل ما يخيم عليها من كآبة، وهي في بعض الأحيان مقصورة على الرجال دون النساء، يتحدثون فيها عن الخمر، وفي بعضها الآخر يختلط الرجال بالنساء، وهم جميعاً يلبسون أحسن الثياب ويتكئون مثنى مثنى على أرائك وثيرة، ويأكلون ويشربون، ويقوم على خدمتم العبيد، وتسليهم الراقصات والمغنيات (18)، وتزدان الوليمة أحيانًا بمناظر يحتضن فيها الرجال والنساء.
وأكبر الظن أن السيدة التي تُحتضن وقتئذ من الحظايا الشبيهات بحظايا اليونان (الهيتيريا) Hetaira. وإذا جاز لنا أن نصدق ما يقوله الرومان فإن فتيات تسكانيا كان يسمح لهن بالحصول على بائنتهن عن طريق الدعارة، شأنهن في هذا شأن فتيات آسيا اليونانية، وفتيات السموراي اليابانيات (19). وشاهد ذلك أنا نرى شخصية في إحدى مسرحيات بلوتس Plautus تتهم فتاة بأنها تسعى للحصول على بائنة زوجها بامتهان جسمها على الطريقة التسكانية (20). ولكن النساء مع ذلك كانت لهن منزلة عالية في إتروريا، وتمثلهن الرسوم تمثيل من لهن مقام عال في جميع مناحي الحياة. وكان الأبناء ينتسبون إلى أمهاتهم، وفي ذلك أيضًا ما يوحي بأن القوم من أصل أسيوي (21). ولم يكن التعليم عندهم مقصوراً على الرجال، وشاهد ذلك أن تناكويل Tanaquil زوجة تاركون الأول Targuin قد برعن في العلوم الرياضية والطب براعتها في تدبير الدسائس السياسية (22). ويقول المؤرخ اليوناني ثيوبمبس Theopompus إن النساء في إتروريا كن ملكاً مشاعاً (23). ولكنا لا نجد فيما وصل إلينا من المعلومات ما يثبت وجود هذه الطوبى الأفلاطونية، بل إن كثيراً من الصور تمثل مناظر الروابط الزوجية، والحياة العائلية، والأطفال يسرحون ويمرحون حول أبويهم وهم سواء في سذاجتهم وجهلهم.(9/15)
وكان في الدين كل البواعث التي تدعو إلى كبح الشهوات، فقد خلع التسكانيون على آلهتهم كل الصفات التي تبعث الرهبة في القلوب وتكبح جماح الفتيان والفتيات، وتخفف أعباء الآباء والأمهات. وكان أعظم الآلهة هو تينيا Tinia المتصرف في الرعد والبرق. وكان من حوله جماعة من الأرباب يأتمرون بأمره، لا تأخذهم في ذلك رأفة، وهم الأرباب الأثنى عشر، وقد بلغوا من العظمة حداً يجعل مجرد ذكر أسمائهم جريمة لا تغتفر، ولهذا نستميح القارئ عذرًا إذا أغفلنا نحن عن ذكر هذه الأسماء.
وكان أشد هؤلاء الأرباب رهبة هما منتوس Mantaus ومانيا Mania سيد العالم السفلي وسيدته. وكان لكليهما حشد عظيم من الشياطين المجنحين يأتمرون بأمرهما. وكان أشد الأرباب غضباً لاسا Lasa ومين Mean إلهة الأقدار التي تمسك بيدها سيفًا أو أفعى تلوح بهما، وتتسلح بقلم ومداد تستخدمها في الكتابة، وبمطرقة ومسامير تدق بها أوامرها التي لا تتحول عنها. وأظرف من هذه الأرباب معبودو البيت ومعبوداته، وكانت صورة تماثيل صغيرة توضع على المدافئ وتمثل أرواح الحقول والدور.
ولعل العلم المقدس، علم معرفة الغيب بدراسة أكباد الضأن أو طيران الطير، قد جاء إلى التسكانيين من أرض بابل. ولكن الرواية التسكانية تقول إن الذي كشف لهم عن هذا العلم غلام مقدس هو حفيد تينيا، وقد خرج إلى الحياة من أخدود محراث، وفاه لساعته بحكمة الحكماء. وكانت الطقوس التسكانية تنتهي إلى التضحية بالضأن والثيران والآدميين، فكان الضحايا من بني الإنسان يذبحون أو يدفنون أحياء في مياتم العظماء. وكان أسرى الحرب يذبحون أحيانًا طلبًا لرضا الآلهة؛ ولهذا السبب رُجم الفوقيون Phoceaxs في ألاليا Alalia عام 535 ق. م في سوق كإيري Caere العامة، وضحى بنحو ثلاثمائة من الرومانيين في عام 358 ق. م(9/16)
في تاركويناي. ويلوح أن التسكاني كان يعتقد أن في وسعه أن يطلق روحًا من الجحيم نظير كل رجل يقتله من أعدائه (24).
وكان أهم مظاهر الدين التسكاني هو الإيمان بوجود الجحيم في الدار الآخرة؛ فقد كانت روح الميت، كما نراها في الصور والنقوش التي على القبور، يسير بها الجن إلى محكمة الدار الآخرة، حيث تتاح لها الفرصة في يوم الحساب الأخير للدفاع عن أعمالها في الحياة الدنيا. فإذا عجزت عن تبرير هذه الأعمال حكم عليها بضروب مختلفة من التعذيب، كان لها ريب أثر في شعر فرجيل Virgil ( المستمد من قصص متتوا التسكانية)، وفي فكرة المسيحيين الأولين عن الجحيم، وفي جحيم دانتي Dante's Inferno التسكاني الذي سرت إليه عن طريق هؤلاء المسيحيين من خلال عشرين قرناً من الزمان. وكان الأرباب بمنجاة من هذا التعذيب، كما كان في وسع الأحياء من أصدقاء الموتى المعذبين أن يقصروا أمد عذابهم بما يقدمون من الأوعية والقرابين. فإذا نجت الروح من هذا العذاب انتقلت من العالم السفلي إلى صحبة الآلهة الأعلين لتستمتع معهم بالولائم ومظاهر الترف والسلطان التي صورتها آمال الأحياء على القبور.
وكان التسكانيون يدفنون موتاهم في الأحوال العادية، وكان الموسرون منهم يوضعون في توابيت من الطين المحروق أو الحجارة حفرت على السطوح العليا من أغطيتها صور أشخاص متكئين، يشبه بعضهم الموتى الذين كانوا في التوابيت، ويشبه بعضهم الصورة اليونانية الباسمة التي كان اليونان الأقدمون يصورون بها أبلو Apollo؛ ولقد كان لهذه الصور أيضًا أثرها في فن العصور الوسطى. وكان الموتى في بعض الأحيان يحرقون، ويوضع رمادهم في أوعية تزين أحياناً بصور الأموات. وكان الوعاء أو القبر في بعض الأحيان في صورة البيت، في بعضها الآخر كان القبر المنحوت في الصخر يقسم إلى حجرات، ويهيأ لحياة الميت(9/17)
في الدار الآخرة بالأثاث والآنية والمزهريات، والملابس، والأسلحة، والمرايا وأصباغ الزينة والجواهر، وقد عثر في قبر في كاري Caere على هيكل رجل محارب راقد على سرير من البرنز كامل الشكل، والى جانبه أسلحته وعجلته الحربية، ووجدت في حجرة خلف حجرة هذا الميت حلي وجواهر لسيدة لعلها زوجته. وقد اكتسى التراب- الذي كان في يوم من الأيام جسمها المحبوب- بثياب عرسها (25).(9/18)
الفصل الثالث
الفن التسكاني
يكاد الفن التسكاني أن يكون وحده كل ما نعرف عن تاريخ التسكانيين، ففي وسعنا أن نتتبع فيه آداب الشعب وأخلاقه، وما كان للدين والطبقات من سلطان، وما كان لصلاته بآسيا الصغرى ومصر وبلاد اليونان ورومه من أثر في تبدل أحوال هذا الشعب الاقتصادية والثقافية. لقد كان هذا الفن شديد التقيد بالعرف والتقاليد الدينية، وإن كانت المهارة الفنية قد أكسبته الكثير من الحرية؛ وكان يكشف عن حضارة وحشية مظلمة، ولكنه يعبر عنها في قوة؛ وقد حدد أشكاله الأولى وأنماطه الفن الشرقي- الأيوني، القبرصي، والمصري، وسيطرت النماذج اليونانية على نحته وخزفه. وأما في العمارة والتصوير فإن الفن التسكاني كان تسكانياً خالصاً فذاً في نوعه.
ولا يتعدى ما بقي من آثار فن العمارة التسكانية بضع قطع قليلة مبعثرة وبعض القبور؛ ولا تزال أجزاء من أسوار المدن الإترورية قائمة حتى اليوم- وهي مبان ثقيلة خالية من الملاط ولكنها شديدة التماسك قوية. وتدل بيوت أغنياء التسكانيين على ما كانت عليه أشكال البيوت الإيطالية في العهد القديم: فقد كان الواحد منها يتكون من سور خارجي يحجب سكان البيت عن أعين من خارجه، ومن إيوان أو حجرة استقبال في وسطه، وفي سقف الإيوان فتحة ينزل منها المطر إلى صهريج في أسفل البيت، ومن حول الإيوان طائفة من الحجرات الصغيرة يواجهها في أغلب الأحيان مدخل ذو عمد. وقد وصف فترفيوس Vitruvius المهندس والبناء هياكل التسكانيين وصفاً ينطبق في بعض الأحيان على قبورهم أيضاً. ويستفاد من هذا الوصف أن الهياكل كانت في جوهرها تتبع(9/19)
الطرز اليونانية، غير أن "الطراز التسكاني" قد أدخل بعض التعديل على الطراز الدوري، بأن ترك العمد خالية من الحزوز، وأقامها على قواعد، وجعل نسبة الطول إلى العرض في جسم المعبد كنسبة 5: 6 بدل النسبة الأتيكية Attic الرشيقة وهي 3: 6. وفي وسعنا أن نصف الهيكل التسكاني وصفاً موجزاً بقولنا إنه يتكون من بناء رئيسي من الآجر ورواق من الحجارة، ومن عوارض فوق العمد ومقصات من الخشب، ومن نقوش وحلي من الطين المحروق؛ ويقوم البناء كله على قاعدة متصلة أو ربوة، ويطلى بالألوان الزاهية من داخله وخارجه. وكذلك نستطيع أن نقول على قدر ما وصل إليه علمنا بتاريخ التسكانيين إنهم أدخلوا في إيطاليا العقود والقباب في الأبنية المقامة لغير الأغراض الدينية- كأبواب المدن، وأسوارها، ومجاري المياه ومصارفها. ويلوح أنهم جاءوا بهذه الأشكال الفخمة من بلاد ليديا Lydia، وكانت هذه قد أخذتها عن بلاد بابل (1)، ولكنهم لم يتبعوا تلك الطريقة البديعة طريقة تغطية مساحات واسعة من الأراضي بالأبنية الخالية من العمد والعوارض الكثيرة المختلطة المقبضة المملة. وقد ظلوا في معظم الأحوال يتبعون الأساليب التي هيأت لهم اليونان، وتركوا إلى روما أن ترتفع بالأقواس والمنحنيات إلى ذروة الكمال فتحدث بذلك انقلابًا عظيمًا في فن العمارة.
والخزف أشهر ما أخرجته بلاد إتروريا، تزدحم به كثير من متاحف العالم وإن كان من يطوف بهذه المتاحف لا يرى في هذا الخزف من الكمال ما يبرر أن تحشد هذه الكميات الكبيرة منه. فالمزهريات التسكانية، إذا لم تكن منقولة عن الأنماط اليونانية، لا ترتفع فوق الدرجة الوسطى في تصميمها، وهي فخمة خشنة في صنعها، وبدائية همجية في زينتها، وليس ثمة فن من
_________
(1) وكانت تستخدم في المقابر والهياكل المصرية وفي قصور نينوى. وتبلغ بعض العقود الرومانية من القدم ما بلغت أي العقود الباقية في إتروريا.(9/20)
الفنون شوه الجسم البشري كما شوهه الخزف التسكاني، أو أخرج من الوجوه المتنكرة البشعة أو الحيوانات الفظة، أو الشياطين المهولة، أو الآلهة المروعة، أكثر مما أخرجه هذا الخزف. غير أن الآنية السوداء المصنوعة في القرن السادس قبل الميلاد تسري فيها إيطالية، ولعلها تمثل تطوراً محلياً من الأنماط الفلانوفية. وقد عثر على مزهريات جميلة في فلسي Vulci وتاركويناي- نقلت من أثينا أو صنعت على مثال الزهريات الأتيكية ذات الرسوم السوداء. ويلوح أن مزهرية فرنسوا Francois وهي حجرة كبيرة ذات عروتين عثر عليها في شيوزى Chiusi فرنسي يسمى بهذا الاسم- يلوح أن هذه المزهرية من صنع الفنانين اليونانيين كليتياس Clitias وإرجتيمس Ergotimus. أما آنية رماد الموتى التي صنعت في العهود المتأخرة، والتي رسمت عليها صور حمراء على أرضية سوداء، فهي رشيقة الصنع ولكنها أيضاً صناعة يونانية بلا ريب. وإن كثرتها لتدل على أن صناع الخزف الأتيكيين قد سيطروا على الأسواق التسكانية ولم يبقوا فيها للصناع الوطنيين إلا المصنوعات التي لا تمت إلى الفن بصلة. وفي وسعنا أن نقول عن فن الخزف بوجه عام إن اللصوص كانوا على حق حين تركوا كل هذا الخزف في القبور التسكانية بعد انتهابها.
لكننا لا نستطيع أن نستخف هذا الاستخفاف كله بفن البرونز التسكاني. ذلك بأن الذين كانوا يصبون المصنوعات البرونزية في إتروريا قد وصلوا بهذا الفن إلى درجة الكمال. ويكاد ما صنعوه منه أن يبلغ من الكثرة ما بلغته الآنية الخزفية، وحسبنا شاهداً على هذه الكثرة أن مدينة واحدة من مدنهم كان فيها على حد قولهم ألفا تمثال برنزي. ويرجع معظم ما وصل إلينا من المصنوعات البرنزية إلى عهد سيطرة الرومان على تلك البلاد. وأشهر هذه الروائع الفنية كلها تمثالان هما الخطيب الذي يقف الآن في متحف العاديات في مدينة فلرنس Florence تحف به هالة من المهابة الرومانية والتحفظ البرنزي، وتمثال الهولة الذي عثر عليه في(9/21)
أرزو Arezzo عام 1553 والذي أعاد إليه سيلني الفنان الإيطالي بعض ما حطم من أجزائه. وثاني التمثالين بشع المنظر، وأكبر الظن أنه يمثل الوحش الذي ذبحه بلروفون Bellerophon، له رأس أسد وجسمه، وذيل أفعى، وقد نبت له في ظهره رأس جدي، غير أن قوته وصقله تنسياننا ما في خلقه من شذوذ وغرابة. وقد أخرج صناع البرونز التسكانيون آلاف الآلاف من التماثيل الصغيرة والسيوف، والخوذات، والدروع، والحراب، وآنية للطهو ولحفظ رماد الأموات، والنقود، والأقفال، والسلاسل، والمراوح، والمرايا، والسرر، والمصابيح، وحاملات الشموع، بل صنعوا منه العربات نفسها. ومن يزر متحف الفن في نيويورك ير في صدره عربة تسكانية جسمها ودواليبها من الخشب ولكن البرونز يكسو الجسم وإطار الدواليب، وقد نقش في أعلى مقدمها صور من البرونز غاية في الرشاقة. وكان كثير من الأدوات البرونزية يحفر عليه أشكال دقيقة جميلة. وكانت طريقتهم في هذا أن يغطوا السطح الذي يريدون نقشه بالشمع، ثم يرسموا عليه الشكل الذي يريدونه بقلم معدني ذي سن حادة، يغمسون طرفها في بعض الأحماض، فتحفر الخطوط التي يزول عنها الشمع في معدن البرونز، ثم يذاب الشمع كله بعدئذ. وكان الفنان التسكاني وارث الفنانين المصري واليوناني، وندهما في النقش على الفضة والذهب والعظام والعاج.
أما النحت في الحجارة فلم يكن في يوم ما فناً شائعاً في إتروريا. فقد كان الرخام فيها نادراً، ويبدو أن محاجر كرارا Carrara لم تكن قد عرفت بعد. لكن الصلصال الجميل كان في متناول الأيدي، وسرعان ما تشكل وظهر في صورة آلاف مؤلفة من نقوش وتماثيل صغيرة وزينات للقبور والدور من الطين المحروق. وقد أنشأ أحد الفنانين التسكانيين في أواخر القرن السادس قبل الميلاد مدرسة لتعليم فن النحت في فياي Veii أخرجت على يديه آية الفن التسكاني، وهي تمثال أبلوفياي Apollo of Veii الذي عثر عليه في عام 1916 في موضع هذه المدرسة، والذي ظل(9/22)
إلى عهد قريب قائمًا في فلاجوليا Villa Guilia في روما. وقد صنع هذا التمثال الجذاب على غرار تماثيل أبلو اليونانية والأتيكية المنحوتة في ذلك الوقت؛ وهو ذو وجه يكاد يكون وجهاً نسائياً كالذي نشاهده في صورة مونا ليز Mona Lisa، ويفتر ثغره عن ابتسامة رقيقة، وأسنان مائلة مقوسة، وجسمه تسري فيه دلائل الصحة والجمال والحياة. ويطلق الطليان على هذا التمثال اسم "إبلو الذي يمشي" il Apollo che Cammina. وقد ارتقى المثالون التسكانيون في هذا التمثال وفي غيره من الصور الجميلة الكثيرة المنقوشة على توابيت الموتى، ارتقوا بالأنماط الأسيوية من صور الشعر والشباب إلى درجة الكمال. أما في تمثال الخطيب فقد أوجدوا هم أو وارثوهم الرومان فنًا من التصوير الواقعي.
وقد تعاون فن الرسم التسكاني مع فن إيطاليا اليونانية على نقل فن آخر من الفنون إلى روما. ولقد وصف بلني الأكبر Pliny المظلمات التي وجدت في أرديا Ardea بأنها "أقدم من روما نفسها"، وقال عن مظلمات كثيري إنها "أقدم من السابقة" وإنها "تفوقها روعة وجمالاً (27) ". واستخدمت في الرسم الأواني الخزفية، وجدران المنازل والقبور من الداخل. ولم يبق لنا إلا مظلمات القبور والرسوم التي على المزهريات، ولكنها تبلغ من الكثرة حداً نستطيع معه أن نتتبع كل ما مر بفن التصوير التسكاني من أدوار مختلفة- من طرز شرقية ومصرية، تنتقل عن طريق اليونان والإسكندرية إلى طرز روما وبمبي. ونجد في بعض المقابر النماذج الإيطالية للنوافذ ومداخل الدور، والأعمدة، وكلات الأبواب، وغيرها من الأشكال الهندسية المعمارية، مصورة بالألوان على الجدران الداخلية، ولا تفترق في شيء عما نجده منها في مدينة بمبي. وكثيرًا ما نرى ألوان هذه المظلمات حائلة، ولكن القليل منها يبدو جديداً براقاً إلى حد يدهش له الرائي، بعد أن مضى عليه أكثر من عشرين قرناً من الزمان. أما من حيث(9/23)
القواعد الفنية فإن هذه الرسوم لا ترقى إلى ما فوق الدرجة الوسطى، فالصور القديمة لم تراع فيها قواعد المنظور.
ولم يستخدم الضوء والظل لتمثيل العمق والامتلاء، والصور رفيعة أشبه من هذه الناحية بالصور المصرية، ويخيل إلى الناظر إليها أنه يراها من خلال مرآة محدبة أفقية؛ والوجوه كلها جانبية أيًا كانت الجهة التي تشير إليها القدمان؛ غير أن فن المنظور يظهر في النماذج المتأخرة، كما أن التناسب بين أجزاء الجسم المختلفة يراعى بمهارة وأمانة. لكن هذه الصور وتلك يبدو عليها نزق ومرح وخبث لا يسع الإنسان معها إلا أن يدهش مما كان يحيط بالحياة التسكانية من بهجة إذا كانت قبورهم مفرحة إلى هذا الحد.
فهنا رسوم تمثل رجالاً يقتتلون، أو يستمتعون بمشاهدة القتال، أو يتصارعون وينافقون في المجتلدات، ويصيدون الآساد والخنازير البرية بشجاعة الرجال الذين يراهم النظارة، أو يتوقعون أن يروهم؛ ويلاكمون أو يصارعون في ساحة الصراع والنظارة يتناقشون بقوة تفوق قوة المصارعين؛ ويركبون خيولهم أو يسوقون عرباتهم حول المدرج، أو يصيدون السمك في هدوء واطمئنان عظيمين. ويمثل أحد الرسوم زوجين يدفعان قاربًا على مهل في مجرى هادئ المياه: ألا ما أقدم حكمة الحكماء. وفي صورة على قبر من قبور كثيرة يُرى رجل وزوجه متكئين على أريكة، والرجل متوج الرأس بالغار، ويعاهد زوجته وفي يده كأس من الشراب على أن يكون وفياً لها مخلصاً على الدوام؛ وتبتسم الزوجة وتصدقه وإن كانت تعرف أنه يكذب عليها.
ويرسم المصور التسكاني على جدار مقبرة أخرى ما ارتسم في ذهنه من صورة الجنة. يصور المرح الدائم، ويصور الولدان يرقصون رقصاً عنيفاً على أصوات المزمار المزدوج والقيثارة. ويلوح أن المزمار، والقيثارة، والصفارة، والبوق، كانت من مستلزمات كل وليمة وكل حفلة عرس أو جنازة، وأن(9/24)
حب الموسيقى والرقص كان من المظاهر الجميلة في الحضارة التسكانية. ونرى الصور الرسومة على جدران قبر اللبؤة في كرنيتو Corneto تدور حول نفسها في جنون المخمورين.
وكان طبيعيًا أن يوسع التسكان أملاكهم نحو الشمال والجنوب، وأن يمدوا سلطانهم إلى قواعد جبال الألب، والى مدن كمبانيا Campania اليونانية، وأن يجدوا أنفسهم بعدئذ وجهًا لوجه أمام الناشئة على شاطئ الآخر من نهر التيبر Tiber. وقد أنشئوا لهم مستعمرات في فرونا Verona وبدوا Padua، ومنتو Mantua، وبارما Parma، ومودينا Modena، وبولونيا Bologna، وفي الجهة الأخرى من جبال أبنين Appenine في رميني Rimini، ورافنا Ravenna، وأدريا Adria، وهي فرضة صغيرة سمى باسمها البحر الأدرياوي. وأحاطوا روما بمستقرات تسكانية في فيديني Fidenae، وبرنيستي Paraeneste ( بلسترينا Palesetrina) وكبوا Capua، ولعلهم استقروا أيضًا في مسكولم Musculum ( تسكانيا الصغرى). وما وافى عام 618 ق. م -كما تقول رواية مشكوك في صحتها ولكنها تحدد هذا التاريخ تحديدًا عجيبًا- حتى استولى أحد المغامرين التسكان على عرش روما، وظلت الأمة الرومانية مدى قرن كامل تسيطر عليها قوة التسكانيين ويشكلون حضارتها.(9/25)
الفصل الرابع
رومة تحت حكم الملوك
وعبر نهر التيبر حوالي عام 1000 ق. م جماعة مهاجرون من فلانوفا واستقروا في لاتيوم Latium؛ ولا يعرف أحد هل غلَبَ هؤلاء المهاجرون من وجدوهم في تلك البلاد من السكان الأصليين الذين كانت ثقافتهم في ذلك العهد لا ترقى عن ثقافة أهل العصر الحجري، أو أبادوهم، أو اكتفوا بالاختلاط بهم والزواج منهم. ومهما يكن ما فعلوه بهم فقد أخذت القرى الزراعية التي كانت قائمة في هذا الإقليم التاريخي العظيم بين نهر التيبر وخليج نابلي Naples تجتمع وينضم بعضها إلى بعض حتى تكون منها عدد قليل من دويلات المدن المستقلة المتحاسدة التي لم تكن تتحد بعضها مع بعض إلا في الأعياد الدينية السنوية أو فيما كان يقوم بينها من حروب. وكان أكبر هذه المدن هي ألبا لنجا Alba Longa القائمة عند سفح جبل ألبان Mt. Alban، والراجح أن موضعها كان في موضع قصر جندلفو Castel Gandolfo الذي يأوي إليه البابا في أيام الصيف في الوقت الحاضر. ومن أبا لنجا تحرك جماعة من اللاتين -ولعل ذلك كان في القرن الثامن قبل الميلاد- مدفوعين بحب الغزو أو بازدياد عددهم لكثرة من ولدهم من الحفدة والأبناء، تحركوا قرابة عشرين ميلاً نحو الشمال الغربي، وأنشئوا المدينة التي صارت في بعد أعظم مدن العالم وأوسعها شهرة.
ولسنا نعرف عن نشأة روما أكثر مما ذكرناه في الفقرة السابقة التي ليس فيها إلا ما هو فروض غير موثوق بصحتها. ولكن القصص الرومانية تروي عن ذلك الشيء الكثير. ذلك أنه لما حرق الغاليون المدينة في عام 390 ق. م احترقت في أغلب الظن معظم سجلاتها التاريخية، فاتسع المجال(9/26)
أمام خيال أهليها، وأغرتهم وطنيتهم إلى تصوير أصل المدينة في صورة مطلقة من كل القيود، فحددوا تاريخ بنائها في اليوم الذي يوافق اليوم الثاني والعشرين من شهر أبريل عام 753 ق. م، وأخذوا يؤرخون الحوادث من "عام تأسيس المدينة" A. U. C. anno urbis conditae؛ وأخذت مائة قصة وألف قصيدة تصف خروج إينياس Aeneas بن أفرديتي -فينوس (الزهرة Aphrodite-Venus من طروادة المحترقة، ومجيئه إلى إيطاليا بآلهة مدينة برام Priam (1) وما كان فيها من صور مقدسة، بعد أن قاسى الأهوال في البلاد الكثيرة التي مر بها، ولاقى ألوان العذاب من سكانها. وتزوج إينياس من لافينيا Lavinia ابنة ملك لاتيوم؛ وتقول القصة أن نمتور Numitor أحد أحفادهما جلس على عرش ألب لنجا حاضرة لاتيوم بعد ثمانية أجيال من هذا الزواج. ثم اغتصب العرش منه رجل يدعى أمليوس Amulius وأخرجه من المدينة، وأراد أن يقضي على أسرة إينياس كلها فقتل جميع أبنائه الذكور، وأرغم ابنته الوحيدة ريا سلفيا Rhea Silvia على أن تصبح كاهنة لفستا Vesta، وأن تترهب وتقسم أن تظل عذراء حتى الممات. ولكن ريا رقدت يومًا على شاطئ مجرى ماء، "وفتحت صدرها لتتلقى النسيم" (29) واستغرقت في النوم وهي واثقة أكثر مما يجب بطهارة الآلهة والآدميين وأسر جمالها قلب المريخ Mars فحملت منه بتوأمين، فلما وضعتهما أمر أمليوس بإغراقهما في النهر، فوضعا فوق رمس، وأشفقت عليهما الأمواج فحملتهما إلى البر، وأرضعتهما ذئبة ( Lupa) أو -في رواية أخرى- زوجة راعٍ تدعى أكا لارنتيا Acca Larentia ويكنونها لوبا Lupa لأن حبها عارم محب الذئاب، فلما شب رمليوس Romulus وريموس Remus قتلا أمليوس، وأعاد نُمتور إلى العرش، وسارا تحدوهما قوة الشباب وعزيمته لكي ينشئا لهما مملكة على تلال روما.
_________
(1) يقصد طروادة (المترجم).(9/27)
ولم يكشف علم الآثار شيئاً يؤيد هذه القصص التي تروى عن نشأة روما وعهدها الأول؛ ولعل في هذه القصص شيء من الحقيقة، فليس ببعيد أن يكون اللاتين قد أرسلوا نفراً منهم ليشيدوا مدينة روما لكي يتخذوها حصناً يقيهم شر التسكان الذين كانوا يوسعون رقعة بلادهم في ذلك الاتجاه. وكان موقع المدينة على بعد عشرين ميلاً من شاطئ البحر، ولم يكن موقعاً ملائماً للتجارة البحرية، ولكنه كان من المستحب في تلك الأيام أيام القرصان المغيرين النهّابين أن تكون مواقع المدن بعيدة عن شاطئ البحر قليلاً. أما من حيث التجارة الداخلية فقد كانت روما عند ملتقى طريقي التجارة، طريق النهر والطريق البري الممتد من الشمال إلى الجنوب. ولم يكن موقعها بالموقع الصحي، فقد كانت الأمطار وفيضانات الأنهار، ومياه العيون، تملأ المناقع الكثيرة في السهل المحيط بالمدينة، ومن ثم كانت شهرة التلال السبعة وتقول الرواية أن أول ما استوطنه المهاجرون من هذه التلال هو تل بلاتين Palatine، ولعل سبب هذا أن جزيرة قرب سفح هذا التل قد يسرت للمستعمرين عبور نهر التيبر وإقامة جسر عليه. ثم استوطنوا بعدئذٍ سفوح التلال المجاورة واحداً في أثر واحد، وما لبثوا أن عبروا النهر وشدوا الفاتيكان Vatican والجانكيولوم Janiculum (1) . ثم تحالفت القبائل الثلاث -اللاتين والسبنيون والتسكان- التي استوطنت التلال وأنشأت منها اتحاداً يسمى السبتيمنيوم هو الذي نشأت فيه على مهل مدينة روما.
وتقول القصة القديمة بعدئذٍ أن رميولوس أراد أن يأتي بأزواج لرجاله، فأعد ألعاباً عامة دعا إليها السبنيين وغيرهم من رجال القبائل الأخرى، وبينما كان السباق جارياً في مجراه إذ انقض الرومان على نساء السبنيين فاستولوا
_________
(1) لقد كان في روما أكثر من هذه التلال السبعة المتواضعة، ولم تكن هذه "السبعة" هي بعينها في جميع الأوقات. غير أنها في أيام شيشرون كانت هي Palatine, Capitoline, Caelian, Esquiline, Aventine, Viminal, Quirinal.(9/28)
عليهن، وطردوا الرجال من حلبة السباق، فما كان من تيتس تاتيوس Titus Tatius ملك قبيلة الكيوريين Curites إلا أن شن الحرب على روما، وسار بجيوشه لغزوها. وفتحت تربيا Tarpeia ابنة الوماني الموكل بإحدى القلاع القائمة على الكبتولين باب القلعة إلى الغزاة. وقد جازوها على عملها بأن دقوا عظامها بدروعهم؛ وأطلقت الأجيال التي جاءت من بعد اسمها على "صخرة تربيا" التي كان يلقى من فوقها المقضي عليهم بالإعدام ليلقوا حتفهم. ولما اقترب جنود تاتيوس من تل البلانين سعت نساء السبنيين -اللاتي كنّ يشعرن بنعم الأسر- إلى عقد هدنة بين الطرفين، وحجتهن في هذا أنهن سيخسرن أزواجهن إذا انتصر الكيوريون؛ وسيخسرن أخوتهن أو آباءهن إذا انهزموا. ونجح النساء في سعيهن وأقنع رومليوس تاتيوس ملك السبنيين بأن يشاركه ملكه، وأن تنضم قبيلته إلى اللاتين، فتصبح من مواطني روما؛ ومن ذلك الوقت سمي أحرار روما بالكيوريين أو الكويريين ( Quirites Curites) (30) . ولعل في هذه القصة الخيالية كلها هي الأخرى بعض الحقائق -أو لعل النعرة الوطنية قد صاغتها لتخفي بها فتح السبنيين مدينة روما.
وحكم رميولوس وما زمناً طويلاً رفع بعدها إلى السماء في عاصفة، واتخذ من بعد ذلك إلهاً من آلهة الرومان المحببين، يعبدونه باسم كويرينوس Quirinus (31) . ولما مات تاتيوس أيضاً اختار رؤساء الأسر الكبيرة رجلاً من السبنيين يدعى نوما بمبيليوس Numa Pompilius ملكاً على روما. والراجح أن السلطة السياسية الحقيقية فيما بين تأسيس روما وسيطرة التسكان عليها كانت في أيدي هؤلاء الرؤساء أو السناتوريين، على حين أن أعمال الملك كانت كأعمال الأركون باسليوس Archon basileus في مدينة أثينا في هذا الوقت عينه، ولا تخرج عن أعمال الكاهن الأكبر (32). وتصور الأقاصيص الملك نوما السبيني في صورة شبيهة بالإمبراطور ماركس أورليوس Marcus Aurilius تصوره فيلسوفاً وقديساً معاً. ويقول عنه ليفي Livi إنه:(9/29)
"عمل على أن يبعث في قلوب الشعب الخوف من الآلهة، ويجعل ذلك الخوف أقوى أثرًا في قلوب ... الأقوام الهمج. وإذ كانت جهوده في هذه السبيل لا توصله إلى الهدف الذي يسعى إليه إلا إذا كان مرجعها إلى حكمة غير حكمة البشر، فقد ادعى أنه كان يلتقي في الليل بإيجيريا Egeria الحورية المقدسة، وإنه يعمل بنصيحتها حين ينظم الطقوس والمراسم الدينية التي هي أحب الطقوس إلى السماء، ويعين الكهنة لكل إله من كبار الآلهة (33).
ولما أفلح توما في توحيد دين قبائل روما المختلفة، وإزالة ما بينها من فروق في العبادات، قوّى بذلك وحدة الدولة وزادها استقراراً (33)؛ ويقول شيشرون إن نوما، حين وجه اهتمام الرومان المولعين بالحرب والقتال إلى شئون الدين، نشر لواء السلام بين شعبه مدى أربعين عاماً (34).
وأعاد خليفته تلس هستليوس Tallus Hostilius إلى الرومان حياتهم العادية التي ألفوها من قبل "ولما رأى أن قوى الدولة آخذة في الانحلال لطول عهدها بالخمول أخذ يتطلع إلى حجة يتذرع بها لإيقاد نار الحرب" (35). واختار عدوًا له مدينة ألبا لنجا التي كانت هي أصل مدينة روما ومنشأها، فغزاها ودمرها عن آخرها. ولما نكث ملك ألبا بوعده أن يحالفه أمر به تلس فشُد إلى عربتين سارتا في اتجاهين متضادين فمزق جسمه إربًا (36). ولم يرَ خليفته أنكس مارتيوس Ancus Martius بأسًا في اتباع هذه الفلسفة العسكرية، فقد كان أنكس يعلم كما يقول ديو كاسيوس Dio Cassius:
أنه لا يكفي من ينشدون السلم أن يمتنعوا عن أذى الناس ... بل أنه كلما اشتدت رغبة الإنسان في السلم اشتد تعرضه للأذى. وكان يرى أن الرغبة في الهدوء لا تحمي الإنسان من الأذى إلا إذا صاحبها استعداد للحرب؛ وكذلك كان يعتقد أن الابتهاج بالبعد عن المشاكل الخارجية سرعان ما يقضي على الذين يسرفون في حماستهم لهذا البعد (37).(9/30)
الفصل الخامس
سيطرة التسكانيين
وتروي الأقاصيص بعدئذٍ أن دمراتس Demaratus، وهو تاجر ثري نفي من كورنث، جاء ليعيش في تاركويناي حوالي عام 665 ق. م؛ وتزوج بامرأة تسكانية (38). ثم هاجر ابنه لوسيوس تاركوينيوس Lucius Tarquinius إلى روما وارتفعت مكانته فيها؛ ولما مات أنكس اغتصب العرش أو رفعه عليه حلف من الأسر التسكانية في المدينة، والاحتمال الثاني أرجح من الأول. ويقول ليفي Livy إنه أول ملك سعى إلى التاج وألقى خطبة يطلب فيها معونة السوفة أي المواطنين الذين لا يستطيعون أن يثبتوا انتسابهم إلى الآباء الذين أسسوا المدينة. وزاد سلطان الملكية على الأشراف في عهد تاركوينيوس برسكس Tarquinius Priscus، كما زاد نفوذ التسكانيين في شئون روما السياسية والهندسية والدينية والفنية. وحارب تاركون السبنيين وانتصر عليهم، وأخضع لاتيوم Latium كلها لسلطانه، ويقال أنه استخدم موارد روما ليجمل بها تاركونياي وغيرها من المدن الإترورية، ولكنه جاء أيضًا بالفنانين التسكانيين واليونان إلى عاصمة ملكه وزينها بالهياكل الفخمة (1) ويلوح أنه كان يمثل سلطان الأعمال التجارية والمالية المتزايد على سلطان الأشراف ملاك الأراضي الزراعية.
وحكم تاركون الأول ثمانية وثلاثين عامًا ثم قتله الأشراف غيلة لأنهم أرادوا
_________
(1) ولعله أيضاً أنشأ فيها المجاري لتنظيفها، ويعزو إليه المؤرخون الرومان إنشاء الكلوكا مكسيما Cloaca Maximae أو البالوعة الكبرى، ولكن بعض العلماء يبقون هذا الفضل إلى القرن الثاني قبل الميلاد.(9/31)
أن يحدوا من سلطان الملكية ويفرضوا عليها سلطان الدين؛ ولكن تناكويل Tanaquil أرملة تركون تولت الأمر بنفسها، واستطاعت أن ترفع ابنها سرفيوس تليوس Servius Tallius على العرش. ويقول شيشرون إن سرفيوس هذا هو أول ملك روماني استطاع "أن يتولى الملك دون أن يختاره الشعب" (41) أي أن تختاره الأسر الكبيرة. وحكم هذا الملك البلاد حكماً صالحاً، وأنشأ حول روما خندقاً وسوراً ليحميها من الغارات؛ ولكن كبار الملاك لم يرضوا عن حكمه ودبروا المؤامرات لخلعه، فقابل هذا بأن تحالف مع الأثرياء من العامة ( Plebs) وأعاد تنظيم الجيش والناخبين ليقي بذلك مركزه، فبدأ بإحصاء السكان والأملاك، وقسّم الأهلين طبقات على أساس ثروتهم لا على أساس مولدهم، فترك بذلك طبقة الأشراف القديمة محتفظة بكيانها، ولكنه رفع تجاهها طبقة من الإكويتي equites ومعناها الفرسان -أي الرجال الذين كان في مقدور كل منهم أن يعد له جوادًا وسلاحًا نخرط بهما في سلك فرقة الفرسان في الجيش (1) , وتبين من الإحصاء أن هناك 80000 شخص يستطيعون حمل السلاح. وإذا قدرنا أن أسرة كل جندي من هؤلاء الجنود تتألف منه ومن زوجة له وولد واحد، وأن لكل أسرة من أربع أسر عبداً رقيقاً، فإنا لا نكون مخطئين إذا قدرنا سكان روما والبلاد المحيطة بها الخاضعة لسلطانها حوالي عام 560 ق. م بنحو 260000 نسمة. وقسم سرفيوس هؤلاء السكان إلى خمس وثلاثين قبيلة جديدة، ورتبها حسب مسكنها لا حسب طبقتها أو ما بينها من صلات القرابة؛ وفعل بذلك ما فعله كليستينز Cleisthenes في أتيكا Attica بعد حيل من ذلك الوقت، فأضعف ما كان للأشراف -أي الطبقة التي كانت تضع نفسها بفضل مولدها فوق سائر الطبقات- من تماسك سياسي وقوة انتخابية. ولما قام تاركون آخر،
_________
(1) وهذا اللفظ بمعناه القديم ذو صلة بكلمة Knight ( فارس) الإنجليزية، ولكن سرعان ما فقد لفظ equites معناه الأول وأصبح معناه الطبقة الوسطى العليا أو طبقة رجال الأعمال.(9/32)
هو حفيد تاركوينيوس برسكس Taquinius Priscus واتهم سرفيوس بأنه يحكم حكماً غير شرعي، استفتى سرفيوس الشعب فنال "ثقته الاجتماعية" كما يقول ليفي Livy (42) ؛ غير أن تاركوين لم تقنعه نتيجة هذا الاستفتاء فعمل على اغتيال سرفيوس، ونادى بنفسه ملكاً على روما (1).
وأصبحت الملكية في عهد تاركوينيوس سوبربس Tarquinius Superbus " المتكبر" مطلقة السلطان، كما أصبح للتسكانيين النفوذ الأعلى في البلاد. ولكن الأشراف كانوا من قبل يرون أن الملك Rex إن هو إلا السلطة التي يكل إليها مجلس الشيوخ Senate تنفيذ أحكامه، وأنه الكاهن الأكبر للدين القومي ولذلك لم يستطيعوا أن يصبروا طويلاً على سلطانه غير المحدود. ومن أجل هذا قتلوا تاركوينيوس برسكس ولم يحاولوا الدفاع عن سرفيوس. ولكن هذا الملك الجديد كان شراً من الملك الأول؛ فقد أحاط نفسه بحرس خاص وحقر الأحرار بأن فرض عليهم السخرة شهوراً طوال، وأمر بصلب المواطنين في السوق العامة، وقتل عدداً كبيراً من زعماء الطبقات العليا في البلاد، وحكم حكماً وحشياً ساخراً أغضب جميع أصحاب الرأي فيها (2). وظن هذا الملك أن النصر في ميدان القتال يكسبه حب الشعب ورضاه، فهاجم الوتليين Rutili والفلشيين Volscians. وبينما كان هو مع الجيش في الميدان اجتمع مجلس الشيوخ وأعلن خلعه (508 ق. م)، وكان ذلك انقلاباً خطيراً في تاريخ روما.
_________
(1) قلّ أن يوجد من العلماء من يميل إلى الأخذ بأقوال التور بيس Eltore Pais المسرفة في التشكك، والتي تأبى تصديق كل ما يروى من تأريخ روما قبل عام 443 ق. م لأنه حسب زعم هذا المؤرخ مجرد أساطير. وهو يعتقد ان تاركوين الأول والثاني علمان على شص واحد لم يوجد قط (34). ويرى بعضهم أن الرواية المأثورة عن تأريخ روما بعد رميولوس يمكن قبولها مع تعديل في بعض أجزائها، وأن فبوله هذا "يفسر الظاهرة" تفسيراً خيراً مما يفسره أي افتراض آخر.
(2) أكبر الظن أن ما يروى عن تأريخ آل تاركوين قد سوّأته الدعاوى التسكانية ودعاوى الأرستقراطية الرومانية. ذلك أن معظم تأريخ روما الأول قد كتبه رجال يمثلون طبقة الأشراف أو يعجبون بهذه الطبقة، كما كان كتاب تأريخ الأباطرة فيما بعد من أشياع مجلس الشيوخ أمثال تاستس Tacitus.(9/33)
الفصل السادس
مولد الجمهورية
وهنا تستحيل الرواية التاريخية أدباً، ويمتزج نثر السياسة بشعر الغرام. أنظر مثلاً إلى ما يقوله ليفي وهو أن سكستس تاركوين Sextus Tarquin ابن الملك كان في معسكر أبيه في إحدى الليالي يناقش لوسيوس تاركوينيوس كلاتنس Lucius Tarquinius Collatinus أحد أقربائه في فضائل زوجتيهما وأيهما خير من الأخرى، فعرض عليه كلاتنس أن ينطلقا على ظهر جواديهما إلى روما ويفاجئا زوجتيهما بزيارتهما في أواخر الليل. فوجدا زوجة سكستس في وليمة مع بعض صاحباتها، أم لكريشيا Lucritia زوجة كلاننس فكانت تغزل الصوف لتنسج منه ثياباً لزوجها. وتاقت نفس سكتس ليجرب وفاء لكريشيا ويستمتع بحبها، فما كان منه إلا أن عاد في السر بعد بضعة أيام من ذلك الوقت إلى بيت لكريشيا وتغلب عليها بدهائه وقوته. وأرسلت لكريشيا تستدعي أباها وزوجها، وأخبرتهما بما حدث لها، ثم انتحرت بطعنة خنجر. وعلى أثر ذلك أهاب لوسيوس جونيوس بروتس Lucius Junius Brutus أحد أصدقاء كلاتنس بجميع الصالحين من الرجال أن يطردوا آل تاركوين كلهم من روما. وكان هو نفسه ابن أخ الملك، ولكن تاركوين كان قد قتل أباه وأخاه، وتظاهر هو بالجنون حتى يبقي تاركوين على حياته فيثأر لمقتل أبيه وأخيه، ولذلك سمي بروتس Brutus أي الأبله. فلما وقعت هذه الحادثة ركب مع كلاتنس إلى العاصمة ليقص قصة لكريشيا على مجلس الشيوخ، وما زال به حتى أقنعه بوجوب إخراج الأسرة المالكة كلها من روما. وكان الملك في أثناء ذلك قد ترك الجيش وعاد مسرعاً إلى العاصمة، وعلم بروتس بهذا فسار إلى الجيش على جواده وقص عليه مرة أخرى(9/34)
قصة لكريشيا، وكسب بذلك معونته وتأييده. وفر تاركوين إلى بلاد إتروريا وطلب إلى أهلها أن يعدوه إلى عرشه (1).
ودعيت في روما وقتئذٍ جمعية من أهلها الجنود فاختارت بدل الملوك الذين كانوا يختارون مدى الحياة قنصلين (2) متعادلين في السلطان، كلاهما رقيب على الآخر ومنافس له، يحكمان مدة عام واحد. وتقول الرواية إن القنصلين الأولين كانا بروتس وكلاتنس ولكن ثانيهما استقال من منصبه فاختير بدله ببلوس فالريوس Publius Valirius الذي لقب فيما بعد ببلكولا Publicola - أي "صديق الشعب"- لأنه تقدم إلى الجمعية بعدة قوانين ظلت من القواعد الأساسية في دستور روما وهي: أن كل من يحاول أن ينصب نفسه ملكاً يجوز قتله من غير محاكمة؛ وكل من يحاول أن يتولى منصباً عاماً من غير رضاء الشعب يعاقب بالإعدام؛ وكل مواطن يحكم أحد الحكام بإعدامه أو جلده يحق له أن يعرض أمره على الجمعية. وفالريوس هو الذي سن السنة التي كانت تحتم على القنصل إذا أراد أن يدخل الجمعية أن يفصل رأس البلطة عن مقبضها ويخفضها إشارة إلى سيادة الشعب والى أن عقوبة الإعدام في وقت السلم من حق الشعب وحده.
وأهم نتائج هذه الثورة اثنتان: أولاهما أنها حررت روما من سلطان التسكانيين، والثانية أنها استبدلت بحكم الملوك حكم الأشراف الذي ظلوا يحكمونها إلى عهد قيصر. أم الفقراء من المواطنين فلم تنصلح أحوالهم بعد الثورة بل ساءت عما كانت عليه؛ فقد طلب إليهم أن ينزلوا عن الأراضي التي وهبها لهم سرفيوس
_________
(1) يرى معظم العلماء من أيام نيبهر Niebhur أن قصة لكريشيا من خلق الخيال وشكسبير. ولسنا نعرف ما في هذه القصة من حقيقة وما فيها من خيال الشعراء. ويرى البعض أن بروتس نفسه شخصية خرافية، ولكن أكبر الظن أن الذين يقولون بهذا يسرفون في تشككهم.
(2) أو قائدين يلقب كل منهما بريتور Praetor - كما تقول رواية أخرى.(9/35)
وخسروا ذلك القسط الضئيل من الحماية من سلطان الأشراف وهو الذي كان لهم في عهد الملكية (47). وقال الظافرون إن الثورة كانت نصراً مؤزراً للحرية، ولكن الحرية في لغة الأقوياء لا يقصد بها في بعض الأحيان إلا التحرر من القيود التي تحول دون استغلال الضعفاء.
وكان إخراج آل تاركوين من روما، مضافاً إلى هزيمة التسكانيين على يد المستعمرين اليونان في كومية Cumae عام 524 نذيراً بزوال زعامة التسكانيين من وسط إيطاليا. ومن أجل هذا فإنه لما لجأ إليهم تاركوين، استجاب لدعوته لارس بورسنا Lars Porsena، أكبر الحكام في كلوزيوم Clusium فحمع جيشاً كبيراً من مدن إتروريا المتحدة وزحف به على روما. ودبرت في روما نفسها وفي الوقت نفسه مؤامرة ترمي إلى إعادة آل تاركوين إلى عرشها. وقبض على المتآمرين، وكان من بينهم ابنا بروتس، وضرب هذا القنصل لكل من جاء بعده من الرومان أحسن الأمثلة في الجلد والخضوع لحكم القانون؛ إذ شهد بعينه ولديه يجلدان ثم يضرب رأسهما وهو صامت لا ينبس ببنت شفة -أو لعل هذه قصة تروى وليست حقيقة واقعة. ودمر الرومان الجسر العام على نهر التيبر قبل أن يصل إليهم بورسنا. وقد خلد هوراشيس ككليز Horatius Cocles اسمه في الأغاني اللاتينية والإنجليزية بدفاعه عن رأس هذا الجسر (1). ولكن روما استسلمت لبورسنا (48) على الرغم من هذه الأسطورة وغيرها من الأساطير التي أراد بها المهزومون أن يكللوا هاماتهم بالمجد. ونزلت عن بعض أملاكها إلى فياي Veii والمدن اللاتينية التي كان ملوك روما قد انتهبوها (49). وأظهر بورسنا للمدينة المغلوبة بعض المجاملة إذ لم يطلب إعادة تاركوين إلى عرشها. وكان الأشراف في إتروريا قد طردوا منها أيضاً الملوك، وظلت روما بعد هذه الاضطرابات ضعيفة
_________
(1) أنظر قصيدة لورد مكولي في مجموعة قصائده المسماة Lays of Ancient Rome ( المترجم).(9/36)
مدى جيل من الزمان، ولكن ما خلفته الثورة من نتائج ظل باقيًا دائم الأثر.
وقضت هذه الثورة على قوة التسكانيين، ولكن آثار النفوذ التسكاني ودلائله ظلت باقية في الحضارة الرومانية إلى آخر أيامها. ولعل أقل هذا النفوذ أثراً هو ما كان في اللغة اللاتينية؛ بيد أن الأرقام الرومانية هي في أغلب الظن أرقام تسكانية (50)، ولعل لفظ رومه نفسه مشتق من اللفظ التسكاني رومون Rumon ومعناه نهر (51). وكان الرومان يعتقدون أنهم أخذوا عن إتروريا الاحتفالات التي كانت تقام عند عودة قائد روماني منتصر، والأثواب الموشاة بإطار أرجواني، والمقعد العاجي (الشبيه بمقاعد العربات) الذي يجلس عليه الحكام، والعصى والفؤوس التي كان يحملها أمام كل قنصل اثنا عشر ضابطاً، والتي كان يرمز بها إلى حقه في ضرب الناس وقتلهم (1). وكانت عملة رومه تزدان بمقدم سفينة قبل أن يكون لرومه سفن بزمن طويل- وكانت هذه الصورة ترسم على العملة التسكانية رمزًا لنشاطها وسلطانها البحري. وكان من عادة الأشراف الرومان من القرن السابع إلى الرابع قبل الميلاد أن يرسلوا أبناءهم إلى المدن التسكانية ليتلقوا فيها التعليم العالي، وكان من بين ما يتلقونه فيها من العلوم الهندسة والمساحة والفنون المعمارية (55). وكانت الملابس الرومانية مأخوذة عن الملابس التسكانية أو لعل هذه وتلك مأخوذتان عن أصل واحد.
وجاء الممثلون الأولون إلى رومه كما جاء إليها اسمهم historiones من إتروريا. وإذا جاز لنا أن نصدق ليفي فإن تاركوينيوس برسكس هو
_________
(1) وقد وجدت في أحد القبور التسكانية في فتيولونيا Vetulonea بلطة من حديد ذات رأسين، ويد محاطة بثمانية قضبان حديدية. وكانت البلطة ذات رأسين تتخذ رمزًا للسلطان من عهد لا يقل في القدم عن عهد الحضارة المينوية في كريت. وكان الرومان يطلقون على البلطات والقضبان المحيطة بها اسم الحزم- (الفاشات). أما عدد الضباط الاثنى عشر الذين يحملون هذه البلطة والذين يسمون بالرومانية لكتورين Lictors ( من Ligare ومعناها يربط) فيرجع إلى الاثنى عشر مدينة التي كان يضمها الاتحاد التسكاني، وكانت كل واحدة منها ترسل ضابطًا يصحب الرئيس الأعلى لهذا الاتحاد.(9/37)
الذي بنى أول ساحة كبرى Circus Maximus، واستورد خيول السباق والمصارعين للألعاب الرومانية من إتروريا. والتسكانيون هم الذين أدخلوا في رومه المصارعات الوحشية، ولكنهم هم الذين وضعوا النساء فيها في منزلة لم تكن لهن في بلاد اليونان. وهم الذين استحالت على أيديهم من مناقع وخمة إلى حاضرة محمية متمدينة. وأخذت رومه عن إتروريا معظم مراسمها الدينية، كما أخذت عنها عادات زجر الطير والعرافة والإنباء بالغيب. ولقد ظلت وظيفة المتنبئ بالغيب جزءاً مقرراً في كل جيش روماني إلى أيام الإمبراطور يوليان Julian ( أي إلى عام 363 ب. م) وكان الاعتقاد السائد أن رميولوس Romulus قد خطط حدود رومه حسب المراسم والطقوس التسكانية. وعن إتروريا أخذ الرومان حفلات عرسهم وما فيها من رموز إلى عادة الأسر القديمة وحفلات جنائزهم كما أخذوا عنها موسيقاهم وآلات طربهم (56). وكان معظم فناني رومه من التسكانيين، كما كان الشارع الروماني الذي يعمل فيه الفنانون يسمى Vicus Tuscus ( البيوت التسكانية)، ولعل الفنانين أنفسهم قد تسربوا إلى رومه عن طريق لاتيوم من إغريق كمبانيا Campania. وكان فن النحت في رومه متأثراً أعمق الأثر بأقنعة الموتى التي كانت تغطى بها صور الأسر- وهي عادة أخذت من إتروريا.
وزين المثالون التسكانيون هياكل رومه وقصورها بالتماثيل البرنزية وبالصور المجسمة على الآجر والمحفورة فيه. وخلف مهندسو البناء التسكانيون في رومه "طرازاً تسكانياً" لا يزال حتى اليوم باقياً في كنيسة القديس بطرس. ولعل ملوك رومه التسكانيين هم الذين شادوا فيها أولى العمارات الكبيرة وحولوها من طائفة من الأكواخ الطينية أو العشش الخشبية إلى مدينة مشيدة من الخشب والآجر والحجارة. ولم تشهد رومه مثل ما شهدته من المباني في عهد التسكانيين إلا في عهد قيصر.(9/38)
ولكن ينبغي لنا ألا نغلو في هذا الوصف. فمهما يبلغ ما أخذته رومه عن جيرانها من الكثرة فقد ظلت في جميع مظاهر الحياة الأساسية محتفظة بطابعها الخاص. وليس في التاريخ التسكاني ما يوحي بمميزات الخلق الروماني، وهي التأديب الذاتي وما فيه من جد، ووقار؛ والقسوة، والجرأة، والوطنية، والإخلاص، والصفتان الأخيرتان هما اللتان استطاع بهما الرومان على طول الزمن أن يفتحوا بلاد البحر الأبيض المتوسط، وأن يحكموها فيما بعد. فلما تحررت رومه من سيطرة التسكانيين انفسح المجال أمامها لتمثيل تلك المسرحية الفذة مسرحية عظمة الوثنية ثم اضمحلالها في العالم القديم.(9/39)
الكتاب الأول
الجمهورية
508 - 30 ق. م(9/41)
الباب الثاني
الكفاح في سبيل الديمقراطية
508 - 264 ق. م
الفصل الأول
الأشراف والعامة
ترى أي الرومان كانوا هم الأشراف Patricians؟ يرى ليفي (1) أن رميولوس اختار مائة من رؤساء العشائر في قبيلته ليعينوه على تشييد رومه وليكون منهم مجلس شيوخه. وقد سمى كل واحد من هؤلاء الرجال فيما بعد باتر أي "الأب" وسمي أبناءهم وأحفادهم بتريشي- أي "المنحدرين من الآباء". أما النظرية الحديثة التي تستمد حياتها من تجريح التقاليد المأثورة، فيحلو لها أن تفسر وجود هؤلاء الأشراف بأنهم غزاة غرباء لعلهم سبنيون Sabines غزوا لاتيوم Latium وحكموا العامة ( Plebs) اللاتين بعد هذا الغزو ووضعوهم في منزلة دون منزلتهم هم. ولنا أن نعتقد أنهم كانوا يتألفون من عشائر تملكوا خير الأراضي بفضل تفوقهم الاقتصادي أو الحربي، ثم حولوا زعامتهم الزراعية إلى سيطرة سياسية، وقد ظلت هذه العشائر المنتصرة- المنلي Manlii، والفليري Valerii، والإميلي Aemaelii، والكرنيلي Cornelii، والفابي Fabii، والهوراشي Horatii والكلودي Claudii والليولي Lulii الخ- خمسة قرون كاملة تمد رومة بالقواد العسكريين والقناصل، والقوانين. ولما انضمت القبائل الثلاث الأولى بعضها إلى(9/46)
بعض تكون من رؤساء عشائرها مجلس للشيوخ يتألف من ثلاثمائة من الأعضاء. ولم يكن هؤلاء الأعضاء رجال نعيم وترف كما كان خلفاؤهم فيما بعد، فكثيرًا ما كانوا يمسكون بأيديهم الفأس والمحراث، ويعيشون على أبسط الطعام، ويرتدون أثوابًا من غزل بيوتهم، وكان العامة يعجبون بهم حتى وقت كفاحهم. ويصفون كل ما يتصل بهم تقريبًا بأنه "من الطراز الأول أو الطبقة الأولى Classlscus" (2) .
وكان يدانيهم في الثراء، وينقص عنهم كثيرًا في السلطة السياسية رجال الأعمال equites. ومن هؤلاء من بلغوا من الثراء درجة أمكنتهم من أن يشقوا طريقهم إلى مجلس الشيوخ، ويكونوا فيه القسم الثاني من الرجال "الأشراف والمسجَّلين معهم". وكان يطلق عل هاتين الطبقتين اسم "الرتبتين" ويلقبون "بالصالحين" Boni، وذلك لأن الحضارات القديمة كانت تقرن الفضيلة بالمرتبة والكفاية والسلطان؛ وكان معنى الفضيلة Virtus عند الرومان هو الرجولة أي الصفات التي تكون من مجموعها الرجل vir. ولم تكن كلمة Populus " الناس" تشمل غير هاتين الطبقتين العاليتين، وكان هذا هو المعنى الذي يفهم في بداية الأمر من هذه الحروف الأربعة S P Q R (Senatus Populusque Romanus) التي كانت تنقش في زهو وخيلاء على عشرات الآلاف من الآثار (3). فلما شقت الديمقراطية طريقها في رومه تغير معنى كلمة Populus تدرجاً حتى شملت عامة الشعب أيضًا.
وكانت الكثرة الغالبة من المواطنين الرومان تتكون من هذه الطبقة. وكان منها الصناع والتجار، ومنها الأرقاء المحررون وكثير منها فلاحون، ولعلهم كانوا في بداية أمرهم أهل تلال المدينة الذين غلبوا على أمرهم، وكان منهم من يتصل بوصفه مولى Clientes أو تابعًا بشريف Patronus(9/47)
من طبقة عليا؛ وكان هؤلاء الأتباع يساعدون الشريف في وقت السلم ويعملون تحت إمرته في وقت الحرب، ويقترعون في الجمعية كما يأمرهم أن يقترعوا وذلك في نظير حمايته إياهم وما يمنحهم من الأرض الزراعية.
وكان من الأرقاء أدنى الطبقات، وكانوا في عهد الملوك قليلي العدد كثيري الأكلاف، ولذلك كان سادتهم يحسنون معاملاتهم ويعدونهم أعضاء ذوي نفع كبير في أسرهم. فلما كان القرن السادس قبل الميلاد، وبدأت رومه حياة الغزو والفتح، بيع عدد من أسرى الحرب مطرد الزيادة إلى الأشراف ورجال الأعمال والى العامة أنفسهم، وانحطت منزلة الرقيق. وكانت القوانين تبيح معاملة العبد كما يعامل الإنسان متاعه، ذلك أنه من الوجهة النظرية، وطبقًا لعادات القدماء، قد فقد حقه في الحياة حين وقع في الأسر، وإن استعباده لم يكن إلا رحمة به وتخفيفًا لحكم الموت الذي استحقه بهزيمته. وكان يعهد إليه في بعض الأحيان أن يدير أملاك سيده وأعماله التجارية وتصريف أمواله؛ وكثيرًا ما كان يصبح معلمًا أو كاتبًا أو ممثلاً أو صانعًا أو عاملاً أو فنانًا، ويؤدي إلى سيده بعض ما يصل من المال على ما يكفيه لشراء حريته، ومن ثم يصبح عضوًا في جماعة العامة.
ولم تكن طبقات كثيرة من الأهلين راضية عن حالها قانعة بحظها، ذلك أن القناعة من الصفات النادرة بين بني الإنسان بقدر ما هي طبيعية بين الحيوان، ولم تستطع حكومة من الحكومات أن ترضي جميع رعاياها. وفي رومه كان رجال الأعمال يألمون لحرمانهم من عضوية مجلس الشيوخ، والأثرياء من العامة يألمون لحرمانهم من أن تكون لهم حقوق رجال الأعمال؛ والفقراء يألمون لفقرهم وحرمانهم من الحقوق السياسية وتعرضهم للاسترقاق إذا عجزوا عن الوفاء بما عليهم من الديون. وكانت قوانين الجمهورية في عهدها الأول تبيح للدائن أن(9/48)
يسجن المدين الذي يتكرر عجزه عن الوفاء بدينه في سجن انفرادي، وأن يبيعه بيع الرقيق بل أن يقتله. وقد جاء في القانون أن في وسع الدائنين لشخص ما مجتمعين أن يقطعوا جسد المدين العاجز عن الوفاء ويقسموه فيما بينهم- وهو إجراء يلوح أنه لم ينفذ قط (4). وطلب العامة أن تلغي هذه القوانين، وأن يخفف عنهم عبء ما تراكم عليهم من الديون، وأن توزع الأرض التي تنال بالحرب وتمتلكها الدولة على الفقراء بدل أن توهب للأغنياء أو تباع لهم بأثمان اسمية؛ وأن يكون من حق العامة أن يختاروا حكامًا وكهنة، وأن يتزوجوا من الأشراف ورجال الأعمال، وأن يكون لهم مثل من طبقتهم في أعلى الوظائف الحكومية. وحاول مجلس الشيوخ أن يقف هذه الحركة بإثارة الحروب الخارجية، ولكنه دهش إذ رأى أن الدعوة إلى حمل السلاح لم يستجب لها أحد. وفي عام 494 ق. م "انشق" عليهم عدد كبير من العامة ونزحوا إلى الجبل المقدس على نهر أنيو Anio على مسيرة نحو ثلاثة أميال من المدينة، وأعلنوا أنهم لن يعملوا أو يحاربوا من أجل رومه حتى تجاب مطالبهم. ولجأ مجلس الشيوخ إلى جميع الحيل السياسية أو الدينية لإغراء العامة بالرجوع إلى رومه، ولكن هؤلاء أصروا على مطالبهم؛ فلما خشى أن تقع البلاد في القريب بين ناري الغزو الخارجي والشقاق الداخلي وافق على إلغاء الديون أو تخفيضها، وعلى تعيين تربيونين (1) وثلاثة إيديلين Aediles يختارون من بين العامة للدفاع عن مصالحهم. ورجع العامة إلى رومه ولكنهم أقسموا قبل رجوعهم بأحرج الإيمان أن يقتلوا كل رجل يعتدي على ممثليهم في الحكومة (5).
وكانت هذه هي المعركة الأولى في حرب الطبقات التي لم تنته إلا بانتهاء عهد الجمهورية وبعد أن قضت عليها. وحدث في عام 486 أن اقترح القنصل
_________
(1) التربيون محام عن العامة يختار من بينهم والإيديل موظف يشرف على المباني العامة والألعاب والأسواق والشرطة.(9/49)
أسبيوريوس كاسيوس Spurius Cassiue أن توزع على الفقراء الأراضي التي استولت عليها رومه في الحرب، فاتهمه الأشراف بأنه يتحبب إلى الشعب ليكون ملكًا على البلاد، وقتلوه. والراجح أن هذا الاقتراح لم يكن أول الاقتراحات الزراعية الكثيرة التي لاقى أصحابها حتفهم على يد أعضاء مجلس الشيوخ، والتي انتهت بمأساة ابني جراكس Gracchi وقيصر. وفي عام 439 وزع أسبيوريوس ميليوس Spurius Maelius قمحًا على الفقراء بأثمان مخفضة أو بغير ثمن في أثناء قحط أصاب رومه، فما كان من مجلس الشيوخ إلا أن بعث برسول اغتاله في منزله بتهمة أنه يعمل لينصب نفسه ملكًا (6). وفي عام 384 قتل ماركس مانليوس Marcus Manlius، وكان قد صد الغزاة اليونان عن رومه ودافع عنها دفاع الأبطال، بهذه الحجة نفسها، وذلك بعد أن أنفق ماله في أداء ديون المدينيين العاجزين عن الوفاء.
وكانت الخطوة التالية التي خطاها العامة في سبيل نيل حقوقهم أن طالبوا بأن تكون القوانين المدنية واضحة محددة مدونة. ذلك أن الكهنة والأشراف قد ظلوا حتى ذلك الوقت هم القائمين بتدوين القوانين المكتوبة وتفسيرها، وكانوا يحتفظون بسجلاتها سرًا لا يطلع عليه غيرهم من الأهلين، ويتخذون من هذا الاحتكار، وبما تتطلبه القوانين من مراسم، أسلحة يقاومون بها كل دعوة إلى الإصلاح الاجتماعي. وعارض مجلس الشيوخ في هذه المطالب الجديدة معارضة طويلة، ولكنه وافق في آخر الأمر (عام 454) على أن يرسل إلى بلاد اليونان لجنة مؤلفة من ثلاثة من الأشراف لدراسة شرائع صولون Solon وغيره من المشترعين، وكتابة تقرير عنها. فلما عاد الأعضاء اختارت الجمعية (في عام 451) عشرة رجال- دمسفراي Decemviri- لوضع قانون جديد، وخولتهم أعلى سلطة حكومية في رومه مدى سنتين. وكان رئيس هذه اللجنة رجلاً رجعيًا قوي الشكيمة يدعى أبيوس كلوديوس Appius Claudius، وكانت نتيجة أعمالها(9/50)
أن حولت قوانين رومه القديمة القائمة على العادة والعرف إلى الاثنتي عشرة لوحة الذائعة الصيت، وعرضت على الجمعية فوافقت عليها بعد أن عدلتها بعض التعديل، وعرضتها في السوق العامة لمن يريد أن يقرأها- وكان قادرًا على قراءتها. وكانت هذه الحادثة التي تبدو في ظاهر أمرها تافهة غير جديرة بالعناية من الحوادث الهامة البالغة الأثر في تاريخ رومه بوجه خاص وفي تاريخ العالم كله بوجه عام؛ ذلك أنها كانت أول ما دون من ذلك الصرح القانوني العظيم الذي كان أهم ما قامت به رومه من الأعمال وما قدمته إلى الحضارة من هبات.
ولما انتهى العام الثاني من العامين اللذين تولت اللجنة فيهما السلطة العليا أبت أن تعيد الحكم إلى قنصلي الأشراف وتربيوني العامة، وظلت تمارس السلطة العليا- وكانت سلطة أقل قيودًا من سلطة القنصل والتربيون وأكثر منها تحررًا من التبعات. وتروي قصة أخرى في صحتها- إرتيابنا في قصة لكريشيا- إن أبيوس كلوديوس شغف حبًا بفرجينيا الحسناء إحدى بنات العامة، وعمل على أن يعد من الجواري الرقيقات ليتمكن بذلك من الاستيلاء عليها لنفسه، وغضب لذلك أبوها لوسيوس فرجينيوس Lucius Virginius واحتج على هذا العمل، ولما أبى كلوديوس أن يصغي إلى احتجاجه قتل الرجل ابنته، وهرول إلى فرقته واستعانها على خلع الطاغية الجديد. "وانسحب" العامة الغاضبون مرة أخرى إلى الجبل المقدس، ونهجوا كما يقول ليفي "نهج آبائهم وحذوا حذوهم في اعتدالهم، فامتنعوا عن كل عنف (7) ". وعلم الأشراف أن الجيش يناصر العامة، فاجتمعوا في دار مجلس الشيوخ، وخلعوا العشرة الحكام، ونفوا كلوديوس، وأعادوا نظام القنصلين وزادوا سلطان التربيونين، واعترفوا بتحريم الاعتداء عليهما، وأيدوا حق العامة في الالتجاء إلى مجلس المائة لاستئناف ما يصدره كبار الموظفين أيًا كانت منزلتهم من أحكام (8). وبعد أربعة أعوام من ذلك الوقت (445) عرض المحامي كيوس كنيوليوس Caius Canuleius اقتراحًا يطلب فيه(9/51)
أن يكون للعامة حق الزواج من الأشراف، وأن يختار منهم قناصل. ورأى مجلس الشيوخ أن البلاد مهددة مرة أخرى بأن يغزوها جيرانها ليثأروا لأنفسهم منها، فأجابوا أول المطلبين وتخلصوا من المطلب الثاني بأن رضوا أن يكون لستة من التربيونين الذين تختارهم جمعية المائة سلطة القناصل. ورد العامة على هذا الجميل بمثله فاختاروا الستة tribuni militum consulari potestate من بين طبقة الأشراف.
وضمت الحرب الطوية التي قامت بين رومه وفياي (405 - 396)، وهجمات الغالبين عليها، صفوف الأمة إلى حين، فهدأت ثائرة النزاع الداخلي، ولكن النصر والهزيمة على السواء تركا العامة فقراء معدمين، فقد أهملت أراضيهم أو انتزعت منهم وهم يدافعون عن بلادهم، وتراكمت عليهم فوائد الديون حتى لم يعد في وسعهم أن يوفوا بها. ولم يرحمهم الدائنون أو يصغوا لشكاياتهم، بل أصروا على طلب حقهم من رؤوس أموال وأرباح، وإلا كان الإسترقاق والسجن جزاء المدينين. وفي عام 376 اقترح التربيونان ليسنيوس Licinius وسكستيوس Sextius أن تخفض أصول الديون بقدر ما وفي به من فزائدها، وأن يؤدي الباقي بعدئذ في خلال ثلاث سنين، وألا يحق لإنسان فيما بعد أن يمتلك أكثر من خمسمائة يجيرا iugera ( نحو ثلاثمائة فدان) من الأرض، وألا يتجاوز العبيد الذين يعملون فيها نسبة معينة من العمال الأحرار، وأن يختار أحد القنصلين من العامة على الدوام. وظل الأشراف يعارضون في هذه المطالب عشر سنين؛ وكانوا في أثناء ذلك على حد قول ديوكاسيوس Dio Cassius " يثيرون حربًا في إثر حرب حتى يشغلوا بذلك الشعب فلا يثير مطالبه الخاصة بامتلاك الأرض (9) ". ولما تهددهم العامة آخر الأمر بانسحاب (1) جديد قبل
_________
(1) كان عمل الرقيب في رومه هو حفظ السجلات المحتوية على أملاك المواطنين وفرض الضرائب عليهم ومراقبة أخلاقهم. وكانت منصب البريتور يلي منصب القنصل في الرتبة.(9/52)
مجلس الشيوخ "قوانين ليسنيوس" وخلد كميليوس Camilius زعيم المحافظين هذا الاتفاق بين الطبقات بإنشاء هيكل وفاق فخم في السوق العامة.
وكانت هذه الخطوة من أكبر الخطى في نماء الديمقراطية الرومانية المقيدة، وأخذ العامة من ذلك الوقت يتقدمون تقدمًا سريعًا في سبيل المساواة بالطبقتين الممتازتين- طبقتي الأشراف ورجال الأعمال- في الشؤون السياسية والقانونية. ففي عام 356 عين أحد العامة دكتاتورًا مدة عام، وفي عام 351 كان منهم رقباء Censors، وفي عام 337 كان منهم البريتور Praetor، وفي عام 300 كان منهم كهنة. وكانت آخر هذه الخطوات أن وافق مجلس الشيوخ في عام 287 على أن تكون لأحكام الجمعية القبلية The Tribal Assembly أيضًا قوة القانون، وإن تعارضت هذه الأحكام مع قرارات مجلس الشيوخ. وإذ كان من السهل على العامة في هذه الجمعية أن يتفوقوا على الأشراف عند الاقتراع فإن هذا القانون المعروف بقانون هورتنسيا Lex Hortensia كان خاتمة انتصار الديمقراطية الرومانية. لكن مجلس الشيوخ لم يلبث أن استعاد سلطانه بعد هذه الهزائم فأُسكت المطالبون بتوزيع الأراضي بإرسال الرومان لاستعمار البلاد المفتوحة. وكان ما يلزم من المال للحصول على المناصب الحكومية والبقاء فيها- وكانت هذه المناصب لا يؤجر عليها أصحابها- في حد ذاته حائلاً بين الفقراء وبين توليها. يضاف إلى هذا أن الأثرياء من العامة، بعد أن أصبح لهم ما للأشراف من سلطان سياسي وفرص متكافئة، لم يلبثوا أن انضموا إلى الأشراف في معارضة التشريعات المتطرفة؛ واستكان الفقراء من العامة الذين أصبحوا لا موارد لهم فظلوا قرنين كاملين وليس لهم حظ كبير في تصريف شؤون رومه. ووافق رجال الأعمال على سياسية الأشراف لأن اتفاقهم معهم يتيح لهم فرص التعاقد على القيام بالمنشآت العامة، ويفتح لهم أبواب استغلال الولايات، والمستعمرات الرومانية، وتكليفهم بجباية الضرائب للدولة. وظلت جمعية المئات، التي كانت طريقة الاقتراع(9/53)
فيها تمكن الأشراف من أن يكون لهم فيها السلطان الأكبر، هي التي تختار الحكام وكبار الموظفين، وتختار تبعًا لذلك أعضاء مجلس الشيوخ. واتخذ التربيونون، الذين كانوا يعتمدون على الأثرياء من العامة، سلطان وظيفتهم للحد من التطرف، وأصبح كل قنصل، ولو كان ممن يختارهم العامة، من أشد الناس محافظة على القديم، حين يصير عضوًا في مجلس الشيوخ مدى الحياة بعد أن تنتهي سنة توليه منصبه. وصار مجلس الشيوخ هو الذي يبدأ باقتراح القوانين، وقوى العرف والعادات المأثورة من سلطانه فجعلاه فوق منطوق القانون. ولما ازدادت أهمية شؤون الدولة الخارجية، وكان مجلس الشيوخ هو الذي يتولى تصريفها، كان حزمه مما زاد في مكانته وسلطته. ولما أن اشتبكت رومه في عام 264 في حرب مع قرطاجنة دامت مائة عام للسيطرة على عالم البحر الأبيض المتوسط، كان مجلس الشيوخ هو الذي تولى قيادة الأمة إلى النصر في كل مأزق من المآزق؛ ولذلك خضع الشعب البائس المعرض للأخطار لسلطان هذا المجلس وزعامته دون احتجاج أو اعتراض.(9/54)
الفصل الثاني
دستور الجمهورية
1 - المشترعون
والآن فلنرسم لأنفسنا صورة من هذه الدولة المعقدة النظام بعد أن قضت خمسة قرون تنمو وتتطور. وقبل أن نفصل القول في نظامها نقول إن العالم كله مجمع على أن حكومتها كانت من أقدر ما شهده من الحكومات ومن أعظمها نجاحًا؛ بل إن بولبيوس Polilbius كان يرى أنها تكاد أن تحقق تحقيقًا تامًا دستور أرسطو طاليس المثالي. وقد رسمت هذه الحكومة الخطوط الرئيسية للتاريخ الروماني كما رسمت في بعض الأحيان ميادين القتال في هذا التاريخ.
نرى أي الأهلين في هذه الدولة هم الذين كان يحق لهم أن يسموا أنفسهم "مواطنين"؟. فأما من الوجهة الرسمية القانونية فقد كان المواطنون هم أبناء إحدى القبائل الثلاث الأصلية في رومه، أو الذين تبنتهم إحدى هذه القبائل. وكان معنى هذا القول من الوجهة العملية أن المواطنين هم جميع الذكور الذين تزيد سنهم على الخامسة عشرة، والذين لم يكونوا أرقاء أو غرباء، مضافًا إليهم جميع الغرباء الذين منحتهم رومه حق المواطنة فيها. ولم يشهد العالم قبل رومه أو بعدها دولة من الدول حرصت مثل حرصها على حق المواطنية أو قدرته مثل تقديرها. لقد كان معنى هذا الحق أن يكون المستمع به عضوًا من أعضاء الجماعة الصغيرة التي لم تلبث إلا قليلاً حتى حكمت جميع البلاد المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط، وكان هذا الحق يحصن صاحبه من التعذيب القانوني، والتعرض للقسر والإرغام، ويمكنه(9/55)
من أن يشكو أي موظف في الإمبراطورية إلى الجمعية الوطنية في رومه- أو إلى الإمبراطور نفسه فيما بعد.
وكانت هذه الحقوق تستلزم بعض الواجبات؛ فقد كان من حق الدولة على المواطن- إلا إذا كان فقيرًا معدمًا- أن تدعوه إلى الخدمة العسكرية من سن السادسة عشرة إلى سن الستين، ولم يكن في وسعه أن يشغل منصبُا سياسيًا إلا إذا قضى في الجيش عشر سنين. وكانت حقوقه السياسية وثيقة الارتباط بواجباته العسكرية، وبلغ من هذا الارتباط أنه كان يؤدي حقه في التصويت في أهم الأمور بوصفه عضوًا في فرقته أو في "مائته"، وكان في عهد الملوك يعطى صوته أيضًا في مجلس العشرة Comitia Curiata أي أنه هو وغيره من زعماء الأسر قد اجتمعوا في مجلس الأقسام الثلاثين التي انقسمت إليها القبائل الثلاث. وقد ظل مجلس العشرة إلى آخر أيام الجمهورية هو الذي يخلع سلطة الحكم على الأحكام، وبعد سقوط الملكية بزمن قليل فقد مجلس العشرة سائر حقوقه الأخرى وآلت هذه الحقوق إلى مجلس المئين- فكان الجند يجتمعون جماعات تتألف كل واحدة منها في بادئ الأمر من مائة جندي. وكانت هذه المجالس المئوية هي التي تختار كبار الحكام، وتنظر في الإجراءات التي يرفع إليها من استئناف للأحكام التي يصدرها كبار الحكام، وتنظر بنفسها في جميع القضايا التي يحكم فيها بالإعدام إذا كان المهتمون فيها مواطنين رومان، وتعلن الحرب وتعقد الصلح، ومن ثم كانت هذه الجمعية هي الأساس العام للجيش الروماني والحكومة الرومانية. ولكن سلطانها مع ذلك كان محصورًا في أضيق الحدود، فلم يكن من حقها أن تجتمع إلا إذا دعاها إلى الاجتماع قنصل أو تربيون، ولم يكن من حقها أن تقترع إلا على الأمور التي يعرضها عليها كبار الحكام أو مجلس الشيوخ، ولم يكن لها أن تناقش الاقتراحات أو تعدلها، وكل ما كان من حقها أن تقبلها أو ترفضها.(9/56)
وكان تنظيم أعضائها على أساس الطبقات ضمانًا لجعل قراراتها محافظة بعيدة عن التطرف. فكان على رأس هذه الجمعية ثمان عشرة مائة من الأشراف ورجال الأعمال (الطبقتين الممتازتين). ويلي هؤلاء رجال "الطبقة الأولى"- الذين لهم أملاك تبلغ قيمتها 100. 000 آس (1). وكان عدد ممثلي هذه الطبقات في الجمعية ثمانين مائة أي ثمانية آلاف رجل، وكانت الطبقة الثانية تشمل المواطنين الذي يقدر أملاكهم بين 75. 000 و100. 000 آس؛ والطبقة الثالثة تشمل من كانت لهم ثروة تقدر بين 50. 000 و75. 000؛ والرابعة من كانت ثروة أفرادها بين 25. 000 و50. 000. وكان لكل طبقة من هذه الطبقات عشرون مائة. وكانت الطبقة الخامسة تشمل المواطنين الذين يملكون بين 11. 000 و25. 000 آس وكان لهؤلاء ثلاثون مائة. أما المواطنون الذين تقل أملاكهم عن 11. 000 آس فكانت تمثلهم مائة واحدة (10)، وكان لكل مائة عند الاقتراع صوت واحد هو صوت أغلبية أعضائها؛ وكان في وسع أغلبية قليلة في إحدى المئات أن تعطل قرار أغلبية كبرى في مائة أخرى وتجعل الفوز في جانب أقلية عددية. وإذا كانت كل مائة تقترع بترتيب مركزها المالي، وكانت نتيجة اقتراعها تعلن عقب هذا الاقتراع، فقد كان اتفاق الطائفتين الأوليين يجعل لهما 98 صوتًا، وهي أغلبية أصوات الجمعية كلها. ومن أجل هذا فإن الطبقات الدنيا قلما كانت تقترع قط. وكان نظام الاقتراع هو النظام المباشر أي أن المواطن كان يعطى صوته بنفسه، ومن ثم فإن المواطنين الذين لم يكونوا يستطيعون القدوم إلى رومه ليحضروا اجتماع الجمعية لم يكن لهم من يمثلهم فيها. ولم يكن ذلك كله مجرد أساليب وحيل لحرمان الفلاحين والسوقة من حقوقهم السياسية، فقد كان نظام المئات نظامًا وضع بعد إحصاء السكان ليقدر على أساسه ما يؤدونه من الضرائب ومن الخدمة العسكرية.
_________
(1) الآس عملة رومانية من النحاس كانت قوة شرائها في عام 1942 تساوي نحو 6 slash100 من الريال الأمريكي. انظر الفصل السادس من الباب الرابع من هذا الكتاب.(9/57)
وكان الرومان يرون العدل كل العدل أن يكون حق الاقتراع للأهلين متناسبًا من ما يؤدونه من الضرائب وما يطلب إليهم أداؤه من الخدمة العسكرية. وعلى هذا الأساس لم يكن لمن يملكون اقل من مائة ألف آس إلا صوت مئوي واحد؛ ولكنهم في نظير هذا لم يكونوا يؤدون إلا قدرًا ضئيلاً لا يؤبه له من الضرائب، وكانوا في الأوقات العادية معفين من الخدمة العسكرية (11). وقد ظلت الطبقات الفقيرة إلى أيام ماريوس معفاة من كل شيء إلا من إنتاج أكبر عدد تستطعه من الأبناء، وظل مجلس المائة رغم ما أدخل على نظامه من التعديل فيما بعد هيئة أرستقراطية محافظة لا تستنكف أن تجهر بمبادئها.
وما من شك في أن هذه الحال قد جعلت العامة يقيمون لهم من بداية عهد الجمهورية مجالسهم الخاصة المعروفة بمجالس العامة concilia plebis. ولعل الجمعية المعروفة بمجلس قبائل الشعب comitia populi tribvta التي نراها تمارس حقوقًا تشريعية منذ عام 357 ق. م قد نشأت من هذه المجالس نفسها. وكان المقترعون في هذه الجمعية الشعبية القبلية ينظمون حسب القبيلة التي ينتمون إلها والمسكن الذي يقيمون فيه على أساس الإحصاء الذي حدث في عهد سرفيوس سادس ملوك رومه. وكان لكل قبيلة صوت واحد، وكان الأغنياء فيها والفقراء سواء. وأخذت سلطة الجمعية القبلية تزداد بعد اعتراف مجلس الشيوخ بحقوقها التشريعية في عام 287 ق. م، وما وافى في عام 200 ق. م حتى كانت هي مصدر الشرائع الخاصة في رومه. وكانت هي التي تختار تربيوني الشعب Tribuni Plebis ( الذين يمثلون القبائل)، وهم غير التربيونين العسكريين Tribuni Militares الذين كانت تختارهم المئات. على أنه في هذه الجمعية نفسها لم يكن الأعضاء يتناقشون. فقد كان أحد كبار الموظفين يقترح قانونًا ويدافع عنه، ثم يقوم موظف كبير غيره يعارضه إذا شاء؛ وتستمع الجمعية لهذا وذاك ثم تقترع عليه بالقبول(9/58)
أو الرفض، وكانت هذه الجمعية بحكم تكوينها ذات نزعة تقدمية أكثر من الجمعية المئوية، ولكنها كانت أبعد ما تكون من التطرف. وذلك أن إحدى وثلاثين قبيلة من قبائلها الخمس والثلاثين كانت قبائل ريفية، وكان معظم أعضائها من ملاك الأراضي، فكانوا لذلك رجالاً حذرين، ولم يكن لمن فيها من عامة الحواضر، ولم يكونوا يتجاوزون أربع قبائل، شيء من السلطة السياسية قبل زمن ماريوس Marius أو بعد قيصر.
وهكذا ظل مجلس الشيوخ صاحب السلطان الأعلى في رومه. وكان أعضاؤه الأولون وهم رؤساء العشائر يجددون بقبول القناصل والرقباء ( Censors) السابقين أعضاء فيه. وكان يعهد إلى الرقباء أن يعملوا حتى يظل أعضاؤه ثلاثمائة عضو على الدوام، وذلك بأن يرشحوا لعضويته رجالاً من طبقة الأعيان أو الفرسان. وكانت العضوية فيه تدوم مدى الحياة؛ ولكن كان من حق مجلس الشيوخ ومن حق الرقيب أن يفصل أي عضو يضبط متلبسًا بجناية أو بجريمة خلقية خطيرة. وكان هذا المجلس الأعلى يجتمع إذا دعاه إلى الاجتماع أحد كبار الحكام في الكوريا Curia أو بناء المجلس المواجه للسوق العامة. وكان من العادات اللطيفة أن يأتي الأعضاء معهم بأبنائهم ليحضروا الاجتماع وهم صامتون، ليتعلموا السياسة والمماحكة عن قرب. وكان حق المجلس من الوجهة النظرية مقصورًا على مناقشة ما يعرضه عليه أحد كبار الحكام من المسائل وإصدار قرار فيها، وكانت قراراته في هذه المسائل استشارية محضة senatus consulta ليس لها قوة القانون؛ ولكن المجلس كان له من عظم المكانة ما جعل الحكام يعملون بتوصياته في جميع الحالات تقريبًا، وقلما كانوا يعرضون على غيره من الجمعيات مسائل لم يقرها هو من قبل. على أنه كان من حق أي تربيون أن ينقض قرارات المجلس كما كان من حق الأقلية المنهزمة في المجلس أن تستأنف القرار إلى الجمعيات الأخرى (12). ولكن هذه الإجراءات كانت نادرة الحدوث إلا في أيام الثورات والانقلابات.(9/59)
ولم يكن كبار الحكام يبقون في مناصبهم أكثر من عام واحد في حين أن الشيوخ كانوا يحتفظون بعضوية المجلس مدى الحياة. ولم يكن ثمة مفر من أن يكون صاحب هذا السلطان الخالد المسيطر على صاحب السلطان القصير الأجل. ولهذا كانت الصلات الخارجية، وعقد المحالفات والمعاهدات، وإعلان الحرب، وحكم المستعمرات والولايات، وإدارة الأراضي العامة وتوزيعها بين الأهلين، والأشراف على أموال الخزانة العامة وإنفاقها- كانت هذه الشؤون كلها يختص بها مجلس الشيوخ وحده، وقد أكسبه انفراده فيها سلطة لا تكاد تعرف لها حدود. فكان هذا المجلس صاحب السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مجتمعة، وكان هو الحكم الفصل في الجرائم الكبرى كجريمة الخيانة الوطنية، والتآمر، والاغتيال، وكان يختار من بين أعضائه قضاة للنظر في معظم القضايا المدنية الهامة، وكان في وسعه إذا حدثت أزمة من الأزمات أن يصدر أعظم قراراته وأقواها وهو sensatus- consultum ultimatum وهو "أن من واجب القنصلين أن يعملا على ألا تصاب الدولة بأذى" وهو قرار يفرض الأحكام العرفية ويمنح القنصلين سلطة مطلقة على جميع الأفراد وعلى كل الأملاك.
وكثيرًا ما كان مجلس الشيوخ في عهد الجمهورية يسئ استعمال سلطانه، فكان يحمي الموظفين المرتشين (1)، ويعلن الحرب بلا تدبر وتفكير، ويستغل البلاد المفتوحة استغلالاً شرها، ويقمع بالقسوة رغبة الشعب في أن يشترك بنصيب أوفر مما كان له في رخاء رومه. ولكن تاريخ العالم لم يشهد في غير رومه وفي غير عهد الجمهورية- إذا استثنينا من هذا التعميم عهد الأباطرة من تراجان Trajan إلى أورليوس Aurilius- ما شهده في هذا العهد من نشاط وحكمة ومهارة في
_________
(1) لقد كان الرومان يطلقون اللفظ اللاتيني المقابل للفظ جمهورية Respublica ومعناه الملك العام على أشكال دولتهم الثلاثة- الملكية و"الديمقراطية"، والإمارة؛ ولكن المؤرخين في هذه الأيام قد اتفقوا على أن لا يطلقوا هذا اللفظ إلا على الفترة المصورة بين عامي 508، 49 ق. م.(9/60)
تصريف الشؤون السياسية، كما لم يشهد في غير ذلك العهد ما شهده فيه من سيطرة فكرة خدمة الدولة على جميع أعمال الحكومة وأعمال الشعب. ولسنا ننكر أن الشيوخ لم يكونوا ملائكة معصومين من الزلل، وأنهم كانوا يرتكبون أخطاء خطيرة، وأنهم كانوا في بعض الأحيان متقلبين لا يثبتون على سياسة واحدة، يعميهم حب الكسب عن رؤية مصالح الدولة. ولكن الذي لا شك فيه أن معظم أعضاء هذا المجلس كانوا من كبار الحكام، والمديرين والقواد العسكريين، وكان منهم الولاة الذين حكموا ولايات لا تقل سعة عن الممالك، ومنهم أبناء أسر ظلت مئات الأعوام تنجب لرومه ساسة وقوادًا. ولهذا كان من المستحيل ألا يخلو مجلس فيه رجال من هذا الطراز من قسط غير قليل من السمو والعظمة. وكان مجلس الشيوخ في أسوء حالاته في أيام الانتصار وفي أحسنها أيام الهزيمة. وكان في وسعه أن يسير على سياسة واحدة مدى آجال وقرون كثيرة، كما كان في مقدوره أن يبدأ حربًا في عام 264 ق. م لا تضع أوزارها إلا في عام 146 ق. م. وحسبنا دليلاً على عظمته أنه لما جاء الفيلسوف سينياس Cineas إلى رومه موفدًا من قبل بيرس Pyrrhus ( عام 280 ق. م) وسمع مناقشات المجلس ورأى رجاله ثم عاد إلى بلاده، قال للإسكندر الجديد إن الذي رآه لم يكن مجرد اجتماع من ساسة مأجورين، ولم يكن مجلسًا من عقول عادية جمعتها المصادفات المحضة، بل كان في مهابته وحسن سياسته "مجمعًا للملوك بحق (13) ".
2 - الحكام
وكان كبار الحكام تختارهم الجمعية المئوية، أما صغارهم فكانت تختارهم الجمعية القبلية. وكان يعين في كل منصب زميلان متساويان في السلطة، ولا يبقيان فيه أكثر من عام واحد ما عدا منصب الرقيب. ولم يكن يجوز لشخص ما أن يتولى المنصب نفسه أكثر من مرة واحدة كل عشر سنين، وكان لا بد(9/61)
أن يمضي عام بين خروجه من منصب وتوليه منصبًا آخر، وكان من حق الدولة أن تحاكمه في فترة تعطله إذا أساء استعمال سلطة وظيفته. وكان الروماني الذي يريد أن يشق لنفسه طريقًا في الحياة السياسية، إذا كان قد قضى في الجيش عشر سنين، يرشح نفسه لأن يختار محاسبًا (كوسترا quaestor) ينظر تحت إشراف مجلس الشيوخ والقنصلين في نفقات الدولة، ويعاون المقدمين praetors في منع الجرائم ومحاكمة المجرمين، فإذا نال رضاء الناخبين أو ذوي النفوذ من مؤيديه فقد يختار فيما بعد واحدًا من الأربعة الإيدليين الذين كانوا يشرفون على المباني العامة وقنوات مياه الشرب، وشوارع المدن، والأسواق، والمسارح، والمواخير، والأبهاء العامة، ومحاكم الشرطة، والألعاب العامة. وإذا اطرد بعدئذ نجاحه فقد يكون واحدًا من الأربعة المقدمين الذين كانوا يتولون في الحرب قيادة الجيوش ويشغلون في السلم مناصب القضاة وشراح القانون (1).
فإذا وصل المواطن إلى هذه الدرجة في سلم الوظائف cursus honorum واشتهر بالأمانة وأصالة الرأي كان في وسعه أن يكون أحد الرقيبين censors اللذين تختارهم الجمعية المئوية كل خمس سنين، ويتولى أحدهما الإحصاء الدَّوري للسكان، وهو الإحصاء الذي كان يُعمل كل خمس سنين، ويسجل أملاكهم ليقدر بذلك مكانتهم السياسية والعسكرية، وما يجب أن يؤدوه من الضرائب. وكان من واجبات الرقيب أن يتعرف أخلاق كل طالب منصب، ويفحص عن سجل أعماله، ويعمل على صيانة أعراض النساء، ويشرف على تعليم الأطفال ومعاملة الأرقاء وجباية الضرائب أو التزامها، وإقامة المباني العامة، وتأجير أملاك
_________
(1) والكلمة اللاتينية المقابلة للمحاسبين Quaestor مشتقة من Quaerere ومعناها يؤدي أما الكلمة المقابلة للمفتشين Aediles فهي مشتقة من Aedes ومعناها البناء. أما Praetor ( المقدم) فمأخوذة من prae-ire ومعناها يتقدم أو يقود ومن أجل ذلك كانت الفرقة العسكرية التي تتولى حراسته تسمى "حرس المقدم" Praetorian Guard.(9/62)
الحكومة والتعاقد عليها، والتأكيد من العناية بزراعة الأرض. وكان في مقدور الرقيبين أن ينقصا منزلة أي مواطن، أو يخرجا أي عضو من مجلس الشيوخ لسوء أخلاقه أو لارتكابه جريمة. ولم يكن في وسع أي الرقيبين أن يلغى حق الرقيب الآخر في هذه الناحية. وكان في وسعهما أن يمنعا الإسراف بفرض ضرائب على الكماليات. وكانا يعدان ميزانية نفقات الدولة على أساس مشروعات تمتد إلى خمس سنوات، وكانا عند انتهاء الفترة التي يتوليان فيها منصبهما، ومدتها ثمانية عشر شهرًا، يجمعان في احتفال مهيب يدعى احتفال التطهير القومي Lustrum يتخذانه وسيلة للاحتفاظ بالعلاقات الودية بينهم وبين الآلهة. وكان أبيوس كلوديوس كيكس Appius Claudius Caecus ( الأعمى) ابن حفيد أحد الرجال العشرة أول من جعل لمنصب الرقيب منزلة لا تقل عن منزلة القنصل، وهو الذي شاد إبان توليه هذا المنصب المجرى المائي والطريقين المعروفين بمجرى أبيوس وطريقه، ورقي الأغنياء من العامة أعضاء في مجلس الشيوخ، وأصلح القوانين الزراعية ومالية الدولة، وعمل على أضعاف ما كان يتمتع به الكهنة والأعيان من احتكار حق القوانين وتصريف الشؤون القضائية، وترك له أثرًا خالدًا في النحو والشعر الرومانيين والبلاغة الروماني، ووجه الرومان إلى فتح جميع إيطاليا بخطابه الذي ألقاه وهو على فراش الموت.
ولقد كان المفروض من الوجهة النظرية أن يكون أحد القنصلين من العامة. أما من الوجهة العملية فإنه لم يختر من العامة إلا عدد قليل جدًا من القناصل، وذلك لأنهم كانوا يؤثرون على أنفسهم رجالاً أوتوا حظًا موفورًا من التعليم والمران ليعالجوا كل الشؤون التنفيذية في جميع البلاد المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط في حالتي الحرب والسلم. وكان الموظف الكبير الذي يشرف على اختيار القنصل -إذا ما حان موعد الاختيار- يرقب النجوم ليعرف مَن مِن المرشحين الكثيرين يحن أن يعرض اسمه(9/63)
ليختار لهذا المنصب؛ فإذا عرف هذا رأس اجتماع الجمعية المئوية في اليوم التالي، ولم يعرض عليها إلا أسماء الذين تبين من نظرته في النجوم أنهم صالحون (14). وبهذه الطريقة كان الأعيان يحولون بين الحديثي النعمة والزعماء المهرجين وبين تسم هذا المنصب الرفيع. وكانت الجمعية في معظم الحالات تلتزم هذا الخداع الصالح حتى لا تقع في الزلل، أو لأنها لا تجرؤ على مخالفة الأوامر الصادرة إليها. وكان المرشح يحضر الاجتماع بنفسه مرتديًا ثوب الترشيح، وهو ثوب أبيض بسيط، علامة على بساطة حياته وخلقه؛ ولعله كان يحتار ليسهل على المرشح أن يظهر للأعضاء ندب الجروح التي أصيب بها في ميادين القتال. فإذا نجح تولى منصبه في اليوم الخامس عشر من شهر مارس التالي ليوم الانتخاب. وكان القنصل يخلع القداسة على منصبه بتوليه رياسة الطقوس الدينية الخطيرة. وكان في وقت السلم يدعو مجلس الشيوخ والجمعية المئوية إلى الانعقاد، ويرأس جلساتهما، ويقترح القوانين، وينفذها، ويوزع العدالة بين الناس. وكان في أوقات الحرب يجيش الجيوش، ويجمع ما يلزمها من الأموال، ويشترك مع زميله القنصل الثاني في قيادة الفيالق العسكرية؛ فإذا مات القنصلان كلاهما أو وقعا في الأسر أثناء السنة التي يتوليان فيها عملهما أعلن مجلس الشيوخ قيام فترة خلو المنصبين Interregnum، وعين من يتولى تصريف الأمور Interrex ( ملك فترة) مدة خمسة أيام تتخذ العدة في أثنائها لانتخاب جديد. ويدل هذا اللفظ الأخير على أن القنصلين قد ورثا في مدة عملهما القصيرة سلطات الملوك.
وكانت سلطة القنصل تحددها سلطة زميله القنصل الثاني المساوية لسلطته، وما يفرضه عليه مجلس الشيوخ، وبما كان للتربيون من حق الاعتراض على قراراته. وقد اختير في عام 367 ق. م أربعة عشر تربيونًا عسكريًا لقيادة القبائل في الحرب وعشرة "تربيونين من العامة" يمثلونهم في أوقات السلم. وكان هؤلاء جميعًا يعدون أشخاصًا محصنين إذا مسهم أحد بسوء إلا في عهد الدكتاتورية القانونية عد ذلك خروجًا على الدين وجريمة يعاقب مرتكبها(9/64)
بالإعدام. وكان عملهم أن يحموا الشعب من عدوان الحكومة، وأن يقفوا بكلمة واحدة منهم هي كلمة فيتو Veto ومعناها "أُحَرَّم" كل دولاب الحكومة إذا بدا لأحدهم أن هذا التحريم مرغوب فيه. وكان من حق التربيون أن يحضر اجتماع مجلس الشيوخ بوصفه مشاهدًا صامتًا، وأن ينقل للشعب ما يدور فيه من النقاش، وأن يجرد بما له من حق الاعتراض قرارات المجلس من كل ما لها من قوة قانونية. وكان باب بيته المحصن يظل مفتوحًا ليلا ًونهارًا يلجأ إليه كل مواطن يطلب إليه المعونة أو الحماية. وهذا الحق- حق الحماية أو القداسة- شبيه بحق الحصانة habeas corpus الذي يمنحه القانون الإنجليزي لسكان إنجلترا في هذه الأيام. وكان في وسعه وهو جالس على دكته أن يصدر أحكامًا قضائية لا معقب لها، ولا تستأنف إلا لجمعية القبائل. وكان من واجبه أن يضمن لكل متهم محاكمة عادلة، وأن يحصل على عفو للمحكوم عليه إذا كان ذلك في استطاعته.
تُرى كيف استطاع الأشراف أن يحتفظوا بسلطانهم وتفوقهم على العامة رغم هذه القيود التي فرضت عليهم؟ لقد كان أول أسباب هذا الاحتفاظ أن القيود المفروضة عليهم كانت مقصورة على مدينة رومه نفسها وعلى أوقات السلم وحدها، أما في زمن الحرب فقد كان التربيونون خاضعين للقناصل. والسبب الثاني أن الأشراف كانوا يحملون الجمعية القبلية على اختيار التربيونين من بين أغنياء العامة؛ وكان ما للثروة في رومه من منزلة، وما يصحب الفقر من ضعة، يغريان الفقراء باختيار الأغنياء لحمايتهم والدفاع عنهم. وثالث الأسباب أن زيادة عدد التربيونين من أربعة إلى عشرة قد جعل في مقدور الواحد منهم، إن أمكن إغراؤه بالمال أو استمع لصوت العقل، أن يُلغى بما له من حق الاعتراض قرار التربيونين الباقين (15). وقد سلس قيادتهم على مر الزمن حتى أصبح في الإمكان أن تعهد إليهم دعوة مجلس الشيوخ إلى الاجتماع وأن يسمح لهم بالاشتراك في(9/65)
مناقشاته، وأن يصبحوا أعضاء فيه مدى الحياة بعد أن تنتهي مدة بقائهم في مناصبهم.
وإذا لم تفلح هذه الوسائل كلها في إضعاف سلطان التربيون كانت هناك وسيلة أخرى لوقاية النظام الاجتماعي أعظم منها أثرًا. ذلك أن الرومان كانوا يعتقدون أن جميع ما يتمتعون به من الحريات والامتيازات الاجتماعية، وكل ما وضعوه لحماية أنفسهم من قيود وتوازن بين السلطات، كانوا يعتقدون أن هذا كله قد يعوق في إبان الاضطراب والخطر القومي ما يتطلبه إنقاذ الدولة وحمايتها من عمل سريع موحد. وكان من حق مجلس الشيوخ في هذه الحال أن يعلن قيام حالة الطوارئ، كما كان من حق كل من القنصلين أن يرشح حاكمًا مطلقًا يتولى جميع السلطات. وقد أختير أولئك الحكام المطلقون في جميع الحالات إلا حالة واحدة من طبقة الأشراف؛ ولكن من واجبنا أن نقول إنصافًا لهذه الطبقة إنها قلما كانت تسئ استخدام هذا المنصب. وكان للحاكم المطلق سلطة تكاد أن تكون غير محدودة على جميع الأشخاص والأملاك، ولكنه لم يكن من حقه أن يستخدم الأموال العامة إلا بموافقة مجلس الشيوخ. وكانت مدة ولايته الحكم مقصورة على ستة أشهر أو سنة. وقد تقيد الحكام المطلقون جميعهم، ما عدا اثنين منهم، بهذه القيود متبعين في ذلك السنة الحسنة التي سنها لهم سنسناتس Cincinnatus كما تقول الرواية المأثورة، فقد دعي هذا الرجل من وراء المحراث لينقذ الدولة (عام 456 ق. م)، فلما أدى مهمته عاد من فوره إلى مزرعته. ولما أن خرج صلا Sulla وقيصر على هذه السنة عاد الحكم الجمهوري إلى الملكية التي نشأ منها.(9/66)
3 - بداية القانون الروماني
وكان كبار الحكام يهيمنون على توزيع العدالة في نطاق هذا الدستور الفذ تطبيقًا للألواح الاثنى عشر التي سجلتها فيها لجنة العشرة. ولقد كان تسجيل القانون الروماني في هذه الألواح حادثًا هامًا في التاريخ الروماني؛ وكان القانون الروماني قبل هذا التسجيل خليطًا من العادات القبلية، والمراسيم الملكية، والأوامر الكهنوتية. وبقيت أساليب القدماء- Mos Maiorum- إلى آخر أيام رومه الوثنية القدوة الخلقية الصالحة، والمعين الذي تستمد منه القوانين؛ ومع أن الخيال، والرغبة في الإصلاح والتهذيب، قد أعليا من شأن سكان المدن القساة في عهد الجمهورية الأول، وجعلا منهم أعلى يطلبون إلى المواطنين أن يعملا للوصول إليه، فإن القصص التي تروي عن أخلاق أولئك السكان قد أعانت المربين على غرس فضيلتي الصبر وقوة الاحتمال في أخلاق الشباب في رومه. أما عدا هذا فإن القانون الروماني القديم كان مستمدًا من القواعد والعادات الكهنوتية، فكان بذلك فرعًا من الدين، يغمره جو من الطقوس الرهيبة والحدود المقدسة. وكان هذا القانون أوامر تصدر وعدالة تطبق؛ ولم يكن يحدد العلاقة بين الناس بعضهم بعضًا فحسب، بل كان يحدد فوق ذلك العلاقة بين سلام الآلهة؛ وكان الغرض من القانون ومن العقاب من الوجهة النظرية هو الاحتفاظ بهذه العلاقة أو إعادتها هي والسلام إذا اضطربا وتعكر صفوهما. وكان الكهنة هم الذين يعلنون ما هو حق وما هو باطل fas et nefas، ويقررون في أي الأيام تفتتح المحاكم وتعقد المجالس. وكانت كل المسائل المتعلقة بالزواج والطلاق، والعزوبية والزواج بالأقارب، والوصايا ونقل الملكية، وما للأطفال من حقوق، كانت كل هذه المسائل لابد من عرضها على الكهنة كما لا بد من(9/67)
عرض الكثير منها على المحامين في هذه الأيام. وكان الكهنة وحدهم هم الذين يعرفون القوانين والسنن التي لا يكاد يستطاع عمل شيء مشروع إلا باتباعها. وكانوا في رومه هم المستشارين القانونيين، وكانوا هم أول من يبدي الرأي القانوني ressponsa في مهام الأمور. وكانت القوانين تسجل في كبتهم، وكانوا يحتفظون بهذه الكتب بعيدة عن متناول العامة؛ وبلغ من حرصهم عليها أن اتهموا في بعض الأحيان بتغيير نصوص القوانين لكي تتفق مع أغراض الأشراف أو رجال الدين. ولقد أحدثت الألواح الاثنا عشر انقلابًا قضائيًا مزدوجًا، ذلك أنها أذاعت القانون الروماني ونشرته وأنها صبغته بالصبغة الدنيوية غير الدينية. وتمثل هذه الألواح- كما تمثل غيرها من كتب القانون التي دونت في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد كقوانين كارنداس Charondas، وزليكس Zaleucus، ليقورغ Lycurgus، وصولون Solon- مرحلة انتقال من العادات غير الثابتة غير المكتوبة إلى مرحلة القانون المحدد المدون، وكان هذا العمل نتيجة انتشار القراءة والكتابة بين الناس وتمكن الروح الديمقراطية فيهم. يضاف إلى هذا أن "قانون المواطنين" ius civile، كما هو مدون في الألواح الاثني عشر، قد تحرر من الصبغة الدينية أو "القانون الديني" ius divinum كما يقول الرومان أنفسهم، وكأن رومه بعملها هذا استقر رأيها على إلا تكون دولة كهنوتية. وضعف سلطان الكهنة فوق هذا الضعف وحرموا من احتكارهم تفسير القوانين وتنفيذها حين نشر أمين سر أبيوس كلوديوس Appius Claudius " الأعمى" في عام 304 تقويمًا يشتمل على أيام اجتماع المحاكم يعرف "بأيام الأفوال dies fasti"، ومرسومًا بما يجب اتباعه من الإجراءات القضائية، ولم تكن يعرف هذه وتلك من غير الكهنة إلا عدد جد قليل. وخطا الرومان خطوة أخرى في صبغ القانون بالصبغة الدنيوية حين بدأ كرنكانيوس Coruncanius في عام 280 ق. م يعلم الشعب القانون الروماني وهو أول عمل(9/68)
من نوعه معروف في التاريخ. ومن ذلك الوقت حل رجل القانون محل الكاهن وأصبحت له هو السيطرة على عقل رومه وحياتها. وما لبثت هذه الألواح أن أصبحت أساس برامج التعليم في رومه، وظل تلاميذ المدارس إلى أيام شيشرون يحفظون ما تحتويه عن ظهر قلب؛ وما من شك في أنها كانت من العوامل التي بثت في نفوس الرومان مبادئ الصرامة وحب النظام، والاستمساك بالقانون وعدم التفريط في الحقوق. ولقد ظلت الألواح الاثنا عشر بما أدخل على نصوصها من تعديل، وبما أضيف إليها من قوانين جديدة عن طريق التشريع والمراسيم البريترية والقنصلية والإمبراطورية، ظلت هذه الألواح مدى تسعة قرون أساس القانون الروماني.
وكان قانون المرافعات في كتاب القوانين الروماني وافيًا شديد التعقيد. وكان في وسع أي موظف كبير- إلا في القليل النادر- أن يكون قاضيًا، لكن المحاكم العادية لم تكن تتألف إلا من البريتورين praetors وكان إصلاحهم للقوانين وشرحها من أكبر العوامل التي أكسبت القانون الروماني حيوية ونماء وحالت بينه وبين أن يصبح جثة هامدة من الإجراءات. ذلك أن كبير حكام المدينة praetor urbanus كان يعد في كل عام ثبتًا أو "لوحة بيضاء" يحوي أسماء أعضاء مجلس الشيوخ والفرسان الذين يصح اختيارهم ليكونوا محلفين؛ وكان رئيس الجلسة في كل قضية يختار المحلفين فيها من بين أصحاب هذه الأسماء، على أن يكون للمدعي والمدعي عليه الحق في أن يرفضا قبول بعضهم وإن كان هذا الحق لم يستخدم إلا في عدد محدود من المرات. وكان يسمح للمحامين القضائيين أن يقدموا مشورتهم للمتقاضين ويدافعوا عنهم في ساحة القضاء، كما كان من حق أعضاء مجلس الشيوخ أن يقدموا المشورة القضائية في بيوتهم أو في مجالس عامة. وكان قانون سنسيوس Cincius الصادر في عام 204 ق. م يحرم على من يقدم المشورة القضائية أن يتقاضى عنها أجرًا، ولكن المهارة القانونية كانت تجد(9/69)
كثيرًا من السبل للتخلص من هذا القيد القائم على النزعة المثالية؛ وكثيرًا ما كان الأرقاء يعذبون لحملهم على الاعتراف.
وكانت مجموعة القوانين التي تحتويها الألواح الاثنا عشر من أشد القوانين التي شهدها التاريخ، ذلك أنها كانت تحتفظ بالسيطرة الأبوية الكاملة القديمة التي كانت للأب في المجتمعات الزراعية العسكرية، فكان يسمح للأب بمقتضاها أن يجلد ابنه أو يربطه بالأغلال، أو يسجنه أو يبيعه أو يقتله- وكل ما قيد به سلطته أن حرر الابن من سيطرة أبيه إذا بيع هذا الابن ثلاث مرات (16). واحتفظ القانون بما بين الطبقات من فروق بتحريم الزواج بين الأشراف والعامة؛ وكان للدائنين على المدينين حقوق مطلقة من كل قيد (17)؛ كما كان للملاك الحرية الكاملة في أن يتصرفوا في أملاكهم عن طريق الوصية، وكانت حقوق الملكية تبلغ من القداسة حدًا يجعل السارق الذي يضبط متلبسًا بجريمة السرقة عبدًا للمسروق منه. وكانت العقوبات تتفاوت من الغرامة البسيطة إلى النفي، أو الاسترقاق أو الإعدام، ومنها ما كان يجري بطريق القصاص ( lex talionis) . وكثيرًا ما كانت الغرامات تحدد تحديدًا دقيقًا حسب طبقة المعتدي عليه: "فكانت عقوبة كسر عظام الحر 300 آس، وكسر عظام العبد 150 آسًا (18) ". وكان القذف والرشوة والحنث في الإيمان، وسرقة المحصولات الزراعية، وإتلاف غلات الجار ليلاً، وخديعة المحامي للمتقاضين، وممارسة السحر، ودس السم في الطعام، والاغتيال، "والاجتماع في المدينة ليلاً لتدبير الفتن والمؤامرات" كانت هذه كلها يعاقب عليها بالإعدام (19). وكان الابن الذي يقتل أباه يوضع في كيس ومعه في بعض الأحيان ديك، أو كلب، أو قرد، أو أفعى، ويلقى في النهر (20). على أنه كان من حق المواطن في العاصمة نفسها أن يستأنف الحكم الصادر عليه بالإعدام من أية جهة قضائية عدا حكم الدكتاتور نفسه إلى الجمعية المئوية، وإذا رأى المتهم أن الأمور في الجمعية تسير في غير مصلحته كان له أن يخفف(9/70)
الحكم الصادر عليه إلى النفي وذلك بالخروج من رومه (21). ولهذا فإن عقوبة الإعدام رغم صرامة الألواح الاثني عشر قلما كانت تنفذ في عهد الجمهورية الرومانية.
4 - جيش الجمهورية
وكان الأساس الذي يعتمد عليه الدستور الروماني في آخر الأمر هو النظام العسكري الذي كان أكثر الأنظمة العسكرية نجاحًا في تاريخ العالم كله. لقد كان الجيش هو والمواطنون وحدة وثيقة الارتباط، وكان الجيش مجتمعًا في المئات هو الهيئة الرئيسية التي تسن قانون الدولة. وكان الفرسان يؤخذون من المئات الثمان عشرة الأولى، أما "الطبقة الأولى" فكانت تكون فرق المشاة الثقيلة، وكان كل جندي فيها يسلح بحربتين وخنجر وسيف، ويلبس خوذة من البرنز، ودرعًا من الزرد، وجرموقًا، ومجنًا. وكان لرجال الطبقة الثانية كل هذه العدد عدا الدروع الزردية وأما رجال الطبقتين الثالثة والرابعة فلم يكن لهم سلاح، ولم يكن لرجال الطبقة الخامسة غير المقاليع والحجارة. وكان الفيلق الروماني هيئة مختلطة تتألف من 4200 من المشاة، و300 من الفرسان، وعدة كتائب أخرى إضافية (22)؛ وكان جيش القنصل يتألف من فيلقين. وكان كل فيلق يقسم إلى كتائب، وكانت كل منها في بادئ الأمر تتألف من مائة جندي، ثم أصبحت فيما بعد تتألف من مائتين، ويقودها قواد المئات. وكان لكل فيلق علمه الخاص vexillum. وكان مما يخل بالشرف أن يسقط هذا العلم في أيدي الأعداء. وكان مهرة الضباط في بعض الأحيان يلقون العلم بين صفوف الأعداء ليثيروا حماسة جندهم فيعملوا على استعادته مهما كلفهم ذلك من بذل وتضحية. وإذا نشبت المعركة قذفت صفوف المشاة الأمامية العدو، الذي لم يكن يبعد عنهم أكثر من(9/71)
عشر خطوات أو عشرين خطوة، بوابل من الحراب، وهي رماح من الخشب تنتهي بأطراف من الحديد، وهاجمه في الجناحين أصحاب النبال والمقالع بالسهام وبالحجارة، وهجم الفرسان بالأسنة والسيوف؛ وكانت الواقعة تنتهي بقتال حاسم يدور بين الأفراد بالسيوف القصار. أما أعمال الحصار فكانت تستخدم فيها المجانيق الخشبية التي تدار بالجذب أو اللي وتقذف من الحجارة ما زنته عشرة أرطال إلى أبعد من ثلاثمائة ياردة. وكانت كباش حربية ضخمة معلقة في حبال تشد إلى الوراء، ثم تخلي فتنطح أسوار الأعداء. وكان يقام رصيف مائل من الطين والخشب تدفع وتجر عليه أبراج ذات عجل ترمي منها القذائف على الأعداء (23). وقد عدل في عام 366 ق. م تشكيل الفيالق التي كانت في عهد الجمهورية الأول تتألف من ستة صفوف متراصة في كل واحد منها 500 جندي، فكانت لذلك ضخمة كبيرة العدد يصعب تحريكها وتسييرها، فقسم كل فيلق إلى كوكبات (1) في كل كوكبة مائتا جندي. وكان يترك فراغ بين كل كوكبة والتي تجاورها، وتقف الكوكبة التي في كل صف خلف الفراغ المتروك في الصف الذي قبله. وبهذه الطريقة يمكن الإسراع في إمداد كل صف من الصف المجاور له، وتحويل كوكبة أو عدة كوكبات لمواجهة أي هجوم جانبي، كما كان من شأن هذا النظام أن يفسح المجال للحرب الفردية التي كان الجندي الروماني يعد لها أحسن إعداد.
وكان أكبر العوامل في قوة هذا الجيش وانتصاراته هو حسن نظامه، ذلك
_________
(1) كان الرومان يطلقون على كل كوكبة اسم Manipulus ومعنى هذا اللفظ في الأصل حفنة من الدريس أو السرخس أو ما إليهما. ويلوح أن حفنة من إحدى هذه المواد مشدودة إلى قائمة خشبية كانت تتخذ علمًا حربيًا بدائيًا. ومن ثم صار هذا اللفظ يطلق على جماعة من الجند يظلهم علم واحد.(9/72)
أن الشاب الروماني كان يعد للحرب منذ طفولته، فكان أهم ما يدرسه العلوم التي تؤهله لأن يكون جنديًا صالحًا، وكان يقضي عشر سنوات من عمره في ميادين القتال أو في المعسكرات. وكان الجبن في هذا الجيش هو الجريمة التي لا تغتفر وكان يعاقب عليها بجلد من يرتكبها حتى الموت (24). ولم يكن من حق قائد الجيش أن يحكم بالإعدام على أي جندي أو ضابط للفرار من القتال فحسب، بل كان من حقه أيضًا أن يحكم عليه بهذه العقوبة نفسها إذا خالف ما يصدر إليه من الأوامر ولو أدت مخالفته إياها إلى أحسن العواقب. وكان الذي يفر من الجندية أو يرتكب جريمة السرقة يعاقب بقط يده اليمنى (25). وكان الجند في المعسكرات يطمعون طعامًا بسيطًا يتكون من الخبز وحساء الخضر وقليل من الخضر والنبيذ، وقلما كان يضاف إليه شيء من اللحم، وبذلك فتح الجيش الروماني العالم المعروف وقتئذ معتمدًا على الغذاء النباتي؛ ولما أن نقصت كمية القمح اللازمة لجيش يوليوس قيصر واضطر هذا الجيش لأكل اللحم شكا الجند من هذه الحال (26). وكان العمل الذي يكلف به الجنود مجهدًا طويلاً، حتى كان الجند يفضلون عليه الذهاب إلى ميدان القتال، وحتى كانت البسالة أسلم الخطط؛ وظل الجند حتى عام 405 ق. م لا يتناولون أجورًا أو مرتبات، ولم يكن ما يتناوله بعد ذلك العام بالشيء الكثير. ولكن كل جندي كان يسمح له بنصيب من الغنائم حسب مرتبته سواء كانت هذه الغنائم سبائك معدنية أو نقودًا أو أرضًا أو أسرى أو بضائع. ولم يكن هذا التدريب ليخلق من الرومان محاربين بواسل تواقين إلى القتال فحسب، بل خلق منهم فوق ذلك قوادًا شجعانًا. ذلك أن الطاعة قد خلقت فيهم المقدرة على الأمر والنهي. ولسنا ننكر أن جيش الجمهورية قد خسر بعض الوقائع الحربية، ولكنه لم يخسر قط حربًا، وهؤلاء(9/73)
الرجال الذين نشئوا في هذا النظام الصارم، وتطبعت به نفوسهم، واعتادوا رؤية الموت بأعينهم، وألفوه حتى أصبح من الأمور التي لا قيمة لها في نظرهم، هؤلاء الرجال هم الذين كسبوا الوقائع التي مكنتهم من الاستيلاء على إيطاليا، ثم فتح قرطاجنة واليونان، والسيطرة على عالم البحر الأبيض المتوسط.
هذه هي الخطوط الرئيسية في ذلك "الدستور المختلط" الذي أعجب به بولبيوس ووصفه بأنه "خير الحكومات القائمة" في العالم، فهو من حيث سيادة الجمعيات في الناحية التشريعية ديمقراطية مقيدة، ومن حيث زعامة مجلس الشيوخ المؤلف من أشراف البلاد حكم أرستقراطي، وهو "حكم ملكي مزدوج" شبيه بالحكم الإسبارطي إذا نظرت إليه من ناحية سلطان القنصلين القصير الأجل؛ وهو حكم ملكي مطلق في بعض الأحيان حكمًا دكتاتوريًا. وهو في جوهره حكم أرستقراطي تولت فيه السلطة أسر قديمة غنية بفضل ما كان لها من كفاية وامتياز مئات السنين، وصبغت السياسة الرومانية بصبغة الدوام والثبات، وبفضلهما استطاعت أن تقوم بما قامت به من جلائل الأعمال.
ولكنه لم يخل من عيوب. فقد كان هذا الدستور خليطًا سمجًا غير متناسق من العوائق والموازين، يستطاع فيه أيام السلم إبطال كل أمر تقريبًا بأمر معارض له ومساو له في القوة. ولقد كان ما فيه من تقسيم السلطة بين عدد من الهيئات عونًا على الحرية، كما كان- إلى أجل محدود- مانعًا من إساءة استعمالها؛ ولكن هذا الحكم نفسه هو الذي أدى إلى الكوارث العسكرية أمثال كارثة كاني Canae، والى انحلال الديمقراطية حتى أضحت حكم الغوغاء وجاء آخر الأمر بالدكتاتورية الدائمة في أيام الأباطرة. والذي يدهشنا في هذه الحكومة هو بقائها ذلك العهد الطويل (من 508 إلى 549 ق. م)، وكثرة ما قامت به من الأعمال. ولعل سبب بقائها هو قابليتها المهوشة للتغير،(9/74)
والروح الوطنية الفخورة التي كانت تُبث في نفوس الرومان في البيت والمدرسة، والهيكل والجيش، والجمعية ومجلس الشيوخ. وكان الولاء للدولة أهم الصفات في أيام مجد الجمهورية، كما كان الفساد السياسي المنقطع النظير مؤذنًا بسقوطها. لقد ظلت رومه عظيمة طوال العهد الذي كان لها فيه أعداء يرغمونها على الاتحاد والشجاعة والتبصر في العواقب؛ فلما أن ظفرت بأعدائها جميعًا انتعشت برهة من الزمان ثم بدأت في الاحتضار.(9/75)
الفصل الثالث
فتح إيطاليا
لم يكن الأعداء في يوم من الأيام يحيطون برومه أكثر مما كانوا يحيطون بها حين خرجت من عهد الملكية دولة صغيرة تشمل مدينة واحدة ضعيفة لا تزيد رقعتها على 350 ميلاً مربعًا- أي مساحة لا تزيد على تسعة عشر ميلاً في تسعة عشر. ولما أن تقدم لارس بورسنا Lars Porsena ليهاجمها استعادت كثير من العشائر التي كان ملوك رومه قد أخضعوها لسلطانهم ما فقدته من حرية وكونت حلفًا لاتينيًا للوقوف في وجه رومه. وكانت إيطاليا في ذلك الوقت تتألف من خليط من المدن أو القبائل المستقلة لكل منها حكومتها ولهجتها الخاصة بها. فكان في شمالها اللجوريون، والغاليون، والأمبريون، والتسكانيون، والسبنيون؛ وكان في جنوبها اللاتين، والفلشيون، والسمنيون، واللوكانيون، والبريتانيون؛ وكان على شاطئها الجنوبي والغربي مستعمرون من اليونان في كومية، ونابلي، وبمبي، وبستوم، ولكري، ورجيوم، وكروتونا، ومثابنتم، وتارنتم (1). وكانت رومه في وسط هذه العشائر والمدن جميعها، ذات موقع حربي يمكنها من التوسع وبسطة الملك، ولكنها كانت معرضة للغزو من جميع جهاتها في آن واحد. وكان سبب نجاتها أن أعدائها لم يتحدوا عليها. وقد حدث في عام 505 بيننا كانت رومه مشتبكة في حرب من السبنيين أن وفدت عليها إحدى العشائر السبنية- عشيرة الكلوريين- فمنحها رومه حق مواطنيها نظير شروط مرضية. وفي عام 449 هزمت رومه السبنيين، ولم يحل عام 290
_________
(1) Ligures, Gauls, Umbrians, Etruscans & Sabines. Latins Volscians Samnites, Lucanians, Bruttians. Cumae, Naples, Pompeii, Paestum, Locri, Rhegium, Cortona, Metapontum, & Tarentum.(9/76)
حتى ضمت كل أراضيهم إليها، وما وافى عام 250 حتى كان لهم كل ما لأهل رومه من الحقوق.
وفي عام 496 أغرى آل تاركوين بعض لاتيوم وهي تسكولوم، وأرديا، ولنوفيوم، وأريسيا، وتيبور (1) وغيرها بالانضمام في حرب تشنها على رومه. ورأى الرومان أنفسهم أمام هذا الحلف البادي القوة، فأقاموا عليهم أول دكتاتور منهم، وهو أولس بستوميوس Aulus Postumius، وانتصروا على هذا الحلف اللاتيني عند بحيرة رجيلس Regillus نصرًا مؤزرًا كان سبباً في نجاتهم. ويؤكد الرومان أنهم قد تلقوا العون في هذه الواقعة من الإلهين كستر وبلكس Castor & Pollux إذ غادرا جبال أولمبس ليحاربا في صفوفهم. وبعد ثلاث سنين من ذلك الوقت عقدت رومه مع الحلف اللاتيني معاهدة تعهد فيها الطرفان أن "يدوم السلم بين الرومان ومدن اللاتين ما دامت السموات والأرض ... وأن يشتركا على قدم المساواة في جميع غنائم الحرب (27) ". وكانت رومه في بادئ الأمر عضواً في هذا الحلف ثم أمست زعيمته، ثم سيدته المسيطرة عليه. وفي عام 493 حاربت الفلشيين Volscians؛ وفي هذه الحرب ظفر كيوس مارسيوس Caius Marcius بلقب كريلانس Coriolanus بعد أن استولى على كريلاي Corioli عاصمة الفلشيين (2). ويضيف المؤرخون إلى هذا- ولعل للخيال والقصص شأن كبير فيما يضيفون- أن كريلانس أصبح من ذلك الوقت رجعياً شديد الرجعية، فنُفي من رومه بناء على طلب العامة وإصرارهم (491)، فلجأ إلى الفلشيين، وأعاد تنظيم جيوشهم، وسار على رأسهم لحصار رومه. ثم تقول الرواية إن الرومان المحاصرين بعد أن عضهم الجوع بعثوا رسولاً في إثر رسول ليثنوه عن عزمهِ، ولكنه لم ينثنِ، فلما جاءته
_________
(1) Tibur Aricia Lanuvium, Ardea, Tusculum.
(2) لقد خلد شكسبير هذه القصة في روايته الشهيرة كريلانس. المترجم(9/77)
أمه وزوجته تتوسلان إليه وردهما خائبتين أنذرتاه بأنهما ستسدان الطريق أمامه بجسديهما، فلم يسعه أمام ذلك إلا أن يرتد بجيشه عن رومه. وكان جزاؤه أن قتله الفلشيون، وفي رواية أخرى أنه عاش بينهم معيشة ضنكا، حتى بلغ من العمر أرذله (28). وفي عام 405 قام النزاع على أشده بين رومه وفياي Veii للسيطرة على نهر التيبر. وحاصرت رومه مدينة فياي ودام الحصار تسع سنين، وشجع هذا مدن إتروريا فانضمت إلى فياي ضد رومه، وهوجم الرومان من كل ناحية وتعرضوا لخطر الفناء، فأقاموا عليهم دكتاتورًا يدعى كاملس Camillus، فجند جيشًا جديدًا استولى به على فياي ووزع أرضها على مواطني رومه. وفي عام 351 ضم جنوب إتروريا إلى رومه بعد عدة حروب أخرى متفرقة وسميت من ذلك الوقت باسم تسكيا Tuscia وهو اسم لا يكاد يفترق عن اسم المقاطعة في الوقت الحاضر.
وفي هذه الأثناء واجهت رومه في عام 390 خطراً جديداً أشد من الأخطار السابقة، وقام الصراع بينها وبين بلاد الغالة، وهو الصراع الطويل الذي لم ينته إلا في عهد يوليوس قيصر. وذلك أنه بينما كانت الحروب الأربع عشرة قائمة بين رومه وإتروريا تسللت قبائل كلتية من بلاد الغالة ومن ألمانيا منحدرة من جبال الألب، واستقرت في إيطاليا، وانتشرت جنوباً حتى نهر البو Po. ويطلق المؤرخون القدامى على هؤلاء الغزاة اسم كلتائي- أو سلتائي، أو جلتائي أو غالي (1) دون تمييز بينها. ولسنا نعرف شيئًا عن أصل هذه القبائل؛ وكل ما نستطيع أن نصفها به أنها ذلك الفرع من السلالة الهندوربية التي سكنت ألمانيا الغربية وغالة وإسبانيا الوسطى، وبلجيكا، وويلز، واسكتلندة، وإيرلندة، وأدخلت فيها اللغات التي وجدها الرومان في تلك البلاد. ويصفهم بولبيوس Polybius بأنهم "طوال القامة، حسنو الوجوه"، يحبون القتال، ويحاربون
_________
(1) Galli, Galatae, Celtae, Keltai(9/78)
وهم عراة الأجسام إلا من تمائم وسلاسل ذهبية (29). ولما أن ذاق الكلت سكان بلاد غالة الجنوبية طعم النبيذ الإيطالي سرهم مذاقه كل السرور فاعتزموا أن يزوروا الأرض التي تخرج تلك الفاكهة اللذيذة. ولعل أصدق من هذا أنهم أقبلوا على تلك البلاد طلباً للمرعى وللأرض الجديدة، فلما دخلوها أقاموا فيها وقتًا ما مسالمين على غير عادتهم المألوفة، يحرثون الأرض ويرعون الماشية، ويتثقفون بما كان في المدن من ثقافة تسكانية. ثم غزوا إتروريا في عام 400 ق. م ونهبوها، وقاومهم التسكان مقاومة ضعيفة، لأنهم كانوا قد أرسلوا جنودهم إلى فياي ليصدوا عنها الرومان. وفي عام 391 وصل ثلاثون ألفًا من الغاليين إلى كلوزيوم Clusium؛ وبعد عام واحد التقوا بالرومان على نهر أليا Allia وهزموهم هزيمة منكرة بددت شملهم، ودخلوا رومه فاتحين دون أن يلقوا في ذلك مقاومة، ونهبوا المدينة وحرقوا كثيرًا من أحيائها، وظلوا سبعة أشهر يحاصرون فلول الجيش الروماني المعسكر على الكبتول Capitol- وهوقلة تل الكبتولين Capitoline- حتى استسلم لهم الرومان آخر الأمر، وأدوا للغالبين ألف رطل من الذهب نظير انسحابهم (1). وغادر الغاليون رومه ولكنهم عادوا إليها في أعوام 367، 358، 350. وصدهم الرومان في كل مرة فقنعوا أخيرًا بشمال إيطاليا الذي أصبح من ذلك الوقت يعرف بغالة الألبية الجنوبية.
وألفى من بقي من الرومان مدينتهم مخربة تخريبًا حمل الكثيرين منهم على أن يتمنوا لو استطاعوا أن يغادروها ويتخذوا فياي عاصمة لهم. ولكن كمليوس أثناهم عن عزمهم، وقدمت لهم الحكومة ما يحتاجونه من المعونة المالية لبناء بيوتهم من جديد. وكانت السرعة التي تم بها هذا البناء، وهم يواجهون الأعداء
_________
(1) والمؤرخون الآن مجمعون على رفض القصة التي يرويها ليفي (30)، والتي تقول إن كمليوس رفض في اللحظة الأخيرة أن يعطى الغالبين الذهب، وإنه طردهم من رومه قوة واقتدرًا. ويرون أن هذه القصة قد اخترعت اختراعًا إجابة لنعرة الرومان الوطنية وكبريائهم القومي. وما من أمة من الأمم تهزم في كتب تاريخها.(9/79)
من حولهم، سببًا من الأسباب التي جعلت رومه مدينة قائمة على غير نظام مرسوم ذات شوارع ضيقة ملتوية. وكانت الشعوب الخاضعة لسلطانها، إذا رأتها موشكة على الدمار والخراب، ثارت عليها ثورة في إثر ثورة واستلزم إخضاع هذه الشعوب وشفاؤها من نزعة الحرية خمسين عامًا من الحروب المتقطعة. ولقد هاجمها اللاتين، والإكوريون، والهرنيشيون، والفلشيون مجتمعين أو متفرقين. ولو انتصر الفلشيون لفصلوا عن جنوب إيطاليا وعن البحر، ولربما استطاعوا بذلك أن يقضوا على تاريخها؛ ولكن رومه انتصرت عليهم وانتصرت على مدن الحلف اللاتيني في عام 340، وبعد عامين من انتصارها عليها حلت الحلف وضمت مدن لاتيوم جميعها إلا القليل منها إليها (1).
وفي هذه الأثناء كان ما نالته رومه من النصر على الفلشيين سببًا في وقوفها وجهًا لوجه أمام القبائل السمينة القوية. وكانت هذه القبائل تمتلك قطاعًا مستعرضًا في إيطاليا يمتد من بابلي حتى البحر الأدرياوي، ويشمل مدنًا غنية مثل نولا Nola وبنفنتم Beneventum، وكومية Cumae، وكبوا Capua. وكانت قد استولت على معظم المستعمرات التسكانية واليونانية الممتدة على الساحل الغربي، وكان لها من الحضارة الهلينية ما يكفي لخلق فن كمباني Campanian، متميز عن غيره من الفنون، ولعلها كانت أكثر حضارة من الرومان أنفسهم. واشتبكت رومه مع هذه القبائل في ثلاث حروب طويلة طاحنة رغبة منها في الانفراد بالسيادة على إيطاليا. ومني الرومان في مشاغب كودين Coudine Forks (321) بهزيمة من أكبر هزائمهم، ومر جيشهم المنهزم "تحت النير"- أي تحت قوس من حراب الأعداء- رمزًا لخضوعهم. ووقع القنصلان في ميدان القتال شروطاً
_________
(1) ومن الحوادث التي تروي عن هذه الحرب حادثان أكبر الظن أنهما من نسج الخيال أولهما أن قنصلاً يدعى ديسيوس Pnblius Deeius لقي حتفه بعد أن انطلق على جواده بين صفوف الأعداء مضحيًا بنفسه ليظفر بمعونة الآلهة لرومه. أما القنصل الثاني تيتس مانليوس تراكواتس Titus Manlius Torquatus فقد قطع رأس ولده لأنه انتصر في واقعة، وكان سبب انتصاره أن خالف الأوامر الصادرة إليه.(9/80)
لصلح مذل رفض مجلس الشيوخ أن يصدق عليه، ونجح السمنيون في أن يضموا إليهم التسكانيين والغاليين، وألفت رومه نفسها وقتًا ما تواجه إيطاليا كلها تقريبًا شاكية السلاح. ولكن الفيالق الرومانية انتصرت انتصارًا حاسمًا في سنتينوم Sentinum (295) ضمت رومه على أثره كمبانيا Campania وأمبريا Umbria إلى أملاكها. وبعد عامين من ذلك الوقت طردت الغاليين إلى ما وراء نهر ألبو وأخضعت إتروريا مرة أخرى لسلطانها.
وبذلك أصبحت رومه سيدة إيطاليا الممتدة من مقاطعات الغاليين في الشمال إلى المقاطعات اليونانية في الجنوب. لكن عدم اطمئنانها إلى سلامتها من جهة، ورغبتها في مواصلة الفتح من جهة أخرى، قد حملاها على أن تحيز مدن "اليونان الكبرى" Magna Graecia بين الحرب وبين محالفتها حلفًا تقر فيه لرومه بالزعامة. وفضلت مدن تورياي Thurii ولكري Locri وكروتونا Crotona أن تحالف رومه على أن تتعرض للاندماج في القبائل "المتبربرة" (أي الإيطالية)، التي كانت تتكاثر من حولها وبين أهلها؛ ولعلها هي أيضًا كانت تمزقها كما تمزق لاتيوم حرب الطبقات، واستقبلت الحاميات الرومانية لتصد عن الملاك مطامع العامة الذين كان سلطانهم آخذًا في الازدياد (32). لكن تارتم Tarentum وقفت وقفة المعاند، واستعانت ببيرس Pyrrhus ملك إبيروس Epirus. وثارت في نفس هذا المحارب الباسل ذكريات أخيل Achilles والإسكندر فعبر البحر الأدرياوي بقوة إبيروسية، وهزم الرومان في هرقيلة Heraclea (280 ق. م)؛ ولكن ما ناله من النصر كان غالي الثمن غلوًا حمل القائد المظفر على أن يرثى لحاله (33). وانضمت إليه وقتئذ جميع المدن اليونانية في إيطاليا، وحالفه اللوكانيون، والبوتيون، والسمنيون. وبعث سنياس Cineas إلى رومه يعرض عليها الصلح، وأطلق سراح الألفي أسير روماني الذين كانوا في قبضته بعد أن وعدوه بأن يعودوا إذا فضلت رومه الحرب(9/81)
على السلم. وأوشك مجلس الشيوخ أن يقبل شروطه ولكن أبيوس كلوديوس Appius Cladius، الشيخ الأعمى المسن الذي كان قد اعتزل الحياة العمة من زمن طويل، طلب إلى بعض الناس أن يحملوه إلى دار المجلس، فلما دخل على الأعضاء طلب إليهم تعقد رومه قط صلحًا مع جيش أجنبي في أرض إيطاليا. ورد مجلس الشيوخ إلى بيرس من أطلقهم من الأسرى وبدأت الحرب من جديد. وانتصر الملك الشاب على الرومان مرة أخرى، ثم عافت نفسه جبن أحلافه وضعفهم وترددهم، فأبحر مع من بقي معه من جيشه إلى صقلية ورفع عن سرقوسة حصار القرطاجنيين، وطردهم من أملاكهم في الجزيرة حتى لم يبق لهم فيها إلا القليل. ولكنه اغضب بحكمه القوي اليونان سكان صقلية، وكانوا يظنون أن في وسعهم أن يستمتعوا بالحرية دون أن يؤدوا لها ثمنًا من النظام والشجاعة، فقبضوا عنه معونتهم، فعاد بيرس إلى إيطاليا وهو يقول عن صقلية: "ما أعظمها من غنيمة تتنازعها قرطاجنة ورومه! " والتقى جيشه بالجيش الروماني في بنفنتم ومني بالهزيمة لأول مرة (275). واتضح في هذه الواقعة أن الأولوية الخفيفة السلاح السريعة الحركة أصلح من الصفوف المتراصة البطيئة، وبدأت بذلك صفحة جديدة في تاريخ الحروب. وأهاب بيرس بأحلافه الإيطاليين أن يمدوه بجيوش جديدة، فلم يلبوا نداءه لارتيابهم في إخلاصه ومثابرته. فعاد إلى إبيروس ومات في بلاد اليونان ميتة المغامرين. وفي السنة التي مات فيها (272 ق. م) غدرت ميلو Milo بتارنتم وانضمت إلى رومه. وما لبثت المدن اليونانية كلها أن خضعت لرومه واستسلم لها السمنيون وهم كارهون محزونون، وأمست إيطاليا بعد حروب دامت قرنين كاملين سيدة إيطاليا لا ينازعها فيها منازع.
وسرعان ما ثبتت رومه أقدامها في البلاد المفتوحة بما كانت ترسله إليها من الجاليات، بعضها من أهلها وبعضها من بلاد الحلف اللاتيني. وقد أفادتها هذه الجاليات فوائد كثيرة: فقد خففت عنها خطر التعطل، وقللت من تزاحم الأهلين(9/82)
على موارد الرزق، وما ينشأ عن هذا التزاحم من نزاع بين الطبقات في رومه. وكذلك كانت كل جالية فيها نواة موالية لرومه بين الأهلين الغضاب، كما كانت مراكز أمامية ومصارف للتجارة الرومانية، تنتج الطعام للبطون الجياع في العاصمة، ذلك أن المحراث قد أتم ما بدأه السيف من الفتوح. وبهذه الوسائل كلها وضعت رومه الأسس التي أدت إلى صبغ مئات من المدن التي لا تزال قائمة إلى اليوم بالصبغة الرومانية، فانتشرت اللغة اللاتينية والثقافة اللاتينية في جميع أنحاء شبه الجزيرة التي كان معظمها لا يزال في طور الهمجية يتكلم أهله لغات شتى. وسارت إيطاليا بخطى وئيدة في طريق الوحدة الدولية، وكانت الخطوة الأولى في سبيل الوحدة السياسية وحشية في طريقتها عظيمة في أثرها وغايتها.
لكن كان في قورسقة وسردانية وصقلية وإفريقيا قوة أشد من رومه بطشًا وأقدم منها عهدًا، تسد على التجارة الرومانية مسالك البحر الأبيض المتوسط الغربي، وتترك إيطاليا سجينة في بحارها. تلك هي قرطاجنة.(9/83)
الباب الثالث
هنيبال يحارب رومه
264 - 202 ق. م
الفصل الأول
قرطاجنة
كشف التجار الفينيقتون- وهم قوم ديدنهم البحث والتنقيب- عن ثروة إسبانيا المعدنية قبل ألف ومائة عام من تلك الأيام. ولم يمض على هذا الكشف إلا قليل من الوقت حتى كان أسطول من السفن التجارية يمخر عباب البحر الأبيض المتوسط بين صيدا وصور وبيلوس من ناحية وطارطسوس Tartessus عند منصب نهر الوادي الكبير من ناحية أخرى. وإذ كانت هذه الأسفار مما يتعذر القيام بها من غير أن تكون فيها محاط كثيرة في الطريق، وإذ كانت سواحل البحر الأبيض الجنوبية أقصر الطرق وآمنها، فقد أنشأ الفينيقيون مراكز وسطى ومحاط تجارية على سواحل إفريقيا الشمالي عند لبتس مجنا Leptes Magna ( ليدة الحالية) وهدرومنتم Hadrumentum ( سومة) وبوتيكا (بوتيك) وهبوديرهيتس Hppo Diarrhytus وهبورجيوس Hippo Regius ( بونة)، بل إنهم عبروا مضيق جبل طارق وأقاموا مركزًا لهم في لكسوس Lixus ( جنوب طنجة). وتزوج التجار الساميون الذين أقاموا في هذه المراكز من الأهالي وأسكتوا غيرهم بالمال. وفي عام 813 ق. م أقامت جماعة جديدة من المستعمرين-(9/84)
قد يكونون من فينيقية وقد يكونون من يتكيا Utica التي أخذت وقتئذ في الاتساع- أقامت هذه الجماعة بيوتًا لها على نتوء في البحر على بعد عشرة أميال من مدينة تونس الحالية. وكان الدفاع عن شبه الجزيرة الفينيقية أمرًا سهلاً، وكانت مياه نهر بجرداس (مجردة) تروي أرضها وتفيض عليها الخصب والنماء، ولذلك كانت تعود إلى الانتعاش بسرعة بعد ما كان يحل بها من التخريب المتكرر. وتعزو الروايات القديمة إنشاء هذه المدينة إلى إليسا Elissa أو ديدو Dido ابنة ملك صور، فتقول إن أخاها قتل زوجها فأبحرت مع طائفة أخرى من المغامرين إلى إفريقيا. وسمي المكان الذي استقرت فيه كارت هدشت- أي المدينة الجديدة- تمييزًا لها عن يتيكا. وحول اليونان هذا الاسم إلى كارشدون وبدله الرومان إلى كرثاجو. وأطلق اللاتين اسم إفريقيا على الإقليم المحيط بقرطاجنة ويتكيا وسموا أهلها الساميين، كما كان يسميهم اليونان، البوني أو الفوني، أي الفينيقيين. وهاجر كثيرون من سراة أهل صور إلى إفريقيا عقب حصار سلمانصر، ونبوخذ نصر والإسكندر، واستقر معظمهم في قرطاجنة، فأصبحت بسبب هذه الهجرة مركزًا جديدًا للتجارة الفينيقية، وأخذت قوة قرطاجنة وعظمتها في الازدياد كلما أخذت صور وصيدا في الاضمحلال.
ولما ازدادت المدينة قوة دفعت أهل إفريقيا الأولين إلى الداخل شيئاً فشيئاً، وامتنعت عن أداء الجزية لهم، بل أرغمتهم على أن يؤدوها هم واستخدمتهم أرقاء وأقناناً في بيوتها ومزارعها. وكانت نتيجة هذا أن نشأت لأهل قرطاجنة ضياع واسعة كان يعمل في بعضها عشرون ألف رجل (1)، وأضحت الزراعة عند الفينيقين العمليين علمًا وصناعة، ولخص قواعدها ماجو الكاتب القرطاجني في كتاب ذائع الصيت. وشق الأهلون القنوات فأخصبت الأرض ونشأت فيها حدائق ذات بهجة، وحقول من القمح والكروم، وبساتين تنتج الزيتون والرمان والكمثرى والكرز والتين (2). وربوا الخيل والأنعام والضأن والمعز،(9/85)
واستخدموا الحمير والبغال في حمل الأثقال، وأنسوا كثيرًا من الحيوانات ومنها الفيل. أما الصناعات في المدن فلم تزدهر ازدهار الزراعة اللهم إلا صناعة المعادن؛ ذلك أن القرطاجنيين، كآبائهم الأسيويين، كانوا يفضلون أن يتجروا فيما يصنعه غيرهم، فكانوا يجربون الأقطار، يقودون بغالهم شرقًا وغربًا، ويضربون في قفار الصحراء طلبًا للفيلة والعاج والذهب والعبيد. وكانت سفنهم الضخمة تحمل المتاجر من مئات المواني بين آسيا وبريطانيا وإليهما، لأنهم لم يكونوا يرضون أن يعودوا كما عاد معظم الملاحين عند أعمدة هرقول Pillars of Hercules ( مضيق جبل طارق)؛ وأكبر الظن أنهم هم الذين أنفقوا على رحلة هنو Hanno البحرية التي ارتادت ألفين وستمائة ميل من ساحل أفريقيا الغربي، ورحلة هملكو Himilco التي ارتادت سواحل أوربا الشمالية. ويلوح أنهم كانوا أول من أصدر عملة من نوع العملة الورقية- في صورة رقائق من الجلد مطبوع عليها ما يدل على قيمتها ويتعامل بها في جميع أنحاء الدولة القرطاجنية، وإن لم يكن من المستطاع تمييز عملتهم المعدنية عن عملة غيرهم من الأمم.
والراجح أن التجار الأثرياء لا الأشراف أصحاب الضياع هم الذين قدموا الأموال اللازمة لتجييش الجيوش وإنشاء الأساطيل التي حولت قرطاجنة من مركز للتجارة إلى إمبراطورية استولت على ساحل البحر الأبيض الجنوبي من سيرنيكا Cyrenaica إلى جبل طارق والى ما بعد جبل طارق عدا يتكا. واستولى القرطاجنيون كذلك على طارطسوس وجادير (فادز) وغيرهما من المدن الأسبانية، وأثرت بما أخذته من ذهب أسبانيا وفضتها وحديدها ونحاسها. وتملكت جزائر البليار، بل أنها وصلت إلى جزائر ماديرة ومالطة وسرادانية وقورسقة ونصف صقلية الغربي. وكانت تعامل البلاد الخاضعة لحكمها معاملة مختلفة الدرجات في قسوتها، فكانت تفرض عليها جزية سنوية، وتجند الأهلين في جيوشها، وتقيد تجارتها وعلاقاتها الخارجية بأشد من القيود. ولكنها في(9/86)
نظير هذا كانت تحميها من أعدائها عسكريًا، وتمنحها استقلالاً ذاتيًا محليًا، واستقرارًا اقتصاديًا. وفي وسعنا أن نقدر ما كان لهذه البلاد الخاضعة لقرطاجنة من ثراء إذا عرفنا أن واحدة منها هي لبتس الصغرى Leptis Minor كانت تؤدي إلى خزانة قرطاجنة 365 وزنة (أي ما يعادل 1. 314. 000 ريال أمريكي من نقود هذه الأيام).
واستغلت قرطاجنة هذه الإمبراطورية استغلالاً جعلها في القرن الثالث قبل الميلاد أكثر مدائن البحر الأبيض المتوسط ثراء، فقد كان يدخلها كل عام من الضرائب الجمركية ومن الخراج نحو 12. 000 تالنت أي قدر ما كان يدخل في خزائن أثينا أيام مجدها عشرين مرة. وكان سراتها يسكنون القصور ويلبسون الملابس الغالية الثمن ويطمعون الأطعمة الشهية يأتون بها من خارج بلادهم. وازدحمت المدينة بسكانها البالغ عددهم ربع مليون نسمة واشتهرت بما أقيم فيها من الهياكل الفخمة والحمامات العامة، ولكن أكثر ما كانت تشتهر به الأمينة وأحواضها الواسعة. وكان في مقابل كل حوض من أحواضها البالغة 220 حوضًا عمودان أيونيان Ionic؛ ومن ثم أضحى الميناء الداخلي ذا الشكل مستدير فخم يحيط به 440 عمودًا. وكان يوصل هذا الميناء بالسوق العامة طريق واسع به ميدان ذو عمد، تزينه تماثيل يونانية، وتقوم على جانبيه الأبنية المحتوية على المصالح الحكومية، والمكاتب التجارية، ودور القضاء والعبادة. أما الشوارع التي تجاور هذا الطريق، فكانت ضيقة كمعظم شوارع البلاد الشرقية، وكانت ملئ بالحوانيت التي تقوم فيها الصناعات المختلفة وتعقد فيها آلاف الصفقات التجارية. وكانت بيوتها ترتفع في الجو إلى ستة أطباق؛ وكثيرًا ما كانت الحجرة الواحدة تضم أسرة بأكملها. وكان في وسط المدينة ربوة عالية أو قلعة- كانت هي وغيرها من المعالم مما أوحى إلى الرومان بالصورة التي أقاموا عليها مدينتهم- تسمى "البورصة" Byrsa، وتضم بيت المال، ومضرب(9/87)
النقود، وكثيرًا من المزارات والعمد، وأفخم معبد في قرطاجنة كلها وهو معبد الإله إشمون Eshmun؛ وكان يحيط بالمدينة من ناحيتها الأرضية غير البحرية سور من ثلاثة جدران يرتفع خمسًا وأربعين قدمًا في الهواء، ومن فوقه أبراج وشرفات، ومن داخل الأسوار فضاء يتسع لأربعة آلاف حصان وثلاثمائة فيل، وعشرين ألف رجل (3). وفي خارج الأسوار كانت مزارع الأغنياء ومن بعدها حقول الفقراء.
وكان القرطاجنيون من الجنس السامي وثيقي الصلة باليهود الأقدمين في دمهم وفي ملامحهم، وكانت تظهر في لغتهم أحيانًا ألفاظ عبرية، مثال ذلك أنهم كانوا يسمون القضاة شفيتي وتلك هي الكلمة العبرية شفتيهم. وكان الرجال يرسلون لحاهم ولكنهم كان من عادتهم أن يحلقوا شفتيهم العليا بشفرات من البرونز. وكان معظمهم يضعون على رؤوسهم قلانس أو عمائم، ويحتذون أحذية أو أخفافًا، ويلبسون جلابيب طويلة فضفاضة؛ ولكن الطبقات العليا من الأهلين قلدت اليونان في ملابسهم، وصبغت أثوابها باللون الأرجواني ووشت أطرافها بالخرز الزجاجي. أما النساء فكن في الغالب متحجبات يحيين حياة العزلة؛ وكان في وسعهن أن يبلغن مناصب كهنوتية عالية، أما فيما عدا ذلك فكان عليهن أن يأسرن الرجال بجمالهن. وكان الأهلون جميعًا- رجالاً كانوا أو نساء- يتحلون ويتعطرون ويضعون أحيانًا حلقات معدنية في أنوفهم. ولسنا نعرف إلا القليل عن أخلاقهم من غير أعدائهم، فالكتاب اليونان والرومان يصفونهم بالإسراف في الطعام والشراب، وبأنهم يحبون أن يجتمعوا في نوادي الطعام، وأنهم إباحيون في علاقاتهم الجنسية فاسدون في شؤونهم السياسية؛ وكان الرومان المعروفون بالغدر يستعملون لفظ الوفاء القرطاجني Fides Punica مرادفًا للفظ الخيانة. ويقول بولبيوس أن "لا شيء ينتج عنه كسب يعد عارًا في قرطاجنة (4) " ويتهم فلوطرخس أهل قرطاجنة بأنهم "خشنو الطباع مكتئبون،(9/88)
سلسو القياد في أيدي حكامهم، قساة على الشعوب الخاضعة لسلطانهم، إذا خافوا بلغوا منتهى الجبن، وإذا غضبوا بلغوا منتهى الوحشية، عنيدون لا يرجعون عن شيء أقروه، صارمون، لا يستجيبون إلى دواعي اللهو أو مباهج الحياة (5). ولكن فلوطرخس رغم ما عرف به من العدل في أحكامه كان يونانيًا على الدوام، وأما بولبيوس فكان صديقًا حميمًا لسبيو الذي حرق قرطاجنة ومحا آثارها من الوجود.
ويبدو القرطاجنيون في أسوء صورهم في دينهم، وإن كان كل ما نعرفه عنهم من هذه الناحية قد وصل إلينا عن طريق أعدائهم. لقد كان أسلافهم في فينيقية يعبدون بعل مُلُك وعشتروت بوصفهما ممثلين لعنصري الذكر والأنثى في الطبيعة وللشمس والقمر في السماء؛ وعبد القرطاجنيون إلهين مماثلين لهما وهما بعل هامان وثانيت. وكانت ثانيت بصفة خاصة تثير حبهم وتقواهم؛ فكانوا يملئون هياكلها بالهدايا ويقسمون بأسمها. ويلي هذين الإلهين في التعظيم ملكارت "مفتاح المدينة" ثم إشمون رب الثروة والصحة، ويأتي من بعد هذه كلها حشد كبير من الآلهة الصغرى تسمى "البعول" أو الأرباب. بل عن ديدو نفسه كان من هذه المعبودات (6). وكانوا في الأزمات العصيبة يضحون لبعل- هامان بالأطفال الأحياء، وكان عدد من يضحي بهم لهذا الإله في اليوم الواحد يبلغ أحيانًا ثلاثمائة طفل. وكانت طريقتهم في هذه التضحية أن يضعوا الأطفال فوق ذراعي هذا الوثن المبسوطتين، ثم يدحرجونهم إلى النار المتقدة أسفل الذراعين؛ وكان يغطى على صياحهم أصوات الأبواق والدفوف، ويطلب إلى أمهاتهم أن يشهدن هذا المنظر دون توجع أو بكاء لئلا يتهمن بالكفر ويخسرون ما هو خليق بهم من رضاء الآلهة. وتطورت الأمور بعد ذلك فكان الأغنياء يأبون أن يضحوا بأطفالهم ويبتاعون بدلاً منهم أطفال الفقراء، فلما أن حاصر أجثكليز Agathocles صاحب سرقوسة Syracuse مدينة قرطاجنة خشيت الطبقات العليا من أهل المدينة أن يكون احتيالها وتهربها من واجبها المقدس قد أغضب الآلهة فألقت في النار مائتين(9/89)
من أبناء الأشراف (7). على أن من واجبنا أن نضيف إلى هذا أن تلك القصص إنما يقصها علينا ديودور وهو يوناني من أهل صقلية لا يستنكف أن يشهد ما إعتاده اليونان من قتل أطفالهم وهو هادئ مطمئن. وليس ببعيد أن يكون منشأ هذه العادة القرطاجنية عادة التضحية بالأطفال أن أولئك القوم أرادوا أن يصبغوا ما يبذلون من الجهد لضبط النسل بصبغة التقي والصلاح.
ولما أن دمر الرومان قرطاجنة أهدوا ما وجدوه فيها من المكتبات إلى أحلافهم من أهل أفريقية. ولكن هذه الكتب لم يبق منها إلا كتاب هنو الذي سجل فيه رحلته وشذرات من كتاب ماجو في الزراعة. ويؤكد لنا القديس أوغسطين تأكيدًا يكتنفه شيء من الغموض أنه "كان في قرطاجنة كثير من الأشياء التي خلدت ذكراها في عقول من خلفهم من الناس (8) ". وقد استعان سلست Sallust وجوبا Juba بما كتبه المؤخرون القرطاجنيون، ولكنّا لا نجد لدينا تاريخًا لقرطاجنة كتبه مؤرخ من أبنائها. أما عمارتها فحسبنا أن نقول عنها إن الرومان لم يتركوا فيها حجرًا على حجر. ويقص علينا بعضهم أن طراز مبانيها كان مزيجًا من الطرازين الفينيقي واليوناني، وأن هياكلها كانت ضخمة مزخرفة، وأن هيكل بعل- هامان وتمثاله كانا مصفحين بألواح من الذهب تقدر قيمتها بألف وزنة (تالنت)، وأن اليونان أنفسهم مع ما عرف عنهم من زهو وكبرياء كانوا يعدون قرطاجنة من أجمل العواصم في العالم كله. ويحتوي متحف تونس على قطع من توابيت الموتى وجدت في مقابر بالقرب من موقع قرطاجنة، أجملها كلها صورة واضحة المعارف، لعلها صورة ثانيت، يونانية الطابع في جوهرها. وثمة تماثيل صغرى استخرجت من القبور القرطاجنية وفي جزائر البليار، ولكنها فجة خالية من الدقة، وكثيرًا ما تكون بشعة لا تطيق العين رؤيتها كأنها صنعت لإرهاب الأطفال أو طرد الشياطين. أما ما بقي من الخزف فيدل على أن هذا الفن كان يقصد إلى النفع لا إلى الجمال الفني، ولكنا نعرف أن الصناع(9/90)
القرطاجنيين قد أخرجوا نماذج طيبة من المنسوجات، والحلي، والنقش على العاج والأبنوس والكهرمان والزجاج.
وليس في استطاعتنا في الوقت الحاضر أن نرسم أية صورة واضحة للحكومة القرطاجنية. وقد أثنى أرسطوطاليس على دستور قرطاجنة ووصفه بأنه "أرقى من سائر دساتير العالم في كثير من نواحيه"، وذلك "لأن الدولة تعد حسنة النظام إذا كان العامة أوفياء لدستورها على الدوام، وإذا لم يثر فيها نزاع أثيم يستحق الذكر، وإذا لم يستطع أحد أن ينصب نفسه دكتاتورًا (10) "؛ وكان أهلها يجتمعون من آن إلى آن في جمعية وطنية من حقها أن تقبل أو ترفض ما يعرضه عليها من الاقتراحات مجلس الشيوخ المكون من ثلاثمائة من أهل المدينة الكبار، ولا حق لها في مناقشتها أو تعديلها. على أن مجلس الشيوخ نفسه لم يكن يحتم عليه أن يعرض على الجمعية أي مشروع في وسع أعضائه أن يتفقوا عليه (11). وكان السكان هم الذين يختارون الشيوخ، غير أن الرشا العلنية قد أنقصت من مزايا هذه الإجراءات الديمقراطية ومن أخطارها، وأحلت ألجاركية المال محل أرستقراطية المولد. وكانت الجمعية الوطنية تختار في كل عام شفيتيين Shofetes ليرأسا الناحيتين القضائية والإدارية في الدولة. وكان من فوق الهيئات القضائية والإدارية جميعًا محكمة مؤلفة من 104 من القضاة يبقون في مناصبهم مدى الحياة، وإن كان القانون لا يجيز هذا البقاء. وإذ كان من حق هذه المحكمة أن تشرف على جميع فروع الإدارة، وأن تستدعي كل موظف عمومي بعد انتهاء مدة خدمته لتحاسبه على أعماله، فقد أصبحت قبيل الحروب البونية هي المسيطرة على جميع الإدارات الحكومية والمشرفة على جميع المواطنين.
وكان مجلس الشيوخ هو الذي يرشح القائد الأعلى للجيش، على أن تختاره الجمعية من بين المرشحين. وكلن مركزه خيرًا من مركز القنصل في رومه لأنه كان في وسعه أن يبقى في منصبه طوال المدة التي يرغب مجلس الشيوخ أن يبقى(9/91)
فيه. لكن الرومان قد سيروا على قرطاجنة جحافل من ملاك الأراضي الوطنيين، على حين أن الجيش القرطاجني كان مؤلفًا من مرتزقة الجند الأجانب معظمهم من اللوبيين الذين لا يشعرون نحو قرطاجنة بأقل عاطفة وطنية، ولا يدينون بالولاء إلا لمن يؤدي إليهم أجورهم، ولقائدهم في بعض الأحيان. وما من شك في أن الأسطول القرطاجني كان في أيامه أقوى أساطيل العالم على الإطلاق، فقد كانت خمسمائة سفينة ذات خمسة صفوف من المجدفين، زاهية الألوان، رفيعة، سريعة، ترد المعتدين على مستعمرات قرطاجنة وأسواقها ومسالكها التجارية. وكان فتح هذا الجيش القرطاجني لصقلية، وإقفال هذا الأسطول حوض البحر الأبيض المتوسط الغربي في وجه التجارة الرومانية، منشأ الصراع المرير الذي دام نحو مائة عام والمعروف بأسم الحروب البونية الثلاث.(9/92)
الفصل الثاني
رجيولوس Regulus
لقد ظلت الأمتان صديقتين طالما كان إحداهما من القوة ما تستطيع به أن تسيطر على الأخرى. وقد عقدتا في عام 508 معاهدة اعترفنا فيها بسيادة رومه على شاطئ لاتيوم وتعهد فيها الرومان ألا يسيروا سفنهم في البحر الأبيض المتوسط غربي قرطاجنة، وألا ينزلوا في سردانية أو لوبية إلا فترات قصيرة يصلحون فيها سفنهم أو يمونونها (12). ويقول أحد الجغرافيين اليونان إن القرطاجنيين اعتادوا أن يغرقوا كل بحار أجنبي يجدونه بين سردانية وجبل طارق (13). وكان اليونان في مساليا Massalia ( مرسيليا) قد نشأت لهم تجارة شاطئية سليمة بين جنوبي غالة وشمالي أسبانيا الغربي؛ وتروي الأخبار أن قرطاجنة كانت تحارب هذه التجارة حروب قرصنة، وإن مساليا كانت حليفة وفية لرومه (ولسنا ندري ما في هذه الأخبار من دعاوة حربية يسمونها تاريخًا تكريمًا لها وتعظيمًا). أما وقد سيطرت رومه على جميع إيطاليا فإنها لم تكن تشعر بالأمن والطمأنينة إلى سلامتها ما دامت هناك قوتان معاديتان لها- اليونان والقرطاجنيون- تتملكان صقلية، وهي لا تكاد تبعد عن ساحل إيطاليا بميل واحد. يضاف إلى هذا أن صقلية خصبة التربة، في وسعها أن تمون نصف إيطاليا بالحبوب؛ وإذا ما استولت رومه على صقلية سقطت سردانية وقورسقة في يدها من تلقاء نفسهما. فما هو ذا طريق لابد من سلوكه وهو الطريق الطبيعي لتوسع رومه وبسطة ملكها.
وقد بقي أن توجد الحجة التي تتذرع بها رومه لإشعال نار الحرب. وقد جاءت هذه الحجة في عام 264 ق. م حين استولى جماعة من مرتزقة السمنيين يسمون أنفسهم الممرتيين Mamertines أي "رجال المريخ" على بلدة مسانا(9/93)
Messana الواقعة على أقرب سواحل لإيطاليا، وذبحوا السكان اليونان أو أخرجوهم من البلدة، واقتسموا فيما بينهم نساء هؤلاء الضحايا وأبناءهم وأملاكهم، وجعلوا ديدنهم الإغارة على المدن اليونانية القريبة من تلك البلدة. فما كان من هيرو الثاني Hiero II دكتاتور سرقوسة إلا أن حاصرهم، ولكن قوة قرطاجنية نزلت في مسانا وردت هيرو على أعقابه واستولت على المدينة. واستغاث الممرتيون برومه وطلبوا إليها أن تعينهم على من أنقذوهم من عدوهم؛ وتردد مجلس الشيوخ في تقديم هذه المعونة لأنه يعرف ما لقرطاجنة من قوة وثروة، ولكن الأثرياء من العامة الذين يسيطرون على الجمعية المئوية أخذوا يدعون للحرب وللاستيلاء على صقلية. وقر قرار رومه أن تبعد القرطاجنيين عن هذا الثغر ذي الموقع الحربي الهام القريب كل القرب منها مهما كلفها هذا من ثمن؛ وجهزت رومه أسطولاً وعقدت لواءه لكيوس كلوديوس Caius Claudius وسيرته لإنقاذ الممرتيين؛ ولكن القرطاجنيين استطاعوا في هذه الأثناء أن يقنعوا الممرتيين بالعدول عن طلب مساعدة رومه، وأرسلوا رسالة بهذا المعنى إلى كلوديوس في ريجيوم Rhegium. غير أن كلوديوس لم يلق بالاً إلى هذه الرسالة، وعبر المضيق الذي يفصل إيطاليا عن صقلية، ودعا أمير البحر القرطاجني إلى المفاوضة؛ فلما جاءه قبض عليه وسجنه، وبعث إلى الجيش القرطاجني يقول إنه سيقتل أمير البحر إذا أبدى الجيش أية مقاومة. ورحب الجنود المرتزقة بهذه الحجة التي تتيح لهم فرصة تجنب القتال مع الفيالق الرومانية، وتظهرهم في الوقت نفسه بمظهر الشهامة، وسقطت مسانا في يد رومه.
وبرز في هذه الحرب البونية (الفينيقية) الأولى بطلان عظيمان هما رجيولوس الروماني وهملكار القرطاجني. ولعل في وسعنا أن نضيف إليهما ثالثاً ورابعاً هما مجلس شيوخ رومه والشعب الروماني. فأما مجلس الشيوخ فلأنه ضم هيرو صاحب سرقوسة إلى جانب رومه وضمن بذلك وصول العتاد والزاد إلى الجنود(9/94)
الرومان في صقلية، هذا إلى أنه قد نظم الأمة أحسن تنظيم قائم على الحكمة والسداد، وقوي عزيمتها، وقادها إلى النصر وسط الخطوب والأهوال الجسام. هذا فضل مجلس الشيوخ، أما الرومان أنفسهم فقد أمدوا الحكومة بالمال والعتاد، والأيدي العاملة، وبالرجال الذين بنوا لرومه أسطولها الأول- وكان مؤلفًا من 330 سفينة كلها تقريبًا ذات صفوف من المجدفين، ويبلغ طول الواحدة منها 150 قدمًا، في كل منها 300 مجذف و120 جنديًا، ومعظمها مجهز بخطاطيف من الحديد لم تكن معروفة من قبل، وبجسور متحركة تمكنهم من الإمساك بسفن الأعداء والنزول إليها. وبهذه الطريقة بدل الرومان الحرب البحرية التي لم يألفوها من قبل حربًا برية يقاتلون فيها أعدائهم يدًا بيد، وتستطيع فيها فيالقهم أن تستفيد بكل ما تمتاز به من مهارة وحسن نظام. ويقول بولبيوس في هذا: "ويدل هذا الحادث أكثر مما يدل غيره من الحوادث على ما للرومان من جرأة وبسالة إذا ما اعتزموا القيام بعمل خطير .. ذلك أنهم لم يفكروا قط قبل هذه الحرب في إنشاء أسطول؛ فلما أن استقر رأيهم على إنشائه بذلوا في ذلك جهد الجبابرة، وهاجموا به من فورهم القرطاجنيين الذين ظلوا عدة أجيال سادة البحار لا ينازعهم فيها منازع- مع أن الرومان لم تكن لهم في حرب البحار خبرة ما (14) ". والتقي الأسطولان بالقرب من إكنوموس Economus أحد الثغور الواقعة على ساحل صقلية الجنوبي؛ وكانا يحملان من الجند ثلاثمائة ألف. ودارت بينهما أكبر معركة بحرية في التاريخ القديم (256). وانتصر الرومان فيها انتصارًا مؤزرًا حاسمًا ساروا بعده إلى إفريقيا لا يلوون على شيء، ونزلوا إلى البر دون أن يعنوا باستطلاع الأرض، فالتقوا بقوة تفوق قوتهم كادت تفنيهم عن آخرهم، وأسرت قنصلهم الطائش المتهور. وبعد قليل من ذلك الوقت دفعت العواصف الأسطول الروماني إلى شاطئ صخري فتحطمت منه 284 سفينة وغرق 80. 000 من رجاله. وكانت هذه أعظم كارثة بحرية عرفها الناس في التاريخ. وأظهر(9/95)
الرومان بعدها ما في طبائعهم من عزيمة فبنوا في ثلاثة أشهر مائتي سفينة جديدة ذات خمسة صفوف من المجدفين، ودربوا لها ثمانين ألف بحار.
واحتفظ القرطاجنيون برجيولوس في الأسر خمس سنين ثم سمحوا له بأن يرافق قرطاجنية إلى رومه تعرض عليها الصلح بعد أن وعدهم بأن يعود إلى الأسر إذا رفض مجلس الشيوخ الشروط التي عرضوها عليه. فلما سمع رجيولوس هذه الشروط أشار على مجلس الشيوخ بأن يرفضها، ثم عاد مع البعثة إلى قرطاجنة غير عابئ بتوسل أسرته وأصدقائه. وعذبه القرطاجنيون عذابًا شديدًا بأن حرموا عليه النوم حتى فارق الحياة (15). وأمسك أبناؤه في رومه بأسيرين من ذوي المكانة في بلادهما في داخل صندوق ثبتت فيه حراب من الحديد، وحرموا عليهما النوم حتى قضيا نحبهما (16). وليس في مقدورنا أن نصدق كلتا القصتين إلا حين نذكر ما حدث من التعذيب الهمجي في هذه الأيام (1).
_________
(1) يريد في الحرب العالمية الثانية.(9/96)
الفصل الثالث
هملكار
لقد كان في قرطاجنة عدد كبير من أهلها يحملون أسماء هملكار وهزدروبال وهنيبال، ذلك بأن هذه الأسماء لا يخلو منها جيل من الأجيال، وكانت من الأسماء الشائعة في أقدم أسرها. وكانت أسماء تدل على التقي والصلاح، ومشتقة من أسماء الآلهة: فأما هملكار فمعناه: "من يتمتع بحماية ملكارت" وأما هزدروبال فمعناه "من في معونته بعل" ومعنى هنيبال "الفضل لبعل". ولقب هملكار الذي نتحدث عنه في هذا الفصل بهملكار برقة (1) -"الصاعقة" وذلك لأنه كان من طبيعته أن يعجل بضرب عدوه ويفاجئه حيثما وجده. وكان لا يزال شابًا في مقتبل العمر حين ولته قرطاجنة في عام 247 القيادة العليا لجيوشها، فسار ومعه أسطول صغير نحو إيطاليا وأخذ يغير على سواحلها ويفاجئها بالنزول في أراضيها، ويدمر المراكز الرومانية الأمامية، ويأسر كثيرًا من جنودها. ثم أنزل جنوده إلى البر في مواجهة جيش روماني كبير كان يحمي مدينة بنورمس Panormus ( بلرمو Palermo الحالية)، واستولى على ربوة تشرف على المدينة. وكانت القوة التي يقودها أصغر من أن تجازف بالاشتباك مع الرومان في واقعة كبرى، ولكنها كانت تعود بالأسباب كلما قادها لمهاجمتهم. وأخذ يرجو مجلس الشيوخ القرطاجني أن يبعث إليه بالأمداد والزاد؛ ولكن المجلس لم يستجب لرجائه وقبض يده فلم يسعفه بالمال الذي كان يكنزه، وأمره أن يطعم جنوده ويكسوهم من مال البلاد التي حوله.
_________
(1) وأكبر الظن أن كلمة "البرق" العربية ترجع هي وهذا اللفظ إلى أصل واحد. (المترجم)(9/97)
وكان الأسطول الروماني في هذه الأثناء قد انتصر في واقعة بحرية أخرى، ولكنه هزم هزيمة منكرة عند دربانا Drepana (249) ، وأضعفت هذه الحروب قوة الفريقين على السواء فاستراحا تسعة أعوام. ولم تفعل قرطاجنة شيئاً في هذه التسع السنين لأنها كانت تعتمد على عبقرية هملكار، وأما رومه فإن جماعة من أبنائها قدموا طائعين عمارة مؤلفة من مائتي سفينة حربية وعليها ستون ألف جندي. وأبحرت هذه العمارة القوية، دون أن يعلم أحد بإبحارها، وباغتت الأسطول القرطاجني عند جزائر إيجاديًا Aegadian Isles بالقرب من ساحل صقلية وأحدقت به فاضطرت قرطاجنة إلى طلب الصلح (241)، ونزلت عن أملاكها في صقلية إلى رومه, وتعهدت أن تؤدي لها غرامة حربية مقدارها 440 تالنتاً في كل عام مدى عشرة أعوام، وألغت كل ما كان مفروضاً على التجارة الرومانية من قيود. وكانت الحرب قد دامت عشرين عامًا أو نحوها وأشرفت رومه في خلالها على هاوية الإفلاس حتى اضطرت إلى تخفيض قيمة نقدها بنحو 83%، ولكنها برهنت على ما في أخلاق الرومان من صلابة لا تلين، وعلى تفوق الجيش المكون من رجال أحرار على مرتزقة الجند الذين يسعون للحصول على أعظم المغانم بأقل ما يمكن إراقته من الدماء.
وأوشكت قرطاجنة أن تقضي عليها شراهتها وأطماعها؛ ذلك أنها كانت قد قبضت يدها بعض الوقت عن جنودها المرتزقين، فلم تؤد إليهم أجورهم، ولم تستثن من هؤلاء من أخلصوا في خدمة هملكار. فأقبلت جموعهم على المدينة يطالبون بتلك الأجور، ولما تلكأت الحكومة في إجابة مطلبهم وحاولت أن تفرقهم تمردوا عليها جهرة. وانضمت الشعوب الخاضعة لقرطاجنة إلى هؤلاء العصاة، وكانت قد أبهظها عبء الضرائب الفادحة الذي رزحت تحته طوال الحرب. وباعت نساء لوبيا حليهن لتمد الثوار بالمال، وحاصر قرطاجنة عشرون ألفًا من الجنود المرتزقين والثوار يقودهم ماثو Matho وهو لوبي محرر واسبنديوس(9/98)
Spendius وهو عبد كمباني Campanian. وكان ذلك الحصار في وقت لا يكاد يوجد فيها جندي يحميها. وارتعدت فرائض التجار فرقًا وخشوا أن يقضي عليهم الثوار، فأرسلوا في طلب هملكار ليؤمنهم على حياتهم. وألفى هملكار نفسه يتنازعه عطفه على جنوده المرتزقة وحبه لمدينته، ولكنه آثر مدينته على جنده وجند جيشاً من عشرة آلاف قرطاجني ودربهم، وقادهم بنفسه، ورفع الحصار عن المدينة. وإرتد الجنود المرتزقون المهزومون إلى الجبال، وقطعوا يدي جسكو Gesco أحد القواد القرطاجنيين وقدميه، وكسروا ساقيه، وفعلوا ذلك الفعل نفسه بسبعمائة أسير غيره، ثم ألقوا بمن بقي منهم أحياء في قبر واحد بلا تمييز بينهم (17). واحتال هملكار على أربعين ألفًا من العصاة حتى اضطرهم إلى الالتجاء إلى مضيق، وسد عليهم مسالكه حتى أوشكوا على الهلاك من الجوع. فأكلوا من بقي لديهم من الأسرى، ثم أكلوا عبيدهم، واضطروا في آخر الأمر أن يرسلوا أسبنديوس Spendius بطلب الصلح، فما كان من هملكار إلا أن صلب أسبنديوس وألقي بمئات من الأسرى تحت أرجل الفيلة، وظلت تطؤهم حتى قضوا نحبهم. وحاول العصاة أن يشقوا لهم بالقوة مخرجاً من مأزقهم الذي وقعوا فيه، ولكن جيش هملكار قطع أصلابهم، وقبض على ماثو وأرغمه على أن يعدو في شوارع قرطاجنة وأهلها من ورائه يضربونه بالسياط ويعذبونه حتى مات (18). ودامت "حرب المرتزقة" هذه أربعين شهرًا (241 - 237)، ويقول بولبيوس "إنها كانت أفظع الحروب وأشدها وحشية، وإن ما سفك فيها من الدماء لم يسفك مثله في التاريخ كله (19) ". ولما أن خمدت نار الفتنة وجدت قرطاجنة أن الرومان قد احتلوا سردانية. فلما احتجت على هذا الاعتداء أعلن الرومان الحرب عليها. واضطر القرطاجنيون في يأسهم إلى طلب الصلح، ولم ينالوه إلا بأن يؤدوا لرومه فوق ما كانوا يؤدون لها من الغرامة 1200 تالنت، وأن يتخلوا عن سردانية وقورسقة.(9/99)
وفي وسعنا أن نتصور غضب هملكار من هذه المعاملة القاسية التي عوملت بها بلاده. فعرض على حكومته أن تمده بالجند والمال ليعيد قوة قرطاجنة في أسبانيا وليستعين بها مهاجمة إيطاليا. وعارض الملاك الأشراف في هذه الخطة لأنهم كانوا يخافون مغبة الحرب، ولكن طبقة التجار التي حز في نفوسها ما فقدته من الأسواق والثغور الأجنبية أيدته. وتراضت الفئتان بعدئذ على أن يعطى هملكار قوة صغيرة عبر بها البحر إلى أسبانيا (238)، واستولى على المدن التي كان ولاؤها لقرطاجنة قد تزعزع في أثناء الحرب، وقوى صفوف جيشه بأهلها، وجهزه وأمده بالمال من غلات المناجم الأسبانية، ومات وهو يقود هجوماً على إحدى قبائل تلك البلاد (229).
وترك وراءه في معسكره هزدروبال زوج ابنته وأولاده هنيبال وهزدروبال وماجو- الملقب "بابن أسده". واختير زوج ابنته قائدًا في مكانه، وظل ثماني سنسن يحكم البلاد بحكمة وسداد كسب في أثنائها معونة الأسبان، وأقام بجوار مناجم الفضة مدينة عظيمة يعرفها الرومان باسم قرطاجنة الجديدة ( Nova Carthage) وهي مدينة قرطاجنة الباقية إلى اليوم. ولما اغتيل في عام 221 اختار الجيش لقيادته هنيبال أكبر أبناء هملكار، وكان وقتئذ في السادسة والعشرين من عمره. وكان أبوه قد جاء به قبل أن يغادر قرطاجنة، وهو لا يزال غلاماً في التاسعة من عمره، إلى مذبح بعل- هامان واستحلفه أن يثأر لبلاده من رومه في يوم من الأيام. وأقسم هنيبال ولم ينس قط قسمه.(9/100)
الفصل الرابع
هنيبال
ترى لمَ سكتت رومه حتى عادت قرطاجنة إلى فتح أسبانيا؟ لقد أرغمها على هذا السكوت أن النزاع بين الطبقات كان يمزق أحشاءها، وأنها كانت تمد سلطانها على شواطئ البحر الأدرياوي، وكانت مشتبكة في حرب من الغالبين. ذلك أن أحد التربيونين وهو كيوس فلامينيوس Caius Flaminius قد سبق ابني جراكس Gracchii فأقنع الجمعية في عام 232 بالموافقة على اقتراح يقضي بتوزيع أراضي غنمتها رومه من الغالبين على فقراء المواطنين، وذلك بالرغم من معارضة مجلس الشيوخ الشديدة لهذا الاقتراح. وفي عام 230 خطت رومه الخطوة الأولى لفتح بلاد اليونان، وذلك بتطهير البحر الأدرياوي من القراصنة وباستيلائها على جزء من سواحل ألبريا lilyria لتحمي بذلك التجارة الإيطالية من العدوان. ولما أن اطمأنت على سلامتها من ناحيتي الجنوب والشرق اعتزمت أن تطرد الغاليين إلى ما وراء جبال الألب، وتجعل من لإيطاليا بأكملها دولة متحدة كل الاتحاد. وأرادت أن تضمن سلامتها من ناحية الغرب فعقدت معاهدة مع هزدروبال تعهد فيها القرطاجنيون بأن يبقوا جنوب نهر الإبرة Ebro، وعقدت في الوقت نفسه حلفًا مع مدينتي سجنتم Saguntum وامبورياس Ampurias الأسبانيتين الإغريقيتي الصبغة. ولكن جيشاً غالياً مؤلفاً من خمسين ألفاً من المشاة وعشرين ألفاً من الفرسان إنقض على شبه الجزيرة من الشمال. وارتاع سكان العاصمة أشد الارتياع، ولجأ مجلس الشيوخ إلى العادة البدائية عادة التضحية البشرية، ودفن اثنين من الغالة حيين في السوق العامة مرضاة للآلهة (20). والتقت الفيالق الرومانية بالغزاة قرب تلامون Telamon وقتلت منهم أربعين ألفاً وأسرت عشرة(9/101)
آلاف، وزحفت نحو الشمال لتخضع جميع بلاد الغاليين الواقعة في جنوب جبال الألب، وأنمت هذا العمل في ثلاث سنين وأنشأت مستعمرات رومانية عند بلاسنتيا Placentia، وكرمونا Cremona لحماية البلاد من الغاليين وبذلك أصبحت إيطاليا دولة واحدة تمتد من جبال الألب في الشمال إلى صقلية في الجنوب.
ولكن هذا النصر قد جاء في غير أوانه؛ فلو أن الغاليين قد تركوا في أماكنهم بضع سنين أخرى لكان في وسعهم أن يقفوا في وجه هنيبال؛ أما والحال كما هي فإن بلاد الغالة كلها كانت تضطرم بنار الثورة على رومه. ورأى هنيبال أن هذه هي الفرصة التي طالما تاقت نفسه إليها- فرصة اجتياز بلاد الغاليين دون أن يلقي مقاومة تستحق الذكر، وغزو إيطاليا ومعه القبائل الغالية تحالفه وتشد أزره.
وكان القائد البوني يومئذ في الثامنة والعشرين من عمره، وفي عنفوان شبابه، وثيق الأركان ثبت الجنان. وكان قد جمع إلى ثقافة السادة القرطاجنيين، وتمكنهم من لغتي فينيقية وآدابهما وتاريخهما (21)، جمع إلى هذه الثقافة تدريباً عسكرياً دام عشر عاماً في المعسكر الحربي، أدب في خلالها نفسه أحسن تأديب، فعود جسمه شظف العيش ومغالبة الصعاب، وأخضع شهواته لعقله، وعود لسانه السكوت، كما عود أفكاره أن تركز فيما يهدف إليه من الأغراض. ولم يكن يضارعه أحد في الجري أو في سباق الخيل، وكان في مقدوره أن يخرج إلى الصيد أو القتال مع أشجع الشجعان؛ ويصفه ليفي وهو من أعدائه بأنه: "كان أول من يدخل المعمعة، وآخر من يخرج من الميدان (22) ". وكان محببًا إلى القواد والجنود الذين ضرستهم الحروب، لأنهم إذا كانوا في حضرته تمتلكهم هيبته وثاقب نظراته فخالفوا أن هملكار قائدهم الأكبر قد عاد إليهم في عنفوان الشباب. وأحبه المجندون الجدد لأنه لم يكن يرتدي ثياباً يميز(9/102)
بها نفسه منهم ولا يستريح حتى يكفل للجيش كل حاجاته، وكان يقسمهم كل ما يصيبهم من شر وخير. أما الرومان فكانوا يتهمونه بالبخل والقسوة والغدر، لأنه لم يكن يتقيد بمبدأ من المبادئ يحول بينه وبين الاستيلاء على المؤن لجنده، وكان يجازي على الخيانة وعدم الولاء أشد الجزاء، وكان ينصب لأعدائه كثيرًا من الشراك. ولكننا كثيراً ما نجده مشفقاً رحيماً، ونراه على الدوام شهماً ذا مروءة. ويقول عنه ممسن Mommsen ذلك القول الحكيم وهو "أنه ليس فيما يروى عنه شيء لا يمكن أن تبرره ظروف وقته والقوانين الدولية التي كانت سائدة في أيامه (23) ". ولم يكن في وسع الرومان أن يرضوا عنه لأنه كان يكسب الوقائع الحربية بعقله لا بدماء رجاله، ذلك أن الحيل التي كان يحتال بها عليهم، ومهارته في التجسس عليهم ومعرفة أسرارهم، وعلمه بفنون الحرب والحركات العسكرية، وقدرته على مباغتة أعدائه، كل هذا ظل فوق إدراكهم وتقديرهم حتى دمرت قرطاجنة.
وحدث في عام 219 ق. م أن دبر عمال رومه في سجنتم انقلاباً سياسياً أقام في المدينة حكومة وطنية معادية لقرطاجنة. ولما أساء أهل المدينة معاملة بعض القبائل الموالية لهنيبال، وأمرهم بالكف عن هذه المعاملة السيئة، فلما رفضوا طلبه حاصر المدينة، فاحتجت رومه على قرطاجنة وأنذرتها بالحرب؛ فكان رد قرطاجنة أن سجنتم تبعد عن نهر إبره Ebro مائة ميل نحو الجنوب، وأن ليس من حق رومه أن تتدخل في هذا النزاع، وأنها إذ وقعت معاهدة مع تلك المدينة أخلت بشروط معاهدتها مع هزدروبال. وواصل هنيبال الحصار، وامتشقت رومه الحسام مرة أخرى، وهي لا تدري أن هذه الحرب البونية الثانية ستكون أشد هولاً من جميع الحروب التي خاضت غمارها في تاريخها كله.
وقضي هنيبال في إخضاع أهل سجنتم ثمانية أشهر كاملة، وذلك لأنه لم يكن يجرؤ على التقدم لغزو إيطاليا ويترك لرومه من ورائه ثغرًا هاماً(9/103)
تستطيع أن تنزل جنودها فيه. فلما تم له الاستيلاء عليها عبر نهر الإبرة في عام 218 وتحدى الأقدار كما تحداها قيصر من بعده حين تخطى الربيكون (1) Rubicon. وكان تحت قيادته جيش يتألف من خمسين ألفاً من المشاة وتسعة آلاف من الفرسان، ليس فيهم أحد من الجنود المرتزقين، ومعظمهم من الأسبان واللوبيين. ولكن ثلاثة آلاف من جنوده الأسبان نكصوا على أعقابهم حين علموا أنه ينتوي عبور جبال الألب، وسرح هو نفسه سبعة آلاف غيرهم لأنهم احتجوا على هذه المغامرة، وقالوا إنها مستحلية التحقيق (24). وكان اختراق جبال البرانس نفسها من أشق الأعمال؛ ولم يكن يتوقع قط أن يلقي ما يلقيه من المقاومة الشديدة من بعض قبائل الغاليين أحلاف مرسيلية؛ واقتضاه الوصول إلى نهر الرون حروباً دامت ثمانية أشهر، فلما وصله كان لابد له من معركة عنيفة ليتمكن من اجتيازه. وما كاد يبتعد عن شاطئيه حتى وصل جيش روماني عند مصبه.
واتجه هنيبال بجيشه شمالاً نحو فين Vienne ثم اتجه به شرقًا نحو جبال الألب. وكانت جموع من الكلت قد عبرت هذه السلاسل الجبلية من قبله، وكان في مقدوره هو أن يعبرها دون أن يلقى في سبيل ذلك صعابًا غير عادية لولا عداء القبائل الألبية وما عاناه من الصعاب في تسيير فيلته في الممرات الضيقة أو الشديدة الانحدار. وقضى هنيبال في تسلق الجبال تسعة أيام وصل بعدها في أوائل شهر سبتمبر إلى قممها فوجدها مغطاة بالثلوج؛ وبعد أن استراح هو ورجاله ودوابه يومين شرع في النزول في ممرات أشد وعورة من التي سلكها في الصعود، وطرق مغطاة في بعض الأحيان بجلاميد من الصخر ومرصوفة في أحيان أخرى بالجليد. وكثيرًا ما كانت أقدام الجنود والدواب فتتردى في هاويات سحيقة تلقى فيها حتفها. وكان هنيبال يستحث جنوده اليائسين بأن يشير إلى الحقول الناضرة والمجاري المتلألئة التي تنتشر من بعيد جنوب الجبال،
_________
(1) انظر هذا في تاريخ قيصر فيما بعد. (المترجم)(9/104)
ويقول إن هذه الجنة التي وعدهم بها سوف تكون لهم بعد قليل. وبعد أن قضوا سبعة عشر يومًا في الصعود والهبوط وصلوا إلى السهول، وألقوا عصا التسيار ليستريحوا، وقد خسر الجيش في هذه المجازفة الخطيرة كثيرًا من الرجال والجياد حتى لم يبق من الجنود إلا ستة وعشرون ألفًا أي أقل من نصف القوة التي غادر بها قرطاجنة الجديدة منذ أربعة شهور. ولو أن هنيبال لقي من الغاليين في جنوب الألب مثل ما لقيه من مقاومة الغاليين في غربها لكان الأرجح أن تنتهي حملته قبل أن يتقدم جنوبًا في إيطاليا؛ ولكن البوئي Boii وغيرهم من القبائل رحبوا به ورأوا فيه منقذًا لهم، فتحالفوا معه وانضووا تحت لوائه، وأما المستعمرون الرومان المحدثون الذين أسكنتهم رومه في تلك البلاد فقد فروا أمامه نحو الجنوب، ولم يقفوا حتى عبروا البو Po.
وهكذا واجه مجلس الشيوخ هذا الخطر الثاني يهدد رومه بالدمار والفناء ولما يمض على الخطر الأول إلا نحو سبع سنين، فاستعان بموارد البلاد كلها، وأهاب بالولايات الإيطالية أن توحد جهودها للدفاع عن بلادها. وبفضل ما لقيته من معونتها جندت رومه جيوشاً بلغت ثلاثمائة ألف من المشاة، وأربعة عشر ألفًا من الفرسان، وستة وخمسين ألفًا وأربعمائة ألف من الجنود الاحتياطيين. والتقى أحد الجيوش الرومانية بقيادة سبيو Scipio- وهو واحد من كثير من مشهوري القواد المسمين بهذا الاسم- على شاطئ نهر تسينو Ticino، وهو رافد صغير من روافد نهر البو يلتقي به عند بافيا Pavia. وهاجم فرسان هنيبال النوميديون Numidian جنود سبيو وولوهم الأدبار، وجرح سبيو جرحًا خطيرًا، وكاد أعداؤه يجهزون عليه لولا شجاعة ولده الذي شاءت الأقدار أن يلقي هنيبال مرة أخرى عند زاما Zama بعد ستة أشهر من ذلك الوقت. والتقى هنيبال بجيش روماني آخر عند بحيرة ترزميني Trasimene تبلغ عدته ثلاثين ألف مقاتل يقوده التربيون كيوس فلامينيوس Caius Flamimius، ويتبعه عدد من النخاسين(9/105)
يحملون الأغلال ليسلكوا فيها الأسرى الذين يأملون أن يبيعوهم في الأسواق بيع العبيد. واستطاع هنيبال ومعه جزء من جيشه أن يخدع جيش فلامينيوس فيستدرجه إلى سهل تكتنفه التلال والغابات اختبأ فيها معظم جنوده؛ فلما ضمه هذا السهل أشار إلى طوابيره المختبئة فانقضت على الرومان من كل الجهات وأفنتهم عن آخرهم تقريباً؛ وقتل فلامينيوس نفسه (217).
وبذلك سيطر هنيبال على شمالي إيطاليا كله، ولكنه كان يعرف أن أمامه عدوًا عنيدًا يبلغ عدده عشرة أضعاف عدد رجاله، وكان أمله الوحيد في التغلب على هذا العدو هو أن يقنع بعض الولايات الإيطالية بالخروج على رومه. وكانت وسيلته إلى هذا أن أطلق سراح كل من وقع في أسره من أحلاف رومه، وقال إنه لم يأت ليحارب إيطاليا بل جاء ليحررها من الاستعمار. ثم خاض إتروريا التي كانت تغمرها المياه، وظل أربعة أيام كاملة لا يجد أرضًا جافة يقيم فيها معسكره، فعبر جبال الأبنين إلى شاطئ البحر الأدرياوي، حيث سمح لجنوده أن يقضوا فترة طويلة يستعيدون فيها نشاطهم، ويداوون فيها جراحهم، وكان هو نفسه مصابًا برمد خطير في عينيه، ولكنه لم يعالجه فانتهى بفقد إحداهما. وبعد أن استراح جيشه اتجه به نحو الجنوب بمحاذاة ساحل إيطاليا الشرقي، وأخذ يعرض على القبائل الإيطالية أن تنضوي تحت لوائه، ولكن واحدة منها لم تستجب لدعوته، بل فعلت عكس هذا فكانت كل مدينة تغلق أبوابها دونه وتتأهب للقتال. وحينما اتجه إلى الجنوب أخذ حلفاؤه الغاليون يتخلون عنه لأنهم لم يكن يعنيهم إلا مصير موطنهم في الشمال. وبلغ من كثرة المؤامرات التي دبرت لاغتياله أن صار يتخفى في كل يوم بشكل جديد. وأخذ يتوسل إلى حكومته أن ترسل إليه المدد والعتاد والزاد عن طريق الثغور الواقعة على البحر الأدرياوي، ولكن حكومته خيبت رجاءه، فطلب إلى هزدروبال أخيه الأصغر- وكان قد تركه في أسبانيا- أن يعد فيها جيشًا يعبر به بلاد غالة وجبال الألب وينضم(9/106)
إليه؛ ولكن الرومان كانوا قد غزوا أسبانيا، فلم يجرؤ هزدروبال على مغادرتها؛ ومضت عشر سنين قبل أن يخف إلى نجدته.
واستعانت رومه على عدوها الأكبر بخطته هو نفسه، خطة المراوغة والحيطة والإفناء البطيء. واختير كونتس فابيوس مكسموس Quintus Fabius Makimus دكتاتورًا لعلاج الموقف في عام 217، فاتبع خطة تقضي بأن يؤخر ما استطاع الالتحام في واقعة فاصلة مع هنيبال، ونجح في هذا نجاحًا اشتق معه من اسمه وصف لهذا النوع من القتال. وكان فابيوس يرى أن الغزاة سيتناقص عددهم على مر الأيام بفعل الجوع والمرض والشقاق، ولكن الشعب الروماني لم يطق صبرًا على خطة "السكون السديدة" أكثر من عام؛ وتغلبت الجمعية المئوية على مجلس الشيوخ وعلى منطق الحوادث والسوابق جميعها، واختارت منوسيوس روفوس Minucius Rufus دكتاتورًا مع فابيوس. وسار منوسيوس لملاقاة العدو على الرغم من نصيحة فابيوس، فوقع في كمين وهزم هزيمة منكرة أدرك بعدها لم قال هنيبال إنه يخشى فابيوس الذي لم يحاربه أشد مما يخشى مرسلس Marcellus الذي يبغى حربه (25). وبعد عام واحد أسقط الرومان فابيوس وعهدوا إلى لوسيوس إيمليوس بولوس Lucius Aemilius Paulus، وكيوس ترتنيوس فارو Caius Terentius Varro قيادة الجيوش الرومانية. وأشار بولوس الأرستقراطي بالحيطة والتريث، أما فارو مختار العامة فكان شديد الرغبة في العمل العاجل، وحدث ما يحدث عادة في مثل هذه الأحوال فتغلب الرأي الأخير، وأخذ فارو يبحث عن القرطاجنيين حتى وجدهم عند كاني Cannae من أعمال أبوليا Apulia على بعد عشرة أميال أو نحوها من شاطئ البحر الأدرياوي. وكان قوام الجيش الروماني ثمانين ألف راجل وستة آلاف فارس؛ أما هنيبال فكان لديه تسعة عشر ألف جندي ممن ضرستهم الحروب، وستة عشر ألفًا من الغاليين الذين لا يوثق بهم، وعشرة آلاف من الفرسان؛ وكان قد خدع فارو حتى جعله يحاربه في سهل(9/107)
متسع هو أحسن المواضع لحرب الفرسان، وكان قد وضع الغاليين في القلب لظنه أنهم سيتخلون عن مواقعهم، وقد صدق ظنه فتراجعوا واقتفى الرومان أثرهم في الثغرة التي حدثت بانسحابهم، فأمر القائد القرطاجني الماكر مضرسة جنده بالإطباق على جناحي الجيش الروماني، وخاض بنفسه غمار المعمعة في أشد أماكنها هولاً، كما أمر فرسانه باختراق صفوف فرسان العدو ومهاجمة الفيالق الروماني من خلفها. وبذلك أحاط القرطاجنيون بالجيش الروماني، ولم يجد له فرصة للتحرك، وكاد يفنى عن آخره؛ فقد قتل من رجاله أربعة وأربعون ألفًا، من بينهم بولوس Paulus وثمانون من الشيوخ الذين تطوعوا في الجيش، وفر عشرة آلاف إلى كنوزيوم Canusium ومن بينهم فارو وسبيو الذي لقب فيما بعد بالإفريقي الأكبر Africanus Major (216) . أما هنيبال فقد خسر من رجاله ستة آلاف ثلثاهم من الغاليين. وكان نصره هذا شاهداً فذاً على براعته في القيادة التي لم يتفوق عليه أحد فيها في التاريخ كله. ولم يعد الرومان بعد هذا النصر يعتمدون قط على الجنود المشاة، كما أن هذا النصر وجه الحركات العسكرية الفنية وجهة لم تتحول عنها مدى ألفي عام.(9/108)
الفصل الخامس
سبيو
وزعزعت هذه الكارثة هيبة رومه في جنوبي إيطاليا وضعضعت سلطانها، فانضم السمنيون والبروتيون واللوكانيون وأهل متابنتم، وثوراي، وكروتونا، ولوكري، وكبوا%=@@ Samnites, Bruttians, Lucanians, Melpontum, Thurii,Cotona, Locri, Capua إلى الغاليين الجنوبيين في حلفهم مع هنيبال، ولم يلبث على الولاء لرومه إلا أمبريا، ولاتيوم، وإتروريا. وظل هرو صاحب سرقوسة وفياً حتى مماته، ولكن خلفه جهر بانضمامه إلى قرطاجنة. وتحالف فليب الخامس ملك مقدونية مع هنيبال لأنه كان يخشى أن تبسط رومه سلطانها على البلاد الواقعة في شرق أوربا عن طريق إليريا Illyria، وأعلن الحرب على رومه. وأظهرت قرطاجنة نفسها شيئًا من الاهتمام بالأمر فبعثت إلى هنيبال بقليل من الزاد والعتاد؛ وظن بعض الشبان من النبلاء الذين نجوا من كارثة كنوزيوم أن لا أمل لرومه في النجاة، وفكروا في الهرب إلى بلاد اليونان، ولكن سبيو ظل يندد بموقفهم حتى استحوا ودبت فيهم روح الشجاعة. وقضت رومه شهراً كاملاً وهي في أشد حالات الروع؛ ولم يكن فيها إلا حامية قليلة تدفع عنها هنيبال إذا ما هاجمها. وهرعت كرائم العقائل إلى الهياكل يبكين وينظفن بشعورهن تماثيل الآلهة، وعاشرت بعض النساء اللائي قتل أزواجهن وأبناؤهن في الحروب الأجانب والرقيق خشية أن ينقطع نسلهن. وظن مجلس الشيوخ أن الآلهة غضبى فأحل مرة أخرى التضحية بالآدميين مرضاة لها، وأمر بدفن اثنين من الغاليين واثنين من اليونان أحياء (26).
ولكن الرومان على حد قول بولبيوس إنما "يُخشون أشد الخشية في ساعة(9/109)
المحنة .... وشاهد ذلك أنهم وإن منوا بأشد الهزائم، وخسروا سمعتهم الحربية، استطاعوا، بفضل ما كان لدستورهم من المزايا التي لا يشاركه فيها دستور غيره، وبالاستماع إلى حسن المشورة، أن يستردوا سيادتهم على إيطاليا ... وأن يصبحوا بعد قليل من السنين سادة العالم (27) ". وفي هذه الساعة الرهيبة سكنت حرب الطبقات، وتدافعت كل الطوائف للعمل على إنقاذ الدولة. وكانت الضرائب قبل ذلك الوقت قد ارتفعت حتى ظن أنهم لن يطيقوها، ولكن السكان، ومنهم الأرامل والأطفال، تقدموا راضين لخزانة الدولة بما كانوا قد ادخروه لأيام الشدة. وجند كل رجل قادر على حمل السلاح، وحتى الأرقاء قد قبلوا في الفيالق ووعدهم أسيادهم بأن يهبوهم حريتهم إذا كتب النصر لرومه، ولم يرض جندي واحد أن يتناول عن عمله أجراً، واستعدت رومه لتنازع أسد قرطاجنة الجديد كل شبر من أرضها.
وانتظرت رومه مجيء هنيبال، ولكن هنيبال لم يأت إليها، فقد ظن أن قوته المؤلفة من أربعين ألف مقاتل أقل من أن تحاصر مدينة تتجمع للدفاع عنها جيوش من جميع الولايات التي لا تزال موالية لها، ولا يستطيع الاحتفاظ بها لو أنه استولى عليها. هذا إلى أن أحلافه من الإيطاليين لم يكونوا مصدر قوة له بل كانوا مصدر ضعف، فقد كانت رومه وأصدقاؤها يعدان العدة لمهاجمة أولئك الأحلاف، وإذا لم يخف هو لنجدتهم فسيقضي عليهم. وقد لامه رجاله على حذره وبطئه، وقال له واحد منهم والأسف يحز في نفسه: "إن الآلهة لم تمنح كل مواهبها لرجل واحد؛ أنك ياهنيبال تعرف كيف تنال النصر، ولكنك لا تعرف كيف تنتفع به (28) ". لكن هنيبال استقر رأيه على أن ينتظر حتى تنضم إليه قرطاجنة، ومقدونية، وسرقوسة فيؤلف منها حلفاً ثلاثياً يستعيد به صقلية وسردانية، وقورسقة، وإليريا فلا يكون لرومه قوة إلا في إيطاليا. وبدأ بإطلاق الأسرى جميعهم عدا الرومان، وحتى هؤلاء عرضهم على رومه نظير فدية قليلة،(9/110)
فلما رفض مجلس الشيوخ أن يفتديهم أرسل معظمهم عبيدًا إلى قرطاجنة، وأرغم الباقين على أن يسلوا رجاله بأن يصارع بعضهم بعضاً في حلبة الجلاد حتى الممات كما يفعل الرومان. ثم أحاط بعدة مدن واستولى عليها وسار بجيوشه ليقضي الشتاء في كبوا Capua.
وكانت كبوا أجمل المدن التي كان في مقدوره أن يختارها لهذه الغاية وأشدها خطرًا عليه. ذلك أن هذه المدينة، وهي ثانية المدن الإيطالية، والتي تبعد عن نابلي نحو إثنى عشر ميلاً إلى الشمال، قد أخذت عن التسكانيين واليونان رذائل الحضارة كما أخذت عنهم فضائلها؛ وأحس جنود هنيبال أن من حقهم أن يستمتعوا في ذلك الفصل بالملاذ الجسمية بعد ما قاسوا من الصعاب وما أثخنوا من الجراح؛ ولم يعودوا كما كانوا من قبل أولئك الجند الشداد الذين لا يقهرون، والذين احتفظوا طوال ما خاضوه من الحروب بالصورة الإسبارطية التي كانت في اعتقاد قائدهم هي وحدها صورة الجندي الحق. وقادهم هنيبال في خلال الخمس السنين التالية وانتصر بهم في بعض الوقائع الصغيرة، وفي هذه الأثناء ضرب الرومان الحصار على كبوا. وأراد هنيبال أن يرفع عنها الحصار فتقدم إلى رومه حتى لم يبق بينه وبينها إلا بضعة أميال؛ وجند الرومان خمسًا وعشرون فرقة جديدة- أي مائتي ألف رجل، ولم تكن قوة هنيبال قد زادت على أربعين ألفًا، فاضطر إلى الانسحاب نحو الجنوب، وسقطت كبوا في أيدي الرومان عام 211، وقطعت رؤوس زعمائها الذين أباحوا قتل من كان من الرومان في المدينة؛ ومن لم يقتل منهم انتحر؛ وشتت أهلها الذين ناصروا هنيبال في جميع أنحاء إيطاليا، وكان مرسلس Marcellus قبل عام واحد من ذلك الوقت قد استولى على سرقوسة وبعد عام منه استسلمت أرجنتم لرومه.
وأرسل إلى أسبانيا في هذه الأثناء جيش روماني بقيادة سبيو وأخيه الكبيرين ليناوشا هزدروبال ويشغلاه، فهزماه عند نهر إبره (215)، ولكن القائدين قتلا في الميدان بعد قليل، وكادت تضيع ثمار ما كسباه(9/111)
من النصر لولا أن أرسل إلى أسبانيا سبيو الإفريقي Scipio Africanus، ابن أحد القائدين وابن أخ الثاني، ليتولى قيادة الجيوش الرومانية فيها، ولم يكن سبيو هذا قد تجاوز الرابعة والعشرين من عمره في ذلك الوقت، ولم تكن هذه السن تجيز له من الوجهة القانونية أن يشغل هذا المنصب الخطير؛ ولكن مجلس الشيوخ كان في ذلك الوقت لا يرى ضيرًا في أن يتجاوز عن حرفية الدستور إذا كان في ذلك التجاوز نجاة الدولة، وكانت الجمعية قد رضيت مختارة أن تخضع لإرادة الشيوخ، ولم يكن الشعب يعجب به لبهاء طلعته وفصاحة لسانه وذكائه وشجاعته فحسب، بل كان يعجب به كذلك لتقواه، وعدالته، وبشاشته. وكان من عادته قبل أن يقدم على أمر خطير أن يناجي الآلهة في الهياكل المقامة على الكبتول، كما كان من عادته بعد أن ينال النصر أن يكافئها بذبح مئات من الثيران قرباناً لها. وكان يعتقد، أو لعله كان يتظاهر بالاعتقاد، أنه محبوب الآلهة؛ وكانت انتصاراته سبباً في انتشار هذه العقيدة بين أتباعه فملأت قلوبهم ثقة به. وما لبث أن أعاد النظام إلى الجيش، واستولى على نوفا كرتاجو (قرطاجنة الجديدة) بعد حصار طويل، وحرص على أن يبعث إلى خزانة الدولة بما وقع في يديه بعد سقوطها من المعادن الثمينة والحجارة الكريمة، واستسلمت له بعدئذ معظم المدن الأسبانية، ولم يحل عام 205 حتى كانت أسبانيا ولاية رومانية.
ولكن قوة هزدروبال الرئيسية كانت قد أفلتت من يد سبيو واجتازت بلاد غالة وعبرت جبال الألب إلى إيطاليا. ووقعت الرسالة التي بعث بها القائد الشاب لهنيبال في يد الرومان، وعرفت رومه خططه الحربية. والتقى جيش روماني بقوته الصغيرة عند نهر متورس Metaurus (207) وهزمته رغم مهارته في القيادة. ولما رأى هزدروبال أن قد حاقت به الهزيمة وأن لا أمل له في الوصول إلى أخيه، قفز في وسط الفيالق الرومانية حيث لقي حتفه. ويقول القائد المنتصر قطع رأس القائد الشاب،(9/112)
وبعث بها بطريق أبوليا ليقذف بها من فوق الأسوار في معسكر هنيبال. ولما علم ذلك القائد بما حل بأخيه، وكان يحبه أشد الحب، فت في عضده، وطفئت جمرته، فسحب قواته، وكانت قد قل عديدها، إلى برتيوم Bruttium. ويقول ليفي إن "الرومان لم يشتبكوا معه في حرب في ذلك العام، وإنهم لم يجرؤا على مناوشته، وذلك لما عرف عن قواته من البسالة وإن كان ركنه قد تضعضع وأخذت الأقدار تعاكسه، وبدأ نجمه في الأفول (29) ". وأرسلت إليه قرطاجنة مائة سفينة محملة بالزاد والرجال، ولكن عاصفة هوجاء ساقتها إلى سردانية فالتقت فيها بعمارة بحرية رومانية أغرقت وأسرت منها ثمانين، وانطلقت السفن الباقية عائدة إلى بلادها.
واختير سبيو الأصغر قنصلاً في عام 205 ولما يمض على انتصاره في أسبانيا إلا وقت قصير، فجند جيشاً جديداً وأبحر به إلى إفريقية. وطلبت الحكومة القرطاجنية إلى هنيبال أن يعود إلى بلاده ليدافع عن المدينة التي ظلت زمنًا طويلاً ترفض معاونته. ترى ماذا كان شعور هذا الجندي الأعور وقد تألب عليه أعداء لا حصر لهم فساقوه إلى ركن قصي في إيطاليا، وشاهد بعينيه ما بذله من الجهد وما عاناه من المشاق خلال خمسة عشر عاماً كاملة ينتهي إلى لا شيء، وكل ما ظفر به من نصر حربي يقضي عليه فلا تكون له نتيجة إلا الفرار من الميدان؟ لقد أبى نصف جنوده أن يعودوا معه إلى قرطاجنة، ويقول بعض من يعادونه من المؤرخين إنه أمر بقتل عشرين ألفًا منهم عقاباً لهم لأنهم خالفوا أمره، ولأنه كان يخشى أن تضمهم رومه إلى فيالقها (30). فلما أن وطئت قدماه أرض بلاده، بعد أن غاب عنها ستة وثلاثين عاماً بادر إلى حشد جيش جديد وسار على رأسه لملاقاة سبيو عند زاما Zama على بعد خمسين ميلاً جنوبي قرطاجنة (202). وتقابل القائدان في بداية المعركة مقابلة ودية، فلما وجدا أن لا سبيل إلى الاتفاق بينهما أصدرا أمرهما ببدء القتال.(9/113)
وهزم هنيبال للمرة الأولى في حياته، فقد تضعضع القرطاجنيون، وكان معظم من الجند المرتزقة، أمام مشاة الرومان وفرسان مسينسا Massinissa ملك نوميديا المجازفين الأبطال. وقاتل هنيبال وهو في سن الخامسة والأربعين كما كان يقاتل وهو في نضرة الشباب، فهجم على سبيو بنفسه وجرحه، ثم ثنى بمسينسا، وأعاد تنظيم قواه بعد أن اختل نظامها أكثر من مرة، وقادها في هجمات مضادة شديدة على الأعداء. فلما لم يبق له أمل في النصر أفلت من الأسر وسار على ظهر جواده إلى قرطاجنة، وأعلن أنه لم يخسر الموقعة فحسب بل خسر الحرب كلها معها، وأشار على مجلس الشيوخ بأن يطلب الصلح. وعامل سبيو القرطاجنيين معاملة الكرام فرضى أن تحتفظ قرطاجنة بأملاكها في إفريقية، ولكنه طلب إليها أن تسلم لرومه جميع سفنها الحربية عدا عشر من ذات الثلاثة الصفوف من المجدفين، وألا تشتبك في حرب خارج إفريقية أو داخلها إلا بعد موافقة رومه، وأن تؤدي إليها غرامة حربية سنوية مقدارها مائتا تالنت أي ما يقرب من 720. 000 ريال أمريكي مدى خمسين عامًا. وأعلن هنيبال أن هذه الشروط عادلة وأشار على مجلس الشيوخ بقبولها.
وغيرت الحرب البونية الثانية وجه البحر الأبيض المتوسط من ناحيته الغربية، فقد سيطرت رومه بعدها على أسبانيا كلها وما فيها من ثروة فأمدتها بما يلزمها من المال لفتح بلاد اليونان، وأعادت إلى إيطاليا وحدتها تحت سيادة رومه لا ينازعها فيها منازع، وفتحت جميع الطرق والأسواق للسفن والبضائع الرومانية؛ ولكنها كانت أكثر الحروب القديمة جميعها نفقة، فقد خربت مزارع إيطاليا الجنوبية أو ألحقت بها أشد الأضرار، وهدمت أربعمائة من مدنها، وأهلكت ثلاثمائة ألف من رجالها (31)؛ ولم تفق إيطاليا الجنوبية حتى اليوم من جميع ما أصابها من هذا الدمار. يضاف إلى هذا أن هذه الحرب قد أضعفت الديمقراطية إذ أظهرت أن الجمعيات الشعبية عاجزة عن أن تحسن اختيار القواد أو إدارة دفة الحروب؛ وكانت سببًا فيما طرأ على حياة الرومان وأخلاقهم من انقلاب، فقد(9/114)
أضرت بالزراعة وشجعت التجارة، وانتزعت الرجال من الريف، وعلمتهم عنف الحروب ومفاسد حياة المعسكرات، وجاءت بمعادن أسبانيا النفيسة لتنفق على ملاذ الحياة وعلى التوسع الاستعماري، وأمكنت إيطاليا من أن تعيش على ما اغتصبته من قمح أسبانيا وصقلية وإفريقية، وقصارى القول أن هذه الحرب كانت المحور الذي يدور حوله تاريخ رومه من جميع نواحيه.
هذه آثار الحرب في رومه، أما في قرطاجنة فقد كانت بداية نهايتها. لقد كان في وسعها، وقد احتفظت بجزء كبير من تجارتها وإمبراطوريتها، أن تحل ما يواجهها من مشاكل الإنعاش؛ ولكن حكومتها الألجراكية قد بلغت من الفساد مبلغًا جعلها تلقي على كاهل الطبقات الدنيا عبء الغرامة الحربية، وأن تختلس جزءاً من هذه الغرامة. وطلبت طوائف الشعب إلى هنيبال أن يخرج من عزلته وينقذ الأمة من محنتها، واختير في عام 196 حاكماً عاماً لها. فلما تولى منصبه روع سراة المدينة إذ اقترح ألا يبقى قضاة المحكمة البالغ عددهم 104 في مناصبهم أكثر من سنة واحدة، وألا يعاد انتخابهم إلى هذه المناصب إلا بعد عام من خروجهم منها. فلما رفض مجلس الشيوخ هذا الاقتراح عرضه على الجمعية الشعبية فأجازته، وكانت نتيجة هذا القانون وما اتبع فيه من إجراء أن أنشأ من أقصر طريق نوعاً من الديمقراطية لا يقل عن مثيله في رومه. ثم حارب الرشوة واجتثها من أصولها، وأنزل بالمرتشين أشد العقاب، ورفع عن الأهلين ما فرض عليهم من الضرائب الإضافية، ودبر موارد الدولة تدبيرًا استطاعت به قرطاجنة قبل أن يحل عام 188 أن تؤدي جميع ما فرضته عليها رومه من غرامة حربية.
لكن أرباب الأموال أرادوا أن يتخلصوا منه فبعثوا في السر إلى رومة يقولون إن هنيبال يعد العدة لاستئناف القتال. وبذل سبيو كل ماله من نفوذ ليحمي عدوه القديم، ولكنه غلب على أمره. واستجاب مجلس الشيوخ إلى رغبة أغنياء القرطاجنيين، بأن طلب تسليم هنيبال إلى(9/115)
رومة، ولكن الجندي القديم فر من بلاده ليلاً، واجتاز على ظهر جواده مائة وخمسين ميلاً حتى وصل إلى ثبسوس Thapsus وركب منها سفينة إلى أنطاكية (195) حيث وجد أنتيوخوس الثالث Antiochus متردداً بين حرب رومه ومسالمتها، فأشار عليه بحربها وأصبح فيها من قواد الملك. فلما هزم الرومان أنتيوخوس في مجنيزيا (189) اشترطوا لعقد الصلح معه أن يسلم هنيبال، فما كان من هذا القائد إلا أن فر أولاً إلى كريت، ثم إلى بيثونيا Bithynia. فأخذ الرومان يطاردونه في كل مكان يلجأ إليه حتى أحاطوه في مكمنه بالجند. وآثر هنيبال الموت على الأسر، وقال في هذا: "دعوني أخفف عن الرومان ما يشغل بالهم من زمن طويل؛ فهم يظنون أنهم لا يطيقون الصبر حتى يلاقي شيخ مثلي منيته" (32). وتجرع السم الذي كان يحمله معه ومات في عام 184 ق. م في السابعة والستين من عمره، وما هي إلا بضعة أشهر حتى تبعه إلى الراحة الأبدية سبيو قاهره الذي كان شديد الإعجاب به.(9/116)
الباب الرابع
رومة الرواقية
508 - 202ق. م
ترى أي صنف من الخلق كان أولئك الرومان البواسل الذين لا يقهرون؟ وأي نظم صاغتهم حتى كانت لهم هذه القوة في الأخلاق والسياسة المنقطعة النظير؟ كيف كانت بيوتهم ومدارسهم؟ وكيف كان دينهم ومبادئهم الخلقية؟ وكيف استخرجوا من الأرض تلك الثروة التي كانوا في حاجة إليها ليعمروا بها مدنهم النامية ويعدوا بها جيوشهم المتجددة على الدوام والتي لم تعرف الراحة في يوم من الأيام؟ وبأي نظام اقتصادي وأية مهارة انتفعوا بهذه الثروة خير انتفاع؟ وكيف كان هؤلاء الناس في طرقاتهم وحوانيتهم، وفي هياكلهم ومسارحهم، وفي علمهم وفلسفتهم، وفي شيخوختهم وموتهم؟ إنّا إذا نلم كل الإلمام بما كانت عليه رومه في عهد الجمهورية الأول، عجزنا عن فهم ذلك التطور الشامل في العادات والأخلاق والأفكار، الذي أنتج في جيل من الأجيال كاتو Cato الرواقي وفي جيل بعده نيرون الأبيقوري، ثم بدل آخر الأمر الكنيسة الرومانية بالإمبراطورية.(9/117)
الفصل الأول
الأسرة
كان ميلاد الأطفال نفسه مغامرة خطيرة في رومه؛ فقد كانت العادات الألوفة تبيح للأب إذا ولد طفل مشوه أو كان أنثى أن يعرضه للموت (1). أما إذا لم يكن كذلك فقد كان يرحب بمولده؛ لأن الرومان حتى في ذلك العهد البعيد، وإن مارسوا عادة ضبط النسل إلى حد ما، كانوا شديدي الرغبة في أن يكون لهم أبناء. ذلك أن الحياة الريفية جعلت الأبناء مصدراً من مصادر الثروة، ولذلك كان الرأي العام يندد بالعقم، كما كان الدين يشجع على الإكثار من النسل بما يدخله في عقول الرومان من أن الواحد منهم إذا مات ولم يكن له ولد يعنى بقبره، قاست روحه ألوان الشقاء والعذاب إلى أبد الدهر. وكانوا إذا مضى على مولد الطفل ثمانية أيام احتفلوا حول موقد الدار احتفالاً رسمياً مهيباً بضمه إلى الأسرة والعشيرة. وكانت العشيرة ( gens) تتألف من طائفة من الأسر الحرة تنتمي إلى أصل واحد، وتسمى باسمه، وتشترك بعضها مع بعض في العبادة، وتتبادل العون في السلم والحرب. وكان الولد الماكر يعرف باسمه الخاص الأول ( praenomen) مثل بيليوس Publius، أو ماركس Marcus، أو كيوس Caius، وباسم عشيرته ( nomen) مثل كرنليوس Cornelius أو تليوس Tullius، أو يوليوس Julius؛ وباسم أسرته مثل سبيو Scipio، وشيشرون Cicero، وقيصر Caesar. أما النساء فكن في أغلب الأحيان يتميزن بأسماء عشائرهن وحدهن مثل كرنليا Cornelia، وتليا Tullia، وكلوديا Claudia، ويوليا Julia. وإذ لم يكن للذكور في الأيام القديمة الأولى من الأسماء الأول ما يزيد على خمسة عشر اسماً،(9/118)
وكانت هذه الأسماء تتكرر في الأسرة الواحدة جيلاً بعد جيل تكراراً يجعل التمييز بين مسمياتها من أصعب الأمور، فقد اعتاد الرومان أن يختصروا هذه الأسماء الأولى فيستعيضوا عنها بالحروف الأولى منها ويضيفوا إلى أصحابها اسماً رابعاً- وخامساً في بعض الأحيان- ليسهل تمييزهم بعضهم من بعض. ومن أمثلة ذلك أنهم كانوا يميزون سبيو قاهر هنيبال من سميه الذي دمر قرطاجنة بتسمية الأول ب. كر نليوس سبيو الإفريقي الأكبر P. Cornelius Scipio Africanus Major. والثاني ب. كرنليوس سبيو إيمليانس الإفريقي الأصغر P. Cornelius Scipio Aemilianus Aficanus Minor.
وكان الطفل يجد نفسه وقد اندمج كل الاندماج في أخص النظم الرومانية الأساسية وأقواها أثراً وهو نظام الأسرة الأبوية. وتكاد سلطة الأب في هذه الأسرة أن تكون سلطة مطلقة من كل القيود، كأنما الأسرة قد نظمت لتكون وحدة عسكرية من جيش في حرب دائمة. وكان الأب وحده دون سائر أفراد الأسرة هو الذي له حقوق قانونية في عهد الجمهورية الأول، فهو وحده الذي كان من حقه أن يشتري الملك ويحتفظ به أو يبيعه، وأن يتعاقد باسمه؛ وحتى بائنة زوجه كانت في ذلك العهد ملكاً له. وإذا ما اتهمت زوجته بجريمة أحيلت إليه ليحاكمها ويعاقبها بنفسه؛ وكان في مقدوره أن يحكم عليها بالإعدام إذا خانته أو سرقت مفاتيح خزائن خمره. وكان له على أبنائه حق الحياة والموت أو بيعهم في الأسواق بيع الرقيق. وكان كل ما يكسبه الابن يصبح في نظر القانون ملكاً خالصاً لأبيه، ولم يكن من حقه أن يتزوج من غير موافقة والده. وكانت البنت إذا تزوجت بقيت تحت سلطان أبيها، إلا إذا سمح لها أن تتزوج زواجاً Cum manu أي أسلمها بنفسه إلى يد زوجها أو وضعها تحت سلطانه. وكان له على عبيده سلطة لا حد لها؛ فكان هو وزوجته وأبناؤه "ملك يده" mancipia؛ ومهما يبلغ هؤلاء العبيد من السن أو المنزلة فإنهم يبقون تحت سلطانه حتى يحررهم هو(9/119)
أو "يطلقهم من يده" emancipate them. على أن العادات، والرأي العام، ومجلس الشيوخ، وقانون البريتورين (المقدمين) كانت تقيد حقوق "رب الأسرة" إلى حد ما. أما فيما عدا هذه القيود فقد كان يحتفظ بهذه الحقوق إلى أن يموت، وكانت له ولو ذهب عقله أو أراد هو أن يتخلى عنها. وكان من آثارها أن قويت وحدة الأسرة فكانت هي الأساس الذي قامت عليه أخلاق الرومان وحكومتهم، وأن أدب الرومان تأديباً بعث في أخلاقهم صلابة وقوة خير ما توصف به أنها قوة رواقية. وكانت قوانينهم في حرفيتها أشد منها صرامة في تطبيقها، وقلما كانوا يطبقون أقسى هذه القوانين؛ وقلما أساءوا استخدام ما كان منها أقل قسوة؛ فلم يكونوا يقفون في سبيل حنان الآباء القوي الطبيعي على أبنائهم أو تعظيم الأبناء لآبائهم، حتى لقد كانت شواهد القبور في رومه تبلغ من الرقة ما بلغته في بلاد اليونان وما بلغته عندنا نحن (1) في هذه الأيام.
وإذ كانت حاجة الرجل إلى المرأة- وهي أشد من حاجتها إليه- تكسبها من الحقوق ما لا تستطيع القوانين أن تقف في وجهه، فليس لنا أن نحكم على مكانة المرأة في رومه من القيود التي يفرضها عليها القانون. فقد كان يحرم عليها أن تظهر في دار المحكمة ولو كانت شاهدة. وإذا مات زوجها لم يكن لها أن تطالب بأي حق لها في ماله؛ وكان له إذا شاء أن يحرمها من أن ترث شيئاً من هذا المال. وكانت في كل أدوار حياتها تحت رقابة رجل- أبيها أو أخيها، أو زوجها، أو ابنها أو وصي عليها- لا تستطيع أن تتزوج أو تتصرف في مالها بغير رضاه. لكنها كان من حقها أن ترث وإن حدد هذا الميراث بما لا يزيد على مائة ألف سسترس Sesterce أي نحو (15. 000 ريال أمريكي). أما التملك فلم يكن مقيداً بحد أقصى. وكثيراً ما أصبحت النساء في تاريخ الجمهورية
_________
(1) يقصد الأمريكيين. (المترجم)(9/120)
المتأخر من ذوات الثروات الطائلة، لأن أزواجهن كانوا يهربون لهن أملاكهم ليتخلصوا بذلك مما عليهم من التزامات إذا أفلسوا في تجارة، أو حكم عليهم بتعويض، أو ليتملصوا من ضرائب الشركات، وفي ذلك من الأخطار التي لا نهاية لها. وكان لها في شؤون الدين شأن غير قليل؛ فكان لها أن تكون كاهنة؛ وكان من الواجبات المفروضة على كل كاهن تقريباً أن تكون له زوجة، فإذا ماتت حرم من منصبه. أما في المنزل فكانت هي سيدته المعظمة mea domina؛ ولم تكن كالزوجة في الحياة اليونانية تحجز في جناح الحريم بل كانت تتناول الطعام مع زوجها وإن كانت تجلس منتصبة ويجلس هو متكئاً. وكانت لا تقوم إلا بأقل قدر من الخدمة المنزلية، ذلك بأنه كان لكل مواطن تقريباً عبد يقوم على خدمته. وكان لها أن تغزل لتدل بذلك على دماثة أخلاقها، ولكن أهم واجباتها المنزلية هو مراقبة خدمها. على أنها مع ذلك كانت تحرص على أن تربي بنفسها أطفالها. وكان هؤلاء الأبناء يجزونها على صبرها وقيامها بواجبات الأمومة بما يقدمونه لها من دلائل الحب العميق والإجلال العظيم، وقلما كان زوجها يجعل سيادته الشرعية عليها تطغي على حبه لها.
وكان الأب والأم، ودارهما وأرضهما وأملاكهما، وأطفالهما الصغار، وأبناؤهما المتزوجون، وأحفادهما أبناء هؤلاء الأبناء، وزوجاتهم وعبيدهم ومواليهم- كان هؤلاء كلهم يؤلفون الأسرة الرومانية Familia؛ ولم تكن هذه الكلمة عندهم تعني أسرة بقدر ما تعني بيتاً من فيه، وما فيه. فلم يكن هذا المعنى مقصوراً على جماعة من ذوي القربى، بل كان يعني مجموعة من الأشخاص المملوكين والأشياء المملوكة، يخضعون كلهم، وتخضع كلها، لأكبر الذكور سنّاً. وفي نطاق هذا المجتمع الصغير الذي يضم في داخله وظائف الأسرة، والكنيسة، والمدرسة، والنظم الصناعية والحكومية، شب الطفل الروماني وترعرع على حب الطاعة والتقوى، فكان منه مواطن قوي صلب العود في دولة لا تغلب.(9/121)
الفصل الثاني
دين رومة
1 - الآلهة
لقد كانت الأسرة الرومانية رابطة بين الأشخاص والأشياء، كما كانت رابطة بين الأشخاص والأشياء من جهة والآلهة من جهة أخرى. وكانت هي المركز الذي يلتف حوله الدين، والخلق، والنظام الاقتصادي، وكيان الدولة بأجمعها، كما كانت هي المنبع الذي تُستَمد منه هذه المقومات كلها. وكان كل جزء من أملاكها مهما صغر وكل مظهر من مظاهر وجودها يرتبط ارتباطاً وثيقاً جدّيّاً بالعالم الروحي؛ فكان الطفل يعلم بالقدوة الصامتة الفصيحة أن نار الموقد التي لا تخمد ليست إلا رمز الإلهة فستا Vesta ومادتها، وأنها هي الشعلة المقدسة التي ترمز إلى حياة الأسرة والى دوامها؛ ومن أجل هذا كان من أوجب الواجبات ألا تنطفئ هذه النار، وأن يُعنى بها العناية "المقدسة"، وأن تغذى بنصيب من كل وجبة. وكان الطفل يرى فوق الموقد النصمات (1) تتوجها الأزهار وتمثل آلهة الأسرة أو أرواحها المقدسة: إللار Lra (2) الذي يحرس حقولها ومبانيها، وسعادتها ومصيرها؛ والبينات Penates أو الآلهة الداخلية التي تحمي ما تجمع للأسرة في مخازنها وأصونتها وبيادرها؛ وكان الإله يانوس Janus يحوم حول
_________
(1) النصمة الصورة يعبد. (المترجم)
(2) اللار: أحد الآلهة المحليين وهو تسكاني الأصل ولكن الرومان جعلوه فيما بعد أحد الآلهة الراعية للأسرة.(9/122)
عتبة الدار وإن كانت الأعين لا تراه، وكان ذا وجهين، وليس معنى هذا أنه كان مخادعاً بل معناه أنه كان يرقب الداخلين والخارجين من كل باب. وكان الطفل يعلم أن أباه هو الحافظ للأسرة وأنه رمز القوة الخلاقة الداخلية ( genius) التي لا تفنى بفناء الجسم بل يجب أن تغذى على الدوام عند قبر الأب. وكانت الأم هي الأخرى تحمل ربّاً من الأرباب، وكان عليه أن يعاملها أيضاً معاملة الآلهة. وكان فيها يونو Juno وهو روح قدرتها على الحمل يقابل قدرة الأب على الخلق. وكان للطفل أيضاً يونوه Juno وهو ملاكه الحافظ وروحه أو النواة الإلهية في غلافه الفاني. وكن يقال له قولاً يبعث في قلبه الرهبة، إنه يحيط به من كل مكان أطياف رحيمة Di Manes هي أطياف الذكور من أسلافه التي كانت أقنعة وجوههم الرهيبة معلقة على جدران المنزل تحذره من أن يتنكب طريق هؤلاء الأسلاف، وتذكره بأن الأسرة لا تتألف فقط من أولئك الذين كانوا في الأيام الخالية أو سيكونون في الأيام المقبلة أعضاء فيها بأجسامهم، والذين يكونون لهذا السبب جزءاً من مجموعها الروحي ووحدتها الأبدية.
وكانت أرواح أخرى تأتي لمعونته كلما كبر: فكوبا Cuba تحرسه وهو نائم وأبيونا Abeona تهدي خطاه، وفبيلينا Fabulina تعلمه الكلام. وإذا ما غادر المنزل وجد نفسه مرة أخرى في حضرة الآلهة أينما حل. وكانت الأرض نفسها آلهة فهي تارة تلس Tellus وتارة تراماتر Terra Mater أي الأرض الأم، وكانت أحياناً هي المريخ Mars أي الأرض التي يطؤها بقدميه وخصبها المقدس، وأحياناً تكون هي الآلهة الصالحة Bona Dea التي تمد النساء والحقول بالأرحام الخصيبة. وكان في المزرعة إله معين لكل عمل وكل بقعة فيها، بومونا Pomona للبساتين، وفونس Faunus للماشية، وبالس Pales للمراعي، واستركيولس Sterculus لأكوام السماد، وزحل Saturn للزرع، وسيريز Ceres للحاصلات، وفرناكس Fornax لتحميص الذرة في التنور، وفلكان Vulcan لإيقاد النار.(9/123)
وكان يشرف على الحدود الإله العظيم ترمنس Terminus وهو يتمثل ويعبد في الحجارة والأشجار التي تحدد المزارع. وإذ كانت غير الروماني تتطلع إلى السماء، فإن الرومان أنفسهم لم يكونوا ينكرون أن فيها هي الأخرى آلهة، ولكن المحور الذي كانت حوله أعظم مظاهر تقواه وإيمانه وأخلص كفارته واستعطافه كان هو الأرض أم حياته ومصدرها، ومنزل أمواته، والمربية الساحرة للبذور النامية. وإذا ما حل شهر يناير من كل عام أقيمت الصلوات للارات Lares الأرض في عيد ملتقى الطرق Compitalia أو Corssroads البهيج؛ وإذا أقبل شهر يناير قدمت الهدايا الغالية مرضاة لتلس Tellus واستدراراً لعطفه على كل المزروعات؛ وفي شهر مايو من كل عام يسير كهنة "إخوان أرفال Arval" إلى أخوان الحرث في موكب غنائي حول حدود المزارع المجاورة لهم يطوقون الحجارة بتيجان من الزهر، ويرشون عليها دماء الأضاحي، ويدعن المريخ (الأرض) أن تخرج الفاكهة الموفورة. ويرى من هذا أن الدين كان يؤمن الملكية، ويزيل أسباب الشحناء، ويكرم العمل في الحقول، فينشئ فيه الشعر، ويؤلف فيه المسرحيات، ويقوي الجسم والروح والإيمان والعمل.
ولم يكن الروماني، كما كان الإغريقي، يفكر في آلهته كأن لها صوراً كصور الآدميين، ولم يكن يسميها إلا ممينا Munina أي الأرواح، وكانت هذه الآلهة في بعض الأحيان معنويات مجردة كالصحة، أو الشباب، أو الذاكرة، أو الحظ، أو الشرف، أو الأمل، أو الخوف، أو الفضيلة، أو العفاف، أو الوفاق، أو النصر، أو روما. وكان منها أرواح للمرض يصعب استرضاؤها كالأطياف وأرواح الموتى؛ ومنها أرواح فصول السنة، مثل Maia روح شهر مايو؛ ومنها آلهة الماء مثل نبتون Neptune، وأرواح الغابات أو الآلهة التي تسكن الأشجار مثل سلفانس Silvanus. وكان بعضها يتقمص الحيوانات المقدسة كالحصان أو الحيوان الذبيح، أو الأوز المقدس الذي كان المتقون يحتفظون بها فوق الكبتول(9/124)
لا يناله أحد بأذى، ومنها أرواح التناسل والإنتاج: تتومس يشرف على الحمل، ولوسينا تحمي الحيض والولادة، وكان بريابس Priapus ألهاً للإخصاب عند اليونان، ولكنه سرعان ما سكن روما، وكانت العذارى والأمهات (إذا كان لنا أن نصدق القديس أوغستين الغاضب) يجلسن على قضيب تمثاله ليضمن بذلك استعدادهن للحمل (2). وكانت صور خليعة فاحشة لهذا الإله تزين كثيراً من الحدائق، وكان السذج من الأهلين يلبسون صوراً صغيرة منه ظاهر فيها قضيبه لتهبهم القدرة على التناسل أو ترد عنهم "العين الحاسدة". وجملة القول إننا لا نعرف قط ديناً يبلغ فيه عدد الآلهة ما بلغه عند الرومان، ويقدرها فارو بثلاثين ألفاً، ويشكو بترونيوس من أن بعض المدن الإيطالية كان فيها من الآلهة أكثر ممن فيها من الرجال؛ لكن الذين يسميهم بترونيوس deus لم يكونوا كلهم آلهة؛ لأن كلمة deus كانت تعني عند الرومان قديساً أو إلهاً.
وكان يكمن تحت هذه الأفكار الأساسية حشد من العقائد الشعبية المتعددة الأشكال، من عبادة الطبيعة، والدكاكيرية fetishism، والطوطمية، والإيمان بالسحر، والمعجزات، والرقى، والخرافات، والمحرمات، ومعظمها عقائد باقية من أيام سكان إيطاليا فيما قبل التأريخ، ولعلها باقية من أيام أسلافهم الهندوربيين جاءوا بها من موطنهم القديم في قارة آسيا. وكان الكثير من الأشياء والأماكن والأشخاص مقدساً ( sacer) محرماً مسه أو تدنسيه، ومن هؤلاء الأشخاص الأطفال حديثو الولادة، والنساء في وقت الحيض، والمجرمون إذا أدينوا. وكانت مئات من الصيغ اللفظية أو المبتكرات الآلية تستخدم للوصول إلى غايات طبيعية بوسائل خارقة للطبيعة. فكانت التمائم شائعة بينهم لا يكاد يخلو منها واحد منهم؛ وكان كل طفل تقريباً يلبس "بلّة" Bulla أو طلمساً ذهبياً معلقاً في عنقه. وكانت تماثيل صغيرة تعلق إلى الأبواب أو الأشجار لترد الأرواح الخبيثة. وكانت الرقى والتعاويذ تستخدم لمنع الأخطار،(9/125)
وللشفاء من الأمراض، وإنزال الماء من السماء، وإهلاك جيوش الأعداء، وإتلاف محصولات العدو أو إهلاكه هو نفسه. ومن أقوال بلني Pliny في هذا: "كلنا نخشى أن تصيبنا اللعنات أو الطلاسم بالسوء" (4). كذلك يرد ذكر الساحرات في أقوال هوراس Horace، وفرجيل Virgil، وتبيلوس Tibulus، ولوشيان Lucian. وكان الاعتقاد السائد أنهن يأكلن الأفاعي ويطرن في الهواء ليلاً، ويعصرن السم من أعشاب لا يعرفها غيرهن، ويقتلن الأطفال، ويحيين الموتى. ويلوح أن الرومان جميعاً، إلا قليلاً من المتشككين، كانوا يؤمنون بالمعجزات، وبالفأل والطيرة، وبأن التماثيل تتحدث وتعرق (5)، وبأن الآلهة تنزل من جبل أولمبس Olympus لتحارب في صف الرومان، وبأن الأيام الفردية الأسماء محظوظة، والزوجية الأسماء منحوسة، وبأن الحوادث الغريبة تنبئ بالمستقبل. ويحتوي تأريخ ليفي على عدة مئات من أمثال هذا الإنباء يسجلها كلها بوقاره الفلسفي. وفي مجلدات بلني الأكبر Pliny من التنبؤات ووسائل العلاج السحري ما يصح لنا معه أن نسمي تأريخه "تأريخ خوارق الطبيعة". وكثيراً ما كان يحدث أن تؤجل أهم الأعمال التجارية أو الحكومية أو الحربية أو تلغى إلغاءً تاماً إذا تشاءم الكاهن بأن وجد شيئاً غير مألوف في أمعاء ذبيحة، أو سمع قصف رعد في السماء.
وكانت الدولة تبذل كل ما في وسعها لتحد من الإسراف في هذه العادات، وكان يطلق عليها اللفظ الذي يعبر عنها أدق تعبير وهو لفظ Supersitis أي العقائد الدينية المفرطة. ولكنها كانت لا تقعد قط عن استغلال تقوى الشعب لتثبيت دعائم الحكم والنظام الاجتماعي فكيفت آلهة الريف لتوائم حياة الحذر، وشادت موقداً قومياً للإلهة فستا، وعينت طائفة من العذارى الفستيات لتقوم على خدمة نار المدينة المقدسة، وأخرجت من مجموع آلهة الأسرة والمزرعة والقرية الآلهة القومية للدولة di indigetes، ونظمت لهذه الآلهة عبادة جديدة جميلة المنظر تقوم بها الدولة باسم جميع المواطنين.(9/126)
وكان أحب هذه الآلهة القومية الأولى إلى قلوب الشعب الإله جوبتر أو جوف Jupiter or Jove وإن لم يكن هذا الإله قد أصبح ملكها كما أصبح زيوس عند اليونان، بل كان في القرون الأولى من حياة روما لا يزال قوة نصف معنوية يمثل رقعة السماء المتلألئة وضياء الشمس القمر وقصف الرعد، وكان في صورة جوبتر فلوفيوس Jupiter Fluvius يمثل شؤبوباً من المطر المخصب. وقد كان فرجيل وهوراس نفسهما يستعملان في بعض الأحيان لفظ " Jove" مرادفاً للفظ المطر أو السماء (6). وكانت أكثر نساء روما ثراءً إذا أجدبت السماء يسرن حافيات في موكب كبير إلى تل الكبتولين حيث هيكل جوبتر تونانز Jupiter Tonans- جوف المرعد- ليستسقين. ولعل لفظ جوبتر محرف عن ديسباتر Diuspater أو ديسبتر Diespeter أي إله السماء. ولعل يانوس Janus الذي كان في الأصل يسمى ديانوس Dianus كان يؤلف هو وجوبتر في بداية الأمر إلهاً واحداً، وكان يرمز به أولاً إلى روح باب الكوخ ذي الوجهين ثم إلى باب المدينة، ثم إلى أي فتحة أو بداية كبداية اليوم أو السنة. وكانت أبواب هيكله لا تفتح إلا في أيام الحرب ليخرج منها مع جيوش روما لهزيمة آلهة الأعداء. وكان المريخ Mars إلهاً معظماً عند الشعب مذ بدأ يعظم جوبتر. وكان أولاً إله الحرث، ثم أصبح إله الحرب، ثم كاد أن يكون هو فيما بعد رمز روما وشعارها؛ وكانت كل قبيلة في إيطاليا تطلق اسمه على شهر من الشهور. ولم يكن زحل الإله القومي للبذرة الحديثة الزرع ( Sata) أقل قدماً من جوبتر والمريخ، وكانت الأساطير تصوره على أنه ملك من ملوك ما قبل التأريخ أخضع القبائل كلها لقانون واحد وعلمها الزراعة وأقر السلام والمشايعة في العهد الذهبي من عهد زحل Saturna Regina.
وكانت إلهات روما أقل قوة من آلهتها، ولكنهن كن أحب إلى قلوب الشعب من الآلهة الذكور. وكان من هذه الإلهات يونو رجينا Juno Regina(9/127)
ملكة السماء وحامية الأنوثة والزواج والأمومة. وكانوا يوصون بالزواج في شهرها -شهر يونيو (7) - ويقولون أن الزواج فيه أسعد الزيجات؛ وكانت منيرفا Minerva إلهة الحكمة ( mens) أو الذاكرة، والصناعات اليدوية وطوائف الصناع، والممثلين والموسيقيين والكتبة. وكان البلاديوم Palladium التي تقف عليها في اعتقادهم سلمة روما صورة صغيرة للإلهة بلاس منيرفا Pallas Minerva مدججة بالسلاح جاء بها إنياس Aeneas في زعمهم من طروادة إلى روما بأساليب الحب والحرب، وكانت فينوس Venus ( الزهرة) إلهة الشهوة، والزواج والإخصاب. وكان شهرها المقدس هو شهر إبريل شهر تفتح الأزهار ( Aperire) . وكان الشعراء أمثال لكريشيوس Lucretius وأوفد Ovid يرون فيها المنشأ الغرامي لجميع الكائنات الحية. وكانت ديانا Diana إلهة القمر والنساء والولادة والصيد والغابات وسكانها من الوحوش؛ وكانت في زعمهم روح شجرة جيء بها من أريشية Aricea حينما خضع هذا الإقليم من أقاليم لاتيوم لحكم روما. وكان بالقرب من أريشيا بحيرة نيمي Nemi وأيكتها، وكان في هذا الأيكة مزار ديانا ملجأ الحجاج الذين كانوا يعتقدون أن هذه الإلهة قد ضاجعت في هذا المكان فربيوس Virbius ملك الغابات الأول. ولكي يضمن دوام إخصاب ديانا وإخصاب الأرض كان خلفاء فربيوس -وهم كهنة الصائدة وأزواجها- يستبدل بهم جميعاً واحداً بعد واحد أي عبد قوي يعوذ نفسه بغصن (يسمى عندهم بالغصن الذهبي) يأخذه من شجرة البلوط المقدسة إحدى أشجار الأيكة ويهاجم الملك (1) ويذبحه. وقد بقيت هذه العادة إلى القرن الثاني بعد ميلاد المسيح (8).
هذه إذن هي الآلهة الكبرى لدين روما الرسمي. وكان للأهلين غير هؤلاء أرباب قومية أصغر منها ولكنها لم تكن تقل عنها محبة لدى الرومان. ومن هذه
_________
(1) يقصد ملك الأيكة أي صورة له. (المترجم)(9/128)
الأرباب الصغرى هرقول Hercules إله الفرح والخمر، والذي لم يتورع أن يقامر وهو مبتهج مع قندلفت هيكله لينال منه محظية (9). وكان عطارد ( Mercury) راعي التجار والممثلين واللصوص. وكانت أبس Aps إلهة الثروة وبلونا Bellona إلهة الحرب، وكان غير هؤلاء أرباب ذكور وإناث يخطئهم الحصر. ولما أن بسطت روما سلطانها جاءت إليها آلهة جديدة. وكانت في بعض الأحيان إذا غلبت مدينة جاءت منها بآلهتها لتضمها إلى مجمع الآلهة الروماني دليلاً على غلبتها وضماناً لهذه الغلبة كما فعلت بيونو إلهة فياي حين قادتها أسيرة إلى روما؛ وكان سكان الأقاليم النائية إذا جاءوا إلى العاصمة أتوا معهم بآلهتهم ليثبتوا فيها أقدامهم حتى لا تجتث أصول أولئك السكان الجدد الروحية والأخلاقية اجتثاثاً مفاجئاً لسبب من الأسباب، وكذلك يفعل اليوم المهاجرون إلى أمريكا فيأتون إليها بآلهتهم. ولم يكن الرومان يأبهون بمجيء هؤلاء الآلهة الأجانب؛ وكان معظمهم يعتقدون أنهم إذا أزاحوا التمثال من مكانه أزاحوا الإله معه، ومنهم كثيرون كانوا يؤمنون أن التمثال نفسه هو الإله (10).
على أن بعض الآلهة الجديدة لم تغلب، بل كانت هي الغالبة. فقد تسربت إلى العبادات الرومانية بطريق التجارة والصلات الحربية والثقافية التي نشأت بين الحضارتين الرومانية واليونانية. وقد حدثت هذه الصلات أول الأمر في كمبانيا ثم جنوبي إيطاليا ثم صقلية، وانتهت آخر الأمر في بلاد اليونان نفسها. وكان في آلهة دين الدولة شيء من التجرد المعنوي وبرود الطبع؛ وكان المستطاع رشوهم بالقرابين والتضحيات، ولكنهم قلما كانوا يمدون عبادهم بالراحة أو الإلهام الفردي؛ وكانوا من هذه الناحية يختلفون عن آلهة اليونان ذوي الصفات البشرية الممتلئين مغامرة وفكاهة وشعراً. ومن أجل هذا رحب الشعب الروماني بآلهة اليونان وأقام لهم الهياكل، وسره أن يتعلم ما يتطلبه أولئك الآلهة من مراسم وطقوس، وكذلك سر الكهنة الرسميين أن يجندوا أولئك الجند الجدد لبث(9/129)
النظام والطمأنينة في النفوس، فضموهم إلى أسرة روما المقدسة، ومزجوهم كلما استطاعوا بأقرب الآلهة الوطنية المماثلة لهم. فجاء من عهد بعيد أي من عام 496 ق. م دمتر Demeter وديونيسيوس Dionysius ومُزجا بسيريس Ceres وليبر Liber ( إله العنب) واستقبل كاستر Castor وبلكس Pollax بعد اثني عشر عاماً من ذلك الوقت وصارا حاميي روما: وشيد في عام 431 هيكل لأبلون Apollo الشافي لعله يخفف من وباء طاعون فشا في روما وقتئذٍ؛ وفي عام 294 جيء إلى روما من أبدورس Epidaurus بإسكلابيوس Aesculapius إله الطب عند اليونان في صورة أفعوان ضخم (11)، وشيد على جزية في نهر التيبر معبد في صورة مستشفى تكريماً له. وجيء بكرونس Cronus اليوناني وقيل أنه لا يختلف في شيء عن زحل، ومزج برسيدن Poseidon بنبتون Neptune وأرتميس Artemis بديانا Diana وهفستس Hephaestus بفلكان Vulcan، وهرقل Heracle بهرقول Hercules، وهيديس Hades ببلوتون Pluto وهرمس Hermes بعطارد Mercury، وارتفع جوبتر بفضل بعض الشعراء إلى زيوس غير زيوس اليونان، فصار شاهد الأيمان الصارم وحارسها، وقاضي الأخلاق الملتحى، والقيم على القوانين، وإله الآلهة؛ وهيئت عقول الرومان المتعلمين على مهل لقبول عقائد التوحيد الرواقية واليهودية والمسيحية.
2 - الكهنة
واستخدمت إيطاليا نظاماً من الكهنوت محكم الوضع لتضمن به معونة هؤلاء الأرباب. وكان الأب في منزله كاهناً، ولكن الصلوات العامة كان يرأسها جماعات ( Collegia) من الكهنة، تملأ كل منها ما يخلو في صفوفها من الأماكن ويرأسها كلها حبر أعظم Pontifex Maximus تختاره الجمعية المئوية. ولم تكن عضوية هذه الكليات المقدسة تحتاج إلى تدريب(9/130)
خاص؛ بل كان في وسع كل مواطن أن ينضم إليها أو يخرج منها؛ ولم تكن تؤلف مرتبة أو طبقة منفصلة عن سائر المراتب أو الطبقات، ولم يكن لها أي سلطان سياسي عدا أن الدولة كانت تستخدمها أداة من أدواتها. وكانت تستولي على إيراد بعض أراضي الدولة لتستعين به على العيش، وكان لها عبيد يقومون على خدمتها؛ وقد أصبحت بتوالي الأجيال عظيمة الثراء بما كان يحسبها عليها أتقياء الناس من الأموال.
وكانت الكلية الدينية الكبرى في القرن الثالث قبل المسيح تضم تسعة من الأعضاء، يحتفظون بالحوليات التاريخية، ويسجلون القوانين، ويقرءون الغيب، ويقربون القرابين، ويطهرون رومه مرة في كل خمس سنوات. وكان يساعد هؤلاء الأحباء في القيام بالمراسم الرسمية خمسة عشر كاهناً آخر يسمون فلميني flamine- أي موقدي نيران الأضاحي. وكان ثمة طوائف من الأحباء أقل من هؤلاء شأناً يؤدون واجبات خاصة: فالساليون Salii أو القافزون كانوا يستقبلون العام الجديد بنوع من الرقص المقدس للمريخ، والفتيالي fetiales يصدقون على عقد الصلح، وإعلان الحرب، واللوبرسي Luperci أو إخوان الذئاب يقومون بطقوس لوبركاليا Lupercalia العجيبة. وكانت طائفة العذارى الفستية Vestal Virgins تعني بموقد الدولة وترشه في كل يوم بالماء المقدس تأخذه من عين الحورية المقدسة إجيريا Egeria؛ وكان هؤلاء الراهبات ذوات الثياب البيض والخُمرُ البيض يُخترن من بين الفتيات اللاتي تتراوح سنهن بين السادسة والعاشرة، وكن يقسمن بأن يظللن عذارى في خدمة الإلهة فستا ثلاثين سنة، وينلن في نظير هذا ضروباً من الامتيازات والتكريم وإذا اقترفت إحداهن جريمة العلاقات الجنسية ضربت بالعصى ودفنت وهي على قيد الحياة، وقد سجل المؤرخون الرومان اثنتي عشرة جريمة من هذا النوع، فإذا قضين الثلاثين عاماً كان لهن أن يتركن خدمة الإلهة ويتزوجن، ولكن قل منهن من كانت تتاح لها هذه الفرصة أو تغتنمها إذا أتيحت لها (12).(9/131)
وكانت أعظم طوائف الكهنة نفوذاً طائفة العرافين التسعة الذين كانوا يدرسون إدارة الآلهة ومقصدهم باتجاه الطيور في الأيام الأولى (1)، وبالفحص عن أحشاء الحيوانات المضحاة فيما بعد. فكان كبار الحكام "يستطلعون الطلع" قبل كل عمل هام من أعمال السياسة أو الحكم أو الحرب، ثم يفسر العرافون ما يجده الحكام، أو يفسره لهم مفتشو الأكباد hauruspices الذين تلقوا فنهم هذا من بلاد الكلدان أو من أمم قبلهم عن طريق إتروريا. ولم يكن الكهنة على الدوام بمنجاة من الإغراء بالمال، ولذلك كانوا في بعض الأحيان يوقفون بين أقوالهم وبين حاجات من يذهب لاستشارتهم. من ذلك أن أي قانون لا يتفق مع مصلحة طائفة أو جماعة من الناس كان يمكن تعطليه إذا قيل إن اليوم الذي ينظر فيه القانون يوم مشئوم لا يصلح العمل فيه، وكان في الاستطاعة إقناع الجمعية بالموافقة على إعلان الحرب إذا قيل لها أن اليوم الذي يطلب إليها إعلانها فيه يوم سعيد (13). وكانت الحكومة في الأزمات الخطيرة تدعى أنها تعرف ما تريده الآلهة بالرجوع إلى الكتب السبيلية Sibylline، وهي الكتب التي سجلت فيها نبوءات سبيل Sibyl أو كاهنة أبلون Apollo في كومية Cumae. وكان في وسع الأعيان أن يؤثروا في الشعب بهذه الوسائل وبالرسل الذين كانوا يرسلونهم إلى هاتف دلفي The oracle at Delphi في بعض الأحيان وبذلك يوجهونهم في أي اتجاه يشاءون، ويكادون يبلغون كل غاية يبغونها (14).
ولم يكن يقصد بطقوس العبادات إلا أن تقدم هدية أو ضحية للآلهة لكسب عونها أو اتقاء غضبها. وكان الكهنة يقولون إن الاحتفالات التي تقام لهذا الغرض لا تثمر ثمرتها إلا إذا روعي فيها منتهى الدقة في الأقوال والحركات، وهي
_________
(1) ومن ثم اشتقت من هذا اللفظ Augurs ومعناها حامل الطيور aves-gero، و Auspices فحص الطيور aues-specio. ولعل الإنسان البدائي قد عرف كيف يتنبأ بأحوال الجو من حركات الطيور.(9/132)
دقة لا يستطيع غير الكهنة أن يشرفوا عليها. وإذا وقع في طقس من هذه الطقوس أيّاً كان نوعه وجبت إعادته من جديد ولو تطلب ذلك إعادته ثلاثين مرة. وكان معنى لفظ Religio هو أداء الطقس الديني بالعناية التي يحتمها الدين (15). وكان أهم ما في الاحتفال هو التضحية Sacrifice؛ ومعنى اللفظ مشتق من كلمة Cacer اللاتينية ومعناها ملك للإله. وكانت التضحية في البيت تتخذ عادة شكل قطعة من كعكة توضع على الموقد أو كمية من النبيذ تلقى في نار البيت، وتكون في القرية أول ثمرة تخرجها الأرض، وقد تكون كبشاً أو كلباً أو خنزيراً، وتكون في المناسبات الهامة فرساً أو خنزيراً أو شاة أو ثوراً، وكانت الثلاثة الحيوانات الأخيرة تذبح في أكبر المناسبات أهمية في عيد السو أو في طوريليه Su-ove-taur-illa ( أي عيد الخنزير والشاة والثور). وكانوا يعتقدون أنه إذا تليت صيغ خاصة على التضحية استحالت إلى الإله الذي يراد منه أن يتقبلها؛ وعلى هذا الاعتبار كان الإله نفسه هو الذي يضحي به (16)؛ وإن كانت أحشاء الحيوان وحدها هي التي تحرق على المذبح؛ وكان الكهنة والناس يأكلون كل ما بقي منه، فقد كان هؤلاء يأملون أن تنتقل قوته ومجده إلى عبيده المحتفلين بعيده. وكان يضحي بالآدميين في بعض الأحيان؛ ومما يجدر ذكره أنه كان لابد من صدور قانون في عام 97 بعد الميلاد لتحريم هذه العادة. ثم حورت هذه الكفارة تحويراً يبيح للرجل أن يضحي بحياته للدولة كما فعل القنصل بيليوس ديسيوس Publius Decius وولده، وكما فعل ماركس كورتيس Marchus Curtius إذ ألقي بنفسه في أخدود شقه زلزال في السوق العامة ليسكن بذلك غضب القوى الأرضية الخفية، وتقول القصة بعد ذلك إن الشق قد التحم وإن الأمور قد عادت إلى مجاريها (17).
وكان احتفال التطهير أكثر من هذه الطقوس متعة؛ وكان هذا التطهير يحدث للمحصولات الزراعية أو لقطعان الماشية أو المدينة. وكانت(9/133)
الطريقة المتبعة في هذا الاحتفال أن يطوف موكب بالشيء المراد تطهيره، ويقدم له الصلوات والذبائح، فيتطهر بذلك من المؤثرات السيئة ويرد عنه الشر. ولم تكن الصلوات قد خلصت كل الخلاص من الرقي السحرية؛ وكان اللفظ الذي يطلق عليها وهو كارمن Carmen يعني الأنشودة والرقية جميعاً؛ ويعترف بلني صراحة بأن الصلاة ضرب من الأقوال السحرية (18). وإذا ما تليت الصيغة حسب الأصول المرعية ووجهت إلى الإله الذي يجب أن توجه إليه حسب سجل الآلهة indigitamenta الذي جمعه الكهنة واحتفظوا به، فإن الرجاء لا بد أن يجاب؛ فإذا لم يجب فإن غلطة ما قد حدثت في الطقوس المرعية. وقريب من السحر وذو صلة به الفوتا vota أو النذور التي كان يطلبون بها معونة الآلهة؛ وكانت هياكل عظمية تشاد في بعض الأحيان وفاء بهذه النذور. وتوحي النذور الكثيرة التي كشفت بين مخلفات الرومان على أن الدين كان يملأ قلوبهم، وعلى أنه كان يمتزج به ويلطفه تقي وشكر على النعم، وشعور بالصلة القوية بين الناس وبين قوى الطبيعة الخفية، ورغبة أكيدة في أن يكون الناس على وفاق مع هذه القوى جميعها. هذا ما كان للدين من أثر في قلوب الشعب، أما دين الدولة فكان على النقيض من هذا، كان شكلياً جامداً، لا يعدو أن يكون نوعاً من العلاقة القانونية التعاقدية بين الحكومة والآلهة. ولما أن تسربت إلى البلاد أديان جديدة من الشرق المغلوب، كان أول ما تضعضع في الدولة الرومانية هو هذا الدين الرسمي، أما الإيمان العميق ذو المظاهر الجميلة الجذابة، والطقوس المنتشرة في الريف، فقد ظلت تقاوم الأغلال في صبر وعناد طويلين. ولما تغلب الدين المسيحي في آخر الأمر استسلم بعض الاستسلام إلى هذا الإيمان الريفي القديم فأخذ عنه كثيراً من عقائده وطقوسه، وكان ذلك الأخذ عن حكمة وأصالة رأي، ولا تزال هذه الطقوس باقية في العالم المسيحي إلى هذه الأيام، وإن تشكلت بأشكال جديدة وعبر عنها بألفاظ غير الألفاظ القديمة.(9/134)
3 - الأعياد
إذا كانت العبادات الرسمية مكتئبة صارمة فإن ما كان فيها من أعياد قد عوضها عن هذه الصرامة وصَوَّر الناس والآلهة في صورة أبهى وأجمل منظراً. فقد كانت السنة تزدان بأكثر من مائة يوم مقدس ( feriae) من بينها اليوم الأول من كل شهر، وقد شمل أحياناً اليومين التاسع والخامس عشر. وخصصت بعض هذه الأعياد لتقديس الموتى وأرواح العالم السفلي؛ وكان يقصد بالأعياد وما يقام فيها من احتفالات استرضاء الموتى وإقصاء غضبهم؛ فكانت الأسر الرومانية تحتفل في الأيام ما بين 11، 13 من شهر مايو احتفالاً رهيباً بعيد الأرواح الميتة Lemures؛ فكان الأب في هذا العيد يبصق من فمه فولاً أسود وهو ينادي: "بهذا الفول أنجي نفسي وأبنائي .. أذهبي يا أطياف أسلافي (19)! " ولم تكن أعياد البارنتاليا Parentalia والفراليا Feralia التي تقام في شهر فبراير إلا محاولات أخرى من هذا النوع لاسترضاء الأموات المخيفين؛ لكن معظم الأعياد كانت مناسبات للمرح وملء البطون؛ وكثيراً ما كان العامة يتخذونها فرصاً لإباحة الجنسية؛ وشاهد ذلك ما يقوله أحد الأشخاص في مسرحية هزلية لبلويس: "في وسعك أن تأكل ما تشاء، وتذهب حيث تشاء، وتحب من تشاء، على شريطة أن تمتنع عن الاتصال بالأزواج والأرامل والعذارى، والغلمان الأحرار (20) " ويلوح أنه كان يحس بأن ثمة بعد هذا مجالاً واسعاً للاختيار.
وكانوا يحتفلون في اليوم الخامس عشر من شهر فبراير بعيد عجيب هو عيد لوبركاليا المخصص للإله فونس Faunus الحامي من الذئاب Iupercus، وكان يضحي في هذا العيد بالمعز والضأن، وكان اللوبرسي Iuperci- وهم كهنته لا يلبسون على أجسادهم إلا مناطق من جلد المعز- يهرولون حول البلاتين(9/135)
Palatine يدعون الإله فونا أن يبعد عنهم الأرواح الشريرة، ويضربون وهم يهرولون من يلقون من النساء بسياط من جلود الحيوانات المضحي بها ليطهرونهن ويزيدوا في قدرتهن على إنجاب الأبناء، ثم يلقون بعد هذا دمى من القش في نهر التيبر لاسترضاء إله النهر أو ختله، ولعل هذا الإله في الأيام التي كانت أكثر من ذلك الوقت همجية كان يتطلب أن تلقى فيه ضحايا بشرية. وفي اليوم الخامس عشر من شهر مارس كان الفقراء يخرجون من أكواخهم، ويفعلون ما كان يفعله اليهود في عيد المظلات، فيقيمون لهم خياماً في حقل المريخ، ويحتفلون بالسنة الجديدة، ويدعون الإلهة أنابريا AnnaPerenna ( حلقة السنين) أن تهبهم سنين بعدد ما يحتسون من أكواب الخمر (21). وكان في شهر إبريل وحده ستة أعياد آخرها كلها عيد فلوراليا Floralia. وكان هذا العيد وهو عيد فلورا Flora إلهة الأزهار والينابيع يدوم ستة أيام كلها مرح وسكر وعربدة. وفي اليوم الأول من شهر مايو كان يحتفل بعيد الإلهة الصالحة Bona Dea، وفي التاسع والحادي عشر والثالث عشر من هذا الشهر يحتفل باللبراليا Liberalia عيد ليبر Liber وليبرا Libera إله العنب وإلهته؛ وكان جماعات من الرجال والنساء في ذلك اليوم يمجدون جهرة عضو التذكير في الرجال وهو رمز الإخصاب (23). وفي آخر شهر مايو كان الإخوان الأرفال Arval يقودون الناس في مواكب عيد الأمبرفاليا Ambarvalia وهو عيد رهيب وإن لم يكن يخلو من المرح. ثم تهمل الأرباب فلا تقام لها أعياد في أشهر الخريف بعد أن تكون المحصولات قد أدخلت في المخازن، حتى يقبل شهر ديسمبر فيزدحم بالأعياد مرة أخرى. فكان عيد السترناليا Saturnalia يدوم من اليوم السابع عشر إلى اليوم الثالث والعشرين من ذلك الشهر، وكانوا يحتفلون فيه ببذر بذور العام المقبل ويحيون ذكرى حكم زُحَل Saturn الذي لم يكن الناس ينقسمون فيه طبقات، والذي يتبادلون فيه الهدايا، ويتحررون من كثير من القيود، ويلغى فيه أو يعكس إلى حين ما بين(9/136)
الأحرار والعبيد من فروق، فكان في مقدور العبيد أن يجلسوا بجوار سادتهم، ويصدروا إليهم الأوامر، ويتهكموا عليهم، وكان السادة يقفون على الموائد لخدمة العبيد، ولا يأكلون حتى تمتلئ بطونهم بالطعام (24).
وكانت هذه الأعياد زراعية النشأة ولكنها مع ذلك ظلت منتشرة بين أهل المدن، وبقيت رغم ما طرأ على العقائد من تقلبات حتى القرنين الرابع والخامس بعد الميلاد. وقد بلغت من الكثرة والاضطراب حداً جعل من أول واجبات التقويم الروماني إحصاءها وترتيبها لإرشاد الشعب. وكان من عادة الإيطاليين في عهدهم الأول أن يدعو الكاهن الأكبر المواطنين في أول يوم من كل شهر ويذكر لهم ما فيه من الأعياد التي يجب عليهم أن يحتفلوا بها في الثلاثين يوماً؛ وقد اشتق من هذه الدعوة ( Calatis) اسم Calendae الذي سمي به اليوم الأول من كل شهر. وكان معنى التقويم عند الرومان- وهو معنى لا يزال يحتفظ به إلى حد ما عند الكالثوليك المسيحيين وعند اليهود المتدينين- ثبتاً كهنوتياً لأيام الأعياد وأعمال العمل، يتخلله قليل من المعلومات المقدسة القانونية، والتاريخية والفلكية. وتقول الروايات المأثورة إن نوما Numa ثاني ملوك رومه هو واضع التقويم الذي ظل يضبط التواريخ والحياة الرومانية إلى أيام يوليوس قيصر. وكانت السنة حسب هذا التقويم تنقسم إلى اثنى عشر شهراً قمرياً، تضاف إليها عدة أيام وأجزاء من أيام بنظام معقد يجعل متوسط مجموعها 366 يوماً. ثم خوّل للأخبار في عام 191م أن يعالجوا الأخطاء المتزايدة بإعادة النظر في هذه الإضافات، ولكنهم استخدموا السلطة التي منحت لهم لإطالة حكم من يرضون عنه من الحكام، وتقصير حكم من لا يرضون عنه منهم، ومن أجل هذا فإنه لم يكد ينتهي عهد الجمهورية حتى كان التقويم، وقد تجمع فيه من الأخطاء ما يبلغ ثلاثة أشهر، مثالاً للفوضى ووسيلة إلى التلاعب والخداع.
أما ساعات النهار فكانت في الأيام الأولى لا تقدر بغير ارتفاع الشمس في(9/137)
السماء، وظل هذا هو النظام المتبع حتى جئ في عام 263 ق. م بمزولة شمسية من قطانا Catana في صقلية ووضعت في السوق العامة. ولكن هذه المزولة لم تكن تبين الوقت على حقيقته لأن قطانا كانت على بعد أربع درجات جنوبي رومه؛ وقد ظل الكهنة مائة عام عاجزين عن أن يضبطوا عن أن يضبطوا هذه المزولة حتى تبين الوقت الحقيقي في عاصمة البلاد. وفي عام 158 أقام سبيو ناسيكا Scipio Nasica ساعة شمسية عامة. وكان الشهر يقسم إلى ثلاث فترات يفصلها بعضها عن بعض اليوم الأول، واليوم الخامس أو السابع واليوم الثالث عشر أو الخامس عشر. ويسمى اليوم الأول الكالند kalend والخامس أو السابع النون none والثالث عشر أو الخامس عشر الأيد ide. وكانت الأيام تسمى بطريقة سمجة عجيبة أساسها البعد عن هذه الأيام المحَّددة لأقسام الشهر. مثال ذلك أن اليوم الثاني عشر من شهر مارس كان يسمى "اليوم الثالث قبل أيِد مارس". وكان "الأسبوع" عندهم يتكون من تسعة أيام أو نحوها وينتهي بيوم النندني nundinae أو اليوم التاسع، وهو اليوم الذي يذهب فيه القرويون إلى أسواق المدن. وكانت السنة تبدأ بابتداء فصل الربيع، ويسمى الشهر الأول مارتيوس Martius باسم إله البذر، ثم يليه أبريلس Aprilis أي شهر النَّبت، ثم مايوس Maius أي شهر مايا Maia أو لعله شهر الوفرة، ويونيوس Junius شهر يونو Juno، أو لعله شهر النجاح، ثم كونكتلس Quinctilis، فسكستلس Sextilis، فسبتمبر فأكتوبر فنوفمبر فديسمبر. وقد سميت بترتيبها العددي في السنة؛ ثم يليها يناير January ليانوس Janus وفبراير لفبروا Februa أو الأشياء السحرية التي يطهر بها الإنسان. وكانت السنة نفسها تسمى أنس Annus أي الحلقة كأنهم يريدون أن يقولوا إنه لا توجد للزمن في واقع الأمر بداية ولا نهاية.(9/138)
4 - الدين وأثره في الأخلاق
ترى هل أعلن هذا الدين على تقويم الأخلاق؟ لقد كان من بعض النواحي مبعث الفساد الخلقي. فاهتمامه بالطقوس والمراسم يوحي بأن الآلهة لا تجزي الشخص لصلاحه بل لما يقدمه لها من الهدايا وما يتلوه من الصيغ، وكانت الأدعية والصلوات يطلب بها على الدوام النفع المادي أو النصر الحربي. وكان ما يقام من الحفلات يمثل حياة الإنسان وتربة الأرض في صورة المسرحية، ولكن هذه الاحتفالات كثرت وزاد عددها كأن هذه الأعياد، لا صلة الجزء بالكل وإخلاصه له، هي أساس الدين وجوهره. وكانت الآلهة، عدا قلة صغيرة منها، أرواحاً رهيبة مجردة من النبل والأخلاق الفاضلة.
لكن الدين القديم مع هذا كله كان يدعو إلى فضائل الأخلاق، والى النظام والقوة في الفرد والأسرة والدولة. وكان هذا الدين يصوغ أخلاق الطفل، قبل أن يتسرب إليه الشك، ويعوده التأدب وأداء الواجب ولطف المعاشرة. كذلك كان يجعل للأسرة حقوقاً وضمانات ومعونة مقدسة: فكان يغرس في قلوب الآباء والأبناء أقصى درجات الاحترام المتبادل والتقوى، ويجعل للمولد والوفاة كرامة ومعنى قدسياً خاصاً، ويدعو إلى الوفاء بيمين الزواج ويشجع على التناسل إذ يجعل الأبوة شرطاً أساسياً لطمأنينة روح الميت وتمتعها بالهدوء والسلام. يضاف إلى هذا أن الدين، بما كان يفرضه من المراسم والحفلات قبل كل حملة ومعركة حربية، يرفع قوة الجندي المعنوية، ويحمله على الاعتقاد بأن القوى الروحية تحارب إلى جانبه، وأنه كان يثبت القانون ويزيده قوة بما يعزو إليه من أصل سماوي وصورة دينية، وبقوله إن الجرائم تخل بنظام السماوات وبسلمها(9/139)
وبوضع سلطان جوف وراء كل قَسَم. وكان الدين يخلع على كل ناحية من نواحي الحياة العامة جلالاً دينياً، ويحتم أن يسبق كل عمل من أعمال الحكومة طقوس وصلوات، ويربط الدولة والآلهة برباط متين، وحد بين التقوى والوطنية، وسما بحب الوطن فجعله عاطفة أقوى مما كان في أي مجتمع آخر يعرفه التاريخ. وبهذا كله كان الدين يشترك مع الأسرة في شرف تكوين ذلك الخلق الحديدي الذي كان هو السر في سيادة رومه على العالم، وفي تحمل تبعة هذا التكوين.(9/140)
الفصل الثالث
الأخلاق
ترى أي مبادئ خلقية نشأت من هذه الحياة التي كانت تحياها الأسرة الرومانية بين هذه الأرباب المختلفة؟ لقد كانت الآداب الرومانية من أيام عهد إنيوس Ennius إلى عهد جوفنال Juvenal تجعل تلك الأجيال القديمة مثلاً أعلى وتندم على الأيام الخالية أيام البساطة والفضيلة القديمتين. وستوحي إلينا صحف هذا الكتاب أيضاً بما كان هناك من فوارق بين رومه فبيوس الرواقية ورومه نيرون الأبيقورية، ولكن علينا ألا نغالي في هذه الفوارق بتحيزنا في اختيار الشواهد التي ندلل بها على وجودها؛ ذلك بأنه كان في عهد فبيوس أبيقوريون كما كان في عهد نيرون رواقيون.
ولقد ظلت الأخلاق الجنسية عند الرجل العادي واحدة لم يطرأ عليها تغيير من بداية التاريخ الروماني إلى نهايته: ظلت خشنة طليقة ولكنها لا تتعارض مع الحياة الناجحة في ظل الأسرة. وكان يطلب إلى الفتيات في جميع الطبقات الحرة أن يحافظن على بكارتهن، وما أكثر القصص القوية التي كانت تروى لرفع شأنها؛ ذلك أن الروماني كان قوي الإحساس بحق الملكية، شديد التمسك به، ولهذا كان يتطلب زوجة قوية الأخلاق غير متقلبة الأهواء تضمن له أنه لن يرث متاعه بعد موته أبناء من غير صلبه. ولكن الرجال في رومه لم يكونوا يلامون كثيراً على عدم العفة قبل الزواج إذا أظهروا الاحترام الواجب لرياء بني الإنسان ونفاقهم، شأنهم في هذا شأن الرجال في بلاد اليونان. وأنا لنجد في أقوال كتابهم وخطبائهم من عهد كانو الأكبر إلى شيشرون عبارات صريحة يبررون(9/141)
بها هذا النوع من الدنس (25)؛ وليس الذي يزيد بتقدم المدنية هو فساد الطبع وإنما الذي يزيد هو الفرص التي تتاح لإظهار هذا الفساد والتعبير عنه. ولم تكن العاهرات كثيرات في رومه في أيامها الأولى، وكان يحرم عليهن لبس مئزر الأمهات وهو شعار الزوجة المحترمة، وكن محصورات في الأركان المظلمة من رومه ومن المجتمع الروماني. ولم تكن قد نشأت فيها وقتئذ طائفة المحظيات المتعلمات الشبيهات بطائفة المطربات في أثينا، كما لم يكن قد نشأ فيها بعد أولئك المومسات الرقيقات اللاتي تغنى بهن أوفد Ovid في شعره.
وكان الرجال يتزوجون في سن مبكرة قبل السنة العشرين من عمرهم في العادة، ولم يكن الباعث على الزواج هو الحب الروائي، بل كان هو الرغبة الصادقة السليمة في أزواج يعاونهم في عملهم، وأبناء ذوي فائدة لهم، وأن يستمتعوا بحياة جنسية سليمة. وكان يقال في حفلة الزفاف إن الغرض من الزواج هو إنجاب الأطفال. وكان للأطفال في المزرعة كما كان للنساء فائدة اقتصادية كبرى ولم يكونوا كما هم اليوم لعباً حية. وكان الأباء هم الذين يزوجون أبناءهم وبناتهم، وكانت عقود الزواج تعقد أحياناً على الأبناء في طفولتهن، وكان رضا أبوي الزوج والزوجة ضرورياً لإتمام عقد الزواج. وكانت تصحب الخطبة مراسم وتقاليد معينة، تعد رابطة قانونية بين الزوجين. وكان أقرباء الزوجين يجتمعون في وليمة ليشهدوا عقد الزواج، وكانت قشه stipula تكسر بين أهل العروسين علاوة على اتفاقهما. وكانت شروط الزواج وبخاصة ما يتصل منها بالمهر تسجل كتابة، وكان الزوج يضع خاتماً من الحديد في الإصبع الرابعة من أصابع اليد اليسرى للزوجة لاعتقادهم أن عصباً يسير من تلك الإصبع إلى القلب (26). وكانت أصغر سن يباح فيها الزواج هي الثانية عشرة للفتاة والرابعة عشرة للفتى، وكان القانون الروماني القديم يجعل الزواج إجبارياً (27)، ولكن اعتقادنا أن هذا(9/142)
القانون قد أغفل ولم يكن يطبق قبل عام 413 ق. م حين فرض الرقيب كملس Camillus ضريبة على العزاب.
وكان الزواج نوعين زواجاً كم مانو Cum Manu وزواجاً سن مانو sin manu أي زواجاً يتبعه وضع العروس وما تملك تحت سلطان زوجها أو والده وزواجاً لا يتبعه هذا الوضع. وكان زواج سن مانو (من غير تسليم) في غير حاجة إلى حفلة دينية، ولا يتطلب أكثر من رضاء العروس والعريس. أما زواج وضع اليد فكان يتم أما بالمعاشرة مدة عام ( usus وأما بالشراء ( Coemptio) . وكان هناك نوع ثالث يعرف بالزواج بطريق الكنفرياشيو ( Confarreatio) والمعنى الحرفي لهذا اللفظ هو (أكل كعكة معاً). وكان هذا النوع الأخير يتطلب حفلاً دينياً، ولا يتم إلا بين الأشراف. وقد اختفى الزواج بالشراء الفعلي في عهد مبكر، أو أنه انعكس فكانت الزوجة في واقع الأمر كثيراً ما تشتري الزوج ببائنتها. وكانت هذه البائنة توضع عادة تحت تصرف الزوج، ولكن قيمتها ترد إلى الزوجة إذا طلقت أو مات زوجها. وكان يصحب العرس كثير من الحفلات والأغاني الشعبية؛ وكانت أسرتا العروسين تطمعان في بيت العروس، ثم يسير أفرادهما في موكب مرح بهيج إلى بيت والد العريس على أنغام المزامير والأناشيد والمزاح الماجن. فإذا وصلوا إلى بابه المتوج بالأزهار تقدم العريس إلى العروس وسألها: "من أنت؟ " فأجابته بعبارة بسيطة تشعر بوفائها ومساواتها وانضمامها له وهي قولها "حيث تكون أنت كيوس Caius أكون أنا كايا Caia"، ثم يرفعها فوق عتبة بيته، ويقدم لها مفاتيحه، ويضع عنقها وعنقه تحت نير إشارة إلى الرابطة المشتركة بينه وبينها؛ ومن ثم سمى الزواج كنيوجيوم Coniugium أي الاشتراك في النير. ثم تشترك العروس في الصلاة لآلهة البيت دلالة على أنها قد انضمت إلى الأسرة الجديدة.
وكان الطلاق عسيراً ونادراً في الزيجات التي تعقد بالكنفرياشيو؛ وفي زواج(9/143)
الكم مانو كان الزوج وحده هو الذي يستطيع فصم عرى الزوجية، أما في زواج السن مانو فكان لكل من الزوجين حق الطلاق إذا أراد دون أن يتطلب هذا موافقة الدولة. وقد سجل أول طلاق في تاريخ الرومان في عام 268 ق. م؛ وتقول إحدى الروايات المشكوك في صحتها إنه لم يحدث قبل هذا طلاق قط مذ أسست مدينة رومه (28). وكانت عادات العشائر الرومانية تتطلب من الزوج أن يطلق الزوجة الخائنة أو العقيم". وفي هذا يقول كاتو الكبير "إذا وجدت زوجتك تزني، فإن القانون يبيح لك أن تقتلها من غير محاكمة؛ وإذا ما فاجأتك مصادفة وأنت ترتكب هذه الجريمة نفسها فليس لها أن تمسك حتى بأطراف أصابعها، لأن القانون يحرم عليها هذا (29) ". ويلوح أنه كانت هناك زيجات سعيدة كثيرة على الرغم من هذا التفريق. فشواهد القبور تنطق بالكثير من عبارات الحب والإخلاص التي كتبت عليها بعد وفاة الأزواج. وهاهي ذي عبارة مؤثرة تعظم إحدى السيدات التي أخلصت في خدمة زوجها: "لقد كنت يا ستاتليا Statilia بارعة الجمال إلى أبعد حد وفية لأزواجك!. ولو أن أول من جاء إليك قد استطاع أن يقاوم الأقدار لأقام إليك هذا الحجر؛ أما أنا الذي نعمت بقلبك الطاهر هذه السنين الست عشرة فقد فقدتك، ألا ما أشد أسفي عليك (30) ".
والراجح أن فتيات رومه في عهدها الأول لم يبلغن من الجمال ما بلغته أخواتهن في عهودها المتأخرة واللائى يصفهن كاتلس Catullus وصف الرجل الخبير بأنهن Ianeum Iatusculum Manusque molicellas أي أن لهن "جانبين نحيلين أملسين كالصوف، ويدين صغيرتين ناعمتين". أو لعل الفتيات في العهدين لم يكن بينهن هذا الفرق ولكن الكدح والهم في الأيام الأولى أيام العمل في الحقول كانا يطغيان بعد زمن يسير على جمال المراهقة. وقد اشتهرت نساء الرومان بتناسب معارفهن، فكانت لهن أنوف صغيرة رفيعة، وكن في العادة(9/144)
ذوات شعر أسود وعيون داكنة. وكان للشقراوات عندهن منزلة رفيعة، وكذلك كان للصبغات الألمانية التي تكسب الفتيات هذا اللون قيمة كبيرة عند الرومانيات. أما الرجل الروماني فكان يتصف بالقوة والمهابة أكثر مما يتصف بالوسامة، فقد قسا وجهه من أثر تربيته الصارمة والحياة العسكرية الطويلة، ثم نعم واسترخى بعد انهماكه في الملاذ في الأيام الأخيرة. وما من شك في أن كليوبطرة قد أحبت أنطونيوس لسبب آخر غير خديه المنتفختين من احتساء الخمر، وأحبت قيصر بسحر آخر غير سحر أنفه ورأسه الشبيهين برأس النسر وأنفه. لقد كان الأنف الروماني كالخلق الروماني حاداً منحرفاً، وظل الرومان يلتحون ويطيلون شعر رؤوسهم حتى عام 300 ق. م حين بدأ الحلاقون يمارسون مهنتهم في رومه. أما ملابسهم فكانت في جوهرها كملابس اليونان، فكان الأولاد والبنات والحكام وكبار الكهنة يلبسون التوجا براتكستا Toga Praetexta أي الجبة ذات الأهداب الأرجوانية. فإذا أتم الشاب السادسة عشرة من عمره استبدل بها التوجا فريلس toga virilis " حبة الرجولة" البيضاء دلالة على أنه قد أصبح من حقه أن يقترع في الجمعيات الوطنية ومن واجبه أن يخدم في الجيش. وكانت النساء في داخل البيوت يلبسن ثوباً (استولا ( stola) يربطونه بمنطقة تحت الثديين، ويصل إلى القدمين؛ فإذا خرجن من البيوت لبسن فوقه Palla أو عباءة. وكان الرجال وهم في البيوت يلبسون قميصاً بسيطاً tunica، فإذا خرجوا منها أضافوا إليه جبة على الدوام وعباءة في بعض الأحيان. وكانت الجبة ( tegere أي يغطى) رداء من الصوف تتكون من قطعة واحدة يبلغ عرضها ضعفي عرض لابسها، وطولها ثلاثة أضعاف طوله. وكانت تلف حول الجسم ويلقى ما زاد منها على الكتف اليسرى، ثم تلف من تحت إبط اليد اليمنى، وتعود مرة أخرى فتلقى فوق الكتف اليسرى. وتستخدم ثناياها التي فوق الصدر كما تستخدم تحت الجيوب، وكانت تترك ذراع لابسها اليسرى حرة في حركتها.(9/145)
وكان الرجل الروماني يصطنع المهابة الصارمة ( gravitas) ويراها خلة ثقيلة لا يستغني عنها الأشراف الذين يحكمون شعباً، ثم شبه جزيرة، ثم إمبراطورية. وكان ما يتصف به من رحمة وعاطفة رقيقة مقصوراً على الحياة المنزلية؛ أما في الحياة العامة فقد كان على رجل الطبقة العليا أن يكون راسخاً جافاً كتمثاله، وأن يخفي وراءَ قناع من الهدوء الصارم ما في طبعه من تهيج وفكاهة لا نراهما واضحين ساخرين في مسرحيات بلوتوس الفكهة فحسب بل نراهما كذلك في خطب شيشرون. لقد كان يطلب إلى الرومان حتى في الوقت الذي نتحدث عنه أن يعيش عيشة إسبارطية؛ فكان الرقيب يستهجن الترف في الملبس والمأكل؛ بل أن الزارع إذا أهمل زرعه كان معرضاً لأن يفاجئه الرقيب ليحاسبه على هذا الإهمال. وليس أدل على تقشف الرومان من أن السفراء القرطاجنيين حين عادوا من رومه بعد الحرب البونية الأولى أخذوا يسّلون أثرياء التجار في بلدهم بقولهم إنهم شاهدوا مجموعة بعينها من الصحاف الفضية في كل بيت دعوا إليه، أي أن مجموعة واحدة تنقل سراً من بيت إلى بيت كانت تكفي طبقة الأشراف جميعها. وكان أعضاء مجلس الشيوخ في ذلك الوقت يجلسون على مقاعد خشبية صلبة في بهو Curia لا يدفأ قط في فصل الشتاء.
بيد أن الثروة والترف قد بدءا وسارا سيراً حثيثاً بين الحربين البونيتين الأولى والثانية؛ وشاهد ذلك أن هنيبال جمع من أصابع الرومان الذين قتلوا في معركة كاني عدداً كبيراً من الخواتم الذهبية (32)، وأن قوانين عدة قد وضعت لتحرم الجواهر المنقوشة، والملابس المبهرجة، والوجبات الغالية الثمن، ولكن هذه القوانين رغم تكررها ظلت عديمة الجدوى. لقد ظلت وجبات الروماني العادي حتى القرن الثالث قبل الميلاد وجبات بسيطة، فكان فطوره ( ientaculum) يتكون من الخبز وعسل النحل أو الزيتون أو الجبن؛ وكان غذاؤه ( prandium)(9/146)
وعشاؤه ( Cena) يتكونان من البقول والخضر والفاكهة. أما السمك واللحم فكان يختص بهما الأغنياء (33). وقلما كانت مائدة ما تخلو من النبيذ المخفف، أما شرب النبيذ المركز فكان يعد إفراطاً. وكانت الأعياد والولائم من المتع الضرورية في هذا العهد الرواقي، وكان العاجزون عن التمتع بها يضايقهم هذا العجز ويظهرون ما يحل بهم بسببه من إجهاد عصبي في تماثيلهم التي خلفوها لمن جاءوا بعدهم.
ولم يكن للصدقات مجال في هذه الحياة المقتصدة المتقشفة. وقد بقيت الضيافة من العادات التي يتبادلها الرومان لتيسر عليهم أسفارهم طالما كانت النزل فقيرة ومتباعدة، ولكن بولبيوس يقول "إن أحداً في رومه لا يقدم شيئاً ما لأي إنسان إذا كان ذلك الامتناع في مقدوره (34) "- وما من شك أن في هذا كثيراً من المغالاة. وكان الصغار يشفقون على الكبار، ولكن الظرف والكياسة لم يصلا إلى رومه إلا في آخر أيام الجمهورية. وقد غيرت الحروب والفتوح أخلاق الرومان فجعلتهم في الغالب غلاظاً قساة إلى حد بعيد، لا يأنفون من أن يقتلوا دون أن يؤنبهم ضميرهم على القتل، وأن يقتلوا دون أن يشكوا منه. وكان أسرى الحرب يباعون في الأسواق آلافاً مؤلفة، عدا الملوك وقواد الجند فكانوا يقتلون عقب النصر أو يتركون ليموتوا موتاً بطيئاً من أثر الجوع. أما في دوائر الأعمال فكانت أخلاق الرومان خيراً من هذه الأخلاق. نعم إن الرومان كانوا يحبون المال، ولكن بولبيوس (حوالي 167 ق. م) يصفهم بأنهم رجال مجدون شرفاء؛ ويقول المؤرخ اليوناني إن أحداً لا يستطيع أن يمنع اليوناني من الاختلاس مهما كان عدد الكتبة الذين يعيشون لمراقبته، أما الرومان فكانوا يتصرفون في مبالغ طائلة من الأموال العامة ولم يثبت عليهم الاختلاس إلا في حالات جد نادرة (35). على أننا رغم هذا القول نجد أن قانوناً قد صدر في عام(9/147)
432 ق. م لمنع الغش في الانتخابات. ويقول المؤرخون الرومان إن النزاهة السياسية قد بلغت أوجها في الثلاثة قرون الأولى من عهد الجمهورية، ولكنهم يثيرون الريبة بما يكيلونه من المدح لفالريوس كورفوس Valerius Corvus بقولهم إنه شغل واحداً وعشرين منصباً من مناصب الحكام، ثم عاد إلى حقوله فقيراً كما كان حين خرج منها؛ ولكيوريوس دنتاتوس Curius Dentatus الذي لم يحتفظ لنفسه بشيء من الغنائم التي استولى عليها من الأعداء؛ ولفابيوس بكتور Fabius Pictor ورفاقه الذين قدموا للدولة ما أعطى لهم في مصر من الهدايا الثمينة حين ذهبوا إليها في بعثة رسمية. وكان الأصدقاء يقرضون بعضهم بعضاً من غير فائدة. وكثيراً ما كانت الحكومة الرومانية تلجأ إلى الغدر في معاملتها للدول الأجنبية، ولعل الإمبراطورية كانت أشرف من الجمهورية في علاقاتها الخارجية. ولكن مجلس الشيوخ أبى أن يتغاضى عن تسميم بيرس Pyrrhus، وحذره من المؤامرة التي كانت تدبر له (36). ولما أن أرسل هنيبال بعد معركة كاني عشرة أسرى إلى رومه ليفاوضوها في افتداء ثمانية آلاف أسير آخرين ووعده هؤلاء العشرة بالعودة إليه، وفوا كلهم عدا واحداً منهم بما وعدوه به، فما كان من مجلس الشيوخ إلا أن ألقى القبض على هذا العاشر وصفده بالأغلال، وأعاده إلى هنيبال، ويقول بولبيوس إن سرور هنيبال لنصره "لم يبلغ من الشدة ما بلغه حزنه حين رأى ما يتصف به الرومان من ثبات وشهامة (37) ". وقصارى القول أن الروماني العادي في ذلك العهد كان محباً للنظام، محافظاً، وفياً، لا يفرط في الشراب، وقوراً بخيلاً، قاسياً، عملياً. وكان يعجب بالنظام ويسر منه ولا يستمع إلى ما يقال من الهراء عن الحرية؛ وكان مطيعاً يرى أن الطاعة خير سبيل إلى اعتياد الأمر والنهي. وكان يسلم بلا جدال بأن من حق الحكومة أن تتثبت من أخلاقه كما تتثبت من إيراده، وأن قدره عندها لا يوازن إلا بما يقدمه للدولة من خدمات، وكان لا يؤمن بالفردية ولا يثق بالعبقرية. ولم يكن يتحلى بشيء من الجاذبية،(9/148)
وخفة الروح وطلاقة اللسان التي يتصف بها يونانيو أتيكا Attica. وكان إعجابه بالأخلاق الفاضلة والإرادة القوية يماثل إعجاب اليونان بالحرية والذكاء. وكان النظام مصدر تفوقه على غيره. وكان يعوزه الخيال إلى حد عجز معه عن أن ينشئ له أساطير خاصة به. وكان يحمل ببعض الجهد على أن يحب الجمال، ولكنه قلما استطاع أن يخلق هذا الجمال خلقاً. وقلما كان يجد لديه فائدة للعلوم البحتة، وكان يرتاب في الفلسفة، ويرى أنها وسيلة شيطانية للقضاء على الأخلاق والأساليب القديمة. ولم يكن في مقدوره بأية وسيلة كانت أن يفهم أفلاطون أو أركميدس أو المسيح، وكل ما كان يستطيعه أن يحكم العالم.(9/149)
الفصل الرابع
الآداب
لم تكن الأسرة والدين والقانون الأخلاقي وحدها هي التي تكون أخلاق الروماني، بل إن المدرسة والآداب كان لها هي الأخرى شأن في تكوين خلقه وإن يكن أقل من شأن العوامل الثلاثة الأولى. ويقول افلوطرخس إن أول مدرسة رومانية أنشئت في عام 250 ق. م (38)، ولكن ليفي في وصف فرجنيا Viirgtnia محبوبة أحد الحكام العشرة، ولعل لخياله الخصب شأن في هذا الوصف، إنها "كانت تذهب إلى مدرسة في السوق العامة" في تاريخ مبكر جداً وهو عام 450 ق. م. وإن مطالبة الشعب بتدوين القوانين، ونشر الألواح الأثني عشر، ليوحي بأن كثرة المواطنين في رومه كانت في تلك الأيام تعرف القراءة والكتابة.
وكان المدرس في العادة من العبيد أم من العبيد المحورين تستخدمه عدة أسر لتعليم أبنائها، أو ينشئ هو لنفسه مدرسة خاصة يقبل فيها من يتقدم إليه. ويعلم فيها القراءة والكتابة والنحو والحساب والتاريخ والطاعة. وكانت التربية الخلقية مادة أساسية فيها تعلم على الدوام، وكان يعنى بالنظام والتأديب أعظم عناية. وكان في حفظ الألواح الاثنى عشر عن ظهر قلب تدريب للذاكرة وتقويم للأخلاق جميعاً. ومن أقوال هين Heine في وصف الصعوبة التي يلقاها من يريد تعلم اللغة اللاتينية إنه "لو اضطر الرومان لتعلم اللغة اللاتينية لما وجدوا لديهم من الوقت ما يسمح لهم بفتح العالم (40) ". ولكن الرومان أيضاً قد اضطروا إلى دراسة تصريف الأفعال اللاتينية الشاذة، ولم يلبثوا أن اضطروا إلى دراسة اللغة اليونانية.(9/150)
وكان الطالب اليوناني يدرس سير أبطال الرومان وما قامت به بلاده من جلائل الأعمال بدراسة آثار كتابها وشعرائها، وكان يتلقى دروساً في الوطنية بدراسة حوادث لم تحدث قط. ولم يكن الرومان يعنون بالألعاب الرياضية لأنهم كانوا يفضلون أن يقووا أجسامهم ويتعودوا تحمل المشاق بالقيام بالأعمال المجهدة النافعة في الحقول والمعسكرات، لا بالمباريات في المجتلدات والملاعب الرياضية.
وكانت اللغة- كما كان الشعب- اقتصادية عملية محددة المعاني، مختصرة، جملها الأصلية والتبعية منظمة تنظيماً يوصل إلى هدف محدد. وثمة آلاف من الروابط بينها وبين اللغتين السنسكريتية واليونانية واللغات الكلتية التي كان ينطق بها الغاليون الأقدمون وسكان ويلو وأيرلندة؛ وهذه اللغات كلها من أسرة اللغات الهندوربية. وكانت اللغة اللاتينية أضيق من اللغة اليونانية خيالاً، وأقل منها مرونة واستعداداً لتكوين الكلمات المركبة؛ وكان لكريشيوس وشيشرون يشكوان من قلة مفرداتها، ومن عجزها عن بيان الفروق الدقيقة في المعنى الواحد. لكنها مع ذلك كانت ذات نغمة طنانة فخمة وقوة أضحت بفضلهما من أصلح اللغات للخطابة؛ كما أن أسلوبها الجزل الموجز، وعبارتها المنطقية، قد جهلاها صالحة لتدوين القانون الروماني. وقد انتقلت الحروف الهجائية اللاتينية إلى رومه من جزيرة خلقيس العوبية Euobean Chalcis (1) عن طريق كومية وإتروريا (41). ومن أجل هذا نرى الحروف اللاتينية كلها يونانية الشكل في أقدم نقش لاتيني معروف يعزى إلى القرن السادس قبل الميلاد، وكان حرف C في اللاتينية القديمة ينطق كافاً مثل حرف K في الإنجليزية كما كان حرفا U,V ينطقان مثل W,U؛ أما الحروف الدالة على الحركات فكانت شبيهة بمثلها في اللغة الإيطالية الحديثة. وكان معاصرو قيصر ينطقون اسمه قيصر Yooleous Keyssar كما كان اسم شيشرون Cicero ينطق به كيكرو Keekero.
_________
(1) من مجموعة جزائر عوبية في شرق بلاد اليونان. (المترجم)(9/151)
وكان الرومان يكتبون بالحبر ببراعة معدنية مشقوقة ( calamus, stilus) على أوراق الأشجار في بادئ الأمر ( folia) ، ومن ثم كانت الكلمتان الإنجليزيتان Leaf, folio ( ومعناهما صفحتان)؛ ثم كتبوا فيما بعد على باطن لحاء الشجر ( liber) ؛ وكثيراً ما كانوا يكتبون على ألواح بيضاء من الخشب المطلي بالشمع ( Album) ، وكتبوا بعد ذلك على الجلد المدبوغ، وعلى الورق. وإذ كانت لغة الكتابة اللاتينية أشد مقاومة للتغير من لغة الكلام، فإن لغة الأدب أخذت تختلف شيئاً فشيئاً عن اللغة التي كان يتكلمها الشعب، كما يحدث الآن في أمريكا وفي فرنسا. ولذلك نشأت اللغات الرومانسية الرخيمة: الإيطالية والأسبانية والبرتغالية، والفرنسية، ولغو رومانيا، نشأت هذه اللغات من اللغة اللاتينية الخشنة غير المهذبة التي جاء بها إلى هذه الأقاليم الجنود والتجار، والأفاقون المغامرون، ولم تنشأ من اللغة التي جاء بها الشعراء والنحويون. ولهذا اشتقت الكلمات التي معناها حصان في اللغات الرومانسية- Caballocal، Cavallo، Cheval- من اللفظ اللاتيني العامي Caballus لا من اللفظ الفصيح equis. وكان لفظ ille في اللغة اللاتينية العامية ومكوناً من مقطع واحد كلفظ il في اللغتين الفرنسية والإيطالية، وكان حرف S وحرف M يُحذفان أو لا ينطق بهما إذا كانا في آخر الكلمات كما هي الحال في هاتين اللغتين. وعلى هذا فقد جاءت خير اللغات من نسخ أسوئها: Corruptio pesimi optima.
ترى ما هو الأدب الذي كان يقرؤه الشاب الروماني في هذه الثلاثة قرون الأولى من عهد الجمهورية؟ لقد كان في وسعه أن يقرأ ترانيم وأغاني دينية كأغنية إخوان أرفال The Arval Brethren، وكان لديه أيضاً قصائد شعبية تقص ماضي روما التاريخي أو الأسطوري. وكان في ذلك العهد سجلات رسمية -معظمها ما كتبه الكهنة- للانتخابات، والمناصب الكبرى،(9/152)
والحوادث الشهيرة، وعلامات التشاؤم والتفاؤل، وأيام الأعياد (1).
وقد اعتمد ك. فابيوس بكتور Q. Fabiue Pictor على هذه السجلات في كتابة تأريخ لروما خليق بالاعتبار، وإن كان ما كتبه باللغة اليونانية؛ ذلك بأن اللغة اللاتينية لم تكن تعد في ذلك الوقت صالحة لأن يكتب بها النثر الأدبي، ولم يكن يكتب بها المؤرخون حتى زمن كاتو.
لقد كان هناك خليط من النثر يسمى ساتوري Sature، وهو خليط من الكلام المطرب الأجوف والغزل الهزلي -صاغ منه لوسلس Lucillus فيما بعد صورة جديدة كتب بها هوراس Horace وجوفنال Juvenal. وكان لديهم مجون هزلي فاحش أو تقليد صامت يقوم له في العادة ممثلون من إتروريا.
وقد أطلق لفظ استريوني Istiriones على بعض هؤلاء الممثلين القادمين من مدينة استريا Istria ومن هذا الاسم اشتق لفظ Histrio ( ممثل) اللاتيني ومشتقاته في اللغة الحديثة. كذلك كانت تمثل في أيام الأسواق والأعياد مسرحيات هزلية فجة شبه مرتجلة، أخذت عنها كثير من المسرحيات الهزلية الإيطالية القديمة والحديثة آلافاً من شخصياتها: كالأب الغني الأبله، والشاب المتلاف صريع الحب، والعذراء المفترى عليها، والخادم الدساس الماهر، والنهم الدائب السعي إلى وجبة، والمهرج المرح الصخاب.
وفي ذلك العهد البعيد كان المهرج يتباهى برقع ثيابه الزاهية الألوان، وبسراويله الطويلة المنتفخة، وبصديريته الواسعة الأكمام، وبرأسه الحليق، وهي الصورة التي لا نزال نذكرها من أيام شبابنا. ولقد وجدت على مظلمات خرائب بمبي صورة لا تفرق في شيء عن صورة "القرقوز" المعروفة.
وكان أول دخول الأدب في روما على يد عبد يوناني في عام 272 ق. م.
_________
(1) Annales maximi, Libri magistratum, fasti consulares fasti calendares(9/153)
ففي ذلك الوقت سقطت تارنتم في يد الرومان، وذبح الكثير من أهلها اليونان، ولكن ليفيوس أندرينيكوس Levius Andrenicus أسعده الحظ بأن نجا من القتل وصار في عداد العبيد، ثم جيء به إلى روما فأخذ يعلم أبناء سيده وغيرهم من الأطفال اللغتين اللاتينية واليونانية، وترجم لهم الأوديسة بالشعر اللاتيني الساتورني Saturnian وهو عبارة عن أبيات ذات أوزان مفككة غير منتظمة تقاس أوتادها بالنبرات لا بالطول. ثم تحرر من الأسر جزاءً له على جهوده وعهد إليه إيديل بكتابة مأساة ومسلاة تمثلان في ألعاب ( Ludi) سنة 240 ق. م. فكتب المسرحيتين على النمط اليوناني، وأرشد ممثليهما، ومثل هو الأجزاء الهامة فيهما، وغنى ما فيهما من الأناشيد على نغمة مزمار حتى بح صوته.
ثم جاء بشخص آخر يغني الأبيات وهو يمثل - وهي طريقة اتبعت في مسرحيات كثيرة بعدهما مثلت في روما، وكان لها أثر كبير في نشأة المسرحية الصامتة المضحكة. وسرّت الحكومة أيما سرور من دخول المسرحية الأدبية في روما فكرمت أندرمكس، بأن أباحت للشعراء أن يؤلفوا اتحاداً لهم، وأن يعقدوا اجتماعاتهم في هيكل منيرفا على الأفنتين. ومن ذلك الحين جرت العادة بتمثيل مسرحيات ذات مناظر في الأعياد العامة (43).
وبعد خمس سنين من هذه البداية التاريخية جاء جندي قديم من عامة الشعب ومن أهل كمبانيا يدعى كنيس نيفيوس Cnaeus Naevius فأثار غضب الأهلين المحافظين على تقاليدهم القديمة بتمثيل مسلاة سخر فيها من المفاسد السياسية التي كانت متفشية في العاصمة في أيامه، سخرية لا تقل في صراحتها عن سخرية أرسطوفان Aristophanes.
وشكت الأسر الكبيرة من هذه السخرية، فزجّ نيفيوس في السجن ثم اعتذر عن عمله هذا وأطلق سراحه، ولكنه عاد فألّف مسرحية أخرى لا تقل في سخريتها اللاذعة عن مسرحيته الأولى، أخرج على أثرها من روما. وكتب(9/154)
في منفاه وهو شيخ طاعن في السن ملحمة شعرية في الحرب اليونانية الثانية التي خاض هو نفسه غمارها، تفيض وطنية وحماسة. وتبدأ هذه الملحمة بذكرى تأسيس روما على أيدي اللاجئين الطرواديين، وقد استمد منها فرجيل موضوع ملحمته وكثيراً من مناظرها.
وخليق بنا أن نقول إن الحكم الذي صدر بنفيه كان مأساة مزدوجة؛ ذلك أن الملهاة الرومانية قد فتّ في عضدها عنت الرقابة التي كانت تعد السب جريمة يعاقب عليها بالإعدام، وإن السياسة الرومانية قد فقدت فيه ناقداً عاماً جريئاً كان في وسعه أن يطهرها من مفاسدها.
وكتب نيفيوس أيضاً مسرحية شعرية تعتمد على تأريخ روما. ووقفت هذه التجربة هي الأخرى عنده، وظلت المآسي الرومانية بعد أيامه محصورة كلها في دائرة الأساطير اليونانية التي نضب معينها ولم تجد منها مخرجاً إلى غيرها من الموضوعات. ولم يبقَ مما كتبه نيفيوس إلا قطع قليلة متفرقة تشهد ببراعته، ومنها قطعة تصف فتاة لعوباً يقول فيها:
"إنها تنتقل من شخص إلى شخص تنقل من يلعب كرة في حلقة، وهي كل شيء لكل رجل، تلقاهم بألفاظها، وغمزات عينها، ودلالها، وعناقها. هذا تضغط عليه بيدها، وذاك بقدمها، وثالث تريه خاتمها، ورابع ترسل له قبلة حارة مغرية من شفتيها، وهنا أغنية، وهناك لغة الإشارات" (44).
وخليق بنا أن نقول إن النساء لم يكنّ في ذلك الوقت أقل جمالاً وسحراً مما هنّ الآن، وإن الرومان لم يكونوا كلهم متزمتين كما كان "كاتو"، وإن الفضيلة كانت تتنحى عن مكانها في ظلال أبواب الهياكل نفسها.
ولم يكن للعلوم شأن في تربية المواطن الروماني أو ثقافته إذا استثنينا قواعد الحساب الأساسية، وما يكفي من الهندسة لتخطيط مزرعة أو معبد. وكان(9/155)
الأولاد يعدون على أصابعهم ( digita) ، ولم تكن الأرقام التي يستخدمونها في العد والحساب إلا صورة للإصبع ممتدة ( I) ، ولليد ( V) ، أو اليدين متصلتين عن الرسغ ( X) ، وكانوا يكتفون في تكوين الأعداد الأخرى بتكرار هذه الرموز ( III, II) وبإضافة أرقام قبل V، X أو بعدهما للدلالة على ما هو أقل منهما في الحالة الأولى أو أكثر منهما في الحالة الثانية.
ومن هذا الحساب "اليدوي"، وضع النظام العشري القائم على أجزاء العشرة ومضاعفاتها، أي الأصابع العشر. وأجاد الرومان في استخدام الهندسة في أعمال البناء وغيرها من الأعمال الهندسية، ولكنهم لم يضيفوا نظرية واحدة جديدة إلى النظريات التي ابتكرها العقل اليوناني، ولسنا نسمع شيئاً عن الفلك الروماني في هذا العهد إلا ما يتصل منه بالتقويم المليء بالأخطاء، وبالتنجيم شقيق الفلك وحده.
أما الطب فقد ظل معظمه حتى القرن الثالث مقصوراً على استخدام الأعشاب والسحر والصلوات في البيوت، وكان الاعتقاد السائد أن الآلهة وحدها هي القادرة على شفاء المرضى، وكانوا يبتهلون في كل داء إلى إله خاص، كما نلجأ نحن إلى الطبيب الإحصائي، لكي يضمنوا لأنفسهم الشفاء من هذا المرض (45)، فبعوض المناقع الرومانية كان يلجأ في اتقاء أذاه إلى الإلهتين فبريس Febris ومفتيتس Mephtitis، كما ظل الرومان إلى القرن العشرين بعد الميلاد يلتمسون الشفاء من الحمى من "سيدة الحميات" La Madonna della Febbre (46) . وكانت الأضرحة الشافية والمياه المقدسة شائعة شيوعها في هذه الأيام.
وكان هيكل اسيولابيوس Aesculapius مركزاً كبيراً للعلاج الديني يعتمد فيه على التغذية المناسبة، والدعوات الصالحات، والمراسم الدينية المهدئة للأعصاب،(9/156)
ومعونة الأطباء المجبرين العمليين، ولطف مهرة الممرضين- يعتمد فيه على هذه العوامل كلها لإعادة الثقة إلى نفس المريض ولشفائه من مرضه شفاء يظنون أنه إنما جاء عن طريق المعجزات (47).
على أنه كان في رومه إلى جانب هذه الوسائل أطباء حقيقيون ودجالون من العبيد قبل المسيح بخمسمائة عام؛ وكان بعضهم يمارسون طب الأسنان لأن الألواح الاثنى عشر كانت تحرّم دفن الذهب مع الموتى إلا إذا كان مستخدماً في تغطية الأسنان (48). ونسمع في عام 219 ق. م عن أول طبيب من الأحرار في رومه، وهو أرشجاتوس البلوبونيزي Archagathus Le Peloponnes. وقد أعجب الأشراف بجراحاته إعجاباً حمل مجلس الشيوخ على أن يطلب له مسكناً رسمياً ويمنحه حرية المدينة. وكان "شغفه الشديد الذي يبلغ حد الهوس بالتقطيع والتحريق" سبباً في تلقيبه فيما بعد بالجزار Carnifex (49) . وأخذ الأطباء اليونان من ذلك الوقت يهرعون إلى رومه حتى أصبحت صناعة الطب في تلك البلاد وقفاً على اليونان.(9/157)
الفصل الخامس
الزراعة
قلما كان الرومان في تلك العصور يحتاج إلى الطب، لأن حياته النشيطة في الزراعة والجندية تكسبه صحة وقوة. وكان يجدُّ في فلح الأرض كما يجد اليوناني في خوض عباب البحر؛ وكانت الزراعة أساس حياته، يقيم المدن لتكون مجتمعاً للزراع يتبادلون فيها محصولات أرضهم، وينظم جيوشه ودولته على أساس استعداده للدفاع عن أملاكه وتوسيع رقعتها، ويفكر في آلهته على أنها أرواح الأرض الحية والسماء المغذية.
ونجد الملكية الفردية قائمة في رومه من أقدم العصور المعروفة (50)؛ على أن بعض الراضي كانت تعد من الأملاك العامة ager publicus التي تستولي عليها الدولة عن طريق الفتح وتحتفظ لنفسها بملكيتها. وكانت أسرة الزراع في عهد الجمهورية الباكر تمتلك فدانين أو ثلاثة أفدنة، يشتغل فيها جميع أفرادها وعبدها إن كان لها عبد، وتعيش عيشة متقشفة على ما تنتجه من الغلات. وكانوا يفترشون القش (51)، ويصحون من نومهم مبكرين، ويخرجون إلى عملهم ونصف جسمهم العلوي عار من الملابس، ليحرثوا الأرض ويمهدوها خلف ثيران تسمدها بفضلاتها، وتتخذ لحومها قرابين دينية وطعاماً في الأعياد والولائم. وكانت فضلات الآنية تتخذ هي الأخرى سماداً، ولكن المخصبات الكيمائية كانت نادرة في إيطاليا قبل عهد الإمبراطورية. وقد استورد في ذلك العهد كتباً في الزراعة العملية من بلاد اليونان ومن قرطاجنة. وكانت الأرض تزرع حباً ثم خضراً، ثم تترك من حين إلى حين لتكون مراعي حتى لا يستنفد خصبها. وكانت الفاكهة والخضر موفورة، وكانت بعد البقول أهم غذاء للأهلين، وكان(9/158)
الثوم من أحب المشهيات، وقد بلغ من شأن الزراعة عندهم أن بعض أسر الأشراف قد اشتقت أسماؤها من الخضر التي تعنى بزراعتها. ومن أمثلة ذلك أسر Lentuli, Fabii,Caepiones، وهي مشتقة من ألفاظ معناها العدس، والبصل، والفول أو الحمص. ثم طغت زراعة التين والزيتون والكروم شيئاً فشيئاً على زراعة الحبوب والخضر، واستبدل زيت الزيتون بالزبد في الطعام، وبالصابون في الاستحمام، واستخدم للإضاءة في المشاعل والمصابيح، كما كان العنصر الأساسي في أدهان الشعر والجلد التي كانت رياح البحر الأبيض المتوسط الجافة وشمسه المحرقة في فصل الصيف تحتم عليهم استعمالها. وكان الضأن أهم قطعانهم لأن الإيطاليين كانوا يفضلون نسيج الصوف على غيره من المنسوجات. وكانت الخنازير والدجاج تربى في ساحة المزرعة، وكان لكل أسرة تقريباً حديقة للأزهار (54).
ثم غيرت الحروب هذه الصورة القروية وما فيها من كدح، ذلك أن كثيرين من الزراع الذين استبدلوا السيف بالمحراث قد غلبوا على أمرهم في ميدان القتال أو اجتذبتهم حياة المدن فلم يعودوا قط إلى حقولهم؛ وكثيرون غيرهم وجدوا أن أرضهم أتلفها الإهمال، أو الجيوش، فلم يجدوا لديهم من الشجاعة ما يحملهم على أن يبدءوا العمل فيها من جديد؛ ومنهم من قصمت ظهورهم الديون الباهظة؛ فاضطر هؤلاء كلهم إلى أن يبيعوا أرضهم بأثمان زهيدة إلى الأشراف أو الممولين الزراع؛ وضم هؤلاء المزارع الصغيرة بعضها إلى بعض وكونوا منها ضياعاً واسعة كبيرة Latifundia، واستبدلوا بزراعة الحبوب في هذه الضياع مراعي للضأن والماشية، وبساتين وكروماً، وحشدوا فيها عبيداً من أسرى الحروب يعملون فيها على أعين مشرفين، كانوا هم أيضاً عبيداً في أغلب الأحيان. وكان الملاك يأتون إلى هذه الضياع بين الفنية والفنية ليلقوا نظرة على(9/159)
أملاكهم؛ ولم يكونوا هم أنفسهم يقومون فيها بعمل من الأعمال، بل كانوا يعيشون عيشة الملاك الغائبين عن أملاكهم في منازل ذات حدائق في الريف، أو في قصور في رومه. وقد بدأ هذا الاتجاه الجديد قبل القرن الرابع، حتى إذا حل القرن الثالث قبل الميلاد نشأت في الريف طائفة من المستأجرين الذين أثقلتهم الديون، وفي العاصمة طائفة من الصعاليك الذين لا ملك لهم، وانتشرت بينهم التذمر والغضب من وضعهم. وما لبث هذان التذمر والغضب أن قضيا على الجمهورية التي أقامها كدح الفلاحين.(9/160)
الفصل السادس
الصناعة
لم تكن أرض إيطاليا غنية بمعادنها- وكان لفقرها في هذه المعادن أكبر الأثر في تاريخ إيطاليا الاقتصادي والسياسي؛ فلم يكن في البلاد ذهب قط، وكانت الفضة جد نادرة، وكان فيها قدر لا بأس به من الحديد، كما كان بها بعض النحاس، والرصاص، والقصدير، والخارصين، بكميات قليلة لا تكفي لقيام الصناعات. وكانت جميع المناجم في الإمبراطورية كلها ملكاً للدولة، ولكنها كانت تؤجرها للأفراد يستغلونها استغلالاً مجزياً على أيدي آلاف من العبيد. ولم تتقدم صناعة التعدين أو الفنون الصناعية في البلاد إلا قليلاً؛ ولكن البرنز في ذلك العهد كان لا يزال أكثر استعمالاً من الحديد؛ ولم تكن الآلات الرافعة والدلاء ذات السلاسل التي أقامها أركميدس Archimedes وغيره من العلماء في صقلية ومصر تستخدم إلا في خير المناجم الإيطالية وأحدثها. وكان الخشب أهم أنواع الوقود تقطع له الأشجار كما تقطع أيضاً لاستخدامها في بناء البيوت وصنع السفن والأثاث؛ ومن أجل هذا أخذت الغابات تتناقص مساحتها وتنعدم شيئاً فشيئاً من سفوح الجبال، حتى وصل التقطيع إلى الحد الأعلى الذي لا تنمو فوقه الأشجار. وكانت أروج الصناعات وأكثرها ازدهاراً صناعة الأسلحة والعدد في كمبانيا. ولم يوضح قط نظام للمصانع إذا استثنينا مصانع الأسلحة والفخار، ولم يكن الفخرانيون يصنعون الصحاف وحدها بل كانوا يصنعون معها الآجر، والقرميد، والأنابيب، والقنوات التي تجر الماء إلى البيوت. وكانوا في أريتيوم وغيرها يقلدون النماذج اليونانية ويتعلمون صناعة الآنية الفنية. ولم يحل القرن السادس قبل الميلاد حتى كانت صناعة النسيج قد تخطت المرحلة المنزلية في نقش(9/161)
التيل والصوف وإعدادها وصبغهما، وذلك على الرغم من أن صناعة الغزل كان يقوم بها النبات والأزواج والعبيد. أما النساجون الأحرار وغير الأحرار فقد جمعوا في مصانع صغيرة لا تنتج للأسواق المحلية وحدها بل تنتج كذلك ما يلزم منها لتجارة القصدير.
أما الإنتاج الصناعي للاستهلاك غير المحلي فقد كانت تعطله صعاب النقل. ذلك أن الطرق كانت رديئة والقناطر غير مأمونة، والعربات التي تجرها الثيران بطيئة، والنزل في الطرق نادرة، وكان اللصوص كثيرون، ومن ثم اتجهت حركة النقل إلى القنوات والأنهار؛ أما المدن الساحلية فكانت تستورد حاجتها من البضائع بطريق البحر لا من المدن الواقعة خلفها بطريق البر. وما أن حلت سنة 202 ق. م حتى كان الرومان قد أنشئوا ثلاثة من الطرق "القنصلية العظيمة"، وقد سميت قنصلية لأنها كانت تسمى عادة باسم القناصل أو الرقباء الذين كانوا يبدءونها. وما لبث هذه الطرق العامة أن فاقت في صلابتها واتساعها الطرق الفارسية والقرطاجنية التي اتخذها الرومان نماذج لهم في بادئ الأمر. وكان أقدم هذه الطرق طريق فيا لاتينا via Latina الذي خرج به الرومان حوالي 370 ق. م إلى تلال ألبان. وبدأ أبيوس كلوديوس Appius Claudius الضرير في عام 312 طريق فيا أبيا via Appia أو الطريق الأبياوي الذي يصل رومه بكبوا Capua واستخدم في إنشاءه آلافاً من المجرمين (55)، ثم مدد هذا الطريق فيما بعد إلى بنفنتم، وفنوزيا Venusia، وبرنديزيوم Brundisium، وتارنتم. وكان هذا الطريق البالغ طوله 333 ميلاً إنجليزياً يربط ساحلي شبه الجزيرة الشرقي والغربي، وييسر التجارة مع بلاد اليونان والشرق، كما كان هو وغيره من الطرق عاملاً كبيراً في توحيد إيطاليا. وفي عام 241 ق. م شرع أورليوس كوتا Aurilius Cotta في إنشاء الطريق الأوريلي الممتد من رومه إلى أنتيبيس Antibes مخترقاً مدينتي بيزا Pisa،(9/162)
وجنوى Genoa. وافتتح كيوس فلامينوس Caius Flaminus في عام 220 الطريق الفلاميني المؤدي إلى أرمينوم Ariminnm، ثم أنشئ حوالي ذلك الوقت نفسه الطريق الفليري Valerian بين تيبور Tipur وكرفينيوم Corfinium. وهكذا أخذت شبكة الطرق الفخمة تتسع شيئاً فشيئاً: فصعد الطريق الإميلي Aemilian نحو الشمال من أرمينيوم مخترقاً بونونيا Bononia وموتينا Mutina إلى بلاسنتيا Placentia ( عام 187)، وربط الطريق البستومي Postumian جنوى بفرونا Veronoa (148) ومسار طريق بويليا Via Popilia من أرمينيوم مخترقاً رافنا Ravenns إلى بدوا Padua (132) ثم أنشئت الطرق في القرن التالي من إيطاليا إلى خارجها- إلى يورك York، وفينا Vienna، وثسلونيكا، Thessalonica، ودمشق، كما امتدت على طول ساحل إفريقية الشمالي. وأفادت هذه الطرق في الدفاع عن الإمبراطورية وتوحيدها، وبعث الحياة فيها، وذلك بمساعدتها الجيوش على سرعة الحركة ونشر الأنباء والعادات والأفكار في ربوعها، كما أضحت مسالك عظيمة للتجارة، وكان لها شأن أيما شأن في تعمير إيطاليا وأوربا وزيادة ثرائهما.
لكن التجارة لم ترج في إيطاليا على الرغم من هذه الطرق الكبرى رواجها في شرقي البحر الأبيض المتوسط. ذلك أن رجال الطبقات العليا كانوا ينظرون بعين الاحتقار إلى الشراء بأثمان بخسة والبيع بأثمان مرتفعة، ولذلك تركوا التجارة الداخلية لليونان والمحررين من أبناء الشرق؛ هذا في المدن، أما الريف فقد كان أهله يكتفون بالأعياد التي تقام من حين إلى حين، وبأسواق اليوم التاسع في المدن.
كذلك لم تبلغ التجارة الخارجية شأناً عظيماً لأن النقل البحري كان معرضاً للأخطار، فقد كانت السفن صغيرة الحجم لا تزيد سرعتها على ستة أميال في الساعة سواء أكانت تسير بالشراع أم بالمجاديف، ولم تكن تبعد عن الشاطئ(9/163)
ولا يجرؤ معظمها على الخروج من الموانئ من شهر نوفمبر إلى شهر مارس. كذلك كانت قرطاجنة تسيطر على غربي البحر الأبيض المتوسط والممالك الإغريقية تسيطر على شرقيه، وكان لصوص البحار ينقضُّون من مكامنهم من حين إلى حين على التجار الذين هم أكثر منهم شرفاً إلى حد ما.
وفوق هذا كله كان نهر التيبر دائب العمل على طمر مصبه وسد مدخل ميناء عند أستيا Ostia؛ وقد حدث أن غرقت مائتا سفينة في هذا الميناء على أثر عاصفة هوجاء. يضاف إلى هذا وذاك أن التيار كان قوياً بحيث يجعل سير السفن صاعدة فيه إلى رومه عملاً لا يوازي ما يتطلبه من مشقة وما يتكلفه من مال، ومن أجل هذا بدأت السفن حوالي عام 200 ق. م ترسو عند بتيولي على بعد مائة وخمسين ميلاً جنوبي رومه، ومنها تنتقل حمولتها براً إلى العاصمة.
وكان لابد لتيسير هذه الحركة التجارية الداخلية والخارجية من وضع نظام للنقود، والمقاييس، والمكاييل، والموازين، مضمون من الدولة (1).
لقد ظلت الماشية حتى القرن الرابع قبل الميلاد تتخذ وسيلة للتبادل، وذلك لما لها من قيمة عند جميع الناس، ولأنها كان يسهل نقلها من مكان إلى مكان. فلما اتسع نطاق التجارة استخدمت قطع من النحاس، خشنة الصنع غير مهذبة تسمى الإيس Aes ( حوالي 330 ق. م). وقد اشتقت الكلمة الإنجليزية الدالة على القيمة estimate من كلمتي Aes timare أي تقويم النحاس. وكانت الوحدة المستعملة في تقويم الأشياء هي الآس As ( الواحد) وكان وزنها رطلاً من النحاس، ولما أن سكّت
_________
(1) والى القارئ بعض المقاييس والمكاييل الرومانية: الموديس Modius ومقداره ربع بوشل (والبوشل يساوي 35. 24 لتراً)، والقدم ومقدارها 11 5 slash8 بوصة إنجليزية؛ وكانت خمس أقدام رومانية تساوي خطوة ( passuus) ، وألف خطوة يساوي ميلاً ( Milia Passum) ومقداره 1619 ياردة تقريباً إنجليزية، وكان الأيوجيرم ( iugerum) يساوي 2 slash3 ندان إنجليزي Acre تقريباً؛ وكانت (أثنتا عشرة أوقية ( Unciae) تساوي رطلاً.(9/164)
الدولة عملة نحاسية حوالي عام 335 ق. م كانت تطبع عليها في الغالب صورة ثور، أو شاة، أو خنزير، ومن ثم سميت بيكونيا pecunia ( من بيكس pecus أي ماشية).
ويقول بلني إنه لما شبت الحرب البونية الأولى "ولم تجد الجمهورية من الأموال ما يفي بحاجاتها، خفضت وزن الآس إلى أوقيتين من النحاس، وبهذه الوسيلة اقتصدت 5 slash6 قيمته، وأفلحت في تصفية الدين العمومي (56) ". وما أن وافى عام 202 حتى كان وزن الآس قد نقص إلى أوقية واحدة، ثم خفض في عام 87 إلى نصف أوقية لتستعين الدولة بذلك على تمويل الحرب الاجتماعية. وفي عام 269 سكًت قطعتان من النقود الذهبية أولاهما الديناريوس Denarius وكان يساوي عشرة آسات، أي قيمة الدرخمة الأثينية في صورتها الهيلينية المخفضة، والأخرى السترتيوس ومقدارها آسان ونصف آس أو ربع ديناريوس. وفي عام 217 ظهرت أول عملة ذهبية رومانية- الأوري aurei- وكانت قيمته عشرين أو أربعين أو ستين سترتيوس.
أما من حيث قيمة المعادن التي تحتويها كل قطعة من هذه النقود فقد كان في الآس ما قيمته 2 slash100 والسستر 5 slash100 والديناريوس 20 slash100 من الريال الأمريكي.
وإذ كانت المعادن الثمينة أقلّ كثيراً في هذه الأيام، وكانت قيمتها الشرائية لهذا السبب أضعاف قيمتها في الوقت الحاضر (57)، فإن في وسعنا إذا غضضنا النظر عن تقلبات الأثمان في عهد نيرون أن نقوم الآس والسستريوس والتالنت (6000 ديناريوس) في عهد الجمهورية الرومانية ب 6 slash100، 15slash100، 60slash100، 3. 600 ريال أمريكي على التوالي حسبما كانت قيمة الريال في عام 1942 (1).
_________
(1) وكان البوشل من القمح في شمالي إيطاليا يباع عام 250 ق. م النصف ديناريوس (أي 30 slash100 من الريال)، وكان المبيت والطعام في النزل مدة يوم يتكلفان نصف آس (30 slash100 من الريال) وكانت أجرة المنزل المتوسط القيمة في ديلوس Delos في القرن الثاني قبل الميلاد أربعة دنانير (2. 4 ريال) في الشهر، وكان ثمن الطبق والفنجال في رومه عام 50 ب. م نصف آس (30 slash100 من الريال.(9/165)
وكان إصدار هذه العملة المضمونة عاملاً مهماً في تدعيم الأعمال المالية في البلاد، فقد كان الرومان الأولون يستخدمون الهياكل في أعمال المصارف، كما نتخذ نحن المال إلهاً لنا والمصارف هياكل نعبده فيها من دون الله. وقد ظلت الدولة تتخذ الأضرحة القوية البناء مستودعات للأموال العامة، ولعلها كانت ترى أن الدين قد يلقى الرعب في قلوب اللصوص فلا يقدمون على السرقة. وكان إقراض المال من أقدم الأعمال في رومه، وشاهد ذلك أن الألواح الأثني عشر تحرم الربا إذا زاد على 8 1 slash3% في السنة (60). ثم خفض سعر الفائدة القانوني في عام 347 إلى خمسة في المائة، ثم حرم الربا على الإطلاق في عام 342 ق. م.
ولكن المرابين كان في وسعهم أن يروغوا من هذا التحريم الأرسطاطيلي، وكان أقل سعر للفائدة يتقاضونه فعلاً لا يقل عن 12%. فضلاً عن هذا فقد كان الربا الفاحش (الذي يزيد على 12%) واسع الانتشار، وكان يحدث من حين إلى حين أن يتخلص المدينون من ديونهم بالإفلاس أو التشريع. وحدث في عام 352 ق. م أن استخدمت الحكومة وسيلة جد حديثة للتخفيف عن المدينين: ذلك أنها تكفلت هي بالرهون التي كان الوفاء بها مرجحاً أكثر من غيرها، وأقنعت الراهنين بأن يقبلوا عن الرهون الأخرى فوائد أقل من التي تعاقدوا عليها (61)، وأصبح أحد الشوارع المجاورة للسوق العامة Forum هي رجال المصارف، وازدحمت فيه حوانيت المقرضين ( argentarii) والصيارفة مبدلي النقود ( trapezitae) . وكان في وسع الأهلين أن يقترضوا المال بضمان الأرض والمحاصيل الزراعية والأوراق المالية، والعقود الحكومية، كما كان في وسعهم أن يقترضوا لتمويل المشروعات التجارية والرحلات البحرية، وكان يحل محل التأمين الصناعي السائد في أيامنا الحاضرة نظام الإقراض التعاوني؛ وكان يحدث أن يشترك عدد من أصحاب المصارف في تقديم الأموال اللازمة لمشروع ما بدل أن ينفرد واحد منها بتمويله. وكانت هناك شركات مساهمة أشهر ما كانت تقوم به من الأعمال تنفيذ(9/166)
العقود الحكومية التي يبرمها الرقيب بعد أن تقدم إليه عنها عطاءات. وكان أصحاب هذه العطاءات يحصلون على المال اللازم لقيامهم بهذه الأعمال ببيع ما لديهم من الأسهم والسندات للجمهور في صورة "أجزاء صغيرة" أي أسهم particular أو ( partes) . وقد اضطلعت هذه الشركات المؤلفة من رجال يقومون بالمشروعات العامة أو مشروعات الدولة بعمل خطير في تموين الجيش والأسطول في الحرب البونية الثانية بما يحتاجانه من المؤن والعتاد ونقلها إليهما، ولم يفتها في هذا العمل أن تحاول ما يحاوله غيرها من الشركات، وهو أن تخدع الحكومة (62)، وكان رجال الأعمال equites هم الذين يديرون هذه المشروعات الكبرى، أما ما كان أصغر منها فكان يديره الأرقاء المحررون. وكانت المشروعات غير الحكومية يديرها مديرو الأعمال negotiatunes وكان هؤلاء يدبرون لأنفسهم ما يلزمها من المال.
وكانت الصناعة في أيدي صناع مستقلين يشتغل كل منهم في حانوته الخاص، وكان معظم هؤلاء الصناع ممن الأحرار ولكن كان إلى جانبهم عدد من المحررين ومن الأرقاء أخذ يتزايد على مر الأيام. وكانت الأعمال التي يقوم بها هؤلاء الصناع مختلفة كل الاختلاف، وكان أكثر ما ينتجون للسوق لا للعميل الخاص. وقد أدى التنافس بين العمال الأحرار والأرقاء إلى خفض أجور الأولين، فانحط مستوى العمال إلى درجة من البؤس لا تقل عن بؤس أفقر عمال المدن الذين يعيشون في أقذر الأحياء في هذه الأيام. ولم يكن إضراب هؤلاء العمال عن العمل ذا فائدة لهم ولذلك كان نادر الحدوث (63)؛ غير أن الفتن بين الأرقاء كانت كثيرة؛ ولم تكن "حرب الأرقاء الأولى" (139 ق. م) أولى هذه الفتن. ذلك أن التذمر إذا اشتد وضاق الناس ذرعاً بمعيشتهم، كان من السهل تلمس سبب للحرب تهيئ أعمالاً للمتعطلين، وتيسر انتشار النقود المنخفضة القيمة، وتوجه غضب الشعب نحو عدو خارجي يطعم الرومان من أرضه إذا انتصروا،(9/167)
أو تستقبلهم هذه الأرض موتى أو أسرى إذا هزموا (64). وكان للأحرار من العمال اتحادات أو جماعات طائفية ( Collegia) . ولكنها قلما كانت تعنى بمسائل الأجور أو ساعات العمل أو ظروفه. وتعزو الروايات المتواترة إلى نوما Numa فضل إنشاء هذه الاتحادات أو الاعتراف بمشروعيتها. وسواء صح هذا أو لم يصح فإننا نعرف أنه كان القرن السابع قبل الميلاد منظمات للزمارين، والصائغين، والنحاسين، وطارقي الحديد، والحذائين، والفخرانيين، والصبّاغين والنجارين (65). وكانت جماعات "الفنانين الديونيزيين" Dionysian Artists - الممثلين والموسيقيين- من أكثر الجماعات انتشاراً في العالم القديم. وقد كان في رومه قبل بداية القرن الثاني قبل ميلاد المسيح جماعات طائفية للطباخين، ودابغي الجلود، والبنائين، وصناع البرونز، والحدادين، وصانعي الحبال، والنسّاجين؛ ولكن الراجح أن هذه الطوائف كانت قديمة قدم الطوائف السالفة الذكر. وكان أهم أهداف هذه الاتحادات وأمثالها مجرد السرور الذي تبعثه الصلات الاجتماعية في قلوب أعضائها. وكان الكثير منها جمعيات تعاونية تكفل نفقات دفن الموتى.
ولم تكن الدولة تنظم شئون هذه الاتحادات والجماعات الطائفية وحسب، بل كانت تنظم كذلك كثيراً من النواحي في حياة رومه الاقتصادية؛ فكانت تشرف على استغلال المناجم وعلى غيرها من الامتيازات والعقود التي كانت تبرمها الحكومة، وكانت تهدئ الاضطرابات التي يثيرها العامة باستيراد الطعام وتوزيعه بأثمان اسمية على الفقراء أو على كل من يطلبه. وكانت تفرض الغرامات على الاحتكارات؛ وقد أممت صناعة تعدين الملح لتقضي بذلك على احتكار هذه الصناعة، بعد أن ارتفع ثمن الملح بسبب هذا الاحتكار ارتفاعاً جعله في غير متناول طبقة العمال. وكانت رومه تتبع سياسة حرية التجارة، ولذلك فإنها لما تغلبت على قرطاجنة فتحت غرب البحر المتوسط لتجارة الأمم جميعها؛ وقررت حماية يتكا Utica ثم ديلوس مشترطة عليهما في نظير هذه الحماية أن يظلا ميناءين(9/168)
حرين تدخل فيهما البضائع وتخرج منهما دون أن تؤدي لهما رسوماً. على أنها كانت في بعض الأحيان تحرم تصدير السلاح، والحديد، والخمر، والزيت، والحبوب. وكانت تفرض على معظم الغلات التي تدخل رومه عوائد جمركية تقدر عادة باثنين ونصف في المائة من قيمتها، ثم امتدت هذه الضريبة القليلة فيما بعد إلى غيرها من المدن، وظلت حتى عام 147 ق. م تفرض ضريبة على الأملاك ( tributum) في جميع أنحاء إيطاليا. ويمكن القول بوجه عام إن إيرادات الدولة لم تكن كثيرة وإن أهم ما كانت تستخدم فيه هو نفقات الحرب، شأنها في هذا شأن غيرها من الدول المتحضرة (66).(9/169)
الفصل السابع
المدنية
أصبحت رومه في عام 202 ق. م من كبريات المدن الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، بفضل ما كان يدخل خزائنها من الضرائب والغرامات التي تفرضها على أعدائها، وبفضل من كان يفد إليها من الخلائق ليسكنوا فيها.
وقد سجل فيها الإحصاء الذي أجرى في عام 234 قبل الميلاد 270. 713 من المواطنين- أي من الذكور الراشدين الأحرار. ثم نقص هذا العدد نقصاً فجائياً خلال الحرب الكبرى، ولكنه ارتفع في عام 189 إلى 258. 318 والى 322. 000 في عام 147، وفي وسعنا أن نقدر سكان دولة المدينة في عام 189 ق. م بما يقرب من 1. 100. 000، ولربما كان 275. 000 من هؤلاء يسكنون داخل أسوار رومه. وكان في إيطاليا جنوب الروبيكون Rubicon نحو 5. 000. 000 من السكان (67). وكانت الهجرة وامتصاص الشعوب المغلوبة، وتدفق السكان، وتحرير الأرقاء ومنحهم الحقوق السياسية- كانت هذه العوامل كلها قد أخذت تحدث في رومه تلك التغيرات العبقرية التي جعلتها في عهد نيرون نيويورك الزمن القديم، نصف سكانها من البلاد الأصليين والنصف الآخر خليط من كافة الأجناس.
وكان في المدينة شارعان رئيسيان متقاطعان يقسمانها إلى أحياء منفصلة، لكل منها موظفوه الإداريون وأربابه الواقون. وقد شيدت إلى آلهة ملتقى الطرق Lares Compitales معابد عند ملتقى الطرق الهامة وأقيمت لها تماثيل عند ملتقى الطرق الأقل من هذه أهمية- وهي عادة لطيفة لا تزال متبعة في(9/170)
إيطاليا. وكانت معظم الطرق بحالها الطبيعية، وكان بعضها مرصوفاً بحجارة ملساء مستخرجة من أقواع الأنهار ككثير من مدن البحر الأبيض المتوسط في هذه الأيام. وقد دامت هذه الحال حتى شرع الرقيب حوالي عام 174 يغطى أرض الشوارع الكبرى بكتل من الحمم البركانية. وقد بنى أبيوس كلوديوس الأعمى في عام 312 أولى القنوات المعروشة لجر المياه العذبة إلى المدينة التي ظلت حتى ذلك الوقت تعتمد على العيون والآبار ومياه التيبر العكرة.
وأقام الأشراف صهاريج تستمد الماء من هذه القنوات، ومدت منها الأنابيب في بيوتهم، وركبت عليها الصنابير، فاستطاع الأشراف أن يستحموا بمائها أكثر من مرة في الأسبوع؛ ثم افتتحت رومه حماماتها الأولى التابعة للبلدية بعد هزيمة هنيبال بزمن قليل. وشاد المهندسون الرومان أو التسكان في وقت غير معروف المجرى الأكبر Cloaca Maxima لنقل مياهها القذرة، وقد بلغت العقود الحجرية الضخمة لهذا المجرى درجة من الاتساع تسمح بمرور عربة محملة بالدريس من تحتها (68). ثم أنشئت مجاري صغرى لصرف مياه المناقع التي كانت تحيط برومه وتغير عليها في بعض الأوقات. وكانت مياه الأمطار والمياه القذرة تجري من فتحات في الشوارع إلى هذه المصارف، ثم تنتقل منها إلى نهر التيبر. وقد ظلت مياهه الملوثة مشكلة المشاكل في الحياة الرومانية.
وربما كانت المعابد هي مظاهر الزينة الوحيدة التي كانت في المدينة. ذلك أن البيوت ظلت مستمسكة بالطراز التسكاني البسيط الذي وصفناه من قبل، لا يفترق عنه إلا في شيء واحد وهو أن جدرانها الخارجية كانت تبنى في الغالب من الآجر أو تطلى بمسحوق الجبس الناعم؛ وكثيراً ما كانت هذه الجدران تشوه بما يخدش عليها من الشعر أو النثر في ذكر حادث من الحوادث التافهة التي لا يلبث الناس أن ينسوها بعد وقوعها. ولم يكونوا يقصدون بكتابتها إلا أن يدلوا على ازدياد نسبة من يعرفون(9/171)
منهم القراءة والكتابة. وكانت الهياكل تبنى في الغالب من الخشب، وكانت واجهاتها وزينتها من الطين المحروق، وكان طرازها هو الطراز التسكاني. وقد أقيمت على تل الكبتولين هياكل لجوبتر، ويونو، ومنيرفا، وأقيم هيكل آخر لديانا على الأفنتين Aventine، وأقيمت هياكل غيرها (قبل عام 201 ق. م) ليونو، والمريخ، ويانوس Janus، والزهرة، وللنصر، والحظ السعيد، والأمل وما إليها. وفي عام 303 ق. م أضاف كيوس فابيوس إلى اسم عشيرته لقب بكتور Pictor أي المصور، وذلك لأنه عمل مظلمات في هيكل الصحة القائم على الكبتولين. وأقام المثالون اليونان في رومه تماثيل للآلهة الرومانية والأبطال الرومانيين من الآجر، والرخام، والبرنز؛ وقد أقاموا في عام 293 على الكبتول تمثالاً لجوبتر بلغ من ضخامته أن كان يراه الواقف عند تلال ألبان Alban التي تبعد عنه عشرين ميلاً. وفي عام 296 أقام الأيديلون (الموظفون الرومان المشرفون على المباني العامة والألعاب وغيرها) تمثالاً من البرنز لذائبة أضاف إليه الفنانون فيما بعد صورتين لرميولوس وريموس. ولسنا نعرف أهذه هي المجموعة التي جاء وصفها على لسان شيشرون أم أنها مجموعة أخرى، وإن لم تكن فهل هذه أو تلك هي بعينها "ذئبة الكبتول" التي لا تزال باقية إلى هذا اليوم. ومهما يكن من شيء فإن هذا التمثال الأخير آية فنية أوفت على الغاية في الإتقان، فهي تمثال من الجماد ينبض بالحياة في كل عضلة من عضلاته وكل عصب من أعصابه.
وبينا كان الأشراف يخلدون انتصارهم ويمتدحون أسلافهم كان العامة يتأسون بسماع الموسيقى، وبالرقص، والمسرحيات المضحكة، والألعاب. وكانت طرقات إيطاليا وبيوتها تردد أصداء الأغاني الفردية والجماعية، فكان الرجال يغنون في المآدب والأولاد والبنات يرددون الترانيم في المواكب الدينية، وكانت حفلات الزواج لا تخلو قط من الأناشيد كما كانت الأغاني تصحب جنازات الأموات. وكان المزمار أكثر آلات الطرب شيوعاً ولكن القيثارة أيضاً كان(9/172)
لها من يهواها حتى أضحت الآلة المحبوبة التي ينشد على نغماتها الشعر الغنائي. وكان الرومان في أيام الأعياد الكبرى يجتمعون في المدرجات وساحات اللعب يكتوون بنار الشمس، بينا كان المستأجرون والأسرى والمجرمون والأرقاء يعدون، أو يقفزون، أو يقتتلون، ويموتون. وكان الاقتتال والموت أحب إلى الجماهير من العدو والقفز. وكان في المدينة مدرجان كبيران هما الساحة الكبرى (ويقال إن الذي أنشأها هو تاركوين الأول) وساحة فلامينوس (221 ق. م) - وكان يدخلهما من غير أجر كل من يصل إليهما من الرجال والنساء في الوقت الذي يمكنهم من أن يجدوا فيهما مكاناً. وكانت الدولة في بادئ الأمر هي التي تتكفل بالإنفاق على الملعبين، ثم تكفل بهما بعدئذ الإيديلون، أما في العهد المتأخر من حياة الجمهورية فكان ينفق عليهما المرشحون لمنصب القناصل؛ وأخذت هذه النفقات تزداد جيلاً بعد جيل حتى أضحت في واقع الأمر سداً منيعاً يحول بين الفقراء وبين التقدم لمناصب القناصل.
ولعل من واجبنا أن نضم إلى هذه الألعاب "حفلات النصر" التي كانت تقام للقواد العائدين من ميادين القتال. ولم تكن هذه الحفلات تقام إلا لمن انتصروا منهم في حرب قتل فيها من الأعداء خمسة آلاف أو يزيدون. أما القائد المنحوس الذي انتصر ولكنه لم يقتل من أعدائه هذا العدد كله فلم يكن يلقى هذا النوع من الترحيب، ولم يكن يضحي له بثور بل بشاة ovis. وكان الناس ينتظمون في الموكب خارج المدينة، وكان يطلب إلى القائد هو وجنوده عند حدودها أن يلقوا أسلحتهم، ثم يدخلها الموكب من تحت قوس نصر، اتخذ فيما بعد طرازاً لعشرات المئات من الآثار. وكان النافخون في الأبواق يتقدمون الموكب، ثم تأنى من بعدهم أبراج أو أرماث تمثل المدن التي استولى عليها، وصور تدل على ما قام به المنتصرون من أعمال البطولة. ثم تكركر من بعدها عربات مثقلة بالذهب والفضة، ومنتجات الفن وغيرها من الأسلاب. وقد اشتهر(9/173)
موكب النصر الذي أقيم لمرسلس بما كان فيه من التماثيل المسروقة من سرقوسة (212)؛ وعرض سبيو الإفريقي في عام 207 أربعة عشر ألف رطل من الفضة، وفي عام 202 مائة وثلاثة وعشرين رطلاً استولى عليها في أسبانيا وقرطاجنة، وتبعها سبعون ثوراً أبيض تسير إلى مصرعها سير الفلاسفة، ومن ورائها زعماء العدو المأسورون ثم الجلادون، والضاربون على القيثار، والزمارون، وحاملو آنية البخور. ومن بعد هؤلاء كلهم يمر القائد نفسه في عربة زاهية مزينة ويلبس جبة أرجوانية، وعلى رأسه تاج من الذهب، وفي يده صولجان من العاج وغصن من شجر الغار، وهما رمز النصر، وشعار جوف jove. وكان يركب معه في العربة أحياناً أبناؤه، ويركب في عربة تسير بجوارها أقاربه؛ ثم يأتي من خلفهم أمناء سره من المدنيين والعسكريين. ويأتي في آخر الموكب الجنود يحمل بعضهم ما نالوه من الأعطية، وعلى رأس كل منهم تاج، يمتدحون قوادهم، وبعضهم يسخرون منهم. ذلك أن التقاليد المرعية التي لا يمكن خرقها كانت تترك للجنود في هذه الفترات القصيرة كامل الحرية في أن ينطقوا بما يريدون أن ينطقوا به دون أن يعاقبوا عليه، وذلك لكي يذكروا المنتصرين المزهوين بنصرهم أنهم كسائر الناس معرضون للأخطاء. وكان القائد يصعد الكبتول إلى هياكل جوبتر، ويونو، ومنيرفا، ويضع قدمه عند أقدام الآلهة، ويضحي بحيوان ما؛ وكان يأمر عادة بأن يذبح الزعماء من الأسرى مبالغة في شكر الآلهة. وكان هذا الموكب منظماً تنظيماً يثير في النفس المطامع العسكرية، ويجزي القواد والجند أحسن الجزاء على جهودهم الحربية؛ ذلك أن زهو الإنسان لا يخضعان إلا للجوع والحب.(9/174)
الفصل الثامن
بعد الموت
لقد كانت الحرب أروع النواحي الروائية في حياة الرجل الروماني، ولكنها لم يكن لها ذلك الشأن الخطير الذي تحدثنا عنه صحف المؤرخين الرومان. ولعل حياة الرومان كانت تدور كلها حول أسرته وبيته أكثر مما تدور حولهما حياة الرجل من في هذه الأيام. وكانت أخبار العالم لا تصل إليه إلا متأخرة، ومن أجل هذا لم يكن ما يتجمع في العالم من اضطراب يستثير عواطفه في كل يوم، ولم تكن الحوادث العظمى التي تمر به في حياته هي السياسة والحرب، بل كان أهم ما يعنى به مولد الأطفال وحفلات الزواج وأخبار الموت المحزنة.
ولم يكن كبير السن تلازمه تلك الوحشة والهجران اللذان ينغصان على الكبار حياتهم في العصور التي تشيع فيها الفردية. ذلك أن الصغار كانوا يرون أن من الفروض الواجبة عليهم أن يعنوا بالكبار، وقد ظل هؤلاء إلى آخر عهود الجمهورية أجدر الناس بالرعاية وأعظمهم سلطاناً، وكانت قبورهم بعد وفاتهم مواضع التكريم ما دام لهم أبناء أو أحفاد على قيد الحياة. ولم تكن الجنائز تقل فخامة وتعظيماً عن مواكب الأفراح، فكان يسير في طليعتها جماعة من النادبات المأجورات فلما تغالين في عويلهن وهوسهن قيد هذا الغالي بنص في الألواح الاثني عشر (71) يحرم عليهن اقتلاع شعرهن. ويتلو هؤلاء النسوة الزمارون وقد حدد القانون عددهم باثني عشر، ثم الراقصون يمثل الميت واحد منهم. ويأتي من بعد هؤلاء عرض عجيب لجماعة من الممثلين يلبسون أقنعة الموت أو وجوهاً من الشمع في صور آباء الميت الذين شغلوا مناصب ذات شأن في الدولة. ثم تتلو هؤلاء جميعاً جثة الميت محوطة بمظاهر تبلغ من الفخامة ما يبلغه موكب القائد المنتصر، وعليها كامل(9/175)
اللباس المخصص لأعظم منصب شغله صاحبها في حياته، وموضوعة في نعش بسطت عليه أغطية مطرزة باللونين الأرجواني والذهبي، ومن حولها الأسلحة والدروع التي غنمها ممن قتلهم من الأعداء. ويسير خلف النعش أبناء المتوفى وعليهم أثواب وأقنعة سوداء، وبناته سافرات، وأقاربه وأبناء عشيرته وأصدقاؤه ومواليه وعبيده. فإذا وصلت الجنازة إلى السوق العامة وقفت ورثى الميت أحد أبنائه أو أقاربه. لقد كانت الحياة في تلك الأيام خليقة بأن يحياها الإنسان ولو لم ينل منها إلا هذا التكريم بعد الوفاة.
وكان الموتى من أهل رومه في القرون الأولى من حياتها يحرقون، ثم جرت العادة بعدئذ بأن يدفنوا وإن كان بعض المحافظين من أبنائها ظلوا يفضلون إحراق موتاهم. وسواء اتبعت هذه السنة أو تلك فقد كانت بقايا الميت تدفن في قبر أضحى فيما بعد مزاراً ومكاناً للعبادة، كان الأتقياء من أبناء الميت وأحفاده يضعون عليه من حين إلى حين طاقات الزهر وقليلاً من الطعام. وكان لعبادة الأسلاف والاعتقاد بأن أرواحهم تحيا في مكان ما وترقب الأحياء أكبر الأثر في استقرار الأخلاق والمجتمع الروماني، كما كان لهما نفس الأثر في بلاد اليونان والشرق الأقصى. وكان الموتى حسب الأساطير الرومانية التي اصطبغت بالصبغة الهلينية ينتقلون إلى جنات النعيم أو إلى جزائر المقيمين؛ على أنهم كلهم تقريباً كانوا ينزلون إلى الأرض ليستقروا في مملكة الأشباح التي يسيطر عليها أوركوس Orcus وبلوتون Pluto. وكان ثانيهما- وهو الصورة اليونانية للإله هيديز Hades اليوناني- يحمل في يده مطرقة يضرب بها الميت حتى يغيب عن وعيه. أما أوركوس (وهو الاسم الذي اشتقت منه الكلمة الإنجليزية ogre أي الغول) فكان هو الهولة التي تلتهم جثة الميت بعدئذ. وإذ كان بلوتو أعظم الأرباب في باطن الأرض وأعلاها مقاماً، وإذ كانت الأرض هي المورد الأخير للثروة؛ وهي في كثير من الأحيان مستودع ما يتجمع من الطعام والسلع، فقد كان بلوتو يعبد(9/176)
أيضاً على أنه إله الثروة والأثرياء، وأضحت زوجته- برسبربينا Prosperpina الضالة- ابنة سيريز Ceres إلهة الحب النامي. وكان الرومان يتمثلون الجحيم في بعض الأحيان على أنها موضع العقاب (72)، وكانوا يصورونها في الأغلب الأعم على أنها مسكن الأشباح النصف المجردة التي كانت في حياتها رجالاً لا يمتاز بعضهم عن بعض بثواب أو عقاب بل يعانون كلهم على السواء عذاب الظلام الأبدي والنسيان النهائي. "وهنالك" كما يقول لوسيان Lucian " يجد الإنسان في آخر الأمر الديمقراطية المنشودة (73) ".(9/177)
الباب الخامس
فتح بلاد اليونان
201 - 146 ق. م
الفصل الأول
الاستيلاء على بلاد اليونان
لما تحالف فليب ملك مقدونيا مع هنيبال على رومه (214)، كان يأمل أن تسير في ركابه بلاد اليونان كلها لإزهاق روح ذلك الجبار الناشئ في الغرب؛ ولكن الشائعات ما لبثت أن انتشرت تقول إنه كان يعتزم إذا ما انتصرت قرطاجنة أن يفتح أرض اليونان كلها بمعونة حلفائه القرطاجنيين. ومن أجل ذلك وقعت العصبة الإيتوليه Aetolian ميثاقاً تعهدت فيه أن تساعد رومه في حربها ضد فليب؛ واستطاع مجلس الشيوخ بفطنته أن يستفيد من هذا الخذلان فيقنع فليب بعقد صلح منفرد مع رومه (205). وما كاد الرومان ينتصرون في معركة زاما حتى أخذ مجلس الشيوخ- وهو الذي لم ينس قط إساءة وجهت إلى بلاده- يكيد لمقدونية ويستعد للثأر منها. ذلك أن هذا المجلس كان يشعر بأن رومه لا تستطيع أن تأمن على نفسها ما دام من ورائها تلك القوة العظيمة التي لا يفصلها عنها إلا بحر ضيق. ولما أن عرض مجلس الشيوخ اقتراحاً بإعلان الحرب اعترضت الجمعية على هذا الاقتراح وقام أحد التربيونين يتهم الأشراف بأنهم يريدون أن يحولوا أنظار الشعب عما في البلاد من فساد (1)؛ ولكن المعارضين(9/178)
في الحرب سرعان ما أخمدت أصواتهم واتهموا بخور العزيمة وضعف الوطنية؛ وما وافى عام 200 ق. م حتى أبحر ت. كونكتوس فلامينوس T. quintus Flaminus إلى مقدونية.
وكان فلامينوس فتى في الثلاثين من عمره، وكان من أفراد تلك الدائرة الحرة المعينة بصبغ البلاد بالصبغة الهلينية، والتي كانت تتجمع في رومه حول آل سبيو. والتقى بفليب عند سينوسفلى Cynoscephalae بعد عدة حركات عسكرية ماهرة، وهزمه هزيمة منكرة (197). ثم أدهش جميع أمم البحر الأبيض المتوسط، ولعله أدهش روما نفسها أيضاً، بأن أعاد فليب، بعد أن عاقبه على فعلته، إلى عرشه المفلس الهزيل، وعرض على بلاد اليونان كلها أن يعيد إليها حريتها. واحتجت العصبة الاستعمارية من أعضاء مجلس الشيوخ ولكن الأحرار تغلبوا إلى وقت ما؛ وأعلن رسول من قبل فلامينوس في عام 169 إلى حشد كبير اجتمع في الألعاب التي كانت قائمة في البرزخ اليوناني أن بلاد اليونان ستحرر من سيطرة روما ومقدونية، وستعفى من أداء الجزية، وأن الحامية الرومانية نفسها ستسحب منها. ويقول أفلوطرخس إن الجمهور المحتشد هتف هتافاً عالياً بلغ من شدته أن ماتت الغربان التي كانت تطير فوق الملعب وهوت على الأرض (2). ولما أظهر العالم المتشكك ريبته في نيات القائد الروماني، بدد شكوكه بسحب جيشه إلى إيطاليا، وكان هذا العمل صفحة ناصعة البياض في تأريخ الحروب.
ولكن الحرب تستتبع السلم على الدوام، فقد استاء الحلف الإبتولي من تحرير المدن اليونانية التي كانت خاضعة له، وطلب إلى أنتيوخوس الثالث Antiochus III أن يحرر بلاد اليونان من حريتها. واغتر أنتيوخوس(9/179)
بما حازه من نصر رخيص في بعض المعارك التي خاض غمارها في الشرق، فسولت له نفسه أن يبسط سلطانه على غرب آسيا بأجمعه. وخشيت برجموم عاقبة بغيه، فلجأت إلى روما تستعين بها عليه، وأرسل مجلس الشيوخ سبيو الأفريقي وأخاه لوسيوس Lucius مع أول جيش روماني تطأ أقدامه أرض آسيا. والتحم الجيشان عند مجنيزيا Magnesia (189) وانتصر الرومان نصراً كان بداية الفتوح التي شملت بلاد الشرق ذي الصبغة اليونانية. وزحفت الجيوش الرومانية نحو الشمال وردوا الغالبين إلى جلاشيا Jalatia ( الأناضول) وكانون من قبل يهددون برجموم وحمد لهم سكان الجزائر الأيونية حسن صنيعهم هذا.
لكن اليونان في أوربا لم يعجبهم هذا العمل. لقد أضحت الجيوش الرومانية تحيط ببلاد اليونان من الشرق والغرب، وإن كانت لم تطأ بعد أرضها، ولقد حررت روما اليونان من عدوهم ولكنها اشترطت أن يضعوا حداً لحرب الطبقات وللحروب الخارجية. غير أن حياة الحرية بغير حرب كانت حياة جديدة شاقة على دول المدن التي تتكون منها هلاس، وكانت الطبقات العليا تتق إلى فرض سلطانها السياسي على المدن المجاورة لبلادها، كما أن الطبقات الفقيرة أخذت تتهم روما بأنها أينما حلت تعين الأغنياء إلى الفقراء. وكانت نتيجة هذه العوامل مجتمعة أن عقد برسيوس Perseus بن فليب الخامس وخليفته على عرش مقدونية حلفاً مع سلوقس الرابع Seleucus IV ومع أهل جزيرة رودس، وأهاب باليونان في عام 171 أن يثوروا معه على روما، ولكن لوسيوس إيميلوس بولس ابن القنصل الروماني الذي قتل في معركة كاني هزم برسيوس في بدنا Pudna بعد ثلاث سنين من ذلك العام، وخرب سبعين مدينة مقدونية، وأسر برسيوس نفسه وسار به مصفداً يزين موكب نصره في شوارع روما - وعوقبت رودس بتحرير كل المدن الآسيوية التي كانت تؤدي إليها الخراج، وبإنشاء ميناء منافس لها في ديلوس. وقبض على ألف(9/180)
من زعماء اليونان ومنهم المؤرخ بولبيوس Polybius واتخذوا رهائن في إيطاليا، وظلوا في النفي ستة عشر عاماً مات منهم في خلالها سبعمائة (1).
وسارت العلاقة بين اليونان والرومان خلال العشرة الأعوام التالية سيراً حثيثاً نحو العداوة السافرة. ذلك أن المدن والأحزاب والطبقات المتنافسة في بلاد اليونان لجأت إلى مجلس الشيوخ في روما تطلب إليه العون، وهيأت لروما بطلبها هذا سبيلاً للتدخل انتهى بأن أضحت بلاد اليونان خاضعةً خضوعاً فعلياً إلى روما وإن ظلت بالاسم حرة مستقلة.
ولم يستطع أشياع سبيو في مجلس الشيوخ أن يصمدوا أمام الواقعيين الذين كانوا يشعرون أن النظام والسلام لا يستتبان في بلاد اليونان إلا إذا خضعت خضوعاً كاملاً لحكم الرومان. وبينا كان النزاع قائماً بين روما من جهة وقرطاجنة من جهة أخرى خرجت مدائن الحلف الآخر على روما وثارت مطالبة بحريتها. وتزعم الحركة زعماء الطبقات الفقيرة، فحرروا العبيد وسلحوهم، وأجلوا الوفاء بالديون، وأشعلوا مع الحرب نار الثورة في البلاد. ولمام دخل الرومان يقودهم موميوس Mummius بلاد اليونان وجدوا أهلها منقسمين على أنفسهم،
_________
(1) وقد وجه بولوس Paulus، وهو سائر إلى هذه الحرب، تحيته المشهورة إلى الهواة الخبيرين في الفنون الحربية والتي قال فيها: "إن في المناصب العامة جميعها، وفي الأحزاب الخاصة، رجالاً يعرفون أين يجب أن تحشد الجيوش في مقدونية، وأي النقط الحربية ذات المنعة يجب أن تحتلها جيوشنا ... وهم لا يكتفون بأن يقرروا ما يجب علينا أن نفعله، ولكنهم يتجاوزون ذلك إلى السخرية من القنصل إذا ما استقر الرأي على شيء لا يتفق مع آرائهم، سخرية لا تقل عن اتهامه بالخيانة ... وهذا عمل يعطل سير الحرب إلى غايتها المرجوة تعطيلاً خطيراً ... فإذا كان (أحد منكم) يحس بأن في وسعه أن يسدي إليّ النصح السديد فليسر معي إلى مقدونية ... أما إذا ظن أنه لا يطيق هذا السير فعليه ألا يعمل عمل المرشدين في البحار وهو على ظهر الأرض".(9/181)
وكان من السهل عليهم أن يهزموا الجيوش غير المدربة. وحرق موميوس كورنثة Corinth، وذبح رجالها وباع نساءها وأطفالها بيع الرقيق، ولم يكد يترك فيها شيئاً من الثروة المنقولة أو الآثار الفنية بل نقلها كلها تقريباً إلى رومه. وأصبحت مقدونية وبلاد اليونان من ذلك الحين ولاية تابعة لرومه بحكمها حاكم روماني، وكانت أثينا وإسبارطة هما المدينتين الوحيدتين اللتين سمحت لهما رومه بأن تحتفظا بشرائعهما. واختفت اليونان من تاريخ العالم السياسي مدى ألفي عام.(9/182)
الفصل الثاني
تبدل أحوال رومة
ونمت الإمبراطورية الرومانية نمواً تدريجياً، ولم يكن معظم هذا النماء نتيجة خطة موضوعة عن قصد وتدبير، بل كان الدافع إليه ضغط الظروف وترتجع الحدود تراجعاً يتطلبه سلامة البلاد. فقد أخضعت الفيالق الرومانية مرة أخرى بلاد غالة الجنوبية في معركتي كرمونا Cremona (200) وموتينا (193)، ودفعت حدود إيطاليا الشمالية حتى أوصلتها إلى جبال الألب. كذلك كان لابد لرومه أن تحتفظ بسيطرتها على أسبانيا بعد أن استعادتها من قرطاجنة كيلا تعود هذه إلى الاستيلاء عليها، هذا إلى ما في تلك البلاد من ثروة معدنية عظيمة تشمل الحديد والفضة والذهب. وقد فرض عليها مجلس الشيوخ جزية سنوية باهظة من المعادن الغفل والنقود، وكان حكامها الرومان يعوضون أنفسهم تعويضاً سخياً عن السنة التي يقضونها فيها بعيدين عن موطنهم. وحسبنا أن نذكر دليلاً على هذا أن كونتس منوسيوس Quintus Minucius، لما عاد إلى رومه بعد فترة قصيرة قضاها قنصلاً في أسبانيا، جاء إليها بأربعة وثلاثين ألفاً وثمانمائة رطل وخمسة وثلاثين ألف دينار من الفضة؛ وكان الأسبان يجندون في الجيش الروماني فكان منهم أربعون ألفاً في القوة التي استولى بها سبيو إيميليانوس Scipio Aemilianus على نومانتيا Numantia الأسبانية. ولما ثارت على الحكم الروماني ثورة عنيفة في عام 195 ق. م أخضعها ماركس كاتو Marcus Cato ولكنه جرى في إخضاعها على سنة الرومان الأفاضل الذين كان جيلهم آخذاً في الانقراض، فكان عادلاً رحيماً. ووفق تيبيريوس سمبرونيوس جراكس Tiberius Sempronius Gracchus (179) توفيقاً مشوباً بالعطف والرأفة بين(9/183)
حكمه وبين أخلاق الأهلين وحضارتهم، واتخذ له أصدقاء من زعماء القبائل، ووزع الأراضي على الفقراء. ولكن واحداً من خلفائه يدعى لوسيوس لوكس Lucius Lucullus (151) أخل بشروط المعاهدات التي عقدها جراكس وهاجم من غير سبب كل قبيلة يستطيع أن يجد عندها ما لا يغتصبه منها، وقتل أو استبعد آلافاً من الأسبان دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن حجة يبرر بها هذا الاعتداء. واتبع هذه السنة نفسها سلبسيوس جلبا Sulpicius Galba (150) فاستقدم إلى معسكره سبعة آلاف من الأهلين بعد أن عقد معهم معاهدة يعدهم فيها بأنه سيوزع عليهم بعض الأراضي؛ فلما جاءوا أمر أعوانه بأن يحيطوا بهم ثم ذبحهم أو استرقهم. وفي عام 154 شنت قبائل لوزتانيا Lusitania ( البرتغال) على رومه حرباً دامت سبع سنين. وظهر بين هذه القبائل زعيم قدير يدعى فرياثوس Viriathus قوي البنية، فارع الطول، شجاعاً، صبوراً، شهماً، نبيلاً. وظل ثماني سنين يكيل الضربات إلى كل جيش روماني يرسل لقتاله ويوقع به الهزيمة حتى ابتاع الرومان آخر الأمر من يقتله غيلة. وصبر الكتلتبريان Celtibrians الثائرون أهل أسبانيا الوسطى على الحصار في نومانتيا خمسة عشر شهراً، لا يتناولون من الطعام إلا جثث موتاهم، حتى أرغمهم سبيو إيمليلنوس في عام 133 على التسليم. ويمكن القول بوجه عام إن السياسة التي سارت عليها الجمهورية الرومانية في أسبانيا قد بلغت من الوحشية والغدر حداً جعل ضررها برومه أكثر من فائدتها لها. وفي هذا يقول ممسن Mommsen المؤرخ الألماني "إن التاريخ كله لم يشهد حرباً تضارع هذه الحرب الأسبانية فيما انطوت عليه من ضروب الغدر والقسوة والجشع (4) ".
وكانت الثروة المنتهبة من الولايات هي التي أمدت رومه بالمال الذي تتطلبه حياة التهتك والفساد والأنانية التي أشعلت نار الثورة في البلاد، وقضت آخر الأمر على الجمهورية. ذلك أن الغرامات الحربية التي فرضتها رومه على قرطاجنة(9/184)
وسوريا، والعبيد الذين سيقوا إليها من جميع ميادين النصر، والمعادن الثمينة التي استولت عليها بعد فتح بلاد الغالة الجنوبية وأسبانيا، والأربعمائة ألف ألف سترس (وهي تساوي ستين مليون ريال أمريكي) التي انتزعتها من أنتيوخوس، وبرسيوس، وال 4503 رطل من الذهب، وال 220. 000 رطل من الفضة التي اغتصبها مانيلوس فلسو Manlius Vulso في حروبه الأسيوية، هذه كلها وغيرها من أسباب الثراء الفجائي الذي ساقته إليها المقادير بدلت طبقات الملاك في رومه في مدى نصف قرن من الزمان (202 - 146 ق. م) من رجال ذوي موارد وسطى مكتسبة إلى أشخاص مترفين يستمتعون بثراء ونعيم لم يعرفهما قبلهم إلا الملوك. وكان الجند يعودون من هذه الغارات يجر الحقائب بالمال والأسلاب. ولما أخذت النقود يتضاعف مقدارها في رومه أسرع من المباني فإن أصحاب الأملاك العقارية تضاعفت ثروتهم أضعاف دون أن يحركوا في سبيل ذلك عضلة أو عصباً. واضمحلت الصناعة وراجت التجارة، ولم تكن رومه في حاجة إلى إنتاج السلع، فقد كانت تأخذ العالم لتؤدي منها أثمان بضائعه. وازدادت الأعمال العامة زيادة لا عهد للرومان بها، وأثرى منها المكارسون الذين كانوا يعيشون من العقود التي تبرمها الحكومة، وزاد عدد أصحاب المصارف المالية وأثروا. وكانوا يصرفون فوائد عن الودائع، ويقبضون التحاويل المالية ( praescriptions) ، ويخصمون السفاتج لعملائهم، ويقرضون المال ويقترضونه، ويستثمرون ما يتجمع لديهم من الأموال أو يديرون المشروعات المالية؛ وأثروا من الربا الفاحش الذي كانوا ينتزعونه بلا رحمة حتى أصبح القاتل ( sector) والمرابي يعبر عنهما بلفظ واحد (7). وهكذا أخذت رومه تخطو خطوات واسعة في أن تكون المركز المالي والسياسي- لا المركز الصناعي والتجاري- للعالم الذي يسكنه الجنس الأبيض.
وبهذه الوسائل وأمثالها انتقل الأشراف ومن يلونهم من رجال الطبقة(9/185)
الوسطى بخطى واسعة من البساطة الرواقية إلى التنعم والترف الطليق، وبلغ هذا التبدل أقصى مداه أو كاد في أيام كاتو (234 - 149)؛ فاتسعت البيوت، وتناقصت الأسر، وتسابق الناس في ثأثيث دورهم بأفخم الأثاث وأغلاه ثمناً؛ فأخذوا يشترون الطنافس البابلية بأغلى الأثمان، ويبتاعون الأسرة المطعمة بالعاج أو الفضة أو الذهب؛ وكانت الأحجار والمعادن الثمينة تتلألأ على النضد والكراسي وأجسام النساء، وسروج الخيل. ولما قل المجهود الجسمي وزاد الثراء استبدل الناس بغذائهم القديم البسيط وجبات ثقيلة طويلة من لحوم الحيوان والطير وغيرهما من ألوان الطعام الشهي والتوابل والمشهيات، وأصبحت الأطعمة النادرة المستوردة من خارج البلاد لا تخلو منها موائد ذوي المكانة في المجتمع ومن يدعون أن لهم فيه مكانة. وحسبنا شاهداً على هذا الإسراف أن أحد كبار الموظفين قد ابتاع حيوانات بحرية في وجبة واحدة بألف سترس، واستورد آخر "أنشوجة" بألف وستمائة سترس للبرميل، وابتاع ثالث كمية من البطارخ بألف ومائتي سترس، وكان الطاهي الماهر يباع بأغلى الأثمان في سوق النخاسة. كذلك كان شأن الشراب، فقد انتشر وزادت مقاديره وكان لابد أن تكون الكؤوس كبيرة ومصنوعة من الذهب قدر المستطاع، وقل مقدار ما يمزج به الخمر من ماء، بل إنه كان يشرب أحياناً بلا ماء على الإطلاق. وسن مجلس الشيوخ قوانين صارمة تحدد مقدار ما ينفق من الأموال على المآدب والملابس، ولكن الشيوخ أنفسهم كانوا يتجاهلون هذه القوانين ولذلك لم يأبه بها غيرهم من الأهلين. وفي ذلك يقول كاتو في ألم وحسرة: "إن المواطنين لم يعودوا يستمعون النصح لأن البطون لا آذان لها (9) " وأخذ الناس يشعرون بأنهم أفراد لا شأن للدولة بهم، وثاروا عليها وعلى تدخلها في شئونهم، كما ثار الابن على أبيه، وكما ثارت المرأة على الرجل.
وقد جرت العادة من قديم الزمان أن يقوي سلطان المرأة كلما زادت ثروة(9/186)
المجتمع؛ ذلك أنه إذا امتلأت البطون أخلى الجوع الميدان للحب، ولذلك فشت الدعارة في رومه وانتشر اللواط حين اتصل الرومان ببلاد اليونان وبلاد آسيا، فكان كثير من الأغنياء يدفع الواحد منهم تالنتا (3600 ريال أمريكي) ثمناً للغلام الوسيم، وشكا كاتو من أن ثمن الولد الجميل يزيد على ثمن مزرعة (10). على أن النساء لم يخلين الميدان لهؤلاء الغزاة اليونان والسوريين، فأخذن يتجملن بكل وسائل التجميل التي هيأتها لهن الثروة الجديدة، وأصبحت الأدهان ضرورة لا غنى لهن عنها، وشرعن يستوردن من غالة أنواعاً من الصابون تخفى لون شعرهن الأشيب وتحيله أحمر (11). وكان الثرى من أهل الطبقة الوسطى يتباهى بأن يزين زوجه وبناته بالملابس والجواهر الغالية ويطلقهن في المدينة يعلن عن ثروته؛ وزاد شأن النساء في دور الحكم نفسها، وفي ذلك يقول كاتو: "إن الرجال في جميع أنحاء العالم يحكمون النساء، أما نحن الرومان الذين نحكم جميع الرجال فإن نساءنا يحكمننا (12) ". وحدث في عام 195 ق. م أن خرجت نساء رومه الحرائر إلى السوق العامة ونادين بإلغاء قانون أبيوس Appius الصادر في عام 215 والذي يحرم على النساء التحلي بالذهب والملابس الكثيرة الألوان وركوب العربات. وأنذر كاتو الرومان بأن رومه سيحل بها الخراب إذا ألغي هذا القانون، وينطقه ليفي بهذه الخطبة التي قرأها كل جيل من الأجيال من ذلك الوقت إلى هذه الأيام:
"لو أننا كلنا قد استمسكنا في بيوتنا بحقوق الأزواج وسلطانهم، لما تورطنا الآن في هذه المشاكل مع نسائنا. أما ونحن لم نستمسك بهذه الحقوق وهذا السلطان فإن نفوذنا الذي قضي عليه استبداد النساء في البيت قد وطئته الأقدام، وقضي عليه في السوق ... ألا فلتذكروا جميع النظم والقوانين الخاصة بالنساء، والتي حاول بها آباؤنا أن يقللوا من فجورهن ويجعلوا منهن زوجات طائعات لأزواجهن. ومع ذلك فإنكم رغم هذه القيود لا تستطيعون أن تكبحوا جماحهن.(9/187)
فما بالكم إذا ما تساوين بأزواجهن؟ هل تظنون أنكم في هذه الحال ستطيقونهن؟ إن الساعة التي يصبحن فيها مساويات لكم ستكون هي الساعة التي يصرن فيها ذوات الأمر والنهي عليكم (13) ". وسخر منه النساء وألزمنه الصمت وأصررن على طلبهن حتى ألغي القانون. وانتقم كاتو لنفسه وهو رقيب بأن زاد الضرائب المفروضة على السلع التي يحرمها قانون أبيوس إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه. ولكن التيار كان جارفاً، ولم يكن في وسع أحد أن يصده، فألغيت القوانين الأخرى التي كانت تحد من حرية النساء أو عدلت أو أغفلت؛ فأصبح للنساء الحق المطلق في الإشراف على استثمار بائناتهن، وصرن يطلقن أزواجهن أو يجرعنهم السم في بعض الأحيان، وبدا لهن أن ليس من سداد الرأي أن يلدن الأبناء في عصر ازدحمت فيه المدن بالسكان وكثرت فيه حروب الفتح والاستعمار.
وكان كاتو وبولبيوس قد أدركا في عام 160 ق. م أن السكان يتناقصون، وأن الدولة عاجزة عن أن تجند من الجيوش ما استطاعت أن تجنده لقتال هنيبال. وورث الجيل سيادة العالم، ولكنه لم يجد لديه من الوقت أو الرغبة ما يستطيع بهما أن يدافع عنه؛ ذلك أن الاستعداد لتلبية نداء الحرب كلما دعا لها الداعي، وهو الاستعداد الذي كان من خصائص المالك الروماني، لم يعد له وجود، بعد أن تركزت الملكية في أيدي أسر قلائل، وغصت أقذر أحياء رومه بالصعاليك الذين لا مصلحة لهم في البلاد يخافون عليها أو يدافعون عنها. وأصبح الناس شجعاناً بالنيابة إن صح هذا التعبير. فقد كانوا يهرعون إلى المدرجات ليشاهدوا الألعاب التي تجري فيها الدماء، وكانوا يستأجرون المجالدين ليصطرعوا أمامهم في ولائمهم. وأنشئت مدارس للبنين والبنات يتعلم فيها الشبان والشابات الغناء والموسيقى والمشي الرشيق (14). ورقت طباع الطبقات العليا بعد أن فسدت أخلاقها؛ أما الطبقات الدنيا فقد ظلت طباعها غليظة خشنة قوية، وكانت وسائل لهوها في الغالب عنيفة ولغتها بذيئة. وإنا لنشم رائحة البذاءة في بلوتس Plautus(9/188)
وندرك السبب في أن الجماهير كانت لا تطيق مشاهدة مسرحيات ترنس Terrnce. ولما أن حاولت فرقة من الموسيقيين أن تعزف في أحد مواكب النصر في عام 167 أرغم النظارة أولئك الموسيقيين على أن يستبدلوا بعزفهم مباراة في الملاكمة (15).
وسيطرت النزعة التجارية على الطبقات الوسطى المطردة الزيادة، ولم يعد أساس ثرائها هو العقار كما كان من قبل، بل أصبح هذا الأساس هو الاستثمار التجاري أو إدارة الأعمال التجارية. ولم يكن في وسع القانون الأخلاقي القديم أو في وسع حفنة من الرجال من طراز كاتو أن يحولوا بين هذا العهد الجديد عهد رؤوس الأموال المتحركة أن يصبغ الحياة الرومانية كلها بصبغته. فكان كل إنسان يسعى جاهداً للحصول على المال، وكان كل إنسان يقدَّر ويقدَّر غيره بما عنده من المال، وكان المتعاقدون على الأعمال يغشون ويخدعون، وبلغ من غشهم وخداعهم أن تخلت الحكومة عن كثير من أملاكها- كمناجم مقدونية- لأن المتعاقدين معها على استغلالها كانوا يسخرون العمال ويبتزون أموال الدولة ابتزازاً أصبحت معه المشروعات مصدر بلاء للدولة لا مورد ربح لها (16). وتخلق الأشراف بالخلق الجديد، وشاركوا غيرهم في الثروة الجديدة- إذاً جاز لنا أن نصدق أقوال المؤرخين، ومن واجبنا ألا نصدقهم- بعد أن كانوا من قبل يرون أن الشرف أعلى قدراً من الحياة. وأصبحوا لا يفكرون في الأمة، بل يفكرون في امتيازاتهم ومطالبهم الطائفية والفردية، وصاروا يقبلون الهدايا والرشا الكبيرة لكي يمنحوا عطفهم على الأفراد والدول، وما أسهل ما كانوا يجدون سبباً لشن الحرب على البلاد التي فيها من الثروة أكثر مما فيها من القوة. وكان الأشراف يعترضون العامة في الطرقات ويستجدونهم أصواتهم أو يبتاعونها منهم، وأصبح من الأمور المألوفة أن يختلس الحكام الأموال العامة كما أصبح من غير المألوف أن يحاكم هؤلاء على ما يختلسون(9/189)
منها. ومن ذا الذي يعاقب اللصوص من زملائه إذا كان نصف أعضاء مجلس الشيوخ قد ائتمروا على خرق المعاهدات، وسرقة الأحلاف، وانتهاب الولايات؟ وفي ذلك يقول كاتو: "من يسرق مال مواطن يقضي بقية أيامه مكبلاً بالسلاسل والأغلال؛ ولكن من يسرق مال المجتمع يقضي بقية أيامه رافلاً في أفخر الثياب ومتحلياً بالذهب الوهاج (17) ".
ومع هذه فإن منزلة مجلس الشيوخ قد علت عما كانت عليه من قبل، ذلك بأن رومه بقيادته قد خرجت ظافرة من الحربين البونيتين ومن الحروب المقدونية الثلاث، وتحدت كل منافسيها، وتغلبت عليهم، وكسبت صداقة مصر، وبسطت عليها نفوذها، واستولت على جزء كبير من ثروة العالم أمكنها به أن ترفع عن إيطاليا كلها في عام 146 عبء الضرائب المباشرة. وقد اغتصب مجلس الشيوخ في خلال أزمات الحرب والسياسة كثيراً من اختصاصات الجمعيات والحكام، ولكن النصر الذي نالته رومه قد برر هذا الاغتصاب؛ وفوق هذا فإن تحول البلاد إلى إمبراطورية متسعة الرقعة قد جعل الجمعية أداة سمجة غير صالحة للحكم؛ ذلك أن الشعوب الثائرة التي خضعت وقتئذ لحكم مجلس شيوخ كثرة أعضائه من الساسة المحتكين والقواد الظافرين، لم يكونوا يقبلون أن يتصرف في شئونهم بضعة آلاف من الإيطاليين الذين يستطيعون حضور الجمعيات الوطنية في رومه. إن الحرية أساس الديمقراطية، والنظام أساس الحرب، وكلاهما لا وجود له مع الآخر. ذلك أن الحرب تتطلب قدراً عظيماً من الذكاء والشجاعة، والحزم والسرعة في اتخاذ القرارات، والعمل الجماعي المتحد، والطاعة العاجلة لأوامر الرؤساء؛ ومن أجل هذا قضت كثرة الحروب على الديمقراطية. وكان القانون ينص على أن من حق الجمعية المئوية وحدها أن تعلن الحرب وتعقد الصلح؛ ولكن مجلس الشيوخ كان يستطيع بماله من حق الهيمنة على صلات الدولة الخارجية أن يدفع الأمور إلى حيث لا تجد الجمعية مناصاً من الخضوع لرأيه (18). وكان مجلس الشيوخ هو المشرف على خزانة الدولة، كما كان هو المسيطر على(9/190)
الشؤون القضائية، وذلك بحكم القاعدة المتبعة من قديم الزمان وهي أن جميع المناصب القضائية الهامة كان يختار شاغلوها من أعضاء المجلس أو المرشحين لعضويته، يضاف إلى هذا كله أن وضع القوانين وشرحها كانا من اختصاص طبقة الأشراف.
وكان في داخل هذه الأرستقراطية ألجِركية محصورة في الأسر ذات السلطان، ذلك أن التاريخ الروماني قد ظلا إلى عهد صلا Sulla سجلا لأعمال الأسر لا أعمال الأفراد؛ فلسنا نرى فيه أسماء ساسة عظماء بارزين ولكنا نرى جيلاً في إثر جيل أسماء بعينها تشغل أعلى مناصب الدولة؛ ترى من بين مائتي قنصل شغلوا هذا المنصب الخطير بين عامي 233, 133 ق. م مائة وتسعة وخمسين ينتمون إلى ست وعشرين أسرة، ومائة ينتمون إلى عشر أسر. وكانت أقوى أسرة في ذلك العهد هي آل كورنيليوس Cornelius. وليس تاريخ رومه الحربي والسياسي من أيام بيليوس كورنيليوس سبيو Publius Cornelius Scipio الذي خسر معركة تربيا Trebia في عام 218 أيام ولده سبيو الإفريقي قاهر هنيبال وأيام حفيد ثانيهما وتبناه سبيو إبمليانوس الذي دمر قرطاجنة في عام 146، نقول ليس تاريخ رومه الحربي والسياسي طوال ذلك العهد في جملته إلا تاريخ هذه الأسرة، ولقد بدأت الثورة التي قضت على طبقة الأشراف على يد ابني جراكس وهما حفيدا إيمليانوس. ولقد أصبح سبيو الإفريقي بعد انتصاره في واقعة زاما التي أنجت رومه من الدمار محبباً لجميع الطبقات، وظلت رومه فترة من الزمان على استعداد لأن تمنحه أي منصب يرغب فيه.
فلما أن عاد هو وأخوه لوسيوس Lucius من ميدان القتال في آسيا (187) طلب أشياع كاتو أن يعرض على المجلس حساب الغرامة الحربية التي أداها إليه أنتيوخوس ليبعث بها إلى رومه، وأبى سبيو الإفريقي أن يجيب أخوه هذا الطلب، ومزق سجلات الحساب أمام مجلس الشيوخ. وحوكم(9/191)
لوسيوس أمام الجمعية وحكم عليه بأنه اغتصب الأموال العامة، ولم ينجه من العقاب إلا رفض التربيون تيبيريوس سمبرونيوس جراكس Tiberius Sempronius Gracchus زوج ابنة سبيو الإفريقي أن يجيز هذا العقاب بماله من حق الرفض. واستدعى سبيو الإفريقي إلى المحاكمة فما كان منه إلا أن عطل الإجراءات القضائية بأن دعا الجمعية وسار أما أعضائها إلى هيكل جوبتر للاحتفال بذكرى معركة زاما. ولما دعي مرة ثانية أبى أن يجيب الدعوة وسافر إلى ضيعته في ليترنوم Liternum وبقي فيها بقية أيامه لا يجرؤ أحد على أن يمسه بسوء. وكان يقابل هذه النزعة الفردية في السياسة نمو الفردية في التجارة وفي الأخلاق. وما لبثت الجمهورية الرومانية أن قضي عليها نشاط عظماء رجالها وجهودهم الطليقة من جميع القيود.
وقد رفع من شأن الأرستقراطية ومن شأن هذا العهد كله، ما سرى في نفوس تلك الطبقة من تقدير للجمال. ذلك أن اتصال الرومان بالثقافة اليونانية في إيطاليا وصقلية وآسيا قد جعلهم على علم بكل مستلزمات الحياة المترفة، وبكل ثمار الفنون الجميلة في العالم القديم. ولما عاد الفاتحون إلى بلادهم جاءوا معهم بكثير مما اشتهر في أنحاء العالم من روائع الصور الملونة، والتماثيل، والكؤوس، والمرايا، والمعادن المنقوشة، والمنسوجات الغالية، والأثاث الثمين. وقد ارتاع الجيل القديم حين رأى مرسلس Marcellus يزين الميادين الرومانية بالتماثيل التي اغتصبها من سرقرسة. ولم يكن ما يشكو منه أهل ذلك الجيل اغتصاب قائدهم لهذه التماثيل، بل كانوا يشكون "البطالة ولغو الحديث" اللذين أصبحا عادة لازمة للمواطنين المجدين الذين يقفون الآن "ليفصحوا عن السفاسف وينتقدوها (19) ". واغتصب فلقيوس Fulvius 1015 تمثالاً من مجموعة تماثيل برس Pyrrhus في أمبراشيا Ambracia. وشحن إيمليوس بولس خمسين عربة في موكب نصره بالكنوز الفنية التي استولى عليها من بلاد اليونان ضمن ما استولى عليه منها نظير تحريرها. وفعل هذا الفعل نفسه صلا Sulla، وفريس Verres، ونيرون Nero ومئات(9/192)
غيرهم من الرومان خلال مائتي عام من تاريخ البلاد جردوا منها بلاد اليونان من روائع فنها ليكتسي بها العقل الروماني.
وطغى هذا الغزو على الفن الإيطالي فنبذ صفاته الأصلية، وطرازه الوطني واستسلم بأجمعه- إلا في شيء واحد- إلى الفنانين اليونان والى الموضوعات والأشكال اليونانية. وأقبل المثالون، والمصورون، والمهندسون اليونان إلى رومه حيث كان الذهب يتدفق في جيوبهم، وما لبثوا أن صبغوا عاصمة فاتحي بلادهم بالصبغة اليونانية. وشرع سراة الرومان يشيدون قصورهم على الطراز الروماني حول فناء غير مسقوف، ويزينونها بالعمد، والتماثيل، والصور اليونانية، وبالأثاث اليوناني. أما الهياكل فقد تحولت على مهل حتى لا تغضب الآلهة من التحول وبقي جسم الهيكل القصير والقاعدة المرتفعة للتماثيل- وهما من مميزات الفن التسكاني- القاعدة المتبعة في بناء الهياكل ونحت التماثيل. فلما أن زاد عدد الآلهة الأولمبية، رأى الرومان أن من حق تلك الآلهة أن تبني بيوتها على الطراز الهليني الرفيع. غير أن الفن الروماني قد ظل في ناحية واحدة جوهرية يعبر بوسائله الخاصة وبقوته الفذة عن الروح الإيطالية الفنية، وإن ظل يسترشد بالفن اليوناني. أما فيما عدا هذا فقد استبدل المهندسون الرومان القوس بالعارضة الراكزة على الأعمدة في الأبنية التي خلدوا بها نصرهم أو زينوا بها دورهم، وفي القنوات التي تجر الماء لدورهم وفي أبنية محاكمهم. وعلى هذا النحو شاد كاتو من الحجارة في عام 184 الدار المعروفة باسم باسلكا بورشيا Bacilica Portia، وبعد خمس سنين من ذلك العام شاد إيمليوس بولس باسلكا إيمليا Bacilica Aemilia في صورتها الأولى التي أصلحها فيما بعد أبناؤه وأحفاده جيلاً بعد جيل، وجملوها أحسن تجميل (1). وكانت الباسلكا الرومانية النموذجية
_________
(1) وكانت الباسلكا تطبيقاً من جانب اليونان للعقود على هندسة القصور الفارسية والأبهاء المصرية ذات السقف الرتكزة على العمد. وكانت ديلوس وسرقرسة قد أقامتا مثل هذه المباني في القرن الثالث قبل الميلاد.(9/193)
داراً تقام لتصريف الأعمال التجارية والقضائية، وتتألف من بناء في شكل مستطيل طويل يقسمها إلى ممشى وأفنية صفان من الأعمدة الداخلية، يعلوها في العادة سقف في صورة قبة مصندقة، وهو طراز أخذ في الأصل من الإسكندرية (20). وإذ كان الممشى مرتفعاً عن الأفنية فقد كان من المستطاع حفر شبكة من الفتحات في الحجارة فوق كل فناء يدخل منها الضوء والهواء. ذلك بطبيعة الحال هو الشكل الأساسي للجزء الداخلي من الكنائس الكبرى في العصور الوسطى. وبهذه الصروح الضخمة شرعت رومه تتخذ لنفسها مظهر القوة والفخامة الذي امتازت به في مستقبل أيامها حتى بعد أن لم تكن عاصمة العالم كله.(9/194)
الفصل الثالث
الآلهة الجدد
ترى ماذا كان شأن الآلهة القديمة في ذلك العهد، عهد التحول السريع الذي لا يبقى ولا يذر؟ يلوح أن شيئاً من الكفر بهذه الآلهة قد سرى من الأشراف إلى عامة الشعب؛ وإلا فكيف يرضى شعب لا يزال يؤمن بالآلهة القديمة عن هذه المسرحيات الهزلية التي يسخر فيها بلوتس Plautus- مهما كانت حجته في أنه إنما يحاكي النماذج اليونانية- من أعمال جوبتر مع ألكمينا Alcmena، ويجعل من عطارد مهرجاً ضحكة، ثم هو لا يرضى عن هذا فحسب بل يحيى هذه المشاهد بالصخب والضجيج. إن كاتو نفسه وهو الحريص على العادات القديمة، كان يعجب من قدرة اثنين من العرافين إذا التقيا على ألا يسخر كلاهما من الآخر (21). لقد طالما خضع هؤلاء العرافون لأساليب الختل السياسية؛ وكثيراً ما كان الفأل والطيرة ينطق بهما لتكييف الرأي العام كما يهوى الزعماء، وكثيراً ما كانت أصوات الشعب في الاقتراع على أمر من الأمور تكفيها وسائل التهريج والشعوذة الدينية. ولطالما رضى الدين بأن يُحَوَّل استغلال الشعب إلى واجب مقدس تتطلبه الآلهة.
ولقد عاش من الدلالات السيئة أن يكتب بولبيوس حوالي عام 150 ق. م، بعد أن عاش سبعة عشر عاماً في أرقى المجتمعات في رومه، ما يستدل منه على أن الدين الروماني لم يكن إلا أداة طيعة من أدوات الحكم:
"إني أرى أن الميزة التي تمتاز بها الجمهورية الرومانية، والتي ترفع من قدرها فوق سائر بلاد العالم، إنما هي طبيعة دينها. ذلك أن ما يعد عند الأمم الأخرى عيباً من العيوب وسبة في الأعقاب- وهو الخرافات- لهو نفسه(9/195)
العامل الأكبر في تماسك الدولة الرومانية. فهذه الشؤون تكتسي بثوب من الأبهة والفخامة، وتسري في الحياة الخاصة والعامة سرياناً لا يضارعها فيه غيره من الأديان .. ويقيني أن الحكومة قد نهجت هذا النهج لخير الشعب. ولو أنه كان مستطاعاً إقامة دولة كل رجالها من الحكام، لما كان هذا النهج واجباً محتوماً. ولكن الجماهير كلها بلا استثناء متقلبة الأهواء لا تثبت على حال، تملأ قلوبها الرغبات الطليقة التي لا تتقيد بقانون، والشهوات التي لا تخضع لحكم العقل، والانفعالات العنيفة؛ ومن أجل هذا كان لابد من وجود أسباب للإرهاب لا تراها العين، ومواكب ومظاهر دينية فخمة تمسك هذه الجماهير بعضها ببعض".
ولعله كان في وسع بولبيوس أن يؤيد قوله هذا بحوادث في أيامه تثبت أن الخرافات لا تزال هي المسيطرة على عقول الرومان، على الرغم من بلوتس وعلى الرغم من الفلسفة. من ذلك أنه لما حلت بالرومان كارثة كاني Cannae، ولاح أن رومه لن يعصمها عاصم من هنيبال، استولى الرعب على الشعب الروماني المهتاج ونادى: "أي إله نرتجيه لينجي رومه من البلاء الذي هي فيه؟ ".
وحاول مجلس الشيوخ أن يسكن هذا الذعر بالتضحية البشرية، ثم بالصلاة إلى الآلهة اليونانية، ثم استخدام الطقوس اليونانية في عبادة الآلهة كلها الرومانية منها واليونانية على السواء. ثم قرر المجلس في آخر الأمر أنه إذا كان قد عجز عن القضاء على الخرافات فإنه سينظمها ويسيطر عليها. من ذلك أنه أعلن في عام 205 أن الكتب السبيلية Sibylline تنبئ بأن هنيبال سيغادر إيطاليا إذا جئ بالأم الكبرى- Magna Mater- وهي صورة من الإلهة سيببل Cybele- من بسينس Pessinus في فريجيا Phygi إلى رومه. ووافق على ذلك أتالس Attalus ملك برجموم ونقل الحجر الأسود الذي كان في اعتقادهم جسد الأم الكبرى إلى أستيا حيث استقبله سبيو الإفريقي وطائفة من فضليات(9/196)
السيدات بمظاهر التكريم. ولما أن ارتطمت السفينة التي كانت تحمله بطين نهر التيبر رفعتها العذراء كلوديا الفستية، وجرتها في النهر صعداً إلى رومه بما للعفة من قوة سحرية، ثم أمسكت السيدات جميعهن كل واحدة بعد الأخرى بالحجر في يدها وحملنه في موكب رهيب إلى هيكل النصر، وأخذ الأهلون الأتقياء يحرقون البخور أمام بيوتهم أثناء مرور الأم الكبرى. وارتاع مجلس الشيوخ حين وجد أن المعبود الجديد لابد أن يقوم على خدمته كهنة يُخصون أنفسهم. وكان من المستطاع العثور على رجال يقبلون هذا، ولكن الرومان لم يكن يسمح لهم بأن يكونوا من بينهم. وشرعت رومه من ذلك الوقت تحتفل في شهر إبريل من كل عام بعيد الآلهة الكبرى Magalesia، واتخذ الاحتفال في بادئ الأمر صورة الحزن العنيف، ثم انقلب بعدئذ إلى المرح العنيف. ذلك أن سيبيل كانت إلهة نباتية، وتروي الأساطير أن ابنها أتيس Attis رمز الخريف والربيع مات وانتقل إلى الجحيم Hades، ثم عاد إلى الحياة من بين الأموات.
وغادر هنيبال إيطاليا في عام 205، وهنأ مجلس الشيوخ نفسه على الطريقة التي اتبعها في علاج الأزمة الدينية. ولكن الحروب التي دارت مع مقدونية قد فتحت لرومه أبواب اليونان والشرق. وقد جاء في أثر الجنود الذين عادوا بأسلاب الشرق وأفكاره وأساطيره أفواج من الأسرى اليونان والأسيويين، ومن الرقيق واللاجئين، والتجار والسياح، والرياضيين والفنانين والممثلين والموسيقيين، والمدرسين والمحاضرين؛ والناس إذا هاجروا جاءوا معهم بآلهتهم. واغتبطت الطبقات الدنيا في رومه بما عرفته عن ديونيسس باخوس Dionysus Bacchus؛ وأرفيوس Orpheus ويريدس Eurydice، والطقوس الغامضة الخفية وهي في اعتقادهم مصدر الإيحاء الإلهي، والخمر القدسي، والاتصال الروحي، الذي يكشف عن الآلهة التي تبعث حيَّة وتَعد عبادها الخلود. وارتاع مجلس الشيوخ في عام 186 حين علم أن من الشعب أقلية كبيرة قد اعتنقت الطقوس الديونيسية،(9/197)
وأن الإله الجديد تقام له حفلات تدار فيها كؤوس الخمر على المحتفلين. وإذ كانت هذه الحفلات تقام سراً وفي الليل فقد راجت الإشاعات القائلة بأنها كانت حفلات حمراء يصحبها الخمر والفجور الطليق، وقد وصفها ليفي بقوله: "إن الفسق بالرجال كان أشد من الفسق بالنساء"، ثم يقول بعد هذا- ولعله في ذلك ينزل لغو القول منزلة التاريخ المحقق: "ومَن لم يكن يرضى بالدنس ... كان يضحي به قرباناً للإله (23) ". وحرم مجلس الشيوخ هذه الطقوس الدينية؛ وقبض على سبعة آلاف من القائمين بها، وقضي بإعدام مئات منهم. وكان هذه نصراً مؤقتاً في الحرب العوان التي خاضت رومه غمارها لصد تيار الأديان الشرقية (1).
_________
(1) يريد أديان اليونان.(9/198)
الفصل الرابع
بداية عصر الفلسفة
كانت الطريقة التي غزت بها بلاد اليونان رومه أن بعثت إلى عامتها بالدين اليوناني والمسرحيات الهزلية اليونانية، والى الطبقات العليا من أبنائها بالأخلاق وبالفلسفة اليونانية. وائتمرت هذه الهدايا اليونانية مع الثروة الرومانية ومه الإمبراطورية الرومانية على تقويض دعائم دين رومه وأخلاقها، وكان هذا إحدى السبل التي اتبعتها هلاس في انتقامها الطويل المدى من غزاتها. وبلغ هذا الغزو غايته في الفلسفة اليونانية من أبيقورية لكريشيوس الرواقية إلى رواقية سنكا الأبيقورية. وفي الدين المسيحي غلبت فلسفة ما وراء الطبيعة اليونانية الآلهة الإيطالية، ولما نشأت القسطنطينية كانت الغلبة فيها للثقافة اليونانية، فنافست في بادئ الأمر الثقافة الرومانية، ثم حلت في آخر الأمر محلها؛ ولما أن سقطت القسطنطينية عادت الآداب والفلسفة والفنون اليونانية فغزت إيطاليا وأوربا كلها في عصر النهضة. ذلك هو المجرى الرئيسي في تاريخ الحضارة الأوربية، أما ما عداه فتيارات فرعية وروافد جانبية. وفي ذلك يقول شيشرون: "لم يكن منشأ الفيض الذي أقبل من بلاد اليونان إلى مدينتنا مجرى صغيراً بل كان منشؤه نهراً خضماً من الثقافة والعلم (24) "، أصبحت حياة رومه الذهنية والفنية والدينية من بعده جزءاً من العالم المصطبغ بالصبغة الهلينية (1).
ووجد الغزاة اليونان في مدارس رومه وقاعات المحاضرات فيها ثغرة طيبة ينفذون منها إلى رومه، وموقعاً صالحاً يثبتون فيه أقدامهم. فجاء في أعقاب
_________
(1) من أقوال هورامس ذلك القول الذي ملت الأذن سماعه: "أسرت بلاد اليونان المغلوبة غالبها الهمجي".(9/199)
الجيوش الرومانية التي عادت من بلاد الشرق تيار دافق من "اليونان الصغار" Graeculi كما كان يسميهم الرومان استهزاء بهم. وكان منهم أرقاء كثيرون استخدموا معلمين في الأسر الرومانية، ومنهم النحاة الذين أنشئوا الدراسات الثانوية في رومه بما افتتحوه من المدارس لتعليم لغة اليونان وآدابهم؛ ومنهم البلغاء الذين كانوا يلقون محاضرات عامة في فن الخطابة والأدب والإنشاء والفلسفة، أو يعطون فيها دروساً خاصة. وشرع الخطباء الرومان- حتى من كان منهم يبغض الثقافة اليونانية أمثال كاتو- يتخذون خطب ليسياس Lysias، وإيسكين Aeschines ودمستين Demosthenes نماذج لهم ينسجون على منوالها.
ولم يكن لهؤلاء المدرسين اليونان دين يؤمنون به إلا القليلين منهم، وأقل من هؤلاء المتدينين من كانوا يثبتون في قلوب تلاميذهم شيئاً من العقيدة الدينية. وكانت منهم أقلية صغيرة تحذو حذو أبيقور، وتسبق لكرييشيس في وصفه الدين بأنه أكبر الشرور في حياة الشر. وأدرك الأشراف مهب العاصفة وحاولوا أن يسدوا عليها الطريق، فنفى مجلس الشيوخ من البلاد في عام 173 اثنين من الفلاسفة أو البلغاء". ولكن العاصفة لم تسكن، فقد جاء إلى رومه في عام 159 كراتس الملوسي Crates of Mallus مدير المكتبة الملكية الرواقي في برجموم في عمل رسمي، وكسرت فيها ساقه، فأقام بها، وأخذ وهو في دور النقاهة يلقي محاضرات في الأدب والفلسفة. وفي عام 155 بعثت أثينا إلى رومه سفراء من أهلها كانوا زعماء المدارس الفلسفية الثلاث العظيمة: كارنيدس Carneades الأكاديمي أو الأفلاطوني، وكرتولوس Critolaus المشائي أو الأرسطاطيلي وديوجين Diogenes الرواقي السلوسي ( of Selucia) . وكان قدوم هؤلاء إلى رومه مبعث نهضة علمية وفلسفية لا تكاد تقل في قوتها عما بعثه قدوم كرسولوراس Chrysoloras إلى إيطاليا في عام 1453. وتحدث كارنيدس عن البلاغة(9/200)
بفصاحة حملت الشبان على أن يجتمعوا حوله في كل يوم ليستمعوا له (25). وكان الرجل شكاكاً إلى أقصى حد، فكان يشك في وجود الآلهة، ويقول إن في الإمكان تبرير الظلم بأسباب لا تقلّ في وجاهتها عن الأسباب التي يبرر بها العدل. وفي هذا تسليم من جانب الفلسفة الأفلاطونية بآراء ترازيماكس Thrasymachus.
ولما سمع كاتو- وكان وقتئذ شيخاً طاعناً في السن- بهذا القول طلب إلى مجلس الشيوخ أن يأمر بإعادة السفراء الثلاثة إلى بلادهم، فعادوا ولكن بعد أن ذاق الجيل الجديد لذة الفلسفة؛ ومن ذلك الحين أخذ الأثرياء من شباب رومه يذهبون إلى أثينا ورودس ليستبدلوا فيهما بإيمانهم القديم أحدث ما فيهما من تشكك.
وكان الذين فتحوا بلاد اليونان هم أنفسهم الذين نشروا الثقافة اليونانية والفلسفة اليونانية في رومه، وكان فلامينوس Flamininus يحب الآداب اليونانية قبل أن يغزو مقدونية ويحرر اليونان، فلما أن غزاها تأثر كثيراً بما رأى في بلاد اليونان من فنون ومن مسرحيات. وخليق بنا أن نذكر لرومه أن بعض قوادها العسكريين كانوا يستطيعون فهم بوليكليتس Polycleitus وفيدياس Pheidias وإن كانوا قد تغالوا في تقدير هذين الفنانين إلى حد السرقة. ولما أن انتصر إيمليوس بولس على برسيوس لم يستبق من كل ما جاء به من الغنائم إلا مكتبة الملك ليرثها أبناؤه من بعده، وقد حرص على أن يتعلم هؤلاء الأبناء الآداب والفلسفة اليونانية حرصه على أن يتعلموا فنون الصيد والحرب الرومانية، وكان يشترك معهم في هذه الدراسات بالقدر الذي تسمح له به واجباته الرسمية.
ولما مات بولس تبنَّى أصغر أبنائه صديقه ب. كرنليوس سبيو ابن الإفريقي واتخذ الابن المتبني اسم الرجل الذي تبناه جرياً على عادة الرومان وقتئذ، وأضاف إليه اسم عشيرة أبيه فأصبح اسمه بعدئذ، كرنليوس(9/201)
سبيو إيمليانوس وهو الذي سنطلق عليه اسم سبيو في صحائف هذا الكتاب. وكان شاباً وسيم الطليعة قوي البنية، بسيطاً في عاداته، متزناً في حديثه، رقيق القلب، كريماً، شريفاً طاهر اليد، لم يترك وراءه عند وفاته إلا ثلاثة وثلاثين رطلاً من الفضة ورطلين من الذهب، وإن كانت جميع غنائم قرطاجنة قد مرت بين يديه، وإن كان قد عاش عيشة العالم المتقشف لا عيشة الرجل الثري. وقد التقى في شبابه بيولبيوس اليوناني الذي نفي من بلاده وأسداه بولبيوس النصح والكتب القيمة، وكانت هذه يد حفظها له الشاب طول حياته. وذاعت شهرته وهو لا يزال شاباً يحارب تحت إمرة أبيه في بدنا Pydna، ولما استخف به عدوه في أسبانيا وطلب إليه أن يبارزه قبل هذا التحدي وانتصر في المبارزة (27).
وقد جمع حوله في حياته الخاصة طائفة من الرومان الممتازين الذين شغفوا بالأفكار اليونانية. ومن أعظم هؤلاء شهرة جاريوس ليليوس Gaius Laelius وهو رجل حكيم في رأيه، وفّي في صداقته، عادل في أحكامه، نقي السيرة، طاهر السريرة، لا يفوقه في فصاحة اللسان وجمال الأسلوب إلاّ إيمليلنوس نفسه. وقد أحب شيشرون ليليوس وأعجب به بعد مائة عام من وفاته، وسمي باسمه مقاله عن الصداقة، وكان يتمنى أن لم يعش في عصره المضطرب بل في تلك الدائرة الرفيعة التي كانت تضم شباب رومه المفكر.
وكان لهذه الدائرة أبلغ الأثر في الأدب الروماني، ولقد كسب ترنس Terence بفضل اشتراكه فيها ما امتازت به لغته من دقة في التعبير وجمال في الأسلوب، ولعل جايوس لوسليوس (180 - 103) قد أفاد منها قدرته على أن يجعل لهجائه اللاذع الذي كان يسلطه على رذائل عصره وترفه هدفاً اجتماعياً.
وكان اللذان يشرفان على هذه الفئة من اليونان رجلين هما بولبيوس Polybius وبانيتيوس Panaetius. وقد عاش أولهما سنين كثيرة في بيت سبيو. وكان رجلاً واقعياً عقلياً، قليل الاغترار بالناس وبالدول. أما بانيتيوس فقد جاء من(9/202)
رودس، وكان كزميله بولبيوس من الأشراف اليونان. وعاش كثيراً من السنين مع سبيو ينعم بصداقته ويشاركه في نفوذه وسلطانه. وهو الذي غرس في نفس سبيو فضائل الرواقية ونبلها، وأكبر الظن أن سبيو هو الذي حمله على أن يلطف من المطالب الخلقية المتطرفة لهذه الفلسفة، ويجعل منها عقيدة عملية. ولقد شرح بانيتيوس في كتاب له "في الواجبات" المبدأين الأساسيين للفلسفة الرواقية وهما أن الإنسان جزء من كل يجب أن يتعاون معه- مع أسرته، وبلده، ومع روح العالم القدسي؛ وأنه لم يوجد في العالم ليستمتع بملاذ الحواس وإنما وجد ليؤدي واجبه من غير أن يشكو أو يتململ. ولم يكن باتينيوس كالرواقين الأولين يدعو إلى الفضيلة الكاملة أو عدم المبالاة التامة بطيبات الحياة ومتعها. واستمسك الرومان المتعلمون بهذه الفلسفة واتخذوها بديلاً كريماً مقبولاً من دينهم القديم الذي لم يعودوا يؤمنون به، ووجدوا في مبادئها قانوناً أخلاقياً يتفق كل الاتفاق مع تقاليدهم ومُثلهم العليا.
وهكذا أصبحت الرواقية هي الملهمة لسبيو والمطمح الذي يصبو إليه شيشرون؛ كما كانت هي خير ما في سنكا، والمرشد الهادي لتراجان Trajan، والمواسية لأوريليوس Aurelius. وجملة القول أنها أصبحت هي ضمير رومة.(9/203)
الفصل الخامس
النهضة الأدبية
لقد كان الغرض الذي يهدف إليه سبيو وجماعته أن يناصروا الفنون والفلسفة، وأن يجعلوا اللغة اللاتينية لغة رقيقة سلسة أدبية، وأن يجتذبوا ربات الشعر الرومانية إلى ينابيع الشعر اليوناني المتدفقة، وأن يهيئوا للكتاب والشعراء الناهضين مستمعين وقراء. من ذلك أنه لما أن جاء كاتو- وهو العدو الألد لكل شيء يمثله سبيو وأصدقاؤه- بشاعر من الشعراء إلى رومه في عام 204 ق. م اختفى به سبيو وأكرم مثواه. وكان هذا الشاعر هو كونتس إبنيوس Qnintus Ennius. وكان قد ولد في عام 239 بالقرب من برنديزيوم Brundisium من أبوين أحدهما يوناني والآخر إيطالي. وتلقى علومه في تارنتم، وكان ذا روح حماسية تأثرت أشد التأثر بالمسرحيات اليونانية التي كانت تعرض على مسرح تلك المدينة. واسترعت شجاعته العسكرية في سردينيا التفات كاتو. ولما جاء إلى رومه أخذ يشتغل بتدريس اللغتين اليونانية واللاتينية، وينشد أشعاره لأخصائه. وسرعان ما وجد سبيله لجماعة سبيو وأصدقائه؛ ولم يكن ثمة بحر من بحور الشعر إلا حاوله، وكتب عدداً قليلاً من السالي وما لا يقل عن عشرين مأساة، وكان يعجب بيور بديز ويعبث مثله بالآراء المتطرفة، ويغيظ الأتقياء بما ينطق به من الأمثال التهكمية الأبيقورية كقوله: "أسلم معكم أن ثمة آلهة ولكنهم لا يبالون بما يفعله الآدميون، وإلا لكانت عاقبة الطيبين الخير وعاقبة الخبيثين الشر- وهذا قلما يحدث (28) ". ويقول شيشرون إن من استمعوا لهذا القول طربوا وصفقوا له استحساناً (29). وقد ترجم أو شرح كتاب "التاريخ المقدس" تأليف يوهمروس Euhemerus وهو الكتاب الذي يثبت فيه كاتبه أن الآلهة ليسوا إلا أبطالاً أمواتاً ألهتهم(9/204)
عواطف الشعب وتعلقه بهم. على أنه لم يكن مجرداً كل التجرد من الآراء الدينية، وآية ذلك أنه أعلن في وقت ما أن روح هوميروس قد تنقلت في عدة أجساد منها جسم فيثاغورس ومنها جسم طاووس ثم استقرت في جسم إينيوس Ennius. وقد كتب تاريخاً حماسياً لرومه في صورة ملحمة كبيرة تبدأ من مجيء إينباس Aeneas إلى بيرس Pyrrhus، وقد ظلت هذه الحوليات إلى أيام فرجيل الملاحم القومية لإيطاليا؛ وبقيت منها قطع صغيرة قليلة العدد أشهرها كلها بيت لا يمل المحافظون الرومان ترديده وهو:
"قوام الدولة الرومانية أخلاقها القديمة ورجالها العظماء".
وكانت القصيدة من حيث الوزن تعد ثورة على الأوزان الشعرية القديمة. فقد استبدل فيها بالوزن المهلهل غير المنتظم الذي كان يستخدمه نيفيوس Naevius الشعر المرن السداسي الأوتاد الذي كان يستخدم في الملاحم اليونانية. وصاغ إبنيوس الشعر اليوناني في صور جديدة، وبث فيه قوة جديدة، وغمر أبياته بالأفكار، وأعده من حيث طريقته وألفاظه وموضوعه وأفكاره للكريشيس وهوراس وفرجيل. وقد توج أعماله الأدبية برسالة عن ملاذ الفم، ومات بذات الرئة في سن السبعين بعد أن ألف هذه القبرية التي يفخر فيها بنفسه:
"لا تبكوا عليّ ولا تحزنوا لوفاتي؛ فإني أبقى على شفاه الرجال وأحيا (30) ".
ونحج إبنيوس في كل شيء عدا المسلاة، ولعل سبب إخفاقه أنه عني بالفلسفة عناية جدية فوق ما يجب، ونسي نصيحته التي قال فيها "يجب على الإنسان أن يتفلسف دون أن يسرف في فلسفته (31) ". وكان الناس يفضلون الضحك على الفلسفة وكانوا في ذلك على حق؛ وقد أغنوا بهذا التفضيل بلوتس وأفقروا إبنيوس. ولهذا السبب عينه لم تلق المآسي المسرحية شيئاً من التشجيع في رومه. نعم إن الأشراف قد أعجبوا بمآسي بكوفيوس Pacuvius وأكيوس Accius، ولكن الشعب تجاهلها والزمان لم يبق على ذكراها.(9/205)
وكان موظفو الدولة يعرضون المسرحيات على الجماهير في رومه، كما كان أمثالهم يعرضونها عليه في أثينة، على أنها جزء من الحفلات التي تقام في الأعياد الدينية أو في جنائز المواطنين الممتازين. وكان الملهى الذي تمثل فيه مسرحيات بلوتس وترنس يتكون من محالة (1) خشبية تعلوها خلفية مزخرفة scaena أمامها طوار مستدير للرقص جزؤه الخلفي هو المسرح proscaenium. وكان هذا البناء الهش الرقيق يهدم عقب كل حفل كما نفعل نحن بالمقاعد والحواجز التي نقيمها للاستعراض في هذه الأيام. وكان النظارة يشاهدون اللعاب وهم وقوف أو جلوس على مقاعد يأتون بها معهم، أو يتربعون على الأرض في العراء. ولم تبن في رومه دار كاملة للتمثيل قبل عام 145 ق. م، وحتى في ذلك الوقت كانت الدار لا تزال بناء خشبياً لا سقف له، ولكن مقاعد مصفوفة على نظام المدرجات اليونانية نصف الدائرية. ولم يكن النظارة يؤدون لدخولها أجراً، وكان في مقدور الأرقاء أن يدخلوا دون أن يكون لهم حق الجلوس، أما النساء فلم يكن يسمح لهن إلا بالجلوس في المقاعد الخلفية. ولعل النظارة في ذاك العهد كانوا أخشن من شهدهم تاريخ التمثيل كله وأشدهم غباوة- فكانوا جماعة من الخابين المتزاحمين الوضيعين. وكثيراً ما كان يطلب إليهم في بداية التمثيل أن يراعوا قواعد الأدب والأخلاق، كما أن الفكاهات والنكات السمجة العادية يطلب تكرارها لكي يستطيع النظارة إدراكها. وكان يطلب إلى الأمهات في بعض الأحيان أن يتركن أطفالهن في منازلهن، وكانت الخطب الافتتاحية تنذر الأطفال بالعقاب إذا أحدثوا شيئاً من الضجيج، أو تحذر النساء من الثرثرة في أثناء التمثيل. وترى هذه المطالب مدونة حتى في وسط المسرحيات التي نشرت فيما بعد (32). وإذا حدث أن صحب التمثيل صراع ينال المتفوق فيه جائزة، أو ألعاب بهلوانية على الحبال، فقد كان التمثيل ينقطع أحياناً حتى ينتهي الصراع
_________
(1) المحالة الخشبية التي يستقر عليها الطيانون وهي المعروفة بالسقالة. (المترجم)(9/206)
أو تنتهي الألعاب، وهما أشد إثارة لحماسة النظارة من التمثيل. وعند ختام تمثيل مسلاة رومانية كانت تلقى العبارة الآتية: "والآن فيصفق الجميع" أو ما في معناها للدلالة على أن الرواية قد انتهت وأن التصفيق مباح.
وكان التمثيل خير ما في المسرح الروماني، وكان مدير المسرح من الأحرار، وكان هو الذي يمثل الدور الرئيسي عادة، أما غيره من الممثلين فكان معظمهم من الأرقاء اليونان. وكان كل مواطن يتخذ التمثيل حرفة له يفقد بذلك حقوقه المدنية- وهي عادة ظلت قائمة إلى أيام فلتير. وكان الرجال يمثلون أدوار النساء. وكان النظارة قليلي العدد، ومن أجل ذلك لم يكن الممثلون يلبسون أقنعة بل كانوا يكتفون بالأصباغ والشعر المستعار؛ فلما أن أزداد عدد النظارة أصبحت الأقنعة واجبة لتمييز أشخاص المسرحية بعضهم من بعض، وكان يطلق على القناع لف برسونا persona وهو في أغلب الظن مشتق من الكلمة التسكانية فرسو phearsu بمعنى قناع. وكانت الأدوار تسمى دراماتيس برسوني dramatis personae أي أقنعة المسرحية. وكان ممثلو الأدوار المحزنة يلبسون أحذية عالية cothurnus أما ممثلوا الأدوار المضحكة فكانوا يحتذون نعالاً وطيئة soccus. وكانت بعض أدوار المسرحية تغني على أنغام المزمار، وكان المغنون في بعض الأحيان يغنون الدوار، والممثلون يمثلونها تمثيلاً صامتاً بالإشارات.
وقد كتبت ملاهي بلوتس بالشعر السهل المكون من أسباب وأوتاد يتلو بعضها بعضاً تقليداً لأوزان الشعر اليوناني وموضوعاته، ومعظم الملاهي اللاتينية التي وصلت إلينا مأخوذة من المسرحيات اليونانية مباشرة، أو بمزج مسرحيتين يونانيتين أو أكثر بعضها ببعض، وهي مأخوذة في الغالب من مسرحيات فيلمون Philemon ومناندر Menander أو غيرهما من كتاب "المسلاة الجديدة" في أثينا، وكان اسم المسرحية الرومانية واسم مؤلفها يكتبان عادة على الصفحة الأولى. وقد حظر الاقتباس من مسرحيات أرسطوفان و"المسلاة القديمة" بمقتضى(9/207)
قانون الألواح الاثني عشر الذي كان يعاقب على الهجاء السياسي بالإعدام (33). ولعل خوف كتاب المسرحيات اللاتين أن يطبق عليهم هذا التشريع الرهيب هو الذي حدا بهم إلى الاحتفاظ بالمناظر والشخصيات والعادات والأسماء، وحتى النقود، كما كانت في الأصل اليوناني. ولولا بلوتس لكان القانون الروماني قد أبعد الحياة الرومانية كلها تقريباً عن المسرح الروماني. ولكن هذه الرقابة الصارمة لم تمنع فحش القول وبذيئه أن ينطق به على المسرح، فقد كان الهدف الذي يبتغه المشرفون على التمثيل هو تسلية النظارة لا رفع مستواهم، ولم يكن جهل العامة ليسوء قط الحكومة الرومانية، وكان النظارة يفضلون المزاح السمج على الفكاهة الرقيقة، ويعجبهم الهزل والتهريج أكثر مما يعجبهم الحذق والدهاء، ويطربهم فحش القول أكثر مما يطربهم الشعر، وكان بلوتس أحب إليهم من ترنس.
وكان أول دخول تيتس مكسيوس بلوتس Titus Maccius Plautus أي تيتس المهرج ذي القدم الكرشاء (1) في أمبريا Umbria عام 254 ق. م؛ ولما قدم إلى رومه عمل فيها خادماً من خدم المسرح وادخر بعض المال وحرص على استثماره ولكنه أضاعه. واضطره العيش إلى كتابة المسرحيات، وسر الجماهير بما كان يبثه من الإشارات الرومانية في مسرحياته المقتبسة من المسرحيات اليونانية. واستطاع بهذه الطريقة أن يجمع بعض المال وأن يمنح مواطنيه رومه. وكان بلوتس رجلاً شعبياً شديد المرح ضاحكاً صخاباً، يضحك مع كل إنسان على كل إنسان، ولكنه كان طيب القلب عطوفاً على الناس جميعاً. وقد بلغ عدد ما كتبه أو صقله من المسرحيات مائة وثلاثين بقيت منها إلى الآن عشرون. ومن هذه المسرحيات البقية مسرحية Miles Gloriosus وهي صورة مرحة لجندي صخاب يغذيه خادمه وينفحه بالأكاذيب.
_________
(1) القدم الكرشاء هي التي استوى أخمصها وانبطحت على الأرض في عرض وغلظ فيها. (المترجم)(9/208)
الخادم: أرأيت الفتاتين اللتين استوقفتاني بالأمس؟.
الضابط: ماذا قالتا لك؟.
الخادم: لما مررتَ بنا سألتاني:
"يا عجباً! هل هنا أخيل العظيم؟ " فأجبتهما:
"في الحق إنه لجميل! يا له من رجل نبيل!
"ما أبهى شعره! " ... وتوسلت إليَّ كلتاهما.
... أن أطلب إليك أن تخرج اليوم مرة أخرى. حتى تستطيعا رؤيتك عن قرب.
الضابط: ألا ما أكثر ما يجره الجمال على الإنسان من متاعب!!.
وفي مسرحية أمفتريون Amphitryon تنصب السخرية على جوف Jove فهو يتنكر في صورة زوج الكمينا Alcmena ويدعو نفسه ليستمع إلى قسمه، ويقرب القربان إلى جوبتر (35). وفي اليوم التالي يغرر بهذه السيدة فتتئم. ويطلب بلوتس إلى الإله في آخر المسرحية أن يعفو عنه وأن يتقبل من الجماهير أكبر قسط من الثناء. وقد نالت هذه القصة من إعجاب الجماهير في رومه أيام بلوتس بقدر ما نالت في أثينا أيام مناندر Menander وفي باريس أيام مليير Moliere، وما تناله في نيويورك في الوقت الحاضر. أما مسرحية أولولاريا Aulularia فهي قصة رجل بخيل يكنز المال، وفيها من العطف عليه أكثر مما في رواية البخيل Avare لمليير. وترى البخيل فيها يجمع قلامة أظفاره ويتحسر على ما خسره من الماء فيما أذرفه من الدموع. ومسرحية منمكي Menaechmi هي القصة القديمة قصة التوأمين اللذين يختلط أمرهما على الناس ثم يتبينونهما، ويرى لسنج Lessing أن مسرحية الأسير Captiv خير مسرحية مثلت في ملهى (35). وقد أعجب بها بلوتس أيضاً ويقول في مستهلها:(9/209)
ليست مبتذلة ولا هي كغيرها من المسرحيات.
وليس فيها سطور قذرة يستنكف الإنسان أن ينطق بها.
وليس فيها قواد كاذب ولا مومس خبيثة.
وهو قول حق، ولكن حبكة المسرحية معقدة غاية التعقيد، وتعتمد كل الاعتماد على المصادفات غير المتوقعة، وعلى الرؤى العجيبة التي لا يلام صاحب العقل الحريص على صدق التاريخ أن يمر بها دون أن يعيرها أية عناية. ولم يكن سر نجاح هذه المسرحيات القديمة بل كثرة ما فيها من الحادثات الفكهة المضحكة والنكات اللفظية المرحة التي لا تقل فحشاً عما في مسرحيات شكسبير، والصخب القذر البذيء، والنساء الطائشات وما يظهرنه في بعض الأحيان من عواطف طيبة. وقد كان في وسع النظارة في كل مسرحية أن يثقوا من وجود حادثة من حوادث الحب، وتغرير بفتاة، وبطل وسيم فاضل، وعبد أرجح عقلاً من كل من فيها من الشخصيات مجتمعة. وفي هذه المسرحيات نرى الأدب الروماني منذ بدايته تقريباً وثيق الارتباط بالرجل العادي، ويصل بما اقتبسه من المسرحيات اليونانية إلى حقائق الحياة، ويبلغ في هذا حداً لم يبلغه قط فيما بعد.
وفي السنة التي توفي فيها بلوتس على الأرجح (184 ق. م) ولد في قرطاجنة بيليوس ترنتيوس آفر Publius Terentius Afer من أصل فينيقي، ولربما كان من أصل إفريقي. ولسنا نعرف عنه شيئاً قبل أن يكون عبداً من عبيد ترنتيوس لوكانس Terentius Lucanus في رومه. فقد أدرك هذا الشيخ مواهب الشاب الحي فعلمه ووهبه حريته، وتسمى الشاب باسم سيده اعترافاً منه بفضله عليه. وفي وسعنا أن نعرف شيئاً من أخلاق الرومان الطيبة حين نسمع أن ترنس "الفقير الخلق الثياب" جاء إلى بيت كاسليوس استاتيوس Caecilius Statius - وكانت مسرحيات هذا المؤلف المضحكة هي المسيطرة في ذلك الوقت على المسرح(9/210)
الروماني- وقرأ عليه المشهد الأول من مسرحية أندريا. وأعجب كاسليوس بهذا المشهد إعجاباً حمله على أن يستبقي الشاعر إلى العشاء معه وأن استرعى أسماع إيمليوس Aemilijus وليليوس، وقد حاول كلاهما أن يصقل أسلوبه فيجعله هو الأسلوب اللاتيني الحبيب إلى قلبه. ومن ثم راجت الإشاعة القائلة بأن ليليوس هو الذي كان يكتب لترنس مسرحياته، وهي إشاعة رأى المؤلف كياسة منه وحصافة إلا يؤيدها أو ينكرها (38). واستمسك ترنس في أمانة وإخلاص بأصول المسرحيات اليونانية التي نقلها إلى اللاتينية وأطلق على هذه المسرحيات أسماء يونانية، وتحاشى أن يشير فيها إلى الحياة الرومانية، ولم يدع لنفسه أكثر من أنه مترجم لهذه الروايات- وهو تواضع منه وبخس لأعماله (39). ولعل الذي دفعه إلى هذا هو تأثره بالهلينية المتغلبة على سبيو وجماعته.
ولسنا نعرف ماذا كان مصير تلك المسرحية التي كان كاسليوس يحبها ويعجب بها أشد الإعجاب، ولكنا نعرف أن هيرا Hecyra مسرحية ترنس الثانية قد أخفقت لأن النظارة غادروا الملهى في أثناء التمثيل ليشهدوا صراعاً للدببة. ثم بسم له الحظ في عام 162 حين كتب أشهر مسرحياته كلها وهي مسرحية "المعذب نفسه" Heauton Timoroumenos وهي تروي قصة أب منع ابنه أن يتزوج الفتاة التي اختارها لنفسه، ولكن الابن تزوجها رغم هذا، فما كان من الأب إلا أن تبرأ منه ونفاه من البلاد، ثم أنبه ضميره وندم على فعلته وعاقب نفسه على ما فعل بامتناعه عن أن يمس ثروته وبأن يعيش عيشة الكدح والفقر، ثم عرض عليه جار له أن يتدخل في الأمر ليحل مشكلته، فيسأله الأب عما يدعوه إلى الاهتمام بغيره والإشفاق عليهم، فيرد عليه الجار بهذه العبارة المعروفة في جميع أنحاء العالم والتي صفق لها النظارة طرباً وإعجاباً وهي: Hums sum humani nihil a me alienum puto " إني إنسان؛ ولا أرى أن شيئاً مما(9/211)
يتصل بالإنسان غريب عليَّ". ومثلت في السنة التالية مسرحية "الخصي" وبلغ من إعجاب النظارة بها أن مثلت مرتين في يوم واحد (ولم يكن ذلك مألوفاً في تلك الأيام)، وربح منها ترنس ثمانية آلاف سسترس (نحو 1200 ريال أمريكي) في يوم وليلة (40). وظهرت بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت رواية "الفورميو" وقد سميت كذلك نسبة إلى الخادم الفكه الذي أنقذ سيده من غضب أبيه، والذي أصبح فيما بعد نموذجاً لشخصية فيجارو Figaro القوية في رواية بومارشيه Beaumarchais. وفي عام 160 ق. م مثلت آخر مسرحية لترنس وهي مسرحية أدلفى أو "الإخوة" في الألعاب التي أقيمت بمناسبة وفاة إيمليوس بولس. وبعد قليل من ذلك الوقت سافر الكاتب بطريق البحر إلى بلاد اليونان، ثم مرض وهو عائد منها، ومات في أركاديا في الخامسة والعشرين من عمره.
وانصرف الجمهور بعض الانصراف عن مسرحياته الأخيرة، لأن الصبغة الهلينية التي اصطبغت بها قد أعلت من قدره فوق ما يجب. فقد كان يعوزه مرح بلوتس وخفة روحه وفكاهته؛ هذا إلى أنه لم يعن في مسرحياته بمعالجة الحياة الرومانية، فلم يدخل في المضحك منها أنذالاً فاسدين أو مومسات طائشات، بل صور كل النساء في تلك المسرحيات في صور رقيقة، حتى العاهرات منهن كن يحمن على حافة الفضيلة. وقد احتوى تلك المسرحيات سطوراً تعد من جوامع الكلم، وعبارات جرت مجرى الأمثال، منها hinc illae lacrimae (" ومن ثم كانت تلك الدموع") ومنها fortes fortuna adiuvat (" الحظ يواتي الشجعان")، quot homines tot sententiee (" عدد الآراء كعدد الرجال") وعشرات من أمثالها. ولكن هذه الحكم لا يقدرها إلا أصحاب الذهنية الفلسفية أو الحساسية الأدبية، وهما ما لم يجدهما العبد الإفريقي في جمهرة الشعب الروماني. ومن أجل هذا النقص لم يعبأ ذلك الشعب بمساليه التي توشك أن تكون مآسي، وبحبكاته المتقنة البناء ولكنها تسير في بنائها على مهل،(9/212)
وبدراسته الدقيقة للشخصيات الغريبة، وبحواره الهادئ، وبأسلوبه المفرط في الهدوء، وفي نقاء لغته نقاء يكاد أن يكون إهانة للشعب الروماني؛ وكأن النظارة وهم يشاهدون هذه المسرحيات كانوا يشعرون بأن قد حدث بينهم وبين كتلس الروماني صدع لن يلتئم قط. وقد كان شيشرون- وهو القريب من كتلس قرباً لا يمكنه من أن يراه على حقيقته، والحصيف حصافة تحول بينه وبين الإعجاب بلكريشيوس- نقول كان شيشرون يظن أن ترنس أرق شعراء الجمهورية. وكان قيصر أعدل في حكمه عليه أثنى عليه بقوله إنه "المحب للكلام الطاهر"، ولكن آسف لأنه لم يوهب القدرة على الضحك vis comica ووصفه بأنه "نصف مناندر" Dimitiatus Menander. على أن ترنس قد أفلح في شيء واحد على الأقل؛ ذلك ان هذا الرجل السامي الأجنبي، الذي تشبع بروح ليليوس وبلاد اليونان، قد صاغ من اللغة اللاتينية أداة أدبية هي التي استطاع بها شيشرون في القرن التالي أن يكتب نثره وفرجيل أن ينشئ شعره.(9/213)
الفصل السادس
كاتو والمعارضون المحافظون
وامتلأت قلوب الرومان أصحاب النزعة المحافظة خوفاً كما امتلأت نفوسهم اشمئزازاً من هذا الغزو اليوناني لآداب الرومان، وفلسفتهم، ودينهم، وعلومهم، وآدابهم؛ ومن هذا الانقلاب العنيف في أخلاقهم، وعاداتهم، ودمائهم. وكان هؤلاء الرومان القدامى المحافظين شيخ متقاعد يدعى فاليريوس فلاكوس Valerius Flaccus يقيم في مزرعة سبينية، وأخذ هذا الشيخ يأسف لما أصاب الأخلاق الرومانية القديمة من ضعف وانحلال، وما أصاب السياسة من فساد، ومن حلول الأفكار والأساليب اليونانية محل "أساليب أجدادنا". وكان الرجل شيخاً طاعناً في السن لا تمكنه قواه من أن يكافح بنفسه هذا التيار الجارف، ولكن اتفق أن كان في مسكن بالقرب منه وفي جوار بلدته ريت Reate، وفي خارج حدودها، شاب مزارع من العامة اجتمعت له كل الصفات الرومانية القديمة، فكان يحب فلاحة الأرض ولا يمل العمل المجهد الشاق، وكان مقتصداً يعيش عيشة البساطة القديمة، ولكنه مع ذلك يتحدث حديث المتظرفين النابهين. وكان اسم هذا الرجل ماركس بورسيوس كاتو Marcus Porcius Cato وكان سبب تسميته بورسيوس أن أسرته ظلت أجيالاً عدة تربى الخنازير، أما سبب تسميته كاتو فإن أفراد هذه الأسرة كانوا على جانب عظيم من الدهاء. وأشار عليه فلاكوس أن يدرس القانون، فعمل كاتو بنصيحته وكسب ما رفعه جيرانه من القضايا في المحاكم المحلية. ثم نصحه فلاكوس أن يسافر إلى رومه، ففعل، وما زال يرقى في المناصب العامة حتى أصبح كوسترا يشرف على الشؤون المالية Quaestor ولما يبلغ الثلاثين من عمره (204). وفي عام 199 عين إيديلا مشرفاً(9/214)
على الأشغال العامة والملاعب والأسواق والشرطة. وما وافت سنة 198 حتى كان بريتوراً Praetor يلي القنصل في المرتبة، ثم صار قنصلاً في عام 195، ثم تربيوناً في عام 191، ثم رقيباً Censro في عام 184. وكان في هذه المدة قد خدم في الجيش ستة وعشرين عاماً، وكان فيها كلها جندياً شجاعاً، وقائداً محنكاً، قاسي القلب شديد البأس. وكان من رأيه أن النظام أساس الأخلاق والحرية، وكان يحتقر الجندي "الذي يستخدم يديه في المشي وقدميه في الحرب، والذي يعلو غطيطه في النوم على صراخه في الحرب". ولكنه كسب احترام جنده بسيره إلى جانبهم على قدميه، وبإعطاء كل منهم رطلاً من الفضة من غنائم الحرب، وعدم احتفاظه بشيء من هذه الغنائم لنفسه (41).
وكان في فترات السلم يندد بالخطابة والخطباء، وأصبح بهذا العمل أقوى خطباء زمانه. وكان الرومان يستمعون إليه وهم مأخوذون على الرغم منهم بسحر بيانه، لأن أحداً من قبله لم يتحدث إليهم بمثل ما تحدث به هو من الإخلاص الواضح والفكاهة اللاذعة. وكان في مقدوره أن يسلط سوط لسانه على أي إنسان يستمع إلى خطبه، ولكن من يستمعه كان يسره أن يرى هذا السوط يسلط على جاره. وظل كاتو يكافح الفساد والرشوة في رومه غير عابئ بما يصيبه في هذا الكفاح، ولم تغرب عليه شمس يوم من الأيام إلا وقد خلق له فيه عدواً جديداً. وقلما كان أحد يحبه لأنه كان يقلق بال الناس بوجهه الكثير الندب، وشعره الأحمر الأشعث، ويخيفهم ويهددهم بأسنانه الكبيرة، ويخجلهم بتقشفه، ويسبقهم بجده وكدحه، وتنفذ نظراته التي يلقيها عليهم من عينيه الخضراوين خلال ألفاظهم إلى مكنون صدورهم، فيطلع فيها على أنانيتهم. وحاول أعداؤه من الأشراف أن يقضوا عليه بما وجهوه إليه من التهم العلنية، ولكنه في كل مرة كان ينجيه من هذا الاتهام اعتراض الزراع الذين كانوا لا يقلون عنه بعضاً للفساد والترف (42). ولما أن رفعته أصوات العامة إلى منصب الرقيب وجفت قلوب(9/215)
الرومان أجمعين. وما أن تولى هذا المنصب حتى أخذ ينفذ النذر التي بها، والتي كسب بها المعركة الانتخابية، ففرض الضرائب الباهظة على الكماليات، وأوقع غرامة على أحد أعضاء مجلس الشيوخ لإسرافه، وأخرج من هذا المجلس ستة من أعضائه وجد في سجلاتهم أحكاماً قضائية. وطرد منه مانليوس لأنه قبل زوجته علناً، وقال عن نفسه إنه لم يعانق قط زوجته إلا في وقت قصف الرعد- وإن كان يسره أن يقصف الرعد. وأتم كاتو نظام المجاري في المدينة، وقطع الأنابيب التي تأخذ الماء خفية وخيانة من القنوات المبنية العامة، وأجبر الملاك على أن يهدموا ما كان يمتد من مبانيهم في عرض الطريق أو فوقه، وخفض ما كانت تؤديه الدولة ثمناً للأعمال العامة، وأرغم جباة الضرائب على أن يؤدوا لخزانة الدولة نصيباً أوفى مما كانوا يجنونه من الأهلين (48). وبعد أن قضي خمس سنين يجاهد جهاد الأبطال في أعمال تتعارض مع طبيعة الإنسان، اعتزل منصبه واستثمر ما كان له من المال استثماراً ناجحاً، وملأ ضيعته التي اتسعت رقعتها في ذلك الوقت بالعبيد، وأخذ يقرض المال بربا فاحش ويبتاع الرقيق بأبخس الأثمان، ثم يدربهم على بعض الأعمال التي تتطلب شيئاً من المهارة، ويبيعهم بأغلاها، وبذلك أثرى إثراء مكنه من أن يقطع لتأليف الكتب- وهي مهنة كان يزدريها.
وكان كاتو أول كاتب عظيم من كتاب النثر اللاتيني، وقد بدا كتاباته بنشر مجموعة خطبه، ثم أصدر كتاباً في فن الخطابة دعا فيه إلى التزام الأسلوب الخشن الروماني بدل أسلوب الخطباء الإيزوقراطي Isocratean (1) الرقيق، وعرف الخطيب بأنه "رجل صالح برع في الكلام vir bonus dicendi peritus ( وهما صفتان قل أن اجتمعتا في إنسان)، وبهذا التعريف أوجد مجالاً لجدل كونتليان quintilian
_________
(1) نسبة إلى إيزوقراطيس الخطيب والكاتب الأثيني البليغ (436 - 335 ق. م). المترجم(9/216)
ونقاشه. وكتب رسالة جمع فيها تجاربه في الزراعة وسماها De agricultura. وهي الكتاب الوحيد الذي وصل إلينا من كتب كاتو، وأقدم كتاب في اللغة اللاتينية الأدبية أبقى عليه الدهر. وقد كتب هذا الكتاب بأسلوب سهل رصين مركز تركيزاً يجعله من جوامع الكلم. فهو لا يسرف في الألفاظ، وقلما ينزل فيه إلى استخدام حرف من حروف الوصف، وفي هذا الكتاب يقدم النصائح المفصلة لمن يريد أن يشتري أو يبيع الرقيق (فيقول مثلاً: إن كبار السن منهم يجب أن يباعوا قبل أن يصيروا مصدر خسارة لسادتهم)، ولمن يؤجر الأرض بجزء من غلتها، ولزراع الكروم والأشجار، وتدبير شؤون المنازل والصناعات، وصنع الأسمنت وطهو أصناف الطعام النادرة الشهية، وعلاج الإمساك والإسهال، ومداواة لسع الأفاعي بروث الخنازير، وتقريب القربان للآلهة. ويسأل كاتو نفسه في هذا الكتاب عن أحكم الطرق للإفادة من الأرض الزراعية، ثم يجيب عن هذا السؤال بقوله إنها "تربية الماشية المربحة"، وتليها "تربية الماشية المتوسطة الربح"، وتليها "تربية الماشية العديمة الربح"، ويليها كلها "حرث الأرض وزرعها". وهذه هي الحجج التي أوجدت الضياع الواسعة في إيطاليا.
ولعل أهم كتبه كلها هو كتاب "الأصول" Origines الذي لم يعثر عليه حتى الآن، وهو محاولة جزئية للبحث في آثار إيطاليا، وشعوبها، ونظمها، وتاريخها منذ نشأتها إلى السنة التي مات فيها كاتو، ولا نكاد نعرف من هذا الكتاب أكثر من أن مؤلفه أراد أن يغيظ الأشراف بالسخرية من أسلافهم فلم يذكر فيه اسم أحد من قواد الحرب، ثم ذكر فيلا باسمه، وأثنى عليه لأنه قاتل بيرس Pyrrhus قتال الأبطال (45). وكان الغرض الذي يهدف إليه كاتو من تأليف هذا الكتاب ومن مقالاته عن الخطابة، والزراعة والصحة العامة، والعلوم العسكرية،(9/217)
والقانون، أن يؤلف دائرة معارف يستعين بها على تربية ولده. وكان يرجو من الكتابة اللاتينية أن تحل الكتب المكتوبة بهذه اللغة محل الكتب المدرسية اليونانية التي كان يرى أنها تربك عقول شباب الرومان وتفسدها. ويلوح أنه، وإن كان هو نفسه قد درس اليونانية ستعجل بالقضاء على العقائد الدينية لدى شباب الرومان، فلا يكون في حياتهم الخلقية ما يحميها من الشراهة والخصام والغرائز الجنسية، وكان يسخط على سقراط كما يسخط عليه نتشه، ويصفه بأنه أشبه بالقابلة العجوز الثرثار، ويقول إن قتله مسموماً كان جزاء حقاً على إفساده أخلاق أثينا وشرائعها (46). وحتى الأطباء اليونان أنفسهم كانوا من أبغض الناس إليه، وكان يفضل على طبهم العلاج المنزلي القديم، ولا يثق بالجراحين الذين يعجلون باستعمال المبضع في أكثر الحالات. وقد كتب إلى ولده يقول:
"اليونان جنس مجرم عنيد، وأؤكد أن هذا الشعب إذا ما غمر أدبه رومه سيقضي على كل شيء فيها ... وسيكون هذا القضاء عاجلاً إذا ما بعث إليه بأطبائه؛ لقد أجمعوا أمرهم بينهم على أن يقتلوا كل "البرابرة" ... حذار أن تكون لك صلة بالأطباء (47) ".
وكان وهو الذي يعتنق هذه الآراء العدو الطبيعي الأكبر للندوة السبيونتية، وهي التي كانت ترى أن انتشار الآداب اليونانية في رومه عاملاً لابد منه لرفع الآداب اللاتينية والعقلية الرومانية إلى كمال نموهما؛ وكان كاتو ممن أشاروا بمحاكمة سبيو الإفريقي وأخيه، وقال إن القوانين التي تحرم الرشوة والفساد يجب ألا يفرق فيها بين الأشخاص. أما الدول الأجنبية فكان ينادي بأن تعامل جميعها، إلا واحدة منها، بالعدل، وألا تتدخل رومه في شؤونها، وكان يحتقر اليونان وإن كان يعظم بلادهم ويجلها. ولما أن قام دعاة الاستعمار النهابون من أعضاء مجلس الشيوخ يدعون إلى محاربة الغنية ألقى عليهم خطبة قوية يدعو فيها إلى(9/218)
السلام والى مصالحة أهل تلك الجزيرة. أما الدولة التي كان يدعو إلى استثنائها من المعاملة العادلة، ومن عدم التدخل في شؤونها فهي- كما يعلم العالم كله- قرطاجنة. ولما أُرسل إليها في بعثة رسمية عام 175 هاله ما رأى من انتعاش المدينة واستعادتها حياتها بعد الذي أصابها في حروب هنيبال، وما وقعت عليه عيناه من بساتين الفاكهة والكروم، وما يتدفق فيها من الثروة الناتجة من انتعاش تجاربها، وما كانت تخرجه دور الصناعة فيها من أسلحة. فلما عاد امسك أمام المجلس بكمية من التين الطازج قطفها من أشجار قرطاجنة منذ ثلاثة أيام ليتخذها رمزاً لرخاء المدينة وقربها من رومه، وهما القرب والرخاء اللذان كانا نذيري شؤم لرومه؛ وتنبأ بأنه إذا كانت قرطاجنة وشأنها فإنها لا تلبث أن يكون لها من الثراء ومن القوة ما يحفزها إلى العودة إلى كفاحها للسيطرة على البحر الأبيض المتوسط. وظل من ذلك اليوم يحتم كل خطاب له في مجلس الشيوخ أياً كان موضوعه بتلك العبارة التي تنم عن عقيدته وعناده، ويصر عليها إصراراً عجيباً: "هذا إلى أني أعتقد أن قرطاجنة يجب أن تدمر" Ceterum censes delendum esse Carthaginem. وكان دعاة الاستعمار في مجلس الشيوخ متفقين معه في رأيه، ولم يكن ذلك لأنهم يطمعون في تجارة قرطاجنة، بل لأنهم كانوا يرون في حقول شمال إفريقية، وهي الحقول الخصبة التربة الجيدة الإرواء، مجالاً جديداً يستثمرون فيه أموالهم ويفلحونه على أيدي الرقيق. وكانوا والحالة هذه ينتظرون على أحر من الجمر حجة يتذعرون بها لخوض غمار الحرب البونية الثالثة.(9/219)
الفصل السابع
يجب أن تمحى قرطاجنة من الوجود
وجاءتهم هذه الحجة من أعجب حكام ذلك الوقت- مسينسا Masinissa ملك نوميديا Numidia- وهو ملك عمر تسعين عاماً (238 - 148) ورزق ولداً وهو في السادسة والثمانين من عمره (48)، ووضع لنفسه نظاماً صارماً لحياته استمسك به كل الاستمساك، واستبقى به صحته وقوته إلى آخر أيامه تقريباً. وقد أفلح هذا الملك في تنظيم رعاياه البدو، وبدلهم من حياة الترحال حياة الاستقرار الزراعية، وأنشأ منهم دولة منظمة ظل يحكمها حكماً صالحاً مدى ستين عاماً، وجمل مدينة سرتا Cirta حاضرة البلاد بما أنشأه فيها من المباني الفخمة. ودفن بعد وفاته في قبره وهو الهرم العظيم الذي لا يزال باقياً إلى اليوم قرب مدينة قسطنطينية في بلاد تونس. واستطاع هذا الملك أن يكسب صداقة رومه، وكان يدرك ما عليه قرطاجنة من ضعف سياسي، فأخذ يغير المرة بعد المرة على أراضيها، وينقصها من أطرافها، فاستولى على لبتس Leptis العظيمة وغيرها من المدن، وما زال على هذه الخطة حتى سيطر بها على جميع المسالك البرية المؤدية إلى العاصمة المنهوكة القوى. وإذ كانت المعاهدة المعقودة بين رومه وقرطاجنة تحرم على ثانيتهما الاشتباك في حرب إلا برضاء أولاهما فقد أرسلت قرطاجنة سفراء من عندها إلى مجلس الشيوخ في رومه ليحتجوا على عدوان مسينسا. فما كان من هذا المجلس إلا أن نبه هؤلاء السفراء إلى أن الفينيقيين على بكرة أبيهم دخلاء في إفريقية، وأنهم ليس لهم فيها حقوق تضطر أية أمة مسلحة أن تحترمها. فلما أدت قرطاجنة إلى رومه آخر الأقساط السنوية الخمسين من الغرامة المفروضة عليها بمقتضى معاهدة زاما وهي 200 تالنت ظنت أنها بهذا الأداء قد تحررت من التزاماتها، وأعلنت الحرب على(9/220)
نوميديا في عام 151، وفي السنة الثانية أعلنت رومه الحرب على قرطاجنة.
ووصل هذا النبأ الأخير إلى مسامع القرطاجنيين، ووصل معه أن الأسطول الروماني قد أقلع إلى إفريقية. ولم تكن المدينة القديمة مستعدة لخوض غمار حرب عوان مهما يكن من كثرة سكانها وضخامة تجارتها. ذلك أن جيشها كان صغيراً وأن أسطولها كان أصغر من جيشها، ولم يكن لها جنود مرتزقة ولا حلفاء. يضاف إلى هذا أن رومه كانت تسيطر على البحار، ومن أجل هذا أعلنت أتكا انضمامها إلى رومه، وحال مسينسا بين قرطاجنة وبين الاتصال بالأرض التي خلفها في القارة الإفريقية، وأرسلت قرطاجنة بعثة عاجلة إلى رومه وأمرتها أن تجيبها إلى جميع مطالبها فوعدها مجلس الشيوخ الروماني بأنه إذا أسلمت قرطاجنة إلى القنصلين الرومانيين في صقلية ثلاثمائة من أبناء أشرف الأسر فيها ليكونوا رهائن لديهما، وأجابت القنصلين إلى جميع مطالبهما أياً كانت هذه المطالب، احتفظت في نظير ذلك بحريتها وسلامة أرضها. وأرسل مجلس الشيوخ أوامر سرية إلى القنصلين لينفذا ما صدر إليهما قبل من الأوامر. وأسلم القرطاجنيون أطفالهم بقلوب واجفة وعيون باكية، واحتشد آباؤهم عند شاطئ البحر يودعونهم، وهم في أشد الألم والحسرة، وحاولت أمهاتهم في آخر لحظة أن يمنعن السفن من المسير، وألقت بعضهن أنفسهن في الماء، وأخذن يسبحن فيه ليلقين آخر نظرة على أطفالهن. وأرسل القنصلان الأطفال إلى رومه، وعبرا البحر إلى يتكا Utica على رأس الجيش والأسطول، واستدعيا سفراء قرطاجنة، وطلبا أن تسلم بلدهما كل ما بقي لها من السفن، وكمية كبيرة من الحبوب، وجميع الأسلحة والمعدات الحربية. فلما أجيبت هذه المطالب كلها، طلب القنصلان بعدئذ أن يخرج جميع سكان قرطاجنة منها، وأن يقيموا على بعد عشرة أميال من المدينة، لأنهما سيأمران بإحراقها عن آخرها. وحاول السفراء عبثاً أن يقنعوا الرومان بأن تدمير مدينة أسلمت إلى أعدائها رهائن من أهلها وجميع أسلحتها ومن غير قتال غدر وخيانة(9/221)
لا نظير لهما في التاريخ كله. وعرضوا أن يقدموا حياتهم فداء لمدينتهم، وتكفيراً عما عساها أن تكون قد اقترفته من الذنوب، وخروا على الأرض سجداً وأخذوا يضربونها برؤوسهم. فأجابهم القنصلان بقولهم إن هذه هي شروط مجلس الشيوخ وإنهما لا يستطيعان أن يغيرا منها شيئاً.
ولما سمع أهل قرطاجنة بما هو مفروض عليهم جن جنونهم، وطاشت أحلامهم، فأخذ آباء الأطفال الذين أسلموا رهائن إلى رومه يقطعون أجسام القواد الذين أشاروا بتسليمهم، وقتل آخرون القواد الذين أشاروا بتسليم السلاح، وأخذ غيرهم السفراء العائدين في شوارع المدينة ويرجمونهم بالحجارة، ومنهم من قتلوا كل من وجدوهم في المدينة من الإيطاليين، ومنهم من وقفوا في دور الصناعة الخالية من السلاح يبكون وينتحبون. وأعلن مجلس شيوخ قرطاجنة الحرب على رومه، وأهاب بكل من فيها من البالغين رجالاً ونساء، أرقاء وأحراراً، أن يجيّشوا جيشاً جديداً، وأن يصنعوا أسلحة يدافعون بها عن المدينة. وثبت الغضب قلوبهم، وقوى عزائمهم، وأخذوا يهدمون المباني العامة لينتفعوا بما فيها من خشب وحديد، وصهرت تماثيل الآلهة الأعزاء لتصنع منها السيوف، وجزت شعور النساء لتصنع منها الحبال، ولم يمض على المدينة المحصورة إلا شهران حتى أخرجت 8000 درع، 8000 سيف، 70. 000 حربة، وستين ألف قذيفة منجنيقية، وبنت في مينائها الداخلي عمارة بحرية مؤلفة من 120 سفينة (49).
وقاومت المدينة الحصار براً وبحراً ثلاث سنين، كان القنصلان في خلالهما يهاجمان أسوارها بجيوشهما، وكانا في كل مرة يرتدان عنها خائبين. ولما كان سبيو إيمليانس وحده- وهو أحد التربيونين العسكريين- هو الذي أظهر في هذا الحصار براعة ودهاء، فقد عينه مجلس الشيوخ الروماني والجمعية قنصلاً وقائداً في عام 147، ولم يعارض في هذا التعيين أحد حتى كاتو نفسه. ولم يمض على ذلك إلا قليل حتى نجح ليليوس في تسلق أسوار المدينة. ودافع القرطاجنيون(9/222)
عنها شارعاً شارعاً، وإن كان الجوع قد أضناهم وأهلك الكثيرين منهم، ولكنهم واصلوا دفاعهم ستة أسابيع كاملة، وأعداؤهم يحصدونهم حصداً بلا شفقة ولا رحمة. ولما رأى سبيو أن قناصة الأعداء يصيدون رجاله وهم كامنون وراء الجدران، أمر أن تشعل النيران في كل الشوارع التي يستولون عليها، وأن تدك مبانيها دكاً، فاحترق في اللهب كثير من الجنود المختبئين في الدور. ووجد القرطاجنيون آخر الأمر أن لابد لهم من التسليم بعد أن نقص عددهم من خمسمائة ألف إلى خمسة وخمسين ألفاً. وطلب قائدهم هزدروبال أن يؤمن على حياته فأجابه سبيو إلى ما طلب، ولكن زوجته بجبنه وألقت بنفسها وبأولادها في اللهب. وبيع من بقي من الأهالي حياً في سوق الرقيق، وأسلمت المدينة إلى الجيوش الرومانية ينهبونها ويعيشون فيها فسداً. وأحجم سبيو عن تدميرها، وأرسل إلى مجلس الشيوخ يسأله رأيه الأخير، فرد عليه المجلس بأن قرطاجنة نفسها وكل ما انضم إليها في الحرب من البلاد التابعة لها يجب أن تدمر عن آخرها، وأن تحرث أرضها وتغطى بالملح، وأن تصب اللعنات على كل من يحاول بناء شيء قي موضعها، وظلت النار مشتعلة في المدينة سبعة عشر يوماً كاملة.
ولم يعقد صلح أو وقع معاهدة، لأن الدولة القرطاجنية لم يبق لها وجود، وتركت يتكا Utica وغيرها من مدن إفريقية التي ساعدت رومه حرة تحت حمايتها؛ وأما ما بقي من أملاك قرطاجنة فقد جعل ولاية خاضعة لرومه وسمي ولاية "إفريقية Africa". وجاء الممولون الرومان وقسموا الأرض ضياعاً، وورث التجار الرومان التجارة القرطاجنية، وأضحى الاستعمار العامل المحرك الدافع للسياسة الرومانية، والغرض السافر الصريح الذي تعمل له عن قصد وتدبير، وضمت سرقوسة إلى ولاية صقلية الرومانية، وأخضعت بلاد غالة الجنوبية لتكون هي الطريق البري لأسبانيا بعد أن خضعت كلها لرومه، ولم تجد رومه(9/223)
صعوبة في إقناع مملكتي مصر وسوريا المصطبغتين بالصبغة الهلينية بالخضوع إلى رغبات رومه- كما اضطر بوبليوس Popilius أنتيوخوس Antiochus الرابع- إلى الخضوع لها بلا قتال. وإذا نظرنا إلى تدمير قرطاجنة وكورنثه في عام 146 من الناحية الأخلاقية- وهي نظرة لها شأنها على الدوام في السياسة الدولية- حكمنا دون تردد بأن هذا العمل من أفظع الفتوح وأشدها وحشية في التاريخ كله. أما من ناحية الاستعمار وبناء الإمبراطوريات- أي من ناحية السلامة والثراء- فقد كان هذا الفتح حجر الزاوية في سيادة رومه التجارية والبحرية، فقد أضحت منذ تلك اللحظة هي المسيطرة على البحر الأبيض المتوسط، والمتصرفة في مصائره، وارتبط تاريخه بتاريخها أوثق ارتباط.
ومات في أثناء هذه الحرب من أشعلوا نارها تحوطهم هالة من النصر والفخار. فمات كاتو في عام 149، ومسينسا في عام 148، وترك الرقيب الطاعن في السن (1) أثراً عميقاً في التاريخ الروماني. وظل الناس قروناً كثيرة يرون فيه الروماني النموذجي في عصر الجمهورية، واتخذه شيشرون في كتابه De Senectute المثل الأعلى للرجال، وحاول حفيد حفيده أن يأخذ نفسه بفلسفته خالية من فكاهته، كما حاول ماركس أن يتخذه نموذجاً له ينسج على منواله، وكان فرنتو Fronto يهيب بالأدباء اللاتين أن يعودوا إلى أسلوبه البسيط الخالي من الالتواء والتعقيد. ولكنه مع ذلك لم يفلح إلا في أمر واحد وهو تدمير قرطاجنة، أما مقاومته للهلينية ومحاولته أن يمنعها من السيطرة على الحياة الرومانية فقد أخفق فيهما كل الإخفاق، واستسلمت كل نواحي الحياة الرومانية من أدب، وفلسفة، وخطابة، وعلم، ودفن، ودين، وأخلاق، وعادات، وملابس، استسلمت هذه كلها لتأثير اليونان. لقد كان كاتو يكره الفلاسفة اليونان، ولكن حفيده الشهير كان يحيط نفسه بهم، وظلت العقيدة الدينية التي فقدها هو تضمحل رغم ما بذل من الجهود
_________
(1) يريد كاتو.(9/224)
لإحيائها وأهم من هذا كله أن الفساد السياسي الذي قاومه في شبابه أخذ ينتشر ويعظم كلما زادت مخاطر المناصب الحكومية باتساع رقعة الإمبراطورية. وكان كل فتح حربي جديد يزيد في ثراء رومه كما يزيد في فسادها ووحشيتها، وكانت قد كسبت كل حرب خاضت غمارها عدا حرب الطبقات، وأزال تدمير قرطاجنة آخر عائق قائم في سبيل الانقسام والفتن في المدينة، وجوزيت رومه على تملكها العالم بثروات طاحنة وفتن صماء دامت قرناً من الزمان.(9/225)
الكتاب الثاني
الثورة
145 - 30 ق. م(9/226)
الباب السادس
الثورة الزراعية
145 - 78 ق. م
الفصل الأول
العوامل التي هيأت البلاد للثورة
كان للثورة أسباب كثيرة، وكانت لها نتائج يخطئها الحصر، وكانت الشخصيات التي أطاحت بها الأزمة من ابتداء ابني جراكس إلى أغسطس من أقوى الشخصيات في التاريخ، ولم تنشب قط قبل الحرب أو بعدها إلى أيامنا هذه حرب كان لأهدافها من الخطر مثل ما كان لتلك الحرب، ولم تمثل على المسرح العالمي في يوم من الأيام مأساة ما تمثيلاً أقوى مما مثلت به مأساة تلك الأيام. وكان أول أسباب هذه الثورة تدفق الحبوب الناتجة من عمل الرقيق في صقلية وسردانية وأسبانيا وإفريقيا، وما أحدثه تدفقها من خراب حل بالزراع الإيطاليين، إذ خفض ثمن الحبوب التي تنتجها أراضيهم إلى أقل من تكاليف إنتاجها. وكان سببها الثاني تدفق الرقيق الذين حلوا محل الزراع في الريف والعمال الأحرار في المدن؛ وكان ثالث هذه الأسباب زيادة عدد الضياع الواسعة. وكانت الدولة قد أصدرت في عام 220 قانوناً يحرم على أعضاء مجلس الشيوخ أن يتعاقدوا على الأعمال العامة أو يستثمروا أموالهم في التجارة، فلما أن زاد ثراؤهم من غنائم الحرب اشتروا بهذه الأموال مساحات واسعة من الأراضي الزراعية. وكانت الأرض في البلاد المفتوحة تقسم في بعض الأحيان قطعاً صغيرة وتباع للرومان(9/232)
المستعمرين، وقلت بذلك حدة الفتن والنزاع القائمين في المدن؛ وأعطى جزء كبير من هذه الأراضي للمولين وفاء ببعض ما أقرضوه للدولة من أموال في أثناء الحروب، أما الجزء الأكبر منها فقد ابتاعه أعضاء مجلس الشيوخ نفسه. وكان من أثر انتشار هذه الضياع الواسعة أن اضطر المالك الصغير إلى اقتراض المال بأرباح فاحشة يستحيل عليه الوفاء بها، فلم يلبث أن وقع في هاوية الفقر أو الإفلاس أو فقد أرضه ونزح إلى المدن ليسكن في أحيائها القذرة الحقيرة الوبيئة. وآخر ما نذكره من أسباب الثورة ما طرأ على حال الفلاح نفسه من تغير كبير. لقد جند هذا الفلاح في الجيش وهيأت له انتصاراته سبيل انتهاب الثروة من العالم، وأصبح يكره العمل الانفرادي الرتيب الخالي من المغامرات في الحقول ولا يستطيع الصبر عليه، وكان أحب إليه من هذا العمل أن ينضم إلى صعاليك المدينة المشاغبين، ويرقب الألعاب المثيرة في المجتلدات بلا أجر، ويأخذ الحبوب من الحكومة بأرخص الأثمان، ويبيع صوته في الانتخابات لمن يبتاعه بأغلى الأثمان أو لمن يمنيه بأعظم الأماني، ويختفي في غمار الجماهير المعدمة الخاملة الوضيعة.
وأصبح المجتمع الروماني يزداد شيئاً فشيئاً على الانتهاب من الخارج والاسترقاق في الداخل، بعد أن كان في أول الأمر مؤلفاً من زراع أحرار. فأما في المدن فكانت كل الخدمات المنزلية، وكان كثير من الصنائع اليدوية، ومعظم الأعمال التجارية، وكثير من الأعمال المصرفية، وكل أعمال المصانع والأشغال العامة، كانت هذه الأعمال كلها يقوم بها الأرقاء، وقد أدى ذلك إلى انخفاض أجور العمال الأحرار انخفاضاً يكاد يجعل الكدح والبطالة في الكسب سواء. وكان الأرقاء في الضياع الواسعة يفضَّلون على العمال الأحرار لأنهم لم يكونوا يلزمون بالخدمة العسكرية، ولأن عددهم كان يمكن الاحتفاظ به جيلاً بعد جيل نتيجة المتعة الوحيدة التي كان يسمح لهم بها أو نتيجة الرذيلة التي كان ينهمك فيها(9/233)
سادتهم%=@يقصد بهذه العبارة تناسل الأرقاء فيما بينهم أو بين النساء وأسيادهن. @. وكانت الغارات لا تنقطع على بلاد البحر الأبيض المتوسط كلها للمجيء بالأداة الحية اللازمة التي تصنعت. وكان يضاف إلى أسرى الحرب الذين يساقون إلى رومه بعد كل معركة تنتصر فيها جيوشها ضحايا القراصنة الذين كانوا يقبضون على العبيد أو الأحرار على سواحل آسيا أو بالقرب منها، وضحايا الموظفين الرومان الذين كانوا يقتنصون الناس اقتناصاً منظماً ويستعيدون من أهل الولايات كل من لا يجرؤ حكامها المحليون على حمايته (1). ولم يكن يمضي أسبوع لا يأتي فيه النخاسون بفرائسهم البشرية من إفريقيا، وأسبانيا، وغالة، وألمانيا، والبلاد الواقعة على ضفتي نهر الطونة، والروسيا، وآسيا، واليونان- من هذه الأقاليم كلها إلى ثغور البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود. ولم يكن من الحوادث غير المألوفة أن يباع في ديلوس مائة ألف من الأرقاء في يوم واحد. وقد قبضت الجيوش الرومانية في عام 177 على أربعين ألفاً من أهل سرادنية، وفي عام 167 على مائة وخمسين ألفاً من أهل أبيروس، بيعوا في أسواق النخاسة. وكان ثمن الواحد منهم في الحالة الثانية لا يزيد على ما يعادل ريالاً أمريكياً (2). وكان مما خفف من شقاء الأرقاء في المدينة ما كان يبرم من العقود الإنسانية بينهم وبين سادتهم، وما كانوا يطعمون فيه من نيلهم حريتهم؛ أما في الضياع فلم يكن يسمح للصلات الإنسانية بأن تتدخل في أعمال الاستغلال؛ فلم يعد العبد في تلك الضياع عضواً في الأسرة كما كان في بلاد اليونان أو في رومه نفسها في عهدها الأول؛ وقلما كان العبد يرى مالكه، وكان يطلب إلى الحراس أن يعتصروا من هذه الآلات البشرية الموكولة إلى أسواطهم كل ما يستطيعون اعتصاره منها، وبقدر هذا الإعصار يكون أجر هؤلاء الحراس. أما أجر العبد نفسه في الضياع الواسعة فلم يكن يزيد على ذلك القدر من الطعام والكساء الذي يمكنه من أن(9/234)
يكدح كدحاً متواصلاً في كل يوم من شروق الشمس إلى غروبها- عدا بعض أيام الأعياد- حتى تدركه الشيخوخة. فإذا شكا أو عصى أمر حارسه ألزم أن يعمل ورجلاه مكبلتان بالأغلال، وأن يقضي الليل في جب تحت الأرض ergastulum لا تكاد تخلو منه كل ضيعة واسعة. لقد كان في هذا النظام من التلف والخسارة الاقتصادية بقدر ما فيه من الوحشية، لأنه لم يكن يعول إلا نحو جزء من عشرين جزءاً من الأسر التي كانت تعيش من قبل على هذه الأراضي نفسها معيشة الأحرار من الناس.
وإذا ذكرنا أن نصف هؤلاء الأرقاء، إن لم يكن أكثر من نصفهم، كانوا من قبل أحراراً (لأن الأرقاء قلما كانوا يشتركون في الحروب)، كان في مقدورنا أن نتصور ما يشعر به هؤلاء البائسون المحطمون من مرارة؛ ولا يسعنا إلا أن نعجب من ندرة ما كانوا يلجئون إليه من الثورات. وقد حدث في عام 196. أن ثار أرقاء الريف في إتروريا وعمالها الأحرار، ولكن الجيوش الرومانية أرهبتهم "وقتلت الكثيرين منهم أو أسرتهم، ومنهم من جلدوا أو صلبوا عقاباً لهم على فعلتهم" كما يقول ليفي (3). وحدثت مثل هذه الثورة عام 185 في أبوليا؛ فقبض على سبعة آلاف من العبيد وحكم عليهم أن يعملوا في المناجم (4). وكان أربعة آلاف من الأرقاء الأسبان يعملون في مناجم قرطاجنة الجديدة وحدها. وفي عام 139 شبت نار "حرب الأرقاء الأولى" في صقلية، فقد لبى دعوة إينوس Eunus أربعمائة من الأرقاء وذبحوا الأحرار من أهل مدينة أنا Enna، ثم أقبلت أفواج العبيد من الضياع ومن الأجباب الخاصة في صقلية، فضاعفوا عدد الثوار حتى بلغ سبعين ألفاً. وما لبثوا أن احتلوا أجرجتثم Agrigentum، وهزموا الجيوش الرومانية التي كانت في الولاية، واستولوا على الجزيرة كلها تقريباً،(9/235)
واحتفظوا بها حتى عام 131. وفي تلك السنة حاصرهم جيش القنطل في إنا ومنع عنهم الزاد حتى اضطرهم الجوع إلى الاستسلام. وسيق إينوس إلى رومه، وألقى في جب تحت الأرض، وبقي فيه حتى قضى عليه الجوع والقمل (5). وقامت ثورات أقل من هذه شأناً انتهت بإعدام مائة وخمسين من الأرقاء في رومه، وأربعمائة وخمسين في نمنتوريا Menturnae وأربعة آلاف في سينوسا Sinuessa. وفي تلك السنة استصدر تيبيرسيوس جراكس Tiberius Gracchus القانون الزراعي الذي فتح باب الثورة الرومانية على مصراعيه.(9/236)
الفصل الثاني
تيبيريوس جراكس
هو ابن تيبيريوس جراكس Tiberius Sempronius Graccus الذي تدين له أسبانيا بالشكر لأنه حكمها حكماً عادلاً كريماً، والذي عين قنصلاً مرتين ورقيباً مرة، والذي أنقذ من الهلاك أخا سيبو الإفريقي وتزوج ابنته، وأنجبت كرنليا اثنى عشر طفلاً توفوا كلهم إلا ثلاثة منهم قبيل البلوغ، وتحملت هي بعد وفاته عبء تربية تيبيريوس وأخت لهما- تدعى أيضاً كرنليا- صارت فيما بعد زوجة سبيو إيمليانوس؛ وكان للزوج والزوجة نصيب من الثقافة الهيلينية، وكان ممن يعطفون على الدائرة الثقافية السبيونية. وكان لكرنليا ندوة أدبية، وكتبت رسائل بأسلوب سليم رشيق جعلها من خير ما كتب في الآداب اللاتينية، ويقول أفلوطرخس إن ملكاً من ملوك مصر عرض عليها بعد أن ترملت أن تتزوجه، وأن ينزل لها عن عرشه؛ فأبت وآثرت أن تبقى ابنة لسبيو، وحماة لسبيو آخر وأماً لجراكس.
ونشأ تيبيريوس وكيوس جراكس في جو مشبع بطرائق الحكم والفلسفة عرفاً فيه مشاكل الحكومة الرومانية ونظريات الفلسفة اليونانية. وقد تأثرا بآراء بلوسيوس Blossius وهو فيلسوف يوناني من كومي Cumae بعت فيهما نزعة حرة قوية استخفت بقوة المحافظين في رومه. ويكاد الأخوان أن يكونا متماثلين في طموحهما، وكبريائهما، وإخلاصهما، وفصاحتهما التي لا يكاد يصدقها العقل، وشجاعتهما التي لا تشوبها قط شائبة. ويحدثنا كيوس أن تيبيريوس شاهد مآساة الزراع، وتأثر بها أشد التأثر حين كان مسافراً في إتروريا "فرأى قلة السكان ولاحظ أن الذين كانوا يحرثون(9/237)
الأرض ويرعون قطعان الضأن هم العبيد الأجانب" (6)، وإذ كان تيبيريوس يعرف وقتئذ أن الملاك وحدهم هم الذين يجندون للخدمة في الجيش فقد سأل نفسه كيف تستطيع رومه أن تحتفظ بزعامتها أو استقلالها إذا حل زراعها الأقوياء الذين كانوا يؤلفون الكثرة الغالبة في الفيالق الرومانية عبيد غرباء لا تربطهم بها صلة ما؟ وكيف تكون الحياة الرومانية حياة طيبة، والديمقراطية الرومانية ديمقراطية صالحة، إذا غصت بصعاليك المدن المعدمين بدل الزراع الأباة الأعزاء الذين يمتلكون الأرض ويفلحونها بأنفسهم؟ وخيل إليه أن توزيع الأرض على المواطنين الفقراء هو الحل الصحيح البين الذي لابد من الالتجاء إليه لحل المشاكل الثلاث القائمة وقتئذ في البلاد: الاسترقال في الريف، والازدحام والفساد الخلقي في المدن، وضعف الروح الحربية بين المواطنين.
وما كاد تيبيريوس جراكس يختار تربيوناً في مستهل عام 133 حتى أعلن أنه يعتزم أن يعرض على الجمعية القبلية ثلاثة اقتراحات (1) ألا يسمح لأي مواطن بأن يمتلك أكثر من 323 فداناً- أو 667 فداناً إذا كان له اثنان من الأبناء- من الأراضي المشتراة أو المستأجرة من الدولة. (2) وأن يُرد إلى الدولة كل ما عدا هذا القدر من الأرض العامة التي باعتها أو أجرتها للأفراد، على أن ترد الدولة لهم أثمانها أو الإيجار الذي أدوه مضافاً إلى قدر من المال نظير ما أنفقوه في إصلاحها. (3) وأن تقسم هذه الأراضي التي ترد إلى الدولة إقطاعيات مساحة كل منها عشرون فداناً توزع على المواطنين الفقراء على شرط أن يتعهدوا بالا يبيع أحد منهم نصيبه من هذه الأراضي؛ وأن يؤدوا عنها ضريبة سنوية إلى خزانة الدولة. ولم يكن هذا الإصلاح الزراعي خيالاً متعذر التنفيذ، بل كانت مجرد محاولة لتنفيذ قوانين ليسنيوس كلفس Licinius Calvus الصادرة في عام 367 ق. م، والتي ألغيت ولم تنفذ قط. وقد قال تيبيريوس للعامة الفقراء في إحدى خطبه الشهيرة التي تعد من أعظم الخطب في التاريخ الروماني كله:(9/238)
"إن لحيوانات الأرض جحورها ولطير الهواء أوكارها ومخابئها، أما الرجال الذين يحاربون ويموتون من أجل إيطاليا فلا يستمتعون فيها إلا بالضوء والهواء. إن قواد الجيش ينادون جنودهم أن يقاتلوا دفاعاً عن قبور آبائهم وأضرحتهم، ولكن نداءهم هذا نداء سخيف باطل، إذ ليس في وسعك أن تدلهم على مذبح لآبائهم يقربون فيه لآلهتم، وليس للفقراء مقابر لأسلافهم. إنكم أيها الفقراء تقاتلون وتموتون لينعم غيركم بالثروة والترف، ويقال لكم: إنكم سادة العالم، ولكنكم لا تجدون في هذا العالم موضعاً لقدم، في وسعكم أن تقولوا إنه ملك لكم" (7).
وأعلن مجلس الشيوخ أن هذه الاقتراحات ليست في واقع الأمر إلا مصادرة لأموال الناس، واتهم تيبيريوس بأنه يعمل ليكون طاغية حاكماً بأمره، وأقنع إكتافيوس وهو تريبون آخر أن يستخدم ما له من حق الاعتراض في منع عرض المشروع على الجمعية، فما كان من جراكس إلا أن تقدم باقتراح يقضي بأن كل تربيون يعمل ضد مصالح من يمثلهم يجب أن يسقط على الفور من عداد أعضاء الجمعية. ووافقت الجمعية على هذا الاقتراح وأَخرج حرَّاسُ تيبيريوس أكتافيوس قوة واقتداراً من قاعة الجمعية على الفور، ووافقت الجمعية بعدئذ على الاقتراحات الأصلية فأصبحت قانوناً واجب التنفيذ، ثم أوصلته محروساً إلى منزله لخوفها أن يغتاله مغتال في الطريق (8).
غير أن تحكمه غير المشروع في حق التربيون في الاعتراض، وهو الحق الذي جعلته الجمعية نفسها من أقدم الأزمان حقاً مطلقاً غير مقيد بقيد ما، قد وضع في يد معارضيه سلاحاً يشهرونه في وجهه ويقضون به على قانونه. فجهروا بعزمهم على أن يتهموه في نهاية العام الذي يتولى فيه منصبه بالخروج على دستور البلاد واستخدم العنف ضد أحد التربيونين. وأراد تيبيريوس أن يحمي نفسه بالسخرية من الدستور مرة أخرى، وذلك بترشيح نفسه(9/239)
لأن يعاد اختياره تربيوناً في عام 132. وإذ كان إيمليانس وليليوس وغيرهما من الشيوخ الذين عضدوا اقتراحه الأول قد تخلوا عنه الآن، فقد لجأ بكليته إلى العامة ووعدهم بأن ينقص إذا اختاروه مدة الخدمة العسكرية، ويلغى استئثار الشيوخ بأعمال المحلفين، وأن يجعل حلفاء رومه من الإيطاليين مواطنين رومانيين. ورفض مجلس الشيوخ في هذه الأثناء اعتماد الأموال التي طلبتها اللجنة الزراعية التي نيط بها تنفيذ قوانين تيبيريوس. فلما أوصى أتلس الثالث Atallus III ملك برجموم Pergamum بمملكته لرومه في عام 133 عرض جراكس على الجمعية أن تباع أملاك أتلس الخاصة والمنقولة، وأن يوزع ما يتحصل من بيعها على من نالوا إقطاعيات من أراضي الدولة ليبتاعوا بها ما تحتاجه مزارعهم من أدوات. وأثار هذا الاقتراح غضب مجلس الشيوخ لأنه رأى أن ما له من سيطرة على الولايات وعلى الأموال العامة قد أخذت تنتقل إلى جمعية قوية الشكيمة غير ممثلة للبلاد، معظم أعضائها من أصل وضيع ومن غير أبناء البلاد الأصليين. فلما كان يوم الانتخاب ظهر جراكس في السوق العامة بملابس الحداد ومن حوله حراس مسلحون للدلالة على أن هزيمته في الانتخاب ستؤدي إلى اتهامه وإعدامه. وحدث في أثناء الاقتراع أن لجأ كلا الطرفين إلى العنف. ونادى سبيو نسكا Scipio Nasica بأن تيبيريوس يريد أن ينصب نفسه ملكاً، وقاد الشيوخ إلى السوق العامة مسلحين بالهراوات. وارتاع أنصار جراكس حين شاهدوا أثواب الأشراف الفخمة فتخلوا عنه، وأصيب تيبيريوس بضربة على أم رأسه خر على أثرها صريعاً وهلك معه بضع مئين من أتباعه. ولما طلب كيوس Caius أخوه الأصغر أن يؤذن له بدفنه لم يجب إلى طلبه، وألقيت جثث العصاة الموتى في نهر التيبر وكورنليا في أثناء ذلك حزينة باكية.
وأراد مجلس الشيوخ أن يهدئ من ثورة العامة فوافق على تنفيذ قوانين جراكس. ويستدل من ازدياد عدد المواطنين المدونة أسماؤهم(9/240)
في السجلات بمقدار 76000 من عام 131 إلى 125 على أن مساحات واسعة من الأراضي قد وزعت حقاً على الزراع، ولكن اللجنة الزراعية وجدت نفسها أمام عقبات كثيرة. ذلك أن كثيراً من الأراضي التي يراد توزيعها كانت قد أخذت من الدولة قبل ذلك الوقت بعدة سنين أو بعدة أجيال، وأصبح لمن يمتلكونها وقتئذ حقوق اكتسبوها بوضع أيديهم عليها زمناً طويلاً، وأن منها أراضي كثيرة أخرى قد ابتاعها الملاك الجدد بأثمان غالية ممن اشتروها من الحكومة بأثمان منخفضة. ولجأ أحلاف رومه الإيطاليون الذين أضرت القوانين بحقوقهم التي اكتسبوها بوضع اليد إلى سبيو إيمليانوس ليحميهم من اللجنة الزراعية، واستطاع بما له من النفوذ أن يؤجل أعمالها فاستشاط الرأي العام غضباً عليه لهذا العمل، واتهمه بالخيانة وعدم الوفاء بذكرى جراكس التي أضحت وقتئذ ذكرى عزيزة مقدسة. وفي صباح يوم من أيام أيار عام 129 وجد الرجل ميتاً في فراشه، وأكبر الظن أن يداً أثيمة قد اغتالته ولم يعرف أحد من هو هذا المغتال.(9/241)
الفصل الثالث
كيوس جراكس
وأخذ النمامون الذين خلت قلوبهم من الرحمة يشيعون أن كرنليا قد إئتمرت مع ابنتها زوجة سبيو المشوهة المكروهة على قتل تيبيريوس؛ وأخذت كرنليا وسط هذه الكوارث الفادحة تواسي نفسها بالعكوف على العناية بابنها الذي لم يبق لها في هذا العالم عزيز سواه. ولم يكن ما أثاره مقتل تيبيريوس في قلب أخيه كيوس هو مجرد الرغبة في الانتقام، بل أثار فيه صادق العزم على أن يتم ما بدأه أخوه. وكان قبل إذ قد أظهر كثيراً من الذكاء والشجاعة في أثناء خدمته بقيادة إيمليانس في نوماتيا، ونال إعجاب الناس على اختلاف مشاربهم باستقامته وبساطة معيشته؛ وكان رجلاً حاد المزاج جياش العواطف، إذا ثار زادت حدتها لطول كبتها، وقد أصبح بفضلها أعظم خطباء الرومان قبل أيام شيشرون، وفتحت أمامه أبواب المناصب كلها تقريباً في مجتمع كان للفصاحة فيه المحل الثاني بعد الشجاعة في رقي الرجال وبلوغهم أسمى المراتب. لهذا كله اختير تربيوناً في خريف عام 124.
وكان كيوس رجلاً واقعياً أكثر من أخيه، ومن ثم أدرك أن لا بقاء لأي إصلاح إذا لم يقو على مغالبة القوة الاقتصادية أو القوة السياسية في الدولة. ولذلك استقر رأيه على أن يضم إلى جانبه خمس طبقات من طبقات الشعب المختلفة: طبقة الزراع، والجيش وعامة المدن ورجال الأعمال. فأما الطبقة الأولى فقد ضمها إليه بالعودة إلى القوانين الزراعية التي سنها أخوه، ووسع مداها بأن طبقها على الأراضي الزراعية التي تمتلكها الدولة في الولايات التابعة لها، ثم أعاد تشكيل لجنة الأراضي، وأشرف بنفسه على أعمالها. وحقق مطامع الطبقات الوسطى بإنشاء مستعمرات جديدة في كبوا، وتارنتم، وناربو Narbo، وقرطاجنة، وبتنمية هذه(9/242)
المستعمرات وجعلها مراكز مزدهرة للتجارة. وأرضى الجنود بأن قرر أن تؤدي أثمان ملابسهم من الخزانة العامة، وأرضى عامة المدن بإصدار قانون الحبوب Iex Frumentaria وبمقتضاه أخذت الحكومة على نفسها أن تعطي القمح لكل من يطلبه بسعر ستة آسات وثلث آس لكل موديوس Modius ( أي بما يعادل 36 slash100 من الريال الأمريكي لكل جالونين) وهو نصف ثمنه في السوق. وكان هذا العمل الأخير صدمة عنيفة للمبادئ الرومانية القديمة- مبادئ الاعتماد على النفس- كما كان له آثار خطيرة في التاريخ الروماني كله. وكان كيوس يعتقد أن تجار الحبوب يبيعونها للجمهور بضعفي نفقات إنتاجها، وأن الإجراء الذي اتخذه لن يكلف الدولة خسارة ما لأن توحيد عمليات البيع والشراء سينزل بالنفقات إلى حد كبير. وسواء كان هذا أو لم يكن فإن القانون قد جعل الفقراء من سكان المدن الأحرار يناصرون ابني جراكس ويناصرون من بعدهما مارينوس وقيصر بدل أن كانوا موالي للأشراف وأتباعاً لهم، يعملون لإطعامهم وتوفير أسباب الترف لهم، كما كان عماد الحركة الديمقراطية التي بلغت ذروتها في كلوديوس Clodius وقضى عليها في أكتوم.
وكان الإجراء الخامس يهدف إلى تثبيت سلطان الحزب الذي ينتمي إليه بالقضاء على السنة المتبعة من زمن قديم والتي تجعل الأغنياء يقترعون في الجمعية المئوية قبل غيرهم من الطبقات، فاستبدل كيوس بهذه السنة تقليداً جديداً يجعل المئات في الجمعية يعطون أصواتهم حسب نظام يعين بالقرعة. ثم استرضى رجال الأعمال بأن جعل لهم وحدهم حق العمل محلفين عند النظر في جرائم الولايات، فأصبحوا بذلك حكاماً في قضاياهم إلى حد بعيد. ولم يكتف بهذا بل أراد أن يستثير مطامعهم فاقترح أن تفرض على جميع غلات آسيا الصغرى ضريبة توازي عشر هذه الغلات يجبونها هم أنفسهم. ثم زاد ثراء المقاولين، وأنقص عدد المتعطلين، بأن وضع برنامجاً لإنشاء الطرق في كافة أنحاء إيطاليا. ولقد(9/243)
كانت هذه القوانين في جملتها- رغم ما يغشى بعضها من خداع سياسي- أعظم مجموعة من التشريع الإنشائي سنت قبل أيام قيصر.
واستطاع كيوس باعتماده على هذا العون المتعدد النواحي أن يطرح ما جرت به العادة من قديم، وأن يُختار تربيوناً للمرة الثانية. وأكبر الظن أنه قد فكر في ذلك الوقت في السيطرة على مجلس الشيوخ بإضافة ثلاثمائة عضو جديد إلى أعضائه الثلاثمائة، تختارهم الجمعية من بين رجال العمال. واقترح كذلك أن يعطي حق الانتخاب كاملاً لجميع الأحرار من سكان لاتيوم، وأن يعطي هذا الحق منقوصاً إلى سائر الأحرار من سكان إيطاليا، وكانت هذه أجرأ حركة قام بها في طريق الديمقراطية السياسية، ولكنها كانت أيضاً أول ما ارتكب من أغلاط في خططه. ذلك أن من كان لهم حق الاقتراع لم يتحمسوا كثيراً لأن يشترك معهم غيرهم في هذه الميزة التي اختصوا بها حتى ذلك الوقت، ولو كان شركاؤهم فيها قوم لا يستطيع حضور جلسات الجمعيات في رومه إلا أقلية صغيرة منهم. ولم يدع مجلس الشيوخ هذه الفرصة تفلت من بين يديه. ذلك أن كيوس كاد يتجاهله ولا يحسب له حساباً حتى ظن أنه قد فقد كل ما كان له من قوة ومكانة في البلاد، ولم يرقى هذا التربيون النابه إلا زعيماً شعبياً مستبداً يريد أن يستحوذ لنفسه على أكبر قسط من السلطة بتوزيع أملاك الدولة وأموالها ذات اليمين وذات الشمال. ولاح له فجأة حليف جديد هو صعاليك رومه الغيورون على حقهم القديم، وانتهز فرصة غياب كيوس، وكان قد غادر رومه ليثبت قواعد مستعمرته الجديدة في قرطاجنة، فأشار على تربيون آخر هو ماركس ليفيوس دروسس Marcus Livius Drosus أن يضم إليه الزراع الجدد بإصدار قانون يلغي به الضرائب المفروضة على أراضيهم بمقتضى قوانين جراكس، وأن يسترضي صعاليك المدن ويضعفهم في الوقت نفسه بأن يقترح إنشاء اثنتي عشرة مستعمرة جديدة في إيطاليا تتسع كل واحدة منها لثلاثة آلاف من رجال رومه. ووافقت الجمعية من فورها(9/244)
على هذه المشروعين، ولما عاد كيوس وجد دروسس قد كسب قلوب الشعب، ينازعه الزعامة عند كل خطوة يخطوها. ورشح كيوس نفسه لأن يختار تربيوناً مرة ثالثة ولكنه هزم، وقال أصدقاؤه إنه انتخب ولكن أصوات الناخبين قد تناولها الغش والتزوير، غير أنه نصح أتباعه بألا يلجئوا إلى وسائل العنف واعتزل الساسة وفضل عليها الحياة الخاصة.
وأشار مجلس الشيوخ في العام الثاني أن تجلو رومه عن المستعمرة المنشأة في قرطاجنة، وفسرت الأحزاب جميعها هذا الاقتراح- سراً أو جهراً- بأنه مقدمة لحرب يشنها المجلس على قوانين جراكس لإلغائها. وجاء بعض أنصار جراكس إلى الجمعية مسلحين، وقتل أحدهم رجلاً من المحافظين هم بالقبض على كيوس. فما كان من أعضاء مجلس الشيوخ إلا أن خرجوا في اليوم الثاني على استعداد تام للقتال، ومع كل منهم عبدان مسلحان، وهاجموا أنصار جراكس المتحصنين فوق تل الأفنتين. وبذل كيوس كل ما في وسعه لتسكين الفتنة، ومنع اعتداء كلتا الطائفتين على الأخرى؛ فلما عجز عن ذلك ولى هارباً وعبر نهر التيبر، ولما أن لحقه أعداؤه أمر خادمه أن يقتله، وصدع الخادم بالأمر ثم قتل نفسه. وقطع أحد أصدقاء كيوس رأس صديقه، وحشاها بالرصاص المصهور، وحملها إلى مجلس الشيوخ، وكان المجلس قد أعلن أنه يكافئ من يأتيه بهذا الرأس بما يساوي وزنه ذهباً (9). وقتل من أنصار كيوس في المعركة مائتان وخمسون، وأعدم ثلاثة آلاف غيرهم تنفيذاً لقرار أصدره مجلس الشيوخ. ولما ألقيت جثته وجثث أتباعه في نهر التيبر لم يحتج على هذا العمل غوغاء المدينة الذين كان يعمل لخيرهم، ذلك أن هؤلاء الغوغاء كانوا وقتئذ في شغل عن هذا الاحتجاج بنهب بيته (10). وحرم مجلس الشيوخ على كرنليا أن تلبس ثياب الحداد حزناً على ولدها.(9/245)
الفصل الرابع
ماريوس
واستخدم الأشراف الظافرون كل ما وهبوا من ذكاء لهدم العناصر الإنشائية من تشريعات كيوس لا العناصر التي أراد بها كسب محبة الشعب الروماني. فلم يجرءوا مثلاً على إخراج رجال الأعمال من منصب المحلفين في القضايا، أو أن يحرموا المكاسين والمقاولين مرابع صيدهم الوفيرة في آسيا، ورضوا بأن يظل توزيع الأراضي على الفقراء بأن أضافوا إليه مادة تجيز لملاك هذه الأراضي الجديدة أن يبيعوها، فلم يمض إلا قليل من الوقت حتى باع آلاف منهم ما يمتلكون إلى كبار ملاك الرقيق، وأخذت الضياع الكبيرة تعود إلى سابق عهدها. ثم ألغيت لجنة الأراضي في عام 118، ولم تحتج الجماهير في العاصمة على الإلغاء، لأن الجماهير قد عقدت النية على أن الأكل من قمح الدولة في المدينة خير من فلح الأرض أو الكدح في المستعمرات الناشئة. وتعاون الكسل والتخريف (ونقول التخريف لأنم أرض قرطاجنة كانت في زعمهم أرضاً منحوسة ملعونة) على إبطال كل محاولة بذلت قبل أيام قيصر للتخفيف من حدة الفقر بالهجرة إلى خارج البلاد، وزاد الأثرياء ولكن عدد الأثرياء لم يزد على ما كان من قبل، وقد قرر أحد الديمقراطيين المعتدلين في عام 104 أن عدد الملاك من المواطنين الرومان لا يزيد على ألفي مالك (11). وفي ذلك يقول أبيان Oppian: " إن الفقراء قد أصبحت حالهم أسوأ مما كانت من قبل سيئة" ... فقد خسر العامة كل شيء ... وظل عدد المواطنين والجنود يتناقص تناقصاً مطرداً" (12). وكان لابد من سد النقص في صفوف الجند بمجندين من الولايات(9/246)
الإيطالية؛ ولكن هؤلاء لم يكن لهم صبر على القتال، ولم تكن قلوبهم عامرة بحب رومه؛ وأخذ عدد الفارين من الجند يتضاعف على مدى الأيام، واختل النظام في الجيش وانحطت قدرة المدافعين عن الجمهورية إلى أدنى حد.
ولم تلبث أن هاجمها الأعداء، وكاد هجومهم عليها أن يكون من الشمال ومن الجنوب في وقت واحد. ذلك أن قبيلتين من قبائل الكلت وهما قبيلتا السمبريين والتيوتون انحدرت جموعها كالسيل الجارف فاخترقت ألمانيا عام 113 في عربات مغطاة، وكانت عدتهم ثلاثمائة ألف من المحاربين ومعهم أزواجهم وأبناؤهم ودوابهم، وكأنهم أرادوا أن يشعروا رومه بما يتهددها من أخطار في المستقبل القريب. ولعل هؤلاء الأقوام قد ترامى إليهم من فوق جبال الألب أن رومه قد افتتنت بالثروة وكرهت الحرب. وكان القادمون الجدد طوال القامة، أقوياء البنية، شجعاناً لا يجد الخوف سبيلاً إلى قلوبهم. وكانوا بيض البشرة شقر الشعر حتى قال عنهم الإيطاليون إن شعر أطفالهم أبيض كشعر الشيوخ. والتقوا بجيش روماني في نوريا Noreia ( وهي نورماكت Neumarkt الحالية في كورنثيا) وأفنوه عن آخره؛ ثم عبروا نهر الرين وهزموا جيشاً رومانياً آخر، ثم تدفقوا غرباً إلى غالة الجنوبية وبددوا شمل جيش روماني ثالث ورابع وخامس. وأسفرت معركة أروسيو Arausio ( أورنج) عن قتل ثمانين ألفاً من الجيوش الرومانية النظامية، وأربعين ألفاً من المدنيين الذين يتعقبون معسكرات الجنود (13). وتفتحت أبواب إيطاليا بعد هذه المعارك أمام الغزاة، واستولى الرعب على رومه وكان رعباً لم تعرف له مثيلاً منذ أيام هنيبال.
وفي الوقت عينه تقريباً شبت نار الحرب في نوميديا. ذلك أن يوجورثا Jugurtha حفيد هاسنسا عذب أخاه تعذيباً انتهى بموته، وحاول أن يحرم أبناء عمه حقهم في الملك، فأعلن مجلس الشيوخ الحرب عليه في عام 111 لعله يستطيع أن يجعل نوميديا ولاية رومانية ويفتح أبوابها للتجارة ولرؤوس(9/247)
الأموال الرومانية، واستطاع يوجورثا أن يبتاع بالمال بعض الأشراف ليدافعوا عن قضيته وعن جرائمه أمام مجلس الشيوخ، وأن يرشوا القواد الذين أرسلوا لقتاله، فعقدوا معه صلحاً مواتياً أو اكتفوا بمناوشات لا تلحق به أذى. ولما استدعى إلى رومه كان أكثر سخاء منه قبل قدومه إليها، واستطاع بذلك أن يعود إلى عاصمته دون أن تقام في سبيله العقبات (14).
ولم يخرج من هذه الحروب موفور الكرامة سليم الشرف إلا ضابط واحد هو جايوس ماريوس Gaius Marius. وقد ولد هذا القائد كما ولد شيشرون في أربينوم Arpinum. وكان والده عاملاً يتقاضى أجراً قليلاً، وتطوع في الجيش وهو صغير السن، وأصيب بعدة جراح في نومنتيا Numantia، وتزوج من عمة لقيصر، واختير تربيوناً رغم جهله وسوء أخلاقه أو بسبب جهله وسوء أخلاقه. ولما عاد من الخدمة العسكرية في خريف عام 108، وكان وقتئذ ياوراً لكونتس متلس Quintus Metellus القائد الضعيف العاجز في إفريقيا، اعتلى منصة للخطابة وطلب أن يختار قنصلاً بدل متلس، وقطع على نفسه عهداً إذا اختير لهذا المنصب أن يقود الجيوش الرومانية إلى النصر في الحرب اليورجورثية. فأجابه الشعب إلى طلبه، وتولى قيادة الجيش، وأرغم يوجورنا على الاستسلام له في عام 106، ولم يعلم الشعب وقتئذ أن أكبر من عمل للنصر في هذه الحرب شاب جريء من الأشراف هو لوسيوس صلا Luciuus Sulla وإن كان قد عرف منه ذلك فيما بعد. أما في ذلك الوقت فقد استمتع ماريوس بأعظم ما يستمتع به القائد المنتصر، وبلغ من حب الشعب له أن تجاهلت الجمعية نصوص الدستور المحتضر وصارت تنتخبه قنصلاً عاماً بعد عام (من 104 - 100). وناصره رجال الأعمال لأن انتصاراته قد فتحت آفاقاً جديدة لمشروعاتهم الاستغلالية من جهة، ولأنهم رأوه الرجل الوحيد الذي كان في استطاعته أن يرد حجافل الكلت من جهة أخرى. وتبينت رومه من ذلك الوقت(9/248)
في عم قيصر منافع القيصرية- ذلك أن الدكتاتورية الممثلة في قائد محبوب من الشعب، ومن ورائه جيش مخلص له، قد بدت للكثيرين من الرومان المنهوكي القوى البديل الوحيد من المساوئ الألجركية التي تلازم الحرية.
وكانت الجحافل السمبرية بعد انتصارها في أروسيو قد أجلت زحفها على رومه، وعبرت جبال البرانس، وعاثت في أسبانيا فساداً، غير أنها عادت إلى غالة في عام 101، وهي أكثر عدداً مما كانت قبل، واتفقت مع التيوتون على أن يهاجمها السهول الغنية في شمالي إيطاليا من طريقين مختلفين. ولجأ ماريوس في صد هذا الخطر المحدق بالمدينة إلى طريقة جديدة من طرق التجنيد أحدثت انقلاباً خطيراً في الجيش أولاً وفي الدولة نفسها فيما بعد. ذلك أنه دعا إلى الخدمة العسكرية كل من يشاء من المواطنين سواء كان له ملك أو لم يكن. وعرض أجوراً مغرية على المتطوعين، ووعدهم أن يطلق سراحهم وأن يقطعوا أرضاً في نهاية الحرب. وكان معظم الجيش الذي جمع بهذه الطريقة مكوناً من فقراء المدن، وكانت عواطفه معادية لجمهورية الأشراف، وكان إذا حارب لا يحارب دفاعاً عن بلاده بل يحارب في سبيل قائده ومن أجل الغنائم. وبهذه الوسيلة وضع ماريوس الأساس العسكري للثورة القيصرية، ولعله فعل ذلك على غير علم منه. وكان ماريوس جندياً لا رجلاً سياسياً، ومن ثم فإنه لم يكن يتسع وقته لتدبر العواقب السياسية البعيدة. فلما أن ألف الجيش بهذه الطريقة السالفة الذكر قاده فوق جبال الألب وقوى أجسام جنده بالسير الطويل والتدريب، كما قوى قلوبهم بالهجوم على مواقع كان من السهل التغلب عليها، وكان يرى أن من المجازفة أن يلتحم وإياهم في حرب حقيقية إلا بعد أن يتم تدريبهم على هذا النحو. ومر التيوتون بمعسكره دون أن يلقوا مقاومة ما، وكانوا يسألون الرومان ساخرين هل يريدون أن يبعثوا معهم برسائل إلى زوجاتهم اللاتي يوشك هؤلاء أن يستمتعوا بهن. وفي وسع القارئ أن يتصور عدد هؤلاء التيوتون إذا علم أنهم قضوا في مرورهم بمعسكر(9/249)
الرومان ستة أيام كاملة. فلما أن تم مرورهم أمر ماريوس جنده بالانقضاض على مؤخرتهم؛ ودارت بين الجيشين معركة عند أكواسكستيا Aquae Sextiea (102) ( وهي مدينة إكس Aix في مقاطعة بروفانس Provence) . وبلغ عدد القتلى والأسرى من جيوش مائة ألف. وفي ذلك يقول أفلوطرخس: "ويقال إن أهل مرسيليا أقاموا حول كرومهم أسواراً من عظام القتلى وإن الأرض بعد أن تحللت فيها أجسامهم وهطلت عليها أمطار الشتاء أخصبها ما تسرب إليها من المواد المتعفنة، حتى بلغ محصولها في الموسم الذي تلا ذلك الفصل درجة من الوفرة لم يكن لها مثيل من قبل (15) ". وبعد أن أراح ماريوس جيشه عدة شهور رجع على رأسه إلى إيطاليا والتقى بالسمبريين في فرسلا Vercellae بالقرب من نهر البو (101) في المكان الذي انتصر فيه هنيبال على الرومان في أول معركة خاض غمارها معهم. وأراد البرابرة أن يظهروا قوتهم وبأسهم، فساروا عراة الأجسام وسط الثلوج، وتسلقوا الجبال المكسوة بالجليد، وخاضوا مناسفه العميقة إلى قلل الجبال، ثم انزلقوا منها مهم يهللون ويضحكون فوق المنحدرات الوعرة، واستخدموا دروعهم مزالق في أقدامهم (16). فلما دارت المعركة بعدئذ بينهم وبين الرومان لم يكد يبقى منهم أحد على قيد الحياة.
واستقبل ماريوس في العاصمة المبتهجة كأنه "كمليوس ثان" صدعها غارة كلتيه، "ورميولوس" آخر أنشأ رومه من جديد. ووهبته جزءاً من الغنيمة التي جاء بها مكافأة له على عمله؛ فأصبح بذلك من أثرياء المدينة يمتلك من الضياع ما "يكفي لأن يكون وحده مملكة". وفي عام 100 ق. م اختير قنصلاً للمرة السادسة. وكان زميله في القنصلية لوسيوس ستورنينس Lucius Saturninus، وكان رجلاً متطرفاً حاد الطبع عقد النية على أن يبلغ الهدف الذي كان يسعى له أبنا جراكس بالتشريع إن استطاع وبالقوة إن يبلغ الهدف الذي كان يسعى له عرض على الجمعية قانوناً يقضى بتوزيع بعض أراضي المستعمرات على الجنود(9/250)
المضرسين الذين اشتركوا في المعارك الحديثة؛ ولما أنقص ثمن القمح الذي توزعه الدولة على العامة من ستة آسات وثلث آس (أي ما يعادل 0. 39 من الريال الأمريكي) إلى خمسة أسداس آس (أس نحو 0. 05 من الريال الأمريكي) لكل موديوس لم يعارض ماريوس في هذا الإجراء. وأراد مجلس الشيوخ ~أن يحمي خزانة الدولة، ويحمي نفسه بتحريض أحد التربيونين على أن يمنع الاقتراع على هذين المشروعين. ولكن ستورنينس لم يعبأ بهذا الاعتراض وتقدم بهما إلى الجمعية. واحتدم النزاع بين الطرفين، ولجأ كلاهما إلى العنف. ولما أن قتل أنصار ستورنينس كيوس مميوس Caius Memmius، وكان من أكبر الأشراف مقاماً، لجأ مجلس الشيوخ إلى آخر سهم في كنانته واستخدم حقه في حماية الشعب senatus consultum de re publica defendeuda وأمر ماريوس بوصف كونه قنصلاً أن يخمد الفتنة.
وكان على ماريوس أن يختار بين أمرين ليس فيهما حظ لمختار، وكان هذا الاختيار أسوأ ما مر عليه طول حياته. فقد كان شديداً على نفسه أن يختم جهاده الطويل لخدمة العامة من أهل رومه هذه الخاتمة التعسة فيها زعماءهم وأصدقاءه السابقين، على أنه هو أيضاً كان لا يرضى عن استخدام العنف ويعتقد أن الثورة تنتج من الشرور أكثر مما تستطيع علاجه. وأخيراً سار على رأس قوة لمهاجمة الثوار وسمح بأن يقتل ستورنينس رجماً بالحجارة، ثم طلق السياسة وعاش في عزلة عيشة نكدة يائسة، يحتقره العامة الذين دافع عنهم وأخذ بناصرهم، والأشراف الذين أنجاهم من البلاء.(9/251)
الفصل الخامس
ثورة إيطاليا
كانت الثورة في ذلك الوقت تتطور إلى حرب أهلية داخلية. ولما استعان مجلس الشيوخ أحلاف رومه من ملوك الشرق لصد غارات السمبريين رد عليه نقوميدس ملك بثينيا بقوله إن جميع الرجال القادرين على حمل السلاح في مملكته قد بيعوا في سوق الرقيق للوفاء بمطالب جباة الضرائب الرومانيين الفادحة. ورأى مجلس الشيوخ أن الجيش في ذلك الوقت أفضل من الرقيق فأصدر قراراً يقضي بتحرير كل من أصبحوا أرقاء لعجزهم عن أداء الضرائب. فلما سمع الأرقاء بهذا القرار اجتمع مئات منهم في صقلية، وكان كثيرون منهم من يونان بلاد الشرق الهلنستية، وتركوا سادتهم واحتشدوا عند باب قصر البريتور وطالبوا بحريتهم، فعارض أسيادهم في ذلك الطلب واحتجوا عليه، واستمع البريتور إليهم وأجل تنفيذ قرار التحرير. ونظم الأرقاء أنفسهم بقيادة دعي ديني يسمى سلفيوس Salvius وهاجموا مدينة مورجنتيا Morgantia. واستطاع مواطنو المدينة أن يضمنوا وفاء معظم عبيدهم حين وعدوهم بأن يحرروهم إذا صدوا هجمات المغيرين؛ فلما صدوها أخلف سادتهم وعدهم ولم يحرروهم، فانضم معظمهم إلى الثائرين. وثار حوالي ذلك الوقت نفسه (103) نحو ستة آلاف من الأرقاء في طرف الجزيرة الغربي بقيادة أثنيون Atheninon، وهو رجل متعلم ذو عزيمة ماضية؛ وهزمت هذه القوة تباعاً عدداً من الجيوش التي سيرها البريتور لإخماد ثورتها، ثم تحركت نحو الشرق وانضمت إلى الثوار الذين كانوا تحت قيادة سلفيوس. وتغلبت جموعهم على جيش بعثت به رومه من إيطاليا نفسها، ولكن سلفيوس مات في ساعة النصر. ثم عبرت جيوش أخرى مضيق صقلية(9/252)
بقيادة القنصل مانيوس أكوليوس (101)؛ فبارز أثنيون هذا القنصل وقتله في المبارزة، وأصبح الأرقاء بلا قائد، فهزموا وقتل آلاف منهم في الميدان، وأعيد آلاف آخرون إلى سادتهم، ونقل مئات منهم على ظهور السفن إلى رومه ليقاتلوا الوحوش في الألعاب التي أقيمت احتفالاً بانتصار أكوليوس، ولكن الأرقاء لم يقاتلوا الوحوش بل أغمد كل منهم خنجره في قلب زميله وماتوا عن أخرهم.
وبعد بضع سنين من هذه الحرب- حرب الأرقاء الثانية- امتشقت إيطاليا كلها الحسام. وسبب ذلك أن رومه- وهي أمة صغيرة بين كومي وكيري Caere، وبين جبال الأبنين والبحر- قد ظلت نحو قرنين من الزمان تحكم سائر إيطاليا كما كانت تحكم الشعوب المغلوبة، وبلغ من أمرها أن مدناً قريبة منها مثل تيبور Tibur وبرانستي Praeneste لم يكن لها من يمثلها في الحكومة التي تصرف أمورها، بل كان مجلس الشيوخ والجمعيات والقناصل يصدرون المراسيم والقوانين إلى الهيئات الإيطالية كأنها ولايات أجنبية مغلوبة على أمرها. وكانت موارد هؤلاء "الأحلاف" من مال ورجال تستنزف في الحروب التي لم يكن لها هدف إلا ملء خزائن عدد قليل من الأسر في رومه، ولم تنل الولايات التي ظلت موالية لها في صراعها المرير مع هنيبال على هذا الولاء جزاء يستحق الذكر، أما التي قدمت إلى هنيبال في هذا الصراع شيئاً من المعونة أياً كان نوعها فقد كان عقابها أن أخضعت إلى رومه خضوعاً أذلها إذلالاً جعل كثيراً من أهلها ينضمون إلى الأرقاء في ثورتهم عليها. وكان عدد قليل من أثرياء المدن قد منحوا حق مواطني رومه، وكانت رومه نفسها تستخدم سلطانها في كل مكان لمساعدة الأغنياء على الفقراء، وفي عام 126 حرمت الجمعية على سكان المدن الإيطالية أن يهاجروا إلى رومه، وفي عام 95 أخرجت هذه العاصمة الغنية كل من لم يكن من أهلها مواطناً رومانياً بل كان مواطناً إيطالياً فحسب.
وحاول أحد الأشراف أن يصلح هذه الحال فكان جزاؤه على هذه(9/253)
المحاولة الإعدام. كان م. ليفيوس دروسس M. Livius Drusus ابن التربيون الذي كان ينافس تيبيريوس جراكس؛ ولما كان متبناه قد أصبح والد زوجة أغسطس، فإن الأسرة ربطت مصيرها بمبادئ الثورة. وجرياً وراء هدفها هذا عرض ليفيوس دروسس، بعد أن اختير تربيوناً في عام 91، ثلاثة إجراءات وهي: (1) أن يوزع مقدار آخر من أراضي الدولة على الفقراء. (2) أن ترد إلى مجلس الشيوخ حقوقه القضائية التي كانت مقصورة عليه، مشترطاً أن يضم إليه في الوقت نفسه ثلاثمائة من رجال الأعمال. (3) أن يمنح جميع الأحرار في إيطاليا حقوق المواطنين الرومانيين. وأجازت الجمعية الاقتراح الأول وهي مغتبطة، وأجازت الثاني دون أن تبدي اغتباطاً أو استياء؛ ولكن مجلس الشيوخ رفض الاقتراحين كليهما وأعلن أنه لا يرتبط بشيء منهما. أما الاقتراح الثالث فلم يعرض للاقتراع لأن مغتالاً مجهولاً طعن دروسس طعنة قاتلة في منزله.
وبعثت هذه الاقتراحات الأمل في نفوس الولايات الإيطالية وأيقنت مما حل بها أن مجلس الشيوخ والجمعية لن يقبلا بطريقة سليمة أن يشترك غيرهما معهما فيما يعود عليهما من المزايا بفضل هذه الاقتراحات. فأخذت هذه الولايات تستعد للثورة. وتألفت منها جمهورية اتحادية، عاصمتها كنفرنيوم Confirinium، وعهدت بالحكم إلى مجلس الشيوخ مؤلف من خمسمائة عضو يختارون من جميع القبائل الإيطالية عدا التسكان والأمبريان الذين رفضوا الانضمام إلى هذا الاتحاد. فلم يسع رومه إلا أن تعلن الحرب من فورها على المنشقين. واشتركت أحزاب العاصمة كلها في الحرب التي كانت في رأيهم دفاعاً عن وحدة إيطاليا؛ وملأ الخوف قلوب الرومانيين على بكرة أبيهم من انتقام الدول المتمردة إذا انتصرت في هذه "الحرب الاجتماعية (1) " القائمة بين الأخوة بعضهم وبعض. وخرج ماريوس من عزلته،
_________
(1) هذه هي الترجمة الخاطئة للعبارة اللاتينية Bellum Sociale- أي حرب الأحلاف ( socli) ضد رومه. وهي ترجمة أكسبتها الأيام حرمة لا تستحقها.(9/254)
وتولى القيادة، وانتصر في معركة بعد معركة، مع أن جميع القواد الرومانيين- ماعدا صلا- قد منوا بالهزيمة. وقتل في ثلاث سنين حوالي ثلاثمائة ألف نفس، وخربت إيطاليا الوسطى أشد تخريب. ولما أوشكت إتروريا وأمبريا أن تنضما إلى الثوار استرضتهما رومه بأن منحت أهلهما جميع حقوق المواطنين الرومانيين؛ وفي عام 90 منحت حقوق الرومان السياسية لجميع الأحرار والمحررين الإيطاليين الذين يقسمون يمين الولاء لرومه. وكان من أثر هذه الامتيازات القليلة أن ضعفت قوة الأحلاف المناوئين لرومه، فألقت المدن واحدة بعد الأخرى سلاحها، ولم يحل عام 89 حتى كانت هذه الحرب الوحشية الضروس قد وضعت أوزارها، واختتمت بسلام نكد لا خير فيه للطرفين. ذلك أن الرومان قد قضوا على ما منحوه للولايات الإيطالية من حقوق سياسية، بأن جمعوا المواطنين الجدد في عشر قبائل جديدة لا تقترع إلا بعد أن تفرغ الخمس والثلاثون قبيلة التي كانت موجودة قبل من الاقتراع، وبذلك لم تكن لاقتراعها هذا قيمة في معظم الأحيان. يضاف إلى هذا أنه لم يكن في وسع المواطنين الجدد أن يحضروا الجمعيات في رومه إلا قلة ضئيلة منهم. لذلك صبرت الجماعات التي غرر بها والتي أضنتها الحرب وخربت بلادها على مضض، فلما أن مضت على ذلك الوقت أربعون سنة فتحت أبوابها لقيصر يعرض عليها حقوق المواطنين في جمهورية لا وجود لها.(9/255)
الفصل السادس
صلا السعيد
ولم يلبث النزاع بين الرومانيين والإيطاليين أن قام من جديد بعد بضع سنين قلائل ساد فيها السلام، وكل ما في الأمر أن تبدل اسم هذا النزاع من نزاع "اجتماعي" إلى نزاع "أهلي" وأن تبدل ميدانه من المدن الإيطالية إلى رومه نفسها. وتفصيل ذلك أن لوسيوس كرنليوس صلا اختير ليتولى في عام 88 ق. م منصب القنصلية. وتولى قيادة الجيش الذي كان يعبأ لقتال مثرداتس Mithridates حاكم بنتس Pontus؛ ولكن التربيون سلبيسيوس روفس Sulplicus Rufus لم يكن يرضى أن يتولى رجل محافظ مثل صلا قيادة هذه القوة العظيمة، وأقنع الجمعية بأن يتولى القيادة ماريوس، وكان وقتئذ رجلاً بديناً في التاسعة والستين من عمره، ولكنه مع ذلك لم تفارقه مطامعه العسكرية. وأبى ماريوس أن تفلت من يده فرصة القيادة التي طال انتظارها، وأن تفلت منه لما لاح له أنه نزوة من نزوات جمعية خاضعة لتأثير زعيم شعبي مهرج، وللرشا التي لم يكن يشك في أنها قد تلقتها من التجار الذين يحبون ماريوس. فلم يكن منه إلا أن فر إلى نولا Nola وكسب ولاء الجيش وزحف به على رومه.
وكان صلا رجلاً فذاً في منشئه، وأخلاقه، ومصيره. فقد ولد فقيراً ولكنه أصبح المدافع عن الأشراف، كما أصبح ابنا جراكس ودروسس Drusus وقيصر وهم من الأشراف زعماء الطبقات الفقيرة. وثأر لنفسه من الحياة إذ جعلته شريفاً ومعدماً؛ وذلك بأنه حين أصبح رب المال استخدمه في قضاء شهواته، فأطلق لها العنان، ولم يتقيد فيها بعرف، ولم يؤنبه على إسرافه فيها ضمير. وكان دميم الخلق- له عينان زرقاوان براقتان في وجه أبيض(9/256)
تلطخه بقع شديدة الحمرة "كأنه توت منثور عليه دقيق (17) ". لكن هذه الملامح كانت تخفي وراءها تعليماً راقياً، فقد كان يتقن الآداب اليونانية والرومانية، وكان مولعاً بجمع روائع الفن، دقيقاً في اختيارها (مستعيناً على ذلك في العادة بالوسائل العسكرية). وأمر أن تحمل له من أثينا مؤلفات أرسطوطاليس، واختص بها نفسه لتكون جزءاً من أثمن غنائمه، ووجد خلال أيام الحرب والثورة من الوقت ما استطاع فيه أن يكتب مذكراته ليضل بها الناس من بعده. وكان رقيقاً مرحاً لطيفاً، وصديقاً كريماً، يدمن الخمر، ويشتهي النساء، ويولع بالحرب، ويطرب للغناء؛ ويقول عنه سلست Sallust إنه "كان يعيش عيشة البذخ، ولكن ملذاته لم تحل قط بينه وبين أداء واجباته؛ إذا استثنينا من ذلك التعميم أنه كان في وسعه أن يجعل سلوكه مع زوجته أشرف مما كان (18) ". وسلك الرجل طريقه إلى المجد سلوكاً سريعاً، وخاصة في الجيش وسيلته الموفقة إلى أغراضه. وكان يعامل جنوده معاملة الزميل لزميله، يشترك معهم في أعمالهم وفي سيرهم، ويتعرض لما يتعرضون له من الأخطار؛ "وكان همه الوحيد ألا يسمح لإنسان ما أن يفوقه في حكمته وشجاعته (19) ". ولم يكن يؤمن بآلهة الرومان، ولكنه يؤمن بالخرافات. وفيما عدا هذا كان الرجل من أكثر الرومان واقعية كما كان أشدهم قسوة، خياله ومشاعره خاضعة لسلطان عقله. ومما قيل عنه أنه كان نصف أسد ونصف ثعلب، وأن الثعلب فيه كان أشد خطراً من الأسد (20). قضى نصف أيامه في ميادين القتال، وقضى العشر السنين الأخيرة منها في الحروب الأهلية، ولكنه رغم هذا ظل محتفظاً بفكاهته ومرحه إلى آخر أيام حياته، يوشى قسوته ووحشيته بكتابة المقطوعات الشعرية الفكاهية، ويملأ رومه ضحكاً، خلق لنفسه مائة ألف عدو ومات في فراشه.
وكان يلوح أن هذا الرجل الذي يتألف من مزيج كيميائي من الفضائل والرذائل هو الذي تحتاجه البلاد لقمع الثورة في الداخل والقضاء على مثرداتس في الخارج. وكان من السهل على رجاله المدربين البالغ عددهم 35. 000 أن(9/257)
يبددوا شمل الأشتات غير المتجانسين الذين جمعهم ماريوس ارتجالاً في رومه. فلما أيقن ماريوس بحرج موقفه فر إلى إفريقيا؛ وقتل سلبسيوس إذ غدر به خادمه. وأمر صلا أن يدق رأس التربيون في منبر الخطابة الذي كان منذ قليل تتجاوب فيه أصداء خطبة البليغة؛ وحرر العبد مكافأة له على خدمته، ثم أمر بقتله جزاء له على غدره. وبينا كان جنوده يسيطرون على السوق العامة أصدر قراراً بألا يعرض أي أمر على الجمعية إلا بأذن مجلس الشيوخ، وإن يكون نظام الاقتراحات هو النظام المقرر في "دستور سرفيوس"، وهو الذي يجعل الأولوية والميزة للطبقات العليا؛ ثم عمل على أن يكون هو القنصل الأول وسمح بأن يختار نيوس أوكتافيوس Cnaeus Octavius وكرنليوس سننا Cornelius Cinna قنصلين (87)، ثم سار للقاء مثرادتس العظيم.
ولكنه لم يكد يغادر إيطاليا حتى قام النزاع من جديد بين طبقة العامة وطبقتي الأشراف والفرسان الممتازيين، ونشب القتال في السوق العامة بين أنصار أكتافيوس المحافظين وأتباع سنا المتطرفين، وقتل من الفريقين في يوم واحد عشرة آلاف رجل. وانتصر أكتافيوس في آخر الأمر وفر سنا لينظم الثورة في المدن المجاورة، ثم أبحر إلى إيطاليا بعد أن قضي الشتاء مختفياً، وأعلن تحرير الرقيق، وسار على رأس قوة مؤلفة من ستة آلاف رجل لقتال أكتافيوس في رومه. وانتصر الثوار وذبحوا آلافاً مؤلفة من أعدائهم، وزينوا منابر الخطابة برؤوس الشيوخ المقتولين، وساروا في الشوارع صفوفاً ورؤوس الأشراف فوق رماحهم، وأضحت هذه سنة جرى عليها الثوار فيما بعد. واستقبل أكتافيوس الموت في هدوء واطمئنان وهو جالس على كرسي التربيون مرتدياً ملابسه الرسمية. ودامت المذبحة خمسة أيام بلياليها، كما دام الإرهاب عاماً كاملاً، واستدعت محكمة الثورة الأشراف للمثول أمامها، وقضت بإدانتهم إذا كانوا قد قاوموا ماريوس وصادرت أملاكهم. وكانت إيماءة ماريوس تكفي لأن تطيح برأس أي إنسان(9/258)
مهما كانت منزلته، وكان يقتل في أغلب الأحيان لساعته قبل أن يبرح مكانه. وقتل بهذه الطريقة أصدقاء صلا جميعهم؛ وصودرت أملاكه، وعزل من قيادة الجيش، وأعلن أنه عدو الشعب. ولم يسمح بدفن الموتى بل تركت جثثهم في الشوارع تلتهما الكلاب والطيور الجارحة. وانطلق الأرقاء المحررون في البلدة ينهبون، ويفسقون، ويقتلون الناس بلا تمييز بينهم، وظلوا على هذه الحال حتى جمع سنا أربعة آلاف منهم، وأحاطهم بجنود من الغاليين وأمر بقتلهم عن أخرهم (21).
ثم اختير سنا قنصلاً مرة ثانية، كما اختير ماريوس للمرة السادسة، ولكن ماريوس توفي في الشهر الأول بعد توليه منصبه وهو في الواحدة والسبعين من عمره، منهوك القوى من فرط ما لاقى من الشدائد وضروب العنف. وانتخب فلريوس فلاكوس Valerius Flaccus قنصلاً بدلاً منه، وأصدر مرسوماً بإلغاء ثلاثة أرباع الديون جميعها، ثم زحف شرقاً على رأس جيش مؤلف من أثنى عشر ألفاً لخلع صلا من القيادة، وبقي سنا في رومه يتولى فيها الحكم بمفرده، فاستبدل بالجمهورية دكتاتورية، وعين جميع موظفي المناصب الكبرى، وعمل على أن ينتخب قنصلاً أربع سنين متتالية.
ولما غادر فلاكوس إيطاليا كان صلا يحاصر أثينا لأن هذه المدينة انضمت إلى مثرداتس في ثورته على رومه. ولما حبس عنه مجلس الشيوخ المال اللازم لمرتبات جنوده عمد إلى الهياكل والكنوز في أولمبيا وإبدورس ودلفي فنهبها ليمون بها جنده وينفق منها على حروبه. وفي شهر مارس من عام 86 اقتحم الجند أحد الأبواب في أسوار أثينا، وتدفقوا منه إلى داخل المدينة، وانتقموا لما عانوه من طول الحصار ومشاقه بأن عاثوا في المدينة فساداً، يقتلون وينهبون. ويقول أفلوطرخس "إن عدد القتلى كان يخطئه الحصر .. وقد جرت الدماء أنهاراً في شوارع المدينة، وخرجت منها إلى الضواحي النائية (22) ". وأخيراً أمر صلا(9/259)
بوقف المذبحة، وقال إنه "يصفح عن الأحياء إكراماً للموتى". ثم قاد جنوده نحو الشمال بعد أن استراحوا من متاعب القتال، وهزم قوة كبيرة عند قيرونية Chaeronea، وأركومينس Orchomenus، وطارد فلولها إلى آسيا مجتازاً مضيق الهلسبنت (الدردنيل)، وأخذ يعد العدة للقاء القسم الأكبر من جيش ملك بنت (1)، ولكن فلاكوس كان قد وصل في هذه الأثناء إلى آسيا على رأس جيشه، وأبلغ صلا مرة أخرى أن عليه أن يتخلى عن القيادة. ولكنه استطاع أن يقنع فلاكوس بأن يتركه حتى يتم حملته، وكانت نتيجة هذا أن قتل فلاكوس بيد ياوره فمبريا Fimbria، ثم نصب هذا الضابط نفسه قائداً للجيوش الرومانية كلها، وتقدم شمالاً لملاقاة صلا. فما كان من صلا أمام هذا الخرق إلا أن عقد مع مثرادتس صلحاً (85) ينزل هذا الملك بمقتضاه عن كل ما ظفر به من الفتوح في تلك الحرب، ويسلم إلى رومه ستين سفينة حربية، ويؤدي لها غرامة مقدارها ألفي تالنت. ثم اتجه صلا بعدئذ نحو الجنوب والتقى بمفيريا في ليديا، فانضمت جنود فمبريا إلى صلا، وانتحر قائدها وأصبح صلا سيد بلاد الشرق اليونانية، ففرض عليها غرامة حربية مقدارها عشرون ألف تالنت، وشرع يجبى الضرائب من مدائن أيونيا الثائرة. ثم سار مع جيشه بطريق البحر إلى بلاد اليونان، وزحف على بترى Patrae، ووصل إلى برنديز في عام 83. وحاول سنا أن يقف زحفه ولكن جنوده قتلوه.
وحمل صلا إلى خزائن رومه خمسة عشر ألف رطل من الذهب، ومائة وخمسة عشر رطلاً من الفضة، مضافة إلى ما حمله من النقود ومن روائع الفن التي خص بها نفسه. ولكن زعماء الدمقراطيين، وكانوا لا يزالون أصحاب الأمر والنهي في رومه، ظلوا يتهمونه بأنه عدو الشعب، ووصفوا المعاهدة التي عقدها مع مثرداتس بأنها مذلة قومية، واضطر صلا على الرغم منه أن يزحف بجنوده
_________
(1) يقصد ملك البلاد الواقعة على شاطئ البحر الأسود. المترجم.(9/260)
الأربعين ألفاً على رومه، وواصل هذا الزحف حتى بلغ أبوابها. وخرج كثيرون من الأشراف لينضموا إليه، وجاء إليه أحدهم وهو نيوس بمبي بفيلق يتألف كله من موالي أبيه وأصدقائه. وسار ابن ماريوس على راس جيش لملاقاة صلا، فهزم وفر إلى برانست، بعد أن أرسل إلى البريتور الشعبي يأمره بأن يقتل كل من لا يزال في العاصمة من زعماء الأشراف. وصدع الرجل بالأمر فجمع مجلس الشيوخ وقتل جميع هؤلاء الزعماء وهم جلوس في مقاعدهم أو في أثناء فرارهم. ثم جلت القوات الديمقراطية عن رومه ودخلها صلا دون أن يلقي مقاومة، ولكن جيشاً من السمنيين قوامه مائة ألف مقاتل زحف من الجنوب وانضم إلى فلول القوات الديمقراطية ليثأر للولايات الإيطالية ويغسل عار الهزيمة التي منيت بها في "الحرب الاجتماعية". وخرج صلا لملاقاتهم وانتصر عليهم عند باب كلين Colline بجيشه البالغ خمسين ألفاً في معركة تعد من أشد معارك التاريخ القديم هولاً، جرت فيها الدماء أنهاراً. وبعد أن تم له النصر أمر بقتل ثمانية آلاف من الأسرى رمياً بالسهام بحجة أنهم وهم أحياء يسببون له من المتاعب أكثر مما يسببون له منها وهم أموات. ورفعت رؤوس من أسر من الزعماء على أسنة الرماح أمام أسوار براتست، حيث كان آخر جيوش الديمقراطيين محصوراً. ثم سقطت براتست، وانتحر ماريوس الصغير، وعرض رأسه مسمراً في السوق العامة- وهو عمل كانت السوابق الكثيرة قد جعلته في نظر الناس أمراً مألوفاً مشروعاً.
ولم يجد صلا بعدئذ صعوبة في إقناع مجلس الشيوخ بأن ينصبه دكتاتوراً، فلما تم له ذلك أصدر من فوره حكماً بإعدام أربعين من الشيوخ، وألفين وستمائة من رجال الأعمال، وكان هؤلاء الرجال ممن أعانوا ماريوس عليه وابتاعوا أملاك الشيوخ الذين قتلوا في أثناء حكم المتطرفين. وعرض صلا مكافآت لمن يبلغونه عن أسماء هؤلاء الرجال، كما عرض مكافآت قدرها اثنا عشر ألف دينار (7200 ريال أمريكي) على من يأتونه بالمحكوم عليهم أمواتاً كانوا أو أحياء. وزينت السوق(9/261)
العامة برؤوس القتلى وبقوائم بأسماء المحكوم عليهم تتجدد من آن إلى آن، ولم يكن يسع المواطنين إلا الاطلاع عليها بعد الفينة والفينة ليعرفوا مصيرهم أهو الموت أم الحياة. وانتشرت أهوال المذابح والنفي ومصادرة الأملاك من رومه إلى الولايات، وكان ضحاياها هم الثوار الإيطاليين وأتباع ماريوس أينما وجدوا. وكان عدد من قتلوا في هذا الإرهاب الأرستقراطي حوالي أربعة آلاف وسبعمائة نفس. ويصف أفلوطرخس هذا الإرهاب بقوله: "وكان الأزواج يذبحون بين أحضان زوجاتهم، والأبناء في جحور أمهاتهم". وقد حكم على كثيرين ممن وقفوا على الحياد أو كانوا من المحافظين، فمنهم من قتل ومنهم من نفي، وقيل إن صلا قد فعل بهم ذلك لحاجته إلى أموالهم، ينفقها على جنوده أو في ملذاته، أو يكافئ بها أصدقاءه. وكانت الأملاك المصادرة تباع لمن يعرض فيها أغلى الأثمان، أو للمقربين ذوي الحظوة عند صلا، وأضحت هذه الأملاك أساساً لثراء كثيرين من الناس أمثال كراسس Crassus وكتلين Catiline. واستخدم صلا حقوقه الدكتاتورية في إصدار طائفة من المراسيم- تعرف بالقوانين الكرنيلية نسبة إلى العشيرة التي ينتمي إليها- كان يرجو أن ينشئ بها دستوراً أرستقراطياً يظل دستور رومه طوال حياتها. وأراد أن يسد ما طرأ على عدد مواطني رومه من النقص بسبب الموت، فأعطى حق المواطنين لكثير من الأسبان والكلت ولبعض الأرقاء السابقين، فأضعف من سلطان الجمعيات بحشد هؤلاء الأعضاء الجدد فيها وهم المدينون له بعضويتها، وبتحديد القانون القديم القاضي بألا يعرض قانون على الجمعية إلا بموافقة مجلس الشيوخ. ثم عمل على وقف نزوح الإيطاليين إلى رومه فوقف توزيع الغلال من قبل الدولة على الأهلين ثم قلل ازدحام السكان في المدينة بتوزيع الأراضي الزراعية على اثنى عشر ألفاً من جنوده الأقدمين. وأراد أن يمنع القنصل الذي يختار لمنصبه جملة مرات متتالية أن يكون دكتاتوراً فعلياً، فأصر على تنفيذ السنة القديمة التي كانت تحرم على أي موظف أن يشغل منصبه مرة(9/262)
ثانية إلا بعد مضي عشر سنوات على خروجه منه في المرة السابقة. وأنقص مكانة التربيون بتقييد حقه في الرفض وحرمان التربيون السابق من حق التعيين في أي منصب من المناصب الكبرى. واسترد من رجال الأعمال حقهم الذي كان مقصوراً عليهم في أن يكونوا محلفين في المحاكم العليا، ورد هذا الحق إلى مجلس الشيوخ، واستبدل بنظام الالتزام في الضرائب نظام جباتها من الولايات نفسها وإرسالها إلى خزانة الدولة مباشرة. ثم أعاد تنظيم المحاكم، وزاد في عددها ضماناً لسرعة البت في القضايا؛ وحدد اختصاصها ومدى اختصاصها ومدى سلطتها تحديداً دقيقاً، ورد إلى مجلس الشيوخ كل ما كان له قبل ثورة ابني جراكس من مزايا تشريعية وقضائية وتنفيذية واجتماعية، وحق أعضائه في لبس زي خاص. وقد فعل صلا كل هذا ليقينه أن الحكم الملكي أو الأرستقراطي هما اللذان يصلحان دون غيرهما من النظم لحكم الإمبراطوريات حكماً حازماً حكيماً؛ ثم عمل على زيادة عدد أعضاء مجلس الشيوخ إلى الحد المقرر، فأجاز للجمعية القبلية أن ترقي إلى عضويته ثلاثمائة من طبقة "الفرسان"، وأراد أن يبرهن على ثقته بعدالة هذا الإجراء الشامل واطمئنانه له فسرح جيوشه وقرر ألا يسمح ببقاء جيوش في إيطاليا كلها. وبعد أن ظل حاكماً بأمره عامين تخلى عن سلطته بأجمعها، وأعاد الحكم القنصلي، واعتزل الحياة العامة (عام 80 ق. م).
وكان في حياته الجديدة آمناً على نفسه، لأنه قد قتل كل من يستطيعون الإئتمار به. ولذلك سرح حرسه وقواده، وكان يسير في السوق العامة لا يخشى أذى، وعرض أن يفسر أعماله الوطنية لكل مواطن يطلب إليه أن يفسرها له. ثم ذهب ليقضي أيامه الأخيرة في قصره الصغير في كومي، بعد أن مل الحرب والسلطان والمجد، ولعله قد مل أيضاً صحبة الناس، فأحاط نفسه بالمغنين والمغنيات والراقصين والراقصات، والممثلين والممثلات، وأخذ يكتب شروحه Commentarii ويتسلى بصيد الحيوان والسمك، والانهماك في الطعام والشراب. وأطلق عليه الناس(9/263)
من ذلك الوقت اسم "صلا السعيد" لأنه انتصر في كل معركة، واستمتع بكل لذة، واستحوذ على كل سلطة، وعاش عيشة لا يساوره فيها خوف ولا ندم، وتزوج خمس نساء طلق منهن أربعاً واستكمل متعته بالمحاظي، ولما بلغ الثامنة والخمسين من عمره أصيب بخراج في القولون بلغ من شدته "أن اللحم النتن استحال قملاً، بلغ من الكثرة حداً كان لابد معه من استخدام كثير من الرجال والنساء لقتله، ولكن القمل أخذ يزداد ويتضاعف حتى لم تتلوث به ثيابه، وحماماته، وآنيته فحسب، بل تلوث به أيضاً طعامه نفسه (23) " على حد قول أفلوطرخس. ومات صلا على أثر نزيف في الأمعاء، ولم يكد يقضي في عزلته عاماً واحداً (78 ق. م) ولم يفته أن يملى قبريته قبل وفاته: "لم يخدمني قط صديق، ولم يسئ إلي أبداً عدو، إلا جزيت الأول على خدمته والثاني على إساءته الجزاء الأوفى".(9/264)
الباب السابع
الحركة الرجعية الألجركية
77 - 60 ق. م
الفصل الأول
الحكومة
على أن صلا قد أخطأ مرتين بإسرافه في الكرم. وكان خطؤه الأول أنه أبقى حياة رجل كان ابن عدو له وابن أخي عدو آخر. ذلك هو كيوس يوليوس قيصر المرح النابه الذي كان يوشك أن يبدأ العقد الثالث من عمره في سني الإرهاب. وكان صلا قد طلب إعدامه فيمن طلب إعدامهم، ولكنه عفا عنه استجابة لشفاعة أصدقائه وأصدقاء الشاب. على أنه لم يكن مخطئاً في حكمه حين قال: "إن هذا الشاب هو ماريوس مكرراً". ولعله أخطأ كذلك إذ عجل باعتزال الحياة السياسية وأسرف في الملاذ فقرب إسرافه أجله. ولو أنه أوتى من الصبر وبعد النظر بقدر ما أوتى من القسوة والشجاعة لأنجى رومه من الفوضى التي ضربت إطنابها فيها خمسين عاماً، ولأمكنها أن تستمع في عام 80 ق. م بالأمن والسلام والنظام والرخاء التي أعادها إليها أغسطس قيصر حين عاد إليها من أكتيوم، ولكان ما عمله أغسطس خلقاً وإبداعاً لا إرجاعاً للقديم.
ولم تكد تمضي على وفاته عشر سنين حتى ذهبت كل أعماله. ذلك أن الأشراف قد غرهم ما أوتوا من نصر في صراعهم المرير، فأهملوا واجبات الحكم وسعوا لكسب المال من طريق التجارة لينفقوه في ترفهم وشهواتهم. واستمر(9/265)
النزاع بين الأشراف والعامة قوياً مريراً لا ينقصه إلا فرصة تتاح حتى يلجأ الطرفان فيه إلى أشد ضروب العنف. وكان الأشراف: "خيار الناس" optimates يستمسكون بنبلهم، ولكن لم يكن معنى استمساكهم به أن يترفعوا بسبب هذا النبل عن ارتكاب الدنايا، بل كان معناه في نظرهم أن الحكم الصالح يتطلب قصر المناصب العليا في الدولة على الذين تولوها قبله سخروا منه وسموه "رجلاً حديثاً" Novus homo أي "حديث النعمة"، وكان من هؤلاء الحديثي النعمة ماريوس وشيشرون. أما العامة فكانوا يطلبون أن تتاح الفرصة لذوي المواهب والكفايات، وأن تكون السلطة كلها في يد الجمعيات، وأن توزع الأراضي الحرة على الفقراء والجنود المسرحين. ولم يكن الأشراف ولا العامة ممن يؤمنون بالديمقراطية، بل كانت كلتا الطبقتان تسعى لأن تكون هي الحاكمة بأمرها، وتلجأ إلى ضروب الإرهاب والفساد والرشوة على ملأ الناس بلا خوف ولا وخز ضمير. واستحالت الجماعات التي كانت من قبل جمعيات خيرية لتبادل البر بين أعضائها وكالات لبيع أصوات العامة في الانتخابات كُتَلاً. وارتقت عملية ابتياع الأصوات حتى تطلبت درجة كبرى من التخصص، وطائفة من الإخصائيين، فكان منهم المشترون divisores الذين يبتاعون الأصوات، والوسطاء interpretes والحراس sequestres الذين يحتفظون بالمال حتى تعطي الأصوات (2). وفي أقوال شيشرون وصف للمرشحين وهم يسيرون بين الناخبين في حقل المريخ وأكياس نقودهم في أيديهم (3). واستطاع بمبي أن يحمل الناس على اختيار صديقه أفرانيوس Afranius قنصلاً بدعوة زعماء القبائل إلى حدائقه، وفيها أعطى كل زعيم أثمان أصوات قبيلته (4). وبلغ ما كان يُستدان من المال لشراء أصوات الناخبين حداً رفع سعر فائدة الأموال التي تقترض في أثناء الحملة الانتخابية إلى ثمانية في المائة في الشهر الواحد (5).(9/266)
وكانت المحاكم نفسها- بعد أن اختص بها أعضاء مجلس الشيوخ- لا تقل فساداً عن عمليات الانتخاب، وفقدت الأَيمان كل ما كان لها من قيمة في الشهادة، وفشت شهادة الزور كما فشت الرشوة. ولما أن اتُّهم ماركس مسالا Marcus Messal بأنه ابتاع بالمال الأصوات التي انتخب بها قنصلاً في عام 53 برئ بالإجماع، وإن كان أصدقاؤه أنفسهم شهدوا عليه (6) واعترفوا بجريمته (6). وكتب شيشرون لابنه يصف هذه الحال بقوله: "لقد أصبح المال أساس كل المحاكمات، ولذلك لن يحكم على إنسان إلا في جرائم القتل" (7)، وكان خليقاً به أن يقول "إنسان ذي مال"، "فبغير المال وبغير المحامي القدير" كما قال محام آخر في ذلك الوقت "فديتهم إنسان ساذج برئ بأية جريمة لم يرتكبها قط، ثم يحكم عليه ما في ذلك شك" (8). ولما برئ لنتولس صوراً Lentulus Sura بأغلبية صوتين حزن أشد الحزن على ما أنفق من مال في رشوة قاض أكثر من العدد الذي كان يجب عليه أن يرشوه (9). ولما أدان المحلفون من أعضاء مجلس الشيوخ البريتور كونتس كليدس Quintus Calidus قال "إنهم لم يكن في وسعهم مع احتفاظهم بشرفهم أن يطلبوا أقل من ثلاثمائة ألف سسترس إذا أريد منهم أن يحكموا على بريتور" (10).
وكان ولاة الأقاليم من أعضاء الشيوخ السابقين، وجباة الضرائب، والمرابون، ووكلاء التجار، يبتزون الأموال من الأقاليم تحت حماية هذه المحاكم ابتزازاً لو سمع به أسلافهم لغضبوا له غيرةً من هؤلاء وحسداً لهم. ولسنا ننكر أنه كان من بين حكام الأقاليم طائفة من الكفاة الأشراف، أما كثرتهم العظمى فماذا عسى أن ينتظر منها؟ لقد كانوا يعملون بلا أجور، وكانت العادة المألوفة أن يظلوا في مناصبهم عاماً واحداً، وكان عليهم في خلال هذه الفترة القصيرة أن يجمعوا من المال ما يكفي للوفاء بديونهم، وابتياع منصب جديد، وأن يضمنوا لأنفسهم فيما بعد عيشاً رغداً يليق بالروماني العظيم. ولم يكن في البلاد(9/267)
من يحول بينهم وبين أطماعهم إلا مجلس الشيوخ، وكان في وسع الحكام أن يثقوا بأن الشيوخ وهم سادة مهذبون يمنعهم كرم محتدهم أن يكونوا سبباً في لفظ غير محبوب لأنهم كلهم قد فعلوا مثل ما فعله هؤلاء الحكام، أو يرجعون أن يفعلوا مثله بعد قليل. ولنضرب لذلك مثلاً يوليوس قيصر نفسه، فقد ذهب ليحكم أسبانيا في عان 61 ق. م وعليه من الديون ما يعادل 7. 500. 000 ريال أمريكي. فلما عاد في عام 60 ق. م وفى بهذا الدين كله دفعة واحدة. وكان شيشرون يظن أنه رجل شريف متزمت في شرفه إلى حد يؤلمه أشد الألم، لأنه لم يجمع في السنة التي ولى فيها حكم قليقية أكثر من 110. 000 ريال أمريكي، وكان يملأ رسائله بالدهشة من اعتداله.
وكان القواد الذين يفتحون الولايات أول من يستفيد منها. فقد كان لوكلس بعد حروبه في الشرق مضرب المثل في الترف؛ وجاء بمبي من تلك البلاد نفسها بما قيمته أحد عشر مليون ريال أمريكي لنفسه ولأصدقائه، وإذا قلنا إن قيصر جمع لنفسه من بلاد الغالة ملايين يخطئها الحصر فإن قولنا هذا لا يعدو الحقيقة إلى المجاز. ويلي هؤلاء الحكام في ابتزاز المال الملتزمون وكانوا يجمعون من الأهلين ضعفي ما يرسلونه إلى رومه. فإذا عجزت مدينة أو ولاية عن أن تجمع من سكانها ما يكفي من المال لأداء ما يجب عليها أن تؤديه من الخراج أو الضرائب أقرضها الماليون أو الساسة الرومان ما تحتاجه من المال بفائدة تتراوح بين أثنى عشر وأربعين في المائة، على أن يَجْمع منها رأس المال وفائدته، إذا لزم الأمر، الجيش الروماني نفسه بحصارها أو فتحها أو نهبها. وقد حرم مجلس الشيوخ على أعضائه أن يشتركوا في هذه القروض، ولكن عظماء الأشراف أمثال بمبي، والصالحين منهم أمثال بروتس، لم يعدموا وسيلة للاحتيال على القانون باستخدام الوسطاء في إقراض المال. وحسبنا دليلاً على ما وصلت إليه هذه الحال أن أقاليم آسيا(9/268)
الرومانية قد أدت إلى الرومان فوائد على ما اقترضته منهم ضعفي ما أدته إلى الملتزمين والى الخزانة الرومانية (11). وفي عام 70 ق. م بلغ ما أدته وما لم تؤده مدن آسيا الصغرى من فوائد على الأموال التي اقترضتها للوفاء بمطالب صلا في عام 84 ستة أضعاف هذه القروض. ولم تجد العشائر والجماعات وسيلة لأداء أرباح هذه الدين الفادح إلا أن تبيع أبنيتها العامة وتماثيلها، وأن يبيع الآباء أطفالهم في أسواق الرقيق، وذلك لأن المدين الذي يعجز عن أداء دينه كان يعذب على العذراء، فإذا ما بقي في الولاية شيء من موارد الثروة بعد هذا كله هرعت إليها من إيطاليا وسوريا وبلاد اليونان جماعات من المقاولين، تعاقد معهم مجلس الشيوخ على "تنمية" ثروة الولاية المعدنية والخشبية وغيرهما. وكانت التجارة تسير على الدوام في ركاب العلم الروماني، فمن التجار من كانوا يشترون الأرقاء، ومنهم من كانوا يشترون السلع أو يبيعونها، ومنهم من كانوا يشترون الأرض وينشئون في الأقاليم ضياعاً أوسع رقعة من ضياع إيطاليا. وفي ذلك الوقت يقول شيشرون في عام 69 ق. م مبالغاً في قوله كعادته: "لا يستطيع رجل من الغاليين أن يقوم بعمل تجاري إلا عن طريق مواطن روماني؛ ولا ينتقل درهم واحد من يد إلى يد دون أن يمر بسجل أحد الرومان".
وقصارى القول أن التاريخ القديم لم يشهد في جميع أدواره حكومة تضارع حكومة ذلك العهد في ثرائها وسطوتها وفسادها.(9/269)
الفصل الثاني
أصحاب الملايين
ورضى رجال الأعمال بحكم مجلس الشيوخ لأنهم كانوا أكثر من الأشراف استعداداً لاستغلال موارد الولايات، وبهذا تم "ائتلاف الطبقات" أو تعاون الطبقتين العاليتين وهو المثل الأعلى الذي كان ينادي به شيشرون والذي أصبح حقيقة واقعة في شبابه؛ فقد اتفقت الطبقتان على الاتحاد والغزو. وكان رجال الأعمال ووكلاؤهم المعتدون يملأون أروقة رومه وطرقاتها، وتغص بهم أسواق الولايات وحواجزها. وكان رجال المصارف يصدرون خطابات الاعتماد إلى الهيئات المالية المرتبطة بهم (13)، ويقرضون المال لكل غرض من الأغراض حتى لخوض غمار الحياة السياسية. وكان التجار يتذبذبون بين العامة والأشراف فيعينون بنفوذهم الأولين إذا زادت أنانية الشيوخ، ثم يعودون إذا حاول الزعماء الديمقراطيون أن يبروا بوعودهم التي قطعوها للطبقات الفقيرة قبل الانتخاب.
ويعد كراسس Crassus، وأتكس Atticus ولوكلس Lucullus نماذج صادقة لمظاهر الثراء الروماني الثلاثة: الحصول عليه، والمضاربة به، ثم استخدامه للتنعم والترف. كان ماركس ليسينيوس كراسس Marcus Licinius Crassus ينحدر من أسرة شريفة. فقد كان أبوه خطيباً مصقعاً ذائع الصيت، وقنصلاً، ورقيباً، حارب إلى جانب صلا ثم فضل الانتحار على التسليم لماريوس. وكافأ صلا ابنه بأن سمح له بشراء أملاك المحكوم عليهم المصادرة بطريق المساومة. وكان ماركس في شبابه قد درس الأدب والفلسفة، واشتغل بجد في الأعمال القضائية، ولكن رائحة المال أسكرته في تلك الأيام الأخيرة، فأنشأ فرقة لإطفاء الحريق- وكان ذلك عملاً جديداً لم تألفه رومه من قبل.(9/270)
وكانت إذا شبت النار سارعت إلى مكانها، وعرضت أن تُستأجر لإطفائها، أو ابتاعت المباني المعرضة لخطر الحريق بأثمان اسمية، ثم أطفأت الحريق. وحصل كراسس بهذه الطريقة على مئات من البيوت والمساكن كان يؤجرها بأجور مرتفعة. واشترى كذلك عدداً من مناجم الدولة حين أخرجها صلا عن نطاق الأملاك العامة. وما لبثت ثروته أن ارتفعت بهذه الطريقة من سبعة ملايين سسترس إلى مائة وسبعين مليوناً (أي نحو ثروته 25. 500. 000 ريال أمريكي) - أو ما يقرب من جميع دخل الخزانة العامة في عام كامل. ويقول كراسس إنه لا يحق لإنسان ما أن يعد نفسه غنياً إذا لم يكن في مقدوره أن يجند لنفسه جيشاً، ويعد له كل ما يلزمه من سلاح وعتاد، ويحتفظ به (14). وقد شاءت الأقدار أن يكون هلاكه بسبب ثرائه الذي يحدده هذا التحديد. ذلك أنه أن أصبح أغنى رجل في رومه ظل حليف الشقاء، شديد الرغبة في أن يشغل منصباً عاماً، وأن يكون والياً على أحد الأقاليم، وقائداً لحملة أسيوية. ومن أجل ذلك كان يطوف الشوارع يستجدي الناس أصواتهم في ذلة وخضوع، ويحتفظ بالأسماء الأولى لعدد لا حصر له من المواطنين، ويتظاهر بشظف العيش، ويعمل على ضم ذوي النفوذ من رجال السياسة إليه بإقراضهم المال من غير فائدة على شرط أن يؤدوه له متى طالبهم بأدائه. على أنه رغم حرصه وطمعه كان طيب القلب، لا يصد عن بابه من يريد لقاءه، يكرم أصدقاءه إلى أقصى حدود الكرم، يسدي النصيحة لكلا الحزبين السياسيين بالحكمة التي امتاز بها أمثاله من الرجال على مدى الأيام. وقد حقق في حياته كل آماله، فاختير قنصلاً في عام 70 ق. م، واختير إلى هذا المنصب مرة أخرى في عام 55، وحكم سوريا، وأعان على تجيش الجيش العظيم الذي قاده لفتح بارثيا Parthia. وهُزم في كارهي Carrhae وأسر غدراً وخيانة، ثم قتل قتلة وحشية في عام 53، فقطع رأسه، وصب أعداؤه الذهب المصهور في فمه.
وكان تيتس بمبونيوس أتكس Titus Pomponius atticus أصدق(9/271)
أرستقراطية من كراسس، ومن طراز من أصحاب الملايين أسمى من طرازه: فقد كان يضارع في الشرف والأمانة ماير أنشل سلسل آل رتشيلد Meyer Anschel of the rot Schil، ولا يقل علماً عن لورنزوده مديشي Lerenzo de Medici وكان حاذقاً في الشؤون المالية حذق فلتير Voltaire. ونحن نسمع به في بادئ الأمر وهو يطلب العلم في أثينا حين سحر بحديثه وبقراءته للشعر اليوناني واللاتيني لب صلا، فألح عليه هذا القائد السفاح أن يعود معه إلى رومه ليكون فيها رفيقاً له، فأبى تيتس أن يستجيب لإلحاحه. وكان عالماً ومؤرخاً، كتب تاريخاً موجزاً للعالم (15)، وعاش معظم حياته في الأوساط الفلسفية في أثينا، وسمى أتكس لعلمه الغزير ببلاد أتكا وحبه العظيم لأهلها. وورث الرجل عن أبيه وعمله أموالاً تبلغ قيمتها نحو 960. 000 ريال أمريكي استثمرها في مزرعة عظيمة لتربية الماشية في إبيروس Epirus وفي شراء الدور في رومه وتأجيرها، وفي تدريب المصارعين وأمناء السر وتأجيرهم، وفي نشر الكتب. وكان إذا تهيأت أسباب المشروعات النافعة أقرض المال بفوائد مجزية، ولكنه كان يقرض أثينا وأصدقاءه قرضاً حسناً من غير فائدة (16). وكان شيشرون وهورتنسيوس Hortensius وكاتو الأصغر يودعون عنده ما أدخره من المال، ويعهدون إليه تدبير شؤونهم، ويجلونه لبعد نظره واستقامته وعظم ما يؤديه إليهم من الأرباح.
وكان يسر شيشرون أن يستشيره فيما يبتاعه من البيوت، وفيما يختاره لتزيينها من التماثيل، وفيما يملأ به من مكتباته من الكتب. وكان أتكس يولم الولائم في قصد واعتدال، ويعيش في تواضع الأبيقوري الحق، ولكن بشاشته لأصدقائه وحديثه المطرب المثقف جعلا بيته ملتقى العظماء من رجال السياسة. وكان يعاون الأحزاب جميعها، وقد نجا من اضطهادها جميعاً، ولما بلغ السابعة والسبعين من عمره، وأصيب بدء عضال آلمه ويئس من شفائه منه أمات نفسه جوعاً.
وأبحر لوسيوس لوسينيوس لوكلس Lucius Lucinius Lueullus وهو(9/272)
رجل من أسرة من كبريات الأسر الشريفة، عام 74 ليتم ما بدأه صلا من حرب مثرداتس. وظل ثماني سنين يقود جنوده القلائل في شجاعة ومهارة حتى أوشكت حملته أن تظفر بالنصر المؤزر على عدوه؛ ثم تمرد جنوده المتعبون، فقادهم هو وهم مرتدون من أرمينيا إلى أيونيه وسط مخاطر لا تقل عن المخاطر التي خلدت اسم زينوفون Zenophon. ولما أفلحت الدسائس في إبعاده عن قيادة الجيش، عاد إلى رومه حيث ضي بقية حياته في هدوء وترف ونعيم. وشاد على تل بنسيوس Pincius قصراً واسع الأبهاء، وبوائك، ودور كتب، وحدائق. وكان له في تسكولم Tusculum ضيعة تمتد عدة أميال، وابتاع له في ميسينيوم قصراً صغيراً ذا حديقة بعشرة ملايين سسترس (أي نحو مليون ونصف مليون ريال أمريكي)، وحول جزيرة نسيدا Nesida بأكملها إلى مصيف له لا يشاركه فيه سواه. وذاعت شهرة حدائقه بما حوت من غروس لم يكن لها نظير من قبل في رومه. من ذلك أنه هو الذي أدخل شجرة الكرز إلى إيطاليا من بلاد بنتس، ومن إيطاليا نقلت هذه الشجرة إلى شمالي أوربا والى أمريكا. وكانت موائده من الحادثات الهامة التي يتناقل الناس أخبارها في رومه طوال العام. ولقد حاول شيشرون في يوم من الأيام هو وجماعة من أصدقائه ليتعشى معه ذات ليلة، ولكنه استحلف لوكلس ألا يخبر بذلك أحداً من خدمه. ووافق لوكلس على هذا ولم يشترط إلا ن يسمح له بأن يخبر رجاله بأنه سيتعشى في "قاعة أبلون تلك الليلة".
ولما أقبل شيشرون ومن معه وجدوا مائدة فخمة. ذلك أنه كان للوكلس عدة حجرات للطعام في قصره بالمدينة يختار كل واحدة منها حسب فخامة الوليمة. وكانت قاعة أبلون مخصصة بالوجبات التي تتكلف الواحدة(9/273)
منها مائتي ألف سسترس أو أكثر (17). ولكن لوكلس لم يكن بالرجل النهم، وكانت بيوته بمثابة معارض لروائع الفن المختارة أحسن اختيار، وكانت مكتباته مورداً عذباً للعلماء والأصدقاء، وكان هو نفسه ضليعاً في الآداب القديمة وفي الفلسفة على اختلاف أنواعها. وكان يفضل منها بطبيعة الحال فلسفة أبيقور. وكان يسخر من حياة بمبي الشاقة المجهدة، ويرى أن حسب المرء طول حياته حملة حربية واحدة، وأن كل ما زاد على ذلك غرور لا خير فيه.
وحذا حذوه كثيرون من أثرياء رومه وإن لم يكن لهم ذوقه، وسرعان ما أخذ الأشراف والأثرياء يتنافسون في مظاهر الترف والنعيم، على حين كان وميض نار الثورة يلوح في الولايات المفلسة، والناس يموتون جوعاً في أكواخهم القذرة الحقيرة. وكان الشيوخ لا يستيقظون من نومهم إلا وقت الظهيرة، وقلما كانوا يحضرون جلسات المجلس. وكان بعض أبنائهم يتزينون بأزياء العاهرات، ويختالون في الطرقات كاختيالهن، على أجسامهم ثياب مطرزة مزركشة، وفي أرجلهم صنادل النساء، متعطرين متحلين بالجواهر، لا يقبلون على الزواج، وإذا تزوجوا عملوا على ألا يكون لهم أبناء، وينافسون شبان اليونان في التخنث. وكان الشيخ الواحد في رومه ينفق على بيته ما لا يقل عن عشرة ملايين سسترس. وقد بنى كلوديوس زعيم العامة قصراً كلفه 14. 800. 000. وكان المحامون أمثال شيشرون وهورتنسيوس Hortensius يتنافسون في تشييد القصور تنافسهم في الخطابة رغم قانون سنسيوس الذي يحرم الأجور القضائية. وكانت حدائق هورتنسيوس تحوي أكبر مجموعة من الحيوانات في إيطاليا كلها. وكان لكل رجل ذي مقام منزل ذو حديقة في بايا Baiae أو بالقرب منها، حيث كان الأشراف يتمتعون بحمامات البحر وجمال خليج نابلي،(9/274)
ويطلقون لشهواتهم الجنسية العنان. وقامت قصور أخرى من نوعها على التلال المجاورة لرومه. وكان لكل ثري عدد من هذه القصور، فكان ينتقل من قصر إلى قصر في فصول السنة المختلفة. وكانت الأموال تنفق جزافاً في تزيينها من الداخل، وفي تأثيثها وشراء ما يلزمها وما لا يلزمها من الصحاف الفضية، وحسبنا أن نذكر أن شيشرون أنفق خمسمائة ألف سسترس على نضد من خشب الليمون. ولم يكن غريباً أن ينفق أمثاله مليون سسترس على نضد آخر من خشب السرو، ولقد قيل إن كاتو الأصغر، وهو الذي كان مضرب المثل في الفضائل الرواقية بأجمعها، قد ابتاع من مدينة بابل أغطية خوان بثمانمائة ألف سسترس (18).
وكان يقوم بالخدمة في هذه القصور جيوش من الأرقاء أخصائيون في أعمالهم المختلفة- منهم خدم حجرة السيد نفسه، ومنهم حاملو رسائله، وموقد ومصابيحه، وموسيقيوه، وأمناء سره، وأطباؤه، وفلاسفته، وطهاته. وأصبح الأكل وقتئذ أهم أعمال الطبقات العليا في رومه. وكان القانون الأخلاقي عندهم وهو قانون كتردورس القائل بأن: "الشيء الطيب هو ما له صلة بالبطن". وحسبنا دلالة على فهم أهل ذلك العصر وتفننهم في ملء بطونهم أن نذكر أن وليمة أقامها كاهن كبير في عام 63 ق. م وحضرها خليط من الجنسين منهم قيصر وعذارى فستا، كانت المشهيات فيها بلح البحر، وطيور الدج بالخنجل (الأسفراغ) والطيور السمينة، وفطائر البطلينوس (1)، وحشيشة القريض البحرية، وشرائح البطارخ والسمك الصدفي الأحمر، والطيور المغردة؛ ثم يجيء بعد هذا الطعام نفسه ويتكون من أثداء الخنازير، ورؤوسها، السمك، والبط المنزلي والبري، والأرانب، والدجاج، والفطائر والحلوى (19). وكانت الأطعمة الشهية النادرة تستورد من جميع أجزاء الإمبراطورية ومن البلاد الخارجية، فالطواويس تستورد
_________
(1) حيوان بحري. المترجم.(9/275)
من جزيرة ساموس Samos، والقطا من فريجيا. والكركي من أيونيا، والتن (التونة) من خلقدونية Chalcedon والشيق (1) من جاديز Gades، والبطلينوس من تارنتم Tarentum والدخس (2) من رودس. وكانت الأطعمة التي تنتجها إيطاليا نفسها تعد حقيرة بعض الشيء لا تليق إلا بالسوقة. وقد أولم الممثل أيزوبس Aesopus وليمة أكل فيها من الطيور المغردة ما ثمنه خمسة آلاف ريال أمريكي بنقود هذه الأيام (20). وظلت القوانين تصدر بتحريم الإسراف في الطعام، ولكن أحداً لم يكن يأبه بها. وحاول شيشرون أن يتقيد بهذه القوانين فلا يأكل إلا لاخضر المباحة شرعاً، وظل عشرة أيام يشكو زحار البطن".
وأنفقت بعض الثروة الجديدة في إقامة الملاهي الرحبة والألعاب على أوسع نطاق. من ذلك أن إيمليوس اسكورس Aemilius Scaurus شاد ملهى يحتوي ثمانية آلاف مقعد، وثلاثمائة وستين عموداً، وثلاثة آلاف تمثال، ومسرحاً ذا ثلاث طبقات وثلاثة صفوف من الأعمدة منها صف من الخشب، وصف من الرخام، وثالث من الزجاج. وتمرد عبيده لشدة ما أرهقهم من العمل فحرقوا الملهى بعد الفراغ من بنائه، وحملوه ديناً يبلغ مائة مليون ستسرس (23). وقدم بمبي في عام 55 ما يلزم من المال لإقامة أول ملهى حجري دائم في رومه- وكان يحتوي على 17. 500 مقعد، وعلى بستان فسيح ذي أروقة يتنزه فيها النظارة بين الفصول. وأقام اسكربيونيوس كوريو Scribonius Curio أحد قواد قيصر عام 53 ملهيين من الخشب كلاهما على شكل نصف دائرة يتصلان بظهريهما. وكان الملهيان يعرضان مسرحيات في الصباح، فإذا انتهى دار البناءان، والنظارة لا يزالون في مقاعدهم، على قطبيهما فاستحال نصفا الدائرتين مدرجاً،
_________
(1) نوع من السمك ويسمى أيضاً مرينة و"أبو مرينا".
(2) نوع آخر من السمك Sturgeon. المترجم.(9/276)
وأضحى المسرحان حلبة للمصارعة (24). ولم تبلغ الألعاب في بلد من البلاد أو في عصر من العصور من الكثرة وعظيم النفقة وطول الزمن مثل ما بلغته وقتئذ في رومه (25). وحسبنا دليلاً على ذلك أن ألعاباً أقامها قيصر اشترك فيها يوم واحد عشرة آلاف مجالد، وقتل فيها الكثيرون منهم. وعرض صلا قتالاً للأسود اشترك فيه مائة أسد، وعرض قيصر قتالاً آخر كان فيه أربعمائة، وعرض بمبي قتالاً كان فيه ستمائة. وكانت الوحوش في هذه الألعاب تقاتل الرجال والرجال يقاتل بعضهم بعضاً، والنظارة الذين تغص بهم الساحات يشاهدون مناظر الموت وهم مغتبطون.(9/277)
الفصل الثالث
المرأة الجديدة
كان ازدياد الثراء وفساد الأخلاق من أكبر العوامل في الانحلال الخلقي وانفصام رابطة الزواج. وظلت الدعارة منتشرة في البلاد رغم ازدياد التنافس من النساء ومن الرجال. وازداد عدد المواخير والحانات التي تأوي هؤلاء العاهرات زيادة جعلت بعض الساسة يلجئون في الحصول على أصوات الناخبين إلى اتحاد أصحاب المواخير (35). واصبح الزنى من الأمور العادية، وألفه الناس حتى لم يعد يستلفت أنظار إنسان ما غلا إذا استخدم للأغراض السياسية. ولم يكن ثمة امرأة موسرة إلا طلقت مرة على الأقل. ولم يكن اللوم في ذلك واقعاً على النساء، فقد كان أكبر أسباب انتشار الطلاق أن الزواج عند الطبقات العليا أصبح خاضعاً لمال وللسياسة. ذلك أن الرجال كانوا يختارون أزواجهم أو كانت الأزواج يخترن للشبان ليحصلوا منهن على أكبر البائنات أو على صلات يفيدون منها جاهاً ومالاً. وقد تزوج صلا وبمبي خمس مرات. وأراد صلا أن يضم بمبي إلى جانبه فأقنعه بالتخلص من زوجته الأولى والاقتران بإميليا ربيبة صلا، وكانت وقتئذ متزوجة وحاملاً. ووافقت إميليا على هذا الزواج مكرهة ولكنها ماتت في أثناء الوضع عقب انتقالها إلى بيت بمبي. وزوج قيصر ابنته يوليا Julia إلى بمبي ليضمن بذلك انضمامه إليه في الحلف الثلاثي. وأغضبت كاتو هذه الحال فوصفها بقوله "عن الإمبراطورية أصبحت توكيلاً لإدارة شؤون الزواج" (25). ولم تكن هذه الزيجات إلا زيجات سياسية، إذا تم النفع المرجو منها تطلع الزوج إلى زوجة أخرى يرقى على كتفيها إلى منصب أعلى أو مال أوفر. ولم يكن ثمة حاجة إلى سبب يبديه، وحسبه أن يرسل غليها خطاباً يبلغها فيه أنها أصبحت حرة في شؤونها كما أصبح(9/278)
هو حراً في شؤونه. وامتنع بعض الرجال عن الزواج امتناعاً تاماً، وكانت حجتهم في هذا أن المرأة الجديدة قد ذهب حياؤها وأسرفت في حريتها، واكتفى كثيرون منهم باتخاذ السراري والإماء. وكان الرقيب متلس المقدوني Metellus Macedonicus (131) يرجو الرجال أن يتزوجوا وينجبوا البناء لأن هذا واجب تفرضه عليهم الدولة مهما ضاقت نفوسهم بالزوجات (26)، ولكن عدد الأعزاب والزيجات العقيمة أخذ بعد هذا النصح يزداد أسرع قبله، وأصبح الأطفال من الكماليات التي لا يطيقها إلا الفقراء.
وهل تلام المرأة وهي تعيش في هذه الظروف إذا استخفت بقسم الزواج ووجدت في الصلات الجنسية غير المشروعة الحب والعطف اللذين لم ينلها إياهما الزواج السياسي. لقد كانت هناك بطبيعة الحال كثرة من النساء الصالحات حتى بين الأغنياء أنفسهم، ولكن الحرية الجديدة أخذت تحطم ما كان للأب من سيطرة تامة على أسرته Patria Potestas كما أخذت تحطم كيان الأسرة بأكمله. وخلعت النساء الرومانيات العذار، وكان لهن من الحرية مثل ما للرجال سواء بسواء، واتخذن لهن أثواباً من الحرير المهلل الشفاف المستورد من الهند والصين، وأرسلن رسلهن يجوبون أسواق آسيا ليأتوهن بالحلي والعطور، واختفى الزواج الذي يتبعه انتقال الزوجة إلى دار زوجها Marriahe cum manu، وكانت النساء يطلقن أزواجهن كما يطلق الرجال زوجاتهم. وأخذت طائفة متزايدة من النساء تنفس عن نفسها بالأعمال الثقافية، فتعلمن اللغة اليونانية، ودرسن الفلسفة، وكتبن الشعر، وألقين المحاضرات العامة، ولعبن وغنين ورقصن، وأقمن الندوات الأدبية واشتغل بعضهن بالتجارة والشؤون المالية، ومارست فئة منهن صناعة الطب أو المحاماة.
وكانت كلوديا Clodia زوج كونتس كاسليوس متلس Quintus Caecilius Metellus اشهر النساء اللاتي أكملن ما في أزواجهن من نقص بالقيام بطائفة(9/279)
من أعمال الفروسية والشهامة، فقد تمتلكها نزعة قوية للدفاع عن حقوق النساء، وهزت مشاعر الجيل القديم بسيرها بعد زواجها مع أصدقائها الرجال دون أن يكون معها مَحْرَم، وكانت تستقبل تعرف من أصدقائها وتقبلهم أحياناً على ملأ من الناس، بدل أن تغض الطرف وتنزوي في عربتها شأن النساء الراقيات في عرف تلك الأيام. وكانت تولم الولائم لأصدقائها من الرجال، وكان زوجها يعتمد الغياب في أثنائها كما كان يفعل بعدئذ ماركيز ده شاتليه Marquis ds chatelet. ويصف شيشرون- وهو الرجل الذي لا يوثق بوصفه- "حبها، وزناها، وعهرها، وأغانيها، وما كانت تقيمه من حفلات موسيقية وولائم الطعام، ومقاصف الشراب في بايا Baiae براً وبحراً" (37). وكانت في الحق امرأة ماهرة إذا زلت في ظرف وكياسة، يعجز الإنسان عن ألا يزل معها، ولكنها أخطأت في الاستخفاف بأنانية الرجال. لقد كان كل واحد من عشاقها يحب أن يستأثر بها حتى تفتر شهوته، كما كان كل واحد منهم يصبح عدوها الألد حين تتخذ لها صديقاً غيره. ومن أجل ذلك لطخها كتلس Cutullus ( إذا كانت هي التي يسميها لزبيا Lesbia) بالنكات البذئية، وذكرها كاليوس Caelius في حديث له عن الذي تُبتاع به أفقر العاهرات، ووصفها كاليوس في المحكمة بأنها تُبتاع بربع آس Quadrantaria ( أي ما يعادل 1. 5 slash100 من الريال الأمريكي). ذلك بأنها كانت قد اتهمته بأنه حاول قتلها بالسم، واستأجر هو شيشرون للدفاع عنه، ولم يتورع الخطيب المدره عن اتهامه بالفسق مع محارمها وبالقتل، وقال في خلال دفاعه إنه رغم هذا "ليس عدواً للنساء وأولى له ألا يكون عدواً لامرأة هي صديقة لكل الرجال". وبرئ كتلس مما اتهم به وجوزيت كلوديا بعض الجزاء لأنها أخت ببليوس كلوديوس أشد الزعماء تطرفا في رومه وألد أعداء شيشرون.(9/280)
الفصل الرابع
كاتو ثانٍ
وقام في وسط هذا الفساد والانحلال رجل كان بقية من رجال الأيام الخالية وداعية للسير على سننها. ذلك هو ماركس بورسيوس كاتو Marcus Porcius Cato الأصغر. وكان قد خرج على مبدأ من مبادئ جده الأعلى فدرس اللاتينية وأفاد منها تلك الفلسفة الرواقية التي بعثت فيه مع عقيدته الجمهورية إخلاصه القوي الذي لم يفارقه قط طول حياته. وورث كاتو من المال مائة وعشرين تالنتا (أي ما يعادل 432. 000 ريال أمريكي) ولكنه عاش عيشة بسيطة كلها جد ونشاط، وكان يقرض المال ولكنه لا يتقاضى عن قرضه فوائد. وكانت تعوزه فكاهة جده الأعلى الخشنة، وقد أزعج الناس بما كان يتصف به في ظنهم من الاستقامة الصارمة العنيدة والاستمساك بالمبادئ استمساكاً لا يتفق في رأيهم مع روح العصر الذي يعيش فيه، ذلك أن حياته نفسها كانت اتهاماً لحياتهم لا يغفرونه له، وكانوا يتمنون أن لو مال قليلاً نحو الرذيلة، ولو لم يكن هذا إلا احتراماً لعادات بني الإنسان وتأدباً في حقهم. وما من شك في أنهم قد ابتهجوا حين فعل كاتو فعلة تكاد تنم عن سخريته بالمرأة واعتقاده أنها ليست إلا أداة للتناسل "فأعار" زوجته كارسيليا إلى صديقه هورتلسيوس Hortensius - أي طلقها وحضر زواجها الذائع الصيت- ولما مات هورتلسيوس بعدئذ أعادها إلى عصمته (28). ولم يكن في وسع معاصريه أن يحبوه لأنه كان ألد أعداء الخيانة والسفالة. وأشد المدافعين عن حقوق الآباء على أبنائهم وأسرهم. وكان نقده لأخلاق ذلك العصر أقسى واشد صرامة من نقد الرقيب كاتو الأكبر نفسه. وقلما كان يضحك أو يبتسم، ولم يحاول(9/281)
قط أن يكون لطيفاً بشوشاً، وكان يؤنب كل من تملقه أشد التأنيب. وقد قال شيشرون إنه أخفق في أن ينتخب قنصلاً لأنه كان يحيا حياة مواطن في جمهورية أفلاطون لا حياة روماني بين حثالة أبناء رميولوس" (29).
ولما عين كوسترا كان سوط عذاب يصب على العجز وعلى استغلال سلطان الوظيفة، وحفظ أموال الخزانة العامة من جميع الغارات السياسية، ولم تضعف يقظته وحرصه على هذه الخزانة بعد أن انقضت فترة توليه منصبه. وكان يصب تهمه على جميع الأحزاب على حد سواء، وقد أفاد من هذه التهم آلاف المعجبين ولكنها لم تترك له صديقاً واحداً. ولما كان بريتوراً أقنع مجلس الشيوخ بأن يصدر قراراً بأن يأمر كل مرشح للقنصلية بياناً مفصلاً بما أنفقه أثناء الحملة الانتخابية، وما اتبعه فيها من الوسائل، وأزعج هذا القرار كثيراً من السياسيين لأن الكثرة الغالبة منهم كانت تعتمد في انتخابها على الرشا، فلما أن ظهر كاتو بعدئذ في السوق العامة أخذوا هم ومواليهم يسبونه ويرمونه بالحجارة، فلم يكن منه إلا أن اعتلى المنصة وواجه المجتمعين وهو ثابت الجنان، وما زال يخطب فيهم حتى خضعوا له. ولما اختير تربيوناً سار على رأس جيش إلى مقدونية، وامتطى خدمه وأتباعه الجياد، أما هو فسار راجلاً. وكان يهزأ برجال الأعمال ويدافع عن الأرستقراطية أو حكم أبناء الأسر الشريفة، ويرى انه إن لم يحكم البلاد هؤلاء الأشراف فلا من مفر من أن يحكمها ذوو الثراء، وهذا شر أيما شر. وشن حرباً شعواء لا هوادة فيها على الذين كانوا يفسدون السياسة الرومانية بالمال والأخلاق الرومانية بالترف، وظل إلى آخر أيام حياته يقاوم يخطوها بمبي أو قيصر نحو الطغيان الفردي. ولما أن قضي قيصر على الجمهورية تخلص كاتو من حياته بيده والى جانبه كتاب من كتب الفلسفة.(9/282)
الفصل الخامس
اسبارتكوس
ووصل سوء الحكم وقتئذ إلى غايته كما تأصلت الديمقراطية فيه بدرجة قلما نجد لها نظيراً في تاريخ الدول. وحدث في عام 98 ق. م أن أعاد القائد الروماني ديديوس Didius ما فعله من قبله سلبسيوس جلبا Swpicius Galba فقد خدع قبيلة كاملة من الأسبان المشاغبين حتى استدرجهم إلى معسكر روماني في أسبانيا مدعياً أنه يريد أن يسجل أسماءهم ليوزع الأرض الزراعية عليهم، فلما دخلوا المعسكر هم وأزواجهم وأبناؤهم أمر بهم فذبحوا عن أخرهم، ولما عاد إلى رومه احتفل بعودته احتفال الظافرين (30). ولم يطق هذه الفظائع وأمثالها من ضروب الوحشية التي كان يقترفها رجال الإمبراطورية ضابط سبيني في الجيش الروماني يدعى كونتس سرتوريوس Quintus Sertorius فذهب الأسبان، ونظم صفوفها ودربهم على القتال وقادهم من نصر إلى نصر على الجيوش الرومانية التي سيرت لإخضاعهم، وظل ثماني سنين (80 - 72) يحكم مملكة ثائرة خارجة على حكم الرومان، كسب في خلافها قلوب الأسبان بحكمه العادل وبإنشاء المدارس لتعليم أبنائهم. وعرض متلس القائد الروماني مائة تالنت أي ما يقارب من 360. 000 ريال أمريكي، وعشرين ألف فدان من الأرض مكافأة لأي روماني يقتل سرتويوس، وكان لهذا العرض السخي أثره فدعاه بربنا Perpenna، وهو لاجئ روماني في معسكره، إلى وليمة، واغتاله، وتولى قيادة الجيش الذي دربه سرتوريوس. وأرسل بمبي لقتال بربنا ولم يلق صعوبة ما في التغلب عليه. وأسر بربنا وأعدم وعاد الرومان إلى استغلال أسبانيا من جديد.
وكان العمل الثاني من أعمال الثورة من فعل الأرقاء لا من فعل الأحرار.(9/283)
ذلك أن لنتولس بتياتس lentulus Batiates قد أنشأ في كبوا مدرسة للمصارعين، رجالها من الأرقاء أو المجرمين المحكوم عليهم، ودربهم على صراع الحيوانات أو صراع بعضهم بعضاً، في حلبة الصراع العامة أو في البيوت الخاصة. ولم يكن ينتهي الصراع حتى يقتل المصارع. وحاول مائتان من هؤلاء المصارعين أن يفروا، ونجح منهم ثمانية وسبعون، وتسلحوا واحتلوا أحد سفوح بركان فيزوف، وأخذوا يغيرون على المدن المجاورة طلباً للطعام (37). واختاروا لهم قائداً من أهل تراقية يدعى اسبارتكوس Spartacns ويقول فيه أفلوطرخس إنه "لم يكن رجلاً شهماً وشجاعاً وحسب، بل كان إلى ذلك يفوق الوضع الذي كان فيه ذكاء في العقل ودماثة الأخلاق" (31). وأصدر هذا القائد نداء إلى الأرقاء في إيطاليا يدعوهم إلى الثورة، وسرعان ما التف حوله سبعون ألفاً، ليس منهم إلا من هو متعطش للحرية وللانتقام. وعملهم أن يصنعوا أسلحتهم، وأن يقاتلوا في نظام أمكنهم به أن يتغلبوا على كل قوة سيرت عليهم إخضاعهم. وقذفت انتصاراته الرعب في قلوب أثرياء الرومان، وملأت قلوب الأرقاء أملاً، فهرعوا إليه يريدون الانضواء تحت لوائه، وبلغوا من الكثرة حداً اضطر معه أن يرفض قبول متطوعين جدد بعد أن بلغ عدد رجاله مائة وعشرين ألفاً لأنه لم يكن يسهل عليه أن يعنى بأمرهم. وصار بجيوشه صوب جبال الألب، وغرضه من هذا "أن يعود كل رجل إلى بيته بعد أن يجتاز هذه الجبال" (32). ولكن أتباعه لم يكونوا متشعبين مثله بهذه العواطف الرقيقة السليمة، فتمردوا على قائدهم، وأخذوا ينهبون مدن إيطاليا الشمالية، ويعيثون فيها فساداً. وأرسل مجلس الشيوخ قوات كبيرة بقيادة القنصلين لتأديب العصاة. والتقى أحد الجيشين بقوة منهم كانت قد انشقت على اسبارتكوس وأفنتها عن آخرها. وهوجم الجيش الثاني قوة العصاة الرئيسية فهزمته وبددت شمله. ثم سار اسبارتكوس بعدئذ صوب جبال الألب والتقى في أثناء سيره بجيش ثالث يقوده كاسيوس فهزمه شر هزيمة، ولكنه وجد جيوشاً(9/284)
رومانية أخرى تفق في وجهه وتسد عليه المسالك فولى وجهه شطر الجنوب وزحف على رومه.
وكان نصف الأرقاء في إيطاليا متأهبين للثورة، ولم يكن في وسع أحد في العاصمة نفسها أن يتنبأ متى تنشب هذه الثورة في بيته، وكانت تلك الطائفة الموسرة المترفة التي تتمتع بكل ما في وسع الرق أن يمتعها به، كانت تلك الطائفة كلها ترتعد فرائصها فرقاً حين تفكر في أنها ستخسر كل شيء- السيادة والملك والحياة نفسها. ونادى الشيوخ وذوو الثراء يطالبون بقائد قدير، ولكن أحداً لم يتقدم للاضطلاع بهذه القيادة، فقد كان القواد كلهم يخافون هذا العدو الجديد العجيب، ثم تقدم كراسس crassus آخر الأمر وتولى القيادة، وكان تحت إمرته أربعون ألفاً من الجنود، وتطوع كثير من الأشراف في جيشه لأنهم لم ينسوا كلهم تقاليد الطبقة التي ينتمون إليها ولم يكن يخفي على اسبارتكوس أنه يقاتل إمبراطورية بأكملها، وأن رجاله لا يستطيعون أن يصرفوا شؤون العاصمة بله الإمبراطورية نفسها إذا استولوا عليها. فلم يعرج في زحفه على رومه وواصل السير حتى بلغ ثورياي Thurii مخترقاً إيطاليا كلها من شمالها إلى جنوبها، لعله يستطيع نقل رجاله إلى صقلية أو إلى إفريقيا. وظل سنة ثالثة يصد الهجمات التي يشنها عليه الرومان، ولكن جنوده نفذ صبرهم وسئموا القتال، فخرجوا عليه وعصوا أوامره، وأخذوا يعيثون فساداً في المدن المجاورة. والتقى كراسس بجماعة من أولئك النهابين وفتك بهم، وكانوا أثنى عشر ألفاً وثلاثمائة ظلوا يقاتلون إلى آخر رجل فيهم. وفي هذه الأثناء كان جنود بمبي قد عادوا من أسبانيا فأرسلوا لتقوية جيوش كراسس، وأيقن اسبارتكوس أن لا أمل له في الانتصار على هذه الجيوش الحرارة، فانقض على جيش كراسس وألقى بنفسه في وسطه مرحباً بالموت(9/285)
في وسط المعمعة، وقتل بيديه ضابطين من ضباط المئين، ولما أصابته طعنة ألقته على الأرض وأعجزته عن النهوض ظل يقاتل وهو راكع على ركبته إلى أن مات وتمزق جسمه لم يكن من المستطاع أن يتعرف عليه. وهلك معه معظم أتباعه. وفر بعضهم إلى الغابات، وظل الرومان يطاردونهم فيها، وصلب ستة آلاف من الأسرى في الطريق الأبياوي الممتد من كبوا إلى رومه (71). وتركت أجسامهم المتعفنة على هذه الحال عدة شهور تطميناً لجميع السادة وإرهاباً لجميع العبيد.(9/286)
الفصل السادس
بمبي
ولما عاد كراسس وبمبي من هذه الحملة لم يسرحا جنودهما أو يجرداهم من سلاحهم عند أبواب رومه استجابة لرغبة مجلس الشيوخ وإطاعة للقانون، بل عسكرا بهم خارج أسوار المدينة، وطالباً أن يؤذن لهما بأن يرشحا نفسيهما للقنصلية دون أن يدخلا المدينة- وخالفا بذلك مرة أخرى كل السوابق المألوفة. وزاد بمبي على ذلك أن طلب أرضاً لجنوده وموكب نصر لنفسه. ولكن مجلس الشيوخ لم يجبه إلى طلبه، وكان يرجو أن يفرق بين القائدين ويثير كلا منهما على الآخر. غير أن كراسس وبمبي اتفقا فيما بينهما، وعقدا حلفاً فجائياً مع الطبقات الدنيا ومع رجال الأعمال، ونجحا بفضل الرشا السخية في أن يختارا قنصلين في عام 70 ق. م وقد ناصرهما رجال الأعمال لغرضين أولهما رغبتهم في أن يستعيدوا ما كان لهم من سلطان في مناصب المحلفين الذين يحاكمونهما، وثانيهما أن يستبدلوا بلوكس Lucullus- الذي كان يحكم الشرق حكماً صالحاً لا نفع فيه لهم رجلاً من طبقتهم يعمل بمبادئهم. وقد وجدوا في بمبي ضالتهم المنشودة.
وكان بمبي وقتئذ في الخامسة والثلاثين من عمره ولكنه كان جندياً ضرسته الحروب وخاض معارك كثيرة. وكان من أسرة غنية من طبقة الفرسان، نال إعجاب مواطنيه لشجاعته واعتداله وحذقه كل ضروب الألعاب وفنون الحرب. وكان قد طهر صقلية وإفريقيا من أعداء صلا ولقبه الفكه بلقب "العظيم" جزاء له على زهوه وانتصاره في الحروب. وقد أحرز بعض النصر وهو شاب أمرد (33). وقد بلغ(9/287)
من الجمال حدا أنطق فلورا Flora إحدى سراري ذلك الوقت بقولها إنها لم تكن تستطيع أن تفارقه قط دون أن تعضه (34). وكان مرهف الشعور، شديد الحياء، يحمر وجهه من شدة الخجل إذا اضطر إلى خطابة في اجتماع عام، أما في الحرب فقد كان في تلك الأيام باسلاً مقداماً يخوض غمارها ولا يبالي بما يتعرض له من الأخطار. ولما تقدمت به السن أثر حياؤه كما أثرت بدانته في قدرته على القيادة، وكان تردده سبباً في هزائمه. ولم يكن ألمعياً سريع الخاطر أو عميق التفكير؛ ولم يكن هو الذي يرسم الخطط التي يسير عليها، بل يضعها غيره- كان يضعها له في أول الأمر السياسيون من طبقته العامة ثم الأثرياء من الشيوخ. وكان ثراؤه الواسع سبباً في انتشاله من المغريات السياسية الدنيئة؛ فكان وهو في وهدة الفساد والأنانية التي يتردى فيها أهل زمانه علماً في الوطنية والاستقامة؛ ويلوح أنه كان في أعماله يستهدف الصالح العام مع صالحه الخاص. وكان أبرز عيوبه غروره وكبرياؤه، ومنشأ ذلك أن انتصاراته الأولى قد جعلته يغالي في تقدير مواهبه، وكان مما يعجب له ولا يستطيع فهمه أن تتلكأ رومه هذا التلكؤ الطويل في أن تجعله يستمتع بكل ما يستمتع به الملوك إلا الاسم وحده.
ولما تسنم صنيعتا صلا منصب القنصلية أخذا يعملان ما في وسعهما لتقويض أركان الدستور الذي وضعه ولي نعمتهما. وأراد بمبي وكراسس أن يوفيا بما عليهما من دين للعامة فأقرا مشروع قانون يهدف إلى إرجاع ما كان للتربيون من سلطات، ووطدا دعائم حلفهما مع رجال الأعمال فأمرا لوكلس أن يخول الملتزمين الإشراف التام على جباية الضرائب في بلاد الشرق، وأيدا التشريع الذي يقضي بأن توزع مناصب المحلفين بالتساوي بين أعضاء الشيوخ وطبقتي الفرسان ورجال المال. ومضى على كراسس خمسة عشر عاماً قبل أن يلقى جزاءه- وهو أن يصب الذهب في جوفه صبا في بلاد آسيا. أما بمبي فقد نال جزاءه في عام 67 حين خولته الجمعية سلطة تكاد أن تكون مطلقة من كل قيد في(9/288)
تأديب قراصنة قليقية. ذلك أن جزيرة رودس قد استطاعت في الأيام السالفة أن تطهر بحر إيجة من هؤلاء القراصنة؛ فلما أن ذلت رودس وافتقرت على يد رومه وديلوس لم يكن في مقدورها أن تحتفظ بالعمارة البحرية التي تمكنها من هذا العمل، ولم يكن الأشراف ملاك الأراضي المسيطرون على مجلس الشيوخ شديدي الحرص على أن تبقى مسالك التجارة البحرية آمنة من الأخطار. أما التجار والعامة فقد تأثروا بهذه الحال أشد التأثر، فقد تعذرت التجارة أو كادت في بحر إيجة بل وفي القسم الأوسط من البحر الأبيض المتوسط، ونقص المستورد من الحبوب نقصاً سريعاً ارتفع بسببه ثمن القمح في رومه حتى بلغ عشرين سسترس لكل موديس (1) أو نحو ثلاثة ريالات أمريكية لكل جالونين. وتباهى القراصنة بنصرهم فرفعوا على سفنهم التي تبلغ عدتها ألف سفينة الساريات المذهبة والأشرعة الأرجوانية، وجهزوها بالمجاديف المصفحة بصفائح الفضة. وقد استولوا على أربعمائة من المدن الساحلية، واحتفظوا بها، ونهبوا الهياكل في سمثريس Samothrace. وساموس Samos، وإبدورس Epidaurus، وأرجوس Argos ولوكاس Leucas وأكتوم Actium، وعمدوا إلى اختطاف الموظفين الرومان، وبلغت بهم الجرأة أن هاجموا سواحل أبوليا Apaulia وإتروريا.
وأراد جابينيوس Gabinias صديق بمبي أن يعالج هذا الموقف، فتقدم بمشروع قانون يجعل له السيطرة التامة مدى ثلاثة سنوات على جميع الأساطيل الرومانية وعل جميع الأشخاص المقيمين على مدى خمسين ميلاً من شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وعارض كل الشيوخ، ما عدا قيصر، هذا الإجراء العجيب، ولكن الجمعية أجازته في حماسة بالغة ووافقت على أن تمد بمبي بجيش مؤلف من 125. 000 مقاتل وأسطول مؤلف من 500 سفينة، وأبلغت خزانة
_________
(1) مكيال روماني سعته نحو جالونين. المترجم.(9/289)
الدولة أن تضع تحت تصرفه 144. 000. 000 سسترس. وكان هذا المشروع في واقع الأمر سلباً للسلطة من مجلس الشيوخ، وختاماً لعودة "صلا" إلى الحكم، وإقامة لملكية مطلقة مؤقتة كانت فاتحة لملكية قيصر ومثلاً له يحتذيه.
وكانت نتيجة هذا العمل مؤيدة لهذه السابقة الخطيرة، فلم يمض على تنصيب بمبي إلا يوم واحد حتى أخذ ثمن القمح في الانخفاض، وقبل أن يمضي عليه في هذا المنصب ثلاثة شهور أتم العمل الذي أنيط به- فاستولى على سفن القراصنة ومعاقلهم وأعدم زعماءهم وإن لم يسيء استعمال السلطة غير العادية التي وضعت بين يديه. وتشجع التجار فنشطت التجارة الخارجية، ومخرت السفن عباب البحار، وتدفق على رومه سيل من الحبوب.
وقبل أن يعود بمبي من قليقية صديقه منليوس Manilius على الجمعية مشروع قانون بنقل قيادة الجيوش وحكم الولايات التي كان يقودها ويحكمها لوكلس (66) إلى بمبي، وإطالة الفترة التي حددها قانون جابينيوس لسلطاته المتعددة, وعارض مجلس الشيوخ في هذا المشروع، ولكن التجار والمرابين أيدوا الاقتراح تأييداً قوياً، ذلك أنهم كانوا يؤملون أن يكون بنبي أقل ليناً من لوكلس لمدينتهم في آسيا، وأن يعيد إلى الملتزمين حق جباية الضرائب، وأنه لن يكتفي بفتح بثينيا وبنتس بل سيفتح كذلك كبدوكيا وسوريا وبلاد اليهود. وأن هذه الحقول الغنية ستُفتح أبوابها إلى التجارة والأموال الرومانية تحت حماية الجيوش الرومانية. وقام "رجل جديد" هو ماركس تليوس شيشرون Marcus Tullius Cicero كان قد اختير بريتورا في ذلك العام بمعونة رجال الأعمال فأيد "قانون منليوس، وهاجم العصبة المالية الحاكمة في مجلس الشيوخ بفصاحة وتهور لم يسمع بمثلهما في رومه من أيام أبني جراكس، وبصراحة لم تعهد قط في السياسيين". ومن أقواله في هذا الهجوم:
"إن جميع النظم الخاصة بالمال والائتمان التي تسير عليها رومه ترتبط بخراج(9/290)
الولايات الأسيوية ارتباطاً لا انفصام له، فإذا ما حجز هذا الخراج انهارت جميع نظم المال والائتمان في هذه البلاد .. وإذا ما خسر بعض الناس أموالهم كلها جرّوا معهم كثيرين غيرهم. فأنقذوا الدولة من هذه الكارثة ... وابذلوا في الحرب على مثرداتس كل ما استطعتم من جهود حتى تحتفظوا بشرف رومه وسلامة أحلافنا، وبأثمن جزء من مواردنا، وبثروة عدد لا يحصى من المواطنين".
وأجازت الجمعية من فورها مشروع القانون، ولم يكن ذلك لأن العامة يعنون أقل عناية بأموال الماليين، بل لأنهم كان يسرهم أن يجدوا في تخويل قائد من القواد سلطات واسعة غير محدودة وسيلة لإلغاء تشريعات "صلا" والقضاء على سلطان مجلس الشيوخ عدوّهم القديم.
ومن ذلك اليوم أخذ أجل الجمهورية ينصرم، وأخذت حياتها تقترب من نهايتها. ذلك أن الثورة الرومانية مستعينة بفصاحة عدوها الألد، كانت قد خطت خطوة أخرى نحو طغيان قيصر.(9/291)
الفصل السابع
شيشرون وكاتلين
يقول أفلوطرخس إن ماركس تليوس إنما سمي شيشرون لأن أحد أجداده كانت له على أنفه ثؤلولة تشبه الحمصة الجبلية ( cicer) . ولكن أرجح من هذا التعليل أن آباءه قد اكتسبوا هذا اللقب لما كانوا ينتجونه من حمص ذائع الصيت. ويصف شيشرون في كتاب "القوانين" وصفاً رقيقاً يخلب اللب بيته الصغير المتواضع الذي شهد مولده بالقرب من أربينوم Arpinum في منتصف المسافة بين رومه ونابلي على التلال المتصلة بجبال أبنين Appenine. وكان لمولده من الثروة ما يكفيه لأن يعلم ولده خير تعليم يستطيع أن يناله في ذلك الوقت، فاستأجر الشاعر اليوناني أركباس Archias ليعلم ماركس الأدب واللغة اليونانية، ثم أرسله ليدرس القانون مع كونتس موسيوس أسكيفولا Quinuts Mucius Scaevola أعظم رجال القانون في عصره.
وكان شيشرون يستمع في شوق وانتباه إلى المحاكمات والمناقشات التي تدور في السوق العامة، وسرعان ما أتقن الفنون والأساليب المتبعة في الخطب القانونية. وقد قال في إحدى المناسبات: "من أراد النجاح في القانون فعليه أن يتخلى عن جميع مسراته، ويتجنب كل ضروب اللهو. ويودع التسلية والألعاب والطرب، وأكاد أقول إن عليه أن يقطع صلاته بأصدقائه (26) ".
وسرعان ما كان هو نفسه يشتغل بالقانون ويلقى خطباً رنانة حوت من البلاغة والشجاعة ما أكسبه شكر الطبقات الوسطى والدنيا. وقد قاضى أحد صنائع صلا وشهر بما كان يرتكبه من الاضطهاد حين كان حكم الإرهاب(9/292)
الذي أقامه صلا على أشده (80 ق. م) (27). ثم سافر بعد قليل من ذلك الوقت إلى بلاد اليونان، ولعله سافر إليها فراراً من غضب ذلك الطاغية، وظل في تلك البلاد يدرس الفلسفة وفن الخطابة. وبعد أن قضى ثلاث سنين في أثينا هنيئاً سعيداً انتقل إلى رودس حيث استمع إلى محاضرات أبولونيوس Appollonius بن مولون Molon في البلاغة، والى محاضرات بوسيدونيوس Poseidonius في الفلسفة، وتعلم من أولهما تراكيب الجمل المتعاقبة وعفة اللفظ وهما الصفتان اللتان كان يمتاز بهما أسلوبه؛ وتعلم من ثانيهما تلك الرواقية المعتدلة التي نادى بها بعدئذ فيما كتبه من مقالات عن الدين وفن الحكم والصداقة والشيخوخة.
ثم عاد إلى رومه في سن الثلاثين وتزوج ترنشيا Terentia واستطاع ببائنتها السخية أن تشتغل بالسياسية، وعلا شأنه ونبه ذكره بعدله وحسن إدارته حين كان كوسترا في صقلية عام 75 ق. م ولك عاد إلى الاشتغال بالمحاماة في عام 70 ق. م وأهاج عليه طبقة الأشراف إذ قبل أن يوكل في قضية أقامتها مدن صقلية على كيوس فيرس Caius Verrs عضو الشيوخ، واتهمته فيها بأنه وهو صاحب الخراج في تلك الجزيرة (73 - 71) كان يبيع المناصب والأحكام. ويخفض الضرائب بنسبة ما يناله من الرشا، وأنه لم يكن يبقى في سرقوسة شيئاً من تماثيلها، وأنه وهب إيراد مدينة بأكملها إلى إحدى سراريه، وأسرف في الظلم، وابتزاز الأموال والسرقات حتى غادر الجزيرة وهي أكثر خراباً مما كانت بعد حربين من حروب الرقيق. وشر من هذا كله أن فيرس قد اختص نفسه ببعض ما كان يختص به الملتزمون عادة، وناصر رجال الأعمال شيشرون في اتهاماته، أما هرتنسيوس الزعيم الأرستقراطي للمحامين الرومان فقد تولى زعامة المدافعين عن فيرس، وأجيز لشيشرون أن يقضي في صقلية حوالي مائة يوم يجمع فيها الأدلة؛ ولكنه اكتفى منها بخمسين يوماً، وعرض في خطبته الافتتاحية من الأدلة الدامغة ما جعل هرتنسيوس- وكان قد زين حدائقه ببعض ما نهبه(9/293)
فيرس من التماثيل- يتخلى عن موكله. وحكم على فيرس بغرامة قدرها أربعون مليون سسترس، ففر إلى خارج البلاد، ونشر شيشرون بعدئذ الخمس الخطب الإضافية التي كان قد أعدها، وكانت كلها هجوماً عنيفاً على فساد الحكم الروماني في الولايات. وبلغ ما أحرزه من تأييد الشعب بجده وشجاعته أنه حين رشح نفسه للقنصلية في عام 63 ق. م انتخب بحماسة بالغة منقطعة النظير.
وكان شيشرون من أبناء طبقة الفرسان، ولذلك كانت ميوله بطبيعة الحال مع الطبقة الوسطى، وكانت تشمئز نفسه من كبرياء الأشراف ويستنكر امتيازاتهم سوء حكمهم، ولكنه كان يخشى أشد خشية أولئك الزعماء المتطرفين، فقد كان يرى أن منهجهم، بوضعه أزمة الحكم في أيدي الغوغاء، يعرض الملكية لأشد الأخطار. ولهذا كانت الخطة السياسية التي وضعها لنفسه حين تولى الحكم أن يقيم "حلفاً من الطبقات"- أي تعاوناً بين الأشراف ورجال الأعمال، يحول دون عودة تيار الثورة الجارف.
على أن أسباب التذمر وقواه كانت أعمق وأكثر من أن يقضي عليها بسهولة، فقد كان كثيرون من الفقراء يستمعون إلى الخطباء ينادون بوجوب قيام دولة مثالية، وكان بعض من يستمعون إليهم على استعداد لأن يستخدموا أساليب العنف في تحقيقها. وكان يعلو عن هؤلاء قليلاً جماعات من العامة خسروا أملاكهم لعجزهم عن أداء ما عليها من رهون. وكان بعض جنود صلا القدامى قد عجزوا عن استغلال أراضيهم استغلالاً مربحاً، وكانوا مستعدين للاشتراك في أي اضطراب يتيح لهم فرصة لانتهاب المال بلا كد. وكان بين الطبقات العليا طائفة من المدنيين المفلسين العاجزين عن أداء ديونهم، والمضاربين الذين فقدوا كل أمل أو رغبة في الوفاء بالتزاماتهم، ومنهم من كانت لهم مطامع سياسية ولكنهم وجدوا سبل الرقي تسدها عليهم طائفة من المحافظين طالت آجالهم فوق ما ينبغي لها أن تطول. وكان إلى جانب هؤلاء كلهم عدد قليل من الثوار المخلصين لمثلهم العليا الذين(9/294)
لا يخالجهم شك في أنه لا سبيل إلى تلطيف ما تئن منه الدولة الرومانية من فساد وظلم إلا بانقلاب كامل وثورة جارفة.
ولم يحاول أحد جمع هذه الطوائف المشتقة وضمها كلها في قوة سياسية مؤتلفة إلا رجل واحد هو لوسيوس سرجيوس كاتلين Lucius Sergius Catiline، وهو رجل لا نعرف عنه إلا ما يصفه به أعداؤه- أي ما نستقيه من تاريخ حركته كما كتبها سلست Sallust الغني صاحب الملايين، وما نقرأه من اتهامات ومثالب مقذعة في خطب شيشرون ضد كاتلين. فأما سلست فيصفه بأنه "روح ملطخ بالإجرام، هو والآلهة والناس على طرفي نقيض، لا يجد الراحة في نومه ولا في يقظته لأن ضميره قد قسا عليه فأتلف عقله المضني المنهوك. وكان هذا سبباً في صفرة وجهه، وحمرة عينيه، وهرجلته في مشيه، فتارة يسرع وتارة يبطئ؛ وملاك القول أن وجهه ونظراته لا تترك مجالاً للشك في أن بعقله خبالاً" (38). ذلك وصف يوحي بالصورة التي يرسمها لأعدائهم في الحرب أقوام يكافحون في سبيل الحياة والسلطان؛ حتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها هذبت الصورة شيئاً فشيئاً. أما صورة كاتلين فلم تهذب قط؛ فقد اتهم في شبابه بافتراع عذراء فستية، وهي أخت غير شقيقة لزوجة شيشرون الأولى، وبرأت المحكمة العذراء من هذه التهمة ولكن ألسنة السوء لم تبرئ منها كاتلين، بل فعلت عكس هذا إذ أضافت إلى التهمة الأولى تهمة ثانية هي أنه قتل ابنه ليرضى بقتله عشيقته الغيور (39). ولسنا نجد ما تعارض به هذه القصص إلا قولنا إن عامة الناس في رومه- "الغوغاء اليائسين الجياع" كما يسميهم شيشرون- ظلوا أربع سنين بعد وفاة كاتلين ينثرون الأزهار على قبره (40). وينقل لنا سلست هذه الفقرة وهي كما يلوح فحوى خطبة له:
"منذ وقعت الدولة في قبضة عدد قليل من أقوياء الرجال ... أصبح لهم فيها كل النفوذ والمنزلة والثروة، ولم يتركوا لنا فيها إلا الخطر والهزيمة والمحاكمات(9/295)
والفقر .. وماذا بقي لنا في الحياة إلا الأنفاس التي تتردد في صدورنا؟ ... أليس خيراً لنا أن نموت شجعاناً من أن نفقد حياتنا اليائسة الذليلة بعد أن تصير لعبة في أيدي السفهاء" (41).
وكانت الخطة التي يريد أن يضعها لضم عناصر الثورة المتعارضة خطة سهلة بسيطة تتلخص في كلمتين هما "سجلات جديدة"، ويقصد بهما إلغاء الديون كلها إلغاء تاماً بلا قيد ولا شرط. وأخذ يعمل لهذه الغاية بهمة لا تعادلها إلا همة قيصر؛ والحق أنه نال إلى حين عطف قيصر إذا لم يكن قد نال في السر معونته. وقد قال شيشرون: "لم يكن ثمة شيء لا يستطيع فعله، ولم تكن ثمة آلام لا يقاسيها في سبيل تعاون عناصر الثورة ويقظتها وكدحها. وكان في وسعه أن يتحمل البرد والجوع والعطش" (42). ويقول لنا أعداؤه إنه نظم فرقة قوامها أربعمائة رجل عهد إليها قتل القنصلين والاستيلاء على أزمة الحكم في أول يوم من عام 65 ق. م فلما حل ذلك اليوم لم يحدث شيء غير هادي، وفي عام 64 ق. م رشح كاتلين نفسه للقنصلية ضد شيشرون وشن عليه حملة انتخابية شديدة (1)، روعت أصحاب رؤوس الأموال، وبدأت أموالهم تتسرب من إيطاليا. واتخذت الطبقات العليا لتأييد شيشرون وتحقق بذلك ما كان ينادي به من "تعاون الطبقات"، ودام هذا التعاون عاماً كاملاً، وكان هو ممثل هذا التعاون وصوته الناطق.
ولما وجد كاتلين أبواب السياسة موصدة أمامه ولى وجهه شطر الحرب، فجهز أتباعه سراً جيشاً في أتروريا من عشرين ألف مقاتل، وجمعوا في رومه عصبة من المتآمرين كان فيها ممثلون لجميع الطبقات من الشيوخ إلى الرقيق. وكان فيها
_________
(1) وفي هذه الحملة الانتخابية وضع كونتس شقيق شيشرون له دستوراً يسير عليه في حملته فقال: "عليك بالإسراف في الوعد، لأن الوعد الكاذب أحب إلى الناس من الرفض الصريح .. واخترع فضيحة جديدة تذيعها عن منافسيك جريمة كانت أو رشوة أو فضيحة خلقية".(9/296)
بريتوران هما سثيجس Sefhegus ولنتولس Lentulus، وتقدم كاتلين للقنصلية مرة أخرى في شهر أكتوبر التالي.
ويقول لنا المترجمون له من المحافظين إنه أراد أن يضمن لنفسه النجاح في هذا الانتخاب، فدبر قتل منافسه في أثناء الحملة، واغتيال شيشرون في الوقت عينه. وادعى شيشرون أنه علم بهذا التدبير فملأ "ميدان المريخ" بحرس مسلح، وأشرف بنفسه على عملية الانتخاب، وهزم كاتلين للمرة الثانية رغم تأييد الطبقات الدنيا وتحمسهم له. ويحدثنا شيشرون أنه في اليوم السابع من نوفمبر طرق بابه عدد من المتآمرين، ولكن حراسه صدوهم عنه وأبصر شيشرون في اليوم الثاني كاتلين في مجلس الشيوخ فأخذ يكيل له ذلك السباب الذي كان كل تلميذ ينطق به في وقت من الأوقات. وبينما كان الخطيب يصب اللعنات على كاتلين خلت المقاعد التي حوله واحداً بعد واحد حتى لم يبق في المجلس غيره. وتحمل وهو صامت سيل التهم الجارف والألفاظ المقذعة القاسية تنصب انصباب السياط على رأسه.
وأخذ شيشرون يستثير كل عاطفة من عواطفه، فشبه الأمة بالأب العام وشبه كاتلين بقاتل أبيه، واتهمه غمزاً وضمناً بغير دليل بأنه يأتمر بالدولة، وبالسرقة، والزنى، والأفعال الجنسية الشاذة، وتوجه آخر الأمر إلى جوف Jove أن يقي رومه السوء، وأن يصب عذابه السرمدي على كاتلين.
ولما أتم شيشرون خطبته خرج كاتلين من المجلس دون أن يعترضه أحد، وانضم إلى قواته في إتروريا. وأرسل قائده لوسيوس منليوس Lucius Manlius آخر نداء له إلى مجلس الشيوخ وقال فيه:
إنّا لنُشهد الآلهة والناس على أننا لم نمتشق الحسام لنقاتل به بلدنا، أو نهدد به سلامة بني وطننا. وكل الذي يدفعنا نحن المعدمين البائسين الذين تضافر علينا عنف المرابين وقسوتهم فشردونا من أوطاننا، وحكم علينا(9/297)
بالفاقة والحرمان، وأصبحنا سخرية للساخرين- كل الذي يدفعنا إلى ما نحن فاعلوه هو رغبتنا في أن نحمي أنفسنا من الظلم. وأما المال وأما السلطان، وهما أكبر أسباب النزاع بين بني الإنسان، فلا مأرب لنا فيهما، بل كان الذي نطلبه هو الحرية، ذلك الكنز الذي لا يفرط فيه الإنسان إلا حين يسلم الروح. وإنّا لنتوسل إليكم أيها الشيوخ أن تستشعروا الرحمة على بني وطنكم المعذبين (44)!.
وخطب شيشرون في اليوم الثاني خطبة وصف فيها أتباع منافسه العاصي بأنهم طائفة ملتفة حول عصبة من الضالين المارقين المتعطرين، وأطلق العنان لعبقريته فاخترع كل ما أسعفته به من سخرية وسباب، وختم خطبته مرة أخرى بنغمة دينية. وعرض على مجلس الشيوخ في الأسابيع التالية ما زعم أنه براهين تثبت أن كاتلين قد حاول أن يشعل نار الثورة في بلاد الغاليين، وأفلح في اليوم الثالث من ديسمبر أن يقنع أولي الأمر بالقبض على لنتولس، وسثيجس وخمسة غيرهما من أتباع كاتلين. وصرح في خطبة ثالثة له بالجريمة التي ارتكبوها، وأعلن أنهم قد زجوا في السجن، وأبلغ المجلس والشعب أن المؤامرة قد أخفقت، وأن في وسعهم أن يعودوا إلى بيوتهم آمنين مطمئنين. وفي اليوم الخامس من ديسمبر دعا مجلس الشيوخ إلى الاجتماع وسأله عما يفعله بالمعتقلين، فاقترح سلانوس أن يقتلوا، وأشار قيصر أن يكتفي بسجنهم، وذكر الشيوخ بأن قانون سمبرونيوس يحرم إعدام المواطن الروماني. ونصح شيشرون في خطبة له رابعة أن يعدموا، وكان في هذه المرة رقيقاً في نصحه، غير عنيف في عرضه. وأيد كاتو بفلسفته هذا الرأي، ورجحت كفة القائلين بالإعدام. وحاول بعض الشبان من الأشراف أن يغتالوا قيصر وهو خارج من قاعة المجلس ولكنه نجا من شرهم.
وذهب شيشرون ومعه رجال مسلحون إلى السجن الذي كان فيه المعتقلون، وهناك نفذ الحكم على الفور، ثم أرسل ماركس أنطونيوس زميل شيشرون في القنصلية، ووالد ماركس أنطونيوس الذائع الصيت- أرسل على رأس جيش(9/298)
روماني للقضاء على قوة كاتلين. ووعد مجلس الشيوخ أن يعفو عن كل رجل يترك صفوف الثوار، وأن يمنحه فوق ذلك مائتي ألف ستسرس. ولكن "أحداً لم يفر من معسكر كاتلين" على حد قول سلست. ودارت رحى القتال بين الجيشين في سهول بستويا Pistoia (61) . وقاتل الثوار، وكانوا ثلاثة آلاف رجل، قتال الأبطال، ودافعوا عن أعلامهم- نستور ماريوس- العزيزة عليهم إلى آخر رجل منهم رغم ما كانوا عليه من قلة بالنسبة لأعدائهم. ولم يستسلم واحد منهم أو يفر من الميدان، بل ماتوا جميعاً في المعركة كما مات بينهم كاتلين نفسه.
وإذ كان شيشرون من رجال الفكر لا من رجال العمل، فقد أدهشه وأثر فيه ما أظهره من المهارة والشجاعة في القضاء على هذه الفتنة الصماء. ومن أقواله في مجلس الشيوخ: "إني ليخيل إليّ أن تدبير هذا العمل العظيم يتطلب حكمة فوق حكمة الآدميين" (45) وشبه نفسه برميولوس، ولكنه قال إن حفظ رومه أعظم من تشييدها (46).
وتبسم الشيوخ وكبار الموظفين ضاحكين من قوله، ولكنهم كانوا يعلمون أنه هو الذي أنجاهم، وهتف له كاتو وكاتلس ولقباه بأبي الوطن Pater Patriae. ويحدثنا هو عن نفسه بقوله إنه لما اعتزل منصبه في عام 63 ق. م قدمت له جميع الطبقات ذوات الأملاك شكرها، ولقبته بالرجل الخالد، وسارت من حوله إلى بيته (47). ولم يشترك صعاليك المدينة في هذه المظاهرة، ذلك أنهم لم يغفروا له اعتداءه على قوانين رومه بقتله المواطنين دون أن يتيح لهم فرصة استئناف حكم الإعدام، وأحسوا بأنه لم يحاول قط إزالة أسباب ثورة كاتلين أو تخفيف أعباء الفقر عن جمهرة الشعب، ومنعوه أن يخطب في الجمعة في آخر يوم من حكمه، وكانوا يستمعون له وهم غضاب حين أقسم أنه قد حافظ على المدينة. والحق أن الثورة لم ينقض عهدها في ذلك الوقت بل اندلعت نيرانها فيما بعد حين أصبح قيصر قنصلاً.(9/299)
الباب الثامن
الأدب في عهد الثورة
145 - 30 ق. م
الفصل الأول
لكريشيوس
لم يغفل الناس الأدب وسط هذا الانقلاب العنيف في أحوال البلاد الاقتصادية ونظم حكمها وأخلاقها، كما أنه لم يكن بمنجاة من حمى ذلك العهد وما فيه من دوافع قوية. من ذلك أن فارو Varro ونيبوس Nepos قد وجدا السلامة في دراسة الآثار القديمة وفي البحوث التاريخية. وعاد سلست من حروبه ليدافع عن حزبه ويغشى أخلاقه بستار من المقالات الأدبية الرائعة. ونزل قيصر من عليائه على رأس الإمبراطورية ليكتب في النحو ويواصل حروبه في شروحه Commentaries، وحاول كاتلس وكلفس Calvus أن يجدا في الحب وفي الغزل ملجأ يعصمهما من أعاصير السياسة، وفر لكريشيوس وأمثاله من ذوي القلوب الضعيفة والنفوس المرهفة الحس إلى حدائق الفلسفة، وغادر شيشرون من آن إلى آن حرارة السوق العامة ليهدئ أعصابه ويروح عن نفسه بين صفحات الكتب. ولكن أحداً من هؤلاء لم يجد ما ينشده من السلام لأن الحروب والثورات كانت تطغى عليهم جميعاً. وما من شك في أن لكريشيوس نفسه قد أحس بالقلق الذي يصفه في الفقرة الآتية:
"إن عبئاً يثقل عقولهم وجبلاً من الشقاء يرسو فوق قلوبهم ... ذلك(9/300)
أن كلاً من لا يعرف ما يريد فيعمل دائباً لتبديل مكانه ظناً منه أن في استطاعته أن يلقى حمله عن عاتقه. فهاك رجلاً قد مل الحياة في منزله، فتراه يخرج من قصره بين الفينة والفينة، ولكنه لا يجد نفسه في خارج الدار أحسن منه حالاً في داخلها فيعود إليها فجأة، فتراه مسرعاً يسوق جياده إلى بيته الريفي لا يلوي على شيء .. ولكنه لا يكاد يجتاز عتبة الدار حتى يتثاءب أو يحاول نسيان متاعبه في النوم العميق. وقد بلغ به الأمر أن يعود من فوره إلى المدينة. وهكذا يفر كل امرئ من نفسه، ولكن نفسه التي لا يستطيع الفرار منها تزيد التصاقاً به رغم إرادته كما هو المنتظر منها، وهو يكره نفسه لأنه وهو إنسان مريض لا يعرف سبب شكواه. وكل من يستطيع أن يرى هذا بوضوح يطرح عمله من ورائه ظهرياً، ويسعى قبل كل شيء لفهم طبيعة الأشياء.
وكل ما نعرفه عن حياة تيتس لكريشيوس كارس Titus Lucretius carus هو قصيدته. ولم يشأ أن يذكر في هذه القصيدة شيئاً عن نفسه؛ أما فيما عداها فإن الأدب الروماني يغفل إغفالاً عجيباً شأن رجل من أعظم رجاله إذا استثنينا إشارات قليلة في مواضع منه مختلفة. وتحدد الرواية المأثورة تاريخ مولده بعام 99 أو 95، وتاريخ وفاته بعام 55أو 51 ق. م، أي أنه عاش نحو خمسين سنة من سني الثورة الرومانية: سني الحرب الاجتماعية، ومذابح ماريوس، وإرهاب صلا، ومؤامرة كاتلين، وقنصلية قيصر. وكانت الأرستقراطية التي ينتمي إليها في الأغلب الأعم آخذة في الانحلال البادي للعيان؛ وكان العالم الذي يعيش فيه يتصدع ويتردى في الفوضى التي لا يأمن فيها أحد على حياته أو ماله. وقصيدته حنين منه إلى الراحة الجسمية والسلامة العقلية.
ولجأ لكريشيوس من متاعب العالم إلى الطبيعة والفلسفة والشعر. ولعله أيضاً قد عرج على الحب، فإذا كان قد وقع له شيء منه فما من شك في أنه لم يوفق فيه، لأنه يقسو في كتابته على النساء، ويشهر بفتنة الجمال،(9/301)
وينصح الشباب المتعطش لإشباع شهواته بأن يسد مطالب الجسد بالاختلاط الجنسي الهادئ الطليق (2). وكان يجد في الغابات والحقول، وفي النبات والحيوان، وفي الجبال والأنهار والبحار، كان يجد في هذه كلها بهجة لا يعادلها إلا شغفه بالفلسفة. وكان مرهف الحس سريع التأثر كوردسورث Wordsworth، قوي الإدراك مثل كيتس Keats، توحي إليه المدرة أو ورقة الشجرة، كما توحي لشلي Shelley، علم ما وراء الطبيعة. وكان لجمال الطبيعة ورهبتها وكل ما يتصل بهما أثره فيه، فكانت تحرك عواطفه صور الأشياء وأصواتها، ورائحتها ومذاقها؛ وكان يحس بصمت المرابض الخفية، وسدول الليل الهادئ، وطلوع النهار المتثاقل. وكان كل شيء طبيعي أعجوبة الأعاجيب في نظره- ماء ينساب على مهل، ونبات يخرج من البذور، وتغير دائم في الجو، ونجوم في السماء ثابتة لا تحول، وكان يرقب الحيوانات في شغف وعطف، ويحب ما فيها من صور القوة والجمال، ويحس بآلامها، ويعجب من فلسفتها التي لا تعبر عنها الألفاظ. ولم ير قبله شاعر عبر عن جلال العالم وما حواه من تباين دقيق وقوة متناسقة ملتئمة، بمثل ما عبر عنه هو. فهنا كسبت الطبيعة في آخر الأمر معاقل الأدب، وأفاضت على شاعرها قدرة على الوصف لم يفقه فيهما إلا هومروس وشكسبير.
وما من شك في أن هذه الروح الحساسة التي تستجيب إلى ما حولها من المؤثرات قد تأثرت تأثراً عميقاً بخفايا الدين ومظاهره الخلابة، ولكن الدين القديم الذي كان فيما مضى دعامة قوية لكيان الأسرة والنظام الاجتماعي قد فقد ما كان له من سيطرة على الطبقات المتعلمة في رومه، فقد كان قيصر مثلاً يبتسم في لطف وهو يمثل دور الكاهن الأكبر، كما كانت مآدب الكهنة متعة الأبيقوريين الرومان. وكان من الأهلين أقلية صغيرة تكفر بالآلهة الرومانية جهرة، وكان بعض الساسة الرومان يقوم بالليل ويحطم أصنام الآلهة، كما كان يفعل ألقبيادس Alcibiades في أثينا (3). أما الطبقات الدنيا فإن الطقوس الرسمية لم تعد تلهم(9/302)
الكثيرين من أفرادها أو تخفف عنهم أحزانهم، فأخذوا يهرعون إلى الهياكل الملطخة بالدماء والتي كانت تعبد فيها "الأم الكبرى" الفريجية، أو الإلهية ما الكبدوكية، أو بعض الآلهة الشرقية التي جاء بها الجنود أو الأسرى من بلاد الشرق إلى إيطاليا. وتطورت الفكرة الرومانية القديمة عن "أوركوس" Orcus، وهي التي كانت تمثلها في صورة مكان تحت الأرض يأوي إليه الموتى بلا تمييز بينهم، فصاروا يعتقدون بوجود جحيم حقيقي "ثرتاروس Tartarus" أو أكيرون Acheron يعذب فيه الناس جميعاً عذاباً أبدياً إلا طائفة قليلة تولد من جديد وتبدأ حياة جديدة في مجتمع جديد (4). وقد نظر الشمس والقمر على أنهما إلهين، وكان كل كسوف وخسوف يحدث لهما يبعث الرعب في القرى المنعزلة وفي قلوب الكثيرين من الأهلين، وأقبل العرافون والمتنبئون الكلدان على إيطاليا يجوسون خلالها ويستطلعون طلع المعدمين والأثرياء على السواء، ويكشفون عن الكنوز المخبأة وعما يخبئه المستقبل، ويفسرون الأحلام والفؤول تفسيراً ماؤه الحذر والغموض، أو الملق النافع. وكانوا يبحثون كل ظاهرة طبيعية غير مألوفة، ويدعون أنها نذير تنذرهم به الآلهة. وكان الدين الذي يعرفه لكريشيوس هو هذا الحسد العظيم من الخرافات والطقوس والنفاق.
فلا عجب والحالة هذه إذا اشمأزت نفسه منها، وثارت عليه، وهاجمه بكل ما في قلب المصلح الديني من جرأة وحماسة.
وفي وسعنا أن نحكم على مقدار ما كان يعمر قلبه أيام شبابه من تقي وإيمان، وما أصابه بعدئذ من خيبة رجاء، إذا عرفنا مقدار ألمه الشديد من حال الدين وقتئذ. فقد أخذ يبحث لنفسه عن دين يعوضه عما فقده من إيمانه بالدين القديم، فتنقل من تشكك إنيوس Ennius إلى قصيدة أنبادقليس الرائعة التي شرح فيها مبدأ التطور وتنازع الأضداد. ولما عرف آراء أبيقور خيل إليه أنه عثر على جواب المسائل التي كانت(9/303)
تحير عقله، وبدا له أن الرجل الحر يجد في ذلك الخليط العجيب من المادية وحرية الإدارة، ومن الآلهة المرحة والعالم الذي لا يؤمن بالآلهة، جواباً عما ينتابه من شكوك ومخاوف. ولاح أن نسمة من نسمات التحرر من المخاوف السماوية تنبعث من حدائق أبيقور، وتكشف عن سلطة القانون العليا واستقلال الطبيعة بشؤونها وسلطانها على مصائرها، ومن أن الموت أمر طبيعي لا تلام عليه. ولذلك اعتزم لكريشيوس أن ينتزع هذه الفلسفة من النثر القبيح الذي صاغها فيه لكريشيوس ويصهرها فيخرجها شعراً، ثم يقدمها لمعاصريه على أنها هي الطريقة المثلى، وهي الحقيقة، بل هي الحياة نفسها. وكان يحس أن في نفسه قوة نادرة مزدوجة- فيها إدراك العالِم الموضوعي، وعاطفة الشاعر الذاتية؛ ويرى في نظام الطبيعة بأكمله سمواً، وفي عناصرها جمالاً، بشجعان ويبرران هذا التزاوج بين الفلسفة والشعر. وقد أبرز هذا الهدف العظيم الذي كان يعلم له جميع قواه الكامنة وسما به إلى مستوى رفيع فذ من الرقي الفعلي، ثم تركه قبل أن يبلغ هذا الهدف منهوكاً خائر القوى، أو لعله تركه ناقص العقل مخبولاً. غير أن كدحه الطويل المبهج المطرب قد حباه بسعادة استحوذت عليه فصب فيها كل ما كان كامناً في روحه الدينية من إخلاص عميق.
ولم يختر لكريشيوس لقصيدته عنواناً شعرياً بل اختار لها عنواناً فلسفياً هو: De Rerum Natura " في طبيعة الأشياء"، وهي ترجمة بسيطة لعبارة Peri Physeos ( عن الطبيعة) التي اختارها الفلاسفة قبل سقراط اسماً عاماً لرسالاتهم. وبعد أن كتبها قدمها لأبناء كيوس مميوس Caius Memmius في عام 58 ق. م لتكون لهم سبيلاً هادياً يخرجهم من الخوف إلى الإدراك. وقد حذا في طريقة عرضه لما احتوته من الآراء طريقة أنبادقليس في ملحمته، كما احتذى في تعبيره لغة إثيوس العجبية الخالية من الزخرف والتجميل، واختار لها(9/304)
الوزن السهل الصالح للتعبير عن مختلف الأغراض، وهو الوزن السداسي الأوتاد. ثم نسي إلى حين إهمال الآلهة شؤون الناس وتباعدها عنهم فبدأ بدعوة حارة موجهة إلى فينوس إذ خالها رمزاً للرغبة المبدعة، ولطرائق السلم كما كانت محبوبة أنبادقليس فقال:
يا أم شعب إنياس، يا بهجة الخلق والآلهة، أي فينوس المغذية المربية! .. إن جميع الأحياء تحمل بها أمهاتها وتلدها، ثم تنظر إلى الشمس عن طريقك أنت. وإذا أقبلت فرت الرياح أمامك، وتبددت سحب السماء؛ إليك ترفع الأرض ذات المعجزات أزهارها الجميلة، وإليك تضحك أمواج البحر وتتلألأ السماء الصافية بالضياء الشامل. ذلك أنه إذا ما بدت تباشير النهار في فصل الربيع وهبت ريح الجنوب المخصبة فأكسبت كل الأشياء نضارة وخضرة، هللت لك طيور الهواء أولاً ورحبت بقدومك، أيتها الإلهة المقدسة، لأن قوتك قد نفذت في قلبها، ثم أخذت القطعان البرية تقفز فوق المراعي التي تفرح بقفزها، وتعبر الجداول السريعة الجريان، وهكذا يصبح كل واحد منها أسير جمالك ويسير في ركابك أينما سرت، ثم تبعثين بالحب الجميل في صدور كل المخلوقات من خلال البحار والجبال والأنهار الجارية، وأوكار الطير بين أوراق الشجر والحقول الخضراء؛ وتوحين إليها بأن تتناسل وتخلد أنواعها. وإذ كنت أنت وحدك تتحكمين في طبيعة الأشياء، وبغيرك لا يرتفع شيء إلى شواطئ الضوء اللامعة، ولا يوجد شيء بهيج أو جميل؛ فإن نفسي تتوق إليك لتكوني شريكتي في كتابة هذه الأبيات .. ألا فامنحي أيتها الإلهة ألفاظي جمالاً لا يدركها الفناء، واجعلي في خلال ذلك الوقت أعمال الحرب الوحشية تنام وتسكن ... وإذا ما استند المريخ إلى جسمك المقدس فانحني حوله من عليائك، وصُبِّي الألفاظ الحلوة من فمك، واطلبي نعمة السلام إلى الرومان (5).(9/305)
الفصل الثاني
في طبيعة الأشياء
إذا حاولنا أن نصوغ ما في جدل لكريشيوس من اضطراب حماسي في صورة منطقية، فإن فكرته الأساسية تتمثل في ذلك البيت المشهور:
Tantum religio potint suadere malorum
ما أكثر ما بعثه الدين في قلوب الناس من شرور!
فهو يروي قصة إفجينيا في أوليس، والضحايا البشرية التي يخطئها الحصر، والذبائح التي تقدم قرباناً للآلهة التي يمثلونها في صورة البشر النهمين، ويذكرنا بالأهوال التي تحيط بالسذج والشبان حين يضلون في أجام الآلهة المنتقمة الجبارة، وما يقذفه في قلوبهم الرعد والبرق والموت والجحيم من رعب، وبالأهوال السفلى التي يصورها الفن الإتروري والقصص الشرقية الغامضة الخفية. وهو ينحى باللائمة على بني الإنسان لأنهم يفضلون مراسم التضحية على التعقل الفلسفي ويقول:
"أيها الخلائق البائسون ما بالكم تعزون إلى الآلهة هذه الأعمال الشائنة وهذا الغضب المرير! كم من أحزان يهيئها الناس لأنفسهم (بهذه العقائد) وكم من جراح تثخن بها أجسامنا، ودموع تذرفها أعين أبنائنا! ذلك أن التقوى لا تكون في كثرة توجيه الرأس المقنع إلى الأحجار، ولا في الاقتراب من جميع مذابح القربان، ولا في الركوع والسجود ... أمام هياكل يكون في طاقة الإنسان أن ينظر إلى الأشياء جميعها بعقل هادئ مطمئن" (7).(9/306)
ولا ينكر لكريشيوس وجود الآلهة، ولكنه يقول إنها تقيم بعيدة عنا، سعيدة كل السعادة في عزلتها وبعدها عن أفكار البشر ومتاعبهم، هنالك "وراء أسوار العالم المشتعلة" ( extar flammantia moeine mundi) بمنأى عن ضحايانا وصلواتنا، وهي تعيش كما يعيش أتباع أبيقور بعيدة عن الشؤون الدنيوية، فائقة بتأمل الجمال وعمل ما تتطلبه الصداقة والسلام (8). وليست الآلهة في رأيه هي التي خلقت العالم، وليست هي سبب ما يقع فيه من الأحداث، فمن ذا الذي يظلمها ذلك الظلم الصارخ فيتهمها بأنها سبب ما في الحياة على الأرض من تلف، واضطراب، وآلام، ومظالم؟ كلا إن هذا الكون اللانهائي الذي يشمل عدة عوالم مستقل عما سواه، ولا شأن له بغيره، ولا يسيطر عليه قانون خارج عنه؛ فالطبيعة تفعل كل شيء من نفسها. من ذا الذي أوتي من القوة ما يستطيع به أن يتصرف في الأشياء مجتمعة، ويقبض بيده على ذلك العنان القوي عنان الأبدية التي لا قرار لها؟ من ذا الذي يستطيع أن يحرك السموات كلها دفعة واحدة .. ويهز السماء الصافية بالرعد القاصف، ويقذف بالبرق فيزلزل به في كثير من الأحيان هياكل الآلهة، ويرسل الصواعق فيقضي بها على البريء وينجو منها المجرم" (9). إن إله الكون الذي لا إله سواه هو القانون، وأصدق العبادات، والسبيل الوحيد إلى السلام أن يعرف الناس ذلك القانون ويحبوه. إن مخاوف العقل وظلمته لا تبددها أشعة الشمس ... بل يبددها النظر في قوانين الطبيعة (11).
وهكذا "يمس" لكريشيوس "برحيق ربات الشعر" مادية دمقريطس الخشنة، ويصرح بأن مبدأه الأساسي المقرر أن لا وجود إلا للذرات والفراغ" (12) أي المادة والفضاء، ثم ينتقل من فوره إلى مبدأ جوهري (وافتراض) من مبادئ العلم الحديث، وهو أن ما في العالم من مادة وحركة لا يتغير أبداً، وألا شيء ينشأ من لا شيء، وأن ليس الإتلاف والتحطيم إلا تغيراً في الشكل، وأن الذرات لا تتحطم، ولا تتبدل، وأنها(9/307)
صلبة، مرنة، عديمة الصوت والرائحة والذوق واللون، وأنها لا حدود لها، يتدخل بعضها في بعض ليتكوّن منها مُركبات وصفات لا حصر لها، وتتحرك حركة لا انقطاع لها، في سكون الأشياء العديمة الحركة البادي للأنظار:
"فكثيراً من نرى على سفوح الجبال .. الأغنام ذات الأصواف تزحف حيث يغريها بالزحف الكلأ الذي تتلألأ عليه قطرات الندى، وترى الحملان التي شبعت ورويت تلعب وتتناطح في لعبها برؤوسها. ولكن هذه كلها تنطمس للبعيد عنها حتى لا تستطيع العين أن تميزها، وتبدو لطخة بيضاء على تل أخضر. وتنتشر الجيوش الجرارة في بعض الأحيان في ميادين واسعة؛ وتتحرك حركات تمثل بها الحروب، تسطع دروعهم البرنزية فتضيء ما حولها، وتنعكس على قبة السماء، وتزلزل الأرض وتجلجل تحت أقدام الجند وسنابك الخيل، وتصطدم هذه الأصوات بالجبال فتدفع بها مرة أخرى إلى نجوم السماء. ومع هذا فإن في تلل الجبال مكاناً تبدو منه هذه الجيوش كأنها ساكنة لا تتحرك؛ ولا تعدو أن تكون بقعة صغيرة بيضاء مستقرة فوق السهل" (13).
وتحتوي الذرات (1) على المنيمات minima أو "أصغر الأشياء"، وكل منيمة minimum جسم نهائي صلب، لا يقبل الانقسام، ولعل اختلاف ترتيب هذه الأجزاء هو السبب في اختلاف أحجام الذرات وأشكالها، وهو الاختلاف الذي ينشأ منه تباين الطبيعة تبايناً يسر النفوس وينعشها. والذرات لا تتحرك في خطوط مستقيمة أو منتظمة، بل إن في حركتها انحرافاً أو زيغاً دقيقاً لا يستطاع قياسه، وفيها تلقائية عنصرية تسري في جميع الأشياء وتصل إلى غايتها في إرادة الإنسان الحرة (2).
_________
(1) لم يستعمل لكريشيوس هذا اللفظ قط، ولكنه يطلق على جزيئاته الأولية اسم "الأوليات" أو العناصر أو البذور primordia, elementa, Semina.
(2) قارن هذا بمبدأ "الحتمية" التي يعزوها بعض علماء الطبيعة في هذه الأيام للكهارب (الإلكترونات). المترجم.(9/308)
لقد كانت كل الأشياء من قبل عماء، ولكن التوزيع التدريجي للذرات المتحركة حسب أحجامها وأشكالها قد أنتج- عن غير قصد- الهواء والنار والماء والتراب ومن هذه كلها نشأت الشمس والقمر والكواكب والنجوم؛ وفي الفضاء اللانهائي تنشأ باستمرار عوالم جديدة وتفتحت عوالم أخرى قديمة، والنجوم نيران مثبتة في حلقة من الأثير (وهو ضباب من ذرات أرق من الذرات السابقة) المحيطة بكل مجموعة كوكبية. وهذا الجدار الكوني الناري هو الذي يكون "أسوار العالم الملتهبة". ثم انفصل جزء من الضباب البدائي عن هذه الكتلة وأخذ يدور وحده وبرد فتكونت منه الأرض. وليست الزلازل ناشئة من صراخ الآلهة بل من تمدد الغازات والمجاري التي تحت الأرض. كما أن الرعد والبرق ليسا صوت الإله وأنفاسه بل هما نتيجتان طبيعيتان لتكاليف السحب واصطدامها بعضها ببعض. وليس المطر مرحمة من جوف بل هو رجوع الرطوبة التي بخرتها الشمس إلى الأرض.
والحياة في رأيه لا تختلف في جوهرها عن غيرها من خصائص المادة، فهي نتيجة الذرات التي لا حياة في كل منها بمفردها. وكما أن الكون قد اتخذ صورته الخاصة به طوعاً لقوانين المادة المتأصلة فيها، فكذلك أخرجت الأرض كل أنواع الكائنات الحية وأعضاءها بطريقة الانتخاب الطبيعي لا بغيرها من الطرق.
لا شيء ينشأ في الجسم ويقصد به أن نستخدمه، ولكن ما ينشأ فيه ينتج بعد وجوده الغرض الذي يستخدم فيه (14) .. فلم يكن هدف الذرات هو الذي جعلها ترتب نفسها ترتيباً قائماً على الذكاء والفطنة، بل السبب في ترتيبها هذا أن كثيراً من الذرات منذ الأزل قد تحركت والتقت بطرق مختلفة لا حصر لها، وجربت كل التراكيب المختلفة .. ومن ثم نشأت مبادئ الأشياء العظيمة ... وأجيال الكائنات الحية (15). وما أكثر ما حاولت الأرض أن توجده من الهولات، فمنها ما لم تكن له أقدام، ومنها ما لم تكن له يدان أو فم أو وجه أو أطراف ملتصقة بجسمه .. ولكن هذه المحاولات(9/309)
كلها ذهبت أدراج الرياح، فقد ضنت عليها الطبيعة بالنماء، ولم تستطيع هي أن تجد لنفسها الطعام، أو أن تتصل بعضها ببعض اتصالاً مبعثه الحب .. وما من شك في أن كثيراً من الحيوانات قد بادت في ذلك الوقت لأنها عجزت عن الاحتفاظ بأنواعها عن طريق التزاوج والتناسل، وسبب ذلك أن الأنواع التي لم تهبهما الطبيعة صفات "تحميها من أعدائها" كانت تحت رحمة غيرها، وسرعان ما هلكت وانقرضت (16).
وليس العقل ( Animue) إلا عضواً كالقدمين والعينين، وهو مثلهما أداة أو وظيفة لتلك الروح ( Anime) أو النسمة الحيوية، وهي مادة جداً رقيقة تنتشر في الجسم كله، وتبعث الحياة في كل جزء من أجزائه. وعلى الذرات الشديدة الحساسية التي يتكون فيها العقل تسقط الصور أو الأشرطة التي لا ينقطع خروجها من سطوح الأشياء. وهذا هو منشأ الإحساس. وينشأ الذوق والشم والسمع والبصر واللمس من جزيئات تخرج من هذه الأشياء وتقع على اللسان أو الحالق أو الخياشيم أو الاذنيين أو العينيين أو الجلد. والحواس كلها صور اللمس. وهي المحك النهائي للحقائق، فإذا ما ظن أنها أخطأت فليس ذلك إلا نتيجة لسوء التفسير، ولا يصحح خطأ إحدى الحواس إلا حاسة أخرى، ولا يمكن أن يكون العقل محك الحقائق لأن العقل يعتمد على التجارب أي على الإحساس.
وليست النفس شيئاً روحياً، ولا هي خالدة، فهي لا تستطيع تحريك الجسم إلا إذا كانت ذات جسم، وهي تنمو وتشيخ مع الجسم، وتتأثر بما يتأثر به من مرض ودواء وخمر، وتتبدد ذراتها تبدداً ظاهرياً حين يموت، ولو وجدت النفس بغير الجسم لكانت عديمة الإحساس عديمة المعنى؛ وما فائدة النفس بغير أعضاء اللمس والذوق والشم والسمع والبصر؟ والحياة لا توهب لنا لتكون ملكاً خالصاً لنا بل عارية نستعيرها ونحتفظ بها ما دمنا على الانتفاع بها، فإذا ما استنفدنا قوانا وجب علينا أن نغادر مائدة الحياة مغتبطين شاكرين، كما يغادر(9/310)
الضيف الوليمة. وليس الموت نفسه أمراً مخيفاً رهيباً، بل الذي يسبب رهبته هو خوفنا مما نلقاه في الدار الآخرة. ولكن الدار الآخرة لا وجود لها، والجحيم هو جحيم هذه الدنيا، فهو العذاب الناشئ من الجهل والانفعالات والتخاصم والشره؛ والجنة توجد على ظهر هذه الأرض، وهي معابد الحكماء الصافية sapientum templa serena (17) .
وليست الفضيلة في خوف الآلهة، ولا في تجنب الملذات وخشيتها، بل هي في تناسق أعمال الحواس والمواهب بإرشاد العقل؛ ومن الناس من يفنون أعمارهم من أجل تمثال يقام لهم، أو شهرة يتحدث بها الناس عنهم، ولكن "ثروة الإنسان الحقة هي أن يعيش عيشة بسيطة وعقله في سلام" ( vivere parce Aequo Animo) (18) ، وخير من العيش الجامد المعنت في الأبهاء المذهبة "الرقود في جماعات على الكلأ الناعم بجوار غدير تحت أشجار باسقة" (19)، أو سماع الألحان الموسيقية العذبة اللطيفة، أو أن يفقد الإنسان ذاته في حب أطفاله والعناية بهم، والزواج خير ولكن الحب المثير للعواطف جنون، يجرد العقل من صفائه وتدبيره. "فإذا أصابت الإنسان سهام فينوس- سواء أطلق هذه السهام غلام له أعضاء فتاة، أو أطلقتها امرأة يشع الحب من جسمها كله- فإنه ينجذب نحو مصدر الضربة ويتوق إلى الاتحاد معه" (20). ولا يستطيع زواج ولا مجتمع أياً كان نوعه أن يجد قاعدة سليمة يقوم عليها في هذا الغرام الجنوني.
ولما كان لكريشيوس قد وجه عواطفه كلها نحو الفلسفة ولم يجد في قلبه متسعاً للحب، فإنه أبى أن يعود إلى العهد الروائي العاطفي القديم الذي يقول به اليونان الذين كانوا يمجدون الحياة البدائية، وينادون بالعودة إلى الطبيعة، كما مجدها روسو ونادى بالعودة إليها.
نعم لقد كان الناس في ذلك الوقت أصلب عوداً، ولكنهم كانوا يعيشون في الكهوف، ولا يعرفون الناس، ويتناكحون بلا زواج، ويقتل بعضهم(9/311)
بعضاً بغير قانون، ويموت منهم جوعاً بقدر من يموت من المحتضرين بالتخمة (21).
أما الطريقة التي تمت بها الحضارة فيشرحها لكريشيوس في خلاصة موجزة لتاريخ الإنسان الطبيعي يقول فيها إن التنظيم الاجتماعي قد وهب الإنسان القدرة على البقاء بعد أن بادت الحيوانات التي كانت أشد منه قوة وبطشاً. وقد اهتدى إلى النار حين رآها تندلع من احتكاك أوراق الأشجار وأغصانها، وأنشأ من الإشارات والحركات لغة، وتعلم الغناء من الطير، وأنس الحيوان لمنفعته، كما استأنس هو بالزواج والقانون؛ ثم شق الأرض، ونسج الملابس، وصهر المعادن وصنع منها أدواته؛ ثم رصد كواكب السماء، وقاس الزمن وتعلم الملاحة؛ ثم رقى فن القتل، وتغلب على الضعفاء، وشاد المدن، وأقام الدول.
وليس التاريخ إلا موكب الدول والحضارات التي تنشأ وتزدهر ثم تضمحل وتفنى، ولكن كلاً منها تخلف وراءها تراثاً من العادات والأخلاق والفنون تتلقاه عنها الحضارات التي تأتي من بعدها "فهي كالعدائين في سباق يسلم كل منهم مصباح الحياة إلى غيره" (22)
( et quasi cursores vitai lampada tradut) وكل ما ينمو من الأشياء يضمحل: الأعضاء، والكائنات الحية، والأسر، والدول، والأجناس، والكواكب، والنجوم. والذرات وحدها هي التي لا تموت أبداً، وتوجد إلى جانب قوى الخلق والنماء قوى أخرى تعادلها وتوازنها وهي قوى التدمير، وهذه لا تنقطع عن العمل ما بين دفع وجذب وتراخ وانقباض، وحيات وموت. وفي الطبيعة خير وشر، والآلام يلقاها كل كائن حي وإن لم يستحقها، والانحلال يتبع خطى كل تطور، وأرضنا نفسها في طريقها إلى الموت والفناء، وها هي ذي الزلازل تخربها وتدمرها، والأرض تفقد قدرتها على الإنتاج والأمطار والأنهار تقرضها وتفتتها، وتنقل الجبال نفسها آخر الأمر إلى البحار، وسيأتي على عالمنا النجمي كله يوم يفنى فيه كما تفنى هذه الجبال؛(9/312)
فتهاجم جدران السماء من كل جوانبها وتتصدع ثم تتهدم وتخرب (23). ولكن ساعة الفناء نفسها تكشف عما في العالم من حيوية لا تقهر "ويمتزج بالعويل على الموتى البكاء على الطفل الوليد" (24) وتتكون عوالم جديدة ونجوم وكواكب جديدة، وتنشأ أرض أخرى وحياة غير الحياة الأولى، ويبدأ التطور من جديد.
وإذا ألقينا نظرة عامة على هذه القصيدة التي تعد "أروع نتاج الأدب القديم كله" (25)، فقد نلاحظ لأول وهلة ما فيها من عيوب: كاضطراب موضوعاتها التي حال موت الشاعر في مقتبل العمر دون مراجعتها، وتكرار عباراتها وأبياتها وفقرات منها برمتها، واعتقاده أن الشمس والقمر والنجوم ليست في حقيقتها أكبر مما تبدو للناظر إليها (26)، وعجز النظام الذي تشرحه القصيدة عن أن يفسر كيف تستحيل الذرات الميتة إلى حياة وإدراك، وإغفال الشاعر ما يبعثه الإيمان في المؤمن من نظر ثاقب وطمأنينة وساوى، وإلهام وشاعرية قوية محركة، كما أغفل ما للدين من آثار اجتماعية. ولكن ما أقل هذه الأغلاط وما أضعف شأنها أمام المحاولة الجريئة التي بذلها الشاعر لتفسير العالم والتاريخ والدين والمرض تفسيراً منطقياً معقولاً (1)، وأمام ما صور به الطبيعة من أنها عالم يسيطر عليه القانون لا يعتري المادة والحركة فيه زيادة أو نقصان. وأمام عظمة الموضوع الذي تحدث عنه ونبل الطريقة التي عرض بها؛ وأمام قوة الخيال المتصلة التي تشعر في كل مكان "بجلال الأشياء" وتسمو برؤى أنبادقليس، وعلم دمقرطيس، ومبادئ أبيقور الأخلاقية، إلى شعر يبلغ من الروعة والجمال أسمى ما بلغه الشعر المعروف في جميع العصور. فها هي ذي لغة كانت لا تزال بعد غير مصقولة ولا ناضجة تكاد في ذلك الوقت أن تكون
_________
(1) توجد كثير من بذور الأشياء التي تعيننا على الحياة، ولكن لا شك أيضاً في أن ثمة بذوراً أخرى كثيرة تتطاير وتؤدي إلى المرض.(9/313)
خلواً من المصطلحات الفلسفية والعلمية، بل خلقها ثم وجه الكلام القديم وجهات جديدة من حيث الوقع والجرس، وصاغ الوزن السداسي صياغة أكسبته حيوية وقوة لم تكن له في أية لغة أخرى من اللغات المعروفة، وسما به بين الفينة والفينة إلى درجة من الرقة والجمال والسلاسة لا تقل من نظائرها في شعر فرجيل. وإن ما في القصائد لكريشيوس من حيوية لا نفارقه في وقت من الأوقات ليدل على أنه قد استمتع بحياته كلها، لم يكد يترك فيها فترة قصيرة أو طويلة من يوم مولده إلى يوم وفاته إلا عاش خلالها على الرغم مما كان يحيط به من آلام متعددة وخيبة مريرة.
وكيف مات لكريشيوس؟ يقول القديس جيروم Saint Jerome إن "لكريشيوس قد جن على أثر تجرعه دواء يولد الحب، بعد أن كتب عدة كتب .. م مات منتحراً في الرابعة والأربعين من عمره" (28). وليس لهذه القصيدة ما يؤيدها، ويشك الكثيرون في صحتها، ولسنا نعتقد أن قديساً يستطيع أن يروي رواية عن حياة لكريشيوس منزهة عن الهوى. وقد وجد بعضهم ما يؤيد هذه القصة في قصيدته نفسها؛ ذلك أن منها شواهد على الذهن المكدود غير الطبيعي، فضلاً عن أن موضوعاتها مهوشة غير منظمة، وأنها مقتضبة تنتهي انتهاء فجائياً غير متوقع (29). ولكن الإنسان ليس في حاجة إلى أن يكون لكريشيوس- ولكريشيوس دون غيره- لكي يكون حاد المزاج سريع التهيج، مهوشاً، ولكي يموت.
لقد كان لكريشيوس كما كان يوربديز رجلاً من الطراز الحديث، وكان تفكيره وإحساسه يوائمان عصرنا الحاضر أكثر مما يوائمان القرن الأول قبل ميلاد المسيح. وقد تأثر به هوارس وفرجيل في أيام شبابهما، وهما يذكرانه من غير أن يبوحا باسمه في كثير من عباراتهما الجزلة، ولكن الجهود التي كان يبذلها أغسطس لإعادة الدين القديم قد جعلت هذين الشاعرين وهما صنيعتا أغسطس يريان أن(9/314)
ليس من الحكمة أن يعبرا في صراحة عن إعجابهما بلكريشيوس ويعترفا بما في عنقهما له من دين يضاف إلى هذا أن الفلسفة الأبيقورية لن تكن توائم العقل الروماني، كما كانت أعمال الأبيقوريين توائم الذوق الروماني في عصر لكريشيوس (1)، فقد كانت رومه في حاجة إلى رجل ذي فلسفة ميتافيزيقية يمجد القوى الصوفية الباطنية لا القوانين الطبيعية، والى عالم أخلاقي ينشئ شعباً حربياً كامل الرجولة لا شعباً من أصحاب النزعة الإنسانية المحبين للسلم والهدوء؛ وكانت في حاجة إلى فلسفة سياسية شبيهة بفلسفتي فرجيل وهوراس، تبرر سيطرة رومه الإمبراطورية. ولما بعث الدين من جديد بعد سنكا كاد الناس ينسون لكريشيوس، ولم يبدأ يظهر أثره في الفكر الأوربي إلا بعد أن كشفه بجيو Poggio من جديد في عام 1418 ب. م. وقد أخذ طبيب من مدينة فيرونا Varona يدعى جيرولامو فراكستورو Girolamo Fracastoro (1483 - 1553) عن الشاعر نظريته التي يقول فيها إن المريض ينشأ من "بذور" Semina خبيثة تسبح في الهواء، وفي عام 1647 أحيا جاسندي Gassndi الفلسفة الذرية. وكان فلتير يقرأ في طبيعة الأشياء في خشوع ويقول كما قال أوفد Ovid إن ما فيها من أبيات ثورية سيبقى ما بقيت الأرض (30).
وقد خاض لكريشيوس بمفرده أقسى الوقائع في زمانه ونعني بها إحدى وقائع الحرب الأبدية بين الشرق والغرب، بين "القلب الحنون" والإيمان الباعث للسلوى المخفف للأحزان من جهة، والعقل العنيد الجاسي والعلم المادي من جهة أخرى. ولسنا في حاجة إلى القول بأنه أعظم الشعراء الفلاسفة، وأنه هو الذي سما بالأدب اللاتيني ما سما به كاتلس وشيشرون إلى ذروة مجده؛ وبه انتقلت زعامة الأدب نهائياً من بلاد اليونان إلى رومه.
_________
(1) سنستخدم لفظي أبيقوري في هذه المجلدات بمعنى المؤمن بفلسفة أبيقور وزينون فيما وراء الطبيعة وفي الأخلاق. وقد نستعملها في بعض الأحيان لوصف الشخص الذي يميل إلى الدعة والنعيم في الحالة الأولى أو إلى تجنبهما الحالة الثانية.(9/315)
الفصل الثالث
حبيب لزبيا
في عام 57 ق. م غادر رومه كيوس مميوس Caius Memmius الذي أهدى إليه لكريشيوس قصيدته ليكون بريتوراً أولاً في بثينيا Bithynia، وكان حكم حكام الولايات الرومان قد أخذوا في ذلك الوقت يعتادون عادة جديدة هي أن يصطحب كل منهم عند سفره إلى ولايته أحد المؤلفين. ولم يأخذ هذا الحاكم معه لكريشيوس بل أخذ شاعراً يختلف عنه في كل شيء عدا قوة عاطفته ويدعى كونتس (أوكيوس) فليريوس كاتلس Quintus Valerius Catullus. وكان كونتس هذا قد قدم إلى رومه من مدينة فيرونا موطنه الأصلي، وكان لأبيه فيها من المنزلة ما يجيز له أن يكون ضيفاً كثير التردد على قيصر، وما من شك في كونتس نفسه كان على جانب كبير من الثراء، فقد كانت له بيوت ذات حدائق بالقرب من تيبور Tibur وعلى شواطئ بحيرة جاردا Garda، وكان له بيت جميل في رومه. وهو يقول عن هذه الأملاك إنها كانت مستغرقة في الدين، ولا ينفك يعلن أنه فقير، ولكن الصورة التي نستطيع أن نرسمها له من قصائده هي صورة الرجل المهذب الذي لا يهتم بكسب العيش، ولكنه يمتع نفسه بطيبات الدنيا من غير حساب في صحبة أمثاله المترفين في عاصمة الدولة. وكانت هذه الفئة تضم طائفة من العقول وأبرع الخطباء السياسيين من الشبان أمثال ماركس كثيليوس Marcus Caeliua وهو شريف أصبح فيما بعد شيوعياً، وليسينيوس كلفس Licinius Calvus الشاعر النابه والقانوني الضليع؛ وهلفيوس سنا Helvius Cinna الشاعر الذي كاد الغوغاء من أنصار أنطونيوس يحسبونه أحد قتلة قيصر وينهالون عليه ضرباً حتى يقضي نحبه. وكان هؤلاء يعارضون قيصر ويوجهون له كل ما تسعفهم(9/316)
به عقولهم من نكات لاذعة، وهو لا يعرفون أن ثورتهم الشعرية إنما تعبر عن الثورة التي يعيشون في جرها. وكان هؤلاء جميعاً قد ملوا الأدب القديم، ولم يطيقوا فجاجة نيفيوس Naevius وإنيوس Ennius وألفاظهما الطنانة المزوقة. وتاقت نفوسهم لأن يغنوا عواطف الشبان في أوزان جديدة غنائية في لفظ عذب رقيق عرف يوماً من الأيام في الإسكندرية أيام كلمكس Calimachus ولكن رومه لم تشهد مثله قبل أيامهم هذه. ولم يكونوا راضين عن المبادئ الأخلاقية القديمة وعن تقاليد السلف التي كانت تلقى على أسماعهم في كل حين من أفواه الكبراء المنهوكين. وكانوا ينادون بقدسية الغرائز، وبراءة الشهوات وعظمة التهتك والانغماس في الملاذ، ولم يكونوا هم وكاتلس أسوأ من غيرهم من أدباء الشبان الذين كانوا يعيشون في ذلك الجيل وفي الجيل الذي يليه: من هوارس Horace وأوفد Ovid وتيبلس Tibullus وبروبريتوس Propertius، بل ومن فرجيل الخجول في أيام شبابه، أولئك الذين جعلوا الشعر يدور حول كل امرأة متزوجة أو غير متزوجة، تقدم لربات شعرهم حباً سهلاً عابراً.
وكانت كلوديا Clodia أرشق فتاة في هذه الفئة، وهي من سلالة أسرة كلوديوس التي لم تذهب عنها حتى تلك الأيام عظمة الأباطرة (1). ويؤكد لنا أبوليوس Apeulius (31) أنها هي التي سماها كاتلس باسم لزبيا Lesbia إحياء لذكرى سابفة Sappho التي كان يترجم قصائدها أحياناً، ويحاكيها كثيراً، ويحبها دائماً. ولما جاء كاتلس إلى رومه في الثانية والعشرين من عمره اتخذها صديقة له، بينما كان زوجها حاكماً في بلاد غالة الإيطالية. وقد سحرت لبه من ساعة أن وضعت "قدمها البراقة على عتبة داره التي أبلتها أعتاب الناس من قبل، وكان يدعوها إلهته المتألقة ذات الخطوة الرشيقة". ولا غرابة في أن تفتنه خطاها، فإن مشية المرأة قد تكفي وحدها لتفتن الرجل كما يفتنه صوتها. وقد عطفت عليه فرضيت
_________
(1) انظر ما قلناه عنها قبل في هذا الكتاب.(9/317)
أن يكون من بين عبادها. ولم يكن في وسع الشاعر الهائم بها أن يضارع في غير ميدان الشعر مواهب منافسه فوضع تحت قدميها أجمل ما في اللغة اللاتينية من القصائد الغنائية، وترجم لها أحسن ترجمة وصفت بها سايفو لجنون المحبين وهو الجنون الذي كان يمتلكه وقتئذ (32). وكتب في الطائر الذي كانت تضمه إلى صدرها أبياتاً تعد من خير ما كتب في وصف الغيرة:
أيها الطائر يا بهجة حبيبتي
التي تلعب معك وتضمك إلى صدرها
والتي تمد لك سبابتها إذا طلبتها،
وتغريك بأن تعضها عضة قوية.
لست أدري أية دعابة لطيفة يلذ لحبيبتي الوضاءة
أن تداعب بها أمنيتي ... (1).
وقد أحس وقتاً ما بأن السعادة قد غمرته، وظل يتردد عليها كل يوم ينشدها قصائده، ونسى كل شيء إلا حبه إياها وافتنانه بها.
أي لزبياي حبيبتي هيا بنا نعيش،
ولا تلق بالاً إلى شيء مما ينطق به العجائز القساة
ونراه حقيراً غير جدير بالاعتبار.
قد تغرب الشموس ثم تعود؛
أما نحن فإذا غربت شمسنا القصيرة الأجل
غلب علينا السبات الطويل في ليلنا الأبدي.
ألا فاعطني ألف قبلة ثم مائة
ثم ألفاً أخرى، ثم مائة ثانية
_________
(1) لم يترجم أحد حتى الآن قصيدة كاتلس شعراً إنجليزياً والعبارة العربية التي في هذه الصفحة تكاد تكون ترجمة حرفية لما يقابلها في اللاتينية.(9/318)
ثم ألفاً بعدها، ثم مائة
حتى إذا بلغت القبلات آلافاً مؤلفة
تعمدنا الخطأ في العد والحساب لكيلا نعرف نحن عديدها
أو تحسدنا عليه نفس حقيرة
إن عرفت عدد قبلاتنا الكثيرة.
ولسنا نعرف كم من الوقت دامت هذه النشوة؛ وأكبر الظن أنها قد ملت آلافه المؤلفة، فرأت أن تراوح عن نفسها بعد أن خانت زوجها من أجله بأن تستبدل به عاشقاً غيره. واتسعت وقتئذ دائرة عشاقها حتى خالها كاتلس في نوبة من نوبات الجنون "تعانق ثلاثة آلاف زان مرة واحدة" (35). وأبغضها في الوقت الذي كانت فيه نار الحرب تلتهم فؤاده ( adi et Amo) (36) ، وأبى أن يستمع إلى ما كانت فيه تحدثه به من وفاء وإخلاص، وصور لنا هذا الإباء بالصورة المأثورة عن كيتس Keats:
إن الألفاظ التي تفوه بها المرأة للمحب الواله الجائع،
يجب أن تنقش على صفحة الرياح السافية،
وتحفر على مجاري الماء الدافقة (27).
ولما أصبح الشك اللاذع يقيناً لا مرية فيه، استحال هيامه بها حقداً عليها ورغبة قوية في الانتقام منها، فاتهمها بأنها تسلم نفسها لرواد الحانات، وأخذ يندد بمحبيها الجدد ولا يتورع عن سبهم بأفحش الأقوال وفكر في الانتحار، على حد قوله في شعره.
وقد أظهر في الوقت نفسه عواطف أشرف من هذه وأدل منها على نبله: فقد وجه إلى صديقه مانليوس في يوم عرسه أغنية يقول فيها إنه يحسده على ما يتيحه له زواجه من صحبة طيبة صالحة، وبيت آمن مستقر، ومن متاعب سعيدة هي متاعب الأبوة. ثم انتزع نفسه من مكان مأساته بأن صحب مميوس Memmius(9/319)
إلى بيثينيا Bithynia، ولكنه لم يحقق ما كان يرجوه فيها من استعادة نشاطه وماله. ثم خرج عن طريقه يوماً من الأيام ليبحث عن قبر أخ له مات بجوار طروادة، وادى لهذا الأخ الميت في خشوع مراسم الدفن التي يؤديها الأبناء لآبائهم، ثن أنشد بعدئذ بقليل أبياتاً رقيقة من الشعر أضحت بعض ألفاظها من الأقوال الخالدة:
أيها الأخ العزيز لقد تنقلت في كثير من الدول وجبت البحار.
وجئت لأقدم لك هذا القربان المحزن.
وأهدي إليك آخر ما يهدي إلى الأموات.
فتقبل هذه الهدايا التي تبللها دموع الأخوة؛
ووداعاً يا أخي إلى أبد الدهر.
وبدل مقامه في آسيا حاله، وهدأ من طبعه، وأثرت أديان الشرق القديمة واحتفالاته في هذا المتشكك الذي وصف الموت من قبل بأنه "سبات الليل الأبدي"، فوصف في "أتيس" Atys وهي أعظم قصائده كلها وأعذبها لفظاً وأوضحها تصويراً عبادة شيبيل Cybele وصفاً رائعاً قوياً، وامتلأت نفسه حمية وحماسة وهو يقرأ عويل عبادها الذين يضحون من أجلها برجولتهم، وحزنهم على متع الصبا وأصدقاء الشباب. وقد قص في قصيدته "بليوس وثيتس Peelus and Thetis" قصة بليوس وأردياني Ariadne في شعر سداسي الأوتاد حلو النغم لا يكاد يجاريه شعر فرجيل نفسه. وابتاع بعدئذ في بلده أمستريس Amastris يختاً صغيراً طاف به البحر الأسود وبحر الأرخبيل والبحر الأدرياوي وسار به صعداً في نهر البو Po حتى وصل إلى بحيرة جاردا Garda والى بيته في سرميو Sirmio.
وهنا أخذ يسأل نفسه قائلاً: "وهل ثمة سبيل للفرار من متاعب فوق فرشنا من أن نعود إلى مواطننا الأولى ومعابدنا، وأن نستريح فوق فرشنا المحبوبة؟ " (39) إن الناس يبدأون حياتهم بالبحث عن السعادة ثم يقنعون آخر الأمر بالسلام.(9/320)
إن علمنا بكاتلس لأوفى من علمنا بمعظم شعراء الرومان لأنه يكاد في جميع الأحوال يتخذ من نفسه موضوعاً لشعره؛ وإن هذه الصرخات الغنائية، صرخات الحب والكره، لتكشف عن نفس رحيمة حساسة قادرة على أن تكون ذات عواطف كريمة حتى للأهل والأقارب؛ ولكن الذي لا يسرنا منه أنه يجعل نفسه على الدوام موضوع شعره، ويتعمد الفحش في القول، ويقسو على أعدائه فينشر على الناس أخص خصائصهم، ويشنع على ميلهم للواط، وعلى رائحة أجسامهم النتنة، ويقول عن واحد منهم إنه يغسل أسنانه بالبول متبعاً في ذلك عادة أسبانية قديمة (40)، ويقول عن آخر إنه أبخر إذا فتح فاه مات في ذلك كل من حوله (41). فهو والحالة هذه يتذبذب في غير عناء بين الحب والقذارة، يقبل ويلوط، وينافس مارتيال Martial في قيادة الناس إلى أقذار رومه ومباذلها في أركان شوارعها. ويمثل ما يتصف به معاصره وأبناء طبقته من مزيج بين خشونة البداوة ورقة الحضارة، كأن الرومان المتعلمين مهما برعوا في آداب اليونان لم يستطيعوا قط أن ينسوا الإسطبلات والمعسكرات. ويدافع كاتلس عن نفسه بمثل ما يدافع به مارتيال فيقول إنه لابد له أن يمزج أبياته الشعرية بالأقذار لكي يسترعي بها انتباه مستمعيه.
على أنه قد كفر عن هذه السيئات بما كان يبذل من العناية الفائقة في الوصول بشعره إلى درجة الكمال. ففي أبياته الإحدى عشرية الأوتاد من الجمال الطبيعي غير المتكلف ما تعجزه عنه صنعة هورامس وتكلفه، وما يسمو في بعض الأحيان فوق أناقة فرجيل نفسه، وقد كلفه إخفاء فنه كثيراً من التفنن. وكثيراً ما يشير كاتلس إلى ما كان يعانيه من الجهد المؤلم والعناية الشديدة اللذين جعلا شعره سريع الفهم بين السهولة. وقد يسر له بلوغ هذه الغاية ما كان يعرفه من مفردات اللغة فقد كان يصوغ الألفاظ التي يتداولها الناس شعراً رقيقاً. وقد أغنى الآداب اللاتينية بألفاظ التصغير الرقيقة، كما أغناها بلغة الحانات الدارجة.(9/321)
وكان يتجنب قلب الألفاظ وتبديل مواضعها، كما كان يتجنب الإبهام والغموض؛ وكانت أبياته سلسة سهلة، خفيفة على السمع، ترحب بها الآذان. وقد عكف على دراسة شعراء الإسكندرية الهلنستيين (1)، وشعراء أيونيا الأقدمين، وأتقن ما يمتاز به شعر كلمكس Callimachus من عبارات سهلة وأوزان متعددة، وما في شعر أركلوكس Archelochus من قوة واتجاه مباشر نحو الغرض، وما في شعر أنكريون Anacreon من خمريات قوية، وما في شعر سابفو من حب ونشوة. والحق أننا إذا أردنا أن نحذر كيف كان أولئك الشعراء يكتبون معظم أشعارهم، فإن علينا أن ندرس كاتلس، فقد درس هذا الشاعر أشعارهم، وأجاد فهم دروسهم إجادة رفعته من مرتبة تلاميذهم حتى أصبح في مرتبتهم. وقد فعل في الشعر اللاتيني ما فعله شيشرون في النثر اللاتيني، تسلمه قوة فجة فسما به حتى أصبح فناً لا يفوقه فيه أحد غير فرجيل.
_________
(1) الذين لم يكونوا يونانيي الأصل ولكنهم اصطبغوا بالصبغة الهلينية (اليونانية). المترجم(9/322)
الفصل الرابع
العلماء
كيف كانت الكتب اللاتينية تكتب وتوضح بالرسوم، وتجلد وتنشر وتباع؟ لقد كان الرومان من أقدم الأزمان يكتبون التمارين المدرسية، والرسائل القصيرة، والسجلات التجارية التي لا يقصد بها أن تبقى طويلاً؛ كانوا يكتبون هذه كلها بقلم معدني ذي طرف رفيع على ألواح مطلية لطيفة من الشمع، ويمحون ما يكتبونه عليها بإبهامهم. وأقدم ما وصل إلينا من الأدب اللاتيني مكتوب بريش الطير والحبر على ورق مصنوع في مصر من أوراق نبات البردي التي يضم بعضها إلى بعض ويضغط ويلصق بالغراء. ثم بدأ الرق المتخذ من جلود الحيوان المجففة ينافس نبات البردي في القرن الأول الميلادي لكتابة الآداب والوثائق الهامة. وكانت الدبوما (المزدوجة) تتكون من ورقة مطوية من الرق. وكان الكتاب الأدبي يصدر عادة في صورة ملف ( Volumen أي الملفوف) وتفك طياته في أثناء قراءته. وكان النص يكتب عادة في عمودين أو ثلاثة أعمدة في كل صفحة، خالياً في كثير من الأحيان من علامات الترقيم والفواصل بين الجمل أو بين الكلمات نفسها. وكانت بعض المخطوطات توضحها رسوم بالحبر، فقد كان كتاب Imagines لفارو Varro مثلاً يتألف من سبعمائة صورة لعظماء الرجال، ومع كل صورة ترجمة لصاحبها. وكان في وسع أي إنسان أن ينشر أي مخطوط يشاء باستئجار الأرقاء لنسخ صور منه، وأن يبيع النسخ بعد كتابتها. وكان للأغنياء كتبة ينسخون لهم ما يشاءون من الكتب، ويطعمونهم، ولكنهم يأجرونهم على عملهم، ولذلك كانت الكتب رخيصة، وقد جرت العادة في أول الأمر أن تكتب(9/323)
ألف نسخة من كل مخطوط. وكان بائعو الكتب يشترون النسخ جملة من الناشرين أمثال أتكس Atticus ثم يبيعونها فرادى في محال بيعها. ولم يكن الناشر أو البائع يعطي المؤلف شيئاً، اللهم إلا كلمة طيبة أو هدية في بعض الأحيان، ذلك أن الرسوم التي تؤدي الآن إلى مالك الكتاب لم تكن معروفة في ذلك الوقت. وكانت المكتبات العامة كثيرة العدد، وقد جعل أسنيوس بليو Asinius Pollio في عام 40 ق. م مجموعته الخاصة أولى المكتبات العامة في رومه. وفكر قيصر بإنشاء مكتبة أخرى أكبر منها وجعل فارو مديراً لها، ولكن هذه الفكرة لم تنفذ إلا في عهد أغسطس، شأنها شأن كثير من أفكار قيصر ومشروعاته.
وكان من أثر هذه الوسائل المشجعة التي خففت كثيراً من المتاعب عن طلاب العلم، أن أخذ الأدباء والعلماء الرومان ينشطون نشاط علماء الإسكندرية وأدبائها، فغمر البلاد سيل جارف من القصائد والنشرات، وكتب التاريخ، والكتب المدرسية، لا يقل في قوته عن فيضان نهر التيبر نفسه. فكان كل شريف يزين مغامراته بالشعر، وكانت كل سيدة تكتب وتلحن، وكل قائد يدون مذكرات، وكان العصر عصر "الملخصات"، تخرج في كل موضوع من الموضوعات لتفي بحاجات ذلك العصر التجاري السريع.
وقد اتسع وقت ماركس ترنتيوس فارو Marcus Terentius Varro، رغم حملاته الحربية الكثيرة، خلال حياته التي دامت تسعة وثمانين عاماً (116 - 26 ق. م)، لتخليص كل فرع من فروع العلم يعرفه أهل زمانه. وكانت ملفاته البالغ عددها 620 ملفاً (نحو 74 كتاباً) دائرة معارف عصره كتبها رجل بمفرده. وقد افتتن بالبحث في أصول الكلمات فكتب مقالاً "في اللغة اللاتينية" لا يزال حتى الآن أكبر ما يهدينا إلى معرفة لغة الرومان الأولى. ولعله أراد أن يعاون أغسطس على تحقيق بعض أغراضه فحاول في رسالته " عن الحياة الريفية" De Re Rustica (36(9/324)
ق. م) أن يشجع الناس على العودة إلى الأرض لتكون خير ملجأ يعصمهم من فوضى النزاع المدني. وقد جاء في مقدمة هذه الرسالة: "إن السنة الثمانين تنذرني بان على أن أحزم متاعي وأستعد للخروج من هذه الحياة" (42)، وهو يرى أن تكون آخر وصيته له مرشداً يهديه إلى الحياة الريفية الهادئة السعيدة، ويعجب بالنساء القويات اللائي يلدن في الحقول ثم يواصلن عملهن من فورهن (43). ثم يبدي حزنه وأسفه على نقص نسبة المواليد بين المواطنين، وهو النقص الذي اخذ يبدل سكان رومه ويقول: "لقد كانت نعمة الأطفال سبب فخر المرأة وإعجابها بنفسها، أما الآن فإنها تفخر بما يفخر به إنيوس Ennius فتفضل أن تواجه الحرب ثلاث مرات على أن تلد طفلاً واحداً". ويقول في "عادياته المقدسة" Divine Antiquities إن كثرة النسل والنظام والشجاعة في أمة ما تتطلب مبادئ أخلاقية تؤيدها عقيدة دينية. ويأخذ بقول المشرع العظيم كونتس موسيوس أسكيفولا Q. Muciu Scarvola إن الدين نوعان- أحدهما للفلاسفة والثاني لعامة الشعب، وينادي بأن ثانيهما يجب أن يقوي وتثبت دعائمه، على الرغم مما فيه من عيوب ونقائص لا يرتضيها العقل، ويشير إلى بذل الجهود لإرجاع عبادة آلهة رومه القديمة إلى عهدها الأول، وإن كان هو نفسه يؤمن بنوع غامض من وحدة الوجود (1). ولقد تأثر بكاتو وبولبيوس فألقى بنفسه في تيار سياسة أغسطس الدينية وإن لم يكن من المؤمنين بمبادئها، كما نهج منهج فرجيل في تقواه الريفية.
وكأنما أراد فارو أن يتم أعمال كاتو الأكبر في جميع الميادين فاكمل كتاب الرقيب المعروف باسم "الأصول Oirgines" في كتابه هم المسمى "حياة الشعب الروماني"- وهو كتاب في تاريخ الحضارة الرومانية. ومما يؤسف له أن الدهر
_________
(1) "روح العالم هو الله وأجزاؤه التي يكون منها أرباب حقه".(9/325)
لم يبق على هذا الكتاب بل أباده كما أباد كل مؤلفات فارو تقريباً، على حين أنه أبقى التراجم التي كتبها كرنليوس نيبوس Cornelius Nepos، والتي لا تزيد قيمها على ما يكتبه صبية المدارس. لقد كان التاريخ في رومه فناً، لم يضم إلى صفات الفن خصائص العلم، ولم يرق حتى في كتابات تاستس Tacitus إلى درجة البعث الإنتقادي والى تلخيص المصادر. ولكن التاريخ بوصفه ميداناً من ميادين البلاغة قد وجد في ذلك العصر من يمارسه على خير وجه ونعني به كيوس سلستيوس كرسبس Caius sallustius Crispus (86 - 35 ق. م)، وقد قام كيوس بعمل هام في السياسة والحرب إلى جانب قيصر، وحكم نوميديا وبرع في السرقة، وأنفق كثيراً من المال على النساء، ثم ركن إلى حياة الترف والآداب في بيت له في رومه اشتهر فيما بعد بحدائقه الغناء وأصبح مسكناً للأباطرة. وكانت كتبه كما كانت سياسته مواصلة للحرب بوسائل غير وسائلها. فقد كانت "التواريخ وحرب جوجوثين، وكتلين" كلها دفاعاً مجيداً عن العامة وهجوماً عنيفاً على "الحرس القديم". وقد أظهر فيها ما كان في رومه من انحلال خلقي (1)، واتهم مجلس الشيوخ والمحاكم بأنها ترفع حقوق الملكية فوق الحقوق الإنسانية، وينطق ماريوس Marius بخطبة يؤكد فيها ما لطبقات الناس جميعاً من حقوق متساوية، ويطالب بان تفتح السبيل لذوي المواهب أياً كان مولدهم (46). ويزيد في تأثير قصصه بما يورده فيها من تعليقات فلسفية وتحاليل أخلاقية نفسية. وأوجد أسلوباً من الهجاء وجزءاً واضحاً سريعاً أصبح هو المثل الذي احتذاه تاستس Tacitus.
_________
(1) يدعى فارو أن أنيوس ميلو Annixs Milo قد ضبط سلست ملبساً بجريمة الزنى فأنهال عليه بالسياط، ولم يطلقه إلا بعد أن أدى مبلغاً من المال (46). ولكن أيضاً قد يكون سياسة لا تاريخاً.(9/326)
وقد استمد هذا الأسلوب لونه ونغمته من الخطب التي كانت تلقى السوق العامة وفي الحكم، شأنه في هذا شأن جميع النثر الروماني في القرن الذي كان يعيش فيه سلست وفي القرن الذي يليه. ذلك أن تقدم مهنة القضاء ونشأة الديمقراطية الكلامية قد زادا حاجة الناس إلى الخطابة العامة، فأخذت مدارس الخطابة يتضاعف عددها على الرغم من عداء الحكومة لها. وفي هذا يقول شيشرون إنك تجد "الخطابة في كل مكان"، وكان أول ظهور أساتذة هذا الفن في النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد، ومن أشهرهم ماركس أنطونيوس (ابن أنطونيوس الشهير)، ولوسيوس كراسس Lucius Crassus، وسلبسيوس روفوس Sulpicius Rufus، وكونتس هورتنسيوس Quintus Hortensius. وفي وسعنا أن نتصور ما كان لهؤلاء الخطباء من رئات قوية إذا علمنا أن الذين يستمعون لهم كانت لا تتسع لهم السوق العامة، بل كانت تغص بهم الهياكل والشرفات المجاورة لها. وكانت بلاغة هورتنسيوس واستعداده لأن يبيع مواهبه وضميره بالمال مما جعله محبوب الأشراف كما جعله من أغنى أغنياء رومه. وترك لورثته بعد وفاته عشرة آلاف دن من الخمر (46)، وكان إلقاؤه قوياً حباً حياً حتى كان روسيوس وإبسيوس وغيرهما من كبار الممثلين الذائعي الصيت يحضرون المحاكمات التي يترافع فيها ليتعلموا ما ينقصهم من فن التمثيل بدراسة حركاته وطريقة إلقائه؛ وقد حذا حذو كاتو الكبر فراجع خطبه ونشرها، وهو الفن الذي وصل به منافسه شيشرون إلى ذروة الكمال، والذي جعل للخطابة أبلغ الأثر في النثر الروماني كله. ولقد بلغت اللغة اللاتينية عن طريق الخطابة الدرجة القصوى في البلاغة والرونق والقوة والحمال الذي يبلغ جمال اللغات الشرقية؛ والحق أن الخطباء الشبان الذين جاءوا من بعد هورتنسيوس وشيرشرون كانوا يعيبون على ما يسمونه الأسلوب "الأسيوي" إسرافه في المحسنات اللفظية، وفي إثارة عواطف السامعين، حتى لقد أخذ قيصر وكلفس Calvus(9/327)
وبروتس Brutus وبليو Polio على أنفسهم أن يلتزموا أسلوب الخطابة "الأتكي" الذي يمتاز بالهدوء والعفة والاعتدال. وهنا قام الخلاف من زمن بعيد بين النزعتين "الإبداعية" و"الاتباعية" أي بين النظرة العاطفية والنظرة العقلية إلى الحياة، وما تستلزمه هذه النظرة الأخيرة من سيطرة على الأسلوب. وكان الشباب أصحاب المذهب الاتباعي يجأرون بالشكوى من أن الشرق قد أخذ يغلب رومه على أمرها في كل شيء حتى في الخطابة نفسها.(9/328)
الفصل الخامس
قلم شيشرون
كان شيشرون يفخر بخطبه ويدرك أن هذه الخطب تهيئ السبيل إلى الأدب الروماني، ولذلك أحس بوقع انتقادات المدرسة الأتيكية، فلم يعه إلا أن يدافع عن نفسه، فكتب عدة رسائل طويلة في فن الخطابة، وقد لخص في بعضها تاريخ البلاغة الرومانية في حوار واضح بارع وضع فيه القواعد التي يجب اتباعها في تأليف الخطب وفي الإيقاع والإلقاء. ولم يسلم في هذه الرسائل بأن أسلوبه "أسيوي"، وقال إنه قد حذا فيه حذو دمستين Demosthenes واتهم "الأتيكيين" بأن خطبهم الفاترة الخالية من العواطف تنيم السامعين أو تجعلهم يفرون منهم.
وتوضح السبع والخمسون التي وصلت إلينا من خطب شيشرون جميع الحيل التي يلجأ إليها من خطب الخطباء الناجحون. فهي توفي على الغاية في عرض ناحية واحدة من نواحي الموضوع الذي يتحدث عنه الخطيب عرضاً يفيض حرارة وحماسة؛ وفي إدخال السرور على المستمعين بالفكاهات والنوادر؛ وفي إثارة كبريائهم وأهوائهم، وعواطفهم، ووطنيتهم، وتقواهم؛ وفي عرض أخطاء المعارض له أو أخطاء مولاه سواء كانت صحيحة أو مما يرويها الناس عنه، وسواء كانت تمس الشؤون العامة أو تمسه هو نفسه؛ ويحذقه في تحويل انتباه السامعين من النقط التي في غير صالحه، وغمرهم بفيض من الأسئلة الخطابية يضعها بحيث تكون الإجابة عنها صعبة أو مؤذية، ثم يكيل التهم في جمل تكون عباراتها قوية قوة السياط، وتيارها الجارف يغمر المستمعين؛ ولا تدعى هذه الخطب أنها عادلة منصفة بل إن فيها من التجريح أكثر مما فيها من التصريح، وهي خلاصات يستغل من(9/329)
يلقيها حرية القذف التي كانت محرمة في المسارح، ولكنها مباحة في السوق العامة وفي ساحات القضاء. ولا يتردد شيشرون في أن يصف ضحاياه بألفاظ مثل "الخنزير" و"الوباء" و"الجزار" و"القذارة"؛ ويقول لبيزو Piso إن العذارى يقتلن أنفسهن ليتقين شر عُهره، ويصب اللعنات على أنطونيوس لأنه يظهر حبه لزوجته على ملأ الناس؛ وكانت هذه المثالب تسر المستمعين والمحلفين ولم يكن أحد من الناس يأخذها مأخذ الجد. ولم يأنف شيشرون نفسه من أن يكتب إلى بيزو رسائل تفيض وداً وصداقة بعد بضع سنين من هجومه الوحشي عليه في In Pisonem. وجدير بنا فوق هذا أن نقر بأن في خطب شيشرون من الأنانية والبلاغة الخطابية أكثر مما فيها من الإخلاص الخلقي أو الحكمة الفلسفية، بل إن فيها من الأنانية والبلاغة أكثر مما فيها من الفطنة أو التعمق القانوني، ولكنها بلاغة ليست كمثلها بلاغة قط. إن خطب ديموستين نفسه لم يكن فيها هذا التصوير الواضح، الحيوي، وهذه الفكاهة الغزيرة، وهذا القذف اللاذع لبني الإنسان؛ ومما لا جدال فيه أنا لا نجد أحداً قبل شيشرون أو بعده قد أكسب اللغة اللاتينية ما أكسبها هو من سحر وسلامة فاتنة، وقوة عاطفية وجمال. لقد كانت خطبه أسمى ما وصل إليه النثر اللاتيني؛ وقد كتب إليه قيصر الكريم وهو يهدي إليه كتابه "في التشبيه" يقول: "لقد كشفت كل كنوز الخطابة، وكنت أنت أول من استخدمها، وبذلك كانت لك اليد الطولي على جميع الرومان، وكنت مفخرة وطنك؛ لقد نلت نصراً دونه نصر أعظم القواد، لأن الذهن البشري أنبل من توسيع رقعة الإمبراطورية الرومانية" (47).
وتكشف خطب شيشرون عن أخلاقه السياسية، أما رسائله فتكشف عن إنسانيته، وتجعل المرء يعفو عن جميع عيوبه السياسية. لقد أملى هذه الخطب كلها إلا قلة منها على أمين سره، ولم يراجعها بنفسه، ولم يكن يفكر وهو يكتب معظمها أنها ستنشر على الملأ، ومن أجل هذا فإن الناس لم تعرض عليهم نفسية إنسان(9/330)
وسريرته كاملتين، كما عرضت عليهم نفسية شيشرون وسريرته. وفي ذلك يقول نيبوس Nepos " لا حاجة لمن يقرأ هذه الرسائل بقراءة تاريخ تلك الأيام"، ذلك أن في وسع قارئها أن يطلع على أهم الفصول الحيوية من المسرحية الثورية من داخلها، والستائر كلها مرفوعة عنها. وأسلوبها في الغالب صريح قديم، خال من الفن والتكلف، ملئ بالملح والفكاهات (49)، ولغتها مزيج جذاب من الرقة الأدبية، وسلاسة اللغة الدارجة. وهي أكثر ما بقي من آثار شيشرون بل من النثر اللاتيني كله طرافة ومتعة؛ ومن الطبيعي أن نجد في هذه المجموعة الكبيرة من الرسائل (وهي تشمل 864 رسالة تسعون منها كتبت لشيشرون) بعض المتناقضات وغير قليل من الشواهد الدالة على عدم الإخلاص. وليس فيها كلها أثر واحد للتقي والإيمان اللذين يطالعاننا كثيراً في مقالات شيشرون أو في تلك الخطب التي يجعل الآلهة فيها ملجأه الأخير، ويتبين لنا من هذه الرسائل أن رأيه الخاص في كثير من الناس، وخاصة في قيصر، لا يتفق على الدوام مع ما يصفهم به جهرة (50)، وفيها يظهر غروره الشديد الذي لا يكاد يصدقه العقل ألطف وأحب إلى النفس مما يظهر في خطبه، حيث يبدو لنا وكأنه يحمل معه تمثالاً أينما ذهب. وهو يقر مبتسماً بأن "تقديري لنفسي وثنائي عليها أعظم الأشياء قدراً عندي" (51). ويؤكد لنا في سذاجة ساحرة أنه "إذا كان في الناس من لا يتصف بالغرور فهو أنا" (52). ومما يلهو به القارئ ما يجده فيها من رسائل كثيرة عن المال، ومن أقوال كثيرة عن بيوته المتعددة. فقد كان له فضلاً عن بيوته ذات الحدائق في أربينوم Arpinum وأستوري Asturae وبتيولي وبمبي Pompeii كان له فضلاً عن هذه البيوت ضيعة في فورميا Formiae تبلغ قيمتها 250. 000 سترس، وأخرى في تسكولوم Tusculum تساوي 500. 000، وقصر عل تل بلاتين(9/331)
Palatine كلفته 3. 500. 000 (1) ألا إن هذه المتع وأسباب الترف لتبدو شنيعة مشينة إذا ما أتصف بها الفيلسوف.
ولكن هل في الناس من بلغت فضائله تبقى معها سمعته إذا ما نشرت رسائله الخاصة؟ والحق أن الإنسان إذا أمعن في قراءة هذه الرسائل يكاد يحب هذا الرجل. إنه في واقع الأمر لم يكن له من الأغلاط، ولعله لم يكن له من الغرور، اكثر مما لنا، ولكنه أخطأ إذ خلد هذه الأغلاط وهذا الغرور في نثر أوفى على الكمال. وخير ما نستطيع أن نصفه به أن كان عاملاً مجداً، وأباً رحيماً، وصديقاً وفياً؛ وفي وسعنا أن نراه في بيته مولعاً بكتبه وبأبنائه، يحاول أن يحب زوجه ترنتيا Terentia الغضوب المصابة بالرثية والتي لم تكن تقل عنه ثروة أو فصاحة. ولقد أوتى هو وزوجه من الثروة ما يبعد عنهما السعادة، وكانت متاعبهما ومنازعاتهما تنشأ على الدوام من حساباتهما الضخمة، وظلت هذه المنازعات تزداد حتى طلقها بسبب تشاحن على المال نشأ بينهما. ولم يلبث بعد أن طلقها أن تزوج بيليا Publia؛ وقد اسفلت نظره إليها أنها ذات ثروة طائلة وليست كبيرة السن، فلما أن أظهرت بغضها لابنته تليا Tullia طلقها هي الأخرى. وكان يحب تليا أشد الحب، فلما ماتت حزن عليها حزناً كاد يذهب بعقله، وأراد أن يشيد لها معبداً كمعابد الآلهة. ومن ألطف رسائل شيشرون التي كتبها إلى تيرو Tiro كبير أمناء سره والتي كتبها عنه. وكان تيرو يكتب ما يمليه عليه مختزلاً، ويشرف له على أمواله بقدرة وأمانة كافأه عليهما شيشرون بتحريره من الرق. وأكثر الخطابات عدداً هي التي كتبها إلى أتكس Atticus الذي كان
_________
(1) وهذا المبلغ الأخير اقترضه شيشرون من أحد عملائه. ولسنا نعرف هل رده له أو لم يرده. وقد كان المحامون يقترضون المال من عملائهم لأن القانون يحرم عليهم أن يتقاضوا منهم أجوراَ. وكان من الوسائل الأخرى التي يستحوذون بها على المال من عملائهم ألا ينساهم هؤلاء في وصاياهم. وقد ورث شيشرون بهذه الوسائل وغيرها عشرين مليون سترس في ثلاثين عاماً (53). إن أخلاق الناس وطبائعهم لتبدل دساتير الدول.(9/332)
يستثمر لشيشرون أمواله المدخرة والذي أنجاه من عدة ورطات مالية، ونشر له مؤلفاته، وأسدى إليه من النصح السديد ما لم يعمل به. وقد كتب شيشرون إلى أتكس، وكان غائباً في بلاد اليونان عن حكمة وفطنة حين بلغت الثورة عنفوانها، خطاباً يعد مضرب المثل في الوفاء وعذوبة اللفظ قال فيه:
لست اشعر بحاجة أشد من حاجتي إلى من أستطيع أن أفضي إليه بكل ما يتصل بي، ومن يحبني، ومن أثق بحزمه وحصافة رأيه، ومن أستطيع أن أتحدث إليه بلا ملق ولا رياء ولا تحفظ. إن أخي الذي يفيض صراحة وحناناً غائب عني ... وأنت يا من أنجيتني من متاعبي وأسباب قلقي برأيك السديد، ويا من كنت رفيقي في الشؤون العامة وموضع ثقتي في جميع شؤوني الخاصة. وشريكي في جميع أقوالي وأفكاري- أين أنت؟ (54).
وبينما كانت بلاد الرومان تمر بتلك الأيام العصيبة حين عبر قيصر الروبكون وهزم بمبي، ونصب نفسه حاكماً بأمره، اعتزل شيشرون الحياة العامة إلى حين وأخذ ينشد الراحة من عنائها في قراءة الفلسفة والكتابة فيها. وقد كتب إلى أتكس في ذلك الوقت يقول له: "تذكر ما وعدتني به فلا تعط كتبك لإنسان ما بل احتفظ بها لي. إني أحبها أعظم الحب، وتشمئز نفسي أشد الاشمئزاز من كل ما عداها" (55). وقد عمل وقتئذ بما كان ينصح به غيره، وأصدر في فترة لا تزيد إلا قليلاً على سنتين ما يكاد يكون مكتبة في الفلسفة (1). ذلك أن ضعف العقيدة الدينية لدى الطبقات العليا قد خلف وراءه فراغاً أخلاقياً لاح معه
_________
(1) De Republica, 5 ق. م: De Legibus 52Academica De Consolatione and De Finibus 45De Narure Dcorum, De Divinationen, De Fato, De Virtutibus, De Officüs De Amicitia, De Senectute, De Go oria, Disputationes Tuscnlanae وكل هذه في سنة 44 ق. م وفي عامي 45 - 44 ألف شيشرون خمسة كتب في فن الخطابة.(9/333)
أن رومه تتردى في مهاوي الانحلال الخلقي والاجتماعي. وكان شيشرون يأمل أن تحل الفلسفة محل الدين متهدي هذه الطبقات إلى الحياة الطبية، وتحفزها لأن تحيا هذه الحياة، ولم يكن يعتزم أن يضيف إلى النظم الفلسفية السابقة نظاماً جديداً، بل كان كل ما يهدف له هو تلخيص تعاليم حكماء اليونان وتقديمها للرومان لتكون آخر ما يهديه لهم في حياته (57). وقد بلغ من أمانته العلمية أن أقر في غير خفاء أنه يستمد فلسفته من رسائل بانتيوس Panaetiue وبوسيدونيوس Poseidonius وغيرهما من فلاسفة اليونان المحدثين (58)، وأن عمله لا يزيد على تكييف رسائلهما تكييفاً جديداً؛ بل إنه في بعض الأحيان لا يفعل أكثر من ترجمة هذه الرسائل. ولكنه قد حول نثر هؤلاء الفلاسفة الجاف الممل إلى لغة لاتينية سهلة، واضحة، جذابة، وجمل بحوثه بالحوار. وكان ينتقل فيها تنقلاً سريعاً من بيداء المنطق وما وراء الطبيعة الجدباء، إلى المشاكل الحية، مشاكل السلوك وحكم البلاد. وقد اضطر كما اضطر لكريشيوس إلى ابتكار مصطلحات فلسفية جديدة، ونجح في هذا نجاحاً جعله صاحب الفضل على اللغة والفلسفة كلتيهما. والحق أن الحكمة لم يزنها من أيام أفلاطون هو الذي استمد منه شيشرون معظم أفكاره؛ ذلك بأنه لم يكن يحب تحكم الأبيقوريين الذين "يتحدثون عن الأمور الإلهية حديث الواثقين، حتى ليخيل إليك أنهم قد جاءوا لساعتهم من مجتمع للآلهة". وكذلك لم يكن يعجبه تحكم الرواقين الذين يلوون الحجج عن قصد وتعمد حتى ليخيل إليك أن الآلهة أنفسها إنما وجدت لمنفعة الآدميين (59) وتلك نظرية لم ير شيشرون نفسه في بعض أطواره أنها بعيدة عن حكم العقل. وكانت النقطة التي بدأ منها فلسفته هي بعينها بداية فلسفة الأقديمية الجديدة The New Academy- أي التشكك الهين الذي لا يعترف بأن شيئاً ما مؤكداً كل التأكيد، والذي يرى في الاحتمالات الراجحة ما يكفي مطالب الحياة البشرية؛(9/334)
وفي ذلك يقول في بعض كتاباته: "إن فلسفتي في معظم الحالات هي فلسفة الشك (61) .. ولعلكم تأذنون لي ألا أعرف ما لا أعرفه" (61). ويقول في موضع آخر: "إن الذين يريدون أن يعرفوا رأيي الشخصي يظهرون قدراً من التشوف لا يقره العقل" (62). ولكن ما أوتي من قدرة فائقة على التعبير سرعان ما كان يتغلب على حيائه: فيهزأ بالتضحيات الدينية، والهاتفين والعرافين. ويخصص رسالة بأكملها لإنكار القدرة على التنبؤ بالغيب، ويتساءل في معرض استنكار الاعتقاد بالتنجيم، وهو الاعتقاد الذي كان واسع الانتشار في تلك الأيام، هل كان من قتلوا في واقعة كاني قد ولدوا في مطلع نجم واحد (63). بل إنه ليشك في أن العلم بالمستقبل خير لمن يعلمه، وذلك لأن المستقبل نفسه قد يكون كريهاً كغيره من الحقائق الكثيرة التي يدفعنا حمقنا إلى الجري وراءها. ويظن شيشرون أن في مقدوره أن يقضي على العقائد القديمة كلها قضاء مبرماً بالسخرية منها والاستهزاء بها. فيقول مثلاً: "إذا سميت الحب سيريز Ceres (1) وسميت الخمر باخوس Bachus كانت هذه التسمية استعارة من الاستعارات المألوفة، ولكن هل تظن أن أحداً من الناس قد بلغ به الجنون إلى الحد الذي يعتقد معه أن ما يأكله إله بحق" (63). على أن شكه في الإلحاد لم يكن يقل عن شكه في أية عقيدة تحكمية أخرى. فهو يرفض العقيدة الذرية (2) التي كان يقول بها دمقريطس ولكريشيوس، ويقول إن من أبعد الأشياء أن تنظم الذرات نفسها بلا هاد يهديها ولو ظلت تفعل كذلك أبد الدهر، ثم ينشأ من هذا التنظيم عالمنا الذي نعيش فيه. وشأنها في ذلك شأن الحروف الهجائية فإن من أبعد الأشياء كذلك أن تتجمع هذه الحروف من تلقاء نفسها فينشأ من تجمعها "حوليات إنيوس" (64). ويقول إن
_________
(1) سيريز هو الاسم الروماني لدمتر Demeter إلهة الحرث والحب عند اليونان.
(2) هي العقيدة القائلة بأن الذرات قد تجمعت ونظمت نفسها فنشأ الكون من ذينك التجمع والتنظيم. المترجم.(9/335)
جهلنا بالآلهة ليس بالدليل القاطع على عدم وجودها، بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا فيقول إن إجماع الناس على وجودها يكفي في حد ذاته لترجيح وجود قوة مدبرة. ويستخلص من هذا أن الدين نظام لابد منه للأخلاق الشخصية والنظام العام، وأنه نظام لا يمكن أن يهاجمه إنسان عاقل (65)؛ ولذلك فإنه ظل يقوم بواجبات العراف الرسمي في الوقت الذي كان يكتب فيه ضد التنبؤ والعرافة. ولم يكن يعد هذا نفاقاً بمعناه الصحيح، ولعله كان يسميه سياسة وحسن التصرف. ذلك أن الأخلاق الرومانية، والمجتمع الروماني، ونظام احكم فيه، كانت كلها وثيقة الارتباط بالدين القديم، وأنه إذا أريد لها البقاء وجب ألا يترك هذا الدين كي يموت. (وكان الأباطرة يبررون اضطهاد المسيحيين بمثل هذه الحجج). ولما توفيت تليا التي كان يحبها أعظم الحب، اشتدت به نزعة الأمل في الخلود. وكان قبل ذلك بعدة سنين كثيرة قد استعار من فيثاغورس وأفلاطون وإيكسودس في "حلم سبيو" الذي اختتم به "جمهورية" أسطورة معقدة بليغة عن حياة بعد الموت، ينعم فيها الموتى العظماء الصالحين بالنعيم الأبدي. أما في رسائله الخاصة- وحتى في رسائله التي يواسي فيها الثاكلين من أصدقائه- فإنه لا يذكر قط شيئاً عن الحياة الآخرة.
وإذ كان على علم بما يسري في أيامه من نزعة التشكك فإن الأسس التي أقام عليها بحوثه في الأخلاق والسياسة كانت أسساً دنيوية محضة، لا تعتمد قط على تأييد غير القوى الطبيعية. فهو يبدأ (في De Finbus) بالتساؤل عن الطريق الموصل إلى السعادة. ثم يوافق الرواقيين في شيء من التردد على أن الفضيلة وحدها لا تكفي للوصول إليها. ومن أجل هذا تراه (في De Effcüs) يبحث عن طريق الفضيلة، ويفلح بفضل جمال أسلوبه في أن يجعل الواجب محبباً ممتعاً إلى حين، وفي ذلك يقول: "الناس جميعاً أخوة، وخليق بنا أن نعد العالم كله مدينة مشتركة للآلهة والبشر على السواء" (66). ثم يواصل حديثه قائلاً إن(9/336)
أسمى المبادئ الخلقية هي الولاء لهذا الكل، ولاء يكون الحافز له هو الضمير الحي. وأول ما يجب على الإنسان لنفسه وللمجتمع، أن يقيم حياته على أساس اقتصادي سليم، وعليه بعدئذ أن يؤدي واجباته بوصفه مواطناً في بلده. والسياسة الحكيمة أعظم شرفاً من أعمق البحوث الفلسفية (67).
وهو يرى أن الملكية المطلقة خير أنواع الحكومات إذا كان الملك صالحاً، وأكثرها شراً وفساداً إذا كان الملك فاسداً- وتلك حقيقة سرعان ما تأيدت في رومه نفسها. وعنده أن الحكومات الأرستقراطية تصلح إذا كان الحاكمون فيها هم أحسن الناس حقاً. ولكن شيشرون، وهو من أفراد الطبقة الوسطى، لا يسلم تسليماً مطلقاً بأن الأسر القديمة المحافظة على أرستقراطيتها خير الأسر. والحكم الديمقراطي في رأيه يصلح إذا كان الشعب فاضلاً، وهذا في ظنه لا يكون أبداً. هذا إلى أن هذا الحكم يفسده الافتراض الكاذب بأن الناس متساوون. ولذلك كان خير الحكومات هي التي تقوم على دستور يجمع بين هذه الأنواع كلها كحكومة رومه قبل عهد ابني جراكس، فقد جمعت بين سلطة الجمعيات الديمقراطية، وسلطة مجلس الشيوخ الأرستقراطية، وسلطة القنصلين التي لا تكاد تقل عن سلطة الملوك في السنة التي يتوليان فيها منصبهما, والملكية إذا لم تكن لها ضوابط وموازين تصبح حكومة استبدادية، كما أن هذه الظروف نفسها تجعل الأرستقراطية ألجركية، وتجعل الديمقراطية حكم الغوغاء وتستحيل إلى فوضى وطغيان. وقد كتب بعد خمس سنين من تولى قيصر منصب القنصلية، وكأنه فيما كتب كان يصّوب السهم إلى صدر قيصر:
يقول أفلاطون إن الحكام المستبدين ينبتون من مغالاة الناس في التحلل من القيود تحللاً يسميه حرية، كما ينبت النبات من الجذور ... وإن هذه الحرية تهوى بالأمة آخر الأمر إلى درك الاستعباد .. إن كل شيء يزيد على(9/337)
حده ينقلب إلى ضده .. وذلك لأن العامة التي ليس لها حاكم يسيطر عليها تختار من بينها في العادة زعيماً يقودها .. وهو إنسان جرئ لا ضمير له .. يسعى لنيل رضاء الناس بما يعطيهم من أموال غيرهم. ولما كان هذا الرجل يخشى أشد الخشية أن يظل فرداً كغيره من الأفراد فإنهم يخلعون عليه حماية المنصب العام، ويجددون له هذه الحماية على الدوام، فيحيط نفسه بحرس مسلح، وينتهي به الأمر إلى أن يصبح طاغية يستبد بالشعب الذي حباه القوة والسلطان (68).
ولكن قيصراً رغم هذا نال بغيته، ورأى شيشرون أن خير ما يفعله هو أن يكظم غيظه ويرفه عن نفسه بالقول المعاد في القانون، والصداقة، والمجد، والشيخوخة، وبأن "القوانين تلتزم الصمت في أيام الحرب" Silent lege enter arma على حد قوله هو نفسه. على أنه كان في وسعه على الأقل أن يستسلم للتفكير في فلسفة القانون، وقد عرفه كما عرفه الرواقيون بأنه "التفكير الصحيح المتفق مع الطبيعة" (69) أي أن القانون يعمل لجعل الصلات التي تنشأ من دوافع الناس الاجتماعية صلات منظمة مستقرة. وفي ذلك يقول إن "الطبيعة قد غرست في نفوسنا الميل إلى حب الناس" (المجتمع)، "وهذا هو أصل القانون" (70) ويرى شيشرون أن الصداقة يجب ألا تقوم على المنافع المتبادلة بل على المصالح المشتركة التي تدعمها، وتحدوها الفضيلة والعدالة، وأن قانون الصداقة هو "ألا يطلب الإنسان إلى صديقه أن يعمل أشياء غير شريفة، وألا يعملها هو إذا طلب إليه عملها (71)، وعنده أن الحياة الشريفة هي خير ضمان للشيخوخة السارة، وأن الاستهتار والإسراف في أيام الصبا يتركان الشيخوخة جسماً والعقل منهوكا قبل الأوان. أما الحياة التي تقضي على خير وجه فقد يبقى الجسم والعقل فيها سليمين حتى يبلغ المرء مائة من السنين، ولنضرب لذلك ماسينسا Masinassa. والانكباب على الدرس قد يجعل الإنسان "يغفل عن اقتراب الشيخوخة منه خفية (72). والشيخوخة أمجادها كما للشباب أمجاده- ففيها الحكمة المتسامية،(9/338)
وفيها حب الأطفال آباءهم وإجلالهم إياهم، وفيها تهدأ حمى الرغبات والمطامح. وقد تخشى الشيخوخة الموت ولكن ذلك لا يحدث إذا كان العقل قد كونته الفلسفة، فأدرك أن وراء القبر، في أحسن الأحوال، حياة جديدة أسعد من الحياة وفي أسوئها من عنائها (73).
وفي وسعنا أن نحكم على مقالات شيشرون في الفلسفة بأنها كلها ضئيلة الأثر، وأنها كآرائه في الحكم والسياسة تستمسك فوق ما يجب بالسنن القديمة والتقاليد المرعية. وسبب ذلك أنه وإن أوتي تشوف العالم فقد أوتي معه حذر أبناء الطبقة الوسطى وضعف عزيمتهم، ولذلك ظل في فلسفته نفسها سياسياً يكره أن يسيء إلى شخص واحد من الناس، خشية أن يفقد بذلك صوته يوم الانتخاب. وكان ديدنه أن يجمع آراء غيره ويجيد الموازنة بين ما لها وما عليها، فإذا انتهى من هذه الموازنة خرج السامع بعدها من نفس الباب الذي دخل منه، لا يدري أي الكفتين ترجح على الأخرى. ولولا ما امتازت به هذه الكتب الصغيرة من أسلوب سهل جميل لعفي عليها الزمان، ولما بقي لها ذكر الآن. فما أجمل لاتينية شيشرون وما أسهل قراءتها، وما أسلس لغتها وأوضحها! لقد كان إذا قص حادثة أسبغ عليها من الحيوية التي تسري في خطبه فتسترعي الأسماع وتسحر الألباب. وإذا وصف شخصاً أظهر في هذا الوصف من البراعة ما يجعل القارئ يتأسف معه لأنه لم يجد متسعاً من الوقت يمكنه من أن يكون أعظم مؤرخي رومه (74)، وإذا انطلق في الخطابة أفاض على السامع جُملاً متزنة، جميلة اللفظ، قوية العبارة، مما أخذه عن إيزوقراطيس Isocrates، وجعل السوق العامة تدوي بالتصفيق والاستحسان.
إن آراء شيشرون هي آراء الطبقات العليا، أما أسلوبه فقد أراد به أيصل إلى قلوب الشعب؛ ومن أجل هذا تراه يبذل جهده لكي يكون(9/339)
هذا الأسلوب واضحاً لا غموض فيه، وأن تكون الحقائق التي يوردها مما يهز مشاعر السامعين هزاً، وهو يمزج المعنويات بالنوادر والفكاهات.
وملاك القول أن شيشرون قد خلق اللغة اللاتينية خلقاً جديداً، فوسع نطاق مفرداتها، وصاغ منها أداة مرنة للتعبير عن الفلسفة، وجعلها صالحة لاستيعاب الآداب والعلوم في أوربا الغربية سبعة عشر قرناً من الزمان. وإن الأجيال التي جاءت بعده لتذكره على أنه مؤلف أكثر منه رجل سياسة. ولما أن نسي الناس ما قام به وهو قنصل من أعمال مجيدة، أو كادوا ينسونها، على الرغم مما فيها من ذكريات طيبة، ظلوا يمجدون فتوحه في عالم الأدب والفصاحة. وإذ كان من عادة الناس أن يمجدوا الصورة كما يمجدون المادة، وأن يعظموا الفن كما يعظمون العلم والسلطان، دون سائر الرومان، من الشهرة ما لم ينل أكثر منه إلا قيصر وحده. ولم يغفر هو لرومه هذا الاستثناء الوحيد.(9/340)
الباب التاسع
قيصر
100 - 44 ق. م
الفصل الأول
الرقيع
يقول يوليوس قيصر إنه ينتمي إلى يولوس أسكانيوس Iulus Ascanius ابن إينياس Aeneas ابن فينوس Venus الزهرة) ابنة جوبتر: أي أنه بدأ حياته إلهاً واختتمها إلهاً. وكال آل يوليوس من أقدم الأسر في إيطاليا وأعلاها شرفاً، وإن كان الدهر قد عدا عليها فذهب بمالها وأفقرها. فقد كان أحد أفراد هذه الأسرة يوليوس قنصلاً في عام 489، كان منها قنصل آخر في عام 482، وكان فوبسكس يوليوس Vopiscus Julius قنصلاً في عام 473، وسكستس يوليوس Sextus Julius في عام 157، وآخر في عام 91 (1). وقد ورث عن عم لزوجته يدعى ماريوس- كما يرث الناس في بعض الأحيان عن أعمامهم- ميلاً إلى المبادئ السياسية المتطرفة. وكانت أمه أورليا سيدة وقورة حكيمة مقتصدة في تدبير شؤون بيتها الصغير، وكان هذا البيت(9/341)
في حي سابورة- وهو حي من الطراز القديم، ومن الأحياء التي تكثر فيها الحوانيت والحانات والمواخير. في هذا البيت ولد قيصر في عام 100ق. م، وكان مولده نتيجة لجراحة هي التي كانت سبباً في تسميته باسمه الأول (1).
ويقول سيوتونيوس Suetnius فيما نقله عنه هلند Holland إن قيصر هذا كان شخصاً مطيعاً سلس القياد إلى حد يدعو للعجب، كما كان الميل إلى التعلم". وكان المعلم الذي يتولى تعليمه اللغتين اللاتينية واليونانية وعلوم البلاغة رجلاً من الغاليين. وشرع قيصر مع هذا المعلم يعد نفسه على غير علم منه للفوز بأعظم فتوحه كلها. ذلك أن الشاب أظهر استعداداً عظيماً للخطابة، وبدأ في شبابه يكتب ويؤلف. ثم أنقذه من هذه النزعة تعيينه ياوراً حربياً لماركس ثرمس Marcus Thermus في آسيا. وأحبه نقوميدس Nicomedes والى بيثينيا Bithynia حباً دفع شيشرون وغيره من الثرثارين المغتابين إلى أن يعيروه بأنه "أسلم عذرته لملك" (2). ولما عاد إلى رومه في عام 84 تزوج كوساتيا Cossutia استجابة لرغبة أبيه. فلما أن توفي والده بعد زواجه منها بزمن قليل طلقها وتزوج كرونليا Cornelia ابنة سنا Cinna الذي تولى قيادة الثورة بعد ماريوس. ولما تولى صلا زمام السلطة أمر قيصر أن يطلق كورنليا، فلما أبى أن يطيع هذا المر صادر صلا أملاكه التي ورثها عن أبيه كما صادر بائنة كورنليا وسجل اسمه في المحكوم عليهم بالإعدام.
ولما علم قيصر بذلك هرب من إيطاليا وانضم إلى الجيش المحارب في قليقية، حتى إذا مات صلا عاد إلى رومه (75). ولما رأى أن أعداءه هم أصحاب الأمر والنهي فيها غادرها مرة أخرى إلى آسيا. وأسره القراصنة في الطريق واقتادوه إلى كمين لهم في قليقية، وعرضوا عليه أن يطلقوا سراحه نظير فدية قدرها عشرون
_________
(1) وكانت الجراحات حتى في ذلك الوقت البعيد وسيلة قديمة من وسائل الولادة. وقد ورد ذكرها في القوانين المزودة إلى نوما Numa. على أن اسم قيصر لم يكن مشتقاً من هذه الجراحة ( Caesus ad utero matria) فقد سمي به من قبله كثيرون من أسرة اليوليوسيين.(9/342)
تالنتا (72. 000 ريال أمريكي)، فلما سمع ذلك لاسهم على أنهم لم يقدروه حق قدره، وعرض عليهم هو نفسه أن يعطيهم خمسين تالنتا. وأرسل خدمه ليأتوه بالمال، وأخذ في هذه الأثناء يسلي نفسه بكتابة القصائد وقراءتها على آسريه. فلما لم تعجبهم قصائده سماهم برابرة همجاً، وأوعدهم بأنه سيشنقهم في أول فرصة تتاح له. ولما جاءه الفداء أسرع بالذهاب إلى ميليطس Miletus وأعد السفن والملاحين، وطارد القراصنة وقبض عليهم، واستعاد منهم الفداء، وصلبهم؛ ولكنه وهو الرجل الشفيق الرحيم قطع رقابهم أولاً (3). وذهب بعدئذ إلى جزيرة رودس ليدرس فيها البلاغة والفلسفة.
ولما عاد إلى رومه وزع جهوده بين السياسة والحب. وكان وسيم الوجه وإن كان سقوط شعر رأسه في هذه السن المبكرة أخذ يشغل باله. ولما توفيت كرنليا في عام 68 تزوج بمبا ابنة حفيدة صلا. وإذ كان هذا الزواج زواجاً سياسياً محضاً فإنه لم يتورع عن العلاقات الجنسية غير المشروعة حسب عادة ذلك الوقت؛ ولكن هذه العلاقات بلغت من الكثرة ومن التنوع الشاذ حداً جعل كوريا Curia ( والد قائده الأخير) يصفه بقوله إنه "زوج كل امرأة وزوجة كل رجل ommium mulierum vir et ommium virorum mulier" (4) . وظل يتبع هذه العادات نفسها في حروبه فيبعث مع كيلوبطرة في مصر، ومع الملكة إيونو Eunoe في نوميديا، ومع كثيرات من النساء في غالة، حتى كان جنوده يلقبونه في مزاحهم بلقب "الزاني الأصلع". ولما تم له النصر في بلاد الغاليين أخذ جنوده ينشدون بيتين من الشعر المقفى يحذرون فيهما جميع الأزواج بقولهم إن عليهم أن يغلقوا الأبواب على زوجاتهم ما دام قيصر في المدينة. وكان الأشراف يحقدون عليه لسببين أولهما أنه قضى على امتيازاتهم، وثانيهما أنه أفسد زوجاتهم؛ وطلق بمبي زوجته لاتصالها بقيصر، ولم تكن كراهية كاتو الشديدة له منبعثة عن أسباب فلسفية خالصة بل كان من أسبابها أن أختاً له غير شقيقة تدعى(9/343)
سرفليا Servilia كانت أحب عشيقات قيصر له. ولما ارتاب كاتو في صلات قيصر بكاتلين وظنه شريكاً له في مؤامراته طلب إليه في مجلس الشيوخ أن يقرأ جهرة رسالة جئ بها إليه في تلك اللحظة، فما كان من قيصر إلا أن أوصلهما إليه دون تعليق عليها، فإذا هي رسالة حب بعثت بها إليه سرفليا (5). وظلت تهيم بحبه طوال حياته؛ وكانت ألسنة السوء القاسية تتهما في أخريات أيامها بأنها أسلمت ابنتها ترشيا Tertia إلى قيصر لتشبع شهواته. وحدث في مزاد علني أثناء الحرب الأهلية أن باع قيصر إلى سرفليا ضياعاً صادرها من جماعة من الأشراف المعاندين بثمن أسمى زهيد. ولما أظهر بعضهم دهشته من ضآلة الثمن قال شيشرون في سخرية لاذعة كانت خليقة بأن تطيح برأسه إنه tertia deducta، وهي عبارة تحتمل معنيين فقد يكون معناها أن الثمن "ينقص ثلثه" وقد تكون إشارة منه إلى الإشاعة الرائجة وقتئذ وهي أن سرفليا قد جاءت بابنتها ترشيا إلى قيصر. وأصبحت ترشيا فيما بعد زوجاً ليكيوس القاتل الأول لقيصر، وهكذا يختلط عشق الخلائق بالفتن التي تندلع نيرانها في الدول.
ولعل هذه الظروف قد ساعدت على رفع قيصر إلى أعلى الدرجات، ولعلها أيضاً قد عانت على سقوطه. فقد كانت كل امرأة فاز بحبها صديقة له عظيمة النفع، وخاصة في معسكرات الأعداء؛ وقد حافظت معظمهن على وفائهن له حتى بعد أن هدأت عاطفة حبه لهن وأضحت لا تزيد على المجاملات المألوفة من الرجال إلى النساء. من ذلك أن كراسس أقرض قيصر أموالاً طائلة ليستخدمها في الدعاية لنفسه وهو يطالب بالقنصلية فيرشو بها الشعب، ويقيم له الألعاب، وذلك على الرغم مما كان يشاع وقتئذ من أن زوجته ترتلا كانت تعشق قيصر.
وحسبك دليلاً على مقدار هذه الأموال أن قيصر كان يوم ما مديناً له بثمانمائة تالنت (2. 800. 000 ريال أمريكي). ولم يكن الباعث على هذه القروض هو الكرم والصداقة، بل كانت بمثابة اشتراك من أصحابها في الحملات(9/344)
تود إليهم في صورة مساعدات سياسية أو غنائم حربية؛ فقد كان كراسس- كما كان أتكس- في حاجة إلى من يحمي ملايينه وتتيح له فرص استثمارها. وكان معظم الساسة الرومان في ذلك الوقت ينوءون بمثل هذه "الديون". فقد كان ماركس أنطونيوس مثلاً مديناً بنحو 40. 000. 000 سسترس، وشيشرون بستين مليوناً، وميلو Milo بسبعين مليوناً على أن من الجائز أن تكون هذه الأرقام افتراء على هؤلاء الساسة.
وجملة القول أن علينا أن نتمثل في أول حياته في صورة السياسي الذي لا ضمير له، والرقيع المستهتر، الذي بدلته السنون والتبعات شيئاً فشيئاً فجعلته من أقدر رجال الحكم وأرعاهم للحرمات في تاريخ العالم. وينبغي لنا- ونحن نطرب من عيوبه ونقائصه- ألا ننسى أنه كان رجلاً عظيماً على الرغم من هذه العيوب والنقائص. وليس في وسعنا أن نسوي بين أنفسنا وبين قيصر بقولنا إنه كان يضلل بالنساء، ويرشو الزعماء، ويؤلف الكتب.(9/345)
الفصل الثاني
القنصل
بدأ قيصر حياته السياسية بأن تحالف مع كاتلين سراً واختتمها بأن أعاد الحياة إلى رومه. ذلك أنه لم يكد يمضي عام واحد على موت صلا حتى قدم للمحاكمة نيوس دلابلا Gnaeus Dolabella أحد العاملين في حركة صلا الرجعية، وكان قرار المحلفين على غير ما يشتهيه قيصر، ولكن العامة هللت له حين هاجم ذلك القرار في خطبة بليغة ردد فيها المبادئ الديمقراطية. نعم إنه لم يكن يضارع شيشرون في تحمسه وفكاهته، أو في جمله الموزونة القوية، أو في حدة لسانه. والحق أن قيصر كان يبغض أسلوب شيشرون "الأسيوي" لأنه اعتاد من أول الأمر ذلك الأسلوب الموجز القوي ذا البساطة الصارمة التي امتازت بها فيما بعد "تعليقاته" على الحربين الغالية والأهلية. على أنه رغم هذا كله لم يلبث أن صار أفصح الفصحاء في رومه إذا استثنينا شيشرون نفسه (6).
واختير قيصر كوسترا في عام 68، وأرسل للعمل في أسبانيا حيث تولى قيادة الحملات العسكرية التي سيرت لتأديب القبائل الوطنية، فخرب مدنها، ونهب من الأموال ما استطاع أن يوفي به بعض ما عليه من الديون. على أن هذه المدن قد حمدت له في الوقت نفسه أن خفض فوائد قروضها من الماليين الرومان، ولما قدم إلى مدينة جادز وشاهد فيها تمثالاً للإسكندر الأكبر أخذ يلوم نفسه على أنه لم يعمل إلا القليل في مثل السن التي فتح الفتى المقدوني حين بلغها نصف عالم البحر الأبيض المتوسط.
ثم عاد بعدئذ إلى رومه واندفع في الصراع القائم وقتئذ في سبيل المنصب والسلطان. فاختير إيديلا أو مشرفاً على المباني العامة في عام 65، وأنفق أمواله-(9/346)
أي أموال كراسس- في تزيين السوق العامة بما أقامه فيها من المباني والأعمدة الجديدة؛ وأخذ يتودد إلى العامة بما كان ينفقه عن سعة على الألعاب. وكان صلا قد أزال من الكبتول ما جمعه فيه ماريوس من شارات النصر كالأعلام والصور والمغانم التي تمثل صفات الرجل المتطرف القديم وانتصاراته، فأعادها كلها قيصر إلى مواضعها واغتبط بعودتها جنود ماريوس القدامى أشد الاغتباط، وأظهر بهذا العمل وحدة سياسته المناقضة لسياسة ماريوس. واحتج المحافظون على هذه السياسة، وعرفوا من ذلك الوقت أنه رجل يجب عليهم أن يعملوا للقضاء عليه.
وكان في عام 64 ق. م رئيساً لإحدى اللجان التي عينت للنظر في بعض قضايا القتل، فاستدعى للمثول أمام اللجنة من كان حياً من عمال صلا الذين عاونوه على وضع قوائم من حكم عليهم هذا القنصل، وقضى على الكثيرين من هؤلاء العمال بالنفي أو الإعدام. وفي عام 63 ق. م اقترع في مجلس الشيوخ ضد إعدام من اشتركوا مع كاتلين، وقال في عرض خطابه إن الشخصية البشرية لا بقاء لها بعد الممات (7)؛ ويلوح أن قوله هذا كان الجزء الوحيد من خطابه الذي لم يسيء فيه إلى أحد. واختير في تلك السنة نفسها رئيساً أعلى الدين الروماني pontifex maximus ثم اختير في عام 62 بريتورا praetor وأمر في ذلك العام بمحاكمة أحد زعماء المحافظين لاختلاسه بعض الأموال العامة. وفي عام 61 عين والياً على أسبانيا ولكن دائنيه حالوا بينه وبين السفر إليها، وأقر في ذلك الوقت أنه في حاجة إلى 25. 000. 000 سسترس إذا أراد ألا يمتلك شيئاً قط، فتقدم كراسس لمعونته وضمنه في جميع ديونه. وبذلك استطاع أن يسافر إلى أسبانيا، ويشن حملات حربية مروعة على القبائل الثائرة ذات النزعة الاستقلالية. وعاد بعدها إلى رومه ومعه من الغنائم ما يكفي لأداء ديونه وملء خزائن الدولة بالمال، فما كان من مجلس الشيوخ إلا أن اقترح أن يقام له احتفال بنصره العظيم. ولعل(9/347)
الأشراف قد أظهروا بعملهم هذا كثيراً من الهاء وحصافة الرأي، فقد كانوا يعرفون أن قيصر سيرشح نفسه لمنصب القنصلية، وأن القانون ينص على ألا يرشح لها من كان غائباً عن البلاد، وأن من يقام له احتفال بالنصر يحب أن يظل بحكم القانون بعيداً عنها إلى يوم الاحتفال- وحرص مجلس الشيوخ على أن يحدده بعد موعد الانتخاب. ولكن قيصر استبق يوم الاحتفال بنصره، ودخل المدينة وأدار المعركة الانتخابية بجد ومهارة عجز معارضوه عن مقاومتها.
وكان سبب نجاحه مهارته في ضم بمبي إلى قضية الحرية. وكان بمبي قد عاد تواً من بلاد الشرق بعد أن قام فيها بسلسلة من الأعمال الحربية والسياسية المجيدة، فقد طهر البحر من القراصنة، وأمن بذلك سبل التجارة في البحر الأبيض المتوسط، وأعاد الرخاء إلى المدن التي كان رخاؤها يعتمد على هذه التجارة. وكان قد أرضى أصحاب المال في رومه بفتح بيثينيا وبنتس وسوريا، وكان قد خلع ملوكاً وأجلس على العرش آخرين، وأقرضهم الأموال من غنائمه الحربية بفوائد باهظة، وقبل رشوة كبيرة من ملك مصر الذي دعاه إلى القدوم إليها لإخماد فتنة اندلع لهيبها في تلك البلاد. ثم عاد فامتنع ما اتفق عليه بحجة أنه عمل غير مشروع (9)؛ ونشر لواء السلام في ربوع فلسطين وجعلها ولاية خاضعة لنفوذ رومه، وأنشأ تسعا وثلاثين مدينة جديدة، وأقر حكم القانون والنظام والسلام. وقصارى القول أنه كان قد سلك قبل ذلك الوقت مسلك السياسي الحكيم والحاكم القدير وأن مسلكه عاد على البلاد بالمال الوفير. فلما رجع إلى رومه حمل إليها ثروة عظيمة من الضرائب، والخراج، والبضائع التي غنمها في حروبه، ومن الأموال التي افتدى بها الأرقاء أو بيعوا بها، فاستطاع بذلك أن يعمر خزانة الدولة بمائتي مليون سسترس، وأن يضمن لها إيراداً سنوياً قدره ثلاثمائة وخمسون مليوناً، وأن يوزع على جنوده ثلاثمائة وأربعة وثمانين مليوناً، وأن يستبقي لنفسه رغم هذا كله من المال ما ينافس به كراسس فيكون أحد رجلين هما أغنى أغنياء رومه.(9/348)
وكان خوف مجلس الشيوخ من هذه الأعمال أكثر من سروره منها، فلما علم أن بمبي قد نزل في برندزيوم (62) ومعه جيش يدين له بالولاء والإخلاص، ويستطيع بكلمة من قائده أن يجعله حاكماً بأمره على البلاد، لما علم مجلس الشيوخ ذلك تملكه الرعب. ولكن بمبي كان رجلاً كريماً عظيماً، فسرح جنوده ودخل رومه وليس معه إلا أتباعه الأخصاء. ودام الاحتفال بنصره يومين كاملين، ولكن هذه الفترة على طولها لم تكف لعرض الحفلات التي تصور انتصاراته وتظهر مغانمه.
وكان مجلس الشيوخ حقوداً ضنيناً، فرفض طلبه القاضي بتوزيع الأرض على جنوده، ولم يقر الاتفاقات التي عقدها مع الملوك المغلوبين، وأعاد النظم التي أقامها من قبله لوكلس في بلاد الشرق والتي أغفلها بمبي. وكانت نتيجة هذه العمال أن تمزق اتفاق شيشرون المعروف بحلف الطبقات Concordi ordinum، وأن ألقى بمبي والرأسماليين في أحضان الطبقات الدنيا واغتنم قيصر هذه الفرصة السانحة فألف منه ومن بمبي وكراسس الحكومة الثلاثية الأولى (63) وتعهدوا جميعاً أن يقاوموا كل تشريع لا يرضى عنه أي واحد منهم. واتفق بمبي أن يساعد قيصر في أن ينتخب قنصلاً، كما تعهد قيصر، إذا ما اختير لهذا المنصب، أن ينفذ الاقتراحات التي عرضها ورفضها مجلس الشيوخ.
وكانت الحملة الانتخابية شديدة مريرة استخدمت فيها الرشوة من كلا الجانبين. ولما سمع كاتو زعيم المحافظين أن حزبه يبتاع أصوات الناخبين تحلل من مبادئه الأولى ووافق على هذا العمل بحجة أنه وسيلة إلى غرض نبيل، واختار العامة قيصر كما اختار الأشراف ببياوس Pibulus.
وما كاد قيصر يتسلم مقاليد منصبه (59) حتى عرض على مجلس الشيوخ(9/349)
المطالب التي تقدم بها بمبي: وهي توزيع الأرض على عشرين ألفاً من المواطنين الفقراء ومنهم جنود بمبي، والتصديق على الاتفاقات التي عقدها بمبي في بلاد الشرق، وتخفيض المبالغ التي تعهد الملتزمون بجمعها من ولايات آسيا بمقدار ثلثها.
ولما عارض المجلس كل مطلب من هذه المطالب بجميع ما لديه من وسائل فعل قيصر ما فعله ابنا جراكس، فعرضها على الجمعية مباشرة. واستطاع المحافظون أن يقنعوا ببيلوس، كما أقنعوا العرافين بأن يعلنوا أن الحظ غير موات لإجابتها. ولم يأبه قيصر لأقوال العرافين، وحمل الجمعية على أن تتهم ببيلوس بالخيانة، وقام رجل متحمس من العامة فأفرغ وعاء من البراز على رأس ببيلوس.
ثم وافقت الجمعية على مشروعات قيصر، وكانت تجمع، كما تجمع مشروعات ابني جراكس، بين السياسة وخطة مالية ترضي رجال الأعمال. وأعجب بمبي بوفاء قيصر بعهده، واتخذ يوليا ابنته زوجة رابعة له، وأصبح الاتفاق بين العامة والطبقة الوسطى رابطة حب وصداقة. وتعهد أعضاء الحكومة الثلاثية للنجاح المتطرف من أتباعهم أن يؤيدوا ببيلوس كلوديوس Publius Clodius في أن ينتخب تربيوناً في خريف عام 59، وأخذوا يعملون من ذلك الحين للمحافظة على رضاء الناخبين بما يقدمونه لهم من ضروب اللهو والألعاب الكثيرة.
وتقدم قيصر بمشروعه الثاني الخاص بتوزيع الأراضي في شهر إبريل من ذلك العام نفسه. وكان هذا المشروع يقضي بتوزيع الأراضي التي تملكها الدولة في كمبانيا على من كان له ثلاثة أبناء من المواطنين الفقراء؛ وتجاهل قيصر مجلس الشيوخ مرة أخرى، وأجازت الجمعية المشروع، وبذلك تمت الموافقة على سياسة ابني جراكس بعد جهود دامت مائة عام كاملة. ولزم ببليوس Bibulus في ذلك الوقت بيته واكتفى بأن أخذ يصدر من حين إلى حين تصريحات يقول فيها إن الطوالع غير مواتية للتشريعات الجديدة. أما قيصر يصرف الشؤون العامة(9/350)
من غير أن يستشيره فيها، وبلغ من إهماله إياه أن كان الفكهون من أهل المدينة يصفون هذا العام بأنه "قنصلية يوليوس وقيصر". وأراد أن يفرض رقابة الشعب على مجلس الشيوخ، فأنشأ أول صحيفة إخبارية، بأن جعل الكتبة يسجلون أعمال الشيوخ وغيرهم، مضافة إلى الأخبار اليومية، ثم تعلق هذه "الأعمال اليومية" ويحملها إلى جميع أجزاء الإمبراطورية رُسل يخصصون لهذا العمل.
وقبل أن تنتهي فترة هذه القنصلية التاريخية أفلح قيصر في أن يعين والياً على بلاد الغالة الجنوبية وغالة ناربونة في الخمس السنين التي تلي سنة القنصلية. وإذ كان القانون يحرم إقامة الجنود في إيطاليا نفسها فإن قيادة الفيالق المقيمة في شمال إيطاليا قد جعلت لصاحبها السيطرة العسكرية على شبه الجزيرة بأكملها. وأراد قيصر أن يستوثق من بقاء تشريعاته السابقة، فعمل على أينتخب صديقاه جابنيوس Gabinius وبيزو Piso قنصلين في عام 58، وتزوج كلبيرنيا Calpurnla ابنة بيزو؛ ولكي يضمن استمرار العامة على تأييده بذل جهوده الموفقة لانتخاب كلوديوس تربيوناً في عام 58. ولم يحز لنسفه أن تتأثر مشروعاته بطلاقة الحديث لزوجته الثالثة بمبيا بسبب ارتيابه في صلاتها غير المشروعة بكلوديوس.(9/351)
الفصل الثالث
الأخلاق والسياسة
كان ببليوس كلوديوس بلشر Publiws Claudius Pulcher أيببليوس كلوديوس الجميل فرعاً من دوحة آل كلوديوس. وكان شاباً أرستقراطياً باسلاً لا يهاب الردى ولا يتورع من الناحية الخلقية عن اقتراف أية موبقة. وقد نزل من مرتبته السامية، كما نزل منها كاتلين وقيصر، ليقود العامة في كفاحهم ضد الأغنياء، وأراد أن يكون من حقه أن يختار تربيوناً فأقنع إحدى الأسر الفقيرة في أن تتبناه، وأراد أن يعيد توزيع الثروة التي تجمعت في أيدي بعض الطبقات في رومه، وأن يقضي على شيشرون- وكان قد استطال في عرض أخته كلوديا وأخذ يدليع عن حرمة الملكية- فعمل جندياً عادياً تحت إمرة قيصر حتى يستطيع أن يستولي على زمام السلطة. وكان يعجب بخطط قيصر ويعشق زوجته، واحتال للوصول إليها بأن تزيى بزي امرأة ودخل بيت قيصر، ثم تزيى بزي كاهن واشترك في المراسم الدينية التي يقيمها النساء وحدهن إلى الآلهة الطيبة Bona Dea. ثم افتضح سره ووجهت إليه تهمة الاعتداء على حرمة الإلهة وأسرارها، وحوكم على هذه التهمة. ولما نودي على قيصر ليشهد عليه قال إنه لا يوجه تهمة ما إلى كلوديوس. فلما سأله المدعي العمومي عن سبب طلاقه بمبيا قال إن سبب هذا الطلاق هو "أن زوجتي يجب أن تكون بعيدة عن الشبهات".
وكانت هذه إجابة لبقة تسيء إلى ذلك العون السياسي القيم، ولا تسيء إليه هو، وشهد كثيرون من الشهود بأن كلوديوس من الشهود كان على اتصال بكلوديا، وأنه ضاجع أخته ترشيا بعد زواجها من لوكس: واحتج كلوديوس بانه كان غائباً عن رومه في ذلك اليوم الذي يعزى إليه فيه ذلك الاتهام المزعوم الدنيء، ولكن(9/352)
شيشرون شهد بان كلوديوس كان معه في رومه في ذلك اليوم نفسه. وظن الشعب أن المسألة كلها مؤامرة من مجلس الشيوخ للقضاء على زعيم من زعمائه، وأخذ يطالب ببراءته من التهمة الموجهة إليه. ورشا كراسس عدداً من القضاة- بتحريض قيصر كما يقول بعضهم- ليحكموا في صالح كلوديوس، واستطاع المتطرفون للمرة الأولى أن يقدموا من المال أكثر مما يقدمه المحافظون، وبرئ كلوديوس. ولم يدع قيصر هذه الفرصة السانحة تفلت من يده فاستبدل بزوجة من أبناء المحافظين ابنة أحد الشيوخ المناصرين لقضية الشعب.
ولم يكد قيصر يعتزل منصبه حتى اقترح بعض المحافظين إلغاء كل التشريعات التي أصدرها إلغاء تاماً. ولم يكتم رايه في هذه "القوانين اليوليوسية" وطلب بمحوها من سجلات القوانين الرومانية. وتردد مجلس الشيوخ في الاستجابة إلى هذا التحدي الصريح لقيصر ومن ورائه الجحافل الرومانية، ولكلوديوس المسيطر على التربيونية. وكان كاتو في عام 63 قد خطب ود الشعب وحاول ضمه إلى جانب المحافظين بإعادة النظام القاضي بتوزيع الغلال على الأهلين بثمن بخس. وأراد كلوديوس أن يكون أكثر منه استرضاء للعامة فأخذ يوزع الغلال من غير ثمن على كل من يطلبها، وأقرت الجمعية بناء على طلبه مشروعات قوانين تحرم رفض الإجراءات التشريعية بالاستناد إلى الحجج الدينية وتجعل تأليف الهيئات النقابية من الحقوق المشروعة، وكان مجلس الشيوخ قد حاول من قبل حلها. وقد أعاد هو تنظيم هذه الهيئات وجعل لها حق الاقتراع مجتمعة، وكسب بذلك ولاءها وإخلاصها له، فعينت له من أعضائها حرساً مسلحاً. وإذ كان يخشى أن يحاول كاتو وشيشرون، بعد أن تنتهي فترة توليه منصبه، إلغاء ما قام به قيصر من الأعمال فقد أقنع الجمعية بتعيين كاتو مندوباً رومانياً في قبرص وإصدار قرار يقضي بنفي كل من يتسبب في قتل أي مواطن روماني دون أن يحصل على موافقة الجمعية، كما تتطلب ذلك قوانين الدولة. ورأى شيشرون أنه هو المقصود بهذا القانون، ففر إلى(9/353)
بلاد اليونان حيث أخذت المدن والشخصيات الكبيرة تتنافس في تكريمه والاحتفاء بمقدمه. وكان رد الجمعية على هذا القرار أن قررت مصادرة أملاك شيشرون، وهدم بيته القائم على تل البلاتين Palatine.
وكان من حسن حظ شيشرون أن كلوديوس قد غمره ما ناله من نصر، فأخذ يهاجم بمبي وقيصر، ويحاول الانفراد بزعامة الشعب. وكان جواب بمبي على خطط كلوديوس أن أيد الطلب الذي تقدم به كونتس Quintus أخو شيشرون بالسماح لخطيب رومه أن يعود إليها. ودعا مجلس الشيوخ جميع المواطنين الرومان إلى الاجتماع في عاصمة الدولة ليبدوا رأيهم في هذا الاقتراح. وجاء كلوديوس بعصابة مسلحة إلى ميدان المريخ لتشرف على عملية الاقتراع، واستخدم بمبي رجلاً فقيراً من الأشراف يدعى أنيوس مليو Annius Milo لتنظيم عصابة أخرى لمناوأتها، وكانت نتيجة ذلك حدوث شغب واضطراب سفكت فيه الدماء، فقتل عدد كبير من الناس ولم ينج كونتس نفسه من القتل إلا بمعجزة من المعجزات. على أنه أفلح فيما كان يرمي إليه، وعاد شيشرون ظافراً إلى رومه بعد نفي دام عدة شهور (57)، وحيته في طريقه من برنديزيوم إلى رومه جماهير غفيرة بلغت من الكثرة حداً تظاهر معه شيشرون بالخوف من أن يتهم بأنه قد دبر أمر نفيه ليحظى بهذا التكريم العظيم عند عودته (11).
ويلوح أنه قد تعهد بمناصرة بمبي، ولعله أيضاً قد تعهد بمناصرة قيصر، نظير سماحمها بعودته. وشاهد ذلك أن قيصر أقرضه أموالاً كثيرة لينظم بها شؤونه المالية من جديد، وأبى أن يتقاضى عليها فائدة (12). وظل شيشرون بعد عودته عدة سنين المدافع عن أقطاب الحكومة الثلاثية والناطق بلسانهم مجلس الشيوخ.
ولما لاح في أفق رومه خطر نقص الحبوب مرة أخرى (57) استطاع أن(9/354)
يحصل لبمبي على تفويض عجيب، هو أن تكون له السلطة الكاملة مدى ست سنين على كل موارد الطعام في رومه، وعلى جميع الدولة وتجارتها الخارجية. واستطاع بمبي مرة أخرى أن يفيد من هذه السلطة أعظم إفادة، ولكن دستور الجمهورية أصيب مرة أخرى بطعنة نجلاء، وظل حكم الأفراد يحل محل حكم القانون. وكذلك استطاع شيشرون أن يقنع مجلس الشيوخ بالموافقة على اقتراح عرض عليه بتقديم مبلغ كبير من المال لأداء مرتبات جنود قيصر في غالة. وفي عام 54 أفلح في دفاعه عن حكم أولس جابنيوس Aulus Gabinius، حاكم إحدى الولايات وصديق رجال الحكومة الثلاثية، حتى برئ من تهمة ابتزاز أموال الولايات واستخدام العنف في الحصول عليها. وفي عام 55 خسر كل ما كسبه من عطف قيصر ومعونته بهجومه العنيف على وال روماني آخر يدعى كلبيرنيوس بيزو Calpurnius Piso. ذلك أنه لم ينس قط أن بيزو هذا كان من الذين اقترعوا على نفيه، ونسي أن ابنة بيزو كانت زوجة قيصر.
ولما عاد كاتو من قبرص عام 57 ق. م بعد أأعاد تنظيم شؤونها على خير وجه شرع المحافظون يلمون شعثثهم ويعيدون تنظيم صفوفها، وكان كلوديوس قد أضحى وقتئذ عدو بمبي الألد فقبل ما عرضه عليه الأشراف من أن يعيرهم محبة الشعب وعصاباته السفاحة. واتجه الأدب من ذلك الوقت وجهة معادية لقيصر وأخذت قصائد كلفس Clavus وكاتلس Catullus الهجائية تصّوب كالسهام المسمومة معسكر الحكومة الثلاثية. وكلما توغل قيصر في بلاد الغاليين، وتواترت أنباء ما كان يلاقيه فيها من الأخطار الكثيرة، أخذ الأمل يدب من جديد في صدور الشخصيات النبيلة، وقال شيشرون وقتئذ إن "من لم يمت بالسيف مات بغيره".(9/355)
وإذا جاز لنا أن نصدق ما قاله قيصر، فإن عدداً من المحافظين قد أخذوا يأتمرون مع أربوفستس Ariovistus القائد الجرماني على اغتيال قيصر (13). وسارع دميتوس Domitius يرشح نفسه للقنصلية، ويعلن أنه إذا ما فاز بها فسيقترح من فوره على المجلس استدعاء قيصر- أي أن قيصر سيتهم ويحاكم. وتلونّ شيشرون بلون الزمان، فاقترح أن ينظر مجلس الشيوخ في يومي 25، 26 من شهر مايو في إلغاء قوانين قيصر الخاصة بالأراضي الزراعية.(9/356)
الفصل الرابع
فتح بلاد غالة
تسلم قيصر في عام 58 ق. م مهام منصبه، منصب حاكم بلاد غالة الجنوبية والنربونية، أي شمالي إيطاليا وجنوبي فرنسا. وكان أريوفستس قد سار في عام 71 ق. م على رأس خمسة ألفاً من الجرمان إلى بلاد الغالة حين استعانته إحدى قبائلها على قبيلة أخرى. وقدم لها قائد الألماني المعونة التي طلبتها ولكنه لم يغادر البلاد، بل بقي فيها ليبسط حكمه على جميع القبائل الضاربة في شمالي غالة الشرقي. واستنجدت قبيلة الإيدوي Aedui إحدى هذه القبائل برومه لتعينها على الألمان (61). وخولّ مجلس الشيوخ الحاكم الروماني على بلاد غالة النربونية حق إجابة هذا الطلب، ولكنه في الوقت نفسه تقريباً ضم أريوفستس إلى طائفة الحكام الموالين لرومه. وكان مائة وعشرون ألفاً من الألمان قد عبروا في هذه الأثناء نهر الرين، واستقروا في فلاندرز فشدوا بذلك أزر أريوفستس، وأخذ يعامل أهل البلاد معاملة الشعوب المغلوبة، وشرع يمني نفسه بالاستيلاء على بلاد غالة بأجمعها (14).
وبدأت في الوقت عينه قبائل الهلفتي Helvetti الضاربة حول جنيفا تهاجر نحو الغرب، وكانت عدتها نحو 368. 000، وأنذر قيصر بان هذه القبائل تعتزم اختراق بلاد غالة النربونية في طريقها إلى جنوبي فرنسا الغربي. ويصف ممسن Mommsen حركات هذه القبائل بقوله: "لقد كانت القبائل الألمانية الضاربة تتحرك في جميع الأصقاع الممتدة من نهر الرين إلى المحيط الأطلنطي، وكانت هذه اللحظة شبيهة باللحظة التي انقضت فيها قبائل الألماني والفرنجة على إمبراطورية القياصرة المتداعية .. بعد خمسمائة عام من ذلك الوقت" (15) وأخذ قيصر يحتال لإنقاذ رومه بينا كانت رومه نفسها تدبر المؤامرات للقضاء عليه.(9/357)
وجند قيصر من ماله الخاص. ومن غير أن يرجع في ذلك إلى مجلس الشيوخ- وكان الدستور يحتم عليه الرجوع إليه- نقول جند ثلاث فرق جديدة كاملة العدة زيادة على الأربع الفرق التي كانت تحت إمرته. ثم أرسل يدعو أريوفستس ان يحضر إليه من فوره ليبحث الموقف معه. ورفض أريوفستس الدعوة كما كان قيصر يتوقع. وأقبلت وقتئذ على قيصر وفود كثيرة من القبائل الغالية تتطلب إليه حمايتها، فأعلن الحرب على أريوفستس وقبائل الهلفتي، واتجه بجيوشه نحو الشمال ودارت بينه وبين جحافل الهلتي معركة حامية عند ببركتي Bibracte عاصمة الإيدوي، ومكانها الآن بالقرب من بلدة أوتون Autun الحالية. وانتصرت جيوش قيصر في هذه المعركة انتصاراً غير حاسم، أقرب ما يكون إلى الهزيمة، كما يقول قيصر نفسه، ونحن مضطرون أن نأخذ عنه هو معظم هذه الأنباء. وعرض الهلفتي أن يعودوا إلى موطنهم في سويسرا، ووافق قيصر على أن يؤمنهم في عودتهم إليه، ولكنه اشترط عليهم أن تخضع البلاد التي كانوا يحتلونها إلى حكم رومه. وبعثت بلاد الغالة جميعها وقتئذ تشكر له تخليصها من أعدائها، وترجوه أن يساعدها على طرد أريوفستس. والتقى قيصر بالألمان عند أسثيم Astheim (1) ، ودارت بينه وبينهم معركة انتهت بقتلهم أو أسرهم عن آخرهم تقريباً، كما يقول هو نفسه (58). وفر أريوفستس من الميدان ولكنه مات بعد ذلك بقليل.
واعتقد قيصر أن تحرير غالة من أعدائها لا يفترق في شيء عن فتحها، فشرع من فوره يعيد تنظيمها على أساس خضوعها لسلطان رومه، وحجته في ذلك أن هذا التنظيم هو الوسيلة الوحيدة لحمايتها من الألمان. ولم تقنع هذه الحجة بعض الغاليين فثاروا، واستعانوا عليه البلجي Belgae وهو قبيلة ألمانية كلتية
_________
(1) على بعد عشرة أميال من شاطئ نهر الرين الغربي وعلى بعد 160 ميلاً جنوبي كولوني.(9/358)
قوية تسكن شمال غالة بين نهري السين والرين. والتقى بهم قيصر على شاطئ نهر الآين Aisne وهزمهم، ثم سار بسرعة خاطفة لم تمكن أعداءه من لم شعثهم، والتقى بالسويسيون Suissiones، والأمبياني Ambiani، والنرفياي Nervii، والأدوتيشي Aduatici. وهزم كلاً منهم على انفراد، ونهب بلادهم، وباع أسرارهم لتجار الرقيق الإيطاليين. وأعلن في ذلك الوقت فتح بلاد الغالة، وكان في إعلانه هذا متعجلاً بعض الشيء، وجاراه مجلس الشيوخ فأعلن أن غالة ولاية رومانية، ورفع العامة في رومه- ولم يكونوا يقلون في نزعتهم الاستعمارية عن أي قائد من القواد- عقيرتهم يمجدون بطلهم البعيد. وعاد قيصر فعبر الألب إلى بلاد غالة الجنوبية، وأخذ يعمل على تنظيم شؤونها الإدارية، وسد ما حدث من النقص في فيالقه، ودعا بمبي وكراسس أن يقابلاه في لوكا ليضع معهما خطة مشتركة للدفاع عن أنفسهم ضد الحركة الرجعية التي يقوم بها المحافظون.
وأرادوا أن يقطعوا الطريق على دمتيوس Domitius فاتفقوا على أن يتقدم بمبي وكراسس للقنصلية في عام 55 ق. م منافسين له، وعلى أن يعين بمبي والياً على أسبانيا وكراسس على سوريا لمدة خمس سنين (54 - 50)؛ وأن يظل قيصر والياً على غالة خمس سنين أخرى (53 - 49)، وعلى أن يسمح له بعد انتهاء هذه الفترة أن يتقدم مرة أخرى للقنصلية.
وأمد قيصر زميليه وصديقيه بما يلزمهما من الأموال التي غنمها من الغاليين لخوض المعركة الانتخابية؛ وبعث أيضاً بمبالغ طائلة إلى رومه ليوجد ببعضها أعمالاً للمتعطلين، ويدفع منها مكافآت لمؤيديه، وليرفع ببعضها مكانته في أعين الشعب بالإقدام على تنفيذ منهاج واسع من المنشآت العامة. وحيا الشيوخ الذين جاءوا ليفحصوا عن غنائمه بالرشا السخية، فأدى ذلك إلى إخفاق الحركة التي كانت ترمي إلى إلغاء ما أصدره من القوانين. واختير بمبي وكراسس قنصلين بعد أن قدما الرشا السخية المعتادة، وعاد قيصر يعمل على إقناع الغاليين أن السلام أحلى من الحرية.(9/359)
وأخذت الأحوال على نهر الرين شمالي كولوني تنذر بالشر المستطير. فعبرت النهر قبيلتان ألمانيتان إلى غالة البلجيكية، وزحفتا فيها إلى أن وصلتا لييج Liege، واستعانهما الحزب الوطني في غالة على الرومان، والتقى قيصر بالغزاة عند أكسانتن Xanten (55) ، وصدهم إلى نهر الرين، وقتل منهم كل من لم يمت في النهر غرقاً رجالاً كانوا أو نساءً أو أطفالاً. ثم أقام مهندسوه في عشرة أيام جسراً على النهر العظيم، وكان عرضه وقتئذ 1400 قدم، وعبرت عليه فيالق قيصر، وحاربت أعداءها في الأراضي الألمانية زمناً يكفي لجعل نهر الرين حداً آمناً للدولة الرومانية، ثم عاد بعد أسبوعين إلى بلاد غالة.
ولسنا نعرف السبب الذي حدا به إلى غزو بريطانيا في ذلك الوقت، ولعله قد أغراه بهذا الغزو ما وصل إلى علمه من الشائعات عن كثرة الذهب واللؤلؤ فيها، أو لعله كان يرغب في الاستيلاء على ما في بريطانيا من قصدير وحديد لتصدره رومه إلى البلاد الخارجية، أو لعله قد أغضبه ما قدمته بريطانيا من عون إلى الغاليين، وأنه رأى أن يجعل السلطة الرومانية في غالة آمنة من جميع جهاتها. ومهما يكن السبب فقد سار على راس قوة صغيرة عبر بها بحر المنش في أضيق أجزائه، وهزم البريطانيين الذين لم يكونوا مستعدين لحربه، وأخذ عن البلاد بعض المعلومات القليلة، ثم قفل راجعاً (55). لكنه عبر البحر إليها مرة أخرى في العام الثاني وهزم البريطانيين بقيادة كسفلونس Cassivelaunus، ووصل إلى نهر التايمز، وانتزع من أهل البلاد وعداً بأن يعطوا الجزية، ثم رجع إلى غالة.
ولعل سبب رجوعه أن سمع أن الثورة يكاد يندله لهيبها مرة أخرى بين القبائل الغالية، فلما عاد أخضع أولاً الإبورون Eburones. ثم زحف على ألمانيا (53). ولما عاد منها ترك الجزء الأكبر من جيشه في غالة الشمالية، ثم ذهب مع من بقي من هذا الجيش ليقضي الشتاء في شمالي إيطاليا، وكان يرجو أن يخصص بضعة شهور لإصلاح أسواره في رومه، ولكنه سمع في أوائل عام 52 أن(9/360)
فرسنجتركس Vercingetorix أقدر الزعماء الغاليين قد حشد كل القبائل الغالية تقريباً في حرب تبغي بها أن تستعيد استقلالها. وبذلك أصبح مركز قيصر شديد الحرج لأن الجزء الأكبر من جيشه كان في شمال إيطاليا، والأقاليم الواقعة بينه وبين هذا الجيش في أيدي الثوار. ولكنه سار على رأس قوة صغيرة فوق ثلوج السفن Cevennes وهاجم مدينة أوفرني Auvergne. ولما جاء فرسنجتركس بقوته ليدافع عنها ولي قيصر دسمس بروتس Decimus Brutus قيادة جنوده الذين كانوا يهاجمونها، وسار هو متخفياً ومعه عدد كبير من الفرسان مخترقاً بلاد غالة من الجنوب إلى الشمال، وانضم إلى جيشه الرئيسي، وقاده من فوره إلى القتال، وحاصر أفريكوم Avaricum ( بورج Bourgas) وسنابوم Cenabum ( أورليان Orleans) ، واستولى عليهما، وأعمل فيهما السلب والنهب، وقتل أهلهما، وملأ بكنوزهما خزائنه الخاوية. ثم زحف بجيشه على جرجفيا Gergovia حيث قاومه الغاليون مقاومة عنيفة اضطرته إلى الانسحاب وفي ذلك الوقت تخلى عنه الأدويون الذين أنجاهم قبل من الألمان، والذين بقوا حتى ذلك الوقت أنصاراً له وحلفاء، ثم استولوا على قواعده ومخازن ميرته في سواسون Soissons، وشرعوا يستعدون لرده إلى البلاد غالة النربونية.
وكان هذا هو الوقت الذي ساءت فيه أحوال قيصر كما لم تسوء من قبل ولا من بعد، ومرت به بعض الأيام فقد فيها كل أمل في النجاة. وفي هذا الوقت العصيب ضرب الحصار على أليزيا Alesia ( أليز سنت رين Alise ste- Reine) ، وجازف بكل شيء في هذا الحصار لأن فرسنجتركس جمع فيها ثلاثين ألفاً من جنوده. وما كاد قيصر يوزع مثل هذا العدد من الجند حول المدينة حتى وصلته الأنباء بأن 250. 000 من الغاليين بدءوا يزحفون نحو المدينة من الشمال. فما كان منه إلا أن أمر جنوده بأن يقيموا حول المدينة سورين دائريين من التراب، أحدهما من أمامهم والآخر من خلفهم، وانقضت جيوش فرسنجتركس وحلفائه(9/361)
على هذين السورين وعلى الجيوش الرومانية الباسلة وهاجمتها المرة بعد المرة، ولكنها باءت في كل هجماتها بالخسران. وواصل الجيش المنقذ هجماته على هذا النحو أسبوعاً كاملاً، ثم تبدد شمله لاختلال نظامه ونقص طعامه وعتاده، واستحال هذا الجيش فلولاً لا حول لها ولا طول في الساعة التي نفذت فيها موارد الرومان، ولم يمض إلا قليل من الوقت حتى بعثت المدينة الجائعة فرسنجتركس نفسه بناء على طلبه إلى قيصر أسير الحرب، ثم استسلمت للرومان ووضعت نفسها تحت رحمتهم (52). وعفا قيصر عن المدينة فلم يمسسها بسوء، ولكنه أسلم جنودها لرجال جيشه ليكونوا رقيقاً لهم. وسيق فرسنجتركس مكبلاً بالأغلال إلى رومه حيث سار فيما بعد يزين موكب نصر قيصر، وجوزي بالقتل على حبه للحرية.
وقرر حصار إليزيا مصير بلاد غالة، كما قرر خصائص الحضارة الفرنسية. ذلك أنه أضاف إلى الإمبراطورية الرومانية بلاداً تبلغ مساحتها ضعفي مساحة إيطاليا وفتح خزائن خمسة ملايين من الناس وأسواقهم إلى التجارة الرومانية. يضاف إلى هذا أن ذلك الحصار أنجى إيطاليا وعالم البحر الأبيض المتوسط مدة أربعة قرون من غارات البرابرة، وانتشل قيصر مرة أخرى من حافة هاوية الخراب إلى ذروة المجد والثروة والسلطان. وظلت بلاد غالة عالماً آخر تثور ثورات متفرقة عقيمة، أخمدها قيصر بقسوة لم تألفها منه، ثم خضعت لرومه وأسلمت لها أمورها. وما كاد يتم له النصر حتى عاد قيصر كما كان الفاتح الشهم الكريم، فعامل القبائل المغلوبة معاملة لينة كان من آثارها أن هذه القبائل لم تتحرك قط لتخلع عن كاهلها نير رومه حين شبت فيها نار الحرب الأهلية، ولم يكن في مقدورها ولا في مقدور قيصر أن يؤدبا هذه القبائل. وظلت بلاد غالة بعدئذ ثلاثمائة عام ولاية رومانية يعمها الرخاء في ظلال السلم الرومانية، وتعلمت من خلالها اللغة اللاتينية، وأدخلت عليها كثيراً من التغيير حتى أصبحت الأداة التي نقلت بها ثقافة العهود الغابرة إلى(9/362)
شمالي أوربا. ولا جدال في أن قيصر ومعاصريه لم يكونوا يدركون ما سوف تتمخض عنه انتصاراته الدموية من نتائج بعيدة المدى، فقد كان أقصى ما يظنه أنه أنقذ إيطاليا، وضم لها ولاية جديدة. وأنشأ لها جيشاً قوياً، لكنه لم يدر بخلده أنه منشئ الحضارة الفرنسية.
ودهشت رومه إذ وجدت أن قيصر إداري قادر لا يعتريه ملل، وقائد محتك واسع الحيلة، بعد أن لم تكن تعرف عنه أكثر من أنه رجل متلاف رقيع، وسياسي، ومصلح. ثم أدركت في الوقت عينه أنه مؤرخ عظيم. ذلك أنه وهو في ميادين القتال تقض مضجعة الهجمات المتوالية عليه من رومه، كان يسجل فتوحه في غالة، ويدافع عن هذه الفتوح في شروحه Commentaries، وقد سما بها إيجازها العسكري- إذا جاز أن نصفها بهذا الوصف- وبساطتها الفنية من منزلة النشرات الحزبية إلى أسمى مكان في الأدب اللاتيني. وحتى شيشرون نفسه، بعد أن تقلب مرة أخرى في مبادئه السياسية، أخذ يتغنى قيصر ويستعجل في ذلك الوقت ما حكم به عليه التاريخ فيما بعد إذ قال:
ليست معاقل الألب المنيعة، ولا مياه الرين الفياضة الصاخبة، هي الدرع الحقيقي الذي صد عنا غارات والقبائل الألمانية الهمجية، بل الذي صدها في اعتقادي هو قيادة قيصر وقوة ساعديه. ولو أن الجبال دكت وسويت بالسهول، والأنهار جفت، لاستطعنا أن نحتفظ ببلادنا حصينة منيعة بفضل ما نال قيصر من نصر مؤزر وما قام به من أعمال مجيدة. ألا ما اعظم فضله علينا (16).
ويجب أن نضيف إلى هذا ما أثنى به عليه ألماني عظيم إذ قال:
إذا كان ثمة جسر يربط ماضي هلاس ورومه المجيد بتاريخ أوربا(9/363)
الحديث، الذي هو أعظم منه مجداً وأسمى قدراً، وإذا كان غرب أوربا رومانياً، وإذا كانت أوربا الألمانية قد صبغت بالصبغة اليونانية والرومانية القديمة .. فما ذلك كله إلا من عمل قيصر. وإذا ما أوجده سلفه العظيم (1) في بلاد الشرق قد كادت تمحو معالمه كلها زعازع العصور الوسطى، فإن الصرح الذي شاده قيصر ظل قائماً آلاف السنين التي تبدلت فيها الأديان وتغيرت الدولة (17).
_________
(1) يريد الإسكندر الأكبر. المترجم(9/364)
الفصل الخامس
فساد الدمقراطية
انحطت السياسة الرومانية في خلال الخمس السنين الثانية من ولاية قيصر على غالة إلى الدرك الأسفل من الفساد والعنف، فقد كان القنصلان بمبي وكراسس يسيران في حكمهما على خطة شراء أصوات الناخبين، وإرهاب المحلفين، والالتجاء إلى القتل في بعض الأحيان (18). ولما انقضت مدة ولايتهما جند كراسس جيشاً كبيراً وأبحر به إلى سوريا، ثم عبر نهر الفرات، والتقى بالبارثيين عند كرهية Carrhae، ودارت الدائرة عليه لتفوق فرسان البارثيين، وقتل ولده في المعركة.
وبينا كان كراسس يرتد بقواته بنظام، دعاه قائد البارثيين إلى الاجتماع به، فأجاب الدعوة، ولكن القائد البارثي غدر به وقتله، وأرسل رأسه ليمثل به دور بنيثيوس Bentheus في احتفال في بلاط ملك البارثيين، مثلث فيه مسرحية باخية Bacchae ليوربديز Euripidis. وأصبح جيشه بغير قيادة، وكان قد مل القتال، فانحلت عراه وتبدد شمله (53).
وكان بمبي في هذه الأثناء قد جمع له جيشاً، ولعله كان يبغي به إتمام فتح أسبانيا، ولو أن قيصر نجح في خططه لفتح بمبي أسبانيا القاصية، ولأخضع كراسس أرمينية وبارثيا، ولبسطت رومه سلطانها على هذه البلاد جميعها في الوقت الذي فيه قيصر يمد حدود الإمبراطورية الرومانية إلى نهري التاميز والربن. ولكن بمبي أبقى فيالقه في إيطاليا بدل أن يقودها إلى أسبانيا، إلا فيلقاً واحداً أعاره قيصر إبان الأزمة التي نجمت عن ثورة الغاليين. وحدث في عام 54 أن انفصمت العروة الوثقى التي كانت تربطه بقيصر على أثر وفاة زوجته يوليا في أثناء(9/365)
الوضع، وعرض عليه قيصر أن يزوجه أكتافيا حفيدة أخيه وأقرب قريباته في ذلك الوقت، وطلب أن يتزوج هو بابنة بمبي، ولكنه رفض كلا العرضين. وأخلت النكبة التي حلت بكراسس وجيشه في العام التالي من الميدان قوة أخرى كانت تعمل على إيجاد التوازن فيه. ذلك أن نجاح كراسس كان من شأنه أن يحول دون طغيان قيصر أو بمبي. وعقد بمبي من ذلك حلفاً صريحاً مع المحافظين، ولم يبق أمامه لنجاح خططه التي كان ينبغي بها الحصول على السلطة العليا بالطرق المشروعة في الظاهر إلا عقبة واحدة، هي مطامع قيصر وجيشه. وكان يعرف أن قيادة قيصر للجيش تنتهي في عام 49، فاستصدر مراسيم تقضي بمد أجل قيادته هو إلى آخر عام 46، وطلب إلى جميع الإيطاليين القادرين على حمل السلاح أن يحلفوا يمين الولاء العسكري له هو شخصياً، وكان يعتقد بعد هذا أن الزمن كفيل بأن يجعله سيد رومه (19).
وبينا كان القائدان اللذان يبغي كلاهما أ، يكون الحاكم بأمره في رومه يضعان خططهما على هذا النحو كانت الدمقراطية تحتضر في عاصمة البلاد، فكانت الأحكام القضائية، ومناصب الدولة، وعروش الملوك الخاضعين لسلطانها، تباع إلى من يعرض فيها أغلى الأثمان. من ذلك أن القسم الأول من المقترعين في الجمعية قد استولى في عام 53 على عشرة ملايين سسترس ثمناً لأصوات أفراده (20). ولما لم ينفع المال لم يتورع ذوو الشأن عن الالتجاء إلى الاغتيال (21) أو كشف الستار عن ماضي الناس، والتهديد بالكشف عن فضائحهم، فلم يروا أمامهم سبيلاً غير الإذعان. وفشا الإجرام في المدينة كما انتشرت السرقات في الأقاليم، ولم يكن في هذه ولا في تلك قوة من الشرطة تطمئن الناس على أنفسهم أو أموالهم، فكان الأغنياء يستأجرون عصابات من المجالدين يدفعون عنهم الأذى أو يؤيدونهم في الجمعية. واستهوت رائحة المال أو هبات الحبوب أحط الطبقات في إيطاليا فهرعت إلى رومه، وجعلت اجتماعات الجمعية مهزلة من المهازل، فكان كل من يقبل(9/366)
الاقتراع كما يطلب إليه يؤذن له بدخولها سواء كان من مواطني رومه أو من غير مواطنيها. وكان يحدث في بعض الأحيان ألا يكون من بين من أعطوا أصواتهم إلا أقلية هي التي لها حق الاقتراع. وكثيراً ما كان الخطباء يحصلون على حق الخطابة في الجمعية بالهجوم على المنصة والاستيلاء عليها قوة واقتداراً. وأضحت العصابة التي ترفعها قوتها على سائر العصابات المنافسة لها هي التي تشرع للدولة، كما كان الذين يقترعون على غير هواها يضربون حتى يكاد يقضي عليهم، ثم تشعل النار بعد الضرب في بيوتهم. وقد كتب شيشرون بعد جلسة من هذه الجلسات يقول:
"لقد امتلأ التييبر بجثث المواطنين كما سدت بها البالوعات العامة، واضطر الأرقاء إلى امتصاص الدم بالإسفنج من السوق العامة" (22).
وكان كلوديوس وميلو أعظم الخبراء الممتازين في هذه المهزلة البرلمانية، فقد كانا ينظمان عصابات من أحط الطبقات ليصلوا بها إلى أغراضهم السياسية، وقلما كان يوم واحد يمر دون أن توضع قوة هذه العصابات موضع الاختبار. من ذلك أن كلوديوس هاجم شيشرون في أحد شوارع المدينة في يوم من الأيام، وحرق أجراؤه بيت مليو في يوم ثان، ثم قبضت عصابات ميلو على كلوديوس نفسه في يوم آخر وقتله (52). غير أن صعاليك المدينة الذين لم يكونوا يجهلون ما يدبره من المؤامرات رفعوه إلى مقام الشهداء، واحتفلوا بجنازته احتفالاً عظيماً، وجاءوا بجثته إلى مجلس الشيوخ، وحرقوا البناء فوقها كأنه كومة الحطب التي تحرق عليها جثث الموتى.
وجاء بمبي بجنوده ففرقوا الغوغاء، ثم طلب إلى المجلس جزاء له على عمله هذا أن يعينه "قنصلاً بغير زميل"، وهي عبارة نصح بها كاتو وقال إنها أخف على السمع من لفظ دكتاتور. ثم عرض بمبي على الجمعية، بعد أن أرهبها بجنده، عدة اقتراحات يبغي بها القضاء على الرشوة والفساد السياسيين المنتشرين في البلاد، كما عرض عليها(9/367)
اقتراحاً بإلغاء حق المرشح لمنصب القنصل أن يفعل هذا وهو غائب عن رومه، (وكانت الجمعية قد منحت قيصر هذا الحق بناء على مشروع قانون عرضه عليها بمبي نفسه في عام 55). وأخذ يشرف بنفسه على قوة الدولة العسكرية، وعلى أعمال المحاكم؛ ولم يؤخذ عليه في هذا الإشراف شيء من الهوى أو المحاباة. وحوكم مليو على جريمة قتل كلوديوس وأدين على الرغم من دفاع شيشرون عنه (1) ثم هرب إلى مرسيليا. وغادر شيشرون رومه ليحكم قليقية (51)، وحكمها بكفاية ونزاهة أدهشتا أصدقاءه وأغضبتهم عليه. ثم استسلمت عناصر الثروة والنظام كلها في عاصمة البلاد إلى دكتاتورية بمبي، أما الطبقات الفقيرة فظلت صابرة تتلهف على عودة قيصر.
_________
(1) وقد أدخل كثير من التعديل على نص الخطبة الذي وصل إلينا، حتى بلغ الاختلاف بينه وبين النص الأصلي- وكانت عباراته قد اضطربت بسبب ما ساد من الهرج بفعل أعدائه حين إلقائها- مبلغاً حمل مليو حين قرأها على أن يصيح قائلاً: "أي شيشرون! لو أنك نطقت بما كتبت لما كنت الآن أطعم السمك الجيد في مرسيسية".(9/368)
الفصل السادس
الحرب الأهلية
دامت الفتن والثورات في الدولة الرومانية مائة عام، حطمت في خلالها كيان الطبقة الأرستقراطية الأنانية القليلة العدد التي كانت تتولى شؤون الحكم في البلاد، ولكنها لم تحل حكومة أخرى محلها. فأما الجمعية فقد أفسدها التعطل والرشوة والخبز ومجالدة الوحوش، فأحالتها إلى جماعة من الغوغاء الجهلة تسيطر عليهم أهواؤهم وشهواتهم، فكانت بذلك عاجزة أشد العجز عن حكم نفسها بله حكم إمبراطورية واسعة الرقعة. وانحطت الديمقراطية حتى أضحت وكأنها هي المعنية بقول أفلاطون: "صارت الحرية إباحية، وأخذت الفوضى تتوسل أن يوضع حد للحرية" (24). ولم يختلف قيصر مع بمبي في أن الجمهورية قد ماتت، وأنها أصبحت على حد قوله: اسماً على غير مسمى لا جسم لها ولا صورة" (25). ولم يكن ثمة مفر من الدكتاتورية، ولكنه كان يريد أن يضع أزمة الأمور في أيدي قيادة تعمل لتقدمها ورقيها، قيادة غير جامدة لا تبقي البلاد على حالها التي تردت فيها، بل تبذل جهودها لتخفيف ما يتغلغل فيها من مفاسد ومظالم وفاقة أفسدت الديمقراطية وهوت بها إلى الحضيض. وكان قيصر وقتئذ في الرابعة والخمسين من عمره، وما من شك في أنه قد أوهنته حروبه الطويلة في غالة، وأنه لم يكن يحب أن يتورط في محاربة مواطنيه وأصدقائه السابقين، ولكنه كان على علم بالمؤامرات التي تحاك له، والفخاخ التي تنصب لاقتناصه، وكان يؤلمه أشد الألم أن تكون هذه المؤامرات والفخاخ هي الجزاء الذي يجزي به من أنجى إيطاليا من الدمار والخراب. وكانت مدة حكمه في غالة تنتهي في اليوم الأول من شهر مارس سنة 49 ق. م، ولم يكن في وسعه أن يتقدم للقنصلية إلا في(9/369)
خرف ذلك العام، وفي الفترة الواقعة بين الزمنيين يفقد الحصانة التي يسبغها عليه منصبه، ولا يستطيع دخول رومه دون أن يعرض نفسه للاتهام بأنه خارج على القانون، وهو السلاح المألوف الذي كانت تلجأ إليه الأحزاب المختلفة في رومه في نزاعها على السلطة. وكان ماركس مارسلس Marcus Maecellus قد عرض قبل ذلك الوقت على مجلس الشيوخ أن يعزل قيصر من الولاية قبل انتهاء مدتها، ومعنى هذا الغزل هو البقاء خارج البلاد أو المحاكمة، وكان التربيونان قد أنجياه من هذه المكيدة باستخدام ما لهما من حق الاعتراض، ولكن مجلس الشيوخ كان بلا ريب راضياً عن هذا الاقتراح، وقال كاتو بصريح العبارة إنه يرجو أن توجه التهمة إلى قيصر، وأن يحاكم وينفى من إيطاليا.
أما قيصر نفسه فلم يدخر جهداً في العمل على إزالة أسباب النزاع بينه وبين خصومه. فلما أن طلب مجلس الشيوخ بإيعاز بمبي أن يتخلى له كلا القائدين عن فيلق يرسله لقتال بارثيا، أجابه قيصر من فوره إلى طلبه، وإن لم تكن القوة الني لديه كبيرة. ولما طلب بمبي إلى قيصر أن يعيد إليه الفيلق الذي أرسله له قبل عام من ذلك الوقت، بادر أيضاً بإرساله إليه، وإن كان أصدقاؤه قد أبلغوه أن الفيلقين لم يرسلا إلى بارثيا بل بقيا في كابوا. وطلب قيصر على لسان مؤيديه في مجلس الشيوخ أن يعاد العمل بقرار الجمعية السابق الذي كان يجيز له أن يرشح نفسه لمنصب القنصلية وهو غائب عن رومه، ولكن المجلس رفض الاقتراح وطلب إلى قيصر أن يسرح جنوده. وأحس هو أن ليس له سند يحميه إلا فيالقه، ولعله لم يكن يعمل لكسب ولائهم له إلا ليقفوا إلى جانبه في مثل هذه الأزمة. غير أنه في ذلك الوقت عرض على مجلس الشيوخ أن يعتزل هو وبمبي منصبيهما- وبدا هذا العرض معقولاً لا غبار عليه في نظر الشعب، حتى أنه كلل جبين رسوله بالأزهار. ووافق المجلس على هذه الخطبة بأغلبية 370 ضد 22، ولكن بمبي أبى أن يخضع لهذا القرار، حتى إذا أشرف عام 50 على الانتهاء ولم يبق منه إلا بضعة(9/370)
أيام، أعلن أن قيصر عدو الشعب إذ لم يتخل عن القيادة قبل اليوم الأول من شهر يوليا. وفي أول عام 49 قرأ كوريو Curio على المجلس رسالة من قيصر يعلن فيها استعداده لتسريح جيشه كله عدا فيلقين اثنين إذا سمح له بأن يظل والياً على غالة حتى عام 48، ولكنه أفسد هذا العرض بأن أضاف إليه أنه يرى في رفضه إعلاناً للحرب عليه. ودافع شيشرون عن هذا الاقتراح، ووافق عليه بمبي، ولكن القنصل لنتولس Lentulus تدخل في الأمر وأخرج كوريو Curio وأنطونيوس نصيري قيصر من المجلس (26)، وبعد نقاش طويل أصدر المجلس على كره منه وبإلحاح لنتولس وكاتو ومارسلس إلى بمبي أمراً وسلطة "يعمل بهما على ألا تصاب للدولة بسوء". وتلك عبارة رومانية معناها الدكتاتورية والحكم العسكري.
وتباطأ قيصر وتردد أكثر مما كانت عادته. فقد كان مجلس الشيوخ من الوجهة القانونية على حق فيما فعل، ولم يكن من حقه هو أن يعرض الشروط التي تعتزل بمقتضاها منصبه وقيادته. وكان يعرف أن الحرب الأهلية قد تثير الفتنة في غالة وتخرب إيطاليا بأجمعها، ولكنه كان يعلم أيضاً أن استسلامه معناه إسلام الإمبراطورية للعجز وللرجعية، وترامي إليه في أثناء تفكيره أن صديقاً من أقرب الأصدقاء إليه ومن أقدر مؤيديه وهو تيتس لبيينس Titus Labienus قد انشق عليه وانضم إلى بمبي، فما كان منه إلا أن استدعى الفيلق الثالث عشر، أكثر فيالقه ولاء له وأحبها إلى قلبه، وعرض المر كله على رجاله. وكانت أول كلمة نطق بها أمامهم وهي "زملائي الجنود. Commilitones" كافية لكسب قلوبهم، ولم يكونوا ينكرون عليه حقه في استعمال هذا اللفظ لأنهم رأوه من قبل يشترك معهم في الصعاب ويتعرض معهم للأخطار، وكثيراً ما شكوا هم أنفسهم من أنه يجازف بحياته ويعرضها للخطر فوق ما يجب. وكان هو على الدوام يخاطبهم بهذا اللفظ بدل اللفظ المقتضب الجاف الذي كان ينطق به من هم أقل منه مجاملة(9/371)
من القواد. وكان معظم رجاله من بلاد الغالة الجنوبية، وهي البلاد التي جعل لأهلها حق المواطنين الرومان، وكانوا يعرفون أن مجلس الشيوخ قد أبى أن يعترف لهم بهذه المنحة، وأن أحد أعضائه قد جلد رجلاً من أهلها ليدل بذلك على احتقاره لعمل قيصر، على الرغم من أن جلد المواطن الروماني كان عملاً لا يجيزه القانون. وكان قيصر قد علمهم في أثناء حروبهم الطويلة أن يحترموه- بل أن يحبوه على طريقتهم الخشنة الصامتة في الحب. وكان قاسياً على الجبناء ومن لا يرعون النظام، ولكنه كان سمحاً ليناً لا يقسو عليهم جزاء لهم على أغلاطهم التي تدفعهم إليها طبيعتهم البشرية، وكان يتغاضى عن أخطائهم الجنسية ويجنبهم ما لا ضرورة له من الأخطار، وكثيراً ما أنجاهم من الهلاك بحنكته وحسن قيادته. وهذا إلى أنه ضاعف أجورهم، ووزع عليهم كثيراً من غنائمه الحربية، ولما جاءوا إليه شرح لهم ما عرضه على مجلس الشيوخ، وكيف قابل المجلس هذه العروض، وذكر لهم أن الأرستقراطية المتعطلة الفاسدة لا تستطيع أن توفر لرومه النظام والعدالة والرخاء، وسألهم هل يتبعوه؟ فلم يعارض واحد منهم، ولما قال لهم إنه ليس لديه مال يؤدي منه أجورهم جاءوا إلى خزائنه بكل ما كان مدخراً لديهم.
وفي اليوم العاشر من شهر يناير نت عام 49 ق. م. عبر بأحد فيالقه الروبيكون وهو مجرى صغير بالقرب من أريمينوم Ariminum كان هو الجنوبي لغالة الجنوبية. ويقال إنه قد نطق في ذلك الوقت بقوله المأثور: "لقد قضي الأمر" Iacta est alea (27) ، وخيل إلى الناس أن هذا العمل هو الحمق بعينه لأن الفيالق الخمسة الباقية من جيشه كانت لا تزال بعيدة عنه في بلاد غالة لا تستطيع اللحاق بعه إلا بعد عدة أسابيع، على حين أن بمبي كان لديه عشرة فيالق، أي ستون ألف جندي، وكان من حقه أن يجند ما يشاء من الفيالق الأخرى، ولديه من المال ما يكفي لتسليحهم وإطعامهم. وانضم بعدئذ إلى قيصر الفيلق الثاني عشر من فيالقه عند بسينوم Picenum، والفيلق الثامن عند كورفنيوم Corfinium، ثم(9/372)
أنشأ ثلاثة فيالق جديدة من أسرى الحرب ومن المتطوعين ومن أهل البلاد؛ ولم يكن يلقي صعوبة في جمع الجنود لأن إيطاليا لم تكن قد نسيت بعد ما قاسته في الحرب الاجتماعية (88)، كانت ترى في قيصر البطل المدافع عن حقوق الإيطاليين. فكانت مدائنها تفتح أبوابها لاستقباله واحدة بعد أخرى، وكثيراً ما خرج سكان بعض هذه المدائن على بكرة أبيهم ليحيوه ويرحبوا به (28)، وقد كتب شيشرون في ذلك يقول: "إن المدن تحييه كأنه إله معبود" (29). وقاومت كورفنيوم مقاومة قصيرة الأجل، ثم استسلمت له ولم يسمح لجنوده أن ينهبوها، وأطلق سراح منه قبض عليهم من الضباط، وبعث إلى معسكر بمبي بكل ما تركه لبيينس Labienus من المال والعتاد. ولم يشأ أن يصادر ضياع من وقع في يده من الأعداء وإن كان في ذلك الوقت معدماً فقيراً لا يكاد يملك شيئاً من المال- وكانت هذه خطة حميدة يمتاز بها قيصر، كان من أثرها أن وقفت كثرة الطبقة الوسطى من الأهلين على الحياد. وأعلن في ذلك الوقت أنه سيعد كل المحايدين أصدقاء له وأنصاراً. وكان في كل خطوة يخطوها إلى الأمام يعرض عروضاً للصلح على أعدائه. من ذلك أنه أرسل إلى لنتولس Lentulus رسالة يرجوه فيها أن يستخدم ما يخلعه عليه منصب القنصل من نفوذ ليعيد السلم إلى البلاد، وعرض رسالة كتبها إلى شيشرون استعداده لاعتزال الحياة العامة وترك المجال إلى بمبي على شرط أن يسمح له بأن يعيش آمناً على حياته (30). وبذل شيشرون جهده في التوفيق بين القائدين، ولكن منطقه لم يجده نفعاً أمام تعسف الثورة ودعاواها المتعارضة (31).
ولما تقدم قيصر نحو العاصمة انسحب بمبي هو وجنوده منها وإن كانت جيوشه وقتئذ لا تزال أكثر من جيوش قيصر عدداً. وانسحب من ورائه في غير نظام عدد كبير من الأشراف تاركين وراءهم زوجاتهم وأبناءهم تحت رحمة قيصر. ورفض بمبي عروض الصلح جميعها، وأعلن أنه سيعدّ كل من(9/373)
لم يغادر رومه وينضم إلى معسكره عدواً له. ولكن الكثرة العظمى من أعضاء مجلس الشيوخ بقيت في رومه، وتذبذب شيشرون بين الفريقين، وكان يحتقر تردد بمبي وخور عزيمته، فقسم وقته بين ضياعه في الريف وسار بمبي إلى برنديزيوم وعبر بجنوده البحر الأدرياوي. وكان يعرف أن جيشه يعوزه النظام، وأنه في حاجة إلى كثير من التدريب قبل أن يستطيع الصمود في وجه فيالق قيصر، وكان يرجو أن يستطيع الأسطول الروماني الذي يسيطر هو عليه أن يجوع إيطاليا في هذه الأثناء ويدفعها إلى إبادة عدوه.
ودخل قيصر رومه في اليوم السادس عشر من مارس دون أن يلقى في دخولها أية مقاومة، ودخلها وهو مجرد من السلاح لأنه ترك جنوده في البلدان المجاورة لها؛ وأعلن حين دخولها العفو العام عن جميع أهلها، وأعاد إليها الإدارة البلدية والنظام الاجتماعي. ودعا التربيونان مجلس الشيوخ إلى الانعقاد وطلب إليه قيصر أن يعينه حاكماً بأمره (دكتاتوراً)، ولكن المجلس لم يجبه إلى طلبه، ثم عرض على المجلس أن يبعث رسلاً إلى بمبي ليفاوضوه في عقد الصلح فرفض ذلك أيضاً. فطلب المال من الخزانة العامة فوقف في سبيله التربيون لوسيوس متلس Lucius Metellus فلما قال قيصر إن النطق بعبارات التهديد أصعب عليه من تنفيذها خضع متلس. واستطاع من ذلك الوقت أن يكون حر التصرف في أموال الدولة، ولكنه كان نزيهاً كل النزاهة، فأودع في الخزانة العامة كل ما غنمه من الأموال في حروبه الأخيرة. ولما تم له ذلك عاد إلى جنوده واستعد لملاقاة الجيوش الثلاثة التي كان بمبي وأنصاره يعدونها في بلاد اليونان وأفريقيا وأسبانيا، وأراد أن يضمن لإيطاليا كفايتها من الحبوب التي تعتمد عليها في حياتها، فأرسل كوريو Curio المتهور العنيف ومعه فيلقان من جيشه ليستولي على صقلية، فلما نزل في الجزيرة سلمها إليه كاتو وانسحب منها إلى إفريقيا، فاندفع وراءه كوريو اندفاع رجيولوي Regulus، واشتبك معه في معركة(9/374)
لم يكن قد كمل استعداده هو لها، فهزم وقتل في ميدان القتال، ولم يندم عند وفاته على ما أصابه بل ندم أشد الندم على ما ألحقه من الأذى بقيصر.
وكان قيصر في هذه الأثناء قد سار على رأس جيش إلى أسبانيا وكان غرضه من هذا الزحف أن يضمن عودتها إلى تصدير الحبوب إلى إيطاليا، وأن يحول بينها وبين الهجوم على مؤخرته حين يزحف لملاقاة بمبي، وارتكب في إيطاليا كما ارتكب في غالة عدة أغلاط عسكرية فنية (32)، كانت عاقبتها أن تعرض جيشه- الذي كان أقل من جيش أعدائه عدداً- للهزيمة وللهلاك جوعاً. ولكنه أنجاه وأنجى نفسه، كمألوف عادته، بسرعة خاطره وشجاعته (33)، فقد حول مجرى أحد الأنهار واستحال الحصار الذي كان مضروباً عليه حصاراً على أعدائه، وظل صابراً زمناً طويلاً حتى يستسلم له الجيش المحاصر وإن كان جنوده قد ملوا الانتظار طويلاً يطالبون بالهجوم على العدو. ثم استسلم أنصار بمبي آخر الأمر وخضعت أسبانيا كلها إلى قيصر (أغسطس سنة 49). وعاد بعدئذ إلى إيطاليا براً، ولكنه وجد الطريق مغلقاً في وجهه عند مرسيليا، وقد وقف أمامه جيش يقوده لوسيوس دمتيوس Lucius Domitius وهو القائد الذي أسره في كورفنيوم ثم أطلق سراحه. واستولى قيصر على المدينة بعد أن حاصرها حصاراً شديداً، ثم أعاد تنظيم الإدارة في غالة، ولم يحل شهر ديسمبر حتى عاد ظافراً إلى رومه.
وقوت هذه الحملات مركزه السياسي، كما طمأنت البطون المتخوفة في العاصمة على كفايتها من الطعام، فلم يمانع مجلس الشيوخ وقتئذ في أن يعينه دكتاتوراً. ولكن قيصر تخلى عن هذا اللقب بعد أن اختير أحد القنصلين في عام 48 ق. م. ولما وجد أزمة النقد مستحكمة في إيطاليا، لأن اختزان النقود قد سبب انخفاض الأثمان، وأبى المدينون أن يؤدوا بالنقود الغالية ما استدانوه بالنقود الرخيصة- لما وجد هذا أصدر قراراً(9/375)
يهيج أداء الديون سلعاً بقدر أثمانها محكمون من قبل الحكومة كما كانت تقدر قبل الحرب. وكان يرى أن هذه "خير وسيلة للاحتفاظ بشرف المدينين ولتبديد أو تقليل الخوف الذي كان يساور البعض من أن تلغى هذه الديون إلغاء تاماً، وهو الإلغاء الذي يحتمل حدوثه في أعقاب الحروب" (34).
ومن الشواهد الدالة على بطئ سير الإصلاح في رومه قبل ذلك العهد أنه اضطر مرة أخرى أن يحرم استعباد المدين إذا لم يؤد دينه، وأنه أباح خصم الفوائد التي دفعت قبل ذلك الوقت من أصل الدين، وحدد سعر الفائدة بواحد في المائة كل شهر. وأرضت هذه الإجراءات معظم الدائنين لأنهم كانوا يخشون أن تصادر أموالهم، ولكنها أغضبت المتطرفين الذين كانوا يرجون أن يسير قيصر على خطة كاتلين فيلغى الديون كلها ويعيد توزيع الراضي على السكان. ووزع قيصر الحبوب على المعوزين وألغى جميع أحكام النفي ما عدا الحكم الصادر على ميلو، وعفا عن كل من يعود إلى البلاد من الأشراف. ولكن أحداً لم يحمد له اعتداله، ذلك أن المحافظين الذين عفا عنهم عادوا يأتمرون به ليقتلوه، وبينا كان يواجه بمبي في تساليا Thessaly تخلى عنه المتطرفون وانضموا إلى كئيليوس Caelius بعد أن وعدهم بإلغاء الديون إلغاء تاماً، وبمصادرة الأملاك الواسعة، وتوزيع الأراضي على الأهلين توزيعاً جديداً.
وفي أواخر عام 49 انضم قيصر إلى الجنود والى الأسطول اللذين جمعهما لصاره في برنديزيوم. وكان عبور جيش من الجيوش البحر الأدرياوي شتاء في تلك الأيام عملاً لم يسمع به من أحد قط. ولم يكن في استطاعة الاثنتي عشرة سفينة التي تحت تصرفه أن تقل من جنوده إلا ستين ألفاً في كل مرة، وكانت أساطيل بمبي التي تفوقها عدة وعدداً تغدو وتروح بين ثغور الشاطئ المقابل له والجزائر المجاورة لهذا الشاطئ. ولكن قيصر رغم هذا أقلع بجنوده، ونزل في إبيروس ومعه عشرون ألفاً منهم. غير أن سفنه تحطمت وهي عائدة إلى إيطاليا. ولم يعرف(9/376)
قيصر السبب الذي أخر بقية جيشه، فحاول أن يعبر البحر مرة أخرى في زورق صغير. وأخذ الملاحون يجدفون والموج يعاكسهم حتى كادوا يغرقون، ولكن قيصر لم تهن عزيمته رغم ما كان يحيط به من أهوال جسام، وأخذ يقوي قلوبهم بهذه العبارة التي لا يبعد أن تكون من نسج خيال المؤلف:
"لا تخافوا إنكم تحملون قيصر وحظه" (35)،
ولكن الريح والموج قذفا بالقارب إلى الشاطئ الذي بدأ منه، واضطر هو أن يعود من حيث أتى.
وكان بمبي في هذه الأثناء قد استولى بأربعين ألفاً من رجاله على درشيوم Dyrrhachium ومخازنها الغنية، ولكنه عجز عن مهاجمة جيش قيصر الذي تناقص عدده وقلت مؤونته، وكان بمبي في تلك الأيام قد سمن وابتلى بالتردد وخور العزيمة. وبينا كان هو في تردده جمع ماركس أنطونيوس أسطولاً جديداً حمل عليه ما كان باقياً من جيش قيصر في إيطاليا.
وبذلك أصبح قيصر متأهباً للقتال، ولكنه ما زال يكره أن يقاتل الروماني رومانياً، فأرسل رسولاً إلى بمبي يعرض عليه أن يتخلى القائدان كلاهما عن قيادتهما، ولكن بمبي لم يرد عليه (1) فهاجمه وأخفق في هجومه، غير أن بمبي عجز أن يتبع النصر بمطاردة عدوه. ثم قتل ضباط بمبي جميع من وقع في أسرهم من أعداءهم الضباط على الرغم من نصيحة قائدهم الأعلى، أما قيصر فلم يقتل أحداً من أسراه (37)، وهو عمل رفع من قوة جنوده المعنوية بقدر ما أضعف من قوة بمبي. وطلب رجال قيصر إلى قائدهم أن يعاقبهم على ما أظهروه من الجبن في حربهم الأولى ضد الفيالق الرومانية، فلو لم يجبهم إلى ما طلبوه توسلوا إليه
_________
(1) وقيصر هو المرجع الوحيد الذي نعتمد عليه في أخبار هذه البعثة.(9/377)
أن يعود بهم إلى ساحة القتال، ولكنه رأى من الحكمة أن يرتد إلى تساليا ليستريحوا فيها بعض الوقت.
واستقر رأي بمبي وقتئذ على القرار الذي قضى على حياته. فقد أشار عليه أفرانيوس Afranius أن يعود إلى إيطاليا الخالية من وسائل الدفاع ويستولي عليها؛ ولكن معظم مستشاريه ألحوا عليه أن يطارد قيصر ويقضي عليه. وبالغ الأشراف الذين كانوا في معسكر بمبي فيما أحرزه من النصر في درهشيوم وظنوا أن القضية الكبرى قد فصل فيها في ذلك المكان. وهال شيشرون- وكان قد انضم إليهم آخر الأمر- أن يسمعهم يتنازعون فيما سيعود على كل منهم بعد أن يعودوا إلى ما كانوا فيه، وأن يرى ما يتقلبون فيه من الترف وهم في ميدان القتال، فقد كان الطعام يقدم لهم في صحاف من الفضة، وكانت خيامهم مفروشة بالطنافس الوثيرة تزينها الصور الرائعة وطاقات الزهر الجميلة.
وكتب شيشرون في ذلك يقول:
"وكان البمبيون، ما عدا بمبي نفسه، يحاربون بوحشية شديدة، وينطقون في أحاديثهم بمبادئ القسوة، حتى كان الرعب يستولي عليَّ إذا ما فكرت في نصرهم ... إنهم قوم ليس فيهم ما هو خير إلا قضيتهم .. لقد كانوا يفترضون أن يعدم أعداؤهم جملة لا أفراداً متفرقين .. وقدر لنتلس نفسه أن يستولي على بيت هورتنسيوس وعلى حدائق قيصر وباياني" (38).
وكان بمبي نفسه أميل إلى التريث وعدم الاشتباك في معركة فاصلة، ولكنه اضطر إلى اعمل برأي مستشاريه لما أن عيروه بالجبن والخور، فأصدر أمره بالزحف.
ودارت رحى المعركة الفاصلة في فارسالس في اليوم التاسع من شهر أغسطس عام 48 ق. م، وكانت معركة طاحنة دام فيها القتال حتى نهايتها المريرة. وكان(9/378)
جيش بمبي يتألف من ثمانية وأربعين ألفاً من المشاة، وسبعة آلاف من الفرسان؛ أما جيش قيصر فلم يكن يزيد على اثنين وعشرين ألفاً من المشاة؛ وألف من الفرسان. ويقول أفلوطرخس تعليقاً على هذا الموقف.
"وكان عدد قليل من أنبل رجال رومه يشاهدون المعركة عن كثب .. ويفكرون فيما صارت إليه الإمبراطورية بسبب المطامع الشخصية .. لقد التقت في هذا المكان زهرة شباب المدينة الواحدة وعماد قوتها في صراع عنيف، وحسبنا هذا برهاناً قاطعاً على ما في الطبيعة البشرية من عمى وجنون إذا ما أثيرت شهواتها" (40).
لقد كان أقرب الأقارب، بل كان الأخوة أنفسهم، يقاتل بعضهم بعضاً في الجيشين المتعاديين. وقد أمر قيصر رجاله أن يبقوا على حياة كل من يستسلم من الرومان، أما الشباب الأرستقراطي ماركس بروتس فقد أمرهم قيصر أن يقبضوا عليه دون أن يصيبوه بأذى، فإذا لم يجدوا سبيلاً إلى هذا فليسمحوا له بالفرار (41). وروع البمبيون لتفوق أعدائهم القيادة، والتدريب، والقوة المعنوية. وقُتل منهم وجُرح خمسة عشر ألفاً، واستسلم عشرون ألفاً، وولى الباقون الأدبار. ونزع بمبي شارة القيادة عن رجاله وفر مع من فروا من رجاله. ويخبرنا قيصر أنه لم يفقد من رجاله إلا مائتين (42) - وهو قول يحملنا على الشك في كتبه كلها. وأخذ رجاله يتندرون بما في خيام أعدائهم من وسائل الزينة، وبما وجدوه فيها من الموائد المثقلة بالطعام الشهي الذي أعد لساعة الاحتفال بالنصر. وأكل قيصر عشاء بمبي في خيمة بمبي نفسه.
وسار بمبي على ظهر جواده الليل كله حتى وصل إلى لارسا Larissa، وركب منها سفينة أقلته إلى الإسكندرية، وعرج في طريقه على متليني Mytilene حيث انضمت إليه زوجته، وطلب إليه سكانها أن يقيم معهم، ولكنه رفض طلبهم في أدب ومجاملة، ونصحهم أن يستسلموا للفاتح في غير(9/379)
خوف لأن "قيصر" على حد قوله "رجل عامر القلب بالصلاح والرحمة" (43). وفر بروتس أيضاً إلى لارسا، ولكنه أطال المكث فيها ووجّه منها رسالة إلى قيصر. وأبدى القائد المنتصر أشد الاغتباط حين سمع أن بروتس، حي يرزق، وعفا عنه من فوره، كما عفا عن كاسيوس استجابة لرغبة بروتس. وكان كذلك ليناً في معاملة أمم الشرق التي أيدت بمبي مدفوعة إلى ذلك بمشيئة الطبقات العليا المسيطرة عليها. ووزع ما جمعه بمبي من الحبوب على سكان بلاد اليونان الجياع، ولما جاءه الأثينيون يطلبون إليه أن يعفو عنهم، أجابهم وعلى شفتيه ابتسامة اللوم بقوله: "إلى متى ينجيكم مجد آباءكم الأولين من موارد الهلاك التي توردونها أنفسكم؟ " (44).
وأكبر الظن أن بعضهم قد حذر قيصر من أن بمبي يفكر في معاودة القتال معتمداً على جيش مصر ومواردها، وعلى القوة التي كان كاتو ولبينس Labienus ومتلس يعدونها في يتكا Utica. ولكن حدث بعد أن وصل بمبي إلى الإسكندرية أن أمر بوثينس Pothinus خصى الشاب بطليموس الثاني عشر ووزيره خدمة أن يقتلوه، ولعله فعل ما فعل رجاء أن يكافئه عليه قيصر. فقد طعن القائد طعنة نجلاء حين وطئت قدماه شاطئ مصر، بينا كانت زوجته تنظر إليه في هلع وهي على ظهر السفينة التي أقلتهما إلى تلك البلاد. فلما جاء قيصر أهدى إليه رجال بوثينس رأس القائد الذي فصل عن جسده، فولى وجهه عنهم في هلع، وأخذ يبكي من فرط تأثره بهذا الشاهد الجديد على أن الناس كلهم يلقون مصيراً واحداً، وإن اختلفت الوسائل المؤدية إلى هذا المصير. ونزل قيصر في قصر البطالمة الملكي وشرع ينظم شؤون تلم المملكة القديمة.(9/380)
الفصل السابع
قيصر وكيلوبطرة
وأخذت مصر بعد وفاة بطليموس السادس (145) تسير مسرعة في طريق الاضمحلال وعجز ملوكها عن الاحتفاظ بنظامها الاجتماعي أو حريتها القومية؛ وأخذ مجلس الشيوخ الروماني يقوي فيها سلطانه ويملي عليها إرادته، بل إنه أقام حامية رومانية في الإسكندرية. وكانت مقاليد الحكم قد آلت بعد وفاة بطليموس الحادي عشر الذي أجلسه بمبي وجابنيوس على العرش إلى أبنه بطليموس الثاني عشر وابنته كيلوبطرة، وذلك لأن والدهما قد أوصى قبل وفاته أن يرثا الملك من بعده، وأن يتزوج الأخ أخته ويشتركا في حكم البلاد معاً.
وكانت كليوبطرة من أصل يوناني مقدوني، وأكبر الظن أنها كانت أقرب إلى الشقرة منها إلى السمرة (45). ولم تكن بارعة الجمال ولكن قوامها الرشيق المعتدل. وخفة روحها، وتنوع ثقافتها"، ودماثة خلقها، وحسن صوتها، مضافة إلى مقامها الملكي قد جعلتها فتنة لكل من رآها تسلبه لبه وإن كان قائداً رومانياً. وكانت على علم بتاريخ اليونان وآدابهم وفلسفتهم، تجيد الحديث باللغات اليونانية والمصرية والسورية، ويقال إنها كانت تتقن لغات أخرى غير هذه. وقد جمعت إلى فتنة أسبازيا الذهنية فتنة المرأة المتحللة إلى أقصى حد من القيود الخلقية. ويقال إنها ألفت رسالة في مستحضرات التجميل، وأخرى في المقاييس والموازين والنقود المصرية، وموضوع الرسالة الثانية موضوع مغر جذاب (46). وكانت إلى هذا حاكمة قديرة وإدارية ماهرة، نجحت في نشر التجارة المصرية، وارتقت على يديها الصناعة؛ وكانت تجيد تدبير الشؤون المالية حتى في الوقت الذي كانت تنصب فيه شراك الحب. وقد جمعت إلى هذه الصفات شهوة جسدية قوية، ووحشية(9/381)
عنيفة تصب على أعدائها العذاب والموت صباً، ومطامع سياسية بعيدة، تحلم ببناء إمبراطورية واسعة، ولا تحترم في سبيل الوصول إلى غايتها قانوناً إلا قانون النجاح. ولو أنها لم يجر في عروقها دم البطالمة المتأخرين الداعرين لكان من الجائز أن تحقق غرضها وتصبح ملكة تحكم دولة واسعة الرقعة تضم بلاد البحر الأبيض المتوسط. وكانت تدرك أن مصر لم تعد قادرة على البقاء مستقلة عن الدولة الرومانية، ولم تر ما يمنعها أن تكون هي المسيطرة على الدولة المتحدة.
وقد استاء قيصر حين عرف أن بوثينس نفى كيلوبطرة، ونصب نفسه نائباً عن بطليموس الشاب يحكم باسمه، ولذلك أرسل إليها سراً، وجاءته سراً وقد احتالت على الوصول إليه بأن أخفت نفسها في فراش حمله تابعها أبولودورس Apollodorus إلى مسكن قيصر. وذهل القائد الروماني حين رآها، وأسرته بشجاعتها وسرعة بديهتها، وهو الذي لم يدع انتصاراته في ميدان القتال تربى على انتصاراته في ميادين الحب. ووفق بينها وبين بطليموس وأجلسها هي وأخاها على عرش مصر كما كانا من قبل. وعرف قيصر من أخيه أن بوثينس هو والقائد المصري أخلاس Achillas كانا يأتمران به ليقتلاه ويبيدا القوة العسكرية الصغيرة التي جاءت معه إلى مصر، فدبر في الخفاء اغتيال بوثينس، وفر أخلاس، واتصل بالجيش المصري، وحرضه على الثورة. وسرعان ما امتلأت الإسكندرية بالجنود ينادون بالويل والثبور لقيصر، ويحرض ضباط الحامية الرومانية التي وضعها مجلس الشيوخ في تلك المدينة على الانضمام إلى الجيش الثائر ضد هذا الدخيل الخائن الذي سولت له نفسه أن يقرر وراثة عرش البطالمة، وأن يعمل على أن يولد من صلبه من يرث هذا العرش في المستقبل.
وعمل قيصر في هذا الظرف الحرج ما كانت تسعفه حيلته، فأحال القصر الملكي والملهى المجاور له إلى قلعتين تحصن فيهما هو ورجاله. ثم أرسل يطلب المدد من آسيا الصغرى وسوريا ورودس. ولما أدرك أن أسطوله الضعيف(9/382)
الذي لم يكن فيه من يحميه لن يلبث أن يقع في يد أعدائه، أمر به فحرق والتهمت النار جزءاً من مكتبة الإسكندرية لا نعرفه على وجه التحديد. ورأى أن لابد له من الاستيلاء على جزيرة فاروس لأنها هي المدخل الذي يمكن أن يصل إليه منه المدد المنتظر، فهاجمها هجوم اليائس، واستولى عليها، ثم جلا عنها، ثم عاد فاستولى عليها. وحدث في إحدى هذه المعارك أن اضطر إلى السباحة في البحر لينجو من الموت بعد أن صوبت إليه عاصفة من السهام، وذلك حين قذف المصريون به وبأربعمائة من رجاله إلى البحر بعيداً عن الحاجز الذي كان يصل الجزيرة بأرض المدينة. وظن بطليموس الثاني عشر أن الثوار قد حالفهم النصر، فخرج من القصر وانضم إليهم واختفى من التاريخ. ولما جاء المدد إلى قيصر هزم به المصريين وحامية مجلس الشيوخ في معركة النيل، وكافأ كليوبطرة على إخلاصها له في هذه الأزمة بأن عين أخاها الأصغر بطليموس الثالث عشر ملكاً معها على مصر، فجعلها بذلك حاكمة البلاد الحقيقية.
ويصعب علينا أن ندرك السر في بقاء قيصر تسعة أشهر في الإسكندرية، والجيوش تجيش لقتاله في يتكا Utica، ورومه في أشد الحاجة إلى يده الصناع، لأن كئيليوس Caelius وميلو ينفخان فيها نار الثورة عليه. فلعله كان يحس بأنه جدير ببعض الراحة واللهو بعد حروب دامت عشر سنين؛ وفي هذا يقول سيوتونيوس Suetonius إنه كثيراً ما كان يقضي الليل كله حتى مطلع الفجر يلهو مع كيلوبطرة، وكان بوده أن يسير معها في قاربها من أقصى مصر إلى أقصاها حتى يصلا إلى بلاد الحبشة لولا أن هدده جنوده بالخروج عليه" (47)، لأن كل واحد منهم لم يجد له فتاة لعوباً. أو لعل شهامته قد أجبرته على أن ينتظر حتى تفيق كيلوبطرة من آلام الوضع، فقد وضعت طفلاً في عام 47 ق. م سمي قيصريون Caesarion، ويقول ماركس أنطونيوس إن قيصر اعترف بأنه ولده (48). ولا يبعد أن تكون قد أسرت إليه تلك الفكرة الجميلة فكرة أن يكون ملكاً(9/383)
ويتزوجها فيجتمع بذلك عالم البحر الأبيض المتوسط تحت فراش واحد.
ذلك كله ظن وهو إلى ذلك إثم؛ فليس ثمة ما يؤده إلا ما نستخلصه من الشواهد والقرائن المفصلة. وما من شك في أنه عاد إلى نشاطه حين عرف أن فرناسس Pharnaces بن مثرداتس قد استولى مرة أخرى على بنتس Pontus وأرمينيا الصغرى، وأنه أخذ يدعو بلاد الشرق إلى الثورة من جديد على رومه المنقسمة على نفسها. ووضحت في ذلك الوقت حكمته في "تهدئة" أسبانيا وغالة قبل لقائه بمبي؛ فلو أن الغرب ثار عليه وقت أن ثار الشرق لكان من المرجح أن تتصدع أركان الدولة وأن يزحف "البرابرة" نحو الجنوب، وألا تشهد رومه قط عصر أغسطس. لكن قيصر حال دون ذلك كله؛ فقد بدأ بإصلاح أمر فيالقه الثلاثة، ثم غادر مصر في شهر يونية من عام 47 ق. م، وسار بسرعته المعتادة على طول شواطئ مصر وسوريا وآسيا الصغرى إلى بلاد بنتس وهزم فرناسس في واقعة زيلا Ziela (2 أغسطس)، وبعث من ميدان القتال إلى صديق لع بهذا الخبر القصير البليغ: "جئت، ورأيت، وهزمت" vein, vidi, vici (49) . وقابله شيشرون عند تارنيم (26 سبتمبر)، وطلب إليه أن يعفو عنه وعن غيره من المحافظين، فأجابه إلى ما طلب وأظهر له الرضا والود، وهاله بعد أن عاد إلى رومه أن الحرب الأهلية قد استحالت في العشرين شهراً التي قضاها بعيداً عنها إلى ثورة اجتماعية، وأن دلابلا Dolabella زوج ابنة شيشرون انضم بقوته إلى كئيليوس وعرض على الجمعية مشروع قانون بإلغاء جميع الديون، وأن أنطونيوس أطلق جنوده على صعاليك دلابلا المسلحين، وأن ثمانمائة من الرومان قتلوا في السوق العامة. وكان كئيليوس قد استخدم سلطته وهو بريتور Praetor فأعاد ميلو إلى رومه، ونظما معاً جيشاً في جنوبي إيطاليا، وطلبا إلى الأرقاء أن ينضموا إليهما في ثورة جائحة على النظام القائم. ولم يلقيا في هذه الثورة إلا قليلاً من النجاح، ولكن روح الثورة كانت قد أشربت بها جميع النفوس، فكان المتطرفون في رومه(9/384)
يحتفلون بذكرى كاتلين وينثرون الأزهار مرة أخرى على قبره. وكان جيش بمبي في إفريقيا قد ازداد عدده حتى أضحى في قوة الجيش الذي هزم في فرسالس. وكان سكستس Sextus بن بمبي قد أنشأ في أسبانيا جيشاً جديداً، وتعرضت إيطاليا مرة أخرى لخطر انقطاع الحبوب عنها. تلك هي الأحوال التي كانت قائمة في شهر أكتوبر من عام 47 حين عاد قيصر إلى رومه والى زوجته كلبيرنيا calpurnia ومعه كيلوبطرة وأخوها- زوجها الغلام وقيصرون.
وشرع في الأشهر القليلة التي أتيحت له بين الحروب يعيد النظام إلى رومه. ولما عين حاكماً بأمره من جديد استرضى المتطرفين إلى حين بإلغاء القانون الأخير من قوانين صادرة، وألغي في رومه كل ما قل عن ألفي سسترس من أجر الأراضي. وحاول في الوقت نفسه أن يهدئ مخاوف المحافظين فعين ماركس بروتس حاكماً على بلاد غالة الجنوبية. وأكد لشيشرون وأتكس أنه لن يثير حرباً على نظام الملكية، وأمر بإعادة تماثيل صلا التي حطمها الرعاع. ولما وجه أفكاره نحو بمبي وأنصاره ساءه وثبط من همته أن يسمع أن أكثر جنوده ولاء له قد ثاروا عليه، لأنهم لم يتسلموا مرتباتهم من زمن بعيد وأنهم يرفضون الإنجاز إلى أفريقيا. وكانت خزائن الدولة وقتئذ خاوية أو شبه خاوية، فجمع ما يحتاجه من المال بمصادرة أموال الأشراف الذين خرجوا عليه وبيعها. ولما سئل في ذلك قال غنه قد تعلم أن الجند يعتمدون على المال، وان المال يعتمد على القوة، والقوة تعتمد على الجند. ثم ظهر فجاءة بين الجنود المتمردين، وجمعهم حوله وقال لهم في هدوء إنه قد سرحهم، وإن في مقدورهم أن يعودوا إلى منازلهم، وإنه سيؤدي إليهم كل ما تأخر من رواتبهم بعد أن يتم له النصر في أفريقيا على يد "غيرهم من الجنود".
ويقول أبيان إنهم "لما سمعوا هذا القول استولى عليهم الخجل جميعاً لأنهم تخلوا عن قائدهم في الساعة التي يحيط به العدو من كل جانب .. فصاحوا بأنهم نادمون على خروجهم عليه، وتوسلوا إليه أن يحتفظ بعم في خدمته" (51) فأجابهم إلى ما طلبوا في إباء ساحر، وأبحر بهم إلى أفريقيا.(9/385)
والتقى في اليوم السادس من شهر إبريل سنة 46 ق. م بقوى متلس سبيو Metellus Scipio في ثبسوس ولبينس Labienus وجوبا الأول Juba 1 ملك نوميديا مجتمعة. وخسر المعركة الأولى في هذه المرة أيضاً، ولكنه فعل ما فعله من قبل، فأعاد تنظيم صفوفه وهجم بها على عدوه وانتصر عليه. ولامه جنوده المتعطشون للدماء على ما أظهره من رأفة بأعدائه في فرسالس، واعتقدوا أنه لولا هذه الرحمة لما اضطروا إلى قتال هؤلاء الأعداء مرة أخرى، ولذلك قتلوا من جنود بمبي الثمانين ألفاً نحو عشرة آلاف ولم تأخذهم بهم رأفة، لأنهم لم يريدوا أن يلتقوا بهؤلاء الجنود مرة أخرى في ميدان القتال. وانتحر وفر سبيو ومات في مناوشة بحرية، وهرب كاتو ومعه سرية من جنوده إلى بُتِكا.
ولما اقتفى أثره وأراد الضباط أن يصدوه عن المدينة، أقنعهم كاتو بأنه لا جدوى من عملهم هذا، وأعد المال لمن أرادوا القتال، ولكنه أشار على ابنه بالاستسلام لقيصر. أما هو نفسه فقد رفض كلتا الخطتين، وقضى السهرة في بحوث فلسفية. ثم آوى إلى حجرة نومه، وقضى شطراً من الليل يقرأ فيدون Phaedo لأفلاطون. وأيقن أصدقاؤه أنه سيقتل نفسه فأخذوا سيفه من جانبه. فلما غفلت أعينهم أمر خادمه أن يأتيه بالسيف، وتظاهر بالنوم ساعة من الليل، ثم قام وأمسك بسيفه وبقر به بطنه؛ وهرول إليه أصدقاؤه، وأعاد الطبيب أحشاءه إلى بطنه، وخاط الجرح، وضمده، ولكنهم لم يكادوا يخرجون من الحجرة حتى رفع كاتو الضمادات عن الجرح وأعاد فتحه وأخرج منه أحشاءه، وقضى نحبه.
ولما جاء قيصر كان أشد ما أحزنه أن لم تتح له الفرصة للعفو عن كاتو، وأن كل ما يستطيع أيفعله عن ولده.
وشيع أهل يُتِكا الرواقي المنتحر في مشهد حافل كأنهم يعرفون أنهم يدفنون معه جمهورية كادت تبلغ من العمر خمسة قرون.(9/386)
الفصل الثامن
قيصر الحاكم
عاد قيصر إلى رومه في خريف عام 46 بعد أن نصب سلست والياً على نوميديا، وأعاد تنظيم ولايات أفريقيا. وأوجس مجلس الشيوخ خيفة من هذه العودة، وأدرك أن البلاد مقبلة على الحكم الملكي المطلق، فاختاره حاكماً بأمره مدة عشر سنوات. واحتفلت رومه بعودته احتفالاً لم تشهد له مثيلاً من قبل، وكافا قيصر كل جندي من جنوده بخمسة آلاف درخمة أتيكية (حوالي ثلاثة آلاف ريال أمريكي)، أي أكثر كثيراً مما كان قد وعدهم به، وأولم وليمة كبرى للمواطنين الرومان احتوت على اثنين وعشرين ألف مائدة. وأعد لتسليتهم معركة بحرية صورية، اشترك فيها عشرة آلاف رجل. ثم غادر رومه إلى أسبانيا في أوائل عام 45 وهزم آخر جيش من جيوش بمبي عند مندا Munda.
ولما عاد إلى رومه في شهر أكتوبر وجد إيطاليا كلها تسودها الفوضى. ذلك أن الحكم الألجركي الفاسد، والثورات التي دامت مائة عام كاملة، قد أشاعا الاضطراب والفوضى في الأعمال الزراعية والصناعية والمالية والتجارية. أضف إلى هذا أن استنزاف موارد الولايات، وحبس رؤوس الأموال، وزعزعة أركان الاستثمار، أدت كلها إلى اضطراب سوق المال. هذا إلى أن آلاف الضياع قد حل بها الخراب، لأم مائة ألف من الرجال سيقوا من الأعمال المنتجة إلى ميادين القتال، وأن آلافاً مؤلفة من الزراع أرغمتهم منافسة الحبوب المستوردة من خارج البلاد أو التي تنتجها الضياع الكبرى التي يعمل فيها العبيد على الانضمام إلى صعاليك المدن والاستماع وبطونهم خاوية إلى الوعود التي يمنيهم بها الزعماء المهرجون. وأخذ من أبقت عليهم رحمة قيصر من الأشراف(9/387)
يأتمرون به في قصورهم ونواديهم، ولما أن طلب إليهم في مجلس الشيوخ أن يعترفوا بضرورة الدكتاتورية ويعانوه على أن يعيد النظام إلى البلاد ويأسو جراحها، سخروا مما يعرضه عليهم هذا المغتصب وبسطوا ألسنتهم في استضافته لكيلوبطرة في رومه، وأخذوا يشيعون سراً أنه يعيد العدة ليكون ملكاً، ولينقل عاصمة الدولة إلى الإسكندرية أو إلى إليوم llium.
ومن أجل ذلك شرع قيصر، وقد أدركته الشيخوخة ولما يتجاوز بعد الخامسة والخمسين من عمره، ويعمل بهمة الرومان الأصيل ليحيي موات الدولة الرومانية. وكان يعلم أن انتصاراته لن تكون لها قيمة إن لم يكن في مقدوره أن يشيد في مكان الحطام التي أزلها صرحاً أحسن منها وأثبت دعامة. ولما أن مد أجل دكتاتوريته في عام 44 من عشر سنين إلى دكتاتورية تدوم مدى الحياة لم ير فرقاً كبيراً بين الحالين، وإن لم يكن قد أدرك في ذلك الوقت أن أجله لن يطول أكثر من خمسة شهور.
وأخذ مجلس الشيوخ يتملقه وحباه بكل ما يستطيع من ألقاب التعظيم، ولعله كان يهدف بذلك إلى أن يشيع كراهيته في قلوب الشعب الذي كان يبغض الملكية ولا يطيق حتى اسم الملك. وأجاز له المجلس أن يلبس إكليل الغار الذي كان يوارى به صلعته، وأن يحمل حتى في وقت السلم رمز سلطات الإمبراطور imperator. وبفضل هذه السلطات كان يسيطر على خزائن المال، كما كان منصب الحبر الأكبر Pontifex Maximus يمكن من السيطرة على الشؤون الدينية في البلاد، وكان له، بوصفه قنصلاً، أن يقترح القوانين وينفذها، وبوصفه تربيوناً كانت ذاته مصونة لا تمس، وبوصفه رقيباً كان له أن يعيّن أعضاء مجلس الشيوخ ويسقطهم. واحتفظت الجمعيات بحقها في الاقتراع على القوانين المعروضة عليها، ولكن دلابلا وأنطونيوس رجلي قيصر كانا يسيطران عليها، وكانت توافق عادة على سياسته. وكان هو من ناحيته يجتهد في أن يقيم(9/388)
دكتاتورية على محبة الشعب له ورضائهم عنه شأنه في هذا شأن غيره من الطغاة الحاكمين.
وأنزل مجلس الشيوخ حتى صار أشبه شيء بمجلس استشاري له، ورفع عدد أعضائه من ستمائة عضو إلى تسعمائة، وكان يجدده على الدوام باستبدال أربعمائة عضو جديد بمثل عددهم من أعضائه السابقين. وكان كثيرون من هؤلاء الأعضاء الجدد من رجال العمال، وكثيرون منهم من المواطنين البارزين في المدن الإيطالية أو مدن الولايات الرومانية، ومنهم من كانوا من أعضاء المئين أو الجنود أو أبناء العبيد. وارتاع الأشراف حين رأوا زعماء غالة المغلوبة يدخلون مجلس الشيوخ وينضمون إلى حكام الإمبراطورية، بل عن الماجنين من أهل العاصمة قد ساءهم هذا التصرف ونشروا في طول المدينة وعرضها مقطوعة شعرية يقولون فيها "إن قيصر يقود الغاليين في موكب نصره، ثم يدخلهم مجلس الشيوخ؛ لقد خلع الغاليون سراويلهم القصيرة ولبسوا المئزر العريض الأطراف" الذي يلبسه الشيوخ (52).
ولعل قيصر قد تعمد أن يجعل المجلس الجديد هيئة ضخمة عاجزة عن المداولة الجدية المنتجة أو المقاومة الموحدة. ولذلك اختار طائفة من أصدقائه هم بلبس balbus، وأبيوس Oppius، وماتيوس Matius وغيرهم، ليتخذ منهم وزراء له غير رسميين ينفذون سياسته؛ وأدخل النظام البيروقراطي في الدولة بأن وضع الشؤون الكتابية في دولاب الحكومة ودقائق الأعمال الإدارية في أيدي من كان في بيته من المحررين والرقيق. وسمح للجمعية أن تختار نصف كبار الحكام في المدينة، واختار هو النصف الباقي بطريق التوصية، وكانت الجمعية تأخذ بهذه التوصيات على الدوام. وكان من حقه، بوصفه تربيوناً، أن يعترض على قرارات غيره من التربيونين والقناصل ويبطلها، ورفع عدد البريتورين Praetors إلى ستة عشر، والكوسترين Quaestor إلى أربعين لينجز بذلك(9/389)
أعمال البلدية والأعمال القضائية، وراقب بنفسه شؤون المدينة كلها على اختلاف أنواعها، وقضى عل كل ما كان فيها من عجز وفساد وإتلاف، ونص في جميع العهود التي منحها للمدينة على الأوامر الصريحة والعقوبات الشديدة التي يتعرض لها كل من يحاول إفساد الانتخابات أو الوظائف العامة. وأراد أن يقضي على السنة القديمة سنة السيطرة على الشؤون السياسية بابتياع أصوات الناخبين جملة. ولعله أراد أيضاً أن يحصن نفسه من ثورة الرعاع. فألغى الاتحادات والنقابات ولم يبق منها إلا ما كان ذا أصل قديم، وإلا الجماعات اليهودية ذات الأغراض الدينية الخالصة. وقصر وظائف المحلفين على الطبقتين العليين واحتفظ لنفسه بحق النظر في أهم القضايا وأخطرها شأناً، وكثيراً ما كان يجلس للقضاء بنفسه. وليس ثمة من ينكر ما تتصف به أحكامه من حكمة ونزاهة. وقد اقترح على المشترعين في أيام أن يجمعوا القوانين الرومانية المعمول بها وقتئذ في كتاب واحد منظم، ولكن موته العاجل حال دون إتمام هذا المشروع.
ثم سار على خطة ابني جراكس، فوزع الأرض على جنوده القدامى وعلى الفقراء، وسار أغسطس نفسه على هذه السياسة، فهدأت الاضطرابات بين الزراع كثيراً من السنين. وأراد أن يمنع عودة الملكية الزراعية إلى التركز فحرم بيع الراضي الجديدة قبل مضي عشرين عاماً، كما أمر أن يكون ثلث العمال في المزارع من الأحرار، وذلك لكي يحول دون استغلال الأراضي كلها على أيدي الأرقاء. وكان من قبل قد أنقص عدد الرعاع المتعطلين في المدينة بمن جنده منهم في الجيش، وبإقطاعهم الأرض الزراعية بعد تسريحهم. ثم أنقص عددهم مرة أخرى بأن أرسل ثمانين ألفاً من المواطنين ليستعمروا قرطاجنة وكورنثة وأشبيلية وأرليس وغيرهما من المراكز. ولم يكتف بهذا بل أراد أن يضمن العمل للباقين من المتعطلين فوضع برنامجاً ضخماً للبناء رصد له 160. 000. 000 سسترس. من ذلك أنه أمر بإنشاء بناء جديد في ميدان المريخ لاجتماع الجمعيات، وإضافة مبنى(9/390)
جديد للسوق العامة يدعى سوق أبوليوم لتخفيف الزحام عن السوق القديمة. ثم جمل كثيراً من المدن في إيطاليا وأسبانيا وغالة وبلاد اليونان.
وبعد أن خفف أعباء الفقر بهذه الوسائل أراد أن يعرف أثرها في الناس، فطلب إلى من شاء الفقراء أن يتقدم إلى الدولة بالحصول على إعانات من الحبوب، فوجد أن عدد الطالبين قد نقص على الفور من 32. 000 إلى 150. 000.
وقد ظل حتى ذلك الوقت نصيراً للعامة، يهدف إلى إسعادهم في جميع ما وضعه من المشروعات. ولكنه كان يعلم أن الثورة الرومانية ثروة زراعية أكثر منها صناعية، وأنها موجهة في الغالب إلى طبقة الأشراف التي تسخر لخدمتها الأرقاء، ثم إلى المرابين، وأنها لم يوجه إلا القليل منها لرجال الأعمال. فواصل خطة ابني جراكس الزراعية، ودعا رجال الأعمال إلى تأييد الثورة الزراعية والمالية.
وكان شيشرون قد حاول أن يعقد حلفاً بين الطبقات الوسطى والأشراف، أما قيصر فحاول أن يؤلف بين أولئك وبين العامة، وأمده بالمال كثيرون من الممولين على اختلاف درجاتهم من كراسس إلى بلبس، كما أمد الكثيرون من أمثالهم بالمال للثورتين الأمريكية والفرنسية. ولكن قيصر رغم هذه المعونة قضى على مصدر من أكبر مصادر الاستغلال المالي والربح غير المشرع- وهو جباية الضرائب في الولايات على أيدي جماعات الملتزمين. ثم خفض الديون بدرجات متفاوتة، وسن قوانين صارمة لتحريم الربا الفاحش. وأسعف العاجزين عجزاً شديداً عن الوفاء بديونهم بوضع قانون للإفلاس لا يختلف في جوهره عن القانون المعمول به في هذه الأيام. وأعاد إلى العملة استقرارها بجعل الذهب أساساً لها، وبصك قطعة ذهبية تدعى أوريوس Aureus كانت تساوي في قوتها الشرائية الجنيه الإسترليني في القرن التاسع عشر، وكانت صورته تطبع على النقود(9/391)
الحكومية وتزيين برسوم لم تعرفها رومه من قبل.
وقد نظمت الإدارة المشرفة على مالية الدولة تنظيماً جديداً، وطمعت بكفايات جديدة كانت نتيجتها أن وجد في خزائنها حين قتل قيصر 700. 000. 000 سسترس، وفي خزينته الخاصة 100. 000. 000.
وأراد أن يقيم نظام الضرائب والإرادة على أساس علمي سليم، فأجري إحصاء عاماً في إيطاليا وأعد العدة لإحصاء عام مثله في سائر أنحاء الإمبراطورية، ثم أراد أن يعوض النقص الكبير الذي أحدثته الحروب في عدد المواطنين الرومان، فتوسع إلى أقصى حد في منح حق المواطنية الرومانية- وكان ممن شملهم هذا الحق الأطباق والمعلمون في رومه. وكان النقص المطرد في المواليد قد أقض من قبل مضجعه، فقرر في عام 59 ق. م أن تكون الأولوية في امتلاك الأراضي التي توزعها الحكومة لآباء الثلاثة الأبناء. والآن قرر منح مكافآت للأسر الكبيرة، وحرم على من ليست لهن أبناء من النساء أن يركبن المحفات أو يتحلين بالجواهر- وكان هذا التشريع أضعف تشريعاته كلها وأقلها نفعاً.
وظل قيصر كما كان رجلاً لا أدريا وإن لم يكن عقله بعيداً كل البعد عن الخرافات (53). ولكنه بقي الرئيس الأعلى لدين الدولة ولم يبخل على هذا الدين بما يحتاجه من الأموال، فأعاد بناء الهياكل القديمة وأنشأ هياكل أخرى جديدة. وكانت فينوس أمه الحنون تلقى منه أعظم ضروب التكريم، لكنه مع هذا كان يطلق للناس كامل الحرية في الفكر والعبادة، وألغى ما كان قد صدر من الأوامر بتحريم عبادة إيزيس، ومنع التعرض لليهود في ممارسة شعائر دينهم. ولما رأى أن تقويم الكهنة لم يعد يتفق مطلقاً مع فصول السنة أمر سوسجينس Sosigenes العالم اليوناني الإسكندري السنة من ذلك الحين تشتمل على 365 يوماً، يضاف إليها يوم في آخر شهر فبراير كل أربع سنين. وأخذ شيشرون يشكو من هذا(9/392)
التغيير ويقول إن قيصر لم يقنع بحكم الأرض فتطاول إن تنظيم النجوم والتحكم في شؤونها، ولكن مجلس الشيوخ قبل هذا الإصلاح أحسن قبول، وأطلق اسم يوليوس وهو اسم أسرة قيصر على شهر كونكتيلس Quinctilis ( الشهر الخامس) وكان هذا الشهر هو الشهر الخامس حين كان شهر مارس بداية العام.
ولك تكن الأعمال التي شرع فيها قيصر أو فكر فيها ووقفت بسبب قتله أقل شأناً من الأعمال التي تمت فعلاً. ومن هذه الأعمال الأولى أنه وضع أساس ملهى عظيم، ومعبد للمريخ يتفق وما عرف عن هذا الإله من شره ونهم، وعين فارو على رأس هيئة تعمل لإنشاء دور كتب عامة. وعمل على إنقاذ رومه من وطأة الملاريا بتجفيف بحيرة فوسينس Fucinus ومنافع بنتين Pontine، واستصلاح الأراضي المجففة وزرعها. وأشار ببناء جسور حول التيبر ليمنع طغيان مياهه على الأراضي المجاورة له، واقترح تحويل مجرى هذا النهر لإصلاح ميناء أستيا Ostia الذي كان غرين النهر يسده من آن إلى آن. وأمر مهندسيه بأن يعدوا مشروعاً يرمي إلى إنشاء طريق يخترق وسط إيطاليا من الشرق إلى الغرب والى حفر قناة في برزح كورنثة Corinth.
وكان أشد ما أغضب أهل رومه من أعماله أن منح أحرار الإيطاليين كلهم ما لأهل رومه نفسها من حقوق، وأهن سوي بين الولايات وبين إيطاليا. ذلك أنه منح حق الانتخاب لأهل غالة الجنوبية في عام 49، ثم وضع في عام 44 ميثاقاً يدل ظاهرة على أنه لجميع مدن إيطاليا وانه يسوي بين هذه المدن وبين رومه، ولكن أكبر الظن أنه كان يفكر في إقامة حكومة نيابية من نوع ما تجعل لهذه المدن نصيباً ديمقراطياً في حكومته الملكية (55). ثم انتزع حق تعيين الولاة من مجلس الشيوخ المرتشي الفاسد، ورشح هو لهذه المناصب رجالاً عرفوا بالمقدرة والكفاية، وجعلهم في كل آن عرضة للعزل بأمر منه وحده، وخفض الضرائب في الولايات إلى ثلثي ما كانت(9/393)
عليه، وعهد جبايتها إلى موظفين مسؤولين أمامه. ولم يأبه باللعنات القديمة التي كانت تصب على من يعيد بناء كبوا وقرطاجنة وكورونثة؛ وأتم في هذه الناحية أيضاً ما شرع فيه ولدا جراكس، وأعطى حقوق الرومان أو اللاتين للمستعمرين الذين أرسلهم لإنشاء عشرات المدن الممتدة من جبل طارق إلى البحر السود، أو لتعمير ما كان قائماً منها من قبل. ولا جدال في أنه كان يريد أن يمنح حق المواطنية الرومانية لجميع الذكور الراشدين في الإمبراطورية كلها، وبذلك لا يكون مجلس الشيوخ ممثلاً لطبقة واحدة في رومه بل يكون ممثلاً لعقلية الولايات جميعها وإرادتها. وهذه الفكرة التي سيطرت على عقل قيصر فيما يجب أن يكون عليه نظام الحكم، مضافة إلى تنظيمه الجديد لرومه وإيطاليا، تكمل في رأينا تلك المعجزة المنقطعة النظير- المعجزة التي جعلت من الشاب المتلاف العربيد رجلاً من أقدر رجال السياسة المشؤومة في جميع العصور وأعظمهم شجاعة وعدلاً واستنارة.
وكان قيصر كالإسكندر لا يعرف أين تقف جهوده وإصلاحاته؛ فلما أن رسم في ذهنه صورة لدولته في نظامها الجديد ساءه أن يجدها معرضة للغزو عند أنهار الفرات والدنواب والرين، فأخذ يفكر في إرسال حملة عظيمة لإخضاع بارثيا والأخذ بثأر كراسس الذي أمده بالمال في أزماته، وفي الزحف حول البحر الأسود لتهدئة سكوذيا Scythia، وفي ارتياد نهر الدانوب وفتح ألمانيا (16). حتى إذا ما أمن الإمبراطورية على هذا النحو عاد إلى رومه مثقلاً بالمجد والمغانم، ومعه من المال ما يستطيع به أن يقضي على الكساد الاقتصادي في البلاد، وله من القوة والجاه ما يستطيع به أن يغض الطرف عن كل معارضة؛ ومن الحرية ما يمكنا من أن يعين من يخلفه، وأن يموت بعد أن يورث العالم "السلم الرومانية" Pax Romana، وهي أعظم تراث يستطيع أن يورثه إياه.(9/394)
الفصل التاسع
بروتس
ولما تسربت أنباء هذه الخطة إلى رومه رحب بعها العامة الذين يحبون المجد، وتلمظ لها رجال الأعمال ذ شموا فيها رائحة الحرب، وتصوروا المطالب تنهال عليهم لصنع العتاد، وتصوروا الولايات تنهب وتتكدس في خزائنهم الأموال. أما الأشراف فرأوا الفناء يحل بهم عند عودة قيصر، ولذلك عقدوا النية على قتله قبل أن يغادر البلاد.
وكان قيصر قد عامل هؤلاء الأشراف معاملة كريمة أطلقت لسان شيشرون بالثناء عليه. وكان قد عفا عن كل من استسلم له من أعدائه، ولم يحكم بالإعدام إلا على عدد قليل من الضباط الذين خانوا عهده فحاربوه بعد أن هزمهم وعفا عنهم. وكان قد أحرق كل الرسائل التي عثر عليها في خيمة بمبي وسبيو من غير أن يقرأها، وأرسل ابنة بمبي وأحفاده الأسرى إلى سكتس ابن بمبي، وكان لا يزال في حرب معه، وأصلح تمثال بمبي وأقامه في موضعه بعد أن طرحه أتباعه على الأرض؛ وعين بروتس وكاسيوس واليين على اثنتين من الولايات، كما عين غيرهما من الأشراف في بعض المناصب العليا، وصبر على كثير من الأذى والمثالب دون أن يشكو أو يتذمر، ولم يتخذ شيئاً من الإجراءات ضد من كان يظن أنهم يأتمرون به ليقتلوه. أما شيشرون الذي طالما لبس لكل حالة لبوسها، وأدار شراعه لكل ريح، فإن قيصر لم يكتف بالعفو عنه بل كرمه ولم يبخل عليه بشيء مما طلبه الخطيب العظيم لنفسه أو لأصدقائه البمبيين، بل نه انصاع لإلحاف شيشرون، فعفا عن ماركس مرسلس وهو الرجل الذي خرج على قيصر ولم يندم على فعله. وقد امتدح شيشرون في خطبة له رنانة عنوانها "إلى مرسلس" (56)(9/395)
" كرم قيصر الذي لا يصدقه العقل"، وقال عن بمبي إنه لو انتصر لكان أشد منه انتقاماً من أعدائه. ثم أضاف إلى ذلك قوله: "لقد سمعت مع الأسف الشديد عباراتك الفلسفية المشهورة lam satis vivi لقد نلت كفايتي من طول الحياة ومن الشهرة ... ورجائي إليك أن تطرح حكمة الحكماء .. ولا تكن حكيماً إذا عرضتك الحكمة للأخطار .. إنك لا تزال بعيداً كل البعد عن إنجاز أعمالك العظيمة، بل إنك لم تضع بعد أسسها" ثم وعد قيصر وعداً صادقاً باسم مجلس الشيوخ كله بأنهم سيسهرون على سلامته ويصدون بأجسامهم كل اعتداء عليه (57). وأثرى شيشرون في ذلك الوقت ثراء جعله يفكر في شراء قصر آخر هذا القصر غير قصر صلا نفسه. وكان يستمتع بالمآدب التي يدعوه إليها أنطونيوس ويلبس وغيرهما من أعوان قيصر، ولم تكن رسائله في أي وقت مضى أكثر بهجة مما كانت في ذلك الوقت (58). غير أن قيصر لم ينخدع بهذا كله، فقد كتب إلى ماريوس يقول: "إذا كان في الناس من هو ظريف فذاك شيشرون ولكنه يبغضني أشد البغض" (59). وكان قيصر صادقاً في قوله، فلما أن عاد البمبيون إلى مناوأة قيصر بعد أ، أمنوا جانبه ارتمى هذا الأديب التلراني (1) في أحضانهم وكتب يثني على كاتو الأصغر ثناء ما كان أجدره بأن ينبه قيصر إلى ما يحيط به من الأخطار. غير أن قيصر لم يفعل أكثر من أن يرد على شيشرون بكتابة ضد كاتو Anti- Cato لا تدل على حصافة عقله. ذلك أنه بعمله هذا أمكن خصمه من أن يختار السلاح الذي ينازله به، وكانت نتيجة هذا أن انتصر الخطيب عليه، وأثنى الرأي العام على أسلوب شيشرون كما أثنى على الحاكم الذي اختار أن يكتب رسالة وهو قادر على أن يوقع أمراً بالإعدام.
وبعد فإن الذين حرموا ما كان لهم من سلطان لا يمكن أن تستل سخائمهم
_________
(1) الشبيه في أخلاقه بتلران السياسي الفرنسي الشهير (1754 - 1838).(9/396)
بالعفو عن مقاومتهم لمن حرمهم هذا السلطان، وليس عفوك عمن عنك بأقل صعوبة عمن آذيته. ومصداق هذا أن الأشراف في مجلس الشيوخ الذي لم يكن يجرؤ على رفض المقترحات التي عرضها عليه قيصر حسب الأصول الدستورية أخذوا يتبرمون وينددون تنديد الوطنيين الصادقين بالقضاء على الحرية التي أتخمت بالمال خزائنهم، وعز عليهم أن يقروا بأن عودة النظام تتطلب التضحية ببعض حريتهم. وقد روعهم وجود كليوبطرة وقيصريون في رومه. نعم إن قيصر كان يعيش مع زوجته كلبيرنيا وإنهما كانا يتبادلان المحبة في الظاهر، ولكن من ذا الذي يعرف- ومن ذا الذي تطاوعه نفسه على ألا يذيع- ما كان يحدث في أثناء زياراته الكثيرة للملكة العظيمة الجميلة؟ وأكدت الشائعات أنه يريد أن ينصب نفسه ملكاً، وأن يتزوج كيلوبطرة، وأن ينقل عاصمة دولتهما المتحدة إلى بلاد الشرق. ألم يأمر بأن يقام له تمثال على الكبتول بجوار تماثيل ملوك رومه الأقدمين؟ - ألم تطبع صورته على النقود الرومانية؟ وهي وقاحة لم يسبق لها نظير. ألم يلبس جلابيب أرجوانية من اللون الذي كان يحتفظ به عادة للملوك؟ لقد حاءه القنصل أنطونيوس يوم عيد لبركاليا في الخامس عشر من فبراير عام 44 عاري الجسد إلا من جلود الماعز التي كان يلبسها الكهنة في ذلك العيد (1) ثملاً من كثرة ما احتسى من الخمر، وحاول ثلاث مرات أن يضع التاج الملكي على رأس قيصر؛ ورفضه قيصر في المرات الثلاث. ولكن ألم يكن سبب هذا الرفض أن الجماهير قد أبدت غضبها من هذا العمل وإن أبدته همساً؟ ألم يقص التربيونين عن منصبيها لأنهما رفعا عن تمثاله الإكليل الملكي الذي وضعه عليه أصدقاؤه ولما أقبل عليه الشيوخ وهو جالس في هيكل فينوس لم يقم واقفاً لاستقبالهم. وقال بعضهم إنه قد أقعدته وقتئذ نوبة صرع، وقال غيرهم إنه كان يشكو إسهالاً شديداً، وإنه ظل جالساً حتى لا تتحرك أمعاؤه في هذه اللحظة غير
_________
(1) انظر ما قلناه عن الأعياد في الفصل الثاني من الباب الرابع.(9/397)
المواتية (60)، ولكن كثيرين من الأشراف كانوا يخشون أن ينادي به ملكاً في أي يوم.
وأقبل كيوس كاسيوس، وهو رجل مريض الجسم- "أصفر نحيل" كما يصفه أفلوطرخس (61)، على ماركس بروتس واقترح عليه اغتيال قيصر. وكان قبل ذلك قد عرض خطته على جماعة من الشيوخ وعلى بعض الممولين الذين قل ما ينهبونه من الولايات مذ وضع قيصر القيود الشديدة على الملتزمين، بل عرضها أيضاً على بعض القواد في جيش قيصر الذين أحسوا بأم ما حباهم به من المناصب والغنائم كان أقل مما يستحقون، وكان هؤلاء كلهم قد وافقوا عليها. وكان المتآمرين في حاجة إلى بروتس ليكون هو رافع لواء المؤامرة، لأنه اشتهر بين الناس كافة بأنه أعظم الناس استمساكاً بالفضيلة، وكان الناس يقولون إنه من سلالة بروتس الذي طرد الملوك قبل ذلك الوقت بأربعمائة وستة وأربعين عاماً. وكانت أمه سرفليا أختاً غير شقيقة لكاتو، وزوجته بورشيا ابنة كاتو وأرملة ببيولس عدو قيصر؛ ويقول أبيان "إن الناس كانوا يظنون أن بروتس نفسه ابن قيصر لأن قيصر كان عشيق سرفليا في الوقت الذي ولد فيه بروتس" (62). ويضيف أفلوطرخس إلى ذلك أن قيصر كان يعتقد أن بروتس ولده (63). ولا يبعد أن يكون بروتس نفسه ممن يعتقدون هذا الاعتقاد، وأنه كان يحقد على قيصر لأنه أفسد أخلاق أمه وجعله مضغة في أفواه الرومان، يقولون عنه إنه ابن زانية بدل أن يكون من نسل آل بروتس. وكان هو على الدوام مكتئباً يميل إلى الصمت كأن ظلماً حل به يجثم على صدره ويشغل باله، وذلك في الوقت الذي كان فيه فخوراً معجباً بنفسه، لأنه أياً كان مولده يجري في عروقه دم الأشراف. وكان يجيد اللغة اليونانية ويجب الفلسفة، وكان في علم ما وراء الطبيعة من القائلين برأي أفلاطون، وفي الأخلاق من أتباع زينون. وكان مما انطبع في ذهنه أن الرواقية تتفق مع المبادئ اليونانية والرومانية في الحث على قتل الطغاة الظالمين. وقد كتب(9/398)
في هذا إلى صديق له يقول: "إن آباءنا كانوا يعتقدون أنه لا ينبغي لنا أن نخضع للمستبد ولو كان هذا المستبد أبانا نفسه" (64). وقد ألف رسالة في الفضيلة وخلط الناس في المستقبل بينه وبين هذا الوصف، وإن كان بعيداً عنه. فقد أقرض أهل سلاميس Salamis في قبرص عن طريق بعض الوسطاء أموالاً بسعر ثمانية وأربعين في المائة، ولما تذمروا من أداء ما تراكم عليهم من الفوائد ألح على شيشرون، وكان وقتئذ قنصلاً في قليقية، أن يستعين بالجيوش الرومانية على جمع المال (65). وقد حكم غالة الجنوبية حكماً صالحاً يمتاز بحسن الإدارة والكفاية، ولما عاد إلى رومه عينه قيصر بريتوراً Praetor على الحواضر.
وقد ثار كل عنصر طيب فيه على مقترحات قيصر، وأخذ كاسيوس يذكره بآبائه على الظلم، ولعل بروتس قد شعر بأنه يتحداه بأن يثبت أنه من نسلهم وبأن يحذو حذوهم. وكان هذا الشاب الحسّاس يحمرّ وجهه خجلاً حين يرى تمثال بروتس الأكبر أمثال هذه العبارة:
أي بروتس! هل مت؟ وإلا فإن آباءك براء منك
وقد أهدى إليه شيشرون عدة من رسائله كتبها في تلك السنين، وسرت في ذلك الوقت بين الأشراف شائعة فحواها أن لوسيوس كتا Lucius Cotta سيعرض على مجلس الشيوخ في اجتماعه المقبل الذي سيكون في الخامس من شهر مارس اقتراحاً بتنصيب قيصر ملكاً، لأن عرّافة سيبيل قالت إن البارثيين لن يهزموا إلا على يد ملك (67). وقال كاسيوس إن المجلس، وقد أصبح نصف أعضائه ممن عينهم قيصر، سوف يوافق على هذا الاقتراح، وإنه لن يبقى بعد ذلك أمل في عودة الحكم الجمهوري. وتأثر بروتس بهذا كله، واستسلم، واخذ المتآمرون بعد ذلك يحكمون أمرهم ويضعون خططهم. واستخلصت بورشيا(9/399)
السر من زوجها، بأن طعنت نفسها بخنجر في فخذها لتبرهن بذلك على أنه ما من أذى يصيبها في جسمها يحملها على أن تنطق بشيء رغم إرادتها. وأصر بروتس في لحظة غير مواتية له على ألا يمس أنطونيوس بأذى.
وحدث في مساء اليوم الرابع عشر من شهر مارس أن عرض2 قيصر على من كانوا مجتمعين في منزله أن يكون موضوع حديثهم "ما هي خير طريقة للموت؟ " وأجاب هو عن ذلك السؤال بقوله: "إنها الميتة المفاجئة". وتوسلت إليه زوجه في صباح اليوم الثاني ألا يذهب إلى مجلس الشيوخ، وقالت إنها رأته في نومها ملطخاً بالدماء؛ وحاول خادم آخر، كان يرى مثل رأيها، أن يفتعل نذيراً بمنع قيصر من الذهاب، فتسبب في سقوط صورة لأحد أسلافه معلقة على جدار، ولكن دسمس بروتس Decimus Brutus، وهو صديق حميم لقيصر وأحد المتآمرين، ألح عليه أن يحضر الاجتماع وإن لم يفعا فيه أكثر من أن يطلب بنفسه في رقة ومجاملة تأجيل الجلسة إلى وقت آخر. وأقبل صديق لقيصر عرف نبأ المؤامرة ليحذره فوجده قد غادر داره في طريقه إلى المجلس. وقابل في طريقه عرافاً كان قد أسر إليه من قبل أن "يحذر اليوم الخامس عشر من شهر مارس" وقال له قيصر وهو يبتسم، إن الخامس عشر من مارس قد جاء ولم يصب فيه بسوء، فأجابه اسبورنا Sburinna " نعم ولكنه لم يمض بعد".
وبينا كان قيصر يقرب القربان الذي كان من المألوف تقريبه قبل الجلسة أمام ملهى بمبي حيث يعقد المجلس اجتماعه إذ وضع أحدهم في يده لوحة صغيرة يحذره فيها من لمؤامرة ولكنه لم يعبأ بها. وتقول الرواية المأثورة إن هذه اللوحة وجدت في يده بعد مقتله (1).
_________
(1) وردت هذه القصص الخاصة باليوم الخامس عشر من مارس في مؤلفات سيوتونيوس وأفلوطرخس وأبيان، ولكنها رغم ورودها في هذه المؤلفات كلها قد لا تكون إلا خرافة من الخرافات.(9/400)
وشغل تربونيوس Trebonius- وهو أحذ المتآمرين، وكان من قبل أحد قواد قيصر المقربين- أنطونيوس بالحديث فعطله عن حضور الاجتماع. ولما دخل قيصر الملهى واتخذ فيه مجلسه هجم "دعاة الحرية" من فورهم عليه. ويقول سيوتونيوس: "لقد كتب بعضهم يقولون إنه حين هجم عليه ماركس بروتس قال باللغة اليونانية Kai su teknon- " وأنت أيضاً يا ولدي" (69). ويقول أبيان إن قيصر حين طعنه بروتس امتنع عن كل مقاومة، وغطى وجهه ورأسه بثوبه، واستسلم للضربات، وسقط عند قدمي تمثال بمبي (70). وهكذا تحققت رغبة واحدة من رغبات أكمل إنسان أنجبته الأيام الخالية (1).
_________
(1) يقصد بهذه الرغبة ميتته المفاجئة. وقد روى شكسبير في مسرحيته الذائعة الصيت هذه الحوادث كلها ووصفها أروع وصف. (المترجم)(9/401)
الباب العاشر
أنطونيوس
44 - 3 - ق. م
الفصل الأول
أنطونيوس وبروتس
لقد كان مقتل قيصر مأساة من مآسي التاريخ الكبرى، وليس السبب في عظم هذه المأساة مقصوراً على أنها حالت بينه وبين إتمامه عملاً من أجل الأعمال السياسية والإدارية، وأدت إلى امتداد عهد الفوضى والحروب خمسة عشر عاماً أخرى. ولو كانت نتائجها مقصورة على هذا وذاك لهان الخطب، فقد عاشت الحضارة بعده، وأتم أغسطس ما بدأه قيصر، بل إنه مأساة من نوع آخر وهو أن الحزبين المتعارضين في مجلس الشيوخ كان كلاهما في أغلب الظن على حق: فالمتآمرين محقون في اعتقادهم أن قيصر كان يعتزم أن ينصب نفسه ملكاً، كما أن قيصر نفسه كان محقاً في ظنه أن الفوضى والنظام الإمبراطوري قد جعلا الملكية أمراً محتوماً. وقد انقسم الناس بين الرأيين ولا يزالون منقسمين منذ اللحظة الرهيبة التي مرت بمجلس الشيوخ، وقد استولى عليه الهلع من وقع الحادث، ثم فر أعضاؤه مذعورين مضطربين من قاعة الاجتماع. وأقبل أنطونيوس على مكان الحادث بعد وقوعه، ورأى أن الحكمة هي عين الشجاعة، فاحتمى في بيته. وخانت شيشرون فصاحته حتى(9/402)
في الوقت الذي حياه بروتس وخنجره يقطر دماً في يده قائلاً له مرحباً "بأبي بلده". ولما خرج المتآمرون وجدوا الشعب هائجاً في الميدان العام، وأرادوا أن يضموه إلى جانبهم بألفاظ الحرية والجمهورية، ولكن العامة الذين جن جنونهم من هول الحادث لم يعبئوا بهذه الألفاظ التي طالما استخدمت لستر المطامع والشره. ولجأ القتلة إلى البناء القائم على الكبتول ليعتصموا به خوفاً على حياتهم، وأحاطوا أنفسهم بحراسهم من المصارعين. وانضم إليهم شيشرون في آخر النهار، وأرسلوا رسلهم إلى أنطونيوس يستطلعون طلعه فأجابهم جواباً ودياً.
واحتشد في اليوم الثاني جمع غفير في السوق العامة وأرسل المتآمرين صنائعهم ليبتاعوا تأييدهم وينظموا من هذا الحشد جمعية شرعية. ثم استجمعوا شجاعتهم، ونزلوا من فوق الكبتول، وألقي بروتس على المجتمعين خطبة كان قد أعدها من قبل ليلقيها في مجلس الشيوخ. غير أن هذه الخطبة لم يكن لها أثر في السامعين، وحاول كاسيوس أن يؤثر هو فيهم ولكنهم قابلوه بصمت وفتور، فعاد المحررون إلى الكبتول، حتى إذا ما نقص عدد العامة المحتشدين تسللوا إلى بيوتهم. واعتقد أنطونيوس أنه وارث قيصر، فحصل من كلبيرنيا- وقد أذهلتها الفاجعة وكادت تذهب بعقلها- على كل ما تركه قيصر في القصر من أوراق وأموال، ثم عاد في الوقت نفسه جنود قيصر القدامى المضرسين للحضور إلى رومه. وفي اليوم السابع عشر دعا مجلس الشيوخ إلى الاجتماع مستخدماً في ذلك حقه بوصفه تربيوناً، وأدهش الأحزاب جميعها بلطفه وهدوئه، فقبل ما عرضه عليه شيشرون وأصدر عفواً عاماً، ووافق على أن يعين بروتس وكاسيوس واليين لاثنتين من الولايات، (أي أن يفرا وينجوا ويستمتعا بالسلطان)، على شرط أن يقر مجلس الشيوخ جميع الأوامر والقوانين والتعيينات التي أصدرها قيصر. وإذ كانت كثرة الشيوخ مدينة بمناصبها وأموالها إلى هذه القرارات نفسها فقد وافقت على هذا الشرط، ولما فض الاجتماع أثنى الجميع على أنطونيوس وقالوا إنه هو السياسي(9/403)
الذي انتزع السلم من بين أنياب الحرب. وفي مساء ذلك اليوم نفسه أولم وليمة عشاء لكاسيوس. وعاد مجلس الشيوخ إلى الانعقاد في اليوم الثامن عشر وأقر وصية قيصر، ووافق على أن يحتفل بجنازته احتفالاً عاماً، واختار أنطونيوس ليؤبنه التأبين المألوف.
وفي اليوم التاسع حصل أنطونيوس من العذارى الفستية على وصية قيصر، وكان قد أودعها عندهن، وقرأها لجماعة صغيرة في بادئ الأمر ثم لجماعة أخرى أكبر من الأولى عدداً. وقد جاء فيها أنه يوصى بجميع أملاكه الخاصة لثلاثة أحفاد أخوته (وكان ذلك مثار دهشة أنطونيوس وغضبه) وسمي واحداً منهم بالذات وهو كيوس أكتافيوس متبناه ووريثه. وجعل الدكتاتور حدائقه متنزهاً عاماً للشعب، وأوصى لكل مواطن في رومه بثلاثمائة سسترس. وسرعان ما انتشر نبأ هذا الإحسان في جميع أنحاء المدينة، ولما جئ في اليوم العشرين من الشهر بجثة قيصر إلى السوق العامة، بعد أن حنطت في بيته، لإجراء المراسم النهائية احتشد حولها جمع غفير من الناس ومن بينهم جنود قيصر القدامى ليكرموه. ويظهر أن أنطونيوس قد تحدث إلى هذا الجمع في بادئ الأمر بحيطة فلم يطلق للسانه العنان، ولكن عواطفه المكبوتة لم تلبث أن تغلبت عليه فأطلقت لسانه وأكسبت ألفاظه فصاحة أيما فصاحة. ولما رفع من النعش العاجي الثوب الممزق الملطخ بالدماء والذي مزقته الطعنات التي وجهت إلى قيصر، ثارت عواطف المجتمعين ثوراناً لم يكن في وسع أحد أن يكبح جماحه، وعلا النحيب والعويل، وأخذ كل واحد يجمع الأحطاب اللازمة لإشعال النار التي ستحرق بها الجثة. وألقى الجنود القدامى أسلحتهم فوق كومة الأحطاب لتكون قرباناً يقربونها إلى قيصر، كما ألقى الممثلون ملابسهم والموسيقيون آلات عزفهم، كما ألقيت النساء أغلى ما يمتلكن من الحلي. وانتزع بعض المتحمسين مشاعل من النار وذهبوا بها ليحرقوا بيوت المتآمرين، ولكنهم وجدوا الحراسة شديدة على(9/404)
هذه المباني، ووجدوا أن أصحابها قد فروا من رومه. وظلت طائفة كبيرة من الشعب بجوار الأحطاب المحترقة طوال الليل، ما لازمها اليهود ثلاثة أيام كاملة اعترافاً منهم بفضل قيصر وعطفه عليهم فيما أصدره من قوانين. ولم ينقطعوا طوال هذه الأيام الثلاثة عن ترديد أناشيدهم الجنازية. وظلت العاصمة في هذه الأيام الثلاثة تجتاحها الفتن والقلاقل حتى أمر أنطونيوس جنوده في آخر الأمر أن يعيدوا إليها النظام، وأن يلقوا بكل من لا يرتدع عن السلب والنهب من فوق صخرة تربيا Tarpeia.
وكان أنطونيوس نصف ما كان قيصر كما سيكون أغسطس نصفه الثاني؛ فقد كانت أنطونيوس قائداً عظيماً كما كان أغسطس حاكماً فذاً ممتازاً، ولكن الصفتين لم تجتمعا في واحد منهما. وقد ولد أنطونيوس في غالة 82 ق. م، وقضى الشطر الأكبر من حياته في المعسكرات كما قضى أكثرها في معاقرة الخمر، ومجالس النساء، والاستمتاع بالمرح وشهي الطعام.
وكان رغم كرم محتده وبهاء طلعته يتصف بفضائل عامة الناس. وكان قوي الجسم، حيواني الروح، طيب القلب، كريماً، شجاعاً، وفياً. وقد أساء إلى سمعته وسمعة قيصر نفسه إذ احتفظ في داره برومه بطائفة كبيرة من النساء والغلمان، وبعشيقة يونانية في محمله كلما غادر رومه (1). وكان قد ابتاع منزل بمبي في المزاد العام وأقام فيه، ثم أبى أن يؤدي ثمنه (2). وهاهو ذا يجد في أوراق قيصر- أو يسجل فيها على ما يقول بعضهم- كل ما يستفيد من وجوده- مناصب لأصدقائه، ومراسيم يصل بها إلى أغراضه، وخيراً كثيراً لنفسه، فلم يمض على مقتل قيصر أسبوعان حتى وفى بديون كانت عليه يبلغ مقدارها نحو 1. 500. 000 ريال أمريكي، وأصبح بعد عشية وضحاها رجلاً ثرياً. واستولى على الخمسة والعشرين مليون ريال التي كان قيصر قد أودعها في هيكل أبس Aps وعلى خمسة ملايين أخرى من أموال قيصر الخاصة. ولما رأى أن دسمس بروتس،(9/405)
الذي عينه قيصر قبل مقتله والياً على غالة الإيطالية، وقد تولى هذا المنصب المربح رغم اشتراكه في اغتيال قيصر، استصدر قراراً من الجمعية بتعيينه هو والياً على هذه الولاية ذات الموقع العسكري الخطير، وعوض دسمس عنها بولاية مقدونية. ثم استصدر قراراً بأن يتخلى ماركس بروتس وكاسيوس عن مقربة لدسمس، وعن سوريا لدلابلا، وأن يقنعا بقورنية وكريت.
وارتاع مجلس الشيوخ من قوة أنطونيوس المتزايدة، فدعا إلى رومه كيوس أكتافيوس متبني قيصر لكي يقضي على هذه القوة. وقد صار كيوس في مستقبل الأيام أعظم الساسة الحاكمين في التاريخ الروماني. أما في عام 44 فلم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة من العمر، وقد تسمى باسم الرجل الذي تبناه كما جرت بذلك العادة المألوفة وعدله بإضافة اسمه هو فصار اسمه الكامل كيوس يوليوس قيصر أكتافيانوس. وظل ذلك اسمه حتى ضم إليه بعد سبعة عشر عاماً من ذلك الوقت اسم أغسطس، وهو اللقب العظيم التي تعرفه به القرون التالية. وكانت جدته هي يوليا Julia أخت قيصر، أما جده فكان مصرفياً من أصل عامي في فلترا Velitrae من أعمال لاتيوم. وكان أبوه قد عمل إيديلا شعبياً ثم بريتوراً ثم فيما بعد والياً على مقدونية.
وقد نُشئَ الغلام على البساطة الاسبارطية، وتعلم الآداب والفلسفة اليونانيتين والرمانيتين، وقضى معظم الثلاث السنين الأخيرة في قصر قيصر. ولقد كان من أسباب حزن قيصر أنه لم يكن له أبناء شرعيون، كما كان من أكبر الشواهد على حصافة رأيه أن تبنى أكتافيوس، فأخذه وهو غلام معه إلى أسبانيا في عام 45، وسره أن رأى الشاب المريض، العصبي، الضعيف الجسم، قد تحمل أخطار الحرب وشدائدها بشجاعة عظيمة. وعمل قيصر على أن يدرب الشاب على فنون الحرب والحكم (3). وإن لنعرف ملامحه من التماثيل الكثيرة التي أقيمت له: فهو رقيق، نحيل، جاد، حيي وحازم معاً، مستسلم وعنيد؛ مثالي اضطرته الظروف(9/406)
لأن يكون واقعياً، ومفكر علمته صروف الدهر أن يكون من رجال العمل. وكان أصفر الوجه، هزيل الجسم، ممعوداً يشكو سوء الهضم. ولذلك لم يكن يأكل إلا قليلاً، ولا يشرب إلا أقل؛ وعاش أطول مما عاش من حوله من الأقوياء بالحمية وتنظيم الحياة.
وجاء في أواخر مارس عام 44 عبد محرر إلى أبولونيا Appolonia من أعمال اليريا Illyria حيث كان اكتافيان مع جيشه يحمل إليه نبأ مقتل قيصر ووصيته.
وارتاع الشاب المرهف الحس لجحود الناس وكفرهم بنعم المنعم عليهم، وثار في نفسه كل ما كان كامناً فيها من حبه لأخي جدته الذي كان يعزه أعظم إعزاز، والذي كان يعمل جاهداً لإقامة صرح الدولة المحطمة. وعقد النية في صمت على أن يواصل جهود قيصر وأن ينتقم من قاتليه. ثم ركب من فوره إلى شاطئ البحر وعبره إلى برنديزيوم وأسرع إلى رومه؛ وأشار عليه أقاربه فيها أن يظل مختفياً عن الأنظار لئلا يهلكه أنطونيوس، ونصحته والدته ألا يقوم بعمل من الأعمال ولكنها ابتهجت حين سخر من هذه النصيحة. وكان كل ما أشارت به عليه أن يصبر كلما كان الصبر في مقدوره، وأن يلجأ إلى الختل بدل الحرب السافرة، وقد عمل بهذه النصحية الحكيمة إلى آخر أيامه.
وتوجه لزيارة أنطونيوس وسأله عما هو فاعل بقتلة قيصر. وهاله أن يرى أنطونيوس مشغولاً بإعداد جيش يزحف به على دسمس بروتس، لأنه أبى أن يتخلى عن بلاد غالة الجنوبية؛ وطلب إلى أنطونيوس أن يوزع ما تركه قيصر حسب وصيته، وخاصة ذلك الجزء الذي يوصي بإعطاء كل مواطن خمسة وأربعين ريالاً. غير أن أنطونيوس وجد أسباباً كثيرة تدعو إلى تأخير تنفيذ الوصية، فما كان من أكتافيان إلا أن وزع على جنود قيصر القدامى أموالاً استدانها من أصدقاء قيصر وأعد بنفسه جيشه.(9/407)
وإغتاط أنطونيوس من وقاحة هذا "الولد" على حد قوله. وأعلن أن بعضهم قد حاول قتله، وأن الذي كان يريد اغتياله قد قال إن اكتافيان هو المحرض له. وأنكر اكتافيان هذه التهمة، وقال إنه برئ منها، وانتهز شيشرون فرصة هذا النزاع وأدخل في رومه أكتافيان أن أنطونيوس فظ غير مهذب يجب أن يهزم. ووافق أكتافيان على هذا الرأي، وضم فيلقيه إلى فيالق القنصلين هرتيوس Hirtius وبنسا Pansa، وزحف بها كلها شمالاً لقتال أنطونيوس. وأمد شيشرون هذه الحرب الأهلية الجديدة بطائفة من الاتهامات المقذعة ضمنها أربع عشرة "فلبة (1) قوية" في الطعن على سياسة أنطونيوس العامة وحياته الخاصة، ألقى بعضها في مجلس الشيوخ أو في الجمعية، ونشر بقيتها للدعاوة ضد أنطونيوس على أحسن الصور التي صارت الدعاوة الحربية تنشر بها في مستقبل الأيام. ولما التقى الجيشان في موتينا Mutina ( مودينا Modena) هزم أنطونيوس وفر من الميدان (44)؛ ولكن هرتيوس وبنسا قتلا في المعركة. وعاد أكتافيان إلى رومه وأصبح القائد الأوحد لفيالق مجلس الشيوخ وفيالقه هو، وأرغم المجلس وهو مؤيد بهذه القوة على أن يعينه قنصلاً، وأن يلغى العفو الذي أصدره عن المتآمرين وأن يحكم عليهم جميعاً بالإعدام. ولما تبين له أن شيشرون ومجلس الشيوخ من ألد أعدائه، وأن كل ما في الأمر أنهما يتخذانه أداة مؤقتة للقضاء على أنطونيوس لما تبين له هذا سوى النزاع القائم بينه وبين أنطونيوس، وكون منه ومن أنطونيوس ولبدس الحكومة الثلاثية الثانية. (43 - 33 ق. م)، ثم زحفت جيوشهم المتحالفة على رومه واستولت عليها دون أن تلقى مقاومة، وفر كثون من الشيوخ ومن المحافظين إلى جنوبي إيطاليا والى الولايات الخارجية، واعترفت الجمعية بهذه الحكومة الثلاثية، وخولتها سلطات كاملة مدى خمسة أعوام.
_________
(1) كان هذا اللفظ يطلق أولاً على كل خطبة من خطب ثلاث لديموستين ضد فليب المقدوني، ثم صار علماً على كل خطبة فيها طعن- واتهام كخطب شيشرون ضد أنطونيوس. المترجم(9/408)
ولكي يستطيع الحكام الثلاثة أداء رواتب جنودهم، وملء خزائنهم، والانتقام من قتلة قيصر، بسطوا على رومه حكماً لا يماثله في تاريخ الرومان كله حكم آخر في الإرهاب وسفك الدماء. فقد أعدوا قوائم تحتوي على أسماء من لابد من إعدامهم، وكانوا ثلاثمائة من الشيوخ، وألفين من رجال الأعمال، وعرضوا على كل حر يأتيهم برأس واحد من هؤلاء 25. 000 درخمة (15. 000 ريال أمريكي)، وعلى كل عبد 10. 000 (4). وأضحى امتلاك المال جريمة يعاقب عليها بالإعدام فكانوا يحكمون بقتل الأطفال الذين يرثون مالاً، وينفذون فيهم الحكم، وكان ينتزع من الأرامل ما يرثنه من الأموال، وقد أرغمت 14. 000 امرأة على أن ينزلن للحكام الثلاثة عن الجزء الأكبر من أملاكهن، ثم استولوا آخر الأمر على الأموال المدخرة المودعة عند "العذارى الفستية". وقد عفوا عن أتكس لأنه ساعد من قبل فلفيا Fulvia زوجة أنطونيوس، ولكنه رغم اعترافه بهذا الفضل أرسل مبالغ طائلة من المال إلى بروتس وكاسيوس. وأقام الحكام الثلاثة جنودهم حراساً على كل مخارج المدينة، واختبأ المحكوم بإعدامهم في الآبار والبالوعات والحجر العليا في الدور والمداخن. ومنهم من ماتوا وهم يدافعون عن أنفسهم، ومنهم من أماتوا أنفسهم جوعاً أو شنقاً أو غرقاً، ومنهم من قفزوا من فوق الأسطح أو ألقوا أنفسهم في النار. ومن الناس من قتل خطأ، ومن غير المحكوم عليهم من انتحروا فوق أجسام من قتلوا من أقاربهم. وكان التربيون سلفيوس Salvius يعلم أنه من المقتضي بإعدامهم، فأقام وليمة وداع لأصدقائه، ودخل عليه رسل الحكام الثلاثة في أثناء الوليمة، وقطعوا رأسه وتركوا جسمه أمام المائدة، وأمروا المدعوين أن يستمروا في طعامهم وشرابهم. وانتهز العبيد هذه الفرصة للتخلص من سادتهم، ولكن كثيرين منهم قضوا نحبهم وهم يدافعون عن ملاكهم، وقد تخفى واحد منهم في زي سيدة وقتل بدلاً منه. ومات(9/409)
بعض الأبناء دفاعاً عن آباءهم، ونم بعضهم على آباءهم ليرثوا نصيباً من أموالهم. ومن الزوجات الزانيات أو اللاتي خانهن أزواجهن من نمي عليهم، وأنقذت زوجة كوبونيوس Coponius بعلها بالنوم مع أنطونيوس. وكانت ففيا زوجة أنطونيوس قد حاولت أن تشتري منزل جارها رفوس Rufus، فأبى ذلك عليها ثم حاول في ذلك الوقت أن يقدمه لها هبة من غير ثمن، ولكنها استطاعت أن تضع اسمه بين أسماء المحكوم بإعدامهم، فلما قطع رأسه أمرت به فدق بالمسامير على باب بيته الأمامي (5).
ووضع أنطونيوس اسم شيشرون بين الأسماء الأولى من المحكوم عليهم. وذلك لأن أنطونيوس كان زوج أرملة كلوديوس، وابن زوجة لنتولس الكتاليناري Lentulus the Catallnarian الذي قتله شيشرون في السجن، وقد ساءه بحق ما احتوته "فلبات" شيشرون من تجريح وطعن شديد. وعارض أكتافيان في هذا ولكنه لم يستمر طويلاً في معارضته، ذلك أنه لم يكن في وسعه أن ينسى تمجيده لقتلة قيصر، كما لم ينس العبارة التي قالها للمحافظين يبرر بها مغازلته لوريث قيصر (1) وما فيها من تورية. وحاول شيشرون الفرار، ولكنه لم يتحمل دوار البحر فغادر المركب وقضى الليل في بيته في فورميا Formiae؛ وأراد أن يقضي فيه اليوم الثاني في انتظار مقتله لأن ذلك في نظره خير من البحر الهائج المضطرب، ولكن عبيده دفعوه إلى داخل هودج، وساروا به نحو السفينة، وبيناهم في طريقهم إذ أقبل عليهم جنود أنطونيوس. وأراد العبيد أن يقاوموهم ولكن شيشرون أمرهم أن يضعوا الهودج على الأرض ويستسلموا. ثم مد الرجل رأسه "وجسمه يعلوه العثير، وشعر رأسه ولحيته منفوش، ووجهه قد أضناه القلق والتعب" (7)، حتى يسهل على الجنود قطعه (42). وكانت أوامر أنطونيوس تقضي بأن تتقطع أيضاً يده اليمنى.
_________
(1) كان شيشرون قد قال عن أكتافيان: "إن الغلام جدير بالثناء والتزين والسمو" laudandum adolescentem, ornandum, follendum، ولكن tollendum تعني أيضاً القتل.(9/410)
فقطعت وجيء بها مع رأسه غليه. وضحك أنطونيوس ضحكة الفوز، ووهب القتلة 250. 000 درخمة، وأمر بتعليق الرأس واليد في السوق (8).
وفي أوائل عام 42 عبر الحكام بقواتهم البحر الأدرياوي واخترقوا مقدونية إلى تراقيا حيث جمع بروتس وكاسيوس آخر الجيوش الجمهورية، واستعانا على تموينه بالمال ينتزعونه بطرق لا تماثلها في قسوتها حتى السوابق الرومانية. فقد طلبا من الولايات الشرقية للإمبراطورية ضرائب عشر سنين مقدماً، وحصلا بالفعل على تلك الضرائب. ولما أظهر أهل رودس شيئاً من المعارضة في هذه المطالب هاجم كاسيوس ثغرهم العظيم، وأمر الأهلين جميعهم بتسليم ثروتهم، وقتل كل من تردد منهم، وحمل معه عشرة ملايين ريال أمريكي. وفي قليقية أنزل جنوده في بيوت طرسوس Tarsus، ولم يبارحوها حتى أدت إليه تسعة ملايين ريال، ولم يستطع السكان أداء هذا المال حتى باعوا بالمزاد جميع أراضي البلدية، وصهروا جميع آنية الهياكل وحليها، وباعوا كل الأحرار عبيداً- فباعوا أولاً الأولاد والبنات، ثم النساء والشيوخ، وباعوا آخر الأمر الشبان. وانتحر الكثيرون من الأهلين حين علموا أنهم بيعوا. وجمع كاسيوس من بلاد اليهود أربعة ملايين ريال، وباع سكان أربع من المدن عبيداً. ولم يتحرج بروتس أيضاً عن جمع المال بالقوة، من ذلك أنه رفض سكان أكسانثوس Xanthus من أعمال ليثيا مطالبه حاصرهم حتى نفذت مؤونتهم ولم ينفذ عنادهم فانتحروا جميعاً (9). وأطال بروتس المكث في أثينا لحبه الفلسفة؛ ولكن المدينة كانت غاصة بالشبان الرومان النبلاء الذين كانوا ينادون بالحرب التي تعيدهم إلى أوطانهم. ولما أن جمع بروتس كفايته من المال طوى كتبه وانضم بجيوشه إلى كاسيوس ونزل إلى الميدان.
والتقت جيوش الطرفين المتقاتلين في فلباي في شهر سبتمبر من عام 42.(9/411)
وزحف جناح بروتس على جناح أكتافيان وزحزحه عن موضعه واستولى على معسكره، ولكن جيوش أنطونيوس هزمت جيوش كاسيوس هزيمة منكرة. وأمر كاسيوس حامل درعه أن يقتله ففعل. ولم يستطع أنطونيوس أن يواصل انتصاره على الفور؛ لأن المرض أقعد أكتافيان فلزم خيمته واختل نظام جيشه، فاضطر أنطونيوس إلى إعادة تنظيم الجيش كله. وبعد أن استراح بضعة أيام قاده لقتال بروتس، وأوقع بمن بقي من الجيوش الجمهورية هزيمة ولوا على أثرها الأدبار. ورأى بروتس رجاله يستسلمون فأدرك- ولعله قد سره أن يدرك- أنه خسر كل شيء، فألقى بنفسه على سيف صديق له ومات.
ولما أقبل أنطونيوس على جثته غطاها بثوبه الأرجواني؛ فلقد كان هو وبروتس صديقين في يوم من الأيام.(9/412)
الفصل الثاني
أنطونيوس وكليوبطرة
لقد كانت معركة فلباي آخر معركة برية للأشراف القدامى، وقد حذا الكثيرون منهم- ابن كاتو، وابن هورتنسيوس، وكونتليوس فارس، Quintilius Varue، وكونتس لبيو Quintus Labeo- حذو بروتس وكاسيوس فانتحروا. وقسم المتنصرون الإمبراطورية فيما بينهم: فأعطى ليدس أفريقيا وأخذ أكتافيان الغرب، واختار أنطونيوس مصر وبلاد اليونان والشرق. وكان أنطونيوس دائم الحاجة إلى المال، فعرض على مدائن الشرق ألا يؤاخذاها على ما أمدت به أعداءه من المال إذا هي أمدته بمثله- أي بعشرة أمثال الضريبة السنوية في مدى عام. وعاد قديم مرحه وبشاشته إليه حين ظن أن النصر قد أعاد إليه أمنه وطمأنينته، فانقص مطالبه من الإفزيين حين أقبلت عليه نساؤهم في ثياب كاهنات باخوس يحيينه ويسمينه الإله ديونيسس؛ ولكنه وهب طاهيه بيت موظف مجنيزي Magnesian كبير مكافأة له على عشاء أعده له. وعقد مجلساً من أهل المدن الأيونية في إفسوس وأقر فيه حدود تلك الولايات، وحسم ما بينها من خلاف بحكمة لم ير معها أغسطس بعد عشرة أعوام من ذلك الوقت ما يدعو إلى تعديل ما اتخذ في هذا المجلس من قرارات. وعفا عن كل من حاربه إلا الذين اشتركوا في مقتل قيصر. ومد يد المعونة للمدن التي لاقت العذاب على يد كاسيوس وبروتس، ورفع عنها الضرائب الرومانية، وحرر كثيرين ممن باعهم المتآمرون أرقاء، كما حرر مدن سوريا من الطغاة الذين قضوا على حكوماتها الدمقراطية (10).
وبينا كان أنطونيوس يظهر هذه الكياسة المنبعثة من طيبة قلبه وبساطة(9/413)
خلقه؛ استسلم للشهوات الجنسية استسلاماً أفقده احترام رعاياه لسلطته. فقد أحاط نفسه بالراقصات والموسيقيات والعشيقات، والمهرجين والصخابين، واتخذ له زوجات ومحظيات كلما لاحت له امرأة وأعجبته. وكان قد أرسل الرسل إلى كليوبطرة يدعوها للمثول بين يديه في طرسوس لتجيب عما اتهمت به من مساعدتها كاسيوس على جمع المال والجنود. وجاءت كليوبطرة، ولكنها جاءت في الوقت الذي اختارته وعلى الطريقة التي اختارتها. فبينما كان أنطونيوس جالساً على عرش في السوق العامة، ينتظر منها أن تحضر وتدفع عن نفسها ما اتهمت به، ثم يقضي لها أو عليها- ركبت هي نهر سندس Cyndus في قارب ذي أشرعة أرجوانية، وسكان مذهب، ومجاديف من فضة، تضرب الماء على أنغام الناي والمزمار والقيثار. وكانت وصيفاتها هن بحارة القارب، ولكن في زي حور البحار وربات الجمال. أما هي فقد تزينت بزي الزهرة (فينوس) ورقدت تحت سرادق من قماش موشي بالذهب.
ولما انتشر بين أهل طرسوس هذا المنظر الفتان أقبلوا على شاطئ النهر زرافات ووحداناً، وتركوا أنطونيوس وحده جالساً على عرشه. ودعته كيلوبطرة إلى العشاء معها في قاربها، فأقبل عليها ومعه حاشيته الرهيبة، فأولمت وليمة فاخرة، وقدمت لهم فيها أشهى الطعام والشراب، وأفسدت القواد بما قدمت لهم من الهدايا والابتسامات. وكان أنطونيوس قد أوشك أن يقع في حبها وهي لا تزال فتاة حين شاهدها في الإسكندرية، فلما أبصرها في تلك اللحظة وهي في التاسعة والعشرين من عمرها رآها قد اكتملت مفاتنها؛ وبدأ حديثه معها يلومها على ما فعلت؛ واختتمه بأن أهدى إليها فينيقيا، وسوريا الوسطى، وقبرص، وأجزاء من قليقية وبلاد العرب واليهود (11). وكافأته هي بما يشتهي، ودعته إلى الإسكندرية، فأجاب الدعوة، وقضى في تلك المدينة شتاء بعيداً عن الهموم والأكدار (41 - 40) يعب حب الملكة عبا، ويستمع إلى المحاضرات في(9/414)
المتحف، ناسياً أن له إمبراطورية في حاجة إلى من يحكمها. أما هي فلم تكن أسيرة حبه. بل كانت تعرف أن مصر الغنية الضعيفة لن تلبث أن تجتذب إليها رومه الشرهة القوية، وأن السبيل الوحيد لنجاة بلادها وعرشها هي أن تتزوج بسيد رومه. ولقد حاولت من قبل أن تفعل هذا بقيصر، وهي تحاول الآن أن تفعله بأنطونيوس، ولم يكن له هو سياسة غير سياسة قيصر. فمال إلى تحقيق الحلم القديم، وهو توحيد رومه ومصر، ونقل عاصمته إلى بلاد الشرق الفتان الجميل.
وبينما كان أنطونيوس يلهو ويلعب في الإسكندرية، كانت زوجته فلفيا وأخوها لوسيوس يأتمران بأكتافيان ليسقطاه وينتزعا سلطانه على رومه. والحق أن أكتافيان كان أبعد ما يكون عن السعادة في ذلك البلد: فقد أضحى مجلس الشيوخ بؤرة للمغامرين والقواد، ودب التذمر بين العمال المتعطلين، واختل نظام الشعب كل الاختلال. وكان سكستس بمبي يحول بين المدينة وبين استيراد ما يلزمها من الطعام، ووقف دولاب الأعمال التجارية لما ساد البلاد من خوف، وقضى النهب والضرائب الفادحة على الثروات فلم يكد يبقى منها شيء، وأخذ الكثيرون من الناس يعيشون عيشة الاستهتار والفساد الجنسي الطليق، محتجين بأن الغد قد يأتي بإلغاء العملة، أو بإنتهاب جديد، أو بالموت.
وكان أكتافيان نفسه من أبعد الناس طهارة الذيل في ذلك الوقت، وكأنما أرادت فلفيا وأراد لوسيوس أن يبلغا بالفوضى غايتها القصوى فجيشا جيشاً ودعوا إيطاليا إلى القضاء على أكتافيان، فحاصر ماركس أجربا Marcus Agrippa قائد جيوش أكتافيان لوسيوس في بروزيا Perusis حتى اضطره إلى الخروج منها بعد نفاد مؤونته (مارس عام 40). وماتت فلفيا من شدة مرضها. وعدم تحقيق مطامعها، وحزنها على إهمال أنطونيوس لها. وعفا أكتافيان عن لوسيوس لعله بذلك يحتفظ بالسلام بينه وبين أنطونيوس، ولكن أنطونيوس عبر البحر وحاصر جيوش أكتافيان في برنديزيوم. وكان الجيشان أكثر حكمة من قائدهيما(9/415)
فامتنع كل منهما عن قتال الآخر، واضطراهما إلى أن يسويا ما بينهما من نزاع تسوية سلمية (40). وتعهد أنطونيوس أن يكون حسن السلوك، فزوجه أكتافيان أخته اللطيفة الطاهرة، وسر كل إنسان بهذه النتيجة إلى حين، وتنبأ فرجيل- وكان وقتئذ يكتب نشيده الرابع- بعودة حكم "زحل" العادل المثالي.
وفي عام 38 وقع أكتافيان في حب ليفيا Livia زوجة تيبيريوس كلوديوس نيرون Tiberius Cladius Nero وكانت وقتئذ حاملاً، فطلق من أجلها زوجته الأولى اسكريبونيا Scriponie. وأقنع نيرون بالتخلص من ليفيا، وتزوج بها، واستطاع بفضل إصغائه إلى نصائحها المقنعة، وصلاتها بأشراف البلاد- لأنها من سلالة أسرة كلوديوس النبيلة- استطاع بذلك أن يحسن صلاته بطبقة الملاك، فخفض الضرائب، وأعاد ثلاثين ألفاً من العبيد الآبقين إلى سادتهم. وشرع يعمل في صبر وأناة لإعادة النظام إلى إيطاليا. وأمكنه بمعونة أجربا وبمائة وعشرين سفينة أمده بها أنطونيوس أن يحطم أسطول سكتس بمبي، ويستورد الطعام إلى رومه، ويقضي على مقاومة البمبيين (36). وحمد له مجلس الشيوخ عمله واختاره تربيوناً طول حياته.
وذهب أنطونيوس إلى أثينا مع أكتافيا بعد أن زُفت إليه باحتفال رسمي في رومه. وفي ذلك البلد استمتع أنطونيوس إلى حين بتلك المتعة الجديدة متعة الحياة مع امرأة صالحة، وتخلى عن مشاغل السياسة والحرب، وأخذ يستمع إلى محاضرات الفلسفة وأكتافيا إلى جانبه. على أنه كان في هذه الأثناء يدرس الخطط التي وضعها قيصر لفتح بارثيا. وكان لبينس Labienus ابن قائد من قواد قيصر قد دخل في خدمة ملك بارثيا، وقاد جيوشه من نصر إلى نصر في قليقية وسوريا- وهما ولايتان من أغنى ولايات الدولة الرومانية وأعودها عليها بالمال (40). وألفى أنطونيوس نفسه في حاجة إلى الجند لمواجهة هذا التهديد الخطير، كما وجد في حاجة إلى المال لأداء مرتبات الجنود، والمال عند كليوبطرة(9/416)
موفور، ومل فجأة حياة الفضيلة والسلم، فأعاد أكتافيا إلى رومه وطلب إلى كليوبطرة أن تقابله في أنطاكية. وجاءت إليه كليوبطرة بعدد قليل من الجنود، ولكنها عارضت في مشروعاته الضخمة الواسعة، ويبدو أنها لم تعطه من مالها الكثير إلا النزر اليسير. وزحف أنطونيوس على بارثيا بمائة ألف جندي (36)، وحاول عبثاً أن يستولي على قلاعها، وفقد نحو نصف رجاله في تقهقر يدل على منتهى الجرأة والبطولة مدى ثلاثمائة ميل في بلاد معادية له. وضم أرمينيا إلى الإمبراطورية الرومانية في أثناء تقهقره، وأقام لنفسه موكب نصر، وصدم مشاعر الإيطاليين صدمة عنيفة بإقامة هذا الموكب في الإسكندرية ثم أرسل رسالة طلاق إلى أكتافيا (32)، وتزوج كليوبطرة، وثبتها هي وقيصريون حاكمين معاً على مصر وقبرص، وخلع الولايات الشرقية من الإمبراطورية على ابنه وابنته من كليوبطرة. وإذ كان يعرف أنه لابد أن يسوي الأمور بينه وبين أكتافيا في القريب العاجل أطلق لنفسه العنان في اللهو والترف. وشجعته كليوبطرة على أن يغامر آخر مغامرة في سبيل السلطة العليا، وساعدته على حشد جيش وأسطول، وأقسمت له بقسمها المحبب إليها أنها واثقة من النصر وثوقها بأنها ستتولى الحكم في الكبتول يوماً من الأيام (13).(9/417)
الفصل الثالث
انطونيوس وأكتافيان
صبرت أكتافيا على هجرها صبر الكرام، وعاشت ساكنة هادئة في بيت أنطونيوس في رومه، تربي أطفاله الذين رزقهم من فلفيا وابنتيها منه. وكان منظرها المحزن أمام أكتافيان في كل يوم، وصمتها الفصيح، يثيران كوامن غضبه، ويؤكدان له أنه هو إيطاليا جميعاً مقضي عليهما إذا نجح أنطونيوس في خططه، فاخذ يعمل على أن تدرك إيطاليا حقيقة الموقف، تدرك أن انطونيوس قد تزوج ملكة مصر، وأنه وهبها هي وأطفالها غير الشرعين أكثر ولايات الإمبراطورية خراجاً، وأنه سيضع رومه وإيطاليا بأجمعها في المقام الثاني بعد مصر.
ولما بعث أنطونيوس برسالة إلى مجلس الشيوخ- وكان قد تجاهله سنين طوالاً- يقترح فيها أن يعتزل هو وأكتافيان الحياة العامة، وأن تعود جميع النظم الجمهورية إلى سابق عهدها، تخلص أكتافيان من هذا الموقف الحرج بأن قرأ على المجلس ما ادعى أنه وصية لأنطونيوس انتزعها هو قسراً من العذارى الفستية، وفيها يوصي أنطونيوس بأن يكون ولداه من كليوبطرة وريثيه دون غيرهما، ويأمر بان يدفن إلى جانب الملكة في الإسكندرية (14). وكانت الفقرة الأخيرة من هذه الوصية حاسمة في نظر المجلس بقدر ما كان يجب أن تكون مثيرة للارتياب في صحتها. ذلك أنها لم تثر في نظر المجلس الشك في أن وصية تودع في رومه تشترط هذه الشروط، بل أقنعته وأقنعت إيطاليا أن كليوبطرة تستخدم أنطونيوس في خططها التي تبغي بها الاستيلاء على الإمبراطورية. ولجأ أكتافيان إلى الأساليب الخداعة التي هي من أخص خصائصه، فأعلن الحرب (32) على كليوبطرة لا على أنطونيوس، ليجعلها بذلك كفاحاً مقدساً في سبيل استقلال إيطاليا.(9/418)
وأبحر أسطول أنطونيوس وكليوبطرة في شهر سبتمبر من عام 32 إلى البحر الأيوني. وكان مؤلفاً من خمسمائة سفينة حربية، ولم يكن أسطول بهذه القدرة قد ظهر على متن البحر من قبل. وكان يؤيده جيش مؤلف من ثلاثمائة ألف من المشاة، واثني عشر ألفاً من الفرسان، وأمدهما بمعظمه أمراء الشرق وملوكه يرجون من وراء ذلك أن تكون هذه الحرب وسيلة للتحرر من نير رومه. وعبر أكتافيان البحر الأدرياوي بأربعمائة سفينة وثمانين ألف جندي من المشاة واثني عشر ألفاً من الفرسان. وظلت القوات المتعادية عاماً أو نحو عام تستعد للمعركة الفاصلة وتضع خططها؛ فلما كان اليوم الثاني من شهر سبتمبر عام 31 التحم الجيشان والأسطولان عند أكتيوم في الخليج الأمبراسي في معركة من المعارك الحاسمة في التاريخ. وبرهن أجربا على أنه أبرع من أعدائه في وضع الخطط، وكانت سفينه الخفيفة أسهل وأخف حركة من سفائن أنطونيوس الضخمة ذات الأبراج العالية. وقد أحرقت النار هذه السفن إذ ألقى عليها بحارة أكتافيان مشاعل متقدة. ويصف ديوكاسيوس Dio Cassius ما حدث وقتئذ بقوله:
"وأهلك الدخان بعض البحارة قبل أن تصلهم النيران، ومنهم من نضج لحمهم في دروعهم التي احمرت من شدة اللهب، ومنهم من شوتهم النار شياً في سفنهم كما تشوي اللحوم في الأفران. وألقى الكثيرون منهم أنفسهم في البحر، ومن هؤلاء من إلتهمتهم الحيتان، ومنهم من قتلوا رمياً بالسهام، ومنهم من قضوا نحبهم غرقاً. ولم يمت من هذا الجيش كله ميتة يستطيعون تحملها إلا من قتل بعضهم بعضاً (15).
ورأى أنطونيوس أن الدائرة قد دارت عليه، وأشار إلى كليوبطرة أن تنفذ خطة الانسحاب التي اتفقا عليها من قبل. فوجهت ما بقي من أسطولها نحو الجنوب، وانتظرت قدوم أنطونيوس. ولما عجز من إنقاذ السفينة المعقود لواؤها له، غادرها وركب قارباً أقله إلى كليوبطرة، وجلس هو وحده في مقدم السفينة(9/419)
أثناء عودتهما إلى الإسكندرية ورأسه بين يديه، فقد أدرك أنه خسر كل شيء حتى الشرف.
وسار أكتافيان إلى أثينا ومنها إلى إيطاليا ليخمد فتنة ثارت بين جنوده الذين أخذوا يطالبون بأن يباح لهم نهب مصر، ثم رجع إلى آسيا ليعاقب بعض من انضموا من أهلها إلى أنطونيوس، وليجمع أموالاً جديدة يسعف بها المدن التي طال عليها عهد الشقاء والحرمان. ثم اتجه بعدئذ نحو الإسكندرية (30). وكان أنطونيوس قد ترك كليوبطرة وأقام في جزيرة قرب فاروس، وأرسل منها رسلاً يطلب الصلح، ولكن أكتافيان لم يعبأ بهم، وأرسلت كليوبطرة إلى أكتافيان على غير علم من أنطونيوس صولجاناً وتاجاً وعرشاً من الذهب دليلاً على خضوعها له. وكان جوابه لها- على حد قول ديو- أنه يتركها ويترك مصر دون أن يمسها بأذى إذا قتلت أنطونيوس (16).
وكتب الحاكم المهزوم إلى أكتافيان مرة أخرى يذكره بصداقتهما الماضية وبكل المرح الطائش الذي اشتركا فيه أيام الصبا، وقال إنه يرضى بأن يقتل نفسه إذا عفا هو عن كليوبطرة، ولم يرد عليه أكتافيان في هذه المرة أيضاً. وجمعت كليوبطرة كل ما استطاعت جمعه من أموال مصر في أحد أبراج القصر ثم أبلغت أكتافيان أنها ستتلف هذه الأموال كلها وتقتل نفسها إذا لم يعقد معها صلحاً شريفاً. وسار أنطونيوس على رأس القوة الصغيرة التي كانت باقية لديه ليحارب عدوه في المعركة الأخيرة، واستطاع بشجاعة اليائس أن يكسب نصراً مؤقتاً، ولكنه أبصر في اليوم الثاني جنود كليوبطرة المرتزقة تستلم للعدو، وتراءى إليه أن كليوبطرة قد ماتت، فطعن نفسه طعنة قضت على حياته. ولما علم أن الخبر مكذوب طلب إلى أتباعه أن ينقلوه إلى البرج الذي آوت الملكة ووصيفاتها إلى حُجَره العليا وأغلقت عليهن الأبواب، فأدخل إليها من النافذة ومات بين ذراعيها. وسمح لها أكتافيان أن تخرج من البرج وتدفن حبيبها، ثم أجاز لها(9/420)
المثول بين يديه. ولم يتأثر بما كان باقياً من المفاتن في امرأة محطمة مهزومة في التاسعة والثلاثين من عمرها، وعرض عليها شروطاً للصلح بدت معها الحياة عديمة القيمة لمن كانت من قبل ملكة. ولم يخالجها شك في أنه يعتزم أخذها أسيرة إلى رومه لتزين موكب نصره، فما كان منها إلا أن لبست ثيابها الملكية، ووضعت صلا على صدرها، وماتت. وحذت حذوها وصيفتاها شارميون Charmion وإيريس Iris فانتحرتا (17).
وسمح أكتافيان أن تدفن إلى جوار أنطونيوس، وقتل هو وقيصريون وأكبر أبناء أنطونيوس من فلفيا أما ابنا أنطونيوس والملكة فقد أبقى على حياتهما وأرسلهما إلى إيطاليا حيث ربتهما أكتافيا وعنيت بهما كما لو كان ابنيها. ووجد الظافر الخزانة المصرية سليمة وفيها من المال الموفور ما كان يحلم به. ونجت مصر من المذلة التي كادت تلحق بها لو أنها سميت ولاية رومانية. ذلك أن كل ما فعله أكتافيان أن جلس على عرش البطالمة وورث أملاكهم، وترك في مصر حاكماً يدير شؤون البلاد باسمه.
وهكذا غلب وريث قيصر وريثة الإسكندر، وضم مُلك الإسكندر إلى مُلكه، وانتصر الغرب على الشرق مرة أخرى، كما انتصر من قبل في مراثون ومجنيزيا، وإنتهى صراع الجبابرة، وكان الفوز فيه لرجل عليل.
وقُضِيَ على الثورة في أكتيوم، كما قضي على الجمهورية في فرسالس وأتمت رومه الدورة المشتومة التي يعرفها أفلاطون ونعرفها نحن: ملكية، فأرستقراطية، فاستغلال ألجركي، فديمقراطية، ففوضى ثورية، فدكتاتورية. وانتهى مرة أخرى، في جزر التاريخ ومده، عهد من عهود الحرية، وبدأ عهد من عهود النظام.(9/421)
الكتاب الثالث
الزعامة
30 ق. م. - 192 ب. م(10/1)
الباب الحادي عشر
مواهب أغسطس السياسية
30 ق. م-14 ب. م
الفصل الأوَّل
في الطريق إلى الملكية
انتقل أكتافيان من الإسكندرية إلى آسية وواصل فيها توزيع الممالك والولايات. ولم يصل إلى إيطاليا إلا في صيف عام 29 ق. م. ولم تكد تبقى طبقة من طبقات الأهلين فيها إلا حييته وأحتفلت بمقدمه، وعدته منقذ البلاد، وأشتركت في موكب النصر الذي دام ثلاثة أيام متوالية. وأغلق هيكل يانوس إشارة إلى أن إله الحرب قد نال كفايته إلى حين، فقد أنهكت الحرب الأهلية التي دامت عشرين عاماً شبه الجزيرة التي كانت تشتهي الحرب وتتعطش للدماء. وفي هذه الفترة أهملت المزارع ونُهبت المدن أو ضُرب عليها الحصار، وسُرق الكثير من ثروتها أو دُمر تدميراً، وتحطم دولاب الإدارة ووسائل الدفاع عن النفس والمال؛ وجعل اللصوص الشوارع كلها غير مأمونة خلال الليل، وكان قطاع الطريق يجوبون المسالك يخطفون المسافرين ويبيعونهم بيع الرقيق. وكان من أثر هذا أن كسدت التجارة، ووقفت حركة الاستثمار، وارتفعت فوائد الديون ارتفاعاً، ونقصت قيمة الأملاك. ولم يكن للفاقة والفوضى أثر في تحسين الأخلاق التي انحلت بسبب الثروة والترف؛ ذلك أنه قلما توجد ظروف أشد إفساداً للأخلاق من الفقر الذي يعقب الغنى، ولذلك امتلأت رومة بالرجال(10/6)
الذين فقدوا مركزهم الاقتصادي وخسروا اتزانهم الأخلاقي: من جنود ذاقوا طعم المغامرات وتعلموا فنون التقتيل؛ ومواطنين أبصروا بأعينهم مدخراتهم تلتهما الضرائب الفادحة وتضخم العملة وهما من مستلزمات الحروب، وكانوا ينتظرون أن يحدث حادث ما ينتشلهم من الوهلة التي تردوا فيها ويعيد إليهم الثراء والنعيم؛ ومن نساء ذهبت الحرية بعقولهنَ فكثر بينهن الطلاق والإجهاض والزنا؛ وانتشر العقم لضعف الرجولة وأخذت السفسطة الضحلة تفخر بنزعتها المتشائمة الساحرة.
على أن هذا الوصف لا يحمل إلى القارئ صورة كاملة لرومة في ذلك الوقت، بل يجب أن يضاف إليهِ وباء فتاك ينخر عظامها وتسري جراثيمه في دمائها فقد عادت القرصنة إلى البحار، وكانت تزداد بهجة وسروراً كلما تدهورت الولايات وأشرفت على الدمار. وسغبت المدن والولايات ولما توالى عليها من ابتزاز والنهب في أيام صلا، ولوكلس، وبمبي، وجابنياس، وقيصر، ووبروتس، وكاسيوس، وأنطونيوس، وأكتافيان. وحل الخراب ببلاد اليونان التي كانت ميداناً للقتال، ونُهبت أموال مصر وأرزاق أهلها، وأطعم الشرق الآدنى مائة جيش ورشا ألف قائد؛ وكان أهلهُ يبغضون رومة أشد البغض لأنها هي السيد الذي قضى على حريتهم دون أن يعوضهم عنها أمناً أو سلاماً، وكانوا يتطلعون إلى زعيم يقوم بينهم، فيكشف عما تعانيهِ إيطاليا من ضعف وخوف، ويجمع شتاتهم ويقودهم في حرب يتحررون بها من سيطرة رومة.
وكان في وسع مجلس الشيوخ القوي في يوم من الأيام أن يواجه هذه الأخطار، فيعبئ الفيالق الضخمة، ويجد لها القادة المهرة، ويمدهم بحنكتهِ وكفايته السياسية البعيدة النظر. أما الأن فلم يبقَ من مجلس الشيوخ إلا أسمهُ، فقد أنقرضت الأسر التي كان يستمد منها القوة، وقضى عليها النزاع الطويل أو العقيم، ولم تنتقل تقاليد الحكم التي كانت تمتاز بها هذه الأسر إلى رجال(10/7)
الأعمال وإلى الجنود وأهل الولايات الذين خلفوها في المجلس الجديد. ومن أجل هذا فقد أسلم هذا المجلس معظم ما كان له من سلطان إلى رجلٍ في وسعه أن يرسم الخطط، ويتحمل التبعات، ويقود، وأسلمها إليهِ وهو شاكر ومغتبط.
وتردد أكتافيان طويلاً قبل إلغاء هذه الهيئة القديمة، ويصوره ديوكاسيوس Dio Cassius، وهو يبحث المسألة بحثاً مفصلاً مع ماسيناس وأجربا، فيقول أنهم كانوا يرون أن الحكومات كلها حكومات ألجركية، ولذلك فأن المشكلة المعروضة أمامهم لم تكن مشكلة الاختيار بين الملكية، والأرستقراطية، والديمقراطية؛ بل كان عليهم أن يقرروا: هل تضطرهم ظروف الزمان والمكان أن يفضلوا الألجركية في صورة الملكية المعتمدة على الجيش، أو في صورة الأرستقراطية المتأصلة في الوراثة، أو في صورة الديمقراطية التي تعتمد على ثروة رجال الأعمال؟ وقد وفق أكتافيان بينها كلها في "زعامة امتزجت فيها نظريات شيشرون وسابقات بمبي وسياسات قيصر".
وقبل الشعب هذا الحل قبول الفلاسفة؛ ذلك أنه لم يعد حريصاً على الحرية مولعاً بها، بل كان قد مل الفوضى وتاقت نفسه إلى الأمن والنظام، وكان يرضى أن يحكمه أي إنسان يضمن له الخبز والألعاب. وأدرك إدراكاً يكتنفه الغموض أن جمعياته السمجة التي يتغلغل فيها الفساد ويمزقها العنف، لا تصلح لحكم الإمبراطوية، ولا تستطيع إعادة الحياة إلى إيطاليا المريضة، بل أنها لا تستطيع أن تحكم مدينة رومة نفسها. هذا إلى أن الصعاب التي تكتنف الحرية تتضاعف كلما اتسعت رقعة الأراضي التي تعتنقها. فلما لم تعد رومة دولة لا تشمل أكثر من مدينة واحدة دفعها النظان الإمبراطوري دفعاً إلى أن تحذو حذو مصر وفارس ومقدونية. ولم يكن في وسعها أن تقاوم هذا الدفع الشديد، وكان لا بد أن تقوم على أنقاض الحرية، التي استحالت فردية وفوضى حكومة جديدة تضع للدولة المترامية الأطراف نظاماً جديداً. وكان عالم البحر الأبيض المتوسط كله عالماً(10/8)
مختل النظام، مترامياً تحت قدمي أكتافيان، ينتظر منه أن يبسط عليه الحكم الصالح.
ونجح أكتافيان فيما أخفق فيهِ قيصر لأنه كان أكثر من قيصر صبراً، وأوسع منه حيلةً، ولأنه كان يفهم فن الألفاظ والأشكال، ويرضى أن يسير سيراً وئيداً حذراً في المواقف التي اضطر فيها عمه العظيم لضيق وقته أن يخرج على التقاليد المرعية، ويحدث في نصف عام من حياته من التغيرات ما يتطلب جيلاً كاملاً. وفوق هذا فقد كان المال موفوراً لدا أكتافيان. ويقول سوتنيوس إنه لما جاء بكنوز مصر إلى رومة "كثرت فيها النقود كثرة أنخفض معها سعر الفائدة" من اثني عشر إلى أربعة في المائة، و "أرتفعت قيمة الأملاك الثابتة ارتفاعاً عظيماً". وما كاد يتضح للناس أن حقوق الملكية قد عادت إليها قدسيتها وأن أكتافيان قد فرغ من أحكامه على أعدائه ومن مصادرة الأملاك، حتى خرجت الأموال من مخابئها وعاد الأستثمار سيرته الأولى، وراجت التجارة، وأخذت الثروة تتجمع من جديد، وتسرب بعضها إلى جيوب العمال والأرقاء. ولشدما أغتبطت جميع الطبقات في إيطاليا بعد أن عرفت أن تلك البلاد ستبقى هي المستمتعة بخيرات الإمبراطورية، وأن رومة ستظل عاصمتها، وأن خطر نهضة الشرق وبعثه قد زال إلى حين، وأن ما كان يحلم بهِ قيصر من قيام اتحاد من أمم حرة متساوية في الحقوق لم يسفر إلا عن العودة في هدوء إلى امتيازات الشعب المفضل صاحب السيادة. وكان أول ما فعله أكتافيان بالأموال الجمة التي أنتهبها أن وفى بما عليه لجنوده من ديون. وقد أستبقى في الخدمة منهم مائتي ألف رجل أقسم كل واحد منهم يمين الولاء له شخصياً، وسرح الثلثمائة ألف الباقين بعد أن أقطع كلاً منهم مساحة من الأراضي الزراعية ونفحه بهبة مالية سخية. ووزع الهدايا الثمينة على قواده وأنصاره وأصدقائه، وكثيراًؤما كان يسد العجز الذي يحدث في الخزانة(10/9)
العامة من ماله الخاص. وكان إذا رأى ولاية من الولايات حل بها الضنك بسبب الأحوال السياسية أو الطواريء الطبيعية أعفاها من الخراج العام، وبعث إليها بالمال الكثير لإنقاذها مما تعانيه. وألغى جميع المتأخر من الضرائب على أصحاب الأملاك، وأحرق علناً السجلات التي تثبت ما عليهم للدولة من الديون، وأدى من أموال الدولة ثمن ما يوزع من الغلال على المحتاجين، وأقام الألعاب للشعب على نظام واسع، وقدم المال لجميع المواطنين. ثم شرع في إقامة المنشآت العامة ليقضي بذلك على التعطل ويجمل رومة، وأنفق على هذه الأعمال من أمواله الخاصة، فلا غرامة بعد هذا إذا نظرت إليه الأمة نظرتها إلى إلهٍ معبود.
وبينما كانت هذه الأموال تتسرب من يديهِ كان هذا الإمبراطور المتواضع يعيش عيشة بسيطة خالية من مظاهر العظمة، يتجنب ترف النبلاء، ومتع المنصب وأبهتهِ، يرتدي الأثواب التي تنسجها له النساء في بيتهِ، وينام على الدوام في حجرة صغيرة في الدار التي كانت من قبل قصر هورتنسيوس. ولما أحترق هذا القصر بعد أن أقام فيهِ ثمانية وعشرين عاماً، أقام له قصراً جديداً على نظام القصر القديم، وكان ينام في نفس الحجرة الضيقة التي كان ينام فيها من قبل. وكانت متعته الوحيدة أن يفر من الشؤون العامة بركوب زورق تدفعه الرياح دفعاً بطيئا على طول ساحل كمبانيا.
واستطاع على مر الوقت أن يقنع مجلس الشيوخ والجمعيات الوطنية، أو أن يتفضل بالسماح لها، بأن تخلع عليه ِ السلطات التي جعلته في مجموعها ملكاً في كل شيء إلا في الأسم وحده. وقد احتفظ على الدوام بلقب إمبراطور Imperator بوصفه القئد الأعلى لجميع القوات المسلحة في الدولة. وإذ كان الجيش قد بقي معظمه خارج خارج حدود العاصمة على الدوام، وخارج حدود ايطاليا في معظم الأحوال، فقد كان في وسع المواطنين أن ينسوا، وهم يمارسون جميع المراسم الشكلية للجمهورية الميتة، أنهم يعيشون في كنف حكومة ملكية(10/10)
عسكرية تختفي منها مظاهر القوة طالما كانت الألفاظ كافية للحكم. واختير أكتافيان قنصلاً في عامي 43 و 33 وفي كل عام من الأعوام المحصورة بين 31 و 23. وخلعت عليه أعوام 36، 30، 23 سلطات التربيون فكسب بذلك طول حيلته الحصانة التي يتمتع بها التربيون، وأصبح له حق وضع القوانين وعرضها على مجلس الشيوخ أو الجمعية، وحق الاعتراض على كل موظف في الحكومة ووقفها. ولم يعترض أحد على هذه الدكتاتورية المحبوبة، ذلك أن رجال الأعمال الذين امتلأت خياشيمهم برائحة غنائم أكتافيان المصرية، والجنود المدينين لكرمه بأرضهم أو مراكزهم، وكان من عادت عليهم بالنفع قوانين قيصر، ومناصبه ووصيته-كل هؤلاء كانوا يقولون ما يقوله هومر من أن حكومة الفرد خير أنواع الحكومات كلها، أو أنها في القليل خيرها إذا كان هذا الفرد كأكتافيان حر التصرف في أموالهِ، وإذا كان في مثل جدهِ وكفايتهِ، وإذا كان مثله بيّن الإخلاص لخير البلاد.
ولما كان رقيباً مع أجربا في عام 28 أجرى إحصاءً عاماً للسكان، وأعاد النظر في عضوية مجلس الشيوخ، فأنقص عدد الأعضاء إلى ستمائة عضو، ولقب هو نفسه مدى الحياة بلقب "زعيم الشيوخ" Princeps Senatus. وكان معنى هذا اللقب في بادئ الأمر "الأول في ثبت أعضاء مجلس الشيوخ"، ثم ما لبث أن أصبح معناه "الزعيم" بمعنى الحاكم كما أصبح معنى لفظ Imerator بعد أن خلع هذا اللقب على أكتافيان هو إمبراطور Emperor بالمعنى الذي يفهم من هذا اللفظ في هذه الأيام. ويسمي التاريخ بحق حكومته وحكومة خلفائهِ مدى قرنين من الزمان بحكومة "الزعامة" ولا يسميها الحكومة الملكية بالضبط، وذلك لأن الأباطرة " Emperors" كانوا يعترفون-نظرياً على الأقل-بأنهم لم يكونوا إلا زعماء ( Princepes) مجلس الشيوخ. وأراد أكتافيان أن يجعل مظهر سلطتهِ الدستورية أروع من ذي قبل، فنزل في(10/11)
عام 27 عن جميع مناصبه، وأعلن عودة الجمهورية، وصرح برغبتهِ (وهو في الحامسة والثلاثين من عمره) باعتزال الحاة العامة. وأكبر الظن أن هذه المسرحية قد أعدت من قبل؛ فقد كان أكتافيان من أولئك الرجال الحذرين الذين يعتقدون أن الأمانة خير أساليب السياسة، بشرط أن تمارس بحكمة وحسن تدبير. ومهما تكن حقيقة هذا الأمر فقد قابل مجلس الشيوخ نزول أكتافيان عن حقوقه بنزوله هو أيضاً عما له من حقوق، وتوسل إليه أن يظل هادياً للدولة ومصرّفاً لأمورها، ومنحه لقب أغسطس وهو اللقب الذي أخطأ المؤرخون فحسبوه اسمه. ولم يكن هذا اللقب يستعمل من قبل إلا في وصف الأشياء والأماكن المقدسة وبعض الأرباب المبدعة أو المكثرة (ومعنى أوجير Augere باللاتينية "يزيد")؛ فلما أن أطلق على أكتافيان خلع عليهِ هالة من القداسة وحباه بحماية الدين والآلهة.
ويلوح أن سكان رومة قد بدا لهم زمناً ما أن "عودة" الجمهورية كانت عودة حقيقية، وأنهم استعادوها فعلاً في نظير صفة خلعوها على أكتافيان. ولم لا؟ ألا يزال مجلس الشيوخ والجمعيات هي التي تسن القوانين، وتختار كبار الحكام؟ إن أحداً لا ينكر ذلك وكل ما يفعله أغسطس وعماله هو أن "يقترحوا" القوانين و"يرشحوا" أرباب المناصب الهامة. وكان أكتافيان بوصف كونه إمبراطوراً وقنصلاً يسيطر على الجيش والخزانة، وينفذ القوانين، وكان بفضل امتيازاته التربيونية يشرف على كل ما عدا ذلك من أعمال الحكومة. ولم تكن حقوقه أوسع كثيرا من حقوق بركليز Pericles أو بمبي أو أي رئيس نشط من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية. ولكن الفرق كله أن سلطاته هو كانت دائمة. وقد استقال في عام 23 من القنصلية، ولكن مجلس الشيوخ منحه وقتئذ "سلطات القنصل" وإن لم يبق له اسمه، فجعله بذلك المسيطر على الموظفين جميعهم في الولايات كلها.
ولم يعترض أحد على ذلك في هذه المرة أيضاً؛ بل حدث عكس هذا.(10/12)
وذلك أنه لما لاح خطر نقص الحبوب حاصر الشعب مجلس الشيوخ، وأخذ يطالب بجعل أغسطس دكتاتوراً. وكان سبب ذلك أنهم قد ساءت أحوالهم في عهد ألجركية مجلس اليوخ إلى حد جعلهم يميلون إلى الدكتاتورية التي ستخطب ودهم في زعمهم لتقضي بذلك على سلطان الأغنياء. وأبى أغسطس أن يقبل هذا العرص ولكنه وضع الأنونا Annona أو موارد الطعام تحت سلطانه، وقضى على خطر القحط في أقرب وقت؛ وحمد له الشعب عمله هذا حمداً جعل رومة ترتاح أشد الارتياح حين أقدم على تعديل نظم الدولة على النحو الذي رسمه لها في ذهنه.(10/13)
الفصل الثاني
النظام الجديد
والآن فلندرس حكومة الزعامة ببعض من التفصيل لأنها كانت في كثير من نواحيها من أعظم الأعمال السياسية في التاريخ ومن أكثرها دقة.
لقد جمع الزعيم في يده كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ فكان من حقهِ أن بقترح القوانين على الجمعيات أو على مجلس الشيوخ ويعرض المراسيم؛ وكان في وسعه أن ينفذها وأن يفرضها بالقوة إذا شاء، وأن ينشرها ويعاقب الخارجين عليها. ويقول سوتونيوس إن أغسطس كان يجلس في مجلس القاضي بانتظام وإن مجلسه كان يدوم في بعض الأحيان حتى يجن الليل "وكان يأمر بوضع محفنة فوق المنصة يلجأ إليها إذا أصابته وعكة ... وكان رجلاً حي الضمير ليناً في أحكامهِ إلى حد كبير" وإذ كان قد ألقيت عليهِ تبعة مناصب كثيرة فقد شكل له مجلساً غير رسمي من المستشارين أمثال مانياس، ومن المنفذين لقراراته أمثال أجربا، ومن القواد أمثال تيبيريوس، كما أنشأ له هيئة من أرقائه ومعاتيقه.
وكان كيس ماسناس من أثرياء رجال الأعمال، وكان قد قضى نصف حياته يساعد أغسطس في الحرب والسلم وفي أعماله السياسية الداخلية والخارجية، وساعده أخيراً على الرغم منه في مغامراته النسائية. واشتهر قصره العائم على تل الأكولين بحدائقه الغناء وببركة استحمامه ذات الماء الساخن. وكان أعداؤه يصفونه بأنه شخص. مخنث أبيقوري لأنه كان يتباهى بلبس الحرير والتحلي بالجواهر، وأنه يعرف كل ما يعرفه المبطان الروماني. وكان يستمتع بالأدب والفن ويناصرهما بكرم وسخاء، وقد أعاد إلى فرجيل ضيعته ووهب هوراس ضيعة(10/14)
أخرى. وكان هو الموحي بكتاب الجورجيين Geprgics والأناشيد. وأبى أن يشغل أي منصب من المناصب العامة. مع أنه كان في وسعه أن يحصل منها على أي منصب يريده إلا القليل. وقد ظل سنين طوالاً يجهد نفسه في بحث مبادئ السياسة الخارجية ووقائعها، وبلغ من شجاعته أن كان يعنف أغسطس إذا ظنه قد وقع في خطأ موبق. ولما مات (في عام 8 ق. م.) حزن عليه الزعيم وعدّ موتهُ خسارة لا تعوض.
ولعل أغسطس (أصله من الطبقة الوسطى ولم يكن يحتقر التجارة كما يحتقرها الأشراف) كان يعمل بمشورته حين رشح كثيرين من رجال الأعمال للمناصب الإدارية الكبرى وإلى حكم الولايات نفسها. ولما تذمر مجلس الشيوخ من هذه البدعة، استرضاه بأشياء كثيرة: فمنح بعض لجانه سلطات استثنائية، وجمع حوله مجلساً من الزعماء المستشارين مؤلفاً من حوالي عشرين رجلاً كلهم تقريباً من الشيوخ، وأصبح لقرارات هذا المجلس على مدى الأيام ما لقرارات مجلس الشيوخ نفسه من قوة، وكانت سلطاته واختصاصاته تزداد كلما ضعفت سلطات مجلس الشيوخ، ونقصت اختصاصاته. ولكن مجلس الشيوخ لم يكن إلا أداته العليا على الرغم مما كان يغدق عليه من ضروب العطف والمجاملة.
وقد استخدم حقه بوصفهِ رقيباً فأعاد النظر في عضويته أربع مرات، وكثيراً ما استخدم حقه في حقه في طرد بعض أعضائه منه لعجزهم عن القيام بالأعمال الرسمية أو لسوء سلوكهم الشخصي، وقد رشح هو نفسه معظم أعضائه الجدد؛ وكان من دخلوه من الكوسترين والبريتورين والقناصل بعد انقضاء المدة المحددة لتوليهم مناصبهم، كانوا كلهم ممن اختارهم هو أو ممن وافق على اختيارهم. وقد حشد في هذا المجلس أغنى رجال الأعمال في إيطاليا وانضمت الطبقتان إلى حد ما في ذلك الائتلاف الذي هيئته لهما سيطرتهما المتحدة التي اقترحها شيشرون في الأيام الخالية. وبذلك وقفت قوة المال في وجه كبرياء المولد وامتيازاته، كما وقفت(10/15)
الأرستقراطية الوراثية في وجه مساوئ الثروة وأعمالها التي لا تتحمل لها تبعة.
واقتصرت اجتماعات مجلس الشيوخ بناء على اقتراح أغسطس على اليومين الأول والخامس عشر من كل شهر، ولم يكن اجتماعه يدوم في العادة أكثر من يوم واحد. وإذ كان الذين يرأسون اجتماعه هم "زعماء الشيوخ" فإنه لم يكن يُستطاع عرض أي اقتراح عليهِ بغير موافقتهِ، والحق أن كل اقتراح يُعرض عليهِ كان يعده من قبل هو أو أعوانه. وأصبحت اختصاصات المجلس القضائية والتنفيذية وقتئذ أهم من اختصاصاته التشريعية، فكان بمثابة محكمة عليا، وكان يحكم إيطاليا بوساطة لجان، ويوجه أعمال الأشغال العامة المختلفة. وكان يحكم الولايات التي لا تحتاج إلى إشراف عسكري كبير، ولكن الزعيم هو الذي كان يشرف على العلاقات الخارجية. ولما جرّد المجلس بهذه الطريقة من سلطاتهِ القديمة أهمل هو نفسه اختصاصاته الضيقة نفسها وصار يتخلى بستمرار عن كثير من التبعات للإبمراطور وموظفيهِ.
وظلت الجمعيات تعقد جلساتها، ولكن عدد هذه الجلسات أخذ يقلُ شيئاً فشيئاً؛ وظلت تقترع ولكنها لم تكن تقترع إلا على المشروعات أو الترشيحات التي يوافق عليها الزعيم، وقضى على حق العامة في تولي المناصب أو كاد يقضي عليه في عام 18 ق. م. حين صدّر قانون يُقصر تولي هذه المناصب على الرجال الذين تبلغ قيمة أملاكهم أربعمائة ألف سسترس (60. 000 ريال أمريكي) أو أكثر (2). ورشح أغسطس نفسه للقنصلية ثلاث عشر مرة، وسعى لنيل أصوات الناخبين كما كان يسعى غيره من المرشحين؛ ونزل بذلك من عليائه للاشتراك في المسرحية التي كانت تمثل فصولها على مسرح السياسة الرومانية. وقد عمل على منع الرشا في الأنتخابات بأن طلب إلى كل مرشح أن يودَع قبل عملية الانتخاب مبلغاً من المال ضماناً منه بأنه لن يلجأ إلى الرشوة (3). بيد أن أغسطس نفسه وزع في وقت من الأوقات ألف سسترس على كل عضو ناخب(10/16)
في قبيلته حتى يضمن بذلك صحة أصوات القبيلة (4). وظل القناصل والتربيونون يُنتخبون حتى القرن الخامس بعد الميلاد (5). غير أن المنصبين أصبحا بعد أن آلت معظم حقوقهما إلى الزعيم منصبين إداريين لا تنفيذيين، ثم انتهيا إلى أن صارا منصبي شرف لا أكثر.
أما حكم رومة الفعلي فقد وضعه أغسطس في أيدي موظفين إقليميين يتقاضون مرتبات من الدولة وتساعدهم في عملهم شرطة مؤلفة من ثلاثة آلاف رجل يرأسهما "كبير شرطة البلدية Praefectus Urbi" وفضلاً عن هذا فقد وُضع ست كتائب قوام كل منها ألف جندي بالقرب من رومة، وثلاث كتائب في داخلها ليضمن بذلك استتباب النظام من النوع الذي يريده، وليؤيد بها سلطانه، وإن كان قد اعتدى بعمله هذا على جميع السوابق أشد الاعتداء. وأصبحت هذه الكتائب فيما بعد هي الحرس البريتوري، أي حرس البريتوريوم Praetorium أو مقر القائد الأكبر. وهذه الفرق هي التي جعلت كلوديوس إمبراطور في عام 41 ب. م، وهي التي بدأت عملية إخضاع الحكومة للجيش.
ثم امتدت عناية أغسطس الإدارية من رومة إلى إيطاليا وإلى الولايات الخارجية. فمنح حق المواطنية الرومانية أو حق الانتخاب الضيق المعروف "بالحقوق اللاتينية" لجميع العشائر التي اشتركت في تحمل أعباء الحرب على مصر. ثم أعان المدن الإيطالية بما نفحها به من هبات، وزينها بالمباني الجديدة، وابتكر طريقة تمكن أعضاء مجلسها من إعطاء أصواتهم في انتخاب الجمعيات في رومة بطريق البريد. ثم قسم الولايات فئتين: أولاهما ما تحتاج إلى دفاع جدي والثاني ما كانت في غير حاجة إلى هذا الدفاع. فأما الثانية (وكانت تشمل صقلية، وبتكا، وغالة النربونية، ومقدونية، وآخية، وآسية الصغرى، وبيثينيا، وبنطتس، وقبرص، وكريت، وقورينة، وأفريقية الشمالية، فقد وضع حكمها في يد مجلس الشيوخ. أما الثانية-وهي الولايات الإمبراطورية-(10/17)
فكان يحكمها سفراؤه، ووكلاؤه، أو رؤساء حرسه. وقد أمكنه هذا النظام البديع من أن يختفض بسيطرته على الجيش، الذي كان يقيم معظمه في الولايات "المعرضة للخطر". وهذا إلى أنه وضع في يده موارد مصر الغنية وأمكنه من أن يراقب الحكام المعنيين من قِبَل مجلس الشيوخ بأعين وكلائه الذين كان يعينهم لجباية الخراج من الولايات جميعها بلا استثناء. وكان كل حاكم يتقاضى في أيامه مرتباً محدوداً، وبذلك قلت رغبته إلى حد ما في ابتزاز المال من أهل الولاية التي يحكمها. وكان إلى جانب الوالي هيئة من الموظفين المدنيين تساعد على الدوام الاتصال في الأعمال الإدارية وتمنع إلى حد ما رؤساءهم المؤقتين من الإقدام على الأعمال غير المشروعة. أما أقيال الدول التي كانت خاضعة لنفوذ رومة فكانوا يعاملون معاملة طيبة حكيمة، وظلوا بسببها موالين لأغسطس كل الولاء، وقد أقنع الكثيرين منهم بأن يرسلوا إليهِ أبنائهم ليعيشوا في قصره، وليتلقوا فيه تربية رومانية؛ وأصبح هؤلاء الشبان بفضل هذا التدبير الكريم رهائن لديهِ حتى يحين وقت تتويجهم، ثم صاروا بعئذ على غير علم منهم أداة لصبغ بلادهم بالصبغة الرومانية.
ويبدو أن أغسطس بعد انتصاره في أكتيوم، وما بهثه هذا الانتصار في نفسه من حماسة وزهو، وبعد أن رأى من حوله جيشاً ضخماً وأسطولاً قوياً، يبدو أنه أخذ بعد هذا يُعد العدة لتوسيع رقعة الإمبراطورية ومد حدودها إلى المحيط الأطلنطي، والصحراء الكبرى، ونهر الفرات، والبحر الأسود، ونهر الدانوب والألب، وأنه كان يعتزم الاحتفاظ بالسلم الرومانية بسياسة العدوان عند هذه الحدود جميعها لا بسياسة الدفاع السلبي. وقد أتم الإمبراطور بنفسه فتح أسبانيا، ونظم الإدارة في بلاد غالة تنظيماً يدل على مقدرته ومهارته، وكان من نتائجه أن ساد السلام ربوع تلك البلاد نحو قرن كامل. واكتفى في بارثيا باسترجاع الأعلام، ومن بقي على قيد الحياة من الأسرى الذين أخذوا من كراسس في عام 53؛ أما في(10/18)
أرمينية فقد أعاد إلى عرشها ملكها تجرانيس Tigranes الموالي لرومة. وأرسل بعثات لفتح بلاد العرب ولكنها أخفقت. وأخضع ربيباه تيبيريوس ودورسس في العشر السنين المحصورة بين 19، 9 ق. م بلاد إليريا Illyria وبانونيا Pannonia وريتيا Raetia. ولما غزا الألمان غالة تذرع أغسطس بهذه الحجة فأمر دروسس أن يعبر بهر الرين؛ ولشد ما اغتبط حين علم أن هذا الشاب قد شق طريقه إلى نهر الإلب. غير أن دروسس أصيبت أحشاؤه على أثر سقطة سقطها على الأرض عانى على أثرها المرض ثلاثين يوماً. وكان تيبيريوس شديد الحب لأخيه، فسار على ظهر جواده أربعمائة ميل من غالة إلى ألمانيا ليضمه إلى صدره في آخر ساعات حياته؛ ولما تم له ذلك نق جثته إلى رومة، وسار وراء الجنازة طول الطريق (9ق. م) ثم عاد بعدئذ إلى ألمانيا وحمل على القبائل الضاربة بين الإلب والرين حملتين (8 - 7 ق. م 4 - 5 ب. م) خضعت على أثرهما روما.
وحلت برومة وقتئذ في وقت واحد تقريباً كارثتان بدلت حمى الفتح والتوسع سياسة سلام. ذلك أن بانوينا ودلماشيا اللتين فتحتا حديثاً ثارتا على رومة، وقتل أهلهما جميع من كان فيهما من الرومان، وأعدتا جيشاً مؤلفاً من مائتي ألف رجل وهددتا إيطاليا نفسها بالغزو. واسرع تيبيريوس فعقد الصلح مع القبائل الألمانية، وسار على رأس قواته القليلة إلى بانونيا، واستطاع بصبره وخططه العسكرية الفنية أن يستولي على محصولات البلاد أو يتلفهما فيحرم العدو من مصادر تموينه، كما استطاع بحرب العصابات أن يمنعه من إنتاج محصولات جديدة، وعمل في الوقت نفسه على أن يوفر المؤن لجنوده. وأصر على العمل بهذه السياسة ثلاث سنين رغم ما وجه إليهِ من النقد في بلاده، حتى نال أخيراً بغيته، فرأى الثوار الجياع يلقون أسلحتهم، وبسط هو السلطة الرومانية من جديد على ربوع البلاد. ولكن حدث في تلك السنة نفسها (9 ب. م) أن نظم أرمنيوس الثورة في(10/19)
ألمانيا، وأوقع فيالق فاروس الروماني في كمين، وقتل جنودها عن آخرها إلا من انتحر بإلقاء نفسه على سيفه مثل فاروس نفسه. ولما سمع أغسطس بهذا النبأ "تأثر أشد التأثير" كما يقول سوتونيوس. وظل عدة شهور لا يحلق لحيته ولا يقص شعر رأسه، وكان في بعض الأحيان يضرب الباب برأسه ويصيح بأعلى صوته: "أي كونتليوس فاروس أعد إليَّ فيالقي (6)! " وأسرع تيبيريوس إلى ألمانيا، وأعاد فيها تنظيم الجيش، وصد هجمات الألمان، ورد حدود الدولة الرومانية، بناء على أوامر أغسطس إلى نهر الرين.
وكان هذا قراراً خسر فيهِ أغسطس شطراً كبيراً من كبريائه، ولكنه دل على حكمته وحصافة عقله. وقد أسلمت ألمانيا بمقتضاه إلى "البربرية" أي إلى ثقافة غير رومانية ولا يونانية، وتركت حرة تسلح سكانها المتزايدين لمحاربة رومة. على أن الأسباب التي حملت الرومان على السعي لفتح ألمانيا كان من شأنها أن تتطلب منهم إخضاع سكوذيا-أي جنوبي الروسيا. ولكنهم لم يفعلوا لأن الإمبراطورية يجب أن يقف امتدادها في مكان ما؛ وكان نهر الرين حداً للدولة خيراً من أي حد آخر غرب جبال أورال. هذا إلى أن أغسطس بعد أن ضم أسبانيا الشمالية والغربية، وريشيا، ونوركم، وبامونيا، وموزيا، وجلاتيا، وليسيا، وبمفيليا شعر بأنه قد استحق بأعماله لقب "الإله المكثر". وكانت الإمبراطورية حين وفاته تشمل مساحة قدرها 3. 340. 000 ميل مربع أي أكثر من مساخة الولايات المتحدة في القارة الأمريكية، وكانت تعادل مساحة رومة قبل الحروب البونية مائة مرة. ونصح أغسطس خليفته بأن يقنع بهذه الإمبراطورية وهي أعظم إمبراطورية شهدها التاريخ حتى ذلك الوقت، وأن يوجه همه إلى توحيدها وتقويتها في الداخل بدل أن يوسعها في الخارج، وأظهر دهشته من أن "الإسكندر لم يرد أن تنظم الإمبراطورية التي أنشأها أصعب من كسبها (7) ". وبهذا بدأت السلم الرومانية Pax Romana.(10/20)
الفصل الثالث
عهد الرخاء
لا يمكن أن يقال عن أغسطس إنه "فر من الميدان وسمى هذا الفرار سلماً"؛ ذلك أنه لم يكد تمضِ عشر سنين بعد معركة اكتيوم حتى انتعشت بلاد البحر الأبيض المتوسط انتعاشاً لم يضارعه في سرعته انتعاش قبله. وقد كانت عودة النظام في حد ذاتها باعثاً قوياً على هذا الانتعاش؛ وكيف يتمنع الرخاء من إجابة هذه الدعوة الإجماعية التي يتقدم بها إليه ما عاد إلى البحر من أمن وسلامة، وإلى الحكومة من الاستقرار، مضافاً إلى استمساك أغسطس بالقديم الموروث وتحفظه، وإلى استهلاك كنوز مصر المدخرة، واستغلال المناجم الجديدة، وإنشاء دور سك جديدة، وإلى ثقة الأهلين بالنقد وسرعة تداوله، وكعالجة الزحام في إيطاليا بإقطاع الأهلين أرضاً يفلحونها، وبنقلهم إلى أراضي المستعمرات؟ ومن القصص المأثورة في هذا الصدد أن جماعة من بحارة الإسكندرية نزلوا في بتيولي، وكان أغسطس قريباً منها، فأقبلوا في ملابسهم الزاهية وأهدوا إليهِ البخور كما يهدى البخور إلى الآلهة، وقالوا له إنهم استطاعوا بفضله أن يسيروا في البحر آمنين، وأن يتاجروا واثقين، وأن يعيشوا سالمين (8).
ولم يكن اغسطس، وهو حفيد رجل مصرفي، يخالجه أدنى شك في أن خير سياسة اقتصادية هي السياسة التي تجمع بين الحرية والأمان. ومن أجل ذلك وفر الحماية لجميع طبقات الأمة بسن القوانين، وبالدقة في تطبيقها؛ ووضع في الطرق العامة حراسة قوية، وأقرض ملاك الأراضي المال من غير فائدة (9)؛ وهدأ ثائرة الفقراء بما وزعه عليهم من قمح الدولة، و"بالقرعة" والهدايا بعض الاحيان. أما فيما عدا هذا فقد ترك للمشروعات الخاصة، والإنتاج، والتبادل، حرية أوسع(10/21)
مما كان لها من قبل. عل أن الأعمال التي تديرها الدولة كانت مع هذه الحرية كثيرة متنوعة إلى حد لم تبلغه من قبل، وكان لها شأن أيما شأن في إنعاش الحياة الاقتصادية؛ فقد شُيد في خلال هذه المدة اثنان وثمانون هيكلاً، وأنشئت سوق عامة جديدة وباسلقا (1) جديدة لتيسير الأعمال المالية وأعمال المحاكم، وأقيم بناء جديد لمجلس الشيوخ بدل البناء الذي احترق فيهِ كلوديوس؛ وشُيدت صفوف الأعمدة لتخفيف حرارة الشمس، وأكمل الملهى الذي بدأه قيصر وسمّي باسم مرسلس زوج ابنة أغسطس؛ واستحث الإمبراطور الأثرياء على أن ينفقوا بعض أموالهم في تجميل إيطاليا بالباسلقات، والهياكل، ودور الكتب، والملاهي، والطرق. ويقول ديوكاسيوس إنه "أمر الذين يحتفلون بالنصر أن ينفقوا مغانمهم في تشييد مباني عامة تخلد ذكرى أعمالهم" (9أ). وكان أغسطس يرجو من وراء ذلك أن يجعل عظمة رومة في ازدياد سلطانه ورمزاً لهذا السلطان.
ومن أقواله في آخر أيامه أنه وجد رومة مدينة من اآجر ثم تركها وهي من الرخام (9ب)؛ وذلك مغالاة تُغتفر لقائلها، فقد كان فيها قبل أيامه كثير من الرخام، وبقي فيها من بعدهِ كثير من الآجر، ولكن الحقيقة أنه قلما فعل رجل لمدينة ما فعله أغسطس لرومة.
وكان ساعده الأيمن في إعادة بناء رومة ماركس فسيانيوس أجربا Marcus Vispanius Agrippa. وكان صديقه هذا قد اشترك مع ماسنياس في تنفيذ سياسة أغسطس. ولما كان أجربا إيديلاً عام 33 ق. م ضم الجماهير إلى جانب أكتافيان بأن فتح لهم 170 حماماً، ووزع عليم الزيت والملح بلا ثمن، وأقام لهم ألعاباً عامة دامت خمسة وخمسين يوماً، وعين حلاقين لجميع المواطنين
_________
(1) الباسلقا Basilica عند الرومان بهو كبير مستطيل الشكل ذو صفين من العمد، ينتهي بطرف نصف دائري، كان يستخدم في الأعمال المالية والقضائية. وقد تحول كثير من الباسلقات آخر الأمر إلى كنائس. (المترجم)(10/22)
من غير أجور-ولعله أنفق ما تطلبه هذا كله من ماله الخاص. وكانت كفايته خليقة بأن تجعله فيصراً ثانياً؛ وكنه فضل أن يخدم أغسطس مدى جيل كامل. ومبلغ علمنا أنه لم يرتكب إثماً يشين حياته العامة أو الخاصة، فقد تركه المغتابون الرومان، الذين لم يتركوا أحداً غيره إلا سلقوه بألسنة حداد، دون أن يمسوه بقالة سوء. وكان هو أول روماني أدرك ما للقوة البحرية من خطر عظيم، فوضع خطة لإنشاء عمارة بحرية وأنشأها، وتولى قيادتها، وهزم بها سكستس بمبي، وطهر البحر من القراصنة، وكسب العالم لأغسطس في معركة أكتيوم. وعُرض عليهِ ثلاث مرات أن يقام له موكب نصر بعد هذه الانتصارات الرائعة، وبعد أن هدأ أسبانيا وغالة والمملكة اليسبورية، ولكنه رفض في كل مرة. وقد وهبه زعيمه ثروة طائلة اعترافاً منه بفضلهِ، ولكنه ظل رغم هذه الثروة يعيش عيشة خالية من البذخ والترف. وبذل جهوده كلها في إقامة المنشآت العامة كما بذلها من قبل في خفظ كيان الدولة، فكان يستأجر بماله الخاص مئات من العمال لإصلاح الطرقن والمباني، والمجاري العامة، وإعادة فتح قناة مارسيس المغطاة. وأنشأ هو قناة من نوعها جديدة، هي قناة يوليوس، وأصلح وسائل مد رومة بالماء باحتفار سبعمائة بئر وإنشاء خمسمائة عين فوّارة، ومائة وثلاثين خزاناً.
ولما شكا الناس من ارتفاع أثمان النبيذ أجابهم أغسطس بدهائهِ المعروف:
"لقد عمل صهري أجربا على ألا تظمأ رومة أبداً" (10).
وأنشأ أجربا، وهو أعظم المهندسين الرومان بلا منازع، مرفأ واسعاً عظيماً، ومركزاً لبناء السفن بإيصال بحيرتي لكريتس وأفرنس بالبحر. وهو الذي أنشأ أول الحمامات العامة الرائعة الفخمة، التي امتازت بها رومة فيما بعد على سائر مدن العالم. وشاد من ماله الخاص هيكلاً لفينوس والمريخ أعاد بناءه هدريان وهو المعروف لنا بهيكل الآلهة Pantheon في هذه الأيام، ولا يزال يظهر عليهِ حتى الآن هذه العبارة M. AGRIPA ... PECIT. ونظم أعمال مسح أراضي الإمبراطورية(10/23)
مرة كل ثلاثين عاماً، وكتب رسالة في الجغرافية، ورسم للعالم خريطة ملوّنة على الرخام. وكان مثل ليوناردو دافنشي عالماً طبيعياً، ومهندساً، ومخترعاً للمقذوفات الحربية وفنّاناً. وكان موته المبكر وهو في سن الخمسين (12ق. م) من الأحزان الكثيرة التي عكرت صفاء سني أغسطس الأخيرة. وقد زوجه أغسطس بابنته يوليا، وكان يرجو أن يرث الإمبراطورية من بعدهِ لأنه خير مَن يستطيع أن يحكمها حكماً صالحاً نزيهاً شريفاً.
وكانت المنشآت العامة الكثيرة النفقة، مضافة إلى الخدمات الواسعة التي تقوم بها الحكومة سبباً في زيادة المصروفات العامة زيادة لم يكن لها نظير من قبل. ذلك أن المرتبات كانت تؤدي وقتئذ للموظفين في الولايات وفي المدن، وللحكام ورجال الشرطة؛ وكان يقوم على حراسة البلاد جيش قوي دائم وأسطول ضخم، وكانت المباني العامة التي لا عداد لها تشاد أو تُصلح، وكان العامة يرشون بالحبوب والألعاب ليظلوا هادئين. وإذ كانت هذه النفقات كلها إنما تؤدى من الإيرادات العادية، ولم تحمل الأجيال التالية بدين أهلي ما، فقد أصبحت الضرائب في أيام أغسطس علماً وصناعة دائمة. ولم يكن أغسطس نفسه بالرجل الصلب الذي لا يلين، فكثيراً ما أعفى الأفراد المأزومين والمدن المأزومة من الضرائب أو أداها من ماله الخاص. وأعاد إلى البلديات خمسة وثلاثين ألف رطل من الذهب قدمت إليهِ "هدية تتويج"، حينما اختير قنصلاً للمرة الخامسة، ورفض هبات أخرى كثيرة (12)، وألغى ضريبة الأراضي التي فرضت على إيطاليا في أثناء الحرب الأهلية؛ وفرض بدلاً منها على جميع سكان الإمبراطورية ضريبة مقدارها خمسة في المائة على الأموال التي يوصى بها لأي إنسان عدا الأقارب الأدنين والفقراء (13)، كما فرض ضريبة مقدارها واحد في المائة على المزادات العامة، وأربعة في المائة من أثمان الأرقاء، وخمسة في المائة عند تحريرهم، وقرر عوائد جمركية تتراوح بين اثنين ونصف وخمسة في المائة على جميع البضائع(10/24)
الواردة إلى كل المواني تقريباً. وكان سكان المدن جميعاً يؤدون ضرائب للبلديات، ولم تكن الأملاك الرومانية معفاة من الضرايبة كما كانت الأراضي الإيطالية. وكانت الضرائب تؤدى على الماء المستمد من القنوات العامة. وكان دخل الخزانة كبيراً من تأجير الأراضي العامة، والمناجم، ومصائد الأسماك، واحتكار الدولة للملح، ومن الغرامات التي تفرضها المحاكم. وكانت الولايات تؤدي ضريبة على الأراضي Tributum Soli، وضريبة الفرضة Tributum Capitis، ومعناها الحرفي ضريبة على الرؤوس، ولكنها كانت في واقع الأمر ضريبة على الأملاك الشخصية. وكانت الضرائب تجمع في خزانتين في رومة كلتاهما في معبد، وهما الخزانة الأهلية ( Aerarium) التي يشرف عليها مجلس الشيوخ، والخزانة الإمبراطورية ( Fiscus) التي كان يملكها ويديرها الإمبراطور (1). وكانت ترد إلى الخزانة الثانية الأموال من أملاك الإمبراطور الخاصة، ومن الأموال التي يوصي بها الخيرون والأصدقاء. وبلغ ما تجمَّع من هذه الوصايا في أيام أغسطس 1. 400. 000. 000 سسترس.
ويمكن القول بوجه عام إن الضرائب في أيام الزعامة لم تكن فادحة، وإن ما أنفقت فيهِ حصيلتها إلى عهد كمادوس كان يبرز ما عاناه الناس في أدائها. وقد عم الرخاء الولايات وأقام الأهلون مذابح لأغسطس الإله شكراً له أو تطلعاً إلى ما سوف يأتيهم بهِ من خير. وقد أضطر في رومة نفسها لأن يعنف الناس على إسرافهم في مديحهِ. ومن أمثلة هذا الإسراف أن أحد المتحمسين أخذ يجري في شوارع المدينة ويدعو رجالها ونساءها لأن "يهبوا" حياتهم لأغسطس؛ أي أن يقطعوا على أنفسهم عهداً بأن يقتلوا أنفسهم حين يموت. وحدث في عام 2 ب. م. أن اقترح مسالا كرفينس Messala Corvinus الذي
_________
(1) كانت الفسسي Fisci على عهد الجمهورية هي السلال المختومة التي تحمل فيها أموال الخراج من الولايات إلى رومة.(10/25)
استولى على معسكر أكتافيان في فلباي أن يمنح أغسطس لقب "أبي البلاد". ولشد ما اعغتبط مجلس الشيوخ بمنح الإمبراطور هذا اللقب وكثيراً غيره من ألقاب الثناء والتكريم، فقد سره ألا يتحمل إلا القليل من تبعة الحكم، وأن يحتفظ مع ذلك بالثراء ومظاهر الشرف. وكانت طبقة رجال الأعمال التي زادت ثروتها كثيراً عن ذي قبل تحتفل بذكرى مولده احتفالاً يدوم يومين كاملين في كل عام. ويقول سوتونيوس "إن الناس جميعاً على اختلاف أصنافهم وطبقاتهم كانوا يقدمون له الهدايا في اليوم الأول من شهر يناير"-أي في عيد رأس السنة. ولما أن دمرت النيران قصره القديم تبرعت إليهِ كل مدينة في الإمبراطورية بمقدار من المال ليستعين بهِ على إعادة بنائه، ويبدو أن كل قبيلة وكل نقابة فعلت هي الأخرى مثل ما فعلت المدن. وأبى أن يأخذ من أي فرد أكثر من دينار واحد، ومع ذلك فقد حصل على ما يكفي لبناء القصر وزيادة. وقصارى القول أن جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط قد أحست بالسعادة بعد محنتها الطويلة، وكان في وسع أغسطس أن يعتقد أنه استطاع بصبره أن ينجز العمل العظيم الذي أخذ على عاتقه أن ينجزه.(10/26)
الفصل الرّابع
إصلاحات أغسطس
لقد أشقى أغسطس نفسه إذ حاول أن يصلح قلوب الناس ويسعدهم معاً، وكان ذلك تطاولاً منه لم تغفره له رومة أبداً، ذلك أن إصلاح الأخلاق أشق أعمال الحكام وأكثرها دقة وخطورة، وقل من الحكام من جرؤ على محاولته، وقد تركه أكثرهم للمنافقين أو القديسيين.
وبدأ أغسطس هذا الإصلاح بداية متواضعة لوقف تيار الانقلاب العنصري في رومة. ذلك أن سكان رومة لم يكونوا يتناقصون كما قد يتبادر إلى الأذهان، بل كان هؤلاء السكان يزدادون زيادة مطردة بفضل المغريات الكثيرة، وما كان يوزع عليهم من الأرزاق وما يستورد من الثروة ومن الرقيق. وإذ كان المحررون ينالهم نصيبهم من الأرزاق التي توزعها الدولة، فقد أعتق كثيرون من المواطنين عبيدهم المرضى أو الطاعنين في السن لكي تطعمهم الدولة، وحرر أكثر من هؤلاء لبواعث إنسانية، كما استطاع كثيرون منهم أن يقتصدوا من المال ما يبتاعون بهِ حريتهم. وإذ كان أبناء المحررين يصبحون مواطنين رومانيين من تلقاء أنفسهم، فقد تضافر تحرير الأرقاء وتكاثر الغرباء مع قلة تناسل عناصر السكان الأصليين على تبديل الطابع العنصري لسكان رومة. وكان أغسطس يشك في إمكان استقرار أحوال بلد يسكنه هذا الخليط المختلف العناصر من الأهلين، ويرتاب في ولاء هؤلاء السكان إلى الإمبراطورية وهم الذين تجري في عروقهم دماء الشعوب المغلولة على أمرها. لذلك عمل على قانون فوفيا كانينيا Lex Fufia Caninia (2 ب. م) وغيره من القوانين التي تبيح لكل من يملك عبداً أو عبدين لا أكثر أن يعتقه أو يعتقهما جميعاً، ولمن يملك-ثلاثة عبيد إلى عشرة أن يعتق نصفهم،(10/27)
ومن يملك أحد عشر إلى ثلاثين أن يعتق ثلثهم، ومن يملك واحداً وثلاثين إلى مائة أن يعتق ربعهم، ومن يملك مائة عبد وعبد إلى ثلثمائة أن يعتق خمسهم، والتي لا تبيح لسيد أن يعتق أكثر من مائة من عبيده.
وقد يتمنى الإنسان أن لو حدد أغسطس اقتناء العبيد لا تحريرهم. ولكن القدماء كانوا يرون الاسترقاق قضية مسلماً بها لا تحتمل جدلاً، ولو أنه طلب إليهم أن يحرروا العبيد جملة لنظروا إلى ما ينجم عن هذا العمل من النتائج الاقتصادية والاجتماعية نظرة الرعب والهلع، كما يخشى أصحاب الأعمال في وقتنا الحاضر ما عساه أن ينجم عن الضمان الاجتماعي للعمال من تراخٍ في العمل وقلة في الإنتاج. لقد كان تفكير أغسطس قائماً على المصالح العنصرية ومصلح الطبقات، ولم يكن في مقدوره أن يرسم في ذهنهِ صورة لرومة القوية لا يتصف أفرادها بالخلق والشجاعة والمقدرة السياسية التي كان يمتاز بها الرومان الأقدمون بوجه عام والأشراف الأقدمون بوجه خاص. وكان ضعف العقيدة الدينية القديمة بين الطبقات العليا سببا في القضاء على ما كان للزواج والوفاء والأبوة من حرمة وقداسة، وكانت هجرة الناس من الأرياف إلى المدن قد جعلت الأطفال عبئاً ثقيلاً على آبائهم أو لعباً يتسلون بها على أحسن تقدير، بعد أن كانوا مصدر ربح لهم. واشتدت رغبة النساء في التجمل واجتذاب الأموال بعد أن كن يرين أن خير زينة لهن هي إنجاب الأبناء. وقصارى القول أن الرغبة في الحرية الفردية بدت في ذلك الوقت مجانية لحاجات العنصر الروماني الأصيل. ومما زاد الطين بلة أن السعي وراء الهبات والوصايا أضحى وقتئذ أكثر الأعمال ربحاً في إيطاليا (16). فقد كان الرجال الذين لا أبناء لهم إذا بلغوا مرحلة العمر الأخيرة يجدون أحسن الترحيب في بيوت لهم أبناء، يستقبلون فيها ويطعمون، وكان كثير من الرومان يحبون هذه المتعة وهذا النوع من الحياة اللينة، حتى أصبحت سبباً آخر من أسباب العقم. يضاف إلى هذا أن طول سني الخدمة العسكرية حال بين كثيرين(10/28)
من الشبان وبين الزواج في أكثر سني العمر صلاحية له. وامتنع كثيرون من الرومان الأصليين عن الزواج بتاتاً، وفضلوا الاتصال بالعاهرات أو اتخاذ السراري والعشيقات حتى على تعدد الزوجات متفرقات. ويلوح أن الكثرة العظمى من المتزوجين عمدت إلى تحديد عدد أفراد أبنائها باللجوء إلى إجهاض الزوجات وقتل الأطفال ومنع الحمل (18).
وأقلقت هذه المظاهر وأمثالها من مستلزمات الحضارة بال أغسطس وأقضّت مضجعه، وبدأ يشعر أن لابد من العودة إلى العقائد والأخلاق القديمة. وعاد إليهِ بعد أن صفا ذهنه وأنهك جسمه بفعل السنين احترامه لتراث الآباء والأجداد، فأخذ يشعر أن ليس من المصلحة في شيء أن ينفصل عن الماضي انفصالاً تاماً، بل الواجب أن تعمل الأمة-إذا أرادت لنفسها حياة حياة صحيحة سليمة-على استمرار تقاليدها الماضية، كما يجب على الفرد أن تكون له ذاكرة. ولذلك أخذ يقرأ بجد أكسبته إياه السنون تواريخ رومة القديمة ويعجب بالفضائل التي يعزوها المؤرخون إلى أهلها، ويحسدهم عليها, وأشد ما كان يعجب بخطبه كونتس متلس في الزواج، فتلاها في مجلس الشيوخ وأصدر أمراً إمبراطورياً بإذاعتها بين طبقات الشعب. وكان كثيرون من رجال الجيل القديم يتفقون معه في آرائه فألفوا من بينهم حزباً متزمتاً شديد الرغبة في تقويم الأخلاق عن طريق التشريع؛ وأكبر الظن أن ليفيا Livia أمدتهم بنفوذها. واستخدم أغسطس ماله من حقوق بوصفهِ رقيباً وتربيوناً فأصدر طائفة من القوانين-أو لعله حمل الجمعية على إصدارها-تهدف كلها إلى تقويم الأخلاق، وتشجيع الزواج، والوفاء بين الأزواج، والأبوة الصالحة، والحياة البسيطة، والعودة بها إلى السنن القديمة. وحرمت هذه القوانين على المراهقين-والمراهقات-أن يحضروا دور اللهو العامة في صحبة الكبار من أقاربهم؛ ومنع النساء من مشاهدة الاستعراضات الرياضية، وقصر أماكنهم في المجتلدات على(10/29)
المقاعد العليا؛ ثم حدد مقدار ما ينفق من المال في البيوت، وعلى الخدم، والولائم، والزواج، والجواهر، والملابس. وكان أهم هذه "القوانين اليوليائية" (1) كلها "القانون اليوليائي الخاص بالعفة ومنع الزنى " Lex Julia de Pudicitia et de Coercendis Adulterus" (18 ق. م). وبهذا القانون وضع الزواج لأول مرة في التاريخ الروماني تحت حماية الدولة بعد أن كان متروكاً لسلطة الآباء في أسرهم Patria Potestas، واحتفظ الأب بحقهِ في قتل ابنتهِ الزانية هي وشريكها ساعة أن يضبطهما متلبسين بهذه الجريمة، وأجيز للزوج أن يقتل عشيق زوجته إذا ضبطه في منزلهِ، أما زوجته فلم يكن له أن يقلها إلا إذا ارتكبت الفحشاء في بيتهِ هو. وكان يطلب إلى الزوج الذي يكشف عن خيانة زوجته أن يأتي بها إلى المحكمة في خلال ستين يوماً من هذا الكشف؛ فإذا لم يفعل هذا كان يُطلب إلى والد الزوجة أن يقوم هو بهذا العمل؛ فإذا لم يفعل الوالد نفسه ذلك جاز لأي مواطن أن يتهمهما. وكان عقاب المرأة الزانية أن تُنفى من البلاد طوال حياتها، وأن تجرّد من ثلث ثروتها ومن نصف بائنتها، وأن يُحرم عليها الزواج مرة أخرى. وقد قُررت هذه العقوبات نفسها على الزوج الذي يتغاضى عن زوجته الزانية. غير أنه لم يكن من حق الزوجة أن تتهم زوجها بالزنى، فقد كان له أن يتصل بالعاهرات الرسميات المسجلات دون أن يعاقبهُ القانون على هذا الاتصال. ولم يكن هذا القانون يطبق إلا على المواطنين الرومان.
وأكبر الظن أن أغسطس سن حوالي ذلك الوقت قانوناً آخر يُعرف عادة باسم القانون اليوليائي الخاص بالزواج بين الطبقات Lex Julia de Maritandis Ordiniyrdus ذلك لاحتوائهِ على فصل خاص بالزواج بين الطبقات أي بين الطبقتين العليين. وكان الهدف الذي يرمي إليهِ مزدوجاً، فقد كان يرمي إلى تشجيع الزواج وإلى تحديده معاً، وذلك لأنه كان يعطل امتزاج الدم الروماني
_________
(1) وسميت كذلك نسبة إلى القبيلة التي ينتمي إليها أغسطس بعد أن تبناه قيصر.(10/30)
بالدم الغريب، ويعيد إلى الزواج فكرته الأولى فكرة الاتحاد لإنجاب الأبناء.
وكانت السبيل التي سلكها القانون للوصول إلى هذين الهدفين هي فرض الزواج على جميع الصالحين له من الرجال إذا كانوا أقل من سن الستين، وعلى الصالحات له من النساء إذا كن أقل من الخمسين. وألغيت الوصايا التي كانت تشترط في الموصى له أن يظل عزباً؛ وفرضت عقوبات على العزاب: فحرموا من الميراث عدا ميراث الأقارب إلا إذا تزوجوا في خلال مائة يوم بعد وفاة الموروث؛ كما مُنعوا من مشاهدة الحفلات والأعياد العامة.
ولم تكن الأرامل أو المطلقات يرثن إلا إذا تزوجن مرة أخرى في خلال ستة شهور من موت الزوج في الخالة الأولى ومن الطلاق في الحالة الثانية. وحرمت العنس والزوجة العقيم من الميراث إذا بلغت الخمسين من عمرها، أو كانت أصغر من ذلك وكانت تملك خمسين الف سسترس (75000 ريال أمريكي). وحرم على الرجال من طبقة أعضاء مجلس الشيوخ أن يتزوجوا من المحرَّرات أو الممثلات أو العاهرات، كما حرم على الممثل والمحرَّر أن يتزوج ابنة من طبقة أعضاء مجلس الشيوخ. وفرضت على النساء اللاتي يمتلكن أكثر من عشرين ألف سسترس أن يؤدين ضريبة سنوية قدرها 1% من أموالهن حتى يتزوجنَ، ثم تخفض هذه الضريبة بالتدريج كلما رزقن ابناً، فإذا رزقن الطفل الثالث رفعت الضريبة عنهن، وإذا كان لأحد القنصلين أبناء أكثر من زميله تقدم عليهِ. وكان يفضل في تولي المناصب العامة أكبر المتقدمين إليها أسراً متى كان صالحاً لتولي المنصب. وكان من حق الأم ذات الثلاثة الأبناء أن ترتدي جلباباً خاصا Ius Trium Liberorum وأن تحرر من سيطرة زوجها عليها.
وقد أغضبت هذه القوانين الطبقات جميعها حتى طبقة المتزمتين، فقد اشتكى هؤلاء من أن "حق الثلاثة الأبناء" قد حرر الأم من سلطان الرجل تحريراً شديد الخطورة. ومن الرجال من أخذوا يبررون عدم الزواج بقولهم إن "المرأة(10/31)
الحديثة" قد تطرفت في استقلالها، وغطرستها، ونزقها، وإسرافها. وكانوا يرون أن حرمان العزّاب من مشاهدة المعارض والألعاب العامة عقاب قاس مستحيل التنفيذ، ولهذا أمر أغسطس بإلغائهِ في عام 12ق. م؛ ثم خففت القوانين اليوليائية مرة أخرى بمقتضى قانون بُبْيَا بُبّيَا Popia Poppea، وذلك بتخفيف شروط الميراث على العزّاب، وبمضاعفة الفترة التي تستطيع الأرامل والمطلقات في أثنائها أن يرثن قبل أن يتزوجن مرة أخرى، وبزيادة القدر الذي يستطيع أن يرثه مَن لا أبناء لهُ. ثم أعفيت أمهات الأبناء الثلاثة من القيود التي وضعها قانون فوكونيا Lex Voconia على الوصايا للنساء. وخفضت السن المحددة للتقدم للمناصب العامة بنسبة حجم أسرة من يتقدم لهذه المناصب. ولاحظ الناس بعد أن سُنت هذه القوانين أن القناصل الذين وضعوا صيغتها وأطلقوا أسماءهم عليها عزّاب لا أبناء لهم. وأصناف النمامون إلى ذلك أن الذي اقترح هذه القوانين على أغسطس-وهو الذي لم يكن له إلا ولد واحد-هو ماسناس الذي لم يكن له ولد، وأنه في الوقت الذي سنت فيهِ كان ماسناس يعيش عيشة الترف والخنوثة، وكان اغسطس يغوي زوجة ماسناس على الفحشاء (19).
وليس في وسعنا أن نحكم على أثر هذه الشرائع التي تعد أهم الشرائع الاجتماعية في التاريخ القديم، ولكننا لا نستطيع أن نقول إنها لم تسن بالعناية والدقة الواجبتين، وإن من أرادوا خرقها كانوا يجدون فيها كثيراً من الثغرات؛ فمنهم من تزوجوا إطاعة للقانون ثم ما لبثوا أن طلقوا زوجاتهم؛ ومنهم من يبنّوا أطفالاً ليحصلوا بذلك على المناصب أو الوصايا، ثم "حرروهم"-أي طردوهم من ديارهم بعدئذ (20). وأعلن تاستس بعد قرن من ذلك الوقت أن هذه الشرائع أخفقت في الغرض الذي كانت ترمي إليهِ: "فالزواج وإنجاب الأبناء لم يزيدا على ما كانا عليهِ من قبل، وذلك لأن مغريات عدم النسل مغريات عظيمة القوة" (21).
ولم ينقطع الفساد الخلُقي وإن أصبح الناس أكثر تأدباً فيهِ عما كانوا من(10/32)
قبل؛ ونتبين من أقوال أوفد أنه كان في طريقه إلى أن يصير فناً من الفنون الجميلة، وموضوعاً يعني مهرة الخبراء بتعليمه للمبتدئين. والحق أن أغسطس نفسه كان يرتاب في قوة هذه الشرائع. وكان يتفق مع هوراس في أن القوانين عبث لا طائل منه إذا لم تتغير القلوب (22). ولقد كافح كفاح الأبطال ليصل إلى قلوب الناس؛ فكان يعرض من مقصورتهِ في ساحة الألعاب أبناء جرمنيكوس الكثيرين، وكان جرمنيكوس مضرب المثل في الأبوة؛ وكان يهب ألف سسترس للآباء ذوي الأسر الكبيرة (23)؛ وأقام نصباً تذكارياً لأَمة ولدت خمسة أبناء (وهي لم تفعل ذلك بالطبع لبواعث وطنية) (24)؛ ولشد ما اغتبط حين رأى فلاحاً يأتي راجلاً إلى رومة ومن ورائهِ ثمانية أبناء، وستة وثلاثون حفيداً، وتسعة عشر من أبناء أحفاده (25). ويصوره ديو كاسيوس يخطب في الناس ويشهر "بانتحار العنصر" الروماني الأصيل (26). وكان يلذ له أن يقرأ مقدمة تاريخ ليفي الأخلاقية، ولعله هو الموحي بها. وقد أصبحت الآداب في عصرهِ وبتأثيرهِ آداباً تعليمية عملية الصبغة، وأقنع بنفسهُ أو عن طريق ماسيناس فرجيل وهوراس بأن يستخدما شعرهما في الدعاية إلى الإصلاح الخلقي والديني، فحاول فرجيل في كتاب الزراعة Georgics أن يعيد الرومان بأغنيهِ إلى المزارع، كما حاول في الإنياذة Aeneid أن يجتذبهم إلى الآلهة القدامى. أما هوراس فبعد أن ذكر أمثلة كثيرة لمسرات العالم حول أغانيهِ إلى الموضوعات الراقية. وأقام أغسطس في عام 17ب. م "الألعاب القرنية Ludi Saeculares (1) - التي ظلت قائمة ثلاثة أيام، وشملت حفلات، ومباريات، واستعراضات؛ وقد أقامها احتفالاً بعودة عصر زحل الذهبي، وكلف هوراس أن يكتب Carmen Saecular لكي يغنيها في الموكب سبعة وعشرون فتى ومثلهم من الفتيات. وحتى الفن نفسهُ قد استخدم للإشارة إلى
_________
(1) معنى هذه العبارة الحرفي "الألعاب القرنية" لأنها لم تكن تقام إلا في فترات متباعدة.(10/33)
الأخلاق، فقد مُثلت في نقش أراباسس Ara Pacis البارز الجميل حياة رومة وحكومتها؛ وشُيدت المباني العامة لتمثيل قوة الإمبراطورية وعظمتها، وأقيمت عشرات الهياكل لتستثير في قلوب الناس ذلك الإيمان الذي كاد يموت.
واقتنع أغسطس في آخر الأمر-وهو الرجل المتشكك الواقعي-بأن إصلاح الأخلاق لا بد أن ينتظر نهضة دينية. ذلك أن جيل المتشككين أمثال لكريشيوس وكانلس وقيصر كان قد مضى وانقضى، وأدرك أبناء هذا الجيل أن خشية الآلهة هي شباب الحكمة، بل إن أوفد الساخر نفسهُ أخذ يكتب بعد قليل من ذلك الوقت على طريقة فلتير: "إن أسباب الرحمة للإنسان أن تكون هنالك آلهة، وأن نعتقد بوجودها Expenditesses Deos et Un Expedit Esse Putemuse " (27) . وكانت عقول المتحفظين تعزو أسباب الحرب الأهلية وما جرته على الدولة من كوارث إلى إهمال الدين، وما استتبع هذا الإهمال من غضب آلهة السماء. وأصبح الناس الذين حل بهم عقاب الآلهة في كل مكان من إيطاليا على استعداد لأن يعودوا إلى مذابح البلاد القديمة، وأن يسبحوا بحمد الآلهة الذين أبقوا عليهم ليستمتعوا بعودة الدين إلى سالف عهدهِ السعيد. ولما خلف أغسطس لبدس Lepidus الفاتر الإيمان-بعد أن ظل صابراً زمناً طويلاً يترقب موته-لما خلفه من منصب الكاهن الأكبر "احتشدالناس من كافة أنحاء إيطاليا لينتخبوني لهذا المنصب حتى بلغ عددهم حداً لم يبلغ مثله في رومة من قبل" (28). وتزعم هو حركة إحياء الدين وسار على بهجها، وكان يرجو أن يكون الناس أكثر قبولاً لإصلاحاتهِ السياسية والأخلاقية إذا ما ربطها رباطاً وثيقاً بالآلهة الرومانية. ومن أجل هذا رفع مقام الجماعات الأربع الكهنوتية، وزاد ثروتها إلى حد لم يكن له مثيل في الأيام السلفة، واختار نفسه عضواً في كل منها، واضطلع بواجب اختيار أعضائها الجدد، وكان يحرص كل الحرص على حضور اجتماعاتها ويشترك في مواكبها الفخمة الرهيبة.(10/34)
ثم حرم ممارسة العبادات والطقوس المصرية الآسيوية في رومة، ولكنه استثنى اليهود من ذلك التحريم، وأطلق الحرية الدينية لسكان الولايات، وأغدق الهبات على الهياكل، وجدد الاحتفالات والمواكب والأعياد الدينية القديمة. ولم تكن الألعاب القرنية احتفالات دنيوية كما يظن لأول وهلة، فقد كانتت تقام في كل يوم من أيامها الثلاثة طقوس وتتلى فيهِ أناشيد، أهم ما تُشعر بهِ عودة صلات الود الوثيقة بالآلهة. ولما أن تغذت العبادات القديمة بهذه المعونة الملكية العليا سرت فيها حياة جديدة ومست من جديد شغاف قلوب الناس وآمالهم السماوية. ومن أجل هذا ظلت ثلاثة قرون صامدة للفوضى الناشئة من العبادات المتعارضة التي تسربت إلى رومة بعد أيام أغسطس. ولما أن ماتت بعد هذه القرون الثلاثة عادت من فورها إلى الحياة من جديد، وإن اتخذت لها رموزاً جديدة وتسمت بأسماء جديدة.
وكان أغسطس نفسهُ من أكبر المنافسين لآلهتة، وكان قيصر قد ضرب له المثل في هذا التنافس: ذلك أن مجلس الشيوخ اعترف بألوهية قيصر بعد عامين من مقتله، وما لبثت عبادته أن انتشرت في سائر أنحاء الإمبراطورية. وكانت بعض المدن الإيطالية منذ عام 36ق. م قد أفسحت لأكتافيان مكاناً بين معبوداتها؛ وما وافى عام 27ق. م حتى أضيف اسمه إلى أسماء الآلهة في الترانيم الرسمية التي كانت تنشد في رومة، وحتى أصبح يوم مولده يوماً مقدساً لا عيداً فحسب؛ ولما مات أصدر مجلس الشيوخ قراراً أن تعبده رومة من ذلك الوقت وأن تعده من الآلهة الرسمية. وكان ذلك كله يُعد عملاً طبيعياً لا غبار عليهِ عند الأقدمين لأنهم لم يدر بخلدهم قط أن ثمة تفصل على الدوام بين الآلهة والآدميين؛ فما أكثر ما كانت الآلهة تتخذ لنفسها أشكالاً آدمية، ولقد كان ما لهرقل، وليقورغ والإسكندر، وقيصر، وأغسطس وأمثالهم من عبقرية مبدعة يبدو للشرق المتدين بنوع خاص إعجازاً خليقاً بالتقديس. ألم يعتقد المصريون أن الفراعنة، والبطالمة، بل وأنطونيوس نفسه أرباب يعبدون؟ ولقد(10/35)
كان عسيراً عليهم أن يضعوا أغسطس في منزلة تقل عن هؤلاء. ولم يكن الأقدمون وهم يفعلون هذا من الغفلة والبلاهة بالدرجة التي يرميهم بها من يفعلون فعلهم في هذه الأيام؛ فلقد كانوا على علم تام بأن أغسطس بشر، فإذا ألهوا روحه أو أرواح غيره فإنهم لم يكونوا يستعملون لفظ إله Theos, Deus إلا بالمعنى الذي نستعمل نحن فيهِ لفظ قديس في هذه الأيام. والحق أن تقديس الموتى وليد التألية الروماني، وأن الصلاة للآدمي المؤلفة لم تكن تبدو لهم في ذلك أكثر سخفاً مما تبدو الصلاة للقديس في هذه الأيام.
وارتبطت عبادة عبقرية الإمبراطور في البيوت الإيطالية بعبادة أرباب المنازل وعبقرية أبي الأسرة. ولم يكن في هذه العبادة شيء عسير على شعب ظل عدة قرون يؤله الموتى من آبائهِ، ويبني لهم المذابح، ويسمي مقابر أسلافه هياكل. ولما أن زار أغسطس آسية اليونانية في عام 21ق. م وجد أن عبادته قد انتشرت فيها انتشاراً سريعاً؛ وكانت النذور تقدم إليهِ والخطب ترحب بهِ بوصفه "المنقذ" و "ناقل الأنباء السارة" و "الإله ابن الإله". وقال بعض الناس أنه هو المسيح الذي طال انتظاره أقبل يحمل السلام والسعادة لبني الإنسان (29). وجعلت مجالس الولايات الكبرى عبادته المحور الذي تدور عليهِ احتفالاتها، وعينت مجالس الولايات والبلديات طائفة جديدة من الكهنة يدعون بالأغسطيين لخدمة الإله الجديد. وأبدى أغسطس استيائه من هذا كلهِ، ولكنه قبله آخر الأمر على أنه تمجيد روحي للزعامة، وتقوية للرابطة بين الدين والدولة، وعبادة مشتركة موحدة بين عقائد مختلفة مفرقة، وهكذا رضي حفيد المرابي أن يكون إلهاً.(10/36)
الفصل الخامس
أغسطس نفسه
تُرى أي رجل هذا الذي ورث ملك قيصر في الثامنة عشرة من عمرهِ، وكان سيد العالم في الحادية والثلاثين. والذي حكم رومة نصف قرن من الزمان، والذي شاد أعظم إمبراطورية في التاريخ القديم؟ لقد كان كئيباً جذاباً معاً، ولم يكن أحد أسمج منه، ولكن نصف عالم قد عبده رغم هذه السماجة. وكان ضعيف البنية، لا يمتاز بالشجاعة النادرة، ولكنه كان قادراً على أن يهزم جميع أعدائه وينظم شؤون الممالك، وينشيء حكومة أفادت على الدولة المترامية الأطراف مدى قرنين من الزمان رخاءً منقطع النظير.
وقد استنفذ المثّالون كثيراً من الرخام والبرونز في صنع تماثيل وصوَر له يظهره بهضها في صورة الشاب الجاد المهذب الفخور الوجل، وبعضها في صورة الكاهن المنقبض الصدر، وبعضها قد غطت فيهِ نصف جسمه شارت الملك، وبعضها في ثياب القائد العسكري-فقد اضطر الفيلسوف على كره منه وبمشقة على نفسه أن يضطلع بواجب القواد. ولكن هذه الصور لا تكشف عن الأمراض التي كان يشكو منها-وإن أوحت بها في بعض الأحيان-وهي الأمراض التي جعلت حربه ضد الفوضى تتأثر في كل خطوة بكفاحهِ في سبيل صحتهِ. ولم يكن بالرجل الوسيم الخلق، وكان ذا شعر أصفر بلون الرمل، ورأس مثلث عجيب الشكل، وحاجبين مقترنين، وعينين صافيتين نافذتي النظرات؛ ولكن ملامحه مع ذلك كانت هادئة ساكنة-على حد قول سوتنيوس-وقد بلغ هدوؤه وسكونه حداً جعل أحد الغاليين، وكان قد جاء ليغتاله، يبدل نيته ويرتد عنه. وكان ذا جسد حساس يشوبه القوب من آن إلى آن؛ وقد أضعف داء المفاصل(10/37)
ساقه اليسرى فكان يعرج قليلاً، وكان يصاب في بعض الأحيان بنوع من التصلب شبيه بتصلب المفاصل تعجز معه يده اليمنى عن الحركة. وأصيب هو وعدد كبير من الرومان في عام 23 ق. م بوباء يشبه التيفوس، وكان يشكو من وجود حصا في المثانة، ولا يستطيع النوم إلا بمشقة، ويعاني في كل ربيع تمدداً في الحجاب الحاجز، ويصاب بالزكام إذا هبت الريح من الحبوب".
وكان شديد التأثر بالبرد، ولذلك كان يلبس في الشتاء "صدرية من الصوف يقي بها صدره، ويلف اللفائف على فخذيهِ وساقيهِ، ويلبس شعاراً وأربعة إشارات وعباءة ثقيلة". ولم يكن يجرؤ على تعريض رأسه للشمس، وكان يتعبه ركوب الخيل، فكان يحمل أحياناً في محفة إلى ميدان القتال (30). وظهرت عليهِ آثار الشيخوخة وهو في سن الخامسة والثلاثين بعد أن عاش في إحدى الفترات الحاسمة في تاريخ الإنسانية فأصبح عصبياً، معتلاً، سريع التعب، ولم يكن أحد يحلم وقتئذ بأنه سيعيش أربعين سنة أخرى. وجرّب عدداً كبيراً من الأطباء على اختلاف أنواعهم وجزاهم كلهم أحسن جزاء، وكان منهم أنطونينس موسى الذي عالجه من مرض لم يكن معروفاً على وجه التحقيق (ولعله خرَّاج في الكبد) بالكمادات والحمامات، وقد كرم موسى هذا بأن أعفى جميع الأطباء من الضرائب (31). ولكنه كان يعالج نفسه بنفسهِ في أكثر الأحيان، فكاد يعالج داء المفاصل بالاستحمام بالماء المالح الساخن وبالحمامات الكبريتية، وكان يقل من الطعام، ولا يتناول الأطعمة البسيطة الخفيفة كالخبز الخشن، والجبن، والسمك، والفاكهة. وقد بلغ من عنايته بمأكلهِ أن كان "في بعض الأحيان يتناول طعامه بمفردهِ قبل المآدب أو بعدها، ولا يطعم أو يشرب شيئاً في أثنائها" (32). وقصارى القول أن روحهُ هي التي أبقت على جسمه وحملته حمل الصليب شأنه في هذا شأن القديسين في العصور الوسطى.
وكان جوهر طباعه حيويتة أعصابه، وقوة عزيمته، ونفاذ بصيرته، وسعة(10/38)
صدرهِ وحسن تفكيره. وقد قبل من المناصب عدداً يخطئه الحصر، واضطلع بتبعات لم يضطلع أحد بأكثر منها إلا قيصر وحده، وأدى ما تتطلبه هذه المناصب من واجبات بأمانة وذمة، ولم تمنعه هذه الواجبات من أن يرأس جلسات مجلس الشيوخ بانتظام، وأن يحضر المؤتمرات والاجتماعات، وأن يحكم في مئات من القضايا، وأن يتحمل على مضض حضور المآدب والحفلات، وأن يدبر الحملات الحربية في البلاد النائية، وأن يصرف أموال الفيالق الحربية والولايات، وأن يزورها كلها، وأن يشرف على كل صغيرة وكبيرة من الأعمال الإدارية في دولاب الحكومة.
وفوق هذا كله ألقى مئات الخطب، وأعدها هو حصراً يفخر بهِ على أن يجعلها واضحة، سهلة، جميلة الأسلوب، وكان يقرؤها بعد إعدادها ويفضل ذلك على أن يرتجلها حتى لا ينطق بألفاظ يندم عليها بعد النطق بها. ويحاول سوتونيوس أن يقنعنا بأنه لهذا السبب عينه كان يكتب مقدماً أحاديثه الهامة مع الأفراد، حتى مع زوجته نفسها، ويقرأها لهم (33).
وقد ظل يؤمن بالخرافات كما كان يؤمن بها معظم المتشككين في عصره بعد أن فقد إيمانه بدينه بزمن طويل. من ذلك أنه كان يحمل جلد عجل البحر ليتقي به شر الصواعق، وكان يعتقد بالفأل والطيرة، ويعمل في بعض الأحيان بما يتراءى له في منامه من نُذُر، وكان يأبى أن يبدأ رحلة في الأيام التي يرى أنها أيام مشئومة (34).
وقد اشتهر في الوقت عينه بأنه واقعي في أحكامه، عملى في تفكيره، وكان ينصح للشبان بأن يبادرون بالانخراط في سلك الأعمال التي تتطلب منهم همه ونشاطاً حتى تقوَّم التجارب وضرورات الحياة، ما أخذوه عن الكتب من آراء (35).
وقد اختفظ إلى آخر أيام حياته بعقليتهِ الطيبة البرجوازية وبتحفظه وحذره(10/39)
واعتدالهِ في نفقاته. وكانت الحكمة المحببة إليهِ هي قوله "بادر على مهل". وكان يفوق معظم أمثاله من ذوي السلطان العظيم في تقبل النصح واحتمال التأنيب بصدر واسع وتواضع عظيم.
وقد زوّده الفيلسوف أثندورس Athendorus عندما همّ بوداعة وهو عائد من عنده إلى أثينة بعد أن عاش معهُ سنين بنصيحة قال له فيها: "إذا غضبت فلا تقل كلمة أو تفعل شيئاً قبل أن تعدّ لنفسك الحروف الهجائيةالأربعة والعشرين".
وشكر أغسطس للفيلسوف تحذيره وتوسل إليهِ أن يبقى معه عاماً آخر وقال له: "لا خطر يتهدد الخير الذي يعود على الإنسان بفضل السكوت" (36).
لقد قلنا من قبل إن مما يثير الدهشة أن يتحول قيصر من رجل سياسي صخاب إلى قائد سياسي محنك؛ ولكن أكثر من هذا إثارة للدهشة تحول أكتافيان القاسي القلب المنطوي على نفسه إلى أغسطس المتواضع الكبير العقل النبيل الطبع. ولقد حدث هذا التحول في خلال نموه. إن الشاب الذي أجاز لأنطونيوس أن يعلق رأس شيشرون في السوق العامة، والذي تنقّل من حزب إلى حزب دون أن يجد من ضميره تأنيباً على هذا التنقل، والذي أطلق العنان لشهواتهِ الجنسية، والذي طارد أنطونيوس وكليوبطرة إلى منيتهما دون أن تؤثر فيهِ صداقة أو شهامة-إن هذا الشاب العنيد الذي لا يحب أحداً لم يُسَمم عقله السلطان والجاه، بل أصبح في الأربعين سنة الأخيرة من حياته مضرب المثل في العدل والاعتدال، والإخلاص والنبل والتسامح، يضحك من سخرية الشعراء بهِ وهجوهم إياه، وينصح تيبيريوس أن يقنع بمنع أعمال العدوان أو محاكمة المعتدين، وألا يسعى لتكميم أفواههم، ولا يصر على أن يعيش غيره من الناس عيشة البساطة التي فرضها هو على نفسهِ. فكان إذا دعا إلى وليمة، انسحب منها في بدايتها لكي يترك لضيوفها الحرية التامة في الاستمتاع بالطعام والمرح. ولم يكن(10/40)
مزهواً بنفسهِ وكان يستوقف الناخبين ليطلب إليهم أن يعطوه أصواتهم في الانتخاب، وينوب عن أصحابهِ من المحامين في القضايا. وكان إذا دخل رومة أو خرج منها يفعل ذلك في السر لأنه يبغض مظاهر الأبهة، وهو لا يظهر في نقش أراباسيز Ara Pacis مميزاً عن غيره من المواطنين بأية علامة من علامات الامتياز، وكانت استقبالاته الصباحية مباحة لجميع المواطنين، وكان يستقبلهم كلهم بالبشاشة والترحيب. ولما تردد أحد الناس في أن يعرض عليهِ ماتمساً، لامه مازحاً بقولهِ إنه يعرض عليهِ وثيقة "كأنه يقدم فَلساً لفيل (37) ".
ولما بلغ سني الشيخوخة، وأحفظته الخيبة، واعتاد عظيم السلطة، بل اعتاد الألوهية، تبدلت حاله فخرج عن تسامحه، واضطهد أعداءه من الكتاب، وصادر التواريخ التي تسرف في الانتقاد، وأصم أذنهُ عن سماع أشعار أوفد التي يقول فيها إنه تاب وأناب، ويقال إنه أمر في يوم من الأيام أن تكسر ساقا ثالس Thallus أمين سره لأنه أخذ خمسمائة دينار ليبوح بما يحتويه أحد الخطابات الرسمية، وإنه أرغم أحد محرريهِ على الانتحار حين تبين له أنه زنى برومانية متزوجة. وقصارى القول أن الإنسان إذا نظر إلى أخلاقه في جملتها لم يكن من السهل عليهِ أن يحبه؛ وإن من واجبنا أن نتصور ما كان يعانيه من الضعف الجسم وما قاساه في شيخوختهِ من أحزان قبل أن تتفتح قلوبنا له كما تتفتح لقيصر المقتول أو لأنطونيوس المغلوب.(10/41)
الفصل السّادس
آخر أيام أغسطس
تكاد مآسي أغسطس وهزائمه كلها أن تكون في داخل بيتهِ. وأول ما نذكره من هذه المآسي أنه لم يُرزق من زوجاته الثلاث-كلاديا وأسكربونيا وليفيا- إلا طفلة واحدة! ذلك أن أسكربونيا قد ثأرت لطلاقها منه على غير علم منها بأن ولدت له يوليا Julia. وكان يأمل أن تلد ليفيا ولداً ينشئهُ ويعلمهُ أساليب الحكم، ولكن زواجها من أغسطس قد تكشف لسوء حظهِ عن زواج عقيم، وإن كانت قد كافأت زوجها الأول بأن أنجبت لهُ ولدين عظيمين هما تيبيريوس ودروسس. وإذا استثنينا هذا العقم فقد كانت هي وأغسطس سعيدين بهذا الزواج؛ فقد كانت هي ذات جمال وجلال، وخلق مكين وذكاء عظيم؛ وكان أغسطس يعيد على مسامعها أنباء أهم ما يعتزم القيام به القيام من الأعمال، ولم يكن تقديره لمشورتها ينقص عن تقديره لمشورة أرجح أصدقائهُ عقلاً. وسئلت مرة كيف صار لها هذا النفوذ العظيم، فأجابت بقولها إن سبب ذلك أني "عفيفة إلى أقصى حد العفة ... لا أتدخل مطلقاً في شؤونهِ، أني كنت أدعي أني لم أرَ خليلاته ولم أسمع شيئاً عنهن أو عما كان بينه وبينهن من وقائع غرامية (38) ". وكانت مضرب المثل في الفضائل القديمة، ولعلها كانت تُسرف في الإصرار على الدعاية لهذه الفضائل. وكانت تقضي أوقات فراغها في أعمال البر، فتساعد الآباء ذوي الأسر الكبيرة، وتهب البائنات للعرائس الفقيرات، وتنفق على كثير من اليتامى من مالها الخاص. وكان قصرها نفسه أشبه بملجأ للأيتام؛ ذلك أن أغسطس كان يشرف في هذا القصر وفي قصر أخته أكتافيان على تربية أحفاد، وأبناء إخوتهِ وأخواتهِ، وبناتهن، وحتى على أبناء أنطونيوس الستة(10/42)
الذين بقوا أحياء. وكان يرسل الذكور في سن مبكرة إلى الحروب، يعنى بتعليم البنات الغزل الحياكة، "ويحرم عليهن أن يفعلن أو يقلن شيئاً خفية، إن كان مما يصح أن يسجل في يومية المنزل" (39).
وأحب أغسطس دروسس ابن ليفيا، وتبناه ورباه، وكان يسره أن يورثه ثروته وملكهُ، وكان موت هذا الفتى في سبابهِ من أولى مآسي الإمبراطور. أما تيبيريوس فقد كان يحترمهُ ولكنه لا يحبهُ، ذلك بأن تيبيريوس خليفة أغسطس كان صلفاً مفرطاً في ثقتهِ بنفسهِ، ينزع إلى الكآبة والخفاء. ولا شك في أن جمال ابنتهُ يوليا وخفة روحها قد متعاه بالكثير من أوقات السعادة في أيام طفولتها. ولما بلغت الرابعة عشرة من عمرها أقنع أكتافيان بأن تسمح بطلاق ابنها مارسلس من زوجتهِ، وأغرى الشاب بأن يتزوج يوليا، ولكن مارسلس توفي بعد سنتين من هذا الزواج؛ وبعد أن حزنت عليهِ يوليا حزناً قصير الأجل شرعت تستمع بحرية طالما تاقت نفسها إليها. غير أن الإمبراطور الشديد الولع بعقد عقود الزواج لم يلبث أن حمل أجربا على كره منه على أن يطلق زوجته ويقترن بالأرملة المرحة (21ق. م) راجياً أن يثمر هذا الزواج حفيداً له يرثهُ بعد وفاتهِ. وكانت يوليا وقتئذ في الثامنة من عمرها، أما أجربا فكان في الثانية والأربعين، ولكنه كان رجلاً صالحاً عظيماً وكان له من الثروة ما يحبب الناس فيهِ. وقد جعلت يوليا بيته في المدينة ندوة للمرح والفكاهة، وأضحت هي روح الشباب المرح في العاصمة، على نقيض ليفيا التي كانت تتزعم طائفة المتزمتين. وانطلقت الألسن تتهم يوليا بخيانة زوجها الجديد وتعزو إليها جواباً غير معقول عن سؤال غير معقول كذلك. فقد قيل إنها سئلت لم كان أبناؤها الخمسة الذين ولدتهم لأجريا مشابهين له فأجابت: "إني لا أقبل راكباً قط إذا كانت السفينة قد امتلأت Munquam Nisi Nave Plena Tollo Vectorem (40) ". ولما مات أجربا عقد أغسطس آمالهُ على ولدي يوليا الأكبرين جيوس ولسيوس وغمرهما(10/43)
بحبه، وعني بترقيتهما إلى منصبين كبيرين لا تجيز قوانين البلاد ترقيتهما إليها في مثل سنهما. وأضحت يوليا أرملة مرة أخرى، وكانت أبرع جمالاً وأكثر ثراء من ذي قبل، فاندفعت مستهترة في كثير من مغامرات العشق أطلقت فيها ألسنة أهل رومة وجعلتها موضع تندرهم ولهوهم، وخففت عنهم ما كانوا يجدونه من الضيق بسبب "القوانين اليوليوسية". وأراد أغسطس أن يقطع ألسنة السوء عن الولوغ في عرضهِ ولعله أراد أيضاً أن يزيل ما بين زوجته وابنته من شقاق فزوجها مرة ثالثة؛ فأرغم تيبيريوس ابن ليفيا على أن يطلق زوجته الحامل فبسانيا أجربنا Vipsania Agrippina، ابنة أجربا، وأن يتزوج يوليا التي لم تكن أقل منهُ كرهاً لهذا الزواج (9ق. م). وبذل هذا الشاب-وكان من الطراز الروماني القديم-غاية جهدهِ لكي يكون زوجاً صالحاً، ولكن يوليا لم تلبث أن امتنعت عن بذل أي جهد للتوفيق بين حياتها الأبيقورية وحياتهِ الرواقية، وعادت إلى مغامرات الحب الخفية. وصبر تيبيريوس على هذه الفضائح وكظم غيظه إلى حين؛ وكان قانون يوليا الخاص بالزانيات Lex Julia de Adulteriis يطلب إلى زوج الزانية أن يشكوها إلى المحاكم؛ ولكن تيبيريوس عصى هذا القانون لكي يرد الأذى عن واضعهِ، ولعلهُ أراد بذلك أيضاً أن يرد الأذى عن نفسهِ، لأنه هو وليفيا كانا يأملان أن يتبناه أغسطس، وأن يوليهِ زعامة الإمبراطورية من بعدهِ. ولما تبين أن الإمبراطور يؤثر عليهِ أبناء يوليا من أجربا اعتزل مناصبهِ الرسمية، وآواى إلى رودس، وعاش فيها سبع سنين معيشة الرجل العادي البسيط قضاها في الوحدة والفلسفة والتنجيم. وخلا الجو ليوليا، وكان لها من الحرية ما لم تستمتع به قط من قبل، فأخذت تتنقل من عشيق إلى عشيق حتى كان قصف عشاقها ومرحهم يملآن السوق العامة صخباً وضجيجاً طوال الليل (41).
وقاسى أغسطس وقتئذ (2ق. م)، وهو شيخ محطم في الستين من عمره،(10/44)
كل ما يقاسيه أب وحاكم يشهد بعينيهِ انهيار أسرته وشرفه وشرائعه. وكانت هذه القوانين تحتم على أبي الزانية أن يتهمهما بالزنى علناً إذا لم يقم زوجها بهذا الاتهام. وقد عرضت عليهِ أدلة على سوء سلوكها، ولما أعلن أصدقاء تيبيريوس أنهم سيتولون هم اتهام يوليا أمام المحاكم إذا لم يتهمهما أغسطس، قرر أن يسبقهم إلى العمل؛ فأصدر قراراً ينفي ابنتهُ إلى جزيرة بندتيريا Pandateria، وهي صخرة جرداء بالقرب من شاطئ كمبانيا، في الوقت الذي بلغ فيهِ مرحها وفسادها ذروتهما، وأرغم أحد عشاقها وهو ابن من أبناء أنطونيوس أن ينتحر، ونفى عدداً آخر من العشاق خارج البلاد. وقتلت فوبي Phoebe إحدى معتوقات يوليا نفسها شنقاً مفضلة ذلك على الشهادة عليها. ولما سمع الوالد المنكوب بهذا النبأ قال:
"وددت لو أني كنت والد فوبي ولا أكون والد يوليا"
وكان ولداها جيوس ولوسيوس قد سبقاها إلى الدار الآخرة بزمن طويل؛ فأما لوسيوس فقد توفي في مرسيليا في العام الثاني قبل الميلاد على أئر مرض من الأمراض، وأما جيوس فقد مات من جرح أصيب بهِ في أرمينية (4ب. م). وألفى أغسطس نفسهُ في شيخوختهِ من غير أنيس ولا وريث، في الوقت الذي كانت فيهِ ألمانيا، وبانونيا، وغالة تُهدد بالانقضاض عليهِ، فاضطر على الرغم منهُ إلى استدعاء تيبيريوس (2ب. م)، وتبناه، وأشركه معهُ في الحكم، وأرسلهُ لإخماد نار الثورة؛ ولما عاد في العام التاسع بعد الميلاد بعد حروب طاحنة مظفرة دامت خمس سنين أقرت رومة، وكانت تحقد عليهِ لتزمتهِ، بأن تيبيريوس قد شرع يحكم البلاد وإن كان أغسطس لا يزال زعيمها.
وبعد فإن آخر مآسي الحياة أن تدوم مأساتها على الرغم من صاحبها-أي أن يعيش الإنسان بعد أن يخسر كل شيء، وأن يُحرم حتى الموت. ولم يكن أغسطس، إذا نظرنا إلى عدد السنين وحدهُ، قد بلغ أرذل العمر حين أخرجت يوليا من البلاد، فقد كان غيره من الرجال وهم في سن الستين أقوياء(10/45)
أشداء؛ أما هو فقد حيي أكثر من حياة، ومات أكثر من ميتة، مذ جاء إلى رومة غلاماً في الثامنة عشرة من عمرهِ ليثأر لمقتل قيصر وينفذ وصيتهِ. وكم من حرب خاض غمارها من ذلك الحين، وكم من هزيمة أوشكت أن تحيق بهِ، وما أكثر ما عانى من آلام وأمراض، وتعرض لمؤامرات وأخطار، وما أكثر ما شاهد من مرارة الخيبة، وانهيار أغراضه النبيلة وتبددها؛ وقد حدث له كل ذلك في فترة لا تزيد على أربعين عاماً، ملئت كلها بالآلام والمنغصات، ورأى فيها آمالهُ تضيع أملاً بعد أمل، وأعوانهُ يُختطفون من واحداً بعد واحد، حتى اختطف من آخر الأمر تيبيريوس العنيد الشجاع نفسهُ! ولعله كان يرى وقتئذ أنهُ كان خيراً له وأحكم أن يموت ميتة أنطونيوس في أوج العظمة وبين ذراعي حبيبتهِ. وما من شك في أنه كان يتحسر إذا ما عاد بذاكرتهِ إلى تلك الأيام الجميلة، حين كان قلبه يفيض بالسعادة إذا رأى يوليا وأجربا من حولهُ، أو شاهد أحفادهُ يمرحون ويلعبون في أرض قصرهِ. وها هو ذا يرى يوليا أخرى ابنة ابنته قد شبت عن الطوق، وأخذت تسير سيرة أمها، وكأنها أخذت على نفسها أن توضح للناس جميع ما ورد في أشعار صديقها أوفد من أفانين العشق. ولما جاءت أغسطس الأدلة القاطعة على أنها زانية نفاها في عام 8ب. م إلى جزيرة في البحر الأدرياوي، ونفى أوفد في الوقت نفسهُ إلى تومي Tomi على شاطئ البحر الأسود؛ ويروى أن الإمبراطور اليائس الضعيف قال وقتئذ: "يا ليتني لم أتزوج قط، أو يا ليتني مت دون أن يكون لي ولد! " وقد فكر في بعض الأحيان أن يميت نفسه جوعاً.
ولاح له أن الصرح الذي شاده قد انهار من أساسهِ، ذلك أن السلطات التي اضطلع بها لكي يحفظ الأمن والسلام في ربوع البلاد قد أضعفت مجلس الشيوخ والجمعيات التي استمد منها هذه السلطات، حتى فقدت كل مقومات الحياة. فقد مل الشيوخ التصديق على ما يطلب إليهم التصديق عليهِ كما ملوا إطراء أغسطس وتملقهُ، فلم يعودوا يحضرون الجلسات. وأما الجمعيات فلم تكن يجتمع فيها إلا حفنة من المواطنين، وأصبح الموظفون الأكفاء ينفرون من المناصب التي(10/46)
كانت من قبل مطامع الرجال المبدعين المبتكرين بما تخلعهُ عليهم من الجاة والسلطان، وأضحى هؤلاء يرونها من دواعي الغرور الكاذب الكبير الأكفاء. وحتى السلم التي بسط أغسطس لواءها على البلاد، والأمن الذي وطد دعائمه في رومة، قد أضعفا قوى الشعب وأوهنا عزيمتهُ، فلم يكن أحد يرغب في الانضمام إلى الجيش، أو يعترف بأن الحرب شر محتوم، وأن لا بد من خوض غمارها من آن إلى آن؛ وحل الترف محل البساطة في العيش، والعلاقات الجنسية الطليقة محل الأبوة والأمومة، وأخذ الشعب العظيم يسير مسرعاً بإرادتهِ المضمحلة المنهوكة في طريق الفناء.
وكان الإمبراطور الشيخ يشهد هذه المآسي ويشعر بها ويدركها حق الإدراك. ولم يكن في وسع أحد من الناس أن يقول لهُ وقتئذ إن الزعامة العجيبة الحاذقة التي أنشأها ستهب الإمبراطورية الرومانية أطول فترة من الرخاء عرفها البشر في تاريخهم كلهُ، وإن السلم الرومانية التي بدأت في صورة السلم الأغسطسية ستعد في عصور التاريخ المقبلة أجل الأعمال في تاريخ الحكم والسياسة رغم ما فيها من العيوب الكثيرة وعلى الرغم من أنه قد جلس على العرش في أثنائها بضعة ملوك بلهاء. لقد كان أغسطس وقتئذ يعتقد، كما يعتقد ليوناردو دافنشي، أنه أخفق فيما كان يبتغيهِ.
ووافتهُ المنية وهو هادئ ساكن في نولا Nola، وكان قد بلغ السادسة والسبعين من عمره (14ب. م)، وقال لأصدقائهِ الذين التفوا حولهُ وهو على فراش الموت تلك الكلمات التي طالما اختتمت بها الملهاة الرومانية: "والآن وقد أتقنت تمثيل دوري، فصفقوا بأيديكم وأخرجوني من المسرح بتصفيقكم"، ثم عانق زوجتهُ وقال لها: "تذكّري عشرتنا الطويلة يا ليفيا. الوداع".
ثم فاضت روحهُ بعد هذا الوداع البسيط (42). وبعد بضعة أيام من وفاتهِ حملت جثته في شوارع رومة على أكتاف الشيوخ إلى ميدان المريخ حيث أحرقت بينما كان أطفال كبار الأسر في البلاد يرتلون ندبة الأموات.(10/47)
الباب الثاني عشر
العصر الذهبي
30ق. م-18م
الفصلُ الأوّلُ
الحافز الأغسطي
إذا كان والسلام أكثر ملاءمة لإنتاج الآداب والفنون من الحروب والقلاقل، فإن الخرب والهزات الاجتماعية العنيفة تزيل الثرى من حول نبات الفكر، وتغذي البذور التي تنضج في أوقات السلم. والحياة الهادئة لا تخلق الأفكار العظمية ولا عظماء الرجال، ولكن الأزمات القاسية والكفاح من أجل البقاء تقتلع موات الأشياء من جذورها وتجعل نماء الآراء والأساليب الجديدة. والسلم التي تعقب النصر في الحرب فيها من الحوافز والدوافع ما في دور النقاهة السريع من حيوية وقوة، والناس في هذه الفترة يبتهجون لمجرد أنهم أحياء وكثيراً ما يرفعون عقيرتهم بالغناء.
حمد الشعب لأغسطس أنه عالج سرطان الفوضى الذي كان يقوض دعائم حياتهم المدنية وإن كان قد استعان على ذلك بجراحة كبرى. وقد دهشوا حين ألفوا أنفسهم وقد أثروا إثراء سريعاً بعد ما حل بهم من الخراب، وتاهوا كبرياء وحين وجدوا أنهم، رغم ما كانوا يرزحون منذ قليل من ضعف واضطراب، لا يزالون سادة المعروف لهم. وأخذوا يعودون بنظرهم إلى تاريخهم، من بدايته إلى الوقت الذي يعيشون فيهِ، من عهد منشئ رومة الأول إلى عهد معيد(10/48)
حياتها ومجدها، وقالوا إنه تاريخ عجيب حقاً، وإنه أشبه ما يكون بملحمة شعرية. ولم يثر دهشتهم أن يصوغ فرجيل وهوراس حمدهم ومجدهم وزهوهم شعراً، وأن يصوغه ليفي نثراً.
وخير من ذلك كلهُ أن الأقاليم التي فتحوها إلا القليل منها لم يكن يسكنها أقواهم همج غير متحضرين، فقد كان جزء كبير منها يشمل التي تثقفت بالثقافة اليونانية-فكانت ذات لغة رقيقة، وأدب سام، وعلم عظيم، وفلسفة ناضجة، وفن نبيل. وأخذت هذه الثروة الروحية وقتئذ تتدفق على رومة، وتثير في أهلها الرغبة في تقليدها ومنافستها، وتبعث في لغتها وآدابها الحياة والنماء، فسرت إلى المفردات اللاتينية عشرة آلاف كلمة يونانية، ودخلت الأسواق الرومانية عشرة آلاف تمثال ونقش وهيكل وشارع وبيت.
وأخذت الأموال تتنقل إلى الطبقات العليا، وإلى الشعراء والفنانين، من أيدي الذين استولوا على كنوز مصر، ومن ملاك الأراضي الإيطالية الغائبين عنها، ومن الذين يستغلون موارد الإمبراطورية وتجارتها. وشرع الكتاب يهدون مؤلفاتهم إلى الأغنياء يرجون بذلك أن ينالوا أعطية تعينهم على مواصلة أعمالهم الأدبية، فأهدى هوراس أغانيه إلى سالست، وإيليوس لاميا Aelius Lamia ومانليوس تركواتس Manilius Turquatus وموناتيوس Munatius، وجمع مسالا كورفينوس Massala Corvinus حولهُ طائفة من المؤلفين كان نجمهم للامع تيبلس Tibullus، واستعاد ماسناس ثروته وقيمة شِعرهِ بما قدمهُ من العطايا لفرجيل وهوراس وبروبيرتيوس Propertius؛ وظل أغسطس حتى سنيهِ الأخيرة التي استولى عليهِ فيها الاضطراب والغيظ يجزل العطاء للأدباء، فكان يسره أن تتحول إلى الآداب والفنون تلك القوى التي كانت سبباً في اضطراب السياسة، فكان يجزل العطاء للمؤلفين ليؤلفوا الكتب، إذا ما تركوه يحكم الدولة كما يشاء. وقد ذاعت أنباء سخائهِ على الشعراء فاجتمعت حوله طائفة كبيرة منهم تسير في ركابهِ أينما سار.(10/49)
وأصرَّ شاعر يوناني على أن يتعقبه كلما خر ج من قصرهِ كل يوم، ويعرض عليه أبياتاً من الشعر، فما كان منه في يوم من الأيام إلا أ، وقف وهو خارج من القصر وكتب هو بعض أبيات من عندهِ، وأمر أحد أتباعه أن يضعها في يد الشاعر اليوناني، فعرض الشاعر عليهِ بضعة دنانير وقال إنهُ يأسف لأنهُ لا يستطيع أن يقدم له أكثر منها، فأجازه قيصر على فكاهتهِ لا على شعرهِ بمائة ألف سسترس (1).
ونُشر من الكتب في ذلك الوقت ما لم ينشر مثله في أي عصر من العهود الماضية. أما الشعر فأصبح عمل كل إنسان فيلسوفاً كان أو أبله (2). وإذ كان المقصود بالشعر كله وبمعظم الكتب أن يقرأ على الناس بصوت عالٍ، فقد كانت تُعقد الاجتماعات من الأصدقاء الذين يُدعون لهذا الغرض، أو من الجماهير ليقرأ عليهم المؤلفون ثمار قرائحهم. وكان يحدث في أوقات التسامح، وهي نادرة، وأن يقرأ المؤلفون هذه الثمار بعضهم على بعض. وكان جوفنال Juvenal يقول إن من الأسباب التي تضطره لسكنى الريف هو أن يفر من الشعراء الذين تزدحم بهم رومة (3). وكان الكتاب يجتمعون في محال بيع الكتب التي يزدحم بها حي الأرجليتم Argiletum ليحصلوا على عدد من أنجبتهم البلاد من عباقرة الأدب، بينما كان المفلسون من محبي الكتب يقرؤون خلسة نتفاً من الكتب التي يعجزون عن شرائها. وكانت الإعلانات يُلصق على الجدران معلنة أسماء الكتب الجديدة وأثمانها, فكان المجلد الصغير يُباع بأربعة سسترات أو خمسة، والمجلد المتوسط يُباع بعشرة (نحو ريال أمريكي ونصف الريال)؛ أما الكتب الأنيقة كحكم مارتيال Martial والتي كانت تُزين في الغالب بصورة مؤلفيها فكان الواحد منها يُباع بخمسة دنانير أو نحوها (3 ريالات (4)). وكانت الكتب تصدر إلى جميع أنحاء الإمبراطورية أو تُنشر في رومة، وليون، وأثينة والإسكندرية في وقت واحد (14). وقد اغتبط مارتيال(10/50)
من أن كتابه يُشترى ويباع في بريطانيا. وكان لمعظم الناس في ذلك الوقت حتى الشعراء أنفسهم وكتبات خاصة ويصف أوفد مكتبته وصفاً ينم عن تعلقه بها. ويُستدل من أقوال مارتيال على أن المولعين باقتناء الكتب قد وجدوا حتى في ذلك العهد السحيق، فكانوا يجمعون النسخ الأنيقة الفخمة والمخطوطات النادرة؛ وقد أنشأ أغسطس دارين من دور الكتب العامة، وحذا حذوه تيبيريوس، وفسبازيان، ودومتيان Domitian، وتراجان، وهدريان، فلم يحل القرن الرابع قبل الميلاد حتى كان في رومة وحدها ثمان وعشرون من هذه الدور. وكان الأجانب من الطلاب والكتاب يُقبلون عليها وعلى المحفوظات العامة للدرس والبحث؛ فأقبل ديونيشيوس من هليكرنسس Halicarnassus، وديودور من صقلية، وأخذت رومة تنافس الإسكندرية في الحياة العامة، وأضحت العاصمة الأدبية للعالم الغربي.
وكان هذا الازدهار سبباً في تحول الأدب والمجتمع كله عما كانا عليهِ من قبل، فعلت مكانة الآداب والفنون، وأخذ النحاة يحاضرون عن الأحياء من المؤلفين، وكان الناس يُنشدون مقطوعات من أقوالهم في الطرقات، والكتاب يختلطون بكبار الحكام وبنساء الطبقات العالية في الندوات الخاصة إلى حد لم يشهد التاريخ له نظيراً من بعد إلا في عصر ازدهار الآداب في فرنسا. وأضحى الأشراف أنفسهم رجال أدب، كما أضحى الأدب نفسه أرستقراطياً، وحل محل فجور إينوس، وبلوتس، ولكريشيوس العارم جمال رقيق أو تعقيد بغيض في التعبير والتفكير. وامتنع الكتاب عن الاختلاط بالجماهير، فامتنعوا عن وصف أساليبهم في الحياة وعن التحدث بلغتهم؛ فبدأ الأدب ينفصل عن الحياة انفصالاً أفقد الآداب اللاتينية ما كان لها من حيوية. وأضحت الآداب تُصاغ على الأنماط اليونانية، كما كانت موضوعاتها تؤخذ من التقاليد اليونانية أو من بلاط أغسطس. وكان الشعراء إذا بقي لديهم وقت بعد وصف الرعاة على نحو ما كان يفعل ثيوكريتس، أو الحب كما كان يفعل أناكريون Anackreon،(10/51)
يقضونهُ في التغني بجمال الزرع وبفضائل الآباء. ومجد رومة وعظمة الآلهة. وسار الأدب في ركاب الحكم، وأضحى مواعظ تدعو الأمة إلى الاستمساك بالأفكار الأغسطية.
وكانت البلاد قوتان تقاومان تسخير الأدب لخدمة الدولة على النحو السالف الذكر. أولاهما "جوع هوراس البغيضة الدنسة" التي كانت تحب الأدب القديم والمسرحيات القديمة وما فيها من هجوٍ لاذع وتجريح وتفضلهما على جمال الأدب الجديد المعطر المنمق. أما القوة الثانية فكانت دنيا الأراذل والعاهرات، دنيا المرح والرذيلة، التي كانت تنتمي إليها كلوديا ويوليا. وقد ثارت هذه الفئة الغنية ثورة جامحة على القوانين اليوليوسية، وكانت تعارض كل إصلاح خلقي، وكان لها شعراؤها، ومجامعها ومعاييرها الأخلاقية والاجتماعية. وأخذت القوتان المتعارضتان تتطاحنان في الأدب كما تتطاحنان في الحياة، فتلتقيان تارة كما التقتا في تيبلس، وبروبيرتيوس، وتقاومان تُقى فرجيل وعفته ببذاءة أوفد وجرأتهِ، وتقضيان على يوليا وابنتها (1) وعلى شاعر بالنفي من البلاد، وتظلان في هذا التطاحن حتى تُنهِك كلتاهما الأخرى في العصر الذهبي. لكن ضمائر الأحداث العظيمة، وما هيأتهُ الثروة والسلم للناس من فراغ أطلق قرائحهم، وعظمة العالم الذي كان يدين لرومة بالطاعة، كل هذا قد غلب على ما في طبيعية الدولة من جمود، وأنتج عصراً ذهبياً ظل الناس في مستقبل الأيام يرون أنهُ أخرج أكمل الأدب طرا في صورتهِ ولفظهِ.
_________
(1) يقصد يوليا ابنة أغسطس وابنتها يوليا. (المترجم)(10/52)
الفصل الثاني
فرجيل
ولد فرجيل أحب الرمان إلى القلوب في عام 70ق. م في ضيعة قرب منتوا Mantua، حيث يتعرج نهر منسيو Mincio ويتجه على مهل نحو البو. ولم تنجب العاصمة من بعدهِ إلا عدداً جد قليل من العظماء، فقد كانوا في القرن الذي تلا مولد هذا الشاعر والذي ولد المسيح في منتصفهِ يجيئون من إيطاليا، ثم جاءوا فيما بعد ذلك من الولايات. ولعل الدم الكلتي كان يجري في عروق فرجيل لأن الغاليين سكنوا منتوا قبل مولدهِ بزمن طويل. وكان هو من الوجهة القانونية غاليَّ المولد لأن أهل غالة الجنوبية لم يمنحوا حق المواطنية الرومانية على يد قيصر إلا بعد مولد باثنين وعشرين عاماً. ولعل هذا هو الذي جعل هذا الشاعر الذي كان أفصح من تغنى بعظمة رومة ومصيرها لا يذكر فيما بعد شيئاً عما يتصف بهِ الجنس الروماني من قوة الجسم وقدرة على مغالبة الصعاب، بل يتغنى بما في خلق الكلت من تصوف ورقة ورشاقة، وهي صفات قل أن يجدها الإنسان في العنصر الروماني الأصيل.
وكان والده كاتب محكمة، فادخر من مرتبهِ ما يكفي لشراء ضيعة وتربية النحل فيها، وقضى الشاعر طفولته في هذه البيئة الهادئة الطنانة، ولذلك ظلت أشجار الشمال الظليلة ومياهه الغزيرة عالقة بخيالهِ بعد أن شب وترعرع، ولم يكن يحس بالسعادة الحقة إلا بين تلك الحقول والمجاري المائية. ولما بلغ الثانية عشر من عمره أرسل إلى المدرسة في كرمونا Cremona، ثم أرسل في الرابعة عشر إلى ميلان، وفي السادسة عشر إلى رومة؛ وهنا درس البلاغة وما يتصل بها من الموضوعات على الرجل الذي درسها عليهِ أكتافيان(10/53)
فيما بعد. والراجح أنه حضر بعدئذ محاضرات Siro الأبيقوري في نابلي، وبذل غاية جهده ليتقبل فلسفة اللذة، ولكن نشأته الريفية حالت بينهُ وبين هذا الهدف، ويلوح أنه عاد إلى موطنه في الشمال بعد أن أنم دراسته، وذلك لأننا نجده في العام الرابع بعد الميلاد يسبح في الماء لينجو من جندي اغتصب ضيعة أبيهِ؛ فقد صادرها أكتافيان وأنطونيوس لأن هذه البلاد انتصرت إلى أعدائها. وحاول أسنيوس بليو Asinius Pollio العالم وحاكم غالة الإيطالية أن يرد الضيعة إلى مالكها ولكنه عجز، فعوضه عن ذلك بأن تولى رعلية الشاب فرجيل وشجعه على الاستمرار في كتاب "المختارات Eclogues" وهي القصائد التي كان ينشئها في ذلك الوقت.
ولم يكد يحل عام 37 حتى كان اسم فرجيل على كل لسان في رومة. ذلك أن المختارات نُشرت قبيل ذلك الوقت وتقبلها أهل رومة بقبول حسن، وكانت إحدى الممثلات قد أنشدت أبياتها على المسرح، وصفق لها النظارة تصفيقاً ملؤه الحماسة والإعجاب (6). وموضوع القصائد هو وصف الرعي على نمط قصائد ثيوقريطس Theocritus، ونجد فيها أحياناً ألفاظها نفسها؛ وهي جميلة الأسلوب والتوقيع وأنغامها أجمل الأنغام السداسية الأوزان التي استمعت لها رومة في تاريخها كلهُ، وهي مليئة بالحنان التأملي، والحب التخيلي. وذلك أن الشاب وإن قضى شطراً كبيراً من حياتهِ في العاصمة قد انفصل عنها زمناً يكفي لأن يجعلهُ يمجد حياة الريف ويعدها المثل الأعلى للحياة الحقة. وكان من أثر شعرهِ أن أصبح كل إنسان يسره أن يتخيل نفسه راعياً يسير مع قطعانهِ على سفوح الأبنين صاعداً أو نازلاً، ويحطم قلبهُ بالحب وصد الحبيب.
وكان أكثر واقعية من هذه الأشباح الثيوقريطية (1) ما كان في شعر فرجيل
_________
(1) أي الشبيهة بالأشباح التي يصفها في شعرهِ ثيوقريطس شاعر الرعاة اليوناني الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد. (المترجم)(10/54)
من وصف للمناظر الريفية. وقد مجد فرجيل هذه المناظر أيضاً كما مجد مناظر الرعي واتخذها هي الأخرى مثلاً أعلى للحياة؛ ولكنه هنا لم يكن مقلداً، فقد استمع من قبل إلى أغاني الخطاب الشهوانية، وشهد بعينيهِ النحل القلق يحوم حول الأزهار (8)، وعرف يأس الزراع الخالي البال الذي خسر أرضه كما خسر آلاف الناس أراضيهم في تلك الأيام (9). على أن أهم من هذا كلهُ كان شديد الإحساس بما كان يرتجيهِ ذلك العصر من القضاء على التخريب والحرب. وكانت الكتب السبيلية Sibylline قد تنبأت بأن عصر زحل الذهبي سيعود مرة أخرى بعد العصر الحديدي؛ ولما أن ولد في عام 40ق. م وَلَدٌ لأسينيوس بليو نصير فرجيل أعلن الشاعر في الكتاب الرابع من المحتارات أن مولده سيكون بداية المدينة الفاضلة فقال:
والآن سيعود العصر الأخير الذي (يبش بهِ) نشيد كومية (سبيل)، وها هي ذي الأحقاب العظيمة المتعاقبة تولد من جديد وتعود العذراء (1)، ويعود حكم زحل ( Saturn) وينزل من السماء العليا جيل جديد. أي لوسينا الطاهرة العفيفة (ربة المواليد)! ابتسمي للغلام الذي ولد منذ قليل، والذي سيزول في عهدهِ لأول مرة جيل جديد، وينشأ في العالم جيل الذهب. إن إلهك أبلو قد أصبح الآن ملكاً على الأرض".
وتحققت هذه النبوءات بعد عشر سنين من ذلك الوقت، فتخلص الناس من عدد الحرب الحديدية، وسيطر على البلاد جيل جديد مسلح بالذهب ومفتون بهِ؛ ولم تشهد رومة في السنين القليلة الباقية من حياة فرجيل اضطرابات جديدة، وعمها الرخاء والسعادة، وحيا الناس أغسطس ولقبوه بالمنقذ وإن لم يلقبوه أبلون. ورحب بلاط الإمبراطور- وإن لم يكن فيهِ من المظاهر العظيمة والأبهة إلا نصف ما في بلاط الملوك-
_________
(1) هي أسترئيا Astraea أو العدالة، وهي آخر من غادر الأرض من الآدميين كما ورد في أسطورة عصر زحل. (المترجم)(10/55)
بما في شعر فرجيل من تفاؤل؛ واستقدمه إليهِ ماسيناس، وأحبهُ، ورأى فيهِ أداة شعبية ينفذ بها إصلاحات أكتافيان. وكان حكمه هذا دليلاً على بعد نظره؛ ذلك أن فرجيل-كان في الثالثة والثلاثين من عمرهِ- كان يبدو وقتئذ رجلاً ريفياً سمجاً، شديد الحياء إلى حد يجعلهُ يتلعثم إذا تكلم، يتجنب الظهور في أي مكان عام يمكن أن يعرفهُ الناس فيهِ ويشيروا إليهِ، لا يطيق مجتمعات رومة الراقية الحديثة المهذارة المتطاولة. وفوق هذا فقد كان فرجيل معتل الجسم كأغسطس بل أكثر منه اعتلالاً، يشكو شكوى مستمرة من الصداع وأمراض الحلق، واضطرابات المعدة والبصاق الدموي الكثير. ولم يتزوج فرجيل قط، ويلوح أنه لم يكن أكثر إحساساً بالحب العارم الطليق من بطله إنياس. ويبدو أنه أتى عليهِ حين من الدهر كان يواسي نفسه فيهِ بالعطف على غلام من الرقيق؛ أما فيما عدا هذا فقد كان معروفاً في نابلي باسم "العذراء" (10).
وكان ماسناس كريماً في معاملة الشاعر الشاب، فأقنع أكتافيان بأن يرد لهُ ضيعتهُ، واقترح على الشاعر أن يكتب عدة قصائد يمجد فيها الحياة الزراعية. وكانت إيطاليا في ذلك الوقت (37ق. م) تجزي أشد الجزاء على تحويل كثير من أرضها الزراعية إلى مراعٍ وبساتين، وكروم؛ وكان سكستس بمبي يمنع عنها الطعام الذي يرد من صقلية وأفريقية؛ ونقص القمح ينذرها بانفجار بركان الثورة من جديد. وكانت حياة المدن توهن ما في شباب إيطاليا من رجولة، ولاح أن صحة الأمة من جميع نواحيها تتطلب العودة إلى حياة الزرع. فلما اقترح ماسيناس على فرجيل أن يكتب القصائد التي تمجد الزرع أجاب الشاعر الطلب من فورهِ، فقد كان عليماً بحياة الريف، وكان أجدر بتصوير ما فيها من جاذبية وجمال معتمداً على ما اختزنه في ذاكرتهِ من حب لها عظيم، وإن كان ضعف صحته في ذلك الوقت يحول بينه وبين احتمال ما فيها من صعاب. وخبأ(10/56)
الشاعر نفسهُ في نابلي، وبعد أن ظل يعمل سبع سنين خرج على العالم بأعظم ما أنشأه من القصائد وهي القصيدة المعروفة باسم Georgics وترجمتها الحرفية "العمل في الأرض". وسُر منها ماسيناس وجاء معهُ بفرجيل إلى الجنوب ليقابل أكتافيان، وكان وقتئذ (29ق. م) عائداً من انتصارهِ على كليوبطرة. واسترح القائد المضني في بلدة أتلا Atella الصغيرة، وأخذ يستمع أربعة أيام كاملة لألفي بيت، وهو مأخوذ بجمالها مفتتن بسحرها. هذا إلى أن القصائد تتفق مع سياسته اتفاقاً يفوق كل ما كان يتوقعهُ ماسيناس. فقد كان يعتزم الآن أن يسرح الجز الأكبر من جيوشهِ الجرارة التي ساد بها العالم، وأن يعمل على أن يستقر جنوده المضرسون في الأرض فيستطيع بذلك أن يهدئ بالهم، وأن يطعم المدن الإيطالية، ويحفظ كيان الدولة، كل ذلك بفلح الأرض في الريف. وأصبح فرجيل من ذلك الوقت حراً في أن يفكر في الشعر دون غيره.
في هذه القصائد نرى فناناً عظيماً يعالج أشرف الفنون بأجمعها-فن زراعة الأرض. وفيها يأخذ فرجيل عن هزيود Hesiod وأراتس Aratus، وكاتو، وفارو ولكنه يحول نثرهم الخشن أو أبياتهم العرجاء إلى شعر رقيق مصقول؛ وهو يطرق جميع فروع الفلاحة ويفيها حقها-فيتحدث عن أنواع التربة ووسائل علاجها، وفصول الزرع والحصاد، ويبحث في غرس أشجار الزيتون والكروم، وتربية الماشية والخيل والضأن، والعناية بالنحل. ويستهويه كل عمل من أعمال الزراعة ويثير اهتمامه ويستحوذ على فكرهِ حتى ليحتاج إلى أن يجد نفسه من الانهماك في الموضوع الذي يتحدث عنه ونسيان ما بعدهِ، فيقول:
"ولكن الوقت يمر مراً سريعاً، وما مر منهُ لا يمكن أن يعود أبداً، على حين أننا نحن يسحرنا حب (موضوعنا) فنطيل الوقوف عند كل دقيقة من دقائقهِ". ولا ينسى فرجيل أن يقول كلمة عن أمراض الحيونات وطريقة علاجها، ويصف حيوانات المزرعة المعروفة وصفاً يدل على فهمه(10/57)
لطبائعها وعطفه عليها، وهو لا يفرغ أبداً من الإعجاب ببساطة غرائزها وقوة انفعالاتها، وكمال أشكالها. وهو يمجد الحياة الريفية ويجعلها هي المثل الأعلى للحياة، ولكنه لا ينسى ما فيها من تقلبات الحظوظ، ومن الجهود المضنية، والكفاح الدائم للحشرات، وتناوب الجدب والعواطف، وما تسببه هذه وتلك لأهل الريف من عذاب أليم. ولكن العمل في رأيه يقهر كل شيء (12)، كما أن للجهود التي تُبذل في أعمال الزراعة غرضاً ونتيجة تكسبانها كرامة، وليس لأي روماني أن يشعر بالخجل من قيادة المحراث. ومن أقوال فرجيل إن الأخلاق الكريمة تنشأ في المزارع، وإن جميع الفضائل التي قامت على أساسها عظمة رومة قد غُرست وغُذيت في الريف، وإن الإنسان قلما يجد عملاً من أعمال إلقاء البذور ووقايتها، والغرس والعزق والحصاد إلا له ما يقابله في تنمية الروح وتقويتها، وإن الروح إذا كانت في الحقول، حيث معجزات النماء وتقلبات الجواء تنبئ عن وجود القوى الخفية، لتحس بوجود الحياة المبدعة الخالقة، وتتأثر بالإلهام الإلهي، وتدرك ضآلتها أمام عظمة هذه الحياة، وتمتلئ إجلالاً لها وتعظيماً، أسرع من إحساسها وتأثرها وإدراكها لذلك وامتلائها به في المدينة. وهنا ينشد أشهر أبياتهِ كلها، ويبدؤها بترديد صدى معاني لكريشيوس، ولكنه ينشدها بنغمة فرجيلية خالصة فيقول:
"ألا ما أسعد الرجل الذي استطاع أن يتعلم علل الأشياء، ويطأ بقدمهِ جميع الخاوف والأقدار القاسية العنيدة وصخب الجحيم الشره. ولكن الرجل الذي يعرف الأرباب الريفية بان، وسلفانوس الهرم، والأخوات الحوريات لا يقل عنه سعادة (13) ". وهو يرى أن الزارع على حق حين يسترضي الآلهة بالضحايا، ويستجلب عطفها ورضاها؛ لأن هذه الأعمال الدالة على التقى والصلاح تبعث بأعيادها وحفلاتها الضياء في أعمال الفلاحة الشاقة، وتخلع على الأرض وعلى الحياة معنى، وشاعرية وخيالاً ذا روعة.(10/58)
وكان دريدن يرى أن هذه القصائد "خير أشعار أحسن الشعراء (14) ". وهي تشترك مع De Rerum Natura في تلك الميزة النادرة الوجود وهي أنها تلقينية وجميلة معاً. ولم تأخذها رومة بجد على أنها كتاب في الزراعة، ولسنا نعرف أن أحداً ممن قرؤوها قد استبدل المزرعة بالسوق العامة؛ ولعل فرجيل إنما كتب هذه النفحات الريفية كما يظن سنكا ليطرب بها أهل المدن. ومهما يكن من شيء فقد أحس أغسطس أن قرجيل أدى الأمانة التي عرضها عليهِ ماسناس على خير وجه وأكمله، فاستدعى الشاعر إلى قصرهِ واقترح عليهِ أن يقوم بواجب أشق من الأول موضوعه أوسع وأعم من الزرع وحياة الريف.(10/59)
الفصل الثالث
الإلياذة
لقد كانت الفكرة الأولى أن يتغنى فرجيل بمعارك أكتافيان (15)، ولكن ما يفترضه القدماء من انحدار قيصر ربيب أكتافيان من الزهرة (فينوس) وإنياس هو الذي جعل الشاعر-أو لعله جعل الإمبراطور-يفكر في إنشاء ملحمة في تأسيس رومة. ثم تفتح الموضوع أمام الشاعر، فشمل الأحداث التي وقعت بعد تأسيس رومة، والتنبؤ بإنشاء إمبراطورية أغسطس، وبالسلم التي كانت أثراً من أعمالهِ. وشمل مشروع الملحمة أيضاً وصف أخلاق الرومان في أثناء هذه الأعمال المجيدة، والسعي لبث حب الفضائل القديمة في قلوب الرومان، وتصوير بطلها في صورة الإنسان الذي يعظم الآلهة، ويهتدي بهديها، ويدعو إلى الإصلاحات والمبادئ الأخلاقية التي دعا إليها أغسطس فيما بعد.
فلما رسم فرجيل خطوط الملحمة الرئيسية آوى إلى عدة أماكن نائية منعزلة في إيطاليا، وقضى العشر السنين التالية (29 - 19) في تأليف الإنياذة. وكان يكتب فيها على مهل مخلصاً في عملهِ إخلاصاً فلوبير Flaubert، فيملي بضعة أسطر في صدر النهار ثم يعيد كتابتها في الأصل.
وكان أغسطس في هذه الأثناء ينتظر إتمام الملحمة بفارغ الصبر، وكثيراً ما كان يسأل عما تم منها، ويلحُّ على فرجيل بأن يبعث إليهِ كل ما يفرغ من كتابتهِ. وظل الشاعر يستمهله أطول وقت مستطاع، ولكنه أخيراً قرأ لهُ الكتب الثانية والرابعة والسادسة منها. ولما سمعت أكتافيا أرملة أنطزنيوس الفقرة التي تصف ابنها مرسلس الذي مات من عهد قريب، أغمي عليها (16).
ولم تتم الملحمة ولم تراجع المراجعة الأخيرة، لأن فرجيل سافر إلى بلاد(10/60)
اليونان في عام 19ق. م والتقى بأغسطس في أثينة، وأصيب بضربة شمس في مجارا، فقفل راجعاً إلى بلدهِ بعد أن وصل برنديزيوم بزمن قليل، وطلب وهو على فراش الموت إلى أصدقائهِ أن يتلفوا مخطوط الملحمة قائلاً إنه كان يحتاج إلى ثلاث سنين على الأقل تقديراً لصقلها وإعدادها للنشر، ولكن أغسطس أمرهم ألا ينفذوا هذه الوصية.
أما قصة الإنياذة فيعرفها كل تلميذ. وخلاصتها أنه بينما كانت مدينة طروادة تحترق يظهر شبح هكتور القتيل إلى "إنياذ الصالح" قائد أحلافه الدروانيين، ويأمره أن يستعيد من اليونان ما كان في طروادة من "أشياء مقدسة وآلهة منزلية". وأهمها كلها البلاديوم Palladium أو صورة بلاس أثيني Pallas Athene؛ وكانوا يعتقدون أن بقاء الطرواديين موقوف على الاحتفاظ بها. وفي ذلك يقول هكتور Hector بطلهم المعروف: "ابحثوا عن هذه الصورة" الرموز المقدسة "لأنكم بعد أن تطوفوا بالبحار ستقيمون لكم آخر الأمر مدينة عامرة" (17). ويفر إنياس مع أبيه الشيخ أنكيسيز Anchises وابنه اسكونيوس، فيركبون سفينة تقف بهم في اماكن مختلفة، ولكن أصوات الآلهة تناديهم على الدوام أن يواصلوا السير. وتدفعهم الريح إلى مكان قريب من قرطاجنة حيث يجدون أميرة فينيقية تُدعى ديدو Dido تشيد مدينة جديدة. (وبينما كان فرجيل يكتب هذا كان أغسطس ينفذ مشروع قيصر وهو إعادة بناء قرطاجنة). ويقع إنياس في حب الأميرة، وتهب عاصفة مواتية فتتيح لهما الفرصة لأن يلجأا معاً إلى كهف واحد، ويتم بينهما ما تعده ديدو زواجاً، ويقبل إنياس تفسيرها هذا إلى حين، ويشترك هو ورجاله وهم راضون في بناء المدينة، ولكن الآلهة القاسية، التي لا نراها قط في الأساطير القديمة تعني كثيراً بالزواج، وتنذره بالسفر وتقول له إن هذه ليست هي البلدة التي يجب عليهِ أن يتخذها عاصمة لهُ. ويصدع إنياس بما يؤمر، ويترك الملكة الحزينة وهو يودعها بهذه الألفاظ الشبيهة بالغناء:(10/61)
"لن أنكر قط أيتها الملكة أنك تستحقين مني ما تعجز الألفاظ عن التعبير عنه ... إني لم أمسك قط مشعل الزوج ولم أقسم يمين الزواج ... ولكن أبلو قد أمرني الآن بركوب البحر ... فامتنعي إذن عن أن تهلكي نفسك وتهلكيني بهذه الشيكات. إني لا أسعى إلى إيطاليا بمحض إرادتي" (18).
"لا أسعى إلى إيطاليا بمحض إرادتي"، هذا هو سر القصة ومحورها الذي تدور عليهِ، ونحن الذين نحكم على فرجيل وبطله بعد ثمانية قرون من كتابة الأدب العاطفي وقراءته، نعلق على الحب الروائي، وعلى العلاقات بين غير الأزواج، وأكثر مما كان يعلقه عليها اليونان الرومان. فقد كان الزواج عند الأقدمين رابطة بين الأسر أكثر مما كان رابطة بين الأجسام والأرواح، وكانت مطلب الدين أو الوطن أسمى من حقوق الأفراد ونزواتهم. ويعطف فرجيل على ديدو ويسمو إلى ذروة البلاغة في فقرة من أجمل فقرات ملحمته حين يتحدث عنها وهي تلقي نفسها فوق كومة من الحطب المعد لحرق الموتى وتحرق نفسها حية؛ ثم يسير في ركاب إنياس إلى إيطاليا.
وينزل القرطاجنيون إلى البر عند كومي ثم يسيرون إلى لاتيوم حيث يستقبلهم ملكها لاتنس ويرحب بهم. وكانت ابنته لا فينيا Lavinia مخطوبة لترنس Turnus وهو شاب وسيم وزعيم الروتوليين المجاورين لهذه المدينة؛ ويوقع إنياس الجفوة بينها هي وأبيها وبين خطيبها؛ ويعلن ترتس الحرب عليهِ وعلى لاتيوم، وتنشب معارك حامية الوطيس. وتعتزم سيبيل الكومائية Cumaean Sibyl أن تقوي إنياس وتشجعه، فتأخذه إلى ترتاروس بطريق بحيرة إيرنس Aernus. وكما أن فرجيل قد كتب ملحمة عن تجوال إنياس على نمط أوذيسية هومروس وأخرى قصيرة عن حروبه شبيهة بالإلياذة، فإنه الآن يستوحي رحلة أوديسيوس في الجحيم، ويصبح هو نفسه مثلاً يحتذيهِ دانتي ويهتدي بهديهِ في ملهاته المقدسة. وفي هذا يقول فرجيل: "ما أسهل النزول إلى الجحيم Facilis Descensus(10/62)
Averni " ولكن بطله يجد الطريق إليها وعراً شديد العذاب، كما يجد العالم السفلي معقداً شديد الاختلاط. وفي هذا العالم يلتقي بديدو، فتشيج بوجهها عما عما يبثه من وجدهِ؛ ويشهد ضروب العذاب التي يعاقب بها من ارتكبوا الذنوب على وجه الأرض، والسجن الذي يُعذب فيهِ أنصاف الآلهة (1) المتمردون كما يُعذب الشيطان. ثم تأخذه سيبيل إلى أيك السعداء حيث ينعم الصالحون في الأودية الخضراء بالنعيم السرمدي. وهنا يشرح له والده أنكيسيز، الذي توفي في الطريق، أسرار الجنة، والمطهر والجحيم، ويصور له في أوضح صورة وأشملها مجد رومة وأبطالها في مستقبل الأيام. وتكشف له الزهرة في رؤيا أخرى عن موقعة أكتيوم وانتصارات أغسطس، وبعد أن تنتعش روح إنياس بهذه المناظر يعود إلى عالم الأحياء، ويقتل ترنس، وينشر الموت من حوله ببطشهِ وشدة بأسه. ويتزوج بلفينيا الخيالية، ثم يموت والدها فيرث عرش لاتيوم، ولا يلبث أن يخر صريعاً في إحدى المعارك، وينتقل إلى جنان الفردوس، ويشيد ابنه أسكانيوس Ascanins ألبالنجا لتكون عاصمة جديدة للقبائل اللاتينية، ومنها يخرج من نسلهِ رميولرس وريموس ليشيدا مدينة رومة.
ويبدو أن من سوء الأدب أن ينتقد الإنسان نفساً كريمة رفيعة كنفس فرجيل لما تغمر بهِ بلدها وإمبراطورها من ثناء وتعظيم، أو أن ينقب الإنسان عن عيوب في ملاحم لعله لم يرغب قط في كتابتها، ولم يعش ليتمها. ولا حاجة إلى القول بأنه كتبها على نمط الملاحم اليونانية، وتلك هي السنة جرى عليها الأدب الروماني كلهُ إذا استثنينا منه الهجاء والمقالة. غير أننا نستبيح لأنفسنا هذا القدر من النقد، وهو أن مناظر المعارك الحربية ليست إلا أصداء ضعيفة لما في مناوشات الإلياذة من قعقعة وضجيج، وأن أورورا Aurora
_________
(1) أي من كان في طبائعهم شيء من الألوهية وحاصة أولئك الأبطال الذين تصفهم الأساطير بأنهم تناسلوا من زواج الآلهة بالآدميين. (المترجم)(10/63)
لتظهر في الإنياذة بقدر ما تظهر بهِ الفجر ذات الأصابع الوردية في إلياذة هومر. ويستعير الشاعر من نئيفيوس، وإنيوس، ولكريشيوس حوادث وعبارات، وسطوراً كاملة في بعض الأحيان، كما أن أبولونيوس الرودسي Apllonius of Rhodes هو الذي يمده بالمثل الذي يحتذيهِ في حب ديدو المفجع، وهذا الأنموذج هو أرجونوتكا Argonautica. وكانت هذه الاستعارات الأدبية جائزة لا غبار عليها في عصر فرجيل، كما كانت جائزة في عصر شيكسبير، لك أنه كان ينظر إلى آداب البحر الأبيض المتوسط كلها على أنها تراث عقول البحر الأبيض المتوسط كلها، والمعين الذي تستمد منه هذه العقول. ولا جدال في أن ما تقوم عليهِ الملحمة من أساطير تتعب القارئ وتبعث في نفسهِ الملل، وذلك لأننا نضع لأنفسنا الآن أساطير أخرى جديدة؛ ولكن الذي لا شك فيهِ أيضاً أن هذه الإشارات والملحمات الإلهية التي تتخلل القصيدة كانت مألوفة محبوبة حتى لقراء الشعر الروماني المتشككين. ولسنا نجد في ملحمة فرجيل العليل ذات الشعر الهادئ السلس ما نجده في قصة هومر من حوادث دافئة، كما أننا لا نجد فيها الحقائق التي يسري فيها دم الحياة والتي تحرك جبابرة الإلياذة، أو أهل إثكا Ithaca السذج. يضاف إلى هذا أن قصة فرجيل كثيراً ما تمشي الهوينا، وأن أشخاصهُ كلهم تقريباً مرضى إلا الذين يهجرهم إنياس أو يقضي عليهم. وديدو الإنياذة امرأة حية لطيفة، خادعة، شديدة الانفعال، وترنس محارب ساذج شريف يغدر بهِ لاتنس، وتحكم عليهِ الآلهة السخيفة بموت هو غير جدير بهِ. وبعد أن يقرأ الإنسان عشر مقطوعات كلها نواح وندب، تشمئز نفسهُ من "تقي" إنياس الذي يتركه مسلوب الإرادة. ويُغتفر له عذره، ولا يولتيهِ النجاح إلا بتدخل القوى السماوية، وفوق هذا كله فإننا لا نستمتع بالخطب الطويلة التي يقتل بها الشاعر الصالحين من الرجال، والتس تكون بلاغتها سبباً آخر من أسباب مللنا، يضاف(10/64)
إلى هذا ما ندجده فيها من تمحيص هو محك الإنسانية النهائي لمعرفة الحقيقة.
وإذا شئنا أن نفهم الإنياذة على حقيقتها ونقدرها التقدير الذي هي جديرة بهِ، كان علينا أن نتذكر في كل قسم من أقسامها أن فرجيل لم يكن يكتب رواية خيالية، بل كان يكتب لرومة كتاباً مقدساً؛ وليس ذلك لأنه يقدم لها شريعة دينية واضحة، فإن الآلهة الذين يسيرون الحوادث في تمثيليتهِ من وراء الستار لا يقلون خبثاً عن لآلهة هومر، وإن لم يكونوا قريبين من البشر الفكهين قرب هؤلاء؛ بل إنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن كل ما في القصة من شر وشقاء ليس منشؤه من فيها من رجال ونساء بل منشؤه الآلهة أنفسهم. وأكبر الظن أن فرجيل لم يكن يرى في أولئك الأرباب إلا أنهم أدوات لشعرهِ، ورموز للظروف الظالمة المستبدة، والحادثات المفاجئة التي تخل بسير العالم المنتظم الرتيب؛ وهو على العموم يتذبذب بين جوف الأرباب وبين القدر اللا شخصي، فهذا يسيطر على الكائنات تارة وذلك يسيطر عليها تارة أخرى. وآلهة القرية والحقل أحب إليهِ من آلهة أولمبس، فهو لا يترك فرصة تُتاح له إلا مجد الأولى ووصف طقوسها ومراسمها، وتمنى لو استطاع الناس أن يعودوا إلى ما كانوا عليهِ من حب الآباء، والوطن والآلهة، وهو الحب الذي كانت تغذيهِ العقيدة الريفية البدائية: "أسفي على تقوى الأقدمين وإيمانهم! " غير أنه لا يؤمن بالفكرة القديمة عن الجحيم خيث يحشر الموتى جميعاً الصالح منهم والطالح، بل تخالجه أفكار أرفية (1) فيثاغورية عن تجسيد الأرواح بعد الموت، وعن الحياة في الدار الآخرة، وهو يوضح إلى أقصى حد يستطيعه فكرة الثواب في الجنة والمطهر، والعقاب في الجحيم.
لكن الدين الحقيقي في الإنياذة هو دين الوطنية، وإلهها الأعظم هو رومة
_________
(1) نسبة إلى أرفيوس وهو الشاعر الذي يقال عنه إنه كان يحرك الجماد بصوت مزماره. (المترجم)(10/65)
فمصير رومة هو المحرك لحبكة القصة، وكل ما في القصة من محن وشدائد إنما يرجع إلى "الواجب المضني واجب بعث الشعب الروماني Tantae Molis Erat Romanam Condere Gentem". والشاعر فخور بالإمبراطورية فخراً يمنعه أن يحسد اليونان على تفوقهم في الثقافة ويقول في ذلك: فلتحول الشعوب الأخرى الرخام والبرونز إلى شخوص حية ولترسم مسارات النجوم.
"أما أنت يا أبن رومة، فواجبك أن تحكم العالم، وستكون فنونك أن تعلم الناس طرائق السلم، وأن تشفق على الذليل، وتذل الفخور (20) ". وفرجيل لا يأسف على موت الجمهورية، وهو يدرك أن حرب الطبقات هي التي قضت عليها ولم يقضِ عليها قيصر؛ وهو في كل جزء من اجزاء قصيدتهِ يبشر بأن حكم أغسطس سيعيدها سيرنها الأولى، ويرحب بهِ ويصفه بأنه حكم زحل قد عاد إلى الأرض، ويعده بأنه سيُجزي على عملهِ بأن يُحشر في زمرة الأرباب. وقصارى القول أن أحداً من الناس لم يوف بما ألقي على كاهلهِ من واجب أدبي بأكمل مما وفى بهِ فرجيل.
يبقى بعد ذلك أن نسأل لم نحتفظ بحبنا الشديد لهذه الدعاوة للتقى وصالح الأخلاق، وحب الوطن، والنعرة الإمبراطورية؟ إن من أسباب هذا الحب ما نجده في كل صفحة من ورقة روح الشاعر وظرفه، وأنا نشعر بأن عطفهِ قد امتد من إيطاليا بلادهِ الجميلة إلى جميع بني الإنسان، بل إلى جميع الكائنات الحية؛ فهو يدرك آلام الطبقات العليا والدنيا، ويعرف أهوال الحرب وما يصاحبها من فحش ورذيلة، ولا ينسى أن أنبل الناس أقصرهم آجلاً، وأن ما في الحياة من أحزان وآلام، وما في "الأشياء من دموع Lacrimae Rurum" تذهب ببهجة الأيام تارة وتزيدها تارة أخرى. وهو حين يكتب عن "العندليب الذي يبكي في ظلال شجرة الحور صغارها الحراث فانتزعها من عشها قبل أن يكسوها الريش، فيقضي الليل كلهُ ينتحب، ثم يجثم على فنن ويعيد أغنيته الحزينة،(10/66)
ويملأ الغابة بها وبعوبله" (21) نقول إنه حين يفصل هذا لا يقلد لكريشيوس فحسب. وإن الذي يجذبنا نحو فرجيل مراراً وتكراراً هو ما في حديثه من جمال لا ينقطع أبداً. ولم يكن عبثاً منه أن ينكب على سطر من سطورهِ "فيلعقه بلسانه ليسويه ويصقله، كما تلعق الدبة ديسمها" (22). ولن يستطيع أحد غير القارئ الذي حاول الكتابة أن يتصور ما عاناه الشاعر من التعب حتى أكسب قصته ما فيها من نعومة وسلاسة، وزينها بكثير من الفقرات ذات الأنغام القوية الرنانة التي تطالعنا في كل صفحتين من الكتاب، وتغري القلم باقتباسها واللسان بالنطق بها. ولعل القصيدة مفرطة في جمالها المتناسق المتمائل، لأن جمال اللفظ نفسه يمل إذا أفرطت فصاخته في الطول. وفي فرجيل سحر نسائي ولكنا لا نطالع فيهِ قط ما نجده في شعر لكريشيوس من رجولة وقوة التفكير، وكما لا نجد فيهِ تلك الأمواج الصاخبة التي نراها في ذلك "البحر المتلاطم العجاج" المسمى هومر. ونحن نبدأ نفهم ما يعزى إلى فرجيل من حزن واكتئاب، حين نتصوره يدعو إلى عقائد لم يكن في وسعهِ قط أن يستعيدها في نفسهِ، ويقضي عشر سنين في كتابة ملحمة تتطلب كل حادثة من حوادثها، ويتطلب كل سطر من سطورها، ما يحتاج إليهِ الفن المصطنع من جهود، ثم يموت والأفكار تساوره بأنهُ عجز عن تحقيق غرضه، وأن خياله لم ينره وميض من الإبداع والابتكار، وأنه لم يبعث في أشخاصه نسمة الحياة. ولكن أحداً لا يجادل في أن الشاعر قد انتصر نصراً مؤزراً على أداتهِ إن لم يكن قد نال هذا النصر نفسه على موضوعهِ. وقلما بلغت الصناعة ذلك الحد الأعلى من الإعجاز الذي بلغته في شعر فرجيل.
وبعد عامين من وفاتهِ أخرج منفو وصيتهِ قصيدتهِ إلى العالم، وقام بعضهم يعيبها ويسفهها: فنشر أحد النقاد ثبتاً طويلاً بعيوبها، ونشر غيره ثبتاً آخر بما فيها منم سرقات، وأصدر ثالث ثمانية مجلدات محتوية على ما بين شعر فرجيل والشعر القديم من شبه (23). ولكن رومة سرعان ما نسيت هذه الشيوعية(10/67)
الأدبية، فوضع هوراس فرجيل هومر، ونشأت مدارس أدبية بدأت بها قرون تسعة عشر، ظل الناس فيها يحفظون الإنياذة عن ظهر قلب، وظل الناس جميعاً خاصتهم وعامتهم يهتفون باسمهِ، والصناع، والتجار، يقتبسون من شعرهِ، وشواهد القبور والجدران تنقش عليها عباراته؛ ومتنبئو الهياكل يجيبون السائلين بعبارات غاضبة يقتطعونها من أبيات ملحمته؛ وبدأت من ذلك الوقت تلك العادة التي لم تنقطع إلى عصر النهضة، عادة فتح ملحمة فرجيل فتحاً عشوائياً للبحث عن نصيحة أو نبوءة في أول فقرة تقع عليها عين الفاتح. وانتشر صيته حتى كان يعد في العصور الوسطى من السحرة والقديسين. وكيف لا وهو الذي تنبأ في التشيد الرابع بمجيء المنقذ، ووصف رومة فب الإنياذة بالمدينة المقدسة التي ستخرج منها قوة الدين وتنتشل العالم مما يتخبط فيهِ؟ ألم يصور الكتاب السادس الرهيب يوم الحشر وعذاب المذنبين، وتطهيرهم في نار المطهر، ونعيم الصالحين في الجنة؟ لقد كان فرجيل أيضاً كما كان أفلاطون ذا روح مسيحية طبيعية رغم آلهته الوثنية. وكان دانتي يعجب بعذوبة شعره، ولم يكن يسترشد بهِ في وصف الجحيم والمطهر فحسب، بل كان يسترشد بهِ أيضاً في تدفق فنه القصصي وجمال حدديثه؛ وكان ملتن يفكر وهو يكتب الفردوس المفقود وخطب الشياطين والآدميين الطنانة الرنانة؛ وكان فلتير-وهو الذي كنا نتوقع أن يكون أقسى مما كان في الحكم على فرجيل- يصف الإنياذة بأنها أجمل ما خلفه لنا الأقدمون من تراث أدبي (74).(10/68)
الفصل الرّابع
هوراس
إن من أجمل الصور التي يشهدها الإنسان في عالم الأدب-والتي تبدو فيها الغيرة بين الناس شديدة لا تفوقها إلا غيرة العشاق-هي صورة فرجيل وهو يقدم هوراس إلى ماسيناس. فقد التقى الشاعران في عام 40ق. م، حين كان فرجيل في الثلاثين من عمره وهوراس في الخامسة والعشرين، وفتح فرجيل أبواب ماسيناس بعد عام من ذلك الوقت وبقي الثلاثة بعدئذ أصدقاء أوفياء حتى فارقوا هذا العالم.
واحتفلت إيطاليا في عام 1935 بمرور ألفي عام على مولد كونتس هوراشيوس فلاكس Quintus Horatius Flaccus، وكان مولده في بلدة فنوزيا Venusia الصغيرة من أعمال أبوليا Apulia، وكان والده رقيقاً معتوقاً ارتفعت منزلته حتى أصبح جابياً-أو صياداً كما يقول بعض الناس (23). ومعنى كلمة فلاكس ذو الأذن المدلاة، وأكبر الظن أن هوراشيوس هو اسم السيد الذي كان الوالد في خدمتهِ. وأثرى العبد المعتوق بطريقة ما، وأرسل ابنه إلى رومة ليدرس البلاغة ثم أرسله إلى أثينة ليدرس فيها الفلسفة. وفي هذه المدينة انضم الشاب إلى جيش بروتس وتولى قيادة أحد الفيالق، وقال وقتئذ قالته المأثورة "إن من ألذ الأشياء ةأشرفها أن يموت الإنسان في سبيل بلادهِ Dulce et Decorum Pro Patria Mori" (26) . ولكن هوراس-وكان يقلد أركلوكس Archilochus في أغلب الأحيان-القى بدرعهِ في إبان المعركة وولى الأدبار. ولما وضعت الحرب أوزارها ألفى نفسه وقد جرد من جميع أملاكه ومن كل ما ورثه(10/69)
عن أبيهِ، "وودفعتني المسبغة إلى قرض الشعر" (27)، ولكن الحقيقة أنه كان يكسب قوته من منصب كاتب كوستر.
وكان قصيراً بديناً، ومزهواً حيياً، لا يحب السوقة ولكنه لا يجد من الثياب أو المال ما يعينه على الاختلاط بالأسواط التي نالت من التعليم ما ناله هو. وكان يخشى عواقب الزواج فأكتفى على حد قولهِ بالسراري والعشيقات؛ وهو قول قد يكون حقاً، وقد لا يكون إلا نوعاً من الترخيص الشعري اخترعه للدلالة على نضوجه. وقد كتب عن العاهرات كتابة جمعت بين حذر العلماء وتعقيد الشعراء، وظن أنه جدير بأعظم الثناء لأنه لم يُغو النساء المتزوجات (28). وإذ كان أفقر من أن يقضي على نفسهِ بالانهماك في الشهوات الجنسية فقد عمد إلى قراءة الكتبي وكتابة الأغاني باللغتين اليونانية واللاتينية، وبأصعب أوزان الشعر اليوناني وأكثرها اختلاطاً. وأطلع فرجيل على إحدى هذه القصائد وامتدحها لماسيناس. وسر الأبيقوري الرحيم من حياء هوراس وتلجلحهِ في الحديث، ووجد في سفسطتهِ الفكرية ما يدعوه إلى حبه. وفي عام 37 اصطحب ماسنياس فرجيل وهوراس وغيرهما من الصحاب في سفرة قصيرة مخترقين إيطاليا في قارب قنوي تارة، وعربة ومحمل تارة أخرى، ثم سيراً على الأقدام في بعض الأوقات. وبعد قليل من ذلك الوقت قدم ماسنياس الشاعر لأكتافيان، واقترح عليهِ أن يعينه أمين سره. فاعتذر الشاعر قائلاً إنه لا يجد من نفسه ميلاً إلى العمل. وفي عام 34 أهدى إليهِ ماسيناس بيتاً وضيعة تدر عليهِ بعض المال في الوادي السابيني بيستيكا Ustica على بعد خمسة وأربعين ميلاً من رومة. وبذلك أصبح في استطاعتة هوراس أن يعيش في المدينة أو في الريف كما يشاء، وأن يكتب كما يأمل المؤلفون(10/70)
أن يكتبوا-في الوقت الذي تحلو لهم فيهِ الكتابة، وبالعناية والجهد اللذين يحلو لهم أن يبذلوهما في كتابتهم (1).
وأقام بعض الوقت في رومة يمتع نفسه بحياة من يتسلى بمشاهدة العالم المسرع المندفع. وكان يختلط بجميع طبقات الناس، ويدرس جميع الأصناف التي تتكون منها رومة، ويفكر في حماقات العاصمة ورذائلها وهو مسرور سرور الطبيب إذا كشف علة المريض. وقد وصف بعض تلك الأصناف في كتابين من كتب هجوه (34، 30ق. م)، حذا فيهما أولاً حذو لوسليوس Lucilius، ثم خفف فيما بعد من حدتهِ وأصبح أكثر مما كان متسامحاً. وكان يطلق على هذه القصائد اسم المواعظ Sermones- وإن لم تكن مواعظ في أية صورة، بل كانت أحاديث خالية من التكلف والصناعة؛ وكانت أحياناً محاورات ودية خاصة في أشعار سداسية الوزن تكاد لغتها أن تكون هي اللغة العامية.
وقد اعترف هو نفسه بأنها نثر في كل شيء عدا الوزن، "لأنك لا تستطيع أن تطلق اسم الشاعر على رجل يكتب كما أكتب أنا أبياتاً أقرب ما تكون إلى الكلام المنثور". ونحن نلتقي في هذه الأشعار الاذعة بالأحياء من رجال رومة ونسائها، ونستمع إليهم يتحدثون كما يتحدث الرومان: فلسنا نجد فيها رعاة فرجيل وزرَّاعه وأبطاله، ولا فُساق أوفد الخرافيين وبطلاته، بل نشاهد العبد الوقح البذئ، والشاعر المزهو بنفسهِ، والمحاضر ذا الألفاظ الطنانة، والفيلسوف الشره، والثرثار الممل، والساميَّ الحريص على المال، ورجل الأعمال، والحاكم، ورجل الشارع العادي، غنشعر أنا نشهد آخر الأمر رومة الحقة. فها هو ذا هوراس يضع في قصائده لمن يشاء
_________
(1) وقد كشف المنقبون عن ضيعة هوراس في عام 1932، فإذا هي تشمل بيتاً ريفياً فسيحاً، يبلغ طوله 363 قدماً وعرضه 142، بهِ أربع وعشرون حجرة وثلاث برك للاستحمام، وعدة أبواب مزينة بالفسيفساء، وحديقة واسعة يحيط بها رواق مسقوف في خارجهِ سور. ومن وراء هذا البيت ضيعة فسيحة يعمل فيها عشرة عبيد وخمس أسر من المستأجرين.(10/71)
أن ينقب عن آثار الأقدمين القواعد التي يجب أن يسير عليها من يريد النجاح في هذه الحلبة التي تصطرع فيها الغيلان من الناس، ويضعها في صورة مرحة ولكنها مهلكة قاتلة (29). وهو يسخر من النهمين الذين يملئون بطونهم بشهي الطعام، ولكنهم لا يستطيعون المشي على أرجلهم لأنهم مصابون بالرثية (30)، ويذكر من "يمتدح الأيام الماضية" بأنه إذا جاءه إله ليعبده إلى تلك الأيام أبى وتمنع (31)، ويقول إن أحسن ما في الماضي هو علم الإنسان أنه لن يضطر إلى أن يحيا مرة أخرى. وهو يعجب كما يعجب لكريشيوس من ذوي الأرواح القلقة الذين إذا كانوا في المدن تاقوا إلى سكنى الريف، فإذا سكنوا الريف تاقوا إلى المدن، والذين لا يستطيعون أن يستمتعوا بما عندهم، لأن من الناس من عنده أكثر منهم؛ والذين لا يقنعون بزوجاتهم ويهيمون بخيالهم المفرط في العظمة وفي الحقارة معاً بجمال غيرهن من النساء اللائي أصبحن في نظر غيرهم من الرجال ولا جمال لهن. ويختتم نصائحه بقولهِ إن جنون المال هو مرض رومة القتال، ويسأل من يقضي أيامه في جمع الذهب: "لم تسخر من تنتلس لأن الماء يبتعد عن شفتيهِ الظامئتين على الدوام؟ ليس عليك إلا أن تبدل الأسماء فتنطبق القصة عليك أنت (32) " ثم يهجو نفسه أيضاً؛ فهو يصور عبده يقول له في وجههِ إنه، وهو الداعي إلى أحسن الخلق، رجل أحمق حاد الطبع لا يعرف قط ما يدور في عقلهِ أو ما يهدف أليهِ، وأنه عبد شهواتهِ ككل إنسان آخر. وما من شك في أنه يوصي نفسه، كما يوصي غيره، بسلوك الطريقة الوسطى الذهبية إذ يقول: "إن للأشياء حداً ومقياساً (34) " لا يقصر الرجل الذكي عنه ولا يتجاوزه. وهو في بداية كتاب الهجاء الثاني يشكو إلى صديق له أن المجموعة الأولى قد انتُقدت أشد النقد، فقيل فقيل إنها مفرطة في الخشونة وفي الضعف، ثم يستنصح الصديق فيقول له: "استرح" فيعترض عليهِ الشاعر بقولهِ: "ماذا؟ ألا أكتب الشعر قط"؟ فيجيبه "نعم" فيقول "ولكني لن أستطيع النوم (35) ".(10/72)
وكان خيراً له أن يعمل بهذهِ النصيحة إلى حين. وكان كتابه الثاني المسمىردود الغناء Epodes (29 ق. م) أقل كتبه شأناً. فأشعاره خشنة مؤذية للسمع خالية من الشهامة، بعيدة عن الذوق، بذيئة في الأمور الجنسية، كل ما يستطيع الإنسان أن يقوله في وصفها إنها تجربة في الأوزان الشعرية ذات المقاطع المتعاقبة منبورة، وهي المقاطع التي سار عليها أركلوكس Archilodhus. ولعل اشمئزازه من "دخان رومة ومالها وضجيجها" (36) قد زاد حتى أمَرَّ نفسه؛ ولعله لم يطق صبراً على الضغط "السوقة الجهال ذوي التفكير الخبيث". وهو يصور نفسه متدفقاً ومدفوعاً بين أراذل العاصمة، وينادي قائلاً: "أيها البيت الريفي! متى أراك؟ متى أستطيع وأنا بين كتب الأقدمين تارة، وأستمتع بالنوم والفراغ تارة أخرى، أن أجزع النسيان الحلو لمتاعب الحياة؟ متى يقدم لي صحاف الفول إخوان فيثاغورس نفسه، ومعها الخضر المخلوطة باللحم السمين؟ آه، أيتها الليالي والملائم القدسية! " (37) ثم قصرت فترات إقامته في رومة؛ وصار يقضي كثيراً من وقته في بيته السبيني الريفي حتى شكا أصدقاؤه ماسيناس نفسه بأنه "اقتطعهما من حياتهِ". ولكن الحقيقة أنه بعد أن عانى حر المدينة وعثيرها وجد في الهواء النقي والعمل التيب الهادئ، والعمال السذج في ضيعتهِ، بهجة تطهره من أدران المدن. هذا إلى أنه كان وقتئذ ضعيف الجسم، وأنه كان يعيش على الأكثر، كما يعيش أغسطس، على الخضر وحدها. وفي ذلك يقول: إن فيما أمتلكه من مجرى الماء النقي وأفدنة قليلة من الأشجار، ووثوقي من أني سأجني محصولاً من الحب، إن في هذا لسعادة دونها سعادة سيد أفريقية الخصبة ونعيمها البراق" (39). وإن حب الريف ليجد في غيرهِ من شعراء عهد أغسطس من يعبر عنه تعبيراً حماسياً نادر الوجدود في أدب اليونان.
ما أسعد من يعيش بعيداً عن قلق الأعمال ومتاعبها.
كما كانت تعيش أقدم شعوب العالم.(10/73)
يفلح بثيرانه الأرض التي ورثها عن أبيهِ.
وليس عليهِ دين ...
ما أحلى النوم تحت شجرة السنديان القديمة.
والنهر يجري بين جسريهِ العاليين.
وطيور الأيك تغرد.
والماء يتدفق من العيون.
يدعو الإنسان للنوم الهنيئ! (40).
وجدسيرنا أن نضيف إلى هذا أن الذي ينطق بهذه الأبيات مراب من أهل المدن، ينطقه بها هوراس في سخرية يمتاز بها عن كثيرين منم الشعراء، وأن هذا المرابي بعد أن ينطق بها لا يلبث أ، ينساها ويفقد نفسه بين أكوام نقوده.
وأكبر الظن أن هذا المرابض الهادئة هي التي كان يكدح فيها "كدح السعداء المجدين" (1) في تأليف هذه الأغاني التي يعلم أن ذيوع اسمه أزو خمول ذكره موقوف عليها. لقد مل الأشعار السداسية الوزن ولم يعد يطربه انسجام أوزانها المقيسة المحددة، أو التي تُقطع من آخر البيت لضرورة الشعر كأنها جُزَّت بمقصلة. وكان قد استمع في شبابهِ بالأوزان الدقيقة المرحة التي رآها في شعر سابفو Sappho والكيوس Alckeus، وأركلوكس Archilochus، وأنكريون Anacreon، فأراد الآن أن ينقل هذه الأوزان "السابفية" والألكية، والتفاعل المركبة من مقطعين ومن أحد عشر مقطعاً، إلى صورة الشعر الغنائي الروماني، وأن يعبر عن آرائه في الحب والخمر، والدين، والدولة، والحياة والموت في مقطوعات جديدة منعشة للنفس جامعة رصينة التركيب، قابلة للتلحين،
_________
(1) هذه هي العبارة العجيبة الموفقة التي وصف بها بترونيوس هوراس.(10/74)
معقدة تعقيداً يتطلب حلها الجهد الكثير. ولم يكن يكتب هذه الأشعار لذوي العقول الساذجة التي تريد أن تمر بها مراً سريعاً دون أن تبذل في إدراكها أي مجهود؛ والحق أنه قد حذر أمثال هؤلاء من مستهل المجموعة الثالثة من الإقدام على قراءتها فقال:
"إني أبغض السوقة النجسين وأتجنبهم. صه! أنا، كان ربات الشعر، أغني للعذارى والشباب أغاني لم يسمعها أحد من قبل".
ولو أن العذارى قد عنين بشق طريقهن وسط أقوال هوراس ورغباتهِ المقلوبة لارتعن وسررن مما في أغانيهِ من أبيقورية مهذبة مصقولة. فالشاعر يصور مسرات الصداقة، والطعام والشراب، والمغازلة، وإن المرء ليصعب عليهِ أن يستدل من هذه الترانيم على أن كاتبها رجل زاهد لا يأكل إلا قليلاً ولا يشرب إلا أقل. ثم يسأل الشاعر نفسه (قبل أن يسألها قارئ هذه الصفحات): "لم نشغل أنفسنا بالسياسة الرومانية وبالحروب في الأقاليم النائية؟ ولم نعني هذه العناية كلها بتدبير أمور المستقبل الذي يسخر من تدبيرنا (1). إن الشباب والجمال يمساننا مساً ويمران بنا مراً سريعاً فلنستمتع بهما الآن، " مضطجعين إلى شجرة الصنوبر، وغدائرنا الشمطاء متوجة بالأزهار ومعطرة بالناردين السوري (42) ". وبينما نحن نتحدث هذا الحديث يمر الوقت الحسود وينقضي، فلنغتنم الفرص "ولنختطف الأيام Carpe Diem (43) ". ويتلو الشاعر أسماء طائفة من النساء الخليعات اللاتي يقول إنه أحبهن: لالاج، جلسيرا، تئيرا، إيانشا، رستارا، كنديا، ليسي، بيرها، ليديا، تندراس، كلو، فيلس، مرتال. ولا حاجة بنا أن نصدق كل ما يدعيهِ من ذنوب يقول إنه ارتكبها، فقد كانت هذه الأقوال وقتئذ دعاوى أدبية يكاد يفرضها شعراء تلك الأيام على أنفسهم فرضاً؛ وشاعد ذلك أنا نجد أولئك السيدات أنفسهن في خدمة
_________
(1) "وتقدرون فتضحك الأقدار". (المترجم)(10/75)
أقلام غير قلمه قبل ذلك الوقت. ولم يكن أغسطس الذي تاب وقتئذ وأناب لينخدع بهذه الضلالات الشعرية، فقد كان يسره أن يجد بينها تعظيماً لحكمهِ وثناء عليهِ، وعلى انتصاراتهِ، وأعوانه، وإصلاحاته الأخلاقية، وعلى السلم التي بسط لواءها في أيامهِ. وقد ألف هوراس أغنيته المشهورة في الشراب Nunc ets Bibendum (44) حين جاءته الأنباء بأن كليوبطرة قضت نحبها، وأن أغسطس استولى على مصر، فقد كان لهذا النبأ وقع عظيم حتى في نفس هذا الشاعر السوفسطائي الذ سر من انتصار الإمبراطورية واتساع رقعتها إلى حد لم تبلغه قط من قبل. وهو يحذر قراءه من الاعتقاد بأن القوانين الجديدة يمكن أن تحل محل الأخلاق القديمة، ويأسف لانتشار الترف والزنى، والخلاعة، والعقائد المنحطة الفاسدة، ويقول مشيراً إلى الحرب الأخيرة: "وا أسفا على ما أصابنا من جروح وما ارتكبنا من جرائم، وعلى من مضوا من إخوتنا صرعى في الميدان! وهل ثمة شيء قد اشمأزت منه نفوسنا نحن أبناء هذا الجيل؟ وأي ظلم لم نرتكبه؟ " (45) ويقول إن رومة لن تنجو إلا بالرجوع إلى الأساليب البسيطة وإلى الثبات الذي كان شعار الأيام الخالية. وهكذا نرى الشاعر المتشكك الذي كان من الصعب عليهِ أن يؤمن بأي شيء يحني رأسه الأشيب أمام النصب القديمة، ويقر أن الناس يهلكون إذا لم تكن لهم أساطير يؤمنون بها، ويسخر قلمه لخدمة الآلهة المرضى الضعاف.
وبعد فليس في أدب العالم ما يشبه هذه القصائد تمام الشبه-فهي رقيقة وقوية؛ وفيها تأنق ورجولة، وحذق وتعقيد، تخفي ما فيها من فن للفن البالغ درجة الكمال، وتخفي ما استلزمته من جهد بما يبدو عليها من يسر وسلاسة. فهي موسيقى من طراز غير طراز فرجيل، ذلك أن موسيقاها أقل من موسيقى فرجيل عذوبة في النغم وأكثر منها تعقلاً، وهي لم تكتب للشبان والعذارى بل كتبت للفنانين والفلاسفة. وليس في القصائد كلها شيء من الانفعال أو التحمس، أو "اللفظ المنمق"؛ بل الألفاظ كلها سهلة حتى في الجمل المقلوبة(10/76)
التي يجب أن يكون أولها آخرها. ولكن في الأغاني الكبرى كبرياءً وجلالاً في التفكير، حتى ليخيل إليك وأنت تستمع إليها أن إمبراطوراً هو الذي يتحدث وأنه لايتحدث بألفاظ من حروف بل من برونز:
لقد أقمت نصباً أبقى على الزمان من البرونز،
وأعل من قمة الأهرام الملكية؛
لا تستطيع العواصف الهوج أن تحطمه.
ولا ريح الشمال الضعيفة، ولا كر السنين
التي لاعداد لها، ولا مر الزمان السريع.
إني لن أموت الميتة الكبرى.
وأغفلت الجماهير التي هجاها هوراس أغانيه، وشهر بها النقاد ووصفوها بأنها مملة متكلفة، وندد المتزمتون بما فيها من أغاني الحب؛ أما أغسطس فوصف القصائد بأنها قصائد خالدة، وطلب إلى الشاعر أن يتبعها بمجموعة رابعة تصف أعمال دروسس وتيبيريوس في ألمانيا؛ واختار هوراس لكتابة الأناشيد "القرنية" يصف فيها المباريات القرنية. وأجاب الشاعر إلى ما طلب ولكنه لم يجد من نفسه الإلهام الذي يمكنه من تنفيذ هذه الرغبة؛ ذلك بأن الأغاني قد استنفذت كل جهوده، ولهذا رجع في كتابه الأخير إلى الشعر السداسي الأوتاد الذي كتب به كتبه في الهجاء، والذي هو أليق الأوزان بالحديث، فكتب بهِ رسائله، وهي أشبه بحديث ينطق به صاحبه من مقعد مريح. وكان هوراس يريد على الدوام أن يكون فيلسوفاً، وقد غلبت عليهِ هذه النزعة في تلك الرسائل، فاسترسل في الحكم حتى في أثناء ثرثرتهِ. وإذ كان الفيلسوف شاعراً ميتاً وفقيهاً محتضراً، فقد كان هوراس وهو شيخ في الرابعة والخمسين من عمرهِ قد نضجت سنه للبحث في طبيعة الله، والإنسان، والأخلاق، والأدب، والفن.(10/77)
وكُتبت أشهر رسالة من هذه الرسائل كلها-وهي المعروفة لدى النقاد باسم "فن الشعر" إلى آدبيزونس Ad Pisones- وهم أفراد غير معروفين معرفة أكيدة من عشيرة بيزو Piso. ولم تكن هذه رسالة بالمعنى الحقيقي للرسائل، بل كانت نصيحة قصيرة من صديق إلى صديق يبين له فيها طريقة الكتابة، ويقول له فيها: عليك أن تختار موضوعاً يتفق مع مواهبك، واحذر أن ينطبق عليك المثل القائل تمخض الجبل فولد فأرة (1)؛ والكاتب المثالي هو الذي يعلم ويسلى في وقت واحد، "ومن يمزج النافع بالسار يكسب جميع الأصوات (48) ". وتجنب الألفاظ الجديدة، والعتيقة المهملة، والمسرفة في الطول. وأوجز بالقدر الذي يجيزه وضوح معانيك، وامضِ مسرعاً إلى لباب الموضوع. وإذا كتبت الشعر فلا تظن أن العاطفة هي كل شيء، نعم إنك إذا شئت أن يحس قارئك بعاطفة ما فلا بدَّ لك أن تحس بها (49)، ولكن الفن غير الشعور، إنه الصورة التي يعبر بها عنه (وهنا أيضاً يتحدى الأسلوبُ الإتباعي الإسلوبَ الإبداعي (2))، ولكي تصل إلى حسن الصيغة، عليك أن تواصل دراسة آداب اليونان ليلاً ونهاراً؛ وليكن ما تمحوه من كتابتك قد ما تثبته أو قريباً منه.
"واعرض ما تكتبه على ناقد قدير وحاذر من أصدقائك، فإذا إجتازت
_________
(1) ليس في ترجمة هذا المثل شيء من التصرف بل هي ترجمة حرفية للعبارة الإنجليزية Labouring like a mountain and producing a mouse ولعل العبارة الإنجليزية هي الأخرى ترجمة حرفية للمثل اللاتيني. (المترجم)
(2) كاد الناس ينسون هوراس في العصور الوسطى، ولكنه استعاد منزلته في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهما عصر العقل والإتباع في الزمن الحديث، حين عمد كل سياسي وكل كاتب وخاصة في إنجلترا إلى نثر عبارات الشاعر وترديدها في صورة ثابتة لا تغيير فيها ولا تبديل. ولقد أعاد بوالو Boileau في كتابه الفن الشعري L'art poétique كتاب هوراس Ad Piones إلى الوجود، وكان هو المشكل والمثبط للمسرحيات الفرنسية حتى زمن هوجو. وحاول بوب Pope في "مقالة النقد" Essay on Citicism أن يضعف من قوة الأدب في إنجلترا بالطريقة عينها ولكن بيرن قضى على كل ما كان لبوب من أثر في هذه الناحية.(10/78)
كتاباتك هذه المراحل كلها، فأخفها ثماني سنين؛ فإذا لم تجد بعدئذ إنك قد أفدت من نسيانها فانشرها، ولكن اذكر على الدوام أنها لن يعيده إلى الزمن وحده. وإذا كتبت مسرحيات فلتجعل الأعمال لا الأقوال هي التي تقص القصة، وتصور الأشخاص. ولا تمثل الرعب على المسرح، وإلزام وحدة الأعمال والزمان والمكان، واجعل القصة قصة واحدة، تقع حوادثها في زمن قصير وفي مكان واحد. وادرس الحياة والفلسفة، لأن الأسلوب مهما بلغ لا قيمة له من غير الملاحظة والفهم. كن جريئاً في المعرفة". وعمل هوراس نفسه بكل هذه القواعد إلا قاعدة واحدة-فهو لم يتعلم البكاء؛ ذلك أنه لم يكن قوي الشعور، أو أن شعوره قد اختنق فصمت، ولذلك لم يسم قط إلى ذلك الفن الأعلى الذي يجسم الإخلاص في العطف أو "العواطف التي يذكرها أصحابها بهدوء". يضاف إلى هذا أنه كان مسرفاً في تمجيد المدن. ولقد كان قوله: " Nil admirari لا تعجب بشيء قط (50) " نصيحة غير قويمة، لأن الشاعر الحق يجب أن يعجب بكل شيء حتى لو كان كشروق الشمس أو منظر الشجر يحييه كل يوم. وكان هوراس يلاحظ الحياة ويراقبها، ولكنه لم يتعمق في هذه المراقبة، وقد درس الفلسفة واحتفظ على الدوام "باعتدال عقلهِ" ولذلك لم يسم شيء من أغانيهِ فوق المرتبة الوسطى (52). وكان يعظم الفضيلة تعظيم الرواقيين، ويحترم اللذة احترامالأبيقوريين، فيسأل نفسه "أي الناس هو الحر إذن؟ " ثم يجيب كما يجيب زينون: "هو الرجل الحكيم، سيد نفسه، الذي لا يرهب الفقر ولا الموت ولا الأغلال، والذي يتحدى شهواته ويزدري بالمطامع والذ هو كلٌ في نفسهِ (53) ". ومن أنبل قصائده قصيدة تُضرب على نغمة رواقية وتقول:
"إذا كان الرجل عادلاً حازماً فقد تتصدع الدنيا كلها من حوله وتتساقط فوق رأسهِ، وتجده تحت حطامها غير هياب ولا وجل (54) ". ولكن هوراس رغم هذا كله يلقب نفسه بأمانة جذابة: "خنزيراً من حظيرة أبيقور (55) ".(10/79)
وهو كأبيقور يقدر الصداقة فوق الحب، وكفرجيل يمتدح إصلاحات أغسطس، ويعيش في حياته كلها عزباً". وقد بذل كل ما في وسعهِ داعياُ إلى الدين ولكنه كان لا دين لهُ، وكان يشعر أن الموت يقضي على كل شيء (56).
وقد أظلمت أفكاره أيامه الأخيرة-وأوتي حظه من الأسقام، فكان ممعوداً مصاباً بالنقرس وبغيره من الأمراض. ومن أقواله في رثاء حاله: "إن السنين وهي تمر تسلبنا كل مسراتنا واحدة بعد واحدة (57) ". ويقول لصديق آخر: "واحسرتاه يابستيوس إن السنين تمر بنا سراعاً؛ لن تستطيع تقوانا أن تمنع عنا غضون أجسامنا، أو تقدم أعمارنا، أو الموت الذي لا يُقهر (58) ". وقد ذكر في قصيدتهِ الهجائية الأولى كيف كان يأمل إذا حانت منيته أن يفارق الحياة الدنيا راضياً "كالضيف الذي نال من الوليمة كفايته (59) ". وها هو ذا الآن يقول لنفسهِ: "لقد لعبت ما شئت أن تلعب، وأكلت ما شئت أن تأكل، وشربت ما شئت أن تشرب، وقد آن أن ترحل (60) ". وقد انقضت خمس عشر سنة مذ قال لما سيناس إنه لن يطول أجله كثيراً بعد رجل المال (61). وقد مات ماسيناس في عام 18ق. م وتبعه هوراس بعد بضعة أشهر، وأوصى بأملاكه إلى الإمبراطور ودفن بجوار قبر ماسيناس.(10/80)
الفصل الخامِس
ليفي
لم يظفر النثر في عهد أغسطس بمثل ما ظفر به الشعر من مؤلفات عظيمة قيمة، فقد اضمحلت الخطابة بانتقال التشريع والقرارات، في الواقع إن لم يكن في الشكل، من مجلس الشيوخ والجمعيات إلى حجرات الزعيم السرية. وظل العلم يجري في مجراه الهادئ تحميهِ من العواصف والأحداث ومصالحه الخيالية، ولم ينتج العصر كله آية أدبية خالدة إلا في التاريخ. وكان صاحب هذه الآية الخالدة تيتس ليفيوس Titus Livius.
ولد تيتس في بتفيوم Patavium ( بدوا Padua) في عام 59ق. م. ثم وفد غإلى العاصمة، وأكب على دراسة البلاغة والفلسفة، وخص السنين الأربعين الأخيرة من حياتهِ بكتابة تاريخ لرومة (23ق. م-17م). وذلك كل ما نعرفه عن هذا المؤرخ "فمؤرخ رومة لا تاريخ له" (63). وكان موطنه الأصلي، كموطن فرجيل، وهو إقليم البو، وقد احتفظ على الدوام بفضائل الأقدمين وبساطتهم وتقواهم، ثم نشأ فيهِ احترام قوي للمدينة الخالدة-لعل سببه ما كان يصله عنها من أنباء وهو بعيد عنها. وقد وضع خطة كتابه على أساس واسع عظيم، وقدر له أن يتمه وإن لم يصل من "كتبه" البالغة مائة واثنين وأربعين كتاباً إلا خمسة وثلاثون. وإذ كانت هذه الكتب الباقية تحتويها ستة مجلدات فإن في وسعنا أن نقدر ضخامة هذا المؤلف. ويلوح أن الكتاب قد ظهر أجزاء متتابعة لكل منها عنوان خاص، ويجمعها كلها عنوان واحد هو "من أسس المدينة Ab urbe condita". وكان في وسع أغسطس أن يتغاضى عن ميوله الجمهورية وأبطاله الجمهوريين لأن روح الكتاب الدينية والأخلاقية والوطنية كانت تتفق كل الاتفاق مع خطط(10/81)
الإمبراطورية السياسية. ومن أجل ذلك اتخذ ليفي صديقاً له وشجعه ليجعل منه فرجيلاً ناثراً يبدأ عمله من حيث تركه الشاعر. وقد فكر ليفي في يوم من الأيام وهو في وسط مرحلته الطويلة التي بدأت في عام 753 ق. م أن ينقطع عن العمل بحجة أنه نال ما يبتغيه من الشهرة الخالدة؛ ثم واصل العمل لأنه على حد قوله وجد نفسه قلقاً حائراً حين امتنع عن الكتابة.
وكان المؤرخون الرومان يرون أن الشعر ولد هجين من أبوين هما البلاغة والفلسفة! وإذا كان لنا أن نصدقهم فإنهم كانوا يؤرخون ليوضحوا المبادئ الأخلاقية بالقصص البليغة، أي أن يجلو المغزى الخلقي بقصة. وقد نُشئ ليفي ليكون ممثلاً، ولكنه حين وجد الخطابة خطرة معرضة للنقد، "اتجه نحو التاريخ" كما يقول تين Taine " لكي يظل كما كان خطيباً" (65). وبدأ كتابه بمقدمة جافة ندد فيها بما كان شائعاً في عصره من فساد وترف وخنوثة؛ وقال إنه دفن نفسه في الماضي لكي ينسي مساوئ الحاضر، "الذي لا نطيق ما ابتلانا من أمراض كما لا نطيق لها علاجاً"، ثم يقول إنه سيتخذ التاريخ سبيلاً لتصوير الفضائل التي رفعت من شأن رومة. وكانت سبباً في عظمتها، وهي اتحاد الأسرة وقداستها، وتقوى الأبناء، والعلاقة المقدسة بين الناس والآلهة في كل خطوة من الخطوات، وقدسية ما يقطعه الناس من عهود وضبط النفس والوقار إلى أقصى حد. ويقول إنه سيجعل رومة الرواقية هذه أمة نبيلة كريمة الأخلاق إلى حد يرى الناس معه أن فتح بلاد البحر الأبيض المتوسط كان من الأعمال التي تحتمها من الأخلاق الكريمة، أو أنها أمر إلهي وشريعة مقدسة نزلت على ما في الشرق من فوضى وما في الغرب من همجية، وسيجعل ما نالته رومة من ظفر نتيجة لما تحلي لها به أهلها من كريم الخلق، كما عزاه بولبيوس إلى نظام حكومتها الصالح الرشيد.
وأكبر ما في الكتاب من عيوب إنما يرجع إلى هذه النزعة الأخلاقية،(10/82)
ففي على أن مؤلفه رجل يخضع لحكم العقل. وكان احترامه للدين احتراماً مسرفاً إلى حد يكاد يحمله على الأيمان بكل خرافة، ويملأ صحف كتابه بالفأل والطيرة والتنبؤ بالغيب حتى لنشعر ونحن نقرؤها أن الذين يدبرون الحوادث ويقومون بالأعمال هم الآلهة كما نشهد ذلك في أشعار فرجيل. ولسنا ننكر أنه يعبر عن شكهِ أنه يعبر عن شكهِ فيما يروي من أساطير تاريخ رومة الأول، ويبتسم حين يذكرمن الروايات أقلها احتمالاًأسأأ، ولكنه حين يواصل الكتابة لا يفرق بين الأساطير والتاريخ الحقيقي، ويسير وراء أسلافه بلا تميز كبير بين الباطل من أقوالهم والصحيح، ويقبل الأقاصيص والروايات الخيالية التي اخترعها المؤرخون الأولون ليمجدوا بها أسلافهم (66). وقلما يعنى بالرجوع إلى المصادر الأصلية أو الآثار، ولا يشغل نفسه قط بزيارة الأماكن التي وقعت فيها أهم الحوادث. وتراه أحياناً يعمد إلى شرح صحائف كاملة من بولبيوس (67). ويلجأ إلى طريقة القساوة القديمة طريقة الحوليات، فيقص الحوادث التي وقعت في عهد كل قنصل من القناصل، ولهذا فإنك إذا ضربت صفحاً عما فيهِ من بحوث أخلاقية لن تجد فيهِ أثراً للتعليل الصحيح وربط النتائج بأسبابها، بل كل ما تجده سلسلة متتابعة من الأحداث الرائعة. وهو لا يفرق بين الآباء الأجلاف الأولين الذين عاشوا في عهد الجمهورية المبكر وبين أشراف عصره، أو بين السوقة الأشداء الذين أنشئوا الديمقراطية الرومانية والغوغاء الأدنياء الذين قرضوا أركانها، وهو يتحيز للأشراف على الدوام.
ولقد كان السر الحقيقي في عظمة ليفي هو العزة الوطنية التي تجعل رومة في نظرة محقة على الدوام. وهذا السر هو الذي حباه بالسعادة الدائمة في أثناء كدحه الطويل، ولهذا السبب فإننا قلما نجد كاتباً نفذ خطة واسعة كخطتهِ بمثل ما نفذها هو في أمانة أشعرت قراءة الأقدمين ولا تزال تشعرنا نحن بعظمة رومة وبما قدر لها في عالم الغيب من مصير. ولقد كان هذا الشعور(10/83)
بعظمة رومة هو مصدر ما في أسلوب ليفي من نشاط، وما في أشخاصه من قدرة، وما في وصفهِ من بهجة وقوة، وما في نثره من انسجام رائع جليل. وإن الخطب التي اخترعها من عنده وبثها في تاريخه لتعد آيات في الخطابة أصبحت من بعدهِ نماذج تُحتذى في المدارس، وإن القارئ ليسحر لبه ما يتخلل الكتاب كله من أخلاق كريمة؛ فليفي لا يعمد إلى الصخب والضجيج، ولا يقسو في أحكامهِ على الناس، وعطفهِ على الدوام أوسع من علمهِ وأعمق من فكرهِ. وهذا العطف يفارقه حين يروي قصة هنيبال، ولكننا لا يسعنا أن نغفر ذلك لهُ، وهو إلى هذا يكفر عن هذا الذنب بتتابع حوادث القصة وروعتها التي تصل إلى ذروتها حين يصف الحرب البونية الثانية.
ولم يكن قراؤه يهتمون بما في كتابهِ من أخطاء، ومن نقص في الدقة، ومن تحيز، وكانوا يحبون أسلوبه وقصصه، ويبتهجون بالصورة الواضحة التي صور بها ماضيهم. وكانوا يعدون كتابهُ "من أسس المدينة" ولحمة منثورة من أنبل ما خلفه عصر أغسطس، والنزعة التي سادت ذلك العصر. ولقد ظل كتاب ليفي يلون أفكار الناس عن تاريخ رومة وأخلاق أهلها ثمانية عشر قرناً كاملة تبدأ من أيامه. وحتى الذين كانوا يقرءون كتابه من أهل البلاد الخاضعة لسلطان الرومان قد تأثروا بهذا السجل الضخم للفتوح التي لم يكن لها نظير من قبل، وبالأعمال الضخمة الجبارة التي قام بها رجالها. ويقص بلني الأصغر قصة أسباني تأثر بكتاب ليفي تأثراً حمله على أن يسافر من قادس Cadiz إلى رومة لعله يلقاه فيها. فلما حقق رغبته وصلى لربهِ، ونسي كل ما عدا ذلك من الحقوق، وعاد راضياً إلى موطنه عند المحيط الأطلنطي (68).(10/84)
الفصل السّادس
ثورة العاشقين
وظل الشعر في هذه الأثناء ينتشر وتعلو مكانته، ولكن على غير ما كان يشتهي أغسطس. ذلك أن الفنانين العظماء، أمثال فرجيل وهوراس، وهم وحدهم الذين يستطيعون قرض الشعر الجيد في الموضوعات التي تطلبها الحكومة؛ فأما من كانوا أعلى من هذين الشاعرين قدراً فإنهم لا ينصاعون إلى هذه المطالب، وأما من كانوا أقل منهما شأناً فإنهم لا يستطيعون إجابتها. وقد خضع مصدران من مصارد الشعر الكبرى- الدين، الطبيعة، والحب- إلى سلطان الإمبراطورية، أما المصدر الثالث فقد ظل خارجاً على سلطانها غير خاضع لأي قانون حتى في أغاني هوراس. ثم فر الشعر فراراً بطيئاً على يد تيبلس Tibullus وبروبرتيوس Propertius، وثار ثورة سارت في طريق يحفه المرح المتزايد إلى خاتمة مفجعة.
وتفصيل ذلك أن ألبيوس تيبلس (54 - 19) خسر الأرض التي ورثها عن آبائهِ كما خسر فرجيل أرضه حين وصلت نيران الحرب الأهلية بلدة بدوم Pedum- قرب تيبور Tibur- مسقط رأسه. وأنقذه مسالا من الفقر وأخذه مع حاشيته إلى بلاد الشرق، ولكن تيبلس مرض في الطريق وعاد إلى رومة مغتبطاً بنجاحه من الخرب ومن السياسة، فقد أمكنه ذلك من أن يصرف جهوده كلها في التغني بعشق الفتيات والفتيان، ونظم المراثي المصقولة على نمط يونانيّ الإسكندرية. وكتب الابتهال المألوف إلى دليا Dilia ( وهو اسم لا نعرف عنه أكثر من هذا ولعله لم يقصد بهِ فتاة بعينها بل كان يسمى بهِ الكثيرات من عشيقاتهِ) التي تجلس أمام بابها كالحارسة العنيدة (69)، يُذكّرها كما ذًكرت كثيرات من الغانيات قبلها أن الشباب(10/85)
لا يجيء إلا مرة ثم ينقضي مسرعاً خفية؛ ولم يقلق باله أن دليا متزوجة، فقد أنام زوجها بأن قدم له نبيذاً مركزاً، ولكنه استشاط غضباً حين فعل به عاشقها الجديد ما فعله هو بزوجها (70). ولعل هذه الموضوعات العتيقة لم تكن خليقة بإقلاق بال أغسطس، أما الذي جعل تيبلس، وبروبرتيوس وأوفد مبغضين إلى حكومة تلقى أشد الصعاب في وجود مجندين للجيش فهو النزعة المؤثرة القوية المضادة للجندية، والتي كانت تتصف بها هذه العصبة المتحللة في حبها من جميع القيود. ذلك أن تيبلس يسخر من المحاربين الذين يسعون إلى الموت في الوقت الذي يستطيعون فيهِ أن يغرَّروا بالنساء، ويتحسر على عهد زحل ويتصوره عهداً:
لم يكن فيه جيوش، ولا حقد، ولا حرب ... فلم تكن حرب حين كان الناس يشربون من أقداح خشبية ... ألا فأعطني الحب وحده ودَع غيري يذهب إلى الحرب ... فالبطل هو الذي يدركه الكبر في كوخهِ المتواضع بعد أن وُلد له بنون، فتراه يرعى الماشية وابنه يرعى الضأن، وزوجته الصالحة تسخن الماء لجسمه المتعب. فلأعش حتى تصبح كل شعرة من شعر رأسي ناصعة البياض، وأحدّث عن الأيام الخوالي كما يتحدث الشيوخ" (71).
أما سكستس بروبرتيوس (49 - 15) فكانت أغانيه أقل بساطة وأقل حناناً، يزينها العلم أكثر مما يزين أشعار تيبلس، وتماثلها فيما تحتويهِ من أناشيد الدعارة الهادئة. وقد ولد سكستس في أمبريا Umbria وتلقى العلم في رومة، وسرعان ما آل إلى قرض الشعر، وضمه ماسيناس إلى ندوتهِ على الإسكولين Esquiline وإن لم يكن في القراء- إلا قلة ضئيلة منهم- من يستطيع أن يستخرج أفكاره من أغوار حذلقته. وهو يصف في زهو وسرور الولائم التي كانت تقام على شاطئ نهر التيبر، حيث كان يحتسي خمر لزبس Lesbos في كؤوس من صنع الفنانين العظام "وهو جالس كأنه على عرش بين النساء(10/86)
المرحات"، يرقب السفن تجري في النهر من تحته (72). وكان بروبرتيوس يتغنى بمدح الحرب من حين إلى حين ليطرب بذلك وليّ نعمته وزعيمه؛ أما حبيبته سنثيا Cynthia فكانت لها عنده نغمة أخرى، فهو يقول لها: "لِمَ أنجب أبناء ليضحى بهم في الانتصارات البارثية Parthian؟ لا، لن يكون ولد من أبنائنا جندياً" (73)، وهو يؤكد لها أن كل ما في العالم من أمجاد عسكرية لا يعادل ليلة واحدة مع سنثيا (74).
وإذا أحصينا كل هؤلاء الأبيقوريين خفاف القلوب والأحلام، الذين كانوا يقضون حياتهم بين الحب والصد كان ببليوس أفيديوس نازو Publius Ovidius Naso أنموذجهم السعيد وحامل لوائهم جميعاً. وكان مولده عام 43 ق. م سلمو Sulmo ( سلمو)، وهي بلدة في واد جميل من وديان الأبنين على بُعد تسعين ميلاً أو نحوها شرقي رومة. وكان يتخيلها من منفاه في سنيه الأخيرة بلدة جميلة ذات كروم وغياض من شجر الزيتون، وحقول من القمح، ومياه جارية. وأرسله أبوه- وكان رجلاً ثرياً من رجال الطبقة الوسطى- ليدرس القانون في رومة، ولكنه صُدم حين سمع أن ابنه يريد أن يكون شاعراً. فأخذ يذكر للصبي ما لقيه هومر من مصير محزن؛ فقد مات هذا الشاعر- كما يقول أحسن الناس علماً بأخباره- فقيراً أعمى. وأثّر هذا التحذير في أوفد فواصل دراسة القانون وارتقى حتى صار قاضياً في المحاكم البريتورية، وأبى أن يتقدم ليكون كوسترا، فحزن لذلك أبوه أشد الحزن (لأن هذا المنصب كان يؤهله لأن يكون عضواً في مجلس الشيوخ)؛ وفضل أن يعمد إلى دراسة الأدب وإلى الحب، محتجاً بأنه لا يسعه إلا أن يكون شاعراً "ولثغت بالأوزان فجاءت الأوزان" (75).
وسافر أوفد على مهل إلى أينة وإلى الشرق الأدنى وصقيلة، ولما عاد انظم إلى زمرة أكثر الناس مجنوناً وخلاعة في العاصمة، وكان ذا نصيب موفور(10/87)
من الجمال، والذكاء، والعلم، والمال، فاستطاع بذلك أن يفتح جميع الأبواب المغلقة. وتزوج مرتين في شبابهِ، وطلق زوجته، ثم قضى بعض الوقت يرعى في المراعي العامة (1) ويقول: "فليجد غيري مسراتهم في الماضي، وأما أنا فما أسعدني إذ ولدت في هذا العصر الذي توائم أخلاقه أخلاقي" (76). وكان يسخر من الإنياذة، ولم يفد منها إلا نتيجة واحدة، هي أنه لما كان ابن الزهرة هو الذي أنشأ رومة فقد وجب أن تصبح مدينة الحب لتدل على تقى أهلها وصلاحهم إن لم يكن ذلك لسبب آخر (77). وخلبت لبه عاهر جميلة يسميها كورنا Corinna إخفاء لاسمها عن القراء، أو لعل ذلك اسم يطلقه على الكثيرات غيرها من النساء اللاتي وقع في حبهن. وسرعان ما وجدت أشعاره المكشوفة فيها من ينشرها له، فنشرت بعنوان الغزليات Amores في عام 14م، ولم تلبث إلا قليلاً حتى جرت على لسان كل شاب في رومة حديثاً وغناء. ويقول هو في ذلك: "إن الناس في كل مكان يريدون أن يعرفوا من تكون كورونا هذه التي أتغنى بحبها" (78). وقد أضلهم هو في مجموعة أخرى من الغزليات في وصف الحب الخليط فقال:
"ليس الذي يثير عاطفتي هو الجمال الثابت؛ بل إن ثمة مائة سبب تحفظ لي حبي، فإذا رأيت فتاة جميلة ذات عينين ناعستين مطرقتين إلى حجزها اشتعلت نارالحب في قلبي، وأسرتني بسذاجتها. وإذا أبصرت فتاة خليعة، اخترقت سهام لحاظها قلبي، لأنها ليست قروية ساذجة، لأنها تقوى أملي في أن أضمها إلى صدري على فراشي الوثير. وإذا تمنعت وتظاهرت بالعناد والصلابة حكمت بأنها ستخضع لي لا محالة، ولكنها ممعنة في خداعها. وإذا كنت عالمة ضليعة بما في الكتب اتهويتني بشمائلك النادرة ... وتخطر
_________
(1) يريد من غير زواج. (المترجم)(10/88)
إحداهن الهوينا فأحبها لحسن خطاها، وتخطو الأحرى بقوة، ولكنها ترق إذا طاف بها طائف الحب .. وإذا غنت فتاة بصوت شجي .... خطفت منها القبلات في أثناء الغناء، وإذا ضربت الأخرى بأناملها الخفيفة على الأوتار الشاكية- فمنذا الذي لا يقع في حب هاتين اليدين الماهرتين؟ وهذه تأسرني بحركاتها، إذا ما حركت يديها في اتزان وانسجام، وتفننت في ثني خصرها الرقيق فتذكى النار في قلبي الذي تلتهب فيه نيران الحب لأقل الأسباب .... ضع هبوليتس Hippolytus في مكاني يصبح بريابس Priapus! ... إني لتفتنني الطويلة والقصيرة على السواء، فكلتاهما تضرم النار في قلبي ... وإني لأتقدم إليهما ضارعاً متوسلاً أن يستجيبا لحبي (79).
واعتذر أوفد عن عدم التغني بمجد الحرب، وقال إن كيوبد Cupid جاءه واحتلس قدماً من شعره وتركه أعرج (80). وكتب مسرحية لم يُعثر عليها بعد وهي مرحية ميديا Medea قوبلت بقبول حسن، ولكنه كان على العموم يفضل الشعر الغزلي أو كما يسميه هو "ظلال الزهرة الكسول"، ولا يرغب في أكثر من أن يسمى "المنشد المعروف بأساليبه التافهة" (81). وأغانيه هي بعينها أغاني جماعة التروبدور سبقتها بألف عام كاملة، وموجهة مثلها للسيدات المتزوجات. وهي تجعل المغازلة أهم أعمال الحياة. ويعلم أوفد كورنا كيف تتحدث إليه بالإشارات وهي مضطجعة على فراش زوجها (82)، ويؤكد لها أنه سيظل وفياً لها أبد الدهر، وأنه لن يزني بغيرها أبداً: "فلست زير نساء يتنقل من هذه إلى تلك ويحب مائة امرأة في وقت واحد". ثم يحظى بها آخر الأمر ويكتب قصيدة ابتهاجاً بنصره، ويثني فيها عليها لطول صدها عنه، وينصحها بأن تعود إلى هذا الصد من حين إلى حين، حتى يدوم حبه لها أبد الدهر. ثم يخاصمها ويضربها، ويندم على فعلته، ويحزن ويجن بحبها أكثر من ذي قبل، ويفعل ما يفعله رميو فيتوسل إلى الليل أن يطول وإلى الفجر ألاّ يطلع، ويرجو أن تهب(10/89)
ريح مواتية فتحطم قطب عربة الفجر. وتخدعه كورونا كما خدعها، ويستشيط هو غضباً حين يعرف أنها لا تجد فيما لها في شعرهِ من خشوع جزاءً كافياً لحبها له؛ وتقّبله طالبة إليه أن يصفح عنها ولكنه لا يسامحها لما كسبته من حذق جديد في بث لواعج الهوى، ويقول إن معلماً جديداً قد علمها هذا الحذق (83). وبعد بضع صفحات من الكتاب نجده يحب فتاتين في وقت واحد كلتاهما جميلة حسنة الذوق في اختيار ملابسها، مهذبة، مثقفة" (84). ثم لا يلبث أن يساوره الخوف من أن يقضي عليه توزيع قلبه بين حبيبته، ولكنه يقول إنه يسعده أن يخر صريعاً في ميدان الحب (85).
ولاقت هذه القصائد قبولاً لا بأس به من المجتمع الروماني بعد أربع سنين من صدور قوانين الإصلاح اليوليوسية، وظلت بعض الأسر العظيمة أمثال أسرة الفابيين والكرفينيين، والبمبونيين تستضيف أوفد في بيوتها؛ وازدهى الشاعر بما ناله من نصر فأصدر كتاباً في التغرير بالنساء سماه فن الغرام Ars Amatoria (2 م) يقول فيهِ. "لقد عينتني الزهرة معلماً للحب". وهو يحذر قرائه تحذيراً ينطوي على العفة والطهارة فيقول إن أمثاله يجب إلا تطبق إلا على الجواري والسراري؛ ولكن ما يفيض به الكتاب من تصوير للصداقات الوثيقة، ومواعيد اللقاء السرية، والرسائل الغرامية، ومن هزل وفكاهة، وخيانة أزواج، وخادمات محتلات ماهرات، كل هذا يوحي بأن الكتاب إنما يصور أحوال الطبقتين العليا والوسطى في رومة. وأراد أن لا تكون دروسه سريعة الأثر فوق ما يجب أن تكون فأضاف إلى رسالته الأولى رسالة ثانية في علاج الحب Remedia Amoris يقول فيها إن خير علاج من داء الحب هو العمل الشاق، ثم يليه في القوة الصد، ويأتي بعدهما الغياب، ومن المفيد أيضاً أن تفاجئ حبيبتك في الصباح قبل أن تتم زينتها (90). ثم أراد آخر الأمر أن يوفق بين آرائه الأولى والثانية فأخرج رسالة ثالثة عنوانها: De Medicamina Fociei Feminineae وهي رسالة شعرية في(10/90)
أصباغ التجميل وأدهانه، أخذ ما فيها عن اليونان. ولاقت هذه الرسائل الصغيرة رواجاً عظيماً، وانتشرت بسببهِ سمعهة أوفد السيئة في كل مكان، ويقول في ذلك: "ما دامت شهرتي قد طبقت العالم كله فإني لا يعنيني قط ما يقوله عني شخص أو شخصان" (91) ولم يكن وهو يقول هذا يعر أن أحد هذين الشخصين الحقيرين هو أغسطس نفسه، وأن قصائده قد أغضبت الزعيم، وأنه يراها إهانة لحقت بالقوانين اليوليوسية، وأنه لن ينسى هذه الإهانة حين تخطر الفضائح الإمبراطورية على بال الشاعر الغافل.
وفي السنة الثالثة بعد الميلاد تزوج أوفد للمرة الثالثة، وكانت زوجته الجديدة من أكبر الأسر الممتازة في رومة؛ واستقر الشاعر، وكان وقتئذ في السادسة والأربعين من عمرهِ، في حياته المنزلية الهادئة، ويلوح أنه هو وزوجته قد تبادلا الوفاء والإخلاص والهناءة في فابيا Fabia، وفعلت به السن ما لم يفعل به القانون، فأخمدت نيران عواطفه وجعلت شعره جديراً بالاحترام. فروى في كتابهِ Heroides قصصاً عن حب شهيرات النساء أمثال بنلبي Penelope وفيدرا Phaedra وديدو، وأريدني Ariadne، وسابفو، وهلن Helen، وهيرو Hero ولعله أسرف في طول هذه القصص حتى أمل، لأن التكرار قد يجعل كل شيء حتى الحب نفسه مسئماً. على أن مما يثير الدهشة حقاً في هذه القصص جملة على لسان فدرا تعبر فيها عن فلسفة أوفد: "لقد حكم جوف بأن الفضيلة هي كل ما يهبنا اللذة" (92). ونشر الشاعر حوالي 7م أعظم مؤلفاته كلها وهو كتاب "التحول Metamorphoses. ويتألف من خمسة عشر سفراً، تقص في شعر سداسي الأوتاد تحول الجماد والحيوان والناس والآلهة. وإذا كان كل شيء في الأساطير اليونانية الرومانية، إلا القليل النادر، قد بدل صورته، فقد استطاع أوفد بفكرتهِ هذه أن يغترف من بحر الأساطير القديمة كلها إلى تأليه قيصر، وكانت كتاباته هي القصص التي ظلت ذات شأن عظيم في برامج الكليات جميعها حتى الجيل السابق على جيلنا(10/91)
هذا، بل إن ثورة هذه الأيام لم تَمحِ بعد ذكرها من العقول: كقصص عربة فيتون Phaethon's Chariot، وببراموس وثزبي Pyramus & Thisbe وبرسيموس وأندرمدا Perseus & Andromeda، وسرقة برسبرين The Pape of Prosperine، وأورثوزا Arethusa، ميديا Medea، وديدالوس وأيكاروس Daedalus & Lacrus، وبوسيز وفليمون Baucis & Philemon، وأورفيوس ويورديس Orpheus & Eurydice، وأطلنطا Atlanta، وفينوس وأدنيس Venus & Adonis وكثيراً غيرها. هذا هو المعين الذي استمدت من مئات الآلاف من موضوعات القصائد، والرسوم والتماثيل. وإذا كان لا بد للإنسان أن يواصل دراسة الأساطير القديمة، فإن أيسر السبل إلى دراستها أن يقرأ قصص هذا الحشد العظيم من الآدميين والآلهة، وهي قصص تروى بكثير من التشكك الفكه النزعة الغزلية، وللفن فيها أثر دائم عظيم يعجز عنه العابث غير القدير، ولا يصل إليهِ إلا من أوتي المقدرة والصبر الطويل، فلا عجب والحالة هذه أن يعلن الشاعر الواثق من نفسه في ختامها أنه من الخالدين: " Per Saecula Omnia Vivam سأعيش إلى آخر الدهر".
وما كاد يفرغ من كتابة هذه العبارة الأخيرة حتى ترامى إليهِ أن أغسطس قد أمر بنفيهِ إلى بلدة تومي Tomi الباردة الهمجية الواقعة على ساحل البحر الأسود وهي المعروفة الآن بقسطنطة، والتي لا تزال غير محببة إلى غير أهلها. وتلك كارثة لم يكن الشاعر مستعداً لتحملها في مثل سنه، وكان قد أتم في هذا الوقت إحدى وخمسين عاماً، وفرغ توّاً، قبيل انتهائه من كتاب "التحول"، من قصيدة من الشعر الجيد يثني فيها على الإمبراطور ويعترف فيها بأن سياسته قد نشرت لواء السلام والأمن والرفاهية التي يستمتع بها الجيل الذي يعيش فيهِ أوفد. وكان فوق هذا قد أتم نصف قصيدة تدعى فاستي Fasti وهي قصيدة تكاد تكون من القصائد التقية تتحدث عما في السنة الرومانية م أعياد دينية. وكان يوشك(10/92)
أن يجعل هذه القصيدة ملحمة موضوعها من التقويم الروماني، لأنه استخدم في رواية قصص الدين القويم وفي تكريم هياكله وآلهته ما استخدمه في الأساطير اليونانية والغزَل الروماني من أسلوب سهل واضح وعبارات وجُمل رقيقة. وكان يرجو أن يهدي القصيدة إلى أغسطس ليشترك بها في إعادة الدين القويم إلى سابق عهدهِ، ولتكون بمثابة اعتذار منه عن سخريته بهذا الدين، وإنكار لما فرط منه في حقهِ.
ولم يتبين الإمبراطور من قراره أسباب نفيه، وليس في مقدور أحد أن يعرففي هذه الأيام حقيقة هذه الأسباب. على أن ثمة إشارة بعيدة من الإمبراطور لأسباب هذا النفي، فقد نفى في الوقت نفسه حفيدته يوليا وأمر بإخراج كتب أوفد من دور الكتب العامة. ويلوح أن الشاعر كان له بعض الشأن في مسلك يوليا الشائن، سواء كان حظه فيهِ حظ الشاهد، أو المشارك، أوالفاعل الأصلي. أما هو نفسه فيقول إنه عوقب بسبب "خطأ" وقع فيه وبسبب قصائده، ويذكر ما يوحي بأنه شهد على الرغم منه منظراً غير لائق (93). وأجيز له أن يبقى في أثناء الشهور الباقية من عام 8م ينظم فيها شؤونه. وكان القرار مجرد إبعاد، أخف من النفي، يسمح له بأن يحتفظ بأملاكهِ، ولكنه أقسى منه إذ يلزمه بالإقامة في مدينة واحدة. فلم يكن منه إلا أن أحرق كتاب التحويل، وإن يكن بعض القراء قد نقلوا صوراً منه واحتفظوا بها لأنفسهم. وابتعد عنه معظم أصدقائه (94) وعرض بعضهم أنفسهم لأشد الأخطار ببقائهم معه إلى ساعة رحيله؛ وشجعته زوجته وأعانته على تحمل محنته بما أظهرت له من الحب والإخلاص، وإن لم تسافر معه إطاعة لأمره. وإذا استثنينا هذه المظاهر القليلة فإن رومة بأسرها لم تظهر شيئاً من الاهتمام بشاعر أفراحها ومسراتها حين أبحر من أستيا ليبدأ سفره الطويل وابتعاده عن كل شيء يحبه. وكان البحر هائجاً طوال أيام الرحلة تقريباً،(10/93)
وخيل إلى الشاعر مرة أن الأمواج ستبتلع سفينتة، ولما أبصر تومي حزن إذ بقي على قيد الحياة واستسلم للحزن واليأس.
وكان في أثناء الرحلة قد شرع ينظم القصائد المعروفة لنا باسم الأحزان Tristia. فلما جاء المدينة واصل نظمها وبعث بها إلى زوجته وابنته وربيبته وأصدقائه. وأكبر الظن أن الروماني المرهف الحس قد بالغ في وصف أهوال موطنه الجديد حين عنه إنه: مكان قفر خالٍ من الأشجار لا ينبت فيهِ شيء وإن كان ضباب البحر الأسود عنه الشمس، وإن البرد يشتد فيهِ حتى يبقى ثلج الشتاء في بعض السنين طوال فصل الصيف، ويتجمد ماء البحر الأسود في فصل الشتاء المظلم الكئيب، كما يتجمد ماء نهر الدانوب حتى ليسهل أن يمر عليهِ البرابرة الضاربون حول المدينة على أهلها وهم خليط من الجيتا Getae حملة الخناجر واليونان المهجنين. ولما فكر في سماء رومة الصافية وحقول سلمو Sulmo الناضرة تحطم قلبه أسىً وحسرة، وسرى في شعرهِ- وكان لا يزال جميلاً في شكله ولفظه- شعور عميق قوي لم يسر فيه قبل.
وتتصف "الأحزان" هي والرسائل الشعرية التي كتبها لأصدقائه "من البحر الأسود Ex Ponto" بكل ما تتصف به أعماله العظيمة من سحر وجمال، فقد بقي له في منفاه كل ما كان له من ألفاظ سهلة يبعث بها السرور في القلوب حتى وهو في المدرسة، ووصف للمناظر تكتسب وضوحها من نفاذ بصره ومن خياله، وقدرة على تصوير الأسخاص وبث الحياة فيهم بما أوتي من دقة ومهارة سيكلوجية، وعبارات موجزة مليئة بالتجربة والتفكير، ورقة في الحوار، ويسر وسهولة في الأوزان، كل هذه الخصائص قد بقيت له في منفاه وخالطها جِدٌّ ووقار ورقة، كان افتقار قصائده الأولى إليها مما جعلها غير جديرة بالرجال. وكان ينقصه في جميع مراحل حياته قوة الخلق؛ وكما أنه قد أفسد(10/94)
شعراء في وقت من الأوقات بما ملأه به من وصف الشهوات الجنسية التافهة، فقد أغرق الآن أشعاره بفيض من الدموع والتضرع للزعيم والتذلل له.
وكان يحسد القصائد التي تستطيع الوصول إلى رومة، ومن أقواله في هذا المعنى: "ارحلي أيتها الكتب وحيي باسمي الأماكن التي أحبها" و "أرض بلادي العزيزة على" (95) ويتمنى لو أن صديقاً شجاعاً حمل هذه الرسائل إلى الإمبراطور فأشفق عليه. وهو يفصح في كل رسالة عن أمله في أن يعفو الإمبراطور عنه، أو يأمر بنقله إلى مكان أقل قسوة من منفاه. وهو لا ينفك يفكر في زوجته ويردد اسمها في أثناء الليل، ويتمنى أن يقبل شعرها الأبيض قبل أن تحين منيته (96). ولكنه لم يصله عفو، حتى إذا قضى في المنفى تسع سنين وبلغ من العمر ستين عاماً، رحب بالموت، وجيء بعظامه إلى إيطاليا استجابةً لرجائه، ودفنت بجوار عاصمة البلاد.
وحققت الأيام ما تنبأ لنفسه من شهرة خالدة، وكان له في العصور الوسطى ما لفرجيل من أثر عميق، وأضحى كتاباه "التحولات" والهيرويدات مصدر كثير من روايات الحب في تلك العصور، واستمد منه بوكاشيو، وتسو، وتشوسر، واسبنسر كثيراً من موضوعاتهم، ووجد مصورو النهضة في أشعاره الشهوانية كنزاً من الموضوعات لا ينضب له معين، وملاك القول أنه كان أعظم شاعر وجداني إبداعي في العصر العقلي الإتباعي.
وانقضى بموته عهد من العهود الزاهرة في تاريخ الأدب. ولا جدال في أن عصر أغسطس لم يكن من أزهى عصور الأدب كما كان عصر بركليز في اليونان أو عصر إلزبث في إنجلترا.
وقد كان حتى في أحسن ما أخرجه من النثر بلاغة طنّانة، وفي خير ما أخرجه من الشعر كمال في الشكل قلّما ينتقل كلاهما من القلب إلى القلب.(10/95)
ولسنا نجد في هذا العصر من يضارع إسكلس أو يوربديز أو سقراط أو حتى لكريشيوس أو شيشرون. لقد كان احتضار الإمبراطور للأدباء هو الذي يلهم أدب رومة ويغذيه ويقمعه ويضيق عليه. وإن العصر الأرستقراطي- كعصر أغسطس أو لويس الرابع عشر أو القرن الثامن عشر في إنجلترا- إن هذا العصر ليعلي من شأن الاعتدال والتوسط، وحسن الذوق، ويوجه الأدب وجهة "إتباعية" في الأسلوب يعلو فيها العقل والشكل على الوجدان والحياة. وذلك أدب أكثر صقلاً وأقل حيوية، وأنضج وأقل تأثيراً من أدب العصور أو العقول المبدعة العاطفية. ولكننا إذا أغضضنا الطرف عن هذا ونظرنا إلى أدب ذلك العصر في نطاق الأدب العقل الإتباعي وجدناه جديراً باسمه؛ فنحن لا نرى من قبله حكماً رزيناً قد عبر عنه بمثل هذا الفن البالغ أوج الكمال، وحتى المرح الجنوني الذي وصفه أوفد قد خفف من حدته القالب الإتباعي الذي صب فيه. وقد بلغت اللغة اللاتينية في شعره وشعر فرجيل وهوراس أعلى ما وصلت إليه بوصفها أداة لقرض الشعر، ولم تبلغ بعدهم ما بلغته في أيامهم من ثراء في اللفظ، وفخامة في النغم، ودقة في التعبير مع إيجاز ومرونة وعذوبة ألفاظ.(10/96)
الباب الثالث عشر
الجانب الآخر من الملكية
14 - 96 (1) م
الفصل الأوَّل
تيبيريوس
إذا نزل العلماء من عليائهم إلى ميدان العواطف زاد العلم ولعابها؛ أما إذا كانت العواطف هي المسيطرة على السياسة تصدعت أركان الإمبراطوريات وزلزلت دعائمها. وكان اختيار أغسطس لتيبيريوس اختياراً حكيماً، ولكنه جاء بعد فوات الفرصة. ولما كان تيبريوس يعمل على إنقاذ الإمبراطورية بصبره وحسن قيادته أوشك الإمبراطور أن يحبه، فقد جاء في ختام إحدى الرسائل التي وجهت إليه: "وداعاً يا أحب الناس إليّ ... ويا أشجع الرجال، ويا أعظم القواد إخلاصاً وأحياهم ضميراً" (1). ولكن عاطفة الجوار وقرب الدار أعمت أغسطس كما أعمت من بعده أورليوس، فنأى بجانبه عن تيبيريوس وقرب إليه أحفاده الصغار، واضطره إلى التخلي عن زواج سعيد موافق ليكون ديوث يوليا، وغضب منه حين لم يرض عن سلوكها، وتركه يبلغ سن الشيخوخة وهو يدرس الفلسفة في رودس. ولما تولي تيبيريوس رياسة الدولة في آخر الأمر كان قد بلغ الخامسة والخمسين من عمره، وكره المجتمع، ولم يعد يرى في السلطان سعادة.
_________
(1) ستكون كل التواريخ الواردة في هذا الباب وما يليه بعد الميلاد إلا إذا نبهنا بأنها قبله.(10/97)
وإذا شئنا أن نفهمه على حقيقته وجب علينا أن نذكر أنه من آل كلوديوس وأنه كان أول الفرع الكلودي من الأسرة اليوليوسية الكلودية التي كان آخرها نيرون. وقد ورث عن أبويه أنبل دم في إيطاليا، وأضيق أهلها أفقاً، وأقواهم إرادة. وكان طويل القامة شديد البأس، حلو الملامح، ولكن حب الشباب ضاعف من حيائه، وسماجة طباعه، وإحجامه وحبه للعزلة (2). ويمثل رأسه الجميل المحفوظ في متحف بسطن في صورة قس شاب عريض الجبهة، واسع العينين غائرهما، ذي وجه يدل على الحزن وعميق التفكير، وقد بلغ من جده ووقاره في شبابه أن أطلق عليه بعض المجان اسم "الرجل العجوز". وقد أخذ من التربية كل ما يستطيع أن يأخذه عن الرومان واليونان والبيئة والتبعة، وأتقن اللغتين اليونانية والرومانية وآدابهما، وكتب الأغاني الشعرية، ودرس التنجيم و "غفل عن الآلهة" (3). وكان يحب أخاه الأصغر دروسس رغم أنه كان أحب منه إلى الشعب؛ وكان زوجاً مخلصاً وفياً لفسبانيا Vipsania مكرماً لأصدقائه إكراماً لم يكون يترددون معه في أن يهدوا إليه الهدايا وينتظروا منه أن يهدي إليهم أربعة أمثالها. وكان أقسى قواد زمانه وأقدرهم، فنال بذلك إعجاب جنوده وتعلقهم به، لأنه كان يعني بكل شؤونهم مهما صغرت، ولأن كان يكسب المعارك بفنه أكثر مما يكسبها من دماء جنده.
ولكن فضائله هي التي قضت عليه، فقد كان يصدق القصص التي تروى عن أعمال أسلافه، وكان يتوق إلى صرامة الرومان الأقدمين تعود إلى المدنية الجديدة، وارتاح إلى إصلاحات أغسطس الأخلاقية، ولم يخف قط عزمه على تنفيذها طوعاً أو كرهاً. ولك يكن يحب ذلك الخليط من الأجناس الذي كان يغلي في بوتقة رومة، فقدم إليهم الخبز ولكنه لم يقدم إليهم الألعاب، وأغضبهم بامتناعه عن حضور ما كان يقدمه إليهم منها أثرياء المدينة. وكان قوي الاعتقاد بأن رومة لا ينجيها مما تردت فيه من الانحطاط إلا طبقة(10/98)
من الأشراف الصلاب ذوي الخلق القويم والذوق الجميل. ولكن الأشراف والعامة على السواء لم يطيقوا صلابة عوده، وصرامة وجهه، وصمته الطويل، وحديثه البطيء، وما يبدو عليه من علم بتفوقه، وفوق هذا كله اقتصاده الشديد في أموال الدولة. فهو والحالة هذه رواقي ولد خطأ في عصر أبيقوري. وقد حالت أمانته الصارمة بينه وبين تعلم فن سنكا، فن الدعوة إلى عقيدة بلغة مزينة جميلة، وإتباع عقيدة أخرى والمثابرة عليها بتجمل وكياسة.
وظهر تيبيريوس أما مجلس الشيوخ بعد أربعة أسابيع من وفاة أغسطس، وطلب إليه أن يقرر إعادة الجمهورية، وقال للأعضاء إنه لا يصلح لحكم تلك الدولة المترامية الأطراف، "وإن خير طريقة لإدارة أعمال المصالح المختلفة التي تشرف على الشؤون العامة في مدينة احتوت هذا العدد الجم من الرجال النابهين ذوي الأخلاق العالية ... أن يتولاها جماعة مؤتلفون من خير المواطنية وأعظمهم كفاية" (4). ولم يجرؤ أعضاء المجلس على أن يصدقوا ما يقوله لهم، فحيوه كما حياهم بطأطأة رؤوسهم، وما زالوا به حتى قبل أن يتولى السلطة التي قال عنها "إنها استرقاق مبهظ مذل" على أمل أن يسمح له المجلس في يوم من الأيام أن يعتزلها ليحيا حياته الخاصة متمتعاً بالحرية (5). وهكذا مثلت الرواية من كلا الجانبين أحسن تمثيل. وما من شك في أن تيبيريوس كان يريد أن يتولى الزعامة وإلا لوجد سبيلاً إلى الفرار منها، وأن مجلس الشيوخ كان يخشاه ويبغضه، ولكنه كانت ترهب عودة جمهورية تقوم، كما كانت تقوم الجمهورية القديمة، على جمعيات تعد من الوجهة النظرية مصدر السلطات جميعها، وكان يرغب في نظام أقل دمقراطية من هذا النظام السالف الذكر لا أكثر منه. ولشد ما ابتهج حين أقنعه تيبيريوس (14 م) أن يأخذ من الجمعية المئوية حق اختيار الموظفين العموميين. وشكا المواطنون من هذا الانقلاب بعض الوقت وكان سبب شكواهم أنهم خسروا الأموال التي كانت تبتاع بها أصواتهم، وأضحى كل ما بقي بعدئذ من السلطة لعامة الناس هو سلطة(10/99)
الاختيار الإمبراطور بقتل سلفه. ذلك أن الدمقراطية بعد تيبيريوس قد انتقلت من الجمعيات إلى الجيش، وكانت أداة الانتخاب هي حد السيف.
ويلوح أنه كان يبغض الملكية بغضاً حقاً خالياً من الرياء، وأنه كان يعد نفسه رأى مجلس الشيوخ الإداري وذراعه المنفذة، ولذلك رفض من الألقاب كل ما تشتم منه رائحة الملكية وقنع بلقب "زعيم الشيوخ" Princeps Senatus، وقضى على كل محاولة ترمي إلى تأليهه، أو عبادة روحه، وأظهر كرهه للملق. ولما أراد مجلس الشيوخ أن يسمي أحد الأشهر باسمه، كما سمي من قبل شهرين باسم قيصر وأغسطس، رد هذه التحية رداً ينطوي على الفكاهة فقال: "وماذا تفعلون إذا وجد لديكم ثلاثة عشر قيصراً؟ " (1). ورفض اقتراحاً يطلب إليه أن يعيد النظر فيمن يختارون لعضوية مجلس الشيوخ، وقال إنه لا شيء مطلقاً يفوق احترامه لهذه الجمعية القديمة "جمعية الملوك". وكان يحضر اجتماعات المجلس، ويحيل إليه "حتى أصغر الأمور ليحكم فيها"، ويجلس فيه ويتكلم كأنه عضو عادي لا أكثر، وكثيراً ما كان يقترع مع الأقلية، ولم يحتج يوماً من الأيام إذا وافق المجلس على قرارات تتعارض مع رغبته التي أبداها جهرة (7). و "كان منطوياً على نفسه، صبوراً". على حد قول ستونيوس "إذا ما وجهت إليه وإلى أسرته الشتائم والافتراءات والمطاعن". وكان يقول في ذلك "إن البلد الحر يجب أن تطلق فيه حرية القول والفكر" (8). ويعترف تاستس وهو من المعادين له أن ترشيحاته "كانت تصدر عن حكمة، وأن من كان يرشحهم من القناصل والبريتورين كانوا يتصفون بصفات الشرف والكمال القديمة الخليقة بمناصبهم. وكان من يلونهم من الموظفين يمارسون سلطات مناصبهم بعيدين عن
_________
(1) ولقد كان على مجلس الشيوخ أن يعمل بقوله هذا فيقسم السن إلى ثلاثة عشر شهراً كل منها ثمانية وعشرون يوماً يعقبها يوم عطلة (أو يومان في السنة الكبيسة).(10/100)
تدخل الإمبراطور. وكانت القوانين إذا استثنينا ما يختص منها باغتصاب الملك تجري في مجراها الطبيعي ... وكانت أعمال الإيرادات العامة يصرفها رجال امتازوا بالاستقامة والنزاهة ... ولم تفرض على أهل الولايات أعباء جديدة، وكانت الضرائب القديمة تجبى في غير عنف أو قسوة ... وساد النظام بين عبيده ... وكانت دور العدالة مفتحة الأبواب لتفصل في كل نزاع يقع بين الإمبراطور وأفراد الشعب، وكان القانون وحده هو الفيصل في هذا النزاع" (9).
ودام هذا الحكم الصالح، حكم تيبيريوس، تسع سنين، استمتعت فيها رومة وإيطاليا والولايات بحكومة صالحة لم تر خيراً منها في تاريخها كله. وحسبنا أن نذكر شاهداً على هذا أن تيبيريوس الذي وجد حين اعتلائه العرش في خزانة الدولة مائة مليون سسترس ترك فيها حين وفاته 2. 700. 000. 000 دون أن يفرض ضرائب جديدة، وعلى الرغم من هباته الكثيرة للأسر والمدن التي حلت بها الكوارث، وبالرغم من عنايته بإصلاح جميع المنشآت العامة وعدم اشتباكه في حروب تجر له المغانم، ورفضه كل ما أراد أن يوصي به إليه أشخاص لهم أبناء أو أقارب أدنون. ولم يدخر جهداً في العناية بجميع شؤون البلاد الداخلية والخارجية. وكان يكتب للولاة الذين يريدون أن يجبوا من الضرائب أكثر مما كان مفروضاً على ولايتهم يقول لهم: "لقد كان من واجب الراعي الصالح أن يقص صوف غنمه لا أن يجزها" (10). ولم يكن يعزو إلى نفسه مجد الظفر في ميدان القتال وإن كان من القادة المحنكين، وقد بسط لواء السلام على الإمبراطورية واحتفظ به بعد السنة الثالثة من حكمه.
وكانت سياسة السلام هذه هي التي حالت بينه وبين ما كان يبغيه من تقدم في عهده. ذلك أن جرمنكوس ابن أخيه، وهو الشاب الوسيم الذي تبناه بعد موت دروسس، كسب بعض المعارك في ألمانيا ورغب أن يواصل الزحف عليها ليفتحها. وكان من رأي تيبيريوس عدم التورط في هذا الفتح،(10/101)
فأغضب بذلك الشعب ذا النزعة الاستعمارية. وإذ كان جرمنكوس حفيد ماركس أنطونيوس فإن الذين كانوا لا يزالون يحلمون بإعادة الجمهورية قد اتخذوه رمزاً لقضيتهم، فلما أن نقله تيبيريوس إلى بلاد الشرق عد نصف أهل رومة هذا القائد الشاب شهيداً لحسب الزعيم، ولما أن فاجأ جرمنكوس المرض ومات ظنت رومة كلها أن الإمبراطور قد أمر بأن يدس له السم في الطعام (19)، واتهم بهذه الجريمة أكنيوس بيزو أحد الموظفين المعينين من قِبَل تيبيريوس في آسية الصغرى. وحاكمه مجلس الشيوخ، وأيقن الرجل أن مجلس الشيوخ سيدينه فانتحر لكي يحتفظ بأملاكه لأسرته. ولم تكشف المحاكمة عن شواهد تدل على ارتكاب تيبيريوس لهذه الجناية أو تثبت براءته منها، وكل ما نعرفه أنه طلب إلى مجلس الشيوخ أن يمكن بيزو من أن يحاكم محاكمة عادلة، وأن أنطونيا أم جرمنكوس ظلت إلى آخر أيام حياتها أخلص أصدقاء تيبيريوس (11).
واضطر تيبيريوس أمام تدخل الجمهور الثائر المهتاج في هذه القضية المشهورة، والقصص البذيئة التي كانت تذاع عن الإمبراطور، ودسائس أجربينا أرملة جرمنكوس وإثارتها الناس عليه، اضطر تيبيريوس أما هذا كله أن يلجأ إلى قانون الخيانة العظمى الذي أصدره قيصر والذي ينص على الجرائم التي ترتكب ضد الدولة. وإذا لم يكن لرومة مدع عمومي أو نائب عمومي، ولم يكن لها (قبل أغسطس) شرطة، فقد كان من حق كل مواطن ومن واجبه أن يوجه التهمة أما المحاكم لكل شخص يعرف أنه خرق القانون، فإذا أدين المتهم كوفئ المخبّر أو المبّلغ بربع أملاك المحكوم عليه وصادرت الدولة بقية أملاكه. واستعان أغسطس بهذا الإجراء الخطير لإرغام الناس على إطاعة قوانينه الخاصة بالزواج. والآن وقد انتشرت المؤامرات ضد تيبيريوس فقد كثر المخبرون الذين رأوا أن يستفيدوا بالتبليغ عنها، وكان أنصار الزعيم من الشيوخ على أتم استعداد للسير في محاكمة المتآمرين بمنتهى الصرامة، وحاول الإمبراطور أن يمنعهم، ونفّذ القانون(10/102)
تنفيذاً صارماً في حالة الذين اتهموا بتسوئ ذكرى أغسطس أو تدنيس تماثيله؛ أما "الأشخاص الذين كانوا يوجهون التهم له فقد حرم أن يوقع عليهم عقاب ما" كما يقول تاستس. وأكد لمجلس الشيوخ أن والدته ليفيا تريد منهم هذه المعاملة الرحيمة لمن يعتدون على سمعتها الطيبة (12).
وأضحت ليفيا نفسها في ذلك الوقت إحدى المشكلات الكبرى في الدولة. ذلك أن عجز تيبيريوس عن الزواج قد تركه وليس له من يحميهِ من امرأة ذات عقلية جبارة اعتادت أن يكون لها عليهِ. وكانت تشعر أن تدبيرها هو الذي هيأ له السبيل لاعتلاء العرش، وأفهمته أنه إنما يتولاه بوصفه ممثلاً لها لا أكثر (13). وكانت رسائله الرسمية في سني حكمه الأولى تحمل توقيعه وتوقيعها معاً، وإن كان وقتئذ قد قارب الستين من عمره، "ولكنها لم تقنع بأن تكون مساوية له في شؤون الحكم" كما يقول ديو "بل أرادت إن تفرض سيادتها عليه ... وشرعت تصرف الأمور جميعها هي وحدها الحاكمة" (14). وصبر تيبيريوس على هذا الحال صبر الكرام ولكن ليفيا عاشت بعد أغسطس خمسة عشر عاماً، فشاد تيبيريوس لنفسهِ قصراً خاصاً، وترك أمه لا ينازعها منازع في امتلاكها القصر الذي شيده أغسطس. وراحت ألسنة السوء تتهمه بقسوة عليها، وبأنه أمات زوجته المنفية من الجوع. وكانت أجريتينا في أثناء ذلك تدفع ابنها بيرون ليخلف تيبيريوس على العرش أو ليغتصبه منه إن أمكن (15). وتحمل أيضاً على مضض، وكل ما فعله أن أنبها على فعلتها بعبارة مقتبسة من اللغة اليونانية: "هل تظنين يا ابنتي العزيزة أنك تظلمين إذا لم تكوني إمبراطورة؟ " (1) وكان أصعب شيء على نفسهِ أن يعرف أن وحيده دروسس الذي رزقه من زجته الأولى كان فتى رقيعاً، دنيئاً، قاسياً، فاسد الأخلاق، شهوانياً، فاجراً.
_________
(1) أجربينا ابنة يوليا من أجربا، وربيبة تيبيريوس بعد زواجه من يوليا، وزج متبناه جرمنكوس، وكان ابنها نيرون عم الإمبراطور نيرون المعروف، وكانت ابنتها أجريبنا الصغرى أم هذا الإمبراطور.(10/103)
كان هذا الكبت الذي فرضه تيبيريوس على نفسهِ، وصبره على هذه المحن، سبباً في إثارة أعصابه وضيق صدره، فأخذ يزداد انطواءً على نفسهِ، وبدت على وجهه الكآبة، وفي حديثه الصرامة، مما نفر منه الناس جميعاً، وأبعدهم عنه، اللهم إلا أصدقاءه الذين يرجون له الخير، وكان ثمة رجل واحد بدا أنه أكثر الناس وفاء له، ذلك هو لوسيوس إيليوس سجانوس Lucius Aelius Sejanus.
وأثرت في تيبيريوس خيبته وحزنه، وأضحى رجلاً حزيناً فريداً في السابعة والستين من عمره، فغادر العاصمة الهائجة المحمومة وآواى إلى كابري حيث عاش عيشة العزلة بعيداً عن سائر الناس. ولكن ألسنة السوء لم تنقطع عن الاستطالة فيه، ولم يعقها عائق عن أن تتبعه في عزلتهِ، فقال بعضهم إنه يريد أن يخفي عن أعين الناس جسمه الهزيل ووجهه الخنازيري (1)، ويطلق العنان لشهواته ورذائله غير الطبيعية (16). ولا شك في أن تيبيريوس كان كثير الشرب، ولكنه لم يكن سكيراً، أما قصة رذائله فأكبر الظن أنها افتراء عليه (17)، ويقول تاستس إن معظم من كانوا حوله من الأصدقاء في كابري كانوا من اليونان الذين لا يمتازون بشيء إلا الأدب" (18). وظل هو في عزلته يصرف شؤون الإمبراطورية تصريفاً حازماً حكيماً، إلا أنه كان يبلغ آراءه ورغباته إلى الموظفين وإلى مجلس الشيوخ على لسان سيجانوس Sejanus. وإذ كان المجلس يخشاه خشية متزايدة، أو يخشى سجانوس أو الحرس العسكري فقد كان يقبل رغبات الإمبراطور، ويرى أنها أوامر واجبة الطاعة. وبذلك استحالت الزعامة إلى ملكية تحت سلطان الرجل الذي عرض أن يعيد الجمهورية، ومن غير أن يحدث أي تغيير في دستور البلاد، ومن غير أن يبدو من تيبيريوس نفسه أي دليل واضح على عدم الإخلاص.
وانتهز سجانوس الفرصة التي أتيحت له فنفى عدداً كبيراً من أعدائه بعد اتهامه إياهم بتهم ينطبق عليها "قانون الخيانة" أو "قانون الجلالة" حسب اسمه
_________
(1) المصاب بداء الخنازير وهو داء عن أعراضه انتفاخ الغدد في أجزاء مختلفة من الجسم وخاصة في العنق. (المترجم)(10/104)
اللاتيني، ولم يتدخل الإمبراطور المتعب في هذا الأمر. وإذ كان لنا أن نصدقه يقوله سوتنيوس فإن تيبيريوس نفسه قد ارتكب كثيراً من أعمال القسوة (91)، ويقول تاستس-وهو ممن لا يعتمد على أقوالهم-إنه طلب تنفيذ عقوبة الإعدام في ببيوس سبيتوس Poppaeus Sabinus بحجة أن عيونه قد سمعوه وهو يأتمر بالحكومة (20). وماتت ليفيا بعد سنة من ذلك الوقت (27)، حزينة وحيدة في بيت زوجها السابق؛ ولم يحضر تيبيريوس جنازتها، ولم يكن قد رآها بعد أن غادر رومة إلا مرة واحدة. وتحرر سجانوس بموتها مما عساه أن تفرضه عليه "أم بلادها" من قيود، فأقنع تيبيريوس بأن أجربينا وابنها نيرون كانت لهما يد في مؤامرة سبينوس، فنفيت الأم إلى بندتيربا Pandateria ونُفي الابن إلى جزيرة بنتيا Pontia حيث قتل نفسه بعد ذلك بزمن وجيز.
وإذ كان سجانوس قد كسب كل شيء إلا عرش البلاد فقد أخذ يعمل جاهداً للوصول إليه. وكان قد أغضبه خطاب كتبه تيبيريوس إلى مجلس الشيوخ يرشح فيه جيوس ابن أجربينا ليكون زعيماً من بعده، فدبر مؤامرة لاغتيال الإمبراطور عام (31). ونجا الإمبراطور بفضل أنطونيا أم جرمنكوس إذ خاطرت بحياتها لتبعث إليه تحذره من الخطر الذي يتهدده؛ ولم يكن الزعيم الشيخ قد فقد عزيمته بعد فعُينَ في السر رئيساً جديداً للحرس، وأمر بالقبض على سجانوس، واتهمه بالخيانة أمام مجلس الشيوخ. ولم يكن هذا المجلس في يوم من الأيام أكثر استجابة لرغبات الأباطرة منه في هذه المرة، فقد أدان سجانوس من فورهِ، ونفذ فيه حكم الإعدام خنقاً في الليلة نفسها. وأعقبت ذلك فترة من حكم الإرهاب تولى قيادتها أحياناً شيوخ أضر سجانوس بمصالحهم، أو آذى أقاربهم أو أصدقاءهم، وأحياناً أخرى تولاها تيبيريوس نفسه. ودفعه الخوف والغضب، اللذان استولى عليهِ بعد أن زال عن عينيه ما كان يغشاها من خداع، إلى سورة جنونية من الانتقام. وفي هذه الفترة قتل كل إنسان ذي خطر عاون سجانوس(10/105)
أو كانت لديه يد في تنفيذ أغراضه، ولم تنج من القتل ابنته الصغيرة نفسها؛ وإذ كان القانون يحرم قتل العذارى فقد فضت بكارتها قبل خنقها؛ وانتحرت مطلقته أبكاتا Apicata، ولكنها أرسلت قبل انتحارها خطاباً إلى تيبيريوس تبلغه فيهِ أن لفلا Livilla ابنة انطونيا قد اشتركت مع سجانوس في تسميم زوجها دروسس ابن الإمبراطور، فما كان من تيبيريوس إلا أن أمر بمحاكمة ليفلا، ولكنها امتنعت عن الطعام حتى ماتت. وبعد سنتين من ذلك الوقت (33) انتحرت أجربينا في منفاها كما امتنع عن الطعام ابن آخر من أبنائها، كان قد حكم عليه بالسجن، وظل ممتنعاً حتى مات.
وعاش تيبيريوس ستة أعوام بعد سقوط سجانوس، وأكبر الظن أنه أصيب وقتئذ بخبال في عقله، وبغير هذا الافتراض لا نستطيع أن يفسر ما يعزى إليه من أعمال القسوة التي لا يصدقها عقل. فنحن نسمع أنه كان في ذلك الوقت تهم الخيانة العظمى التي توجه إلى الناس بدل أن يعارض فيها، كما كان يفعل من قبل، حتى بلغ مجموع مَن أدينو بتلك التهمة في حكمه ثلاثة وستين شخصاً، وتوسل إلى مجلس الشيوخ أن يعمل على حماية "شيخ وحيد طاعن في السن". وفي عام 37 غادر كابري بعد تسع سنين من السجن الاختياري، وطاف ببعض مدن كمبانيا. وبينما كان يستريح في بيت لوكلس الخلوي في ميسنوم انتابته نوبة إغماء وخيل إلى من حوله أنه قضى نحبه. والتفّت بطانته من فورها حول جايوس الذي سيصبح في ظنها إمبراطوراً بعد قليل، ولكنهم روعوا حين رأوا تيبيريوس يفيق من نوبته. ثم أنجاهم من هذه الورطة صديق لهم جميعاً بأن كتم أنفاسه بوسادة (37) (21).
ويصفه ممسن Mommsen بقوله إنه كان "أقدر حاكم شهدته الإمبراطورية" (22). وقد حلت به في حياته كل الكوارث التي يمكن أن تحل بإنسان إلا القليل النادر منها، وحتى بعد وفاته لم ينج من قلم تاستس.(10/106)
الفصل الثاني
جايوس
واحتفل الشعب بموت الإمبراطور الشيخ بهتافه: "تيبيريوس إلى نهر التيبر"، ورحب بواحتفل الشعب بموت الإمبراطور الشيخ بهتافه: "تيبيريوس إلى نهر التيبر"، ورحب بإقرار مجلس الشيوخ تنصيب جايوس قيصر جرمنكوس خليفة له. وكانت أجربينا قد ولدت جايوس وهي ترافق جرمنكوس في حروبه عند الحدود الشمالية، فنشأ بين الجند، ولبس لباسهم، ولقبوه تدليلاً له بلقب كالجيولا Caligula أو الحذاء الصغير أخذاً من الحذاء النصفي Caliga الذي كان يحتذيه الجيش. فلما جلس على العرش أعلن أنه سيسير على المبادئ التي كان يسير عليها أغسطس في سياسته، وأنه سيتعاون مع مجلس الشيوخ في جميع الأمور. ووزع على المواطنين التسعين مليون سسترس التي أوصى لهم بها تيبيريوس وليفيا وأضاف إليها ثلثمائة سسترس لكل واحد من المائتي ألف الذين يأخذون حبوباً من الدولة. وأعاد إلى الجمعية حق اختيار كبار الحُكّام، ووعد بتخفيض الضرائب وإقامة الألعاب الكبرى، وأرجع ضحايا تيبيريوس المنفيين، وجاء برماد أمه إلى رومة مصحوباً بمظاهر التقوى والتكريم. ولاح أنه سيكون على النقيض من سلفه في كل شيء، فقد كان متلافاً للمال، مرحاً، رحيماً، ولم يمض على اعتلائه العرش ثلاثة أشهر حتى قرب الناس للآلهة مائة وستين ألفاً من الضحايا شكراً لها على أن وهبتها زعيماً فاتناّ محسناً (23). وكان الشعب قد نسى حسبه ونسبه، فقد كانت جدته لأبيه ابنة أنطزنيوس، وكانت جدته لأمه ابنة أغسطس، وقد تجددت في دمه الحرب التي ثار عجاجها من قبل بين أنطونيوس وأكتافيان وانتصر فيها أنطونيوس. وكان كالجيولا يفخر بمهارته في المبارزة، والمجالدة، وركوب العربات، ولكنه(10/107)
"كانت تنتابه نوبات الصرع"، ويكاد في بعض الأحيان "يعجز عن المشي أو التفكير" (24). وكان يختفي أسفل سريره إذا سمع هزيم الرعد، ويفر مذعوراً إذا شاهد اللهب فوق بركان إتنا؛ وكان مصاباً بالأرق يطرف به ليلاً جنبات قصره الواسع يصيح طالباً طلوع الفجر. وكان طويل القامة، ضخم الجسم، كثيف الشعر، إذا استثنينا رأسه الأصلع. وكان له صدغان منخفضان، وعينان غائرتان، تنفر الناس منه، ويُسر هو من ذلك النفور. وكان "يمثل بوجهه أمام المرآة كل المناظر المخيفة" (25). وكان قد أحسن تعليمه في صباه، فكان خطيباً مفوهاً، حاد الذكاء، فكهاً لا يراعي في فكاهته احتشاماً ولا قانوناً. وقد افتتن بحب التمثيل فأعان كثيرين من الممثلين، وكان هو نفسه يمثل ويرقص سراً. وكان إذا رغب أن يشهده النظارة دعا زعماء مجلس الشيوخ متظاهراً بأنه يدعوهم إلى اجتماع خطير، ثم يعرض أمامهم رقصة (26). ولو أنه أتيحت له حياة هادئة يعمل فيها عملاً يتحمل تبعته لجاز أن يهدئ ذلك من أعصابه، ولكن سم السلطة ذهب بعقلهِ، ذلك أن صحة العقل، كالحكم، تحتاج إلى ضوابط وموازين، وما من أحد من بني الإنسان يستطيع أن يكون قادراً على كل شيء وأن يكون في نفس الوقت سليم العقل. ولما أسدت إليهِ جدته أنطونيا بعض النصح أنبها بقوله: "اذكري أن في مقدوري أن أفعل أي شيء بأي إنسان". وذكر لضيوفه في إحدى الولائم أن في وسعه أن يقتلهم كلهم وهم متكئون في مقاعدهم؛ وكان وهو يحتضن زوجته أو عشيقته يقول لها ضاحكاً": "سيطيح هذا الرأس الجميل بكلمة تخرج من فمي" (27).
وسرعان ما أخذ الزعيم الشاب يصدر الأوامر إلى مجلس الشيوخ ويطلب إليه الخضوع لهذه الأوامر، بعد أن كان يُظهر له أعظم الاحترام، فصار يسمح(10/108)
للشيوخ أن يقبلوا قدميه تعظيماً له وتبجيلاً، ثم يتقبل الشكر منهم على تشريفه إياهم بهذا التقبيل (28). وكان شديد الإعجاب بمصر وأساليبها، وأدخل كثيراً من هذه الأساليب إلى رومة، وكان يتوق إلى أن يُعبد على أنه إله كما كان يعبد الفراعنة ملوك مصر الأقدمون، وجعل دين إيزيس أحد الأديان الرسمية في الدولة، ولم ينس أن جده الأكبر كان يعتزم ضم إقليم البحر الأبيض المتوسط تحت سلطان دولة ملكية شرقية، فأخذ هو أيضاً يفكر في نقل عاصمة ملكه إلى الإسكندرية، ولم يحل بينه وبين تنفيذ قصده إلا ارتيابه في ذكاء أهلها. ويصفه سوتونيوس بأنه كان يقضي وقته "فيما تعود من فصاحة أخواته كلهن" (29)، فقد بدا له أن هذه عادة من أحسن العادات المصرية القديمة. ولما مرض أوصى بأن تكون أخته دروزلا Drusilla وريثة عرشه من بعدهِ، فلما تزوجت أرغمها على أن تطلق زوجها وأخذ "يعاملها كأنها زوجة شرعية" (30). وكان يرسل إلى غيرها من النساء اللاتي يحبهن رسائل بأسم أزواجهن يبلغهن فيها نبأ طلاقهن، ثم يدعوهن إلى معانقته، فلم توجد امرأة ذات مكانة إلا دعاها إليهِ. على أن هذه الصلات كلها مضافاً إليها صلات بينه وبين كلا الجنسين لم تمنعه أن يتزوج أربع مرات. وحضر مرة زفاف ليفيا أرستلا L ivia Orestilla وكيوس بيزو Caius Piso، فما كان منه إلا أن أخذ العروس إلى بيتهِ، وتزوجها ثم طلقها بعد بضعة أيام. وسمع أن لوليا يولينا Lollia Paulina بارعة الجمال، فاستدعاها إليه، وطلقها من زوجها، وأمرها ألا تكون لها من ذلك اليوم علاقة بأي رجل. وكانت زوجته الرابعة سيزونيا Caesonia حاملاً من زوجها حين تزوج بها، ولم تكن صغيرة السن أو جميلة ولكنه أحبها وأخلص لها الحب.
وكانت شؤون الحكم في هذا العبث الإمبراطوري من الأمور التي لا يعبأ بها وفي وسعه أن يتركها لغيره من أصحاب العقول الصغيرة. وقد راجع كالجيولا السجل المحتوي على أسماء رجال الأعمال مراجعة تدل على(10/109)
مقدرة فائقة، ورقى خير هؤلاء الرجال أعضاء في مجلس الشيوخ. ولكن إسرافه لم يلبث أن أفرغ خزانة الدولة من الأموال التي ملأها بها تيبيريوس، فبددها تبديداً منقطع النظير؛ من ذلك أنه لم يكن يستحم بالماء بل بالعطور، وقد أنفق على إحدى الولائم عشرة ملايين سسترس (31)، وبنى قوارب عظيمة للنزهة ذات عمد وشاد أبهاء للمآدب، وحمامات، وحدائق، وأشجار فاكهة، مطعمة في مؤخرها بالجواهر. وأمر مهندسيه أن يقيموا على خليج بايا Baiae جسراً مستنداً إلى عدد من القوارب بلغ من كثرته أن عز الطعام في رومة لعدم وجود السفن لنقل الحبوب. ولما تم بناء الجسر أقيم احتفال عظيم، وأضيء مكان الاحتفال بالأضواء الغامرة على الطريقة الحديثة، وأخذ الناس يقصفون ويطربون ويشربون، حتى انقلبت بهم القوارب وغرق منهم كثيرون. وكان من عادته أن ينثر من قصر يوليا النقود الذهبية والفضية على الشعب من تحته، ثم يراقبهم في مرح وسرور وهم يتنازعون نزاعاً قاتلاً على اختطاف هذه النقود. وبلغ من حبه للعصبة الخضراء في سباق الخيل أن منح سائق إحدى العربات مليوني سسترس، وأن بنى إسطبلاً من الرخام ومذوداً من العاج لجواد السباق انستاتس Incitatus، ودعاه إلى وليمة واقترح أن يعينه قنصلاً.
وأراد أن يجمع المال اللازم لعبثه وشهواته التي لم تنقطع طوال حياته فأرجع العادة القديمة، عادة تقيم الهدايا إلى الإمبراطور؛ وكان يتسلم هذه الهدايا بيدهِ، وهو جالس في شرفة قصره، من كل من يقدمها إليه؛ ويشجع المواطنين على أن يذكروه في وصاياهم ويجعلوه وارثاً لهم، وفرض الضرائب على كل شيء: على كل طعام يُباع، وعلى كل الإجراءات القضائية، وفرض 12. 5% على أجور الحمالين. ويؤكد سوتونيوس أنه فرض "على مكاسب العاهرات" ضريبة "تعادل مقدار ما تناله الواحدة منهن نظير عناقها مرة، وقرر القانون أن تظل من كانت يوماً ما عاهرة خاضعة لهذه الضريبة وإن تزوجت" (32).(10/110)
وكان الأغنياء في أيامه يُتهمون بالخيانة ويُحكم عليهم بالإعدام لتُصادر أموالهم لصالح الخزائن العامة. وكان هو نفسه يبيع المجالدين والأرقاء بالمزاد العلني، ويرغم اشراف البلاد على حضور هذا المزاد والاشتراك فيهِ؛ وكا الواحد منهم إذا عفا فسر إعفائه بأنه عطاء، حتى إذا استيقظ وجد قد كسب ثلاثة عشر مجالداً وخسر تسعة ملايين سسترس (33)، وكان يرغم الشيوخ على أن يجادلوهم أيضاً في المجتلدات.
ودُبرت بعد ثلاث سنين مؤامرة للقضاء على هذا العبث المذل، ولكن كالجيولا كشف سر المؤامرة، وانتقم لنفسه بأن فرض على البلاد عهداً من الإرهاب زاده وحشية حبه الجنوني للأذى، فكان يأمر الجلادين بأن يقتلوا الضحايا بإثخانهم بالجراح الصغيرة الكثيرة حتى يشعروا بأنعم يموتون" (34). وإذا كان لنا أن نصدق ديوكاسيوس فإنه أرغم أنطونيا جدته التقية على أن تقتل نفسها (35). ويقول سوتونيوس إنه لما قل ما يلزمه من اللحم لإطعام الوحوش التي كان يستخدمها في الألعاب أمر أن يُقدم "جميع الصلع" المساجين طعاماً لهذه الوحوش لأن في ذلك الخير كل الخير للناس، وأنه أمر أن يكوى جميع رجال الطبقات العليا بالحديد المحمي وأن يُحكم عليهم بالعمل في المناجم، وأن يُلقوا للحيوانات الضارية، أو يُحبسوا في أقفاص حديدية ثم تُنشر أجسامهم نصفين بالمناشير (36). تلك قصص ليس في وسعنا أن ننفيها أو نؤيدها ونحن نوردها هناعلى أنها من الروايات التي كان الناس يتناقلونها. وكل ما نستطيع أن نقوله نحن بشأنها أن سوتونيوس كان مؤرخاً ثرثاراً مولعاً باغتياب الناس، وأن الشيخ تاستس كان يكره الأباطرة، وأن ديوكاسيوس كتب تاريخه بعد مائتي عام من حكم كالجيولا (37). وأصدق من هذه القصص في رأينا ما يُروى من أن كالجيولا أشعل نار الحرب بين الزعامة والفلسفة بنفيه كريناس سكندس Crrrinas Secundus وإصدار حكم الإعدام على اثنين من المعلمين، وأدرج اسم الشاب سنكا بين أسماء المحكومين بإعدامهم، ثم أنجاه من الموت مرضه واعتقاد الإمبراطور أنه(10/111)
سيقضي نحبه دون حاجة إلى تجريح جسمه. ونجا كلوديوس عم كالجيولا لأنه كان أو تظاهر بأنه أبله حقيراً غلبت عليه شهوة قراءة الكتب.
وآخر ما لجأ إليه كالجيولا من العبث أن أعلن أنه إله معبود لا يقل شأناً عن جوبتر نفسه، وحُطمت رؤوس التماثيل الشهيرة المقامة لجوف وغيره من الأرباب، ووضعت في مكانها رؤوس للإمبراطور. وكان يسره أن يجلس في هيكل كاستر وبلكس Castor and Pollux ويتلقى عبادة الناس. وكان يحلو له في بعض الأحيان أن يتحدث إلى تمثال من تماثيل جوبتير، وكان هذا الحديث في الغالب تأنيباً للإله، وقد استطاع بحيلة من الحيل أن يجيب عن قصف الرعد ووميض البرق كلما قصف الأول وأومض الثاني (38). وأقام هيكلاً لعبادته، وعين له جماعة من الكهنة، وأمده بطائفة من الضحايا، وعين جواده المحبوب كاهناً من بين كهنته. وادعى أن إلهة القمر قد نزلت إليهِ وعانقته، وسأل فيتلوس Vitellius ألم يرها بعينه؟ فكان جواب تابعه الحكيم "لا، إن أمثالك من الآلهة هم وحدهم الذين يرى بعضهم بعضاً" (39). ولكن الناس لم تخدعهم هذه السخافات؛ من ذلك أن إسكافاً غالياً رأى كالجيولا متخفياً في صورة جوبتير، وسأل عن رأيه في الإمبراطور فقال "مخادع كبير". وعلم بذلك كالجيولا ولكنه لم يعاقب الرجل لى هذه الشجاعة السارة (40).
وما كاد هذا الإله يبلغ التاسعة والعشرين من عمره حتى أضحى شيخاً منهوك القوى من طول الإِفراط، ولعله أصيب ببعض الأمراض السرية، وحتى كان له رأس صغير نصف أصلع فوق جسم مسترخ بدين، ووجه كالح، وعينان غائرتان، ونظرات خبيثة تنم عن الغدر والخيانة. ووافته المنية على حين غفلة، وكانت منيته على يد الحرس البريتوري الذي طالما ابتاع معونته بالهدايا. وذلك أن ضابط من ضباط الحرس يدعى كاسيوس كئيريا(10/112)
Cassius Chaerea أهانه كالجيولا مراراً كثيرة بالألفاظ البذيئة التي كان يبلغها إليهِ كل يوم لتكون بمثابة سر الليل ووجواز المرور؛ فقتله سراً في إحدى ممرات الملهى (41). ولما ذاع الخبر في المدينة تردد أهلها في تصديقه، وظنوا أنه حيلة من حيل الإمبراطور الخبيث يريد بها أن يعرف أي الناس يبتهج بموتهِ. وأراد مغتالوه ألا يتركوا الناس في شكهم فقتلوا زوجته الأخيرة؛ وحطموا رأس ابنته بدقهِ في إحدى الجدران. ويقول ديو إن كالجيولا عرف في ذلك اليوم أنه ليس إلهاً (41).(10/113)
الفصل الثالث
كلوديوس
ترك كالجيولا الإمبراطورية والأخطار تتهددها من كل ناحية: فالخزانة خاوية، ومجلس الشيوخ قد اضمحل وضعف شأنه، والشعب غاضب ثائر، وموريتانيا Moretania ثائرة، وبلاد اليهود قد امتشقت الحسام لأنه أصر على أن يوضع تمثاله ليعبد هيكل أورشليم، ولم يكن أحد يعرف أين يوجد الحاكم القدير الخليق بأن يواجه المشاكل. ولكن حدث أن عثر الحرس البريتوري على كلوديوس الظاهر البلاهة مختبئاً في أحد الأركان، فنادوا بهِ إمبراطوراً. وخشي مجلس الشيوخ صولة الجند، ولعل هذا الاختيار قد أنجاه من موقف لم يكن يحمده، وسره أن يتعامل مع إنسان متحذلق عديم الأذى بدل أن يتعامل مع رجل مجنون مستهتر لا يعبأ بشيء. ولهذا أيد الحرس في اختياره وارتقى تيبيريوس كلوديوس قيصر أغسطس جرمنكوس عرش الإمبراطور في تردد وخشية.
وكلوديوس هذا ابن أنطونيا ودروسس وأخو جرمنكوس وليفيا، وحفيد أكتافيان وتيبيريوس كلوديوس نيرون. وكان مولده في لجدنوم Lugdunum ( ليون الحالية) في السنة العاشرة قبل الميلاد، وكان وقت أن أختير إمبراطوراً في الخمسين من عمره، طويل القامة ممتلئ الجسم، ذا شعر أبيض ووجه بشوش، ولكن شلل الأطفال وغيره من الأمراض قد أضعفت بنيته. وكانت ساقاه رفيعتان لا تكادان تقويان على حمله، فكان يخجل في مشيته، وكان رأسه يتأرجح فوق كتفيهِ. وكان مغرماً بالخمر الجيد والطعام الشهي، وكان يشكو داء الرثية، ويتمتم قليلاً إذا تحدث، وإذا ضحك رفع صوته(10/114)
إلى حد لا يليق بالألباطرة. ويقول عنه شانئوه القساة إنه كان إذا غضب "خرج الزبد من فمهِ وسال المخاط من أنفهِ" (43). وقد قام على تربيته النساء والأرقاء المحررون، فنشأ هياباً حساساً، وهما صفتان قد تصلحان للحكام، ولم تكد تسنح له الفرص للتدريب على ممارسة شؤون الحكم. وكان أقرباؤه يرونه إنساناً مريضاً ضعيف العقل؛ وكانت أمه التي ورثت عن أكتافيان رقتها وظرفها تسميه "الهولة التي لم يكتمل خلقها"، وكانت إذا أرادت أن تعير إنساناً بشدة البلاهة وصفته بأنه: "أشد بلاهة من ابني كلوديوس". وإذ كان محتقراً من جميع الناس فقد عاش خاملاً مغموراً آمناً لذلك على نفسهِ، ويقضي وقته بين الميسر والكتب والشراب؛ وتفقه في اللغة وفي العاديات، وكان ضليعاً في الفنون "القديمة"، والدين، والعلوم الطبيعية، والقانون،. وقد كتب تاريخاً لإتروريا، وقرطاجنة، ورومة، ورسالة في النرد، وأخرى في حروف الهجاء، وملهاة يونانية، وترجمة لحياته. وكان العلماء والفلاسفة يراسلونه ويهدون إليهِ مؤلفاتهم، وينقل عنه بلني الأكبر ويعده من الثقاة الذين يعتمد عليهم. وقد علم الناس وهو إمبراطور كيف يعالجون عض الأفاعي، وهدأ مخاوف الشعف الخرافية بأن تنبأ بكسوف الشمس في يوم ميلاده وفسر لهم سبب هذا الكسوف. وكان يحسن الكلام باللغة اليونانية، وكتب عدداً من مؤلفاته بهذه اللغة؛ وكان حسن النية، ولعله كان صادقاً حين قال في مجلس الشيوخ إنه كان يتظاهر بالغباوة لينجو من الموت.
وكان أول أعماله وهو إمبراطور أن منح كل جندي من جنود الحرس الذين رفعوه على العرش خمسة عشر ألف سسترس. وكان كالجيولا قد وهبهم من قبل هبات من هذا النوع ولكنه لم يهبها لتكون ثمناً صريحاً لعرش الإمبراطورية. واعترف كلوديوس وقتئذ بسلطان الجيش وسيادته في الوقت الذي ألغى فيهِ مرة أخرى حق الجمعية في اختيار كبار الحكام. وكان أكثر حكمة وكرماً من سلفهِ، فوضع حداً للاتهام بالخيانة، وأطلق(10/115)
سراح من سجنوا من قبل بمقتضى هذا الاتهام، وأعاد جميع المنفيين إلى أوطانهم، ورد الأموال المصادرة إلى أصحابها، وألغى الضرائب التي فرضها جايوس. ولكنه أمر بإعدام قتلة كالجيولا، وحجته في هذا أن الخطر كل الخطر في التغاضي عن قتلة الأباطرة. وحرم عادة السجود للإمبراطور، وأعلن في صراحة أنه لا يريد أن يتخذ إلهاً يعبد. وحذا خذو أغسطس في إصلاح المعابد ودفعه شغفه بالآثار القديمة إلى السعي لبعث الدين القديم. وانكب بجد وإخلاص على العناية بالشؤون العامة، وبلغ من عنايته بها أن كان "يطوف بمن يبيعون السلع ويؤجرون المباني، ليقوم كل ما يعتقد أن فيه ضرراً بمصالح الشعب" (44). لكنه وإن جارى أغسطس في اعتداله، وخرج عن تحفظ أغسطس وحذره إلى سياسة قيصر الجريئة المتشعبة، فسعى إلى إصلاح أداة الحكم والقانون، وأنشأ المباني والخدمات العامة، وأعلى من شأن الولايات، ومنح الحقوق الانتخابية لغالة وفتح بريطانيا وصبغها بالصبغة الرومانية. وقد أدهش الناس جميعاً حين أظهر أنه ذو خلق وإرادة، وليس ذا علم وذكاء فحسب. ولم يكن أقل ثقة من قيصر وأغسطس بأن كبار الحكام في الأقاليم قليلو العدد ناقصو المران، وأن مجلس الشيوخ يمنعه كبرياؤه ونزقه من الاضطلاع بمهام الإدارة البلدية والإمبراطورية المعقدة المتنوعة؛ ومن أجل هذا كان يعظم المجلس فترك له سلطات كثيرة، ومظاهر شرف وكرامة من هذه السلطات؛ أما شؤون الحكم الحقيقية فكان يضطلع بها نفسه يعاونه بها مجلس يعين هو أعضاءه، وهيئة من الموظفين العموميين نظمها تدريجياً واختار أفرادها، كما اختارهم قيصر وأغسطس وتيبيريوس، من أرقاء بيت الإمبراطور المحررين؛ واستخدم في الأعمال الكتابية والواجبات الصغرى أرقاء "عموميين". وكان على رأس هذه الإدارة البيروقراطية أربعة وزراء: وزير دولة ("للمواصلات" ab epistulis) ، ووزير مالية ("للحسابات" a rationibus) ، ووزير آخر ("للملتمسات" a libellis) ، ونائب عمومي ("للقضايا القانونية" a cognitionibus) . وتولى الثلاثة(10/116)
المناصب الأولى ثلاثة من أقدر الأرقاء المحررين-نارسس Narcissus، وبلاس Pallas، وكالستس Callistus. وكاب ارتقاؤهم إلى هذه المناصب ذات الثراء والجاه إذاناً بارتفاع شأن طبقة المحررين إلى أعلى الدرجات، وهو ارتقاء كان يسير في مجراه منذ قرون عدة، وبلغ في عهد كلوديوس هذه الدرجة الرفيعة. ولما احنج الأشراف على وضع السلطة في أيدي هؤلاء العصاميين الحديثي النعمة كان جواب كلوديوس أن أعاد منصب الرقيب، وأن اختير هو لايشغل هذا المنصب، وأن أعاد النظر في سجل الأشخاص الذين يختار منهم أعضاء المجلس، فمحا منه أسماء كبار المعارضين لسياسته، وأضاف إليه أعضاءً جدداً من الفرسان من أهل الولايات.
ولما تهيأت له هذه الأداة الإدارية وضع لنفسه منهاجاً واسعاً من المنشئات العامة والإصلاحات، فأصلح نظام المرافعات أمام المحاكم وفرض عقوبات على تأخير القضايا، وجلس على منصة القضاء ساعات طوالاً كل أسبوع، وحرم تعذيب أي احد من المواطنين. وأراد أن يقي مدينة رومة غائلة الفيضانات المخربة التي أصبحت تهددها أكثر من ذي قبل لأن سفوح الأبنين أخذت تجرد من الأشجار، فأمر بحفر مجرى إضافي في الجزء الأدنى من نهر التيبر. ولكي يعجل باستيراد الحبوب إلى إيطاليا أمر بإنشاء مرفأ جديد بالقرب من أستيا Ostia، وأقام مخازن، وأحواضاً، ورصيفين عظيمين لتقليل حدة أمواج البحر، وحفر قناة توصل الميناء بنهر التيبر في نقطة بعيدة عن مصبهِ الذي يسده الغرين. وأتم بناء قناة "كلوديوس" التي بدأها كالجيولا لنقل الماء العذب إلى رومة، وشاد قناة أخرى، وكانت كلتاهما من الأعمال الضخمة المشهورة بجمال منظرها وبعقودها الشامخة. ولما رأى أن أراضي المرسيين Marsians تتحول في بعض فصول السنة إلى منافع حين تفيض بحيرة فوستس، خصص جانباً من أموال الدولة تؤدى من أجور 30. 000 عامل مدة أحد عشر عاماً(10/117)
ليحفروا نفقاً طوله ثلاثة أميال يصل البحيرة بنهر سريز Ciris مخترقاً بعض الجبال. وقبل أن تنطلق مياه البحيرة في هذا النفق أجرى فوق مياه البحيرة معركة بحرية صورية بين أسطولين عليهما تسعة عشر ألفاً من المجرمين الذين أدانتهم المحاكم، وشهدها خلائق أجمعون من كافة أنحاء إيطاليا فوق الثلال المشرفة على البحيرة. وحيت هذه الجموع الإمبراطور بالعبارة المأثورة: "مرحباً بقيصر! نحن الذين نوشك أن نموت نحييك Ave Caesar! Morituri Salutamus (45) .
وازدهرت أحوال الولايات في عهده كما ازدهرت في عهد أغسطس، وعاقب الموظفين على سوء استخدام وظائفهم إلا في حالة واحدة هي حالة فلكس المدعي العمومي في بلاد اليهود، وذلك لأن بلاس Pallas شقيق الشخص الذي نم على القديس بولس أخفى جرائمه عن الإمبراطور، وكان يهتم بكل صغيرة وكبيرة من أعمال الولايات. وتمتاز مراسيمه التي عثر عليها في كافة أنحاء الإمبراطورية بالإسهاب والتكرار، ولكنها تكشف عن عقلية وعن إرادة منصرفتين إلى تحقيق الصالح العام. وقد بذل جهده لإصلاح المواصلات والنقل، وحماية المسافرين من اعتداء اللصوص وقطاع الطرق، وفي خفض ما تتكلفه الهيئات من نفقات الوظائف العامة المنشأة لخدماتها. وكان يرغب كما يرغب قيصر في رفع شأن الولايات حتى تعادل إيطاليا نفسها وحتى تكون كلها وحدات متنساوية في مجموعة الأمم الرومانية، فنفذ ما كان يعتزمه قيصر من منح حقوق المواطنية الرومانية لبلاد غالة الجنوبية، ولو استطاع أن ينفذ رغباته لمنح هذا الحق جميع الأحرار في الإمبراطورية (46). ولقد كشفت في مدينة ليون عام 1524 لوحة برونزية احتفظت لنا بجزء من الخطبة الطويلة الكثيرة الاستطراد التي أقنع بها مجلس الشيوخ بأن يقبل في عضويته وفي المناصب الإمبراطورية أولئك الغاليين الذين منحوا حق المواطنية الرومانية، ولم يسمح في الوقت نفسه بأن يضعف الجيش أو يعتدي على حدود الدولة، فظل الجيش عاملاً(10/118)
قائماً بمهمته ومستعداً على الدوام للقيام بها، ونشأ في أيامه قواد عظام أمثال كربولا Carbula، وفسبازيان Vespasian، وبولينس Paulinus، وتكونوا بفضل اختياره وتشجيعه. وقرر كذلك أن يتم مشروعات قيصر، فغزا بريطانيا في عام 43 وفتحها، وعاد منها إلى رومة بعد أن غاب عنها ستة أشهر، ولما أقيم له احتفال بالنصر بعد عودته خالف جميع السوابق بأن عفا عن كركتكوس Caractacus ملكها الأسير. وسخر أهل رومة من عمل إمبراطورهم العجيب ولكنهم أحبوه، ولما أن راجت مرة من المرات في أثناء غيابه عن العاصمة، شائعات كاذبة بأن الإمبراطور قد قتل، عمت المدينة موجة من الحزن لم يسع مجلس الشيوخ معها إلا أن يؤكد للناس نأكيداً رسمياً بأن اللإمبراطور لم يُصب بسوء، وأنه سيعود قريباً إلى رومة.
لكنه سقط من هذا العلو الشاهق لأنه أقام نظاماً للحكم أكثر تعقيداً مما يستطيع الإشراف عليه بنفسه، ولأن عبيده المحررين وأفراد أسرته أساءوا استغلال لطفه وعطفه. لقد أصلحت البيروقراطية التي أنشأها أحوال الإدارة، ولكنها فتحت فيها آلاف الثغرات للرشا والفساد؛ وكان نارسس وبلاس من أعظم رجال السلطة التنفيذية الذين يرون أن مرتباتهم أقل من كفايتهم، فكانا يستعيضان عن هذا الفرق ببيع المناصب وأغتصاب الرشا بالتهديد، وتوجيه التهم الكاذبة إلى من يريدون مصادرة ضياعهم من الأثرياء. وكانت نتيجة ذلك أن أصبحا أغنى الناس جميعاً في التاريخ القديم كله، فكان نارسس يمتلك 400. 000. 000 سسترس (86. 000. 000 ريال أمريكي) وكان بلاس يشكو الابؤس لأنه لم يكن له إلا 300. 000. 000 فقط (47). ولما شكا كلوديوس من وجود عجز في خزانة الإمبراطورية، قال الثرثارون الرومان إن في وسعه أن ينال كفايته من المال وفوق كفايته منه إذا أشرك معه في الحكم عبديه المحررين (48). وروعت هذه السلطات العظيمة والأموال المكدسة الأسر الشريفة القديمة التي أضحت وقتئذ فقيرة(10/119)
إلى هؤلاء العصاميين، وكانت تتلظى غيظاً حين تضطر إلى رجاء العبيد السابقين أن يسمحوا لها بأن تتحدث إلى الإمبراطور.
أما كلوديوس فقد كان منهمكاً في العمل، يكتب إلى الموظفين والعلماء، ويعد المراسيم والخطب، ويؤدي حاجات زوجته. ذلك رجل كان خليقاً به أن يعيش عيشة الرهبان، وأن يحصن نفسه من الحب، لأن زوجاته كن سبباً في القضاء عليهِ، كما كانت سياسته في منزلهِ أقل نجاحاً من سياسته الخارجية. وقد تزوج كما تزوج كالجيولا أربع مرات، فأما زوجتنه الأولى فماتت في يوم زفافها، وأما الثانية والثالثة فقد طلقهما؛ ولما كان في الثامنة والأربعين من عمره تزوج فليريا مسالينا وهي فتاة في السادسة عشر، ولم تكن بارعة الجمال. فقد كان رأسها مستوياً، ووجهها متورداً، وصدرها قبيح الشكل (49). ولكن المرأة ليست في حاجة إلى الجمال لكي تكون زانية، ولما أن اعتلى كلوديوس عرش الإمبراطورية تخلقت بأخلاق نساء الملوك، وادعت لنفسها حقوقهن، فكانت ترافقه في مواكب نصره، وعملت على أن تحتفل بعيد ميلادها في سائر أنحاء الإمبراطورية. ثم أحبت الراقص منستر Mnester، ولما صد عنها طلبت إلى زوجها أن يأمره بأن يكون أكثر إطاعة لرجائها؛ وأجابها كلوديوس إلى ما طلبت، وخضع الراقص إليها استجابة لدواعي الزطنية. وابتهجت مسالينا بنجاحها في خطتها التي لم تكلفها أقل العناء، واتبعتها مع غيره من الرجال؛ فأما الذين لم تنجح معهم هذه الخطة وظلوا على صدودهم فقد أتهمهم الموظفون الخاضعون لسلطانهم بجرائم اخترعوها من عندهم اختراعاً، فصودرت أملاكهم وحرموا من حريتهم ومن حياتهم نفسها في بعض الأحيان (50).
ولعل الإمبراطور كان يسمح بهذا العبث وتلك الأعمال الشاذة ليضمن لنفسهِ هو الآخر حرية الاستمتاع بما يريد من الملاذ، "فقد كان مفرطاً في شهواته(10/120)
النسائية" كما يقول سوتونيوس، ثم يضفي عليه بعدئذ هذا الميزة العجيبة التي يفضل بها غيره من الناس فيقول: "وكان مبرءاً من الرذائل غير الطبيعية" (51) ويقول ديو: إن مسالينا "كانت تقدم إليه بعض الفتيات ذوات الجمال الجذاب ليضاجعهن" (53). وإذ كانت الإمبراطورة في حاجة إلى المال تستعين به على عيشها واستهتارها فقد كانت تبيع المناصب، والتوصيات، وعقود الأعمال العامة. ونقل المؤرخون عن جوفنال أنها كانت تدخل المواخير متخفية، وتستقبل كل من يدخلها، وتأخذ منهم كل ما يقدمون لها من الأجور وهي منشرحة الصدر راضية. وأكبر الظن أن هذه القصة منقولة عن المذكرات الضائعة التي كتبتها أجربينا الصغرى التي خلفت مسالينا وكانت من ألد أعدائها. ويروي تاستس أنه "بينما كان كلوديوس يقضي وقته كله في تصريف شؤون منصب الرقيب الذي كان يتولاه" (53) -والذي يشمل فينا يشمله من الواجبات رفع مستوى أخلاق الرومان-كانت مسالينا "تطلق العنان لحبها"، وبلغ من استهتارها آخر الأمر أن تزوجت رسمياً من شالب وسيم يُدعى كيوس سليوس Caius Silius حين كان زوجها غائباً في أستيا، وأن تزوجت به "في احتفال مهيب صحبته كل المراسيم المعتادة" (54). وأبلغ نارسس النبأ إلى الإمبراطور عن طريق سراريه (55)، وحذروه من مؤامرة تُدبر لاغتياله وإجلاس سيليوس مكانه على العرش. فعجل كلوديوس بالعودة إلى رومة، واستدعى الحرس البريتوري، وأمر بذبح سيليوس وغيره من عشاق مسالينا ثم آوى إلى حجراته محطم الأعصاب منهوك القوى. أما الإمبراطورة فقد أخفت نفسها في حدائق لوكلس التي كانت قد صادرتها لتتخذها مسرحاً للهوها وملذاتها. وبعث إليها كلوديوس برسالة يدعوها فيها إلى الحضور للدفاع عن نفسها. وخشي نارسس أن يصفح عنها الإمبراطور ويصب جام غضبه عليه هو فأرسل إليها بعض الجند وأمرهم بقتلها، فوجدوها وحدها مع أمها، وقتلها بعضهم بضربة واحدة وترك جثتها بين ذراعي(10/121)
أمها (48). وقال كلوديوس لحرسه البريتوري إنهم في حل من دمه إذا تزوج مرة أخرى ولم يرد ذكر مسالينا على لسانه من تلك الساعة (1).
ولكن لم تمضِ سنة على وعدهِ حتى كان يتردد بين الزواج من لوليا بولينا Lollia Paulina أو من أجربينا الصغرى. فأما لوليا زوجة كالجيولا السابقة فكانت ذات ثروة طائلة، ويقال أنها كانت في بعض الأحيان تتحلى بجواهر تبلغ قينتها أربعين مليون سسترس (59)، ولعل كلوديوس كان يُعجب بمالها أكثر من إعجابه بذوقها؛ وأما اجربينا فكانت إبنة أجربينا الكبرى من جرمنكوس. وكانت هي الأخرى يجري في عروقها دم أكتافيان وأنطونيوس اللذين مات عدوين. وقد ورثت من أمها جمالها، وكفايتها، وقوة عزيمتها وحبها للانتقام حباً لا يحد منه شيء من وخز الضمير. وكانت قد ترملت مرتين، ورزقت من زوجها الأول أكنيوس دومتيوس أهينوباربس Cnoeus Domitius Ahenobarbus ابنها نيرون وكان كل همها طول حياتها أن يرقى ابنها هذا عرش الإمبراطورية. وأما زوجها الثاني كيوس كرسبس Caius Crispus الذي تقول الشائعات إنها قتلته بالسم فقد ورثت عنه الثروة الطائلة التي استخدمتها للوصول إلى أغراضها. وكان هدفها أن تتزوج كلوديوس، وأن تتخلص بوسيلة ما من ابنه برتنكس، وأن تجعل نيرون بعد أن يتبناه كلوديوس وارث العرش من بعده. ولم يعقها عن تنفيذ قصدها أنها ابنة أخت كلوديوس، بل أتاحت هذه الصلة فرصاً ثمينة للاتصال بالحاكم الشيخ اتصالاً أثار فيهِ عواطف ليست من قبيل عواطف الخال نحو ابنة أختهِ. ولم يكن منه إلا أن وقف فجأة أمام مجلس الشيوخ وطلب أن يأمره بالزواج
_________
(1) وقد حاول فريرو Ferrero، وبيوري Bury أن بفسرا زواج مسالينا من رجلين تفسيراً يبرره، ولكن تاستس يؤكد القصة "التي يؤكدها الكتاب المعاصرون كما يؤكدها رجال موقرون كبار كانوا يعيشون في ذلك الوقت، وكانوا على علم بأحواله كلها"(10/122)
مرة أخرى لخير الدولة؛ ووافق المجلس على طلبه، وسخِر منه رجال الحرس البريتوري، ووصلت أجربينا إلى العرش (45).
وكانت وقتئذ في الثانية الثلاثين من عمرها، أما كلوديوس فكان في السابعة والخمسين؛ وكانت قواه آخذة في الانحلال، أما هي فكانت في عنفوان قوتها، وتغلبت عليه بكل ما وُهبت من سحر وفتنة، فأقنعته بأن يتبنى نيرون وأن يزوج الشاب البالغ من العمر ستة عشر عاماً بابنته أكتافيا وهي فتاة في الثالثة عشر من عمرها (53). ولما تم هذا اخذت تزيد من سلطانها السياسي عاماً بعد عام، حتى استطاعت في آخر الأمر أن تجلس معه على سرير الملك، ثم استدعت الفيلسوف سنكا من حيث كان منفياً بأمر كلوديوس، وعينه مدرساً خاصاً لابنها (49)، وأفلحت في تعيين صديقها بروس Burrus رئيساً للحرس البريتوري. فلما استحوذت على السلطان بهذه الطريقة حكمت البلاد حكما قوياً خليقاً بالرجال، وساد النظام والاقتصاد في بيت الإمبراطور؛ ولو أنها لم تطلق العنان لجشعها وحرصها على المال وحبها للانتقام لكان حكمها خيراً لرومة ورحمة بها. ولكنها أطلقت العنان لهذا الجشع فأمرت بقتل لوليا بولينا لأن كلوديوس نطق عفواً في لحظة من اللحظات بكلمة أشار فيها إلى رشاقة لوليا وهي إشارة لا تعفو عنها قط زوجة. ثم أمرت بدس السم لماركس سلانس Marcus Silanus لخوفها أن يعينه كلوديوس والاثاً له من يعدهِ، وائتمرت مع بلاس ونارسس، وبذلك قضى ملك المال، الذي لم يكن وفاؤه يقل عن تلوث يده، بقية حياته في السجن. وكان الإمبراطور قد أضعفه اعتلال صحته، وجهوده الفنية، ومغامراته النسائية، فترك بلاس وأجربينا يروعان البلاد بحكم إرهابي آخر. فكان الناس يتنهبون وينفون أو يقتلون لأن الخزانة خلت من المال الذي انفق في الأعمال العامة والألعاب وأضحت في حاجة إلى أن تملأ بالأموال المصادرة. وكانت نتيجة هذا أن خمسة وثلاثين من الشيوخ وثلثمائة من الفرسان حُكم عليهم بالإعدام في(10/123)
الثلاثة عشر عاماً التي حكمها كلوديوس. وقد يكون لبعض هذه الأحكام ما يبررها الأن من نفذت فيهم دبروا المؤامرات أو ارتكبوا الجرائم، وإن كنا لا نستطيع أن نقرر هذا واثقين. ولقد ادعي نيرون فيما بعد أنه فحص عن جميع أوراق كلوديوس، وأنه تبين من ذلك الفحص أن الإمبراطور نفسه أمر بأن يحاكم كل واحد ممن سيقوا أمام القضاء (60).
وتنبه كلوديوس إلى ما كانت تفعله أجربينا بعد زواجه بها، فاعتزم أن يضع حداً لسلطانها، وأن يفسد عليها ما دبرته لنيرون، فيعين برتنكس وارثاً للملك من بعده، ولكن أجرببنا كانت أقوى منه عزماً وأقل منه إصغاءً لصوت الضمير، فلما علمت نية الإمبراطور جازفت بكل شيء، فأطعمت كلوديوس فطيراً ساماً قضى عليه بعد آلام مبرحة دامت اثنتي عشرة ساعة دون أن يستطيع النطق بكلمة واحدة (54). ولما ألهه مجلس الشيوخ، وكان نيرون قد اعتلى العرش، قال إنه لا يشك في أن الفطير هو طعام الآلهة، لأن كلوديوس أصبح بعد أن أكله إلهاً يعبد (61).(10/124)
الفصل الرابع
نيرون
ينتمي نيرون من جهة أبيه إلى أسرة الدوميتيين الأهينوياربيين Domit (Ahenobarbi، وقد لقبوا بهذا اللقب لأن رجال هذه الأسرة كانت لهم لحي شبيهة في لونها بلون البرونز. وقد اشتهروا في رومة مدى خمسمائة عام بقدرتهم وجرأتهم، وغطرستهم، وشجاعتهم، وقسوة قلوبهم. وكان جد نيرون لأبيه مولعاً بالألعاب والمسرح، وكان يسوق عربة في السباق، وينفق الكثير من الأموال على الوحوش والمجتلدات، وقد اضطر أغسطس إلى تأنيبه لقسوته الوحشية في معاملة موظفيه وأرقائه. وقد تزوج بأنطونيا ابنة أنطونيوس وأكتافيا. وزاد ابنه أكنيوس دوميتيوس من شهرة الأسرة بانهماكه في الفسق، ومضاجعه المحارم، والوحشية والخيانة. وقد تزوج في عام 28 م بأجربينا الثانية ولم تكن وقتئذ تزيد على الثالثة عشرة من عمرها، وإذا كان على علم بآباء زوجته وآبائه فقد اعتقد: "أن لا خير مطلقاً يمكن أن يؤدي إليه قراننا" (62). وقد أطلقنا على ابنهما الوحيد اسم لوسيوس Lucius وأضافا إليه لقب نيرون، ومعناه في اللغة السبينية: القوي الشجاع.
وكان أهم من علموه هما كرمون Chaeremon الرواقي الذي علمه اللغة اليونانية، وسنكا الذي علمه الأدب والأخلاق ولكنه لم يعلمه الفلسفة؛ ذلك أن أجربينا منعته من تعلم الفلسفة لزعمها أنها تجعل نيرون غير صالح لتولي عرش الإمبراطورية (63). وما من شك في أن نتيجة هذا التحريم تشهد بفضل الفلسفة. وقد شكا سنكا، كما يشكو كثير من الأساتذة، من أن الأم كانت تفسد عليه عمله بتدخلها فيه، فقد كان الغلام يهرول إليها كلما أنّبه مدرسه، ولم يكن يشك في أنها ستحنو عليه وتدلله. وقد حاول(10/125)
سنكا أن ينشّئه على حب التواضع، ودماثة الخلق، والبساطة، والتقشف، والصبر على الشدائد؛ وإذا كان قد حرم عليه أن يفصل له القول في عقائد الفلاسفة وجدلهم، فلا أقلّ من أن يهدي إليه الرسائل البليغة التي كان يؤلفها، ويأمل أن يقرأها تلميذه في يوم من الأيام. وكان الأمير الشاب طالباً مجداً، وكان في وسعه أن يكتب شعراً لا بأس به، وأن يخطب في مجلس الشيوخ بالرقة والأدب اللذين كان يخطب بهما أستاذه نفسه. ولما مات كلوديوس لم تجد أجربينا صعوبة ما في تثبيته على العرش، وخاصة بعد أن ضمن له بروس تأييد الحرس بكامل قوته.
وكافأ نيرون الجند مكافأة مجزية ووهب كل مواطن أربعمائة سسترس، وألقى في تأبين سلفه خطبة أثنى عليه فيها ثناء جماً، كتبها له سنكا (64). وهو الذي نشر بعد قليل بغير توقيع هجاء مقذعاً في الإمبراطور المتوفي قال فيه إنه طرد من أولمبس. وقد نيرون مظاهر الخضوع المعتادة إلى مجلس الشيوخ، واعتذر في أدب وتواضع عن صغر سنه، وأعلن أنه لن يحتفظ بشيء من السلطات التي كان الزعيم يتمتع بها حتى ذلك الوقت عدا قادة الجيوش- وهو اختيار عملي يشعر بذكاء تلميذ الفيلسوف. والراجح أنه كان مخلصاً في وعده- لأن نيرون وفى به بأمانة مدى خمسة أعوام (65) - وهي الخمسة أعوام النيرونية Quinquennium Neronis التي كان تراجان يراها خير السنين في تاريخ الحكومة الإمبراطورية (66). ولما اقترح مجلس الشيوخ أن تقام تماثيل من الذهب والفضة تكريماً له، رفض الإمبراطور الذي لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره هذا العرض. ولما اتهم رجلان بأنهما يفضلان عليه برتنكس أمر أن يلغي هذا الاتهام؛ وتعهد أمام مجلس الشيوخ أن يتمسك طوال حكمه بفضيلة الرحمة التي كان سنكا وقتئذ يمجدها في إحدى رسائله المسماة De Clementia ( الرحمة). ولما طلب إليه مرة أن يوقع وثيقة بإدانة أحد المجرمين قال في حسرة:(10/126)
"ليتني لم أتعلم قط الكتابة! " وقد خفض الضرائب الباهظة أو ألغاها إلغاءً تاماً، وخصص معاشات سنوية للمتازين من الشيوخ الذين أخنى عليهم الدهر. وإذ كان يعرف أن عقله لم ينضج بعد، فقد سمح لأجربينا أن تدير له شئونه، فكانت تستقبل السفراء، وأمرت أن تنقش صورتها على نقود الإمبراطورية إلى جانب صورته. وارتاع سنكا وبروس لتدخل الأم في شئون الحكم فاتفقا على أن يضربا على وتر كبرياء نيرون لينالا لأنفسهما حق القيام بمهام الحكم. واستشاطت الأم غضباً فأعلنت أن برتنكس الوارث الشرعي للعرش، وأنذرت ولدها بأنها ستسقطه بنفس الوسائل القوية التي استخدمتها في رفعه. ورد نيرون على هذا التهديد بأن أمر بدس السم لبرتنكس فما كان من أجربينا إلا أن آوت إلى قصرها الصغير وكتبت فيه مذكراتها، وهي آخر سهم في كنانتها، وطعنت فيها على جميع أعدائها وأعداء أمها، واغترف منها تاستس وستونيوس ذلك التيار الجارف من المثالب والأعمال الوحشية التي صورا بها النواحي السوداء من صور تيبيريوس وكلوديوس ونيرون.
وعم الرخاء الإمبراطورية، وصلحت أحوالها الداخلية والخارجية، بفضل إرشاد الفيلسوف الأول وقوة النظام الإداري الذي كانت تساس به شئونها. فوضعت على الحدود حراسة قوية، وطهرت البحر الأسود من القراصنة، وأعاد كريولا أرمينية إلى حظيرة الإمبراطورية بأن بسط عليها الحماية الرومانية، ووقّعت بارثيا معاهدة صلح دامت حمسين عاماً، وقلّت الرشوة في دور القضاء وفي الولايات، وأصلحت أحوال الموظفين في دواوين الحكومة، وصرفت الشئون المالية بالاقتصاد والحكمة، واقترح نيرون-ولهل ذلك كان بإيعاز من سنكا-ذلك الاقتراح البعيد الأثر القاضي بإلغاء جميع الضرائب غير المقررة، وخاصة الرسوم الجمركية التي كانت تجبي عند الحدود وفي الثغور، حتى تكون التجارة حرة في جميع أنحاء الإمبراطورية. غير أن مجلس الشيوخ لم يوافق على(10/127)
هذا الاقتراح، متأثراً في ذلك بنفوذ نقابة الجباة. وتدل هذه الهزيمة على أن الزعامة كانت لا تزال تلتزم حدود سلطتها الدستورية.
وأراد سنكا وبروس أن يمنعا نيرون من التدخل في شئون الدولة فتركاه ينهمك في ملذاته الجنسية كما يهوى. وفي ذلك يقول تاستس: "لم يكن ينتظر من الأباطرة أن يحيوا حياة التقشف وكبح الشهوات في الوقت الذي كانت فيه الرذيلة تستهوي جميع طبقات الناس". ولم تكن العقائد الدينية تشجع نيرون على أن يراعي جانب الفضيلة؛ ذلك أن القدر الضئيل الذي ناله من الفلسفة قد حرر عقله من قيود الدين دون أن ينضج حكمته. "فقد كان يزدري جميع أنواع العبادات" كما يقول ستونيوس. "ويسلح على صورة الآلهة-سيبيل-التي كان يجلها أعظم الإجلال" (68). وكان نهماً مفرطاً في الطعام، غريب الأطوار والشهوات، ينفق على الولائم بغير حساب، حتى كانت أزهار الوليمة وحدها تكلفة أربعة ملايين سسترس (69). وكان يقول في هذا إن البخلاء وحدهم هم الذين يحسبون ما ينفقون. وكان يعجب بكيوس بترونيوس Caius Petronius ويحسده لأن هذا الشريف المثري علمه طرقاً جديدة للجمع بين الفضيلة والذوق السليم. ويقول تاستس في فقرة مأثورة يصف فيها المثل الأعلى للأبيقورية إن بترونيوس "كان يقضي أيامه في النوم ولياليه في العمل، والمرح واللهو. وكان الخمول شهوته وطريقه إلى الشهرة، وكان ينجز بحب اللذات والراحة المترفة ما ينجزه غيره بالقوة والجد. ولم يكن كغيره من الناس الذين يجهرون بأنهم يعرفون كيف تكون المتعة الاجتماعية، ثم يبددون في ذلك أموالهم، بل كان يحيا حياة كثيرة النفقة ولكنها خالية من التبذير، فكان أبيقورياً ولكنه غير مسرف، يطلق العنان لشهواته ولكنه يستمتع بها في تجمل وحكمة. وهو شهواني متعلم رقيق الحاشية، حديثه مرح ممتع لطيف، يخلب لب من يستمع له بشيء من عدم الاكتراث اللطيف الباعث على السرور. وكان أكثر ما يبعث السرور في حديثه أنه ينساب(10/128)
انسياباً طبيعياً غير متكلف من مزاجه الصريح. ولقد أظهر وهو وال على بيثينيا، كما أظهر وهو قنصل، أن قوة العقل ودماثة الخلق قد تجتمعان معاً في شخص واحد، وذلك رغم ما كان يتصف به من دقة، وأخذ الأمور في يسر وإهمال ... وكان يعود من أعماله الرسمية إلى مألوف حياة اللذة والمتعة، مولعاً بالرذيلة أو بالملاذ التي تقترب من حدود الرذيلة، وكان نيرون وعصبته مولعين بحسن الذوق والرشاقة فكانوا لذلك يتخذونه المحكمفي كل ما يتصل بهما، ولم يكن شيء بديعاً، كما لم يكن شيء ساراً أو نادراً إلا إذا أراد هو أن يكون (70).
ولم يبلغ نيرون من الرقة مبلغاً يصل به إلى هذه الأبيقورية الفنية، بل كان يتخفى ويزور المواخير، ويطوف بالشوارع، ويتردد على الحانات بالليل في صحبة أمثاله من رفاق السوء يسطون على الحوانيت ويسيئون إلى النساء، ويفسقون بالغلمان، ويجردون من يقابلون مما معهم، ويضربونهم، ويقتلونهم" (71) وحدث أن شيخاً لجأ إلى القوة في رد اعتداء الإمبراطور عليه فأرغم بعد قليل على أن يقتل نفسه. وحاول سنكا أن يوجه شبق الإمبراطور نحو معتوقة تدعى كلوديا أكتي Claudia Acte، فلما تبين له أن أكتي وفية له وفاء تعجز بسببه بالاحتفاظ بحبه استبدل بها امرأة بارعة في كل فنون العشق تدعى بوبيا سابينا Poppea Sabina. وكانت بوبيا تنتمي إلى أسرة عريقة ذات ثروة طائلة، يقول عنها تاستس إنها "كان لها نصيب موفور من كل شيء إلا الشرف". وكانت من النساء اللواتي يقضين النهار كله في تزيين أنفسهن، ولا يحيين قط إلا حين يرغبن في الحياة. وحدث أن افتحر زوجها بجمالها أمام نيرون، فما كان من الإمبراطور إلا أن عينه والياً على لوزتانيا Lusitania ( البرتغال) وضرب حصاراً على بوبيا، ولكنها أبت أن تكون عشيقة له، وقبلت أن تتزوجه إذا طلق أكتافيا.
وكانت أكتافيا قد صبرت على مساوئ نيرون صبر الكرام، وحافظت(10/129)
على تواضعها وعفتها وسط تيار الدعارة الجارف التي اضطرت أن تحيا في غمرته من يوم مولدها، ومما يذكر بالفضل لأجربينا أنها ضحت بحياتها في الدفاع أكتافيا ضد بوبيا، فلم تترك وسيلة تثني بها الإمبراطور عن طلاق أكتافيان إلا لجأت إليها؛ وبلغ من أمرها أن عرضت محاسنها على والدها، وقاومتها بوبيا مقاومة شديدة وتغلبت عليها، ولجأت في كفاحها إلى نزق الشباب، فعيرت نيرون بأنه يخشى والدته، وأقنعته بأن أجربينا كانت تأتمر به لتسقطه، وما زالت به حتى رضي في ساعة من ساعات جنون الشهوة أن يقتل المرأة التي حملته في بطنها وأعطته نصف العالم. وقد فكر أولاً في أن يقتلها مسمومة، ولكنها كانت قد حصنت نفسها من السم بما تعودته من الأدوية المضادة له. ثم حاول أن يقتلها غرقاً ولكنها أنجت نفسها بالسباحة من السفينة التي تحطمت بتدبير الإمبراطور. وطاردها رجاله إلى دارها، فلما قبضوا عليها خلعت ثيابها وقالت لهم: "ادفعوا سيوفكم في رحمي" واحتاج قتلها إلى عدة طعنات، ولما رأى الإمبراطور جثتها العارية كان كل ما قاله: "لم أكن أعرف أن لي أماً بهذا الجمال" (72). ويقال إن سنكا لم تكن له يد في هذه المؤامرة، ولكن أسوأ ما خط في تاريخ الفلسفة وأدعاه للأسى هو تلك السطور التي تشرح كيف كتب الفيلسوف الرسالة التي وجهها نيرون إلى مجلس الشيوخ يقول فيها إن إن أجربينا تأتمر بالزعيم، فلما افتضح أمرها انتحرت (73). وقبل مجلس الشيوخ هذا التفسير في سرور ظاهر، وأقبل أعضاؤه مجتمعين ليهنئوا نيرون لما أن عاد إلى رومة، وحمدوا للآلهة أن كلأته بعنايتها وأنجته من كل سوء.
وإن المرء ليصعب عليه أن يصدق أن هذا الإنسان الذي قتل أمه شاب في الثانية والعشرين من عمره، مغرم بالشعر والموسيقى والفنون الجميلة، والتمثيل والألعاب الرياضية؛ وأنه كان يعجب باليونان لمبارياتهم التي تنمي فيهم القوة الجسمية والمهارة الفنية، وأنه عمل على إدخال هذه المباريات في رومة فأقام في(10/130)
عام 59 ألعاب الشباب Ludi Iuvenales، وأنشأ في السنة التالية الألعاب النيرونية Neronia على نمط الاحتفال الذي كان يقام كل أربع سنين في أولمبيا، ويشمل سباقاً للخيل، ومباريات الألعاب الرياضية، وفي "موسيقى"-ويدخل فيها الخطابة والشعر، وبنى لذلك مدرجاً كبيراً وملعباً رياضياً وحماماً فخماً، وأنه يمارس الحركات الرياضية بمهارة فائقة، كما كان مولعاً بسوق العربات، وأنه اعتزم أخيراً أن يشترك هو نفسه في المباريات. ولكنها هي الحقيقة، وقد بدا لعقله المولع بكل ما هو يوناني أن هذا العمل لاغبار عليه، بل كان يعتقد أنه يتفق مع أحسن التقاليد اليونانية. وأما سنكا فكان يرى أن هذا سخف أيما سخف، وحاول أن يقصر هذا العرض الإمبراطوري على من يضمهم ميدان خاص، ولكن نيرون تغلبت عليه ودعا الجماهير لتشهد ألعابه، فأقبلت عليه وحيته تحية حماسية حارة.
ولكن أهم ما كان يرغب فيهِ هذا المخلوق الغريب بحق هو أن يكون فناناً عظيماً. ذلك أنه، وقد استحوذ على كل سلطة، وكان يتوق إلى الاستحواذ على كل ضروب الكمال والتهذيب. ومما يذكر له مقروناً بالثناء أنه جد في دراسة فنون النقش، والتصوير، والنحت، والموسيقى، والشعر (74). ولجأ في تحسين صوته إلى وسيلة غريبة فكان "يستلقي على ظهره، ويضع لوحاً من الرصاص على صدره، ويفرغ أمعاءه بمحقن أو بالقئ، ويمتنع عن أكل الفاكهة وعن كل طعام يضر بالصوت" (75). وكان في بعض الأيام يقصر على الثوم وزيت الزيتون يتخذهما وسيلة للغرض نفسه. ودعا ذات ليلة أكابر الشيوخ إلى قصره وعرض عليهم أرغناً مائياً جديداً، وأخذ يشرح لهم نظريته وتركيبه (76). وقد يلغ من إعجابه بالنغمات التي كان يضربها ربنوس Terp o s على العود وافتتانه بها أن كان يقضي معه بعض الليالي بأكملها يتعلم العزف على هذه الآلة. وكان يجمع الفنانين والشعراء حوله، ويعقد المباريات بينه وبينهم في قصره، ويفاضل بين(10/131)
صوره وصورهم، ويستمع إلى أشعارهم ويقرأ عليهم شعره. وكان ينخدع بثنائهم، ولما أن أنبأه أحد المنجمين بأنه سيفقد عرشه، أجابه ضاحكاً بأنه في هذه الحال سيكسب قوته من فنه. وكان يحلم أنه في يوم من الأيام سيغزف على ملأ من الناس على الأرغن المائي والناي، وينفخ في المزامير، ثم يظهر على المسرح راقصاً وممثلاً لأدوار في مسرحية ترنس Turnus لفرجيل. وفي عام 59 أقام حفلة موسيقية شبه عمومية عزف فيها على العود Citharoedus في حديقته الواقعة على نهر التيبر. وظل خمس سنين لا ينفذ ما تتوق له نفسه من إظهار مهارته في جمع حاشد، ثم نفذ هذا العزم في نابلي آخر الأمر. وسيطرت الروح اليونانية على هذا الحفل، وعفا الناس عن تقصيره، وأدركوا ما يرمي إليهِ. وازدحمت قاعة الاحتفال بالمستمعين ازدحاماً حال بينه وبين إجادة العرض، وقد بلغ من شدة الازدحام أن تهدمت القاعة عقب خروج النظارة منها. وشجع هذا النجاح الإمبراطور الشاب فظهر في ملهى بمبي العظيم في رومة (65) يغني ويضرب على العود. وأنشد في هذه المرة عدة قصائد لعلها كانت من قوله هو نفسه$=@ويقول سوتونيوس إنه شاهد المخطوطات الملكية مكتوبة ومصححة بخط نيرون نفسه. @. وقد بقيت أبيات من هذه القصيد، وهي تدل على مقدرة في القريض لا بأس بها. وكتب من أغانيه الكثيرة ملحمة طويلة عن طروادة (جعل بطلها باريس Paris) ، ثم شرع يكتب ملحمة أطول منها عن رومة. ولم يكفه هذا التنوع في مواهبه فظهر على المسرح ممثلاً دور أوديب Oedipus، وهرقل، وألكميون، بل إنه مثل أيضاً دور أستيز قاتل أمه. واغتبط النظارة إذ شاهدوا إمبراطوراً يعني بتسليتهم ويركع على المسرح أمامهم ويطلب أن يصفقوا له حسب مألوف عادتهم. وتلقف الشعب الأغاني التي كان ينشدها نيرون وأخذ يرددها في الحانات والطرقات، وانتشر(10/132)
تحمسه للموسيقى والغناء بين الطبقات، وازدادت بذلك محبة الناس له، وكان أخلق بها أن تنقص.
وارتاع مجلس الشيوخ من هذه المظاهر أكثر مما ارتاع من كل ما يدور من اللغط عما يحدث في القصر من فجور ومن علاقات جنسية شاذة، وأجاب نيرون عن مخاوف الشيوخ بقوله إن العادة التي كان يجري عليها اليونان وهي قصر المباريات الرياضية والفنية على طبقة المواطنين كان أفضل مما اعتاده الرومان وهو تركها للأرقاء؛ وأن من الواجب أن لا تُتخذ المباريات صورة قتل المجرمين قتلاً بطيئاً؛ وأعلن الشاب المجرم أنه لن يسمح ما دام حياً بأن يستمر القتال في المجتلد حتى يموت المجتلدون (78). وأراد أن يعيد التقاليد اليونانية إلى سابق عهدها، وأن يمجد أعماله هو في المباريات العامة، فأقنع بعض الشيوخ أن يشتركوا فيها-أو لعله أرغمهم على هذا الاشتراك-ممثلين، وموسيقين، ورياضيين، ومصارعين وسائقي عربات. وأظهر بعض الأشراف أمثال ثراسي بيتس Thrasea Paetus نفورهم من هذه الأساليب، فكانوا يتعمدون الغياب من مجلس الشيوخ كلما جاء نيرون ليخطب فيهِ، وندد به بعضهم مثل هلفيديوس برسكس Helvid (us Priscus تنديداً عنيفاً في المنتديات الأرستقراطية التي أضحت الملجأ الوحيد لحرية الرأي؛ وأخذ الفلاسفة الرواقيون في رومة يتحدثون جهرة عن هذا الأبيقوري الخبيث الجالس على العرش. ودُبرت المؤامرات لخلعهِ، ولكن عيونه كشفوا أمرها، فكان جوابه كجواب أسلافه، وهو التورط في عهد الإرهاب الشديد، فأعيد قانون الخيانة (62)، ووجهت التهم إلى كل من كان موتهم مرغوباً فيهِ من الناحية الثقافية أو المالية بسبب مقاومتهم أو ثرائهم. ذلك أن نيرون قد أفقر خزانة كالجيولا من قبله بإسرافه وهباته وألعابه، وجهر بهزمه على مصادرة جميع ضياع المواطنين الذين لا يوصون للإمبراطور بعد وفاته إلا بمبالغ قليلة، ثم جرد كثيراً من الهياكل من نذورها، وصهر ما كان(10/133)
فيها من تماثيل ذهبية وفضية؛ ولما أن احتج سنكا على هذه الأعمال وانتقد سلوكه وسعره-وكان غضب الإمبراطور على شعره أشد من غضبه على نقد سلوكه-أقاله نيرون من منصبه في البلاط (62)، وقضى الفيلسوف الشيخ الثلاث السنين الباقية من حياته في عزلة عن العالم في بيته، وكان يوروس قد مات قبل إقالة سنكا ببضعة أشهر.
وأحاط نيرون بعدئذ نفسه بطائفة جديدة من القرناء، معظمهم من قرناء السوء ذوي الغلظة والفظاظة، فأصبح تجلينس، رئيس شرطة المدينة، مستشاره الأول، ويسر للزعيم كل سبيل الملذات. وفي عام 62 طلق نيرون أكتافيا بحجة أنها عقيم، ولم تمض على طلاقها اثنا عشر يوماً حتى تزوج بوبيا؛ واحتج الشعب على هذا العمل احتجاجاً صامتاً بتحطيم التماثيل التي أقامها نيرون لبوبيا وتتويج ثماثيل أكتافيا بالزهور. وغضبت بوبيا من ذلك العمل وأقنعت حبيبها أن أكتافيا تعتزم الزواج مرة أخرى، وأن مؤامرة تُدبر لخلعهِ وإحلال زوج أكتافيا الجديد مله. وإذا كان لنا أن نصدق ما يقوله تاستس فإن نيرون دعا أنسيتس Anicetus قاتل أجربينا وطلب إليه أن يعترف بأنه ارتكب الفحشاء مع أكتافيا، ويتهمها بأنها شريكة في مؤامرة لاغتيال الزعيم. ومثل أنسيتس الدور الذي أمر بتمثيله، ونُفي إلى سردينية حيث قضى بقية حياته ينعم بالثروة والراحة؛ أما أكتافيا فقد نفيت إلى بندتيريا Pandateria، ولكنها لم يكد يمضي على مجيئها إليها إلا بضعة أيام حتى أقبل عليها وكلاء الإمبراطور يريدون اغتيالها. ولم تكد وقتئذ قد جاوزت الثانية والعشرين من عمرها، ولم تكن تعتقد أن الحياة يليق أن تُختتم هذه الخاتمة العاجلة، وبخاصة إذا كانت فتاة مثلها لم ترتكب قط ذنباً. وودافعت عن نفسها أمام قاتليها وقالت لهم إنها لم تعد إلا أخت نيرون، وإنها عاجزة عن الإساءة إليه، ولكنهم قطعوا رأسها وجاءوا بهِ إلى بوبيا يطلبون إليها مكافأتهم على عملهم هذا. ولما أبلغ الشيوخ أن أكتافيا قد توفيت شكروا(10/134)
للآلهة مرة أخرى أن قد حفظوا الإمبراطور وأنجوه من السوء (79).
وكان نيرون وقتئذ إلهاً من تلك الآلهة. ذلك أن أحد القناصل المنتخبين اقترح بعد موت اجربينا أن يقام هيكل "لنيرون المألَّه". ولما أن ولدت له بوبيا في عام 63 ابنة توفيت بعد مولدها بقليل أعلن المجلس ربوبية هذه الطفلة، ولما أقبل تريداتس Tiridates ليتلقى من نيرون تاج أرمينية خر راكعاً أمام الإمبراطور وعبده بوصفه الإِله متراس Mithras، ولما أن شاد نيرون بيته الذهبي أقام أمامه تمثالاً ضخماً ارتفاعه مائة قدماً، وفي أعلاه رأس شبيه برأسه، تحيط به هالة من أشعة شمسية دلالة على أنه فيبس أيلو Phoebus Apollo. هذا ما كان يتصوره أمام حقيقته فإنه وهو في الخامسة والعشرين من عمره كان إنساناً فاسداً، منتفخ البطن، رفيع الأطراف، ضعيفها، ضخم الوجه، مجعد الجلد، أصفر الشعر ملتويهِ، عسلي العينين كلتيهما.
وكان، وهو كما يزعم إله وفنان، يضايقه ما في القصور التي ورثها من عيوب، ولذلك صمم بناء قصر جديد لنفسه. ولكن تل البلاتين كان مزدحماً بالقصوروكان في أسفله المضمار الأكبر من ناحية، والسوق الكبرى من ناحية أخرى، والأكواخ القذرة الحقيرة من بقية النواحي، وكان يحزنه أن يرى رومة قد نشأت على غير نظام موضوع، بدل أن تخطط تخطيطاً علمياً كالإسكندرية وأنطاكية، ولذلك كان يحلم بأن يعيد بناءها من جديد، وأن يكون هو منشئها الثاني، وأن يسميها نيروبوليس (مدينة نيرون).
وحدث في اليوم الثامن عشر من شهر أيلول 64 أن شبت النار في المضمار الأكبر، وانتشرت سريعاً، وظلت مشتعلة تسعة أيام حتى التهمت ثلثي المدينة, وكان نيرون غائباًَ في أنتيوم Antium حين شبت النار، فلما وصله النبأ أسرع بالعودة إلى رومة فبلغها في الوقت الذي استطاع فيه أن يرى القصور القائمة على تل البلاتين تلتهمها النيران. وكان البناء المعروف(10/135)
بالدومس ترنستوريا (بيت المرور) الذي أقامه منذ زمن قريب ليربط به قصره بحديقة ماسيناس، وكان هذا البناء من أوائل ما تتهدم من الأبنية. ونجت أبنية السوق والكبتول من الحريق كما نجت أيضاً الأحياء الواقعة في شرقي نهر التيبر. أما سائر أجزاء المدينة، فقد دُمر فيها ما لا يُحصى من البيوت والهياكل والمخطوطات النفيسة والتحف الفنية. وهلك آلاف من السكان بين أنقاض المباني المتهدمة في الشوارع المزدحمة، وهام مئآت الآلاف على وجوههم في الطرقات أثناء الليل لا يجدون لهم مأوى يبيتون فيهِ وقد ذهب الرعب بعقولهم، وهم يستمعون إلى الشائعات القائلة بأن نيرون هو الذي أمر بإشعال النار في المدينة، وأنه ينشر المواد الحارقة فيها ليجدد ما خبا منها، وبأنه يرقبها من برج ماسيناس وهو ينشد على نغمة القيثارة ما كتبه من الشعر عن نهب طروادة (1). وقد قام بحهود كبيرة في قيادة المحاولات التي بذلت لحصر النيران أو التغلب عليها، وإغائة المنكوبين، وأمر بأن تُفتح جميع أبواب المباني العامة والحدائق الإمبراطورية ليلجأ إليها المعدمون، وأقام مدينة من الخيام في ميدان المريخ، وأمر بالاستيلاء على الطعام من الإقليم المجاور للمدينة، ووضع الخطط الكفيلة بإطعام الأهلين (80). وصبر على ما ووجه إليه الشعب الهائج الحانق من تهم وطعون. ويقول تاستس (وهو الرجل الذي يجب ألا ننسى قط تحيزه لأعضاء مجلس الشيوخ) إنه أخذ يتلفت حوله ليجد من يستطيع أن يلقي عليه التهمة حتى وحده في:
"طائفة من الناس يحقد عليهم الشعب لأعمالهم الخبيثة، ويسمون غالباً بالكرستياني Chrestiani ( المسيحيين). والاسم مشتق من كرستس Chrestus وهو اسم رجل عذبه بنتيوس بيلات Pontius Pilate المشرف
_________
(1) يجمع تاستس (ص 38 من الفص الخامس عشر) وسوتونيوس (في "نيرون" ص38) وديو كاسيوس (فصل 67 ص16) على اتهام نيرون بأنه هو الذي أشعل النار وأعاد إشعالها لكي يستطيع(10/136)
على الشؤون المالية في بلاد اليهود في عهد تيبيريوس. وكان ما حل به من العذاب ضربة شديدة وجهت إلى الشيعة التي أوجدها هذا الرجل، وبفضل هذه الضربة وقف نمو هذه الخرافات الخطيرة إلى حين، ولكنها لم تلبث أن عادت إلى نشاطها وانتشرت انتشاراً سريعاً قوياً في بلاد اليهود ... وفي مدينة رومة نفسها، وهي مستودع الأقذار العام الذي ينساب إليه كل ما هو دنئ ممقوت انسياب السيل المنحدر من أقطار العالم. ولجأ نيرون إلى أساليبه المعهود في الحيل، فعثر على جماعة من الفخار والسفلة الأراذل، وأغراهم بمختلف الوسائل على أن يعترفوا بأنهم هم مرتكبو الجريمة النكراء؛ وبناء على اعتراف أولئك السفلة أدين عدد من المسيحيين، ولم يصدر الحكم عليهم على أدلة واضحة تثبت أنهم هم الذين أشعلوا النار في المدينة، بل أدينوا لأنهم يكرهون الجنس البشري كله. واستخدمت في إعدامهم أفانين من القسوة المتناهية، ولم يكتف نيرون بتعذيبهم بل أضاف إلى هذا التعذيب السخرية منهم والازدراء بهم، فألبس بعضهم جلود الوحوش وتركوا تلتهمهم الكلاب، وسمر غيرهم في الصلبان، ودفن الكثيرون منهم أحياء، ودهنت أجسام البعض الآخر بالمواد الملتهبة وأشعلت فيها النيران، ولتكون مشاعل في الليل ... وفي آخر الأمر أفعمت هذه الوحشية قلوب الناس جميعاً رأفة ورحمة، ورقت هذه القلوب أسى على المسيحيين (81).
ولما أزيلت الأنقاض أخذ نيرون يعيد بناء المدينة كما صورتها له أحلامه والغبطة بادية في أسارير وجهه. وطلب إلى كل مدينة في الإمبراطورية أن تقدم معونتها لها الغرض، أو أرغمت على تقديم هذه المعونة، واستطاع الذين دمرت بيوتهم أن يبينوا لهم بيوتاً جديدة بعد أن أمدهم بالمال المتجمع من هذه المعونة. وشقت الشوارع الجديدة مستقيمة متسعة، وشيدت واجهات المنازل الجديدة وطبقاتها الأولى من الحجارة، وجعلت بينها وبين غيرها من المباني المجاورة لها فواصل تمنع انتشار النار من بناء إلى(10/137)
آخر. وشقت تحت الأرض مجار تنساب فيهامياه العيون السفلى إلى خزان يحتفظ فيه بالماء ليُستعان به على إطفاء النار في المستقبل. وشاد نيرون من أموال الخزانة الإمبراطورية عقوداً ذات عمد على جانبي الشوارع الرئيسية في المدينة، لتكون مداخل مسقوفة ظليلة لآلاف من البيوت. وأسف المولعون بالقديم، كما أسف الشيوخ المسنون، على ما كان في المدينة القديمة من مناظر جميلة خلع عليها الدهر هالة من الرواء والتقديس، ولكنهم لم يلبثو أن أجمعوا على أن رومة جديدة قد خرجت من بين اللهب أصح وآمن وأجمل من رومة القديمة.
ولو أن نيرون أعاد تنظيم حياته كما أعاد تنظيم عاصمته لغفر له الناس جرائمه، ولكن بوبيا ماتت في عام 65 في الأيام الأخيرة من حملها، ويقال إنها ماتت من ركلة في بطنها. وراجت بين الناس شائعة فحواها أن هذه الركلة كانت عقاباً لها على عودتها متأخرة من السباق (82) وخزن نيرون حزناً شديداً على موتها، لأنه كان ينتظر على أحر من الجمر وجود وارث له من صلبهِ، وأمر أن تحنط جثتها بالأفاوية النادرة وتدفن بموكب مهيب وأبنها بنفسه. ثم عثر على شاب يدعى أسبورس Sporus عظيم الشبه ببوبيا، فأمر بخصيه، وتزوجه في احتفال رسمي و "استعمله في كل شيء كما تستعمل النساء"، وقال في ذلك أحد المتفكهين إنه يتمنى لو أن والد نيرون قد عثر على مثل هذه الزوجة (83). وشرع في السنةنفسها يشيد بيته الذهبي، وكان إسرافه في زينته، كما كانت تكاليفه الباهظة ومساحته الواسعة-فقد أقيم على رقعة من الأرض كانت تشغلها من قبل آلاف من بيوت الفقراء-كان هذا كله سبباً في إثارة سخط الأشراف عليه وارتياب العامة فيه من جديد.
وأقبل جواسيس نيرون فجاءة يبلغونه نبأ مؤامرة واسعة النطاق تهدف إلى إجلاس كلبيرنيوس بيزو Calpurnius Piso على العرش (65)؛ وقبض صنائعه على عدد من الشخصيات غير الكبيرة متهمين بتدبير المؤامرة، وانتزعوا منهم(10/138)
بالتهديد تارة وبالتعذيب تارة أخرى اعترافات تدين، بين من تدين من الشخصيات المعروفة، الشاعر لوكان Lucan والفيلسوف سنكا Seneca، وتكشف الخطة التي كان يرمي إليها الإمبراطور وأعوانه شيئاً فشيئاً. وبلغ انتقام نيرون درجة من الوحشية لم يسع رومة معها إلا أن تصدق ما شاع وقتئذ من أنه أقسم ليبيدن طبقة الشيوخ عن آخرها. ولما تلقى سنكا الأمر بأن يقتل نفسه شرع يجادل ساعة من الزمن ثم أطاع، وقطع بعض أوردته ومات وهو ينشد أبياتاً من شعره. وأغرى تجلينس Tigellinus بالمال عبداً من عبيد بترونيوس Petronius فتقدم بالشهادة على سيده، لأن تجلينس كان يحسد هذا الرجل الأبيقوري على منزلته عند نيرون فأغراه بقتله. ومات بترونيوس ميتة بطيئة بأن قطع أوردته ثم سدها، وأحذ يتخدث مع أصدقائه حديثاً لطيفاً كمألوف عادته، ويقرأ لهم أبياتاً من شعره. ثم تنزه وأغفى بعض الوقت وفتح أوردته مرة أخرى وفارق الحياة في هدوء واطمئنان (84). وأدين ثراسبابيتس زعيم الداعين إلى الفلسفة الرواقية في مجلس الشيوخ، ولم تكن التهمة التي وجهت إليه أنه اشترك في المؤامرة، بل كانت تهمة عامة يمكن أن توجه إلى أي انسان وهي حماسته للإمبراطور، وعدم استمتاعه بغنائه وتأليفه كتاباً في حياة كاتو أثنى عليه فيه. واكتفى بنفي هلفيديوس برسكس Helvidius Priseus زوج ابنته، ولكن رجلين آخرين أعدما لأنهما متبا يمتدحان برسكس وصهره. ونفى موسونيوس روفس Musonius Rufus أحد الفلاسفة الرواقيين وكاسيوس لنجينس Cassius Longinus أحد علماء القانون، وحكم على أخوين لسنكا وهما أنيوس ميلا Annaeus Mela والد لوكان وأنيوس نوفاتس Annaeus Novatus- وهو جليو Callio الذي أطلق سراح القديس بولس في أثينة- هذان حكم عليهما بأن ينتحرا.
وبعد أن طهر نيرون مؤخرته على هذا النحو سافر في عام 66 ليتبارى في الألعاب الأولمبية ويطوف ببلاد اليونان في رحلة موسيقية، لأن "اليونان"(10/139)
على حد قوله "هم الشعب الوحيد الذي له آذان موسيقية" (85). واشترك في أولمبيا في سباق العربات واساق فيها بنفسه مركبة ذات عجلتين تجرها أربعة جياد في صف واحد أفقي مستعرض Quardriga وسقط من العربة في حلبة السباق وكاد يقضي عليه، ولما أعيد إلى العربة واصل السباق وقتاً ما، كلنه انقطع عنه قبل نهاية الشوط. وكان المحكمون يفرقون بين الإمبراطور والرجل الرياضي، فقدموا له تاج النصر. وتملكته نشوة الفرح حين رأى الجماهير تصفق له طرباً فأعلن من فوره أن بلاد اليونان كلها لا أثينة وإسبارطة وحدهما ستكون من تلك الساعة حرة طليقة-أي أنها لن تعطي الجزية لرومة. وكان جواب المدن اليونانية على هذا الكرم أن أقامت الألعاب الأولمبية والبيثية Pyth an والنيميائية Nemean والبرزخية Ishmian (1) فام واحد. ورد هو على ذلك بأن اشترك فيها جميعها مغنياً، وعازفاً، وممثلاً، ومتبارياً في الألعاب الرياضية. وقد حرص أشد الحرص على إطاعة قوانين المباريات، وكان شديد المجاملة لمنافسيه، ومنحهم حق المواطنية الرومانية تعزية لهم على تفوقه عليهم جميعاً. وتلقى في أثناء رحلته أنباء بأن الثورة شبت نارها في بلاد اليهود، وأن لهيبها اندلع في الغرب كله. وكان كل ما فعله أن تنهد وتحسر ثم واصل رحلته. ومن أقوال سوتنيوس في التعليق على هذه الرحلة أنه كان إذا غنى في ملهى "لا يسمح لأحد بالخروج منه، ولو كان ذلك لعذر شيد يحتم عليه الخروج؛ وكان من نتائج ذلك أن ولدت بعض النساء وهن في الملهى، وأن تظاهر بعض الرجال بالموت حتى يحملوا إلى الخارج" (86). ولما جاء إلى مضيق كورنثة أمر أن يبدأ العمل في شق قناة ي هذا المضيق كما كان قيصر ينوي أن يشقها؛ وبديء العمل فعلاً، ولكنه وقف في أثناء الاضطراب الذي حدث في العام الثاني. وارتاع نيرون أنباء الفتن والمؤامرات فعاد إلى
_________
(1) سميت كذلك لأنها كانت تقام في الساحة المقدسة الممتدة على الشاطئ الشمالي الشرقي لبرزخ كورنثة.(10/140)
رومة (67) ودخلها في موكب رسمي، وعرض في هذا الموكب غنائم نصره، وهي الجوائز التي ظفر بها في بلاد اليونان والبالغ عددها 1808 جائزة.
وكانت المآسي جادة مسرعة في أعقاب هذه المهازل. ومن ذلك أن يوليوس فندكس Julius Vindex حاكم ليون الغلي أعلن استقلال بلاد الغليين في شهر مارس من عام 268، ولما عرض نيرون جائزة قدرها 2. 500. 000 سسترس لمن يأتيه برأسه أجاب فندكس عن هذا القول: " أن من يأتيني برأس نيرون سيأخذ في مقابل ذلك رأسي" (87). وأخذ نيرون يعد العدة لملاقاة هذا العدو الشديد البأس في الميدان، وكان أول ما عني به أن اختار العربات لينقل عليها آلاته الموسيقية وأدوات المسرح (88). وبينما هو يعد العدة إذ جاءته الأنباء في شهر إبريل بأن جلبا Gelba قائد الجيش الروماني في أسبانيا انظم إلى فندكس في ثورته، وأنه يزحف على رومة. وسمع مجلس الشيوخ أن الحرس البريتوري يتأهب للخروج على الإمبراطور طمعاً فيما يناله رجاله من أجور عالية، فنادى بجلبا إمبراطوراً. فما كان من نيرون إلا أن وضع بعض السم في صندوق صغير، وبعد أن تسلح بهذا السلاح الفتاك من بيته الذهبي إلى الحدائق السرفيلية الواقعة في طريق أستيا. وطلب قبل فراره إلى من كان في القصر من الضباط أن يرافقوه، فرفضوا جميعاُ طلبه، وأنشد له أحدهم بيتاً من شعر فرجيل يقول فيهِ: "وهل من الصعب على الإنسان إذن أن يموت؟ ". ولم يكن في مقدوره أن يصدق أن قد فارقه فجاءه ذلك السلطان القاهر الذي كان سبباً في القضاء عليهِ، فأخذ يرسل النداء تلو النداء إلى الكثيرين من أصدقائه يطلب إليهم النجدة، ولكن أحداً منهم لم يرد على رسالة من رسائله، فذهب إلى نهر التيبر يريد أن يغرق نفسه فيه. حتى إذا بلغه خارت قواه، وعرض عليه فاؤون أحد معاتيقه أن يخفيهِ في بيته القائم على طريق سلاريا، ورحب نيرون بهذا الاقتراح، واجتاز في ظلال الليل على ظهر جواد أربعة أميال من وسط المدينة إلى بيت فاؤون. وقضى تلك الليلة(10/141)
في مخزن الطعام، وعليه جلباب قذر، يتلوى من الجوع، ولم يطف بجفنه النوم، ترتعد فرائصه فرقاً في كل صوت يقع على أذنيهِ. وجاء رسول فاؤون يبلغه أن مجلس الشيوخ قد نادى بأن نيرون عدو الشعب وأمر بالقبض عليهِ، وقرر أن يعاقب "حسب السنة القديمة". وسأل نيرون عن ماهية تلك السنة فقيل له: "إن الرجل المذنب يجرد من ثيابهِ، ويصلب جسمه في عمود بمسمار ذي شعب يُدق في عنقهِ، ثم يُضرب حتى يقضي نحبه. وارتاع من هول هذا العقاب، فحاول أن يطعن نفسه طعنة تقضي عليهِ، ولكنه أخطأ إذ جرب سنان الخنجر اولاً ووجده حاداً لا يطيقه فنادى قائلاً: "أي فنانا يموت موتي! ".
وسمع في مطلع الفجر وقع حوافر الخيل، فأدرك أن جنود مجلس الشيوخ قد أدركوه، فأنشد بيتاً من الشعر يقول: "استمعوا؛ ها هي ذي أصوات الساعين إلىَّ تقع على أذني"-ثم طعن نفسه بخنجر في حلقه، ولكن يده اضطربت ووهنت فأعانه إبثروديتس أحد معاتيقه على أن يدفع سن الخنجر إلى نهايته. وكان قد طلب إلى من حوله قبل موتهِ أن يحولوا دون تشويه جسمه، وأجابهم رجال جلبا إلى ما طلبوا. وقامت مربياته العجائز وأكتى عشيقته السابقة بدفن جثته في قباب القصر دومتيوس (68) وابتهج كثيرون من العامة بموتهِ، واخذوا يطوفون بأحياء رومة وعلى رؤوسهم قلانس الحرية. ولكن الذين حزنوا كانوا أكثر منهم لأن سخاءه على الفقراء لم يكن يقل عن قسوته الشديدة على العظماء، وأصغوا إلى ما أشيع وقتئذ من أنه لم يمت بحق، بل إنه يقاتل أعداءه في طريق رومة، ولما أن رضوا آخر الأمر بأن يصدقوا نبأ موته، ظلوا شهوراً كثيرة يحجون إلى قبرهِ وينثرون الأزهار أمامه (89).(10/142)
الفصل الخامس
الأباطرة الثلاثة
وصل سرفيوس سلبيوس جلبا Servius Sulpius Galba رومة في يونية من عام 68، وكان من أصل شريف، فقد كان أبوه عل حد قولهِ ينحدر من نسل جوبتر، كما كانت أمه تنتمي إلى باسفائي Basipha ( زوجة مينوس Minos. وكان في السنة التي ارتقى العرش أصلع الرأس متقلص اليدين والقدمين من داء المفاصل، فكان لا يستطيع أن يلبس حذاء أو يمسك كتاباً (90). وكان يتصف بالرذائل المألوفة في تلك الأيام، سوية كانت أو غير سوية، ولكن هذه الرذائل لم تكن هي التي قصرت حكمه، بل إن الذي أحنق الجيش والشعب عليه هو اقتصاد الشديد في الأموال العامة، وحرصه الشديد على تنفيذ العدالة (91). ولما أن قرر أن يرد كل من نالوا أعطية من نيرون تسعة أعشار ما استولوا عليهِ إلى خزانة الدولة، خلق لنفسهِ آلافاً من الأعداء الجدد وتصرمت أيامه سراعاً.
وذلك أن شيخاً مفلساً يدعى ماركس أتو Marcus Etho أعلن أنه لا يستطيع أداء ديونه إلا إذا أصبح إمبراطوراً (92). وانضم إليه الحرس، وزحفوا على السوق والتقوا بجلبا راكباً في هودج، ومد جلبا عنقه إلى سيوفهم دون أن يبدي أية مقاومة فقطعوا رأسه وذراعيه، وشفتيه، وحمل واحد منهم رأسه إلى أتو، ولكنه لم يستطع أن يقبض بقوة على شهره القليل المبلل بالدماء فأدخل إصبعه في فمه. وأسرع مجلس الشيوخ فوافق على تولية أتو في الوقت الذي كان الجيش الروماني في ألمانيا ينادي بقائده أولس فيتليوس Aulus Vitillius والجيش الروماني في مصر ينادي بقائدهِ تيتس فلافيوس فسبازبانس Titus Flavius Vespasianus إمبراطوراً. وزحف فيتلوس على إيطاليا بفيالقه القوية، وقضى(10/143)
على ما أبدته الحاميات الشمالية، وما أبداه الحرس البريتوري، من مقاومة ضعيفة، وانتحر أتو بعد أن حكم خمسة وتسعين يوماً، وارتقى فيتليوس عرش الإمبراطورية.
وليس مما يشرف النظام العسكري الروماني أن يتولى القيادة في أسبانيا شيخ ضعيف مثل جلبا، وفي ألمانيا أبيقوري متهاون مثل فيتليوس. لقد كان فيتليوس نهماً أهم ما يعرفه عن الزعامة أنها وليمة يُشبع فيها نهمه، ويجعل كل وجبة من وجباته وليمة كبرى، أما شؤون الحكم فكان يكفيها ما بين الوجبات من فراغ، وإذ كانت هذه الفترات قد أخذت تقصر شيئاً فشيئاً، فقد ترك شؤون الدولة في يد معتوقهِ أسياتكس Asiaticus فلم تمضِ على هذا المعتوق أربعة أشهر حتى أصبح أغنى رجل في رومة. ولما علم فيتليوس أن أنطونيوس قائد فسبازيان يزحف بجيشه على إيطاليا ليخلعه، عهد بالدفاع عنه إلى جماعة من أتباعه واستمر هو في ولائمه. وكانت النتيجة أن جيوش أنطونيوس هزمت أنصار فيتليوس عند كرمونا Gremona في شهر أكتوبر عام 69؛ وفي هذه المعركة جرت الدماء كما لم تجر في أية معركة أخرى في التاريخ القديم كله، وزحفت الجيوش الظافرة على رومة فقاومتها فلول فيالق فيتلوس مقاومة باسلة بينما كان مختبئاً في قصره. ويقول تاستس "إن الجماهير احتشدت لتشاهد المعارك، كأن منظر القتل وإراقة الدماء لم يكن إلا منظراً يعرض عليهم لتسليتهم". وبينما كانت المعركة حامية الوطيس كان بعضهم ينهبون المتاجر والمنازل وكانت العاهرات يمارسن مهنتهن (93). وانتصرت جيوش أنطونيوس في المعركة، وأعملوا السيوف في رقاب المهزومين بلا رحمة، وأطلقوا لأنفسهم العنان في السلب والنهب، وساعدهم الغوغاء-وهم الذين لا يقلون عن التاريخ تمجيداً للمنتصرين-على إخراج أعدائهم من مخابئهم، وسحبوا فيتليوس من مخبئه وطافوا به نصف عام في أنحاء المدينة، وحول رقبته طوق معقود، وألقيت عليه الأقار، وعُذب تعذيباً بطيئاً، ثم أشفقوا عليه فقتلوه (ديسمبر من عام 69) وسُحبت جثته بخطاف في شوارع المدينة وألقيت في نهر التيبر (94).(10/144)
الفصل السادس
فسبازيان
لشد ما يغتبط الإنسان بعد ما قرأه عن الأباطرة السابقين أن يرى رجلاً متصفاً بالحكمة والكفاية والشرف! لقد كان فسبازيان، وهذه الأحداث قائمة، يخوض غمار الحرب في بلاد اليهود، ولذلك لم يتعجل في القدوم إلى رومة ليشغل المنصب العالي المحفوف بأشد الأخطار الذي رفعه إليهِ جنوده وبادر مجلس الشيوخ إلى الاعتراف به. فلما وصل إليها في أكتوبر عام 70 أخذ يعمل بجد على إعادة النظام إلى المجتمع الذي اضطرب في كل ناحية من نواحيهِ، وسرى جده هذا إلى نفوس أعوانه. ولما أدرك أن لا بد له أن يعاني نفس المشاق التي عاناها أغسطس، سار على سيرة ذلك الزعيم وسلك مسلكه في أخلاقه وسياسته، فسالم مجلس الشيوخ، وأعاد الحكم الدستوري إلى البلاد، وأطلق سراح من حكم عليهم من قبل بمقتضى قانون الخيانة في عهد نيرون وجلبا وأتو وفيتليوس، واستدعى من كان منهم منفياً خارج البلاد. ثم أعاد تنظيم الجيش وزاد عدد الحرس البريتوري ووسع سلطة رجاله، وعين قواداً كفاة لقمع الثورات التي شبت نارها في الولايات، واستطاع بعد قليل أن يغلق هيكل يانوس Janus رمزاً لعودة السلام وعهداً منه بالمحافظة عليهِ.
وكان قد بلغ الستين من العمر، ولكنه كان محتفظاً ببنيته القوية التي لم يوهنها الإفراط. وكان مفتول العضلات، قوى الأخلاق، ذا رأس عريض أصلع ضخم، وملامح غليظة ولكنها مهيبة، وعينين صغيرتين حادتين تخترقان المظاهر الخداعة إلى الحقائق المستورة. ولم يكن يتصف بشيء من شذوذ العباقرة، ولا يزيد على كونه رجلاً قوي الإرادة شديد(10/145)
الذكاء العملي. وكان مولده في قرية سبنية قريبة من ريتي Reate وأسرته من عامة الشعب. وكان جلوسه على العرش ثورة رباعية: فها هو ذا قائد يتربع على عرش الإمبراطورية، وهاهو ذا جيش من جيوش الولايات قد غلب الحرس البريتوري وتوج من يريده إمبراطوراً، وهاهي ذي أسرة الفلافيين Flavians قد خلفت أسرة اليوليو-كلوديين، وعادات الطبقات الوسطى وفضائلها قد حلت في بلاط الإمبراطور محل الإتلاف الأبيقوري الذي كان يتصف به أبناء أغسطس وليفيا الذين نشأوا في الحواضر. ولم ينس فسبازيان قط أصله المتواضع، ولم يحاول أن يخفيه عن الناس، ولما حاول الأنساب أن يصلوا بنسب أسرته إلى أحد أصحاب هرقل طمعاً منهم في عطائهِ أرغمهم بسخريته على الصمت. وكان يعود بين الفينة والفينة إلى البيت الذي ولد فيه ليستمتع بما فيه من أساليب وأطعمة ريفية، ولم يسمح بأن يُغيَر فيهِ شيء قط. وكان يزدري الترف والبطالة، ويأكل طعام الفلاحين، ويصوم يوماً في كل شهر؛ وأعلن حرباً عواناً على التبذير والإتلاف. وجاءه في يوم ما رجل روماني رشحه لمنصب من المناصب تفوح من رائحة العطر، فقال له: "لقد كنت أوثر أن تفوح منك رائحة الثوم"، ورجع عن ترشيحه لذلك المنصب. ولم يحجب بابه عن الناس، وكان يعيش كما يعيش عامتهم ويتحدث إليهم حديث الرجل الذي لا يترفع عنهم، ويضحك من الفكاهة التي كانت توجه إلى شخصه، ويسمح لكل إنسان أن يوجه إلى خلقه وسلوكه ما شاء من النقد بكامل حريته. وكشف مرة عن مؤامرة تُدبر له فعفا عن المتآمرين، وقال إنهم بلهاء لا يدركون عبء المتاعب التي ينوء بها كاهل الحاكم. ولم يُعرف عنه أنه فقد حلمه إلا مرة واحدة. ذلك أن هلفديوس برسكس Helvidius Priscus، بعد أن عاد إلى مجلس الشيوخ من منفاه الذي أخرجه إليه نيرون، أخذ يطالب بعودة الجمهورية ويطعن على فسبازيان طعناً مراً في السر والعلن، فطلب إليه فسبازيان أن يمتنع حضور جلسات المجلس إذا(10/146)
كان يريد أن يواص هذا السباب، فلما رفض هلفديوس أن يجيبه إلى ما طلب نفاه إلى خارج البلاد ولوث حكمه الصالح بأن أمر بإعدامه. وقد ندم على عملهِ هذا فيما بعد واستمسك في سائر عهدهِ، على حد قول سوتونيوس "بأعظم الصبر وهو يستمع إلى عبارات أصدقائه الصريحة ... وإلى قحة الفلاسفة" (95). وكان هؤلاء فلاسفة كلبيين ساخرين أكثر منهم رواقيين؛ كانوا فوضويين متفلسفين يشعرون أن كل حكم أياً كانت صفته عبء على الناس فرضاً، وكانوا يهاجمون كل إمبراطور يجلس على العرش.
وأراد أن يطعم مجلس الشيوخ بدم قوي جديد، بعد أن أوهنته الحرب الأهلية والقيود على اختلاط الأسر، فعمل على أن يعين رقيباً، ثم جاء إلى رومة بألف من الأسر الممتازة في إيطاليا والولايات القريبة، وسجل أسماءها في سجلات طبقتي الأشراف والفرسان، وملأ ما كان في مجلس الشيوخ من فراغ من بين هذه الأسر الجديدة. وحذا هؤلاء الأشراف الجدد حذوه بعد أن ضرب لهم أحسن الأمثلة، فأصلحوا بسلوكهم الأخلاق الرومانية والمجتمع الروماني. ذلك أن أفراد هاتين الطبقتين لم يكونوا ممن أفسدتهم الثروات الطائلة، ولم يكونوا ممن طال عليهم العهد ببعدهم عن العمل الشاق وزراعة الأرض، فلم يستنكفوا أن يقوموا بالواجبات والأعمال الرتيبة في الحياة وتصريف شؤون الحكم. وكانت تتصف بما يتصف به الإمبراطور من نظام حسن وآداب رقيقة. وق خرج من هذه الطبقة الجديدة أولئك الحكام الذين صلحت بهم حكومة رومة بعددومتيان Domitian مدى جيل كامل، وأدرك فسبازيان ما جره من المساوئ استخدام العبيد المحررين منفذين لأوامر الإمبراطور، فاستبدل بمعظمهم رجالاً ممن جاء بهم ومن طبقة رجال الأعمال التي اخذ عددها يزداد في رومة. واستطاع بمعونة هؤلاء وأولئك أن يرد إلى رومة كرامتها وهو عمل يكاد يكون معجزة من المعجزات.(10/147)
وقد أنه في حاجة إلى 40. 000. 000. 000 سسترس لكي ينتشل البلاد من وهدة الإفلاس ويعيد الثقة إلى حزانة الدولة (1) فعمل على جمع هذا المال بأن فرض الضريبة على كل شيء تقريباً، وزاد خراج الولايات، وأعاد فرض الخراج على بلاد اليونان، ورد إلى الدولة الأراضي العامة وأجرها للأفراد، وباع القصور والضياع الإمبراطورية، وفرض الاقتصاد الدقيق في نفقات الدولة إلى حد جعل الناس ينددون به ويقولون عنه إنه فلاح بخيل، وقرر ضريبة على المباول العامة التي كانت تزدان بها رومة القديمة كما تزدان بها رومة الحديثة. واحتج ابنه على هذه الضريبة الأخيرة المنافية للكرامة، ولكن الإمبراطور الشيخ أمسك بيده بعض النقود المحصلة منها وقربها من فم الشاب وقال له: "انظر يا بني، هل تشم لها رائحة كريهة؟ " (97). ويتهمه سوتونيوس بأنه ضاعف أموال الخزانة العامة ببيع المناصب، وترقية أشد الموظفين شراهة في جباية الضرائب من الولايات، حتى يتخموا جيوبهم بالمال حين يعزلهم فجاءة، ثم يفحص عن أعمالهم ويصادر ما جمعوه لأنفسهم. على أن هذا المالي الماهر الواسع الحيلة لم يستخدم لنفسه شيئاً مما جمعه، بل استنفذ هذا المال كله في إنعاش الحالة الاقتصادية، وفي تجميل رومة بالمنشآت العامة وفي تقدمها الثقافي.
وبقي بعدئذ على هذا الجندي الخشن أن ينشئ أول نظام للتعليم تقوم به الدولة في التاريخ القديم، فكان أول ما عمله في هذا الميدان أن أمر بأن تؤدي لطائفة من ذوي الكفاية من مدرسي الآداب وعلوم البلاغة اللاتينية واليونانية أجورهم من خزانة الدولة، وأن يوضف لهم معاش بعد عشرين عاماً منن الخدمة. ولعل هذا الشيخ المتشكك قد أحس بأن للمدرسين نصيباً في تكييف الرأي العام، وبأنهم سيمتدحون الحكومة التي تؤدي إليهم أجر أعمالهم.
_________
(1) هذا الرقم مأخوذ عن سوتنيوس، ويرى كثيرون من المؤرخين أنه رقم مبالغ فيه ولا يقبله العقل، ولكن يغلب على الظن أنه قدر بالنقد المنخفض القيمة في ذلك الوقت.(10/148)
ولعل سبباً كهذا هو الذي حدا بهِ إلى إعادة كثير من الهياكل القديمة في الحواضر وفي بلاد الريف نفسها. فقد أعاد بناء هيكل جوبتير، ويونو، ومنيرفا، وكان جنود فيتلوس قد أحرقوا هذه الهياكل وهدموها فوق روؤوس جنوده. وشاد معبداً لباكس Pax إلهة السلام، وبدأ أشهر المباني الرومانية كلها وهو مبنى الكولسيوم. وغضبت الطبقات العليا حين رأت الضرائب تفرض على ثروتها لإقامة المنشآت للدولة وأداء الأجور للعمال الفقراء، كما أن العمال أنفسهم لم يحمدوا له كثيراً عمله هذا. ومن أعماله الأخرى أنه حشد الشعب لإزالة ما خلفته الحرب الأخيرة من أنقاض، وحمل هو نفسه أول ما حمل منها، ولما أن عرض عليه أحدالمخترعين تصميم آلة رافعة تقلل الحاجة إلى العمل الجثماني إلى حد كبير أبى أن يستخدمها وقال: "إني أريد أن أطعم شعبي" (98) وكان هذا الخطر المؤقت الذي فرضه فسبازيان على الاختراع اعترافاً منه بمشكلة التعطل الفنية، وقراراً بالحيلولة دون حدوث ثورة صناعية.
وعم الرخاء الأقليم إلى حد لم يكن له نظير من قبل، فكانت ثروتها في ذلك الوقت-إذا قدرت بالنقد على الأقل-ضعفي ما كانت عليه في عهد أغسطس، ولذلك تحملت أعباء ما زاد من الخراج من غير أن يصيبها ضرر ما. وعين فسبازيان أجركولا Agricola الرجل القدير حاكماً على بريطانيا، وعهد إلى تيتس أن يخمد ثورة اليهود، فاستولى على أورشليم ثم عاد إلى رومة بكل مظاهر الشرف التي تتوج الإسراف في التقتيل، وسار القائد المظفر في موكب نصره ومن ورائه صف طويل من الأسرى وقدر كبير من الغنائم مخترقاً شوارع رومة، وأقيم له قوس نصر شهير لتخليد ذكرى هذا النصر الباهر. وازدهى فسبازيان بانتصار ولده ولكنه ساءه وأقلق باله أن رأى نيتس يأتي معه بأميرة يهودية جميلة تدعىبرنس Berenice لتكون خليلة له، ويرغب أن يتزوجها، وفي هذه المرة أيضاً حمل الآسر معه آسره.(10/149)
ولم يكن الإمبراطور يرى سبباً يدعو لأن يتزوج اٌلإنسان خليلته، وقد ظل هو نفسه بعد وفاة زوجته يعيش مع جارية معتوقة ولم يعن قط بأن يعقد عليها، ولما ماتت كئينس هذه وزع قلبه بين عدة محظيات (99). وكان قوي الاعتقاد بأنه يجب أن يستقر على رأي في وراثة العرش قبل وفاته، لأن هذه هي السبيل الوحيدة لمنع الفوضى. ووافقه مجلس الشيوخ على هذا الرأي، ولكنه طلب إليه أن يختار "خير الأخيار" ويتبناه-ولعل المجلس كان يريد منه أن يختار أحد أعضائه. ورد فسبازيان بأنه يرى تيتس خير الأخيار. وأراد ولده أن ييسر الأمر لأبيه فأبعد عنه برنيس، واستعاض عنها بالشيوعية الجنسية (100) ثم أجلس الإمبراطور ولده معه على العرش وعهد إليهِ قسطاً متزايداً من الحكم.
وزار فسبازيان ريتى مرة أخرى، وشرب وهو في الإقليم السبيني كثيراً من ماء بحيرة كوتليا Cutelia المسهل فأصيب بإسهال شديد. وظل وهو طريح الفراش يستقبل الرسل ويؤدي واجبات منصبه. وقد احتفظ إلى آخر لحظة بفكاهته السمجة رغم علمه بأنه قاب قوسين أو أدنى من الموت فقال: "وا أسفاه أظن أني صائر إلى أن أكون إلهاً Vae (Puto deus fio. ووقف على قدميه وهو يكاد أن يُغمى عليهِ، وأعانه على ذلك بعض أتباعه وقال: "إن الإمبراطور يجب أن يموت واقفاً". وبهذا ختم حياة كاملة بلغت التاسعة والستين عاماً، واختتم حكماً صالحاً عشر سنين.(10/150)
الفصل السّابع
تيتس
كان أكبر ولديهِ المسمى باسمه تيتس فلافيوس فسبازيانس Titus Flavius Vespasianus أسعد الأباطرة كلهم حظاً. ذلك أنه مات في السنة الثانية من حكمه وفي الثانية والأربعين من عمره وهو لا يزال "محبوب بني الإنسان". ولم يطل به الوقت حتى تفسده السلطة (1) أو تتكشف له خيبة الرجاء. لقد امتازوهو في ريعان الشباب ببأسه وقسوته في الحرب، ولوث سمعته بالانغماس في الملذات، فلما أن تولى الحكم لم تسكره السلطة، وصلحت أخلاقه، وجعل حكومته مضرب المثل في الحكمة والنزاهة. وكان أكبر عيوبه كرمه الحاتمي، فكان يرى أن اليوم الذي لم يسعد فيه إنساناً ما بهبة يقدمها يوماً أضاعه من حياته. وقد أسرف في الإنفاق على المعارض والألعاب، وترك خزانة الدولة الغاصة بالمال وهي تكاد أن تكون خاوية كما وجدها أبوه. ومن أعماله أنه أتم تشييد الكلسيوم، وبنى حماماً عاماً جديداً في رومة، ولم يحكم على أحد بالإعدام في أثناء حكمه القصير، بل فعل عكس هذا، فقد كان الواشون والمخبرون يضربون وينفون من البلاد، وأقسم أنه يفضل أن يُقتل هو على أن يكون سبباً في قتل إنسان، ولما عرف أن أثنين من الأشراف يأتمرون به ليخلعاه، لم يعمل أكثر من أن يرسل إليهم يحذرهم، ثم أرسل رسولاً يطمئن والدة أحد المتآمرين، ويبلغها أن ابنها لم يُصب بسوء.
_________
(1) يشير الكاتب بقوله "تفسده السلطة" إلى قول لورد أكتن Acton المشهور كل سلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة All power corrupts and absolute power corrupts absolutely. ( المترجم)(10/151)
وكان ما أصابه من سوء الحظ ناشئاً من نكبات لا سلطان له عليها. ذلك أن حريقاً شب في رومة ودام ثلاثة أيام، دمر فيها كثيراً من الأبنية الهامة، وكان مما دمر فيها مرة أخرى هياكل جوبتير، ويونو، ومنيرفا. وفي السنة نفسها ثار بركان فيزوف، وخرب بمبي، وأهلك آلافاً من الإيطاليين؛ وفي السنة التالية تفشى في رومة طاعون لم تشهد وباء أشد منه فتكاً في تاريخها كله. وبذل كل ما في وسعه ليخفف وقع هذه الكوارث الشديدة، ولم تظهر في ذلك العمل عناية الإمبراطور برعاياه فحسب، بل ظهر كذلك عطف الوالد الحنون على أولاده" (102). ومات تيتس في سنة 81 في نفس البيت الريفي الذي توفي فيهِ أبوه من زمن قصير. وحزنت عليه رومة كلها إلا أخاه الذي على العرش.(10/152)
الفصل الثامن
دومتيان
إن المؤرخ الذي يريد أن يرسم صورة صادقة لدومتيان ليجد في ذلك صعوبة لا تعادلها صعوبة رسم صورة لنيرون نفسه. ذلك أن أهم المصادر التي نستمد منها معلوماتنا عن حكمه مصدران هما تاستس وبلني Pliny الأصغر، وكلاهما ممن علا نجمهم في عهده، ولكنهما كانا من حزب الشيوخ الذين كانت بينهم وبينه حرب عوان يريد فيها كلا الطرفين أن يضرب الضربة القاضية. ولدينا في مقابل هذين المؤرخين المعاديين له شاعران هما استاتيوس Statius، ومارتيال Martial اللذين كانا ينالان رفده أو يسعيان لنيله، واللذين شادا بذكره ورفعاه إلى عنان السماء. ولعلهم هم الأربعة كانوا على حق فيما قالوه عنه، لأن دومتيان آخر الفلافيين بدأ حياته كالملائكة وختمها كالشياطين، وكان شأنه في هذا شأن كثيرين من اليوليوسيين-الكلوديين. وقد سايرت روح دومتيان جسمه في هذا التطور: فقد كان في شبابه متواضعاً، رشيقاً، لطيفاً، وسيماً، طويلاً؛ ثم صار فيما بعد "بطيناً، رفيع الساقين، أصلع الرأس"-وإن كان قد ألف كتاباً "في العناية بالشعر" (103). وكان في كهولته يقرض الشعر أما في شيخوخته فلم يكن يثق بثره، وكان يعهد إلى غيره كتابة خطبه وتصريحاته. ولو لم يكن تيتس أخاه لأمكن أن يكون أسعد مما كان؛ ولكن أنبل الناس وحدهم هم الذين يغتبطون بنجاح أصدقائهم. أما دومتيان فقد استحالت غيرته من أخيه في أول الأمر نكداً صامتاً ثم مكائد تدبر سراً لإسقاطه. واضطر تاستس أن يرجو أباه أن يصفح عن أخيه الأصغر. ولما مات فسبازيان، أدعى دومتيان أن أباه قد أوصى بأن يكون شريكاً في(10/153)
الحكم ولكن الوصية عبثت بها الأيدي؛ ورد تيتس على هذا الادعاء بأن عرض عليه أن يكون شريكه وخليفته، فرفض دومتيان هذا العرض وظل سادراً في مؤامرته؛ ويقول ديوكاسيوس إنه لما مرض تيتس عجل دومتيان منيته بأن أحاط جسمه بالثلج (104). وليس في وسعنا أن نتأكد من صخة هذه الأخبار أو غيرها من القصص الني وصلت إلينا عن شهواته الجنسية الطليقة-كقولهم إن دومتيان كان يسبح في الماء مع العاهرات، وإنه ضم ابنة تيتس إلى سراريه، وإنه "كان فاجراً فاسقاً بالنساء والغلمان على السواء" (105). ذلك أن التواريخ اللاتينية كلها لا تختلف في شيء عن سياسة هذه الأيام، فقد كانت ضربات توجه للوصول إلى أغراض رجال العصر الذي كتبت فيه.
فأما من حيث سياسة دومتيان نفسها فإنه كان في العشر سنين الأولى من حكمه متميزاً في أخلاقه قديراً في سياسته إلى حد دهش معه جميع عارفيه؛ فقد اتخذ سياسة تيبيريوس وأخلاقه مثلاً يحتذيه، كما أتخذ فسبازيان أغسطس مثلاً آخر له. ومن ذلك جعل نفسه رقيباً مدى الحياة، ثم حرم نشر المطاعن البذيئة (وإن كان قد غض النظر عن فكاهات مارتيال الشعرية). ونفذ القوانين اليوليوسية الخاصة بالزنى، وحرم تمثيل المسرحيات الصامتة لمجافاتها الأخلاق، أمر بضرب عنق عذراء فستية حكم عليها بالزنى أو بمضاجعة أحد أقربائها المحرمين عليها، وقضى على عادة الخصاء وهي العادة التي انتشرت مع ارتفاع أثمان الأرقاء الخصيان، ولم يكن يطيق رؤية الدم المسفوك ول كان دم الثيران التي يضحى بها في المراسم الدينية. وكان رجلاً شريفاً، واسع الفكر، لم يؤخذ عليه بخل أو شره في حب المال، وأبى أن يقبل الوصايا ممن لهم أبناء، وألغى جميع الضرائب المتأخرة من اكثر من خمس سنين، وأعرض عن المتجسسين. وكان في أحكامه صارماً نزيهاً، وكان له أمناء سر من معاتيقه ولكنه ألزمهم جميعاً أن يكونوا أمناء صالحين.(10/154)
وكان عهده من أعظم عهود العمارة الرومانية، فلما رأى أن النار التي شبت في عامي 79، 82 قد دمرت كثيراً من المباني وأنزلت بالبلاد كثيراً من البلايا، وضع برنامجاً واسعاً للمنشآت العامة ليوفر بذ1لك العمل للأهلين ويساعد على توزيع الثروة (106)، وكان هو أيضاً ممن يأملون في إحاء الإيمان القديم بتجميل الهياكل والأضرحة والإكثار منها. ومن أعماله أنه أعاد بناء هياكل جوبتير ويونو ومنيرفا، وأنفق ما يعادل 22. 000. 000 ريال أمريكي في صنع أبوابها المصفحة بالذهب وأسقفها المطلية بهِ، وأعجبت رومة بنتائج هذه الجهود وأسفت على ما أنفق فيها من أموال طائلة. ولما أن شاد دومتيان لنفسه ولموظفيه الإداريين قصره الرحب المعروف باسم دومس فلافيا Domus Flavia شكا الأهلون بحق من كثرة ما أنفق في بنائه من الأموال، ولكنهم لم يرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على الألعاب الكثيرة الأكلاف التي حاول أن يخفف بها من كراهية الشعب. وقد دشن هيكلاً باسم أبيه وأخيه، وأعاد بناء الحمامات، وهيكل الآلهة التي أنشأه أجربا، والرواق ذي العمد الذي أقامته أكتافيا، وهيكلي إيزيس وسرابس، وأضاف أجنحة جديدة للكلسيوم، وأتم حمامات تيتس، وبدأ الحمامات التي أكملها تراجان.
ولم تشغله هذه المنشآت عن بذل الجهود الجبارة في تشجيع الفنون والآداب حتى بلغ النحت الفلافي الملون في أيام زعامته ذروة مجده، وحتى النقود التي سكت في أيامه رائعة الجمال. ومن الوسائل التي استعان بها على تشجيع الشعر أن أقام في عام 86 الألعاب الكبتولية، وكانت تشمل مباريات في الأدب والموسيقى. وأقام معهداً للموسيقى في ميدان المريخ؛ وقدم معونة متوسطة لاستاتيوس Statius ذي المواهب الوسطى، وأخرى لمارتيال ذي المواهب الوضيعة، وأعاد بناء دور الكتب العامة التي دمرتها النيران، وجدد ما كانت تحتويه من الكتب بأن أرسل الكتبة لنسخ المخطوطات المحفوظة في الإسكندرية-وذلك برهان آخر(10/155)
على أن مكتبتها العظيمة لم يحرق إلا جزء صغير من كنوزها في النار التي أوقدها فيها قيصر.
وإلى هذا كله كان يصرف شؤون الإمبراطورية أحسن تصريف، وكان يتصف بما يتصف به تيبيريوس من عزيمة قوية صارمة في الشؤون الإدارية، وقد ضرب على أيدي المختلسين والمرتشين، وكان شديد الرقابة على تعيين الموظفين ومصائرهم. وكما فعل تيوبيريوس بجرمنكوس إذ حد من جشعه، كذلك استرجع دومتيان أجركولا من بريطانيا بعد أن قاد هذا القائد المغامر جيوشه ودفع حدود الأملاك الرومانية حتى وصلت اسكتلندة، ويلوح أن أجركولا كان يعتزم مواصلة الزحف ولكن دومتيان أبى عليه ذلك. وقد عزا بعضهم استرجاع أجركولا لحسد دومتيان له وغيرته من مجده، وجوزي الإمبراطور على هذا أشد الجزاء حين كتب تاريخ حكمه صهر أجركولا نفسه. وخانه الحظ في الحرب أيضاً حين عبر الداشيون بهر الدانوب في عام 86، وغزوا ولاية موئيزيا Moesia الرومانية، وهزموا قواد دومتيان، فما كان من الزعيو إلا أن تولى القيادة بنفسهِ، ووضع خطة الحرب فأحكم وضعها، وأوشك أن يدخل داشيا ولكن أنطونينس ستورنينس Antoninus Saturninus الوالي الروماني على ألمانيا العليا أقنع فيلقين من الفيالق المعسكرة في مينز Mainz بأن تنادي به إمبراطوراً. وأخمد أعوان دومتيان الفتنة، ولكنها أفسدت عليه خطته إذ مكنت أعداءه من جمع شملهم والاستعداد لقتاله. فلما أن عبر الدانوب لملاقاة الداشيين هزمه هؤلاء على ما يظهر، فعقد الصلح مع دسبالس Dacibalus ملك الداشيين، وأرسل إليه هدية كان يرسل مثلها في كل عام يسترضيه بها، وعاد إلى رومة ليحتفل بنصر مزدوج على الشاتين Chatti والداشيين، واكتفى فيما بعد بإنشاء طريق محصن بين نهري الرين والدانوب وآخر بين الثنية الشمالية لهذا النهر والبحر الأسود.
وكانت فتنة سترنينس نقطة الانقلاب في حكم دومتيان، أو الحد الفاصل(10/156)
بين نفسه الطيبة ونفسه الخبيثة. لقد كان على الدوام شديداً لا يلين، أما الآن فقد انحدر إلى القسوة والوحشية؛ ولقد كان قادراً على أن يحكم حكماً صالحاً، ولكن مقدرته هذه كانت موقوفة على أن يكون حاكماً أوتوقراطياً لا معقب لحكمه؛ ففي عهده لم يلبث مجلس الشيوخ أن فقد سلطته، وكانت اختصاصاته الواسعة بوصفه رقيباً سبباً في إذلال هذا المجلس وبث روح الانتقام في نفوس أعضائه. هذا إلى أن غرور دومتيان لم يقف عن حد، والغرور كما هو معروف من الصفات التي تترعرع حتى نفوس الوضيعين من الناس: ومن مظاهر غروره أنه ملأ الكبتول بتماثيله، ونادى بتأليه أبيه وأخيه وزوجته وأخته كما نادى بتأليه نفسه، وأنشأ طائفة جديدة من الكهنة سموا الفلافيال Flaviales ليشرفوا على عبادة أولئك الأرباب، وطلب إلى الموظفين ألا يذكروه في وثائقهم إلا بلقب "سيدنا وإلهنا Dominus et Deus Noster". وكان يجلس على عرشه ويشجع زائريه على أن يحتضنوا ركبتيه، وأدخل في قصره المزخرف آداب القصور الشرقية، لأن الزعامة أصبحت بقوة الجيش وانحلال مجلس الشيوخ ملكية غير دستورية. واشتعلت نيران الفتن على هذا التطور الجديد بين صفوف الأشراف وبين الفلاسفة والأديان التي أخذت تتسرب إلى رومة من بلاد الشرق. وأبى اليهود والمسيحيون أن يعبدوا دومتيان ويتخذوه إلهاً من دون الله، وندد الكلبيون بكل أنواع الحكومات، وأقسم الرواقيون ليقاومن كل مستبد جبار ويكرمن قتلة المستبدين وإن قبلوا أن يحكم البلاد ملوك. وفي عام 39 طرد دومتيان الفلاسفة من رومة، ثم أخرجهم من إيطاليا كلها في عام 95، وكان قرار طردهم من رومة يشمل معهم المنجمين، لأن تنبؤهم بموت الإمبراطور أوقع الرعب في قلب رجل خال قلبه من الإيمان ومستعد لقبول الخرافات والأوهام. وفي عام 93 أعدم دومتيان بعض المسيحيين لأنهم أبوا أن يقربوا القرابين بين يدي تمثاله؛(10/157)
وتقول الروايات المتواترة إن فلافيوس كلمنز Flavius Clemens ابن أخيه كان من بين هؤلاء القتلى (109).
زاد خوف الإمبراطور من المؤامرات حتى بلغ في السنين الأخيرة من حكمه جد الجنون، فكان يبطن بالحجارة البراقة جدران الأروقة التي يمشي تحت سقفها، حتى يرى صورة من كان وراءه معكوسة فيها. وكان يندب سوء حظ الحكام لأن أحداً لا يصدقهم إذا قالوا إن الناس يأتمرون بهم إلا إذا نجحت المؤامرة، وكان كتيبيريوس يستمع للواشين حين تقدمت به السنون، فلما أن تضاعف عدد الوشاة، لم يكن أحد من المواطنين ذوي المكانة يأمن على نفسه وهو في عقر داره من الجواسيس. وزادت التهم والأحكام زيادة سريعة بعد فتنة سترنينس، فنفى الأشراف أو قتلوا تقتيلاً، وعذب كل من اشتبه فيه عذاباً شديداً، وكان من بين ضروب العذاب "إدخال النار في أعضائهم التناسلية" (108). واتُّخذ مجلس الشيوخ المروع-وكان من أعضائه تاستس الذي يقص هذه الأخبار والحقد يملأ قلبه-أداة لهذه المحاكمات والأحكام، وكان كلما أعدم إنسان يحمد للآلهة أن أنجت الزعيم.
وكان من الأخطاء التي وقع فيها دومتيان أن قذف الرعب في قلوب آل بيته أنفسهم. من ذلك أنه أمر في عام 96 بإعدام إيفرديتس Epaphraidtus أمين سره لأنه أعان نيرون على الانتحار قبل ذلك الوقت بسبع وعشرين سنة. وأحس معاتيق بيته بأنهم مهددون بالخطر، فاعتزموا أن يتقوا الشر بقتل دومتيان، وانضمت إليهم دومتيا Domitia في هذه المؤامرة. وحدث في الليلة السابقة لليلة مقتله أن قفز من فراشه مذعوراً. ولما حلت الساعة المتفق عليها وجه خادم دومتيان الضربة الأولى؛ واشترك أربعة عشر غيره في الهجوم عليهِ؛ وقاوم دومتيان هذا الهجوم مقاومة المجنون، ثم خر صريعاً، وكان ذلك في السنة الخامسة والأربعين من عمره والخامسة عشرة من حكمه (96). ولما علم الشيوخ بالنبأ(10/158)
مزقوا ما كان له في قاعة المجلس من صور وحطموا ما وضع له فيها من تماثيل وأمروا أن يُحطم كل ما في الإمبراطورية بأجمعها من ثماثيل له ومن نقوش يُذكر فيها اسمه.
وبعد فقد ظلم التاريخ هذا العهد "عهد الطغاة"، وكان سبب هذا الظلم أنه تحدث عنه أكثر ما تحدث بلسان أعظم المؤرخين نباغة وأبعدهم عن الإنصاف. ولسنا ننكر أن ثرثرة سوتونيوس كثيراً ما تؤيد اتهامات تاستس أو تحذو حذوها، ولكن دراسة الأدب والنقوش قد حكمت عليها بأنهما يظنان خطأ أن كتابة تاريخ الإمبراطورية، وتاريخ القرن الذي كانا يعيشان فيه، لا تخرج عن تسجيل رذائل الأباطرة العشرة وخطاياهم. وإن أسوأ هؤلاء الحكام لم يكن مجرداً من كل خير-فقد كان تبيريوس حاكماً مخلصاً في عملهِ، وكان كالجيولا مرحاً جذاباً، وكان كلوديوس يكدح لتعلم الحكمة، وكان نيرون مرهف الحس بالجمال، وكان دومتيان قديراً في حكمه صارماً فيه. وقام من خلف مظاهر الفجور والتقتيل نظام إداري حفظ للولايات قسطاً كبيراً من النظام خلال هذه الفترة الطويلة كلها. يضاف إلى هذا أن الأباطرة أنفسهم كانوا أكبر ضحايا سلطانهم، فلقد كان مرض من نوع ما يجري في دمائهم، أشعلت ناره حرارة شهواتهم الطليقة، وظل يلازم اليوليوسيين-الكلوديين حتى قضى عليهم كما قضى أثريوس Atreus. وكان عيب من نوع ما في نظام الحكم هو الذي حط من شأن الفلافيين في مدى جيل واحد، فهوى بهم من حزمهم في شؤون الحكم وصبرهم على متاعبه إلى القسوة الوحشية المروعة. ولقد اختتمت حياة سبعة من هؤلاء الرجال العشرة أسوأ خاتمة، وكانوا كلهم تقريباً غير سعداء في حياتهم، فقد عاشوا في جو من المؤامرات والدسائس، والخيانة، ويحاولون أن يحكموا عالماً من بيت تسوده الفوضى. وإذا كانوا قد أطلقوا العنان لشهواتهم فما ذلك إلا لأنهم كانوا يعرفون أن سلطانهم العظيم سريع الزوال وأنهم كانوا يعيشون يروعهم في كل يوم(10/159)
بأنهم مقضي عليهم بالموت الباكر المفاجئ. وإذا كانوا قد انحطوا إلى الدرك الأسفل فما ذلك إلا لأنهم كانوا فوق متناول القانون، وإذا كانوا قد أضحوا أقل من الرجال فما ذلك إلا لأن السلطة جعلت منهم آلهة يعبدون.
ولكننا مع ذلك لا يحق لنا أن نغفر لهذه الحقبة أو للزعامة ما اقترفته من الجرائم الخسيسة الدنيئة؛ نعم إنها نشرت السلام في ربوع الإمبراطورية، ولكنها بسطت حكم الإرهاب على رومة، وأفسدت الأخلاق بما ضربته من أمثلة القسوة المروعة والفجور الطليق، وقطعت أوصال إيطاليا بإشعال نار الحرب الأهلية التي كانت أشد هولاً ووحشية من حروب قيصر وبمبي، وملأت الجزائر بالمنفيين، وأفنت خير الرجال وأشدهم بأساً وأقواهم قلباً. ونشرت الغدر والخيانة بين الأقارب والأصدقاء بإجزال العطاء للجواسيس الشرهين. وقد استبدلت في رومة حكم القانون بطغيان الأفراد وشادت صروحاً ضخمة بجمع الخراج من الولايات، ولكنها أضعفت النفوس بإرهاب ذوي المواهب والابتكار حتى يذلوا أو يصمتوا. وشر من هذا كله أنها جعلت الجيش صاحب السلطة في البلاد. فلم يكن منشأ سلطة الزعيم على مجلس الشيوخ هو عبقريته الفذة، أو ما جرى به العرف، أو مكانة الزعيم وهيبته، بل كان عماد هذه السلطة أسنة الحرس. ولما رأت جيوش الولايات كيف كان الأباطرة يرفعون على العرش، وكيف كانت العطايا توزع عليهم في العاصمة والغنائم تؤخذ منها، واستولت على سلطة الحرس البريتوري، وتولت هي صنع الملوك. ولقد استطاع الحكام العظماء، الذين كانوا يُختارون بالتبني لا بالورائة، استطاعوا بالحكمة أو بالبطش أو بالمال أن يكبحوا جماح الفيالق الرومانية ويؤمنوا الحدود والثغور، فلما أن عادت البلاهة إلى الجلوس إلى العرش بعمل فيلسوف عاشق، شق الجند عصا الطاعة وفسد نظامهم، ومزقت الفوضى غشاء النظام الرقيق، وتآزرت الحرب الأهلية والبرابرة المتربصون فتحطم صرح الحكم النبيل المزعزع الذي شادته عبقرية أغسطس.(10/160)
الباب الرابع عشر
العصر الفضي
14 - 96م
الفصل الأول
المولعون بالفنون
أطلقت الرواية المتواترة على الآداب اللاتينية فيما بين 14، 117م اسم العصر الفضي للدلالة على أن هذه الآداب قد نزلت عن المستوى الثقافي الرفيع الذي بلغته في عصر أغسطس؛ والرواية هي صوت الزمان، والزمان هو الوسط الذي يختار فيه بين الطيب والخبيث، والعقل الحذر يجل حكمها لأن الشباب وحده هو الذي يعرف ما لا تعرفه عشرون قرناً من الزمان. على أننا نرجو أن يؤذن لنا بأن نرجئ حكمنا على هذا العصر، وأن نستمع بلا تحيز إلى ما يقوله عنه لو كان، وبترونيوس، وسنكا، وبلني الأكبر، وسلسس Celsus، واستاتيوس Statius ومارتيال، وكونتليان، وأن نستمع في أبواب أخرى من هذا الكتاب إلى أقوال تاستس، وجوفنال، وبلني الأصغر، وإبكتنس Epictetus، وأن نستمتع بأقوالهم استمتاع من لم يسمعوا قط بأنهم عاشوا في عصر من العصور الاضمحلال. ذلك أنا نجد في كل عصر شيئاً يضمحل وشيئاً ينمو؛ فالمقطوعات الشعرية الفكهة، والهجاء، والروايات القصصية، والتاريخ، والفلسفة، بلغت كلها في العصر الفضي ذروة مجدها، كما أن فن النحت الواقعي، والعمارة الضخمة قد بلغا فيه ما لم يبلغاه في عصر آخر من عصور الفن الروماني.(10/161)
وفي هذا العصر دخل حديث الشارع مرة أخرى في الأدب، وأهملت بعض قواعد النحو والصرف، وحذت الحروف الساكنة من أواخر الكلمات، ولم يعبأ بها الرومان أكثر مما كان يعبأ بها الغاليون. وحدث في منتصف القرن الأول أو حواليه أن رقق الحرفان الاتينيان V ( وكان ينطق كما ينطبق حرف W ( و) في اللغة الإنكليزية)، B ( إذا كان بين حرفين متحركين) (1) حتى أصبحا مماثلين في النطق لحرف V الإنكليزي. وهكذا أصبحت كلمة Babere ومعناها التملك ينطق بها Bavere، وكان هذا تمهيداً للكلمة الإيطالية avere، والفرنسية Avoir؛ وأخذت كلمة Vinum ومعناها النبيذ أو الخمر تقترب في النطق من كلمة Vino الإيطالية، وكلمة Vin الفرنسية وذلك بإهمال الحرف الساكن الأخير المتغير. وقصارى القول أن اللغة الاتينية شرعت تمهد السبيل للغات القومية الإيطالية والأسبانية والفرنسية.
وجدير بنا أن نعترف في هذا المقام بأن الخطابة ازدهرت وقتئذ على حساب البلاغة، وأن النحو ارتقى على حساب الشعر؛ وأن لمقتدرين الكفاة وجهوا كل جهودهم إلى دراسة شكل اللغة وتطورها ودقائقها، وإلى نشر اللصوص التي أصبحت في ذلك العهد نصوصاً "فصحى"، وإلى صياغة قواعد الكتابة الأدبية الراقية والخطب القضائية، وأوزان الشعر، وتقاسيم الجمل في النثر. وحأول كلوديوس أن يدخل بعض الإصلاح على الحروف الهجائية، وجعل نيرون الشعر طراز العصر المحبب، وألف سنكا الأكبر كتباً في البلاغة، وحجته في هذا أن الفصاحة تزيد كل قوة إلى ضعفيها؛ ولم يكن أحد يرقى في رومة بغير الفصاحة إلا قواد الجند وحدهم، وحتى هؤلاء القواد كان يجب أن يكونوا خطباء. واستحوذ جنون البلاغة على جميع أشكال الأدب: فأصبح الشعر خطابياً، والنثر
_________
(1) لقد فضلنا أن نستعمل هذا اللفظ (الحرف المتحرك) لترجمة كلمة Vowel الإنكليزية وإن كان بعضهم يفضل تسميته "بالحركة" وذلك للدلالة على كيانه المستقل. (المترجم)(10/162)
شعرياً، وحتى بلني نفسه كتب صفحة بليغة في المجلدات الستة من كتابه في التاريخ الطبيعي. وأخذ الناس يغلون أنفسهم باتزان عباراتهم، وتناغم جملهم، وأضحت التواريخ خطباً حماسية، وأخذ الفلاسفة يجهدون أنفسهم في البحث عن النكات، وشرع كل إنسان يكتب أمثالاً مركزة موجزة، وصار الأدباء كلهم يكتبون الشعر ويقرؤونه لأصدقائهم حول مناضد في ردهات أو دور تمثيل يستأجرونها لهذا الغرض، بل إنهم كانوا يقرؤونه في الحمامات نفسها، حتى شكا من ذلك مارتيال مر الشكوى. وعقدت مباريات عامة للشعراء، ينال الفائزون فيها جوائز وتحتفل بهم المجالس البلدية، ويضع الأباطرة عل رؤوسهم أكاليل النصر. وكان الأشراف والزعماء يرحبون بأن تُهدى إليهم المؤلفات أو يُثنى عليهم فيها، وكانوا يجيزون صحبها بالولائم أو الأموال. وكانت شهوة الشعر مما أكسب هذه الفترة وتلك المدنية اللتين دنستهما الإباحية الجنسية وعهود الإرهاب المتكررة نقول كانت هذه الشهوة مما أكسب هذه الفترة ذلك الجمال الذيؤ يخلعه المؤلفون الهواة على العصر الذي يعيشون فيه.
واجتمع الشعر والإرهاب في حياة لوكان، وكان سنكا الكبير جده، وسنكا الفيلسوف عمه. وقد ولد في قرطبة عام 39 وسمي ماركس أنيوس لوكانس Marcus Annaeus Lucanus، وجيء به في طفولته إلى رومة ونشأ في بيئة أرستقراطية يصطرعفيها الشعر والفلسفة مع دسائس الحب ومع السياسة في سبيل الغلبة والمكانة السامية في الحياة. ولما بلغ الحادية والعشرين من عمره اشترك في المباريات التي عقدت أثناء الألعاب النيرونية، وتقدم إليها بقصيدة "في مدح نيرون" نال عليها جائزة. وأدخله سنكا في بلاط الإمبراطور، وسرعان ما أخذ الشاعر والإمبراطور يتطارحان الملاحم. وأرتكب لوكان غلطة شنيعة إذ كسب الجائزة الأولى في مباراة شعرية مع الزعيم، فما كان من نيرون إلا أن أمره بألا ينشر بعدها شعراً، وانسحب لوكان ليثأر لنفسه سراً بتأليف ملحمة قوية ولكنها خطابية(10/163)
سماها فرساليا رأى فيها الحرب الأهلية بعين الأرستقراطية البمبية. ولم يبخس لوكان في هذه الملحمة قيصر حقه، وقد وصفه فيها بتلك العبارة البليغة " Nil actum credens cum quid superssent agendum يظن أنه لم يفعل شيئاً إذا ما بقي ما لم يفعله" (1)، ولكن البطل الحقيقي في هذه الملحمة هو كاتو الأصغر الذي يضعه لو كان في مصاف الآلهة في سطر مشهور من سطور كتابهِ " Victrix causa deis placiut sed victa catoni إن القضية الرابحة سرت الآلهة، ولكن القضية الخاسرة كاتو" (2). وقد أحب لوكان أيضاً القضية الخاسرة، ومات في سبيلها. فقد اشترك في مؤامرة ليحل بيزو محل نيرون، وقبض عليه، فخارت قواه (ولم يكن قد جأوز السادسة والعشرين من عمره)، وباح بأسماء شركائه في المؤامرة، حتى اسم أمه نفسها-على حد قول المؤرخين. ولما أيد نيرون حكم الإعدام الذي صدر عليهِ، استعاد شجاعته، ودعا أصدقاءه إلى وليمة، وأكل معهم حتى شبع، ثم فتح بعض أورته، وأنشد ما قاله من الشعر في هجو الظلم والطغيان بينما كان دم الحياة ينزف من جسمه.(10/164)
الفصل الثاني
بترونيوس
ولسنا واثقين من أن بترونيوس الذي لا يزال كتابه المسمى الساتريكون Satyricon يجد له كثيراً من القراء هو نفسه كيوس بترونيوس Caius Petronius الذي قُتل بأمر نيرون بعد عام من مقتل لوكان. وليس في الكتاب كله كلمة واحدة يمكن أن يُستدل منها على هويته؛ ولا يذكر تاستس في وصفه القوي البليغ لهذا "الحاكم الظريف" كلمة واحدة عن هذه الآية الأدبية التي بلغت في سوء السمعة. وتعزى نحو أربعين مقطوعة فكهة إلى كاتب يدعى بترونيوس ومنها بيت يكاد يمثل فلسفة لكريوشيوس كلها وهو: "إن الخوف هو الذي أوجدالآلهة في العالم أول الأمر" (3) ولكن هذه النتف أيضاً لا تذكر شيئاً يفصح عن حقيقة مؤلفها.
وكتاب الساتريكون مجموعة من الهجاء يغلب على الظن أنها كانت في ستة عشر كتاباً لم يبق منها إلا الكتابان الأخيران، وحتى هذين الكتابين ناقصان. واسمها مشتق من ساتوري Saturae اللاتينية ومعناها "خليط"-وهي تارة نثر وتارة شعر، وتختلط فيها المغامرت في الفلسفة، وجراحة المعدة بالصيد، وهي مدينة في صورتها هذه لكتب منبس Menippus الهجائية؛ ومنبس هذا فيلسوف سوري كلبي Cynic كان يقيم في جدارا Gadara وفيها كتب مؤلفه عام 60 ق. م، ومنها "القصص الميليزية" Milesian أو الروايات الغرامية التي انتشرت في العالم ذي الحضارة اليونانية. وإذ كان ما لدينا من أمثلة أهذا النوع من الكتابات إنما يرجع إلى ما بعد عصر بترونيوس فإن كتاب الساتريكون يمتاز عن أمثاله من الكتب بأنه أقدم رواية قصصية معروفة.(10/165)
ولا يكاد الإنسان يصدق أن رجلاً مترفاً أرستقراطياً نبيلاً، اشتهر بذوقهِ الراقي، ينزل إلى الدرك الذي نزل إليه كتاب الساتريكون. إن كل ما فيهِ من الشخصيات تالعاملة من العامة، والأرقاء السابقين، وكل ما فيه منم المناظر مأخوذ من أسفل أنواع الحياة؛ وبه ينتهي فجاءة العهد الأغسطي الذي كانت تؤخذ فيه موضوعات الأدب من حياة الطبقات العليا. فإنكلبيوس Encolpius الذي تروى القصة على لسانهِ زان، مخنث، كاذب، لص، يرى من الطبيعي أن يكون كل ذي عقل على شاكلته. وهو يقول عن نفسه وعن صديقه: "لقد اتفقنا فيما بيننا على أن نختلس كل ما تصل إليه أيدينا كلما أتيحت لنا فرصة الاختلاس، لنملأ به خزينتنا المشتركة" (4). وتبدأ القصة في بيت للدعارة، يلتقي فيه إنكلبيوس بأسيلتوس Ascyltos بعد أن لجأ هذا إلى ذلك المكان فراراً من محاضر في الفلسفة، ومغامراتهما بين مدن إيطاليا الجنوبية وكهوفها هي الرباط الذي يربط أجزاء القصة المبعثرة، كما أن تنازعهما على جبتون Giton الغلام الرقيق الوسيم هو الذي يفرق بينهما في قصة اللصوص الغرامية. ويصل الرجلان آخر الأمر إلى بيت التاجر تريملكيو Trimalchio، ثم يدور الجزء الباقي لدينا من الكتاب حول وصف السنا تريملكيونس Cina Trimalchionis وهو أعجب غداء في الأدب كله.
وتريملكيو هذا عبد سابق جمع ثروة طائلة واشترى ضياعاً واسعة، يحيا حياة المترفين الحديثي النعمة، بين جدران قصر وفي جو ملئ بالاضطراب. وقد بلغت ضياعه من الاتساع حداً لا بد معه من كتابة صحيفة يومية يعرف بها مكاسبه، وهو يطلب إلى ضيوفه أن يشربوا ويقول:
"إذا لم يعجبكم الخمر استبدلت به غيره، ولست مضطراً إلى شرائهِ وذلك ما أحمده للآلهة. إن كل ما يُسيل لعابكم في هذا المكان قد جاءني من إحدى مزارعي التي لم أرها بعد؛ ولكنهم يقولون لي إنها في طريق ترسينا Terracina(10/166)
وتارنيم، وإني أفكر في أن أضم صقلية لأملاكي الصغيرة الأخرى، حتى إذا ما أردت أن أسافر إلى أفريقية استطعت أن أسير مجأوراً لشواطئ أملاكي ... وإذا ما حدثتكم عن الفضة فإني أحدثكم عنها حديث الخبير؛ فعندي منها أقداح في حجم دنان الخمر ... وعندي ألف جفنة تركها مميوس Mummius لسيدي ... وأنا أشتري الأشياء بأبخس الأثمان وأبيعها بأغلاها؛ وقد يكون لغيري من الناس آراء غير هذه الآراء (5). وهو رغم هذا رجل ظريف، يسب عبيده ولكنه يعفو عنهم من فوره، وهم من الكثرة بحيث لا يعرف صورته منهم إلا عشرهم، وهو لا ينسى أنه في الأصل عبد مثلهم ولذلك يقول عنهم قولاً كريماً: "إن العبيد رجال قد رضعوا اللبن الذي رضعناه ... وسوف يشرب عبيدي إذا طال بهم العمر الماء الذي يشربه الأحرار". وهو يبرهن على حسن نواياه بأن يأمر بإحضار وصيته وقراءتها على ضيوفه فيجدون فيها أموالاً مخصصة لقبريته التي يختمها بقولهِ مفتخراً إنه "اغتنى من لاشيء، وإنه ترك وراءه ثلاثين مليون سسترس، وإنه لم يستمع قط إلى فيلسوف" (6).
واختص وصف العشاء بأربعين صفحة، وإن عدداً قليلاً من الجمل لتكفي لوصف نكهته:
وكانت لدينا صينية مستديرة نقشت على أطرافها أبراج النجوم، وقد وضع الخادم على كل برج خير مايلائمه من الطعام؛ فوضع جلبان الضأن على برج الحمل ولحم البقر على برج الثور ... ورحم خنزيرة لم تلد على برج السنبلة ... ووضع على برج الميزان كفتين في إحداهما فطيرة وفي الأخرى كعكة ... وأقبلت أربعة راقصات مسرعات ليرفعن الغطاء عن الطعام. وكان من تحته طيور محشوة، وبطون خنازير، يتوسطها أرنب، وفي الجوانب أربعة تماثيل لمارسياس Marsyas يخرج من مثاناتها حساء متبل يقع على سمك يسبح في الصحاف ... ثم جاءت صينية أخرى عليها خنزيرة، علقت في أنيابها سلال مثقلة بالبلح، ومن حولها صغارها مصنوعة(10/167)
من الفطائر ... ولما دفع الخادم السكين في جانب الخنزيرة طار منها طير السماني وحط كل واحد على ضيف من الأضياف (7).
ثم تدخل الحجرة أربعة خنازير بيضاء ويختار الضيوف ما يريدون أن يطهى لهم منها؛ ويشوى لهم ما يختارونه وهم يطعمون؛ ويؤتى لهم به، فإذا قطع خرجت من بطنه أمعاؤه المحشوة والفطائر. وإذا قدمت الحلوى لم يجد أنكلبيوس لديه شهية لنتأولها، ولكن ترملكيو يحث ضوفه على الأكل ويؤكد لهم أن الحلوى قد صُنعت كلها من لحم الخنزير. ويدلى خطاف من السقف، يحمل لكل ضيف إبريقاً من المرمر مملوءاً بالعطر ويملأ العبيد أقداحاً فارغة بالخمر المعتق. وتذهب الخمر بعقل تريملكيو فيغازل غلاماً، وتحتج عليه زوجته البدينة، ويقذفها بكأس في رأسها ويقول: "إن هذه العاهر السورية الرقاصة ضعيفة الذاكرة، فلقد انتشلتها من سوق النخاسة وجعلتها امرأة، وهاهي ذي تنفخ أوداجها كالضفدعة .... وهذه سنة الخلق إذا ولدت في علية تحت سطح منزل، فلن تستطيع أن تنام في قصر" (8) ثم يامر قهرمانه أن يبعد تمثالها عن قبره "وإلا فإنها ستؤنبني حتى بعد أن اموت".
هذا كتاب في الهجاء القوي المقذع، واقعي في تفاصيله وحدها، ولا يصدق إلا على قسم صغير من الحياة الرومانية. وإذا كان كاتبه هو بترونيوس الذي عاش في عهد نيرون، وجب علينا أن نعده هجاء مقذعاً للأغنياء المحدثين من الأرقاء المحررين، كتبه رجل من الأشراف، ولم يكسب قط بعملهِ ما كان له من المال. والكناب كله خلو من الرحمة ليس فيهِ شيء من العطف على الناس، ولا يهدف إلى مثل أعلى، ويرى كاتبه أن الفساد وسوء الخلق أمر طبيعي لا غبار عليهما، وتعرض فيه حياة السوقة من الناس عرض من يستمتع بها ويعجب بها ولا يعلق بكلمة ما عليها. وفي هذا الكتاب تنساب الأقذار انسياباً سريعاً إلى الأدب الروماني، وتحمل إليه أحكام أصحابها، وأذواقهم، وألفاظهم الوقحة، وحيويتهم(10/168)
المرحة. وترى القصة أحياناً تصل إلى أعلى درجات السخف والبذاءة والسباب لتي تتوج ملحمة جرجنتوا وبنترجول، وتعد تمهيداً لقصة "الأتان الذهبية" لأبوليوس Apuleius وتضارعها جيل بلاس Gils Blas التي كُتبت بعدها بسبعة عشر قرناً، وتواصل قصتنا ترسترام شاندي Tristram Shandy، وت جونز Tom Jones ما في قَصَصِها من التواء، وجملة القول أن هذا الكتاب هو أعجب كتاب في الأدب الروماني كله.(10/169)
الفصل الثالث
الفلاسفة
في هذا العصر الشديد التعقيد والانحلال، الذي فرضت فيه على الحرية أضيق القيود وتحررت فيه الحياة من كل قيد، في هذا العصر ازدهرت الفلسفة إلى جانب الفسق والفجور، ولم تتفرعا قط عن التعأون والاتفاق. لقد ترك ما طرأ على الدين القومي من انحلال ثغرة في الأخلاق حأولت الفلسفة أن تسدها، فكان الآباء يرسلون أبناءهم، وكثيراً ما كانوا يذهبون هم أنفسهم، ليستمعوا إلى محاضرات رجال يعرضون عليهم قانوناً عقلياً للأخلاق الصالحة، أو ستاراً رسمياً للشهوات المكشوفة، وكان بعض من أوتوا سعة من المال يستأجرون الفلاسفة ليعيشوا معهم، وليعلموهم، وليكونوا لهم مستشارين روحيين، وأصحاب هكذا كان أتيوس لأغسطس، لا يكاد يبرم أمراً حتى يستشيره فيهِ، ومن أجله (إذا كان لنا أن نصدق الحكام فيما يقولون) لم يقس على مدينة الإسكندرية، ولما مات دروسس استدعت ليفيا "فيلسوف أبيها"-وهذا نص عبارة سنكا-"ليعينها على تحمل أحزانها". وكان لنيرون، وتراجان وأورليوس بطبيعة الحال فلاسفة يقيمون معهم في بلاطهم، كما للملوك أمناء في هذه الأيام. وكان الناس في الساعات الخيرة من حياتهم يستدعون الفلاسفة، ليمهدوا لهم طريق الموت، كما جرت العادة بعدئذ أن يستدعي الناس القسأوسة (10).
ولم يكن الشعب ليغفر لهؤلاء الفلاسفة أنهم يتقاضون على أعمالهم هذه مرتبات أو أجوراً، بل كان يرى أن الفلسفة قي حد ذاتها تغني عن الطعام والشراب؛ وكان الفلاسفة الذين لا يقدرون مهنتهم حق قدرها عرضة لسخرية الشعب، وانتقاد كونتليا Quintilian، وهجو لوشيان Lucian وعداء(10/170)
الأباطرة. والحق أن الكثيرين منهم كانوا جديرين بهذا كله، لأنهم كانوا يلبسون لباس الفلاسفة الخشن، ويطلقون لحاهم طويلة، لبستروا بثوب العلم نهمهم، وأطماعهم، وبخلهم، وغرورهم. وفي ذلك يقول أحد الأشخاص للوسيان إن:
"دراسة قصيرة للحياة قد أقنعتني بما في جميع الأغراض الدنيوية من سخف وحقارة ... وخير ما أستطيع أن أفكر فيه وأنا في هذه الحالة النفسية هو أن أعرف حقيقة الحياة كلها من الفلاسفة ... ومن اجل هذا أخترت أحسنهم-إذا كان وقار المنظر، واصفرار الوجه، وطول اللحية هي المقياس الذي يعتمد عليه في هذه الحال ... ثم وضعت نفسي بين أيديهم. وطلبت إليهم أن يعلموني نظام الكون في نظير مبلغ كبير من المال أؤديه إليهم فوراً، ومبلغ آخر أؤديه إليهم حين أصل إلى الغاية في الحكمة. ولكن الذي حدث لسوء الحظ أنهم لم يبددوا ما كنت فيه من جهل، بل زادوا عقلي ارتباكاً فوق ارتباكه بما جرعوني من بدايات وغايات، ودرات وفراغ، ومواد وأشكال. وكان أصعب ما لقيته أنهم جميعاً كانوا يريدون أن أصدقهم، رغم ما بينهم من خلاف، ورغم ما كان في اقوالهم كلها من تناقض؛ فكان كل واحد منهم يجذبني نحوه ... وكثيراً ما كان يعجز عن أن يخبرك بما بين مجارا وأثينة من أميال، ولكنه لا يتردد مطلقاً في أن يخبرك بما بين الشمس والقمر من أقدام (11).
وكان معظم الفلاسفة الرومان من أتباع المذهب الرواقي، أما لأبيقوريين فلم تترك لهم االخمر ولنساء والطعام وقتاً للنظريات الفلسفية. وكان في أماكن قليلة من رومة متسولون يَدْعون إلى الفلسفة الكلبية، لا يعنون بالتفكير، ويدعون الناس إلى البساطة والتقشف، ويذعنون لما يطلبه الشعب إلى الفلاسفة أن يكونوا فقراء، ومن أجل هذا كانوا أقل طوائف الفلاسفة احتراماً. ولكن سنكا اتخذ واحداً من هؤلاء صديقاً وفياً له؛ وقال في هذا متسائلاً: "ولم لا أجل دمتريوس وأعظمه؟ لقد وجدته(10/171)
كاملاً لا ينقصه شيء. وقد دهش الحكيم صاحب الملايين حين رفض الفيلسوف الكلبي، الذي لم يكد يجد عنده ثوباً يستر به عورته، عطية من كالجيولا مقدارها مائتا ألف سسترس (12).
وإذ كان الرواقي الروماني رجل قتال لا رجل تأمل وتفكير، فقد كان يتجنب ما وراء الطبيعة، ويرى ذلك من المطالب الميئوس منها، وكان يجد في الرواقية فلسفة أخلاقية تقوم على الآداب الإنسانية، وتضم شمل الأسرة، وتثبت النظام الاجتماعي من غير حاجة إلى رقابة علوية وسيطرة إلهية. وكان جوهر قانونه الأخلاقي هو سيطرة المرء على نفسهِ: فكان يدعو إلى إخضاع الشهوات للعقل، وكان يعوَّد إرادته ألا تطلب شيئاً يجعل راحته النفسية تعتمد على الطيبات الخارجية. وكان في الناحية السياسية يعترف بأخوة البشر الخاضعين لأبوة الله. وكان في الوقت نفسه يحب بلده وتراه على الدوام مستعداً لأن يضحي بحياته لكي يرد عنها وعن نفسه المذلة والعار. وكانت الحياة على الدوام رهن تصرفه، له أن يغادرها حين تصبح نقمة عليه لا نعمة له، وكان الرواقي يسعى لأن يكون ضمير الإنسان أقوى من كل قانون، وكانت الملكية في رأيه شراً لا بد منه لحكم الأقطار الشاسعة المتباينة، ولكن قتل الطاغية المستبد كان أمراً طيباً مرغوباً فيهِ كل لرغبة.
وقد استفادت الرواقية الرومانية أول الأمر من الزعامة، ذلك أن القيود التي فرضت على الحرية السياسية دفعت الناس من السوق إلى الدرس، وبعثت في أرق هؤلاء الناس وأظرفهم نزعة إلى الفلسفة التي تجعل الشخص المسيطر على نفسه ذا سلطان أقوى من سلطان الملك الثائر المنفعل. ولم تقيد الحكومة حرية الفكر أو العقول ما دامت الأفكار والأقوال لا تتجه علناً إلى مهاجمة الإمبراطور وأسرته، أو إلى الطعن على الآلهة الرسمية. فلما أن شرع الأساتذة وأولياؤهم من الشيوخ ينددون بالظلم والاستبداد شبت بين الفلسفة والحكم المطلق حرب عوان، دامت حتى جمع بينهما الأباطرة المتبنَّون فوق العرش(10/172)
ولما أمر ثراسي Thrasea بأن يقتل نفسه (65) نفي في الوقت نفسه موسونيوس روفس Musonius Rufus صديق ثراسي، وأخلص فلاسفة رومة الرواقيين في القرن الأول عقيدة، وأشدهم عملاً بفلسفتهِ. وكان روفس قد عرف الفلسفة بأنها هي البحث عن السلوك الطيب، وشرع في هذا البحث بجد ومثابرة. وقد شهر بالتسري رغم شريعته، وكان يطلب إلى الرجال أن يحافظوا في أخلاقهم الجنسية على المستوى الذي يطالبون به النساء. وكان الرجل التولستوي النزعة يقول إن العلاقات الجنسية لا تباح إلا في حالة الزواج وللمحافظة على النسل. وكان يعتقد بوجوب تكافؤ الفرص التعليمية للرجال والنساء عل السواء يرحب بوجود النساء في محاضراته، ولكنه يأمرهن أن يبحثن في الزينة والفلسفة عن الوسائل التي يكملن بها أنوثتهن (13). وكان الأرقاء أيضاً يشهدون محاضراته. وقد شرف أحد هؤلاء وهو Epictetus أستاذه بأن تفوق عليهِ. ولما أن شبت نار الحرب الأهلية في رومة بعد موت نيرون خرج موسونيوس للجيش المهاجم، وأخذ يخطب فيه ويشرح له فوائد السلم وفضائع والحرب. وسخر منه جنود أنطونيوس وعادوا إلى تحكيم السيف. ولما أن طرد فسبازيان الفلاسفة من رومة استثنى منهم روفس، ولكنه احتفظ بسراريه.(10/173)
الفصل الرابع
سنكا
وجدت الفلسفة الرواقية في حياة لوسيوس أنيوس سنكا Lneius Annaeus Seneca أكثر مظاهرها مدعاة إلى الريبة، كما وجدت في كنايته أصدق تعبير عنها. وكان مولده في قرطبة ( Corduba) حوالي العام الرابع قبل الميلاد، وسرعان ما حيء به إلى رومة وتلقى فيها كل ما كان يستطيع أن يتلقاه من تربية وتعليم. وقد تشرب الفلسفة من أبيه، والرواقية من أتالس Attalus والفيثاغورية من سوتيون Sotlon، والفلسفة العملية من زوج عمته حاكم مصر من قبل الرومان. وحأول مدى عام أن يعيش على الأطعمة النباتية، ثم عدل عن هذا، ولكنه ظل طوال حياته مقلاً من الطعام والشراب، فكان من ذوي الملايين في بيئته لا في عاداته. وقد عانى كثيراً من مرض الربو وضعف الرئتين، حتى فكر في بعض الأحيان في الانتحار. ومارس مهنة المحاماة، واختير كوسترا في عام 33م، وبعد عامين من ذلك الوقت تزوج بمبيا بولينا Pompeia Paulina وعاش معها عيشة مستمرة عجيبة حتى مماته.
ولما ورثت ثروة أبيه، ترك مهنة المحاماة، واشتغل بالكتابة. ولما أرغم كالحيولا كرمتيوس كوردس Cremutius Cordus على أن يقتل نفسه (40) كتب سنكا إلى أبنته مقالة تعزية Consolatis، وكانت هذه المقالات من الموضوعات التي يكتبها الخطباء والفلاسفة في تلك الأيام. وأراد كالجيولا أن يقتله عقاباً له على وقاحته، ولكن أصدقاءه أنجوه من القتل بقولهم إنه لن يلبث أن يموت من السل إذا ما ترك وشأنه. وبعد قليل من ذلك الوقت اتهمه كلوديوس بوجود علاقات غير شريفة بينه وبين يوليا ابنة جرمنكوس،(10/174)
وحكم عليه مجلس الشيوخ بالإعدام، ولكن كلوديوس استبدل بهذا الحكم النفي في جزيرة كورسكا.
وفي هذه الجزيرة الصخرية الوعرة قضى الفيلسوف في عزلته ثماني سنين (41 - 49) بين أقوام لم يرتفعوا قط عن بدائتهم التي وصفهم بها أوفد في تومي Tomi. وصبر في أول الأمر على هذه الكارثة صبر الرواقيين الحقيقيين، وكتب إلى أمه مقالاً يواسيها فيه " Consolatio ad Helviam"، فلما أن توالت عليه أعوام الشقاء، ضعفت نفسيته واستولى عليه اليأس، فكتب إلى أمين سركلوديوس مقالة Consolatio ad Polybium يرجوه فيها متذللاً أن يعفو عنه، ولما لم يفده هذا الرجاء حأول أن يحفف من آلامه بكتابة المآسي.
وأكبر الظن أن هذه المسرحيات العجيبة التي يكاد كل شخص فيها أن يكون خطيباً، وإنما كتبت لتقرأ وتدرس لا لتمثل على المسرح، وذلك أننا لم نسمع أن واحدة منها مثلت، وغاية ما في الأمر أن بعض الحادثات ذات الروعة أو بعض الخطب الطنانة الرنانة، لُحنت ومثلت تمثيلاً هزلياً. ونرى الفيلسوف الرقيق في هذه المسرحيات يجري الدماء على المسرح كأنه يريد ألا يكون هذا المسرح أقل بشاعة وسفكاً للدماء من الاحتفالات والألعاب. على أنه رغم ما بذله فيها من جهود جبارة، لم ينجح في مسرحياته لانصرافه فيها إلى التفكير أكثر من انصرافه إلى الإخراج المسرحي، فهو يفضل الأفكار على الرجال، ولا يدع فرصة تمر دون أن يشغلها بالتأملات والعواطف والفكاهة. ولسنا ننكر أن في مسرحياته أبياتاً جميلة، ولكن الإنسان لا يلام إذا لم يعلق شيء منها بذاكرته بعد سماعها. على أننا يجب أن نضيف إلى هذا أن كثيرين ممن يعتد بحكمهم لا يتفقون معنا في الرأي، ومن هؤلاء اسكلجر Scaliger سيد النقاد جميعاً في عصر النهضة والذي يفضل سنكا عن يوربديز.
ولما أن عادت الآداب القديمة إلى الحياة، كان سنكا هو الذي اتُّخذ(10/175)
نموذجاً لأولى المسرحيات التي كتبت باللغات الحديثة، وعنه أخذت الصيغ الفصيحة، ووحدة الزمان والمكان التي امتازت بها مسرحيات كورني Corneille وراسين Racine، والتي ظلت مسيطرة على المسرح الفرنسي حتى القرن التاسع عشر. ولقد كانت ترجمة هاي وود Heywood (1559) لمسرحيات سنكا في إنجلترا، التي كانت أقل البلاد تأثراً بنفوذه، المثال الذي نسجت على منواله مأساة بودك Gorboduc أولى المآسي الإنجليزية، كان لهذه المآسي أثرها في مسرحيات شكسبير.
وحدث في عام 48 أن حلت أجربينا الصغرى محل مسالينا في السيطرة على كلوديوس وعلى رومة، وكانت تتوق إلى أن تجعل من ابنها نيرون، وكان وقتئذ في الحاديى عشر من عمره، اسكندراً ثانياً، فأخذت تتلفت حولها تبحث له عن أرسطاطاليس، حتى وجدته في جزيرة كورسكا، فأمرت باستدعاء سنكا وأعادته إلى مكانه في مجلس الشيوخ، وظل خمس سنين يعلم تلميذه الشاب، وخمس سنين أخرى يرشد الإمبراطور ويمسك بزمام الدولة. وكان طوال هذه العشر السنين يدبج الرسائل لإصلاح شأن نيرون، كما كتب عدة رسائل مختلفة يعرض فيها الفلسفة الرواقية عرضاً ظريفاً. ومن هذه الرسائل رسائله: في الغضب، وفي قصر الحياة، وفي هدوء الروح، وفي الرحمة، وفي الحياة السعيدة، وفي ثبات المسرح، وفي حسن التدبير. وهذه الرسائل التي تعنى أكثر ما تعنى بالشكل والمظهر لا تبرز أحسن مواهب سنكا، فهي كمسرحياته ملى بالنكات، ولكن هذه النكات التي يجدها القارئ منثورة غير ارتباط في صحف الكتاب كلها تفقد بهجتها آخر الأمر وتبعث الملل في نفس اللقارئ. على أن قراء سنكا مع ذلك كانوا يقرؤون هذه المقالات من حين إلى حين، ولم يكونوا يشمئزون من النكات المرحة التي أغضبت كونيان الصارم (14)(10/176)
المتزمت (14)، ولا من المحسنات اللفظية التي لم يرض عنها ذوق فرنتو Fronto العتيق. لقد كان يسر أولئك القراء أن وزيرهم الأول ينطق بأقواله الظريفة، وأنه يحأول كما يحأول تلميذه بكل ما أوتي من جهد ا، يكسب ثناءهم عليه. وقد ظل سنكا كثيراً من السنين حامل لواء الكتاب، والساسة، وزارع الكروم في إيطاليا.
وضاعف ما ورثه عن أبيه من ثروة باستثمارها استثماراً استعان عليه فيما يظهر بمنصبه الرسمي وعلمه الواسع؛ وإذا كان لنا أن نصدق ديو فإنه كان يقرض المال لأهل الولايات بربا فاحش أثار الفزع والفتنة في بريطانيا حين فاجأ مدينته فيها بطلب أمواله البالغ قدرها 40. 000. 000 سسترس (15). ويقال إن ثروته بلغت 300. 000. 000 سسترس أي (30. 000. 000 ريال أمريكي) (16). وقد اتهمه جاسوس من أصدقاء مسالينا يدعى ببليوس سوليوس Publius Sullius علناً بأنه "منافق، زان، خليع، يذم حاشية الإمبراطور ولا يفارق قصره، ويذم الترف، ويتباهى بأن له خمسمائة خوان من الأرز والعاج، ويندد بالثروة ويستنزف دماء الولايات بالربا الفاحش" (17). وقنع سنكا كما قنع قيصر بمقارعة الحجة بالحجة، وكان في وسعه أن يأمر بإعدام خصمه. ولقد أعاد ذكر هذه التهم في مقاله "عن الحياة السعيدة" ورد عليها بأن الحكيم لا يتحتم عليه أن يكون فقيراً، فإذا جاءه المال من طريق شريف كان في وسعه أن يقبله، ولكن يجب أن يكون في مقدوره أن يتخلى عنه متى شاء دون أن يندم عليهِ" (18)، وكان في هذه الأثناء يعيش عيشة الزهد والتقشف بين أثاثه الجميل، ينام على خشبة صلبة خشنة، ولا يشرب إلا الماء القراح، ولا يتنأول إلا القليل من الطعام، حتى ضمر جسمه من قلة التغذية قبل وفاته (19). وكتب في ذلك يقول: "إن كثرة الطعام تذهب بالذكاء، والإفراط فيه يخنق الروح" (20). أما ما اتهم به من الشذوذ الجنسي فلعله كان(10/177)
يصدق عليه أيام شبابه، ولكنه اشتهر بعطفه الدائم على زوجته. والحق أنه لم يقرر في حياته أيهما إليه الفلسفة أو السلطة، الحكمة أو السعادة؛ ولم يقنع في يوم من الأيام بتعارض الفلسفة مع السلطة، أو الحكمة مع السعادة؛ وكان يعترف بأنه حكيم جد ناقص، ومن أقواله في هذا: "أني لا أمتدح الحياة التي أحياها بل االحياة االتي يجب أن أحياها، وهي الحياة التي أحبو إليها حبواً، وهي بعيدة عني كل البعد" (21)، وأينا لا يصدق عليه هذا الوصف؟ وإذا لم يكن مخلصاً في قوله إن "الرحمة لا تزين أحداً من الناس بقدر ما تزين الملك أو الزعيم" (22)، فلا أقل من أنه قد وصفق هذه العاطفة وصفاً لا يقل جمالاً عن وصف بورشيا Portia لها (1). وقد ندد بمعارك المجتلدات التي كانت تنتهي بقتل المصارعين (24)، وكان من أثر ذلك أن حرمها نيرون، وخفف من حدة النقد في أيامه بما يسميه تاستس: "كياسته في تلقين الحكمة" (25)، ولم يكن في حياته يتطلب الكمال، كما لم يكن يمارسه عملياً.
ولقد سبق القول بأنه خكم الإمبراطور حكماً صالحاً وأنه أساء إلى سمعته بالتغاضي عن شر ما ارتكبه نيرون من الجرائم، و "السماح بارتكاب الكثير من الشر حتى يكون في مقدوره أن يفعل القليل من الخير" (27). وكان يحس بما في منصبه الرسمي من ذلة ومهانة، ويتوق إلى التحرر من عبوديته، ووصف قصر الإمبراطور بأنه "سجن يشقى فيه العبيد". وكان يتمنى أن لو قضى حياته كلها في دراسة الحكمة، وتجنب دياجير السلطان. وكان يسره أن يتخلى من حين إلى حين عم مشاغله السياسية، وأن يستمع وهو في سن الستين إلى محاضرات متروناكس Metronax في الفلسفة كما يستمع إليها الصبي الحريص على الإفادة منها. وطلب في عام 22 - وكان وقتئذ في السادسة والستين من عمره-أن يؤذن له باعتزال منصبه في القصر، وكان وقتئذ أقل شأناً من منصبه الأول،
_________
(1) يشير المؤلف إلى وصف بورشيا البليغ للرحمة في رواية تاجر البندقية لشكسبير. (المترجم)(10/178)
ولكن نيرون لم يجبه إلى طلبه. ولما طلب نيرون إلى جميع من في الإمبراطورية أن يكتتبوا في إعادة بناء رومة بعد الحريق العظيم الذي دمرها في عام 64، تبرع هو بالجزء الأكبر من ثروته لهذا الغرض. واستطاع فيما بعد أن ينسحب شيئاً فشيئاً من بلاط الإمبراطور، وأن يقضي جزءاً متزايداً من وقته في بيوته في كمبانيا، لعله يستطيع بعزلته الشبيهة بعزلة النساك أن يفر من الإمبراطور ومن جواسيسه. وظل وقتاً ما لا يطعم إلا التفاح البري ولا يشرب إلا الماء الجاري خشية أن يدس له السم في الطعام.
وفي هذا الجو المليء بالرعب والفزع دوّن بين عامي 63، 65 دراساته في التاريخ الطبيعي Questiones Naturales كما كتب ألطف كتاباته كلها وهي رسائله الأخلاقية Epistulae Morales. وهذه الرسائل احاديث عارضة شخصية موجهة إلى صديقه لوسليوس وإلى صقلية المثري، الشاعر، الفيلسوف والأبيقوري الصريح. وقل أن يجد الإنسان في الأدب الروماني كتباً تبعث على السرور خيراً من هذه المحأولات الطريفة لتكييف الرواقية حسب حاجات الرجل الواسع الثراء. وتعد هذه الرسائل بداية المقالة الخالية من التكلف والصنعة التي أمست فيما بعد الوسيلة التي لجأ إليها أفلوطرخس، ولوسشيان، ومنتاني، وفلتير، وروسو، وبيكن، وأدسن واستيل للتعبير عن آرائهم. وإن القارئ ليشعر وهو يقرأ هذه الرسائل بأنه على اتصال بروماني مستنير، رحيم، متسامح، سما إلى الذروة وتعمق إلى أبعد حد في الأدب، والسياسة، والفلسفة، ويحسن كأن زينون يتحدث فيها برقة أبيقور وتسامحه وبسحر أفلاطون. ويعتذر سنكا للوسليوس عن أسلوبه المهلهل الذي ر يبدو فيه كبير أثر للعناية (وهو مع ذلك أسلوب لاتيني رائع الحسن)؛ ويقول في اعتذاره هذا: "وأحب أن تكون رسائلي إليك هي عين حديثي، إذا ما جلسنا أو سرنا معاً" (30). ويضيف إلى ذلك قوله:
"لست أكتب هذا لجمهرة الناس، بل أكتبه إليك، فحسبي وحسبك(10/179)
أن يستمع كل منا للآخر Satis magnum alteri theatrum sumus"، وإن كان السياسي الشيخ يرجو بلا ريب أن يسترق الناس هذا الحديث. وهو يصف ربوه وصفاً رائعاً وإن كان لا يرثي فيه لنفسه، ويسمي هذا المرض تسمية مرحة ظريفة فيقول إنه "التدريب على الموت" بأخذ "أنفاس أخيرة" متقطعة تدوم كل منها ساعة, وكان وقتئذ في السابعة والستين من العمر ولكنه لم يبلغها إلا بجسمه، أما "عقلي فقوي يقظ، يجادلني في موضوع الشيخوخة، ويجهر بأنها فترة ازدهار" (32). وهو يبتهج إذ واتته الفرصة آخر الأمر لقراءة الكتب القيمة التي اضطر إلى إغفالها زمناً طويلاً. ويلوح انه في ذلك الوقت قد عاد إلة قراءة كتب أبيقور، لأنه ينقل عنها فقرات كثيرة وينقلها بحماسة تزري بأمثاله من الرواقيين، ويستولي عليه الرعب حين يشهد تطرف كالجيولا، ونيرون، وآلاف غيرهما من الرومان في نزعتهم الفردية وفي الجري وراء شهواتهم؛ يريد أن يجد وسيلة يقأوم بها المغريات التي تحيط بمن يتحرر عقله قبل أن ينضج خلقه، ويبدو أنه أخذ على نفسه أن يرد على الأبيقوريين ويفحمهم بأقوال نطق بها زعيمهم الذي دنسوا اسمه بأعمالهم، والذي لا يجرؤون على فهم تعاليمه.
وأول درس يلقيه على الناس في الفلسفة هو أننا لا نستطيع أن نكون عقلاء حكماء في كل شيء، وأنا لسنا في حقيقة أمرنا إلا قطعاً متناثرة في الفضاء اللانهائي، ولحظات قصيرة في الأبدية، وإن محأولة هذه الذرات المتشعبة أن تصف الكون، أو الكائن الأعلى، لعمل ترتج من الكواكب سخرية ومرحاً. ومن اجل هذا فإن سنكا لم يكن في حاجة إلى الدين أو إلى علم ما وراء الطبيعة؛ وفي وسع الإنسان أن يثبت من كتاباته أنه كان من الموحدين، أو المشركين، أو الكافرين، أو الماديين، أو الأفلاطونيين، أو القائلين بوحدة الوجود، أو ثنائيته. وهو يرى في بعض الأحيان أن الله قوة مدبرة شخصية، (31)(10/180)
تهيمن على كل شيء، "تحب الصالحين من الناس" (33)، وتستجيب إلى دعواتهم، وتعينهم بلطفها الإلهي (34). ثم تراه في فقرات أخرى يقول إن الله هو العلة الأولى في سلسلة متصلة من الحلقات من العلل والمعلومات، وإن القوة النهائية هي القدر وهو علة لا تزد ولا تنقص، تصرف شؤون البشر والآلهة على السواء ... تقود الطائعين وتجر الغاضبين" (36). وهذا التردد نفسه يطمس فكرته عن النفس البشرية، فهي عنده نسمة مادية رقيقة تبعث الحياة في الجسد ولكنها أيضاً "إله يسكن" في الهيكل البشري "كما يسكن الضيف" عند مضيفه (37). وهو يتحدث حديث المرتجي عن حياة بعد الموت، تكمل فيها المعرفة والفضيلة (38)؛ ويسمي الفساد الخلقي كما يسميه من قبل "حلماً جميلاً" (39). وحقيقة الأمر أن سنكا لم يفكر في هذه المسائل تفكيراً يصل به إلى نتيجة متسقة (أو عامة)، بل هو يتحدث عنها حديث السياسي المذبذب الذي يوافق الناس جميعاً. ذلك أنه عمل بدروس أبيه الخطابية فنجح فيما كان يبغيه نجاحاً فوق ما يجب، واستطاع أن يعبر عن جميع الآراء المتناقضة بعبارات بليغة لا يستطيع القارئ أن يقأوم أثرها في نفسه.
وهذا التردد عينه يفسد فلسفته ويجملها معاً، فهو مسرف في رواقيته إلى حد يجعل فلسفته غير عملية، وهو لين إلى حد لا يستطيع معه أن يكون رواقياً حقيقياً؛ وهو يرى م حوله فساداً خلقياً ينهك الجسم ويزري بالنفس، ولا يرضى هذا أو ذاك؛ ويرى أن الشره والترف قد قضيا على الطمأنينة والصحة، وأن كل ما أفاده الإنسان من القوة أن صار وحشاً أقدر على الأذى من سائر الوحوش فهل من سبيل إلى نجاة الإنسان من هذا الاضطراب الشائن المذل؟
ولقد قرأت اليوم قول أبيقور: "إذا شئت أن تستمتع بالحرية الحقة، وجب عليك أن تكون عبداً للفلسفة، ذلك أن الرجل الذي يخضع لها يتحرر لساعته ... إن الجسم إذا شفي من مرضه مرة كثيراً ما ينتابه المرض مرة أخرى ...(10/181)
أما العقل، فإذا شفي، فلن يعود إليه المرض أبداً، وسأحدثكم عما أعنيه بالصحة: إن الصحة في رأيي أن يكون عقل الإنسان راضياً واثقاً، يدرك أن الأشياء التي يسعى إليها الناس جميعاً، وكل الفوائد التي يعملون لها أو ينالونها، لا أثر لها في الحياة السعيدة ... وسأدلكم على قاعدة تقيسون بها أنفسكم وتحولكم من حال إلى حال! إنكم تصلون إلى ما تبغونه لأنفسكم في ذلك اليوم الذي تدركون فيه أن الناجحين هم أكثر الناس شقاء (40).
"والفلسفة هي علم الحكمة، والحكمة هي فن العيش، والسعادة هي الغرض الذي نبتغيه، ولكن الطريق إليها هو الفضيلة لا اللذة. والحِكَم القديمة التي يهزأ بها الناس صحيحة صادقة تثبت التجارب صدقها في كل يوم. وسوف ننال آخر الأمر بالشرف، والعدالة، والحلم، والرأفة، قدراً من السمادة أكثر مما نناله بالجري وراء اللذة. وما من شك في ان اللذة طيبة مستحبة، ولكنها لا تكون كذلك إلا إذا اتفقت مع الفضيلة؛ وليس في مقدور الرجل العاقل أن يتخذها هدفاً له، ومثل الذين يجعلونها غرضهم في الحياة كمثل الكلب الذي يختطف كل قطعة من اللحم تُلقى إليه، ويبتلعها كلها، وهو بعدئذ لا يستمتع بها، بل يقف فاغراً فاه يتلهف على قطعة أخرى (41).
ولكن كيف يحصل الإنسان على الحكمة؟ إن السبيل إلى ذلك أن تمارسها كل يوم بقدر مهما يكن ضئيلاً، وأن تمتحن سلوكك في آخر كل يوم، وأن تكون قاسياً على أغلاطك ليناً على أغلاط غيرك، وأن تصاحب من هم أعظم منك حكمة وفضيلة، وأن تتخذ لنفسك رجلاً لا تراه عينك مشهوداً له بالحكمة ليكون لك ناصحاً وقاضياً تحتكم إليه في شئونك، ويساعدك على الوصول إليه أن تقرأ كتب الفلاسفة، ولست أقصد بهذه الكتب قصص الفلسفة الموجزة، بل أقصد بها مؤلفات الفلاسفة أنفسهم، "ولا ترْجُ قط أنك ستستطيع في يوم من الأيام أن تحصل على زبد حكمة النابهين من الرجال بقراءة خلاصات موجزة لهذه(10/182)
الحكمة" (42)، "إنك ستغادر كل واحد منهم أسعد مما كنت وأشد رغبة في حكمته، ولن يتركك واحد منهم تفارقه صفر اليدين ... ألا ما أعظم تلك السعادة، وما انبل تلك الشيخوخة اللتين تنتظران ذلك الرجل الذي يحتمي بحماهم ويتخذهم سادة له وأنصاراً! " (43). اقرأ الكتب الطيبة مراراً، فذلك خير لك من قراءة الكتب الكثيرة؛ وسافر سفراً بطيئاً، ولا تسرف في الأسفار، لأن "الروح لا تنضج وحدتها إلا إذا كبحت جماح تشوفها وتجوالها" (44). وأولى سمات العقل المنظم أن يكون صاحبه قادراً على أن يبقى في مكان واحد، وأن يطيل المكث مع أصدقائه (45). وإياك والجموع الكبيرة فإن "الناس وهم مجتمعون أخبث منهم وهم فرادى، فإذا اضطررت أن تكون في حشد كبير، فأنت أشد ما تكون في حاجة إلى الانطواء على نفسك" (46).
وآخر درس يتعلمه الرواقي هو احتقار الحياة وإيثار الموت. ذلك أن الحياة ليست على الدوام ممتعة إلى الحد الذي يجعلها جديرة بأن يطول أجلها؛ ومن الخير للإنسان بعد حمى الحياة ونوباتها أن ينام ليستريح. "وهل ثمة شيء أحط من أن يضطرب الإنسان ويغضب وهو على عتبة ابسلام؟ " (47). وإذا وجد الإنسان الحياة محزنة، واستطاع أن يغادرها دون أن يضر ذلك ضرراً بليغاً بغيره من الناس، فعليه بأن من حقه أن يختار الوقت الذي يغادرها فيه والطريقة التي يغادرها بها. ويحبذ سنكا للوسليوس الانتحار كأنه سيكون هو وريثه فيقول: -
"من الأسباب التي لا يستطيع معها أن يتذمر من الحياة أنها لا تستبقيه فيها رغم إرادته ... كم من مرة قطع لك وريد ليقل بذلك وزنك! وإذا ما طعنت نفسك في قلبك فإنك لن تكون في حاجة إلى جرح واسع حتى تموت؛ وإن مشرطاً يشق لك الطريق إلى الحرية، وفي وسعك أن تشتري راحتك بوخزة إبرة ... (48) وحيثما أدرت بصرك وجدت الوسيلة التي تقضي بها(10/183)
على متاعبك. فهل ترى هذه الربوة الشديدة الانحدار. إنها تهبط بك إلى الحرية؟ أو هل ترى هذا النهر أو ذاك الحوض أو ذاك البحر؟ -إن الحرية في أعماقها (50) ... ولكنني تحدثت فأطلت الحديث، وكيف يستطيع الإنسان أن يختم حياته إذا لم يكن في وسعه أن يختم رسالة يكتبها؟ (51) ... أما أنا يا عزيزي لوسليوس فقد بلغت أرذل العمر، وقد عشت كفايتي، وها أنا ذا في انتظار الموت. وداعاً أيها الصديق" (52).
واستجابت الأقدار لدعائه، فقد أرسل إليه نيرون تربيوناً يستجوبه فيما اتهم به من أنه يتآمر على جعل بيزو إمبراطوراً؛ فأجاب الرسول بأنه لم يعد يهتم بالسياسة، وأنه لا ينشد غير السلام، وأن تتاح له الفرصة للعناية "ببنيته المتهدمة الضعيفة". ويقول التربيون: "إنه لم تظهر عليه أعراض الخوف أو أمارات الحزن ... وإن أقواله ونظراته كانت تنم عن عقل هادئ قويم ثابت". وقال نيرون للتربيون: "عد إليه وقل له أن يموت" ويقول تاستس إن "سنكا تلقى النيأ بهدوء واطمئنان"، ثم عانق زوجته، وطلب إليها أن تتخذ من حياته الشريفة النبيلة ومن دروس الفلسفة سبباً للسلوى والاطمئنان. ولكن بولينا أبت أن تعيش بعد مماته، فلما أن فتحت أوردته، أمرت هي الأخرى بفتح أوردتها، ثم استدعى أحد أمناء سره وأملى عليه رسالة وداع للشعب الروماني. وطلب بعدئذ قدحاً من شراب السكران، فجيء له به، كأنه اعتزم أن يموت ميتة سقراط. ولما أن وضعه الطبيب في حمام فاتر ليخفف به ألمه، رش الماء على أقر الخدم له وهو يقول: "هذا ماء ساكب لجوف المنقذ"، ثم فارق الحياة بعد آلام مريرة (65)، وأمر نيرون الطبيب بأن يربط معصمي بولينا على الرغم منها، ويمنع خروج الدم من أوردتها ففعل، وبذلك عاشت بعد زوجها بضع سنين؛ ولكن امتقاع لونها الدائم كان يدل على عزمها القوي الثابت.
ورفع الموت من قدر سنكا وأنسى جيلاً من الأجيال مواقفه وتذبذبه. وكان(10/184)
ككل الرواقيين يستخف بالسلطة ولا يقدر قوة الوجدان والعواطف حق قدرها، ويغاليه في قيمة العقل ويفرط في الاعتماد عليه، ويثق فوق ما يجب بالطبيعة وهي منبت جميع أزاهير الشر والخير على السواء. ولكنه جعل الرواقية فلسفة بشرية وأنزلها من عليائها حتى أضحت فلسفة حية في متنأول بني الإنسان ومهد بها للمسيحية. ولقد كان تشاؤمه، وتنديده بفساد الأخلاق في أيامه، ودعوته الناس أن يقابلوا الغضب بالحلم (54)، وانشغاله بأمر الموت (55)، كان كل هذا مما حمل ترتليان Tertullian على أن يقول عنه إنه "منّا" (56)، كما حمل أوغسطين على أن يقول فيه "ماذا يستطيع المسيحي الصميم أن يقول أكثر مما قاله هذا الوثني؟ " (57). نعم إن سنكا لم يكن مسيحياً، ولكنه في القليل طالب بالقضاء على القتل والسلب، ودعا إلى الحياة البسيطة المهذبة، وقلل ما كان هناك من فروق بين الرجل الحر والمحرر والرقيق حتى أضحت هذه الفروق لا تزيد على "الألقاب التي خلقتها المطامع أو الأخطاء" (58). وكان الذي استفاد أكبر فائدة من تعاليم سنكا عبداً في بلاط نيرون وهو إبكتتس. كذلك صاغت كتاباته نرفا Nerva وتراجان إلى حد ما، وكانت أعماله مثالاً يُحتذى في السياسة الإنسانية القائمة على الإخلاص وإرضاء الضمير. وقد ظل إلى آخر العهود القديمة كما ظل طوال العصور الوسطى محبباً للجماهير؛ ولما حل عهد النهضة وضعه بترارك في المرتبة الثانية بعد فرجيل، وصاغ نثره على مثال نثر سنكا. وتجم صهر منتاني كتاباته إلى اللغة الفرنسية، وكان منتاني نفسه يقتبس من أقواله كما يقتبس سنكا من أبيقور. وكان إمرسن يقرأ مؤلفاته مراراً وتكراراً (59)، حتى أضحى سنكا الأمريكيين. نعم إن الإنسان قلما يجد في أقوال سنكا أفكاراً جديدة مبتكرة، ولكن هذا يغتفر له، لأن كل الحقائق الفلسفية قديمة، ولا شيء فيها مبتكر إلا الخطأ، ولقد كان رغم أخطائه كلها أعظم الفلاسفة الرومان، كما أنه كان في كتبه على الأقل أرجحهم عقلاً وأرقهم قلباً؛ وكان بعد شيشرون أحب المنافقين إلى القلوب في التاريخ كله.(10/185)
الفصل الخامس
علوم الرومان
لقد أطلنا الكلام فيه أكثر مما يجب؛ ولكننا مع ذلك لم نفرغ منه بعد، فقد كان عالماً طبيعياً أيضاً. ذلك انه أخذ يسلي نفسه في السنين الخصيبة الواقعة بين اعتزاله شؤون الحكم وموته بالتفكير في المسائل الطبيعية كالبحث عن تفسير للمطر، والبرد، والرياح، والمذنبات، وأقواس قوس قزح والزلازل، والأنهار، والينابيع، وقد أشار في مسرحية ميديا Medea إلى الوجود قارة أخرى على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي (60). وبنفس هذه اللقانة الطبيعية كتب وهو يتأمل ملايين النجوم في السماء: "كم من كرات تتحرك في أعماق الفضاء لم تصل بعد إلى عيون بني الإنسان" (61). ثم يضيف إلى هذا وكأنه قد كشف عن بصره الغطاء: "كم من أشياء سيتعلمه أبناؤنا ولا نستطيع الآن أن نتصورها في خيالنا! -وكم من أشياء أخرى ستظل مجهولة مئات السنين بعد أن تنسى أسماؤنا! ... ويدهش أبناؤنا من جهلنا" (62)، ولقد صدق في قوله هذا، فنحن يدهشنا جهله. ذلك أن سنكا رغم بلاغته لا يضيف شيئاً إلى ما قاله أرسطاطاليس وأراتس Aratus، وهو يستعير الشيء الكثير من بوسيدونيوس Poseidonius. ويؤمن بأن في مقدور الإنسان أن يتنبأ بالغيب بالرغم من معارضة شيشرون لهذه العقيدة، ويتورط في بيان العلل النهائية للمعلولات مخالفاً بذلك عقيدة لكريشيوس، وكثيراً ما يقطع أقواله العلمية بما يضيفه فيها من وصايا أخلاقية، فهو بنتقل بحذق عظيم من الكلام على بلح البحر إلى الكلام في الترف، ومن المذنبات إلى أسباب الانحطاط. وكان آباء الكنيسة يحبون هذا الخلط بين الأجرام السمأوية والأخلاق، ولذلك جعلوا كتاب(10/186)
المسائل الطبيعية أشهر كتاب علمي في العصور الوسطى.
وكان في رومة عدد قليل من الرجال ذوي النزعة العلمية والولع بالعلوم، ومن هؤلاء فارو، وأجربا، وبمبنيوس ميلا Pomponius، وسلسس Celsus، ولكن علمهم لم يكن يتعدى نطاق تقويم البلدان، وفلاحة البساتين، والطب. أما فيما عدا هذا فلم يكن العلم الطبيعي قد انفصل بعد عن السحر، والخرافات، والدين، والفلسفة، وكان قوامه ما تجمع من المشاهدات والروايات؛ وقلما كان يشمل بحوثاً جديدة عن حقائق الأشياء، وكانت التجارب فيه جد نادرة. وبقي الفلك حيث تركه البابليون واليونان، فكان الوقت يقاس بالساعات المائية، وبالمزأول، وبالمسلة الكبرى التي اختلسها أغسطس من مصر وأقامها في ميدان المريخ؛ وكان ظلها يقع على طوار نقشت عليه علامات من نحاس، تدل على ساعات النهار وعلى فصول السنة (63). وكان النهار والليل يحددان بشروق الشمس وغروبها، وينقسم كل منها إلى اثنتي عشرة ساعة، وبذلك كانت تطول ساعة النهار، وتقصر ساعة الليل في فصل الصيف عنها في فصل الشتاء. وكان التنجيم من المعتقدات الشائعة التي يكاد يؤمن بها كل إنسان. وفي هذا يقول بلني ان الناس كلهم في أيامه (70م) - السذج منهم والمتعلمون - يعتقدون ان مصير الانسان يقرره النجم الذي يولد هو ساعة مطلعه (64). وكانوا يؤيدون هذه العقائد بحجج طلية كقولهم إن نمو النبات، مرده إلى الشمس (1)، ولعل فصول التزأوج عند الحيوانات مردها إليها كذلك، وإن خصائص الناس الجسمية والخلقية تتأثر بعوامل المناخ التي تتأثر هي أيضاً بالشمس، وإن أخلاق الأفراد ومصائرهم لا تختلف عن هذه الظواهر العامة في أنها نتيجة لأحوال جوية لا نعرفها حق المعرفة. ولم يرفض أحد التنجيم إلا المتشككون أتباع الأقدمية المتأخرة الذين أنكروا ما يدعيه
_________
(1) ان الكثيرين من الزراع في هذه الايام ينظمون زرعهم حسب أوجه القمر.(10/187)
رجاله من علم، والمسيحيون الذين سخروا منه وأعدوه ضرباً من الوثنية. أما الجغرافية فكانت دراستها أكثر واقعياً وكان الغرض منها ان يستعان بها على الملاحة. وقد نشر بمبنيوس ميلا Mela Pomponius (43 م) خرائط قسم فيها سطح الأرض إلى منطقة حارة في الوسط، ومنطقتين معتدلتين شمالية وجنوبية. وكان الجغرافيون الرومان يعرفون أوربا وشمالي آسيا الغربية، وشماليها الشرقي، أما سائر أجزاء العالم فكانت لديهم عنها أفكار غامضة، وأقاصيص خرافية غريبة. وقد وصلت السفن الأسبانية والأفريقية الصغيرة إلى جزائر مديرة Madeira وقناريا أو الخالدات ( Canary) (65) ، غير انه لم يقم في ذلك الوقت رجل مثل كولمبس ليحقق حلم سنكا.
وكان أوسع المنتجات العلمية الإيطالية وأكثرها دلالة على الجد، وأبعدها عن العلم الصحيح كتاب التاريخ الطبيعي Historia Naturalis (67) الذي وضعه كيوس بلنيوس سكندس Caius Plinius Secondus. وقد قضى كيوس حياته كلها تقريباً جندياً، ومحامياً، ورحالة، وحاكماً، وقائداً للأسطول الروماني في غربي البحر المتوسط، ولكنه رغم هذه المشاغل كلها ألف رسائل في الخطابة، والنحو، والحرب، وكتب تاريخاً لروما، وتاريخاً أخر لحروب روما في ألمانيا، وسبعة وثلاثين "كتاباً" في التاريخ الطبيعي هي كل ما بقي من هذا الفيض العظيم من المؤلفات. أما كيف استطاع ان يفعل هذا كله في خمس وثلاثين سنة فيفسره خطاب كتبه ابن أخيه يقول فيه:
لقد كان سريع الفهم، متحمساً حماسا لا يكاد يصدقها العقل، وله القدرة على ترك النوم منقطعة النظير. وكان يستيقظ من نومه في منتصف الليل أو في الساعة الواحدة صباحاً، ولم يحدث قط أن ظل نائماً إلى ما بعد الساعة الثانية، ثم يبدأ عمله الأدبي ... وقبل أن يطلع النهار يمثل بين يدي فسبازيان، وكان هو أيضاً يختار ذلك الوقت لتصريف شؤون الدولة. فإذا انتهى من الأعمال التي عهدها إليه الإمبراطور عاد إلى منزله وواصل الدرس. وكان يتنأول في الظهيرة ... وجبة خفيفة لا تستغرق إلا القليل من(10/188)
الوقت، فإذا كان الفصل صيفاً ... فإنه كثيراً ما يستريح قليلاً في الشمس؛ ولكنه كان في أثناء ذلك يستمع إلى كتاب يقرأ له، ويقتبس منه بعض عبارات، ويكتب عنه بعض مذكرات ... وتلك كانت عادته في كل ما يقرأ. وكان بعد ذلك يستحم عادة بالماء البارد، ويتنأول بعض المرطبات الخفيفة، ويستريح قليلاً، ثم يواصل الدرس حتى موعد العشاء، كأنه يبدأ يوما جديداً. وفي أثناء العشاء يقرأ له كتاب آخر يكتب عنه مذكرات ... تلك كانت خطته في الحياة وسط ضجيج المدينة وصخبها. أما في الريف فكان يقضي وقته كله في الدرس اللهم إلا حين كان يستحم فعلاً. وحتى في ذلك الوقت الذي كان يدلك فيه جسمه ويجفف كان يستمع فيه إلى كتاب يقرأ له أو يملي هو شيء من عنده. وكان يرافقه في أسفاره على الدوام كاتب ملم بطريقة الاختزال يجلس معه في عربته أو في هودجه ... وقد لامني في يوم من الأيام على المشي وقال لي: "لم يكن لك ان تضيع هذه الساعات" لأنه كان يرى أن كل وقت لا يصرف في الدرس وقت ضائع (66).
وكتابه هذا في جملته وتفصيله دائرة معارف كتبها رجل واحد، وجمع فيها خلاصة علم زمانه وأخطائه. زفي ذلك يقول: "إن الغرض الذي أرمي إليه هو أن أعرض وصفاً عاماً لكل ما نعرف أنه موجود على سطح الأرض" (67). فهو يبحث في عشرين ألف موضوع ويعتذر عما تركه من الموضوعات الأخرى، ويشير في هذا الكتاب إلى ألفي مجلد كتبها 473 مؤلفاً، ويعترف بدينه إلى من رجع إليهم من الكتاب ويذكر أسمائهم جميعا بصراحة لا نظير لها في الأدب القديم، ويشير عرضاً إلى انه وجد أن كثيراً من المؤلفين نقلوا أقوال من سبقوهم بنصها دون أن يعترفوا بهذا النقل. أما أسلوب الكتاب فثقيل ممل وان كان منمقاً في بعض المواضيع؛ ولكننا ليس من حقنا أن ننتظر أن تكون دوائر المعارف جذابة الأسلوب ساحرته.(10/189)
ويبدأ بلني بالكفر بالآلهة، ويظن أنها لا تعدو أن تكون ظواهر طبيعية، أو كواكب سيارة، أو خدمات جسدت وألهت. والإله الأوحد في رأيه هو الطبيعة، أي مجموع القوى التي في الكون، ويلوح أن هذا الإله لا يعنى عناية خاصة بالشؤون الدنيوية (68). ويرفض بلني في تواضع أن يقيس الكون، وليس ما يورده من معلومات فلكية إلا خليطا من السخافات والمستحيلات (كقوله "إن الشمس في أيام الحرب التي شبت بين أكتافيان وأنطونيوس ظلت قائمة ما يقرب من عام كامل" (69))، ولكنه يشير إلى الشفق القطبي ويقدر الزمن الذي يستغرقه كل من المريخ، والمشتري، وزحل في دورته بسنتين واثنتي عشرة سنة وثلاثين سنة على التعاقب، ويورد بعض البراهين على كرية الأرض (71). ويحدثنا عن جزائر خرجت من قاع البحر الأبيض المتوسط في أيامه، ويظن أن صقلية وإيطاليا؛ وبوشيا وعوبيا؛ وقبرص وسوريا قد انفصلت كل واحدة من الثانية بفعل مياه البحر على مدى الأحقاب الطوال (72). ويتحد عن أعمال التعدين الشاقة المذلة ويذكر في ألم وحسرة ان "كثيراً من الأيدي تبلى لكي يزين مفصل صغير (72)، ويتمنى ان لو كان الناس لم يعثروا على الحديد، لأنه جعل الحرب أشد هولاً مما كانت عليه قبل ان يعثروا عليه، "كأننا أردنا ان نعجل بموت الناس، فجعلنا للحديد أجنحة وعلمناه الطيران" (74) وهو يشير بقوله هذا إلى القذائف الحديدية التي تجهز بريش من الجلد يساعدها على الاحتفاظ بخط سيرها. ويذكر كما يذكر ثيوفراستس Theophrastus تحت اسم انتراسيت Anthracitis " حجراً يحترق" (75)، ولكنه لا يذكر عن الفحم شيئاً غير هذا. ويشير إلى نوع من "الكتان لا يحترق" يطلق عليه اليونان اسم أزبستنون Asbestinon " ويستخدم فيه تحنيط جثث الملوك"، ويصف كثيرا من الحيوانات ويورد قوائم باسم حيوانات أخرى ويمتدح ذكاءها، ويذكر الطريقة التي يستطاع التحكم في نسلها، فنجعلها ذكوراً(10/190)
أو إناثاً طبقاً لإرادتنا: "فإذا أردت أن تكون صغارها إناثاً فلتولي الأم وجهها نحو الشمال في أثناء الوثب" (76). وله أثنا عشر كتاباً عجيباً في الطب، أي في القيمة العلاجية لمختلف المعادن والنباتات، فالكتب المرقومة من 20 إلى 25 كلها في النباتات الرومانية، التي انتقلت من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وأضحت بداية المعلومات النباتية في الطب الحديث. وعنده علاج لكل شيء من السُّكر والبَخَر (77) إلى "آلام العنق" (78). ويصف بعض منبهات الغريزة الجنسية (79). ويحذر النساء من العطس بعد الجماع خشية ان يجهضن لساعتهن، قبل ان يقمن من مقامهن (80). ويصف الجماع علاجاً للتعب، وبحة الصوت، وآلام الحقوين، وضعف البصر، والاكتئاب، واختلال القوى العقلية (81).
وقصارى القول أن في هذا الكتاب دواء لكل داء وانه من هذه الناحية يضارع ما قاله الأسقف بيركلي في فوائد ما القطران. ولكننا نجد في وسط هذا الهراء كثيراً من المعلومات النافعة وخاصة ما كان منها متصلاً بالصناعات القديمة والأخلاق والعقاقير، وفيه إشارات طريفة لعقيدة التأسل في الوراثة Atavism (1) وإلى الزيت المعدني، وإلى تغيير الشخص بعد مولده من ذكر إلى أنثى أو العكس.
ويحدثنا مسيانس Muscianus انه رأى في أرجوس Argos يوما من الأيام شخصاً كان يسمى وقتئذ أرسكون Arescon ولكنه كان يسمى قبل أرسكوزا Arescusa؛ وان هذا الشخص تزوج من قبل برجل، ولكنه لم يلبث ان نبتت له لحية، وبعض خصائص الذكران الأخرى، وانه اتخذ لنفسه بعدئذ زوجة (82). ونجد في مواضيع متفرقة من الكتاب بعض إشارات قيمة. من ذلك أن هلمي Hilmy (1800) حين قرأ في كتاب بلني فقرة (83) عن استخدام عصير اللبين ( Anagalis) قبل عملية الكتركتا (إظلام العين) (84) حمله ذلك على أن يبحث عن مفعول
_________
(1) ويقصد بها الوراثة التي تتخطى بعض الطبقات وتظهر فيما بعدها أو العودة إلى الجد الاكبر وتسمى أحيانا "الرجعة" (المترجم).(10/191)
نباتي السكران Jusquiamus، و "ست الحسن" Belladonna في إنسان العين. وفي الكتاب أيضاً فصول قيمة عن التصوير والنحت تعد أقدم وأهم ما وصل إلينا من وصف الفن القديم.
ولم يقنع بلني بدراسة التاريخ الطبيعي، بل أراد بعد ذلك أن يكون فيلسوفاً، ولذلك تراه ينثر في جميع صحف كتابه معلومات عن الآدميين. ويرى ان حياة الحيوان أفضل من حياة الإنسان لأنها "لا تفكر قط في المجد أو المال أو المطامع أو الموت" (85)، ولأن في وسعها ان تتعلم دون حاجة إلى معلم، وأنها لا تضطر إلى ارتداء الملابس، ولا تشن الحرب على أبناء جنسها، وهو يقول إن اخترع النقود كان ضربة قاضية على سعادة بني الإنسان، فهي التي أوجدت الربا، وبه استطاع بعض الناس أن يعيشوا من كد غيرهم، دون أن يقوموا بعمل ما (87). وكانت نتيجة ذلك ان وجدت الضياع الواسعة التي يمتلكها الكبراء الغائبون عنها، وان حلت المراعي محل الزراعة فجر ذلك على الأهلين الخراب والدمار. ويقول بلني إن الحياة تجلب للإنسان من الحزن والألم أكثر مما تجلبه من السعادة، وان الموت والنعمة الكبرى (88)، وان ليس شيء قط وراء الموت.
وكتاب التاريخ الطبيعي أثر خالد لجهل الرومان، ففيه يجمع بلني الخرافات والتنبؤات، ورقى الحب، والعلاج بالسحر، ويجدّ في جمعها كجده في غيرها من المعلومات. ويلوح انه يؤمن بمعظمها، فهو يضن مثلاً ان في مقدور الإنسان-وخاصة إذا كان صائماً-أن يقتل الأفعى إذا بصق في فمها (89). "ومن المعروف جيداً ان إناث الخيل تحمل في في لوزنانيا Lusitania بفعل ريح الشمال (91). وهي مسألة غفل عنها شلي Shelley في أغنيته. ويندد بلني بالسحر ولكنه يقول لنا انه "إذا أقبلت المرأة الحائض حَمض عصير العنب وفسدت البذور التي تلمسها فلا تنبت، وسقطت الثمار من الشجرة(10/192)
التي تجلس تحتها؛ وإذا نظرت إلى الصلب تثلم حده، وإلى العاج ذهب لمعانه وصقله؛ وإذا سقطت على ثول من النحل مات من فوره" (92). وهو لا يؤمن بالتنجيم ولكنه يملأ صفحات من كتابه بالحوادث "المنذرة" المستمدة من مظاهر الشمس والقمر (93). كقوله: "حدث في عهد قنصلية م. اسليوس M. Acilius وفي عهود أخرى كثرة أن أمطرت السماء لبناً ودماً" (94)، وإذا ما ذكرنا ان هذا الكتاب هو وكتاب المسائل لسنكا أهم ما خلفه الرومان للعصور الوسطى من علم التاريخ الطبيعي، ثم فاضلنا بينهما وبينما يماثلهما من كتب أرسطو وثيوفراطس وبين عقلية هذين الرجلين وقد عاشا قبل عهد بلني وسنكا بأربعمائة عام، إذا ما فعلنا ذلك بدأنا نشعر بالمأساة المروعة مأساة موت الثقافة موتاً بطيئاً. لقد فتح الرومان العالم اليوناني، ولكنهم خسروا قبل فتح أثمن تراث في العالم.(10/193)
الفصل السادس
الطب عند الرومان
أما في الطب فكانوا خيراً منهم في التاريخ الطبيعي. فلقد أخذوا علم الطب أيضاً عن اليونان، ولكنهم أحسنوا صياغته، وتنظيمه، وطبقوه على الصحة، العامة والخاصة، ولقد كانت روما تحيط بها من جميع جهاتها تقريبا مناقع واسعة، وكانت معرضة للفيضانات الوبائية، فكالنت بذلك في أشد الحاجة إلى العناية في الصحة العامة، فنحن نسمع أن الملاريا كانت منتشرة في روما في القرن الثاني قبل الميلاد، وان بعوضة الأنوفيل كانت في ذلك الوقت مستقرة في مناقع بنتين Pontine (95) . وانتشر داء النقرص بانتشار الترف، وفي ذلك يحدثنا بلني الاصغر أن صديقه كورليوس روفس Corellius ظل يعاني آلامه من السنة الثالثة والثلاثين إلى السابعة والستين قبل ان ينتحر بعد ان استمتع بلذة البقاء حيات يوما واحدا بعد موت "ذلك اللص دومتيان" (96). وتدل بعض الفقرات في كتابات الهجائين الرومان على ظهور الزهري في القرن الأول بعد الميلاد (97). واجتاحت الأوبئة الفتاكة إيطاليا الوسطى في عام 23 ق. م وفي أعوام 95، 79، 166 ميلادية.
وكان الناس من أقدم الأزمنة يحاولون التغلب على المرض والطاعون بالسحر والصلوات، وحتى في ذلك الوقت الذي نتحدث عنه طلبوا إلى فسبازيان المتشكك اللين الجانب أن يداوي عماهم ببصاقه، وعرجهم بمس قدمه (98). وكانوا يحملون مرضاهم وقرابينهم إلى هيكل إيسكلبيوس. Aesculapius ومنيرفا، وكان الكثيرون منهم يتركون فيهما الهدايا شكراً على نعمة الشفاء. فلما أن حل القرن الأول قبل الميلاد أخذت عنايتهم بالطب الدنيوي تزداد شيئاً فشيئاً. ولم تكن الدولة في ذلك الوقت قد وضعت(10/194)
نظاماً لممارسة مهنة الطب، فكان الحذاؤون، والحلاقون، والنجارون يمارسون مع مهنهم الأصلية إذا شاءوا، ويستعينون بالسحر، ويخلطون عقاقيرهم بأنفسهم ويبيعونها للناس (99). ولم تخلُ تلك الأيام من التقريع والشكاوى المألوفة. وقد كرر بلني تنديده بأطباء اليونان الذين "يغوون زوجاتنا، ويجمعون الثروات الطائلة بتسميمنا، ويتعلمون بتعذيبنا ويتدربون بقتلنا" (100). واشترك بترونيوس، ومارتيال، وجوفنال في هذا الهجوم العنيف، وبعد قرن من ذلك الوقت نرى لوسيان يندد بعجز من يمارسون مهنة الطب، والذين يخفون هذا العجز بجمال أجهزتهم وأدواتهم (101).
وفتحت في عهد فسبازيان مستمعات Auditoria لتعليم الطب يتولى التعليم فيها أساتذة تعترف بهم الدولة وتؤدي إليهم رواتبهم، وكانت اللغة اليونانية لغة التعليم في هذه المعاهد كما أن اللغة اللاتينية هي اللغة التي تكتب بها تذاكر الدواء في هذه الأيام، وللسبب عينه-وهو أن اللغة اليونانية كانت وقتئذ اللغة التي يفهمها أصحاب اللغات المختلفة. وكان يطلق على خريجي هذه المعاهد اسم أطباء الجمهورية، وكانوا هم وحدهم الذين يستطيعون ممارسة الطب بصفة قانونية في رومة بعد عهد فسبازيان (103). ونص في قانون أكوليا Les Aquilia على أن تشرف الدولة على الأطباء، كما نص فيه على وجوب تحملهم تبعة إهمالهم. وكان قانون كرنليا Les Cornelia يفرض أشد العقوبات على من يتسببون في موت المرضى بسبب إهمالهم أو خطئهم الناشيء من جلهم بأعمالهم (104). ومع هذا فإن الدجالين ظلوا يمارسون دجلهم، ولكن عدد الأطباء المتعلمين ظل يزداد شيئاً فشيئاً. وكانت كثرة الرومان ممن أخرجتهم القابلات إلى هذا العالم، ولكن هاته النسوة كن مدربات على عملهن أحسن تدريب (105). وقد وصل الطب العسكري في عام 100م إلى أرقى ما وصل إليه في الزمن القديم: فكان في كل فيلق أربعة وعشرون جراحاً، كما كان له هيئة للإسعاف الأولي(10/195)
ونقالات ميدان منظمة أحسن تنظيم، وكان بالقرب من كل معسكر هام مستشفى عسكري (106). وافتتح الأطباء مستشفيات خاصة، Valetudinaria، كانت هي التي تطورت منها المستشفيات العامة في العصور الوسطى. وكانت الدولة تعين الأطباء لمعالجة الفقراء مجاناً وتؤدي لهم أجورهم (107)، أما الأغنياء فكان لهم أطباؤهم الخصوصيون وكان "رؤساء المداوين Archiarti" يعنون بالإمبراطور وأسرته، وخدمه وأعوانه، وتؤدى لهم على ذلك أجور طيبة. وكانت بعض الأسر تتعاقد أحياناً مع بعض الأطباء على أن يعنوا بصحتها ويداوها من أمراضها مدة معينة، وكان كونتس استرتنيوس يكسب بهذه الطريقة 600. 000 سسترس في العام (108). وأدى الجراح الكون Alcon الغرامة التي فرضها عليه كلوديوس ومقدارها 10. 000. 000 سسترس من أجوره في بضع سنين (109).
وبلغت مهنة الطب في ذلك الوقت درجة عظيمة من التخصص، فكان في لبلاد أخصائيون في المجاري البولية، وفي أمراض النساء، وكان فيها أطباء مولدون وأطباء رمديون، وأخصائيون في أمراض العين والأذن، وأطباء بيطريون، وجراحو أسنان، وكان في وسع الرومان أن تكون لهم أسنان صناعية من ذهب، وأسنان مرتبطة بأسلاك، وكباري وأسنان ذات قشرة (110) ذهبية. وكان لديهم عدد كبير من الطبيبات، وقد كتبت الكثير منهن كتباً في الإجهاض كانت واسعة الانتشار بين سيدات الطبقات الراقية وبين العاهرات. وكان الجراحون يتخصصون في فروع الجراحة المختلفة وقلما كان يوجد جراح غير متخصص في فرع خاص. وكان عصير اليبروح (1) (المندراغورا) والأتروبين يستعملان في التخدير (111)، وقد وجدت في خرائب بمبي أكثر من مائتي أداة جراحية مختلفة. وكان تشريح جثث الآدميين عملاً غير مشروع ولكنهم كانوا يستعيضون عن ذلك بالفحص عن أجسام المجالدين المجروحين أو المحتضرين.
_________
(1) جنس من النباتات الباذنحانية في العالم القديم. (المترجم)(10/196)
وكان العلاج بمياه العيون واسع الانتشار وكانت العيون الحارة الكبرى وعاهد للعلاج والاستشفاء. وقد جمع شارميس Charmis المرسيلي ثروة طائلة بإدارة حمامات باردة. وكان المصابون بالسل يرسلون إلى مصر أو شمالي إفريقية. وكان الكبريت يُستخدم لعلاج الأمراض الجلدية ولتبخير الحجرات بعد انتشار الأمراض المعدية (112). وكانت العقاقير آخر ما يلجأ إليه الناس من وسائل العلاج، ولكنهم كانوا يلجأون إليها في كثير من الحالات، وكان الأطباء يصنعونها بأنفسهم بطرق يحتفظون بسريتها ولا يطلعون الجماهير عليها، ويبيعونها بأغلى الأثمان التي يطيقها المرضى (113). وكانت العقاقير الكريهة ذات منزلة كبيرة، فكانت فضلات العظام تُستخدم مسهلات، وكانت احشاء الآدميين توصف أحياناً؛ وقد وصف أنطونيوس موسى براز الكلاب لعلاج مرض الذبحة، واستخدم جالينوس براز الغلمان لعلاج أورام الحلق (114). وفي مقابل هذه الأدوية الكريهة عرض أحد الدجالين المرحين أن يداوي بالخمر كل داء تقريباً (115).
وليس بين الكتاب المعروفين في علم الطب في هذا العهد كاتب من أصل روماني إلا واحد فقط، وحتى هذا الكاتب لم يكن طبيباً. لقد كان أورليوس كرنليوس سلسس Aurelius Cornelius Celsus من أبناء الأشراف، جمع حوالي عام 50م في دائرة المعارف كل ما درسه عن الزراعة، والحرب، والخطابة، والقانون، والفلسفة، والطب. وقد ضاع كل مل كتبه إلا القسم الخاص بالطب، ويعد كتابه في هذا العلم أعظم مؤلف وصل إلينا من القرون الستة المحصورة بين أبقراط وجالينوس، ويمتاز فوق هذا بأنه كتب بلغة لاتينية فصحى نقية لُقب سلسس من أجلها بشيشرون الطب. ولقد ظلت الأسماء اللاتينية التي ترجم بها المصطلحات الطبية اليونانية تسيطر على علم الطب من ذلك الوقت إلى أيامنا هذه. ويدل الكتاب السادس من كتبه على علم بالأمراض السرية يعد في ذلك العهد القديم علماً واسعاً غزيراً. ويصف الكتاب السابع في جلاء ووضوح بعض(10/197)
الجراحات، ويحتوي أقدم وصف معروف للأربطة، ويصف عملية قطع اللوز، واستخراج حصى المثانة بشق الجنب، وجراحة الترقيع، وعملايات إظلام عدسة العين (الكتاركتا). وهذا الكتاب في مجموعه هو خير ما ألف في الآداب العلمية الرومانية، وإنه ليوحي إلينا بأنه لو لم يبقِ الدهر على كتاب بلني لكان تقديرنا للعلوم عند الرومان أعلى في الوقت الحاضر. ومما يؤسف له أن العلماء قد أجمعوا على أن كتاب سلسس ليس في أكثر أجزاءه إلا جمعاً أو شرحاً للنصوص اليونانية القديمة (116). وقد فقد هذا الكتاب في العصور الوسطى، ثم عثر عليه مرة أخرى في القرن الخامس عشر، وأعيد طبعه قبل أن يطبع كتاب أبقراط أو جالينوس، وكان له شأن أيما شأن في إحياء علم الطب في العصر الحديث.(10/198)
الفصل السّابع
كونتليان
لما انشأ فسبازيان كرسياُ رسمياً للبلاغة في رومة عين في هذا المنصب رجلاً من أصل أسباني، وكان كثير من المؤلفين في العصر الفضي من أبناء تلك البلاد. وقد ولد ماركس فابيوس كونتليانس Marcus Fabius Quintilianus في كلاجوريس Calagurris ( عام 53؟ م) ثم رحل إلى رومة ليدرس فن الخطابة وافتتح مدرسة لتدريس البلاغة كان من بين طلابها تاستس وبلني الأصغر. ويصفه جوفنال بأنه كان في أيام شبابه وسيماً، نبيلاً، حكيما، حسن التربية، ذا صوت رخيم، ولقاء جميل، وهابه كمهابة أعضاء مجلس الشيوخ. وآثر العزلة في الشيخوخة ليكتب كتاباً يرشد فيه ولده إلى الطرقة المثلى لمعالجة فن الخطابة، واسم هذا الكتاب Institutio Oratoria (96) " ظننت أن هذا الكتاب سوف يكون أثمن ما يرثه ولدي، وقد أظهر م الكفاية النادرة العجيبة ما أوجب على أبيه أن يحرص الحرص كله على تثقيفهِ ... وقد واصل الليل بالنهار سعياً وراء هذه الغاية، وعجلت بإتمامها خشية أن ينصرم أجلي فيحول الموت بيني وبين إتمام هذا الواجب. ثم حلت بي الكارثة فجأة فأضحى نجاحي في عملي لا يهم إنساناً آخر أقل مما يهمني أنا نفسي ... ذلك أني فقد من كان معقد آمالي ومن كنت أرجو أن يكون سلوة لي في شيخوختي (117) ".
وكانت زوجته قد توفيت في سن التاسعة عشرة، وخلفت ولدين، توفي أحدهما في سن الخامسة "وكأنني قد فقدت بفقده إحدى عيني"، ولآن يختطف الموت ولده الثاني ويترك المعلم الشيخ "يعاني ألم فراق أقرب الناس إليه وأعزهم عليه".(10/199)
وهو يعرف البلاغة بأنها العلم الذي يؤدي إلى أحسن الكلام، ويقول إن تدريب الخطيب يجب يبدأ قبل مولده، إذ يحسن أن يولد لأبوين متعلمين، حتى يتنفس الكلام الصحيح والأخلاق الطيبة من الهواء الذي يستنشقه، ذلك أنه من المستحيل أن يصبح الإنسان متعلماً ومهذباً معاً في جيل واحد. ويجب على من يريد أن يكون خطيباً أن يدرس الموسيقى، حتى يستطيع تمييز الأصوات المتناسقة المتناغمة؛ كما يجب عليه أن يتعلم للرقص ليكسب الرشاقة والاتزان، والتمثيل لكي يبعث الحياة في خطبه بما يبثه فيها من حركات اليدين والجسم؛ والألعاب الرياضية لكي يستطيع الاحتفاظ بصحته وقوته؛ والأدب ليصلح به أسلوبه ويدرب به ذاكرته، ويمده بكنز من الآراء العظيمة؛ والعلوم لكي يدرك بها أسرار الطبيعة؛ والفلسفة لكي يصوغ نفسه حسبما يمليه عليه العقل ونصائح الحكماء. ذلك لأن كل إعداد سيذهب أدراج الرياح إذا خلا من استقامة الخلق وسمو الروح وهما اللذان لا غنى عنهما لوجود الإخلاص في الحديث، وهو قوة لا يمكن قط أن تقاوم. وعلى الطالب بعد ذلك أن يكتب أكثر ما يستطيع وأن يبذل في كتابته أقصى ما في وسعه من العناية. ويقول كونتليان: إن هذا تدريب شاق "ويقيني أن أحداً من قرائي لن يفكر قط في احتساب قيمته المالية (118) ".
وللخطابة في رأيه خمسة اوجه: التفكير، والتنظيم، والأسلوب، والذاكرة، والإلقاء. فإذا ما أختار الخطيب موضوعه، وحدد غرضه بوضوح، وجب عليه بعدئذ أن يجمع مادته بالمشاهدة والبحث، ومن الكتب، فإذا تم له ذلك وجب عليه أن ينظمه تنظيماً منطقياً ونفسياً حتىيكون كل جزء منه في موضعه الصحيح مؤدياً إلى ما بعده أداءً طبيعياً كأنه جزء من برهان نظرية هندسية (119). وكل خطبة حسنة التنظيم تتألف من مقدمة ( Exordium) ، وقضية، وبرهان، ودحض، وختام. ويجب أن لا تُكتب الخطبة كلها إلا إذا(10/200)
أريد حفظها بأجمعها عن ظهر قلب، أما حفظ بعض الأجزاء المكتوبة دون البعض الآخر فإنه يُفسد الأسلوب الارتجالي ويعوقه، وإذا كتبت الخطبة فلتكتب بعناية "فإذا أسرعت في الكتابة، فإنك لن تحسنها أبداً، وإذا أحسنت الكتابة فإنك لن تلبث أن تكتب بسرعة"؛ تجنب "ترف الإملاء الذي أخذ ينتش بين الكتاب في هذه الأيام" (120)، والذي يدل على التهاون والكسل، "والوضوح ألزم الأشياء للخطب، ثم يليه الإيجاز والجمال والقوة. وعليك أن تصحح أخطائك المرة بعد المرة ولا تبال بما يصيبك في هذا من عنت.
"وليس المحو بأقل أهمية من الكتابة، امح كل ما لا ضرورة له، واسم بكل ما هو عادي ورتب ما تراه مضطرباً، واجعل العبارات متزنة إذا ما وجدتها خشنة غير رقيقة، وخففها إذا وجتها دسمة اكثر مما يجب ... وخير طريقة للإصلاح أن يغفل الإنسان ما كتبه بعض الوقت، حتى إذا عاد إليه بعدئذ بدا عليه مظهر الجدة، كأنه من عمل لإنسان آخر؛ وبهذه الطريقة لا يكلف الإنسان بكتابته كلفه بطفله الحديث الولادة (121).
ويجب يضرب الإلقاء والكتابة على أوتار العواطف والقلوب، ولكن عليك أن لا تسرف في الحركات والإشارات، لأننا "لا نكون بلغاء إلا بالوجدان وقوة الخيال". أما إذا "صرخت، وخُرت، ورفعت يدك، ولهثت، وهززت رأسك، بيديك، وضربت فخذك وصدرك وجبهتك، فإنك ستهوي من فورق إلى قلوب احط من يستمعون إليك (122) ".
ويضيف كونتليان في كتابه الثاني عشر إلى هذه النصائح القيمة خير نقد أدبي بقي لدينا من أيام الأقدمين، فهو يدلي بدلوه، وهو أشد ما يكون حماسة، في ذلك الصراع القديم والحديث بين القدامى والمحدثين، ويجد الحقيقة تتأرجح في الوسط بين هؤلاء وهؤلاء؛ وهو لا يرغب كما يرغب فرنتو Franto في أن يعود إلى البساطة والخشونة اللتين ينادي بهما كاتو وإنيوس؛(10/201)
ولكنه أقل من ذلك رغبة في أن يجرفه أسلوب سنكا "الفخم المتكلف"، ويرى أن يكون المثل ال1ذي يجب على طالب البلاغة أن يحتذيه هو أسلوب شيشرون في خطبه القوية المهذبة، ويقول: إن شيشرون هو الكاتب الروماني الوحيد الذي فاق اليونان في مجال الخطابة (123). أما أسلوب كونتليان نفسه فهو في كثير م المواضيع أسلوب المدرس، تخنقه التعاريف، والتصاريف، وتحديد الفروق، ولا يرقى إلى مستوى عالٍ من البلاغة إلا حين يطعن على سنكا. ولكنه مع ذلك أسلوب قوي يخفف من جلاله حيناً بعد حين قليلاً من الفكاهة ومن العطف على الإنسانية، ويحس الإنسان على الدوام أن وراء معنى الألفاظ الجميل طيبة الرجل الهادئة، وإن قراءته لحافز قوي إلى الخلق الطيب الكريم. ولعل الرومان الذين أسعدهم الحظ بالاستماع له قد أخذوا عنه بعض ذلك التجديد الذي سما بعصر بلني الأصغر وتاستس أكثر مما سما به الأدب الرفيع.(10/202)
الفصل الثامن
استاتيوس ومارتيال
لقد استبقينا إلى آخر هذا الكتاب شاعرين عاشا في وقت واحد، وسعيا للخطوة لدى إمبراطور واحد وأنصار بعينهم، ومع ذلك فكلاهما لا يذكر اسم الآخر: وكان احدهما أعف شاعر في تاريخ روما الإمبراطورية كما كان الآخر أفحش شاعر فيه. فأما أولهما فهو ببليوس بابنيوس استاتيوس Publius Papinius Statius وهو ابن شاعر ونحوي من مدينة فابلي. وقد هيأت له بيئته وتربيته كل شيء يطمع فيه عدا المال والعبقرية. فكان يعاني قرض الشعر، ويفاجيء الندوات بما يرتجله منه، وكتب منه ملحمة تدعي الطيبية Thebaid في خرب السبع المدن في طيبة. ولسنا نستطيع قراءتها في هذه الأيام لأن أبياتها تزدحم بأسماء الآلهة الموتى، ولأن الإنسان لا يطيق ما لأشعارها السلسة من قدرة على التحذير؛ ولكن معاصريه كانوا يغرمون بها، وكانت الجموع تهرع لتستمع إليه وهو ينشدها في أحد ملاهي مدينة نابلي؛ وكانوا يفهمون ما تحتويه من أساطير ويعجبون برقة إحساساته، ويجدون أشعاره تجري سهلة على ألسنتهم، وقد منحه المحكمون في مباريات الشعر في أولبان الجائزة الأولى، وكان الأثرياء يخطبون وده ويعينونه على التخلص من فقره (124)، ودعاه دومتيان Domitian نفسه في قبة فلافيا Flavia وجازاه استاتيوس على فعله هذا بأن شبه القصر بالجنة والإمبراطور بالإله.
ووجه استاتيوس ألطف قصائده وأبعثها للسرور إلى دومتيان وغيره من نصرائه. وكانت هذه القصيدة وهي قصيدة سلفا Silva تشتمل عل طائفة من المدح ومن أناشيد الرعاة في شعر خفيف ظريف في الدرجة الوسطى من الجودة. على أنه لم يكسب الجائزة الأولى في مباريات الكبتولين بل نالها(10/203)
شاعر آخر. وأخذ نجمه في الأفول في رومة المتقلبة، فما كان منه إلا أن أقنع زوجته بمغادرة المدينة والعودة معه إلى البلد الذي قضى فيهِ حداثته. وفي نابلي شرع يكتب ملحمة أخرى هي الأخيلية Achelleid ولكن المنية فاجأته في عام 96 فتوفي ولما يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره. ولم يكن استاتيوس عظيماً ولكنه كان يضرب على نغمة من الرأفة والحنان محببة إلى النفوس في وسط أدب كثيراً ما تغلب عليه السخرية والحقد المرير، وفي مجتمع بلغ من الفساد والفحش درجة لم يكن لها من قبل مثيل، ولو أنه بلغ من الدناءة ما بلغه مارتيال لكان خليقاً بأن ينال ما ناله من الشهرة.
وولد ماركس فليريوس مارتيالس في بليليس من أعمال أسبانيا في السنة الأربعين بعد الميلاد، ولما بلغ الرابعة والعشرين من عمره جاء إلى رومة وعقد أواصر الصداقة مع لوكاس وسنكا، وأشار عليه كونتليان أن يتخذ المحاماة وسيلته للثراء، ولكنه فضل عليها الشعر مع الإملاق. وأطاحت مؤامرة بيزا فجاءة بأصدقائه فاضطر توجيه قصائد للموسرين الذين يستطيعون أن يطعموه إذا قال لهم نكتة شعرية. وكان يسكن في علية في الطابق الثالث، وأكثر الظن أنه كان يعيش فيها وحيداً؛ نقول هذا لأنه وأن كان يوجه قصيدتين من قصائده لامرأة يقول عنها إنها زوجته فإن ما في القصيدتين من فحش لا يترك مجالاً للشك في أن هذه المرأة إما أن تكون اختراعاً من عنده وإما أن تكون قوادة (126).
وهو يخبرنا بأن قصائده كانت تقرأ في جميع أنحاء أوربا لا يستثني منها القوط أنفسهم. وهو يغتبط إذ يعلم أنه اشتهر فيها شهرة جواد السباق، ولكنه كان يؤلمه أن يرى الناشر الذي يبيع كتبه يجمع الثروة الطائلة، وأنه هو لا يجني منها شيئاً. وأشار مرة في إحدى قصائده إلى أنه في اشد الحاجة إلى جبة رومانية، فلما أرسلها إليه بارثنيوس الثري معشوق الإمبراطور رد عليه بمقطوعتين مدح في إحداهما جدة الجبة وندد في الثانية بحقارتها ورخص ثمنها. على أنه عثر بعد(10/204)
قليل على نصراء أكرم من بارثنيوس وأكثر منه سخاءً وأهدى إليه أحدهم ضيعة صغيرة في نومنتم Nomentum، واستطاع بطريقة ما أن يجمع مالاً يكفي لشراء منزل بسيط في تل الكورنيال Quirinal. وصار في ذلك الوقت يضع نفسه تحت رعاية عظيم بعد عظيم، يقوم بخدمتهم في الصباح، ويتلقى منهم الهدايا في بعض الأحيان؛ لكنه ما لبث أن أحس بحطة منزلته هذه، وأخذ يتحسر لأنه لم يؤت من الشجاعة ما يجعله يقنع بفقره فيحرر نفسه من ذل التبعية (127). غير أنه لم يكن في وسعه أن يعيش فقيراً لأنه كان مضطراً إلى الاختلاط بمن يستطيعون أن يكافئوه على شعره، فأخذ يبعث لدومتيان بالقصيدة تلو القصيدة يمدحه بها ويمجده، ويقول إنه لو دعاه جوبتير ودومتيان إلى الطعام في يوم واحد لرفض دعوة الإله وأجاب دعوة دومتيان؛ ولكن الإمبراطور كان يفضل عليه استاتيوس فدبت الغيرة من الشاعر الشاب في قلب مارتيال، وقال في إحدى قصائده: إن نكته حية أغلى قيمة من ملحمة ميتة (128).
وكانت القصائد الموجزة ذات النكت مما يقال في كل موضوع سواء كان إهداء أو تحية، أو قبرية، ولكن مارتيال هذبها فجعلها أقصر وأعظم حدة مما كانت، وأضاف إليها الكثير من الهجاء اللاذع. وإنا لنظلمه إذا قرأنا قصائده ذات النكت البالغ عددها 1516 قصيدة في جلسات قليلة. فلقد صدرت هذه القصائد في اثنى عشر كتاباً في أوقات مختلفة، ولم يكن ينتظر من القارئ أن يلتهمها كما يلتهم طعام الوليمة، بل كان ينتظر منه أن يتناولها تناول المشهيات قبل الطعام. ويبدو الكثير منها غثاً تافها في هذه الأيام، ذلك أن ما فيها كان خاصاً بهذين الزمان والمكان، فكان لذلك قصير الأجل غير جدير بالبقاء. ولم يكن مارتيال نفسه يقدرها كثيراً، ولم يكن يجادل في أن الغث منها يزيد على الثمين، ولكنه كان مرغماً على أن يملأ بها مجلداً في إثر مجلد (129). وهو رجل قادر على قرض الشعر، عارف بجميع أوزانه وبجميع ما يتطلبه من حيل وأساليب، ولكنه يتجنب(10/205)
فنون الخطابة ويفخر بهذا كما يفخر به بترونيوس الشريف الذي كان مقامه في النثر يضارع مقام مارتيال في الشعر. ولم يكن يعنى أقل عناية بالأساطير التي كانت تغص بها آداب تلك الأيام، بل كان أكبر همه رجال ذلك العهد ونساؤه وحياتهم الخاصة، وهو يصف هذه الحياة وصفاً ينم عن ضغن ومسرة. ويقول في إحدى قصائده "إن صفحاتي تطالعك بالرجال" (130)، ولقد كان في وسعه أن "يتناول" أحد الأشراف الفظاظ، أو الأثرياء البخلاء، أو المحامين المزهوين، أو الخطباء المشهورين. ولكن أكثر من يحب التحدث عنهم هم الحلاقون والأساكفة، والبائعون الجوالون، ومدربو الخيل، واللاعبون على الحبل، والدلالون، وناقعو السم، والمفسدون والعاهرات. وليست المناظر التي يضعها مأخوذة من بلاد اليونان القديمة بل يستمدها من الحمامات، ودور التكثيل، والشوارع، والملاعب ومنازل رومة، ومساكن فقرائها، وقصارى القول أنه شاعر السفلة والرعاع.
وهو يعنى بالمال أكثر مما يعنى بالحب، وإذا فكر في الحب فإن أكثر ما يفكر فيه هو حب الرجال للرجال، أو النساء للنساء. على أن شعره لا يخلو من العاطفة، وهو يحدثنا في إحدى قصائده حديثاً ملؤه الحنو والأسى على أبن صديق له عاجلته المنية؛ ولكن كتبه كلها لا يوجد فيها بيت واحد ينم عن المروءة والشهامة، أو عن الغضب الشريف. وهو يرتل قصائده ترتيلاً تفوح منه اخبث الروائح ويقول عنها "إنني أفضل هذه الروائح الكريهة على قصائدك كلها يا بسا Bassa" (131) . ويصف إحدى خليلاته بقوله:
"إن ضفائرك يا جلا Gella قد صنعت في مكان بعيد وإنك لتخلعين أسنانك في الليل كما تخلعين أثوابك الحريرية، وأنت ترقدين مختزنة في مائة برميل، ولكن وجهك لا ينام معك؛ وتغمزين بحاجب جيء به إليك(10/206)
في الصباح وقد تجردت من كل احترام لجيفتك الباليةالتي تستطيعين أن تعديها لقدمها جيفة جدة من جداتك.
وهو يتحدث في حقد غير خليق بالرجال على النساء اللاتي أبين أن يخضعن له، ويلقي عليهن نكاته القذرة كما يلقي الكناس الأقذار. ويوجه أغانيه الغزلية للغلمان، وتتملكه النشوة من عبير "قبلاتك أيها الغلام" (133). وقد قلد أخد شعراء الإنجليز إحدى قصائده التي قال فيها:
لا أحبك يا سبيديوس، ولست أعرف لذلك سبباً؛
وكل ما أستطيع أن أقوله أني أبغضك أشد البغض.
والحق أن الذين لا يحبهم مارتيال كثيرون وهو يصفهم بعد أن يطلق عليهم أسماء مستعارة لا تخفي حقيقتهم وبألفاظ لا يجد الإنسان لها مثيلاً إلا على جدران مراحيض المواخير (135). ولست تجده إلا هاجياً لأعدائه كما لا تجد استاتيوس إلا مادحاً أصدقاءه. وقد أراد بعض ضحاياه أن ينتقموا لأنفسهم منه فنشروا بإمضائه قصائد أشد قذارة من قصائده الحقيقية، أو هاجموا باسمه بعض من كان مارتيال يحرص على إرضائهم. وفي وسع الإنسان أن يؤلف من هذه النكات الشعرية التي أوفت على الغاية من الناحية الفنية معجماً كاملاً يحوي أقذر ما في اللغة من ألفاظ.
غير أن في مقدور الإنسان أن يعفو بعض الشيء عن بذاءة مارتيال، فهو يشترك فيها مع خلق عصره، ولا يشك في أن فتيات الأسر الراقية يسرهن أن يقرأنها في عرائش قصورهن. "واستحت لكريشا وعلت وجهها حمرة الخجل وألقت بكتابي، وكان بروتس حاضراً فابتعد عنها يا بروتس؛ إنها ستقرؤه" (136) ذلك أن ما كان يطلقه هذا العصر للشعر من حرية مفرطة يسمح بكل ضروب البذاءة على شريطة أن تكون الأوزان والألفاظ صحيحة. بل إن مارتيال ليفخر بفجوره أحياناً فيقول في أحد كتبه "لا تخلوا صحيفة من صحفي من الفجور" (137). لكنه في أكثر الأحيان(10/207)
يستحي قليلاً من فجوره، ويطلب إلينا أن نعتقد أن حياته أطهر من شعره.
ومل آخر الأمر من ابتياع الطعام والشراب بالمديح والهجاء، وتاقت نفسه إلى حياة اهدأ من حياته السابقة وأطهر منها، وحن إلى موطنه في أسبانيا. وكان وقتئذ قد بلغ السابعة والخمسين من عمره، وسرى الشيب في شعر رأسه، وأطال لحيته، واسمرت بشرته، حتى ليستطيع أي إنسان-على خد قوله-بمجرد النظر إليه أن يدرك أنه ولد بالقرب من نهر التاجة Tagus. وأرسل طاقة شهرية إلى بلني الأصغر فأرسل هذا بدلاً منها مبلغاً من المال يكفي نفقات سفره إلى بلبليس. ورحبت به تلك البلدة الصغيرة، وعفت عن سوء أخلاقه بسبب ما نال من الشهرة. ووجد نصراء ومعينين لم يبلغوا من الثراء مبلغ من كانوا يناصرونه في رومة ولكنهم كانوا أندى منهم يداً. وأهدت إليه سيدة رحيمة بيتاً ريفياً متواضعاً ذا حديقة قضى فيه ما كان باقياً له من سنين قليلة. وفي عام 101 كتب بلني يقول: "لقد سمعت تواً بموت مارتيال، وقد أحزنني النبأ وأقضى مضجعي، فلقد كان مارتيال ذا فكاهة قوية لاذعة، يمزج في شعره الملح بالشهد، وأظهر ما يمتاز به هو الصراحة" (138). وإذا كان بلني أحب هذا الرجل فلا بد أن كانت فيه فضيلة خافية على سائر الناس.(10/208)
الباب الخامس عشر
رومة العاملة
14 - 96م
الفصل الأوّل
الزراع
في العصر الفضي ظهر المرجع الروماني الهام في الزراعة وهو كتاب يونيوس كلوملا Junius Columella المسمى De Re Rustica. ومؤلفه من أصل أسباني فهو من الناحية شبيه بكونتليان ومارتيال وآل سنسكا. وكان يستغل عدة ضياع في إيطاليا ثم اتخذ مسكنه بعدئذ في رومة. ذلك انه وجد ان أحسن الأراضي قد شيدت عليها البيوت ذات الحدائق وسويت لتكون مسارح للأثرياء، وان التي تليها في الجودة قد غرست فيها بساتين الزيتون والكروم، ولم يبق للزراعة إلا أردأ الأراضي. ومن أقواله في هذا: "لقد وكلنا حرث أراضينا لأحط العبيد، وهم يقومون بعملهم قيام الهمج". وكان يرى أن أحرار إيطاليا يتدهورون في المدن على حين انه كان في مقدورهم أن يقووا أجسامهم وأخلاقهم بالعمل في الأرض، "فنحن نعمل في الملاعب ودور التمثيل ولا نعمل بين المزارع والكروم". وكان كلوملا يحب الأرض ويحس بأن أفلحها أعود على الناس من ثقافة المدن، ويقول في ذلك إن "الزراعة من أخوات الحكمة". وكان يغرى الناس بالعودة إلى الحقول بتجميل موضوعاته بالألفاظ اللاتينية المصقولة. وإذا تحدث عن الحدائق والأزهار بلغت حماسته الشعرية غايتها.(10/209)
وتلك هي الفترة التي نطق فيها بلنى العالم الطبيعي بقبرية لم يكن موعدها قد حان: "إن الضياع الكبيرة قد خربت إيطاليا"، وذلك حكم أصدره غيره من الكتاب وهم سنكا، ولو كان، وبترونيوس، ومارتيال، وجوفناتل. فقد وصف سنكا مسارح الأنعام التي كانت أوسع رقعة من الممالك يزرعها عبيد مصفدون في الغلال. ويقول كالوملا ان بعض الضياع قد بلغت من السعة حداً يستحيل معه على مالكيها أن يطوفوا حولها راكبين. ويحدثنا بلنى عن ضيعة يعمل فيها 4117 من العبيد، و 7200 ثور، و 257. 000 من الحيوانات الأخرى. نعم ان ما عمله أبنا جراكس، وقيصر، وأغسطس من توزيع الأراضي على الرومان قد زاد عدد صغار الملاك، ولكن معظم هؤلاء تركوا أملاكهم في أثناء الحروب التي قامت بعدئذ وابتاعها الأغنياء، ولما ان قللت الإدارة الإمبراطورية من أعمال السلب والنهب في الأقاليم ابتاع الأشراف بأموالهم ضياعاً كبيرة. وكان سبب انتشار المراعي والضياع الواسعة إن تربية الماشية وزراعة أشجار الزيتون والكروم كانت أكثر ربحاً من زراعة الحبوب والخضر، وأن أصحابها قد تبينوا ان المراعي إذا أريد أن تستغل على خير وجه وجب ان تكون متسعة المساحة موحدة الإدارة. فلما اشرف القرن الأول بعد الميلاد على الانتهاء كانت هذه المزايا قد أخذت في الزوال بسبب ما حدث من الزيادة في تكاليف العبيد، ومن النقص في إنتاجهم، ومن ضعف قدرتهم على الابتكار. وقد بدأ في هذه الأثناء الانتقال الطويل الأجل من استخدام العبيد إلى استخدام أقنان الأرض. وكان سبب ذلك أن السلام قلل من استرقاق أسرى الحروب، فعمد بعض ملاك الضياع الواسعة إلى تقسيمها أقساماً صغيرة لا يستخدمون في فلحها العبيد بل يؤجرونها إلى زراع أحرار يؤدون لهم في نظير ذلك مالاً وعملاً. وكان معظم (الأراضي العامة) التي تملكها الحكومة يستغل وقتئذ بهذه الطريقة، كما كانت تستغل بها أيضاً الأراضي الواسعة التي يمتلكها بلنى الأصغر الذي يصف(10/210)
مستأجريه بأنهم فلاحون أصحاء، أقوياء، طيبو القلوب، ثرثارون، وهو وصف ينطبق كل الانطباق على الفلاحين الإيطاليين في هذه الأيام، فقد بقوا على حالهم رغم ما حل بالبلاد من أحداث وما طرأ عليها من تغيير.
وكانت أساليب الزراعة وأدواتها لا تختلف اختلافاً جوهرياً عما كانت عليه منذ قرون، فقد احتفظ المحراث، والمجرفة، والمعزقة، والفأس، والمذراة، والمنجل بصورتها التي كانت عليها في تلك الأيام، ولم تكد تتغير في شيء. وكانت الحبوب تطحن في طواحين تديرها المياه أو الحيوانات. وكانت المضخات اللولبية والسواقي ترفع الماء من العيون أو الأنهار إلى قنوات الري. وكان يحفظون بخصب التربة بأتباع الدورة الزراعية، واستخدام المخصبات والنباتات التي تفيد الأرض كالفصفصة والبرسيم والشيلم والفول. وكانوا يتفننون في انتخاب البذور، وكان في وسعهم بعنايتهم وحذقهم أن يجنوا ثلاثة محاصيل أو أربعة في بعض الأحيان من حقول كمبانيا ووادي البو الخصبة الغنية. وكان في مقدورهم أن يحصلوا من زرعة واحدة من الفصفصة على أربعة محصولات أو ستة في كل عام لمدة عشرة أعوام. وكانوا يزرعون كل الخضر الأوربية المعروفة عدا أندرها، وكانوا يزرعون بعضها في البيوت الزجاجية ليتجروا فيها أثناء الشتاء. وكانت أشجار الفاكهة والنقل على اختلاف لا أنواعها كثيرة، لأن القواد والتجار الإطاليين، والتجار الأجانب، والأرقاء حملوا معهم إلى إيطاليا الكثير من أصنافها، فجاءوا بأشجار الخوخ من بلاد الفرس، والمشمش من أرمينية، والكرز من كراسس في إقليم بنتس (ومنها اشتق اسم هذه الفاكهة)، والكرم من سوريا، والبرقوق من دمشق، والخوخ والبندق من آسية الصغرى، والجوز من بلاد اليونان، والزيتون والتين من أفريقية .. واستطاع المهرة من زراع الأشجار أن يطعموا شجر القطلب (الأريوطس) بأغصان شجر الجوز، وشجر الدلب بأغصان الخوخ، وشجر الدردار بأغصان الكرز. ويذكر بلنى تسعة وعشرين نوعاً(10/211)
من شجر التين كانت تزرع في إيطاليا، ويقول كالوملا: "لقد عرفت إيطاليا بفضل عناية زراعنا كيف تنتج فاكهة العالم كله تقريباً". ثم نقلت هذه الفنون إلى غربي أوربا وشماليها. وجملة القول أن ألوان الطعام الكثيرة التي نأكلها قد تجمعت من رقعة واسعة من الأرض، وان لها من ورائها تاريخ طويل. وقد يكون هذا الطعام جزءاً من التراث الذي ورثناه من بلاد الشرق أو بلاد اليونان والرومان الأقدمين.
وكانت بساتين الزيتون كثيرة العدد، أما الكروم فلم يكن يخلو منها مكان، وكانت تدرج لها سفوح الجبال فتبدو ذات روعة وجمال. وكانت إيطاليا تخرج خمسين نوعاً من أنواع النبيذ المشهورة، وكانت رومة وحدها تحتسى منها خمسة وعشرين مليون جالون في كل عام، أي بمعدل نصف جالون لكل شخص من ساكنيها رجالهم ونسائهم وأطفالهم وعبيدهم كل أسبوع. وكان معظم النبيذ من إنتاج المنظمات الرأسمالية ـ أي بطرقة الإنتاج الكبير الذي تموله رومة. وكان الكثير مما تنتجه يصدر إلى خارج البلاد لك يتذوق البلاد التي يتشرب الجعة كألمانيا وغالة لذة النبيذ. وشرعت أسبانيا وأفريقية وغالة تزرع كرومها، واخذ زراع الكروم الإيطاليون يفقدون من البلاد التي يصدرون إليها نبيذهم أسبوعاً بعد أسبوع، ويغمرون سوقهم المحلية بأكثر مما تطيقه من النبيذ في إحدى أزمات الإنتاج الوفير التي عانتها رومة في الزمن القديم. وحاول دومتيان أن يخفف من أثر هذه الحال السيئة، وأن يعيد زراعة الحبوب إلى حالها الأولى، فحرم غرس كروم جديدة في إيطاليا وأمر بأن تدمر نصف الكروم المزروعة في الولايات. وأثارت هذه الأوامر عاصفة من الاحتجاج الشديد، وعجزت الحكومة عن تنفيذها فكانت النتيجة ان نبيذ غالة وزيتون أسبانيا وأفريقية وبلاد الشرق أخذا يطردان الغلات الإيطالية من أسواق البحر الأبيض المتوسط وبدأ من ذلك الوقت اضمحلال إيطاليا الاقتصادي.(10/212)
وخصص جزء كبير من أراضي شبه جزيرة إيطاليا للمراعي، فكانت الأرض غير الموفورة الخصب، وكان العبيد ذوو الأجور الرخيصة يستخدمان لتربية الماشية والضأن والخنازير، وكانوا يعون بتربيتها على الطريقة العلمية. وكانت الخيل تربى في الغالي للأغراض الحربية، وللصيد وألعاب الفروسية، وقلما كانت تستخدم لجر المركبات؛ وكانت الثيران تجر المحاريث والعربات، والبغال تحمل الأثقال على ظهورها؛ وكانت البقر والغنم والماعز تمد الأهلين بثلاثة أنواع من اللبن يصنع منه الإيطاليون وقتئذ كما يصنعون منه في هذه الأيام أصناف الجبن اللذيذ. وكانت الخنازير تربى في الغابات الغنية بالجوز وثمار البلوط. ويقول استرابون إن إيطاليا كانت تعيش في الغالب على لحم الخنازير التي تتربى في غابات البلوط الكثيرة في شمالي إيطاليا. وكان الدجاج يمد المزارع بالسماد المخصب والأسر الإيطالية بالطعام اللذيذ، كما كان النحل يمد الأهلين بالشهد الذي كان منذ القدم يستعمل بدل السكر. وإذا أضفنا إلى ما سبق بعض مساحات من الكتان والتيل، وقليلاً من صيد الحيوان، وكثيراً من سيد السمك، تكونت لدينا الصورة التي كان عليها الريف الإيطالي منذ ألف وتسعمائة عام والتي لا يزال محتفظاَ بها إلى اليوم.(10/213)
الفصل الثاني
الصناع
لم يكن في الحياة الرومانية ـ ولعله لا يصح أن يكون فيها إذا صلحت الأحوال الاقتصادية ـ فرق جغرافي بين الزراعة والصناعة مثل ملا بينهما من فرق في هذه الأيام. ذلك ان الموطن الجغرافي القديم ـ سواء أكان كوخاً أم بيتاً صغيراً ذا حديقة أمبيتاً كبيراً في ضيعة ـ كان مصنعاً يدوياً بالمعنى الحرفي لهذا اللفظ بعمل فيه الرجال بأيديهم في صناعات هامة متعددة لا غنى لهم عنها، بينا تملاْ النساء البيت وما يجاوره بما لا يحصى من منتجات الفنون والصناعات. فهناك تستحيل الغابات ملاجئ ويتخذ منها الوقود والأثاث، وتذبح الماشية وينتفع بجلودها ولحومها، وتطحن الحبوب وتخبز، وتعصر الزيوت والخمور، ويعد الطعام ويحفظ، وينظف الصوف والتيل وينسجان، ويحرق الطين في بعض الأحيان وتصنع منه الآنية والآجر والقرميد، وتطرق المعادن وتصنع منها الأدوات. والحياة في الريف مليئة بالعمل المهذب المثقف المختلف الأنواع الذي لا يستمتع به إلا القليلون منه في عصرنا الحاضر عصر الحركة الواسعة والتخصص الضيق. ولم يكن تعدد الصناعات في المنزل الواحد دليلاً على أن الحال الاقتصادية في الريف فقيرة وبدائية، فقد كانت أكثر البيوت ثراءً أكثرها اعتماداً على نفسها واكتفاء بمنتجاتها، وكان أهلها يفخرون بأنهم ينتجون معظم ما هم في حاجة إليه. وكانت الأسرة في تلك الأيام منظمة من وحدات اقتصادية متعاونة متحدة الجهود في الأعمال الزراعية والصناعية التي تقوم بها في منزلها.
ولما أن تعهد صانع ما بالقيام بعمل لعدة أسر، وأقام لنفسه حانوتاً في موضع يسهل على هذه الأسر جميعها أن تصل إليه، لما فعل هذا أخذ اقتصاد القرية(10/214)
يكمل ما ينقص من اقتصاد الأسرة، ولكنه لم يحل محله. مثال ذلك أن الطحان أخذ يحمل الحبوب من عدة حقول ويطحنها لأصحابها؛ ثم أخذ بعدئذ يصنع لها الخبز، وقام آخر الأمر بتوزيعه. وقد عثر في أنقاض بمبي على أربعين مخبزاً، وكان لصناع الفطائر في رومة نقابة خاصة بهم. كذلك كان هناك متعاقدون يشترون محصول الزيتون على شجره ويجمعونه فيما بعد. على أن معظم الضياع ظلت تجمع زيتونها وتصنع خبزها بنفسها. وكانت ملابس الزراع والفلاسفة تغزل في البيوت، أما الأثرياء فكانت ثيابهم تعزل في البيوت كملابس الفقراء ولكنها كانت تمشط، وتنظف، وتبيض، وتفصل في أماكن معدة لهذه الأغراض. وكانت بعض المنسوجات الصوفية الرفيعة تنسج في مصانع خاصة، وكان الكتان الذي تصنع منها أشرعة السفن أو شباك الصيد ينسج في المصانع قماشاً رفيعاً تتخذ منه ملابس للسيدات ومناديل للرجال. وكان النسيج في بعض الأحيان يرسل بعدئذ إلى صباغ لا يقتصر عمله على تلوينه بل كان يطبع عليه رسوماً جملة كالتي نراها مطبوعة على الملابس المصورة على جدران بمبي، وتطورت دباغة الجلود فأصبحت لها مصانع خاصة بها، وان بقيت صناعة الأحذية يقوم بها الأفراد فيصنعون منها ما يطلب إليهم صنعه. وكان فيهم أخصائيون لا يصنعون إلا (شباشب) النساء.
وكانت الصناعات التي تستخرج موادها الغفل من باطن الأرض يقوم بها كلها تقريباً العبيد والمجرمون، وكانت مناجم الذهب والفضة في داشيا وغالة وأسبانيا، ومناجم الرصاص والقصدير في أسبانيا وبريطانيا، ومناجم النحاس في قبرص والبرتغال، ومناجم الكبريت في صقلية، والملح في إيطاليا، والحديد في إلبا، والرخام في لونا Luna وهيمتس Hymettus وباروس Paros، والحجر السماقي في مصر، كانت هذه كلها وغيرها من موارد الثروة التي تستخرج من باطن الأرض تمتلكها الدولة وتستغلها بنفسها أو تؤجرها لغيرها، وكانت مصدراً(10/215)
هاماً من مصادر الإيراد القومي؛ وحسبنا دليلاً على أهميتها أن فسبازيان كان يحصل من مناجم الذهب في أسبانيا وحدها على ما قيمته 44. 000. 000 دولار في كل عام. وكان البحث عن الثروة المعدنية من أهم أسباب الفتوح الاستعمارية، ومن أقوال تاستس في هذا المعنى أن ثروة بريطانيا المعدنية كانت "جزاء النصر" الذي ظفر به كلوديوس في حروبه. وكان الخشب والفحم النباتي أهم أنواع الوقود، وكان البترول معروفاً في كمجيني Commagene وبابل وبارثيا، وكان المدافعون عن ساموساتا Samosata يلقونه متقداً على مشاعل على جنون لوكلس، ولكننا لم نعثر على شاهد يدل على انه كان يستخدم وقوداً على نطاق تجاري (1). وقد عثر على الفحم الحجري في البلوبونيز وفي شمال إيطاليا، ولكن أكثر من كاوا يستخدمونه هم الحدادون. وكانت صناعة كبرتة الحديد لتحويله إلى فولإذ قد انتشرت من مصر إلى كافة أنحاء الإمبراطورية. وكان معظم صناع الحديد، والنحاس، والذهب، والفضة، يقومون بأعمالهم في مصاهر خاصة يعملون فيها بمساعدة صبي أو صبيين. وفي كابوا ومنتورني Menturnae وبتيولي Puteoli وأكويليا Aquileia وكومو Como وغيرها من البلاد انضمت عدة أفران ومصاهر وتكونت منها مصانع كبيرة. ويلوح ان مصانع كاوا كانت مشروعات رأسمالية ذات إنتاج ضخم، تعتمد على أموال تأتيها من خارجها.
وكانت صناعة البناء حسنة التنظيم عظيمة التخصص، فكان ": حاملو الأشجار" Dendrophoroi يقطعون الأشجار ويوردونها، و"صناع الخشب" Fabri lingaru يصنعون الأثاث، و "صانعو الأسمنت" Caementaru
_________
(1) كان من بين الأسلحة الحربية في القرن الرابع سهم ناري مملوء بالنفط الملتهب يطلق من قوس أو منجنيق، ويقول عنه أميانس مرسلينيس Ammianus Mnrcellinus " إنه يحرق كل ما يقع عليه، وإذا ألقي عليه ماء زاد ناره حرارة، وما من سبيل إلى إطفائه إلا إذا رُشَ عليه التراب".(10/216)
يخلطونه، و"المشيدون" Structures يضعون الأساس، و"القباءون" arcuaru يثبتون العقود، و"مقيموا الجدران" parieutaru يرفعون الحوائط، و "الطلاسون" يطلونها بالجص، والمبيضون albaru يطلونها بالجير، وصانعو الأدوات الصحية artifices plumbaru يصنعون من أدواتها وهي في الغالب أنابيب من الرصاص ( plumbum) ، وكان المبطلون marmoru يفرشون الأرض بالرخام، وفي وسعنا أن نتصور ما تؤدي إليه هذه الأعمال كلها من نزاع، وكان الآجر والقرميد يأتيان من معامل الفخار، وكان معظمها قد بلغ مرحلة المصانع الكبيرة، وكان تراجان، وهدريان، وماركس أورليوس يمتلكون عدداً منها ويجنن منها أرباحاً طائلة. وكانت قمائن أرتيوم Arretuim، وموتينا Mutina، وبيتولي وسرنتم، وبولنتيا Pollentiae تصنع أدوات الموائد العادية اللازمة لإيطاليا ولجميع الولايات الأوربية والأفريقية. ولم تكن هذه المنتجات الكثيرة ذات صبغة فنية راقية، بل كان أهم ما يعنى به أصحابها هو كثرة الإنتاج، ولذلك كانت الأدوات الخزفية التي امتلأت بها أسواق إيطاليا أقل جودة من منتجات أرتيوم السالفة الذكر. وكانت هناك أدوات متقنة ذائعة الصيت تصنع من الزجاج، وسنذكر شيئاَ عنها فيما بعد.
وليس من حقنا أن نعزو إلى إيطاليا القديمة وجود رأسمالية صناعية مستندين إلى ما نجده فيها من مصانع للزجاج، والآجر والقرميد، والفخار، والأدوات المعدنية. ذلك أن رومة نفسها لم يكن فيها إلا مصنعان كبيران أحدهما مصنع للورق والثاني مؤسسة للصباغة؛ وأكبر الظن ان المعادن والوقود لم يكن من الميسور الحصول عليها بكميات وفيرة، ون مكاسب السياسة كانت تبدو لأهل رومة أعظم شرفاً من أرباح الصناعة. أما في مصانع إيطاليا الوسطى فإن الصناع على بكرة أبيهم تقريباً وبعض المشرفين على المصانع كانوا من العبيد، وفي مصانع شمالي إيطاليا كان عدد غير قليل من الصناع أحراراً، وكان عدد العبيد(10/217)
لا يزال كبيراً إلى الحد الذي يحو لدون استخدام الآلات. ولم يكن من المنتظر أن يعمد المهملون المتراخون الذين لا مصلحة لهم في الإنتاج إلى الاختراع والابتكار، بل انهم كانوا يرفضون بعض الوسائل التي توفر المجهود العضلي خشية أن تنتشر البطالة بين الصناع، كما أن قدرة الشعب على الشراء كانت أضعف من أن تمول الإنتاج الكبير بالآلات، أو تشجع عليه. ولسنا نفكر انه كان هناك بعض الآلات البسيطة بطبيعة الحال في إيطاليا ومصر والعالم اليوناني: كالمضاغط والمضخات اللولبية، والآلات الرافعة للمياه، ومطاحن الحبوب التي تجرها الحيوانات، وعجلات الغزل، والأنوال، والروافع، وعجلة الفخراني الدوارة ... ولكن الحياة الإيطالية في الوقت الذي نتحدث عنه (69م) لم يكن فيها من الحركة الصناعية إلا بقدر ما كان في حياة الناس إلى ما قبل القرن التاسع عشر. ولم يكن مستطاعاً أن تزيد هذه الحياة على هذا القدر مادامت قائمة على الرقيق وعلى تركيز الثروة أشد التركيز. يضاف إلى هذا أن القانون الروماني لم يكن يشجع المنشآت الكبيرة لأنه كان يتطلب من كل شريك في أي مشروع صناعي أن يكون شريكاً مسئولاً من الوجهة القانونية، وكان يحرم قيام الشركات ذات "المسئولية المحدودة"، ولا يسمح بقيام الهيئات المساهمة الا لأداء الأعمال الحكومية. ولما كانت هذه القيود وأمثالها تحد من نشاط المصارف، فإنها قلما كانت تقدم رؤوس الأموال اللازمة لمشروعات الإنتاج الكبير، ولم يكن في وسع التطور الصناعي في رومة أو إيطاليا أن يبلغ في وقت من الأوقات ما بلغه في الإسكندرية أو في بلاد الشرق ذات الحضارة اليونانية.(10/218)
الفصل الثالث
الحمالون
كانت المركبات ذات العجلات محرمة في رومة أثناء النهار من عهد قيصر إلى كومودس؛ وكان الناس وقتئذ يمشون أو يحملهم العبيد في كراسي أو هوادج، أما المسافات الطويلة فكانوا يقطعونها على ظهور الخيل أو في مركبات تجرها الجياد، وكان متوسط ما تقطعه المركبات العامة نحو ستين ميلاً في اليوم. وقد اجتاز قيصر مرة ثمانمائة ميل في ثمانية أيام، واجتاز الرسل الذين حملوا إلى جلبا في أسبانيا نبأ وفاة نيرون 332ميلاً في ست وثلاثين ساعة؛ وقطع تيبيروس في ثلاثة أيام واصل فيها السير راكباً ليلاً ونهاراً ستمائة ميل ليكون إلى جوار أخيه ساعة وفاته. وكان البريد العام الذي ينقل في العربات أو على ظهور الخيل في ساعات النهار والليل جميعها يسير بسرعة يبلغ متوسطها مائة ميل في اليوم. وكان أغسطس قد أنشأه على غرار نظام البريد الفارسي، لأنه وجد ألا غنى له عنه في تصريف شئون الإمبراطورية. وكان يطلق عليه لفظ البريد العام لأن مهمته هي خدمة المصلحة العامة بنقل الرسائل الرسمية. أما الأفراد فلم يكونوا يستطيعون الانتفاع به إلا في ظروف قليلة وبتصريح خاص تصدره الحكومة ويسمى دبلوما أي "مطويا مرتين" يبيح لحامله بعض الامتيازات، ويمكنه من الاتصال في الطريق ببعض أصحاب المقامات لدبلوماسية الكبيرة. وكان ثمة وسيلة أخرى للاتصال أسرع من هذه الوسيلة، وهي طريقة إرسال الرسائل بمصابيح مرفوعة على أعمدة ترسل إشارات بالضوء من نقطة إلى نقطة؛ وبهذا البرق البدائي عرفت رومة المضطربة القلقة نبأ وصول السفن التي تحمل الحبوب إلى بمبي. أما الرسائل غير الرسمية فكان ينقلها رسول خاص، أو ينقلها التجار أو الأصدقاء المسافرون. ولدينا من الشواهد ما يوحي(10/219)
بوجود شركات خاصة في عهد الإمبراطورية تتكفل بنقل بريد الأفراد. وكانت الرسائل الخاصة في ذلك الوقت أقل من مثيلاتها في هذه الأيام وأحسن منها. على أن نقل الأخبار في غربي أوربا وجنوبيها لم يكن في عهد قيصر أقل سرعة منه في أي وقت من الأوقات قبل مد السكك الحديدية. وشاهد ذلك ان الخطاب الذي أرسله قيصر من بريطانيا إلى شيشرون في عام 54 ق. م وصل إلى رومة في تسعة وعشرين يوماً، وان سير ربرت بيل لما سافر مسرعاً من رومة إلى لندن في عام 1834 احتاج إلى ثلاثين يوماً (20).
وكانت الطرق القنصلية من أهم العوامل في تسيير سبل الاتصال والنقل. وكانت هذه الطرق هي الوسائل التي ينفذ لها القانون الروماني، والأعصاب التي تصبح بها رغبات رومة إرادة الدولة بأجمعها. وقد أحدثت هذه الطرق في العالم القديم انقلاباً تجارياً من نوع الانقلاب الذي أحدثه إنشاء الطرق الجديدة في القرن التاسع عشر. وحسبنا شاهداً على عظمة هذه الطرق أن طرق أوربا في العصور الوسطى وفي العصور الحديثة ظلت إلى أيام استخدام البخار في النقل أقل شأناً من طرق الإمبراطورية الرومانية في عهد الأنطونيين. لقد كان في إيطاليا وحدها في ذلك الوقت 372 طريقاً رئيسياً، 12000 ميل من الطرق الكبرى المرصوفة، وفي الإمبراطورية بأجمعها 51. 000 ميل من الطرق العامة المرصوفة، فضلاً عن شبكة أخرى من الطرق الثانوية. وكانت الطرق الكبرى تسير فوق جبال الألب إلى ليون، وبردو، وباريس، وريمس، وبولوني؛ وكانت طرق أخرى تجري إلى فينا، ومينز، وأجزبرج، وكولوني، وأوترخت، وليدن؛ وكان ثمة طريق يبدأ من أكويليا محازياً ساحل البحر الأدريادي، ويصل هذه المدينة عن طريق إجناشيا بسلانيك Thessalonica. وأقيمت جسور فخمة لتحل محل القوارب التي كانت تنقل الركاب والبضائع في عرض المجاري التي كانت تعطل سبل الاتصال في الزمن القديم. وكانت توضع عند كل ميل في الطرق(10/220)
القنصلية شواهد حجرية تبين المسافة بين كل شاهد والبلدة التي تليه. ولا تزال أربعة آلاف من هذه الشواهد باقية إلى يومنا هذا؛ ووضعت على مسافات معينة مقاعد يستريح عليها المسافرون المتعبون. وأنشئت بعد كل عشرة أميال محاط يستطيع من شاء أن يستأجر منها خيلاً، وأقيم بعد كل ثلاثين ميلاً نزل Mansio كان أيضاً مستودعاً للسلع وندوة وماخورا (21). وكانت نقط الاستراحة الرئيسية هي المدائن التي أنشئت فيها عادة فنادق جميلة تمتلكها وتديرها أحياناً الحكومات البلدية (22). وكان معظم أصحاب النزل يسرقون أموال النزلاء كلما تيسرت لهم أسباب السرقة، كما كان غيرهم من اللصوص يجعلون الطرق غير آمنة في أثناء الليل على الرغم من وجود حاميات من الجند في كل محطة. وكان في استطاعة المسافرين أن يبتاعوا كتباً للإرشاد تبين الطرق والمحاط، وأطوال ما بينها من المسافات (23). وكان الأثرياء الذين يستنكفون أن ينزلوا في النزل يحضرون معهم ما يلزمهم من الحاجيات، ويصطحبون العبيد وينامون في عرباتهم بحراسة رجالهم، أو في بيوت أصدقائهم، أو موظفي الحكومة المحليين.
وأكبر الظن أن الأسفار في عهد نيرون كانت أكثر منها قبل أن نولد نحن، رغم ما كان يعترضها من الصعاب. وفي ذلك يقول سنكا: "إن كثيرين من الناس كانوا يركبون البحار مسافات طويلة ليشاهدوا منظراً بعيداً" (24).
ويحدثنا أفلوطرخس عن الخبابين الذين يقضون خير أيام حياتهم في النزل وفي القوارب" (25). وكان الرومان المتعلمون يهرعون جماعات إلى بلاد اليونان ومصر وآسية اليونانية، وينقشون أسماءهم على الآثار التاريخية، ويرتادون الأجواء ومنابع المياه المفيدة للعلاج والصحة، أو يأتون لمشاهدة المجموعات الفنية في الهياكل، أو يسافرون للدرس على مشهوري الفلاسفة والخطباء والأطباء؛ وما من شك في انهم كانوا يسترشدون بيوسنياس كما نسترشد نحن ببدكر (26).
وكانت هذه الرحلات الطويلة تتضمن عادة رحلة بحرية على ظهر سفينة(10/221)
أو أكثر من السفن التجارية التي تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط، متتبعة عشرات العشرات من طرق الملاحة التجارية. وقد وصف جوفنال هذه الطرق بقوله: "انظر إلى الموانئ والبحار تجدها غاصة بالسفن وعلى ظهرها من الخلائق أكثر ممن على الأرض" (27). وكانت الثغور التي تنافس رومة في عظمتها، وهي بتيولي، وبورتس، وأستيا، تحوي كثيراً من دور الصناعة تبنى المراكب (1) وفيها القيارون يجلفطونها والعمال يضعون فيها صابورات من الرمال، والحمالون يفرغون الحبوب في أكياس، والوازنون يزنونها، والملاحون يسيرون القوارب الصغيرة بين السفن الكبرى والبر، والغواصون يغوصون في البحر لينتشلوا ما يسقط فيه من البضائع. وكانت خمس وعشرون سفينة من سفن الحبوب وحدها تجر إلى نهر التيبر في كل يوم من أيام العمل، فإذا أضفنا إليها ناقلات حجارة البناء والمعادن، والزيت، والخمور، وعشرات المئات من المواد الأخرى تكونت لدينا صورة من النهر الغاص بالمتاجر وما يصحب شحنها وتفريغها من ضجيج الآلات، ورجال الأهوسة، والحمالين، والخازنين، والتجار، والسماسرة، والكتبة.
وكانت السفن تسير بالأشرعة يساعدها صف أو صفوف من المجاديف، وكانت في ذلك الوقت أكبر حجماً في العادة من ذي قبل، فأثينوس Atheaeus يصف سفينة من ناقلات الحبوب بأنها كانت 420 قدماً في الطول و 57 في العرض (29)، ولكن هذا الحجم كان حجماً شاذاً كل الشذوذ. وكان لبعض السفن ثلاث أسطح، وكانت حمولة الكثير منها 250 طناً، وحمولة بعضها ألف طن من البضائع. ويحدثها يوسفوس عن سفينة تحمل ستمائة رجل ما بين راكب وبحار (30)، وقد حملت سفينة أخرى مسلة مصرية في حجم المسلة المقامة في سنترال بارك Central Park بنيويورك، ومعها 300 ملاح، و 1300 راكب،
_________
(1) في القاموس الجلفاط بالسكر سادُّ دروز السفن الجدد وقد جلفطها. (المترجم)(10/222)
و 93000 بشل (1) من القمح، ومقادير من الكتان، والفلفل، والورق، والزجاج (31). على أن السفر بالسفن بعيداً عن السواحل كان لا يزال معرضاً للأخطار، كما وجد القديس بولس في أسفاره. ولم يكن يجرؤ على عبور البحر الأبيض المتوسط فيما بين نوفمبر ومارس إلا عدد قليل من السفن، وكانت الرياح الموسمية تجعل السفر في وسط الصيف مستحيلاً من جهة الشرق. وكانت الأسفار بالليل وكثيرة في تلك الأيام، وكان في ميناء ذي شأن منارة صالحة، وكادت القرصنة أن تختنق من البحر الأبيض المتوسط، وقد جدد أغسطس في القضاء عليها ومنع الطعام عن الولايات التي تثور عليها بوضع أسطولين حربيين كبيرين في رافنا من ثغور البحر الأدرياوي وميسينم Misenum على خليج نابلي، فضلاً عن أساطيل أصغر منها في عشر نقط أخرى متفرقة في أنحاء الإمبراطورية. وفي وسعنا أن نقدر قول قيصر عن "فخامة السلم الرومانية" إذا ذكرنا أننا لم نسمع شيئاً قط عن هذه الأساطيل مدى فرنين كاملين.
ولم تكن مواعيد السفر محددة مضبوطة لأن سير السفن كان يتأثر بعوامل الجو وبالأغراض التجارية. أما الأجور فكانت منخفضة، فقد كان أجر السفر من أثينة إلى الإسكندرية مثلاً درهمين (أي 1,20 ريال أمريكي)، ولكن المسافرين كانوا يبتاعون طعامهم، والراجح ان معظمهم كانوا ينامون على سطح المركب. وكانت سرعة السفن معتدلة اعتدال أجورها، وكانت تختلف باختلاف الريح، ويلغ متوسطها ستة أميال بحرية في الساعة.
وقد لا يستطيع المسافر في بعض الأحيان أن يجتاز البحر الأدريادي إلا في يوم كامل، وكمان يلزمه أحياناً ثلاثة أسابيع من بترى Patrae إلى برنديزيوم كما فعل شيشرون. وكان في وسع الطراد السريع أن يقطع
_________
(1) يعادل البشل نحو ثمانية جالونات. (المترجم)(10/223)
230 ميلاً بحرياً في أربع وعشرين ساعة (32). وإذا ما صلحت الريح استطاع الإنسان أن يبسافر من صقلية إلى الإسكندرية أو من قادس إلى أستيا في ستة أيام، ومن يودكة Ytica إلى رومة في أربعة (33).
وكانت أطول الرحلات وأكثرها تعرضاً للخطر الرحلة البحرية التي تستغرق ستة أشهر من عدن في بلاد العرب إلى بلاد الهند، وذلك لأن الرياح الموسمية كانت تضطر السفن إلى ملازمة السواحل الغاصة بالقراصنة في الطريق كله؛ وقد استطاع ملاح يوناني من أهل الإسكندرية في وقت ما قبل سنة 50 ميلادية أن يبين بالرسم أوقات هبوب الرياح الموسمية، ويعرف ان في مقدوره في بعض الفصول أن يعبر المحيط الهندي في طريق مستقيم وهو آمن. وكان هذا الكشف يعادل في أهميته بالنسبة لهذا البحر أهمية عبور كولومبوس المحيط الأطلنطي؛ ذلك ان السفن قد استطاعت بعد هذا العمل أن تسير من الثغور المصرية الواقعة على البحر الأحمر إلى بلاد الهند في 40 يوماً. وحدث حوالي 80م ان كتب بحار آخر من أهل الإسكندرية غير معروف اسمه كتاباً عن " الطواف بالبحر الأريتزي". وكان بمثابة دليل للتجار الذين يتجرون بين ثغور ساحل أفريقيا الشرقي والهند. وكان غيره من الملاحين في ذلك الوقت قد سار في المحيط الأطلنطي إلى بلاد غالة، وبريطانيا، وألمانيا، بل انهم وصلوا إلى اسكنديناوة وروسيا (34). ولسنا نعرف في تاريخ الإنسانية قبل ذلك ان البحر قد حمل من السفن أو من البضائع ومن الخلق ما حمله في تلك الأيام.(10/224)
الفصل الرابع
المهندسون
كانت السفن والطرق التي تحمل عليها البضائع، والقناطر التي تربط الطرق بعضها ببعض، والموانئ والأحواض التي تستقبل السفن، والقنوات المبنية التي يجري فيها الماء النقي إلى روما، والمصارف التي تنصرف فيها مياه المستنقعات الريفية وأقذار المدن، كانت هذه كلها من عمل المهندسين الرومان واليونان والسوريين يساعدهم آلاف من العمال الأحرار وجنود الفيالق والعبيد. وكانوا يرفعون الأحمال أو الحجارة الثقيلة، أو يجرونها بوساطة البكرات أو القوائم الخشبية العمودية تديرها الروافع التي يدفعها فيها الحيوانات أو الآدميون (35). وقد أقاموا على شاطئ التيبر الغدار جدراناً ذات درجات ثلاث حتى لا ينكشف الطين في قاع النهر إذا انخفض ماؤه (1). وقد أنشئوا ميناءً مزدوجاً عند أستيا لكلوديوس ونيرون وتراجان، وافتتحوا موانئ أصغر منها في مرسيليا وبتيولي، وميسينم، وقرطاجنة وبرنديزيوم ورافنا؛ وجددوا أعظم موانئ الإمبراطورية كلها في الإسكندرية. وقد جففوا البحيرة الفوسية، واستصلحوا أرضها للزراعة وذلك بأن شقوا لها نفقاً يخترق جبلاً من الصخر الصلب، وأنشأ تحت الأرض في روما مصارف من الأسمنت المتحجر للآجر والقرميد قاومت البلي مئات السنين، وجففوا مناقع كمبانيا حتى أصبحت صالحة للسكنى، ويدل ما عثر عليه فيها من آثار على أن قصوراً فخمة كثيرة أقيمت فيها (2)، وقاموا بتنفيذ
_________
(1) أنشأت الحكومة الإيطالية في عام 1870 جسوراً بمحاذاة شاطئ النهر تجعل مجراه متساوي العرض، وقد أدى ذلك إلى نتائج غير مستحبة في فصل الجفاف.
(2) والظاهر أن الفلشيين قد جففوا مناقع بنتين قبل عام 600ق. م، غير أن الرومان الذين فتحوا بلادهم قد أهملوا المصارف فعاد الإقليم مناقع وانتشرت فيه الملاريا. ووضع قيصر مشروعاً لتجفيفه وواصل أغسطس ونيرون العمل في هذا التجفيف ولكن المشروع لم يتم إلا في عام 1931.(10/225)
المشروعات العامة المدهشة التي خفف بها قيصر وغيره من العباقرة التعطل في البلاد وجملوا بها روما.
وكانت الطرق القنصلية من أقل أعمالهم مشقة، ولكنها لم تكن تنقص عن طرق هذه الأيام. وكانت سعتها تختلف من ستة عشر إلى أربع وعشرين قدماً ولكن بعض هذا العرض كان يشغله بالقرب من روما ممرات جانبية مرصوفة بألواح حجرية مستطيلة الشكل. وكانت تسير مستقيمة إلى أهدافها مضحية بالنفقات العاجلة في سبيل اقتصاد دائم؛ وأقيمت على المجاري التي لا حصر لها قناطر كثيرة النفقات، فإذا وصلت إلى المستنقعات اخترقتها فوق قباب مقامة على جدران من الآجر والحجارة، وكانت تصعد فوق الجبال الوعرة وتنحدر على سفوحها دون أن تستخدم النفق، وسارت بمحاذاة الجبال أو الجسور العالية تحميها الجدران القوية. واختلفت المواد التي ترصف بها باختلاف الأماكن التي تمر بها. وكانت الطبقة السفلى تصنع في العادة من الرمل ويتراوح سمكها بين أربع بوصات وست، أو من الملاط بسمك بوصة واحدة. ثم تقام فوق هذه الطبقة أربع طبقات من البناء: الأولى وسمكها قدم وتبنى من الحجارة يمسكها الأسمنت أو الطين، تليها طبقة ثانية سمكها عشر بوصات من الأسمنت القوي، ثم طبقة ثالثة سمكها ما بين اثنتي عشر وثمان عشر بوصة وتتألف من عدة طبقات من الأسمنت المقوى أيضاً، فوقها الطبقة الرابعة وتتخذ من حجر الصوان أو الحمم البركانية الكثيرة الأضلاع والتي يختلق قطر كل منها بين قدم واحد وثلاث أقدام، وسمكها بين ثمان بوصات واثنتي عشر بوصة. وكان يسوون الوجه الأعلى لهذه القطع، وكانت مواضع اتصالها بعضها ببعض لا تكاد تتبينها العين. وكانت الطبقة العليا تصنع في بعض الأحيان من الأسمنت المقوى، وفي الطرق القليلة الأهمية كانت تصنع من الحصباء؛ وفي بريطانيا كانت من حجر الصوان المخلوط بالأسمنت فوق طبقة من الحصباء. وكان سمك الطبقات السفلى كبيراً إلى حد جعل المهندسين(10/226)
لا يعنون كثيراً بتصريف الماء الجوفي. ويمكننا أن نقول عن هذه الطرق بوجه عام إنها أطول الطرق أعماراً في التاريخ كله، ولا يزال بعضها يستخدم إلى اليوم، ولكن منحنياتها الشديدة التي صنعت لسير البغال والعربات الصغيرة جعلتها غير صالحة لوسائل النقل الحديث.
وكانت القناطر التي تحمل هذه الطرق نمإذج طيبة لتضافر العلم والفن، ولقد ورث الرومان عن مصر البطليموسية أصول الهندسة المائية واستخدموها على نطاق بلغ من السعة حداً لم يسبقهم أحد إليه من قبل، وبقيت الأساليب التي نقلت عنهم لم يطرأ عليها تغيير إلى هذه الأيام. وقد وضعوا الأسس وأشادوا الأرصفة تحت الماء كما كانت تشاد هذه وتلك في أقدم العهود. وكانوا يدفعون في أنواع المجاري اسطوانات مزدوجة مملوءة بمواد البناء، وقد أحكموا إغلاق كل منهما ونزحوا الماء مما بينهما، وغطوا الجزء المعرى بالحجارة أو الجير، وأقاموا الرصيف المطلوب إقامته على هذا الأساس. وقد أقيمت على نهر التيبر قبالة روما تسعة جسور بعضها قديم مقدس كجسر سبليسيوس الذي لم يكن يجوز استخدام المعادن فيه، وبعضها كجسر فبريسيوس متقن البناء اتقاناً أبقاه صالحاً للاستعمال إلى هذه الأيام. وعن هذه الجسور نقلت العقود الرومانية لتستخدم في البناء مئات المئات من القناطر فوق المجاري في العالم الذي يسكنه البيض.
وكان بني يظن أن قنوات المياه المبنية أعظم أعمال الرومان، وفي ذلك يقول: "إذا فكر لإنسان في مقدار ما يصل إلى المدينة من الماء للأغراض العامة والخاصة التي يخطئها الحصى وإذا شاهد القنوات المشيدة العالية التي لا بد أن تحتفظ بالعلو والتدرج المطلوبين، والجبال التي لا بد من اختراقها، والمنخفضات التي لابد من ملئها-لم يسعه إلا أن يحكم أن الأرض كلها ليس فيها ما هو أعجب وأعظم من هذه الأعمال" (38). وكانت أربع عشرة قناة من هذا النوع يبلغ مجموع أطوالها 1300 ميل(10/227)
وتخترق النفق وتسير فوق عقود فخمة، كانت هذه القنوات تحمل إلى روما من عيون بعيدة ما لا يقل عن 300. 000. 000 جالون من الماء في كل يوم، ينال منها كل فرد في روما ما يناله أي إنسان في مدننا الحديثة (39). على أن هذه المباني الضخمة لم تكن تخلو من عيوب. فقد كانت أنابيب الرصاص تخرق وتتطلب الإصلاح المرة بعد المرة، وأصبحت هذه القنوات كلها غير صالحة للاستعمال قبل نهاية عهد الإمبراطورية الغربية (1). ولكننا إذا ذكرنا أنها كانت تحمل إلى المباني، والمساكن، والقصور، والفسافي، والحدائق، والبساتين، والحمامات العامة التي يستحم فيها آلاف الناس مجتمعين، وان ما بقي بعد ذلك من الماء كان يكفي لإنشاء بحيرات صناعية للمعارك الحربية، إذا ذكرنا هذا كله بدأنا ندرك أن رومة كانت احسن الحواضر القديمة إدارة، وأنها كانت من خير المدن المزودة بما تحتاج إليه من الضروريات والكماليات، رغم ما كان فيها من فساد، وما كان ينتابها من رعب في كثير من الأحيان.
وكان يشرف على مصلحة المياه في ختام القرن الأول الميلادي سكستس يوليوس فرنتينس الذي جعلته كتبهم أشهر مهندسي الرومان الأقدمين. وكان قبل أن يتولى هذا المنصب قد عمل بريتوراً، ووالياً على بريطانيا، وتولى القنصلية مراراً عدة. وكان كالحكام الإنجليز في هذه الأيام يجد متسعاً من الوقت لتأليف الكتب وحكم الولايات، فقد نشر كتباً في العلوم الحربية لا يزال ختامه باقياً إلى هذه الأيام (2)، وترك لنا وصفاً بقلمه لعملية المياه في رومة De Aquis Urbis Romanae. وهو يصف ما وجده في تلك المصلحة حين تولى أمورها من ضروب الفساد والرشوة، وكيف كانت القصور والمواخير تخرق الأنابيب الكبرى
_________
(1) ولا تزال إحداها وهي قناة "فرجو" Virgo تمد بالماء قوارة ترفي Trevi، وقد أصلحت ثلاث قنوات أخرى وهي تمد رومة بالماء في هذه الأيام.
(2) ويبدأ الكتاب الثالث بهذه الملاحظة الهامة: "إن اختراع آلات الحرب قد وصل من زمن بعيد إلى أبعد غاياته، ولا أمل في أن يتقدم هذا الفن عما هو عليه الآن".(10/228)
وتسرف في الماء إسرافاً جعل روما في بعض الأيام تطلب الماء فلا تجده (41). ثم يصف ما أدخله بحزمه وهمته من ضروب الإصلاح، ويفصل القول في زهو وإعجاب في مبدأ كل قناة وطولها والغرض منها. ويختم هذا القول كما يختم بلنى قوله بهذه العبارة: "من ذا الذي يجرؤ على أن يوازن هذه القنوات العظيمة بالأهرام السخيفة أو بأعمال اليونان الذائعة الصيت العديمة النفع" (42). ونحن نحس هنا بما يؤمن به هذا الروماني من مبدأ النفسية، وبعدم تذوقه الجمال المجرد من النفعية. ولسنا نلومه على هذا، ونقر بأن من الواجب أن تحصل المدينة على الماء النقي قبل أن يكون فيها هياكل جميلة ونحن نستشف من خلال هذه الكتب الخالية من التجميل الفني انه كان لا يزال في رومة في أيام الطغاة رومان من الطراز القديم، رجال ذوو كفاية وصلاح، وإداريون يعملون بوحي ضمائرهم، وقد افلحوا في نشر الرخاء في أنحاء الإمبراطورية، تحت حكم الأباطرة السفهاء الفاسدين، وكانوا هم الذين مهدوا السبيل لعصر الملكية الذهبي.(10/229)
الفصل الخامس
التجار
اتسعت تجارة البحر الأبيض المتوسط اتساعاً لم يسبق له مثيل من قبل بسبب إصلاح إدارة الحكم ووسائل النقل. ففي أحد طرفي عملية التبادل كان البائعون الجائلون يطوفون بالريف ويبيعون أهله كل شيء من عيدان الثقاب إلى الحرير المستورد الغالي الثمن. وشبيه بهؤلاء من يبيعون البضائع "بالمزاد"، وكان عملهم أيضاً المناداة على البضائع المفقودة والعبيد الآبقين. وكانت هناك أسواق بيومية وأخرى دورية، وكنت ترى أصحاب الحوانيت يساومون المشترين ويخسرون الموازين، ويرقبون في حذر مفتشي الحكومة (الإيديل) الذين كانت مهمتهم مراقبة المكاييل والموازين. وكان أرقى من هؤلاء في السلم التجاري الحوانيت التي تصنع بنفسها سلعا؛ وكانت هذه الحوانيت عماد الصناعة والتجارة جميعاً. وكان في الثغور البحرية أو بالقرب منها بائعو الجملة ( magnaru) يبيعون لتجار التجزئة أو للمستهلكين البضائع المستوردة حديثاً من خارج البلاد؛ وكان صاحب السفينة أو رئيس بحارتها في بعض الأحيان يبيع ما فيها من البضائع قبل أن يفرغها.
وظلت إيطاليا مائتي عام وميزان التجارة في غير صالحها، فقد كانت تشترى أكثر مما تبيع، وكانت راضية بذلك مغتبطة. كانت تصدر بعض الفخار الأريتيني Arretine وبعض الخمر والزيت، والأدوات المعدنية والزجاج، والروائح العطرية من كمبانيا؛ أما ما عدا هذه من المنتجات فقد كانت تحتفظ به لنفسها. وكان لتجار الجملة في هذه الأثناء وكلاء يشترون البضائع لإيطاليا من كافة أنحاء الإمبراطورية، وكان للتجار الأجانب سماسرة يعرضون(10/230)
بضائعهم في إيطاليا؛ وبهذه العملية المزدوجة جاءت طيبات نصف العالم إلى إيطاليا لتتلذذ بها أفواه عظماء الرومان، وتكتسي بها أجسادهم، وتزدان بها بيوتهم؛ وفي ذلك يقول إيليوس أرستيديس Aelis Aristides: " من شاء أن يرى جميع طيبات العالم فعليه أن يطوف العالم كله أو يقيم في رومة" (45). وكانت صقلية ترسل لها الحبوب، والماشية، والجلود، والخمور، والصوف، والأدوات الخشبية الفنية الجميلة، والتماثيل، والحلي، وكانت ترد من شمالي أفريقية الحبوب والزيت؛ ومن قورينة الانجدان Silpium (1) ؛ ومن أفريقية الوسطى الوحوش اللازمة للملاعب والمجلدات؛ ومن بلاد الحبشة وشرقي أفريقية العاج والقردة، وأصداف السلاحف، والرخام النادر الطبيعي، والتوابل، والعبيد الزنوج؛ ومن غربي أفريقية الزيتون، والحيوانات البرية، والماشية، والصوف، والذهب، والفضة، والرصاص، والقصديرـ، والنحاس، والحديد، والزنجفر، والقمح، والتيل، والفلين، والخيل، ولحم الخنزير، وخير أنواع الزيتون وزيته؛ ومن بلاد غالة الملابس، والخمور، والقمح والخشب، والخضر، والماشية، والدجاج، والفخار، والجبن، ومن بريطانيا، القصدير، والرصاص والفضة، والجلود، والقمح، والماشية، والعبيد، والمحار، والكلاب واللؤلؤ، والمصنوعات الخشبية؛ وكانت أسراب الإوز تسير من بلجيكا إلى إيطاليا لتملاْ أكبادها بطون الأشراف من أبنائها. وكانت ألمانيا تورد الكهرمان، والعبيد، والفراء؛ وبلاد اليونان والجزائر اليونانية تصدر الحرير الرخيص، والتيل، والخمر، والزيت، وعسل النحل، والخشب، والرخام، والزمرد، والعقاقير،
_________
(1) نبات من الفصيلة الخيمية، وهو يحتوي على سائل راتنجي اشتهر عند القدماء بنفعه لكثير من الأمراض الباطنية، ورسم على نقود قورنية مواطنه الأصلي. (المترجم)(10/231)
والمصنوعات الفنية، والروائح العطرية والماس، والذهب، وكانت بلاد البحر الأسود تصدر الحبوب، والسمك، والفراء، والجلود، والعبيد؛ وأسية الصغرى تصدر المنسوجات التيلية والصوفية، والجلد المرقق للكتابة، والخمر، وتين أزمير وغيرها من البلاد، والعسل والجبن، والمحار، والسجاجيد، والزيت، والتفاح، والكمثرى، والبرقوق، والتين، والبلح، والرمان، والبندق، والناردين، والبلسم (1)، والصمغ القرمزي (2)، والأرجواني، وأرز لبنان؛ وكانت تدمر تورد المنسوجات والعطور والعقاقير؛ وبلاد العرب تورد البخور، والصمغ، والصبر، والمر، والأفيون، والزنجبيل، والقرفة، والأحجار الكريمة؛ ومصر تورد الحبوب، والورق، والتيل، والزجاج، والحلي، والحجر الأعبل، وأحجار البازلت، والمرمر، والبرفير؛ وكانت آلاف الأدوات المصنوعة المختلفة الأنواع ترد إلى رومة وغريب أوربا من الإسكندرية، وصيدا، وصور، وانطاكية، وطرطوس، ورودس، وميليتس، وإفسوس وغيرها من كبريات مدائن الشرق؛ وكانت بلاد الشرق نفسها تستورد المواد الغفل والنقود من الغرب.
وكانت هناك فضلاً عن هذا كله تجارة واردات ضخمة من خارج الإمبراطورية. فكانت ترد إلى إيطاليا من بارثيا وبلاد الفرس الجواهر، والعطور النادرة، والجلود الرقيقة، والطنافس، والحيوانات البرية، والخصيان؛ وكان يرد من الصين بطريق بارثيا أو الهند أو القوقاز الحرير منسوجاً أو غير منسوج؛ وكان الرومان يظنونه محصولاً نباتياً يستخرج من الشجر ويقومونه بوزنه ذهباً (44). وكان معظم هذا الحرير يرد إلى جزيرة كوس Cos حيث ينسج ملابس لنساء رومة وغيرها من المدن؛ واضطرت ولاية مسينيا Messenia ـ وهي الولاية الفقيرة نسبياً، أن تحرم على نسائها ارتداء الملابس الحريرية
_________
(1) صمغ راتيني عطري. (المترجم)
(2) صمغ يتخذ من المحار أو الأصداف. (المترجم)(10/232)
الشفافة في الاجتماعات الدينية؛ وهذه الملابس هي التي غزت بها كليوبطرة قلبي قيصر وأنطونيوس (45). وكانت الصين تستورد من الإمبراطورية الرومانية في نظير صادراتها إليها الطنافس والحلي، والكهرمان، والمعادن، والأصباغ، والعقاقير، والزجاج. ويحدثنا المؤرخون الصينيون عن بعثة تجيء بطريق البحر إلى الامبراطور هوان دي عام 166، من قبل الامبراطور "آن-طون" ـ أي ماركس أورليوس أنطونيوس. وأكبر الظن ان هذه البعثة لم تكن إلا جماعة من التجار انتحلوا صفة السفراء. وقد عثر في ولاية شانسي الصينية على ست عشرة قطعة من النقود الرومانية مضروبة فيما بين حكم تيبيريوس وحكم أورليوس. وكانت الهند تورد إلى إيطاليا الفلفل، وسنبلة الطيب، وغيرها من التوابل (التي سافر كولمبس ليبحث عنها)، والأعشاب، والعاج، وحجر الظفر (الخرز اليماني) والجمست، والياقوت الأحمر، والماس، والمصنوعات الحديدية، وأدوات التجميل، والمنسوجات، والنمورة، والفيلة. وفي مقدورنا أن ندرك مقدار هذه التجارة وخشب الرومان لأسباب الترف إذا عرفنا ان إيطاليا كانت تستورد من الهند أكثر مما تستورده من أي بلد آخر عدا أسبانيا (46). ويذكر استرابون ان مائة وعشرين سفينة كانت تبحر كل عام من ثغر واحد نم الثغور المصرية إلى الهند وسيلان. وكانت الهند نفسها تستورد في مقابل صادراتها مقداراً غير كبير من الخمور، والمعادن، والصبغة الأرجوانية، وتأخذ ثمن ما بقى من بضائعها أكثر من مائة مليون سسترس نقوداً أو سبائك. وكان مثل هذا القدر من المال يرسل إلى بلاد العرب والصين، ولعل مثله أيضاً كان يرسل إلى أسبانيا.
وظلت هذه التجارة الواسعة مصدر رخاء عظيم مائتي عام، ولكن أساسها غير السليم جر الخراب على الاقتصاد الروماني في آخر الأمر. ذلك ان إيطاليا لم تحاول قط أن تتعادل صادراتها ووارداتها، وأنها استولت على مناجم خمسين(10/233)
ولاية أو نحوها، وفرضت على أهلها الضرائب لتستمد منها المال الذي تدفعه لموازنة صادراتها بوارداتها. فلما ان استنفذت العروق المعدنية الغنية ولم تنقص شهوة الرومان للترف والكماليات، حاولت رومة أن تؤجل انهيار نظام الاستيراد بفتح بلاد جديدة اشتهرت بمعادنها مثل داشيا Dacia، وبتخفيض قيمة نقدها الذي كان من قبل أبعد النقود عن الفساد والانحطاط، فصارت تصنع أكثر ما تستطيع صنعه من النقود من أقل ما لديها من السبائك. ولما أن اقتربت نفقات الإدارة والحروب من مكاسب الإمبراطورية، كان على رومة أن تؤدى ثمن ما تستورده من البضائع بضائع أخرى، ولكنها عجزت عن هذا. وكان اعتماد إيطاليا على ما تستورده من الطعام أهم أسباب ضعفها. ذلك أنها ساعة أن عجزت عن إرغام غيرها من البلاد على أن ترسل إليها الطعام والجنود، إذن مجدها بالزوال وفي هذا الوقت عينه أخذت الولايات تسترد رخائها وأولويتها الاقتصادية؛ فكاد التجار الإيطاليون في القرن الأول الميلادي يختفون من الثغور الشرقية، واستقر التجار السوريون واليونان في ديلوس وبتيلوي، وتضاعف عددهم في أسبانيا وغالة، وأخذ الشرق بين مد التاريخ وجزره المتباعدة الأجل يستعد لأن يسطر مرة أخرى على الغرب.(10/234)
الفصل السادس
رجال المال
ترى كيف كان الإنتاج والتجارة يمولان؟ لقد كانا يمولان قبل كل شيء ينقد محترم موثوق به في العالم إلى حد كبير. نعم إن النقود الرومانية جميعها قد انحطت قيمتها شيئاً فشيئاً من أيام الحرب البونية الأولى، لأن الخزانة وجدت انه يسهل عليها أن تؤدي ما استدانته الحكومة من المال بسبب الحروب بسماحها بالتضخم الذي ينشأ بطبيعته من ازدياد النقود ونقص السلع. منم ذلك ان الآس وكان في الأصل رطلاً من النحاس انخفض وزنه إلى أوقيتين في عام 241، وإلى أوقية واحدة في عام 202، وإلى نصف أوقية في عام 87 ق. م، وإلى ربع أوقية في عام 60م؛ وفي المائة العام الأخيرة من عهد الجمهورية كان قواد الجند يسكون نقودهم، وكانت هذه النقود في العادة هي الأورى وهو نقد ذهبي كانت قيمته في الغالب مائة سسترس. ومن هذه النقود الحربية جاءت نقود الأباطرة، وقد جرى هؤلاء على سنة قيصر فطبعوا صورتهم على ما يسكونه من النقود رمزاً لضمان الحكومة إياها. وسك السسترس وقتئذ من النحاس بدل الفضة، وجعلت قيمته أربعة آسات (1)، وأنقص نيرون ما كان يحتويه الدينار من الفضة إلى 90% مما كان يجتويه منها قبل، ثم أنقصه تراجان إلى 85%، وأورليوس إلى 75%، وكمودس إلى 70%، وسبتميوس سفيرس Septimius
_________
(1) سنقوم العملة الرومانية حين نشير إلى العهد الذي أعقب حكم نيرون بثلثي قيمتها المعتادة في زمن الإمبراطورية، فيقوم للآس بـ 25 slash100 من الريال الأمريكي، والسسترس بـ 10 slash100 منه، وتالدينار بـ 40 slash100، والتالنت بـ 2. 400 حسب قيمة الريال الأمريكي في عام 1943. وإذ كنا سنغفل في هذا التقويم ما طرأ على العملة الرومانية من اختلافات قليلة، فجدير بالقارئ أن يذكر أن هذا التقويم كله تقريبي.(10/235)
Severus إلى 50%. وأنقص نيرون قيمة الآوريوس من 1 slash40 من الرطل من الذهب إلى 1 slash45، وأنقصها كركلا إلى1 slash50. وصحب هذا التخفيض ارتفاع عام في إثمان السلع، ولكن يلوح ان الدخل ارتفع بنسبة هذا التخفيض وظل يرتفع حتى زمن أورليوس. ولعل هذا التضخم غير الطليق الخاضع لإشراف الحكومة، لم يكن إلا وسيلة سهلة لتخفيف العبء عن المدينين على حساب الدائنين، لأن هؤلاء لو تركوا وشأنهم لاستطاعوا بفضل ما يمتازون به من كفاية، وما يتاح لهم من فرص، أن يركزوا الثروة في أيد قليلة إلى حد يقف معه دولاب الاقتصاد وينذر بالثورة السياسية. ومن واجبنا أن نعد النظام المالي الروماني من أكثر النظم المالية نجاحاً وثباتاً في التاريخ رغم ما طرأ عليه من تغيرات. ذلك ان معياراً واحداً للنقد ظل قائماً موثوقاً به مدى قرنين من الزمان، وبفضل هذا الثبات راجت التجارة واستثمار المال رواجاً لم يكن له نظير في أي عصر من العصور السابقة.
ومن أجل هذا انتشر الصيارفة في كل مكان، يبدلون النقود بعضها ببعض، ويراجعون الحسابات والودائع ذات الفوائد، ويصدرون التحاويل المالية للمسافرين وتوكل إليهم إدارة أملاك الأفراد وبيعها، وشرائها، واستثمار الأموال، وأداء الديون، وإقراض المال للأفراد والشركات. وكان مصدر هذا النظام المصرفي بلاد اليونان وبلاد الشرق اليوناني، وكان أكثره في أيدي اليونان والسوريين حتى في إيطاليا نفسها وفي غربي أوربا؛ وكان اللفظان اللذان يطلقان على السوري، والمصرفي في غالة مترادفين. وانخفض سعر الفائدة إلى أربعة في المائة لكثرة الغنائم الت يجاء بها أغسطس من مصر، ولكنه عاد فارتفع إلى 6% بعد موته، وبلغ حده القانوني الأقصى وهو 12% قبيل عصر قسطنطين.
ويدل "الذعر" المشهور الذي حدث في عام 33 م على ما وصلت إليه حال المصارف والتجارة في أيام الإمبراطورية، كما يدل على اعتماد كلا النظامين على الآخر. ذلك أن أغسطس سك العملة بلا حساب، وبسط يده في الإنفاق(10/236)
كل البسط، على أساس أن كثرة تداو ل المال، وانخفاض سعر الفائدة، وارتفاع الأثمان، ستبعث النشاط في الأعمال المالية والتجارية. وقد حدث هذا فعلاً ولكن هذه العملية لم يكن من شأنها أن تستمر إلى غير نهاية، ولذلك حدث انتكاس ولما يمض على بدايتها زمن طويل؛ فقد حدث في عام 10 ق. م أن وقف إصدار العملة، وعاد تيبيريوس إلى عكس النظرية السابقة وهي أن خير ضروب الاقتصاد هو أشدها اقتصاداً. ولذلك فرض القيود الشديدة على النفقات الحكومية، وحدد إصدار العملة تحديداً شديداً، وجمع في خزانة الدولة 2. 700. 000. 000. ونشأ عن هذا أن قل تداول النقود قلة زاد أثرها سوءاً نزوح الأموال إلى بلاد الثراء لابتياع الكماليات منها. ونتج عن ذلك انخفاض الأثمان، وارتفاع سعر الفائدة. وعجز المدينون عن الوفاء بديونهم، فباعوا أملاكهم، وقاضى المدينون المرابين، وامتنع الاقتراض أو كاد. وحاول مجلس الشيوخ أن يمنع تصدير رؤوس الأموال فطلب أن يستثمر قدر كبير من ثروة كل عضو من أعضائه في الأراضي الإيطالية، فعمد الشيوخ من أجل ذلك إلى المطالبة بما لهم من الديون، وباعوا أملاك مدينيهم للحصول على الأموال، وازدادت الأزمة سوءاً على سوء؛ ولما ان أبلغ الشيخ ببليوس أسبنثر Publius Spinther مصرف بلبس وأليوس Balbes & Ollius انه لابد له أن يسحب 30. 000. 000 سسترس للوفاء بما يتطلبه القانون الجديد، أعلن المصرف إفلاسه. وحدث في الوقت نفسه أن أفلست شركة بالإسكندرية هي شركة سوثيس وولده Seuthes & Son على أثر ضياع ثلاث سفن لها تحمل التوابل، وانهارت شركة ملكس Malchus للصباغة في مدينة صور، فشاع في طول البلاد وعرضها ان مصرف مكسمس وفيبو Maximus & Vibo الروماني على وشك الإفلاس بسبب ما له من ديون كثيرة على هاتين الشركتين. ولما ان هرع أصحاب الودائع إلى هذا المصرف لسحبها أغلق أبوابه، وحدث بعدئذ في اليوم نفسه أن أجل الدفع مصرف كبير آخر(10/237)
هو مصرف أولاد بتيوس Pettius. ووصلت في الوقت عينه تقريباً أنباء تقول إن مصاريف مالية كبرى في ليون، وقرطاجنة، وكورنثة، وبيزنطية قد أفلست هي الأخرى، وأغلقت مصارف رومة واحداً بعد واحد، ولم يكن من المستطاع اقتراض المال إلا بفوائد أعلى كثيراً من السعر المصرح به قانوناً. واضطر تيبيريوس في آخر الأمر أن يعالج الأزمة بوقف قانون الاستثمار في أرض إيطاليا، وتوزيع 100. 000. 000 سسترس على المصارف لقرضها من غير فائدة لآجال تبلغ ثلاث سنين، بضمان الأملاك العقارية، فاضطر المرابون من الأفراد إلى تخفيض سعر الفائدة، وخرجت الأموال من مخابئها، وعادت الثقة شيئاً فشيئاً إلى السوق المالية والتجارية.(10/238)
الفصل السابع
الطبقات
كان كل إنسان في رومة إلا أقلية لا يعتد بها يعبد المال عبادة جنونية، وكان الناس جميعاً عدا أصحاب المصارف يلعنون المال ويذمونه. من ذلك أن أوفد يقول في أحد كتبه على لسان إله من الآلهة: "ما أقل ما تعرف عن العصر الذي تعيش فيه إذا توهمت أن الشهد أحلى من المال في يدك" (15). وبعد مائة عام من ذلك يشيد جوفنال في سخرية: "بجلال الثروة المقدس أعظم التقديس". وظل القانون الروماني إلى آخر عهد الإمبراطورية يحرم على الشيوخ استثمار أموالهم في التجارة أو الصناعة؛ ومع انهم كانوا يحتالون على هذا التحريم بأن يجيزوا لمعتوقيهم أن يستثمروا لهم المال، فإنهم كانوا يحتقرون وكلاءهم، ويرون ان الحكم بحق المولد هو وحده الذي يليق بهم أن يستبدلوا به الحكم بحق المال أو الأساطير أو السيف. وقد ظلت الانقسامات الطائفية باقية في البلاد بعد ما قام فيها من الثورات، وبعد أن نقص عدد الأشراف نقصاناً كبيراً، واتخذوا لهم ألقاباً جديدة: فأصبح أفراد طبقتي الشيوخ، والفرسان، والحكام، والموظفين، يلقبون "رجال الشرف" honestiores أو رجال المناصب؛ ولقب كل من عداهم "بالأدنياء" humiliores أو "الضعفاء" tenuiores. وكان وقار الشيخ وزهوه يمتزج بهما اعتزازاً بالشرف والكرامة، وكان يعمل في عدد من المناصب بعضها في اثر بعض من غير أجر بل تفرض عليه نفقات طائلة، وكان يضطلع بالواجبات التي تفرضها عليه مناصبه الهامة بدرجة لا بأس بها من الكفاية والاستقامة؛ وينفق من ماله على الألعاب العامة، ويساعد الموالي المحررين من العبيد، ويقتسم بعض ثروته مع الأهلين بضروب الصدقات التي يخرجها في أثناء حياته أو بعد(10/239)
مماته. وإذ كان مركزه يتطلب منه كثيراً من الواجبات، كان يطلب إليه إذا أراد أن ينضم إلى طبقة الشيوخ أو يبقى فيها أن يكون لديه مليون سسترس.
وقد بلغت ثروة أحد الشيوخ وهو نيوس لنتولس Gnaeus Lentulus 400. 000. 000 سسترس، ولكننا إذا استثنينا هذا الشيخ وحده كان أعظم الناس ثراء في رومة هم رجال الأعمال الذين لم يكونوا يستنكفون أن يشتغلوا بالشؤون المالية أو التجارية. وبينما كان الأباطرة ينقصون من سلطان مجلس الشيوخ كانوا يختصون رجال الأعمال بالمناصب الكبرى، ويحمون الصناعة والتجارة والأعمال المالية، واتخذوا معونة الفرسان سنداً للزعامة ضد دسائس الأشراف. وكانت عضوية هذه الطبقة الثانية، طبقة الفرسان، تتطلب من صاحبها أن يكون مالكاً لأربعمائة ألف سسترس، وأن يرشح الزعيم نفسه أعضاء هذه الطبقة؛ ومن أجل هذا كان كثيرون من ذوي الثراء من طبقة العامة.
وكانت هذه الطبقة وقتئذ تتألف من رجال الأعمال الذين لم يرشحوا إلى العضوية في طبقة أخرى، ومن العمال الأحرار المولد، والفلاحين الملاك، والمدرسين، والأطباء، والفنانين والعبيد المحررين. ولم يكن الإحصاء يحدد طبقة الصعاليك حسب أعمال أفرادها بل كان يحددها حسب مولدهم؛ وقد وصفتهم إحدى الرسائل القديمة بأنهم "السوقة الذين لا يقدمون للدولة إلا الأطفال" (52) وكان الكثيرون منهم يهملون في الحوانيت، وفي المصانع، وفي تجارة المدن بأجر يبلغ متوسطه ديناراً (50 slash100 من الريال الأمريكي) في اليوم. وزاد هذا الأجر في القرون التالية، ولكن زيادته لم تكن أسرع من زيادة الأثمان (53). وجدير بنا أل ننسى ان استغلال الأقوياء للضعفاء أمر طبيعي كالطعام والشراب، ولا يختلف عنهما إلا في السرعة؛ وانه لا يخلو منه عصر من العصور ولا مجتمع من المجتمعات أيا كان نوعه وأيا كان نظام الحكم الذي يخضع له؛ ولكن هذا(10/240)
الاستغلال لم يكن في بلد من البلاد أكمل مما كان في رومة القديمة، كما لم تكن الطبقات في بلد آخر أقل تعاطفاً من الطبقات فيها. لقد كان ساكنوها جميعاً في وقت من الأوقات فقراء لا يشعرون بفقرهم، ولكن الفقر والثراء ما لبثا أن وجدا معاً في صعيد واحد، فشعر الفقراء وقتئذ بفقرهم. على أن نظام الإعانات الحكومية والصدقات التي كان السادة يحسنون بها على مواليهم، والوصايا القيمة التي كان يوصى بها الأثرياء أمثال بلبس الذي أوصى لكل ساكن في رومة بخمسة وعشرين ديناراً، كل هذا قد حال بين الأهلين وبين الفقر المدقع. وكاد نظام الطبقات في رومة أن يصبح شبيهاً بنظيره في الهند الحاضرة فيقسم الأمة أقساماً منفصلة متنافرة، ولكن من كان ذا قدرة من الأهلين كان في وسعه أن يتحرر من الرق، وأن يجمع المال، ويرقى إلى المناصب العالية في خدمة الزعيم. وكان ابن العبد المحرر يتمتع بجميع حقوق الأحرار، وكان في وسع حفيده أن يصبح عضواً في مجلس الشيوخ، بل ان حفيد أحد المحررين قد أصبح امبراطوراً بعد قليل من هذا الوقت الذي نتحدث عنه.
وتولى العبيد المحررون في القرن الأول الميلادي كثيراً من المناصب العامة. وكثيراً ما كان يعهد إليهم الإشراف على أموال الإمبراطورية في الولايات، وعلى عمليات المياه في رومة، وعلى مناجم الامبراطور، ومقالع أحجاره وضياعه، وعلى تموين معسكرات الجيش. وكان المحررون أو العبيد، وكلهم تقريباً من اليونان أو السوريين، يديرون شؤون القصور الإمبراطورية، ويتولون أخط والمناصب في مجالس الدولة. وتحولت الصناعات والتجارة الصغرى شيئاً فشيئاً إلى أيدي المحررين، وأصبح الكثيرون منهم على مر الأيام من أصحاب رؤوس الأموال وملاك الأراضي؛ وقلما كان ماضيهم يتيح لهم الفرص لرفع مستواهم الخلقي أو يسمو بأغراضهم وأسباب اهتمامهم، فلما أن حرروا أصبح المال شغلهم الشاغل فلم يكونوا يتورعون عن سلوك أي سبيل توصلهم إليه، أو يراعون في إنفاقه وازعاً(10/241)
من ضمير أو ذوق سليم. وقد ندد بهم بترونيوس Petronius أشنع تنديد في تريملكيو، وسخر سنكا، وان يكن أقل من بترونيوس حدة، بالأثرياء المحدثين الذين يبتاعون مجاميع مزينة من الكتب ولكنهم لا يقرأونها أبداً (54). وأكبر الظن ان بعض هذا الهجاء كان رد فعل مبعثه غيرة طبقة من الناس رأت ان ما كانت تختص به من استغلال الناس والاستمتاع بضورب الترف والملاذ قد أخذ يعتدي عليه هؤلاء المحدثون، ولم يكن في وسعها أن تصفح عن أولئك الذين قاموا يشاركونها في أموالها وسلطانها.
وما من شك في ان ما لقيه المحررون منن نجاح قد بعث بعض السلوى والأمل في نفوس تلك الطبقة التي كانت تقوم بمعظم الأعمال اليدوية في إيطاليا. وقد قدر بلوك Peloch عدد العبيد في رومة حوالي سنة 30 ق. م بما يقرب من 400. 00 أي نحو نصف عدد سكانها جميعاً، وقدر عددهم في إيطاليا بنحو 1. 500. 000. وإذا جاز لنا أن نصدق ثرثرة أثينوس فان بعض الرومان كان يمتلك الواحد منهم 20. 000 عبد (55). ومن أكبر الشواهد على كثرتهم أن مجلس الشيوخ قد رفض اقتراحاً عرض عليه يرمي إلى إلزام العبيد بأن يلبسوا زياً خاصاً، وكان سبب الرفض خوف المجلس أن يدركوا بذلك كثرة عددهم. وقدر جابينوس نسبة العبيد إلى الأحرار في برجموم Pergamum حوالي سنة 170م بواحد إلى ثلاثة أي 25%، وأكبر الظن ان نسبتهم في المدن الأخرى لم تكن تختلف كثيراً عن هذه النسبة (56). وكان ثمن العبد يختلف من 330 سترس يبتاع بها من يعمل في الضياع، إلى سبعمائة ألف (105. 000ريال أمريكي) التي ابتاع بها ماركس أسكورس Marcus Scaurus دفنيس Daphnis النحوي (57). وكان متوسط ثمن العبد في الوقت الذي نتحدث عنه 4000 سسترس (400ريال)، وكان ثمانون في المائة من العمال في الصناعة وفي تجارة الأشتات من العبيد، كما كانت معظم الأعمال اليدوية والكتابية في المصالح(10/242)
الحكومية يؤديها "عبيد عوميون" Servi Publici. أما عبيد المنازل فكانوا أنواعاً لا حصر لها، كما كانت مراكزهم وأعمالهم كثيرة متنوعة: كانوا يقومون بخدمة سادتهم، وكانوا صناعً يدويين، ومعلمين خصوصيين، وطهاة وحلاقين، وموسيقيين، ونساخين، وأمناء مكاتب، وفنانين، وأطباء، وفلاسفة وخصياناً، وغلماناً حساناً أقل ما يقومون به من الأعمال أن يكونوا سقاة، ومقعدين يسلون سادتهم بأجسادهم المشوهة. وكانت في رومة سوق خاصة يستطيع الإنسان أن يبتاع فيها عبداً أعرج، وأقطع الذراع، أو ذا أعين ثلاث، أو طويلاً مفرطاً في الطول، أو قزماً أو خنثي (58). وكان عبيد المنازل يضربون أحياناً وأحياناً يقتلون، وقد قتل والد نيرون عبيده لأنهم أبوا أن يشربوا من الخمر القدر الذي يرغب فيه (59). ويصف سنكا في فقرة له غاضبة "العذراء الخشبية وغيرها من آلات التعذيب، والجب وغيره من السجون، والنيران التي كانت توقد في الحفر حول أجسام المساجين، والخطاطيف التي كانت تجر بها جثثهم، والأغلال الكثيرة الأنواع، وضروب العقاب المختلفة، واقتلاع الأعضاء وكي الجباه". ويلوح أن هذه كلها كان يلقاها عبيد المزارع. ويصف جوفنال سيدة كان عبيدها يضربون واحداً بعد واحد أثناء تصفيف شعرها، ويصور أوفد سيدة أخرى تدفع دبابيس الشعر في ذراعي خادمة لها، ولكن هذه القصص يبدو عليها أنها من اختراع الأدباء، ومن واجبنا أل نعدها من الحقائق التاريخية المقطوع بصحتها.
ونحن معرضون لخطأ المبالغة في قسوة الماضي لنفس السبب الذي يحملنا على المبالغة في جرائم الحاضر وفساد أخلاقه ـ ذلك بأن ندرة القسوة تجعلها طريفة مستملحة. والحق ان متاعب عبيد البيوت أيام الإمبراطورية قد أخذت تقل شيئاً فشيئاً على أثر قبولهم أعضاء في الأسر التي كانوا يخدمونها، وبالإخلاص المتبادل بينهم وبين سادتهم، وبالعادة الطريفة عادة أن يقوم(10/243)
السيد بخدمة عبيده في بعض الأعياد، وبما كان يضمنه العبد من عم لدائم في خدمة سيده قل ان يكون له نظير في هذه الأيام. ولم يكن العبيد يحرمون من مسرات الحياة العائلية؛ وتدل شواهد قبورهم على انهم لم يكونوا يقلون رحمة وشفقة عن الأحرار. انظر مثلا إلى ما كتب على قبر واحد من أبنائهم: "لقد أقام والدا يوكوبيون Eucopion هذا الأثر لأبنهما الذي عاش سنة أشهر وثلاثة أيام؛ كان فيها أظرف الأطفال وأكثرهم إدخالاً للسرور على قلوب من حولهم؛ ولقد كان أكبر أسباب سعادتنا وان لم يكن قادراً على الكلام". وثمة شواهد أخرى تدل على ما كان بين السادة والعبد من حب وعطف. من ذلك أن أحد الأسياد يجهر بأن خادمه الميت كان عزيزاً عليه كولده، وان أحد الشبان النبلاء يبدي حزنه الشديد على موت مربيته، وان مربية أخرى تظهر حزنها لموت طفل ترعاه، وان سيدة متعلمة أقامت نصباً تذكارياً جميلاً لأمين مكتبتها. وقد كتب استاتيوس Statius " قصيدة إلى فلافيوس أورسس Flavius Ursus يعزيه في موت عبد عزيز عليه". ولم يكن من غير المعتاد أن يخاطر عبد بحياته لحماية سيده، ومنم كثيرون صاحبوا سادتهم في منفاهم طائعين مختارين، ومنهم من ضحوا بحياتهم من أجل سادتهم. ومن النساء من حررن عبيدهن وتزوجنهم، ومن الرجال من كانوا يعاملونهم معاملة الأصدقاء، وكان سنكا يأكل معهم. وقد كان للأخلاق الرقيقة، والحس المرهف، وعدم وجود فارق في اللون بين السيد والعبد، والمبادئ الفلسفة الرواقية، وللعقائد الدينية التي جاءت من بلاد الشرق والتي لم تكن تعرف الفروق بين الطبقات، كان لهذه كلها نصيب في تقليل الرق وتحسين حال الأرقاء؛ ولكن العوامل الأساسية في هذه القلة وذلك التحسين كانت هي المزايا الاقتصادية التي تعود على السيد، وارتفاع ثمن العبيد. وكان كثيرون من العبيد ينالون احترام سادتهم لثقافتهم الراقية، فقد كان منهم مختزلون لخطبهم، ومساعدون لهم في بحوثهم، وأمناء لهم في شئونهم المالية،(10/244)
ومدبرون لأعمالهم؛ وكان منهم فنانون، وأطباء، ونحاة، وفلاسفة. وكان في مقدور العبد في كثير من الأحوال أن يتجر لحسابه الخاص، وأن يعطي جزءاً من مكاسبه لمالكه، وأن يحتفظ بما بقي منها لتكون "ماله القليل Peculium"، أي ملكاً خاصاً له. وكان في وسع العبد بهذه المكاسب، أو بأمانته وإخلاصه في خدمة سيده، أو بالقيام له بخدمة غير عادية، أو بجمال خلقه، أن ينال حريته عادة في ست سنين (66).
وقد تجسن أحوال العمال وأحوال العبيد أنفسهم بعض التحسن بفضل منظمات العمال Collegia. ونحن نستمع قبيل هذا الوقت الذي نتحدث عنه بوجود عدد كبير من هذه المنظمات وبتخصصها إلى حد يدعو إلى الفخر، فكانت هناك هيئات خاصة بالمداحين، والنافخين في الأبواق، والقرون، والناي، والمزمار، وغيرها من الآلات؛ وكانت هذه المنظمات تنشأ عادة على مثال الهيئات البلدية، فكان يقوم عليها عدد من الرؤساء ذوي الرتب المتدرجة؛ وكان لها إله واحد أو آلهة متعدون تقيم له أو لهم معبداً وعيداً سنوياً. وكانت تعمل ما تعمله المدن فتطلب إلى ذوي المال أو ذواته رعايتها، والأخذ بناصرها، ومساعدة أعضائها في رحلاتهم، وإقامة قاعات اجتماعهم ومعابدهم. وكانوا يجدون هذه المساعدة على الدوام. ونحن نخطئ إذا ظننا أن هذه المنظمات كانت شبيهة باتحادات العمال في هذه الأيام. وخير ما نتصورها به هو أن نقول إنها كانت أشبه بالهيئات الأخوية، ذات العدد الذي لا يحصى من المناصب، وألقاب الشرف، وضروب اللهو، والرحلات، والمعاونات المتبادلة البسيطة. وكثيراً ما كان الأغنياء يساعدون على قيام هذه المنظمات ولا ينسونها في وصاياهم. وكان رجال المنظمة كلهم "إخوة" كما كان نساؤهم "أخوات". وكان في مقدور العبد في بعضها أن يجلس أمام مائدة الطعام، أو في مجلس إدارتها، مع الرجل الحر. وكان كل "عضو ذي مقام" يضمن لنفسه جنازة طيبة.(10/245)
وقد وجد الزعماء الشعبيون على اختلاف طبقاتهم في آخر قرن من حياة الجمهورية أن في وسعهم أن يقنعوا هذه المنظمات بأن يقترع أفرادها على بكرة أبيهم للمرشح الذي يقدم لها المال. وبهذه الطريقة أصبحت أدوات سياسية في أيدي الأشراف، وأصحاب المال، والمتطرفين من السياسيين، وكان لتنافسها في الفساد اكبر الأثر في القضاء على الديمقراطية الرومانية. وقد حرم قيصر وجودها ولكنها بقيت رغم هذا التحريم، وحلها أغسطس كلها إلا عدداً قليلاً من المنظمات النافعة، وعاد تراجان فحرم وجودها، ثم سمح أورليوس بوجودها، وما من شك في أنها ظلت قائمة طوال هذه العهود كلها داخل نطاق القانون أو خارجة عنه، ثم امست في آخر الأمر مسالك دخلت منها المسيحية إلى البلاد وتغلغلت في حياة رومة.(10/246)
الفصل الثامن
النظام الاقتصادي والدولة
ترى إلى أي حد حاولت الحكومة في عهد الإمبراطورية أن تسيطر على الحياة الاقتصادية؟ لقد حاولت أن تعيد ملكية الأرض إلى الفلاحين، ولكنها عجزت عن ذلك إلى حد كبير. ولقد كان الأباطرة في هذه الناحية أكثر استنارة من مجلس الشيوخ لأن هذا المجلس كان خاضعاً لسيطرة أصحاب الضياع الكبيرة. وأراد دومتيان أن يشجع زراعة الحبوب في إيطاليا ولكنه لم يفلح فيما كان يرمي إليه، ولهذا كانت إيطاليا على الدوام تخشى الهلاك جوعاً. وأرغم فسبازيان مجلس الشيوخ على أن يرضى به إمبراطوراً بسيطرته على مصر وكانت وقتئذ مصدر القمح الذي تحتاجه إيطاليا، وأراد سبتميوس أن يحذو حذوه باستيلائه على شمالي أفريقية. وكان على الدولة ان تضمن استيراد الحبوب إلى إيطاليا وتوزيعها، وقد اضطرها هذا إلى أن تشرف بنفسها على الاستيراد والتوزيع. وكانت تمنح بعض الامتيازات للتجار الذين يستوردون الحبوب إلى إيطاليا وقد ضمن لهم كلوديوس أن يعوضهم مما عساهم أن يتعرضوا له من الخسارة؛ وأعفى نيرون سفنهم من ضريبة الأملاك، وكان تأخر سفن أسطول الحبوب عن الوصول في موعدها أو تحطمها هو السبب الوحيد الذي يدفع الشعب الروماني إلى شق عصا الطاعة.
وكانت السياسة الاقتصادية الرومانية تسير على مبدأ التخلي Laissez faire مع استتثناء امتلاك الدولة للمناجم ومقالع الأحجار، ومصايد السمك، ورواسب الملح، ومساحات واسعة من الأرض المنزرعة (86). وكانت الفيالق الرومانية تصنع الآجر والقرميد اللازمين لمبانيها، وكثيراً ما كانا(10/247)
يستعملان في المنشآت العامة وخاصة في المستعمرات، والراجح أن صناعة الأسلحة وعدد الحرب كانت وقفاً على دور الصناعة التي تمتلكها الدولة، وليس ببعيد أنه قد وجدت في القرن الأول مصانع تمتلكها الحكومة كالتي نسمع عنها في القرن الثالث (70). وكانت الأعمال العامة تعطي في العادة للمقاولين تراقبهم الحكومة مراقبة بلغت من الدقة حداً اضطرهم إلى القيام بها عادة على الوجه الأكمل، وبأقل ما يستطاع من الارتشاء والفساد (70). ثم أصبحت هذه الأعمال حوالى سنة 80 م بقوم بعدد متزايد منها المحررون من عبيد الإمبراطور، ويعمل فيها عبيد الحكومة، ويلوح أن الغرض الوحيد من إقامة هذه المشروعات في جميع الأوقات هو تخفيف حدة التعطل (71).
وكانت ترفض على التجارة ضريبة يسيرة مقدارها 1% من ثمن المبيعات، ورسوم جمركية قليلة، وعوائد في بعض الأحيان على مرور البضائع فوق الجسور واجتيازها المدن. وكان الإدليون Aediles يراقبون تجارة الأشتات وفق نظام بلغ الغاية في الجودة، ولكننا إذا جاز لنا أن نصدق ما ورد على لسان شخص حانق في بترونيوس فإنهم لم يكونوا خيراً من أمثالهم من الموضفين في غير ذلك الوقت؛ " فقد كانوا يقبلوا الرشوة من الخبازين وأمثالهم من السفلة .. . وأفواه الرأسماليين مفتوحة على الدوام " (72) وكانت الشئون المالية تتأثر بتدخل الحكومة في قيمة العملة، وبمنافسة مالية الدولة للمصاريف، ويلوح أن بيت المال كان يضطلع بأكثر الأعمال المصرفية في الإمبراطورية بأجمعها. فكان يفرض المال بالربا للزراع بضمان محصولاتهم ولسكان المدن بضمان أثاث بيوتهم (73). وكانت الحروب عوناً للتجارة لأنها كانت تفتح لهاموارد وأسواقاً جديدة وسيطرة على الطرق التجارية. من ذلك أن حملة جالس Gallus على بلاد العرب فتحت الطرق إلى بلاد الهند وتغلبت على منافسة العرب والبارثيين. وكان بلني(10/248)