عنهم. وكانوا في القرن الرابع يكسبون المال الكثير برفع القضايا - أو على الأصح بالتهديد برفعها - على الأغنياء لاعتقادهم أن المحاكم الشعبية لا تميل إلى تبرئة من يستطيعون أداء الغرامات الكبيرة (1). وكانت نفقات المحاكم تغطيها في الغالب الغرامات التي تفرض على من يدانون من المتقاضين. كذلك كان يُحكم بالغرامة على من يعجزون من المدعين عن إثبات ما يوجهون من التهم إلى خصومهم؛ فإذا لم ينالوا خمسة على الأقل من أصوات القضاة كانوا عرضة لأن يُحكم عليهم بالضرب بالسياط أو بغرامة كبيرة تبلغ ألف دراخمة (نحو ألف ريال أمريكي). وكان كل طرف من المتقاضين يدافع بنفسه عن قضيته، وكان عليه أن يعرض بنفسه قضيته للمرة الأولى. فلما أن تعقدت الإجراءات القضائية، وتبين المتقاضون تأثر القضاة بعض الشيء ببلاغة الألفاظ، نشأت عادة استخدام خطيب أو رجل بليغ متضلع في القانون، يؤيد المدعي أو المدعى عليه، أو يُحضّر باسم من يستخدمه وبالنيابة عنه خطبة يستطيع المتقاضي نفسه أن يقرأها أمام المحكمة، ومن هؤلاء المدافعين البلغاء نشأ المحامون. وفي وسعنا أن نتبين قدم المحاماة في بلاد اليونان من عبارة في أقوال ديوجين ليرتيوس Diogenes Laertius وهي أن باياس Bias، حكيم بريني Priene كان محامياً بليغاً في القضايا، وأنه كان على الدوام يحتفظ بمواهبه لمن كان الحق في جانبه. وكانت المحاكم تستخدم بعض هؤلاء المحامين ليشرحوا لها القانون Exegetai، وذلك لأن الكثير من القضاة لم يكونوا أكثر علماً بالقوانين من المتقاضين أنفسهم.
وكانت الأدلة تُقدم عادةً مكتوبة، ولكن كان على الشاهد أن يَحضُر بنفسه ويقسم بأن ما يشهد به صحيح دقيق حين يتلو كاتب الجلسة أو الجراماتيوس
_________
(1) لقد شكى كريتو Crito أحد أصدقاء سقراط الأغنياء من أن الذي يرغب في أن يعيش عيشة هادئة مسالمة في أثينة يلقى في ذلك عناء كبيراً، ويقول: " يوجد في هذا الوقت بالذات أناس يرفعون قضايا عليّ، وليس ذلك لأني ظلمتهم، بل لأنهم يظنون أني أفضل أداء مبلغ من المال لهم عن تحمل عناء الإجراءات القانونية".(7/32)
Grammateus شهادته على القضاة. ولم يكن الشهود يناقشون، وكانت شهادات الزور كثيرة إلى حد يجعل المحكمة في بعض الأحيان تقضي بما يناقض الشهادة التي أقسم الشاهد على صدقها. ولم تكن شهادة النساء والقاصرين تقبل إلا في قضايا القتل، أما الأرقاء فلم تكن تُقبل شهاداتهم إلا إذا انتزعت منهم بالتعذيب، فقد كان من المسلم به عند الأثينيين أنهم سيكذبون إذا نجوا من التعذيب. وتلك وصمة في جبين الشرائع اليونانية ووحشية شاءت الأقدار أن تزداد قسوة في السجون الرومانية، وفي حجرات محاكم التفتيش، ولعلها لا تقل عما يحدث في الحجرات السرية التابعة لمحاكم الشرطة في وقتنا الحاضر. وكان تعذيب المواطنين محرماً في عصر بركليز، وكان كثيرون من ملاك الرقيق لا يسمحون أن يستخدم أرقاؤهم شهوداً في القضايا ولو كانت قضاياهم هم أنفسهم، وكان الحكم فيها لمصلحتهم موقوفاً على أداء شهادتهم. وكانوا يلزمون من يتسبب في إحداث عاهة مستديمة لأحد الأرقاء بتعويضه عنها (46).
وكانت العقوبات المقررة هي الضرب، والغرامة، والحرمان من الحقوق السياسية، والكي بالنار، ومصادرة الأموال، والنفي، والإعدام، وقلما كان المذنبون يعاقبون بالسجن، وكان من المبادئ المقررة في القانون اليوناني أن يعاقب العبد في جسمه، وأن يعاقب الحر في ماله، ونرى في رسم على إحدى المزهريات عبداً معلقاً من ذراعيه وساقيه يُضرب بالسياط ضرباً خالياً من الرحمة (47). وكانت الغرامات هي العقوبة التي تفرض عادةً على المواطنين. وكانت تقدر بدرجات تعرض الدمقراطية الأثينية لأن تُتهم بأنها كانت تملأ خزائنها بالمال عن طريق الأحكام الظالمة. على أنه كان يسمح في كثير من الحالات للمحكوم عليه هو وصاحب الحق أن يقدرا بأنفسهما الغرامة أو العقوبة اللتين يريان أنهما عادلتان، ثم تختار المحكمة إحدى العقوبتين المقترحتين؛ وكان القتل، وانتهاك حرمة المعابد، وخيانة الوطن، وبعض الجرائم التي تبدو في نظرنا جرائم صغيرة،(7/33)
يعاقب عليها بمصادرة الأموال والإعدام معاً؛ ولكن كان من المستطاع عادةً تجنب الحكم بالإعدام قبل صدوره، بالنفي الاختياري وترك الأملاك. وإذا رأى المتهم أن الهرب يزري به، وكان مواطناً، نُفذ فيه الإعدام بأقل الوسائل إيلاماً له، وذلك بأن يقدم له عصير الشوكران، وهو العقار الذي يخدر الجسم تدريجا ابتداءً من القدمين إلى أعلى أجزاء الجسم، ثم يقضي على من يتعاطاه حين يصل إلى قلبه. أما الأرقاء فقد كانت عقوبة الإعدام تنفذ فيهم أحياناً بالضرب الوحشي (48). وكان يحدث أحياناً أن يُلقى المحكوم عليه قبل إعدامه أو بعده من فوق صخرة عالية إلى حفرة تعرف عندهم باسم البرثرون Barathron. وإذا ما صدر الحكم بإعدام قاتل نفذ بحضور أقارب المقتول استجابةً لعادة الانتقام القديمة في مظهرها وروحها.
ولم تبلغ الشرائع الأثينية ما كنا نتوقعه لها من الاستنارة، وهي لا تسمو كثيراً عن شرائع حمورابي؛ وعيبها الأساسي أنها تُقصر الحقوق القانونية على الأحرار الذين لا يكادون يتجاوزون سبع السكان، وحتى النساء والأطفال كانوا خارجين عن نطاق المواطنين أصحاب الحقوق. ولم يكن في وسع النزلاء، أو الأجانب، أو الأرقاء أن يرفعوا الدعاوى إلى المحاكم إلا عن طريق مواطن يأخذهم في كنفه. وكان ابتزاز المال بطريق الإرهاب، وتعذيب العبيد المتكرر، والحكم بالإعدام في كثير من الجرائم الصغرى، والشتائم الشخصية في المناقشات القضائية، وتشتت التبعة القضائية وإضعافها بسبب هذا التشتت، وتأثر المحلفين بالبلاغة الخطابية، وعجزهم عن الحد من انفعال الساعة بعلمهم بماضي القضية وتقديرهم الحكيم لنتائجها المستقبلية، كان هذا كله وصمة لنظام أثينة القضائي، الذي كانت تحسدها عليه سائر بلاد اليونان للينه وعدالته إذا قيس إلى غيره من النظم القضائية، والذي كان نظاماً عملياً موثوقاً به إلى حد أمكنه أن يبسط حمايته على الحياة وعلى الأملاك، وهي الحماية التي لا غنى عنها للنشاط الاقتصادي والرقي الأخلاقي. وفي وسعنا أن نقدر ما كان للقانون الأثيني من شأن عظيم إذا عرفنا(7/34)
ما كان يشعر به كل أثيني تقريباً من احترام عظيم له؛ فقد كان القانون في اعتقاده هو روح المدينة، ومصدر سعادتها وقوتها. وخير ما نحكم به على شرائع أثينة هو تهافت غيرها من دول اليونان على استعارة الجزء الأكبر منها، وفي ذلك يقول إيسقراط Isocrates: " ليس ثم من ينكر أن شرائعنا مصدر كثير من الخير العظيم في حياة البشرية" (49). ففي أثينة نجد للمرة الأولى في التاريخ حكم القوانين لا حكم الناس.
وقد ظل القانون الأثيني منتشراً في جميع أنحاء الإمبراطورية الأثينية التي يبلغ عمرها مليونين من الأنفس ما دامت هذه الإمبراطورية قائمة، أما في خارج دائرة هذه الإمبراطورية فلم يكن لبلاد اليونان نظام قضائي واحد تخضع له بأجمعها؛ وإن الصورة التي تنطبع في أذهاننا عن القانون الدولي في أثينة القرن الخامس لتبلغ من الضعف ما تبلغه صورة هذا القانون في عالم هذه الأيام. لكن التجارة الخارجية تتطلب بعض الأنظمة القانونية. ويقول دمستين إن المعاهدات التجارية قد بلغت في أيامه درجة من الكثرة أصبحت معها القوانين التي تخضع لها المنازعات التجارية "واحدة في كل مكان" (50). وكانت هذه المعاهدات تنص على التمثيل القنصلي، وتضمن تنفيذ العقود، وتجعل الأحكام الصادرة في إحدى الدول الموقعة على المعاهدة نافذة في سائر الدول الموقعة عليها (51). على أن هذا لم يقضِ على القرصنة، فقد كانت تنتشر إذا ما ضعُفَ الأسطول المسيطر على البحار، أو تراخى في مراقبتها. ولقد كانت هذه اليقظة الخارجية الثمن الذي يشتري به الأهلون الأمن والنظام والحرية جميعاً؛ وكانت الفوضى رابضة كالذئب حول كل دولة مستقرة، تتربص بها، وتترقب ثغرة من الضعف تنفذ منها إليها. وكانت بعض الدول اليونانية ترى أن من حق المدينة أن توجه الحملات لتنهب أملاك غيرها من المدن وأهليها، إذا لم تكن ثمة معاهدة تنص صراحة على تحريم هذه الحملات (52). وقد أفلح الدين في تحريم الاعتداء على الهياكل ما لم تتخذ قواعد حربية، وفي(7/35)
حماية الوفود والحجاج الذاهبين إلى مشاهدة الأعياد اليونانية الجامعة، وفي فرض صدور إعلان رسمي بالحرب قبل بدء القتال، وفي قبول الهدنة إذا طلبها أحد الطرفين المتقاتلين لإعادة من يُقتلون في المعارك إلى بلادهم ودفنهم. وكانت الأسلحة المسمومة لا تستعمل بحكم العادة المألوفة، وكان الأسرى عادةً يُتبادلون أو يُفتدون، وكان الفداء المعترف به ميناءين - ثم أصبح ميناء واحدة (نحو مائة ريال أمريكي) - لكل أسير (53). وكانت المعاهدات كثيرة العدد، وكان المتعاهدون يُقسمون الأيمان المغلظة على احترام نصوصها، ولكنها كانت تخرق على الدوام تقريباً. وكانت المحالفات كثيرة، وكانت تؤدي أحياناً إلى إيجاد أحلاف دائمة، كحلف دلفي الاثني عشري (الأمفكتيوني) في القرن السادس، والحلفين الآخي والإيتولي في القرن الثالث. وكانت مدينتان في بعض الأحيان تجامل كلتاهما الأخرى بأن تمنح أحرار أختها حقوق المواطنين فيها. وكان التحكيم الدولي يحدث أحياناً، ولكن كان في وسع الطرفين المحتكمين أن يرفضا نتيجته أو يتجاهلاها. ولم يكن اليوناني يشعر بأي التزام أدبي نحو الأجانب أو بأي التزام قانوني إلا إذا كان بلداهما مرتبطين بمعاهدة، وكان هؤلاء في عرفه برابرة ( Barbaroi) (1) . ولم يكن اليونان يقصدون بذلك أنهم "همج". Barbarian بالمعنى الذي نفهمه نحن من هذا اللفظ بالضبط، بل كانوا يفهمون منه "الأجانب" أو الغرباء الذين يتكلمون لغة غريبة غير مألوفة. ولم ترقَ بلاد اليونان الرقي الذي تدرك به وجود قانون أخلاقي يشمل الجنس البشري بأكمله إلا على يد الفلاسفة الرواقيين في العصر الذي اصطبغت فيه بلاد الشرق الأدنى بالصبغة اليونانية العالمية.
_________
(1) هذه الكلمة وثيقة الصلة بكلمة بربرة Barbara السنسكريتية وكلمة بلبوس Balbus اللاتينية، وكلتاهما تعني التمتمة أو التلعثم في النطق. قارن أيضاً لفظ Babble الإنجليزي. وكان اليونان يفهمون من لفظ بربروس Barbaros غرابة الحديث أكثر مما يفهمون منه نقص الحضارة، ويستعملون لفظ بربرزموس Barbarismos في المعنى الذي نستعمل فيه نحن تقليداً لهم لفظ Barbarism أي تشويه الأجنبي أو نصف الأجنبي للمصطلحات اللغوية عند إحدى الأمم.(7/36)
4 - النظام الإداري
حلت القرعة منذ عام 487 أو قبله محل الانتخاب في اختيار الأركونين، ذلك أنه كان لا بد من إيجاد طريقة ما لمنع الأغنياء أن يجدوا سبيلهم إلى هذا المنصب بالمال، ومنع السفلة أن يصلوا إليه بالملق والدهان. وأرادوا مع هذا ألا يجعلوا الاختيار وليد المصادفة المحضة، فكانوا يفرضون على جميع من تقع عليهم القرعة أن يجتازوا قبل القيام بواجباتهم اختباراً صارماً في الأخلاق ( Dokimasia) أمام المجلس أو المحاكم. فكان على الطالب أن يثبت أنه من أبوين أثينيين، وأنه سليم من العيوب الجسمية والخلقية، يكرم أسلافه ويقوم بواجباته العسكرية، ويؤدي الضرائب كاملة. وكانت حياته كلها في هذه المناسبة عرضة للاتهام من أي مواطن. وما من شك في أن التعرض لهذين الفحص والاتهام كان يرهب أدنياء الناس غير الجديرين بهذا المنصب. فإذا اجتاز الأركون هذا الاختبار كان عليه أن يقسم بأنه سيضطلع بأعباء منصبه على خير وجه، وبأنه سيقدم للآلهة تمثالاً من الذهب بالحجم الطبيعي إذا قبل هدية أو رشوة (54) من أحد. على أن ما كان للمصادفة من أثر كبير في اختيار الأركونين التسعة ليدل على ما آل إليه هذا المنصب من الصغار بعد أيام صولون، فقد أصبحت اختصاصاته في الوقت الذي نتحدث عنه لا تعدو العمل الإداري الرتيب، ولم يكن الأركون باسليوس الذي ظل يحمل لقب الملك من غير أن يؤدي عمله أكثر من كبير الموظفين الدينيين في المدينة. وكان على الأركون أن يحصل على اقتراع بالثقة من الجمعية، وكان في وسع أي إنسان أن يعرض أعماله ويستأنف أحكامه إلى البول أو الهيلية؛ وكان في مقدور أي مواطن أن يتهمه بسوء استخدام سلطته، وإذا انتهت مدة توليه منصبه، بحثت أعماله الرسمية، وحساباته، ووثائقه، لجنة من الحاسبين مسئولة أمام المجلس، وكان معرضاً لأشد العقاب، الذي كان يصل(7/37)
أحياناً إلى الإعدام، إذا تبين أنه أساء العمل أيام توليه منصبه. أما إذا نجا من هذا الإرهاب الدمقراطي فإنه يصبح بعد انتهاء العام الذي تولى فيه منصبه عضواً في الأريوبجوس، ولكن هذه العضوية أضحت في القرن الخامس منصباً فخرياً عديم القيمة لأن هذه الهيئة فقدت وقتئذ كل ما كان لها من سلطان.
ولم يكن الأركونون إلا هيئة من هيئات كثيرة تشترك كلها في تصريف شئون المدينة الإدارية تحت إشراف الجمعية والمجلس والمحاكم. ويذكر أرسطاطاليس خمساً وعشرين من هذه الهيئات المختلفة، ويقدر عدد الموظفين الإداريين في المدينة بسبعمائة موظف. وكان هؤلاء كلهم تقريباً يُختارون كل عام بطريق القرعة، ولم يكن في وسع أي إنسان أن يكون عضواً في لجنة بعينها أكثر من مرة واحدة، ولذلك كان كل مواطن يأمل أن يشغل منصباً كبيراً في المدينة عاماً على الأقل في أثناء حياته؛ ذلك أن أثينة لم تكن تؤمن بطريقة الحُكم على أيدي الخبراء الأخصائيين.
وكانت المناصب العسكرية أكثر أهمية في نظرهم من المناصب الدينية، ولذلك لم يكن القواد Strategoi العشرة يُختارون بالقرعة بل كانوا يُنتخبون انتخاباً علنياً في الجمعية، وإن كانوا هم أيضاً لا يبقون في مناصبهم أكثر من عام واحد، وإن كانوا عُرضة لأن يُفحص عن أعمالهم وأن يُعزلوا من مناصبهم في أي وقت من الأوقات. وكانت الكفاية لا حب الشعب هي السبيل إلى التقدم والرقي في هذه المناصب. وقد برهنت الأكليزيا في القرن الرابع على حسن إدراكها للأمور باختيارها فوشيون Phocion قائداً خمساً وأربعين مرة، على الرغم من أنه كان أبغض الناس للجمهور الأثيني، وأنه لم يكن يخفي احتقاره للجماهير. وزادت مهام القواد بازدياد العلاقات الدولية، حتى أصبحوا في أواخر القرن الخامس لا يشرفون على شئون الجيش والأسطول فحسب، بل صاروا هم الذين يفاوضون الدول الأجنبية ويشرفون على إيرادات المدينة ونفقاتها. ومن أجل هذا كان(7/38)
القائد الأعلى المعروف باسم الاسترتجوس أوتوكراتور Strategos Autokrator أقوى رجال الحكومة؛ وإذا كان من المستطاع انتخابه لهذا المنصب أعواماً متتالية، فقد كان في وسعه أن يخلع على سياسة الدولة استمراراً في الأهداف لم يكن دستورها ليمكنها منه لولا هذا المنصب الدائم. وبفضله استطاع بركليز أن يجعل أثينة مدى جيل كامل ملكية دمقراطية، حتى استطاع توكيديس أن يقول عن السياسة الأثينية إنها دمقراطية بالاسم ولكنها حكومة يسيطر عليها أعظم مواطن في المدينة.
وكانت الخدمة في الجيش ملازمة لحق الانتخاب، فقد كان على كل مواطن أن يعمل في الجيش، وكان معرضاً حتى يبلغ الستين من عمره لأن يُجَنَّد للقتال في أية حرب تستعر نارها. ولكن الحياة الأثينية لم تكن حياة عسكرية، فلم يكن هناك تدريب عسكري يستحق الذكر بعد الفترة الأولى التي يقضيها الشاب في هذا التدريب، ولم يكن فيها اختيال بالحلل الرسمية أو تدخل من قبل الجند في أعمال السكان المدنيين. وكان الجيش في الميدان يتألف من فرق المشاة الخفيفة، وكانت كثرتهم من المواطنين الفقراء، يحملون الرماح والمقاليع؛ وفرق المشاة الثقيلة أو الهبليت، وتتألف من المواطنين الأغنياء الذين تمكنهم مواردهم من شراء الدروع والتروس والحراب؛ ومن فرق الفرسان وتتألف من كبار الأغنياء ذوي الدروع والخوذ، حملة الرماح والسيوف. وكان اليونان يفوقون الآسيويين في النظام العسكري، ولعل ما أحرزوه من انتصارات عسكرية مجيدة يرجع إلى أنهم جمعوا إلى الطاعة في الميدان محافظتهم الشديدة على استقلالهم في الشؤون المدنية. غير أنه لم يكن عندهم مثل إباميننداس وفليب ما تستطيع أن تسميه علم حرب، أو معرفة بفنونها وحركاتها العسكرية. وكانت مدنهم مسورة في العادة، وكان الدفاع عند اليونان- كما هو عندنا اليوم- أعظم أثراً من الهجوم؛ ولولا هذا لما كانت للإنسان حضارة يستطيع تسجيلها. وكانت الجيوش المحاصرة تأتي بكتل خشبية ضخمة معلقة بسلاسل، يشدون بها الكتل إلى الوراء ثم يدفعونها نحو(7/39)
السور؛ وهذا هو كل ما حدث من التطور في آلات الحصار قبل عصر أرخميدس. أما الأسطول فكانت طريقة الاحتفاظ به أن يُختار في كل عام أربعمائة من الأغنياء امتيازهم الخاص أن يُجندوا بحّارة السفن، ويهيئوا السفينة ذات الثلاثة الصفوف من المجاديف بما يلزمها من أدوات تقدمها لهم الدولة، على أن يؤدوا هم نفقات بنائها وإنزالها في البحر والمحافظة عليها من العطب. وبهذه الطريقة كانت أثينة تحتفظ وقت السلم بأسطول مؤلف من نحو ستين سفينة (55).
وكانت نفقات الجيش والأسطول تستنفذ الجزء الأكبر من مصروفات الدولة. وكانت مصادر الإيراد هي المكوس، وعوائد المرافئ، وضريبة مقدارها اثنان في المائة على الواردات والصادرات، وضريبة الفرضة ومقدارها اثنتا عشرة دراخمة على كل فرد من الأجانب، ونصف دراخمة على كل معتوق ورقيق، وضريبة العاهرات، وضريبة البيوع، والرخص، والغرامات، والأملاك المصادرة، والجزية التي تؤديها الولايات. وقد ألغت الدمقراطية الضريبة التي كانت مفروضة من قبل على الحاصلات الزراعية والتي استمدت منها أثينة مواردها في أيام بيسستراتس لأنها رأت أن هذه الضريبة تحط من كرامة الزراعة. وكانت جباية معظم الضرائب يناط بها الملتزمون يجمعونها لحساب الدولة ويحتفظون لأنفسهم بنصيب منها. وكانت الدولة تحصل على إيراد كبير من استغلال موارد البلاد المعدنية. وكانت في أثناء الأزمات تجبي ضريبة على رؤوس الأموال تختلف نسبتها باختلاف الأملاك. وقد جمع الأثينيون بهذه الطريقة في عام 428 مثلاً مائتي وزنة (تالنت) تبلغ قيمتها بنقود هذه الأيام مليون ريال أمريكي ومائتي ألف ريال لتسد بها نفقات حصار متليني. كذلك كان الأغنياء يُدعَون لأداء بعض الخدمات العامة Leiturgiai كتقديم ما يلزم من المعدات للسفراء الذاهبين في مهام إلى خارج البلاد، وإعداد بعض السفن للأسطول، أو أداء نفقات المسرحيات، أو المباريات الموسيقية، والألعاب. وكان بعض الأغنياء يتطوعون لأداء هذه(7/40)
"الخدمات"، ويُلزم الرأي العام غيرهم بأدائها. وكان مما يضاعف متاعب الأغنياء أن كان في وسع أي مواطن يُطلب إليه أداء إحدى هذه الخدمات العامة أن يفرضها هو نفسه على أي مواطن آخر أو أن يستبدل بها فريضته إذا أثبت أن هذا المواطن الآخر أغنى منه. وكان الحزب الدمقراطي كلما قوي سلطانه يجد مناسبات وأسباباً مطردة الزيادة لاستخدام هذه الوسيلة؛ وكان الماليون، والتجار، والصناع، وملاك الأراضي في أتكا في نظير هذا جادين في البحث عن أحسن الطرق لإخفاء ثروتهم والوقوف في وجه الجباة، وتدبير الثورات.
وقد بلغت إيرادات أثينة في أيام بركليز نحو أربعمائة وزنه (000ر400ر2ريال أمريكي) في العام لا تدخل فيها هذه الهدايا والفرائض، ويضاف إليها ستمائة وزنة ترد من البلاد الخاضعة لها ومن أحلافها. وكان هذا الإيراد يُنفق من غير أن توضع له ميزانية توزِع بنوده وتخصصها لأبواب النفقات المختلفة. وقد زاد المتجمع في خزانة الدولة من الفرق بين الإيرادات والنفقات في أيام بركليز، وبفضل إدارته الاقتصادية الحكيمة، وبالرغم من نفقات الدولة الكثيرة التي لم يسبق لها مثيل، زاد هذا المتجمع زيادة مطردة حتى بلغ في عام 440 ق. م 9700 وزنة (نحو 000ر200ر58 ريال أمريكي) وهو احتياطي يُعد ضخماً في أية مدينة في أي عصر من العصور، كما يُعد وجوده في بلاد اليونان نفسها أمراً عجيباً لأنا لا نكاد نجد فيها ولا نجد في البلوبونيز كلها مدينة أخرى تزيد فيها إيراداتها على نفقاتها (56).
وكانت المدن القليلة التي يتجمع فيها هذا الاحتياطي تودِعه عادةً في هيكل إله المدينة، فكانت أثينة بعد عام 434 تُودِعه في البارثنون. وكان للدولة حق الانتفاع بهذا الاحتياطي وبذهب التماثيل التي تقيمها لإلهها. وقد بلغ مقدار هذا الذهب في تمثال أثينة برثنوس أربعين وزنة (000ر400 ريال أمريكي)؛ وقد وضع في التمثال بحيث يُستطاع إزالته(7/41)
عنه (57). وكانت المدينة تحتفظ في الهيكل أيضاً بالمال الذي تؤديه للمواطنين لِيشاهدوا به المسرحيات والألعاب المقدسة.
تلك هي الدمقراطية الأثينية- أضيق الدمقراطيات وأكملها في التاريخ. لقد كانت أضيقها لقلة عدد من يشتركون في امتيازاتها، وأكملها لأنها تتيح لجميع المواطنين على قدم المساواة فرصة السيطرة بأنفسهم على التشريع وتصريف الشئون الإدارية. وتتكشف عيوب هذا النظام واضحة على مر الأيام، بل إن الناس قد أخذوا يتحدثون بها في أيام أرسطوفان. وكان من أظهر هذه العيوب التي كفرت عنها أثينة بخضوعها لإسبارطة، وفليب، والإسكندر، ورومة، أن قامت فيها جمعية لا تسأل عما تفعل، تدفعها عواطفها، فتقرر أمراً ما في أحد الأيام، لا يعوقها عائق من سابقة أو مراجعة، ثم تعود في اليوم الثاني فتندم أشد الندم على ما فعلت؛ وهي بندمها هذا لا تعاقب نفسها بل تعاقب من أضلوها؛ ومنها قصر السلطة التشريعية على الذين يستطيعون حضور الإكليزيا، وتشجيع الزعماء المهرجين، ونفي القادرين من الرجال نفياً أفقد المدينة عدداً كبيراً من خيرة كبرائها؛ وملء المناصب العامة بالقرعة والدور، وتغيير الموظفين في كل عام، وإشاعة الفوضى في الأداة الحكومية، ومنها نزاع الأحزاب الذي لم ينفك يُحدِث الارتباك في توجيه أعمال الدولة وشئونها الإدارية.
ولكن ما من حكومة إلا وهي ناقصة، منهكة، مقضي عليها آخر الأمر. وليس لدينا من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد بأن الملكية أو الأرستقراطية كانت تستطيع أن تحكم أثينة خيراً من حكومتها هذه، أو أن تحفظ عليها حياتها أطول مما حفظتها الدمقراطية؛ ولعل هذه الدمقراطية المختلة النظام، دون غيرها من أنواع الحكم، هي التي استطاعت أن تطلق تلك الطاقة التي رفعت أثينة إلى أسمى مقام بلغته أمة أخرى في التاريخ. ذلك أن الحياة السياسية، داخل نطاق المواطنية، لم تبلغ قبل ذلك العهد أو بعده،(7/42)
ما بلغته فيه من القوة والابتكار. وأقل ما يُقال في هذه الدمقراطية الفاسدة العاجزة أنها كانت مدرسة: لقد كان المقترع في الجمعية يستمع إلى أقدر الرجال في أثينة؛ وكان ذهن القاضي في المحكمة يُشحذ بإطلاعه على الأدلة ووزنها واستخراج ثمينها من غثها، وكان الموظف يصوغه ويشكله ما يُلقى عليه من تبعة وما يكسبه من تجارب، فينضج عقله وفهمه وقدرته على الحكم. وفي هذا يقول سمنيدس إن "المدينة معلمة الرجال" (58). ولعل هذه الأسباب هي التي جعلت أثينة تقدر رجالاً من طراز إيسكلس، ويوربديز، وسقراط، وأفلاطون. لقد كان تقديرها لرجال من هذا الطراز هو الذي أوجدهم فيها. وفي الجمعية ودور القضاء تكوَّن نظارة دور التمثيل، وكانت هذه الدور على استعداد لاستقبال خير هؤلاء النظارة. ولم تكن هذه الدمقراطية الأرستقراطية نظاماً يفسح الطريق لكل إنسان ليفعل ما يحلو له كما أنها لم تكن رقيباً عتيداً على الأملاك والنظام فحسب؛ بل كانت تشجع بالمال المسرحيات اليونانية وتشيد البارثنون، وتعمل لرفاهية الشعب وتقدمه، وتهيئ له الفرص التي لا تمكنه "من أن يعيش فحسب، بل تمكنه من أن يعيش على خير وجه". ومن أجل هذا فإن التاريخ لا يجد حرجاً من أن يصفح عن جميع خطاياها.(7/43)
الباب الثاني عشر
العمل والثروة في أثينة
الفصل الأول
الأرض والطعام
كان الأساس الذي يقوم عليه صرح هذهِ الدمقراطية وهذهِ الثقافة هو إنتاج الطعام والثروة وتوزيعهما بين الناس. ذلك أن من يقومون من الناس بحكم الدول، والبحث عن الحقيقة، وتأليف الألحان الموسيقية، ونحت التماثيل، وإبداع الصور، وتأليف الكتب، وتعليم الأطفال، وخدمة الآلهة، إنما يستطيعون هذا لأن غيرهم يكدحون لإنتاج الطعام، ونسج الثياب، وبناء المساكن، واستخراج المعادن، وصنع الأدوات النافعة، ونقل البضائع، واستبدال غيرها بها، أو تقديم الأموال اللازمة لإنتاجها أو نقلها. هذا هو أساس الدمقراطية والثقافة في كل مكان.
وعماد المجتمع كله هو الفلاح أفقر الناس فيه وألزمهم له. ولقد كان الفلاح في أتكا يستمتع على الأقل بحقوقهِ السياسية ذلك أن المواطنين وحدهم هم الذين كانوا يحق لهم أن يمتلكوا الأرض، وكان الفلاحون جميعهم تقريباً يمتلكون الأرض التي يفلحونها وكان نظام امتلاك العشيرة كلها للأرض قد اختفى، واستقر نظام الملكية الفردية وتوطدت أركانه. وكانت هذهِ الطبقة من صغار الملاك في أتكا، كما هي الآن في فرنسا وأمريكا، قوة محافظة تعمل على الاستقرار(7/44)
في الدمقراطية، على حين أن سكان المدن الذين لا ملك لهم كانوا يدفعون الدولة على الدوام نحو الإصلاح والتغير. وكانت نار الحرب القديمة العهد بين الريف والمدينة- بين الذين يريدون أثماناً عالية للغلات الزراعية وأثماناً منخفضة للسلع المصنوعة، وبين الذين يطلبون أثماناً منخفضة للسلع المصنوعة وأجوراً عالية أو أرباحاً كبيرة في مجال الصناعة- كانت نار هذه الحرب شديدة الاستعار في أتكا بنوع خاص. وبينما كانت الصناعة والتجارة تُعدان من أعمال العامة التي تزري بصاحبها في نظر المواطن الأثيني، كانت الأعمال الزراعية في اعتقادهِ مشرفة للمشتغل بها لأنها أساس الاقتصاد القومي، والخلق الشخصي القويم وقوة البلاد الحربية؛ وكان أهل الريف ينزعون إلى احتقار سكان المدن ويرون أنهم إما طفيليون مستضعفون أو عبيد أدنياء.
وتربة أتكا غير خصيبة: فثلث مساحتها البالغ قدرها 630. 000 فدان إنكليزي غير صالح للزراعة، والثلثان الباقيان قد أفقر تربتهما تقطيع الغابات، وإنحباس الأمطار وسرعة اكتساح فيضانات الشتاء للطبقة الخصبة السطحية. ولم يكن الفلاحون في أتكا يدخرون جهداً- يبذلونه هم أو أرقاؤهم- للتغلب على هذا الحظ النكد، فكانوا يدخرون ما زاد من الماء على حاجتهم في خزانات ويقيمون الجسور حول المجاري المائية للسيطرة على فيضانها، ويجففون المستنقعات ويستصلحون أرضها الطيبة، ويحفرون الآلاف من قنوات الري لتحمل إلى حقولهم الظمأى قطرات الماء من النهيرات، ولا يملّون من نقل النبات من بيئة إلى بيئة ليحسنوا نوعه ويزيدوا حجمه، ويتركون الأرض بوراً مرة كل سنتين لتستعيد قدرتها على الإنتاج، ويجعلون التربة قلوية بإضافة بعض الأملاح إليها مثل كربونات الجير، ويسمدونها بنترات البوتاسيوم، والرماد، وفضلات الآدميين. وكانت الحدائق والغياض المحيطة بأثينة تستفيد أكبر الفائدة من مجاري المدينة التي كانت(7/45)
تصب كلها في مجرى كبير متصل بخزان عام خارج دبيلون Dipylon، ثم ينتقل ماؤها من هذا الخزان في قناة مبنية بالآجر إلى وادي نهر سفسوس Cephisus وكانوا يخلطون أنواعاً مختلفة من التربة بعضها ببعض ليفيد كل نوع منها الآخر، وكانوا يحرثون الأرض وبعض الخضر البقولية مزهرة فيها لكي تتغذى منها التربة؛ وكانت الأعمال المتصلة بحرث الأرض وتمهيدها، وبذر البذور أو غرس النبات، تجري كلها في فترة الخريف القصيرة، وكان موسم جني الحبوب يحل في شهر مايو، وأما فصل الصيف الجاف فكان موسم الاستعداد والراحة. ومع هذه العناية كلها فإن أرض أتكا لم تكن تنتج إلا 657. 000 بشل من الحبوب في كل عام لا تكاد تكفي ربع سكانها؛ ولولا الطعام المستورد من الخارج لهلكت أثينة بركليز جوعاً؛ وكان هذا هو الذي دفعها إلى الاستعمار وأوجب عليها أن تنشئ لها أسطولاً قوياً تسيطر به على البحار.
وحاول الريف أن يستعيض عن محصولهِ الضئيل من الحبوب بمحصول موفور من الزيتون والعنب. فدُرِّجت جوانب التلال وأجريت لها المياه، وكانت الحُمُر تشجع على قرض أغصان الكروم بأنيابها لتزيد بذلك ثمارها. وكانت أشجار الزيتون تغطي كثيراً من الأراضي في بلاد اليونان في أيام بركليز، ولكن الفضل في نقل أشجار الزيتون إلى هذه البلاد يعود إلى بيسستراتس وصولون. ذلك أن شجرة الزيتون لا تؤتي أكلها إلا بعد ستة عشر عاماً من زرعها، ولا يكتمل نموها إلا بعد أربعين؛ ولولا ما أمد بهِ بيسستراتس الزراع من إعانات لما نمت تلك الشجرة في أرض أتكا. ولقد كان إتلاف بساتين الزيتون في حرب البلوبونيز من الأسباب التي أدت إلى اضمحلال أثينة. والزيتون ذو فوائد كثيرة لليوناني، فعصرته الأولى تمده بالزيت يأكله، والثانية تمده بالزيت يدهن بهِ، والثالثة تعطيه زيتاً يضيء بهِ بيته؛ وما بقي منه بعدئذ يُتخذ وقوداً. وكان الزيتون(7/46)
أثمن غلات أتكا في عصر بركليز، وقد بلغ من عظم شأنهِ أن احتكرت الدولة تصديره، وأن ابتاعت به وبالنبيذ ما كانت تضطر إلى استيراده من الحبوب.
وكانت تُحرّم تصدير التين تحريماً باتاً، لأن التين من أهم مصادر القوة والنشاط لأهل البلاد. وشجرة التين تنمو وتترعرع حتى في التربة الجدباء، وجذورها الكثيرة الانتشار تمتص كل ما عساه أن يوجد في التربة من ماء، وأوراقها القليلة الصغيرة لا تعرضها للتبخر الكثير. وفضلاً عن هذا فإن زارع شجر التين قد تعلم من بلاد الشرق سر إنضاج ثماره بالتلقيح؛ فكان يعلق أغصان شجرة التين البرية الذكر، بين أغصان الشجرة الأنثى المنزرعة، ويترك للحشرات نقل الطلع من الذكر إلى ثمار الأنثى فتزيد في الحجم والحلاوة.
وكانت هذه الغلات الزراعية من الحبوب، وزيت الزيتون، والتين، والعنب، والنبيذ، أهم المواد الغذائية في أتكا. ولم تكن تربية الماشية مورداً للطعام خليقاً بالذِكر؛ وكانت الخيول تربى لتستخدم في السباق، والأغنام لتؤخذ منها الأصواف، والمعز للبن، والحمير، والبغال، والبقر، والثيران للنقل؛ أما الخنازير فكانت تربى بكثرة ليؤكل لحمها؛ وكانوا يعنون بتربية النحل للانتفاع بعسلهِ في عالم خلو من السكر. وكان اللحم من مواد الترف، لا يطعمه الفقراء إلا في أيام الأعياد، وقد اختفت في العهد الذي نتحدث عنه مآدب الأبطال التي كانت تقام في العصر الهومري. أما السمك فكان طعاماً عادياً ومتعة في آن واحد؛ كان الفقير يبتاعه مملحاً ومجففاً والغني يستمتع بلحم "القرش" "وثعبان البحر" طازجاً. وكانت الحبوب تطعم سليقة وخبزاً وكعكاً وكثيراً ما كانت تخلط بعسل النحل. وقلما كان الخبز والكعك يسويان في المنزل بل كان كلاهما يُشترى من بائعات جائلات أو من حوانيت صغيرة، وكانوا يضيفون إليها البيض، والخضر- وخاصة الفاصوليا، والبسلة، والكرنب، والعدس،(7/47)
والخس، والبصل، والثوم. وكانت الفاكهة قليلة؛ ولم يكن البرتقال والليمون من الفاكهة المعروفة. وكان النُّقل من الأصناف المعروفة والتوابل كثيرة الانتشار، وكان الملح يُجمع من ملاحات البحر ويُشترى به العبيد من داخل البلاد؛ وكانوا يصفون العبد الرخيص بأنه "مملح" والعبد الطيب بأنه "جدير بملحه". وكان كل شيء تقريباً يطهى ويُجهز بنار زيت الزيتون وهو بديل ممتاز للبترول. وإذا كان من الصعب الاحتفاظ بالزبد طويلاً في بلاد البحر الأبيض المتوسط فإن زيت الزيتون كان يُستخدم بدلاً منه. وكان يُتفكه بعد الأكل بالعسل، والحلوى والجبن. وبلغ من حبهم للكعك المحشو بالجبن أن دبجوا كثيراً من الرسائل القيمة في وصف هذا الفن الخفي. وكان الماء شرابهم العادي، ولكن ما من دار كانت تخلو من النبيذ، لأنه ما من مدينة أطاقت الحياة من غير المخدرات أو المنبهات. وكانوا يحتفظون في الأرض بالثلج والجليد الطبيعيين ليبردوا بهما النبيذ في أشهر القيظ؛ وكانوا يعرفون الجعة في عصر بركليز ولكنهم كانوا يحتقرونها. واليوناني بوجه عام مقتصد في طعامهِ يقنع بوجبتين في اليوم، ويقول أبقراط: "ومع هذا فثمة كثيرون يستطيعون أن يطيقوا ثلاث وجبات كاملة في اليوم إذا تعودوا هذا (9) ".(7/48)
الفصل الثاني
الصناعة
كانت أرض أتكا تنتج المعادن والوقود كما تنتج الطعام، وكان الأهلون يضيئون بيوتهم بمصابيح جميلة المنظر، ومشاعل يستخدمون فيها زيت الزيتون المكرر أو الراتينج- أو بالشموع. وكانوا يدَّفئون بالخشب الجاف أو الفحم الخشبي، يحرقونه في مواقد متنقلة. وقد عريت الغابات والتلال القريبة من المدن لكثرة ما قُطع من أشجارها للوقود والبناء، حتى أضحت البلاد في القرن الخامس قبل الميلاد تستورد الخشب الذي تحتاجه لبناء البيوت والسفن وصنع الأثاث. أما الفحم الحجري فلم يكن لهُ وجود.
ولم يكن الغرض من التعدين في بلاد اليونان الحصول على الوقود، بل كان غرضه استخراج المعادن، وكانت أرض أتكا غنية بالرخام، والحديد، والخارصين، والفضة، والرصاص. وكانت مناجم لوريوم القريبة من الطرف الجنوبي من شبه الجزيرة "فوارة تندفع منها الفضة، لأثينة" كما يقول إسكلس. وكانت هذه المناجم أكبر ما تعتمد عليهِ الحكومة، فكانت تحتفظ لنفسها بملكية كل ما تحت التربة، وتؤجر المناجم إلى من يستغلها من الأفراد نظير أجر محدد قدره وزنة) تالنت أي 6000 ريال أمريكي (وجزء من أربعة وعشرين جزءاً من غلتها في العام. ولما اكتشفت أولى العروق المربحة في لوريوم عام 483 هرع الناس إلى إقليم المناجم لاستخراج الفضة. ولم يكن يسمح لغير المواطنين بأن يستأجروا تلك المناجم، ولم يكن يقوم بالعمل فيها سوى العبيد. وكان نيشياس Nicias التقي، الذي ساعد بخرافاتهِ على خراب أثينة، يكسب ما يعادل(7/49)
مائة وسبعين ريالاً أمريكياً في اليوم الواحد بتأجير ألف عبد إلى مستغلي المناجم بما لا يزيد على أبولة واحدة) 17 0 من الريال الأمريكي (لكل منهم في اليوم؛ وما أكثر الثروات التي جمعها الأثينيون بهذهِ الطريقة، أو بإقراض الأموال اللازمة لهذا الاستغلال. وكان عدد العبيد في المنجم يبلغ أحياناً عشرين ألفاً، وكان منهم المشرفون عليهم والمهندسون. وكانوا يعملون في نوبات تطول كل منها إلى عشر ساعات، ولم يكن العمل ينقطع ليلاً أو نهاراً؛ فإذا ما تباطأ العبد أو استراح ألهب المشرف عليه ظهره بالسوط، وإن حاول الهرب صُفّدَ بأغلال من حديد، وإذا هرب وألقي القبض عليه كويت جبهته بالحديد المحمي. ولم يكن عرض المنجم يزيد على قدمين، ولم يكن ارتفاعه يتجاوز ثلاث أقدام، وكان العبيد يعملون فيه بالمنقب أو الإزميل والمطرقة، وهم جاثمون على ركبهم، أو منبطحون على بطونهم أو مستلقون على ظهورهم. وكانت الخامات بعد تكسيرها تُنقل في سلال أو أكياس يتناولها رجل من رجل، لأن الممرات لشدة ضيقها لا تسمح لاثنين أن يمر أحدهما بالآخر بسهولة. وكانت الأرباح التي تُجنى من هذهِ المناجم غاية في الضخامة.
وحسبنا دليلاً على هذا أن إتاوة الحكومة منها بلغت في عام 483 مائة وزنة) نحو 600. 000 ريال أمريكي (- وهي ثروة رُزِقتها أثينة من حيث لا تحتسب واستطاعت أن تُنشئ بها أسطولاً تنقذ به بلاد اليونان كلها عند سلاميس. ولقد عاد هذا العمل بالخير والشر معاً حتى على غير العبيد فقد أصبحت خزانة أثينة بسببه تعتمد كل الاعتماد على المناجم فلما أن استولى الاسبارطيون على لوريوم في حرب البلوبونيز، اضطربت أحول أثينة الاقتصادية من أولها إلى آخرها ولما نضب معين المناجم في القرن الرابع كان نضوبها أحد العوامل الكثيرة في اضمحلال أثينة، وذلك لأن أرض أتكا ليس فيها معدن ثمين غير الفضة.(7/50)
وصناعة التعدين تتقدم بتقدم استخراجها. فكانت الخامات المستخرجة من مناجم لوريوم تدق في مهارس ضخمة بمدقات ثقيلة من الحديد يحركها العبيد، ثم تنقل بعدئذ إلى مطاحن تطحنها بين حجرين دوارين شديدي الصلابة، ثم تغربل، ويؤخذ ما ينزل من ثقوب الغربال إلى حيث يُغسل، فيوضع على مناضد مائلة مستطيلة الشكل مصنوعة من الحجر ومغطاة بطبقة رفيعة ملساء من الأسمنت الصلب ويسلط عليه شؤبوب ماء من حوض. ويندفع تيار الماء ثم ينثني بزوايا حادة عندها فجوات تلتقط جزيئات المعدن. ثم يؤخذ ما يتجمع منه فيها ويُلقى في أفران للصهر مجهزة بمنافيخ ترفع حرارتها. وفي قاع كل فرن فتحات ينزل منها المعدن المصهور. ويفصل الرصاص من الفضة برفع حرارة المعدن المصهور فوق بواتق مصنوعة من مادة مسامية وتعريضه بعد ذلك للهواء. وبهذهِ الطريقة السهلة يتحول الرصاص إلى أكسيد الرصاص وتخلص الفضة. وقد برع العمال في عمليتي الصهر والتنقية، كما تشهد بذلك العملة الفضية الأثينية، فإن فضتها نقية إلى درجة 98 في المائة. ولقد أدت لوريوم ثمن ما أنتجته من الثروة، لأن صناعة التعدين تجلب في أعقابها أضراراً تُذهب بكثير من أرباحها. فالنبات يموت والناس يهلكون بتأثير الدخان المنبعث من الأفران، والأماكن المجاورة للمصانع تصبح قفراء جدباء يغطيها التراب والرماد.
أما غير هذهِ الصناعة فلا يكلف من الجهد ما تكلفه؛ وفي أتكا الآن كثير من هذهِ الصناعات غير المجهدة، وهي وإن كانت صغيرة في حجمها دقيقة شديدة التخصص في نوعها، فقد كانت تستخرج الرخام وغيره من الحجارة من محاجرها، وتصنع آلافاً من أشكال الآنية الخزفية، وكانت تدبغ الجلود في مدابغ كبيرة كالتي يمتلكها كليون منافس بركليز وأنيتس الذي وجه التهمة إلى سقراط. وكان من أهلها فوق ذلك صانعو العربات، وبناءو السفن وصانعو السروج وسائر عدد الخيل،(7/51)
والحذاءون، وكان من صانعي السروج مَن لا يصنعون إلا الأعنة ومن الحذائين مَن اختصوا بصنع أحذية الرجال أو النساء. وكان من المشتغلين بحرف البناء نجارون وصانعون للقوالب، وقاطعون للأحجار، ومشتغلون بالمعادن، ومصورون، وطالون للجدران والأخشاب. وكان فيها حدادون وصانعون للأسياف والدروع، والمصابيح، والقيثارات، والطحّانون، والخبازون، والوزامون والسماكون- وجملة القول أنها كانت تحتوي على كل ما تطلبه الحياة الاقتصادية الكثيرة العمل المتنوعة الأشكال، غير الآلية أو المملة. وكانت المنسوجات العادية لا تزال حتى ذلك الوقت تُنسج في المنازل، ففيها كان النساء ينسجن، ويصلحن ثياب الأسرة وفراشها، ومنهن مَن يمشطن الصوف أو يدرن عجلة الغزل، ومنهن مَن يتعهدن الأنوال ومَن ينحنين أمام إطار التطريز. أما المنسوجات الخاصة فكانت تُشترى من المصانع أو تُستورد من خارج البلاد- فالأقمشة التيلية الرقيقة كانت تَرد من مصر، وأمرجوس Amorgos، وتارنتم؛ والأقمشة الصوفية المصبوغة من سراقوصة، والبطاطين من كورنثة، والطنافس من الشرق الأدنى وقرطاجة، وأغطية الفراش الملونة من قبرص وتعلمت نساء كوس في أواخر القرن الرابع حل شرانق دود القز وغزل خيوط الحرير. وأتقنت النساء في بعض المنازل فنون النسيج إتقاناً أمكنهن أن ينتجن أكثر من حاجة أسرهن، فكن يبعن ما زاد على حاجتهن إلى المستهلكين في بادئ الأمر، ثم إلى الوسطاء؛ وكن يستعن بمن يساعدهن، من المعاتيق أو الأرقاء، ونشأت على هذا النحو صناعة منزلية كانت هي الخطوة الأولى في سبيل نظام المصانع.
وبدأ هذا النظام يتشكل في عصر بركليز، وكان بركليز نفسه، كما كان ألسبيديز، يمتلك مصنعاً، ولم تكن هناك آلات، ولكن كان في الاستطاعة الحصول على كثير من العبيد؛ وكان رخص القوة العضلية سبباً في انعدام الحافز(7/52)
إلى صنع الآلات؛ ولهذا كانت دور الصناعة في أثينة "حوانيت صناعة" لا مصانع، ولم يكن في أكبرها، وهو حانوت صنع الدروع الذي يمتلكه سفالوس Cephalus، سوى مائة وعشرين عاملاً، وكان في دار صنع الأحذية التي يمتلكها تمركوس Timarchus عشرة عمال، وفي مصنع دمستين للأساس عشرون وفي مصنعه للعُدد الحربية ثلاثون. ولم تكن هذهِ الحوانيت في بادئ الأمر تنتج إلا لمن يطلب الإنتاج، ثم صارت فيما بعد تنتج للسوق، ثم للتصدير في آخر الأمر وكان حلول النقود محل المقايضة، وانتشار هذهِ النقود انتشاراً واسعاً، مما يسر عليها أعمالها. ولم تكن في البلاد منظمات صناعية، بل كان كل مصنع وحدة مستقلة بذاتها يمتلكها رجل أو رجلان، وكان صاحبه يعمل في كثير من الأحيان إلى جانب عبيده. ولم تكن لديهم علامات تجارية، وكانت الحرف يأخذها الأبناء من الآباء، أو يتعلمها الصبيان عن الرؤساء وكان القانون يعفي الأثينيين من رعاية آبائهم في شيخوختهم إذا لم يعلمهم أولئك الآباء حرفة يشتغلون بها. وكانت ساعات العمل كثيرة، ولكنهم كانوا يعملون على مهل، فكان صاحب المصنع وعماله يعملون من مطلع الفجر إلى ما بعد غروب الشمس، مع إغفاءة قصيرة في وقت الظهيرة صيفاً. ولم تكن هناك إجازات ولكنهم كانت لهم في كل عام ستون عيداً ينقطعون فيها عن العمل.(7/53)
الفصل الثالث
التجارة والمال
إذا أنتج الفرد، أو الأسرة، أو المدينة أكثر من حاجته أو حاجتها، نشأت التجارة. وكانت أولى الصعاب التي واجهت أتكا أن وسائل النقل فيها كثيرة النفقة غير متيسرة، وأن البحر شراك ليس من السهل على سفنها أن تفلت منه. وكانت أحسن طرقها البرية هي الطريق المقدسة الممتدة من أثينة إلى إليوسيس؛ وإن لم تكن أكثر من طين، وإن كانت أضيق من أن تتسع لمرور المركبات. أما القناطر فلم تكن أكثر من معابر غير مأمونة مقامة من حواجز من الطين كثيراً ما تجرفها الفيضانات. وكان حيوان الجر المألوف هو الثور وهو حيوان أوتي من الفلسفة أكثر مما يسمح له بأن يغني التاجر الذي يعتمد عليه في نقل متاجره. وكانت العربات هشة تتحطم على الدوام أو تتعطل عن السير في الوحل وكان افضل منها لديه أن ينقل بضاعته على ظهور البغال، لأنها أسرع من العربات قليلاً، ولأنها لا تشغل ما تشغله لك العربات من الطريق. ولم يكن في بلاد اليونان نظام للبريد، وحتى الحكومات نفسها لم يكن لها مثل هذا النظام، بل كانت تقنع بالعدّائين؛ وكانت الرسائل الخاصة تنتظر إلى أن يتاح لها مَن ينقلها منهم. وكانت الأخبار الهامة تُرسل بالإشارات النارية يتلقفها تل من تل أو بالحمام الزاجل. وكانت في أماكن متفرقة من الطرق نُزل، ولكنها كانت مآوى محببة للصوص والحشرات؛ وحتى الإله ديونيسس في إحدى مسرحيات أرسطوفان يسأل هرقل عن " بيوت الأكل ودور الضيافة التي هي أقل من غيرها بقّاً ".(7/54)
وكان النقل البحري أقل كلفة من النقل البري وبخاصة إذا اقتصر على أشهر الصيف الساكنة الريح، وكان هذا النقل في العادة مقصوراً على تلك الشهور. وكانت أجور السفر قليلة، فكان في وسع الأسرة أن تنتقل من بيرية إلى مصر وإلى البحر الأسود نظير درخمتين) أي ريالين أمريكيين (، ولكن السفن لم تكن تُعنى بنقل المسافرين لأنها صُنعت قبل كل شيء لنقل البضائع أو لشن الحرب أو لهذا الغرض أو ذاك كما تقضي الضرورة. وكانت أهم القوى المحركة هي قوة الريح تملأ الشراع، ولكن العبيد كانوا يُسيّرون السفن بالمجاديف إذا سكنت الريح أو هبت في عكس اتجاه السفن. وكانت أصغر سفن البحار التجارية يُسيّرها ثلاثون مجدافاً، ومنها ما كان له خمسون. وأنزل أهل كورنثة في البحر منذ عام 700 قبل الميلاد أولى السفن ذات الثلاثة الصفوف من المجاديف يعمل بها مائتان من الرجال. وقبل أن يستهل القرن الخامس كانت هذهِ السفن بمقدمها الطويل السامق قد بلغ وزنها 256 طناً، وبلغت حمولتها سبعة آلاف بشل من الحبوب، وأصبحت حديث جميع القاطنين على شواطئ البحر الأبيض المتوسط لأن سرعتها بلغت ثمانية أميال في الساعة.
وكانت ثاني مشاكل التجارة هي العثور على واسطة للتبادل يثق الناس بها، فقد كان لكل مدينة نظامها الخاص في الموازين والمقاييس، وعُملتها التي لا تشاركها فيها مدينة أخرى. وكان على الإنسان عندما يصل إلى أحد التخوم التي تكاد تبلغ المائة عداً أن يبدل نقوده وأن يكون على حذر في هذا التبديل لأن كل حكومة يونانية، عدا حكومة أثينة، كانت تسلب الأجانب عنها أموالهم بتخفيض قيمة نقدها. وفي ذلك يقول يوناني لم يشأ أن يُعرف اسمُه "كان التجار في معظم المدن يضطرون أن ينقلوا على سفنهم بضائع وهم عائدون إلى مدنهم لأنهم لم يكن في وسعهم أن يحصلوا على نقود ذات نفع(7/55)
لهم في أي مكان آخر". وكانت بعض المدن تسك نقوداً من خليط من الذهب والفضة، وينافس بعضها بعضاً في إنقاص ما في هذا الخليط من الذهب. أما الحكومة الأثينية منذ أيام صولون فقد أخذت على نفسها تشجيع التجارة إلى أقصى حد بإيجاد عملة موثوق بها طبعت عليها بومة اثينة؛ وكان قولهم: "يُأخذ البوم إلى أثينة" وهو المثل اليوناني المقابل لقول الإنكليز "يحمل الفحم إلى (1) نيوكاسل" وإذا كانت أثينة قد أبت خلال صروف الدهر أن تخفض من قيمة درخماتها الفضية، فقد كانت سائر بلاد البحر الأبيض المتوسط تقبل وهي راضية هذهِ "البومات" التي أخذت تحل شيئاً فشيئاً محل العملة المحلية في جزائر بحر إيجة. وكان الذهب في هذهِ المرحلة لا يزال سلعة تجارية تُباع بالوزن، ولم يكن وسيلة يُستعان بها على الاتجار، ولم تكن أثينة تسكّه عملة إلا في حالات الضرورة النادرة، وكانت النسبة المعتادة بينه وبين الفضة كنسبة 14 إلى 1. وكانت أصغر النقود الأثينية تُسك من النحاس، وكانت ثمان قطع منها تكوّن أبولة - وهي عملة من الحديد أو البرونز سُميت بهذا الاسم لمشابَهتها للأظافر أو السفود. وكانت ست أبولات تكوّن الدرخمة أي الحفنة؛ والدرخمتان تكوّنان استاتر Stater والمائة درخمة تكوّن مينا Mina وستون مينا تكوّن وزنة Talent وكانت الدرخمة في النصف الأول من القرن الخامس يُبتاع بها بشل Bushel من الحبوب، كما يبتاع بالريال الأمريكي في القرن (2) العشرين. ولم يكن في أثينة عملة ورقية، ولا صكوك حكومية، ولا شركات محاصة، ولا مصفق للأسهم والسندات.
_________
(1) والمقابل للمثل العربي القائل "كبائع التمر إلى هجر". المترجم)
(2) احتسبنا الأبولة في هذا المجلد مساوية في قوتها الشرائية لسبعة عشر جزءاً من مائة جزء من ريال الولايات المتحدة في عام 1938، واحتسبنا قيمة الدرخمة ريالاً وقيمة الوزنزة 6000 ريال. وذلك كله تقريبي بطبيعة الحال لأن الأثمان كانت مطردة الارتفاع طوال التاريخ اليوناني. أنظر الفصل الخامس من هذا الباب.(7/56)
لكن أثينة كان فيها مصارف مالية لاقت صِعاباً شديدة في توطيد دعائمها لأن الذين لم تكن بهم حاجة إلى القروض ينددون بالربا ويرونه جريمة (1)، ويتفق معهم الفلاسفة في هذا الحكم. وكان الأثيني العادي في القرن الخامس ممن يكنزون المال، فكان إذا ادخر شيئاً منه آثر أن يُخبئه بدل أن يودعه في المصارف. وكان بعض الناس يقرضون مدخراتهم نظير رهون بفائدة تتراوح بين 16، 18في المائة، ومنهم مَن يقرضونها من غير فائدة إلى أصدقائهم، أو يودعونها في خزائن الهياكل. وكانت الهياكل تعمل عمل المصارف فتقرض المال إلى الأفراد والحكومات بفائدة معتدلة، وكان هيكل أبلو في دلفي إلى حد ما مصرفاً دولياً لجميع بلاد اليونان. ولم تكن الحكومات تقترض من الأفراد، ولكن الدول كانت في بعض الأحيان يقرض بعضها بعضاً. وفي القرن الخامس بدأ مبدل النقود الجالس أمام منضدته (يقبل المال وديعة لديه، ويقرضه للتجار بفوائد يتراوح سعرها بين 2، و 30 في المائة حسب ما تتعرض له من الأخطار. وبهذهِ الطريقة أصبح ذلك الصراف مصرفياً، وإن كان قد احتفظ إلى آخر تاريخ اليونان باسمه الأول) صاحب المنضدة Trapezite (. وقد أخذ أساليبه عن بلاد الشرق الأدنى، وحسّنها، ونقلها إلى رومة فأسلمتها هذهِ إلى أوربا الحديثة. وما كادت الحرب الفارسية تضع أوزارها حتى أودع ثمستكليز سبعين وزنة) 240. 000 ريال أمريكي (عند فيلوستفانوس المصرفي، بنفس الطريقة التي يعمل بها المغامرون السياسيون لدينا هم في هذهِ الأيام وهذهِ أول إشارة معروفة للأعمال المصرفية خارج المعابد في
_________
(1) ليس الفلاسفة والذين لا يحتاجون إلى القروض هم وحدهم الذين يعدون الربا جريمة، بل إن كثيرين من علماء الاقتصاد في هذه الأيام يرون فيه أضراراً كثيرة تزيد على منافعه وهم يؤيدون برأيهم هذا ما جاءت به الأديان السماوية. (المترجم)(7/57)
تاريخ اليونان. ولما آذن هذا القرن بالانتهاء أنشأ أنتسثنيز Antisthenes وأرخستراتس المؤسسة التي أضحت في عهد باسيون Pasion أشهر المصارف اليونانية التي يملكها الأفراد، وعن طريق هؤلاء الصيارفة كانت الأموال تتداول بحرية وسرعة أكثر من تداولها قبل وجود هذا النظام، وكانت لهذا تيسر من الأعمال أكثر مما كانت تيسره قبل وجودهم. وبفضل هذا التيسير راجت التجارة الأثينية واتسعت أسواقها ونشطت أكثر من ذي قبل.
وكانت التجارة، لا الصناعة ولا الأعمال المالية، روح الاقتصاد الأثيني. ذلك أنه وإن ظل الكثيرون من المنتجين حتى ذلك الوقت يبيعون منتجاتهم إلى المستهلك مباشرةً، فإن عدداً متزايداً منهم كان في حاجة إلى وساطة السوق التي كانت وظيفتها شراء السلع وخزنها حتى يستعد المستهلك لشرائها. وبهذه الطريقة نشأت طبقة من بائعي التجزئة يعرضون بضائعهم في شوارع المدن، أو في مؤخرة الجيوش، أو في الأعياد والاحتفالات العامة، أو يعرضونها للبيع في حوانيت أو "أكشاك" في الأماكن المزدحمة أو غير المزدحمة في المدن. وكان الأحرار والغرباء والأرقاء يذهبون إلى هذه الأماكن ليساوموا التجار ويبتاعوا ما تحتاجه البيوت. وكان من أقسى القيود المفروضة على النساء "الحرائر" في أثينة أن العادات لم تكن تبيح لهن أن يخرجنَ إلى الأسواق ليشترين منها حاجتهنَ.
وتقدمت التجارة الخارجية لبلاد اليونان أسرع من تقدم التجارة الداخلية نفسها، لأن الدول اليونانية أدركت مزايا توزيع العمل بين بعضها البعض الآخر فتخصصت كل منها في إنتاج نوع من المنتجات. فصانع الدروع مثلاً لم يعد ينتقل من مدينة إلى مدينة تلبية لطلب مَن يحتاجه بل أخذ يصنع دروعه في حانوتهِ ويبعثُ بها إلى أسواق العلم القديم. وهكذا انتقلت أثينة في قرن واحد من الاقتصاد المنزلي- الذي يصنع فيهِ كل منزل(7/58)
جميع ما يحتاجهُ تقريبا- إلى الاقتصاد الحضري- الذي تصنع فيهِ كل مدينة جميع ما تحتاجه تقريبا- ثم إلى الاقتصاد الدولي- الذي تعتمد فيهِ كل دولة على ما تستورده من غيرها، والذي لا بد لها فيه أن تصدر من السلع ما تؤدي به أثمان وارداتها. واستطاع الأسطول الأثيني مدى جيلين من الزمان أن يجعل البحر مطهراً من القراصنة، ولهذا ازدهرت التجارة من عام 480 إلى 430 كما لم تزدهر في المستقبل إلا بعد أن قضى بمبي على القرصنة في عام 67. وكانت أرصفة بيرية، ومخازنها، وأسواقها ومصارفها تقدم للتجارة كل ما تستطيعهُ من أسباب التيسير؛ وسرعان ما أضحى هذا الثغر النشيط العامل أهم مراكز التصدير وإعادة الشحن للتجارة المتبادلة بين الشرق والغرب. وفي ذلك يقول إسقراط: " لقد كان من اليسير أن يبتاع الإنسان في أثينة جميع ما يصعب عليهِ أن يجدهُ إلا في أماكن متفرقة سلعة منه في هذه المدينة وسلعة في تلك ". ويقول توكيديدس " إن عظمة مدينتنا تجذب غلات العالم كله إلى مرفئنا، حتى أصبحت ثمار البلاد الأخرى من مواد الترف المألوفة للأثيني كثمار بلده نفسه ". وكان التجار يحملون من بيرية ما تنتجه حقول أتكا وحوانيتها من الخمور، والزيت، والصوف، والمعادن، والرخام، والخزف، والأسلحة، ومواد الترف، والكتب، والتحف الفنية؛ ويأتون إلى بيرية بالحبوب من بيزنطية، وسوريا، ومصر، وإيطاليا، وصقلية؛ وبالفاكهة والجبن من صقلية وفينيقية، وباللحوم من فينيقية وإيطالية؛ والسمك من البحر الأسود؛ والنُّقل من بفلاجونيا؛ والنحاس من قبرص؛ والقصدير من إنجلترا؛ والحديد من شواطئ بحر البنتس؛ والذهب من ثاسوس وتراقية؛ والخشب من تراقية وقبرص؛ والأقمشة المطرزة من بلاد الشرق الأدنى؛ والصدف والكتان والأصباغ من فينيقية؛ والتوابل من قورينة؛ والسيوف من خلقيديا؛ والزجاج من مصر؛ والقرميد من كورنثة؛ والأسرة من طشيوز وميليطس؛ والأحذية(7/59)
والبرنز من اترويا؛ والعاج من بلاد الحبشة؛ والعطور والأدهان من بلاد العرب؛ والرقيق من ليديا وسوريا وسكوذيا. ولم تكن المستعمرات أسواقاً فحسب، بل كانت فوق ذلك وكالات شحن ترسل البضائع الأثينية إلى الداخل، ومع أن مدائن أيونيا قد اضمحلت في القرن الخامس قبل الميلاد لأن التجارة التي كانت تمر بها من قبل تحولت إلى البروبنتس وكاريا أيام الحرب الفارسية وبعدها، فإن إيطاليا وصقلية قد حلتا محلها وأصبحت بلادهما ثغوراً لتصدير ما زاد عن الحاجة من غلات بلاد اليونان الأصلية وسكانها، وفي وسعنا أن نقدر قيمة تجارة بحر إيجة الخارجية إذا عرفتا أن حصيلة ضريبة الخمسة في المائة المفروضة على صادرات مدن الإمبراطورية الأثينية ووارداتها قد بلغت في عام 413 ألفاً ومائتي وزنة، ومعنى هذا أن التجارة قد بلغت قيمتها 144. 000. 000 ريال أمريكي في ذلك العام.
وكان الخطر الكامن وراء هذا الرخاء هو اعتماد أثينة اعتماداً متزايداً على الحبوب المستورة من خارجها؛ ومن ثم كان حرصها على السيطرة على مضيق الهلسبنت والبحر الأسود، وإصرارها على استعمار السواحل والجزائر الواقعة في طريقها إلى المضايق، وحملتها المشئومة على مصر عام 459، وعلى صقلية في عام 415. واعتمادها هذا هو الذي أغراها بتحويل حلف ديلوس إلى إمبراطورية أثينية؛ ولما أن دمر الأسبارطيون الأسطول الأثيني في مضيق الهلسبنت عام 405، كان لابد أن تعاني أثينة آلام الجوع وأن تستسلم نتيجة لهذا التدمير. غير أن هذه التجارة هي التي جلبت الثراء لأثينة، وكانت مع خراج إمبراطوريتها عماد رقيها الثقافي، ذلك أن التجار الذين كانوا ينتقلون مع بضائعهم إلى جميع بقاع البحر الأبيض المتوسط كانوا يعودون إليها بنظرات إلى(7/60)
الحياة تختلف عن نظراتهم قبل خروجهم من بلدهم، وبعقول متيقظة متفتحة؛ وكانوا يأتون معهم بأفكار وأساليب جديدة، يحطمون بها القيود القديمة والخمول القديم، ويستبدلون بالتحفظ الأُسري الذي هو من طابع الأرستقراطية الريفية نزعة فردية تقدمية هي طابع الحضارة التجارية. وفي أثينة التقى الشرق بالغرب وبفضل هذا الالتقاء خرج كلاهما من أساليبه المألوفة العتيدة، وفقدت الأساطير القديمة سيطرتها على نفوس الناس، وزاد الفراغ، وشُجع البحث، ونشأ العلم والفلسفة، وأضحت أثينة أكثر مدن زمانها حيوية ونشاطاً.(7/61)
الفصل الرابع
الأحرار والعبيد
ومَن ذا الذي كان يقوم بهذا العمل كله؟ لقد كان يقوم به في الريف المواطنون: أسرهم وعمال أحرار مأجورون؛ أما في أثينة نفسها فكان يؤدي بعضهُ المواطنون، وبعضهُ العتقاء، ويؤدي الكثير منه الغرباء المهاجرون، ويؤدي معظمهُ الأرقاء. ويكاد أصحاب الحوانيت، والصناع، والتجار، ورجال المصارف، أن يكونوا كلهم من الطبقات التي ليس لها حق الانتخاب، وكان أهل المدينة ينظرون بعين الاحتقار إلى العمل اليدوي، ولا يؤدون منه إلا القليل الذي لا بد لهم من أدائهِ، لأن العمل لكسب العيش كان في اعتقادهم يحط من قدر صاحبهِ، بل إن الأعمال المهنية، وتعليم الموسيقى، والنحت، والتصوير، كان في نظر الكثيرين من اليونان "مهنة دنيئة (1). وهاهو ذا زنوفون يتحدث في زهو وفي غير مجاملة بوصفه واحداً من طبقة الفرسان فيقول:
"إن الجماعات المتمدينة ترى أن ما يسمونه بالفنون الآلية الحقيرة تزري بصاحبها ... وهي محقة في نظرتها هذه؛ ذلك بأن العمل فيها يهلك أجسام القائمين به، سواء فيهم العمال ومن يشرفون عليهم، فهي تضطرهم إلى أن يقضوا وقتهم جالسين في نور ضئيل أو جاثمين أياماً طوالاً أمام الأفران.
_________
(1) بركليز تأليف فلوطرخص؛ ويرى زمرمان في كتابه "مجموعة الأمم اليونانية The Greek Commonwealth" ص272، وفرجسون Ferguson في كتاب "الاستعمار اليوناني" أن احتقار الأثينيين للأعمال اليدوية قد بولغ في وصفه كثيراً؛ ولكن جلتز Goltz في كتابه "بلاد اليونان القديمة تعمل Ancient Greece at Work" ص160 يقول خلاف هذا.(7/62)
وهذا الضعف الجسمي يصحبه على الدوام ضعف نفساني؛ وفوق هذا وذاك فإن ما تتطلبه هذه الفنون الآلية الحقيرة من الوقت لا يترك للمشتغلين بها فراغاً ينفقونه في مطالب الصداقة أو الدولة":
وكان يُنظر إلى التجارة هذه النظرة نفسها، فكان اليوناني الأرستقراطي النزعة أو الفيلسوف لا يعدها إلا وسيلة لجمع المال مع إلحاق الأذى بمن يُجمع منهم؛ وهي في رأي هذا وذاك لا تبغي خلق السلع، بل كل ما تبغيه هو شراؤها رخيصة وبيعها غالية؛ ولهذا فما من مواطن خليق بالاحترام يرضى أن يعمل فيها وإن كان لا يستنكف أن يستثمر فيها ماله ويربح من هذا الاستثمار ما دام يترك لغيره أن يقوم بالعمل. ويقول اليوناني إن الحر يجب أن يتحرر من الواجبات الاقتصادية، وإن عليهِ أن يستخدم العبيد وغيرهم من الناس ليعتنوا بشؤونه المادية، بما في ذلك، إن استطاع، العناية بأملاكهِ وأموالهِ. وهذا التحرر وحده هو الذي يترك له الوقت الكافي للقيام بأعباء الحكم، والحرب، والأدب والفلسفة. فإذا لم توجد هذه الطبقة المتفرغة لهذه الشؤون لم يوجد، كما يرى اليوناني، ذوقٌ راق، ولن يكون في البلاد من يشجع الفنون، ولن تقوم للحضارة قائمة على الإطلاق؛ ذلك أن من يعمل مسرعاً لا يمكن أن يكون متمدناً بحق.
وكان الغرباء الأحرار، الذين ولدوا في بلاد أجنبية واتخذوا أثينة موطناً لهم ولكنهم لا يعدون من مواطنيها، كان هؤلاء الغرباء هم الذين يؤدون في أثينة معظم الأعمال ذات الصلة التاريخية بالطبقة الوسطى، فكان منهم رجال المهن، والتجار، والمقاولون، والصناع، والمديرون للأعمال التجارية والصناعية، وأصحاب الحوانيت، وأرباب الحرف، والفنانون. وقد استقر هؤلاء في أثينة لأنهم وجدوا فيها، بعد تجوالهم في البلاد الأخرى، ما ينشدونه من الحرية الاقتصادية وفرص الحياة والحافز على العمل وبذل(7/63)
الجهود، وهذه أهم في نظرهم من حق الانتخاب. ولهذا كانت أهم الأعمال الصناعية- خارج نطاق التعدين- ملكاً لهؤلاء الغرباء الأحرار، فصناعة الخزف بأكملها كانت في أيديهم، وكانوا يوجَدونَ كلما استطاع الوسطاء أن يحشروا أنفسهم بين المنتج والمستهلك. وكانت شرائع البلد تضايقهم وتحميهم، فكانت تفرض عليهم من الضرائب ما تفرضه على المواطنين، وتُلزمهم بأن يؤدوا خدمات شخصية للدولة، وتجندهم للخدمة العسكرية، وكانوا يؤدون لها ضريبة الفرضة؛ ولكنها كانت تُحرم عليهم امتلاك الأرض والزواج من أسر المواطنين، ولا تسمح لهم بالانضمام إلى الهيئات الدينية أو الالتجاء بأنفسهم إلى المحاكم.
ولكنها كانت ترحب بهم في حياتها الاقتصادية، وتقدر لهم جدهم وحذقهم، وتنفذ لهم عقودهم، وتترك لهم حريتهم الدينية، وتحمي أموالهم من الثورات العنيفة. وكان منهم من يباهون بثروتهم مباهاة سمجة، ولكن كان منهم أيضاً من يشتغلون بالعلوم، والآداب، والفنون، ويمارسون مهنة الطب أو القانون، أو يُنشئون مدارس لتعليم البلاغة والفلسفة، وهم الذين أمدوا بالمال مؤلفي المسرحيات الهزلية في القرن الرابع، وكانوا هم موضوع هذه المسرحيات، وأصبحوا في القرن الثالث هم المثال المُحتذى في آداب المجتمع الهلنستي. وكان حرمانهم من حقوق المواطنة يؤلمهم ويحز في نفوسهم، ولكنهم كانوا يحبون أثينة ويفخرون بانتسابهم إليها، ويؤدون على مضض كثير من الأموال التي تحتاجها للدفاع عن نفسها ضد أعدائها. ومن مال هذه الطبقة استمد الأسطول معظم حاجته؛ وكانت هي عماد الإمبراطورية الأثينية، وبفضلها احتفظت أثينة بتفوقها التجاري على سائر بلاد اليونان.
وكان يشارك الغرباء في الحرمان من بعض الحقوق السياسية، وفيما يتاح لهم من الفرص الاقتصادية، العتقاء، أي الذين كانوا من قبل عبيداً. ذلك أن الأمل في الحرية حافز اقتصادي قوي للعبد الشاب وإن لم يكن من السهل المألوف أن يُعتق العبد لأن عبداً آخر يجب أن يحل في العادة محله؛ لكن كثيرين من اليونان(7/64)
كانوا إذا قربت منيتهم يكافئون أشد عبيدهم إخلاصاً بعتقهم. كذلك كان العبد يُعتق أذا افتداه أهله أو أصدقاؤه كما حدث لأفلاطون، أو افتدته الدولة نفسها من سيده نظير خدماته لها في الحرب؛ وقد يبتاع هو نفسه حريته بما يدخره من الأبولات. وكان العبد المحرر يعمل، كما يعمل الغريب السالف الذكر، في الصناعة والتجارة والشؤون المالية. وكان أقل ما يقوم به من الأعمال شأناً هو أداء عمل العبد نظير أجر؛ وكان أعظم ما يبلغه هو أن يكون صاحب إحدى الصناعات. فقد كان ميلياس Mylias مثلاً هو المشرف على مصنع الأسلحة الذي يمتلكه دموستين؛ وأصبح باسيون، وفورميو أغنى رجال المصارف في اثينة. وكان أهم الأعمال التي تُظهر قيمة العبد المحرر هي الأعمال التنفيذية، وذلك لأن أقسى الناس على العبيد هو الذي نشأ في ظل العبودية ولم يعرف طول حياته إلا الظلم والاستبداد.
وكان من تحت هذه الطبقات الثلاث- طبقات المواطنين والغرباء والمعاتيق- عبيد أتكا البالغ عددهم 115. 000 عبد (1). وهؤلاء العبيد إما أسرى حرب، أو ضحايا غارات الاسترقاق، أو أطفال أنقذوا وهم معرضون في العراء، أو أطفال مهملون، أو مجرمون. وكانت قلة منهم في بلاد اليونان يونانية الأصل؛ وكان الهليني يرى أن الأجانب عبيد بطبعهم لأنهم يبادرون بالخضوع إلى الملوك، ولهذا لم يكن يرى في استعباد اليونان لهؤلاء الأجانب ما لا يتفق مع
_________
(1) ومرجعنا في هذا الرقم هو جم Gomme. وربما كان عددهم أكبر من هذا كثيراً: فسويداس Suidas يقدر عدد العبيد الذكور وحدهم بمائة وخمسين ألفاً معتمداً في تقديره هذا على خطبة معزوة إلى هيبريدس ألقيت في عام 338، وإن لم تكن نسبتها إليه موثوقاً بصحتها. ويقول أثينيوس، وهو ممن لا يعتمد كثيراً على أقوالهم، إن تعداد سكان أتكا الذي أجراه دمتريوس فاليريوس حوالي عام 317 يقدر المواطنين بواحد وعشرين ألفاً، والغرباء بعشرة آلاف، والمحررين والأرقاء بأربعمائة ألف. ويقدر تيميوس حوالي عام 300 عبيد كورنثة بأربعمائة وستين ألفاً، ويقدر أرسطو حوالي عام 340 عبيد إيجينا بأربعمائة وسبعين ألفاً. ولعل السبب في ضخامة هذه الأعداد أنها تشمل العبيد الذين كانوا يعرضون للبيع عرضاً مؤقتاً في أسواق الرقيق القائمة في كورنثة؛ وإيجينا وأثينة.(7/65)
العقل؛ لكنه كان يغضبه أن يُسترق يوناني. وكان التجار اليونان يشترون العبيد كما يشترون أية سلعة من السلع، ويعرضونهم للبيع، في طشيوز، وديلوس، وكورنثة، وإيجينا، وأثينة، وفي كل مكان يجدون فيه من يشتريهم. وكان النخاسون في أثينة من أغنى سكانها الغرباء؛ ولم يكن من غير المألوف في ديلوس أن يباع ألف من العبيد في اليوم الواحد، وعرض سيمون بعد معركة يوريمدون عشرين ألفاً من الأسرى في سوق الرقيق. وكان في أثينة سوق يقف فيه العبيد متأهبين لأن يفحص عنهم وهم مجردون من الثياب، وأن يساوم على شرائهم في أي وقت من الأوقات. وكان ثمنهم يختلف من نصف مينا إلى عشر مينات) من 50 ريالاً أمريكياً إلى ألف ريال (. وكانوا يُشترون إما لاستخدامهم في العمل مباشرة، أو لاستثمارهم؛ فقد كان أهل أثينة الرجال منهم والنساء يجدون من الأعمال المربحة أن يبتاعوا العبيد ثم يؤجروهم للعمل في البيوت أو المصانع، أو المناجم. وكانت أرباحهم من هذا تصل إلى 33 في المائة. وكان أفقر المواطنين يمتلك عبداً أو عبدين؛ ويبرهن إسكنيز Aeschines على فقره بالشكوى من أن أسرته لا تمتلك إلا سبعة عبيد؛ وكان عددهم في بيوت الأغنياء يصل أحياناً إلى خمسين، وكانت الحكومة الأثينية تستخدم عدداً منهم في الأعمال الكتابية وفي خدمة الموظفين، وفي المناصب الصغرى، وكان منهم بعض رجال الشرطة. وكان كثيرون من هؤلاء يحصلون من الدولة على الملابس، وعلى "مكافأة" يومية مقدارها نصف درخمة، وكان يؤذن لهم أن يسكنوا حيث يشاءون.
أما في الريف فكان العبيد قليلي العدد، وكانت كثرة الرقيق من النساء الخادمات في البيوت. ولم يكن الأهلون في شمالي بلاد اليونان وفي معظم البلوبونيز في حاجة إلى العبيد لاستغنائهم عنهم برقيق الأرض وكان العبيد في كورنثة، ومجارا، وأثينة، يؤدون معظم الأعمال اليدوية الشاقة، كما كانت الجواري يقمن بمعظم الأعمال المنزلية المجهدة ولكن العبيد كانوا فوق ذلك يقومون(7/66)
بجزء كبير من الأعمال الكتابية وبمعظم الأعمال التنفيذية في الصناعة، والتجارة، والشؤون المالية. أما الأعمال التي تحتاج إلى الخدمة فكان يقوم بها الأحرار والمحررون، والغرباء، ولم يكن هناك عبيد علماء كما نرى فيما بعد في العصر الهلنستي وفي رومة، وقلما كان يسمح للعبد بأن يكون له أبناء لأن شراء العبد كان ارخص من تربيته. وكان العبد إذا أساء الأدب ضرب بالسوط، وإذا طُلب للشهادة عذب، وإذا ضربه حر لم يكن له أن يدافع عن نفسهِ لكنه إذا تعرض للقسوة الشديدة كان له أن يفر إلى أحد الهياكل، ثم يُلزم سيده ببيعهِ، ولم يكن يحق لسيده بأية حال أن يقتله، وكان يلقى من الضمانات؛ ما دام يعمل، ما لا يلقاه كثيرون ممن لا يسمون عبيداً في بعض الحضارات الأخرى. فكان إذا مرض، أو تقدمت به السن، أو لم يجد عملاً يقوم به، لا يلقي بهِ سيده إلى الإعانات العامة، بل كان يستمر في رعايته. وإذا كان وفياً عومل معاملة الخادم المخلص الأمين التي تكاد تضارع معاملة أي فرد من أفراد الأسرة، وكثيراً ما كان يسمح له بأن يقوم بعمل خارجي على شريطة أن يؤدي لسيده بعض ما يكسب من هذا العمل. وكان يُعفى من الضرائب ومن الخدمة العسكرية؛ ولم يكن شيء في ثيابه يميزه من الحر في أثينة خلال القرن الخامس قبل الميلاد. وهاهو ذا "الألجركي القديم" يشكو في نشرة له عن نظام الأثينيين من أن العبد لا يفسح الطريق في الشارع للمواطنين ومن أنه يتكلم بحرية، ويتصرف في كل صغيرة وكبيرة كأنه كفء للمواطن. واشتهرت أثينة بحسن معاملة عبيدها، وكان من المعروف أن العبيد في أثينة الديمقراطية أحسن حالاً من الأحرار الفقراء في الدويلات الألجركية، وكانت ثورات العبيد نادرة في أتكا وإن كانت مما يخشى وقوعه القائمون بالأمر فيها.
ومع هذا فإن ضمائر الأثينين لم تكن ترتاح إلى وجود الرق في بلدهم، وإن الفلاسفة الذين يدافعون عن هذا النظام ليظهرون في وضوح لا يكاد(7/67)
يقل عن وضوح من ينددون بهِ أن ما طرأ على الأمة من تطور أخلاقي قد جعلها أرقى من نظمها الاجتماعية. فها هو ذا أفلاطون يندد باستعباد اليونان لليونان، ولكنه فيما عدا هذا يقر الاسترقاق بحجة أن لبعض الناس عقولاً غير ممتازة. وينظر أر سطو إلى العبد على أنه آلة بشرية، ويظن أن الاسترقاق سيبقى في صورة ما حتى يحل اليوم الذي تؤدي فيهِ الآلات التي تدور بنفسها جميع الأعمال الحقيرة. وليس لدى اليوناني العادي فكرة ما عن الطريقة التي يمكن بها أن تسير أعمال المجتمع المثقف من غير الرق، وإن كان هذا اليوناني رحيماً بعبيدهِ؛ فهو يشعر بأنه إذا أريد إلغاء الرق وجب إلغاء أثينة من الوجود. أما غيره فأكثر تطرفاً في آرائهم، فالفلاسفة الكلبيون يحكمون على الرق أسوأ حكم، ومثلهم في هذا خلفاؤهم الرواقيون وإن كانوا أقل عنفاً في حكمهم عليهِ. وكثيراً ما يثير يوربديز عطف مستمعيه بما يصوره لهم من حال أسرى الحرب ويطوف السيد ماس السوفسطائي بلاد اليونان يبشر فيها بعقائد روسو في ألفاظ تكاد تكون ألفاظ روسو بعينها دون أن يتعرض له أحد بسوء: "لقد بعث الله الناس في العالم أحراراً ولم تجعل الطبيعة أحد الناس عبداً". لكن الاسترقاق ظل قائماً رغم هذا كله.(7/68)
الفصل الخامس
حرب الطبقات
كان استغلال الإنسان للإنسان في أثينة وطيبة أقل قسوة منه في إسبارطة ورومة، ولكنه كان على أية حال استغلالاً يؤدي الغرض المقصود منه. فلم يكن بين الأحرار في أثينة طوائف ممتازة وأخرى غير ممتازة، وكان في مقدور الرجل أن يرقى بجهودهِ وحدها إلى أية مرتبة في الحياة، ولم يكن فيها تمييز طائفي شديد بين العامل وصاحب العمل، اللهم إلا في المناجم؛ أما في غيرها فكان صاحب العمل يشتغل إلى جوار عماله، وكان التعارف الشخصي بين الاثنين يفل من حدة سلاح الاستغلال، وكان أجر الصناع جميعاً، إلا القليل النادر منهم، أياً كانت طبقتهم، هو درخمة للرجل في كل يوم من أيام العمل، أما العمال غير الحاذقين فقد تنخفض أجور الواحد منهم إلى ثلاث أبولات في اليوم) نصف ريال أمريكي (. ولما نما نظام المصانع أخذ الأجر بالقطعة يحل محل المياومة وبدأت الأجور تختلف اختلافاً كبيراً، وكان في وسع المقاول أن يستأجر العبيد من سادتهم بأجر يتراوح بين أبولة واحدة وأربع أبولات في اليوم. وفي وسعنا أن نقدر القوة الشرائية لهذه الأجور إذا وازنا الأثمان في بلاد اليونان بأمثالها في بلادنا (1). لقد كان البيت والضيعة في عام 14 يباعان معاً بألف ومائتي درخمة، وكان المندموس Mendimmus اي البشل والنصف من الشعير يباع بدرخمة واحدة في القرن السادس، وبخمس درخمات في أيام الإسكندر، وكان الخروف يباع بدرخمة في أيام صولون، وبعشر درخمات أو عشرين في القرن
_________
(1) يريد في أمريكا. (المترجم)(7/69)
الخامس. وكانت النقود المتداولة في أثينة كغيرها من المدن تزيد اسرع مما تزيد البضائع، ولهذا كانت الأثمان ترتفع؛ فكانت أثمان السلع في آخر القرن الرابع خمسة أمثال ما كانت عليه في بداية القرن السادس؛ وقد تضاعفت هذه الاثمان ضعفين من عام 480 إلى 404 ثم تضاعفت مرة أخرى من 404 إلى 330.
وكان في وسع الرجل الفرد أن يعيش عيشة راضية بمائة وعشرين درخمة) 120 ريال أمريكي (في الشهر؛ ومن هذا نستطيع أن نحكم على حال العامل الذي كان يكسب ثلاثين درخمة في الشهر ويعول أسرة. ولسنا ننكر أن الدولة كانت تبادر إلى معونته في الأزمات الشديدة فتمده بالحبوب بثمن اسمي؛ ولكنه كان يشاهد أن ربة الحرية ليست صديقة لربة المساواة، وأن الشرائع الحرة في أثينة كانت تمكن القوي من أن يزداد قوة، والغني من أن يزداد غنى، أما الفقير فكان يبقى في ظلها (1) فقيراً.
ومن الحقائق المعروفة أن الفردية تحفز القادرين إلى العمل، وتنزل بالسذج، وأنها تُنشئ الثروات الضخمة، وتركزها تركيزاً وخيم العاقبة. ولذلك كان المهرة الحاذقون في أثينة، كما كانوا في غيرها من الدول، يحصلون من الثروة كل يستطيعون تحصيله، ثم يحصل أوساط الناس ما يتبقى من هؤلاء. وكان مالك الأرض يفيد من ارتفاع ثمن أرضه المطرد؛ وكان التاجر لا يدخر جهداً، رغم ما فُرض عليه من القيود التي لا تحصى لاحتكار الأصناف أو ابتياع كل ما هو معروض منها في الأسواق ثم التحكم في أثمانها على هواه. وكان المضارب ينال حصة الأسد من أرباح الصناعة
_________
(1) ولا حاجة إلى القول بأن الثروة العظيمة عند اليونان الأقدمين تعد متواضعة إذا قدرت بمعايير هذه الأيام، فقد قيل إن كلياس أغنى أغنياء الأثينيين كان يمتلك مائتي وزنة (000ر200ر1 ريال أمريكي) وإن نيشياس كان يمتلك مائة وزنة.(7/70)
والتجارة بفرض سعر مرتفع لفائدة القروض التي يقدمها لأصحاب الصناعات والتجار. وقام زعماء الجماهير المحترفون يبينون للفقراء ما في توزيع الثروة بين الناس من غبن، ويخفون عنهم عدم المساواة في كفاياتهم من الناحية الاقتصادية؛ وأخذ الفقير بعد أن أبصر بعينيه ثراء المثرين يحس بفقرهِ ويطيل التفكير في ميزاته التي لا يُجزى عليها الجزاء الأوفى، ويحلم بقيام الدول المثالية. ومن ثم كانت الحرب بين طبقة وطبقة، وهي الحرب التي استعرت نارها في جميع الدول اليونانية، والتي كانت أشد هولاً من الحرب بين اليونان والفرس، أو بين أثينة واسبارطة.
وبدأت هذه الحرب في أتكا بالنزاع بين الأغنياء المحدثين والأشراف أصحاب الأراضي الزراعية؛ ذلك أن الأسر الغنية كانت لا تزال تحب الأرض، وتحب أن تقضي معظم حياتها في ضياعها، وكان تقسيم الأرض بين الأبناء وأبناء الأبناء خلال الأجيال الطويلة قد قلل مساحة ما يملكه كل واحد منها.) فلم يكن ألسبيديز الثري مثلاً يملك أكثر من سبعين فداناً (. وكان مالك الأرض في معظم الأحوال يعمل بنفسهِ في أرضه أو يشرف على إدارة أملاكه، وكان هذا الشريف فخوراً بنفسهِ وأصله وإن لم يكن غنياً بمالهِ، فكان يضيف اسم أبيه إلى اسمهِ ليكون ذلك من ألقاب الشرف له، ويبتعد قدر استطاعته عن طبقة التجار الوسطى التي كانت تستحوذ شيئاً فشيئاً على ثروة أثينة التجارية الآخذة في النماء. غير أن زوجته كانت تلح عليه أن يكون له بيت في المدينة لتستمتع بما في العاصمة من الحياة المتنوعة وبما تتيحه من فرص، وكانت بناته يرغبن في أن يعشن في أثينة، ليتصيدن لهن أزواجاً أثرياء، وكان أبناؤه يرجون أن يجدوا فيها الخليلات ويقيموا المآدب المرحة كما يفعل الأغنياء المحدثون. وإذ لم يكن في مقدور الأشراف ملاك الأراضي أن ينافسوا التجار والصناع في ترفهم فقد رضوا بهم أو بأبنائهم أزواجاً لأولادهم وبناتهم، وكان هؤلاء التجار والصناع راغبين في أن يتسنموا ذُرى(7/71)
المجد مستعدين للبذل. وكانت نتيجة هذا اتحاد الأغنياء بأرضهم مع الأغنياء بما لهم وتكوين طبقة عليا ألجركية، يحسدها الفقراء ويحقدون عليها، ويغضبها الإفراط في الديمقراطية وتخشى على نفسها من الثورة.
وكان صلف الأثرياء الجدد هو الذي أدى إلى المرحلة الثانية من مراحل حرب الطبقات- اي نزاع المواطنين الفقراء مع الأغنياء. ذلك أن كثيرين من أفراد الطبقات الوسطى الرأسمالية أخذوا يباهون مثل ألسبيديز بثرائهم وإن لم يكن من بينهم إلا القليلون الذين يستطيعون أن يسخروا "جمهرة الكادحين" بجرأتهم الروائية ورشاقة مظهرهم ورقة حديثهم. وقام الشبان الذين أحسوا بما وهبوا من كفايات يحول فقرهم دون إبرازها والإفادة منها، فنقلوا حاجتهم الشخصية إلى الفرص والمكانة السامية من دائرتهم الخاصة إلى نداء عام بالثورة، وتكفل المتعلمون الذين يرحبون بالآراء الجديدة ويستهويهم هتاف المظلومين بصياغة أغراض ثورتهم إليهم. ولم يكونوا ينادون باشتراكية التجارة والصناعة، بل كانوا يطلبون إلغاء الديون وإعادة توزيع الأراضي على المواطنين، ونقول على المواطنين لأن الحركة المتطرفة التي قامت في أثينة في القرن الخامس لم يشترك فيها إلا من لهم حق الانتخاب من الفقراء، ولم تكن تحلم في هذه المرحلة بتحرير العبيد، أو إعطاء الغرباء نصيباً من الأرض التي تطالب بإعادة توزيعها. وكان الزعماء يتحدثون عن الماضي الذهبي حين كان الناس جميعاً متساوين فيما يملكون، ولكنهم لم يكونوا يريدون أن تؤخذ أقوالهم بنصها حين يتحدثون عن عودة هذا الفردوس المفقود، بل كانت الصورة المرسومة في أذهانهم صورة مجتمع اشتراكي أرستقراطي- لا ينطوي على تأميم الأرض بل ينطوي على توزيعها بالتساوي بين المواطنين. وكانوا يشيرون إلى أن المساواة في الحقوق السياسية ستكون بلا ريب مساواة غير حقيقية مع وجود تلك الفوارق الاقتصادية(7/72)
المطردة الزيادة، ولكنهم كانوا مصممين على استخدام ما للمواطنين الفقراء من سلطان سياسي لحمل الجمعية على أن تضع في جيوب المحتاجين- بالغرامات، والتكاليف، والمصادرة، والأشغال العامة، - بعض الثروة المركزة لدى الأغنياء. واتخذوا اللون الأحمر رمزاً لثورتهم فضربوا بذلك المثل للثائرين في مستقبل الأيام.
وواجه الأغنياء هذا التهديد فألفوا من بينهم هيئات سرية تعهدوا فيها أن يعملوا مجتمعين لمقاومة ما يسميه أفلاطون- رغم نزعته الشيوعية- "الوحش الضاري" الكامن في نفوس الغوغاء المستنفرين الجياع. وانتظم العمال الأحرار أيضاً- وكانوا قد أنتظموا منذ أيام صولون إن لم يكن قبله- في نواد (إرانوي، ثياسوي eranoi, thiasoi) للبنائين، وقاطعي الرخام، وعمال الخشب، والعاملين في العاج أو الفخار، والسماكين، والممثلين ومن إليهم من الجماعات. وكان سقراط نفسه عضواً في نادي المثالين (1). بيد أن هذه الجماعات لم تكن نقابات عمال بقدر ما كانت جماعات لتبادل المنفعة، فكان أعضاؤها يجتمعون في أماكن لهم يسمونها مجامع مقدسة، يقيمون فيها المآدب والألعاب، ويعبدون فيها رباً يحميهم، ويقدمون المال للمرضى من الأعضاء، ويتعاقدون مجتمعين على القيام بمشروع خاص، ولكنهم لم يشتركوا اشتراكاً ملحوظاً في حرب الطبقات الأثينية. ودارت المعركة في ميداني الأدب والسياسة؛ فشرّع مصدرو النشرات أمثال "الألجركي القديم" يصدرون النشرات ينددون فيها بالديمقراطية أو يدافعون عنها. وإذ كانت مسرحيات الشعراء الهزليين تتطلب أموال الأغنياء
_________
(1) انتظم المثالون والمهندسون المعماريون في بلاد اليونان في طائفة البنائين كانت لها شعائرها الدينية الخلفية الخاصة بها، وكانوا هم أسلاف جماعة البنائين الأحرار (الماسون) التي أقامت في أوروبا فيما بعد(7/73)
لإخراجها، فقد انضم هؤلاء إلى جانب ذوي المال، وشرعوا يصبون قوارص سخرياتهم على الزعماء المتطرفين وعلى دولهم المثالية. فترى أرسطوفان يقدم لنا في مسرحية الإكلزيازوسي Ecclesiazusae (392) السيدة بركساغورا Praxagora الشيوعية تلقي خطبة تقول فيها: "أريد أن يكون لكل الناس نصيب في كل شيء، وأن يكون كل الملك مشاعاً؛ فلن يكون بعد اليوم أغنياء أو فقراء؛ ولن نرى بعد الآن رجلاً واحداً يجني محصول مساحات واسعة من الأرض وإلى جانبه رجل آخر لا يجد منها ما يتسع لدفنه ... وسأعمل على أن لا يكون في الحياة إلا ظروف واحدة يشترك فيها جميع الناس على السواء ... وسأبدأ بأن أجعل الأرض والمال وكل ما هو ملك خاص مشاعاً بين الناس أجمعين ... وستكون النساء ملكاً مشتركاً للرجال". ويسأل بلبيروس Blepyrus ولكن العمل من يقوم بهِ " فتجيبه بقولها: "العبيد". وفي ملهاة أخرى هي ملهاة بلوتوس Plutus (408) يُجيز أرسطوفان للملكية المهددة بالانقراض أن تدافع عن نفسها بقولها إنها هي الحافز الذي لا بد منه للكدح البشري والمغامرة ": أنا السبب الوحيد في كل ما بكم من نعمة، وإن سلامتكم لَتعتمد عليَّ دون غيري ... ومَنذا الذي يحب أن يطرق الحديد ويبني السفن، ويخيط الثياب، ويخرط الخشب، ويقطع الجلد، ويحرق الآجر، ويبيض التيل، ويدبغ الجلود، ويشق الأرض بالمحراث، ويجني ثمار دمتر إذا كان في وسعه أن يعيش بغير عمل محرراً من كل هذهِ المشاق ... ؟ فإذا ما طبّق نظامكِ) الشيوعية ( ... فلن تستطيعي أن تنامي في سرير، لأن الأسرة في هذا الحال لن يُصنع منها شيء بعد، ولن تُنسج بسط، وهل في الناس من يرضى أن ينسجها إذا كان لديه الذهب؟ (60) ".
وكانت إصلاحات إفيلتيز وبركليز باكورة ثمار الثورة الدمقراطية. وكان بركليز(7/74)
رجلاً متزناً في أحكامه معتدلاً في أغراضه؛ فهو لم يكن يبغي القضاء على الأغنياء، بل كان يريد أن يحتفظ بهم وبإقدامهم على الأعمال النافعة بتخفيف عبء الحياة عن الطبقات الفقيرة؛ فلما مات في عام 29 جرف تيار التطرف الدمقراطية الأثينية إلى حد لم يسع الحزب الألجركي معه إلا أن يأتمر مرة أخرى مع اسبارطة، وأن يدفع الأغنياء إلى الثورة مرة في عام 411 ومرة أخرى في عام 404. بَيد أن الثروة في أثينة كانت عظيمة، وكان خوف المواطنين من ثورة الأرقاء سبباً في وقف تيار ثورتهم إلى حين، ولهذا كانت حرب الطبقات في أثينة أهدأ منها في غيرها من الدول اليونانية، حيث لم يكن للطبقات الوسطى من القوة ما يمكنها من أن تتوسط بين الأغنياء والفقراء، وسرعان ما وجدت الطبقات في أثينة أساساً صالحاً تقيم عليه أساس التراضي فيما يبنها. ففي ساموس استولى المتطرفون على زمام الحكم في عام 412، وأعدموا مائتين من الأشراف، ونفوا أربعمائة آخرين، وقسموا الأرض والبيوت فيما بينهم، وأقاموا مجتمعاً آخر شبيهاً بالمجتمع الذي قضوا عليه. وفي ليونتيني طرد العامة في عام 422 الأقلية المثرية الحاكمة، ولكن سرعان ما لاذوا هم أنفسهم بالفرار. وفي كورسيرا اغتالت الأقلية المثرية الحاكمة ستين من زعماء حزب الشعب، واستولى الدمقراطيون على أزمة الحكم، وزجوا بأربعمائة من الأشراف في السجون، وساقوا خمسين منهم إلى المحاكمة أمام هيئة نستطيع أن نسميها "لجنة الأمن العام"، وأعدموا الخمسين كلهم في التو والساعة؛ ولما رأى المسجونون الأحياء ما حل بزملائهم قتل بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم أنفسهم، وحوصر الباقون منهم في هيكل المدينة الذي لجأوا إليه حتى هلكوا من الجوع. ويصف توكيديدس حرب الطبقات في بلاد اليونان وصفاً ينطبق على حروب الطبقات في جميع الأوقات يقول فيه:
"ظل أهل كرسيرا سبعة أيام طِوال يذبحون من مواطنيهم من يرون أنهم(7/75)
أعداء لهم؛ ومع أن الجريمة المعزوّة إليهم كانت أنهم حاولوا القضاء على الدمقراطية، فإن منهم مَن قُتل بسبب الكراهية الشخصية، ومنهم من قتلهم المدينون لهم لِيتخلصوا بقتلهم من ديونهم. وهكذا انتشر الموت في البلد بجميع أشكاله، وحدث في هذا الوقت ما يحدث في أمثاله فلم يقف العنف عند حد. كان الآباء يقتلون أبناءهم، وكان اللائذون بالهيكل يُسحَبون على وجوههم من فوق مذبح القربان أو يُقتلون ... وهكذا جرت الثورة في مجراها متنقلة من مدينة إلى مدينة، وسارت الأماكن التي وصلت إليها في آخر الشوط فيما اخترعته من وسائل العنف وفيما ارتكبته من الفظائع في انتقامها من خصومها إلى أبعد مما سارت إليه الأماكن التي تقدمتها بعد أن سمعت بما كان يجري في هذهِ الأماكن السابقة ... وضربت كرسيرا لسائر المدن المثل الأول في تلك الجرائم، ... وفي حروب الانتقام التي لجأ إليها المحكومون ... الذين لم ينعموا في حياتهم بالعدالة في المعاملة ... بل لم يلاقوا من حكامهم شيئاً سوى العنف، وذلك حين جاء دورهم وتولوا هم شؤون الحكم. كذلك ضربت كرسيرا لسائر المدن المثل الأول في الحقد الظالم الذي تنطوي عليه صدور الذين يريدون أن يتخلصوا مما ألفوه من الفقر وتمتلئ صدورهم طمعاً في ما في أيدي جيرانهم من نعم، وضربت المثل أكثر من هذا وذاك للإفراط في الوحشية والقسوة التي اندفع إليها بعواطفهم الثائرة رجال لم يبدأوا الكفاح بروح طائفية بل بروح حزبية ... وفي غمار هذهِ الفوضى التي تردت فيها الحياة في المدن كَشفت الطبيعة البشرية، التي تثور دائماً على القانون والتي أصبحت الآن سيدة القانون، عن عدم قدرتها على ضبط عواطفها، وعن أنها لا تقيم وزناً للعدالة، وعن عدائها لكل سلطة عُليا ... وأصبحت الجرأة والوقاحة في نظر الناس شَجاعة تُرتَضَى من حليف وفي؛ كما أصبح التردد الحكيم جُبناً مموّهاً؛ وأضحى الاعتدال(7/76)
في نظر الناس ستاراً يخفي وراءه خور العزيمة؛ والقدرة على رؤية جميع نواحي مسألة من المسائل عجزاً عن العمل في واحدة منها ...
وكان مصدر هذهِ الشرور كلها هو الجري وراء السلطان المنبعث من الشره والطمع ... واندفع الزعماء في المدن يطلبون لأنفسهم الجزاء الأوفى من المنافع العامة التي يتظاهرون بالحرص عليها مستعينين على ذلك بأجمل العبارات التي يلقونها في الآذان، يدعون فيها إلى المساواة السياسية بين الناس تارة، وبضرورة قيام أرستقراطية معتدلة تارة أخرى ولم يكن هؤلاء يترددون في استخدام أية وسيلة توصلهم إلى السلطان، فكانوا لذلك يرتكبون أشنع الجرائم ... ولم تكن طائفة من الطائفتين المقتتلتين توقر الدين، وكان استخدام العبارات المنمقة للوصول بها إلى الغايات الإجرامية هي الوسيلة المحببة لسائر الناس ... وكانت البساطة القديمة التي كان للشرف فيها أكبر نصيب موضع السخرية، ومن أجل هذا لم يعد لها وجود، وانقسم المجتمع إلى معسكرين لا يثق فيهما واحد من الناس بزميله ... وقضي بين هذين المعسكرين على الشيعة المعتدلة من المواطنين لأنها لم تشترك في الكفاح أو لأن الحسد كان يمنعها من أن تفر من الميدان ... وقصارى القول أن العالم الهلني كله قد زُلزلت قواعده وتصدعت أركانه.
ولم تقضِ هذهِ الاضطرابات على أثينة لأن كل أثيني كان في قرارة نفسه فردي النزعة يحب الملكية الخاصة؛ ولأن الحكومة الأثينية قد وجدت في تنظيم الثروة والأعمال التجارية والصناعية تنظيماً معتدلاً طريقة عملية وسطاً بين النزعتين: الاشتراكية والفردية. ولم تخشَ الحكومة الإقدام على هذا التنظيم ووضع القواعد والقيود، فوضعت حداً على لبائنات العرائس؛ ونفقات الجنائز، وملابس النساء. وفرضت الضرائب على التجارة وأخضعتها لإشرافها، ووضعت أنظمة عادلة للمقاييس والموازين، وألزمت الناس بمراعاة واجب الأمانة والشرف على قدر ما تستطيع الحكومات أن تحد من دناءة(7/77)
الطبيعة البشرية. وحددت الحكومة مقادير الصادرات، وسنت قوانين صارمة للحد من جشع التجار والصناع ومعاقبتهم على ما يرتكبون، وفرضت رقابة شديدة على تجارة الحبوب؛ وأصدرت قوانين صارمة لمنع تخزين السلع والتحكم في الأسواق، فحرّمت شراء أكثر من خمسة وعشرين بُشِلاً من القمح دفعة واحدة وأجازت الحكم بالإعدام على مَن يرتكب هذهِ الجريمة. ومنعت إقراض المال على البضائع الخارجة من البلاد إلا إذا حملت السفن في عودتها حبوباً إلى ثغر بيرية، وأوجبت على السفن المملوكة لأهل أثينة والمشحونة بالحبوب أن تأتي بحمولتها إلى بيرية؛ ومنعت تصدير أكثر من ثلث الحبوب التي تصل إلى هذا الثغر. وحرصت أثينة أشد الحرص على ألا ترتفع أثمان الخبز فوق طاقة المستهلكين، وألا يثرى الناس إثراءً فاحشاً من جراء جوع الشعب، وألا يموت أحد من الأثينيين جوعاً، وكانت وسيلتها إلى هذا الاحتفاظ برصيد كاف من الحبوب في مخازن تملكها الدولة، وإغراق السوق بهذهِ الحبوب المخزونة حين ترتفع الأثمان ارتفاعاً سريعاً. ووضعت الدولة قواعد تنظم بها الثروة عن طريق الضرائب والخدمات العامة، وأقنعت الأغنياء أو ألزمتهم أن يتبرعوا بالمال إلى الأسطول وإلى دور التمثيل، وأن يقدموا للدولة المال الذي تساعد به الفقراء من الوجهة النظرية على مشاهدة المسرحيات والألعاب. وفيما عدا هذا كانت أثينة تحمي حرية التجارة، والمكلية الفردية، وفُرَص الكسب، لاعتقادها أنها هي الأدوات الضرورية للحرية الإنسانية، وأنها أقوى حافز على النشاط الصناعي والتجاري، وأكبر عامل على ازدياد الرخاء.
وبفضل هذا النظام ذي النزعة الاقتصادية الفردية، تخفف من حدتها(7/78)
النظم الاشتراكية، ازدادت الثروة في أثينة وانتشرت فيها انتشارا ًيحول بينها وبين الثورة المتطرفة، وبذلك ظلت الملكية الفردية آمنة في أثينة إلى آخر أيامها. وتضاعفت فيها بين عامي 480 و 431 عدد المواطنين ذوي الدخل الذي يمكنهم من العيش الرضي؛ وزادت إيرادات الدولة، وارتفعت نفقاتها، ولكن خزانتها ظلت عامرة أكثر مما كانت في أي عهد سابق من تاريخ اليونان، ووضعت الدعامة الاقتصادية لحرية أثينة، ونشاطها الصناعي، والتجاري، والفني، والفكري، واستطاعت أن تتحمل كل ما ساد العصر الذهبي من إسراف دون أن تنوء بهِ إذا استثنينا من هذا التعميم الحرب التي خربت بلاد اليونان بِقضّها وقضيضها.(7/79)
الباب الثالث عشر
أخلاق الأثينيين وآدابهم
الفصل الأوّل
الطفولة
كان يُنتظر من كل مواطن أثيني أن يكون له أبناء، وقد اجتمعت قوى الدين، والملكية، والدولة، كلها لمقاومة العقم. فإذا لم يكن للأسرة أبناء من نسلها كان التبني هو العادة المتبعة، وكانت تؤدى مبالغ طائلة للحصول على أبناء الأيتام، لكن القانون والرأي العام كانا في الوقت نفسه يبيحان قتل الأطفال ويريان فيه وسيلة مشروعة للحد من زيادة النسل ومنع تقسيم الأرض الزراعية تقسيماً يؤدي إلى الفاقة، فكان في وسع كل أب أن يُعرّض طفله للموت بحجة أنه يشك في صحة انتسابه إليه أو أنه ضعيف أو مشوّه. وقلما كان يُسمح لأبناء الأرقاء أن يعيشوا، وكانت البنات أكثر تعريضاً للموت من الأولاد، لأن البنت يجب أن تعدلها بائنة، ولأنها إذا تزوجت انتقلت من بيت الذين ربوها ومن خدمتهم إلى خدمة من لم تكن لهم في تربيتها يد. وكانت الوسيلة المتبعة لتعريض الطفل للموت أن يُترك في إناء من الفخار بجوار هيكل أو مكان آخر حيث يستطاع إنقاذه بعد وقت قليل من تركه إذا رغب أحد في تبنيه. وكان حق الآباء في تعريض أبنائهم للموت سبباً في غلظة قلوب اليونان، وكان هو والانتخاب الطبيعي الصارم عن طريق المنافسة ومعاناة صعاب الحياة، كان هذا وذاك من الوسائل التي جعلت اليونان شعباً سليماً قوياً. ويكاد فلاسفة(7/80)
اليونان يجمعون على تحبيذ تحديد النسل: فأفلاطون ينادي بتعريض جميع الأطفال الضعفاء ومن يولدون من أبوين منحطين أو طاعنين في السن (1) إلى الجو القاسي؛ وأرسطاطاليس يدافع عن الإجهاض بحجة أنه أفضل من قتل الأطفال بعد أن يولدوا (2). ولم يكن قانون أبقراط الطبي يسمح للطبيب بأن يجهض الحامل، ولكن القابلة اليونانية كانت تحذق هذه العملية، ولا تجد قانون يحول بينها وبين (1) ممارستها (3).
وكان الطفل يقبل في دائرة الأسرة رسمياً في اليوم العاشر بعد مولده أو قبله، ويقام لذلك احتفال ديني خاص في البيت حول موقد النار، يتلقى فيه الهدايا ويسمى باسمه. ولم يكن لليوناني عادة إلا اسم واحد مثل سقراط أو أرخميدس؛ ولكن كانوا من عادتهم أن يسموا أكبر الأبناء باسم جده لأبيه، ولهذا كثر تكرار الأسماء، واختلط التاريخ اليوناني لكثرة ما ورد فيه من أسماء زنوفون، وإسكنيز، وتوكيديدز، وديوجين، وزينون، فكانوا يحاولون التغلب على ما فيها من غموض بإضافة اسم الأب أو اسم مسقط الرأس إلى اسم الشخص فيقولون "كيمون ملتيادو" أي كيمون بن ملتيادس، أو ديودورس صقلوس Diodorus Siculus أي ديودور الصقلي، أو يحلون المشكلة بإضافة أحد ألقاب السخرية المضحكة مثل كَلِمِدون Callimedon أي السرطانْ.
فإذا ما قبل الشخص في الأسرة بهذه الطريقة لم يكن القانون يجيز تعريضه للجو، بل كان يربى محوطاً بكل ما يحيط به الآباء أبناءهم من العناية في جميع العصور، فنرى ثمستكليز مثلاً يصف ابنه بأنه حاكم أثينة الحقيقي، لأنه (ثمستكليز) وهو أعظم رجال أثينة نفوذاً تحكمه زوجته، وهذه الزوجة يحكمها ولدها (6). وفي وسعنا أن نستدل على هذا الحب الأبوي من كثير من المقطوعات الشعرية ذات المغزى الأدبي في دواوين الشعراء.
"لقد بكيت حين ماتت ثيونو Theonoe، ولكن الآمال التي كنت أعلقها
_________
(1) وليس لدينا شواهد على أن اليونان كانوا يلجأون إلى وسائل لمنع الحمل.(7/81)
على طفلنا خففت أحزاني، ثم أبَت الأقدار الحسودة إلا أن تحرمني من هذا الولد أيضاً، فواحسرتا! لقد سُلِبتَ مني يا ولدي، وأنت كل ما كان باقياً لي من سلوى؛ ألا فاستمعي يابرسفوني إلى النداء المنبعث من قلب أب حزين، وضعي الطفل فوق صدر أمه الميتة" (7).
وكانت الألعاب كثيرة تخفف مآسي المراهقة، وسوف تبقى هذه الألعاب بعد أن ينسى الناس بلاد اليونان، فترى على وعاء عطر صنع لكي يوضع في قبر طفل، صورة ولد صغير يأخذ عربته الصغيرة معه إلى الدار الآخرة. وكان للأطفال الرضع خشائش من الطين المحروق في داخلها عدد من الحصا؛ وكان للبنات دمى يحتفظن بها في البيت، وكان الغلمان ينازلون جنوداً وقواداً من الطين في مواقع عظيمة؛ وكانت المربيات يؤرجحن الأطفال على الأراجيح؛ وكان الأولاد والبنات يدفعون الأطواق، ويطيرون الطائرات، ويديرون الخذروف الخشبي، ويلعبون لعبة الاستخفاء أو الغميضاء، أو شد الحبل، أو يتبارون في مئات الأنواع من المباريات في الحصا، والبندق، والنقود والكرات. أما "بلي" العصر الذهبي فكان هو الفول الجاف يدفع بالأصابع أو الحجارة الملساء تطلق مسافة بعيدة أو تقذف في داخل دائرة لتزحزح حجارة العدو من أماكنها وتستقر في أقرب وضع مستطاع إلى مركز الدائرة. فإذا اقترب الأطفال من "سن العقل" - أي السنة السابعة أو الثامنة من عمرهم - لعبوا لعبة النرد وذلك برمي الكعاب ( Astragali) المربعة، وتعد أعلى رمية لست كعاب أحسن لعبة (9). ألا إن ألعاب الصغار قديمة قدم خطايا آبائهم.(7/82)
الفصل الثاني
التعليم
أنشأت أثينة ساحات للألعاب ومدارس للرياضة البدنية، وكان لها بعض الإشراف القليل على المدرسين، ولكن المدينة لم يكن فيها مدارس عامة أو جامعة تديرها الدولة، بل ظل التعليم فيها في أيدي الأفراد. ونادى أفلاطون بأن تنشئ الدولة مدارس (10)، ولكن يلوح أن أثينة كانت تعتقد أن المنافسة حتى في التعليم نفسه كفيلة بأن تثمر أحسن الثمرات. وكان المدرسون المحترفون ينشئون مدارسهم الخاصة يُرسل إليها أبناء الأحرار في سن السادسة. ولم يكن لفظ بيدجوجوس Paidagogos يُطلق عندهم على المعلم، بل كان يسمى به العبد الذي يصاحب الغلام كل يوم في ذهابه إلى المدرسة والعودة منها، ولم نسمع قط عن وجود مدارس داخلية. وكان التلميذ يبقى في المدرسة حتى يبلغ الرابعة عشرة أو السادسة عشرة من عمره، وإلى ما بعد السادسة عشرة إن كان من أبناء الأغنياء (11). ولم يكن في المدارس أدراج بل كان يكتفى فيها بالمقاعد؛ فكان التلميذ يضع على ركبتيه الملف الذي يقرأ منه، أو الصحيفة، أياً كانت مادتها، التي يكتب عليها؛ وكانت بعض المدارس تزدان بتماثيل لأبطال اليونان وآلهتهم، وهي عادة انتشرت فيما بعد انتشاراً واسعاً؛ وكان عدد قليل منها يمتاز بأثاثه الظريف. وكان المدرس يدرس كل المواد، ويُعنى بالأخلاق كما يُعنى بالعقول ويستخدم النعال للتأديب (1)
_________
(1) نرى في إحدى الصور المنقوشة على جدران بمبي، ولعلها منقولة عن صورة يونانية، تلميذاً محمولاًً على كتفي تلميذ آخر، ويمسكه تلميذ ثالث من عقبيه، والمدرس ينهال عليه ضرباً (12).(7/83)
وكان منهج الدراسة ينقسم ثلاثة أقسام -الكتابة، والموسيقى، والألعاب الرياضية؛ وأضاف المجددون الحريصون على التجديد في أيام أرسطو إلى هذا المنهج الرسم والتصوير (14). وكانت الكتابة تشمل القراءة والحساب، وكانوا يستخدمون فيها الحروف لا الأرقام. وكان كل تلميذ يتعلم العزف على القيثارة، وكان الكثير من مواد الدراسة يصاغ في عبارات شعرية وموسيقية (15). ولم يكونوا يضيعون شيئاً من الوقت في تعليم أية لغة أجنبية، بله اللغات الميتة، ولكنهم كانوا شديدي العناية بتعلم اللغة الوطنية واستخدامها على أصح وجه. وكانت الألعاب الرياضية تُعَلم أكثر ما تعلم في مدارس الألعاب، ولم يكن أثيني يعد متعلماً إذا لم يتقن المصارعة والسباحة واستعمال القوس والمقلاع.
أما البنات فكن يدرسن في منازلهن وكان تعليمهن يقتصر في الغالب على علم "تدبير المنزل"، ولم يكن للبنات في غير إسبارطة حظ من الألعاب الرياضية العامة. وكانت أمهاتهن يعلمنهن القراءة والكتابة والحساب، والغزل والنسيج والتطريز، والرقص والغناء، والعزف على بعض الآلات الموسيقية؛ ومن النساء اليونانيات عدد قليل تعلمن تعليماً عالياً، ولكنهن في الغالب من المؤنسات، أما النساء المحترمات فلم يكن تعليمهن يتجاوز المرحلة الابتدائية حتى أغرت أسبازيا Aspasia عدداً قليلاً منهن على تعلم فنون البلاغة والفلسفة. وكان الرجال يتعلمون التعليم العالي على يد علماء البلاغة والسوفسطائيين، يلقنونهم فن الخطابة، والعلوم الطبيعية، والفلسفة والتاريخ. وكان هؤلاء المدرسون المستقلون يستأجرون قاعات للمحاضرات بالقرب من مدارس الألعاب الرياضية، وكان يتألف منهم من قاعاتهم هذه في أثينة قبل أفلاطون جامعة متفرقة. وكان ذوو الثراء وحدهم هم الذي يتعلمون على أيديهم، لأنهم كانوا يتقاضون أجوراً عالية، ولكن ذوي الطموح من الشبان غير ذوي اليسار كانوا يعملون ليلاً في المصانع أو الحقول حتى يستطيعوا أن يحضروا في النهار دروس هؤلاء المعلمين المتنقلين.(7/84)
فإذا بلغ الأولاد السادسة عشرة من عمرهم، كان يُنتظر منهم أن يعتنوا عناية خاصة بالتربية البدنية التي تعدهم بعض الإعداد إلى الأعمال الحربية، وكانت ألعابهم العادية نفسها تعدهم من طريق غير مباشر لهذا الغرض عينه؛ فقد كانوا يُدربون على العدو، والقفز، والمصارعة، والصيد، وسوق المركبات، وقذف الحراب. وإذا بلغوا الثامنة عشرة من عمرهم بدءوا المرحلة الرابعة من مراحل الحياة الأثينية (الطفولة، والشباب، والرجولة، والكهولة ( Geron, Auer, Ephebos, Pais) وفيها ينخرطون في صفوف شبان أثينة المجندين المعروفة بمنظمات الشباب Epheboi (1) . وكانوا في هذه المرحلة يدربون مدى عامين على أيدي "مدربين"، يختارهم لهم زعماء قبائلهم، على القيام بالواجبات الوطنية والعسكرية. فكانوا يعيشون ويأكلون مجتمعين، ويلبسون حُللاً رسمية ذات روعة وبهاء، ويخضعون بالليل والنهار لرقابة خلقية. وكانوا ينظمون أنفسهم تنظيماً ديمقراطياً على نمط نظام المدينة، فيجتمعون في جمعية وطنية، ويصدرون قرارات، ويسنون قوانين يتقيدون بها، ويكون لهم منهم حكام، وزعماء، وقضاة (16). وكانوا في السنة الأولى يخضعون لنظام صارم من التدريب الرياضي، ويتلقون محاضرات في الآداب، والموسيقى، والهندسة النظرية، وعلوم البلاغة (17). وفي التاسعة عشرة من عمرهم يُرسلون لحماية الحدود، ويُعهد إليهم مدى عامين حماية المدينة من الغزو الخارجي والاضطراب الداخلي. وكانوا في هذه المرحلة يقسمون أمام مجلس الخمسمائة، وأيديهم ممتدة فوق مذبح الهيكل في أرجولوس Argaulos، يميناً مغلظة هي يمين الشباب الأثيني:
"لن أجلل بالعار الأسلحة المقدسة، ولن أتخلى عن الرجل الذي إلى جانبي
_________
(1) ليس في وسعنا مع هذا أن نرجع بتاريخ هذه المنظمات إلى ما قبل عام 336 ق. م.(7/85)
أياً كان، وسأقدم المعونة إلى طقوس المدينة، وإلى الواجبات المقدسة، بمفردي ومع الكثيرين غيري. ولن تكون بلادي حين أسلمها إلى من يأتي بعدي أقل مما كانت حين تسلمتها، بل ستكون أكبر وأحسن مما كانت وقئذ. وسأطيع من يتولون القضاء حيناً بعد حين، وأخضع للقوانين المسنونة، ولكل ما يضعه الأهلون من أنظمة؛ وإذا ما حاول أحد أن يفسد هذه القوانين، فلن أسمح له بذلك العمل، بل أدفعه بمفردي وبمعونة الجميع؛ وسأكرم دين السلف" (18).
وكان للشباب مكان خاص في دار التمثيل، وكان لهم شأن ظاهر في مواكب المدينة الدينية؛ ولعل هؤلاء الشبان هم الذين زي صورهم الجميلة منقوشة على طنف البارثنون يمتطون صهوة الجياد. وكانوا في أوقات معينة يعرضون ما يتحلون به من صفات في مباريات عامة، وبخاصة في سباق التتابع بالمشاعل من بيريه إلى أثينة. وكانت المدينة على بكرة أبيها تخرج لمشاهدة هذا المنظر الجميل، فيصطف أهلها على طول الطريق البالغ أربعة أميال ونصف ميل. ويجري السباق ليلاً، والطريق غير مضاء، فلا يرى الناس من العدائين إلا أنوار المشاعل التي يحملونها وتقفز من يد إلى يد على طول الطريق. وبعد أن يتم تدريب الشباب في الحادية والعشرين من عمرهم، يتحررون من سلطان الآباء، وينتظمون رسمياً في سلك مواطنية المدينة الكاملة.
هذه هي التربية التي تنشئ المواطن الأثيني، أساسها الدروس التي تلقاها في المنزل وفي الطريق. وهي مزيج صالح جميل من التدريب الجسمي، والعقلي، يقوي في الشاب حاسة الجمال، ويفرض الرقابة في سن الشباب، ويعطيه حريته إذا ما نضج. وقد أخرجت في أحسن عهودها شباناً لا يفوقهم شبان آخرون في التاريخ كله. فلما انقضى عصر بركليز كثرت النظريات حتى طغت على الناحية العملية في هذه التربية، فاحتدم النقاش بين الفلاسفة حول(7/86)
أهداف التربية ووسائلها، هل يوجه المدرس أكبر همه إلى التربية العقلية أو الخلقية، وهل يُعنى أكبر العناية بتنمية الكفاية العملية، أو بتعليم العلوم النظرية البحتة. لكنهم كلهم مجمعون على أن مكانة التربية هي أسمى مكانة في البلاد، ولما أن سُئل أرستبس Aristippus بماذا يمتاز المتعلم عن الجاهل أجاب: "بما يمتاز به الجواد المروض على الجواد الجموح"؛ وأجاب أرسطاطاليس عن هذا السؤال نفسه بقوله: "بما يمتاز به الحي على الميت"، ويضيف أرستبس إلى قوله السابق: "حسب التعليم فضلاً على التلميذ أنه حين يشهد التمثيل لن يكون حجراً فوق حجر" (19).(7/87)
الفصل الثالث
المظهر الخارجي
كان مواطنو أثينة في القرن الخامس رجالاً متوسطي القامة، أقوياء البنية، ملتحين؛ ولم يكونوا كلهم من الوسامة كما صورهم فيدياس في فرسانه. وكانت النساء كما تراهُنَّ على المزهريات رشيقات الجسم، وتُظهرهن صورهن على الألواح الحجرية حِساناً ذوات وقار، وهن في التماثيل بارعات الجمال. أما نساء أثينة في حقيقة أمرهن فكن يضارعن في الجمال أخواتهن من نساء الشرق الأدنى ولا يفقنهن قط، وقد كانت عزلتهن التي تكاد تشبه عزلة النساء الشرقيات سبباً في نقص نموهن العقلي. واليونان يعجبون بالجمال أكثر مما تعجب به سائر الأمم، ولكن هذا الجمال لا يتمثل قط فيهن بأكمل معانيه، وكانت نساؤهم كغيرهن من النساء يرين أنهن لم يبلغن حد الكمال في هذه الناحية، ولهذا تراهن يزدن طولهن بنعال عالية من الفلين، ويصلحن ما في أجسامهن من العيوب بالحشايا، ويضغطن ما زاد فيها بالأربطة، ويرفعن أثداءهن بحاملات من القماش (1).
وشعر اليونان أسود عادة، والشعر الأشقر نادر، وإذا وجد كان موضع الإعجاب. وكانت كثيرات من النساء يصبغن شعرهن ليكسبنه هذه الشقرة أو ليخفين شيبهن إذا كبرن، وكان بعض الرجال يحذون حذوهن في هذا (22). وكانوا جميعاً رجالاً ونساءً يدهنون رؤوسهم بالزيت، يستعينون به على نماء شعرهم ووقايته من تأثير الشمس؛ وكانت النساء يخلطن الزيت ببعض العطور
_________
(1) يقص بلوتارخ قصة طريفة يقول فيها إن موجة من الانتحار سرت بين نساء ميليطس، ولكن هذه الموجة قضي عليها قضاءً تاماًً فجائياًً أمر أصدرته الحكومة يقضي بأن تحمل من تنتحر عارية الجسم إلى قبرها مارة بالسوق العامة.(7/88)
ويقلدهن في ذلك بعض الرجال (23). وكانوا جميعاً رجالاً ونساءً في القرن السادس قبل الميلاد يطيلون شعرهم ويجدلونه غدائر حول الرأس أو خلفها، فلما كان القرن الخامس أخذت النساء يصففن شعرهن ويعقصنه وراء رقابهن، أو يتركنه ينوس على أكتافهن، أو يطوينه حول الأعناق وفوق الصدور. وكان النساء يحببن ربط شعرهن بأشرطة رمادية اللون تزدان بجوهرة فوق الجبهة (24). ثم أخذ الرجال بعد مرثون يقصون شعرهم، كما أخذوا بعد الإسكندر يحلقون شواربهم ولحاهم بأمواس من الحديد على شكل المنجل. ولم يكن اليوناني يطيل شاربه من غير أن يطيل لحيته، وكان يعنى بتسوية لحيته حتى تنتهي عادة بطرف رفيع. ولم يكن عمل الحلاق مقصوراً على قص الشعر أو حلق اللحية أو تسويتها، بل كان يعنى إلى ذلك بتدريم الأظافر وتجميل من يتقدم إليه في أعين الناس، وكان إذا فرغ من عمله قدم إليه مرآة كما يفعل الحلاقون في هذه الأيام (25). وكان للحلاق حانوته، وكان هذا الحانوت "مجمعاً لغير المخمورين" (كما يسميهم ثيوفراسطس) يتناقلون فيه أخبار الناس ومعايبهم، ولكنه كان في كثير من الأحيان يقوم بعمله خارج حانوته في العراء. وكان الحلاق ثرثاراً بحكم مهنته، ويروى أن حلاقاً سأل الملك أركلوس كيف يجب أن يقص شعره فأجابه الملك "في صمت" (26). وكانت النساء أيضاً يحلقن الشعر من بعض أجزاء جسمهن، ويستخدمن في هذا أمواساً أو أدهان مصنوعة من الزرنيخ والجير.
وكانت العطور - المصنوعة من الأزهار مخلوطة بالزيت - تعد بالمئات، ويشكو سقراط استعمال الرجال لهذه العقاقير (27). وكان لكل سيدة راقية عدة كبيرة من المرايا، والدبابيس العادية والإنجليزية، ودبابيس الشعر، والملاقط، والأمشاط، وقنينات العطور، وأواني الأصباغ الحمراء،(7/89)
والأدهان. وكن يصبغن خدودهن، وشفاههن بعصي من السلقون وجذور الشنجار (1). أما الحواجب فكانت تصبغ بسناج المصابيح أو بمسحوق الإثمد، وتلون الجفون بالإثمد، وتسود الرموش ثم تطلى بمزيج من زلال البيض والأشق (2). وكانت الأدهان ومحاليل الغسل تستخدم لإزالة التجاعيد والنمش والبقع من الوجه والجسم. وكانت بعض الأدهان المؤلمة تبقى على الجسم ساعات طوالاً لكي تظهر المرأة في أعين الناس جميلة إن لم تكن جميلة بطبيعتها. وكان زيت المصطكى يستخدم لمنع العرق، وكانت مراهم معطرة خاصة توضع على أجزاء مختلفة من الجسم. وكانت المرأة ذات الشأن تدهن وجهها وصدرها بزيت النخيل وحاجبيها وشعرها بالبردقوش، وعنقها، وركبتيها بخلاصة الصَّعتر؛ وذراعيها بخلاصة النعناع، وساقيها وقدميها بالمُر (28). وكان الرجال يحتجون على هذه الأسلحة المغرية، ولكن احتجاجهم لم يكن له من النتائج أكثر من احتجاج أمثالهم في أي عصر من العصور. من ذلك أن إحدى الشخصيات في مسلاة أثينة تعير سيدة بتعداد ما تستخدمه من الأدهان والأصباغ الكثيرة فتقول: "إذا خرجتِ في الصيف تحدر من عينيكِ خطان أسودان، وجرى نهر أحمر من خديكِ إلى عنقكِ، وإذا مس شعرُكِ وجهَك أبيض من الرصاص الأبيض" (29). إن النساء يبقين كما هن لأن الرجال لا يتغيرون.
وكانت المياه قليلة فكانت النظافة تتطلب وسائل أخرى غير المياه، فأما الأغنياء فكانوا يستحمون مرة أو مرتين في اليوم، ويستخدمون في استحمامهم صابوناً مصنوعاً من زيت الزيتون معجوناً بمادة قلوية، ثم يتعطرون.
_________
(1) الشنجار بالكسر معرب شنكار وهو خس الحمار ويسمى الكحلاء، والحميراء، ورجل الحمامة، وهو نبات لاصق بالأرض مشوك له أصل في غلظ إصبع، أحمر كالدم يصبغ اليد إذا مُس، منبته الأرض الطيبة التربة (المحيط)، وإسمه بالإنجليزية alkanet. ( المترجم)
(2) الأشَّق كسكر ويقال وشق وأشج صمغ نبات كالقئاء شكلاًً Gum Ammoniac عن المحيط. (المترجم)(7/90)
وكان البيت الراقي يشتمل على حمام مبلط، به حوض كبير من الرخام يُحمل إليه الماء عادة باليد، وكانت المياه أحياناً تُنقل في أنابيب وقنوات إلى البيت مخترقة جدران الحمام، ثم تندفع من صنبور معدني في صورة رأس حيوان، وتسقط على أرض الحمام الرشاش وتجري بعدئذ إلى الحديقة (30).
وأما الكثيرون من الأهلين الذين لا تتوافر لديهم المياه للاستحمام فكانوا يدلكون أجسامهم بالزيت ثم يزيلونه بمكشط هلالي الشكل كما نرى ذلك في تمثال أبكسيمنس Apoxyomenos للمَثال ليسبس Lysippus. ولم يكن اليوناني شديد الحرص على النظافة، ولم تكن أهم وسائله للمحافظة على صحته هي العناية بها داخل المنزل، بل كان أهمها الاقتصاد في المأكل والحياة الخارجية النشطة. وكان يندر أن يجلس داخل الدور والملاهي والمعابد والأبهاء المغلقة الأبواب، وقلما كان يعمل في المصانع أو الحوانيت المقفلة. وكانت مسرحياته وعباداته، وحتى حكومته في ضوء الشمس، وكان في وسعه أن يخلع عن جسمه ملابسه البسيطة التي يصل منها الهواء إلى جميع أجزائه، ولا يكلفه خلعها أكثر من التلويح بذراعيه، للقيام بجولة مصارعة، أو التمتع بحمام شمس.
وكانت ملابس اليوناني تتكون من قطعتين مربعتين من القماش ملفوفتين في غير إحكام حول الجسم، وقلما كانتا تفصلان لتوائما لابساً بعينه. وكانتا تختلفان في بعض تفاصيلهما الصغرى في المدن المختلفة، ولكنهما ظلتا بحالهما عدة أجيال. وكان أهم رداء للرجال في أثينة هو القباء Tuuic، وأهمه للنساء هو المئزر Peplos، المصنوعين من الصوف. فإذا كان الجو يتطلب التدفئة غطيا بعباءة أو برنس معلق مثلهما من الكتفين يتدلى في غير كلفة في تلك الثنايا الطبيعية التي تسر العين حين تقع عليها في التماثيل اليونانية. وكانت الملابس في القرن الخامس بيضاء اللون في العادة، غير أن النساء، وأغنياء من الرجال، والشبان المتأنقين، كانوا يعمدون إلى تلوينها؛ ولم يكونوا يستنكفون من لبس الثياب القرمزية أو الحمراء الداكنة، أو ذات الخطوط(7/91)
المختلفة الألوان والحواشي المطرزة. وكانت النساء في بعض الأحيان يتمنطقن بمناطق ملونة. ولم تكن القبعات مرغوباً فيها لأنها كانت في رأيهم تمنع رطوبة الجو عن الشعر فيشيب قبل الأوان (31)؛ ولم يكن الرأس يغطى إلا في أثناء السفر، والقتال، أو العمل في أشعة الشمس الحارة. وكانت النساء في بعض الأحيان يغطين رؤوسهن بمناديل أو عصابات ملونة، وكان العمال في بعض الأوقات يغطون رؤوسهم بقلنسوات ويتركون سائر الجسم عارياً (32). أما الأحذية فكانت أخفافاً (صنادل)، ونعالاً طويلة أو قصيرة تصنع عادة من الجلد، سوداء اللون للرجال وملونة للنساء. ويقول دسياركس Dicaerchus إن نساء طيبة يحتذين أحذية قصيرة أرجوانية ذات شرائط تظهر منها القدم العارية (33). وكان معظم الأطفال والعمال لا يحتذون شيئاً مطلقاً، ولم يكن أحد يعنى بلبس الجوارب (34).
وكان الأهلون، رجالاً ونساء، يخفون دخلهم أو يعلنوه للناس بالحلي والجواهر، فكان الرجل يلبس عدة خواتم (35). وكانت عصي الرجال تنتهي في أعلاها بكريات من الفضة أو الذهب. وكانت النساء يتحلين بالأساور، والقلائد، والأكاليل من الجواهر، والأقراط، ودبابيس الصدر، والعقود، والمشابك ذات الجواهر؛ وكان لهن في بعض الأحيان أربطة محلاة بالجواهر حول أعقابهن أو في سواعدهن. وكانت الطبقات التي تسرف في الترف في هذه البلاد هي الحديثة الثراء كما تفعل أمثالها في جميع البلاد التي تسودها الثقافات التجارية. وكانت إسبارطة تحدد أنواع أغطية الرأس لنسائها، كما كانت أثينة تحرم على النساء أن يأخذن معهن في أسفارهن أكثر من ثلاث مجموعات من الثياب (36). غير أن النساء كن يسخرن من هذه القيود، ويتهربن منها دون أن يستعِنَّ على ذلك الهرب بالمحامين. ذلك أنهن كن يعرفن أن قيمة المرأة عند معظم الرجال وعند النساء إنما تقدر بملابسها؛ وكان مسلكهن في هذه الناحية يكشف عن حكمة تجمعت لهن في خلال آلاف من القرون الطوال.(7/92)
الفصل الرّابع
المبادئ الأخلاقية
لم يكن الأثينيون في القرن الخامس مثلاً طيباً في حسن الخلق، وذلك لأن ارتقاء عقولهم قد أحل الكثيرين منهم من تقاليدهم الأخلاقية، وجعل منهم أفراداً يكادون يكونون لا خلاق لهم. نعم إنهم قد اشتهروا بعدلهم القضائي، ولكنا قلما نراهم يؤثرون على أنفسهم أحداً غير أبنائهم، وقلما يشعرون بوخز الضمير، أو يفكرون قط في أن يحبوا جيرانهم كما يحبون أنفسهم. وتختلف آدابهم باختلاف طبقاتهم، ففي محاورات أفلاطون نرى الحياة تجملها الرقة الخلابة أما في ملاهي أرسطوفان فالآداب لا وجود لها قط؛ وفي الخطب العامة نرى السباب الشخصي هو روح البلاغة. ولقد كان "البرابرة" الذين هذبهم الدهر في مصر وفارس وبابل أرقى من اليونان كثيراً في هذه الناحية. وكانت التحيات عند الالتقاء ودية قلبية ولكنها بسيطة، فلم يكن فيها انحناءات لأن هذا كان يبدو للمواطنين بقية من بقايا الملكية البائدة. وكان السلام باليد مقصوراً على الحلف أو الوداع؛ أما التحية العادية فلم تكن تزيد على قولهم "ابتهج" ( Chaire) تتبعها كما تتبعها عند غيرهم إشارة طريفة إلى الجو (37).
وقل إكرام الضيوف بعد أيام هومر لأن الأسفار أصبحت آمن بعض الشيء مما كانت في ذلك الوقت، ولأن النزل كانت تقدم الطعام والمأوى للمسافرين؛ غير أن كرم الضيافة ظل مع ذلك من فضائل الأثينيين البارزة. وكانوا يرحبون بالغرباء ولو لم يقدمهم إليهم أحد؛ فإذا جاء الغريب بخطاب من صديق له ولمن جاء إليه، قدم له الطعام والمأوى، وربما قدمت له عند رحيله بعض الهدايا. وكان من حق الضيف المدعو إلى طعام أن يصحب(7/93)
معه ضيفاً غير مدعو. وكانت حرية الدخول إلى منازل الغير سبباً في قيام طائفة من الطفيليين على مر الأيام. وكانت الكلمة المستعملة في هذا المعنى Paraisitoi تطلق في الأصل على الكهنة الذين يأكلون "الحب الباقي" من مقررات المعابد. وكان الأغنياء أسخياء في عطائهم الخاص والعام. وكانت عادة العطف على الإنسانية عادة اليونان فعلاً واسماً، واللفظ الذي يطلق عليها Philanthropy من أصل يوناني. وكان التصدق - Charitas أي الحب - من طباعهم، وكان لديهم هيئات للعناية بالغرباء والمرضى، والفقراء، والطاعنين في السن (38). وكانت الحكومة تقرر معاشات للجرحى من الجنود وتربي أيتام الحرب على نفقة الدولة؛ ولما حل القرن الرابع قبل الميلاد قررت مرتبات للعمال العاجزين عن العمل (39). وكانت الدولة تدفع في أوقات الجدب، والحرب، وغيرها من الأزمات إعانة يومية قدرها أبولتان (34 slash100 من الريال الأمريكي) للمحتاجين، تضاف إلى ما كانت تعطيه كلاً منهم لحضور الجلسات الجمعية، والمحاكم، ومشاهدة التمثيل. ولم تكن هذه الإعانات تخلو من الفضائح المعتادة، فهاهو ذا ليسياس يذكر في خطبة له رجلاً يتقاضى إعانة من الأموال العامة، مع أن له أصدقاء من الأغنياء، ويكسب مالاً من عمله اليدوي، ويركب الخيل للرياضة (40).
ولعلك كنت إذا سألت اليوناني قال لك: إن الأمانة أحسن سياسة، ولكنه كان في حياته العملية يجرب كل الوسائل الأخرى أولاً. فترى المغنين في مسرحية فلكتيتس Fhiloctetes لسفكل يظهرون أعظم العطف على الجندي الجريح الذي تخلى عنه رفقاؤه، ثم ينتهزون فرصة غفوته فيشيرون على نيوبتلموس Neoptolemus أن يغدر به ويسرق سلاحه، ويتركه بعدئذ لمصيره. وكان كل الناس يشكون من أن بائع الأشتات الأثيني يغش بضاعته، ويخسر الكيل والميزان، وينقص ما بقي للمشتري من نقود على الرغم(7/94)
من مفتشي الحكومة، ويحول مرتكز الميزان نحو الكفة التي بها الموزون (40أ)، ويكذب كلما سنحت له الفرصة؛ وهو متهم بأخذ الوذم (1) من الكلاب (41). ويطلق كاتب مسرحي هزلي على بائعي السمك اسم "السفاحين" ويسميهم كاتب أرحم بهم منه "لصوصاً" (42). ولم يكن رجال السياسة خيراً من هؤلاء كثيراً؛ فلا نكاد نرى رجلاً ذا شأن في الحياة الأثينية العامة لم يتهم بالالتواء (43)، وإذا وجد فيهم رجل شريف مثل أرستيدبز عد من خوارق الطبيعة، يكاد يبلغ حد البشاعة، وحتى ديوجين نفسه بمصباحه الذي يسير به في النهار يعجز عن أن يعثر على رجل آخر شريف. ويقول توكيديدز إن الرجال كانوا أكثر حرصاً على أن يوصفوا بالحذق من أن يوصفوا بالأمانة، ويظنون أن الأمانة هي السذاجة (44). وكان من أيسر الأمور أن تجد اليونان يخونون وطنهم. وفي ذلك يقول بوزنياس: "لم يكن ينقص بلاد اليونان في أي وقت من الأوقات رجال مصابون بهذا الداء داء الخيانة" (45). وكانت الرشوة هي السبيل المألوفة للرقي، ولفرار المجرمين من العقاب، ولنيل المطالب الدبلوماسية. وحصل بركليز على مبالغ طائلة من المال للخدمات السرية، وأكبر الظن أنه استخدمها لتيسير أسباب المفاوضات الدولية. وكانت المبادئ الأخلاقية قبلية الطابع إلى أقصى حد، وينصح زنوفون في رسالة له في التربية بالالتجاء الصريح إلى الكذب والسرقة في معاملة أعداء البلاد (46). ويدافع الرسل الأثينيون الذين وفدوا إلى إسبارطة في عام 432 عن إمبراطوريتهم بتلك العبارات الصريحة: "لقد كان القانون السائد على الدوام أن يخضع القوي للضعيف ... ولم يسمح أحد بأن تقف المطالبة بالعدالة في سبيل المطامع إذا لاحت للتخلص فرصة كسب شيء ما قوة
_________
(1) الوذم الحزة من الكرش والمصارين المقطوعة تعقد وتلوى ثم ترمى في القدر والجمع أوْذم ووذوم، وهي الوذمة وجمعها وذام. (المخصص). وقد استعملنا هذا "اللفظ" (للسُّجُق). (المترجم)(7/95)
واقتداراً" (47). ولا يبعد أن تكون هذه الفقرة هي وخطب الزعماء الأثينيين في ميلوس (48) من خيال توكيديدز الفلسفي أثارتها أقوال بعض السوفسطائيين الساخرة؛ ومن أجل هذا فإن الحكم على اليونان من أخلاق جورجياس، وكلكليز Callicles، وثرازيماكوس Thrasymachus التي تخالف العرف المألوف لا يكون فيه من العدالة أكثر مما في وصف الأوربيين المحدثين بالاستناد إلى أقوال مكيفلي، ورشفوكول، ونتشة، واسترنر Stirner الشاذة الغريبة. ولسنا نحب أن نقول ماذا في هذا الحكم من عدالة. ومما يدل على أن اليونان يرون أنهم أرقى من أن يتقيدوا بهذه القيود الأخلاقية أن الإسبارطيين لا يترددون في موافقة الأثينيين على هذه الطائفة من نقط الخلاف الأخلاقية. ولما أن استولى فوبداس Phoebidas اللسديموني على قلعة طيبة غدراً وخيانة على الرغم من معاهدة الصلح المعقودة مع الطيبيين، وسُئل أجسلوس Agesilus ملك إسبارطة عما في هذا العمل من العدالة أجاب بقوله: "ليس لك إلا أن تسأل هل هو نافع أو غير نافع، لأن العمل النافع لبلدنا هو العمل الصالح". وكثيراً ما كانت تُخرق شروط الهدنة، وتُنقض العهود الصريحة، وتُقتل الوفود (49). على أننا نعود فنقول: إن اليونان قد لا يختلفون عنا إلا في صراحتهم لا في مسلكهم، ذلك أن تفوقنا عنهم في الرقة يجعلنا نستنكف أن ندعو جهرة إلى ما نفعل.
ولم يكن للعادة والدين إلا أثر قليل في كبح جماح المنتصرين في الحرب. ولقد كان من الأمور المألوفة، حتى في الحروب الأهلية، أن تُنهب المدن المفتوحة، وأن يُقتل جميع الجرحى، وأن يُذبح جميع أسرى الحرب أو من يُقبض عليهم من غير المحاربين، أو أن يُتخذوا عبيداً إذا لم يُفتدوا، وأن تُحرق البيوت، وأشجار الفاكهة، والمحصولات الزراعية، وأن تُباد الحيوانات، وتُتلف البذور لكيلا تُزرع في المستقبل (50). وقد ذبح الإسبارطيون في بداية حرب البلوبونيز كل من وجدوهم من اليونان في البحر(7/96)
وعاملوهم معاملة الأعداء، سواء من أحلاف أثينة أو من المحايدين (51)، وقتل الإسبارطيون في معركة إيجسبوتامي Aegospotami التي انتهت بها هذه الحرب، ثلاثة آلاف من الأسرى الأثينين (52) - ويكاد هؤلاء أن يكونوا صفوة المواطنين الأثينيين الذين قضت الحرب على الكثيرين منهم. وكانت الحرب من نوع ما - حرب مدينة ضد مدينة، أو طبقة ضد طبقة - هي الحالة المألوفة العادية في بلاد اليونان. وعلى هذا النحو أخذت هذه البلاد التي هزمت ملك الملوك يقاتل بعضها بعضاً، فيلقى اليوناني اليوناني في ألف موقعة، ولم يكد يمضي قرن واحد على معركة مرثون حتى أخذت الحضارة اليونانية، وهي أزهى حضارات التاريخ على الإطلاق، تفني نفسها بهذا الانتحار القومي الطويل الأمد.(7/97)
الفصل الخامِس
الطباع
إذا كان هؤلاء الأقوام المتخاصمون الطائشون لا يزالون يخلبون عقولنا ويستدرون عطفنا، فما ذلك إلا لأنهم يسترون خطاياهم وعيوبهم المكشوفة بما طبعوا عليه من قوة المغامرة والذكاء التي تبعث البهجة في النفوس. لقد كان قرب البحر من الأثينيين، وما أتاحه لهم هذا القرب من فرص تجارية نادرة، وحرصهم على الحرية في حياتهم الاقتصادية والسياسية، مما جعل الأثيني إنساناً مرن العقل والطبع، سريع التهيج والحساسية إلى أقصى حد. ألا ما أعظم ما يتبينه الإنسان من تغير الطباع حين ينتقل من الشرق إلى أوربا، فهو ينتقل من الأصقاع الجنوبية الوسنانة إلى أقاليم وسطى في شتائها من البرودة ما يكفي لبعث النشاط دون ركود، وفي صيفها من الدفء ما يطلق القوى دون أن يضعف الجسم والروح. هنا يكون الإيمان بالحياة وبالإنسان، والتحمس للحياة تحمساً لا نجد له نظيراً قبل عصر النهضة.
من هذا الوسط المنبه المنشط تنبعث الشجاعة وتنبعث الثورة العاطفية البعيدة كل البعد عن فضيلة ضبط النفس ( Saphrosyne) التي يدعو إليها الفلاسفة دون جدوى، وعن الرصانة التي يعزوها الشاب ونكلمان Winckelmann والشيخ جوته إلى اليونان العاطفيين القلقين. ليست المثل العليا لأية أمة من الأمم عادة إلا ستاراً يخفي عن الأعين الفاحصة حقيقة أمرها، ولذلك فإن الواجب يقضي بألا تعد من الحقائق التاريخية. إن الشجاعة والاعتدال - أو الرجولة ( Andreia) وعدم الإفراط في شيء ما ( Meden agan) إذا شئت الألفاظ التي نقشت على جدران معبد دلفي - شعار اليوناني؛ وهو يحقق أولهما في كثير(7/98)
من الأحوال أما ثانيهما فلا يحققه من اليونان إلا الفلاحون، والفلاسفة، والقديسون. أما الأثيني العادي فهو رجل شهواني ولكنه رجل ذو ضمير حي، لا يرى خطيئة في ملاذ الجسم ويجد فيها الجواب العاجل للتشاؤم الذي يخيم عليه في فترات تفكيره. وهو مغرم بالخمر ولا يستحي أن يسكر منها بين الفينة والفينة، ويحب النساء حباً جثمانياً لا يكاد يشعر بأن فيه خطيئة ما، ولا يجد حرجاً في أن يعفو عن نفسه بعد أن يرتكب خطيئة الاختلاط الجنسي الشاذ، ولا يرى أن تنكب طريق الفضيلة كارثة لا يمكن النجاة منها. ولكنه رغم هذا يخفف الخمر بإضافة ثلاثة أقداح من الماء لكل قدحين منها، ويرى أن تكرار السكر مخالف لمقتضيات الذوق السليم؛ وهو يعظم الاعتدال بل يعبده مخلصاً في عبادته إياه، ولكنه قلما يسير عليه في حياته العملية، ويصوغ مبدأ السيطرة على النفس صياغة لا تجاريها في الوضوح صياغة أي شعب آخر في التاريخ لهذا المبدأ السامي. إن الأثينيين أذكى من أن يكونوا صالحين ويسخرون من البلاهة أكثر مما يمقتون الرذيلة، وليسوا كلهم حكماء؛ وليس لنا أن نتصور أن نساءهم كلهن حِسان مثل نسكا Nausica، أو أن فيهن من أسباب الجلال ما في هلن؛ كما لا يحق لنا أن نتصور أن رجالهم يجمعون بين شجاعة أجاكس وحكمة نسطور. لقد حفظ لنا التاريخ أسماء عباقرة اليونان وغفل عن ذكر بلهائهم (عدا نيشياس Nicias) ؛ وقد يبدو عصرنا نفسه عظيماً حين ينسى معظمنا، ولا ينجو من هذا النسيان إلا الشوامخ منا. وإذا أخرجنا من حسابنا ما يبعثه قدم العهد في القلوب من عطف وحنان على الأقدمين، بقي أن نقول إن الأثيني العادي لا يقل دهاء عن الشرقي، ولا يقل شغفاً بالجدة عن الأمريكي، متشوف طلعة على الدوام، لا ينقطع عن الحركة والانتقال، ولا ينفك ينادي بالهدوء البرمنيدي (1)، ولكنه مضطرب مهتاج مثل هرقليطس. ولم يكن لشعب قبل الأثينيين ما كان لهم من قوة الخيال أو
_________
(1) نسبة إلى الفيلسوف برمنيدس الإيلي (القرن السادس قبل الميلاد). (المترجم)(7/99)
فصاحة اللسان؛ ولقد كان التفكير الواضح والتعبير الخالي من الغموض يبدوان للأثيني من الصفات القدسية، فلم يكن يطيق التشويش والارتباك العلمي، ويرى أن الحديث الدقيق القائم على المعرفة والذكاء أرقى متع الحضارة. ولقد كان سبب ما امتاز به التفكير وما امتازت به الحياة من غزارة وقوة، أن اليوناني كان يرى أن الإنسان هو المقياس الذي تقدَّر به الأشياء جميعها؛ فالأثيني المتعلم يعشق العقل، وقلما كان يشك في قدرته على إدراك العالم وتصويره؛ وكان حب المعرفة والرغبة في الفهم أنبل عواطفه وأعظم مشتهياته؛ وكان شغفه بهما شغفاً مسرفاً قوياً كشغفه بغيرهما. ولقد كشف فيما بعد أن للعقل الإنساني والجهود البشرية حدوداً يقفان عندها ولا يتخطيانها، وكان من الطبيعي أن يكون رد الفعل المترتب على هذا الكشف أن تنتابه حالة من التشاؤم عجيبة لا تتفق قط مع بهجته ومرحه. وحتى في العصر الذي بلغ فيه إنتاجه الفكري غايته، كانت آراء أعمق مفكريه - وهم كتاب المسرحيات لا الفلاسفة - تشوبها عقيدته في أن بهجة الحياة خداعة قصيرة الأجل، وأن الموت رابض له متربص به.
وكانت روح البحث هي التي أنشأت علوم اليونان، كما كان الحرص على الاستحواذ منشأ حياتهم الاقتصادية والعامل المسيطر عليها. وفي هذا المعنى الأخير يقول أفلاطون مبالغاً كعادة علماء الأخلاق: "إن حب الثراء يستحوذ كل الاستحواذ على قلوب الرجال، فلا يفكرون إلا في أملاكهم الخاصة، التي تتعلق بها نفس كل مواطن" (53). فالأثينيون في حقيقة أمرهم حيوانات متنافسة، وبهذه المنافسة القاتلة التي لا هوادة فيها ولا رحمة، يحفز بعضهم همم بعض. وهم على جانب كبير من الذكاء، ولا يقلون دهاءً واحتيالاً عن الساميين، وهم صلاب الرأي صلابة العبرانيين كما وصفتهم التوراة، وهم مثلهم مشاكسون، معاندون، متكبرون، كثيرو اللجاج والمساومة(7/100)
في البيع والشراء، لا يتركون نقطة في حديثهم من غير جدل ومناقشة؛ إذا عجزوا عن محاربة غيرهم من الأمم تحاربوا فيما بينهم. وليسوا على جانب كبير من رقة العواطف، يعيبون على يوربديز دموعه في مسرحياته، يشفقون على الحيوان ويقسون على الإنسان: فهم يعذبون العبيد دون ذنب، ويخيل إلى من يراهم أنهم ينامون ملء جفونهم بعد أن يذبحوا جميع من في المدينة من غير المحاربين، ولكنهم مع ذلك يكرمون العاجز والفقير؛ ودليلنا على ذلك أنه لما علمت الجمعية أن حفيدة أرستجيتون Aristogeiton قاتل الطغاة تعيش في لمنوس فقيرة معدمة، أمدتها بالمال ليكون لها بائنة ولتحصل به على زوج لها. وكان المظلومون المضطهدون من المدن الأخرى يجدون في أثينة ملجأ يحميهم ويعطف عليهم.
والحق أن الأثيني لم يكن يفكر في الأخلاق كما نفكر فيها نحن الآن. فهو لا يأمل أن يكون له ما للصالحين من أفراد الطبقة الوسطى من ضمير، أو ما للأشراف من شعور بالشرف، بل يرى أن أحسن الحياة هي الحياة الكاملة، المليئة بالصحة، والقوة، والجمال، والانفعال، والثراء، والمغامرة، والتفكير. والفضيلة عنده هي الرجولة ( Arete) - أو الحربية كما كان معنى اللفظ في بادئ الأمر - والتفوق ( Ares أي المريخ)، وهي تقابل بالضبط كلمة Viritus عند الرومان ومعناها الرجولة. والرجل المثالي عند الأثينيين هو الكلوجاثوس Kalogathos أي الذي يجمع بين الجمال والعدالة في فن من فنون العيش الراقية، والذي يقدر في صراحة قيمة الكفاية، والشهرة، والثراء، والصداقة، كما يقدر الفضيلة وحب الإنسانية. ويرى الأثيني كما يرى جوته أن ترقية النفس هي كل شيء. ويختلط بهذا المبدأ عنده قدر من الغرور لا نستسيغه نحن لصراحته: فاليونان لا يملون الإعجاب بأنفسهم، ويعلنون في كل مقام تفوقهم على غيرهم من المحاربين، والكتاب، والفنانين، والشعوب بأسرها. وإذا شئنا أن نعرف الفرق بين اليونان والرومان فما علينا إلا أن نوازن بين الفرنسيين والإنجليز، وإذا أحببنا أن نحس بالروح(7/101)
الإسبارطية وندرك الفرق بينها وبين الروح الأثينية فما علينا إلا أن نفكر في روح الألمان وروح الفرنسيين.
وقد اجتمعت صفات الأثينيين كلها لتقيم دولة - المدينة؛ ففيها ولدت قوتهم وشجاعتهم، وحدة ذكائهم وألمعيتهم، وشقشقة لسانهم، وشدة مراسهم، ومحبتهم للكسب، وشدة غرورهم، ووطنيتهم، وعبادتهم للجمال والحرية؛ وفي دولة المدينة اجتمعت هذه الصفات كلها وبلغت غايتها. وهم سريعو الانفعال ولكنهم لا يميلون كثيراً مع الهوى. ويجيزون التعصب الديني من آن إلى آن، غير أنهم لا يتخذونه وسيلة للحد من حرية الفكر، بل يتخذونه سلاحاً من أسلحة السياسة الحزبية، ورباطاً لتجاربهم الأخلافية. أما فيما عدا هاتين الحالتين، فهم يستمسكون بقدر من الحرية، يندهش منه زوارهم الشرقيون ويبدو في نظرهم الفوضى بعينها. ولكن حريتهم هذه، وكون كل منصب من مناصب الدولة ميسر لكل مواطن وكون كل مواطن محكوماً تارة وحاكماً تارة أخرى، لكن هذه الأمور هي التي جعلتهم يخصصون نصف حياتهم لخدمة دولتهم. ولم يكن بيتهم إلا المكان الذي ينامون فيه، أما حياتهم فكانوا يقضونها في السوق العامة، وفي الجمعية، والمجلس، والمحاكم، وساحات الأعياد الكبرى والمباريات، وفي مشاهدة المسرحيات التي يمجدون بها مدينتهم وآلهتها. وهم يعترفون بحق الدولة في أن تجندهم وتستولي على أموالهم متى احتاجت إليهم وإليها. وهم يعفون عن إرهاقها إياهم واستيلائها على أموالهم، لأن عملها هذا يتيح لهم فرصة النماء الإنساني أكبر مما عرفه الإنسان في أي عصر من العصور السابقة؛ وهم يحاربون دفاعاً عن مدينتهم لأنها مهد حرياتهم وحارستها. وفي ذلك يقول هيرودوث "وبهذا زاد الأثينيون قوتهم؛ ويتضح كل الوضوح، من هذا ومن شواهد أخرى كثيرة، أن الحرية من أعظم النعم. ألست ترى أن الأثينيين، وهم خاضعون لحكم الطغاة، لم يكونوا يفوقون جيرانهم في الشجاعة أدنى تفوق، ولكنهم لم يكادوا يتحررون من نير الطغاة حتى صاروا أشجع الشجعان بلا منازع" (54).(7/102)
الفصل السادس
العلاقات الجنسية قبل الزواج
تبدو أثينة إبان مجدها شرقية أكثر منها أوربية في أخلاق أهلها، كما تبدو كذلك في حروفها الهجائية، وقي مقاييسها وموازينها، وسكتها، وملابسها، وموسيقاها، وفلكها، وطقوسها الصوفية. ففي الأخلاق يعترف الرجال والنساء اعترافاً صريحاً بأن العلاقة الجنسية هي أساس الحب، ولذلك لم يكن شراب العشاق الذي تعصره السيدات المشتاقات يقدم للرجال المهملين لأغراض أفلاطونية خالصة. لقد كانوا يطلبون إلى النساء المحترمات أن يكن عفيفات قبل الزواج؛ أما الرجال غير المتزوجين فلم تكن تفرض على شهواتهم الجنسية، بعد أن يبلغوا الحلم، إلا القليل من القيود الخلقية. وقد كانت الأعياد الكبرى، وهي دينية في أصلها، صمامات الأمان لما طبعت عليه البشرية من شهوة جنسية مختلطة؛ فكانوا في هذه المناسبات يتغاضون عن التحرر من القيود في العلاقات الجنسية لاعتقادهم أن هذا ييسر لهم فيما بقي من العام أن يقتصر كل منهم على زوجته الوحيدة. ولم يكن الأثينيون يرون أن في اتصال الشبان بالخليلات من آن إلى آن شيئاً من العار، ولقد كان في وسع المتزوجون أنفسهم أن يبسطوا حمايتهم على تلك الخليلات، ولا ينالهم لهذا السبب عقاب أخلاقي أكثر من تأنيب زوجاتهم في بيوتهم وشيء قليل من سوء السمعة في المدينة (58). وكانت أثينة تعترف بالبغاء رسمياً وتفرض ضريبة على البغايا.
وأصبح العهر في أثينة، كما أصبح في معظم مدن اليونان، مهنة كثيرة الرواد، ذات فروع مختلفة لكل فرع إخصائيات. وكانت السبيل ميسرة أمام ذات الكفاية للترقي في هذه المهنة كما كانت ميسرة للترقي في غيرها من(7/103)
المهن في تلك المدينة. وكانت أسفل طبقة من العاهرات هي طبقة البرناي pornai، ويسكن معظم أفرادها في بيرية في مواخير عامة يسهل على الجمهور الاستدلال عليها بصورة قضيب بريابوس المعلقة عليها. وكان رسم الدخول في هذه المواخير أوبلة واحدة، وكان الداخل يجد فيها البنات في أثواب لا تكاد تستر منهن شيئاً، ولذلك يسمين الجمناي (أي العاريات)، وكن يجزن لمن يرون ابتياعهن أن يختبروهن كما تختبر الكلاب في بيوتها. وكان في وسع الرجل أن يعقد الصفقة التي يريدها للزمن الذي يبتغيه، ويتفق مع ربة البيت على أن يستأجر منها بنتاً تعاشره أسبوعاً، أو شهراً، أو سنة. وكانت البنت أحياناً تؤجر بهذه الطريقة لرجلين أو أكثر من رجلين في وقت واحد توزع وقتها بينهم حسب مواردهم المالية (61). وتلي هذه الطبقة عند الأثينيين طبقة العازفات على القيثارة، وأولئك يُستخدمن، كما تستخدم المسامرات في اليابان، في الليالي "الحمراء" يمرحن ويعزفن، ويرقصن رقصاً فنياً أو خليعاً مثيراً للشهوات، ثم يبتن مع مَن يريدهن من الرجال (62). وكانت قليلات من عجائز العاهرات يدرأن عن أنفسهن شر الفاقة بإنشاء مدارس لتدريب تلك البنات العازفات، يعلمنهن كيف يجملن أنفسهن، ويسترن عيوب أجسامهن، ويسلين الرجال بالعزف على الآلات الموسيقية، كما يعلمنهن كيف يتصنعن الحب والدلال. وقد حرصت الروايات المتواترة على أن تحتفظ العاهرات جيلاً بعد جيل، احتفاظ الإنسان بأثمن تراث، بالطرق التي يلهبن بها القلوب، كالتظاهر بالحب بعقل وروية، وإطالة أمده بتصنع الدلال والإباء، والحصول به على أكبر أجر مستطاع (63). لكن بعض العازفات، إذا صدقنا ما قاله عنهن لوشيان بعد ذلك العصر، كانت لهن قلوب رحيمة رقيقة، وكن يعرفن الحب الحقيقي، ويضحين بأنفسهن من أجل عشاقهن كما ضحت بنفسها كامي Camille. إن قصة العاهرة الشريفة قصة قديمة شابَ قرناها وخلع عليها طول الزمن شيئاً من الجلال والتبجيل.(7/104)
وكانت أرقى طبقات العاهرات الأثينيات هي طبقة الهتايراي hetairai- ومعناها الحرفي الرفيقات. ولم تكن هؤلاء الرفيقات مثل طبقة البورناي تتكون في الغالب من نساء شرقيات المولد، بل كانت تتألف في العادة من بنات المواطنين اللاتي سقطن لسبب من الأسباب، أو فررن من العزلة المفروضة على العذارى والنساء الأثينيات. وكن يعشن مستقلات بأنفسهن ويستقبلن في بيوتهن مَن يغوين من العشاق. وكانت كثرتهن سمراوات بطبيعتهن، ولكنهن كن يصبغن شعرهن باللون الأصفر لاعتقادهن أن الأثينيين يفضلون الشقراوات؛ وكنّ يميزن أنفسهن بلبس أثواب منقوشة بالورد، ولعل هذه الثياب كان يفرضها عليهن القانون (64). وكان بعضهن يحصلن على قدر لا بأس به من التعليم بالقراءة المستقلة من حين إلى حين، وبالاستماع إلى المحاضرات، وكن يسلين روادهن المثقفين بحديثهن المنطوي على قدر من العلم والثقافة. وقد اشتهرت منهن تاييس Thais وديوتيما Diotima وثارجليا Thargelia، وليونتيوم Leontium، كما اشتهرت أسبازيا، بمناقشاتهن الفلسفية، واشتهرن أحياناً بأسلوبهن الأدبي المصقول (65). وذاعت شهرة الكثيرات منهن بفكاهاتهن الحلوة، وفي الآداب الأثينية لهن مجموعة من المقطوعات الشعرية الفكهة (66). وكانت العاهرات على اختلاف طبقاتهن محرومات من الحقوق المدنية، لا يجوز لهن أن يدخلن هيكلاً من الهياكل عدا هيكل إلهتهن أفرديتي بندموس Aphrodite Pandenos، ولكن قلة مصطفاة من الهتايراي كانت لهن منزلة عالية في مجالس الرجال الاجتماعية في أثينة، ولم يكن أحد من الرجال يستحي أن يُرى في صحبتهن، وكان الفلاسفة يتبارون في كسب ودهن، ومن المؤرخين من يروي تاريخهن بنفس الخشوع والإجلال الذي يرويه به بلوتارخ (67).
وبهذه الطرق خلدت بعض أسماءهن. فمن هؤلاء كلبسدرا التي سُميت كذلك لأنها كانت تُخرج عشاقها من عندها بعد ساعات محددة تحصيها بساعة(7/105)
رملية؛ ومنهن ثرجيليا Thargelia متا هاري Mata Hari (1) زمانها، التي خدمت الفرس بأن ضاجعت أكبر عدد مستطاع من ساسة أثينة (68)؛ وثيوريس Theoris التي خففت عن سفكليز متاعب شيخوخته، وأرشبي Archippe التي خلفتها في هذا العمل حوالي العقد التاسع من حياة هذا الكتاب المسرحي (69)؛ ومنهن أركيانسا Archeanassa التي كانت تُسلي أفلاطون (70)، وداني Danae وليونتيوم Leontium اللتين علمتا أبيقور فلسفة اللذة؛ ومنهن تمستونوئي Themistonoe التي ظلت تمارس مهنتها حتى فقدت آخر سن من أسنانها وآخر خصلة من شعرها؛ ومنهن ناثينا Gnathaena التي كانت تطلب ألف درخمة (ألف ريال أمريكي) ثمناً لمضاجعة ابنتها ليلة واحدة، لأنها قضت وقتاً طويلاً في تدريبها وإعدادها لمهنتها (71). وكان جمال فريني Phryne حديث أثينة كلها في القرن الرابع، وذلك لأنها لم تكن تظهر أمام الناس إلا وهي محجبة من رأسها إلى قدميها، ولكنها في عيدي إلوزيا وبسدونيا تخلع ثيابها أمام الناس كلهم وتسدل شعرها على جسمها وتنزل البحر لتستحم (72)، وقد عشقت بركستيليز المَثال؛ ووقفت أمامه لينحت على صورتها تماثيل أفرديتي. وعلى صورتها أيضاً نحت أبليز تمثال أفرديني أناديوموني Aphrodite Andeyomone (73) . وأثرت فريني من عشاقها إثراء أمكنها من أن تعرض استعدادها لإعادة بناء أسوار طيبة إذا وافق الطيبيون على نقش اسمها على هذه الأسوار، ولكنهم أصروا على رفض هذا العرض. ولعلها تغالت فيما طلبته إلى يوثياس Euthias من أجر لها، فثأر لنفسه منها باتهامها بالإلحاد؛ ولكن أحد أعضاء المحكمة كان من زبائنها، كما كان هيبريدز الخطيب من عشاقها المفتونين بها، ودافع عنها هيبريدز ولم يستخدم في هذا الدفاع بلاغته فحسب بل شق أمام المحكمة جلبابها وكشف عن صدرها. ونظر القضاة إلى جمالها وبرؤوها من تهمة الإلحاد في الدين (74). ويقول أثينيوس
_________
(1) جاسوسة في الحرب العالمية الأولى. (المترجم)(7/106)
"يبدو أن لئيس Lais الكورنثية كانت أجمل من أية امرأة وقعت عليها العين" (75). وتتنازع شرف مولدها مدن لا تقل في عددها عن المدن التي تتنازع شرف انتساب هومر إليها. ويتوسل إليها المَثالون والرسامون أن تقف أمامهم لينحتوا تمثالها أو يصوروها، ولكنها تتمنع حياءً وخجلاً، ثم يتغلب عليها ميرون Myron العظيم في شيخوخته فتقبل طلبه؛ حتى إذا خلعت ثيابها نسي وقار شَعْره الأبيض ولحيته وعرض عليها أن ينزل عن ما يملك إذا أقامت معه ليلة واحدة، فتبسمت ضاحكة من قوله، وهزت كتفيها المستديرتين، وتركته دون أن ينحت التمثال. وفي صباح اليوم الثاني اشتد به الوجد، وعادت إليه نشوة المراهقة، فصفف شعره، وحلق لحيته، وارتدى ثوباً قرمزي اللون، وتمنطق بمنطقة ذهبية، وتقلد قلادة ذهبية، وتختم في جميع أصابعه، وحمر خديه، وعطر ثيابه وجسمه، ثم ذهب وهو على هذه الصورة يطلب لئيس ويعلن إليها أنه متيم بها. فنظرت إلى صورته الممسوخة وعرفت من هو، ثم أجابته بقولها: "أيها الصديق المسكين، إنك تطلب إلي ما أبيته على أبيك بالأمس"67). وجمعت لئيس من مهنتها ثروة طائلة، ولكنها لم تكن تمنع نفسها عن فقراء العاشقين من ذوي الجمال؛ وقد أعادت دمستين القبيح الصورة إلى الفضيلة، بأن طلبت إليه عشرة آلاف درخمة أجر ليلة واحدة (77). واكتسبت من أرستبس الثري من المال ما أفزع خادمه (78)، أما ديجين المعدم فكانت تسلم نفسها إليه بأقل أجر، لأنها يسرها أن يجثو الفلاسفة أمام قدميها. وقد أنفقت ثروتها في سخاء في تشييد المعابد والمباني العامة، وعلى الأصدقاء، ثم عادت آخر الأمر، كما يعود معظم من على شاكلتها، فقيرة كما كانت أيام شبابها. وأخذت تمارس مهنتها صابرة إلى آخر أيام حياتها، فلما قضت نحبها أقيم لها قبر فخم تكريماً لها، لأنها كانت أعظم غازية منتصرة عرفها اليونان طول تاريخهم (79).(7/107)
الفصل السابع
الصداقة اليونانية
وأعجب من هذا الوفاق بين البغاء والفلسفة اعتراف اليونانيين في غير حياء بالانحراف الجنسي. فلقد كان أكبر من ينافس العاهرات هم غلمان أثينة، وكانت العاهرات اللائي يسربلهن العار من قمة رءوسهن إلى أخمص أقدامهن لا يفتأن ينددن بما في عشق الذكور للذكور من فساد خلقي شنيع. ولقد كان التجار يستوردون الغلمان الحسان ليبيعوهم لمن يدفع فيهم أغلى الأثمان، وكان هؤلاء يُستخدمونهم في أول الأمر لقضاء شهواتهم ثم يتخذونهم فيما بعد أرقاء (80). ولم يكن من بين الذكور في المدينة إلا أقلية ضئيلة تعتقد أن ثمة عيباً في أن يثير الشباب المخنثون أبناء الأشراف في المدينة شهوة شيوخها ويشبعوا هذه الشهوة. ولم تكن إسبارطة أقل استهتاراً من أثينة في هذا الشذوذ الجنسي، وشاهد ذلك أن ألكمان حين أراد أن يثني على بعض الفتيات سماهن "أصدقاءه - الغلمان الإناث" (81). وكانت الشرائع الأثينية تحرم من يمارس رذيلة اللواط من الحقوق السياسية (82)، ولكن الرأي العام كان يتغاضى عن هذه العادة ويجيزها وهو هازل فكه؛ ولم يكن أهل إسبارطة أو كريت ينظرون إليها نظرة الاستنكار (83)، وكان أهل طيبة يرون أنها معين لا ينضب للشجاعة وحسن النظام العسكري. وكان هرمديوس وأرستجيتون، وهما أعظم بطلين تعتز أثينة بذكراهما، من قتلة الطغاة وعشاق الغلمان. وكان ألسبيديز أحب الناس إلى الشعب الأثيني في أيامه، وكان يفتخر بكثرة من عشقه من الرجال. ولقد ظل "العشاق اليونان" إلى أيام أرسطاطاليس يعلنون ولاءهم لمعشوقيهم عند قبر أيولوس رفيق هرقل (84)؛ ويصف أرستبس زنوفونَ قائدَ الجيوش الذي اشتهر(7/108)
بأنه من أشد رجال العالم صلابة وعناداً، بأنه مشغوف بحب الفتى كلينياس Cleinias (85) . وتمثل علاقة الرجل بالغلام، أو الغلام بغلام مثله في بلاد اليونان، جميع مظاهر الغرام الروائي- من عاطفة جياشة، وحب عذري، ونشوة، وغيرة، وعزف وغناء تحت نوافذ المعشوقين، وطول تفكير، وتوجع وأنين، وسهاد طويل (86). وإذا تكلم أفلاطون في الفدروس Phaedrus عن الحب الإنساني، فإما يتكلم عن الحب الجنسي بين الذكران، ويتفق المجادلون في محاوراته في نقطة واحدة - هي أن حب الرجل للرجل أنبل وأكثر روحانية من حب الرجل للمرأة (87). ونرى هذا الشذوذ نفسه بين النساء، ونراه أحياناً بين أرقاهن مثل سوفو Sopho، وكثير بين العاهرات، فالعاهرات المسامرات مثلاً يحب بعضهن بعضاً أكثر من حبهن من يعشن في كنفهن من الرجال، وعاهرات المواخير تُروى عنهن أعجب القصص في عشق بعضهن بعضاً (88).
ترى كيف يفسر الإنسان انتشار هذا الشذوذ الجنسي في بلاد اليونان؟ فأما أرسطاطاليس فيفسره بخوفهم أن تزدحم بلادهم بالسكان (89)، وقد يكون هذا سبباً من أسباب هذه الظاهرة، ولكن لا جدال في أن ثمة علاقة بين انتشار اللواط والدعارة في أثينة من جهة وعزلة النساء من جهة أخرى. فقد كان الأولاد في أثينة في عصر بركليز يؤخذون من أجنحة الحريم في البيوت حيث تقضي النساء المحصنات حياتهن، وينشئون عادة في صحبة أولاد مثلهم أو رجال، وقلما تتاح لهم فرصة في طور تكوينهم وفي الفترة التي لم يشعروا فيها بعد برجولتهم، يدركون فيها جاذبية الحنو النسوي. كذلك كانت حياة الغلمان الجامعة في إسبارطة، واشتراكهم في الطعام، واجتماعهم في الأسواق العامة، والملاعب الرياضية، وفي مدارس الألعاب في أثينة، وحياة منظمات الشباب، كانت هذه كلها لا يرى فيها الشبان إلا صور الذكور. وحتى الفن نفسه لا يكشف عن الجمال النسوي قبل عهد بركستليز. وقلما كان(7/109)
الرجال في حياتهم الزوجية يجدون في البيوت رفقة عقلية، ذلك بأن عدم انتشار التعليم بين النساء يحدث ثغرة بين الجنسين فيضطر الرجال إلى البحث في خارج البيوت عن أسباب المتعة التي حرموا أزواجهم من الحصول عليها. ولم يكن البيت للمواطن الأثيني حصنه وملجأه، بل كان مكان نومه. وكان في كثير من الحالات يقضي النهار كله من مطلع الشمس إلى مغيبها في المدينة، وقل أن تكون بينه وبين النساء المحترمات عدا زوجته وبناته أية صلات اجتماعية. لهذا كان المجتمع اليوناني مقصوراً على أحد الجنسين، يعوزه الحيوية، والظرف، والمجاملة، والاستثارة، وهي الصفات التي اكتسبتها من روح النساء وسحرهن إيطاليا في عهد النهضة وفرنسا في عهد الاستنارة.(7/110)
الفصل الثامِن
الحب والزواج
الحب الروائي موجود بين اليونان ولكنه قلما يكون سبب الزواج؛ ولسنا نجد إلا القليل منه في شعر هومر حيث يذكر أجممنون وأخيل كريسيس Chryseis، وبريسيس Brisseis، ويذكران أيضاً كسندرا التي لا تستجيب لحبهما في عبارات تنم عن الشهوة الجسمية؛ لكن في قصة نسكا ما يحذرنا من أن نعمم هذا الحكم، ودليلنا على هذا ما نجده من القصص التي لا تقل في قدمها عن عصر هومر نفسه مثل قصة هرقليط وأيولا، وقصة أورفيوس ويورديس. كذلك يتحدث الشعراء الغنائيون حديثاً طويلاً عن الحب، ويعنون به في العادة الرغبة في إشباع الشهوة؛ والقصص التي تروي أخبار فتيات يمتن من فرط الوجد، كالقصة التي يرويها استسكورس، نادرة أو تكاد تكون معدومة؛ ولكننا حين نرى ثينو Theano زوجة فيثاغورس تصف الحب بأنه "مرض النفس المشتاقة" (91) نحس بقوة الحب الروائي الحقيقية. ولما زادت مشاعر اليونان رقة وأحلت الشعر مكان حرارة الجسم، كثر ذكر العواطف الشعرية الرقيقة، وأصبح طول الفترة التي تضعها الحضارة بين الرغبة وإشباعها مما يتيح للخيال فرصة يخلع فيها المحاسن على الحبيب المأمول. وقد ظل أيسكلس نفسه هومري النزعة في معاملته للنساء، ولكننا نستمع في سفكل عن "الحب الذي(7/111)
يحكم الآلهة بإرادتها" (1)، وفي شعر يوربديز مقطوعات كثيرة وصف قوة إروس Eros إله الحب. وكثيراً ما يصف المتأخرون من كتاب المسرحيات شاباً يهم بحب فتاة (93)، ونستشف من أقوال أرسطاطاليس الصفة الحقيقية للعشق الروائي حين يقول إن "المحبين ينظرون إلى أعين أحبائهم، حين يستكن الخفر" (94).
وكانت هذه الشئون وأمثالها في عصر اليونان الزاهر تؤدي إلى صلات الجنسين قبل الزواج أكثر مما تؤدي إلى الزواج نفسه. ذلك بأن اليونان كانوا يعدون الحب الروائي صورة من "تقمص الشيطان للجسم" أو من الجنون، وكانوا يسخرون إذا ذكر لهم إنسان أنه وسيلة يهتدي بها إلى اختيار الزوج الصالح أو الصالحة (95). وكان الزواج عادة يتفق عليه والدا الزوجين كما كان يحصل على الدوام في فرنسا القديمة، أو بين خطاب محترفين (96)، أكبر ما يهتمون به فيه البائنات لا الحب. فقد كان يُنتظر من والد الفتاة أن يهيئ لابنته بائنة من المال، والثياب، والجواهر، ومن العبيد في بعض الأحيان (97).
_________
(1) قارن هذا بما ورد في أنتجون: إذا اشتبك الحب في نزاع. كسب المعركة لا محالة، والحب يسلب الأغنياء متاعهم! وهو يبيت سهران طول الليل. بخديه الناعمين على وسادة العذراء، يبحث عن فريسته على متن البحار، وينقب عنها بين ملاجئ الرعاة، وليس في وسع الآلهة أن تفر من سلطانه، وهي التي وهبت الخلود، فكيف بنا نحن الذين لا تطول حياتهم أكثر من يوم! فما أجن العقل الذي ينطوي عليه!(7/112)
وكانت هذه البائنة تبقى على الدوام ملكاً للزوجة، وتعود إليها إذا افترقت عن زوجها- وهو نظام يقلل من احتمال طلاقها منه. فإذا لم يكن للبنت بائنة فقلما تجد لها زوجاً، ومن أجل هذا كان أقاربها يجتمعون ليعدوها لها إذا عجز الوالد نفسه عن إعدادها. وبهذه الطريقة انقلب الزواج بالشراء الذي كان كثير الحدوث في أيام هومر، فصارت المرأة في عهد بركليز هي التي تشتري زوجها؛ ومن هذا الوضع تشكو ميديا في إحدى مسرحيات يوربديز. فلم يكن اليوناني إذن يتزوج لأنه يحب، ولا لأنه يرغب في الزواج (فهو كثير التحدث عن متاعبه)، بل ليحافظ على نفسه وعلى الدولة عن طريق زوج جاءته ببائنة مناسبة، وأبناء يردون عن روحه الشرور التي تصيبها إذا لم تجد من يُعنى بها، ولقد كان رغم هذه المغريات كلها يتجنب الزواج ما دام يستطيع تجنبه. ولقد كانت حرفية القانون تحرم عليه أن يبقى عازباً، ولكن القانون لم يكن ينفذ دائماً في أيام بركليز؛ ولما انقضى عهده زاد عدد العزاب حتى صار مشكلة من المشاكل الأساسية في أثينة (99). ألا ما أكثر الأمور التي تدهش الإنسان في بلاد اليونان! وكان الذين يرضون بالزواج من الرجال يتزوجون متأخرين، في سن الثلاثين عادة، ثم يصرون على الزواج من فتيات لا تزيد سنهن على خمسة عشر عاماً (100). وفي ذلك تقول إحدى الشخصيات في مسرحية ليوربديز: "إن زواج الشاب من زوجة شابة شر مستطير (1)، وسبب ذلك أن قوة الرجل تبقى طويلاً، أما نضرة الجمال فسرعان ما تفارق صورة المرأة" (101).
فإذا ما تم اختيار الزوجة، واتفق على بائنتها، تمت خطبتها رسمياً في بيت والدها، ويجب أن يحضر هذه الخطبة شهود، ولكن حضور الفتاة نفسها لم يكن ضرورياً. فإذا لم تتم هذه الخطبة الرسمية، لم يعترف القانون الأثيني
_________
(1) لعله يريد أن الرجل يجب ألا يتزوج صغيراً. (المترجم)(7/113)
بالزواج، فكانت الخطبة والحالة هذه هي العمل الأول في مراسم الزواج المعقدة. وكانت الخطوة الثانية التي تتبع هذه الخطوة الأولى بعد أيام قلائل هي إقامة وليمة بهذه المناسبة في بيت الفتاة. وكان الزوج والزوجة قبل أن يحضرا هذه الوليمة يستحمان كل منهما في بيته استحماماً يتطهران به رسمياً، ثم تقام الوليمة ويجلس رجال الأسرتين في جانب من جوانب الحجرة، ونساؤها في جانب آخر، ثم يأكل الجميع كعكة العرس ويشربون الكثير من الخمر، ثم يأخذ العريس بيد عروسه المحجبة ذات الثوب الأبيض- ولعله لم يكن قد رأى وجهها من قبل- ويسير بها إلى عربة تقلها معه إلى بيت أبيه في موكب من الأصدقاء ومن الفتيات العازفات على القيثارة، ويضاء لهما الطريق بالمشاعل، وتنشد لهما أناشيد الزواج. فإذا وصلا إلى البيت حملها وتخطى بها عتبة الدار، كأنه يمثل في ذلك أسرها في العهد القديم، ويحيي أبوا الزوج الفتاة، ويستقبلانها استقبالاً دينياً ويدخلانها في دائرة الأسرة وفي عبادة آلهتها؛ ولم يكن للكاهن دور ما في مراسيم الزواج كلها. ثم يرافق الضيوف الزوجين إلى حجرتهما، وهم ينشدون أنشودة غرفة الزواج، ويتلكؤون صاخبين عند بابها حتى يعلن لهم العريس أنه قد جنى ثمرة الزواج.
وكان في وسع الرجل أن يتخذ له فضلاً عن زوجته خليلة يعاشرها معاشرة الأزواج. وفي ذلك يقول دمستين: "إنا نتخذ العاهرات للذة، والخليلات لصحة أجسامنا اليومية، والأزواج ليلدن لنا الأبناء الشرعيين ويعنين ببيوتنا عناية تنطوي على الأمانة والإخلاص" (102)، وفي هذه الجملة الواحدة العجيبة جمع دمستين رأي اليونان في المرأة إبان عصرهم الذهبي. وتبيح قوانين دراكون التسري، ولما أن قضت الحروب على العدد الكبير من المواطنين بعد الحملة التي سُيرت على صقلية سنة 415 ق. م، ولم تجد كثيرات من البنات أزواجاً، لهن، أباح(7/114)
القانون صراحة التزوج باثنتين؛ وكان سقراط ويوربديز من بين من استجابوا لهذا الواجب الوطني (103). وكانت الزوجة عادة تقبل التسري وتصبر عليه صبر الشرقيات، لأنها تعرف أن "الزوجة الثانية" متى فارقتها فتنة جمالها أصبحت في واقع الأمر جارية في المنزل، وأن أبناء الزوجة الأولى دون غيرهم هم الذين يعدون أبناء شرعيين. ولم يكن الزنا يؤدي إلى الطلاق إلا إذا ارتكبته الزوجة، وكان الزوج في هذه الحال يوصف بأنه يحمل قرنين Keroesses (1) ، وكان من واجبه بحكم العادة أن يخرج زوجته من بيته (104). وكان القانون يعاقب الزانية، والرجل إذا زنى بامرأة متزوجة، بالإعدام؛ ولكن اليونان بلغوا من التساهل في الأمور الجنسية حداً يمنعهم من التشدد في تنفيذ حكم هذا القانون، فكان عادة يترك للزوج المعتدى عليه أن يأخذ بحقه من الزاني بالطريقة التي يختارها- فتارة يقتله في حالة التلبس، وتارة يرسل له عبداً يقتله، وتارة يكتفي بأن يأخذ منه تعويضاً مالياً (105).
وكان من السهل على الرجل أن يطلق زوجته، وكان في وسعه أن يطردها من بيته متى شاء من غير أن يبدي لذلك سبباً. وكانوا يرون عقم الزوجة سبباً كافياً لطلاقها، لأن الغرض من الزواج عندهم هو إنجاب الأبناء. أما إذا كان الرجل نفسه عقيماً فقد كان القانون يجيز، والرأي العام يحبذ، أن يستعين الزوج في هذه المهمة بأحد أقربائه. وكان الطفل الذي يولد نتيجة لهذا الاتصال ينسب للزوج نفسه، وعليه أن يعنى بروحه بعد وفاته. ولم يكن يباح للزوجة أن تترك زوجها متى شاءت، ولكن كان في وسعها أن تطلب إلى الأركون أن يطلقها من زوجها إذا قسا عليها أو
_________
(1) وهذا المعنى نفسه موجود في اللغة العربية فالقرنان عندهم هو الديوث، وإن كانت المعاجم العربية تقول إن اللفظ مأخوذ من القرينة لا من القرن، ويقولون في الإنجليزية To grow horns. ( المترجم)(7/115)
تجاوز حد الاعتدال في شئونه (106). وكان الطلاق يباح أيضاً إذا تراضى الزوجان، وكان هذا التراضي يعبر عنه عادة بإعلانه رسمياً إلى الأركون. وإذا افترق الزوجان بقي الأطفال مع أبيهم حتى إذا ثبت الزنا عليه (107). وجملة القول أن العادات والشريعة الأثينية فيما يختص بالعلاقات بين الرجال والنساء كانت كلها من صنع الرجال، وهي تمثل النكوص عن المستوى الذي وصل إليه المجتمع في مصر وكريت وبلاد اليونان نفسها في عصر هومر، وتميل بالمجتمع الأثيني ناحية الشرق.(7/116)
الفصل التاسع
المرأة
من الأمور التي لا تقل دهشة الإنسان منها عن دهشته من أي شيء آخر في هذه الحضارة، أنها ازدهرت من غير أن يكون لها عون أو حافز من المرأة. لقد قام عصر الأبطال، بفضل معونة النساء، بجلائل الأعمال، وبهذه المعونة أنتج عصر الطغاة روائع الشعر الغنائي، ثم اختفت النساء المتزوجات من تاريخ اليونان بين يوم وليلة، كأن الأقدار قد أرادت أن تدحض حجة القائلين بأن ثمة ارتباطاً بين مستوى الحضارة في بلد ما ومركز المرأة فيه. فبينما نرى المرأة في تاريخ هيرودوت في كل مكان، إذ لا نراها في تاريخ توكيديدز في أي مكان، وترى الأدب اليوناني من سميندز الأمرجوسي Semonides of Amorgos إلى لوشان يكرر أخطاء النساء تكراراً تشمئز منه النفس، وفي آخر هذا العصر يكرر بلوتارخ الرحيم نفسه قول توكيديدز (108): "يجب أن يحبس اسم السيدة المصونة في البيت كما يحبس فيه جسمها" (109).
وهذه العزلة النسائية لا وجود لها عند الدوريين، وأكبر الظن أنها جاءت من الشرق الأدنى إلى أيونيا، ثم انتقلت من أيونيا إلى أتكا، فهي جزء من تقاليد آسية. ولعل لاختفاء نظام التوارث عن طريق الأم، ونشأة الطبقات الوسطى، وسيطرة النظرة التجارية إلى الحياة، لعل لهذه الأمور أثرها في هذا التغيير: ذلك أن الرجال في هذه الأحوال ينظرون إلى النساء نظرة نفعية، فيجدون أكثر فائدة لهن في البيت. وتتفق الصبغة الشرقية التي اصطبغ بها الزواج اليوناني مع نظام العزلة الأتكية ( Attic) ، فهذا الزواج(7/117)
يقطع الصلة بين العروس وأقاربها، فتذهب لتعيش عيشة لا تكاد تختلف عن عيشة الخدم في بيت غير بيتها، تعبد فيه آلهة غير آلهتها. ولم يكن في مقدورها أن تتعاقد على شيء أو أن تستدين أكثر من مبلغ تافه أو أن ترفع قضايا أمام المحاكم. ومن شرائع صولون أن العمل الذي يقوم به إنسان تحت تأئير المرأة عمل باطل قانوناً (110)؛ وإذا مات الزوج لم ترث زوجته شيئاً من ماله. وحتى العيب الفسيولوجي في أمور التناسل يعد سبباً مشروعاً لإخضاعها للرجل؛ فبينما كان جهل الرجل في الأزمنة البدائية بدوره في أمور التناسل يؤدي إلى رفع شأن المرأة، نرى النظرية السائدة في عصر اليونان الزاهر ترفع من شأن الرجل بتقريرها أن قوة التناسل يختص بها الرجل وحده، وأن المرأة لا تعدو أن تكون حاملاً للطفل ومرضعاً له (111). وكان كبر سن الرجل عن المرأة وقت الزواج من أسباب خضوع المرأة، فقد كانت سنه في ذلك الوقت ضعفي سنها، وكان في وسعه إلى حد ما أن يشكل عقلها حسب آرائه وفلسفته في الحياة. وما من شك في أن الرجل كان يعرف ما يتمتع به الرجال من حرية في المسائل الجنسية في أثينة معرفة تمنعه أن يجازف بإطلاق الحرية لزوجته أو ابنته، فهو يختار الحرية لنفسه على أن يكون ثمنها عزلة زوجته أو ابنته. ولقد كان في وسعها إذا تحجبت الحجاب اللائق بها، وصحبها من يوثق به، أن تزور أقاربها وأخصاءها، وأن تشترك في الاحتفالات الدينية ومنها مشاهدة التمثيل؛ أما فيما عدا هذا فقد كان ينتظر منها أن تقبع في منزلها، وألا تسمح لأحد أن يراها من النافذة. وكانت تقضي معظم وقتها في جناح النساء القائم في مؤخرة الدار، ولم يكن يسمح لزائر من الرجال أن يدخل فيه، كما لم يكن يسمح لها بالظهور إذا كان مع زوجها زائر.
وكانت وهي في البيت تكرَم وتُطاع في كل ما لا يتعارض مع سلطة زوجها الأبوية. فهي تدبر شئون البيت أو تشرف على تدبيرها؛ وهي تطهو(7/118)
الطعام، وتمشط الصوف وتغزله، وتخيط ثياب الأسرة وتصنع فراشها. ويكاد تعليمها أن يكون مقصوراً على الفنون المنزلية، لأن اليونان كانوا يعتقدون مثل يوربديز أن ذكاء المرأة يعوقها عن أداء واجباتها (112). وكانت نتيجة ذلك أن نساء أثينة المحصنات كن أكثر تواضعاً، وأكثر "فتنة" لأزواجهن من مثيلاتهن في إسبارطة، ولكنهن كن في الوقت نفسه أقل منهن ظرفاً ونضوجاً، عاجزات عن أن يكن رفيقات لأزواجهن، لأن عقول هؤلاء الأزواج قد امتلأت وانصقلت بتجارب الحياة المختلفة؛ ومن أجل هذا أفاد الأدب اليوناني كثيراً من اليونانيات في القرن السادس ولم يفد شيئاً من نساء أثينة في عصر بركليز.
وقامت في أواخر هذا العصر حركة تهدف إلى تحرير المرأة. فنرى يوربديز يدافع عن النساء في خطب جريئة وغمزات خفيفة، أما أرسطوفان فيسخر منهن بألفاظ وقحة صاخبة. وتنزل النساء إلى الميدان في حركة التحرير ويخترن أقوى سلاح فيبدأن ينافسن الهيتاميراي ويجملن أنفسهن بكل ما يمدهن به تقدم الكيمياء من معونة. وشاهد ذلك سؤال تسأله كليونيكا Cleonica في مسرحية ليسستراتا Lysistrata لأرسطوفان: "أي شيء معقول نستطيع أن نقوم به نحن النساء؟ إنا لا نستطيع أن نفعل أكثر من أن نجلس جماعات بأدهاننا، وأصباغ شفاهنا، وأثوابنا الشفافة وما إلى ذلك" (113). وتصبح أدوار النساء من عام 411 أكثر شأناً في المسرحيات الأثينية مما كانت من قبل، وهي تكشف عن خروج المرأة شيئاً فشيئاً من العزلة التي كانت مفروضة عليها.
على أن سلطان المرأة الحقيقي على الرجل يظل قائماً في خلال هذا التغيير كله، ويجعل خضوعها للرجل خضوعاً غير حقيقي إلى حد كبير. إن اشتياق الرجل للمرأة أكثر من اشتياق المرأة للرجل يكسب المرأة في اليونان كما يكسبها في غيرها من البلاد ميزة كبرى عليه. وفي ذلك يقول صمويل جنسن: "سيدي؛ لقد وهبت الطبيعة المرأة من القوة ما لا تستطيع الشرائع أن تزيد عليه شيئاً" (114)(7/119)
وقد يضاعف من هذه السيادة الطبيعية أحياناً بائنتها الكبيرة، أو لسانها السليط، أو حب زوجها لها حباً يجعله خاضعاً ذليلاً لها. وأكثر ما يقوم عليه سلطانها هو جمالها، أو إنجاب الأبناء الظرفاء وتربيتهم، أو انصهار روحها وروح زوجها في بوتقة التجارب والواجبات المشتركة؛ إلا أن عصراً يستطيع أن يصور شخصيات ظريفة مثل أنتجوني، والسستيس، وإفجينيا، وأندرمكي، ويصور بطلات مثل هكيبا، وكسندرا، وميديا، إن عصراً يستطيع أن يفعل هذا لا يمكن أن يجهل أسمى ما في المرأة وأعمق ما فيها. لقد كان الأثيني العادي يحب زوجته، ولم يكن على الدوام يحاول أن يستر هذا الحب؛ وإن الألواح الجنائزية لتكشف عن حنو الزوج على زوجته وحنو الآباء على أبنائهن في داخل جدران المنزل، وهو في كلتا الحالتين حنو يثير الدهشة. وفي دواوين الشعر اليونانية كثير من الشعر الغزلي الواضح الصريح، ولكن فيه أيضاً كثيراً من المقطوعات الشعرية المؤثرة التي تخاطب بها الرفيقة المحبوبة! انظر مثلاً إلى هذه القبرية: "في هذا الحجر وارى مرثونيز Marethonis نيقوبوليس Nicopolis، وروى صندوقها الرخامي بعبراته، ولكن هذا لم يجده نفعاً. وهل ثمة فائدة تعود على رجل فارقته زوجته، وبقي هو وحيداً على ظهر الأرض؟ " (115).(7/120)
الفصل العَاشِر
المنزل
وكانت الأسرة اليونانية، كالأسرة الهندو - أوروبية بوجه عام، تتكون من الأب والأم، "والزوجة الثانية" أحياناً، ومن بناتهما غير المتزوجات، وأبنائهما، وعبيدهما، وزوجات أبنائهما وأطفالهم، وعبيدهم. وقد بقيت هذه الأسرة إلى آخر تاريخ اليونان أقوى الأنظمة في الحضارة اليونانية، لأنها كانت وحدة الإنتاج الاقتصادي وأداته في الزراعة والصناعة على السواء. وكان للأب في أتكا سلطان واسع في أسرته، ولكنه كان أقل من سلطان الأب في رومة؛ فقد كان في وسعه أن يعرّض الطفل الحديث الولادة للموت، ويبيع عمل أبنائه القاصرين وبناته غير المتزوجات، ويزوج بناته لمن يشاء، ويختار زوجاً آخر لأرملته بعد وفاته في بعض الظروف المعينة (116). ولكن القانون الأثيني لم يكن يجيز له أن يبيع أبناءه أنفسهم، وكان كل ولد من أولاده إذا تزوج يخرج عن سلطان أبيه، وينشئ لنفسه بيتاً خاصاً ويصبح عضواً مستقلاً في العشيرة.
ولم يكن البيت اليوناني على شيء من الفخامة. فقلما كان بناؤه الخارجي يزيد على سور سميك خال من الزينة ذي مدخل ضيق؛ وهو شهادة صامتة على ما كان يكتنف الحياة اليونانية من أخطار. وكانت مادة البناء هي الستُّوق Stucco، واللبِن في معظم الأحيان. وكانت بيوت المدينة تتجمع في شوارع ضيقة، وترتفع في الغالب طابقين، وتكون أحياناً مساكن مستقلة لعدة أسر، ولكن كل مواطن كان يمتلك في الغالب بيتاً مستقلاً. وظلت المساكن صغيرة في أثينة حتى ضرب ألسبيديز لأهلها مثلاً في الفخامة؛ ذلك(7/121)
أن النزعة الديمقراطية، يقويها الحذر الأرستقراطي، كانت تحول بين الأهلين وبين التفاهم والتظاهر، وكان تعود الأثيني قضاء أكثر وقته في الهواء الطلق يصرفه عن أن يكون للبيت نفسه من المعنى ومن الإعزاز ما له في المناطق الباردة. وكان لبيت الأثيني الغني في بعض الأحيان مدخل ذو عمد مواجه للشارع، ولكن هذا كان من المظاهر الشاذة النادرة. كذلك كانت النوافذ ترفاً نادر الوجود، وإذا وجدت اقتصرت على الطابق الأعلى، ولم تكن لها ألواح زجاجية، ولكنها كانت تغلق بمصاريع خشبية، أو تكون مشبكة لتحجب أشعة الشمس. وكان الباب الخارجي يتكون عادة من مصراعين يدوران على محورين ينفذان في إسكفة الباب وعتبته. وكان على أبواب الكثير من بيوت الأغنياء مطرقة معدنية تتخذ في أغلب الأحيان صورة حلقة في فم أسد (117). وكان يمتد من مدخل الدار - إلا في دور الفقراء - ممشى يؤدي إلى فناء مكشوف يسمى الأول Aule يرصف عادة بالحجارة، ويحيط به أحياناً رواق وعمد، وقد يكون في وسطه مذبح أو حوض أو كلاهما، مزدان أحياناً بالعمد، ومرصوفة أرضيته بالفسيفساء. ويدخل أكثر الهواء وضوء الشمس إلى البيت من هذا الفناء، لأن أبواب جميع حجراته تفتح فيه، وكان لا بد لمن يريد الدخول من حجرة إلى حجرة أن يدخل الرواق أو الفناء. وكانت الأسرة تقضي معظم حياتها، وتقوم بأكثر أعمالها، في ظلال الرواق والفناء وخلوتهما.
وكانت الحدائق نادرة في المدينة، وتقتصر على مساحات صغيرة في فناء البيت أو خلفه؛ أما حدائق الريف فكانت أكثر من حدائق المدينة عدداً وأوسع رقعة؛ ولكن قلة الأمطار في الصيف وتكاليف الإرواء قد جعلا الحدائق في أتكا ترفاً لا يستمتع به إلا القليلون. ولم يكن اليوناني العادي مرهف الحس بالطبيعة كروسو Rousseau، وكانت جبال بلاده لا تزال من أسباب متاعبه، ولهذا لم تكن في نظره جذابة جميلة، وإن كان شعراء اليونان(7/122)
ينظمون القصائد التي يتغنون فيها بجمال البحر رغم أخطاره الشديدة. ولم تكن الطبيعة تثير عواطفه، بقدر ما كان يتخيله فيها من كائنات روحية، فهو يملأ الغابات ومجاري المياه في بلاده بالآلهة والأشباح، وإذا فكر في الطبيعة لم يكن تفكيره في جمال مناظرها، بل في أنها مكان تتنعم فيه أرواح الأبطال الذين قتلوا في الميدان. وهو يطلق على جباله وأنهاره أسماء الأرباب الذين يسكنوها، ولا يرسم الطبيعة ذاتها بل يرسم بدلاً منه صوراً رمزية للآلهة التي تبعث فيها الحياة حسب ما تحدثه به ديانته الشعرية، أو ينحت لها تماثيل ترمز إلى هذه الآلهة. ولم ينشئ اليوناني لنفسه حديقة أو "جنة" ينعم بها وظل كذلك حتى عادت إليه جيوش الإسكندر بأساليب الفرس وذهبهم. ومع هذا فقد كانت الأزهار محبوبة في بلاد اليونان كما كانت محبوبة في غيرها من البلاد، وكانت الحدائق تنبتها، وبائعات الأزهار تمدهم بها، طوال العام. فكانت الفتيات البائعات يتنقلن من بيت إلى بيت يبعن الورد، والبنفسج، والزنبق، والنرجس، والسوسن، والآس، والليلق، والزعفران، وشقائق النعمان. وكانت النساء يزين شعرهن بالأزهار، والشبان المتأنقون يضعونها خلف آذانهم؛ وكان الرجال والنساء يخرجون في الأعياد وحول رقابهم عقود من الأزهار (118).
وكان البيت من داخله غاية في البساطة. فأما الفقراء فكانت أرض بيوتهم طيناً جف وتصلب، فلما زاد دخل هؤلاء أخذوا يغطون هذه الطبقة الأرضية بالحصباء أو يرصفونها بحجارة مستوية، أو بقطع منها صغيرة في أرضية من الأسمنت، كما كان أهل الشرق الأدنى يفعلون من أقدم الأزمان. وكانوا أحياناً يغطون هذا كله بالحصر أو الأبسطة. وكانت الجدران المقامة من الآجر تطلى بالجص أو بالجير. وكانوا يدفئون أنفسهم على مواقد من نحاس يخرج دخانها من أبواب الحجرات إلى فناء الدار، ولم يكونوا يحتاجون إلى هذه التدفئة أكثر من ثلاثة أشهر في العام. وتكاد البيوت أن تكون خالية من(7/123)
الزينة، ولكن الأغنياء في أواخر القرن الخامس أخذوا يزينون بيوتهم بالأبهاء ذات العمد، وجدرانهم بقطع من الرخام أو بطلاء يجعلها شبيهة بألواح الرخام، ويعلقون على هذه الجدران صوراً ملونة أو قطعاً من القماش المزركش، ويحلون سقفها بنقوش على الطراز العربي. وكان الأثاث قليلاً في البيوت العادية - فلم يكن يزيد على بضعة كراسي وصناديق، وقليل من النضد، وسرير. وكانت الوسائد توضع على الكراسي بدل المقاعد المنجدة، ولكن كراسي الأغنياء كانت تزين في بعض الأحيان بنقوش محفورة فيها بعناية فائقة، أو تطعم بالذهب أو بأصداف السلاحف، أو العاج. وكانت الصناديق تُتخذ أصونة ومقاعد معاً، وكانت النضد صغيرة، تقف عادة على ثلاث أرجل، وهذا هو سبب تسميتها "بالطرابيزات" أي ذات الأرجل الثلاث. وكان يؤتى بها مع الطعام ثم تُرفع بعده، وقلما كانت تُستخدم في غير هذا الغرض، فقد كانوا يكتبون على ركبهم. وكانت الأرائك والأسرة من وسائل الزينة المحبوبة، وكانوا يعنون كثيراً بحفرها وتطعيمها. وكانت لهم حشايا ووسائد وأغطية للفرش مطرزة ووسائد للرأس مرتفعة. وكانت المصابيح تعلق من السقف أو توضع على قواعد، أو تتخذ شكل مشاعل جميلة النقش.
وكان المطبخ مجهزاً بكثير من الأواني المختلفة المصنوعة من الحديد، والبرنز، والخزف. أما الزجاج فكان من مواد الترف النادرة، ولم يكن يصنع في بلاد اليونان. وكان الطعام يُطهى فوق نار في العراء، أما المواقد فكانت بدعة اخترعت في البلاد التي اصطبغت بالصبغة اليونانية. وكانت الوجبات الأثينية بسيطة مثلها في ذلك مثل الوجبات الإسبارطية، وتختلف كثيراً عن الوجبات البؤوتية، والكورنثية، والصقلية؛ فإذا كان الأثينيون ينتظرون قدوم ضيف يريدون تكريمه استخدموا في العادة طاهياً محترفاً، وكان دائماً من الرجال. وكان الطهو فناً راقياً ألفت فيه(7/124)
كثير من الكتب واشتهر به كثير من الأبطال، فمن الطهاة اليونان من لا تقل شهرتهم لدينا عن شهرة آخر الأبطال الفائزين في الألعاب الأولمبية. وكان الأثينيون يعدون من يأكل منهم بمفرده جلفاً غير مهذب، وكانت آداب المائدة عندهم دليلاً على ارتقاء الحضارة. وكان الأولاد والنساء يجلسون حول موائد صغيرة، أما الرجال فكانوا يتكئون على آرائك تتسع الواحدة لرجلين. وكانت الأسرة تأكل مجتمعة إذا لم يكن عندها غرباء؛ فإذا كان لديها ضيوف من الرجال انسحبت نساء الأسرة إلى جناح الحريم. وكان الخدم يخلعون نعال الضيوف أو يغسلون لهم أقدامهم قبل أن يتكئوا على الآرائك ويقدمون لهم الماء ليغسلوا به أيديهم، وكانوا في بعض الأحيان يدهنون لهم رؤوسهم بالزيوت المعطرة؛ ولم يكونوا يستخدمون السكاكين أو الشوك، ولكنهم كانوا يستخدمون الملاعق، ويتناولون الطعام اليابس بالأصابع. وكانوا في أثناء الطعام ينظفون أصابعهم بلقيمات من الخبز، ويغسلونها بعدئذ بالماء. وكان الخدم يملئون قدح كل ضيف قبل تناول الحلوى من آنية تحتوي على خمر مخفف بالماء. وكانت الصحاف من الخزف، ثم ظهرت الصحاف الفضية في آخر القرن الخامس، وبدأ المتأنقون في الطعام والشراب يزداد عددهم في القرن الرابع؛ ومن هؤلاء رجل يدعى بيثلس Pithyllus صنع للسانه وأصابعه أغطية يستطيع بها أن يأكل الطعام مهما كانت حرارته (119). وكان منهم بعض من يقتصرون على الخضر، وكان ضيوف هؤلاء يسخرون منهم ويشكون كعادة الضيوف مع أمثالهم. من ذلك قول أحدهم: "إنهُ هرب من وليمة لا تقدم فيها إلا الخضر خشية أن تكون حلواها هي الدريس" (120).
ولم يكن الشراب أقل شأناً عندهم من الطعام، فكان الغذاء (الديبنون Deipnon) يتلوه الشراب الجماعي Symposion، وكان في إسبارطة وأثينة(7/125)
أندية للشراب تتوثق العلاقة بين أعضائها توثقاً تصبح معه هذه الأندية أدوات سياسية عظيمة القوة.
وكانت الإجراءات التي تتبع في الولائم كثيرة التعقيد، وكان الفلاسفة أمثال زنوكراتس Xenocrates وأرسطاطاليس يرون أنه يحسن بهم أن يضعوا لها قوانين (121).
وكانت الأرض التي يلقى عليها ما لا يؤكل من الطعام تنظف بعد الانتهاء من تناوله، ويطوف عليهم الخدم بالروائح العطرية والخمر الكثير. ثم يرقص الضيوف إذا شاءوا، ولكنهم لم يكونوا يرقصون أزواجاً أو مع النساء (لأن الرجال وحدهم هم الذين كانوا يدعون عادة إلى الولائم) بل جماعات؛ أو كانوا يلعبون ألعاباً كالكتوموس (1)، أو يتقارضون الشِعر، أو يتبادلون المدح، أو الألغاز، أو يشاهدون ألعاباً يقوم بها رجال محترفون ونساء محترفات، كالبهلوانة التي يحدثنا عنها زنوفون في "مقالاته الدورية" والتي تقذف اثني عشر طوقاً دفعة واحدة ثم ترقص رقصة الانقلاب في الهواء في داخل طوق "أحيط من جميع جوانبه بالسيوف القائمة" (122). وكان يحدث أحياناً أن تظهر أمام الضيوف بنات يعزفن على القيثارات، ويغنين، ويرقصن، ويغازلن غزلاً دُبر أمره من قبل. وكان الأثينيون المتعلمون يفضلون عن هذا أن يجتمعوا ليتناقشوا نقاشاً ينظمه لهم رئيس منهم يختارونه بقذف النرد. وكان الضيوف يحرصون على ألا ينقسم المجلس إلى طوائف صغيرة لأن معنى هذا الانقسام في العادة أن كل طائفة تتحدث مستقلة، بل كانوا يحرصون على أن يكون الحديث عاماً،
_________
(1) وكانت هذه اللعبة تتكون من قذف السائل من قدح بحيث يصب جسماًً صغيراً على بعد منه.(7/126)
وكانوا يصغون إلى كل متحدث إذا جاء دوره بالأدب واللطف الذي يسمح به ما هم فيه من مرح. وما من شك في أن الحديث الظريف الذي يقصه علينا أفلاطون من نسيج خيال هذا الفيلسوف النابه؛ ولكن أكبر الظن أن أثينة قد شهدت محاورات لا تقل حيوية عن محاورات أفلاطون، وسواء كان ذلك أو لم يكن فإن المجتمع الأثيني هو الذي أوحى إلى أفلاطون بمحاوراته، وهذا المجتمع هو مرجعها وموضوعها. وفي وسط هذا الجو المنعش المنبه جو النابهين الأحرار تكونت العقلية الأثينية.(7/127)
الفصل الحادي عشر
الشيخوخة
لقد كان اليوناني يحب الحياة ويكره الشيخوخة ويندبها. على أن هذه الشيخوخة نفسها كان فيها ما يذهب ببعض أحزانها؛ فقد كان يعزي الشيخ الهرم أن يرى قبل أن يبلى جسمه حياته الجديدة في صورة أبنائه وأحفاده فيخدع نفسه ويظنه مخلداً، كأنه درهم بال عاد إلى دار الضرب ليصهر ويسك من جديد. لسنا ننكر أن في تاريخ اليونان أمثلة من إهمال الشباب للشيوخ أو إساءة معاملتهم إهمالاً وإساءة مبعثهما الأثرة الممقوتة، وسبب ذلك أن المجتمع الأثيني مجتمع تجاري، فردي النزعة، مجدد غير محافظ؛ وكل هذه العوامل تجعله ينزع إلى عدم الشفقة على الشيوخ، لأن احترامهم من خصائص المجتمع الديني المحافظ مثل مجتمع إسبارطة؛ أما الديمقراطية فإن ما فيها من حرية يحل عرى الصلات، ويركز اهتمام الناس بالشباب، ويفضل الجديد على القديم. ولهذا نجد في تاريخ الأثينيين أمثلة عدة لأبناء يستولون على ملك آبائهم في حياتهم، وإن لم يثبت العته على هؤلاء الآباء (123)؛ ولكن سفكليز ينجي نفسه من هذا المصير، ولا يكلفه هذا أكثر من أن يقرأ للمحكمة التي تنظر في أمره فقرات من آخر مسرحية له. غير أن الشرائع الأثينية تأمر الأبناء أن يعولوا آباءهم العجزة أو الطاعنين في السن (124)؛ والرأي العام، الذي يخشاه الناس على الدوام أكثر مما يخشون القانون، يفرض على الشباب أن يبجلوا الكبار ويتواضعوا أمامهم. ويرى أفلاطون أن من الأمور المسلم بها أن يظل الشاب الحسن التربية صامتاً في حضرة الكبار إلا إذا طُلب إليه الكلام (125). وفي الآداب الأثينية صور كثيرة للشباب المتواضع، منها المحاورات الأولى لأفلاطون(7/128)
ومنها مقالات زنوفون الدورية، وفي هذا الأدب قصص مؤثرة عن وفاء الأبناء للآباء، كوفاء أرستيز لأجممنون ووفاء أنتجوني لأوديب.
فإذا حانت منية الشيخ حرص الأحياء أشد الحرص على أن يجنبوا روحه كل ما يستطيعون أن يجنبوها من الآلام. فالجسم يجب أن يدفن أو يحرق، وإلا فإن الروح تهيم قلقة مضطربة حول العالم، وتثأر لنفسها من أبناء الشيخ المهملين. فقد تظهر مثلاً في صورة طيف، وتصيب النبات والإنسان بالأمراض والكوارث. وكان إحراق الموتى أكثر انتشاراً في عصر الأبطال ودفنهم أكثر انتشاراً في العصر الذهبي. والدفن عادة مأخوذة عن الميسينيين وقد بقيت إلى العصر المسيحي، ويبدو أن عادة إحراقهم جاءت إلى بلاد اليونان مع الأخيين والدوريين، لأن عاداتهم البدوية لا تمكنهم من أن يعنوا العناية الواجبة بالقبور. وجملة القول أن الدفن أو الإحراق واجب يلزم به الأثينيون، وقد بلغ من حرصهم عليه أن القواد المنتصرين في أرجنوسي قد أعدموا لأن عاصفة حالت بينهم وبين استعادة جثث موتاهم ودفنها.
وأبقت عادات الدفن اليونانية الأساليب القديمة إلى ما بعد عصرها بزمن طويل. من ذلك أن الجثة كانت تغسل بالماء، وتدهن بالعطور، وتكلل بالأزهار، وتُلبس أحسن ما تستطيع الأسرة أن تبتاعه لها من الثياب، ثم توضع اُبلة بين أسنانها لتؤديها أجراً لكارون صاحب القارب الأسطوري الذي ينقل الموتى في نهر أستيكس إلى مقرهم الأخير (1). وتوضع الجثة في تابوت من الفخار أو الخشب. وكان من أمثال اليونان الأقدمين قولهم "إن إحدى قدمي الشخص في التابوت" ويعنون بذلك ما نعنيه نحن بهذا المثل
_________
(1) لقد كان من عادة اليونان أن يحملوا الفكة في أفواههم.(7/129)
نفسه%=@ويقابل هذا قول عامة مصر "إن رجله في القبر". @. ويتخذ الحزن على الموتى عدة مظاهر مقررة: منها لبس الثياب السود، وقص الشعر كله أو بعضه ليقدم هدية للميت. وفي اليوم الثالث بعد الموت تحمل الجثة في نعش ويطوف موكب الجنازة بشوارع المدينة، والنساء من خلف الجثة يبكين، ويضربن صدورهن، وقد تُستأجر نادبات محترفات يندبن الميت. وتصب الخمر على التراب الذي يغطي القبر لتروي به روح الميت غليلها، وقد تُذبح بعض الحيوانات لتكون طعاماً لها. ويضع مشيعوا الجنازة على القبر أكاليل من الأزهار أو ورق السرو (127)، ثم يعودون إلى منزل الميت ليحتفلوا بالجنازة. وإذ كان من معتقداتهم أن روح الميت تشهد هذا الاحتفال، فقد كان من عاداتهم المقدسة "ألا يذكروا عن الميت إلا الخير" (1). وقد كانت هذه العادة منشأ قانون قديم يفرض على الأحياء ألا يذكروا إلا محاسن الموتى، ولعلها هي أيضاً منشأ ما يكتب على شواهد القبور من مدح. وكان أبناء الميت يزورون قبور أسلافهم في مواسم معينة، ويقدمون لهم الطعام والشراب. وقد تعهد أهل بلاتية بعد المعركة المسماة باسم مدينتهم والتي قتل فيها عدد من اليونان من مختلف المدن، تعهدوا أن يقيموا لجميع الأموات وليمة سنوية، وكانوا لا يزالون يوفون بوعدهم هذا بعد أن مضت على المعركة ستة قرون كاملة.
وكانت الروح تنفصل من الجسم بعد الموت وتصبح طيفاً غير مادي يسكن في الجحيم. ويستفاد من أقوال هومر أن الأرواح التي ارتكبت ذنوباً شنيعة أو مرقت من الدين هي وحدها التي تعذب في تلك الدار، أما سائر الأرواح
_________
(1) قارن هذا بقولنا: "اذكروا محاسن موتاكم". (المترجم)(7/130)
بعدئذ، سواء كانت أرواح قديسين أو مذنبين، فكان مصيرها كلها أن تطوف إلى أبد الدهر حول مملكة بلوتو المظلمة. وقد نشأ في التاريخ اليوناني على تعاقب الأيام اعتقاد جديد بين الطبقات الفقيرة مضمونه أن الجحيم مكان يكفر فيه المذنبون عن ذنوبهم؛ ويصور إسكلس زيوس وهو يحاسب الموتى في ذلك المكان، فيعاقب المذنبين، وإن كان لا يذكر كلمة واحدة عن إثابة الصالحين (129). ولسنا نسمع إلا القليل عن الجزائر المباركة أو الحقول الإليزية مواطن السعادة الأبدية التي ينعم فيها عدد قليل من أرواح الأبطال. فالتفكير فيما ينتظر جميع الأموات من مصير محزن نكد يخيم على الأدب اليوناني ويجعل الحياة اليونانية أقل بهجة وانشراحاً مما يجب أن تكون عليه الحياة تحت هذه السماء الصافية.(7/131)
الباب الرابع عشر
الفن اليوناني في عصر بركليز
الفصل الأوّل
زينة الحياة الدنيا
تقول إحدى الشخصيات في كتاب "الاقتصاد" لزنوفون: "جميل أن ترى الأحذية مرتبة في صف حسب أنواعها، وجميل أن ترى الثياب والأغطية مقسمة حسب منافعها، وجميل أيضاً أن ترى أواني الطبخ مرتبة بذوق وتنسيق، وإن سخر من ذلك الثرثارون المتفيهقون. أجل إن الأشياء جميعها بلا استثناء يزداد جمالها إذا نُسقت وصُفت بانتظام. فهذه الأواني كلها تبدو حينئذ كأنها مجموعة متناسقة يكمل بعضها البعض. ومركزها المتكون منها جميعاً يخلق فيها جمالاً يزيده بُعد القطع الأخرى من المجموعة.
هذه الفقرة التي كتبها قائد حربي تكشف عن مدى إحساس اليونان بالجمال، وعن بساطة هذا الإحساس وقوته. وهذا الإحساس بأهمية الشكل والتناسق، وبالدقة والوضوح، وبالتناسب والنظام، هو العامل الأساسي في الثقافة اليونانية، وتراه واضحاً في شكل كل وعاء ومزهرية ونقشهما، وفي كل تمثال وصورة، وكل معبد وقبر، وكل قصيدة ومسرحية، وفي كل مؤلف يوناني في العلم والفلسفة. إن الفن اليوناني هو العقل مجسماً واضحاً، والتصوير اليوناني هو منطق الخطوط، والنحت اليوناني هو عبادة التناسب، والعمارة اليونانية هي الهندسة الرخامية. ليس في الفن(7/132)
البركليزي مغالاة في العواطف، ولا شذوذ في الشكل أو محاولة تهدف إلى التجديد عن طريق الغريب غير المألوف (1)، وليس الغرض الذي يرمي إليه هو تمثيل ما في الحقائق الواقعية من الخلط وعدم التناسق، بل الغرض من هذا الفن هو الاستحواز على جوهر الأشياء الذي ينيرها، وتصوير إمكانيات الناس المثالية. ولقد استحوز السعي للحصول على الثراء والجمال والمعرفة على عقول الأثينيين فشغلهم عن التفكير في التقي والصلاح، وفي ذلك يقول أحد المدعوين إلى وليمة عند زنوفون: "قسماً بالآلهة جميعهم أني لو أعطيت كل ما لملك الفرس من سلطان لفضلت عليه الجمال" (3).
ولم يكن اليوناني، مهما تكن الصورة التي يرسمها له الروائيون في العصور التي هي أقل من عصره رجولة، عابداً مخنثاً للجمال، أو إنساناً يستخفه الطرب ويتغنى بأسرار الفن حباً في الفن، بل كان يُخضِع الفن في فكره للحياة، ويفكر في الحياة على أنها أعظم الفنون على الإطلاق. وكان ذا نزعة نفعية تميل به عن الجمال الذي لا نفع فيه، وكان النافع والجميل والطيب مرتبطة كلها في تفكيره ارتباطها في فلسفة سقراط (2) وكان يرى أن الفن هو قبل كل شيء تجميل طرق الحياة ووسائلها. فكان يتطلب أن تكون آنيته ومصابيحه، وصناديقه ونضده، وسرره وكراسيه نافعة وجميلة معاً، وألا تبلغ من الرشاقة والجمال حداً يفقدها صلابتها. وكان وضوح "إدراكه للدولة" يوحد بينه وبين قوة المدينة وعظمتها، فاستخدم من ثم آلاف الفنانين لتجميل أماكنها العامة، وتعظيم أعيادها، وإحياء تاريخها. وأهم من هذا كله أنه كان يحرص على أن يكرم آلهته، ويستجلب عطفهم ورضاهم، ويعبر عن شكره لهم لما وهبوه من حياة أو نصر. وكان يهدي إليهم النذور من الصور والتماثيل، ويهب الهياكل الشيء
_________
(1) يقول توكيديدز على لسان بركليز: "نحب الجمال دون إسراف".
(2) يقول استندهال Stendhal: " ليس الشيء الجميل عند الأقدمين إلا صورة رائعة للشيء النافع".(7/133)
الكثير من ماله، ويستأجر الفنانين لينحتوا صور آلهته أو موتاه في الحجارة. ومن أجل هذا لم ينشأ الفن اليوناني ليوضع في المتاحف فيتردد عليها الناس ليتأملوه في اللحظات القليلة التي يشعرون فيها بالرغبة في إشباع حاسة الجمال، ولكنه نشأ لكي يخدم مصالح الناس ومشروعاتهم الحقيقية. ولم يكن ما صاغه من تماثيل لأبلو قطعاً متينة من الرخام تُصَفّ في معرض للفن، بل كانت صوراً تمثل أرباباً محبوبة، ولم تكن المعابد أماكن يعجب بها الزائرون، بل كانت مواطن لهذه الأرباب الحية، ولم يكن الفنان في المجتمع الأثيني ناسكاً يعتزل الناس مفلساً عاكفاً في مرسمه، يعبر عما في نفسه بلغة لا يفهمها المواطن العادي، بل كان في حقيقة أمره صانعاً ماهراً، يشتغل مع عمال من جميع الدرجات بعمل عام يفهمه جميع الناس. وقد جمعت أثينة من جميع أنحاء اليونان طائفة من الفنانين، ومن الفلاسفة والشعراء، أكبر مما جمعته أية مدينة أخرى في العالم إذا استثنينا رومة في عهد النهضة. وكان هؤلاء الناس يتنافسون أشد التنافس ويتعاونون فيما بينهم في ظل حكم مستنير، وبفضل هذين التنافس والتعاون حققوا إلى حد كبير أحلام بركليز.
والفن يبدأ في المنزل وبشخص الفنان. فالناس يصورون أنفسهم قبل أن يصوروا شيئاً آخر، ويزينون أجسامهم قبل أن يزينوا بيوتهم. فالحلي، كأدهان الزينة، قديمة العهد قدم التاريخ نفسه. ولقد برع اليوناني في قطع الجواهر ونقشها، وكان يستخدم في هذا العمل آلات بسيطة من البرونز، كالمثاقب البسيطة والأنبوبية، وحجر الجلخ، ومادة للصقل مكونة من (الصنفرة) والزيت (5). ولكن عمله مع هذا كان يبلغ من الدقة والإتقان درجة يحتاج إنجاز دقائقها، في أكبر الظن، إلى منظار كبير بلا ريب لتتبع هذه الدقائق (6). ولم تكن النقود على درجة كبيرة من الجمال في أثينة حيث كانت صورة البومة الكئيبة هي التي تنقش على معظم النقود.(7/134)
وكانت إليس صاحبة الزعامة على جميع مدن اليونان الأصلية في هذا الميدان، ثم أصدرت سرقوسة في أواخر القرن الخامس قطعة ذات عشر درخمات لم تفقها قط قطعة أخرى في جمالها الفني. وقد احتفظ فنانو كلسيس بزعامة المدن اليونانية في النقش على المعادن، وكانت كل مدينة في حوض البحر الأبيض المتوسط تعمل للحصول على أدواتها الحديدية، والنحاسية، والفضية. وكانت المرايا اليونانية أبعث للسرور مما تستطيعه معظم المرايا بطبيعتها، ذلك أن الإنسان إن لم يكن في وسعه أن يرى خياله واضحاً كل الوضوح في سطح من البرونز المصقول، فإن المرايا نفسها كانت على أشكال مختلفة جذابة، وكثيراً ما كانت منقوشة نقشاً متقناً بديعاً، وكانت تحملها تماثيل الأبطال، أو النساء الحِسان، أو الآلهة.
وظل الفخرانيون يمارسون صنع الأشكال ويتبعون الأساليب التي كانت لديهم في القرن السادس محتفظين بهزلهم ومنافساتهم التقليدية. وكانوا أحياناً ينقشون على الآنية قبل إحراقها كلمة حب يوجهونها إلى غلام، وقد جرى فدياس نفسه على هذه العادة حين حفر على إصبع الصورة التي صنعها لزيوس: "إن بنتاركس جميل". وفي النصف الأول من القرن الخامس وصل طراز الصور الحمراء ذروته في مزهرية أخيل وبنثيسليا، وكأس إيسوب والثعلب المحفوظ في متحف الفاتيكان، وصورة أرفيوس بين التراقيين المحفوظة في متحف برلين. وأجمل من هذه كلها قوارير الدهن البيضاء التي صنعت في منتصف ذلك القرن. وكانت هذه القوارير الرفيعة تصنع للموتى خاصةً وتدفن معهم عادةً، أو تلقى فوق كومة الحطب التي تحرق عليها أجسامهم حتى يمتزج ما فيها من الزيت المعطر بلهب الحطب. وحاول ناقشو المزهريات أن يكونوا مستقلين فرديين في عملهم، وكانوا أحياناً ينقشون على الآنية قبل إحراقها موضوعات لو رآها فنانو العصر القديم المحافظون لأثارت دهشتهم. من ذلك أن مزهرية رسمت عليها صورة شبان يعانقون بعض عشيقاتهم بلا حياء، ورسم على مزهرية أخرى(7/135)
رجال يتقايئون وهم خارجون من وليمة، وعلى مزهريات غير هذه وتلك صور تمثل كل ما يستطاع عمله في شئون التربية الجنسية (8). وقد ترك صناع المزهريات في عصر بركليز - بريجوس Brygys. وسوتاديز، وميدياس - الأساطير القديمة واختاروا لهم مناظر من حياة الناس في عصرهم، وأكثر ما كانوا يسرون منه حركات النساء الرشيقة، ولعب الأطفال الطبيعي. وكانوا أصدق في رسمهم من سابقيهم: فكانوا يظهرون من الجسم منظره الجانبي أو يظهرون ثلاثة أرباع منظره الكامل، وكانوا يبينون الضوء والظل باستعمال محلول للطلاء الزجاجي خفيف أو غليظ، ويرسمون الصور بحيث تبين الخطوط الخارجية والعمق وثنايا أثواب السيدات. وكانت كورنثة وجيلا الصقلية مركزين لطلاء المزهريات الدقيقة التي كانت تصنع في ذلك العهد، ولكن أحداً لم يكن يشك في تفوق الأثينيين على كل من عداهم في هذه الناحية. ولم يكن الذي انتزع السيادة من فخراني السرمكس (حي الفخرانيين في ضواحي أثينة) هو منافسة غيرهم من الفخرانيين، بل كان قيام فن النقش المنافس لفنهم هذا. وحاول رسامو المزهريات أن يردوا هذا الهجوم بتقليد موضوعات النقاشين على الجدران وطرزهم، ولكن أذواق العصر لم تكن معهم، وأخذ فن الفخراني يتحول شيئاً فشيئاً في خلال القرن الرابع من فن جميل إلى صناعة تسد حاجة الناس.(7/136)
الفصل الثاني
نشأة فن التصوير
اجتاز تاريخ التصوير اليوناني خمس مراحل، ففي القرن السادس كان معظمه يهدف إلى تزيين الخزف وبخاصة المزهريات، وفي القرن الخامس كان أهم ما يعنى به العمارة وبخاصة طلاء المباني العامة والتماثيل بالألوان المختلفة، وفي القرن الرابع كان يحوم حول المنازل والأفراد فيزين المساكن ويرسم الصور، وفي العصر الذي اصطبغت فيه البلاد الخارجية بالصبغة اليونانية كان معظمه فردياً يخرج صوراً تباع لمن يرغب فيها من الأفراد. وقد بدأ فن التصوير اليوناني حين تفرع من الرسم العادي وبقي إلى آخر مراحله رسماً وتخطيطاً في أساسه وجوهره، وقد استخدم في تطوره ثلاث طرق: طريقة المظلمات أو التصوير على الجص الطري، وطريقة الطلاء المائي أو التصوير على الأقمشة أو الألواح المبللة بألوان ممزوجة بزلال البيض، وطريقة تثبيت الرسوم بالحرارة وذلك بمزج الألوان بالشمع المذاب، وكانت هذه الطريقة الأخيرة أقرب ما وصل إليه الأقدمون إلى طريقة التصوير بالزيت. ويؤكد لنا بلني - وهو الذي لا يقل أحياناً عن هيرودوت رغبة في تصديق كل ما يسمع - أن فن التصوير قد تقدم في القرن الثامن تقدماً جعل كندولس Candaules ملك ليديه يبتاع صورة من صنع بولاركس Bularchus بمثل وزنها ذهباً (9). لكن بداية كل الأشياء غامضة. وفي وسعنا أن ندرك ما كان لهذا الفن من الشهرة في بلاد اليونان إذا علمنا أن بلني قد خصه من صفحاته بأكثر مما خص به النحت. ويبدو أن الرسوم الجيدة التي أنتجها عصر اليونان الذهبي كانت موضع النقاش من النقاد وموضع(7/137)
الإجلال من الشعب وأنها لم تكن تقل في هذين عن أعظم نماذج فنّي العمارة والنحت (10).
ولم يكن بولجنوتس Polygnotus الثاسوسي أقل شهرةً في بلاد اليونان في القرن الخامس من إنكتينس Inctinus أو فدياس. ونجد هذا المصور في أثينة في عام 472، ولعل سيمون الثري هو الذي توسط له فكلف بتزيين عدة مبانٍ عامة ورسم صورٍ على جدرانها (1). وقد صور في ذلك العهد على الاستوا Stoa، التي سميت من ذلك الحين البوسيلي Boecile أو الرواق المصور، والتي اشتق منها بعد ثلاثة قرون اسم فلسفة زينون (2)، صور عليها منظر نهب طروادة - ولم يكن ذلك المنظر منظر المذبحة الرهيبة التي حدثت في ليلة النصر، بل كان منظر السكون الرهيب الذي ساد المدينة في صباح اليوم الثاني، والمنتصرون قد هدأ من سورتهم ما يحيط بهم من الخراب، والمغلوبون ملقون على الأرض هادئين. وقد رسم على هيكل الديسكوريين صورة اغتصاب اللوسيبيديات. وكان تصويره النساء في أثواب شفافة سابقة احتذاها من جاء بعده من الفنانين. ولم تثر هذه البدعة ثائرة المجلس الأمفكتيوني، بل إن هذا المجلس دعا بولجنوتس إلى دلفي حيث صور في اللسكي Lesche أو ردهة الاستراحة صورة أوديسيوس في الجحيم وصورة أخرى لانتهاب طروادة. وكانت هذه الصور كلها مظلمات كبيرة خالية من المناظر الطبيعية أو الخلفيات، مزدحمة بصور الأشخاص إلى حد كان لا بد معه أن يستعان بعدد كبير من المساعدين ليرسموا بالألوان ما بين الخطوط الخارجية التي خططها المصور بعناية فائقة. أما الصورة الجدارية التي تمثل طروادة فكان فيها بحارة متلوس على أهبة الإبحار عائدين إلى بلاد اليونان، وكانت هلن تجلس في وسط الملاحين، ومعها كثيرات غيرها من النساء ولكنهن كن جميعاً يبهرهن جمالها الفتان،
_________
(1) وقد جازى سيمون على عمله هذا بأن أحب أخته البنيس ورسم صورة لها تمثل لوديسيا بين الطرواديات.
(2) لفظة Stoi أي رواقي مشتقة من stoa كما اشتقت اللفظة العربية من رواق.(7/138)
ووقفت أندرمكي في إحدى الزوايا محتضنة استيانكس, ووقف في زاوية أخرى غلام صغير يتعلق بمذبح من شدة الخوف, وعلى بعد من البحارة كان جواد يتمرغ على رمال الشاطئ (12). في هذه الصورة كانت مسرحية "الطرواديات" قبل أن يكتبها يوربديز بخمسين عاماً. وأبى بولجنوتس أن يتقاضى أجراً على عمله هذا, ووهب الصور لأثينة ودلفي كرماً منه وثقة بقدرته ومواهبه. وأعجبت بلاد اليونان كلها بعمله, ومنحته أثينة مواطنيتها. وقرر المجلس الأمفكتيوني أن يحل ضيفاً على حساب الدولة في كل مدينة يونانية ينزل بها (كما كان يريد سقراط لنفسه) , ولم يبق من آثاره كلها إلا قطعة صغيرة من اللون على جدار في دلفي تذكرنا بأن الخلود الفني ليس إلا لحظة عابرة في حساب الأزمنة الجيولوجية.
وفي عام 470 ق. م أقامت دلفي وكورنثة مباريات دورية في التصوير تعقد كل أربع سنين لتكون جزءاً من الألعاب البيئية والبرزخية. وتقدم الفن وقتئذ تقدماً أمكن بانينس شقيق فدياس (أو ابن أخيه) أن يرسم صوراً لقواد الاثينيين والفرس في واقعة مرثون يمكن تمييز أشخاصهم فيها. ولكنه كان حتى ذلك الوقت لا يزال يضع الأشخاص المصورين جميعهم في مستوى واحد ويجعل طول قامتهم كلهم واحداً, ولم يكن يمثل البعد بتصغير حجم الأشخاص شيئاً فشيئاً وبتنظيم الضوء والظل, بل كان يمثله بالخطوط المنحنية التي تمثل الأرض الواقفين عليها. ثم تقدم الفن في عام 440 خطوة هامة. ذلك أن أجاثاركس suhcrahtagA، الذي استخدمه إسكلس وسفكليز ليرسم مناظر مسرحياتهما تبين أن ثمة علاقة بين الضوء والظل من جهة والبعد من جهة أخرى، وكتب رسالةً في الفن المنظور بوصفه وسيلة لإيجاد الخداع المسرحي. وعالج أنكساغوراس ودمقريطس الفكرة من الناحية العلمية، فلما أوشك القرن على نهايته اشتهر أبلودورس Apollodorus الأثيني باسم اسكياجرافوس Skiagraphos أي مصور الظلال، لأنه رسم صوراً استخدم(7/139)
فيها الضوء والظل، ولذلك قال عنه بلني إنه كان "أول من رسم الأشياء كما تبدو حقاً" (14).
على أن المصورين اليونان لم يفيدوا من هذه الاستكشافات فائدة تامة، فكما أن صولون كان يسخر من الفن المسرحي ويعتقد أنه خداع، فكذلك يبدو أن الفنانين كانوا يرون أنه لا يليق بهم وأنه يحط من كرامتهم أن يظهروا السطح المستوي بمظهر الجسم ذي الثلاثة الأبعاد. ولكن فن المنظور وتوزيع الضوء والظل هما اللذان رفعا من شأن زكسيس Zeuxis تلميذ أبلودورس وجعلاه أعظم المصورين في القرن الخامس. وقد قدم زكسيس من هرقلية (بنتيكا Pontica) إلى أثينة حوالي 424 ق. م، وعد مجيئه إليها حادثاً تاريخياً خطيراً رغم ضجيج الحرب القائمة وقتئذ. وكان "شخصاً" جريئاً مغروراً بنفسه، يصور تصوير المغرورين. وكان في الألعاب الأولمبية يتبختر في قباء ذي مربعات طرز عليها اسمه بالذهب، وكان في مقدوره أن يكون له مثل هذا القباء لأنه كان وقتئذ قد جمع "من عمله ثروةً طائلة" (15). ولكنه كان يعمل بعناية الفنان العظيم وإخلاصه، ولما أن أخذ اجاثاركس Agatharchus يزدهي بسرعته في التصوير رد عليه زكسيس في هدوء: "إني أحتاج إلى وقت طويل". وتخلى عن عدد كبير من روائع صوره بحجة أنها لا تقدر بثمن مهما عظم، وكان الملوك يعدون أنفسهم سعداء حين يحصلون عليها، ولم تكن المدن أقل حرصاً على اقتنائها من الملوك.
ولم يكن له في جيله إلا منافس واحد هو برهسيوس Parrhassius الإفسوسي الذي لا يكاد يقل عنه في عظمته، ولم يكن بالتأكيد أقل منه عجباً بنفسه. وكان برهسيوس يضع على رأسه تاجاً من الذهب ويلقب نفسه "أمير المصورين"، ويقول أنه أوصل الفن إلى درجة الكمال (17). وكان يعمل هذا كله في مرح ومزاح ويغني وهو يرسم (18). وتقول الشائعات أنه اشترى عبداً وعذبه لكي يدرس عليه ما يبدو على وجهه من مظاهر الألم فيستطيع أن يرسم صورة بروميثيوس (19). وما أكثر القصص التي يتناقلها الناس عن الفنانين. وكان(7/140)
برهسيوس واقعياً مثل زكسيس. وقد بلغ من الصدق صورة العداء وإتقانها أن الناظرين إليها كانوا يتوقعون أن يروا العرق يتصبب من الصورة، وأن يروا العداء نفسه يسقط من فرط الإعياء. ومن صوره صورة كبرى على جدار، هي صورة أهل أثينة يمثلهم فيها قساة ورحماء، متكبرين وأذلاء، متوحشين وجبناء، متقلبين وكرماء، ويبلغ من أمانته في هذه الصورة أن الجمهور الأثيني - على ما تقول الرواية - أدرك لأول مرة ما في طباعه من تعقيد وتناقض (20).
وأدى التنافس الشديد بينه وبين زكسيس Zeuxis إلى اشتراك الرجلين في مباراة عامة. ذلك أن زكسيس رسم بعض عناقيد العنب رسماً بلغ من إتقانه ومشابهته للعنب الطبيعي أن الطيور حاولت أكله. وأعجب المحكمون أشد الإعجاب بهذه الصورة، ووثق زكسيس من الفوز وثوقاً جعله يأمر برهسيوس أن يزيح الستار الذي يخفي وراءه الصورة التي رسمها الفنان الإفسوسي، فلما تبين أن الستار جزء من الصورة، وأن زكسيس نفسه قد خدع اعترف في غير حقد بهزيمته. ولم يفقد زكسيس بهذا شيئاً من شهرته، فقد اتفق في كرتونا على أن يرسم صورة لهلن توضع في معبد هيرا اللسينية Lacinian Hera، على شريطة أن تقف أمامه عاريات أجمل خمس نساء في المدينة، ليختار من كل واحدة منهن أجمل ما فيها، ثم يجمع مما أخذه منهن صورة ثانية لربة الجمال (21). وحييت بنلبي بفضل تصويره حياة جديدة، ولكن أكثر ما كان يعجب به من صُوَره صورة رياضي كتب تحتها يقول إن الناس يجدون نقده أيسر عليهم من مجاراته. وكانت بلاد اليونان كلها تسر من غروره وتتحدث عنه بقدر ما تتحدث عن أي كاتب مسرحي، أو حاكم سياسي، أو قائد حربي. ولم يكن أحد أوسع منه شهرةً إلا المتبارون لنيل الجوائز الرياضية.(7/141)
الفصل الثالث
أساتذة النحت
1 - أساليبهم
على أن التصوير بقى رغم هذا التفوق غريباً على العبقرية اليونانية التي كانت تحب الشكل أكثر مما تحب اللون، والتي جعلت تصوير العصر الذهبي (إذا حكمنا عليه بأقوال الناس فيه) دراسة في الجماد للخطوط والتصميم لا إدراكاً حسياً لألوان الحياة. أما ما كان يولع به الرجل اليوناني ويسر منه فهو منتجات النحت، ولذلك كان يملأ بيته، وهياكله، وقبوره، بتماثيل صغيرة من الطين المحروق، ويعبد آلهته بتصويرها في الحجارة، ويقيم على قبور موتاه ألواحاً منقوشة تعد من أكثر منتجات الفن اليوناني وأوقعها في النفس. وكان العمال الذين ينقشون هذه الألواح من الصناع غير ذوي الحذق، ينقشون ما حفظوه عن ظهر قلب، ويكررون ألف مرة الموضوع المألوف، موضوع فراق الأحياء للأموات فراقاً هادئاً وأيدي الأحياء مقبوضة. غير أننا يجدر بنا أن نذكر أن في هذا الموضوع من النبل ما يحتمل التكرار. لأنه يظهر ما اتصف به خلائق العصر الذهبي من ضبط للنفس في أحسن صوره، ويعلم النفس المرهفة الحس أن الشعور يبلغ أقصى قوته حين يعبر عن نفسه بصوت هادئ منخفض. وتظهر هذه الألواح الموتى, أكثر ما تظهرهم, يعملون عملاً من أعمال الحياة الدنيا - كطفل يلعب بالطوق, وبنت تحمل إبريقاً, ومحارب يعجب بعدته الحربية, وفتاة تفخر بحليها, وغلام يقرأ كتابه وكلبه راقد تحت مقعده(7/142)
راضٍ بموضعه ولكنه يرقب سيده. وتظهر هذه الألواح الموت مظهر الحادث الطبيعي، وهو لذلك عندهم شيء يمكن العفو عنه، وعدم الحقد عليه.
وأكثر من هذه الألواح تعقيداً ما خلفه هذا العصر من نقوش محفورة هي أرقى ما وجد من نوعها، ويمثل أحدها أرفيوس يلقي نظرة وداع طويلة على يورديس Eurydice التي استردها هرمس إلى العالم السفلي (22). وفي نقشٍ ثانٍ نرى دمتر تعطي تربتولموس الحية الذهبية التي يستحدث بها فن الزراعة في بلاد اليونان، ولا يزال بعض اللون في هذا النقش لاصقاً في الحجر، يوحي بما كان عليه النقش اليوناني في العصر الذهبي من روعة وصدق تعبير (23). وأجمل من هذين النقشين مولد أفرديتي الذي حفره على أحد أوجه "عرش لدفيزي" (1) حفار غير معروف لعله تدرب على فنه في أيونيا. وترى فيه إلهتان ترفعان أفرديتي من البحر، وثوبها الرقيق المبلل ملتصق بجسمها، يظهر كل ما فيه من روعة الأنوثة الناضجة. ورأسها شبيه بعض الشبه برؤوس الآسيويات، ولكن أثواب من يرافقنها من الإلهات ووقفتهن الرشيقة الجميلة عليهما طابع العين واليد اليونانيتين الحساستين. وعلى جانب آخر من جوانب العرش نقشت فتاة عارية تعزف على القيثارة المزدوجة، وعلى جانب ثالث امرأة تعد مصباحها لتضيء به ظلمة المساء، ولعل وجه هذه المرأة وأثوابها أقرب إلى الكمال مما على الجانب الرئيسي للعرش.
ويدهش الإنسان حين يرى رقي مَثالي القرن الخامس عن أسلافهم. ففي هذا القرن لم يعد المثالون يظهرون المنظر الأمامي، وفيه يصبح فن المنظور عظيم الأثر إذ يمثل الأشياء كأنها بارزة نحو الناظر إليها وتحل فيه الحركة محل
_________
(1) هي كتلة من الرخام عثر عليها في رومة حين هدم قصر لدفيزي الصغير. والحجر الأصلي في متحف ترمي Muse Delle Terme برومة، وتوجد نسخة جيدة منه في متحف الفن بنيويورك.(7/143)
السكون، والحياة محل الجمود. والحق أن المَثال اليوناني حين يخرج عن العرف القديم ويصور الإنسان يتحرك إنما يحدث ثورة في الفن. ذلك أننا قلما نعثر قبل ذلك العهد، في مصر أو في الشرق الأدنى أو في بلاد اليونان نفسها قبل مرثون، على مَثال ينحت إنساناً يتحرك. وكان من أهم أسباب هذا التطور ما امتازت به الحياة اليونانية بعد سلاميس من حيوية جديدة ونشاط لم يكن لها من قبل، ولكن أكبر الفضل فيه إنما يرجع إلى دراسة الفنان وتلاميذه للتشريح الحركي في صبر وأناة أجيالاً طوالاً.
انظر إلى سؤال سقراط المَثال الفيلسوف: "أليس الذي يجعلك تظهر تماثيلك كأنها أشخاص حية هو أنك تنحتها على مثال الكائنات الحية نفسها؟ ... وإذ كانت مواقفنا المختلفة تؤثر في بعض عضلات أجسامنا فيرتفع بعضها وينخفض البعض الآخر، وبذلك ينقبض بعضها وينبسط البعض، وتلتوي هذه وترتخي تلك، إذ كان هذا يحدث أليس تعبيرك عن هذه الجهود هو الذي يجعلك تظهر ما تنحته صادق التعبير عن الحقيقة" (24).
لقد كان المَثال في عهد بركليز عظيم الاهتمام بكل جارحة من جوارح الجسم لا تقل عنايته بالبطن من عنايته بالوجه، يعبر أقل تعبير عن حركات اللحم المرن على الهيكل العظمي المتحرك، وعن انتفاخ العضلات، والأوتار، والأوعية، وعما في تركيب اليدين والأذنين والقدمين من عجائب تجل عن الحصر، ويفتتن بما يلقى من الصعاب في تمثيل أطراف الجسم. ولم يكن في غالب الأحيان يستخدم نماذج حية تقف أمامه في مَنْحَته، بل كان يكتفي في أكثر الأوقات بملاحظة الرجال عارين نشطين في مدارس الألعاب وميادينها، وملاحظة النساء يمشين في وقار في المواكب الدينية أو ينهمكن إنهماكاً طبيعياً في أعمالهن المنزلية. ولهذا السبب، لا لحيائه، نراه يركز دراسته للتشريح على الرجال دون النساء، ونراه في تصويره للنساء يستبدل بدقة التشريح الجسمي تمثيل دقائق الثياب أحسن(7/144)
تمثيل - وإن كان يجعل الملابس شفافة إلى أبعد حد تمكنه منه جرأته. وكأن هذا الفنان قد مل رؤية أنصاف الثياب السفلى الجامدة التي يشاهدها على تماثيل مصر واليونان في عهدهم الأقدم، فتاقت نفسه إلى إظهار ملابس النساء يلعب بها النسيم لأنه في هذا الوضع أيضاً قد أدرك خصائص الحركة والحياة.
وهو لا يكاد يترك أية مادة تقع في يده ويستطيع استخدامها في فنه إلا استخدامها - من خشب، وعاج، وطين محروق، وحجر جيري، ورخام، وفضة، وذهب. وهو يستخدم أحياناً الذهب لصنع الثياب، والعاج لصنع الجسم، كما فعل فدياس في تماثيله الذهبية العاجية. وكان البرونز هو المادة المحببة لمَثال البلوبونيز، لأنه يعجب بألوانها القاتمة التي تصلح كل الصلاحية لتمثيل أجسام الرجال الذين لوحتهم الشمس وهم عراة، وكان لجهله بجشع الإنسان يظن أنه أبقى على الدهر من الحجارة. أما في أيونيا وأتكا فكان يفضل الرخام، لأن ما يلقاه فيه من صعوبة يستثير همته، ولأن ما فيه من صلابة يمكنه من أن ينحته بإزميله وهو آمن، وكأن نعومته ونصف شفافيته قد خلقا لتمثيل لون النساء الوردي ورقة أجسامهن. وقد كشف المَثال بقرب أثينة رخام جبل بنتلكس Pentelicus، ولاحظ أن ما فيه من حديد ينضجه طول الزمان والعوامل الجوية فيبدو للرائي وكأنه عرق من الذهب يتلألأ في وسط الحجر، وأفلح بفضل ما وهب من الصبر، وهو نصف العبقرية، في أن ينحت على مهل من المحاجر تماثيل حية. ومَثال القرن الخامس حين يعمل في البرونز يستخدم طريقة الصب الأجوف بالعملية المعروفة بعملية الشمع المفقود Cire Perdu، وذلك بصنع نماذج من الجبس أو الصلصال للتمثال الذي يريد صبه، ثم يغطيه بطبقة رقيقة من الشمع، ويغطى هذا كله بعدئذ بقالب من الجبس أو الصلصال مسنن في عدة مواضع، ويضعه في تنور تذيب حرارته الشمع فيخرج من الثقوب، ثم يصب ذوب البرونز في القالب من أعلاه حتى يملأ المعدن جميع المسافة التي كان يشغلها الشمع قبل(7/145)
أن يذوب. ثم يبرد الشكل كله ويزيل عنه القالب الخارجي، ويبرده ويصقله، ثم يطلى البرونز بالك أو يلونه أو يذهبه حتى يتخذ صورته النهائية. فإذ فضل الرخام بدأ بالكتلة غير المشكلة، غير مستعين بأي نظام من نظم التوجيه (1)، ويعمل من غير قواعد موضوعة، مسترشداً في أكثر الأحيان بعينه لا بالآلات (25)، ويزيل من الحجر بضرباته المتتالية ما لا حاجة له به، ويوالي هذه الضربات حتى تتشكل من الحجر الفكرة الكاملة التي صورها لنفسه في ذهنه، وحتى تصبح المادة غير المنتظمة صورة وشكلاً على حد قول أرسطاطاليس.
أما موضوعاته فتختلف من الآلهة إلى الحيوانات، ولكن أياً كان الموضوع، فإنه يجب أن يكون من حيث الجسم خليقاً بالإعجاب، ولم يكن الضعفاء أو العقليون، أو الأصناف الشاذة غير السوية، أو العجائز أو الشيوخ، لم يكن هؤلاء يجدون لهم مكاناً عنده، وكان يجيد نحت تماثيل الخيل، ولكنه لم يكن شديد العناية بغيرها من الحيوان، وكان أكثر إجادةً في نحت تماثيل النساء، ومن آياته الفنية التي لا تمثل نساء بعينهن كتمثال الفتاة المستغرقة في أفكارها والممسكة بثوبها فوق ثديها المحفوظ بمتحف أثينة، ما يبلغ درجة من الجمال الهادئ تعجز اللغة عن وصفه. وخير ما يجيده على الإطلاق تماثيل اللاعبين الرياضيين، لأنه يعجب بهؤلاء إعجاباً لا حد له، ولأنه لم يكن يحول بينه وبين مراقبتهم حائل. وكنت تراه من حين إلى حين يبالغ في إظهار قوتهم، ويصور على بطونهم عضلات لا وجود لها عليها، ولكنه كان يسعه رغم هذا الخطأ أن يصب تماثيل من البرونز كالتمثال الذي وجد في البحر قرب أنتيسثرا Anticythera والذي يقال أنه تمثال إفبوس Ephebos تارة وتارة يقال أنه تمثال برسيوس Perseus الذي أمسك
_________
(1) المراد بالتوجيه هنا بيان العمق الذي يجب أن يصل إليه النحات في قطع الكتلة الحجرية التي يريد صناعتها قبل أن يبدأ الفنان عمله فيها. وكان بدء استخدام هذه الطريقة في البلاد التي اصطبغت بالصبغة اليونانية.(7/146)
بيده في وقت ما رأس مدوزا Medusa وشعره المكون من الأفاعي. وكان في بعض الأحيان يصوره شاباً أو فتاة منهمكة في عمل بسيط تقوم به من تلقاء نفسها، كتمثال الغلام الذي يخرج شوكة من قدمه (1)، غير أن أساطير بلاده كانت أهم ما يوحي إليه بموضوعات فنه. ولم يكن ذلك النزاع الرهيب الذي قام بين الفلسفة والدين، والذي يبدو في تفكير القرن الخامس كله، نقول لم يكن ذلك النزاع قد بدا على الآثار بعد، فهنا كانت الآلهة لا تزال صاحبة السيادة العليا، وحتى لو كانت قد أخذت في الاضمحلال فقد كانت تنتقل أنبل انتقال وأعظمه إلى شعر الفن. ترى هل كان المَثال الذي يشكل في البرونز زيوس أرتمزيوم القوي يعتقد بحق أنه يصور شريعة العالم (2)؟ وهل كان الفنان الذي ينحت تمثال ديونيسس الظريف الحزين المحفوظ في متحف دلفي، هل كان هذا الفنان يعرف في أعماق إدراكه الذي لا تعبر عنه الألفاظ أن ديونيسس قد طعنته سهام الفلسفة طعنةً نجلاء، وأن الملامح المتواترة للمسيح خليفة ديونيسس قد وجدت في هذا الرأس من قبل أن يولد المسيح.
2 - المدارس
إذا كان فن النحت اليوناني قد أخرج هذا القدر كله في القرن الخامس، فقد كان من أسباب ذلك أن كل مَثال كان ينتمي إلى مدرسة بعينها، وأن له مكاناً في ثبت طويل من الأساتذة والطلاب، يتوارثون حذق فنهم هذا، ويقاومون تطرف الفردية المستقلة، ويشجعون مواهبهم الخاصة، ويسيطرون عليها ويهذبونها بالتضلع في فنون الماضي وما أخرجته من بدائع،
_________
(1) في متحف الكبتولين برومة، وأكبر الظن أنه صورة من تمثال يوناني أصلي نحت في القرن الخامس.
(2) في متحف أثينة، وهناك صورة منه في المتحف الفني بنيويورك.(7/147)
وتشكيلها بتفاعل هذه الأعمال مع القواعد الجديدة حتى أصبحت فناً أعظم مما تبتدعه في العادة العبقرية المنعزلة المتحررة من القواعد والقوانين. إن الفنانين العظام يكونون في الغالب نتاجاً لتسامي التقاليد الماضية وارتقائها إلى ذروتها أكثر مما يكونون نتيجة للخروج عليها. ومع أن الثائرين على التقاليد الماضية يكونون بطبيعتهم منشقين على تاريخ الفن الطبيعي، فإن أسلوبهم الجديد لا ينتج شخصيات فذة سامية إلا بعد أن تثبته الوراثة ويطهره الزمن.
وقد قامت بهذا العمل خمس مدارس في بلاد اليونان في عهد بركليز: مدارس رجيوم، وسكيون، وأرجوس، وإيجينا، وأتكا. وفي عام 496 أو حواليه استقر في رجيوم فيثاغورس آخر من ساموس وصب تمثالاً لفلكتيتس أذاع شهرته في بلاد البحر الأبيض المتوسط. وقد أظهر في وجوه تماثيله من علائم الانفعال، والألم، والشيخوخة ما هز مشاعر المَثالين اليونان بأجمعهم حتى قرر المَثالون في العصر الذي انتشرت فيه الحضارة اليونانية خارج بلادهم الأصلية أن يحاكوه في تماثيلهم. وفي سكيون واصل كناكس Canackus وأخوه أرسطكليز Aristocles العمل الذي بدأه قبلهما بمائة عام دبونس Dipoenus وسليس Scllis من فناني كريت. ورفع كلوون Calloln وأناتس Onatas مقام إيجينيا بين المدن اليونانية بما أظهرا من حذق في صب البرونز، ولعلهما هما اللذان صنعا قواصر إيجينيا. وفي أرجوس نظم أجلداس مراحل انتقال فن النحت في مدرسته وبلغت ذروة مجدها على يد بليكليتس.
جاء بليكليتس من أرجوس وذاعت شهرته فيها حين وضع حوالي عام 422 تصميماً من الذهب والعاج لهيرا إلهة المدينة ليوضع في معبدها. وكان العصر الذي فيه يرى أنه لا يفوقه في دقته غير تماثيل فدياس الضخمة العاجية الذهبية (1).
_________
(1) ولعلنا نجد صدى لعظمة التماثيل في رأس يونيو العظيم المحفوظ في المتحف البريطاني، والذي يقال عنه إنه مصنوع على مثال رؤوس تماثيل بليكليتس.(7/148)
واشترك في إفسس في مباراة مع فدياس، وكرسلاس Cresilas وفردمون Phradmon لصنع تمثال لامرأة محاربة يوضع في هيكل أرتميز. وعين الفنانون الأربعة قضاة للحكم في هذه المباراة. وتقول الرواية المتواترة إن كلاً منهم حكم بأن تمثاله خير التماثيل جميعها، وأن تمثال بليكليتس ثانيها، وبناءً على هذا الحكم منح الفنان السكيوني الجائزة (1). لكن بليكليتس كان يحب الرياضيين أكثر مما يحب النساء أو الآلهة، ولما أراد أن ينحت تمثاله الشهير لديادمنوس Diadumenos ( وهو الذي توجد أحسن نسخة منه في متحف أثينة) مَثل هذا الظافر في اللحظة التي كان يربط حول رأسه العصابة التي يضع القضاة فوقها إكليل الغار. ويرى الناظر إلى صدر التمثال وبطنه عضلات أكثر وأضخم مما يصدقه العقل، ولكن الجسم يرتكز ارتكازاً واضحاً على قدم واحدة، وملامح التمثال تعبر عما امتاز به العصر الذهبي من تناسق أصدق تعبير. لقد كان بليكليتس يهيم بهذا التناسق بل يكاد يعبده، وكان همه في حياته أن يضع قانوناً أو قاعدة لتحديد النسبة الصحيحة بين كل جزء وجزء في التمثال، فكان والحالة هذه هو فيثاغورس النحت، ينشد الرياضة القدسية في التناسب والشكل، وكان يظن أن أبعاد أي جزء من أجزاء الجسم الكامل يجب أن تتناسب تناسباً محدداً معروفاً مع أبعاد أي جزء آخر كالسبابة مثلاً. وكان قانون بليكليتس هذا يستدعي أن يكون الرأس مستديراً، والكتفان عريضتين، والجذع ممتلئاً قصيراً، والعجيزتان واسعتين، والساقان قصيرتين، وكل هذه تجعل التمثال مظهراً للقوة لا للرشاقة. وأولع الفنان بقانونه ولعاً حمله على أن يؤلف رسالة يشرحه فيها وأن يوضحه بتمثال من صنعه. ولعل هذا التمثال هو تمثال الدوريفوروس Doryphoros أو حامل الرمح الذي توجد نسخة رومانية منه في متحف نابلي. وفيه يرى مرة أخرى الرأس القصير
_________
(1) لعل تمثال المحاربة المحفوظ في الفاتيكان نسخة رومانية من هذا التمثال.(7/149)
العريض الجمجمة، والكتفان القويتان، والجذع القصير، والعضلات المتغضنة المسدولة على الحقو. وأجمل من هذا تمثال إفبوس Ephebos المحفوظ في المتحف البريطاني، وفيه تظهر أحاسيس الغلام كما تظهر عضلاته، ويبدو أنه منهمك في تفكير هادئ لطيف في شيء آخر غير قوته. وأضحت قواعد بليكليتس بفضل هذه التماثيل القانون الذي يتقيد به المَثالون في البلوبونيز، وقد تأثر به فدياس نفسه، وظلت له السيادة على النحاتين حتى قضى عليه بركسيتس وأحل محله ذلك القانون الآخر المناقض له والذي يجعل الجسم طويلاً، نحيلاً، رشيقاً، وقد بقى هذا القانون الأخير ظاهر الأثر في التماثيل الرومانية في أوربا المسيحية.
وكان ميرون Myron يمثل المرحلة الوسطى بين المدرستين البلوبونيزية والأتكية. وقد ولد هذا المَثال في إلوثيرا Eleuthera، وعاش في أثينة، ودرس وقتاً ما (كما يقول بلني (28)) مع أجلاداس Ageladas، فتعلم كيف يجمع بين الرجولة البلوبونيزية والرشاقة الأيونية. وكان ما أضافه إلى مدارس الفن جميعها هو الحركة: فهو لم ير اللاعب الرياضي كما يراه بليكليتس قبل المباراة أو بعدها، بل يراه في أثنائها، وقد حقق ما رآه في البرونز تحقيقاً فاق به كل مَثال آخر حاول تصوير جسم الرجل في أثناء العمل. وصب حوالي عام 470 أشهر تماثيل صنعها للاعبين وهي تماثيل رماة القرص ( Disocobolo) (1) . وفيها بلغت عجائب أجسام الرجال غايتها! فقد درس الجسم دراسة دقيقة في جميع حركات المفاصل، والأوتار، والعظام، التي يتطلبها القيام بعمل ما، وانحنت الساقان والذراعان وانحنى
_________
(1) في متحف ترمي Museo Dell Terme جذع رخامي هو نسخة من هذا التمثال صنعته يد فنان روماني. وفي معهد الأحياء المائية بميونخ نسخة برونزية من هذا التمثال صنعت في عصر متأخر، وفي المعهد الفني بنيويورك نسخة تجمع بين جذع كالذي في متحف الفاتيكان ورأس كالرأس الذي في قصر لانسلتي Lancelotti.(7/150)
الجذع لكي تكسب الرمية أعظم قوتها، ولم يتلَوَ الوجه ويشوه بسبب ما يبذله الرامي من جهد، بل ظل منبسطاً، والرامي هادئ واثق من قدرته، وليس الرأس ثقيلاً أو وحشياً، بل هو رأس رجل من لحم ودم ورقة وتهذيب، في وسعه أن يؤلف الكتب إذا نزل إلى مستوى من يكتبونها. ولم تكن هذه الآية الفنية إلا عملاً واحداً من أعمال ميرون الكثيرة، وقد أعجب بها مواطنوه، ولكنهم أعجبوا أكثر من ذلك بتمثال أثينة ومرسياس (1) وتمثال لاداس. وتمثال أثينة هذا أجمل مما يتطلبه الغرض الذي صنع من أجله، فليس في مقدور أي إنسان ينظر إليه أن يظن أن هذه العذراء المحتشمة ترقب وهي هادئةً راضية صاحب الناي يسلخ. أما تمثال مرسياس فأشبه بتمثال لبرنارد شو أدركه الفنان في وضع معيب ولكنه مفصح بليغ. ويصور هذا التمثال عازف القيثارة وقد عزف عليها آخر مرة، وأدركه الموت ولكنه يأبى أن يموت من غير أن يتكلم. ولم يكن لاداس لاعباً رياضياً خارت قواه لأن النصر أنهك جسمه، بل إن ميرون قد صوره تصويراً بلغ من واقعيته أن صاح يوناني قديم حين رآه: "لقد صاغك لاداس من النحاس بالصورة التي كنت عليها في الحياة، تخرج روحك اللاهثة من صدرك مع أنفاسك، وأسبغ على جسمك كله حرصك على تاج النصر"، وقال اليونان عن عِجْلة ميرون إنها تستطيع أن تفعل كل شيء عدا الخوار (30). وأضافت المدرسة الأتيكية أو الأثينية إلى البلوبونيزيين وإلى ميرون ما تهبه النساء للرجال: جمالاً، ورقة، ورشاقة، وظرفاً، وكانت وهي تفعل هذا تحتفظ من عناصر الرجولة بالقوة. فقد وصلت إلى مستوى عال قد لا يصل إليه المَثالون مرة أخرى. وكان كلميس Calamis لا يزال وقتئذ محتفظاً بعض الشيء بطابعه العتيق، ولم يكن نسيوتيز Nesiotes وكريتيوس Critius وهما يصبان طائفة أخرى من تماثيل قتلة الطغاة قد تحررا من البساطة الجامدة
_________
(1) في متحف نيويورك الفني نسخة جميلة من النسخة اللاترانية.(7/151)
التي كانت تسود تماثيل القرن السادس. وقد حذر لوشان الخطباء من أن يكون مسلكهم كمسلك هذه التماثيل العديمة الحياة. فلما أن نحت بيونيوس Paeonius من أهل مندي Mende المقدونية للمسينيين تمثال النصر بعد أن درس فن النحت في أثينة أظهر فيه من الرقة والرشاقة والجمال ما لم يظهره أحد غيره من الفنانين اليونان إلى عهد بركستيليز، وحتى بركستيليز نفسه لم يفقه في تمثيل طيات الثياب المنسدلة على الجسم أو في تمثيل نشوة هذه الحركة (1).
3 - فدياس
كان فدياس وأعوانه بين عامي 447، 438 منهمكين في نحت تماثيل البرتنون وحفر نقوشه. وكما كان أفلاطون كاتباً مسرحياً قبل أن يصير فيلسوفاً مسرحياً، كذلك كان فدياس في أول الأمر مصوراً، تتلمذ بعض الوقت على بولجنوتس. ويلوح أنه أخذ عنه أساليب التصميم والتأليف بين الوحدات المختلفة والجمع بين الأشكال لإحداث الأثر الكلي للصورة. ولعله أخذ عنه أيضاً ذلك "النمط العظيم" الذي جعله أعظم مَثال في بلاد اليونان بأجمعها. ولكنه لم يجد في التصوير ما يشبع كفايته لأنه كان في حاجة إلى أبعاد أوسع، فاتجه إلى النحت، ولعله درس فن أجلاداس في صب البرونز وظل يمارسه في صبر وأناة حتى برع في كل فرع من فروعه.
وكان حين فرغ من نحت تمثال أثينة بارثنون في عام 438 قد أصبح شيخاً طاعناً في السن، وشاهد ذلك أنه صور نفسه على درعه شيخاً أصلع طاف به طائف
_________
(1) لقد ضمت أجزاء هذا التمثال بعد أن عثر عليها الألمان في أولمبيا عام 1890، وهو الآن في متحف أولمبيا. ولا تكاد تقل عنه جمالاً تماثيل حور البحر التي عثر عليها من غير رؤوس بين أنقاض أحد الأبنية القديمة في زنثوس الليشية Lycian Xanthus وهي الآن في المتحف البريطاني. لقد نفذت الروح اليونانية إلى آسية غير اليونانية.(7/152)
الحزن. ولم يكن أحد ينتظر منه أن ينحت بيديه مئات التماثيل التي امتلأ بها فضاء البارثنون، وإفريزه، وقواصره، وكان حسبه أن يشرف على جميع أبنية بركليز ويضع خطط ما يزينها من تماثيل، ثم يعهد إلى تلاميذه، وخاصةً إلى الكيمنيز، أن يقوموا هم بتنفيذها. على أنه هو نفسه قد نحت ثلاثة تماثيل لإلهة المدينة تقام في الأكربوليس. وقد كلفه بنحت واحد منها المستعمرون الأثينيون في لمنوس، وكان هذا التمثال من البرونز أكبر قليلاً من الحجم الطبيعي، وبلغ من دقته أن كان النقاد اليونان يعدون تمثال أثينة اللمنوسية أجمل تماثيل فدياس كلها بلا استثناء (1). وثاني هذه التمثيل تمثال أثينة يروماكوس، وهو تمثال برونزي ضخم يمثل الإلهة في صورة المدافعة الحربية عن المدينة. وقد أقيم بين البروبليا Propylaea والإركثيوم Erchtheum، وكان ارتفاعه هو وقاعدته سبعين قدماً، وكان دليلاً للملاحين وتحذيراً لأعداء المدينة (2). وأشهر هذه التماثيل الثلاثة تمثال أثينة بارثنوس ويبلغ ارتفاعه ثماني أقدام وثلاثين قدماً، وكان مقاماً في داخل البارثنون ويمثل أثينة العذراء إلهة الحكمة والعفة. وكان فدياس يريد أن ينحت هذا التمثال الأخير من الرخام، ولكن الشعب أبى إلا أن يكون من العاج والذهب. فاستخدم الفنان العاج للأجزاء الظاهرة من الجسم كما استخدم أربعين وزنة (2545 رطلاً) من الذهب لصنع الثياب (32)، ثم زينه بالمعادن الثمينة والنقوش المتقنة البديعة على الخوذة، والحذاءين، والدروع. وقد وضع هذا التمثال بحيث تقع أشعة الشمس مباشرة في يوم عيد أثينة على الثياب الجميلة وعلى وجه العذراء الشاحب بعد
_________
(1) لم تبقى منه نسخةً صادقة.
(2) وقد نقل هذا التمثال إلى القسطنطينية حوالي عام 330 م، ويلوح أنه دمر في أثناء شغب قام فيها عام 1203 (31).(7/153)
دخولها من أبواب المعبد العظيم (1).
ولم يكن إتمام هذا التمثال من أسباب سعادة فدياس، لأن بعض ما قدم له من الذهب والعاج لصنعه قد اختفى من مُحْتَرفه ولم تعرف أسباب اختفائه. وانتهز أعداء بركليز هذه الفرصة السانحة، فاتهموا فدياس بسرقة الذهب والعاج وأدانوه (2). ولكن أهل أولمبيا شفعوا له وأدوا الكفالة المطلوبة منه وقدرها أربعون؟ وزنة على شريطة أن يذهب إلى أولمبيا ويصنع فيها تمثالاً من الذهب والعاج لمعبد زيوس (34). وسرهم أن يقدموا له من العاج والذهب أكثر مما قدم له قبل. وبنوا له ولمساعديه مصنعاً خاصاً بجوار حرم الهيكل، وكلف أخوه بانينوس Panaenus أن يزين بالصور العرش الذي يجلس عليه التمثال وجدران الهيكل (35). وإذ كان فدياس مولعاً بالضخامة، فقد جعل ارتفاع تمثال زيوس الجالس ستين قدماً، ولما أن وضع في مكانه في الهيكل شكا النقاد من أن الإله سيخترق سقفه إذا ما بدا له أن يقوم واقفا، ووضع فدياس على "جبيني" الإله الراعد "القائمين" و "غدائره المعطرة" تاجاً من الذهب في صورة أغصان شجر الزيتون وأوراقه. ووضع في يد الإله اليمنى تمثالاً للنصر صغيراً مصنوعاً من الذهب والعاج، وفي يده اليسرى صولجاناً مطعماً بالأحجار الكريمة، وألبسه ثوباً ذهبياً نقشت عليه الأزهار، ووضع في قدميه خفين من الذهب المصمت. أما عرشه فكان من الذهب، والأبنوس، والعاج. وكان عند قاعدته تماثيل صغيرة للنصر، لأبلو، وأرتميز، ونيوبي، ولصبيان من طيبة اختطفهم أبو الهول (37). وكان الأثر الذي يبعثه في النفس هذا التمثال وتوابعه رائعاً قوياً
_________
(1) لو أننا حكمنا على هذا التمثال من أنموذجي "لنورمانت Lenormant " و"فارفاكا Varvaka" المحفوظين في متحف أثينة لما عنينا كثيراً به. فأول هذين الأنموذجين ضخم منتفخ الوجه، وصدر الثاني تزحف عليه كثير من الأفاعي المقدسة.
(2) حوالي 438، وهذا التاريخ مشكوك فيه كثيراً، ومثل هذا يقال عن تتابع الحوادث في السنين الأخيرة من حياة فدياس.(7/154)
إلى حد جعل الناس ينسجون حوله كثيراً من الخرافات والأساطير. فمن قائل إنه عندما أتمه فدياس طلب أن تطلع عليه من السماء آية تدل على رضائها عن عمله، فأرسلت صاعقة نزلت على الأرض غير بعيدة عن قاعدة التمثال - وهي آية كمعظم الآيات السماوية تقبل عدة تفاسير مختلفة (1). وعدَّ التمثال من عجائب الدنيا السبع، وكان يحج إليه كل من استطاع الحج ليشاهد الإله المتجسد فيه. ولما فتح إيمليوس بولس Aemilius Paullus القائد الروماني بلاد اليونان ورأى هذا التمثال الضخم استولى عليه الرعب، واعترف أن ما شاهده بعينه قد فاق كل ما كان يصوره له خياله (38). ووصفه ديوكريسوتوم Dio Chrysotom بأنه أجمل تمثال على وجه الأرض، وأضاف إلى قوله هذا ما قاله بيتهوفن في الموسيقى: "إذا وقف أمام هذا التمثال إنسان قد تراكمت عليه الهموم، وتجرع في حياته كأس المصائب والأحزان حتى الثمالة، وطار النوم الحلو من أجفانه، نسي كل ما يصيب الإنسان في حياته من متاعب وأحزان" (39). وقال فيه كونتليان Quintilian: " إن جمال التمثال قد أضاف بعض الشيء إلى دين البلاد، ولقد كان جلاله خليقاً بالإله الذي يمثله" (40).
ولسنا نعرف عن أواخر أيام فدياس شيئاً موثوقاً به. فمن القصص ما يرى أنه عاد إلى أثينة حيث قضى نحبه في السجن (41)، ومنها ما يقول إنه أقام في إليس Elis، وإن هذه المدينة نفسها قد قتلته في عام 432 (42). وليست إحدى هاتين القصتين اللتين تتحدثان عن خاتمة فدياس أصدق من أختها. وواصل تلاميذه عمله، وبرهنوا على نجاحه معلماً بما أخرجوه من آيات فنية لا تكاد تقل روعة عن آياته هو. فقد نحت أجركريتس Agoracritus أحب تلاميذه إليه تمثالاً لنمسيز Nemesis طبقت شهرته الآفاق،
_________
(1) لم يبق من تمثال زيوس هذا إلا قطع صغيرة من قاعدته.(7/155)
ونحت الكمنيز تمثالاً لأفرديتي إلهة الحدائق كان لوشان يضعه في مصاف أرقى ما أخرجه المثالون من آيات (1) فنية (43). وكانت خاتمة مدرسة فدياس في نهاية القرن الخامس، ولكنها تركت فن النحت اليوناني أرقى كثيراً مما كان حين بدأت حياتها الفنية، فقد أشرف الفن بفضل فدياس وأتباعه على الكمال في اللحظة التي بدأت فيها حرب البلوبونيز تنزل بأثينة الخراب. لقد أتقنت هذه المدرسة أصول الفن وقواعده، وفهمت تشريح الجسم، وصبت الحياة والحركة والرشاقة في البرونز والحجر صباً، ولكن العمل الجليل الذي يميز فدياس من غيره من المثالين هو ما أخرجه من طراز في النحت جديد عبر عنه أصدق تعبير، ذلك الطراز السامي أو "الطراز العظيم" كما يسميه ونكلمان. وهو طراز يجمع بين القوة والجمال، والتهور والإحجام، والحركة والسكون، واللحم والعظم مع الروح والعقل. وفي هذا الطراز تمثل الفنانون على الأقل بعد ما بذلوا من جهود دامت خمسة قرون ذلك "الصفاء" الذائع الصيت الذي يعزوه المؤرخون بخيالهم إلى اليونان. وكان في وسع الأثينيين ذوي العاطفة الثائرة الجياشة إذا ما تدبروا تماثيل فدياس أن يروا كيف يقترب الآدميون من الآلهة، وإن يكن ذلك فيما أبدعوا من تماثيل فحسب.
_________
(1) وقد يكون تمثال فينوس المكسوة المحفوظ في متحف اللوفر نسخة من هذا التمثال.(7/156)
الفصل الرابع
البناءون
1 - ارتقاء فن العمارة
تمت سيطرة الطراز الدوري في العمارة على بلاد اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، ولم يبق إلى الآن من الهياكل اليونانية التي شيدت في ذلك العصر الزاهر إلا قليل من الأضرحة الأيونية وأهمها الإركثيوم وهيكل نيكي أبتروس Nike Opteros المقام على الأكربوليس. وبقيت أتكا في ذلك العهد محافظة على الطراز الدوري، فلم تخضع للطراز الأيوني إلا حين كانت تستخدمه في العمد الداخلية للبروبيليا، وفي صنع إفريز حول الثسيوم والبارثنون. ولعل ما يشاهد من نزعة ذلك العصر إلا إطالة العمود وتقليل سمكه عما كان من قبل يدل على أثر آخر من آثار الطراز الأيوني.
وفي آسية الصغرى أشرب اليونان حب الشرقيين للتحلية الدقيقة وعبروا عن هذا الحب بتنميق الدعامات الأيونية المرتكزة على العمد تنميقاً فيه كثير من التعقيد، وبإيجاد طراز جديد من هذه الدعامات أكثر زخرفاً من الطراز الأيوني يعرف بالطراز الكورنثي. وحدث حوالي عام 430 (حسب رواية فتروفيوس Vitruvius) أن استلفتت نظر مَثال أيوني يدعى كلمسكس Callimachus، سلة لتقديم النذور مغطاة بقرميدة، تركتها مربية على قبر سيدتها، وقد نبتت شجيرة أكنتوس (1) حول السلة والقرميدة. وأعجب المَثال بالصورة الطبيعية التي أوحت بها إليه السلة وما حولها فعدل
_________
(1) جنس من الأعشاب الأوربية تعرف أيضاً بالكتكر، وطابة الشوك، وشوكة اليهود (المترجم).(7/157)
تيجان العمد الأيونية في هيكل كان يشيده في كورنثة بأن أضاف أوراق الأكنتوس إلى الحلي اللولبية (44). ونحن نرجح أن هذه القصة خرافة لا أصل لها، وأن سلة المربية كان أثرها في نشأة الطراز الكورنثي أقل من أثر تيجان العمد المصرية المحلاة بسعف النخيل وأوراق البردي. ولكننا نستطيع أن نقول واثقين إن الطراز الجديد لم ينتشر انتشاراً واسعاً في بلاد اليونان في عصرها الذهبي، وإن كان إكتينس قد استخدمه في عمود منفرد في ساحة هيكل أيوني في فيجاليا Phigalea، وإن كان استخدم أيضاً حوالي آخر القرن الرابع في هيكل أقيم تخليداً لذكرى لسكارتيز Lysicartes. ولم يبلغ هذا الطراز الدقيق أرقى صورة له إلا على يد الرومان المتأنقين في عهد الإمبراطورية.
وكان العالم اليوناني كله يشيد الهياكل في ذلك العهد، وأوشكت المدن أن تفلس في تنافسها لإقامة أجمل التماثيل وأكبر الأضرحة، وأضافت أيونيا إلى مبانيها الضخمة في ساموس وإفسوس هياكل أيونية جديدة في مجنيزيا، وتيوس وبريني، وأقام المستعمرون اليونان في أسوس Assus من أعمال بلاد اليونان الطروادية مزاراً لأثينة لا يكاد طرازه يختلف في شيء عن الطراز الدوري العتيق، وشادت كروتونا في الطرف الآخر من بلاد هلاس حوالي عام 480 ق. م بيتاً دورياً واسعاً لهيرا ظل باقياً إلى عام 1600 م حين ظن أحد الأساقفة أن في مقدوره أن يستخدم حجارته في غرض أنفع من الغرض الذي كانت تستخدمه فيه (45). وأقيمت في القرن الخامس أعظم هياكل بسدونيا (بستم Paestum) ، وسجستا Segesta، وسلينس، وأكرجاس، وفيه أيضاً أقيم كعبد أسكلبيوس Asclepius في إبدورس. ولا تزال تشاهد في سرقوسة عمد هيكل شاده جيلون الأول Gelon I لأثينة، وقد بقي بعض هذا الهيكل لأنه حول إلى كنيسة مسيحية؛(7/158)
واختلط إكنتيس في باسيا بالقرب من فيجاليا من أعمال البلوبونيز هيكلاً لأبلو يختلف اختلافاً عجيباً عن البارثنون آيته الفنية الأخرى. ذلك أن صفوف الأعمدة الدورية تحيط بفضاء يشغله محراب صغير وبهو مكشوف كبير تحيط به أعمدة أيونية. وحول هذا البهو الداخل في مقابل الوجه الداخلي للعمد الأيونية يمتد إفريز لا يقل في رشاقته عن إفريز البارثنون نفسه، ويمتاز عنه في أنه ظاهر تراه العين (1).
وشاد ليبون Libon المهندس الإبلي في أولمبيا قبل أن يشاد البارثنون بجيل من الزمان مزاراً لزيوس دوري الطراز يضارع البارثنون نفسه. وقد أقيمت في كل طرف من أطرافه ستة أعمدة، وثلاثة عشر عموداً في كل جانب من جانبيه، ولعلها قد بلغت من الضخامة حداً لا يتفق مع جمال الشكل، كما أن المادة التي صنعت منها كانت غير خليقة بهذا الأثر الجميل - فهي من الجير الخشن المطلي بالمصيص، أما السقف فقد صنع من القرميد البنتيلي Pentelie (2) . ويحدثنا بوسنياس (46) أن بيونيوس Paeonius وألكمنيز قد نحتا للقواصر أشكالاً قوية (3) تمثل على الجانب الشرقي من السقف سباق المركبات بين بلييس وإينوماؤوس Aenomaus، وعلى الجانب الغربي منه صراع اللبيثيين والقناطرة (4). واللبيثيون، كما تروي الخرافات اليونانية قبيلة جبلية تقيم في تساليا، ولما أن تزوج ملكها برثوس Pirithous بهِبوداميا Hippodameia ابنة إينوماؤوس ملك بيزا إحدى مدائن إليس Elis، دعا القناطرة إلى وليمة العرس. وكانت القناطرة تسكن الجبال المحيطة ببليون، ويصورها الفن اليوناني مخلوقات نصفها خيل ونصفها آدميون، ولعلهم
_________
(1) ولا تزال ثمانية وثلاثون عموداً من أعمدته وجدران محرابه وأجزاء من العمد الداخلية باقية إلى الآن. وفي المتحف البريطاني قطع من الإفريز.
(2) وصف لرخام وجد في جبل بنتلكس Pentelicus بالقرب من أثينة.
(3) وهي الآن في متحف أولمبيا.
(4) جمع قنطروس Centaur وهو حيوان خرافي يوناني نصفه حصان ونصفه ثور.(7/159)
أرادوا بهذا أن يدلوا الناس على طبيعة أولئك الأقوام الوحشية غير المروضة أو يوحوا بأن القناطرة كانوا فرساناً مهرة إلى حد يخيل معه إلى من رآهم أن الفارس هو وفرسه حيوان واحد. وسكر أولئك الفرسان في أثناء الوليمة وحاولوا أن يختطفوا النساء اللبيثيات، لكن اللبيثيين دافعوا عن نسائهم دفاع الأبطال وهزموا القناطرة (ولم يمل الفنانون اليونان تصوير هذه القصة، ولعلهم كانوا يرمزون بها إلى تنظيف الغابات من الحيوانات البرية وإلى الكفاح القائم بين طبيعتي البشر الإنسانية والحيوانية). والأشكال المصورة على القوصرة الشرقية عتيقة الطراز جامدة ساكنة، أما التي على القوصرة الغربية فإن من أصعب الأمور أن يعتقد الإنسان أنها عملت في نفس هذا العصر، ذلك بأنها نشيطة تنبض بالحياة، وتدل على تمكن ناضج من التأليف بين المجاميع. وإن كان بعضها فجاً، وإن كان الشَّعر قد مثل على النمط الذي جرى به العرف في الزمن القديم. أما العروس فذات جمال بارع يثير الدهشة، فهي امرأة نحيفة في غير ضعف، كاملة النمو، جميلة المحيا، جمالاً لا نعجب إذا قامت بسببه الحرب بين الطائفتين المتقاتلتين. ونرى قنطروساً ملتحياً يطوق خصرها بذراعه، ويضع إحدى يديه على صدرها، ويوشك أن يختطفها من دار عرسها، ولكن الفنان مع هذا يصورها هادئة الملامح ساكنة سكوناً يظن الإنسان معه أنه قد قرأ لسنج Lessing أو ونكلمان، أو أنها ككل الغواني يغرها الثناء عليها والرغبة فيها. وأقل من هذه الصور شأناً وأصغر منها حجماً، وإن كانت أحسن منها صقلاً، الأجزاء الباقية من جبهة الهيكل، وهي التي تروي بعض أعمال هرقل الأسطوري، فتصور بعضُها هرقل يرفع العالم لأطلس. وقد أجاد الفنان في هذا كل الإجادة، فليس هرقل هنا جباراً شاذاً مخالفاً للمألوف، مفتول العضلات المحيطة بجسمه كأنها قدت من الحجر الصلد، بل هو رجل كامل النمو، متناسق الجسم، وقد وقف أمامه أطلس له رأس لو أنه وضع على كتفي أفلاطون لزانهما.(7/160)
وإلى يسارها وقفت إحدى بنات أطلس مكتملة النمو بارعة الجمال الطبيعي الذي أكسبتها إياه صحتها وكمال أنوثتها.
ولعل المصور كان يرمز إلى صورة مرسومة في ذهنه حين صورها تساعد في رقة وظرف الرجل القوي على حمل العالم. إن في مقدور الفنان الإخصائي أن يعثر على بعض أغلاط في التنفيذ وفي التفاصيل الدقيقة عندما يتأمل هذه الجبهة نصف المخربة، لكن الملاحظ الهاوي إذا نظر إلى العروس، وإلى هرقل، وابنة أطلس، يرى أن هذه المجموعة تقرب من الكمال قرب أية مجموعة أخرى في تاريخ النحت البارز.
2 - إعادة بناء أثينة
تفوق أتكا سائر بلاد اليونان في كثرة ما أقيم فيها من أبنية في القرن الخامس، وفي حسن هذه الأبنية. فهنا نرى الطراز الدوري، الذي يبدو في غيرها منتفخاً ضخماً، قد اكتسب الكثير من الرشاقة والانسجام الأيونيين، وأضيف اللون إلى الخطوط، والتحلية إلى التناسب. ولقد أقام الذين خاطروا بركوب البحر معبد البسيدن على رأس شديد الخطر عند سنيوم Sunium، بقي منه الآن أحد عشر عموداً. واختط إكتنيس في إلوسيس هيكلاً رحباً لدمتر، وقدمت أثينة بناء على نصيحة بركليز ما يلزمه من المال لجعل هذا المعبد خليقاً بالحفلات الإلوسيسية. وفي أثينة نفسها شجع الفنانين على مواصلة عملهم وجود الرخام الجيد بالقرب منها في جبل بنتكليس وفي باروس، لأنه أجمل مواد البناء على الإطلاق. وقلما استطاعت الديمقراطية أو رغبت في عهد من العهود، قبل حلول الكارثات الاقتصادية في أيامنا هذه، أن تنفق المال بمثل هذا السخاء على إقامة المباني العامة. فلقد تكلف البارثنون سبعمائة وزنة (000ر200ر4 ريال أمريكي)، وتكلف تمثال أثينة بارثنوس (وقد كان تمثالاً ومستودعاً للذهب في آن واحد) ما قيمته(7/161)
000ر000ر6 ريال، وتكلف هيكل البروبليا 000ر400ر2 ريال، وأنفقت 000ر000ر18 ريال على مباني أصغر من هذه أقامها بركليز في أثينة وبيرية، و000ر200ر16ريال في إقامة تماثيل وما إليها من أسباب الزينة. وجملة القول أن أثينة خصت من مواردها في الستة عشر عاماً الواقعة بين 447، 431 نحو 000ر000ر57 ريال أمريكي للمنشآت العامة والتماثيل والتصوير (47). وكان توزيع هذا المبلغ الضخم بين الصناع، والفنانين، والمنفذين لأعمالهم، والأرقاء، أثر كبير في الرخاء الذي عم أثينة في عهد بركليز.
وفي وسعنا أن نرسم في مخيلتنا صورة غامضة للعوامل التي كانت تستند إليها هذه المغامرة الفنية الجريئة. ذلك أن الأثينيين، بعد أن عادوا من سلاميس، وجدوا أن الفرس لم يكادوا يبقون على شيء من المدينة في أثناء احتلالهم إياها، فقد أحرقوا كل بناء ذي قيمة فيها، وتلك كارثة، إذا لم تقض على السكان كما تقضي على المدينة، تزيد السكان قوة وصلابة، كما أن هذه النيران تطهر المدينة من الأحياء القذرة والمباني غير الصالحة للسكنى، وبذلك تعمل المصادفات ما يحول عناد الإنسان دون عمله، وإذا ما وجد الأهلون الطعام في خلال هذه الأزمنة استطاعوا بجهودهم وعبقريتهم أن ينشئوا مدينة أجمل من المدينة المخربة. ولقد كان الأثينيون بعد الحرب الفارسية أغنياء بجهودهم وعبقريتهم، وضاعفت روح النصر من قوة إرادتهم ومن رغبتهم في الإقدام على جلائل الأعمال، فلم يمض جيل واحد حتى أعيد بناء أثينة، فأقيم فيها بناء جديد لمجلسها، وشيدت فيها دار جديدة للبلدية، ومنازل جديدة، وأروقة جديدة ذات أعمدة، وأسوار جديدة لصد المغيرين وأقيمت أرصفة ومخازن في مرفأ لها جديد. ذلك أن هِبودامس Hippodamus الملطي أشهر من خططوا المدائن في الزمن القديم وضع أساس فرضة جديدة مكان بيرية، ووضع هذا الأساس على طراز جديد، فقد استبدل بالفوضى القديمة وبالأزقة الملتوية التي كانت تشق في المدينة على(7/162)
غير نظام شوارع واسعة مستقيمة تتقاطع متعامدة. وشاد فنانون مجهولون على ربوة تبعد عن الأكربوليس بميل واحد ذلك البارثنون الأصغر المعروف بالثسيوم أو هيكل ثسيوس (1). وملأ المَثالون قواصر البناء وواجهاته بالنقوش المحفورة. وأنشئوا له إفريزاً فوق الأعمدة الداخلية القائمة على جانبيه. وطلى الرسامون (الكرانيش) والحزوز، والواجهات وإلافريز، كما طلوا بالألوان الزاهية الجدران من الداخل التي لا يدخل إليها إلا قليل من الضوء ينفذ في المربعات الرخامية (2).
وكان خير ما قام به البناؤون في عصر بركليز هو الأكربوليس، الحاضرة القديمة لحكومة المدينة ودينها، وقد بدأ ثمستكليز تجديده، فاختط هيكلاً طوله مائة قدم سمي لهذا السبب "ذا المائة قدم" Hecatompedon. فلما سقط ثمستكليز وقف العمل في بنائه لمعارضة الحزب الألجركي في ذلك، بحجة أنه إذا أريد إقامة بيت للإلهة أثينة لا يكون شؤماً على المدينة وجب أن يقام هذا البيت في موضع الهيكل القديم هيكل أثينة بولياس (أثينة المدينة) الذي دمره الفرس. لكن بركليز، الذي لم يكن من طبعه أن يعني بهذه الأوهام، رأى أن يقيم البارثنون في موضع الهكتمبدون وسار في العمل وفقاً لهذه الخطة رغم احتجاج الكهنة. وشاد فنانوه على منحدر تل الأكربوليس الجنوبي الغربي بهواً للموسيقى (أوديوم Odeum) يمتاز عن جميع أبهاء أثينة
_________
(1) وهذه التسمية خاطئة لأن هذا الهيكل الذي أقيم في عام 425 لا يمكن أن يكون هو الثسيوم الذي جاء إليه في عام 469 بعظام ثستوس المزعومة، لكن الزمن يضفي القداسة على الخطأ كما يضفيها على السرقة، ولهذا بقيت هذه التسمية التقليدية متداولة لأننا تعوزنا التسمية المؤكدة الصحيحة.
(2) والثيسوم هو خير ما احتفظ به من المباني اليونانية القديمة، ولكنه رغم العناية به تنقصه مربعاته الرخامية، وما كان على جدرانه من صور وبداخله من تماثيل، وعلى قواصره من نقوش، كما تنقصه جميع ألوانه الخارجية تقريباً. وقد لحقت أضرار كثيرة بواجهاته جعلت تمييز النقوش في حكم المستحيل.(7/163)
بقبته المخروطية الشكل. وقد أتاح هذا البناء لهجائي بركليز المستمسكين بالقديم فرصة اغتنموها فأخذوا من ذلك الحين يسمون رأس بركليز المخروطي "أودينَة Odeion أي بهو غنائه". وأقيم معظم الأوديوم من الخشب فلم يلبث إلا قليلاً حتى عدا عليه الدهر. وكانت تقام فيه الحفلات الموسيقية، ويتدرب فيه الممثلون على تمثيل مسرحيات ديونيسس، وتجري فيه كل عام المباريات التي أنشأها بركليز في الموسيقى الصوتية والوترية. وكثيراً ما كان هذا السياسي الذي نبغ في كثير من الأعمال يقوم بالحكم في هذه المباريات.
وكان الطريق الموصل إلى قمة التل في الأيام القديمة ملتوياً متدرجاً، على جانبيه تماثيل وقرابين الشكر للآلهة. وكان بالقرب من قمة التل مجموعة من الدرج الرخامية العرضة الفخمة تستند إلى بروج على كلا الجانبين. وشاد كلكراتيز فوق البرج الجنوبي أنموذجاً مصغراً لهيكل أيوني لأثينة في صورة نيكي أبتروس Nike Apteros أو النصر غير ذي الجناح (1). وكانت نقوش جميلة (لا يزال بعضها محفوظاً في متحف أثينة) تزين الحاجز ذا العمد الصغيرة هي وطائفة من التماثيل تمثل النصر المجنح وتحمل أثينة الغنائم التي جاءت بها من أماكن قاصية. وقد صنعت هذه التماثيل على صورة أجمل تماثيل فدياس، وهي أقل قوة وعنفاً من تماثيل الإلهات الضخمة التي في البارثنون، ولكنها أكثر منها رشاقة في حركتها، وأرق منها وأقرب إلى الطبيعة في شكل ملابسها، وتمثال النصر الذي يربط خفيه خليق باسمه لأنه نصر حق للفن اليوناني.
وأقام نسكليز Mnesicles في أعلى سلم الأكربوليس مدخلاً ذا خمس
_________
(1) كثيراً ما كانت تماثيل النصر تصنع من غير أجنحة حتى لا تستطيع مغادرة المدينة. وقد هدم الأتراك هذا المعبد في عام 1687 م ليقيموا مكانه حصناً. واستطاع لورد إلجين Lord Elgin أن ينقذ من العطب بعض قطع من الإفريز ويرسلها إلى المتحف البريطاني. وفي عام 1853 أعيدت أحجار الهيكل وأعيد بناؤه في مكانه الأصلي، ووضعت قوالب من الصلصال المحروق في موضع الأماكن المفقودة من الإفريز الذي أصابه كثير من الدمار.(7/164)
فتحات أمام كل واحدة منها رواق ذو عمد دورية من طراز الأبواب الميسينية، ولكنها أكثر منها إحكاماً، ومن هذه العمد أخذ الاسم الذي أطلق على البناء كله فيما بعد وهو البروبليا Propylaea أي ما أمام الباب. وكان لكل رواق إفريز ذو واجهة محززة، من فوقه قوصرة. وكان في داخل الممشى طائفة من العمد الأيونية لم يتحرج من شادوها أن يضعوها داخل هذا المحيط الدوري. وزين داخل الجناح الشمالي برسوم من صنع بولجنوتس وغيره من الفنانين، ووضعت فيه لوحات نذور من الأجر أو الرخام، ومن أجل ذلك سميت البناكثكا Pinakotheka أي بهو الرخام. وبقي جناح صغير في الجهة الجنوبية ناقصاً، فقد تعطل العمل فيه بسبب الحرب أو بسبب الانتقاض على بركليز، فترك مدخل البارثنون مجموعة مشوهة من القطع الصغيرة المتفرقة الجميلة.
وكان إلى يسار الداخل من هذه الأبواب مزار الإركثيوم ذو الطراز الشرقي العجيب. وهذا أيضاً قد أدركته الحرب فلم يتم أكثر من نصفه حين وقعت أثينة في مخالب الفوضى والفاقة على أثر نكبة إيجسبتماي Aegospotamai. وقد بدئ العمل فيه بعد موت بركليز بإيعاز المحافظين الذين كانوا يخشون أن يعاقب البطلان القديمان إركثيوس Erechtheus وسكربس Cecrops هما وأثينة ساكنة الضريح القديم، والأفاعي المقدسة التي كانت تأوي إلى هذا المكان، نقول كانوا يخشون أن تعاقب هذه كلها مدينة أثينة لأنها شادت البارثنون في مكان غير مكانه الأول. وكانت الأغراض المختلفة التي شيد من أجلها البناء هي التي عينت شكله، وقضت على وحدته. فقد خصص أحد أجنحته لأثينة بولياس (أثينة المدينة)، ووضعت فيه صورتها القديمة، وخصص جناح آخر لإركثيوس وبسيدن، ولم يكن يحيط بالمحراب أو جسم المعبد رواق بين أعمدة يضم أجزاءه المتفرقة، بل كان يستند إلى ثلاثة أروقة متفرقة. وكان المدخلان الشمالي والشرقي تسندهما عمد أيونية رفيعة لا تفوقها(7/165)
في جمالها أية عمد أخرى من نوعها (1). وكان المدخل الشمالي باباً كامل البناء مزيناً بأزهار محفورة في الرخام. ووضع في المحراب تمثال أثينة الخشبي البدائي الذي هبط، في اعتقاد الصالحين، من السماء. وهناك كان أيضاً المصباح العظيم الذي لا تنطفئ ناره أبداً، والذي صاغه كلمكس، سليني Cellini زمانه، من الذهب المصفى وزينه بأوراق الأكتثوس كتيجان الأعمدة الكورنثية. وكان المدخل الجنوبي هو باب القداري أو الكَرْيتيدات Caryatids (2) الذائع الصيت. وأكبر الظن أن تلك النساء الصابرات كن من نسل حاملات السلال الشرقيات. وفي تراليس Tralles من أعمال آسية الصغرى عمود قديم في صورة امرأة لا يترك مجالاً للشك في أن هذا الطراز من العمد شرقي الأصل، وأكبر الظن أنه بابلي. والثياب التي تغطي أجسام العذارى فاخرة، ويدل انحناء الركبة على أنهن مستريحات في وقفتهن، ولكن أولئك الفتيات أنفسهن لا يشعرن الإنسان بأن فيهن من القوة ما يعينهن على حمل ذلك البناء، كما يشعر الإنسان حين ينظر إلى أجمل أنواع الأبنية. لقد كان هذا انحرافاً في الذوق أكبر ظننا أن فدياس لم يكن يجيزه قط.
_________
(1) لقد كانت هذه العمد، لا عمد البارثنون، هي التي أقيمت على مثالها العمد التي أنشئت فيما بعد. وكان أسفل كل عمود يتصل بصف الأعمدة "بقاعدة أتكية" مكونة من ثلاثة أجزاء مربوطة بعصابات شبكية أو أربطة. ويتدرج أعلى العمود حتى يصل إلى تاجه اللولبي برباط من الأزهار. وكان للدعامة المرتكزة على العمود حلية عليها نقوش، وإفريز من الحجر الأسود، ومن نحت الطنف طائفة من النقوش البارزة. ولم تكن عناية الفنانين بحفر الحليات المكونة من أزهار البياضية، والقنان، والياسمين البري، أقل من عنايتهم بالتماثيل نفسها. وقد نال الفنانون على كل قدم من هذه الحليات مثل ما نالوه من الأجر على كل صورة من الإفريز.
(2) كان المهندس الروماني فتروفيوس Vitruvius هو الذي أطلق هذا الاسم على هذه الأشكال، وقد أخذه من الاسم الذي كان يطلق على كاهنات أرتميس في مدينة كرية Caryae من أعمال لكونيا Laconia. أما الأثينييون فلم يسموهم بأكثر من كوراي Karai أي العذارى.(7/166)
3 - البارثنون
في عام 447 بدأ إكتنوس ينشئ هيكلاً جديداً لأثينة بارثنوس يساعده في ذلك العمل كلكراتيز Callicrates ويشرف عليهما فدياس وبركليز إشرافاً عاماً. وأنشأ في الطرف الغربي من البناء حجرة لكاهناتها العذارى سماها حجرة "العذارى" Ton Parthenos، ثم استعير هذا الاسم على توالي الزمن فأطلق على البناء كله. واختار إكتنوس لبناء الهيكل رخام جبل بنتكلوس الأبيض المشوب بحبيبات حديدية، ولم يستخدم في بنائه ملاطاً، بل نحتت كتل الحجارة وصقلت بحيث تمسك كل كتلة في التي تليها كأن الاثنتين كتلة واحدة، وثقبت صفحات الأعمدة ووضعت في ثقب الصفحة قطعة من خشب الزيتون تصل كلاً منها بالأخرى وتدور على التي تحتها حتى يسوى السطحان المتقابلان ويصقلا فلا يكاد يرى فارق بينهما (49). وكان طراز البناء دورياً خالصاً وبسيطاً بساطة أبنية العصر الذهبي، أما شكله فكان رباعياً لأن اليونان لم تكن تعجبهم الأشكال المستديرة أو المخروطية، ومن أجل هذا لم تكن في العمارة اليونانية عقود وإن يكن المهندسون اليونان على علم بها من غير شك. ولم تكن أبعاد البناء كبيرة فهي 65× 151× 228 قدماً، وأكبر الظن أنه كان يسود البناء كله تناسب معين كالتناسب الذي يفرضه قانون بليكليتس، فكانت جميع مقاييسه تتناسب تناسباً معيناً مع قطر العمود (50). ففي بسدونيا كان ارتفاع العمود أربعة أمثال قطره، أما هنا فكان الارتفاع خمسة أمثال القطر، وكان هذا الطراز الجديد وسطاً بين المتانة الإسبارطية والرشاقة الأتكية. وكان قطر كل عمود يزداد قليلاً من قاعدته إلى وسطه (نحو ثلاثة أرباع البوصة) ثم ينقص كلما علا، ويميل نحو مركز بهو الأعمدة. وكان سمك كل عمود في ركن البناء يزيد قليلاً على سمك سائر الأعمدة، وكل خط أفقي من قاعدة كل صف ومن الدعامة(7/167)
المرتكزة عليه ينحني إلى أعلى نحو وسط حتى إذا نظر إليه الإنسان من أحد طرفي هذا الخط الذي يظنه مستقيماً لم يستطع رؤية طرفه الثاني البعيد عنه. ولم تكن واجهات البناء كاملة التربيع، ولكنها خططت بحيث تظهر لمن ينظر إليها من أسفل كأنها مربعة. ولم تكن هذه الانحناءات كلها إلا تصحيحاً دقيقاً للخداع البصري، ولولاها لبدت قواعد صفوف الأعمدة منخفضة في وسطها مائلة نحو الخارج. وما من شك في أن هذا الضبط يتطلب قدراً كبيراً من العلم بالرياضيات والبصريات، وأنه كان من المظاهر الهندسية الآلية التي جعلت الهيكل صرحاً يجمع بين العلم والفن. فقد كان كل خط مستقيم في البارثنون، كما هو في علم الطبيعة، خطاً منحنياً، وكان كل جزء من البناء ينسحب نحو الوسط، كما هو الشأن في التصوير، انسحاباً دقيقاً بارعاً. وقد نشأ من هذا كله نوع من المرونة والرشاقة يخيل إلى الإنسان معه أنه يخلع على الحجارة نفسها حياة وحرية.
وكان فوق العارضة البسيطة (العارضة الراكزة على الأعمدة) سلسلة من الحزوز والأجنبة (ما بين الحزوز) تلي كلتاهما الأخرى. وقد نقشت على الأجنبة الاثنين والتسعين نقوش بارزة تقص مرة أخرى كفاح "الحضارة" و "الوحشية" في حروب اليونان والطرواديين، واليونان والأمزونيات، واللبيثيين والقناطرة ( Centaurs) ، والجبابرة والآلهة. ولا شك في أن هذه الألواح من صنع فنانين كثيرين يختلفون في مهارتهم، فهي لا تعادل النقوش البديعة التي على إفريز المحراب وإن كانت بعض رؤوس القناطرة لا تقل دقة وجمالاً عن صور رمبرانت Rembrandt، وإن كانت هذه الرؤوس قد صنعت من الحجارة. وكان في قواصر السقف الهرمي طائفة من التماثيل المقامة من حجارة منحوتة كبيرة الحجم، وفي القوصرة الشرقية المقامة فوق المدخل، كان يسمح للزائر أن يشهد مولد أثينة(7/168)
من رأس زيوس. وفي هذا المكان يشاهد تمثالاً متكئاً لثسيوس (1) قوي الجسم جباراً، قادراً على تفكير الفلاسفة وسكون المتحضرين، وتمثالاً جميلاً لإيريس Iris ( وهي هرمس في صدرة نسوية) في ثياب ملتصقة بجسمه ولكنها تلعب بها الريح، لأن فدياس كان يرى أن الريح التي لا تلعب بالثياب نذير سوء.
وهناك أيضاً كان تمثال فخم لهيبي Hebe إلهة الشباب التي كانت تصب الرحيق في كؤوس الآلهة الأولمبية، وثلاثة تماثيل رائعة "للأقدار". وكان في الركن الأيسر أربعة رؤوس جياد- تبرق أعينها، وتنخر مناخيرها، وتزبد أفواهها وهي مسرعة في عدوها، تعلن شروق الشمس. وفي الركن الأيمن يسوق القمر للمغيب عربته ذات الجياد الأربعة والرؤوس الثمانية أجمل رؤوس للخيل في تاريخ النحت كله. وفي القوصرة الغربية نرى أثينة تنازع بسيدن السيادة على أتكا. وهناك أيضاً كانت خيول، كأنها وضعت لتكفر عن سخافات الإنسان الكثيرة، وكانت هناك تماثيل لأناس متكئين تمثل في فخامتها غير الواقعية نهيرات أثينة الصغيرة. ولعل تماثيل الرجال كانت كثيرة العضلات فوق ما يجب، ولعل تمثيل النساء كانت أكبر مما ينبغي، ن ولكننا نشاهد تماثيل قد تجمعت بحالتها الطبيعية التي تجمعت بها هنا، وقلما نرى تمثيل بهذه الكثرة قد نسقت في ذلك المكان الضيق من قوصرة البناء. ويصفها كنوفا Canova وصفاً لا نشك أنه قد غالى فيه فيقول: "إن سائر التماثيل من حجارة أما هذه فمن لحم ودم".
وأجمل من هذه وأكثر منها جاذبية صور الرجال والنساء التي في الإفريز، فهنا نشاهد أشهر النقوش كلها على الإطلاق تمتد إلى مدى 525 قدماً في أحد الجدران الخارجية للمحراب، وفي داخل الرواق. وأكبر الظن أن هذه
_________
(1) إن الأسماء التي نطلقها على التماثيل القائمة في البارثنون ظنية في أكثر الأحيان.(7/169)
النقوش تمثل فتيان أتكا وفتياتها يقدمن الهدايا وفروض الطاعة للإلهة أثينة في يوم الاحتفال بألعاب الجامعة الأثينية، فترى جزءاً من الموكب يتحرك بمحاذاة الجانبين الغربي والشمالي، وجزءاً آخر يتحرك بمحاذاة الجانب الجنوبي، ثم يلتقيان في الواجهة الشرقية أمام الإلهة، وهي تقدم في فخر وكبرياء هدايا المدينة وجزءاً من مغانمها إلى زيوس وغيره من الآلهة الأولمبية. وهناك أيضاً فرسان حسان تتمثل فيهم المهابة والرشاقة فوق خيول أجمل منهم، وعربات تقل طائفةً من كبراء المدينة تتبعهم جماعات من العامة تبدو عليهم مظاهر السعادة وهم يسيرون في الموكب رجالاً. ونرى فتيات حساناً، وشيوخاً هادئين يحملون أغصان الزيتون وصحاف الكعك، ونرى الخدم وعلى أكتافهم أباريق من الخمر المقدسة، ونساء موقرات يحملن إلى الإلهة الأثواب الخارجية التي نسجنها وطرزنها استعداداً لهذا اليوم المقدس وقبل أن يحل بزمن طويل. وترى الأضحية تمشي لتلاقي مصيرها وهي صابرة كالأثوار أو غاضبة عارفة بما ينتظرها من بلاء، وعذارى الطبقات الراقية يأتين بآنية الطقوس والتضحية، وموسيقيين يعزفن على القيثارات أناشيد خالدة لا تسمع لها نغماً. وقلما نرى حيوانات أو أناس قد بذل في تكريمها من الفن مثل ما بذل في هذه النقوش، فقد استطاع المَثالون بما رسموا وظللوا فيما لا يزيد على بوصتين ونصف بوصة من النقش البارز أن يخدعوا العين فيخيل إليها أن جواداً أو فارساً بعيداً عن الآخر، ن وإن كان أقربها لا يرتفع عن خلفية الصورة أكثر من سائر النقوس (51). ولربما كان من الخطأ أن يكون هذا النقش البديع عالياً لا يستطيع الناظر إليه أن يتأمله في يسر وراحة ويستوعب كل ما فيه من رونق وجمال، وما من شك في أن فدياس كان يعتذر عن هذا وهو يغمز بعينيه بحجة أن الآلهة كانت تستطيع رؤيته، ولكن الآلهة كانت تحتضر وهو ينقش هذه النقوش.(7/170)
وكان مدخل الهيكل الداخلي تحت الآلهة الجالسة المنقوشة في الإفريز. وكان داخل هذا الهيكل صغيراً نسبياً لأن معظم الفراغ كانت تشغله صفوف من الأعمدة الدورية التي تحمل السقف وتقسم المحراب إلى صحن وممشيين، وفي الطرف الغربي كان سنا أثواب أثينة الذهبية يذهب بأبصار عبادها، وكان رمحها ودروعها وأفاعيها توقع الرعب في قلوبهم. وكان من خلفها حجرة العذارى تزينها أربعة أعمدة دورية الطراز. وكان في الألواح الرخامية التي تغطي السقف من الصفاء ما يسمح بنفاذ بعض الضوء إلى صحن المحراب، ومن العتمة ما يكفي لمنع الحرارة عنه، هذا إلى أن التقى، كالحب، يصد عن المتقين حر الشمس. وكانت الطنف منقوشة نقشاً دقيقاً بذل فيه الكثير من العناية، وكانت تعلوها وقايات من الآجر ركبت فيها ميازيب لإزالة مياه الأمطار. وكانت أجزاء كثيرة من الهيكل مطلية بالألوان الزاهية الصفراء والزرقاء والحمراء. فأما الرخام فقد طلي باللونين الزعفراني واللبني، وكانت الخروز وبعض النقوش زرقاء، وكذلك كانت أرضية الإفريز. أما الواجهة فكانت حمراء، وكان كل ما فيها من الصور ملوناً (52). وقد فضل اليونان الألوان الناصعة على الألوان الهادئة لأنهم شعب اعتاد جو البحر الأبيض المتوسط ولأن في طاقته أن يتحمل الألوان البراقة، بل هو يفضلها عن الألوان الخفيفة الهادئة التي توائم جو شمال أوربا القاتم. والآن وقد تجرد البارثنون من ألوانه فإنه يبدو أجمل ما يكون في الليل حين تظهر من الفراغ الذي بين العمد مناظر السماء المتغيرة، أو منظر القمر معبود الأقدمين، أو أضواء المدينة النائمة مختلطة بتلألأ النجوم (1).
_________
(1) لقد كان الذي أبقى على البارثنون، كما أبقى على الإركثيوم والثسيوم، هو أن هذه الهياكل حولت إلى كنائس، ولم تكن هذه المباني تحتاج في هذا التحويل إلى تغيير كبير في أسمائها، لأنها في كلتا الحالين مخصصة للعذراء. وحول البارثنون بعد أن احتل الترك البلاد في عام 1456م إلى مسجد وأقيمت فيه مئذنة. ولما حاصر البنادقة مدينة أثينة في عام 1687م استخدم الأتراك الهيكل ليخزنوا فيه كل يوم تحتاجه مدفعيتهم من البارود. ولما أبلغ هذا الخبر لقائد البنادقة أمر بأن تطلق نيران مدافعه على البارثنون، واخترت قذيفة سقف الهيكل ونسفت البارود وخربت نصف البناء. ولما استولى مروسيني Morosini على المدينة حاول أن ينهب تماثيل القواصر، ولكنها سقطت من عماله وهم ينزلونها من أماكنها وتحطمت. وفي عام 1800 م حصل لورد إلجين، سفير بريطانيا في تركيا، على إذن من الباب العالي بأن ينقل بعض التماثيل والنقوش إلى المتحف البريطاني حيث تكون، على حد قوله، أكثر أماناً من تقلبات الجو وخطر الحروب. وكان من بين ما غنمه بهذه الطريقة اثنا عشر تمثالاً، وخمسون لوحة من لوحات الواجهة، وست وخمسون قطعة من الإفريز. وأشار خبير النحت في المتحف البريطاني بعدم شراء هذه الآثار، ولم يوافق المتحف على أداء 000ر175 ريال أمريكي ثمناً لها إلا بعد مفاوضات دامت عشر سنين. وكان هذا المبلغ أقل من نصف ما أنفقه لورد إلجين في الحصول عليها ونقلها (53) إلى إنجلترا، وأطلقت المدافع مرتين على الأكربوليس في أثناء حرب الاستقلال اليونانية (1821 - 1830) بعد بضع سنين من ذلك الوقت ودمر بذلك جزء كبير من هيكل الإركثيوم (54). ولا تزال بعض أجزاء من واجهة البارثنون في أماكنها، وبعض ألواح من الإفريز في متحف أثينة، وعدد قليل غيرها في متحف اللوفر. ولقد شاد سكان ناشفيل، وتنسى، نماذج للبارثنون بأبعاده الأصلية ومن نفس المواد التي استخدمت في بنائه، ومبلغ علمنا أنها زينت ولونت بنفس الزينات والألوان. ويحتوي المتحف الفني بنيويورك على أنموذج ظني لداخل الهيكل.(7/171)
لقد كان الفن اليوناني أعظم ما أبدعه اليونان، ذلك أن روائعه، وإن لم تقو على مقاومة عوادي الأيام، قد بقى من صورتها وروحها ما يكفي لأن يجعلها نبراساً تهتدي به كثير من البلدان. ولقد كان في هذا الفن أخطاء، شأنه في هذا شأن كل عمل يعمله الإنسان، فقد كانت التماثيل تعنى بالجسم فوق ما يجب أن تعنى به، وقلما كانت تنفذ إلى الروح، فهي تحملنا على الإعجاب بكمالها، لا بالشعور بما فيها من حياة. وكان شكل المباني وطرازها محصورين في حدود ضيقة، وظلت هذه المباني مدى ألف عام متشبثة بالشكل الرباعي البسيط الذي أخذته عن المباني الميسينية (1)، ولم تكن تبتدع شيئاً في غير ميدان الدين، ولم تحاول إلا طرق البناء السهلة، وتجنبت الأساليب الصعبة كالأقواس والقباب، ولعلهم لو أقدموا عليها لوجدوا فيها
_________
(1) وفي مقدور الإنسان أن يلحظ أيضاً عدم النظام في الأبنية المقامة على الأكربوليس وفي الأفنية المقدسة بألمبيا. ولكن يصعب عليه أن يحكم هل كان عدم النظام هذا ناشئاً من فساد في الذوق أو أنه كان مصادفة من مصادفات التاريخ.(7/172)
ميادين للعمل واسعة. وكانوا يقيمون سقفهم بالطريقة غير الجميلة طريقة العمد الداخلية المقامة بعضها فوق بعض. وكانوا يزحمون داخل هياكلهم بالتماثيل التي لا يتناسب حجمها مع حجم البناء الكلي، وكانت زينتها تنقصها البساطة والتحفظ اللذين يتوقع الإنسان وجودهما في طراز أبنية العصر الذهبي.
على أنه مهما تكن أغلاط ذلك الفن فإنها لا ترجح تلك الحقيقة الماثلة في الأذهان، وهي أن الفن اليوناني قد خلق على طراز أبنية العصر الذهبي. وجوهر هذا الطراز- إذا سمح لنا أن نذكر مرة أخرى موضوع هذا الفصل قبل أن نختمه- من حيث نظامه وشكله هو: التوسط والاعتدال في التخطيط والتصميم والتغيير، والتزيين، والتناسب بين الأجزاء، والوحدة التي تشمله كله، وعلو سلطان العقل دون أن يقضي بذلك على الشعور، والكمال الهادئ الذي يقنع بالبساطة، والسمو الذي لا يدين بشيء إلى انضمامه. ولم يكن لطراز من الأبنية اللهم إلا الطراز القوطي، من الأثر مثل ما كان لهذا الطراز، والحق أن التماثيل اليونانية لا تزال هي المثل الأعلى في فنها، وقد ظلت العمد اليونانية حتى الأمس القريب هي المسيطرة على فنون العمارة تحول دون قيام طرز أخرى أجمل منها وأوقع في النفس. وإن من الخير أنا قد أخذنا نتحرر من سيطرة الفن اليوناني لأن كل شيء، حتى الكمال نفسه، يصبح ثقيلاً بغيضاً إذا لم يتغير. ولكننا بعد أن يتم تحررنا بزمن طويل سنجد علماً وحافزاً في هذا الفن الذي كان حياة العقل ممثلة في ذلك الطراز، وهو خير ما أهدته بلاد اليونان إلى بني الإنسان.(7/173)
الباب الخامس عشر
تقدم العلوم
لقد ظهر النشاط الثقافي في عصر بركليز في ثلاثة أشكال رئيسية - هي الفن والتمثيل والفلسفة. وكان الدين الملهم لأولها، وميدان القتال الملهم لثانيها، والتضحية هي الملهمة لثالثها. وإذ كان تنظيم الجماعة الدينية يتطلب وجود عقيدة مشتركة مستقرة، لأن كل دين لا بد أن يتعارض عاجلاً أو آجلاً مع تيار التفكير الدنيوي السائد المتبدل الذي نطلق عليه بحق اسم تقدم المعرفة. ولم يكن هذا التعارض في أثينة ظاهراً للعين على الدوام، ولم يؤثر في جمهرة الشعب تأثيراً مباشراً، فقد كان العلماء والفلاسفة يواصلون عملهم دون أن يهاجموا العقائد الدينية للشعب مهاجمة صريحة، وكثيراً ما كانوا يخففون من حدة النزاع باتخاذ المصطلحات الدينية القديمة رموزاً أو استعارات لعقائدهم الجديدة، ولم يظهر هذا النزاع سافراً ويصبح مسألة حياة أو موت إلا في فترات متفرقة كما حدث حين وجهت التهم إلى أنكساغوراس، وأسبازيا، وديُجراس الميلوسي Diogaras of Melos ويوربديز، وسقراط. ولكن النزاع رغم خفائه كان موجوداً بحق، وكان تياره يسري في عصر بركليز، وكان من الموضوعات الكبرى التي تشغل الأذهان، كما كان يظهر في صور وأشكال مختلفة قوياً تارةً وضعيفاً تارةً أخرى. وأوضح ما كان يسمع في أحاديث السوفسطائيين المتشككة، وفي آراء دمقريطس المادية، وكانت أصداؤه الخفية تتردد في آراء إسكلس الصالحة التقية، وفي زندقة يوربديز وحتى في أقوال أرسطوفان المحافظ المليئة بالهزل وقلة الاحتشام. وظهرت مرة أخرى قوية في محاكمة سقراط وموته. ذلك هو الموضوع الذي تدور حوله الحياة العقلية لأثينة في عصر بركليز.(7/174)
الفصل الأوّل
علماء الرياضة
كان العلم الخالص في بلاد اليونان في القرن الخامس لا يزال يسير في ركاب الفلسفة، وكان يدرسه ويعمل على ترقيته رجال فلاسفة أكثر منهم علماء. ولم تكن علوم الرياضة العليا في نظر اليونان أداة عملية بل كانت أداة منطقية، تهدف إلى التركيب الذهني للعالم المعنوي أكثر مما تهدف إلى السيطرة على البيئة المادية الطبيعية.
ويكاد علم الحساب المتداول بين جمهرة اليونان قبل عصر بركليز أن يكون علماً بدائياً لم يدخل عليه إلا القليل من الصقل والتهذيب (1)، فكان يرمز لرقم 1 بشرطة عمودية ولرقم 2 بشرطتين، وبثلاث شرط لرقم 3 وبأربع لرقم 4، وكانت الأعداد 5، 10، 100، 1000، 000ر10 يرمز لها بالحروف الأولى من الكلمات اليونانية التي تسمى بها هذه الأعداد وهي: بنتي Pente، وديكا Deka، وهكتون Hekaton، وكليوي Chilioi، ومريوي Myrioi. ولم يضع علماء الحساب اليونان رمزاً للصفر. ومما يدل على أن علم الحساب اليوناني كعلم الحساب عندنا، مصدره بلاد الشرق أنه أخذ عن المصريين النظام العشري فكان اليونان يعدون بالعشرات، وأنه أخذ عن البابليين في علمي الفلك وتقويم البلدان الطريقة الاثني عشرية والستينية فكانوا يعدون في هذين العلمين بالاثني عشرات والستينات، ولا نزال نحن نستخدم هذه الطريقة في الساعات وعلى الكرات الأرضية والخرائط
_________
(1) إذا أراد القارئ أن يعرف طريقة كتابة الأرقام بعد ذلك العهد فليقرأ الفصل الأول من الباب الثامن والعشرين (ولعل ما جاء به ينطبق على عصر بركليز أيضاً).(7/175)
الجغرافية. ولعل العامة كانوا يستعينون بمعداد لإجراء عمليات الحساب السهلة. أما الكسور الاعتيادية فكانت تسبب لهم عناءً شديداً، فكانوا إذا أجروا عملية حسابية تحتوي على كسر اعتيادي بسْطُهُ أكبر من 1 حولوا هذا الكسر إلى عدة كسور بسطها كلها 1 فالكسر الاعتيادي 23 slash32 مثلاً كان يقسم إلى 1 slash2 + 1slash8 + 1slash16 + 1slash32 (1) .
وليست لدينا معلومات مدونة عن الجبر عند اليونان قبل التاريخ المسيحي. أما الهندسة النظرية، فكانت من الدراسات المحببة إلى الفلاسفة، ولم تكن تدرس لفائدتها العملية بقدر ما كانت تدرس لفائدتها الذهنية النظرية وما فيها من استدلال منطقي خلاب، وما فيها من دقة ووضوح، وتفكير متتابع ينبني بعضه على بعض. وكانت ثلاث مسائل بوجه خاص تسترعي انتباه هؤلاء العلماء الرياضيين الباحثين فيما وراء الطبيعة، ومما يدل على ما أصبح للمشكلة الأولى من شأن عندهم أن شخصية من شخصيات مسرحية الطيور لأرسطوفان تمثل ميتون Meton تأتي إلى المسرح بمسطرة وفرجار وتعلن أنها سترى النظارة كيف "تحول الدائرة إلى مربع" أي كيف يرسم مربع مساحته تساوي مساحة دائرة معلومة. ولعل هذه المسائل وأمثالها هي التي جعلت الفيثاغوريين المتأخرين يضعون قواعد الأعداد الصماء والكميات غير المتناسبة (2). كذلك كانت دراسات الفيثاغوريين للقطع المكافئ، والقطع الزائد، والقطع الناقص هي التي مهدت السبيل إلى مؤلف
_________
(1) لقد كان كتبة الدوائر الزراعية إلى عهد قريب يقولون مثلاً "نصف وربع وثمن" بدل 7 slash8 وفي "سورة الفدان" أمثلة كثيرة من هذه الطريقة (المترجم).
(2) الأعداد الصماء هي الأعداد التي لا يمكن التعبير عنها بعدد كامل، أو كسر من عدد كالجذر التربيعي للعدد، والكميتان غير المتناسبتين هما الكميتان اللتان لا يمكن إيجاد كمية ثالثة بينها وبينهما نسبة يمكن التعبير عنها بعدد غير أصم، كضلع المستطيل وقطره، ونصف قطر الدائرة ومحيطها.(7/176)
أبولونيوس البرجي Appolonius of Perga في القطاعات المخروطية، وهو المؤلف الذي كان عظيم الشأن في تاريخ العلوم الرياضية (2). وفي عام 440 ق. م. نشر أبقراط الطشيوزي (وهو غير أبقراط الطبيب) أول كتاب معروف في الهندسة النظرية وحل مشكلة تربيع المساحة الكائنة بين قوسين متقاطعين (1). وفي عام 420 أفلح هيبياس الإليائي Hippias of Elia في تقسيم الزاوية ثلاثة أقسام متساوية بالاستعانة بالمنحني، وحوالي عام 410 أعلن دمقريطس الأبدري على الملأ قوله: "لم يفقني أحد قط ولا المصريون أنفسهم في رسم خطوط حسب شروط معلومة" (4)، وكاد يفلح في تبرير هذا الازدهاء بتأليف أربعة كتب في الهندسة النظرية، ووضع قوانين لمعرفة مساحتي المخروط والهرم (5). وملاك القول أن براعة اليونان في الهندسة قد بلغت من العظمة ما بلغه ضعفهم في الحساب. وكان للهندسة شأن عظيم في جميع نواحي نشاطهم، وحتى فنونهم نفسها قد تدخلت فيها فوضعت أشكالاً كثيرة للحلي المنقوشة على خزفهم وأبنيتهم، وحددت النسب بين أجزاء البارثنون ومنحنياته.
_________
(1) هو شكل هلالي يحدث من تقاطع قوسي دائرتين.(7/177)
الفصل الثاني
أنكساغوراس
كان من مظاهر النزاع القائم بين الدين والعلم أن حرمت الشرائع الأثينية دراسة علم الفلك في الوقت الذي بلغ فيه عصر بركليز أعلى درجاته (6). وكان هذا العلم قد خطا خطوته الأولى في بلاد اليونان حين أعلن أنبادوقليس في أكرجاس أن الضوء يستغرق بعض الوقت في انتقاله من نقطة إلى أخرى (7). ثم خطى خطوةً ثانية حين أعلن بارمنيدس في إيليا Elea أن الأرض كروية الشكل، ثم قسم هذا الكوكب الأرضي إلى خمس مناطق، وعرف أن القمر يواجه الشمس بجزئه المنير على الدوام (8). ثم قام فيلولوس Philolaus الفيثاغوري في طيبة فخلع الأرض عن عرشها في مركز الكون وأنزلها منزلة كوكب من الكواكب الكثيرة التي تطوف حول "نار تتوسطها" جميعاً (9). وجاء لوقيبوس Leucippus تلميذ فيلولوس فقال إن النجوم قد نشأت من الاحتراق المتوهج لمواد "تندفع في مجرى الحركة العالمية للدوامة الدائرية" ومن تجمع هذه المواد وتركزها (10). وقام في أبدرا دمقريطس تلميذ لوقيبوس بعد أن درس العلوم البابلية، فوصف المجرة بأنها مكونة من عدد لا يحصى من النجوم الصغرى، ولخص التاريخ الفلكي بقوله إنه تصادم دوري وتحطيم لعدد لا يحصى من العوالم (11). وفي طشيوز كشف إينوبديز انحراف منطقة البروج (11أ). وجملة القول أن القرن الخامس كان في جميع المستعمرات اليونانية عصر تطور علمي عجيب في زمن يكاد يكون خلواً من الآلات العلمية.
فلما حاول أنكساغوراس أن يقوم بمثل هذه الأعمال في أثينة وجد أن مزاج الأهلين ومزاج الجمعية معاديان للبحث الحر بقدر ما كانت صداقة بركليز(7/178)
مشجعة له. وكان أنكساغوراس قد أقبل على أثينة من كلزميني Chlazomenae حوالي عام 480 ق. م. وهو في الخامسة والعشرين من عمره. وحبب إليه أنكسيمانس Anaximenes دراسة النجوم إلى حد جعله يقول جواباً عن سؤال وجهه إليه بعضهم عن الغرض من الحياة: "هو البحث عن حقيقة الشمس والقمر والسماء" (12). وأهمل العناية بالثروة التي خلفها له والده وصرف وقته في رسم خريطة للأرض والسماء، وحلت به الفاقة في الوقت الذي رحبت فيه الطبقات في أثينة بكتابه في الطبيعة وعدته أعظم الكتب العلمية التي ظهرت في ذلك القرن.
وكان هذا الكتاب حلقة من سلسلة البحوث العلمية التي قامت بها المدرسة الأيونية، وفيه يقول أنكساغوراس إن العالم كان في بادئ الأمر فوضى أو عماء مكوناً من بذور مختلفة الأنواع ( Spermata) ، يسري فيها فكر ( Nous) أو عقل مادي، لطيف، قويُّ الصلة بأصل الحياة والحركة في الآدميين، وكما أن العقل يصدر الأوامر إلى الفوضى التي تسود أعمالنا، فكذلك أصدر العقل العالمي أمره إلى البذور الأولية فبعث فيها دوامة رحوية (1)، وهداها إلى طريق نشأة الأشكال العضوية (13). وقسم هذا الدوران البذور إلى الأركان أو العناصر الأربعة - النار، والهواء، والماء، والأرض - وقسم العالم طبقتين دوارتين طبقة خارجية مكونة من "الأثير" وأخرى داخلية مكونة من الهواء. وبسبب هذه الحركة الدوارة العنيفة انتزع الأثير الناري الملتف حول الأرض حجارةً من الأرض وأضاءها فكانت نجوماً (14). والشمس والنجوم في رأيه كتلة من الصخور حمراء متوهجة أكبر من البلوبونيز مراراً كثيرة (15). وحين تضعف حركتها الدائرية تسقط أحجار الطبقة الخارجية على الأرض فتكون شهباً (16).
_________
(1) هذه هي الدوامة الذي يسخر منها أرسطوفان في كتابه "السحب" سخريةً لاذعة ويقول إن سقراط قد استبدل بها زيوس.(7/179)
والقمر جسم صلب متوهج، في سطحه سهول وجبال وأخاديد (17)، يستمد ضوءه من الشمس، وهو أقرب الأجرام السماوية إلى الأرض (18). "ويُخسف القمر إذا توسطت الأرض بينه وبين الشمس كما تُكسف الشمس إذا توسط القمر بينها وبين الأرض" (19). وربما كانت بعض الأجرام السماوية مسكونة عليها خلائق كالأرض، وعليها "يتكون أناس، وتتكون حيوانات أخرى ذات حياة، ويسكن الناس المدن، ويزرعون الأرض كما نزرعها نحن" (20). وقد نشأ من التكثف المتتابع للطبقة الداخلية أو الغازية من طبقتي كوكبنا سحب، وماء، وتراب، وحجارة. وتنشأ الرياح من رقة الجو الناشئة من حرارة الشمس كما "ينشأ الرعد من تصادم السحب والبرقُ من احتكاكها" (21). وكمية المادة ثابتة لا تتغير، ولكن الأشكال جميعها تبدأ ثم تزول، وستصبح الجبال في مستقبل الأيام بحاراً (22). وينشأ كل ما في العالم من أشياء وأشكال بتجمع أجزاء متماثلة Homoiomeria وفقاً لنظام يزداد تحديداً على مدى الأيام (23). وقد ولدت جميع الكائنات العضوية في بادئ الأمر من التراب، والرطوبة، والحرارة، وبذلك نشأ بعضها من البعض الآخر (24). وقد تطور الإنسان أكثر مما تطورت سائر الحيوانات لأن قامته المعتدلة أطلقت يديه فاستطاع بهما أن يمسك الأشياء (25).
وأصبح أنكساغوراس بفضل ما حققه من نتائج - وهي وصفه أساس علم الظواهر الجوية، وتفسير الكسوف والخسوف تفسيراً علمياً صحيحاً، ووضع فرض معقول لتكوين الكواكب السيارة، وإدراكه أن القمر يستمد نوره من الشمس، وقوله بتطور الحياة الحيوانية والبشرية - أصبح بفضل هذه النتائج كوبرنيق ذلك العصر ودارونه معاً. ولعل الأثينيين كانوا يعفون عن هذه الآراء لو أن أنكساغوراس لم يهمل تفسير منشأ عقله ومواهبه فيما فسر من حادثات طبيعية وتاريخية، ولعلهم ظنوا أنه(7/180)
لجأ إلى هذا الصمت، كما لجأ يوربديز في إحدى تمثيلياته إلى "آلة إسقاط الآلهة من السماء" لينجو بها من غضب مواطنيه. ويقول عنه أرسطاطاليس إنه كان يبحث عن العلل الطبيعية لكل شيء. من ذلك أنه جيء لبركليز بكبش ذي قرن واحد في وسط جبهته وقال أحد العرافين إنه نذير من نذر الآلهة، فأمر أنكساغوراس بفتح رأس الحيوان وأظهر للحاضرين أن مخه قد نما في مقدم الجبهة بدل أن يملأ جانبي الجمجمة كلها، فنشأ من نموه على هذا النحو قرن الكبش الوحيد (27). وقد أثار أنكساغوراس مشاعر السذج بتفسير سقوط الشهب على أساس القوانين الطبيعية، وأرجع كثيراً من الشخوص الأسطورية إلى تجسيم المجردات العقلية (28).
وصبر عليه الأثينيون وداروه إلى حين، وكل ما فعلوه به أن أطلقوا عليه لفظ Nous ( الفكر- العقل (29)). فلما لم يجد كليون Cleon الذي كان يناقش بركليز في تزعم الشعب وسيلةً أخرى يضعف بها خصمه اتهم أنكساغوراس بالإلحاد لأنه وصف الشمس (وكانت لا تزال في نظر الشعب إلهاً من الآلهة) بأنها كتلةً من الحجارة المحترقة، ولم يترك وسيلةً يستعين بها على تأييد دعواه إلا اتبعها. وأدين أنكساغوراس رغم دفاع بركليز المجيد عنه (1). ولم يكن أنكساغوراس راغباً في تعاطي عصير الشوكران السام، ففر إلى لمبسكوس Lampasacus على مضيق الهلسبنت، وأخذ يكسب عيشته بتدريس الفلسفة (2). ولما ترامى إليه أن الأثينيين حكموا عليه بالإعدام قال: "لقد قضت الطبيعة عليهم وعليَّ بهذا الحكم من زمن بعيد" (33). ومات بعد بضع سنين من ذلك الوقت في الثالثة والسبعين من عمره.
_________
(1) حوالي 434. وفي رواية أخرى أن المحاكمة حدثت في عام 450.
(2) وفي رواية أخرى أنه سجن في أثينة، وظل ينتظر أن يسقى كأس السم ولكن بركليز دبر له أمر هروبه.(7/181)
ويُرى تأخر الأثينيين في علم الفلك واضحاً في تقويمهم، ذلك أنه لم يكن لليونان تقويم عام بل كان لكل دولة تقويم خاص بها، وكانت كل نقطة من النقاط الأربع التي يصح اتخاذها بدايةً للسنة الجديدة متبعة في مكان ما من بلاد اليونان، وحتى الشهور نفسها كانت تتغير أسماؤها في الدويلات المختلفة، فكان تقويم أتكا يحسب الشهور بمنازل القمر والسنين بأبراج الشمس (34). وإذ كان في كل اثني عشر شهراً قمرياً 360 يوماً (1) فقط، فقد كانوا يزيدون شهراً على كل سنتين لكي يتفق حساب السنة مع حساب الشمس والفصول (35). وهذا الحساب نفسه يجعل السنة تطول عشرة أيام فوق ما يجب أن تكون، ولذلك وضع صولون النظام الذي يقضي بأن تكون أيام الشهور القمرية 30 يوماً و29 يوماً بالتناوب مقسمة إلى ثلاثة أسابيع (ديكادوي) في كل أسبوع عشرة أيام (أو تسعة في بعض الأحيان) (36). وتبقى بعد هذا أربعة أيام صححها اليونان بحذف شهر من كل ثمان سنين. وبهذه الطريقة الملتوية التي لا يكاد يدركها العقل وصل اليونان آخر الأمر إلى احتساب السنة 365 يوماً وربع يوم (2).
وحدث في هذه الأثناء تقدم قليل في علم الجغرافية. فقد فسر أنكساغوراس فيضان النيل السنوي تفسيراً صحيحاً بقوله إنه ينشأ من ذوبان جليد بلاد الحبشة في فصل الربيع ومن سقوط الأمطار فيها (38). وفسر علماء طبقات الأرض اليونان وجود مضيق جبل طارق بأنه نتيجة لتشقق الأرض من أثر زلزال، كما فسروا وجود جزائر بحر إيجه بأنه ناشئ من انخفاض قاع البحر (39). وقال زنثوس الليدي Zanthus of Lydia حوالي 495 إن البحرين الأبيض المتوسط والأحمر كانا في الزمن القديم متصلين أحدهما بالآخر عند السويس، وسجل إسكلس ما كان
_________
(1) ليست السنة القمرية 360 يوماً بل هي حوالي354. (المترجم)
(2) يشير هيرودوت إلى فضل التقويم المصري على التقويم اليوناني. وقد أخذ اليونان عن المصريين المزولة وأخذوا من آسية الساعة المائية واتخذوهما وسيلتين لحساب الزمن.(7/182)
يعتقده أهل زمانه من أن صقلية قد انفصلت من إيطاليا نتيجةً لاضطراب في القشرة الأرضية (40). وارتاد إسكيلاكس الكاري Scylax of Caria (521 - 485 ق. م) جميع شواطئ البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود. ويبدو أن أحداً من اليونان لم يجازف بالقيام برحلة استكشافية كالرحلة التي قام بها هنو Hanno القرطاجي بأسطول مؤلف من ستين سفينة، اخترق به مضيق جبل طارق وسار به نحو 2600 ميل إزاء الساحل الغربي لإفريقية (حوالي 490 ق. م). وكانت خرائط عالم البحر الأبيض المتوسط منتشرة في أثينة في أواخر القرن الخامس. أما الطبيعة فمبلغ علمنا أنها لم تتقدم على أيدي اليونان وإن كانت منحنيات البرثنون تدل على أنهم كانوا يعرفون الكثير عن البصريات. غير أن الفيثاغوريين أعلنوا حوالي عام 450 أبقى الفروض العلمية اليونانية، وهو التركيب الذري للمادة. كذلك وضع أنبادوقليس وغيره من العلماء نظرية نشوء الإنسان وارتقائه من صور للحياة أدنى منه، ووصفوا رقيه البطيء من الهمجية إلى الحضارة (41).(7/183)
الفصل الثالث
أبقراط
لقد كان أهم الحوادث في تاريخ العلوم اليونانية في عصر بركليز نهضة الطب القائم على العقل لا على الخرافة. ذلك أن الطب اليوناني قبل ذلك الوقت حتى في القرن الخامس نفسه كان وثيق الارتباط بالدين إلى حد كبير، وكان كهنة هيكل أسكلبيوس Asclepius لا يزالون يقومون بعلاج المرضى. وكان العلاج في هذا الهيكل يقوم على خليط من الأدوية التجريبية، والطقوس المؤثرة الرهيبة، والرقى السحرية التي تؤثر في خيال المريض وتطلقه من عقاله، وليس ببعيد أنهم كانوا يلجأون أيضاً إلى التنويم المغناطيسي وإلى بعض المخدرات (42). وكان الطب الدنيوي ينافس الطب الديني ويحاول أن يتغلب عليه. وكان أنصار هذا وذاك يعزون منشأ علمهم إلى أسكلبيوس، ولكن الأسكلبيسيين غير الدينيين كانوا يرفضون الاستعانة بالدين في عملهم، ولا يدعون أنهم يعالجون المرضى بالمعجزات، وقد أفلحوا شيئاً فشيئاً في إقامة الطب على قواعد العقل.
وتطور الطب الدنيوي في بلاد اليونان أثناء القرن الخامس في أربع مدارس كبرى: في كوس ونيدس من مدن آسية الصغرى، وفي كرتونا بإيطاليا، وفي صقلية. وفي أكرجاس اقتسم أنبادوقليس- وهو نصف فيلسوف ونصف رجل معجزات- مفاخر الطب مع أكرون Acron الطبيب المفكر المنطقي (43). وقد وصلت إلينا أنباء مدونة ترجع إلى عام 520 عن طبيب يدعى دِمُسِديز Democedes ولد في كرتونا، ومارس مهنة الطب في إيجينا، وساموس، وسوسة، وعالج دارا والملكة أتسا Atossa، ثم عاد ليقضي آخر أيامه في مسقط رأسه (44). وفي كرتونا أيضاً خرجت المدرسة الفيثاغورية أوسع أطباء اليونان شهرةً قبل أبقراط،(7/184)
ونعني به ألقميون Alcmaeon الذي يلقبونه الأب الحق للطب اليوناني (45). ولكنه لم يكن في واقع الأمر إلا اسماً متأخراً في ثبت طويل من أسماء الأطباء غير الدينيين ضاعت أسماؤهم فيما وراء أفق التاريخ. وقد نشر هذا الطبيب في أوائل القرن الخامس كتاباً في الطبيعة Peri Physeos- وكان ذلك هو العنوان المألوف في بلاد اليونان لأي بحث عام في العلوم الطبيعية. ومبلغ علمنا أنه كان أول من حدد من اليونان موضع العصب البصري وقناة أستاخيو (1)، وشرح الحيوانات، وفسر فسلجة النوم، وقرر أن المخ هو العضو الرئيسي في عملية التفكير، وعرف الصحة تعريفاً فيثاغورياً فقال إنها التوافق بين أجزاء الجسم المختلفة (46). وكان أكبر رجال الطب في نيدس هو يوريفرون Euryphron الذي كتب في الطب خلاصة موجزة تعرف باسم الجمل النيدية Cnidian Sentences، وقال عن التهاب البلورا إنه مرض من أمراض الرئتين، وإن الإمساك منشأ الكثير من الأمراض، وذاع صيته لنجاحه في عمليات التوليد (47). وقامت حرب مشئومة بين مدرستي كوس ونيدس لأن النيديين لم يكونوا يحبون ولع أبقراط في أن يقوم "التشخيص" على معرفة طبائع الأمراض، ومن ثم أصروا على وجوب العناية بتصنيف الأمراض كلها تصنيفاً دقيقاً، وعلاج كل مرض منها بطريقته الخاصة. وتسرب في آخر الأمر، بنوع من العدالة الفلسفية، كثير من الكتابات النيدية إلى المجموعات الطبية الأبقراطية.
ويبدو أبقراط، كما تراه في سيرته الموجزة التي كتبها سويداس Suidas، أعظم أطباء زمانه بلا منازع. وقد ولد في جزيرة كوس في السنة التي ولد فيها دمقريطس، وأصبح الرجلان صديقين حميمين بالرغم من بعد موطنيهما، ولربما كان "للفيلسوف الضاحك" نصيب في توجيه الطب وجهة دنيوية. وكان
_________
(1) الموصلة من الطبلة إلى البلعوم. (المترجم)(7/185)
أبقراط ابن طبيب ونشأ ومارس صناعته بين آلاف المرضى والسياح الذين وفدوا على كوس "لأخذ الماء من عيونها الساخنة". ووضع له معلمه هيرودكس السلمبري Herodicus of Selymbria الأساس الذي بنى عليه فنه بتعويده الاعتماد على نظام التغذية وعلى الرياضة الجسمية أكثر من اعتماده على الأدوية. وذاعت شهرة أبقراط حتى كان من بين مرضاه حكام مثل بردكاس Percdiccas ملك مقدونية، وأردشير الأول ملك الفرس، وفي عام 430 ق. م. استدعته أثينة ليحاول وقف انتشار الطاعون فيها. وأخجله صديقه دمقريطس بأن عاش من العمر مائة عام كاملة، على حين أن الطبيب العظيم مات في الثالثة والثمانين من عمره.
وليس في كل ما كتب في الطب وفي كل ما يمكن أن يكتب فيه ما هو أكثر اختلافاً وأقل تجانساً من مجموعة الرسائل التي كانت تُعزى في القديم إلى أبقراط. ففيها كتب مدرسية للأطباء، ونصائح لغير رجال الطب، ومحاضرات للطلبة، وتقريرات، وبحوث، وملاحظات، وتسجيلات سريرية (كلينيكية) (1)) لحالات طريفة، ومقالات كتبها سوفسطائيون ممن يهتمون بالناحيتين العلمية والفلسفية في الطب. وكانت الاثنان والأربعون سجلاً سريرياً هي السجلات الوحيدة من نوعها في السبعة عشر قرناً التي أعقبت ذلك العهد، وكانت أعلى الأمثلة في الأمانة باعترافها أن المرض أو العلاج قد أعقبه الموت في ستين في المائة من الحالات (48). وأربعة لا أكثر من هذه المؤلفات هي التي انعقد إجماع المؤرخين على أنها من كتابات أبقراط: وهي "الحكم" و"الأدلة" و "تنظيم التغذية والعوائد في الأمراض الحادة"، ورسالته "في جروح الرأس". أما ماعدا هذه الأربعة من المؤلفات المعزوة إلى أبقراط فمن وضع مؤلفين مختلفين عاشوا في
_________
(1) مأخوذة عن سرير المريض. (المترجم)(7/186)
أوقات مختلفة بين القرنين الخامس والثاني قبل الميلاد (49). وفي هذه المجموعة قدر غير قليل من السخف والهذيان، ولكن أكبر الظن أنه ليس أكثر مما سيجده علماء المستقبل في رسائل هذه الأيام وتواريخها. وكثير من المعلومات التي في هذه الكتب والرسائل شذرات متفرقة، موضوعة في صورة حكم وقواعد مفككة تقترب بين الفينة والفينة من الغموض الذي يلازم كتابات الفيلسوف هرقليطس. ومن بين "حكم" أبقراط تلك العبارة الذائعة الصيت: "الفن طويل، ولكن الوقت يمر مر السحاب" (50).
وأكبر فضل لأبقراط وخلفائه أنهم حرروا الطب من الدين والفلسفة. نعم إنهم يشيرون في بعض الأحيان بأن يستعين المريض بالصلاة والدعاء، كما نرى ذلك في كتاب "التنظيم"، ولكن النغمة السارية في صفحات المجموعة كلها هي وجوب الاعتماد الكلي على العلاج الطبي. وتهاجم رسالة "المرض المقدس" صراحة النظرية القائلة بأن الأمراض ترسلها الآلهة، ويقول مؤلفها إن للأمراض جميعها عللاً طبيعية بما في ذلك الصرع نفسه الذي يفسره الناس بأنه تقمص الشيطان جسم المريض: "وما زال الناس يعتقدون بأنه من عند الآلهة، لعجزهم عن فهمه ... ويتوارى المشعوذون والدجالون وراء الخرافات ويلجأون إليها لأنهم لا يجدون علاجاً ناجعاً لهذا الداء، ومن أجل هذا يطلقون عليه اسم المرض المقدس حتى لا ينكشف للناس جهلهم الفاضح" (51) وكانت روح العصر البركليزي تتمثل أوضح تمثيل في عقلية أبقراط، فقد كان واسع الخيال ولكنه واقعي، يكره الخفاء، ولا يطيق الأساطير، يعترف بقيمة الدين ولكنه يكافح لفهم العالم على أساس العقل والمنطق. وإنا لنحس بأثر السوفسطائيين في الحركة التي تهدف إلى تحرير الطب، والحق أن الفلسفة قد أثرت في طرق العلاج اليونانية تأثيراً بلغ من قوته أن قام النزاع بين العلم والفلسفة كما قام بينه وبين العقبات التي يضعها الدين في سبيله. ويقول أبقراط، ويصر(7/187)
على قوله، إن النظريات الفلسفية لا شأن لها بالطب ولا موضع لها فيه، وإن العلاج يجب أن يقوم على شدة العناية بالملاحظة (52) وعلى تسجيل كل حالة من الحالات وكل حقيقة من الحقائق تسجيلاً دقيقاً. ولسنا ننكر أنه لم يدرك كل الإدراك قيمة التجارب العلمية، ولكنه كان يصر على أن يهتدي في جميع أعماله بالخبرة والتجربة العلمية.
وفي وسعنا أن نتبين ما تلوث به الطب الأبقراطي في منشئه من عدوى الفلسفة بالنظر إلى عقيدة "الأخلاط" المشهورة. يقول أبقراط: إن البدن يتكون من الدم، والبلغم، والصفراء، والصفراء السوداء، وإن الإنسان يستمتع بالصحة الكاملة إذا امتزجت فيه هذه الأركان (العناصر) بنسبها الصحيحة، وإن الألم ينشأ من نقص بعض هذه "الأخلاط" أو زيادتها أو انفصالها عن الأخلاط الأخرى (53). وقد بقيت هذه النظرية وعاشت بعد زوال جميع الفروض الطبية القديمة، ولم يتخل عنها الناس إلا في القرن الماضي، ولعلها لا تزال باقية في صورة أخرى هي عقيدة الأنوار (الهرمونات) أو إفرازات الغدد، التي يقول بها الأطباء في هذه الأيام. وإذ كان اليونان يعتقدون أن سير هذه الأخلاط يتأثر بالجو والطعام، وإذ كانت أكثر الأمراض انتشاراً في بلاد اليونان هي أمراض البرد، وذات الرئة، والملاريا، فقد كتب أبقراط (؟) رسالة موجزة في "الأهوية، والمياه، والأماكن" وعلاقتها بالصحة، وفيها يقول: "في وسع الإنسان أن يعرض نفسه للبرد وهو واثق من أنه لن يصيبه منه سوء، إلا إذا فعل ذلك بعد الأكل أو الرياضة ... وليس من الخير للجسم ألا يتعرض لبرد الشتاء" (54). وليس لنا أن نستخف بأقوال أبقراط وأتباعه هذه لأن من واجب الطبيب العلمي، أياً كان مستقره، أن يدرس الرياح، والفصول، وموارد ماء الشرب، وطبيعة الأرض، وأثر هذه العوامل كلها في السكان.
والتشخيص أضعف النقط في طب أبقراط. فقد يبدو أنه لم يكن يعنى(7/188)
بقياس النبض، وكانت الحمى تعرف باللمس البسيط كما كان الاستماع يحدث بالأذن مباشرة. وكان يؤمن بالعدوى في أحوال الجرب، والرمد، والسل (55). وفي كتابه عن (الجسم Corpus) صور إكلينيكية كثيرة للصرع، والتهاب الغدة النكفية الوبائي، وحمى النفاس، والحمى اليومية، وحمى الثلث، وحمى الربع. ولم يرد في المجموعة ذكر للجدري أو الحصباء، أو الخناق (الدفتريا) أو الحمى القرمزية أو الزهري، كما لم يرد فيه ذكر صريح للتيفود (56). وتنزع رسائل: "التنظيم" نحو الطب الوقائي بدعوتها إلى دراسة أحوال الداء في أول ظهوره- وهي محاولة لمعرفة أولى علامات المرض والقضاء عليه قبل أن يستفحل (57). وكان أبقراط شديد الولع بمعرفة العواقب في الطب ويرى أن الطبيب الماهر يعرف بتجاربه نتائج أحوال الجسم المختلفة، وفي مقدوره أن يتنبأ بسير المرض من مراحله الأولى. ويقول إن معظم الأمراض تصل إلى مرحلة يقضى فيها إما عليها وإما على المريض ذاته، وإن تقديره الحسابي- الذي يكاد يبلغ في دقته الحساب الفيثاغوري- الذي يصل فيه المرض إلى أشد حالاته لمن أخص خصائص النظرية الأبقراطية. وهو يقول في هذا المعنى أنه إذا استطاعت حرارة الجسم في هذه الأزمات أن تتغلب على سبب العلة وتطرده من الجسم شفي المريض. ويقول إن الطبيعة- أي قوى الجسم وبنيته- هي أهم علاج لكل مرض أياً كان نوعه، وإن كل ما يستطيع الطبيب أن يفعله هو أن يقلل أو يزيل العقبات القائمة في طريق هذين الدفاع والشفاء الطبيعيين. ولهذا فإن الطريقة الأبقراطية لا تستخدم العقاقير في العلاج، وأكثر ما تعتمد عليه هو الهواء النقي، والمقيئات، والأقماع، والحقن الشرجية، والحجامة، والإدماء، والكمادات، والمراهم، والتدليك، والمياه المعدنية. ومن أجل ذلك كان دستور الأدوية اليوناني جد صغير يتكون معظمه من المسهلات. وكانت أمراض الجلد تعالج بالحمامات الكبريتية، وبالتدليك بدهن كبد(7/189)
الدلفين (58). ويسدي أبقراط للناس هذه النصيحة: "عش عيشة صحية تنج من الأمراض إذا انتشر في البلد وباء أو أصابتك حادثة. وإذا مرضت ثم اتبعت نظاماً صالحاً في الأكل والحياة أتاح لك ذلك أحسن الفرص للشفاء" (59). وكثيراً ما كان يوحي بالصوم إذا سمحت بذلك قوة المريض لأنه "كلما أكثرنا من تغذية الأجسام المريضة زدنا بذلك تعريضها للأذى" (60). ويمكن القول بوجه عام إن "الإنسان يجب ألا يتناول إلا وجبة واحدة من الطعام في اليوم إلا إذا كانت معدته شديدة الجفاف" (61).
وكان تقدم علمي التشريح ووظائف الأعضاء في بلاد اليونان بطيئاً، وكان أكبر العوامل فيما أحرزاه من تقدم هو الفحص عن أحشاء الحيوانات في عملات العرافة. وفي المجموعة الأبقراطية كراسة صغيرة "في القلب" تصف البطينين، والأوعية الكبرى، وصماماتها. وكتب سينيسس Syennesis القبرصي وديوجين الكريتي يصفان الجهاز الدموي، وعرف ديوجين أهمية النبض (62). كذلك عرف أنبادوقليس أن القلب مركز الجهاز الدموي، ووصفه بأنه العضو الذي يحمل النيوما Pneuma أو الهواء الحيوي (الأوكسجين؟) من الأوعية الدموية إلى جميع أجزاء الجسم (63). وفي كتاب الجسم Corpus يحذو أبقراط حذو القيمون فيجعل المخ مركز الشعور والتفكير ويقول: "وبه نفكر، ونبصر، ونسمع، ونميز القبيح من الجميل والغث من الثمين" (64).
أما الجراحة فكانت لا تزال في معظم الأحوال عملاً لا يتخصص فيه الطلاب، ويشتغل به كبار الأطباء، وإن كان من الموظفين في الجيوش جراحون (65). وتصف مؤلفات أبقراط عملات التربنة، والطريقة التي تصفها لعلاج انخلاع الكتف أو الفك "حديثة" في كل شيء عدا استخدام المخدرات (66).
وقد وجدت في هيكل إسكلبيوس بأثينة لوحة نذور نقشت عليها علبة تحتوي مباضع ذات أشكال مختلفة (67). ويحتفظ متحف أثينة الصغير بعدد من(7/190)
الملاقط، والمسابر، والمباضع، والقناطر، والنظارات الطبية القديمة لا تختلف في جوهرها عن أمثالها المستحدثة في هذه الأيام. ويبدو أن بعض ما هنالك من تماثيل هي نماذج أعدت لشرح الوسائل التي تتبع لرد الخلع في مفاصل العجز (68). وفي رسالة أبقراط "في الطب" تعليمات مفصلة لتحضير حجرة العمليات الجراحية وتنظيم ما فيها من ضوء طبيعي وصناعي، وتنظيف اليدين، والعناية بآلات الجراحة وطريقة استخدامها، وموضع المريض، وتضميد الجروح وما إلى ذلك (69).
ويتضح من هذه الفقرات وغيرها أن الطب اليوناني في عهد أبقراط قد تقدم تقدماً عظيماً من الناحيتين الفنية والاجتماعية. لقد كان الأطباء اليونان قبل أيامه ينتقلون من مدينة إلى أخرى كلما دعتهم الحاجة إلى الانتقال، شأنهم في هذا شأن السوفسطائيين في أيامهم والوعاظ في أيامنا نحن. أما في عهده فقد استقروا في مدنهم وافتتحوا مكاتب أو "أمكنة للعلاج Iatria" يعالجون فيها المرضى تارة ويعالجونهم في منازلهم (70) تارةً أخرى. وكثرت عندهم الطبيبات، وكن يستخدمن عادةً في علاج أمراض النساء، وقد كتب بعضهن رسائل في العناية بالجلد والشعر تعد حجة في موضوعاتها (71). ولم تكن الدولة تحتم على من يريد ممارسة الطب أن يؤدي امتحاناً عاماً، ولكنها كانت تطلب إليه أن يقدم لها أدلة مقنعة على أنه قد تمرن أو تتلمذ على طبيب معترف به (72). ووفقت حكومات المدن بين الطب المُأمم والطب الخاص باستخدام أطباء للعناية بالصحة العامة، ولعلاج الفقراء. وكان أكبر أطباء الدولة هؤلاء، أمثال دموسيدز Democedes يتقاضون وزنتين (000ر12 ريال أمريكي) في العام (73). وكان عندهم بطبيعة الحال دجالون كثيرون، كما كان عندهم عدد لا يحصى من الهواة الذين يدعون العلم بكل شيء في الطب، وهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان. ولقد قاست المهنة في تلك الأيام، كما تقاسي في كل جيل من الأجيال، الأمَرّين من أعمال أقلية فيها خربة الذمة، عاجزة عن القيام(7/191)
بواجبها (74)، وثأر اليونان لأنفسهم، كما ثأر غيرهم من الأمم، من عدم وثوقهم بأطبائهم بما كالوه لهم من السخرية والفكاهة اللاذعة، التي لا تقل عن سخرياتهم من الزواج.
وقد رفع أبقراط من شأن هذه المهنة بتوكيده شأن الأخلاق في الطب، ذلك أنه لم يكن طبيباً فحسب بل كان طبيباً ومدرساً معاً، وربما كان القسم الشهير الذي يعزى إليه قد وضع لضمان ولاء طالب الطب لأستاذه (1).
قسم أبقراط
"أقسِمُ بأبلو الطبيب، وبأسكلبيوس، وبهجيائيا Hygiaea وباناسيا Panacea وبجميع الآلهة والإلهات، وأشهِدُها جميعاً على، أن أنفذ هذا القسم وأوفي بهذا العهد بقدر ما تتسع له قدرتي وحكمتي، وأن أضع معلمي في هذا الفن في منزلة مساوية لأبواي، وأن أشركه في مالي الذي أعيش منه، فإذا احتاج إلى المال اقتسمت مالي معه، وأقسم أن أعد أسرته إخوة لي، وأن أعلمهم هذا الفن إذا رغبوا في تعلمه، من غير أن أتقاضى منهم أجراً أو ألزمهم باتفاق، وأن ألقن الوصايا والتعاليم الشفوية وسائر التعاليم الأخرى لأبنائي، ولأبناء أستاذي، وللتلاميذ المتقاعدين الذين أقسموا يمين الطبيب، ولا ألقنها لأحد سواهم. وسوف أستخدم العلاج لأساعد المرضى حسب مقدرتي وحكمتي، ولكن لا أستخدمه للأذى أو لفعل الشر. ولن أسقي أحداً السم إذا طلب إليَّ أن أفعل هذا، أو أشير بسلوك هذا السبيل. كذلك لن أعطي امرأة صوفة لإسقاط جنينها، ولكني سأحتفظ بحياتي وفني كليهما طاهرين مقدسين، ولن أستعمل المبضع ولو كنت محقاً في استعماله، لمن يشكو حصاة، بل أتخلى عن مكاني لمن يحذقون
_________
(1) يقولون إن القسم من وضع المدرسة الأبقراطية لا من وضع أبقراط نفسه، ولكن إروتيان Erotian الذي كتب في القرن الأول بعد الميلاد يعزوه إلى أبقراط.(7/192)
هذا الفن. وإذا دخلت بيت إنسان أياً كان، فسأدخله لمساعدة المرضى، وسأمتنع عن كل إساءة مقصودة أو أذى متعمد، وسأمتنع بوجه خاص عن تشويه جسم أي رجل أو أية امرأة، سواءً كانا من الأحرار أو من الأقرباء. ومهما رأيت أو سمعت في أثناء قيامي بفروض مهنتي، وفي خارج مهنتي في خلال حديثي مع الناس، إذا كان مما لا تجب إذاعته، فلن أفشيه، وسأعد أمثال هذه الأشياء أسراراً مقدسة. فإذا ما ألزمت نفسي بإطاعة هذا القسم ولم أحنث فيه، فإني أرجو أن أشتهر مدى الدهر بين الناس جميعاً بحياتي وبفني، أما إذا نقضت العهد وحنثت بالقسم فليحل بي عكس هذا" (76).
ويضيف أبقراط إلى هذا أن من واجب الطبيب أن يحتفظ بحسن مظهره الخارجي، وأن ينظف جسمه ويتأنق في ملبسه. ويجب عليه أن يكون هادئاً على الدوام، وأن يكون سلوكه بحيث يبعث الثقة والاطمئنان في نفس المريض (77)، ويجب عليه:
"أن يعنى بمراقبة نفسه، و ... وألا يقول إلا ما هو ضروري ... وإذا دخلت حجرة مريض فتذكر طريقة جلوسك، وكن متحفظاً في كلامك، معتنياً بهندامك، وصريحاً حاسماً في أقوالك، موجزاً في حديثك، هادئاً ... ولا تنس ما يجب أن تكون عليه أخلاقك وأنت إلى جانب فراش المريض ... واضبط أعصابك، وازجر من يقلقك، وكن على استعداد لفعل ما يجب أن يُفعل ... وأوصيك ألا تقسو على أهل المريض، وأن تراعي بعناية حال مريضك المالية، وعليك أيضاً أن تقدم خدماتك من غير أجر، وإذا لاحت لك فرصة لأن تؤدي خدمة لإنسان غريب ضاقت به الحال، فقدم له معونتك كاملة، ذلك أنه حيث يوجد حب الناس يوجد أيضاً حب الفن" (78). وإذا أضاف الطبيب إلى هذا دراسة الفلسفة والعمل بها، كان هو المثل الأعلى لأبناء مهنته لأن "الطبيب الذي يحب الحكمة لا يقل عن الآلهة في شيء" (79).(7/193)
وبعد فإن الطب اليوناني لا يرقى رقياً جوهرياً عما كانت تعرفه مصر عن الطب وعن الجراحة قبل عصر آباء الطب المختلفين بألف عام، وإذا ما نظرنا إلى التخصص بدا لنا أن ما وصل إليه اليونان فيه أقل مما وصل إليه المصريون. على أننا يجب من الناحية الأخرى أن نجل اليونان ولا نبخسهم حقهم، لأن الطب من ناحيته النظرية والعملية قد بقى حتى القرن التاسع عشر عند الحد الذي أوصله إليه اليونان. وجملة القول أن العلوم اليونانية قد بلغت الدرجة التي ينتظر الإنسان أن يبلغها علم من العلوم من غير الاستعانة بآلات دقيقة للرصد والملاحظة، ومن غير التجارب العلمية. ولولا العقبات التي أقامها في طريقه الدين والفلسفة لكان له شأن أعظم من شأنه هذا، فقد حدث في الوقت الذي كان فيه كثيرون من الشبان في أثينة يتحمسون لدراسة الفلك والتشريح المقارن، أن حالت التشريعات الرجعية الجاهلة دون تقدم العلوم، وكانت سبباً في اضطهاد أنكساغوراس، وأسبازيا، وسقراط. وكذلك كان "تحول" سقراط والسوفسطائيين عن دراسة العالم الخارجي إلى دراسة العالم الداخلي، ومن الطبيعة إلى علم الأخلاق، كان هذا التحول سبباً في تحويل التفكير اليوناني من مشاكل الطبيعة والنشوء والتطور إلى مشاكل ما وراء الطبيعة والأخلاق. وظل العلم واقفاً لا يتحرك مائة عام كاملة خضع فيها اليونان لسحر الفلسفة ومفاتنها.(7/194)
الباب السادس عشر
النزاع بين الفلسفة والدين
الفصل الأوّل
المثاليون
كان عصر بركليز شبيهاً بعصرنا هذا في تنوع أفكاره واضطرابها، وفي تحديه لجميع المعايير والعقائد التقليدية القديمة، ولكن ما من عصر من العصور يضارع عصر بركليز في كثرة آرائه الفلسفية وعظمتها أو في غزارتها وفي القوة التي كانت تناقش بها. فقد كانت كل المسائل التي يضطرب بها العالم اليوم تدور على ألسنة الناس في أثينة القديمة، يناقشها الناس بحرارة وحماسة روعت جميع اليونان ما عدا شبابهم. وقد حرمت كثير من المدن - وخاصة إسبارطة - أن يبحث الجمهور المسائل الفلسفية بسبب ما كانت تثيره من "حقد، ونزاع، وجدل عقيم" على حد قول أثنيوس. ولكن "بهجة" الفلسفة "العزيزة" كانت تستحوذ على خيال الطبقات المتعلمة في أثينة، فكان أغنياء المدينة يفتحون أبواب بيوتهم وأبهائهم للباحثين كما كان يحدث في عهد الاستنارة في فرنسا، وكانت الولائم تولم للفلاسفة، والبحوث الطريفة يصفق لها كما يصفق للضربات القوية في الألعاب الأولمبية.
ولما أن أضيفت حرب السيوف إلى حرب الألفاظ في عام 432، استحال هياج العقول الأثينية إلى حمى احترق فيها كل ما كانت تتصف به تلك العقول من اعتدال وحكمة. وخبت نار هذه الحمى بعض الوقت بعد استشهاد سقراط(7/195)
أو بالأحرى توزعت من أثينة على غيرها من مراكز الحياة اليونانية. وحتى أفلاطون نفسه الذي عرف ما بلغته هذه الحمى وما أدت إليه من أزمات استُنفِدت قواه بعد أن دامت هذه الحال الجديدة ستين عاماً كاملة، وكان يحسد مصر على إيمانها الديني واستقرار أفكارها وهدوئها. ولم يشهد عصر من العصور المقبلة إلى أن حل عصر النهضة ما شهده هذا العصر من حماسة في التفكير وقوة في النقاش.
وكان أفلاطون يمثل أعلى منزلة وصلت إليها الحركة التي بدأت ببارمنيدس، وكان لها بمثابة هجل Hegel لكانت Kant، ومع أنه لم يكن يتورع عن التنديد بآراء الفلاسفة، فإنه لم ينقطع يوماً ما عن تعظيم أبيه الميتافيزيقي. وفي بلدة إيليا الصغيرة القائمة على ساحل إيطاليا الغربي نشأت في عام 450 ق. م الفلسفة المثالية التي أثارت في كل قرن من القرون المقبلة حرباً شعواء على المادية (1)، وقذفت في بوتقة التفكير الأوربي مشكلة المعرفة الغامضة العجيبة، ومشكلة الفرق بين الظاهر من جهة وما لا يعرف ولا يمكن أن يعرف من جهة أخرى، وبين الحقيقي غير المنظور والمنظور غير الحقيقي، وظلت هذه الأفكار تغلي أو تغطمط طوال تاريخ اليونان القديم وفي أثناء العصور الوسطى حتى انفجرت مرةً أخرى في عصر كانت وعلى يديه وأضحت ثورة فكرية عارمة.
وكما أن هيوم Hume قد أيقظ "كانت"، كذلك كان أكسانوفان Xenophanes هو الذي دفع بارمنيدس إلى الاشتغال بالفلسفة، ولعل عقل بارمنيدس كان واحداً من عقول كثيرة أثارها قول أكسانوفان إن الآلهة ليست إلا أساطير، وإنه لا توجد إلا حقيقة واحدة هي العالم والله جميعاً. كذلك درس بارمنيدس مع الفيثاغوريين وسرى فيه شغفهم بعلم الفلك، ولكنه لم يضل في بيداء النجوم،
_________
(1) ولقد واجه الهنود هذه المشكلة قبل ذلك بزمن طويل، وبقوا بارمنيديين إلى آخر عهودهم، ولعل نزعه اليوبانيشاد Upanishads المضادة العاطفية قد تسربت إلى بارمنيدس عن طريق أبونيا أو فيثاغورس.(7/196)
بل كان كمعظم فلاسفة اليونان يهتم بالشئون الحية ومنها شئون الدولة. وقد كلفته إيليا أن يضع لها قوانينها، فلما وضعها أعجبت به إعجاباً جعلها تطلب إلى جميع قضاتها أن يحكموا في جميع القضايا بمقتضاها (3). ولعله أراد أن يرفِّه عن نفسه في حياته المفعمة بالعمل، فأنشأ قصيدة فلسفية في الطبيعة بقي منها إلى الآن نحو مائة وستين بيتاً تكفي لأن نأسف لأن بارمنيدس لم يكتب نثراً. وفي هذه القصيدة يعلن الشاعر، وهو يغمز بعينه، أن إلهة قد أوحت إليه أن الأشياء جميعها وحدة، وأن الحركة، والتغير، والنمو، أشياء غير حقيقية، فهي خيالات لمشاعر سطحية، متعارضة تافهة، وأن من وراء هذه المظاهر وحدة، متجانسة لا تتبدل، ولا تنقسم، ولا تتحلل، ولا تتحرك، وهي وحدة الكائنات، والحقيقة التي لا حقيقة سواها، والإله الذي لا إله غيره. لقد كان هرقليطس يقول إن كل شيء يتغير Panta Rei أما بارمنيدس فيقول إن الأشياء بأجمعها كل واحد أبداً Hen Ta Panta. وهو في بعض الأحيان يقول كما يقول أكسانوفان إن هذا الواحد هو الكون، ويصفه بأنه شبه كرى ومحدود، وكان في بعض الأحيان حين ينظر إليه نظرة فكرية مجردة يرى أن هذا الكائن هو الفكر ويقول: "إن الفكر والكون شيء واحد" (4). وكأنه يريد بهذا أن يفهمنا أن الأشياء لا وجود لها في إدراكنا، وأن البداية والنهاية، والمولد والموت، والتكوين والتدمير، لا تصيب إلا الأشكال والصور، أما الواحد الحق فلا بداية له ولا نهاية، وليس ثمة صيرورة، وليس ثمة إلا وجود، وأن الحركة أيضاً غير حقيقية لأنها تفترض انتقال شي من المكان الذي هو فيه إلى مكان لا يوجد فيه شي أي إلى الفراغ، ولكن الفراغ الذي هو غير كائن لا يمكن أن يكون، إذ ليس ثمة فراغ قط، لأن الواحد يملأ كل ركن وكل شق في العالم، وهو ساكن سكوناً سرمدياً (1).
_________
(1) إن هذه الأقوال مجهدة للخيال، ولكننا نكاد نفعل ما فعله بارمنيدس حين تقول إن منضدة ما في حالة سكون مع أنها (كما يقولون) تتكون من "كهرب" (الكترونات) دائمة الحركة. وقد كان بارمنيدس يرى العالم كما نرى نحن المنضدة، ولو قدر للكهرب أن يرى العالم لرآه كما نراها نحن.(7/197)
ولم يكن ينتظر بطبيعة الحال أن يستمع الناس إلى هذه الأقوال كلها وهم صابرون، ويبدو أن السكون البارمنيدي كان الهدف الذي صوبت إليه مئات من الهجمات الميتافيزيقية. وترجع أهمية زينون الإليائي الحصيف تلميذ بارمنيدس إلى محاولته إثبات أن فكرتي التعدد والحركة كانتا من الوجهة النظرية على الأقل مستحيلتين كاستحالة واحد بارمنيدس الثابت القديم الحركة - وأراد زينون أن يدرب نفسه على الضلال والمشاكسة، وأن يسلي شبابه في الوقت نفسه، فألف كتاباً في المتناقضات وصلت إلينا تسع منها، حسبنا أن نورد منها ثلاثاً: وأولى هذه المتناقضات كما يقول زينون أن الجسم لكي يتحرك إلى نقطة ألا بد أن يصل إلى ب وهي منتصف طريقه إلى أ، ولكي يصل إلى ب يجب أن يصل أولا إلى ج منتصف طريقه إلى ب، وهكذا إلى ما لا نهاية. وإذ كانت هذه السلسلة التي لا نهاية لها من الحركات تتطلب قدراً لا نهاية له من الزمن، فإن تحرك أي جسم إلى أية نقطة في زمن محدد أمر مستحيل. والثانية وهي صورة أخرى من الأولى أن أخيل السريع العدو لا يستطيع أن يدرك السلحفاة البطيئة. وذلك لأنه كلما وصل إلى النقطة التي كانت فيها السلحفاة، تكون السلحفاة في هذه اللحظة نفسها قد انتقلت من هذه النقطة. والثالثة أن السهم الطائر في الهواء هو في الحقيقة ساكن غير متحرك، لأنه في كل لحظة من طيرانه لا يكون إلا في نقطة واحدة في الفضاء، أي أنه يكون ساكناً، وحركته منطقياً وميتافيزيقياً غير حقيقية مهما بدا للحواس أنها واقعة فعلاً (1).
_________
(1) وقد انتقل البحث في هذه المناقضات من أفلاطون (6) إلى برتراند رسل (7)، وقد يستمر ما دام الناس يعتقدون خطأ أن الأسماء هي المسميات. والذي يجعل هذه الألغاز عديمة القيمة هي افتراض واصفها أن "غير ممدود" شيء وليس كلمة تدل على عجز العقل عن أن يدرك النهاية المطلقة، وأن الزمان والمكان والحركة كلها أشياء غير متصلة أي أنها تتكون من نقطة أو أجزاء منفصلة بعضها عن بعض.(7/198)
وجاء زينون إلى أثينة حوالي عام 450 ق. م. ولعله جاء إليها مع بارمنيدس وأثار ثائرة المدينة السريعة التأثر بقدرته على تحويل أي نوع من أنواع النظريات الفلسفية إلى سخافات غير معقولة. وقد وصف تيمون الفليوسي Temon of Phlius " لسان زينون ذي الحدين الذي يستطيع أن يبرهن على أن كل قول يقوله الإنسان غير حقيقي" (8).
ومن هذه النعرة قبل السقراطية (ونحن نسميها نعرة لأن جهلنا بالماضي يضطرنا إلى تسمية هذه المعاني بتلك الأسماء) كانت بداية علم المنطق كما كان بارمنيدس بالنسبة لأوربا هو واضع علم ما وراء الطبيعة. ولقد حاكى سقراط طريقة زينون الجدلية (9) محاكاة شديدة وإن كان قد ندد بها وشنع عليها، وبلغ من تحمسه لهذه الطريقة أن اضطر قومه إلى قتله لكي يريحوا عقولهم من جدله. ولقد كان أثر زينون في السوفسطائيين المتشككين حاسماً وقوياً، وكان لتشككه آخر الأمر الغلبة في بيرون Purrho وقرنيادس Carneades. وقد أصبح في شيخوخته رجلاً "ذا حكمة عظيمة وعلم غزير" (10) فأخذ يشكو من أن الفلاسفة قد حملوا مزاحه العقلي في أيام شبابه محمل الجد. وكان انقلابه الأخير سبب القضاء عليه. ذلك أنه اشترك في حركة تهدف إلى خلع الطاغية نيارقيس Nearches في إيليا ولكنه أخفق في محاولته، وقبض عليه، وعذب، وقتل (11). وصبر الفيلسوف على عذابه صبر الأبطال، وكأنما أراد بذلك أن ينضم اسمه بعد قليل من الزمن إلى أسماء أصحاب الفلسفة الرواقية.(7/199)
الفصل الثاني
الماديون
لقد كان إنكار بارمنيدس للحركة والتغير بمثابة ثورة على ميتافيزيقية هرقليطس المائعة المزعزعة، وكذلك كانت عقيدة وحدة الكون ثورة عنيفة على عقائد الفيثاغوريين المتأخرين. ذلك أن هؤلاء الفلاسفة قد حولوا نظرية الأعداد التي قال بها كبيرهم إلى المبدأ القائل بأن الأشياء جميعها تتكون من أعداد أي من وحدات غير قابلة للانقسام (12). ولما أن أضاف فيلولوس الطيبي إلى هذا المبدأ أن "الأشياء جميعها تحدث بالضرورة والتوافق" (13) كان كل شي قد أعد لظهور المذهب الذري أو مذهب الجوهر الفرد في الفلسفة اليونانية.
ففي عام 435 جاء لوقيبوس الملطي إلى إيليا وتلقى العلم على زينون. ولعله قد سمع هناك بالذرية العددية التي يقول بها الفيثاغوريون، ذلك أن زينون كان قد وجه بعض متناقضاته الدقيقة إلى عقيدة التعدد (14). واستقر لوقيبوس آخر الأمر في أبدرا وهي مستعمرة أيونية مزدهرة في تراقية. وقد ضاعت تعاليمه المباشرة فلم يبق منها إلا هتامة صغيرة هي قوله: "لا شي يحدث من غير علة، بل إن الأشياء كلها تحدث لعلة، وبالضرورة" (15).
ولعل لوقيبوس قد أوجد فكرة الفراغ ليرد بها على أقوال زينون وبارمنيدس، وكان يأمل بهذه الطريقة أن يجعل الحركة مستطاعة من الوجهة النظرية كما هي واقعية من الناحية الحسية. ويقول: إن العالم يحتوي على جواهر فردية وعلى فراغ ولا شي غيرهما، وإن هذه الجواهر التي تتساقط في دوامة كبرى تسقط بالضرورة إلى الصور الأولية للأشياء جميعها، وينضم كل شي(7/200)
إلى مثيله، وبهذه الطريقة وجدت الكواكب والنجوم (16)، والأشياء جميعها بما فيها النفس البشرية مكونة من جواهر فردية (ذرات).
وكان دمقريطس تلميذ لوقيبوس أو زميله في تحويل فلسفة الجوهر الفرد إلى نظرية مادية كاملة. وكان والده من ذوي المكانة الملحوظة والثراء العظيم في أثينة (17)، ويقال إنه ورث منه مائة وزنة من المال (000ر800 ريال أمريكي) أنفق معظمها في الأسفار (18). وتقول بعض الروايات التي لا نجد ما يؤيدها إنه سافر إلى مصر وبلاد الحبشة وبابل وفارس والهند (19)، ويقول هو نفسه في ذلك: "لقد طفت بين معاصري في أكبر جزء من الأرض للبحث عن أبعد الأشياء، ورأيت أكثر الجواء والأقطار، وسمعت إلى أكبر عدد من المفكرين" (1). وأقام في بؤوتية الطيبية زمناً يكفي لتشبعه بنظرية فيلولوس في الذرية العددية (22)، ولما فرغت منه نقوده لجأ إلى الفلسفة، واخشوشن في معيشته، ووجه جهوده كلها إلى الدرس والتفكير، وقال: "إن الكشف عن برهان واحد (في الهندسة) خير لي من الحصول على عرش فارس" (23). وكان على شيء من التواضع لأنه كان يبتعد عن الجدل والنقاش، ولم يوجد مدرسة خاصة، وأقام في أثينة من غير أن يتعرف إلى أحد من فلاسفتها (24). وقد ذكر ديوجين ليرتيوس Diogenese Laertius ( ديوجانس) ثبتاً طويلاً من كتبه في علوم الرياضة والطبيعة والفلك والملاحة، والجغرافية، والتشريح، ووظائف الأعضاء، وعلم النفس، والعلاج النفساني، والطب، والفلسفة، والموسيقى (25). ويسميه ثراسيلس Thrasyllus صاحب التمارين الخمسة في الفلسفة، ويطلق عليه بعض معاصريه اسم الحكمة ( Sophia) نفسها (26). وقد بلغت معارفه من السعة والتعدد ما بلغته معارف أرسطاطاليس
_________
(1) ومن أقواله: "إن الأرض كلها وطن للرجل الحكيم الصالح".(7/201)
نفسه، ونال أسلوبه من الإعجاب ما ناله أفلاطون (27)، ووصفه فرانسس بيكن Francis Bacan في ساعة تخلى فيها عن عناده بأنه أعظم الفلاسفة الأقدمين على بكرة أبيهم (28).
وهو يبدأ كما يبدأ بارمنيدس ببحث تحليلي في الحواس فيقول إنه لا بأس علينا من الوثوق بها في الأغراض العملية، ولكننا لا نكاد نحلل ما تمدنا به من المعلومات حتى نجد أنفسنا ننتزع من العالم الخارجي طبقة بعد طبقة مما تضفيه عليه الحواس من اللون، والحرارة، والطعم، والنكهة، والحلاوة، والمرارة، والصوت. وهذه "الصفات الثانوية" كائنة فينا نحن أو في عملية الإدراك الكلية، لا في الشيء الموضوعي، وفي العالم الخالي من الآذان لا تحدث الغابة الساقطة صوتاً، ولا يكون لماء البحر مهما غضب هدير "والعرف ( Nomos) هو الذي يجعل الحلو حلواً والمر مراً، والحار حاراً، والبارد بارداً، أما الحقيقة فهي أنه لا وجود إلا للجواهر الفردية (الذرات) والفراغ" (29). ومن ثم فإن الحواس لا تمدنا إلا بالمعلومات أو الآراء العامة، أما المعرفة الحقة فلا سبيل إليها إلا البحث والتفكير". والواقع أننا لا نعرف شيئاً، فالحق مدفون على بعد منا عظيم ... ولسنا نعرف شيئاً معرفة أكيدة، بل كل ما نعرفه هو ما يحدث في جسمنا من تغيرات بتأثير القوى التي تصطدم به" (30). وكل الأحاسيس ناشئة من الجواهر الفردية التي يقذف بها الجسم الخارجي فتقع على أعضاء الحواس (31)، وليست الحواس كلها إلا أشكالاً من اللمس (32).
وتختلف الجواهر الفردية التي يتكون منها العالم في شكلها وحجمها ووزنها، وكلها تنزع إلى السقوط إلى أسفل، وتنتج من هذا حركة دائرية تتحد فيها الجواهر المتماثلة بعضها ببعض فتنتج من اتحادها الكواكب والنجوم. وهذه الجواهر لا يقودها فكر ( Nous) أو ذكاء، ولا يرتبها "حب" أو "كراهية" كما يقول أنبادوقليس، بل إن الضرورة- أي الأثر الطبيعي للعلل الكامنة فيها هي التي تسيطر عليها جميعاً (33). وليس ثمة مصادفة، بل المصادفة(7/202)
خرافة اخترعت لتبرير جهلنا (34). وكمية المادة تبقى على حالها، لا يضاف إليها شيء جديد، ولا يفنى منها شيء (35)، وكل الذي يحدث هو تغير في اتحاد الجواهر الفردية. لكن صور الأشياء مع هذا لا حصر لها، وحتى العوالم نفسها يوجد منها في أكبر الظن عدد "غير محدود"، وهي تنشأ وتزول في موكب لا نهاية له (36). وقد نشأت الكائنات العضوية في مبدأ أمرها من التراب المبلل (37)، وكل شيء في الإنسان مصنوع من جواهر فردية، والروح نفسها مكونة من جواهر جد صغيرة ملساء مستديرة كجواهر النار، والعقل، والنفس، والحرارة الحيوية، والمبدأ الحيوي، كلها شي واحد، لا يختص بها الإنسان أو الحيوان بل هي منتشرة في العالم كله موزعة عليه، والجواهر الفردية العقلية الكائنة في الإنسان وغيره من الحيوانات التي بها نفكر في جميع أجزاء الجسم (1).
بيد أن هذه الجواهر الفردية الدقيقة التي تتكون منها النفس هي أكثر أجزاء الجسم نبلاً وأعظمها إثارة للدهشة. والرجل العاقل ينمي فكره، ويحرر نفسه من الانفعالات، والخرافات، والمخاوف، ويبحث بالتأمل والإدراك عن السعادة العقلية التي في متناول الحياة البشرية. والسعادة لا تنشأ من الطيبات الخارجية، بل ينبغي للإنسان أن يتعود على أن يجد في داخل نفسه مصادر متعته وسعادته" (42). والثقافة خير من الغنى ... ولا تستطيع قوة أو ثروة أن ترجح اتساع دائرة العلم" (43). والسعادة تأتي متقطعة، و "اللذائذ المادية لا تشبع صاحبها إلا زمناً قصيراً" (44)، لكن الإنسان ينال سروراً أدوم إذا حصل على سلا م النفس وصفائها (أتاركسيا Ataraxia) وعلى البهجة ( Euthumia) . والاعتدال ( Metriotes) قدر من النظام والتناسب في الحياة ( Biou Symmetria) . وفي وسعنا أن نتعلم الشيء الكثير من الحيوانات-
_________
(1) يعزو لكرتيوس Lucretius إلى "دمقريطس العظيم" القول بوجود نوع من الموازاة النفسية الجسمية. فقد "قال (دمقريطس) إن جواهر الجسم وجواهر العقل توضع أزواجاً كل منها بجوار الآخر، وبهذا نربط هيكل الجسم بعضه ببعض".(7/203)
"الغزل من العنكبوت، والبناء من العصفور، والغناء من العندليب والتَّمَّ" (45)، و "قوة الجسم لا تكون من أسباب النبل إلا في دواب النقل، أما قوة الخلق فهي سبب النبل في الإنسان" (46). وهكذا يفعل دمقريطس ما فعله من بعده الضالون في إنجلترا في عصر الملكة فكتوريا فيقيم على ميتافيزيقاه الشائنة صرحاً من المبادئ الخلقية الخلابة الظاهرة. "والأعمال الحسية يجب أن تصدر عن عقيدة لا عن قسر، ويجب أن يفعلها الإنسان للرغبة فيها لا أملاً فيما يناله عليها من جزاء ... " ومن واجب الإنسان أن يشعر بالعار أمام نفسه إذا فعل الشر أكثر مما يشعر به أمام العالم كله" (47). وقد أوضح حكمته، ولعله برر أيضاً نصائحه، بأن عاش حتى بلغ من السن مائة عام وتسعة أعوام، أو تسعين عاماً كما يقول بعضهم (48). ويروي ديوجين ليرتيوس أنه لما قرأ دمقريطس على الجماهير أهم مؤلفاته كلها وصور كتاب العالم الأكبر Megas Diakosmos أهدت إليه مدينة أبدرا مائة وزنة (000ر600 ريال أمريكي)، ولكن لعل أبدرا كانت وقتئذ قد خفضت قيمة نقدها. ولما سأله بعضهم عن سر عمره الطويل أجاب بأنه كان يأكل عسل النحل في كل يوم وأنه كان يستحم بالزيت (49). ولما رأى آخر الأمر أنه قد عاش من العمر ما يشتهي أخذ يقلل من طعامه يوماً عن يوم يريد بذلك أن يميت نفسه جوعاً شيئاً فشيئاً (50)، ويقول ديوجين "إنه بلغ أرذل العمر (51) وإنه خيل إلى الناس أنه يحتضر. وحزنت أخته لأنه سيموت في أثناء عيد ثزموفوريا Thesmophoria فيحول موته دون قيامها بما يجب عليها نحو الإلهة، فما كان منه إلا أن أمرها بأن تخفف من لوعتها، وأن تأتيه كل يوم ببضعة أرغفة من الخبز الساخن (أو بقليل من عسل النحل (52). وأخذ يضع هذا(7/204)
الطعام فوق منخريه، واستطاع بذلك أن يطيل حياته خلال أيام العيد. فلما أن انقضت ثلاثة أيام العيد لفظ آخر أنفاسه دون أي ألم، كما يؤكد لنا هباركس وذلك بعد أن عاش مائة عام وتسعة أعوام".
واحتفلت مدينته بجنازته احتفالاً عاماً، وأثنى عليه تيمن الأثيني Timon of Athens. ولم ينشئ دمقريطس مدرسة خاصة، ولكنه صاغ أهم فرض من الفروض العلمية وأوجد للفلسفة نظاماً بقي بعد أن عفا الزمان على غيره من النظم التي ظلت تندد به، ولا يزال يظهر في العالم جيلاً بعد جيل.(7/205)
الفصل الثالث
أنبادوقليس
المثالية تضايق الحواس، والمادية تكدر النفس، لأن أولاهما تفسر كل شيء ما عدا العالم، والأخرى تفسر كل شيء ما عدا الحياة، وإذا أريد مزج هذين النصفين من أنصاف الحقائق فلا بد من العثور على مبدأ محرك دافع يتوسط بين التركيب والنماء، وبين الأشياء والأفكار، وقد حاول أنكساغوراس أن يبحث عن هذا المبدأ في العقل الكوني، وحاول أنبادوقليس أن يبحث عنه في القوى الكامنة التي تنزع إلى الثورة والانقلاب.
وكان مولد هذا الأكرغامي الشبيه بليوناردو Leonarda في عام مرثون، من أسرة غنية كانت مولعة بسباق الخيل ولعاً لم يكن يرجى معه أن ينبغ أحد أبنائها في الفلسفة. وقد درس بعض الوقت مع الفيثاغوريين، فلما نضج عقله أخذ يفشي بعض عقائدهم السرية فطرد من زمرتهم (54). وأولع أشد الولع بعقيدة تناسخ الأرواح، وأعلن بخيال الشعراء وعواطفهم أنه كان "في سالف الأيام شاباً، وفتاة، وغصناً مزهراً، وطائراً، وسمكة تسبح صامتة في البحر العميق" (55). وذم أكل الطعام الحيواني ووصفه بأنه لا يخرج عن أن يكون صورة من أكل اللحوم البشرية، أليست هذه الحيوانات تجسيداً جديداً لبعض الآدميين (56)؟ وكان يعتقد أن الناس جميعاً كانوا من قبل آلهة، ولكنهم خسروا مكانهم في السماء لارتكابهم شيئاً من الدنس أو العنف. ويقول إنه واثق بأنه يشعر في قرارة نفسه بما يوحي إليه بألوهيته قبل مولده. "وأي مجد عظيم وأية سعادة ليس فوقها سعادة قد تدهورت منهما الآن، وأصبحت أطوف الأرض مع(7/206)
الآدميين! " (57). وإذ كان واثقاً من هذا الأصل الإلهي فقد احتذى حذاءين من الذهب، ولبس ثوبين أرجوانيين، ووضع على رأسه إكليلاً من الغار، وقال لأبناء وطنه متواضعاً إنه محبوب أبلو، ولم يعترف لغير أصدقائه بأنه إله. وادعى أن لها قوى فوق قوى البشر، ومارس بعض طقوس السحر، وحاول بطريق العزائم والرقى أن ينتزع من العالم الآخر أسرار مصير الإنسانية. وعرض على الناس أن يشفي مرضاهم بسحر الألفاظ، وشفى كثيرين منهم حتى كاد الناس يصدقون دعواه. أما الحق فإنه كان طبيباً نطاسياً ذا آراء كثيرة في علم الطب، ومتمكناً من سيكولوجية الفن، وكان فوق ذلك خطيباً مصقعاً، "اخترع" كما يقول أرسطاطاليس، أصول البلاغة وعلمها غورغياس، فعرضها هذا للبيع في أثينة، وكان مهندساً أنجى سلينس من الوباء بتجفيف المستنقعات وتحويل مجاري الأنهار (59). وكان سياسياً شجاعاً تزعم، وهو أرستقراطي الأصل، ثورة على الأرستقراطية الضيقة، وأبى أن يكون حاكماً بأمره، وأقام حكماً ديمقراطياً معتدلاً. وكان شاعراً كتب في الطبيعة وفي التطهير شعراً بديعاً اضطر أرسطاطاليس وشيشرون إلى أن يضعاه في مصاف الشعراء المجيدين، وأظهر لكريشيوس إعجابه به بمحاكاته. وقال فيه ديوجين ليرتيوس: "وإذا ذهب إلى الألعاب الأولمبية استلفت جميع الأنظار، حتى لم يكن يذكر إنسان آخر بمثل ما يذكر به هو" (61)، ولعله كان كما يقول إلهاً.
ولم يبق لنا من أشعاره إلا 470 بيتاً لا نجد فيها إلا إشارات متقطعة لفلسفته، فنرى منها أنه كان يختار مبادئه من فلسفات مختلفة، ويرى في كل طريقة من طرائقها شيئاً من الحكمة، ولا يوافق بارمنيدس على رفض جميع ما يجيء إلينا من المعلومات عن طريق الحواس، بل يثني على كل حاسة ويرى أنها "طريقاً موصلاً للإدراك" (63). وعنده أن الحس ينشأ من انبعاث جزيئات تنتقل من الجسم الخارجي، وتقع على "مسام" ( Poroi) الحواس،(7/207)
ومن أجل هذا يحتاج الضوء إلى بعض الوقت لكي يصل إلينا من الشمس (64)، وينشأ الليل من اعتراض الأرض لأشعة الشمس (65)، والأشياء كلها تتكون من عناصر (1) أربعة: الهواء، والنار، والماء، والتراب، وتعمل في هذه العناصر قوتان رئيسيتان هما قوتا الجذب والطرد، أو قوتا الحب والبغض.
وينتج من اجتماع العناصر وتفرقها بفعل هاتين القوتين اجتماعاً وتفرقاً لا آخر لهما عالم الأشياء والتاريخ. فإذا كانت الغلبة للحب أي النزعة إلى الاتحاد تحولت المادة إلى نبات، واتخذت الكائنات العضوية أشكالاً مطردة الرقي. وكما أن تناسخ الأرواح يؤلف من الأنفس كلها سيرةً واحدة، كذلك لا يوجد في الطبيعة فرق واضح بين جنس وجنس، أو بين نوع ونوع. ألا ترى مثلاً أن "الشَّعر، وأوراق الشجر، وريش الطيور السميك، والحراشف التي تتكون على الأعضاء الصلبة، كلها من نوع واحد؟ " (68). والطبيعة تنتج كل نوع من أنواع الأعضاء والأشكال، والحب يؤلف بينها، فيجعل منها تارةً هولات غريبة تهلك لعدم قدرتها على التكيف لتلائم البيئة المحيطة بها، وتارةً أخرى يجعل منها كائنات عضوية قادرة على التكاثر ومواءمة ظروف الحياة (69). والأشكال العليا كلها تنشأ من الأشياء السفلى (70)، وقد كانت الذكورة والأنوثة في بادئ الأمر مجتمعين في جسم واحد، ثم انفصلا وظلت كلتاهما تتوق إلى الاتحاد مع الأخرى (2). ويوجد في مقابل عملية التطور هذه عملية الانحلال، يمزق فيها الكره، أو قوة التقسيم، البنيان المعقد الذي أقامه الحب، فتعود الكائنات العضوية والنباتية عوداً بطيئاً إلى صور تزداد بدائية يوماً بعد يوم، ويظل هذا يحدث حتى تختلط الأشياء جميعها مرة أخرى في كتلة فطيرة غير محددة الشكل (72)
_________
(1) أو أركان كما كان العرب يسمونها. (المترجم)
(2) لعل أفلاطون قد استمد من هذا خطبة أرسطوفان في "معرض آرائه".(7/208)
وهاتان العمليتان المتبادلتان عملية التطور وعملية الانحلال مستمرتان إلى أبد الدهر في كل جزء على حدة وفي الكل مجتمعاً، وتتنازع القوتان قوة الائتلاف وقوة التفرقة، قوة الحب وقوة الكره، قوة الخير وقوة الشر، وتتوازنان في نظام عالمي شامل هو نظام الحياة والموت. ألا ما أقدم فلسفة هربرت اسبنسرا! (73).
ومكان الله في هذه العملية غير واضح، وذلك لأن من الصعب أن نفرق بين الحقيقة والمجاز أو بين الفلسفة والشعر في أقوال أنبادوقليس، فهو في بعض الأحيان يوحد بين الإله وبين الكون نفسه، وفي بعضها الآخر يوحد بينه وبين حياة كل حي أو عقل كل عاقل، ولكنه يدرك أننا لن نستطيع قط أن نكون فكرة صحيحة عن القوة الخالقة الأساسية الأصلية. انظر مثلاً إلى قوله: "لن نستطيع أن نقرب الله منا قرباً يمكننا من أن ندركه بأعيننا، ونمسكه بأيدينا ... ذلك أنه ليس له رأس بشري ملتصق بأعضاء جسمه، وليس له ذراعان متفرعتان تتدليان من كتفيه، وليس له قدمان ولا ركبتان ولا أعضاء مكسوة بالشعر. إنه كله عقل لا غير، عقل مقدس لا ينطبق عليه وصف، يومض في طيات العالم كله وميض الفكر الخاطف" (74). ويختم أنبادوقليس حديثه هذا بنصيحة الشيخوخة التي أنطقته بها الحكمة والكلالة: "ما أضعف وما أضيق القوى المودعة في أعضاء الإنسان، وما أكثر المصائب التي تثلم حد التفكير، وما أقصر الحياة التي يكدح فيها الناس والتي تنتهي بالموت. فإذا حل بهم زالوا من الوجود وتلاشوا كما يتلاشى الدخان وصاروا هواء، يعرفون أن ما يحلمون به ليس إلا الصغائر التي عثر عليها كل واحد منهم أثناء تجواله في هذا العالم. ومع هذا تراهم جميعاً يفخرون بأنهم عرفوا كل شيء. ألا ما أشد حمقهم وأكثر غرورهم! ذلك أن هذا الكلي الذي يفخرون بمعرفته لم تره عين ولم تسمعه أذن، ولا يمكن أن يدركه عقل إنسان" (75).
واستحال في آخر سن من حياته واعظاً دينياً أكثر مما كان من قبل،(7/209)
منهمكاً في نظرية التجسيد، وأخذ يتوسل إلى بني جنسه أن يتطهروا من الخطيئة التي طردوا بسببها من السموات، ويدعو الجنس البشري، بما أوتي من حكمة بوذا وفيثاغورس، وشوبنهور، أن يمتنع عن الزواج، والتناسل (76). ولما حاصر الأثينيون سرقوصة في عام 415، بذل أنبادوقليس كل ما في وسعه لتأييد المقاومين وأغضب بذلك أكرجاس، التي كانت تحقد على سرقوصة بكل ما في قلوب الأقارب من حقد دفين، ونفي من بلده، فذهب إلى أرض اليونان القارية حيث وافاه الأجل في ميغارا كما تقول بعض الروايات (78). ولكن ديوجين ليرتيوس يروي عن هبوبوتس Hippobotus أن أنبادوقليس بعد أن أعاد إلى الحياة الكاملة امرأة اعتقد الناس أنها قضت نحبها غادر الوليمة التي أقيمت احتفاءً بشفائها، واختفى فلم يُرَ بعد ذلك أبداً. وتقول بعض الأساطير إنه ألقى بنفسه في فوهة بركان إتنا الثائر لكي يموت من غير أن يخلف وراءه أثراً، فيؤيد بذلك دعواه أنه إله. ولكن النار العنصرية غدرت به، فقذفت بخفيه النحاسيين، وتركتهما على حافة كأس البركان، كأنهما رمزان ثقيلان للفناء (80).(7/210)
الفصل الرّابع
السوفسطائيون
إن الذين يقولون إن بلاد اليونان هي أثينة يكذبهم أن أحداً من كبار المفكرين اليونان قبل سقراط لم يكن من أهل تلك المدينة، وأنه لم يعقبه مفكر من أهلها حتى جاء أفلاطون. إن المصير الذي لاقاه أنكساغورس وسقراط ليدل على أن الجمود الديني كان في أثينة أقوى منه في المستعمرات، وذلك لأن انفصال هذه المستعمرات من الناحية الجغرافية قد حطم بعض قيود التقاليد القديمة. ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن أثينة كانت تبقى مدينة غير متسامحة إلى حد السخف والغباء ولا مجال فيها للتفكير الحر لو لم تقم فيها طبقة دولية من التجار، ولم يفد إليها جماعة السوفسطائيين.
وقد كانت المناقشات التي تدور في الجمعية، والمحاكمات التي تجري أمام الهيليا، والحاجة المتزايدة إلى القدرة على التفكير تفكيراً منطقي الظاهر، وإلى التعبير عن الأفكار تعبيراً واضحاً مقنعاً، لقد كانت هذه كلها مضافة إلى ثراء المجتمع الإمبراطوري وتشوفه عاملاً في إشعار الناس بالحاجة إلى شيء لم يكن معروفاً في أثينة قبل بركليز، ونعني بذلك الدراسة العليا المنظمة للآداب، والخطابة، والعلوم، والفلسفة، وأساليب الحكم، والسياسة. ولم تُقابَل هذه الحاجة في بادئ الأمر بتنظيم الجامعات، بل قوبلت بوجود طائفة العلماء الجوالين يستأجرون قاعات المحاضرات، ويدرِّسون فيها ما يضعونه للتعليم من مناهج، ثم ينتقلون إلى مدن أخرى ليعيدوا فيها هذه الدراسة. وكان بعض هؤلاء المعلمين، ومنهم بروتاغوراس Protagoras، يطلقون على أنفسهم لقب سوفسطاي أي معلمو الحكمة (81)، وكان الناس يفهمون من هذا اللفظ ما نفهمه نحن من لفظ "أستاذ جامعي"، ولم يكن(7/211)
له معنى محط بالكرامة حتى قام النزاع بين الدين والفلسفة فأدى إلى هجوم المحافظين على السوفسطائيين، وأثارت نزعة بعضهم التجارية أفلاطون إلى أن تسوئ سمعتهم بأن عزا إليهم تهمة "السفسطة" بغية المكسب، وهي الوصف الذي ظل لاصقاً بهم إلى يومنا هذا. ولعل الجمهور كان يشعر نحو هؤلاء بشيء من الكره الخفي من بدء ظهورهم، لأن ما كانوا يتقاضونه من باهظ الأجر نظير تدريس المنطق والبلاغة لم يكن يطيقه إلا الأغنياء الذين أفادوا من علمهم هذا في دور القضاء (82). ولسنا ننكر أن المشهورين من السوفسطائيين كانوا يتقاضون ممن يعلمونهم أكثر ما يرضى هؤلاء أن يؤدوه إليهم من الأجر، وذلك هو قانون الأثمان في كل مكان ... فكان بروتاغوراس، وغورغياس، كما يقول الرواة، يطلبان عشرة آلاف درخمة (000ر10 ريال أمريكي) أجراً لتعليم تلميذ واحد. غير أن من كانوا أقل من هذين شأناً كانوا يقنعون بأجور معتدلة، فكان برودكس Prodicus مثلاً - وهو الذي ذاع صيته في جميع أنحاء اليونان - يطلب ما بين درخمة وخمسين أجراً للاشتراك في مناهجه (83).
وقد ولد بروتاغوراس أشهر السوفسطائيين جميعهم في أبدرا قبل مولد دمقريطس بجيل من الزمان. وكان في أثناء حياته أشهر الرجلين وأعظمهما نفوذاً، وفي وسعنا أن نستدل على ما كان له من شهرة واسعة بما أحدثته زياراته لأثينة من حماسة بالغة (1) واهتياج فيها كبير، وحتى أفلاطون نفسه - وهو الذي لم يقل كلمة طيبة في السوفسطائيين عن قصد - كان يجله ويصفه بأنه على خلق عظيم. وفي الحوار الأفلاطوني الذي سمي باسمه نرى بروتاغوراس أحسن مظهراً من سقراط الشاب الكثير الجدل، فسقراط في هذا الحوار
_________
(1) أكبر الظن أن هذه الزيارات كانت في العوام الآتية: 451 - 445، 432، 422، 415.(7/212)
هو الذي يتحدث كما يتحدث السوفسطائيين. وبروتاغوراس هو الذي يسلك مسلك الرجل المهذب والفيلسوف، فلا يغضب أو يثور، ولا يحقد على أحد ما يبديه من دلائل الفطنة والذكاء، ولا يُحَمِّل حجج مناظريه من الجدل أكثر مما تتحمله، ولا يهتم قط بأن يتكلم. ويعترف بأنه أخذ على نفسه أن يعلم تلاميذه التبصر والحذر في الشئون الخاصة والعامة، وحسن تنظيم المنزل والأسرة، وفنون البلاغة أو الكلام المقنع والقدرة على فهم شئون الدولة وحسن إدارتها (86). وهو يبرر ما يأخذه من أجور عالية بقوله إن من عادته، إذا عارض تلميذ فيما يطلبه من أجر، أن يقبل منه أي أجر يراه التلميذ عادلاً على شريطة أن يؤكد ذلك في خشوع أمام مزار مقدس (87) - وتلك لعمري خطة حمقاء من معلم يشك في وجود الآلهة. ويتهمه ديوجين ليرتس بأنه "أول من سلح المجادلين بسلاح المغالطات المنطقية" وهي تهمة يسر منها سقراط بلا ريب، ولكن ديوجين يضيف إلى قوله: "كان بالإضافة إلى هذا أول من اخترع ذلك النوع من الجدل الذي يسمونه الجدل السقراطي" (88) -وهي تسمية قد لا يرتاح لها سقراط.
وكان من أفضاله الكثيرة أنه وضع أساس النحو وفقه اللغة الأوربيين، ويقول عنه أفلاطون إنه بحث في الطريقة الصحيحة لاستعمال الألفاظ، وإنه كان أول من قسم الأسماء إلى مذكرة ومؤنثة وغير مذكرة ولا مؤنثة، وأول من ذكر أزمان الأفعال وحالاتها (إخبارية أو شرطية الخ (90)). ولكن أهم ما يعنينا من أمره أن به، لا بسقراط، تبدأ النظرة الذاتية في الفلسفة. فقد كان على عكس الأيونيين يُعنى بالأفكار أكثر مما يعنى بالأشياء، ونعني بالأفكار عملية الإحساس، والإدراك، والفهم والتعبير بأكملها. فبينما كان بارمنيدس يرى أن الإحساس لا يهدي إلى الحقيقة، كان بروتاغوراس يرى كما يرى لُك Locke أنه السبيل الوحيد إلى المعرفة، ويأبى أن يعترف بوجود أية حقيقة تعلو على العقل ولا تدركها الحواس. ومن(7/213)
أقوال بروتاغوراس أن الحقيقة المطلقة لا وجود لها، وأن كل ما يوجد هو الحقائق التي يعتنقها بعض الناس في ظروف خاصة، وقد تكون الأقوال المتناقضة حقائق متساوية القيمة في اعتقاد أشخاص مختلفين أو في أزمنة مختلفة (91). والحقيقة كلها والخير والجمال، أمور نسبية وشخصية، "والإنسان هو المقياس الذي تقاس به جميع الأشياء فهو الذي يقرر أن الأشياء الكائنة كائنة، وأن الأشياء غير الكائنة غير كائنة" (92). ولقد يخيل إلى المؤرخ أن العالم كله قد بدأ يرتجف ويتزعزع كيانه حين أعلن بروتاغوراس هذا المبدأ البسيط من مبادئ الإنسانية والنسبية، وأن الحقائق المقررة والمبادئ المقدسة جميعها أخذت تتصدع وتنهار، وأن الفردية قد وجدت صوتاً ينادي بها وفلسفة تؤيدها، وأن الأسس فوق الطبيعية للنظام الاجتماعي قد تعرضت كلها لخطر الزوال.
ولولا أن بروتاغوراس قد طبق في وقت من الأوقات هذا التشكيك البعيد الأثر، والذي يتضمنه هذا القول الذائع الصيت، على شئون الدين لبقي قولاً نظرياً مأمون العاقبة. ذلك أن بروتاغوراس قرأه على جماعة من كبار المفكرين في بيت يوربديز الملحد الحر التفكير البغيض إلى الشعب. وقد أثارت أول جملة في هذه الرسالة ثائرة الناس في أثينة وكانت الجملة الأولى فيها هي: "أما من حيث الآلهة فلست أدري أهي موجودة أم غير موجودة كما لا أعلم لها شبهاً. وثمة أشياء كثيرة تقف في سبيل هذه المعرفة: فالموضوع غامض، وحياتنا الفانية قصيرة الأجل" (93). وارتاعت الجمعية الأثينية من هذه الكلمة الافتتاحية التي تنذر بشر مستطير فقررت نفي بروتاغوراس، وأُمر الأثينيون على بكرة أبيهم أن يسلموا كل ما عساه أن يكون لديهم من كتاباته، وأحرقت كتبه في السوق العامة. وفر بروتاغوراس إلى صقلية ولكنه، على ما ترويه القصة، غرق في الطريق (94).(7/214)
وواصل غورغياس الليونتيني Gorgias of Leontini هذه الثورة التشكيكية، ولكنه أوتي من الحكمة ما جعله يقضي معظم حياته في خارج أثينة. وكانت سيرته أنموذجاً لسير الرجال الذين يجمعون بين الفلسفة والسياسة في بلاد اليونان. وقد ولد في عام 483، ودرس الفلسفة والبلاغة مع أنبادوقليس، وبلغ من شهرته في الخطابة وفي تدريسها أن أرسلته ليونيني في عام 427 سفيراً لها في أثينة. واستحوذ في الألعاب الأولمبية التي أقيمت في عام 408 على قلوب حشد كبير من الناس بخطاب له طلب فيه إلى اليونان المتحاربين أن يعقدوا الصلح فيما بينهم لكي يواجهوا وهم متحدون واثقون من الفوز قوة بلاد الفرس الآخذة في الانتعاش، وأخذ يتنقل من مدينة إلى مدينة ويشرح أينما حل آراءه بأسلوب خطابي طلي، وألفاظ ممتعة وعبارات منسقة في معناها ومبناها، متزنة اتزاناً دقيقاً بين الشعر والنثر، لم يجد معها أية صعوبة في جذب الطلاب إليه يعرضون عليه مائة مينا نظير منهجه الدراسي. وقد حاول في كتابه في الطبيعة أن يثبت ثلاث قضايا مدهشة مروعة هي أنه: (1) لا وجود لشيء ما. (2) ولو أن شيئاً وجد لكانت معرفته غير ممكنة. (3) ولو أن شيئاً كانت معرفته ممكنة لما أمكن نقل هذه المعرفة من شخص إلى آخر (1). ولم يبق من كتابات غورغياس غير هذه القضايا. وبعد أن استمتع بكرم كثير من الدول وأجورها ألقى عصا التسيار في تساليا وهدته حكمته إلى استهلاك معظم ثروته الطائلة قبل وفاته (96). ويؤكد لنا كل من أرَّخوا له أنه عاش حتى بلغ من العمر مائة سنة وخمس سنين على أقل تقدير، ويقول لنا كاتب قديم إن غورغياس، وإن بلغ من
_________
(1) ومعنى هذه القضايا التي يقصد بها الحط من فلسفة التسامي التي يقول بها بارمنيدس: (1) أن لا وجود لشيء خارج الحواس. (2) وأنه لو وجد شيء خارج الحواس لما أمكن معرفته لأن المعرفة جميعها تصل إلينا عن طريق الحواس. (3) ولو أن شيئاً خارج دائرة الحواس أمكن معرفته فإن معرفته لا يستطاع نقلها من شخص إلى آخر لأن كل انتقال للمعرفة لا يكون إلا عن طريق الحواس.(7/215)
العمر مائة سنة وثمان سنين، لم يضعف جسمه من طول العمر، بل ظل إلى آخر حياته في جيد الصحة لا تقل قوة حواسه عن قوة حواس الشباب (97).
وإذا كان السوفسطائيين مجتمعين قد كونوا مدرسة متفرقة، فإن هيبياس الإليسي ( Elis) كان مدرسة بمفرده، وكان أنموذجاً للرجل المتعدد المعارف في عالم لم تكن المعرفة فيه قد بلغت من الاتساع حداً يجعلها في غير متناول عقل واحد. فقد كان يعلم الفلك والرياضيات، وكانت له بحوث مبتكرة في الهندسة وكان شاعراً، وموسيقياً، وخطيباً. وكان يلقي محاضرات في الأدب، والأخلاق والسياسة، وكان مؤرخاً، وضع أساس التأريخ اليوناني وتقويمه وتسلسله بأن جمع ثبتاً من أسماء الفائزين في الألعاب الأولمبية، وأرسلته إليس مبعوثاً لها لدى دول أخرى، وكان يعرف من الفنون والحرف عدداً كبيراً أمكنه به أن يصنع ملابسه وأدوات زينته (98). وكان عمله في الفلسفة صغيراً ولكنه خطير، فقد كان يعترض على حياة المدن المصطنعة المؤدية إلى الانحلال، ويوضح الفرق بين الطبيعة والقانون، ويقول: إن القانون الظالم مستبد بالخلق (99). وواصل برودكس ألكيوس عمل بروتاغورس في النحو، وحدد أجزاء الكلام، وأدخل السرور على الشيوخ بوضعه قصة خرافية يصف فيها هرقل وهو يختار الفضيلة المجهدة بدل الرذيلة الهينة (100). ولم يكن غيره من السوفسطائيين أتقياء مثله: وكان منهم أنتيفون الأثيني الذي حذا حذو دمقريطس في ماديته وإنكاره الآلهة، والذي عرّف العدالة تعريفاً يجعلها هي الطريقة الملائمة للظروف الموصلة إلى الغاية المطلوبة، ومنهم ثرازيماكس الخلقدوني Thrasymachus of Chalcedon الذي قال إن الحق هو القوة (إذا أخذنا بما يقوله عنه أفلاطون) وإن نجاح الأوغاد ليبعث في نفوسنا الشك في وجود الآلهة (101).
والسوفسطائيين في مجموعهم يعدون من العوامل التي كان لها أعظم الأثر(7/216)
في تاريخ اليونان، فهم الذين اخترعوا لأوربا النحو والمنطق، وهم الذين رقوا فن الجدل، وحللوا أشكال الحوار، وعلموا الناس كيف يكشفون الخطأ المنطقي وكيف يمارسونه، وبفضل ما بعثوه في اليونان من حافز قوي وما ضربوه بأشخاصهم من أمثلة شغف مواطنوهم بالمناظرة والاستدلال، وهم الذين استخدموا المنطق في اللغة فزادوا الأفكار وضوحاً ودقة، ويسروا انتقال المعرفة انتقالاً صحيحاً دقيقاً. وهم الذين جعلوا النثر صورة من صور الأدب والشعر ووسيلة للتعبير عن الفلسفة، وطبقوا التحليل على كل شيء، وأبوا أن يعظموا التقاليد المتواترة التي لا تؤيدها شواهد الحس أو منطق العقل، وكان لهم شأن كبير في الحركة العقلية التي حطمت آخر الأمر دين اليونان القديم عند طبقات الذهنيين. وفي ذلك يقول أفلاطون: إن "الرأي السائد" في زمنه هو أن "العالم وكل ما فيه من حيوان ونبات ... وجماد نشأ من علة تلقائية غير مدركة" ولا عاقلة. ويحدثنا ليسياس Lysias عن وجود مجتمع يكفر بالآلهة يطلق على نفسه اسم "نادي الشياطين Kadodatimoniotai" كان أعضاؤه يتعمدون أن يجتمعوا ليطعموا في الأيام المقدسة التي كان الصيام مقرراً فيها (103). وكان بندار في بداية القرن الخامس يقبل ما ينطق به الوحي في دلفي قبول الأتقياء الصالحين، وكان إسكلس يدافع عنه دفاع السياسيين، وفي عام 450 انتقده هيرودوت وهو خائف وجل، وكفر به توكيديدس صهره في آخر ذلك القرن، وشكا أوطيفرون Euthyphro من أن الناس كانوا يسخرون منه إذا تحدث عن النبوءات في الجمعية، ويعدونه من البلهاء الذين دالت دولتهم (104).
وليس من حقنا أن نعزو الفضل في هذا كله إلى السوفسطائيين أو أن نلومهم عليه، فقد كان الكثير منه في الجو الذي يحيط بهم، وكان نتيجة طبيعية لازدياد الثراء، والفراغ، والأسفار، والبحث، والتفكير. وكذلك كان نصيبهم في تدهور الأخلاق أنهم اشتركوا في هذا التدهور(7/217)
مع غيرهم، ولم يكونوا العامل الأساسي فيه، ذلك أن الثراء في حد ذاته، إذا لم تقترن به الفلسفة، يقضي على التزمت وعلى الرواقية. ولكن السوفسطائيين عجلوا في نطاق هذه الحدود الضيقة وعلى غير علم منهم سير حركة الانحلال. لقد كان معظمهم، إذا غضضنا النظر عن حبهم الجم للمال وهو حب متأصل في طبائع البشر، من ذوي الأخلاق الطيبة والحياة المحتشمة المهذبة، ولكنهم لم ينقلوا إلى تلاميذهم التقاليد أو الحكمة التي جعلتهم أو أبقتهم فضلاء رغم علمهم أن المبادئ الخلقية قد نشأت بين بني الإنسان ولم تنزل عليهم من آلهة السماء، وأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان. ولعل نشأتهم في المستعمرات لا في بلاد اليونان الأصلية قد جعلتهم يستخفون بقوة العادة، بوصفها بديلاً سلمياً للقوة أو القانون، في المحافظة على النظام والأخلاق. ولقد كان تعريفهم للأخلاق أو لقيمة الإنسان تعريفاً قائماً على أساس المعرفة، كما فعل بروتاغوراس قبل سقراط بجيل من الزمان (105)، كان هذا التعريف باعثاً قوياً على التفكير، ولكنه كان ضربة زلزلت قواعد الأخلاق نفسها، كذلك كانت توكيد المعرفة والتعظيم شأنها من الأسباب التي رفعت مستوى اليونان العلمي والثقافي، ولكنه لم يقو من ذكائهم بنفس السرعة التي حرر بها عقولهم. ولم يكن قولهم إن المعرفة شيء نسبي سبباً في حمل الناس على التواضع كما يجب أن يكون، بل إنه أغرى كل إنسان بأن يتخذ من نفسه معياراً يقدر به جميع الأشياء، فأصبح كل شاب نابه يحس بأنه خليق بأن يحكم على القانون الأخلاقي الذي يسير عليه بنو وطنه، وأن يرفضه إذا لم يفهمه أو يعجبه، ثم يصبح بعدئذ حراً في أن يبرر رغباته حسب ما يراه هو بعقله، ويقول إنها فضائل النفس التي تحررت من رق القانون. وكانت التفرقة بين "الطبيعة" والعرف، وميل صغار السوفسطائيين إلى القول بأن ما تبيحه "الطبيعة" خير في ذاته على الرغم(7/218)
من حكم العادة أو القانون، كان هذا الميل وتلك التفرقة عاملاً في تقويض الدعائم القديمة للأخلاق اليونانية، ومشجعاً للناس على القيام بكثير من التجارب في أساليب العيش. وأخذ الشيوخ يأسفون لانقضاء ما كان يسود المنزل من بساطة وإخلاص، ولانهماك الناس في السعي وراء اللذة وجمع المال متحللين في ذلك من قيود الدين (106). ويحدثنا أفلاطون وتوكيديدس عن المفكرين والقادة الذين يقولون إن الأخلاق وهم وخرافة، والذين لا يعترفون بأي حق غير حق القوة. وهذه الفردية العارمة التي لا قيد لها من الضمير هي التي جعلت منطق السوفسطائيين وبلاغتهم وسيلة للاحتيال القانوني والتهريج السياسي، وحطت من قيمة نزعتهم العالمية الواسعة الأفق فجعلتها مجرد إحجام وحذر عن الدفاع عن بلادهم أو استعداد لبيعها لمن يؤدي فيها أغلى الأثمان، دون أن يشعروا بشيء من وخز الضمير. وأخذ الزراع المتدينون والأشراف المحافظون يرون ما يراه عامة المواطنين من أهل الحواضر الديمقراطيين وهو أن الفلسفة قد أصبحت خطراً يهدد كيان الدولة وينذرها بشر مستطير.
واشترك بعض الفلاسفة أنفسهم في مهاجمة السوفسطائيين، فاتهمهم سقراط (كما اتهم أرسطوفان سقراط من بعد) بأنهم يموهون الخطأ بزخرف المنطق ويقنعونه بقوة البلاغة، وكان يحتقرهم لأنهم يتقاضون من الناس أجوراً (107). ويبرر جهله بالنحو بأنه لم يكن يستطيع حضور منهج برودكس الذي يكلف خمسين درخمة، ويقول إن كل ما كان في وسعه أن يحضر منهج الدرخمة الواحدة الذي يقتصر على المبادئ الأولية (108). وكتب في ساعة مشئومة تلك المقارنة القاسية يكشف فيها عن أمرهم:
"إنا لنعتقد يا أنتيفون أن في وسعنا أن نتصرف في الجمال أو في الحكمة تصرفاً شريفاً أو غير شريف، فالشخص إذا باع جماله بالمال إلى كل راغب(7/219)
في شرائه، سماه الناس "عاهراً" ذكراً، أما إذا صادق إنسان شخصاً يعرف أنه إنسان شريف جليل القدر يعجب به حسبناه رجلاً فطناً حصيفاً. والذين يبيعون الحكمة بالمال لكل من يتقدم لشرائها يسميهم الناس سوفسطائيين أو عاهري الحكمة إذا صح هذا التعبير. أما من يصاحب شخصاً يعرف أنه جدير بصحبته، ويعلمه كل ما يعرف من الخير فإنا نصفه بأنه يضطلع بالعمل الذي يليق بالمواطن الشريف" (109). ولم ير أفلاطون حرجاً في أن يوافق على هذا الرأي لأنه كان من الأثرياء. وبدأ إسقراط Isocrates حياته بخطبة ضد السوفسطائيين، ثم صار أستاذاً ناجحاً للبلاغة، يتقاضى ألف درخمة (ألف ريال أمريكي) عن النهج الواحد (110)، وواصل أرسطاطاليس هجومه عليهم وعرف السوفسطائي بأنه الرجل "الذي لا يحرص إلا على أن يثرى من وراء التظاهر بالحكمة" (111)، واتهم بروتاغورس بأنه "يعد الناس بجعل أسوأ الأسباب يبدو كأنه أحسنها" (112).
وكان شر ما في هذه المأساة أن كلتا الطائفتين كانت على حق. فالشكوى من الأجور كانت غير عادلة. ذلك أنه لم تكن ثمة وسيلة غيرها يستطاع بها الإنفاق على التعليم العالي إلا إذا أمدته الدولة بالمال، وإذا ما انتقد السوفسطائيين التقاليد والأخلاق السائدة في عصرهم فلم يكن ذلك بطبيعة الحال عن سوء قصد فقد كانوا يظنون أنهم بعملهم هذا يحررون الناس من رق العقول، وكانوا بهذا الوصف وهم الطبقة الراجحة العقل في زمانهم يتصفون بما يتصف به أهل ذلك الجيل من شغف بالحرية العقلية، وقد فعلوا ما فعله علماء الموسوعات في عصر الاستنارة في فرنسا إذ انقضوا على الماضي الميت انقضاضاً جديراً بالإعجاب فاكتسحوه أمامهم دفعةً واحدةً. ولم يطل عمرهم، أو لم يكونوا بعيدي النظر في تفكيرهم، حتى يقيموا نظماً جديدة بدل النظم التي قوضها العقل بعد انطلاقه من عقاله. ولا بد في كل حضارة أن يحين الوقت(7/220)
الذي يتحتم فيه بحث الأساليب القديمة من جديد إذا أريد أن تكيف الحضارة نفسها لكي توائم التغيرات الاقتصادية التي لا تستطاع مقاومتها. ولقد كان السوفسطائيون أداة هذا البحث الجديد، ولكنهم عجزوا عن أن يضعوا السياسة المؤدية إلى هذا التكيف. وكفاهم فخراً أنهم كانوا حافزاً قوياً لطلب المعرفة، وأنهم جعلوا التفكير سنة العصر، وأنهم جاءوا من كافة أركان العالم اليوناني إلى أثينة بأفكار جديدة وأسباب للتفكير جديدة، وأيقظوا فيها الوعي الفلسفي والنضوج الذهني. ولولاهم لما وجد سقراط أو أفلاطون أو أرسطاطاليس.(7/221)
الفصل الخامِس
سقراط
1 - قناع سيلينس Silenus
مما يغتبط له الإنسان أن يقف آخر الأمر وجهاً لوجه أمام شخصية تبدو في ظاهر أمرها واقعية كشخصية سقراط. ونقول في ظاهر أمرها لأننا إذا تدبرنا المصدرين الذين لا مناص لنا من الاعتماد عليهما في كل ما نعرفه عن سقراط، وجدنا أن أحدهما وهو أفلاطون يكتب مسرحيات خيالية، وأن الآخر وهو أكسانوفون يكتب روايات تاريخية، وهذه وتلك لا يمكن أن تعدا من التاريخ الصادق الصحيح. وقد كتب ديوجين ليرتيوس في ذلك يقول: "يقولون إن سقراط حين سمع أفلاطون يقرأ الليسيس Lysis صاح قائلاً: أي هرقل! ما أكثر الأكاذيب التي قالها عني هذا الشاب! ذلك بأن أفلاطون قد أنطق سقراط بأشياء كثيرة لم ينطق هو بشيء منها" (113).
والحق أن أفلاطون لا يدعي بأنه يقصر أقواله على الحقائق، وأكبر الظن أنه لم يدر بخلده قط أن المستقبل قد يعدم الوسائل التي يفرق بها بين ما هو سيرة حقة وما هو من نسج الخيال في كتابه. ولكن أفلاطون يرسم في المحاورات صورة منسقة لأستاذه من أيام شباب سقراط الوجل في البارمنيدس وثرثرته الوقحة في البروتاغوراس إلى تقواه المكبوتة واستسلامه في الفيدون، لا يسع الإنسان معها إلا أن يعتقد أنه إذا لم يكن هذا سقراط بحق فإن أفلاطون يعد من أكبر مبتدعي الشخصيات في الأدب بأجمعه. ويعتقد أرسطاطاليس أن الآراء المعزوة إلى سقراط في البروتاغوراس هي آراؤه بحق (114). وقد كشفت(7/222)
حديثاً هتامات من كتاب عن ألقبيادس كتبها إسكنيز الاسفتوزي Aeschines of Sphettos أحد تلاميذ سقراط نفسه ترجح تأييد الصورة التي رسمها له أفلاطون في الأجزاء الأولى من محاوراته كما ترجح تأييد قصة العلاقة الوثيقة التي كانت بين الفيلسوف وبين ألقبيادس (115). غير أن أرسطاطاليس من جهة أخرى يعد الذكريات Memorabilia والمائدة Banquet من القصص الموضوعة، أي الأحاديث الخيالية التي يردد سقراط في أكثرها آراء أكسانوفون (1) نفسه. وإذا كان أكسانوفون قد صدق فيما نقله عن سقراط صدق إكرمان Eckerman فيما نقله عن جيته، فإن كل ما نستطيع أن نقوله في هذه الحال أنه عني بجمع سخافات المعلم التي لا ضرر منها، وأنه ليس من المعقول أن رجلاً أوتي من الفضائل ما أوتي سقراط حسب ما وصفه به أكسانوفون يستطيع أن يقلب الحضارة القائمة رأساً على عقب. على أن غير أكسانوفون من الكتاب الأقدمين لم يصوروا الحكيم القديم في صورة القديسين الصالحين كما صوره أكسانوفون. من ذلك أن أرسطوقسانيس التارنتي Aristoxenus of Tarentum ينقل عن أبيه - الذي يدعي أنه كان يعرف سقراط شخصياً - حوالي عام 318 أن الفيلسوف كان شخصاً مجرداً من التعليم "جاهلاً فاجراً" (117)، وأن يوبوليس Eupolis الشاعر الهزلي فاق منافسه أرسطوفان في الافتراء على المشاء العظيم (118). وإذا أسقطنا من حسابنا ما يجر إليه الجدل من قسوة في اللفظ اتضح لنا على الأقل أن سقراط كان رجلاً نال من كره الناس وحبهم أكثر مما ناله أي إنسان آخر في عصره.
وكان أبوه مَثالاً، ويقال إنه هو نفسه نحت تمثالاً لهرمس، وآخر لربات القدر الثلاث أقيم قرب مدخل الأكروبوليس (119). أما أمه فكانت قابلة، وكان من الفكاهات التي لا ينفك ينطق بها عن نفسه أنه لم يفعل أكثر من
_________
(1) وفي الكتاب الثالث من الذكريات ينطق أفلاطون سقراط بشرح الأساليب والحيل الحربية.(7/223)
مواصلة حرفة أمه، ولكنه نقلها إلى دائرة الأفكار، فكان يساعد غيره على أن يخرجوا للعالم آراءهم. وتقول إحدى الروايات إنه ابن أحد الأرقاء (120)، ولكنا نرجح بطلان هذه الرواية لأنه عمل هيليتا أي جندي في فرق المشاة الثقيلة (وذلك واجب لا يضطلع به إلا المواطنون (121))، وأنه ورث عن أبيه بيتاً، وكان عنده من المال سبعون مينا (000ر7 ريال أمريكي)، يستثمرها له صديقه أقريطون (122)، أما فيما عدا هذا فإنه يصور لنا على أنه رجل فقير (123). وقد عني عنايةً كبيرةً بصحة جسمه، وكان في غالب أيامه قوي البنية جيد الصحة، واكتسب شهرةً فائقةً في الجندية أثناء حرب البلوبونيز، وحارب في بوتيديا Potidaea عام 432، وفي ديليوم Delium عام 424، وفي أمفبوليس عام 422. وفي بوتيديا أنقذ حياة الشاب ألقبيادس وسلاحه، ونزل عن جائزة الشجاعة إكراماً لخاطر هذا الشاب، وفي ديليوم كان آخر من تقهقر من الأثينيين أمام الإسبارطيين، ويلوح أنه أنجى نفسه بالتحديق في العدو، فخافه الإسبارطيين وهم قوم لا يخافون. ويقال إنه في هذه الوقائع كلها بز جميع أقرانه في قوة الاحتمال وفي الشجاعة، وإنه كان يصبر على الجوع والتعب والبرد فلا يشكو ولا يتململ (124). أما في بلده، إذا طاوعته نفسه على الإقامة فيه، فكان يشتغل بقطع الأحجار ونحت التماثيل، ولم يكن مولعاً بالأسفار، وقلما كان يخرج من المدينة ومرفئها. وتزوج من إكسانثبي Xanthippe التي كانت تعيب عليه إهمال شئون أسرته، فكان يعترف بعدالة شكواها (125)، ويثني على كرم أخلاقها وحسن معاملتها لابنه وأصدقائه. ولم يكن الزواج يضايقه قط فقد يبدو أنه اتخذ لنفسه زوجة ثانية حين أباح القانون تعدد الزوجات مدة قصيرة لكثرة من قتل في الحروب من الذكور (128).
والعالم كله يعرف وجه سقراط وملامحه. وإذا حكمنا عليه من تمثاله النصفي المحفوظ في متحف ترمي Museo Dell Terme برومة، وذلك حكم لا يستند إلى(7/224)
أساس قوي، قلنا أنه لم يكن أنموذجاً صادقاً للوجه اليوناني (129). ذلك أن سعة وجهه، وأنفه الأفطس العريض، وشفتيه الغليظتين، ولحيته الكثة، كلها توحي بأنه ينتمي إلى أرض السهوب التي جاء منها أناكارسيس Anacharsis صديق صولون، أو ذلك السكوذي الحديث تولستوي. وقد كتب عنه ألقبيادس في إصرار عجيب، حتى في الوقت الذي يجهر فيه بحبه يقول: "أقول إن سقراط يشبه كل الشبه أقنعة سيلينس، التي يمكن رؤيتها في حوانيت التماثيل، وفي أفواهها مزامير وصفارات، وتنفتح في أوساطها فترى في داخلها صور الآلهة. وأقول أيضاً إنه يشبه مارسياس Marsyas الكائن الخرافي الذي يتكون نصفه الأعلى من إنسان ونصفه الأسفل من ماعز ( Satyr) ، ولست أعتقد أنك يا سقراط تنكر أن وجهك هو وجه ذلك المخلوق الخرافي" (130). ولم يعترض سقراط على هذا القول، بل إنه فعل ما هو شر من هذا فقد اعترف بأن له كرشاً مفرطة في الكبر وأنه يرجو أن ينقصها الرقص (131).
ويتفق أفلاطون وأكسانوفون في وصفهم عاداته وأخلاقه. من هذه أنه كان يقنع بثوب بسيط رث يلبسه طول السنة، ويفضل الحفاء على الأحذية أو الأخفاف (132). وقد تحرر إلى حد لا يصدقه العقل من داء التملك الوبيل المصاب به الجنس البشري، ويقال إنه أبصر ذات مرة كثرة البضائع المعروضة للبيع فقال: "ما أكثر الأشياء التي لا أحتاجها! " (133) وكان يشعر بأنه غني في فقره. وكان مضرب المثل في الاعتدال وضبط النفس، ولكنه كان أبعد الناس عن حياة القديسين. وكان في وسعه أن يشرب كما يشرب أي رجل مهذب مثقف، ولم يكن في حاجة إلى الزهد لكي يحتفظ باستقامة خلقه (1). ولم يكن ناسكاً يعتزل الناس، بل كان
_________
(1) يقول أكسانوفون على لسان سقراط: "إذا سألتني عن الشراب قلت لك إن الخمر ترطب النفس، وتسكن الأحزان ... ولكني أظن أن أجسام الناس كأجسام النبات ... وأن الله إذا غمر النبات بالماء ليرتوي منه لم يقو على الوقوف معتدلاً، ولم يمكن النسيم من أن يسري في خلاله، ولكنه إذا لم يشرب إلا بالقدر الذي يكفيه لأن يستمتع به نما واستوى على سوقه وأثمر أكمل الثمار وأوفرها".(7/225)
يحب الرفقة الطيبة، وكان لا يأبى أن يُدعى إلى ولائم الأغنياء من حين إلى حين، ولكنه لم يخضع لهم أو ينحني امتثالاً لأمرهم، وكان في وسعه أن يعيش أحسن العيش دون معونتهم، وكان يرفض هدايا الكبراء والملوك وولائمهم (135). وجملة القول أنه كان رجلاً محظوظاً يعيش من غير كد، ويقرأ من غير أن يكتب، ويعلم من غير أن يلتزم خطة رتيبة، ويشرب دون أن يدور رأسه، ثم يموت قبل أن يدركه وهن الشيخوخة، وكان موته بلا ألم.
وكانت أخلاقه أحسن الأخلاق الملائمة لعصره، ولكنها أخلاق يصعب أن يرضى بها كل الرجال الصالحين الذين يثنون عليه. فقد "سرت نار" الحب في جسمه حين رأى كرميدس Charmides، ولكنه ضبط عواطفه بأن سأل نفسه هل لهذا الفتى هو الآخر "نفس نبيلة (136)؟ ". ويصف أفلاطون سقراط وألقبيادس بأنهما عاشقان، ويقول عن الفيلسوف إنه "يطارد الفتى الوسيم" (137)، والشيخ وإن كان يبدو أنه قد جعل حبه في الغالب حباً أفلاطونياً، لم يستنكف أن يقدم النصح للائطين وللسراري عن خير الوسائل لاصطياد المحبين. وقد دفعته شهامته إلى أن يعد الحظية ثيودروا بمعونته، وقد جازته على هذه المعونة بدعوتها إياه أن "يتردد عليها ليزورها" (139). ولم تكن تفارقه دعابته ورقة حاشيته، ومن أجل هذا فإن الذين يطيقون آراءه السياسية يجدون من السهل عليهم أن يحتملوا أخلاقه. ولما قضى نحبه قال عنه أكسانوفون إنه "بلغ من إنصافه أنه لم يظلم إنساناً حتى في أتفه الأمور ... ، وبلغ من عدالته أنه لم يفضل في وقت من الأوقات اللذة عن الفضيلة، وبلغ من حكمته أنه لم يخطئ قط في تمييز الخبيث من الطيب، ومن قدرته على تبين أخلاق الناس ومن حضهم على اتباع سبيل الفضيلة(7/226)
والشرف أن بدا أنه بلغ أحسن ما يأمله أحسن الناس وأسعدهم" (140). وقد عبر أفلاطون عن هذا المعنى نفسه ببساطة خلابة فقال إنه "كان بحق أعقل، وأعدل، وأحسن من عرفت من الناس في حياتي كلها" (141).
2 - صورة ذبابة الخيل
وإذ كان سقراط طلعة محباً للجدل فقد عمد إلى دراسة الفلسفة وأعجب وقتاً ما بالسوفسطائيين الذين غزوا أثينة في أيام شبابه. وليس لدينا شاهد على أن أفلاطون قد اخترع نبأ التقاء سقراط ببارمنيدس، وبروتاغوراس، وغورغياس، وبرودكس، وهيبياس، وثرازمكس. وما دار في لقائه بهم من أحاديث، وليس ببعيد أيضاً أن يكون قد رأى زينون حين وفد هذا إلى أثينة حوالي عام 450 ق. م. وأنه تأثر بجدله تأثراً لم يفارقه طول حياته (142). وأكبر الظن أنه عرف أنكساغورس بشخصه إن لم يكن عن طريق مبادئه، وذلك لأن أركلوس الملطي تلميذ أنكساغوراس كان في وقت ما معلم سقراط. وقد بدأ أركلوس هذا حياته العلمية عالماً في الطبيعة ثم اختتمها بأن كان دارساً لعلم الأخلاق، وقد فسر أصل هذا العلم وأساسه على قواعد العقل، ولعله هو الذي حول سقراط من الطبيعة إلى علم الأخلاق. ومن هذه الطرق كلها وصل سقراط إلى الفلسفة، ومذ تم له ذلك وجد "الخير أعظم الخير في حديثي كل يوم عن الفضيلة، وفحصي عن نفسي وعن غيري، لأن الحياة التي لا يفحص عنها غير خليقة بالرجال" (1). وهكذا أخذ يطوف بمعتقدات الناس، يخزهم بالأسئلة، ويطلب إليهم إجابات دقيقة محددة وآراء منسقة غير متناقضة، ويلقي الرعب في قلب كل من لا يستطيع أن يتحدث حديثاً واضحاً، وحتى في الجحيم نفسه يعرض أن يكون مشاء طلعة
_________
(1) Apology أفلاطون De Anexetastos Bios Ou Blotos Anthropo.(7/227)
"يعرف مَن من الناس حكيم ومن منهم يدعي الحكمة وهو من غير أهلها" (144) وقد حمى نفسه من التعرض لأسئلة الناس ومناقشتهم إياه بمثل ما يناقشهم هو بأن أعلن أنه لا يعرف شيئاً، وأنه يعلم الأسئلة جميعها ولكنه لا يعلم شيئاً من أجوبتها، وقال عن نفسه متواضعاً إنه من "هواة الفلسفة" (145). ولعل الذي يقصده بقوله هذا أنه ليس واثقاً من شيء غير تعرض الإنسان للخطأ، وأنه ليس لديه طائفة من العقائد والمبادئ المقررة الجامدة. ولما أن أجاب مهبط الوحي في دلفي جوابه المزعوم عن سؤال كريفون Chaerephon المزعوم: "هل في الناس من هو أعقل من سقراط" وهو: "لا أحد" (146)، عزا سقراط هذا الجواب إلى اعترافه هو بجهله، وشرع من تلك اللحظة يقوم بذلك الواجب العملي واجب الحصول على أفكار واضحة، وقال عن نفسه: "إنه سيتحدث من حين إلى حين عما يهم الجنس البشري، فيبحث عن الصالح وغير الصالح، والعادل وغير العادل، وما يتفق مع العقل وما لا يتفق معه، وعما يعد شجاعة وما يعد جبناً، وعن ماهية الحكومة التي تسيطر على الناس، وعن صفات الرجل البارع في حكمهم، ثم يستطرد إلى موضوعات أخرى ... يرى أن من يجهلونها يعدون بحق في طبقة العبيد" (147). وكان إذا صادف فكرة غامضة، أو تعميماً هيناً غير قائم على الحقائق، أو هوى خامرَ المتحدث إليه على غير علم منه، تحدى محدثه بقوله: "ما هو؟ " ثم سأله أن يحدد ما يقول تحديداً دقيقاً. وأصبح من عادته أن يصحو مبكراً، ويذهب إلى السوق العامة، أو ساحات الألعاب أو مدارسها أو إلى حوانيت الصناع، ويأخذ في مجادلة أي إنسان يتوسم فيه الذكاء الحافز أو الغباء المسلي، وكان يسأل: "ألم يعمل الطريق إلى أثينة لكي يتحدث الناس فيه" (148)، وكانت الطريقة التي يتبعها سهلة خالية من التعقيد: كان يطلب إلى من يحدثه أن يعرف فكرة عامة شاملة، ثم يبحث هذا التعريف ليكشف(7/228)
في العادة عما فيه من نقص، أو تناقض، أو سخف وبطلان، ثم يستدرج محدثة بأسئلته المتعاقبة إلى تعريف أتم وأصح لا يقوله هو أبداً. وكان ينتقل أحياناً إلى فكرة عامة أو عرض فكرة أخرى جديدة ببحث سلسلة طويلة من الحالات المفردة الخاصة مكنته من أن يدخل قدراً من طريقة الاستقراء في المنطق اليوناني، وكان في بعض الأحيان يكشف بطريقة التهكم السقراطي المشهور عن النتائج المضحكة السخيفة التي تترتب على التعريف أو الرأي الذي يريد أن يهدمه. وكان مولعاً بالتفكير المنظم شغوفاً به، يحب أن يصنف الأشياء المفردة حسب جنسها، ونوعها، وما بينها من فوارق معينة، وبذلك مهد السبيل إلى طريقة أرسطاطاليس في التعريف، وإلى نظرية أفلاطون في الأفكار. وكان يصف الجدل بأنه فن التمييز بين الأشياء بعناية، وأنار دياجير المنطق المظلمة بفكاهته التي قدر عليها ألا يطول أجلها في تاريخ الفلسفة.
وكان معارضوه يعيبون عليه أنه يهدم ولا يبني، وأنه يرفض كل جواب ولا يجيب هو بشيء من عنده، وأنه بهذا أفسد الأخلاق وشل التفكير، وأنه في كثير من الحالات ترك الفكرة التي أراد أن يوضحها وهي أكثر غموضاً من ذي قبل وكان إذا حاول شخص حازم مثل أقريتياس Critias أن يسأله حوّل جوابه إلى سؤال آخر فأصبحت له من فوره ميزة على سائله. نعم إنا نراه في البروتاغوراس يعرض أن يجيب على الأسئلة لا أن يسأل، ولكن هذه النية الطيبة لا تدوم إلا لحظة قصيرة، وعندئذ ينسحب بروتاغوراس، وهو الذي تمرس في المنطق من زمن طويل، من ميدان الجدل بهدوء (149). ويستشيط هيبياس غضباً من تملص سقراط وهروبه من الإجابة عما يوجه إليه من أسئلة، ويرفع عقيرته بقوله: "قسماً بزيوس إنك لن تسمع (جوابي) حتى تعلن أنت ما ترى أنه العدالة، لأنه لا يكفي أن تسخر من الناس، وأن تسأل كل إنسان وتربكه، ثم تأبى أن تفصح(7/229)
عن سبب لأي إنسان، أو أن تعلن عن رأيك في موضوع ما" (150). وقد أجاب سقراط عن هذا التقريع وأمثاله بقوله إنه ليس إلا قابلة كأمه، "إن اللوم الذي يوجه إليّ كثيراً، وهو أني أسأل الناس أسئلة وأن ليس لدي من العقل ما أستطيع به أن أجيب عنها، لوم عادل لا اعتراض لي عليه، وسببه أن الله قد أرغمني على أن أكون قابلة، ونهاني عن أن ألد" (151). وذلك لعمري هروب واضح ما أخلقه بصديقه يوربديز.
وهو يشبه السوفسطائيين من وجوه كثيرة، ولم يكن الأثينيون يترددون في أن يطلقوا عليه هذا الاسم، على أنهم لم يكونوا يقصدون بهذا أن يعيبوه أو ينقصوا من قدره (152). والحق أنه كان سوفسطائياً بالمعنى الحديث لهذا اللفظ أي كان بارعاً في المراوغات الماكرة، والحيل الجدلية، يبدل مجال الألفاظ أو معانيها بحذق ودهاء، ويغرق المسألة التي يجادل فيها بالتشبيهات والاستعارات المفككة، ويماحك ويغالط كما يغالط صبيان المدارس، ويحارب بالألفاظ حرب الأبطال ولكن إلى غير غاية (153). وقد يعفو الإنسان عمن جرعوه السم لأنا لا نرى أن ثمة آفة شراً من المنطقي العارف بقوة منطقه. وكان يختلف عن السوفسطائيين في أربعة أمور: كان يكره البلاغة، وكان يرغب في تقوية الأخلاق، ولم يكن يدعي أنه يعلم أكثر من فن بحث الأفكار، وكان يأبى أن يأخذ أجراً على تعليمه - وإن كان يبدو أنه قبل في بعض الأحيان عوناً من بعض الأغنياء من أصدقائه (154). وكان تلاميذه يحبونه أشد الحب رغم عيوبه التي كانت تضايقهم، وقد قال مرة لواحد منهم: "ربما استطعت أن أساعدك في السعي لنيل الشرف والفضيلة، لأن كلامنا يميل إلى حب صاحبه، وأنا إذا أحببت الناس من كل قلبي وبادلوني هم حبهم من كل قلوبهم، يسوءني غيابهم عني كما يسوءهم غيابي عنهم. وأتوق لصحبتهم كما يتوقون لصحبتي" (155).(7/230)
ويمثل أرسطوفان في رواية السحب تلاميذ سقراط بأنهم قد أنشأوا مدرسة ذات مكان معين يجتمعون فيه، وفي أكسانوفون فقرة تؤيد هذه الفكرة بعض التأييد (156)، ولكنه يصور لنا عادة بأنه يعلم في أي مكان يجد فيه من يعلمه، أو من يستمع إليه، غير أننا لا نجد عقيدة خاصة أو مبدأ خاصاً يجمع علينا أتباعه، فقد كانوا يختلفون فيما بينهم اختلافاً بلغ من شدته أن أصبحوا زعماء لأشد المدارس اختلافاً في بلاد اليونان - الأفلاطونية، والكلبية، والرواقية والأبيقورية، والتشككية. فكان منهم أنتستان Antisthenes الفخور الذليل الذي أخذ عن أستاذه مبدأ البساطة في الحياة وحاجاتها، وأسس المدرسة الكلبية. ولعله كان حاضراً حين قال سقراط لأنتيفون: "يبدو أنك تظن أن السعادة في الترف والإسراف، أما أنا فأرى أنك إذا لم تكن في حاجة إلى شيء كنت شبيهاً بالآلهة، وأنك إذا أقللت من حاجاتك قدر استطاعتك أصبحت أقرب ما تكون إلى الآلهة" (157). وكان منهم أيضاً أرستبوس الذي بنى على اعتراف سقراط بأن "في اللذة خيراً" العقيدة التي نشرها بعدئذ في قوريني Cyrene والتي دعا إليها أبيقور أثينة فيما بعد. ومنهم إقليدس الميغاري الذي جعل من الجدلية السقراطية تشككية تنكر المقدرة على كل معرفة حقة. وكان منهم الشاب فيدون الذي كان قد انحط إلى طبقة العبيد ثم افتداه قريطون Crito بإيعاز سقراط، وأحب سقراط هذا الشاب و "جعله فيلسوفاً". وكان منهم أكسانوفون القلق المضطرب الذي تخلى عن الفلسفة ليكون جندياً، ولكنه أثبت أن "لا شيء أعظم نفعاً من صحبة سقراط، والتحدث إليه في أية مناسبة وفي أي موضوع مهما يكن شأنه" (159). ومنهم أفلاطون الذي تأثر خياله القوي بالفيلسوف الحكيم تأثراً لم يفارقه طول حياته حتى امتزج العقلان وصارا في تاريخ الفلسفة عقلاً واحداً. ومنهم أقريطون الثري، الذي كان يهيم حباً بسقراط، والذي كان يحرص أشد الحرص على ألا يكون الفيلسوف الكبير في حاجة إلى(7/231)
شيء ما" (160). وكان منهم الشاب ألقبيادس المتهور الجريء الذي أساء بعدم وفائه إلى معلمه، وعرضه للأخطار في مستقبل الأيام، ولكنه كان في الوقت الذي نتحدث عنه يحب سقراط ويهيم به هيام الواله المتيم، والذي يقول فيه:
"إنا إذا سمعنا متحدثاً غيرك، وإن كان من أحسن الناس حديثاً، لم يكن لألفاظه أثر قط إذا قورنت بألفاظك، أما نتف ألفاظك أنت يا سقراط، ولو لم نسمعها منك أنت بل نقلت إلينا عنك مهما أخطأ فيها الناقلون، أما هذه النتف فإنها تخلب الألباب وتستحوذ على نفس كل رجل أو امرأة وكل طفل يستمع إليها ... وإني لأعرف أني إذا لم أصم أذني عن سماع أقواله وأفر من صوته الذي يسلب العقل للازمته حتى بلغ سن الشيخوخة وبقيت جالساً تحت قدميه ... ولقد أحسست في نفسي أو قلبي ... بذلك الألم الشديد الذي هو أشد إيلاماً لنفس الشاب الشريف من أنياب الأفاعي ألا وهو ألم الفلسفة ... وأنت يا فيدروس وأنت يا أغاثون، وأنت يا إركسماكوس، وأنت يا بوزنياس، وأنت يا أرسطوديموس وأنت يا أرسطوفان، أنتم كلكم، ولا حاجة لي بأن أضم إليكم سقراط نفسه، قد طافت بكم هذه التجربة نفسها وشغفتم بالفلسفة شغفي أنا بها" (161).
وكان منهم الزعيم الألجركي كرتياس الذي كان يستمتع بتهكم سقراط على الديمقراطية والذي كانت له يد في إدانته بأن كتب مسرحية وصف فيها الآلهة بأنها من ابتداع مهرة الصناع الذين يستخدمونها كما يستخدم خفراء الليل ليرهبوا بها الناس ويرغموهم على حسن الأدب (162). وكان منهم أيضاً ابن الزعيم الدمقراطي أنيتوس Anytus وهو شاب آثر أن يستمع إلى حديث سقراط عن العناية بعمله وهو الاتجار في الجلود. وشكا أنيتوس من أن سقراط قد أفسد عقل الغلام بما بث فيه من تشكك، فلم يعد يبجل أبويه أو يعظم الآلهة؛(7/232)
هذا إلى أن أنيتوس كان يشمئز من نقد سقراط للديمقراطية (1) ويقول: "أي سقراط! إني أظنك مفرطاً في استعدادك لأن تتحدث بالشر عن الناس، فإذا قبلت نصحي أشرت عليك أن تصطنع الحذر، ولعله لا توجد قط مدينة ليس إيذاء الناس فيها أيسر من عمل الخير لهم، وتلك بلا شك حال أثينة نفسها" (164) وأخذ أنيتوس يتربص به الدوائر.
3 - فلسفة سقراط
وكان من وراء هذه الطريقة فلسفة مراوغة، تجريبية، تجري على غير نظام، ولكنها فلسفة بلغ من جديتها وحقيقتها أن مات الرجل في واقع الأمر من أجلها. وقد يبدو لأول وهلة أن ليست هناك فلسفة سقراطية، ولكن أكبر السبب في هذا أن سقراط قبل نزعة بروتاغوراس النسبية فرفض النزعة التحكمية ولم يكن واثقاً إلا من جهله.
وقد حكم على سقراط لأنه لا يؤمن بالدين، ولكنه مع هذا كان يعبد آلهة المدينة بلسانه إن لم يعبدها بقلبه، ويشترك في احتفالاتها الدينية، ولم يعرف عنه أنه نطق مرة بكلمة تدل على عدم تقواه (166). وكان يعترف بأنه يتبع في جميع قراراته الهامة السلبية روحاً Diamonion داخلياً كان يصفه بأنه إشارة من السماء، ومن يدري فلعل هذا الروح كان هو الآخر سخرية من سخريات سقراط وتهكماته، فإن كان كذلك فإن سقراط لم يكن ينفك يؤكد دعواه هذه تأكيداً عجيباً، ولم تكن هذه الدعوى إلا مثلاً من أمثلة عدة لالتجاء سقراط إلى النبوءات والأحلام وقوله إنها وحي من عند الآلهة (167). وكان يقول إن في الكون من الأمثلة الدالة على التناسق المدهش العجيب، ومن الخطة الواضحة المرسومة، ما لا يصح معه
_________
(1) ولعل أنتيوس، كما يؤكد لنا بلوتارخ وأثينيوس، كان يعشق ألقبيادس ولكن ألقبيادس لم يبادله الحب وفضل عليه سقراط.(7/233)
أن يعزى وجود العالم إلى الصدفة المحضة أو إلى أية علة غير عاقلة، أما الخلود فلم يكن واثقاً منه مثل هذه الثقة أو قاطعاً في أمره هذا القطع، فهو يستمسك به ويدافع عنه في الفيدون Phaedo أما في الأبولوجيا Apology فهو يقول: "إذا جاز لي أن أدعي بأني أكثر حكمة من غيري فسبب ذلك أني لا أعتقد أن عندي كثيراً من العلم بالدار الآخرة، وأنا في واقع الأمر لا علم لي بها على الإطلاق" (168). ويطبق هذه النزعة اللا أدرية نفسها على الآلهة في كتابه الكراتلس فيقول: "أما الآلهة فلسنا نعرف عنها شيئاً" (169). وكان ينصح أتباعه بألا يجادلوا في مثل هذه الأمور، يسألهم كما يسأل كنفوشيوس أتباعه هل عرفوا شئون البشر حق المعرفة فأصبحوا بعدئذ على استعداد لأن يتدخلوا في شئون السماء (170)؟ وكان يحس أن خير ما نفعله في هذه الناحية أن نقر بجهلنا، وأن نطيع في الوقت نفسه وحي دلفي حين سئل كيف يعبد الإنسان الآلهة فأجاب: "حسب قانون بلادكم" (171).
وكان يطبق هذا التشكك نفسه تطبيقاً أشد من هذا صراحة في العلوم الطبيعية فيقول إن من واجب الإنسان ألا يزيد في دراستها على القدر الذي يهتدي به في حياته، أما فيما عدا هذا فإن هذه العلوم بيداء يضل فيها العقل، يكشف كل لغز غامض فيها حين يحل عن لغز آخر أشد منه غموضاً (172). وكان في شبابه قد درس العلوم الطبيعية مع أركلوس Archelaus، فلما كبر ونضج عقله تركها وهو يعتقد أنها أسطورة خداعة إلى حد ما، ولم يعد يهتم بالحقائق أو بأصول الأشياء بل وجه اهتمامه إلى القيم والغايات. وفي ذلك يقول أكسانوفون "إنه كان على الدوام يتحدث في البشرية (174). وكان السوفسطائيون أيضاً قد حولوا اهتمامهم من العلوم الطبيعية إلى الإنسان، وبدءوا يدرسون الإحساس، والإدراك والمعرفة، ولكن سقراط تعمق أكثر من هذا في داخل الإنسان وأخذ يدرس الأخلاق والأغراض البشرية: "قل لي يا يوثيديموس،(7/234)
هل ذهبت في حياتك إلى دلفي؟ ". " وهل لاحظت ما هو مكتوب على جدار الهيكل- أعرف نفسك؟ " "نعم لاحظته". "وهل لم تفكر في هذه الكتابة، أو هل عنيت بها، وحاولت أن تفحص عن نفسك وتعرف عن يقين حقيقة أخلاقك؟ " (175).
فلم تكن الفلسفة إذن عند سقراط هي الدين، أو ما وراء الطبيعة، أو الطبيعة نفسها، بل كانت علم الأخلاق والسياسة، مدخلها والوسيلة إليها المنطق، وإذ كان قد عاش في ختام عصر السوفسطائيين فقد أدرك أن هذه الطائفة قد أوجدت حالة من أشد الحالات خطورة في تاريخ أية ثقافة من الثقافات وتلك هي إضعاف أحد الأسس التي تقوم عليها الأخلاق ونعني به خوارق الطبيعة. وبعد أن أدرك هذا لم يعد خائفاً مرتاعاً إلى الإيمان بالدين بل سلك السبيل إلى أعمق الأسئلة في علم الأخلاق: هل يستطاع وجود علم للأخلاق قائم على أساس من الطبيعة؟ أي هل يمكن أن تبقى الأخلاق من غير الاعتقاد بخوارق الطبيعة؟ وهل في مقدور الفلسفة إذا صاغت قانوناً قوياً أخلاقياً دنيوياً غير ديني أن تنقذ الحضارة التي تهددها حريتها الفكرية بالانهيار والزوال؟ وحين يقول سقراط في الأوطيفرون أن ليس الخير خيراً لأن الآلهة ترضى عنه، بل إن الآلهة ترضى عن الخير لأنه خير، حين يقول هذا يعرض في واقع الأمر ثورة فلسفته. ولم تكن فكرته عن الخير فكرة دينية، بل كانت فكرة دنيوية إلى حد يجعلها نفعية. فهو يرى أن الصلاح ليس فكرة عامة مجردة، ولكنها فكرة خاصة عملية فالصالح صالح لشيء ما"، والصلاح والجمال شكلان من أشكال المنفعة والفائدة البشرية، وحتى السلة من الروث تكون جميلة إذا أحسن إعدادها للغرض الذي تؤديه (176). وإذ لم يكن ثمة (في رأي سقراط) شيء غير المعرفة يعادلها في نفعها، فإن المعرفة هي أسمى الفضائل والرذيلة جميعها هي الجهل (178)، وإن كان المقصود بالفضيلة ( Arete) هنا هو التفوق لا البراءة من الذنوب. والعمل الصالح غير مستطاع بغير المعرفة الحقة، وبالمعرفة الحقة يكون العمل الصالح أمراً محتوماً لا مفر منه،(7/235)
والناس لا يفعلون قط ما يعرفون أنه خطأ- أي مضاد للعقل، ضار بهم. وأسمى أنواع الخير السعادة، وخير سبيل للوصول إليها هي سبيل المعرفة أو الذكاء.
ويقول سقراط إنه إذا كانت المعرفة هي أسمى الفضائل كانت الأرستقراطية خير أشكال الحكم، وكانت الديمقراطية سخفاً وعبثاً. وفي ذلك يقول أكسانوفون على لسان سقراط: "من السخف أن نختار الحكام بالقرعة على حين أن أحداً لا يفكر قط في أن يختار بالقرعة مرشد السفن أو البناء أو النافخ في الناي، أو أي صانع على الإطلاق، مع أن عيوب هؤلاء أقل ضرراً من عيوب أولئك الذين يفسدون حكوماتنا" (179). وهو يعيب على الأثينيين حبهم للتقاضي، وتحاسدهم الصاخب، ومرارة أحقادهم ومنازعاتهم السياسية، ويقول في ذلك: "ولهذه الأسباب تراني على الدوام أخشى أشد خشية أن يحل بالدولة شر تنوء به وتعجز عن تحمله" (180). وكان يظن أن لا شيء ينجي أثينة إلا حكم أصحاب المعرفة والكفاية، وليست السبيل إلى هذا الحكم هي الاقتراع، كما أن الاقتراع لا يصلح سبيلاً لتقدير كفاية مرشد السفن أو الموسيقى أو الطبي أو النجار. كذلك يجب ألا يختار موظفو الدولة على أساس جاههم أو ثرائهم، ذلك أن الاستبداد وسلطان المال لا يقل شرهما عن شر الديمقراطية. والسبيل الوسطى المعقولة هي النظام الأرستقراطي الذي تقصر فيه المناصب على الذين تؤهلهم لها عقولهم والذين يدربون على القيام بما تتطلبه من الواجبات (181). على أن سقراط كان يعترف بما للديمقراطية الأثينية من مزايا رغم ما يوجهه إليها من نقد، ويقدر ما أسدته إليه من حريات وما أتاحته له من فرص. وكان يبتسم ساخراً من ميل بعض أتباعه للدعوة إلى "العودة إلى الطبيعة"، وقد وقف من أنستانس ومن الكلبيين نفس الموقف الذي وقفه فلتير من روسو فيما بعد- وهو أن الحضارة، رغم عيوبها الكثيرة، كنز ثمين لا يصح أن تتخلى عنه لتستبدل به البساطة الأولية (182).
ومع هذا كله فقد كان الأثينيون ينظرون إليه نظرة الريبة والسخط، فأما(7/236)
المتمسكون منهم بالدين فقد كانوا يرونه أشد السوفسطائيين خطورة، لأنه وإن راعى ما في الدين القديم من أسباب المتعة والمسرة، رفض التقاليد المرعية، وأراد أن يخضع كل قاعدة من قواعده إلى حكم العقل بعد تقص وفحص، وأن يقيم قواعد الأخلاق على أساس ضمير الأفراد لا على أساس خير المجتمع أو أوامر الآلهة، وانتهى به الأمر إلى تشكك ترك العقل في حال من الاضطراب زعزعت كيان كل عادة وكل عقيدة. وكان الذين يمجدون الأيام الخوالي أمثال أرسطوفان يعزون إليه كما يعزون إلى بروتاغوراس ويوربديز زعزعة أركان الدين، وقلة احترام الصغار للكبار، والانحلال الخلقي عند الطبقات المتعلمة، وفوضى العزوبة التي كانت تقوض أركان الحياة الأثينية. ولقد كان الكثيرون من زعماء الحزب الألجركي من تلاميذ سقراط أو من أصدقائه، وإن كان هو نفسه قد أبى أن يؤيد هذا الحزب، ولما أن قام رجل منهم يدعى أقريتياس وقاد الألجركيين في ثورة بسطوا خلالها عهداً من الإرهاب الوحشي، اتهم الديمقراطيون أمثال أنيتوس، وملاتوس سقراط بأنه العقل المحرك للرجعية الألجركية، وأجمعوا أمرهم على إبعاده عن مجرى الحياة الأثينية.
وأفلحوا فيما أجمعوا أمرهم عليه، ولكنهم لم يفلحوا في القضاء على ما كان من نفوذ لا حد لقوته. ذلك أن الطريقة الجدلية التي تلقاها عن زينون انتقلت منه عن طريق أفلاطون إلى أرسطاطاليس فحولها هذا إلى نظام منطقي بلغ من الكمال درجة استطاعت بها أن تبقى دون أن يطرأ عليها تغيير ما تسعة عشر قرناً كاملة. أما العلم فقد كان له فيه أثر ضار، ذلك أنه حول الطلاب من البحث في العلوم الطبيعية، كما أن نظرية الغرض الخارجي لم تكن من العوامل المشجعة للتحليل العلمي. وربما كان لنزعة سقراط الفردية والذهنية في علم الأخلاق بعض الأثر فيما أصاب الأخلاق في أثينة من انحلال، ولكن رفعها من شأن الضمير، وقولها إنه أعلى من القانون، أصبحا من العقائد الجوهرية في الديانة المسيحية. وقد انتقل الكثير(7/237)
من آرائه على أيدي تلاميذه فأصبح مادة جميع الفلسفات الكبرى في القرنين التاليين. وكان أقوى أسباب نفوذه هو المثل الذي ضربه للناس بحياته وأخلاقه، فلقد أضحى في التاريخ اليوناني شهيداً وقديساً، حتى لقد كان كل جيل يبحث عن مثل أعلى للحياة البسيطة والتفكير الجريء يعود إلى الماضي ليستمد من ذكرى سقراط غذاء لمثله العليا. وفي ذلك يقول أكسانوفون: "كلما فكرت في حكمة الرجل ونبل أخلاقه رأيت أن ليس في مقدوري أن أنساه أبداً، أو أن أحاجز نفسي عن الثناء عليه حين أذكره، وإذا كان من بين أولئك الذين جعلوا الفضيلة غايتهم لإنسان قد اتصل بشخص أكثر معونة له في هذا الغرض النبيل من سقراط، فإني أرى أن هذا الرجل خليق بأن يعد أسعد الناس على الإطلاق" (183).(7/238)
الباب السابع عشر
أدب العصر الذهبي
الفصل الأول
بندار
إن فلسفة عصر من العصور تصبح في الأحوال العادية أدب العصر الذي يليه، ذلك أن الآراء والمسائل التي يتجادل فيها الناس في ميدان البحث والتفكير تكون في الجيل التالي أساس مسرحياته وقصصه وشعره. لكن الأدب في بلاد اليونان لم يتأخر عن ركب الفلسفة، لأن الشعراء كانوا هم أنفسهم فلاسفة، يفكرون لأنفسهم، وكانوا في مقدمة أرباب العقل والتفكير في زمانهم. ولذلك فإن النزاع الذي قام بين التحفظ والتطرف والذي اضطرب به دين اليونان وعلومهم وفلسفتهم قد تردد صداه أيضاً في الشعر والتمثيل بل وفي كتابة التاريخ نفسه. وإذ كانت براعة الصورة الفنية قد اجتمعت في الأدب اليوناني إلى عمق التفكير، فقد وصل أدب العصر الذهبي إلى درجة من الرقي لم يصل إليها الأدب في العالم كله مرة أخرى إلا في عصر شكسبير ومنتاني.
وبسبب هذا العبء الثقيل من الأفكار ولعدم وجود طبقة من الملوك أو الأشراف يناصرون الأدب ويشجعون الأدباء، كان القرن الخامس أقل غناء من السادس في الشعر الغنائي بوصفه فناً مستقلاً. وكان بندار أداة الانتقال بين العصرين: فقد ورث الصيغة الغنائية من العصر الذي قبله ولكنه ملأها(7/239)
بالفخامة المسرحية، ولم يلبث الشعر من بعده أن تخطى حدوده التقليدية وجمع في المسرحيات الديونيشية بين الدين، والموسيقى، والرقص لكي يصبح أداة أعظم من الأدوات السابقة للتعبير عن فخامة العصر الذهبي وعواطفه الجياشة.
وكان بندار يعود بأصله إلى أسرة طيبية تعود بأصلها إلى أبعد العصور البدائية، وتدعى أنها تضم الكثيرين من الأبطال القدامى الذين خلد ذكرهم في شعره. وقد أورثه عمه، وهو موسيقي يجيد النفخ في الناي، كثيراً من حب الموسيقى، وشيئاً من براعته فيها، وأرسله أبوه إلى أثينة ليستزيد من هذا الفن، وفيها علمه لاسوس Lasus، وأجثكليز Agathocles تآليفه الغنائية الجماعية. ثم عاد إلى طيبة قبل أن يتم العقد الثاني من عمره أي قبل عام 502 ق. م، وأخذ يدرس مع الشاعرة كورنا Corinna. وقد تبارى معها خمس مرات في الغناء أمام الجماهير وتغلبت عليه في المرات الخمس، ولكن كورنا كانت جميلة تسر الناظرين، والمحكمين كانوا رجالاً (1). وكان بندار يسميها خنزيرة، ويسمي سمنيدس غراباً، ويسمي نفسه نسراً. لكن شهرته رغم عيبه هذا قد ازدادت إلى حد جعل أبناء بلده يخترعون قصة يقولون فيها إنه بينما كان الشاعر نائماً في الحقل يوماً إذ حطت بضع نحلات على شفتيه وخلفت عليهما شهدها (2). ولم يلبث أن كلف بإنشاء قصائد، يكافأ عليها بسخاء، في مدح الأمراء والأثرياء، واستضافته الأسر النبيلة في رودس، وتندوس، وكورنثة، وأثينة، وأقام وقتاً ما في بلاط الإسكندر الأول المقدوني، وتيرون الأكرغاسي، وهيرون الأول ملك سرقوصة، وكان فيها كلها شاعر هؤلاء الملوك. وكان عادة يؤجر على أغانيه مقدماً، كما لو أن مدينة في أيامنا هذه قد كلفت مؤلفاً موسيقياً أن يكرمها بتأليف قطعة غنائية تنشدها إحدى الفرق ويرقص على أنغامها الراقصون، ويتولى هو تنظيم الغناء والرقص. ولما أن عاد بندار إلى طيبة حوالي السنة الرابعة والأربعين من عمره، حيته المدينة وعدته أعظم هدية أهدتها بؤوتية إلى بلاد اليونان.(7/240)
وأخذ يعمل بجد في تلحين كل قصيدة من قصائده، وكثيراً ما كان يدرب المغنين على غنائها. وكتب ترانيم وأناشيد نصر للآلهة، وأغاني خمرية تغنى في أعياد ديونيشس، وأناشيد للعذارى تغنيها الفتيات، ومديحاً للمشهورين من العظماء، وأغاني للموائد، ومراثي للجنائز، وأغاني للنصر ينشدها الفائزون في المباريات الأثينية الجامعة. ولم يبق من هذه كلها إلا خمس وأربعون أغنية سميت باسم الألعاب التي تتغنى بمديح أبطالها. وليس لدينا من هذه الأغاني الخمس والأربعين إلا ألفاظها، أما موسيقاها فلم يبق منها أثر. ونحن إذا شئنا أن نحكم عليها كنا في وضع شبيه بوضع مؤرخ في مستقبل الزمان لديه نصوص مسرحيات فجنر التلحينية وليس لديه شيء من موسيقاها فحكم بأن فجنر هذا شاعر وليس مؤلفاً موسيقياً، ثم قدره مستنداً إلى الألفاظ التي كانت في وقت ما تصاحب ألحانه. أو كان عالماً صينياً لا يعرف شيئاً عن القصص المسيحي يقرأ ذات مساء في ترجمة عرجاء عشر تراتيل من وضع باخ Bach نزعت عنها موسيقاها ومراسمها الدينية. على هذا النحو يكون حكمنا على بندار من آثاره، فنحن إذا قرأنا أغانيه اليوم، أغنية بعد أغنية في سكون حجرة المكتب حكمنا أنه لا يماثلها شعر آخر في عصر اليونان الذهبي في بعث السآمة والكآبة.
وليس في وسعنا أن نشرح تكوين هذه القصائد إلا بتشبيه كل منها بقطعة موسيقية، فلقد كان بندار يرى ما يراه سمنيدس وبكليدس Bacchylides وهو أن القالب الذي تصب فيه أغنية النصر قالب محتوم لا مفر منه شأنه في هذا شأن النغم الموسيقي الذي يوضع لمغن واحد ولآلة موسيقية واحدة في الأغاني الأوربية الحديثة. وكان يبدأ أولاً بإيراد موضوع الأغنية - وهو اسم اللاعب الذي نال الجائزة وقصته، أو اسم الشريف الذي فازت جياده في مباراة جر العربات. ويشيد بندار في العادة "بحكمة الإنسان، وجماله، واتساع شهرته" (4). فهو في واقع الأمر لم يكن يهتم كثيراً بالموضوع الأصيل(7/241)
الذي يعرض له، بل كان يتغنى بمدح العدائين والمحاظي والملوك، ولم يكن يتردد في الرضاء بأن يتخذ أي طاغية يهبه المال مسرعاً نصيراً له وقديساً (5) إذا ما أعانه على ذلك خياله الخصب وشعره المعقد الذي كان موضعاً لزهوه. ولم يكن يستنكف أن يتخذ أي شيء موضوعاً لقصائده سواء كان سباق البغال أو مجد الحضارة اليونانية على اختلاف أنواعها وفي كل مكان انتشرت فيه. وكان وفياً لطيبة، ولم يكن أكثر إلهاماً وتوفيقاً من وحي دلفي حين دافع عن حيادها في الحرب الفارسية، ثم استحى فيما بعد من غلطته هذه، وخرج عن مألوف عادته، وأثنى على زعيمة الدفاع اليوناني ووصفها بأنها "أثينة الذائعة الصيت، الغنية، المتوجة بالبنفسج، الجديرة بأن يتغنى بمدحها الشعراء، حصن هلاس الحصين، والمدينة التي تحميها الآلهة" (6). ويقال إن الأثينيين وهبوه خمسة آلاف درخمة (000ر10 ريال أمريكي) مكافأة له على القصيدة التي وردت فيها هذه الأبيات (7)، وتقول روية أخرى أقل جدارة بالثقة من هذه إن طيبة فرضت عليه غرامة جزاء له على ما فيها من تعنيف خفي، وإن أثينة أدت عنه هذه الغرامة (8).
والجزء الثاني من أغاني بندار يتكون من مختارات من الأساطير اليونانية. وفي هذا أسرف بندار إسرافاً لا يشجع الإنسان على متابعة قراءته. وقد شكا من ذلك كورنا Corinna فقال أنه: "كان يبذر بالزكيبة لا باليد" (9). وقد كانت للآلهة عنده مكانة عالية، فكان يعظمها ويستمد منها معظم موضوعاته. وكان الشاعر المحبب لكهنة دلفي، وقد حصل منهم في حياته على مزايا كثيرة، ولما مات كرمت روحه بأن دعيت إلى أن تنال نصيبها من باكورة الفاكهة التي تقدم في ضريح أبلو (10). وكان آخر من دافع عن الدين القويم، وإنَّ إسكلس على تقواه ليبدو إذا قورن به رجلاً زنديقاً. ولو أن بندار اطلع على قصيدة بروميثيوس المحرر ورأى ما فيها من تجديف في حق الآلهة لروعه هذا أشد الترويع. وهو يسمو أحياناً في فكرته عن زيوس إلى ما يقرب من التوحيد كقوله فيه:(7/242)
"المسيطر على كل شيء والمطلع على كل شيء" (11). وهو يؤمن بالطقوس الغامضة الخفية ويرجو كما يرجو أورفيوس أن يكون مقره الجنة. وينادي بأن الروح البشرية من أصل إلهي وأن مآلها إلهي (12). وقد وصف يوم الحساب، والجنة، والنار وصفاً يعد من أقدم أوصافها فقال: "وبعد الموت مباشرة تعاقب الروح الخارجة على القانون، وينظر في الخطايا التي ارتكبت في مملكة زيوس واحدٌ يصدر فيها أحكامه الصارمة التي لا تنقص".
"وفي ضياء الشمس الجميل يقيم المتقون لا فرق بين أيامهم ولياليهم في بهجتها وبهائها، ولا يفعلون ما كانوا يفعلونه في الأيام الخالية، يكدحون كدحاً كئوداً في حرث الأرض وإثارتها ليحصلوا على حاجاتهم الباطلة، أو يخوضون بسفنهم عباب البحر، بل يقيمون في نعيم دائم مع الآلهة العظام ويقضون معهم حياة خالية من الأحزان، يستمتعون فيها بسرور جزاء لهم على ما حفظوا من عهود هم على ظهر الأرض. وعلى بعد منهم نرى فريقاً آخر يقاسون ألوان العذاب ويقبعون في دياجير مظلمة لا ينفذ فيها البصر" (13).
وكان القسم الثالث والأخير في أغاني بندار يتألف عادة من نصيحة خلقية. وليس من حقنا أن ننتظر منه في هذا القسم فلسفة عميقة؛ وذلك أن بندار لم يكن من أبناء أثينة، وأكبر الظن أنه لم يلق في حياته سوفسطائياً، ولم يقرأ لأحد من السوفسطائيين شيئاً، بل كان يوجه قواه العقلية بأجمعها إلى فنه، فلم تبق لديه قدرة على التفكير المبتكر الأصيل؛ وكان يكتفي بأن يستحث الرياضيين الفائزين، أو الأمراء الحاكمين، على أن يكونوا متواضعين يجلون الآلهة، ويوقرون بني جنسهم، ويحترمون أنفسهم. وكان ما بين الحين والحين يمزج اللوم بالمديح، وبلغ من الجرأة أن حذر هيرن Hieron ذات مرة عاقبة الشره (14). ولكنه لم يحاجز نفسه عن أن يقول كلمة طيبة في حق المال أخبث الطيبات كلها وأحبها إلى قلوب الناس. وكان يمقت الثوريين الصقليين، وقد حذرهم من عاقبة أمرهم بألفاظ(7/243)
لا تكاد تختلف عن ألفاظ كنفوشيوس: "إن من أسهل الأشياء حتى على الضعفاء أن يقوضوا مدينةً من أساسها؛ أما إعادتها إلى مكانها بعد تدميرها فتتطلب جهوداً مضنية وكفاحاً مريراً" (15). وكان يحب في أثينة دمقراطيتها المعتدلة بعد سلاميس؛ ولكنه كان يعتقد مخلصاً أن الأرستقراطية أقل أنواع الحكم ضرراً. ذلك بأنه كان يرى أن الكفاية متأصلة في الدم، لا تكتسب بالتعليم، وتنزع إلى الظهور في الأسرة التي ظهرت فيها من قبل. والدم الطيب وحده هو الذي يهيئ الخلق إلى القيام بالأعمال النادرة التي تجعل الحياة كريمة جديرة بأن يحياها الإنسان. "ما أقصر الحياة! أي شيء نكونه وأي شيء لا نكونه؟ الإنسان حلم يحوم حول خيال؛ أما إذا نزل عليه بهاء من قبل أحد الأرباب فإن هالة من المجد تحيط به وتصبح حياته حلوة ممتعة" (16).
ولم يكن بندار محبباً إلى الجماهير في أثناء حياته، وسيظل بضعة قرون يستمتع بما يستمتع به من خلود لا حياة فيه أولئك الكتاب الذين يشيد الناس كلهم بذكرهم، ولا يقرأ أحد كتاباتهم. لقد كان يطلب من العالم أن يقف عن الحركة في الوقت الذي كان يتحرك فيه إلى الأمام، ومن أجل هذا خلفه العالم وراءه، حتى ليبدو أكبر سناً من ألكمان وإن كان أصغر من إسكلس. وقد كتب شعراً متقناً محبوكاً، معقداً ملتوياً، لا يقل في هذه الصفات كلها عن نثر تاستوس Tacitus، وكتبه بلهجة له خاصة مصطنعة تعمد أن يجعلها كلغة الأقدمين، وبأوزان متقنة دقيقة إلى درجة لم يعن معها أحد الشعراء بأن يحذو حذوه (1)، ومتنوعة تنوعاً لا نجد معه إلا أغنيتين اثنتين من بين أغانيه الأربع والخمسين ذواتا وزن واحد. وشعره غامض المعنى رغم سذاجة تفكيره، وقد بلغ هذا الغموض حداً يضطر معه النحاة إلى قضاء حياتهم كلها يحاولون حل تراكيبه
_________
(1) ويستثنى من هذا التعميم شاعر عظيم هو دريدن Dryden في قصيدته وليمة الإسكندر Alexander's Feast.(7/244)
الشبيهة بتراكيب اللغات التيوتونية، ثم لا يجدون بعد هذا العناء إلا عبارات طنانة جوفاء. وإذا كان بعض الطلعة من العلماء لا يزالون يقبلون على قراءة شعره رغم هذه العيوب، ورغم جموده وتمسكه الشديد بالشكليات واصطناعه التشبيهات المنتفخة، وإثقال هذا الشعر بالأساطير المملة، إذا كان بعضهم لا يزالون على قراءته رغم هذا كله فما ذلك إلا لما فيه من قصص واضح تتتابع حوادثه سراعاً، ولإخلاصه في مبادئه الأخلاقية، ولروعة لغته التي ترفع أتفه الموضوعات إلى سماء العظمة، وإن كانت لا تحتفظ بمكانها فيها إلا زمناً قصيراً.
وعاش بندار حتى بلغ الثمانين من العمر، متحصناً في طيبة من اضطراب التفكير الأثيني، وقد تغنى بذلك في شعره فقال: "ما أحب موطن الإنسان إلى قلبه، وما أعز رفاقه، وأقاربه، يعيش بينهم قانعاً راضياً. أما الحمقى فيحبون الأشياء الفانية" (17). ويقال إنه قبل أن ينصرم أجله بعشرة أيام (442) أرسل إلى مهبط وحي أمون يسأله: "ما أحسن الأشياء للإنسان؟ " فكان جواب الوحي في مصر كجواب الوحي في بلاد اليونان "الموت" (18). وأقامت أثينة تمثالاً له أنفقت عليه من الأموال العامة، ونقش أهل رودس أغنيته الأولمبية السابعة - التي يمدح فيها جزيرتهم - بحروف من ذهب على جدار هيكل من هياكل الجزيرة. ولما أن أمر الإسكندر الأكبر بإحراق طيبة الثائرة ودك أبنيتها في عام 335، حذر جنوده أن يمسوا بسوء البيت الذي عاش فيه بندار ولقي فيه ربه.(7/245)
الفصل الثاني
ملهى ديونيشس
ورد في معجم سويداس The Lexicon of Suidas أنه حدث في أثناء تمثيل مسرحية من تأليف براتيناس Pratinas حوالي 500 ق. م أن سقطت المقاعد الخشبية التي كان النظارة يجلسون عليها، وأن أصيب بعضهم بجروح، وأن استولى الذعر عليهم، وأن الأثينيين شادوا بعد هذا الحادث ملهى من الحجر إلى المنحدر الجنوبي للأكربوليس وهبوه للإله ديونيشس (1). ثم شيدت ملاه أخرى على غراره في المائتي عام التالية في إرتريا Eretria، وإبدورس، وأرغوس، ومنتينيا Mantinea، ودلفي، وتورومينيوم Tauromenium ( تورومينا Tauromina) ، وسرقوصة، وغيرها من المدائن في مختلف أنحاء العالم اليوناني. ولكن مسرح ديونيشس هو الذي مثلت عليه المآسي والمسالي الكبرى في أول الأمر، وهو الذي ناضل أشد النضال في المعركة التي احتدمت بين الدين القديم والفلسفة الحديثة، والتي ربطت أجزاء التاريخ الفكري لعصر بركليز، وجعلته عملية كبيرة واسعة النطاق من عمليات التفكير والتغيير.
ولا حاجة بنا إلى القول بأن الملهى العظيم كان مكشوفاً للسماء. وأن مقاعده الخمسة عشر ألف كانت ترتفع على شكل نصف دائرة كالمروحة، ومشيدة من
_________
(1) ليس هذا هو ملهى ديونيشس الذي يزوره السياح اليوم، بل إن هذا الملهى الباقي إلى اليوم قد شيده وزير المالية عام 338 بأمر من ليقورغ، ويظن أن أجزاء منه يرجع تاريخها إلى 421، ويبدو أن أجزاء أخرى قد أضيفت إليه في القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد.(7/246)
القرميد مطلة على البارثنون، ومتجهة نحو جبل هيمتس Hymettus والبحر. ومن أجل هذا فإن أشخاص المسرحية حين ينادون الشمس والنجوم والبحار، كانوا ينادون حقائق واقعية يستطيع معظم النظارة، وهم يستمعون إلى الحديث أو الغناء، أن يروها ويشعروا بوجودها. وقد صنعت المقاعد من الخشب أولاً، ثم من الحجارة بعدئذ، ولم تكن لها مساند خلفية؛ وكان كثيرون من النظارة يأتون معهم بوسائد يجلسون عليها، ولكنهم كانوا يحضرون خمس مسرحيات في اليوم الواحد دون أن يسندوا ظهورهم إلى شيء معروف لنا غير ركب من خلفهم من النظارة، وهي بلا ريب مساند غير مريحة. وكان في الصفوف الأمامية عدد قليل من المقاعد الرخامية ذات الظهور يجلس عليها كبار كهنة ديونيشس المحليين وموظفو المدينة (1). وكان عند قاعدة منصة الخطابة مكان للرقص وللمغنين، وكان من خلفها بناء خشبي صغير يسمى الاسكيني Skene أو المنظر، يتخذ تارة لتمثيل قصر، وتارة لتمثيل معبد، أو بيت خاص، وأكبر الظن أنه كان يستخدم فوق هذا لجلوس الممثلين حين لا يكونون على المسرح يمثلون أدوارهم (2). وهناك معدات بسيطة "كمذابح" القرابين، والأثاث وما إليها مما قد تحتاجه المسرحية؛ وأخرى كالمناظر والملابس يؤتى بها عند تمثيل مسرحية لأرسطوفان (20) وقد صور أجاثاركس الساموسي عدة مناظر تصويراً توهم الرائي بوجود مسافات بينها. وكانت هناك عدة وسائل آلية تساعد على تغيير مجرى الحوادث أو مكانها (3). من ذلك أنه إذا أريد إظهار انتهاء
_________
(1) هذا الوصف وما يليه من وصف المسرح يفترض فيهما أن الملهى الذي شاده ليقورغ قد شيد على غرار الملهى القديم الذي حل محله.
(2) لسنا نعلم علم اليقين أكانت الحوادث تقع على سقف المسرح أم على مقدمته، وربما كانت الحوادث تتحرك عليه من مستوى إلى مستوى آخر كلما تغيرت الأمكنة في القصة.
(3) كانت ستارة تسقط من أعلى تستخدم في العهد الروماني فتتدلى في فجوة في بداية المنظر وترفع في نهايته. ولكن المسرحيات الباقية لدينا من القرن الخامس ليس فيها شواهد على هذا، ويلوح أنها كانت تعتمد على أناشيد ترتل بين الفصول لتؤدي الغرض الذي يؤديه إنزال الستار.(7/247)
حادثة من الحوادث داخل المنظر دار سطح خشبي ( Ekkyklema) على عجل إلى خارج المسرح وصنعت عليه صور بشرية بطريقة تعبر أمام النظارة ما حدث، وقد توضع عليه جثة ومن حولها القتلة وبأيديهم أسلحتهم ملوثة بالدماء، ولم يكن من تقاليد التمثيل اليوناني أن تمثيل الحوادث العنيفة على المسرح مباشرةً. وكان على جانبي صدر المسرح لوحة كبيرة منشورية الشكل مثلثة تتحرك على محور لها، وقد رسم على كل وجه من أوجه المنشور منظر يخال ما على الوجه الآخر، فإذا أديرت هذه الأوجه تغير المنظر في لمح البصر. وكان أعجب من هذا جهاز آخر يتكون من آلة رافعة ذات بكرة وأثقال توضع على يسار المسرح وتستخدم في إنزال الآلهة أو الأبطال من "السماء" إلى المسرح أو إعادتهم إلى "السماء" أو إظهارهم معلقين في الهواء بين السماء والأرض. وكان يوربديز بنوع خاص مولعاً باستخدام هذه الآلة لإنزال إله يحل بتقواه ما في مسرحياته اللا أدرية من تعقيد.
ولم تكن المأساة في أثينة من الشئون الدنيوية أو الأعمال التي تتكرر طول العام، بل كانت جزءاً من الاحتفال السنوي بعيد ديونيشس (1). وكانت تعرض على الأركون بهذه المناسبة عدة مسرحيات يختار منها عدداً قليلاً ليمثل في هذا العيد. وكانت كل قبيلة من القبائل العشر في أتكا تختار واحداً من مواطنيها الأثرياء يشرف على جوقة المرتلين. وكان من امتيازاته أن يؤدي نفقات تدريب المغنين، والراقصين، والممثلين، وما إلى ذلك من النفقات التي يتطلبها تمثيل إحدى المسرحيات. وكان المشرف ينفق في بعض الأحيان مبالغ طائلة على إعداد المناظر والملابس وتدريب الممثلين. وبهذه الطريقة كانت كل مسرحية ينفق عليها نيسياس تنال جائزة (21). وكان بعض المشرفين الآخرين يقتصدون في
_________
(1) وكانت المسرحيات تمثل أيضاً في اليونيشيا الصغرى أو اللينيا Lenaea التي تقام عادة في بيرية، وتمثل كذلك من حين إلى حين في الملاهي بمدن أتكا.(7/248)
هذه النفقات باستئجار ملابس مستعملة من باعة ملابس التمثيل (22). وكان واضع المسرحية هو الذي يقوم عادة بتدريب جوقة المرتلين.
وكانت هذه الجوقة أهم عناصر التمثيل وأكثرها نفقة من عدة وجوه. وكثيراً ما كانت المسرحية تسمى باسمها، وعن طريقها كان الشاعر في أكثر الأحيان يعبر عن آرائه في الدين والفلسفة. وتاريخ التمثيل اليوناني كفاح خاسر تقوم به جوقة المرتلين للسيطرة على المسرحية. ولقد كانت هي في بادئ الأمر كل شيء فيها، ثم نقص شأنها في ثسبيس وإسكلس، كلما زاد عدد الممثلين، ثم اختفت نهائياً في مسرحيات القرن الثالث. ولم تكن الجوقة تتألف عادة من مغنين محترفين، بل كانت تتألف من هواة يختارون من الكشوف المحتوية على أسماء أبناء القبيلة المدنيين. وكانوا جميعاً من الرجال، وكان عددهم بعد إسكلس خمسة عشر رجلاً، وكانوا يقومون بالرقص والغناء معاً ويسيرون في موكب مهيب فوق المسرح الطويل العتيق، يشرحون بحركاتهم الموزونة ألفاظ المسرحية ومواقفها.
وكان للموسيقى في المسرحيات اليونانية شأن لا يعلو عليه إلا شأن الشعر والتمثيل نفسه، وكان المؤلف هو الذي يضع عادةً موسيقى المسرحية كما يضع ألفاظها (23). وكان معظم الحوار يلقى بشكل أحاديث أو خطب حماسية، وكان بعضه ينشد، ولكن الأدوار الهامة كانت تحتوي على قطع غنائية يغنيها شخص واحد أو شخصان أو ثلاثة أشخاص معاً، أو تنشد مع النشيد الجماعي أو تتعاقب معه (24). وكان الغناء بسيطاً غير مقسم إلى أدوار أو ألحان متوافقة. وكان يصحبه في العادة نفخ في الناي يوافق أنغام المغنين نغمة بعد نغمة. وبهذه الطريقة كان في وسع النظارة أن يتابعوا ألفاظ القصيدة دون أن تضيع في نغمات الغناء. وليس في وسعنا أن نحكم على هذه المسرحيات بقراءتها قراءة صامتة، ذلك أن الألفاظ(7/249)
عند اليونان لم تكن إلا صورة فنية معقدة ينسج منها الشعر، والموسيقى، والتمثيل، والرقص، وتتألف منها كلها وحدة عميقة متحركة (1).
ولكن المسرحية رغم هذا هي أهم شيء، والجائزة تمنح لها أكثر مما تمنح للموسيقى، وتمنح للتمثيل أكثر مما تمنح للمسرحية؛ وكان في وسع الممثل الماهر أن يرفع من شأن مسرحية متوسطة فتفوز هي بالجائزة (26). ولم يكن الممثل - وهو دائماً من الذكور - شخصاً محتقراً كما كانت الحال في رومة؛ بل كان يكرم أعظم تكريم، فيعفى من الخدمة العسكرية، ويمر آمناً بين صفوف الجند في زمن الحرب. وكان يلقب هبكريتسس Hypokrites، وكان معنى هذا اللفظ عندهم هو المجيب، أي المجيب على النشيد الجماعي. ولم يؤد الدور الذي يقوم به الممثل من انتحال شخصية إنسان آخر إلى تغيير معنى هذه الكلمة فيصبح معناها "المنافق" إلا بعد ذلك العهد. وكان الممثلون يؤلفون لهم طائفة أو نقابة قوية تسمى نقابة "الفنانين الديونيشيين"، انتشر أعضاؤها في جميع بلاد اليونان؛ وكانت جماعات من الممثلين تنتقل من مدينة إلى أخرى، يؤلفون مسرحياتهم ويلحنون موسيقاها، ويصنعون ملابسهم، ويقيمون مسارحهم. وكان دخل كبار الممثلين عظيماً كما هو شأنهم في جميع الأوقات، أما المتوسطون منهم فكان دخلهم قليلاً مزعزعاً (27)؛ وكانت أخلاقهم هي الأخلاق التي يتوقع الإنسان وجودها في أقوام يتنقلون من مكان إلى مكان، وتختلف معيشتهم بين الترف والفقر، يمنعهم توتر أعصابهم من أن يحيوا حياة سوية مستقرة.
_________
(1) ولقد ظلت الموسيقى ذات شأن هام في ثقافة عصر اليونان الزاهر (480 - 323) واشتهر من مؤلفيها في القرن الخامس ثيموثيوس الملطي Timotheus of Miletus وكتب مقطوعات كانت الموسيقى فيها تطغى على الشعر، وكانت عبارة عن قصة ذات حوادث صالحة للتمثيل. وقد زاد أوتار القيثارة اليونانية فجعلها أحد عشر وتراً، وقام بتجارب في الأساليب المعقدة المحكمة، فأثر بهذا جماعة المحافظين في أثينة وظلوا ينددون به حتى هم بالانتحار، ولكن يوربديز هدأ ثورته واشترك معه في عمله، وتنبأ بأن بلاد اليونان ستخسر ساجدة له، وقد صدقت نبوءته.(7/250)
وكان الممثل في المآسي والمسالي على السواء يلبس على وجهه قناعاً، يركب فيه عند فمه مبسم من الشبهان. وكانت طريقة تنظيم الصوت في الملهى اليوناني، ووضع المسرح بحيث يراه الجالس في أي مقعد من المقاعد، طريقة فذة مدهشة. على أن اليونان مع هذا رأوا أنه يحسن بهم أن يقووا صوت الممثل، وأن يساعدوا عين الناظر البعيد على تمييز مختلف أشخاص الرواية، وكانوا يضحون في سبيل هذا بكل مميزات الصوت والوجه وتعبيراتها. فإذا كانوا يمثلون على المسرح أشخاصاً حقيقيين مثل يوربديز في مسرحية إكلزيازوسي، وسقراط في مسرحية السحب، فإن الأقنعة كانت تحاكي ملامحهم الحقيقية، وتحاكيها في الغالب محاكاة هزلية.
وقد جاءت الأقنعة إلى المسرحيات من طريق التمثيل الديني، وكانت فيها من وسائل الإرهاب أو الفكاهة. وقد ظلت تسير على هذه السُنَّة في المسالي؛ وكان فيها من القبح، وغرابة الشكل، والإسراف في هذا كل ما يستطيع خيال اليونان أن يبتدعه. وكانت الوسائد والمساند تزيد من أجسام الممثلين، والقلانس العالية والأحذية ذات النعال السميكة تزيد من أطوالهم، كما كانت الأقنعة تقوي أصواتهم وتزيد في وجوههم. وقصارى القول أن الممثل القديم كان، كما يقول لوشيان، شخصاً ذا "منظر بشع مفزع" (28).
وليس النظارة أقل جدارة باهتمامنا من المسرحية نفسها. لقد كان الدخول لمشاهدة التمثيل مباحاً لجميع الرجال والنساء من كافة الطبقات (29). وكان جميع المواطنين بعد عام 420 ق. م. يعطون من الدولة الأبلتين اللتين يؤدونهما أجراً للدخول إذا كانوا في حاجة إليهما. وكان النساء يجلسن بمعزل عن الرجال كما كان للسراري مكان خاص بهن؛ وقد جرت العادة أن تمنع النساء الساقطات من حضور المسرحيات إلا إذا كانت المسرحية مسلاة (30).(7/251)
وكان النظارة جماعة مرحين ليسوا أحسن ولا أسوأ أخلاقاً من أمثالهم في غير بلاد اليونان. وكانوا وهم يشاهدون التمثيل ويستمعون إليه يأكلون البندق والفاكهة ويشربون الخمر. وكان أرسطاطاليس يقترح أن تقدر قيمة إخفاق المسرحية بمقدار ما يؤكل من الطعام في إثناء تمثيلها. وكانوا يتنازعون المقاعد، ويصفقون ويصرخون لمن يحبون من الممثلين، ويصفرون ويزمجرون حين يغضبون؛ فإذا رأوا ما يدعوا إلى احتجاج أقوى من هذا، دفعوا المقاعد بأقدامهم إلى الأرض، وإذا ثاروا أخرجوا الممثل عن المسرح بالزيتون أو التين أو الحجارة (31). وكاد إسكنيز أن يلقى حتفه رجماً بالحجارة عقاباً له على وضع مسرحية بغيضة، وكاد إسكلس أن يقتل لأن النظارة اعتقدوا أنه أفشى بعض أسرار الطقوس الإليوزينية الغامضة. وقد حدث أن استعار موسيقى كمية من الحجارة ليبني بها بيتاً، ووعد من استعارها منه أن يردها إليه مما سيجمعه من عمله في المسرحية التالية (32). وكان الممثلون في بعض الأحيان يستأجرون جماعة من المصفقين، لكي يطغى تصفيقهم على ما يخشونه من صفير النظارة، وكان بعض الممثلين الهزليين يلقون بالبندق إلى النظارة يرشونهم به لكي يظلوا هادئين (33). وكان النظارة يستطيعون إذا شاءوا أن يحولوا دون إتمام التمثيل بما يحدثونه من ضجة متعمدة، ويحتمون تمثيل المسرحية الثانية (34). وبهذه الطريقة كان يمكن اختصار البرنامج التمثيلي إلى الحد الذي يطيقونه.
وكان التمثيل في مدينة ديونيشيا يدوم ثلاثة أيام، تمثل في كل منها خمس مسرحيات - ثلاث مآس ومسرحية خرافية يكتبها شاعر، ومسلاة يكتبها شاعر آخر (35). وكان التمثيل يبدأ في الصباح الباكر ويستمر إلى ما بعد الغروب؛ ولم تكن مسرحية ما تمثل مرتين في ملهى ديونيشس إلا في أحوال نادرة،(7/252)
فإذا لم يشاهدها بعضهم في ملهى هذه المدينة استطاع أن يشاهدها في ملاهي غيرها من المدن اليونانية، أو أن يشاهدها ممثلة تمثيلاً أقل روعة على مسرح قروي في أتكا. وبلغ عدد المسرحيات الجديدة التي مثلت في أثينة بين عامي 480، 380 نحو ألفي مسرحية (36). وكانت الجائزة التي تمنح لأحسن المآسي الثلاث عنزة، والتي تمنح لأحسن مسلاة سلة ملأى بالتين وزقاً من الخمر؛ أما في العصر الذهبي فكانت الجوائز الثلاث التي تمنح للمأساة، والجائزة الوحيدة التي تمنح للمسلاة، بدرة من المال تقدمها الدولة. وكان المحكمون العشرة يختارون بالقرعة في الملهى نفسه في صباح اليوم الأول من أيام المباراة، وكانوا يختارون من بين ثبت طويل يحتوي أسماء من يرشحهم المجلس لهذا الغرض، فإذا انتهت المسرحية الثالثة كتب كل قاضٍ على لوحة ما يختاره من المسرحيات لنيل الجوائز الأولى والثانية والثالثة، ثم وضعت اللوحات جميعها في قارورة ليختار الأركون خمساً منها حيثما اتفق. وهذه الأحكام الخمسة مجتمعة تنال الجائزة النهائية، أما الخمسة الثانية فتتلف دون أن تقرأ. ولهذا فإن أحداً من الناس لم يكن يعرف مقدماً من هم القضاة، أو أيهم سيكون الحكَم فعلاً. على أنه كان يحدث في بعض الأحيان ورغم هذه الاحتياطات أن تقدم الرشا للمحكمين، أو أن يرهبوا لكي يحكموا لشخص بعينه. ويشكو أفلاطون من أن القضاة لخوفهم من الجماهير كانوا في كل مرة تقريباً يقضون حسب ما يوحي به تصفيق الجماهير، ويقول إن هذا "الحكم المسرحي" يفسد المؤلفين والنظارة جميعاً (38). فإذا انتهت المباراة توج الشاعر الفائز ومنظم فرقة المنشدين بالحلباب (1)، وكان الفائزون في بعض الأحيان يقيمون نصباً كالنصب الذي أقيم لليسكراتس Lysicraltes، ليخلدوا به فوزهم. وكان الملوك أنفسهم يتبارون لنيل هذا التاج.
_________
(1) Ivy نقلاًً عن معجم الدكتور شرف. (المترجم)(7/253)
ويقرر حجم الملهى وتقاليد الاحتفال طبيعة المسرحيات اليونانية إلى حد بعيد. وإذ كان من غير المستطاع إظهار الفروق الضعيفة بين الشخصيات بملامح الوجه أو تغيير نبرات الصوت، فقد كانت الدقة في تصوير شخصيات المسرحية قليلة الوجود في الملهى الديونيشي. لقد كانت المسرحيات اليونانية دراسة للأقدار أي للإنسان في كفاحه مع الآلهة، أما المسرحيات التي كتبت في عصر الملكة إليزابيث فكانت دراسة في تتابع الحوادث أي دراسة للإنسان في صراعه مع أخيه الإنسان، وكانت الجيدة منها دراسة في الأخلاق أي دراسة للإنسان في صراعه مع نفسه. وكان النظارة اليونان يعرفون مقدماً مصير كل شخصية من الشخصيات الممثلة، كما يعرفون نتيجة كل حادثة من حوادث التمثيل؛ ذلك بأن العادات الدينية كان لا يزال لها في القرن الخامس من القوة ما يكفي لتحديد موضوع المسرحيات الديونيشية بحيث لا يخرج عن قصة من الأساطير والخرافات الشائعة عند اليونان الأولين (1). ولم يكن في المسرحية شيء من ترقب النتائج غير المعروفة أو من المفاجآت، بل كان فيها بدلاً من هذا لذة الشعور السابق بالنتائج المرتقبة ومعرفة ما سيكون قبل وقوعها. وكان مؤلفو المسرحيات جيلاً بعد جيل يقصون على النظارة أنفسهم القصة بعينها؛ ولم يكن بينهم اختلاف إلا في الشعر، والموسيقى، والتفسير، والفلسفة. وحتى الفلسفة نفسها كانت
_________
(1) ولقد كانت هناك مسرحيات قليلة مأخوذة من تاريخ اليونان بعد عهد الأساطير. ولم يبق من هذه المسرحيات الأخيرة حتى الآن إلا مسرحية "المرأة الفارسية" لإسكلس. وقد مثل فرنكس Phrynichus في عام 493 "سقوط ميليطس"، ولكن اليونان كانوا يحزنون أشد الحزن حين يذكرون استيلاء الفرس على مدينتهم الجديدة، ولهذا فأنهم فرضوا على فرنكس غرامة قدرها ألف درخمة لهذه البدعة الجديدة التي أدخلها في التأليف المسرحي وحرموا إعادة تمثيل المسرحية (39). ولدينا من الشواهد ما يدل على أن ثمستكليز كان يدبر في السر تمثيل هذه المسرحية ليتخذها وسيلة لإثارة حمية الأثينيين ودفعهم إلى محاربة الفرس (40).(7/254)
تحددها التقاليد إلى حد كبير: فترى الموضوع الرئيسي في مسرحيات إسكلس وسفكليز هو العقاب الذي تفرضه الآلهة الحاسدة أو الأقدار اللاشخصية جزاء على التعاظم الوقح والتكبر عليها وعدم تعظيمها؛ والمغزى الذي يتكرر على الدوام هو ما في إطاعة صوت الضمير والشرف وما في الاعتدال المتواضع من حكمة بالغة. وإن اجتماع الفلسفة بالشعر، وبتتابع الحوادث، والموسيقى، والغناء والرقص هو الذي جعل المسرحيات اليونانية من طراز جديد في تاريخ الأدب. وهو الذي جعلها ترقى منذ نشأتها تقريباً إلى درجة من العظمة والفخامة لم ترق إلى مثلها فيما بعد.(7/255)
الفصل الثالث
إسكلس
ونقول تقريباً عامدين، فكما أن وجود عدد كبير من ذوي المواهب المتوارثة والمتتابعة يمهد السبيل إلى ظهور العباقرة، فإن كاتباً مسرحياً، لا نرى خيراً من أن ننسى اسمه وأن نكرمه رغم هذا النسيان، قد عاش بلا ريب بين ثسبيس وإسكلس. ولعل وقوف أثينة الموفق في وجه الفرس هو الذي بعث فيها العزة والقوة الدافعة اللتين لابد منهما لوجود عصر المسرحيات الكبرى، كما أن الثروة التي أتت بها التجارة والإمبراطورية في أعقاب الحرب قد أعانت على قيام المباريات الديونيشية في الأغاني والمسرحيات الغنائية. وكان إسكلس يحس في قرارة نفسه بهاتين العزة والقوة الدافعة، فكان ككثيرين غيره من كتاب اليونان في القرن الخامس يكتب ويستمتع بالحياة، ويعرف كيف يعمل وكيف يتكلم. وأخرج في عام 499 وهو في السادسة والعشرين من عمره مسرحيته الأولى؛ وفي عام 490 حارب هو وأخواه في واقعة مرثون وأظهروا من الشجاعة ما جعل أثينة تأمر بعمل صورة تخلد بها بطولتهم؛ وفي عام 484 نال جائزته الأولى في العيد الديونيشي؛ وفي عام 480 حارب في أرتميزيوم وسلاميس، وفي عام 479 في بلاتيه؛ وفي 476، 470 زار سرقوصة واستقبل بمظاهر التكريم في بلاط هيرون الأول؛ وفي 468 انتزع منه سفكليز الشاب الناشئ الجائزة الأولى للمسرحية بعد أن ظل هو مسيطراً على الأدب الأثيني جيلاً كاملاً، وفي عام 467 عاد إلى مكانته العليا على أثر ظهور مسرحيته "سبعة ضد طيبة"، وفي عام 458 نال آخر انتصاراته وأعظمها بإخراج أورستيا مسرحيته الثلاثية؛ وفي عام 456 عاد إلى صقلية، حيث وافته منيته في تلك السنة نفسها.(7/256)
وكانت الحاجة ماسة إلى رجل بهذه الهمة ليصوغ المسرحية اليونانية في صورتها النهائية؛ فقد كان إسكلس هو الذي أضاف ممثلاً ثانياً إلى الممثل الأول الذي أخرجه ثسبيس من بين فرقة المغنين، وأتم بذلك نقل الترتيلات الديونيشية من قصيدة دينية غنائية إلى مسرحية (1)، وكتب سبعين (ويقول بعضهم تسعين) مسرحية، لم يبق منها إلا سبع. وليست الثلاث الأولى من هذه المسرحيات ذات شأن كبير (2)؛ وأشهرها كلها مسرحية بروميثيوس المقيد وأعظمها هي التي تتكون منها مسرحية أورستيا الثلاثية.
وقد تكون مسرحية بروميثيوس المقيد هي الأخرى جزءاً من مسرحية ثلاثية وإن لم نجد مؤرخاً قديماً يؤيد هذا الظن. فنحن نسمع عن مسرحية دينية تدعى بروميثيوس جالب النار، ولكنها كانت تمثل مستقلة عن مسرحية بروميثيوس المقيد في مجموعة أخرى من المسرحيات (41). ولدينا قطع صغيرة باقية من مسرحية بروميثيوس الطليق من تأليف إسكلس؛ وتكاد هذه القطع أن تكون خالية من المعاني، ولكن العلماء الحريصين يؤكدون لن أننا لو حصلنا على نص المسرحية كاملاً لوجدنا إسكلس يجيب إجابة مقنعة عن جميع الضلالات التي تُنطق بها المسرحية الحالية بطلها. وحتى لو أخذنا بهذا الرأي فإنا لا يسعنا إلا أن نعجب كيف يطيق النظارة الأثينيون الاستماع إلى تجديف هذا الجبار في حق
_________
(1) لم يكن عدد الممثلين في مسرحيات إسكلس يزيد على اثنين، ولكن الأدوار التي يمثلانها في أية مسرحية لم يكن يحددها إلا أن شخصيتين من أشخاص المسرحية لا أكثر يمكن أن يظهرا على المسرح في وقت واحد. وكان رئيس فرقة المرتلين يعمل أحياناً ممثلاً ثالثاً، ولم يكن صغار الشخصيات كالخدم والجند وأمثالهم يعدون من الممثلين.
(2) ومسرحية "المرأة المبتهلة" ضئيلة الشأن، وللمرتلين فيها المكانة العليا. ومثل هذا يقال عن مسرحيات "المرأة الفارسية" فهي غنائية قبل كل شيء، وتصف وصفاً واضحاً معركة سلاميس. أما "سبعة ضد طيبة" فكانت القسم الثالث من مسرحية ثلاثية تروي قصة الملك لايوس Lauis وزوجته الملكة جوكستا Jocasta، وكيف قتل ابنهما أوديب أباه وتزوج أمه، ثم تصف النزاع الذي قام بين أبناء أوديب من أجل عرش طيبة.(7/257)
الآلهة في عيد ديني. ونجد بروميثيوس في مستهل المسرحية مشدوداً إلى صخرة في جبال القوقاز شده إليها هفستس Hephaestus بأمر زيوس حين غضب على بروميثيوس لأنه علم الآدميين فن النار ويقول هفستس:
يا ابن ثميس يا حصيف الرأي يا حكيم!
لقد كتب عليك أن تشد بالأغلال
إلى هذه الصخرة العالية التي لا يرقاها إنسان
ولا تسمع فيها صوت آدمي
أو ترى وجه أحد ممن كنت تحبهم، وحيث تذبل زهرة جمالك
محترقة في حر الشمس اللافح الصافي.
وسيقبل الليل مزادنا بالنجوم
وتتسلى بضلاله، فإذا طلعت الشمس
بددت بأشعتها صقيع الصباح؛
ولكن شعورك ببلواك الحاضرة يقض مضجعك
مهما يكن ما تتعرض له من أخطار، لأن أحداً لا يمد يده
لحل وثاقك. إن هذا هو الذي تجنيه من حبك لبنى الإنسان،
لأن زيوس شديد صارم، ولأن الملوك المحدثين قساة غلاظ الأكباد
وبتحدي بروميثيوس، وهو معلق في الصخرة لا حول له ولا طول، رب أولمبيس، ويعد في زهو وكبرياء الخطوات التي نقل بها الحضارة إلى الخلائق الأولين الذين كانوا حتى ذلك الوقت:
يعيشون كالنمل الأخرق تحت الثرى في الكهوف الخاوية التي لا تدخلها أشعة الشمس، ولا تصل إليها دلائل على حلول الشتاء، ولا يعطرها شذى أزهار الربيع، ولا تملؤها فاكهة الصيف؛ ولكنهم كانوا يعملون كل شيء وهم عمى البصائر لا يخضعون لقانون، حتى علمتهم كيف تشرق النجوم وتغرب(7/258)
في أماكن خافية على عقولهم؛ واخترعت لهم العدد باعث الفلسفة، وعلمتهم تركيب الحروف، ووهبت لهم الذاكرة صانعة كل شيء، وأم التفكير الحلو الجميل. وكنت أول من ذلل الحيوان لخدمة الإنسان ... وأنا دون سواي الذي ابتدعت السفن ... وأنا الذي اخترعت كل هذه الفنون لبنى الإنسان لا أجد الآن وسيلة أنجي بها نفسي" (43).
وتحزن الأرض كلها لحزنه، "فإذا تلاطمت أمواج البحر صرخت، وخرج من أعماق البحار أنين حزين، وانبعث من كهوف الموتى عويل". وترسل الأمم كلها تعازيها إلى هذا السجين السياسي، وتأمره أن يذكر أن الألم يطوف بكل الخلائق، "فالحزن يسير في الأرض، ويجلس عند قدمي المخلوقات واحداً بعد واحد"، ولكنهم لا يفعلون شيئاً لإنقاذه. ويشير عليه "أقيانوس" بالخضوع لزيوس "لأن الذي يحكم، يحكم بالقسوة لا بالحق"؛ وتعجب الأقيانوسات بنات البحر ولا تدري هل الإنسانية جديرة بأن يعذب أحد من أجلها فيصلب على هذا النحو؛ "لقد كانت تضحيتك هذه أيها الحبيب تضحية لا جدوى منها. ألم تر الجنس البشري ضعيفاً في جهده ونشاطه، يتألف من حالمين خياليين مكبلين بالأغلال؟ " (44). ومع هذا فإن تلك البنات يعجبن به إعجاباً يحملهن على البقاء إلى جانبه حين يهدده زيوس بإلقائه إلى طرطروس Tartarus ليواجهن معه الصاعقة التي تقذف به وبهن إلى الهاوية. غير أن بروميثيوس تمنع عنه راحة الموت لأنه من الآلهة ومن أجل ذلك يرفع في الخاتمة المفقودة للرواية الثلاثية من طرطروس ليشد مرة أخرى إلى صخرة جبلية، ويرسل زيوس نسراً ينخر قلب المارد الجبار. لكن القلب ينمو بالليل بنفس السرعة التي ينخره بها النسر بالنهار، وبهذه الطريقة يقاسي بروميثيوس العذاب مدى ثلاثة عشر جيلاً من أجيال الآدميين. ثم يقتل الجبار الرحيم هرقل النسر ويقنع زيوس بفك أغلال(7/259)
بروميثيوس، ويندم هذا على فعلته ويصطلح مع زيوس القادر على كل شيء، ويضع في إصبعه الخاتم الحديدي رمز الضرورة.
وفي هذه المسرحية الثلاثية القوية يكرر إسكلس موضوع المسرحيات اليونانية - وهو كفاح الإرادة البشرية ضد القدر المحتوم - وموضوع حياة بلاد اليونان في القرن الخامس - وهو الصراع بين الفكر الثائر والإيمان التقليدي. والنتيجة التي يستخلصها نتيجة غير صريحة، ولكنه يدرك قضية الثائر ويحبوها بعطفه كله؛ ولسنا نجد حتى في مسرحيات يوربديز مثل ما نجده هنا من النظرة الانتقادية لرب أولمبس، وما أشبه هذه المسرحية بالفردوس المفقود يحتل فيها الملك الساقط مكان بطل القصة رغم ما يتصف به الشاعر من تقى وصلاح. والراجح أن ملتن كان كثيراً ما يذكر بروميثيوس وهو يؤلف الخطب البليغة التي ينطق بها الشيطان. وكان جوته مولعاً بهذه المسرحية، واتخذ بروميثيوس أداة يعبر بها عن نزعة الشباب الجامح؛ أما بيرن فقد اتخذه نموذجاً ينسج على منواله طول حياته؛ وأعاد شلي Shelley، وهو الذي كان على الدوام هدفاً لنوب الدهر، القصة إلى الحياة في قصيدته المشهورة بروميثيوس الطليق التي لا يخضع فيها الجبار الثائر قط. وتنطوي هذه الخرافة على عدد كبير من الاستعارات والتشبيهات: منها أن العذاب هو ثمرة شجرة المعرفة، ومنها أن معرفة المستقبل تحطم قلب الإنسان كمداً؛ وأن العذاب والصلب هما جزاء المخلص على الدوام؛ وأن الإنسان مضطر في آخر الأمر أن يرضى بالقيود Man Muss Enstagen، وأن عليه أن يحقق غايته داخل نطاق طبيعة الأشياء. وذلك لعمري موضوع جليل، يمكن إسكلس بفضل لغته الجزلة من أن يجعل من بروميثيوس مأساة من الطراز العظيم". ولم نر قط الكفاح بين العلم والخرافة، أو بين الاستنارة والجهل، أو بين العبقرية والتحكم، قد صور بأقوى مما صور به هنا، أو سما في الرمزية أو في الصراحة إلى أسمى مما سما به في هذه المأساة. ويقول شلجل(7/260)
Schlegel في هذا: "إن المآسي الأخرى التي أنتجها المؤلفون اليونان مآس عادية أما هذه فهي المأساة الحقة" (45).
ومع هذا فإن أرستيا أعظم منها - وهي بإجماع الآراء أجمل المسرحيات اليونانية على الإطلاق، ولعلها أجمل المسرحيات في العالم كله (46). وقد مثلت في عام 458، وأكبر الظن أن تمثيلها حدث بعد عامين من تمثيل مسرحية بروميثيوس المقيد وقبل أن يموت مؤلفهما بعامين. وموضوع المسرحية هو نشأة العنف من العنف، والجزاء المحتوم الذي لا بد أن يؤدي إليه الكبرياء والتطرف المصحوبان بالعتو والصلف. ونحن نسمي القصة خرافة، ولكن اليونان كانوا يسمونها تاريخاً، ولعلهم كانوا على حق في هذه التسمية. وهذه القصة كما يرويها اثنان من كبار كتاب المسرحيات اليونان يمكن أن تسمى أطفال تانتلوس لأن هذا الملك الفريجي المستهتر الفخور بثرائه هو الذي بدأ سلسلة الجرائم الطويلة، واستنزل غضب ربات الانتقام جزاء له على سرقة شراب الآلهة وطعامها، وتقديم الطعام المقدس لابنه بلويس؛ وفي كل عصر من العصور يجمع بعض الناس من الثروة أكثر مما يليق بالإنسان، ويستخدمونها لإفساد أبنائهم. وفي هذه القصة ترى كيف استطاع بلوبس أن يستحوذ على عرش إليس Elis بشر الوسائل، وكيف اغتال بعدئذ شريكه في جرمه، وتزوج ابنة الملك الذي خدعه وقتله، ثم رزق من هبوداميا Hippodamia بثلاثة أبناء: ثيستيز Theyestes وإيروبي Aerope وأتروس Atreus. وفسق ثيستيز بإيروبي؛ وانتقم أتروس لأخته بأن أطعم أخاه أبناءه في وليمة؛ فما كان إيجسثس Aegisthus بن ثيستيز من أخته إلا أن أقسم لينتقمن من أتروس وأبنائه. وكان لأتروس ولدان هما أجممنون ومنلوس، وتزوج أجممنون كليتمنسترا ورزق منها ابنتين هما إقجينيا وإلكترا وولداً واحداً هو أرستيز. ولما أن سكتت الريح ووقفت سفن أجممنون عند أويس وهي في طريقها إلى طروادة، روعت كليتمنسترا حين أضحى أجممنون بابنته إقجينيا لكي تهب الريح، وبينما كان أجممنون يحاصر(7/261)
طروادة أخذ إيجسثس يغازل زوجته الحزينة، فمالت له وائتمرت معه على قتل الملك. ومن هذه النقطة يبدأ إسكلس قصته.
وجاءت الأنباء إلى أرجوس بأن الحرب قد وضعت أوزارها، ونزل أجممنون الفخور على شواطىء البلوبونيز "مسربلاً بدروع من الصلب وترتعد الجيوش فرقاً إذا غضب"، واقترب من ميسيني، ويظهر جماعة من الكبراء أمام قصر الملك وينشدون نشيداً يعيد إلى الأذهان تضحية أجممنون بإفجينيا.
"وتسلح على مهل بما لا بد من التسلح به، وتحركت في صدره ريح عجيبة هزته هزاً، ريح من الأفكار السود، نجسة، دنسة؛ فقام وقد امتلأ قلبه جرأة، لأن الناس تقوى قلوبهم إذا عميت بصائرهم؛ وهم بتنفيذ رغبته الدنيئة التي أورثته الحزن فيما بعد؛ بل إنها هي الحزن بعينه. وهكذا تحجر قلب هذا الرجل فقتل ابنته لكي يستطيع بهذا القتل أن يثأر لنفسه من ضحكة ضحكتها امرأة وأن يعين سفائنه على السير ...
"وألقت بقميصها الزعفراني اللون على الأرض بقوة وغضب مكبوت لم تنطق به؛ ونفذت في قلب كل رجل من أولئك الرجال المحاربين القتلة سهام الرأفة التي أطلقتها الفتاة من عينيها، وارتسمت في عقولهم صورة وجه يحاول بقوة ما أعجبها أن يستدر الرحمة من القلوب، وجه الفتاة الصغيرة التي كانت ترقص إلى جانب سفينة أبيها. ولم يؤثر ذلك الصوت البريء في قلب الأب حين انضم إلى صوته بعد أن صبت الكأس الثالثة" (47).
ويدخل رسول أجممنون ليعلن قدوم الملك. ويدرك إسكلس بخياله الرقيق ما يهتز به قلب الجندي البسيط من نشوة السرور وهو يطأ بقدمه أرض بلاده بعد غيابه الطويل؛ فينطق الجندي بقوله: "إني الآن مستعد للموت إذا أراد الله أن أموت". ويصف الجندي لفرقة المرتلين أهوال الحرب وأقذارها،(7/262)
والمطر الذي تنفذ مياهه إلى العظام، والحشرات التي تضاعفت في الشعر، وحرارة الصيف الخانقة في إليون، وبرد الشتاء القارس الذي تساقطت منه الطيور جميعها موتى. وتخرج كلتيمنسترا من القصر كئيبة متهيجة الأعصاب، ولكنها مع ذلك ذات كبرياء، وتأمر أن تنثر في طريق أجممنون السجف الثمينة. ويقبل الملك في عربته الملكية، يحف به جنوده، منتصب القامة فخوراً بما أحرزه من نصر، ومن خلفه عربة أخرى تحمل كسندرا الجميلة السمراء، وهي الأميرة والمتنبئة الطروادية، جارية أجممنون ومشبعة شهوته رغم أنفها، وهي التي تتنبأ وقلبها غاضب حاقد بأنه سوف يلقى جزاءه، كما تتنبأ في حزنها بموتها. وتصف كلتيمنسترا للملك بلسان زلق شوقها لعودته خلال السنين الطوال: "لقد نضبت من أجلك ينابيع دموع عيني الفياضة، فلم تبق فيها قطرة واحدة، ولكنك تستطيع أن ترى فيهما كيف أضناهما سهري، وأنا أترقب في حزن بشائر نصرك المبطئة، وكيف كنت أقوم مسرعة من نومي المضطرب إذا هزت البعوضة جناحها لأني كنت أحلم بمتاعبك المضنية الطويلة، وقد تجمعت كلها أثناء نومي القصير" (48). ويرتاب أجممنون في إخلاصها ويلومها أشد اللوم على إسرافها في فرش السجف المطرزة تحت سنابك خيله، ولكنه يتبعها إلى القصر وتصحبه كسندرا مذعنة مستسلمة. وتردد فرق المرتلين بصوت منخفض في خلال فترة الراحة الطويلة أغنية تنذر بشر مستطير. ثم تنبعث من الداخل صرخة كان كل سطر من أسطر المأساة يهيئ الآذان لسماعها، صرخة أجممنون حين يغتاله إيجسثس وكلتيمنسترا. وتفتح الأبواب، وتظهر كلتيمنسترا والبلطة في يدها والدم يلوث جبهتها، وقد وقفت منتصرة فوق جثتي كسندرا والملك، وترتل الفرقة خاتمة المسرحية:
"ألا ليت الله يمن عليَّ بأن يعاجلني الموت فجاءة دون ألم أشد، ومن غير(7/263)
انتظار مؤلم طويل، فأقضي نحبي وأنام النوم الأبدي الذي لا صحوة منه. ليت الله يمن عليَّ بهذا بعد أن لاقى الردى من كان يرعاني حبه" (49).
والمسرحية الثانية من هذه الثلاث المسرحيات المجتمعة هي الكئفوري Choephoroe أو حاملات قربان الخمر. واسمها مشتق من جماعة النساء اللاتي يأتين بالقرابين إلى قبر الملك. وكانت كلتيمنسترا قد أرسلت أرستيز ابنها الصغير ليربى في فوسيس Phocis القاصية عساه أن ينسى مقتل أبيه، ولكن شيوخ تلك الجزيرة يعلمونه قانون الثأر القديم: "إن نقطة الدم المراقة تتطلب دماً جديداً"؛ وكانت الدولة في تلك الأيام المظلمة تترك عقاب القتل لأولياء القتيل، وكان الناس يعتقدون أن روحه لا تجد الراحة حتى يثأر له. واستحوذت فكرة الانتقام على أرستيز وأقضت مضجعه، وكانت توحي إليه أن يقتل أمه وإيجسثس. وتحقيقاً لهذا الغرض يأتي سراً إلى أرجوس مع رفيقه بيلديز Pylodes، ويبحث عن قبر أبيه، ويضع عليه خصلة من شعره. ويسمع الشبان وقع أقدام ساكبي قربان الخمر على القبر فيبتعدان عنه ويصغيان في ذهول إلى إلكترا أخت أرستيز الحزينة وقد أقبلت مع جماعة من النساء، ووقفت عند القبر، وأخذت تناجي روح أجممنون وتدعوه لأن يثير أرستيز فيأخذ بثأر أبيه. وهنا يكشف أرستيز عن نفسه، فتصب من قلبها المثقل بالهموم في عقله الساذج أن عليه أن يقتل أمه، ويذهب الشابان إلى قصر الملك في زي تاجرين؛ وترحب بهما كلتيمنسترا وتكرمهما فيرق لها قلباهما، ولكن أرستيز يختبرها بقوله إن الغلام الذي أرسلته إلى فوسيس قد مات؛ ويستولي عليه الفزع حين يرى البهجة بادية في حزنها. وتستدعي إيجسثس يستمع معها إلى أن الفتى الذي يخشيان انتقامه قد قضى نحبه، فيقتله أرستيز ويدفع أمه إلى القصر، ثم يخرج بعد هنيهة وقد جن جنونه أو كاد لشعوره بأنه قتل أمه ويقول:(7/264)
"وقبل أن يذهب عقلي أعلن في هذا المكان إلى كل من يحبني، وأعترف أني قتلت أمي" (50).
وفي المسرحية الثالثة نرى الشاعر يصور أرستيز تطارده ربات الانتقام المكلفة بعقاب المجرمين؛ وتشتق المسرحية اسمها من اسم هذه الإلهات المُلَطَّف "اليومنيديات Eumenides " أي "الراجيات الخير". ويصبح أرستيز طريداً مهدر الدم، يتجنبه سائر الناس؛ تتعقبه ربات الانتقام أينما ذهب، وتحوم حوله في صورة أشباح سود تنادي بسفك دمه. ويلقي الفتى بنفسه فوق مذبح أبلو في دلفي فيهدئ الإله روعه، ولكن شبح كلتيمنسترا يقوم من تحت الثرى ويوعز إلى ربات الانتقام ألا تتوانى عن تعذيب ولدها. ويسافر أرستيز إلى أثينة ويخر راكعاً أمام ضريح الإلهة أثينة ويتوسل إليها أن تنجيه. وتسمع أثينة نداءه وتصفه بالذي "كمله العذاب". وتحتج ربات الانتقام عليها فتدعوهن أن يعرضن قصة أرستيز على مجلس الأريبجس؛ ويمثل المشهد الأخير هذه المحاكمة العجيبة التي ترمز إلى استبدال حكم القانون بالقصاص وسفك الدماء. وتتولى أثينة ربة المدينة رياسة المجلس، وتعرض ربات الانتقام حجتهن في طلب الانتقام من أرستيز، ويدافع عنه أبلو. وتنقسم المحكمة على نفسها وتتساوى الأصوات، وترجح أثينة رئيسة المجلس الجانب الذي يريد تبرئة أرستيز، وتعلن براءته، وتقرر من ذلك الوقت رسمياً أن مجلس الأريبجس هو المحكمة العليا في أتكا، وأن حكمه السريع على القاتل سيطهر البلاد من المنازعات، وأن حكمته ستهدي الدولة إلى طريق النجاة مما يحيط بالشعب من أخطار. وتهدئ الإلهة بألفاظها العذبة ثائرة ربات الانتقام، وتكسب قلوبهن، وتقول زعيمتهن إن "نظاماً جديداً قد ولد في ذلك اليوم".
وتعد الأرستيا أروع آيات الأدب اليوناني بعد الإلياذة والأوذيسة، ففيها تظهر سعة الإدراك، ووحدة التفكير والتنفيذ، وقوة الترقي المسرحي، والقدرة(7/265)
على فهم أخلاق الناس، وروعة الأسلوب، وهي مميزات لا نراها مجتمعة مرة أخرى إلا في شكسبير. والمسرحية الثلاثية محبوكة حبكاً قوياً كأن أجزاءها ثلاثة فصول في مسرحية حديثة، فكل جزء منها يمهد للجزء الذي يليه ويستدعيه في تتابع منطقي محتو م لا مفر منه، وكلما أعقبت إحدى مسرحيات المجموعة المسرحية التي قبلها تزداد رهبة الموضوع، ويبدأ الإنسان يدرك كيف كانت هذه القصة تثير أحاسيس اليونان. ولسنا ننكر أن الرواية مثقلة بالكلام الكثير الذي لا يبرره مقتل أربعة أشخاص، وأن ما فيها من أغان كثيراً ما يكون غامضاً عسير الفهم، وأن ما في هذه الأغاني من تشبيهات واستعارات قد بولغ فيه كثيراً، وأن لغتها في بعض الأحيان ثقيلة خشنة متكلفة. لكن هذه الأغاني مع ذلك لا يفوقها شيء من نوعها، فهي مليئة بالعظمة والحنو، بليغة فيما تدعو إليه من دين جديد هو دين العفو والمغفرة، ومن فضائل النظام السياسي الذي يؤذن بالزوال.
ذلك أن الأرستيا تبلغ من التحفظ ما تبلغه برومثيوس من التطرف وإن لم يكن بينهما إلا فترة من الزمان لا تزيد على سنتين، لقد جرد إفيلتيز الأرببجس من اختصاصه في عام 462، وفي عام 461 قتل، وفي عام 458 عرض إسكلس في الأرستيا دفاعاً عن هذا المجلس قال فيه إنه أحكم هيئة في حكومة أثينة. وكان الشاعر في ذلك الوقت قد طال أجله وضرسته السنون، وكان في وسعه أن يفهم الشيوخ أكثر مما يفهم الشبان، وكان مثل أرسطوفان يتوق لأن يتحلى بفضائل رجال مرثون. ويريد أثنيوس منا أن نعتقد أنه كان سكيراً (51) ولكننا نراه في الأرستيا رجلاً متزمتاً يعظ الناس من فوق المسرح، ويحذرهم من الخطيئة وما يتبعها من عقاب، ويبين لهم ما يعقب الألم من حكمة، ويشرح قانون العتو والانتقام، وهو مبدأ آخر من مبادئ الخطيئة الأولى، ويقول إن كان عمل غي صالح سينكشف يوماً ما ويعاقب مقترفة في إحدى حيواته. وبهذا حاول التفكير(7/266)
اليوناني أن يوفق بين الشر والله، فيقول إن العذاب كله ناشئ من الخطيئة، ولو كانت خطيئة جيل من الأجيال البائدة. ولم يكن مؤلف بروميثيوس تقياً ساذجاً، ودليلنا على ذلك أن في مسرحياته، ومنها الأرستيا، كثيراً من العبارات الدالة على الإلحاد، وقد اتهم بالكشف عن أسرار الطقوس الدينية، ولم ينجه إلا شفاعة أخيه مينياس الذي كشف عما أصيب به من جروح في سلاميس (52). ولكن إسكلس كان يعتقد واثقاً أن الأخلاق الصالحة لها أن تعتمد على قوى غير قوى البشر لكي تصمد لقوة الغرائز المضرة بالهيئة الاجتماعية، وكان يرجو:
"أن يكون هناك واحد يستمع إلى الناس من عرشه الأعلى، بان أو زيوس أو أبلو، مطلع على الخلق، يعاقب على خرق القانون بالغضب ويتعقب من خرقه، وهو يقصد بهذا "تعذيب الضمير والجزاء الحق".
ومن أجل هذا تراه يجل الدين ويحاول أن يسمو عن الشرك، ويفكر في التوحيد.
"أي زيوس، زيوس، أينما يكون؛ إذا كان يحب أن يسمع هذا الاسم فسوف أدعوه به. أنقب في البر والبحر والهواء، فلا أجد في مكان ما ملجأ إلا إليه وحده، إذا نبذ عقلي، قبل موته، عبء هذا الغرور" (54).
وهو يرى أن زيوس هو طبيعة الأشياء مجسدة، وهو قانون العالم أو علته، وأن "القانون الذي هو القدر والأب الذي يدرك كل شيء يلتقيان هنا ويصبحان شيئاً واحداً" (55).
وربما كانت هذه الأبيات الختامية آخر ما نطق به من الشعر. ويعود بعد عامين من إخراج أرستيا إلى صقلية. ويعتقد البعض أن النظارة، وهم في العادة أكثر تطرفاً من القضاة، لم تعجبهم هذه المسرحية الثلاثية؛ ولكن يصعب التوفيق بين هذا الاعتقاد وبين ما قرره الأثينيون بعد بضع سنين،(7/267)
وعلى خلاف العادة، من إعادة تمثيل مسرحياته في ملهى ديونيشس. وقد أقبل على هذا كثيرون وظل إسكلس ينال الجوائز بعد وفاته. وبينما كان هذا يحدث إذ قتله نسر في صقلية، على ما تقول إحدى هذه القصص القديمة، بأن ألقى سلحفاة على رأسه الأصلع لأنه حسبه حجراً (56). وفيها دفن إسكلس ونقش على شاهد قبره تلك العبارة التي كتبها بنفسه والتي يدهشنا أنها لم تذكر شيئاً عن مسرحياته، والتي يفخر فيها بندوب جراحه:
تحت هذا الحجر يرقد إسكلس، الذي تحدثنا عن بسالته أيكة مرثون، أو ملك الفرس ذو الشعر الطويل الذي يعرفه حق المعرفة.(7/268)
الفصل الرابع
سفكليز
في عام 468 انتزع الجائزة الأولى للمأساة من إسكلس قادم حديث في سن السابعة والعشرين يسمى سفكليز (سوفكل) أي العاقل المكرم. وكان سفكليز هذا أسعد الناس حظاً ويكاد أن يكون أشدهم تشاؤماً. وكان موطنه الأصلي ضاحية كولونس إحدى ضواحي أثينة، وكان ابن صانع سيوف، ومن أجل هذا فإن الحروب الفارسية والبلوبونيزية التي أفقرت الأثينيين كلهم تقريباً جاءت لهذا الكاتب المسرحي بثروة طائلة (57). وكان فضلاً عن ثرائه رجلاً عبقرياً وسيماً جيد الصحة، نال جائزتي المصارعة والموسيقى - فجمع بذلك بين كفايتين لو شهدهما أفلاطون لاغتبط أشد الاغتباط بوجودهما في رجل واحد. وقد أمكنته مهارته في لعب الكرة وفي العزف على القيثارة من أن يقيم حفلات عامة في الفنين، وكان هو الذي اختارته المدينة بعد واقعة سلاميس ليقود شبان أثينة العراة في رقصة النصر ونشيده (58). وقد ظل محتفظاً ببهاء طلعته إلى أواخر أيامه، ويظهره تمثاله المحفوظ في متحف لاتران Lateran شيخاً ملتحياً بديناً ولكنه قوي طويل القامة. وقد نشأ في أسعد عهود أثينة، وكان صديقاً لبركليز وشغل في عهده أعلى مناصب الدولة؛ فكان في عام 443 أمين بيت المال الإمبراطوري؛ وفي عام440 كان أحد القواد الذين تولوا قيادة قواد أثينة في الحملة التي سيرها بركليز على ساموس، وإن كان من واجبنا أن نضيف إلى هذا أن بركليز كان يعجب بشعره أكثر من إعجابه بخططه الحربية. وعين بعد الكارثة التي حلت بأثينة في سرقوصة عضواً في لجنة الأمن العام (59)، واقترع(7/269)
بحكم منصبه هذا على عودة الدستور الألجركي في عام 411. وكان الشعب يعجب بأخلاقه أكثر من إعجابه بسياسته، فقد كان ظريفاً، لبقاً، متواضعاً، محباً للهو، وهب من قوة الجاذبية ما يكفر عن جميع أخطائه. وكان يحب المال (60) والغلمان (61)، حتى إذا ما بلغ سن الشيخوخة تحول حبه هذا نحو السراري (62)؛ وكان شديد الصلاح، وقد شغل مراراً منصب الكاهن (63).
وكتب سفكليز 113 مسرحية، لم يبق منها إلا سبع لا نعرف الترتيب الذي خرجت به. وقد نال الجائزة الأولى في الحفلات الديونيشية ثماني عشرة مرة، ونالها مرتين في الحفلات اللينيائية Lenaean، وحصل على أولى جوائزه في سن الخامسة والعشرين وعلى آخرها وهو في الخامسة والثمانين، وظل يسيطر على المسرح الأثيني ثلاثين عاماً، وكان له عليه من السلطان أكثر مما كان لمعاصره بركليز على الحكومة الأثينية. وهو الذي زاد عدد الممثلين إلى ثلاثة، وظل يقوم ببعض الأدوار حتى فقد صوته. وقد غير نظام المسرحية الثلاثية الذي كان يتبعه إسكلس وفضل أن يدخل المباريات بثلاث مسرحيات مستقلة كل منها عن الأخرى (وحذا حذوه يوربديز من بعده).
وكان إسكلس مولعاً بالموضوعات الكونية التي تطغى على أشخاص مسرحياته، أما سفكليز فكان مولعاً بالأخلاق، ويكاد أن يكون حديث النزعة في إدراكه للآثار النفسانية. ومسرحية "المرأة التراقينية" في ظاهرها مسرحية غنائية عاطفية؛ وخلاصتها: أن ديانيرا Deianeira تتملكها الغيرة من حب زوجها هرقل لأيولا Iola فتبعث إليه على غير علم منها بثوب مسمم يقضي عليه فتقتل هي نفسها. وليس الذي يعني به سفكليز في هذه القصة هو العقاب الذي يحل بهرقل - أي العقاب الذي كان يبدو لإسكلس أنه أهم ما في المسرحية - وليس هو عاطفة الحب القوية نفسها - وهي التي كانت تبدو أهم ما فيها في نظر يوربديز - بل الذي يعني به هو سيكولوجية الغيرة. وفي مسرحية(7/270)
أجاكس لا يعني المؤلف بأعمال القوة التي يقوم بها بطل المسرحية، بل إن الذي يعني به هو دراسة رجل ذهب عقله. ولا نكاد نرى في فلكتيتس حادثة ما، بل الذي نراه هو تحليل سافر للسذاجة التي أوذيت وللخيانة الدبلوماسية. والقصة في مسرحية إلكترا قليلة الشأن قديمة، ولقد كان إسكلس يفتتن بما تثيره القصة من مشاكل أخلاقية، أما سفكليز فيكاد يغفل هذه المشاكل في حرصه على دراسة كراهية الفتاة لأمها دراسة تحليلية نفسانية لا أثر للعاطفة أو للشفقة فيها. وقد اشتق من اسم هذه المسرحية اسم لنوع من الاضطراب العصبي كان موضوع البحث في يوم من الأيام، كما اشتق من مسرحية أوديب الملك اسم لنوع آخر من هذا الاضطراب.
وأشهر المسرحيات اليونانية بأجمعها مسرحية أوديب تيرانس. والفصل الأول من فصولها قوي الأثر: ترى فيه خليطاً من الرجال، والنساء، والغلمان، والبنات، والأطفال جالسين أمام قصر الملك في طيبة يحملون أغصان الغار والزيتون رمزاً لأنهم جاءوا راجين متوسلين. ذلك أن وباء قد اجتاح المدينة فاجتمع الشعب يطلب إلى الملك أوديب أن يقرب للآلهة قرباناً يسترضيها به. وتعلن إحدى النبوءات أن الطاعون سيذهب عن طيبة إذا خرج القاتل غير المعروف الذي اغتال ملكها السابق. ويعلن أوديب هذا القاتل أياً كان لعنة شديدة، لأن جريمته قد سببت هذا الشقاء كله للمدينة. وبداية المسرحية على هذا النحو خير مثل لتلك الطريقة التي يشير بها هوراس طريقة الاندفاع في وسط الأشياء In Medias Res أي مفاجأة النظارة بالمشكلة أولاً على أن يأتي شرحها فيما بعد. لكن النظارة في هذه المسرحية كانوا يعرفون مجرى الحوادث بطبيعة الحال لأن قصة ليوس Laius وأوديب وأبي الهول كانت جزءاً من القصص الشعبي اليوناني. وتقول الرواية المأثورة إن لعنة قد حلت بليوس وأبنائه لأنه أدخل إلى هلاس رذيلة غير طبيعية (64)، وكانت نتائج هذه الخطيئة التي أهلكت الناس(7/271)
جيلاً بعد جيل موضوعاً شائعاً للمآسي اليونانية. وقد قال الوحي إن ليوس وزوجته جكستا Jocasta سيرزقان ولداً يقتل أباه ويتزوج أمه. وكانت نتيجة هذه النبوءة أن وجد في العالم للمرة الأولى زوجان يريدان أن يكون أول أبنائهما بنتاً؛ ولكنهما رزقا ولداً، وأرادا ألا تتحقق النبوءة فعرضاه للموت على أحد التلال، حيث وجد راعٍ وسماه أوديب لتورم قدميه، وأهداه إلى ملك كورنثة وملكتها فتبنياه وربياه. ولما كبر أوديب عرف من مهبط الوحي أيضاً أنه قد كتب عليه أن يقتل أباه ويتزوج أمه. واعتقد أن ملك كورنثة وملكتها هما أبوه وأمه، ففر من المدينة واتخذ طريقه إلى طيبة. والتقى في الطريق بشيخ طاعن في السن فتشاجر معه وقتله وهو لا يعرف أن هذا الشيخ أبوه. ولما اقترب من طيبة التقى بأبي الهول، وهو مخلوق له وجه امرأة، وذنب أسد، وجناحا طائر. وقد سأل أبو الهول أوديب أن يجيب عن ذلك اللغز المشهور: "ما قولك في مخلوق ذي أربع أقدام، وثلاث أقدام، وقدمين؟ ". وكان أبو الهول يقتل كل من لا يعرف الجواب الصحيح عن هذا السؤال؛ واستولى الهلع على أهل طيبة واشتدت رغبتهم في تطهير طريق مدينتهم من هذا المخلوق المهول، فنذروا أن يكون ملكهم الثاني هو الرجل الذي يحل هذا اللغز، وذلك لأن أبا الهول قد قرر أن ينتحر إذا عرف إنسان الجواب الصحيح. وأجابه أوديب بقوله: "هو الإنسان؛ لأن الطفل الرضيع يحبو أولاً على أربع أقدام، فإذا كبر مشى على قدمين، وإذا هرم استعان بعصاً". وكانت إجابة عرجاء، ولكن أبا الهول رضي بها ووفى بوعده فقتل نفسه. ورحب الطيبيون بأوديب وعدوه منقذاً لهم، ولما لم يعد ليوس إلى المدينة اختاروا هذا القادم الجديد ملكاً عليهم. واتبع أوديب العادة المألوفة في المدينة فتزوج الملكة ورزق منها أربعة أبناء: أنتجوني، وبولينيسيز Polynices، وإتيكليز Eteocles وإزميني Ismene.
وفي المنظر الثاني في مسرحية سفكليز - وهو أقوى منظر في المسرحيات(7/272)
اليونانية بأجمعها - يأمر أوديب كاهناً من كبار الكهنة بأن يكشف إذا استطاع عمن قتل ليوس فيقول إن القاتل هو أوديب نفسه. وليس في الفجائع كلها فجيعة أشد وقعاً أو أعظم هولاً من إدراك الملك على الرغم منه أنه هو قاتل أبيه وزوج أمه. وتأبى جوكستا أن تصدق هذا النبأ وتقول إنه حلم فرويدي Freudian (1) ، وتؤكد لأوديب "أن كثيرين من الناس قد حلموا أنهم ضاجعوا أمهاتهم؛ ولكن الذي يرى أن هذه أضغاث أحلام يعيش طول حياته مستريح البال" (65). ثم تعرف الحقيقة كاملة فتشنق نفسها، ويجن أوديب من شدة الندم فيفقأ عينيه ويغادر طيبة منفياً عنها، وليس معه من يعينه في منفاه غير أنتجوني.
وفي مسرحية أوديب في كولونس (2) وهي الجزء الثاني من مسرحية ثلاثية غير مقصودة، نرى الملك السابق طريداً، أشيب الشعر، متكئاً على ذراع ابنته يطوف بالمدن يستجدي الناس الخبز. ويصل في طوافه إلى كولونس الظليلة، وينتهز سفكليز هذه الفرصة فينشد لقريته التي ولد فيها، ولزيتونها، أغنية من أحسن الأبيات اليونانية لا تستطاع ترجمتها ترجمة تظهر جمالها يقول فيها:
"أيها الغريب، إنك تنزل الآن في هذه الأرض، أرض الجياد والفرسان؛ تلك أرض لا كمثلها أرض سواها؛ هاهي ذي كولونس البيضاء تتلألأ. كم من مرة غنى العندليب بصوته الشجي وهو عائد إلى عشه، تخفيه الأيك الخضر، يروي قصته الحلوة الحزينة ... وترى النرجس في كل يوم يرتشف رضاب الندى فيتفتح، وتعلوه أول عناقيد من التيجان البيض!
_________
(1) أي من أحلام فرويد العالم النفساني الشهير، ووصف الحلم بأنه فرويدي من عند المؤلف بطبيعة الحال. (المترجم)
(2) كانت مسرحيات أوديب الملك، وأوديب في كولونس، وأنتجوني تمثل كل منها بمفردها مستقلة عن الأخرى.(7/273)
"وهنا تخرج الأرض عشباً عجيباً لم يتغن أحد بمثله في جزيرة بلبس Pelops الدورية القريبة، ولم ينبت في أرض آسية البعيدة. وهو نبات متجدد النظارة على الدوام، يجدد نفسه، ويتوالد بنفسه، يلقي الرعب في قلوب أعدائها المسلحين: فهو لا يبلغ في غير هذه البلدة ما يبلغه فيها من جمال وازدهار، بأوراقه الريشية الملساء ذات الزرقة السنجابية البراقة كالفضة، والذي يغذي البلدة بعصير زيتونه. ولن تستطيع قوة أو يد مخربة أن تخرب المدينة سواء كانت قوة الشباب الأهوج أو حكمة الشيخوخة المجربة لأن قرص زيوس السماء يرعاها هو والضياء الأزرق المنبعث من عين أثينة".
وكانت نبوءة قد سمعت بأن أوديب سيموت بجوار اليمنيديات، فلما عرف أنه الآن في أيكتهن المقدسة بكولونس أيقن هذا الشيخ الذي لم يجد في الحياة جمالاً أن الموت يحلو في ذلك المكان. وينادي لثسيوس ملك أثينة بأبيات كأنه يخترق بها حجب الغيب ويجمع فيها القوى التي كانت تعمل على إضعاف بلاد اليونان وهي فقر التربة، وقلة الإيمان، وضعف الأخلاق والرجال:
"إن آلهة السماء وحدها هي التي لا تصل إليها الشيخوخة ولا الموت لأي سبب من الأسباب، وكل ما عداها يعدو عليه الزمان المسيطر على كل شيء، فتذهب قوة الأرض، وتذبل زهرة الرجولة، وينعدم الإيمان، ويزدهر الإلحاد ازدهار الزهرة، ومن ذا الذي يستطيع أن يجد في شوارع الناس المفتوحة، أو في مكنون حبه الخفي ريحاً تهب صادقة إلى أبد الدهر؟ " (67).
ثم يبدو كأن أوديب يسمع نداء إله من الآلهة فيودع أنتجوني وإزميني وداعاً رقيقاً، ويسير إلى الأيكة المظلمة وليس معه إلا ثسيوس وحده.
"وسرنا قليلاً ثم التفتنا فإذا الرجل قد اختفى؛ ولم يبق إلا الملك (1)، وقد رفع إحدى يديه ليظل بها عينيه، كما يفعل الإنسان إذا تراءت له رؤية
_________
(1) ثسيوس.(7/274)
رهيبة مروعة لا تقوى عيناه على التطلع إليها ... وما من أحد غير ثسيوس يعرف كيف قضى نحبه ... فلعل إنساناً أرسلته الآلهة ليهدي خطاه، أو لعل الأرض قد أشفقت عليه ففغرت فاها وابتلعته حتى لا يصيبه ألم. وهكذا اختفى الرجل ولم يخلف وراءه شيئاً نحزن لأجله - لم يترك العالم بعد أن ينهكه المرض والألم؛ بل اختتم حياته، إن كان قد اختتمها، ختاماً عجيباً" (68).
وفي المسرحية الثالثة في ترتيب الحوادث، والظاهر أنها هي أول ما كتب من المسرحيات الثلاث، توارى أنتجوني الوفية في قبرها. فقد سمعت أن أخويها بولينيسيز وإتيكليز يتنازعان عرش المملكة، فعادت مسرعة إلى طيبة ترجو أن توفق بينهما، ولكنهما لا يصغيان إليها، ويوصلان الحرب حتى يقضى عليهما ويستولي كريون Creon حليف إتكليز على العرش، ويأمر ألا تدفن جثة بولينيسيز عقاباً له على ثورته. ولكن أنتجوني تعصى هذا الأمر وتدفن جثة أخيها لأنها تعتقد، كما يعتقد سائر اليونان، أن روح الميت لا تفتأ تعذب ما دامت جثته لم تدفن. وفي هذا المقام تغني فرقة المرتلين أغنية تعد من أشهر أغاني سفكليز:
"ما أكثر العجائب في هذا العالم، ولكن لا شيء أعجب من الإنسان؛ فهو يشق طريقه المحفوف بالأخطار خلال المضيق ذي الماء المزبد فوق متن البحار الصاخبة، تدفعه ريح الجنوب الهوجاء. والأرض أقدم الآلهة التي لا يعتريها نصب ولا وهن يفلحها ويقلبها سنة بعد سنة بمحراثه ونيره على رقاب الجياد.
"ويصيد بفخاخه المنسوجة طيور الهواء الحمقاء، ووحوش الغاب والفلوات، وسمك البحار المالحة. ألا ما أشد مكره. فهو يذلل بحيله التي لا آخر لها الثور الوحشي والأيل الذي يمرح حراً في الجبال، ويخضع للجامه الجواد الأشعث ذا اللبد. أما الكلام وإسداء النصح العاجل والذكاء فقد عرفها كلها بنفسه،(7/275)
وعرف كيف يسقط المطر السريع وكيف تهب الريح العاتية الطليقة التي تتجمد تحت سماء الشتاء. وهو مستعد لكل ما يصادفه، فقد عرف كيف يتحمل الوباء الوخيم، وكيف ينجو من كل ما يصيبه، ولكنه مع هذا كله لم يجد دواء يرد عنه الموت" (69).
ويحكم كريون أن تدفن أنتجوني حية، ويحتج ابنها هيمون على هذا الحكم الظالم الرهيب، فلا يفيد احتجاجه فيقسم لأبيه "إنك لن ترى وجهي بعد الآن". وهنا لأول مرة يحدث الحب أثره في مأساة سفكليز وينشد الشاعر لإله الحب نشيداً ظل الأقدمون يذكرونه عهداً طويلاً:
"أيها الحب؛ يا من لا يقوى على صدك شيء في الكفاح، كل الناس يخضعون إذا ألقيت عليهم نظرة من عينيك. الحب يرقد طول الليل على خد العذراء، ويطوي الربا والقفار، ويشق عباب البحار. أيها الحب يا من يقع الآلهة في أسرك، هل يقوى الآدميون على النجاة من قبضتك؟ " (70).
ويختفي هيمون، ويجد كريون في البحث عنه ويأمر جنوده بأن يفتحوا الكهف الذي دفنت فيه أنتجوني، فيجدها ميتة وإلى جانبها هيمون قد وطد العزم على الموت.
"ونظرنا، وفي قبوة الكهف المظلم رأيت الفتاة مخنوقة هناك، وقد لف حبل من التيل وعقد حول عنقها، وإلى جانبها حبيبها ممسك بجثتها الهامدة يندب عروسه الميتة ... فلما أن رآه الملك صرخ صرخة مروعة واتجه نحوه وهو يصيح: "أي ولدي، ماذا فعلت بنفسك؟ وماذا يؤلمك؟ وأية كارثة حلت بك فسلبت عقلك؟ أقبل يا ولدي أقبل، إن أباك يتوسل إليك". ولكن ابنه أحدق فيه بعينين كعيني النمر، وبصق في وجهه، ثم استل سيفه ذا المقبضين دون أن ينبس ببنت شفة وضرب؛ غير أن أباه تراجع إلى الوراء فأخطأته الضربة. وغضب الغلام الداعر البائس من نفسه، فسقط على حد سيفه،(7/276)
فنفذ السيف في جنبه؛ وقبل أن تخمد أنفاسه أمسك الفتاة بذراعيه المسترخيتين، وقد اصطبغ خدها المصفر بشهيقه. وهكذا قضى الاثنان نحبهما، وأصبحا جثتين هامدتين وحَّد بينهما الموت" (71).
وأهم ما تمتاز به هذه المسرحيات صفتان لم يذهب بروعتهما مر الزمان ولا عبث المترجمين وهما جمال الأسلوب وسمو الفن. ففيها النموذج الحق لعبارات العصر الذهبي المصقولة، الهادئة، الرصينة، القوية في غير إسراف، الجزلة الرشيقة، التي تجمع بين قوة فدياس ورقة برلستيليز. ولا يقل السياق نفسه سمواً عن الألفاظ، فكل سطر قد وضع في الموضع اللائق به، وكل سطر يستحوذ على فكرك ويسير بك إلى تلك اللحظة التي تصل فيها الحوادث إلى غايتها ومغزاها. وقد بنيت كل مسرحية من هذه المسرحيات كما تبنى المعابد يصقل كل جزء منها على حدة، ولكنه يوضع في مكانه اللائق به من البناء كله، إذا استثنينا فيها عيباً واحداً هو أن المؤلف في مسرحية فلكتيتس يقبل في غير جهد فكرة إنزال الآلهة بالآلات (وهي فكاهة من فكاهات يوربديز) ويعدها حلاً جدياً للعقدة المستعصية على الحل. وأهم النقاط البارزة في حبكة هذه المسرحيات، وفي مسرحيات إسكلس، هي أولاً انتقام لغطرسة شديدة وسفاهة في أحد الفصول (كلعنة أوديب للقاتل المجهول)، ثم معرفة فجائية لحقيقة كانت قبل غامضة، ثم تعثر الحظ، ثم الانتقام الإلهي والعقاب المحتوم. وكان أرسطاطاليس يتخذ "أوديب الملك" مثلاً للمسرحية الكاملة البناء الخالية من النقص؛ وإن مسرحيتي أوديب الأخريين لتوضحان أتم الوضوح تعريف أرسطو للمسرحية، وقوله إنها تطهير للرحمة والفزع بعرضهما عرضاً موضوعياً. والشخصيات هنا مصورة تصويراً أوضح من شخصيات إسكلس وإن لم تبلغ في واقعيتها مبلغ شخصيات يوربديز. وفي ذلك يقول سفكليز نفسه: "إني أصور الرجال كما يجب أن يكونوا، أما يوربديز فيصورهم كما هم" (72)،(7/277)
وكأنه يعني بهذا أن التمثيل يجب أن يتجه إلى حد ما نحو المثل العليا، وأن الفن يجب ألا يكون تصويراً شمسياً. ولكن أثر يوربديز يظهر واضحاً في النقاش الذي يدور في الحوار، وفي استغلال العواطف في بعض الأحيان؛ وشاهد ذلك أنا نرى أوديب يغفل صفاته الملكية ويحاج تيرسياس Teiresias، ونراه حين يفقد بصره يتحسس أوجه بناته تحسساً يبعث الحسرة في النفس. أما إسكلس فلو أنه كان في هذا الموقف نفسه لنسي البنات وأخذ يفكر في قانون من القوانين الخالدة.
وسفكليز أيضاً فيلسوف وواعظ، ولكن نصائحه لا تعتمد على رضاء الآلهة بالقدر الذي تعتمد به عليها نصائح إسكلس. وسبب ذلك أنه قد مسته روح السوفسطائيين، وهو وإن كان يستمسك بأصول الدين يظهر في مسرحياته أنه لولا أن الحظ قد واتاه لكان هو ويوربديز سواء. ولكن حساسيته الشاعرية الشديدة التي تمنعه أن يتلمس المعاذير لما يصيب الناس من ضر لا يستحقونه في أغلب الأحيان. انظر مثلاً إلى قول ليلس Lyllus أمام جسم هرقل وهو يتلوى من شدة الألم:
"نحن لم نقترف ذنباً، ولكننا نقر بأن قلوب الآلهة خالية من الرحمة، فهم يلدون الأبناء، ويطلبون أن يعبدوا باسم الآباء، ولكنهم ينظرون إلى أبنائهم نظرة مليئة بالأحقاد" (73).
وهو ينطق جوكستا بالسخرية من النبوءات، مع أن مسرحياته تدور حول هذه النبوءات نفسها وتبدو فيها واضحة؛ وترى كريون يندد بالمتنبئين ويقول عنهم إنهم "طائفة لا هم لها إلا جمع المال"، ويسأل فلكتيتس السؤال القديم "كيف نبرر تصرفات السماء إذا كنا نجد السماء ظالمة؟ " (74) ويجيب سفكليز عن هذا السؤال إجابة تبعث الأمل في النفوس فيقول(7/278)
إن النظام الأخلاقي في العالم أدق من أن تفهمه عقولنا، ولكنه نظام قائم بالفعل، وستكون الغلبة فيه للحق في آخر الأمر (75). وهو يحذو حذو إسكلس فيرى أن زيوس هو نفسه النظام الأخلاقي، وهو يقترب من الوحدانية أكثر مما يقترب منها إسكلس نفسه. ويشبه الصالحين من الإنجليز في عصر الملكة فكتوريا، فتراه قوياً في إيمانه بالأخلاق الفاضلة وإن كان غير واثق كل الثقة من دينه، ويرى أن أرقى أنواع الحكمة أن نعرف القانون الذي هو زيوس، المرشد الأخلاقي لهذا العالم، وأن نتبعه متى عرفناه.
"ألا ليت قدمي الثابتين لا تعجزان عن السير في طريق الحق والصلاح. وليتني أقضي حياتي مبرأً من الخطايا في القول والفعل، مستمسكاً بتلك القوانين الأزلية التي تسمو على الدوام إلى أبراج السماء الأثيرية النقية التي نشأت فيها: ذلك أن موطنها الوحيد هو أولمبس، ولم تكن هي وليدة حكمة البشر؛ ومهما غفل عنها الناس فإنها مستيقظة لا تنام عيناها أبداً" (76).
ذلك قلم سفكليز ولكنه صوت إسكلس، أو هو الإيمان يقف وقفته الأخيرة في وجه الكفر. وكأنا نشهد في هذا الموقف، موقف التقى والاستسلام للقضاء، أيوب يندم على ما فرط منه ويرضى بما كتب له، ولكننا نلمح بين السطور شيئاً من إلهام يوربديز قبل أن يوجد يوربديز نفسه.
ويرى سفكليز، كما يرى صولون، أن أسعد الناس هو الذي لم يولد، ويليه في هذه السعادة من يموت في طفولته. ولقد وجد أحد المتشائمين المحدثين بعض اللذة في ترجمة الأبيات المحزنة في النشيد الجنائزي الذي أنشد عند موت أوديب، وهي أبيات يظهر فيها الملل من العالم الناشئ من آلام الشيخوخة، ومن حرب البلوبونيز حيث يقتتل الإخوة ويفتك بعضهم ببعض:
"أي رجل ذاك الذي يتوق إلى طول الأجل؟ إن عيني ترى الحماقة(7/279)
تكتنف كل أساليبه، وكلما مرت السنون تبدلت حياتك سوءاً بعد سوء. سوف يقترب منك الحزن، ويمتنع عن عينيك السرور. هذا هو الجزاء الذي يناله من يطول أجلهم.
"وخير الناس في نظري هو الذي لم يولد (1)؛ ويليه في هذا من يولد ثم يموت لساعته. إن الشباب ليجيء للإنسان بالحماقات التي هي أخف وزناً من الريش، ثم تجتمع الشرور كلها فلا ينقصها شر: من الغضب، وحسد، وشقاق، ونزاع، وسيف يتعقب الحياة. وتختتم هذه المتاعب كلها باقتراب الشيخوخة التي توهن الجسم فيفر من الأصدقاء والأقارب، الشيخوخة التي يتضاعف فيها كل ما تحت قبة السماء من أحزان.
"والذي يتحرر من الكدح، تنعقد أواصر الصداقة بينه وبين غيره من الناس، ولا تصحبه عروس ولا أهل عروس، ولا يسمع صوت الدفوف والغناء لأن الموت يقضي على ذلك كله".
ويعرف كل من درس حياة سفكليز أنه كان يتسلى في شيخوخته مع حظيته ثيوريس Theoris، وأنه رزق منها بطفل (78)، وأن أيوفون Iophon ابنه الشرعي أقام دعوى على أبيه يتهمه فيها بالسفه، ولعل الدافع له إلى هذا خوفه أن يترك الشاعر ثروته لابنه من ثيوريس. ودافع سفكليز عن نفسه وقدم دليلاً على تمتعه بكامل قواه بعض مقطوعات قرأها على المحكمة من مسرحية كان يكتبها، ولعلها كانت مسرحية "أوديب في كولونس"؛ ولم يكتف القضاة بتبرئته من التهمة بل ساروا يحفون به إلى بيته (79). ومع أنه قد ولد قبل يوربديز بزمن طويل فقد عاش حتى لبس عليه الحداد، ثم مات في السنة التي مات فيها هذا الكاتب سنة 406. ومن الخرافات الشائعة أنه لما حاصر الإسبارطيون
_________
(1) تذكرنا هذه العبارة والعبارة التي في مستهل الفترة السابقة بقول أبي العلاء المعري: "تعب كلها الحياة" و "هذا جناه أبي عليّ". (المترجم)(7/280)
أثينة، تجلى ديونيشس إله التمثيل للمتحاربين وشفع لأصدقاء سفكليز، فحصل لهم على ممر أمين، وأمكنهم بذلك أن يدفنوه في مقبرة آبائه في ديسيليا Deceleia، وأجله اليونان وكرموه كما يكرمون آلهتهم، وكتب له الشاعر سمياس Simmias قبرية هادئة قال فيها:
تسلق بلطف أيها الخلباب إلى حيث يرقد سفكليز في راحته الهادئة، وأرسل غدائرك الصفراء المخضرة على قبره الرخامي، الذي يتفتح حوله الورد الأرجواني. ولتتدل حوله عناقيد الورد المكتنزة، وتلقي حول الحجر أعناقها الصغيرة الجميلة، جزاءً وِفاقاً له على حكمته الحلوة التي هو منشؤها والتي تدعى ربات الشعر وثالوث الجمال أنها أغانيها.(7/281)
الفصل الخامِس
يوربديز
1 - المسرحيات
كما شق جيتو Giotto الطريق الوعر للتصوير الإيطالي في بداية عهده، ثم أوصله بروحه الهادئة إلى كماله الفني، وأتم ميكل أنجلو تطوره بأعماله التي صدرت عن عبقريته المعذبة؛ وكما شق باخ Bach بجهوده الجبارة الطريق الرحب إلى الموسيقى الحديثة، وأبلغها موزار ببساطتها العذبة الرخيمة إلى أرقى الدرجات، ثم أتم بيتهوفن تطورها بمؤلفاته التي لا يدانيها شيء في فخامتها وجلالها؛ كذلك شق إسكلس بشعره القوي وفلسفته الصارمة الطريق الذي سارت فيه المسرحيات اليونانية، وحدد أشكالها، ثم هذب سفكليز هذا الفن بموسيقاه المتزنة وحكمته الهادئة، وأتم يوربديز تطوره بمؤلفاته التي تفيض بالشعور الجائش والشك القوي. لقد كان إسكلس في مسرحياته واعظاً لا يكاد يقل صراحة عن أنبياء بني إسرائيل، وكان سفكليز فناناً سامياً يتشبث بإيمان مزعزع موشك على الانهيار، وكان يوربديز شاعراً عاطفياً إبداعياً لا يستطيع أن يكتب مسرحية كاملة لأن الفلسفة شتت قواه. وكان هؤلاء هم إشعيا وأيوب والجامعة في كتاب اليونان المقدس.
ولد يوربديز في عام سلاميس، ويقول بعضهم إنه ولد في يوم سلاميس بالذات، وأكبر الظن أن مسقط رأسه هو تلك الجزيرة التي يقال إن أبويه فرا إليها هرباً من الغزاة الميديين (80). وكان أبوه رجلاً من أصحاب المال والسلطان في مدينة فيلا Phyla الأتكية، وكانت أمه تنحدر من أسرة شريفة (81)،(7/282)
وإن كان منافسه أرسطوفان يصر على أنها كانت تدير حانوت بدال، وتبيع الفاكهة والأزهار في الطرقات. وقضى يوربديز أيامه الأخيرة في سلاميس، مولعاً بعزلة تلالها، وجمال مناظرها، وزرقة بحارها؛ وكما أراد أفلاطون أن يكون كاتباً مسرحياً فكان فيلسوفاً، كذلك أراد يوربديز أن يكون فيلسوفاً فكان كاتباً مسرحياً. ويقول استرابون (82) إنه "تلقى منهج أنكساغورس كله، ودرس بعض الوقت على برودكس، وكان صديقاً حميماً لسقراط، وبلغ من صلته به أن بعض الناس يظنون أن قد كان للفيلسوف يد في مسرحيات الشاعر (83). وكان للحركة السوفسطائية كلها أثر كبير في تعليمه، واستحوذت عن طريقه على المسرح الديونيشي، فكان هو فلتير عصر الاستنارة اليوناني، يعبد العقل ويلمح إلى هذه العبادة في ثنايا مسرحياته التي كانت تمثل لتمجيد إله من الآلهة تلميحاً أفسدها وكان له أسوأ الأثر فيها.
وتعزو إليه سجلات المسرح الديونيشي فضل تأليف خمس وسبعين مسرحية، بدأت ببنات بلياس في عام 455 واختتمت بالباخيه Bacchae في عام 406، ووصلت إلينا منها ثمان عشرة كاملة وهتامات مختلفة من باقي المسرحيات (1). ومادتها هي أساطير اليونان الأولين، تتخللها إشارات من التشكك تبدو أولاً في حذر ثم تظهر سافرة جريئة بين السطور. ونرى في مسرحية أيون Ion أبا القبائل الأيونية المزعوم وقد وقع في ورطة حرجة: فقد جاء على لسان وحي أبلو أن أباه هو أكسوثوس Xuthus، ولكن أيون يكشف أنه ابن أبلو الذي أغوى أمه ثم خلعها على أكسوثوس، ويسأل أيون نفسه أيمكن أن يكون الإله النبيل كاذباً؟ وفي مسرحيتي هرقل وألسستيز Alcestis نرى الفتى الغوي ابن
_________
(1) ظهرت المسرحيات الكبرى بالترتيب الآتي أو ما يقرب منه: ألسستيز 438، ميديا 431، هبوليتس 428، أندرمكي 457، هكيبا حوالي 425، المرأة الطروادية 415، إفجينيا في طوريس حوالي 413، أرستيز 408، إفجينيا في أوليس 406، الباخيه 406.(7/283)
زيوس وألكمينا في صورة إنسان سكير طيب القلب، له نهم جارجنتوا Gargantua وعقل لويس السادس عشر. وتقص مسرحية ألسستيز القصة المنفرة فتصف كيف اشترطت الآلهة نظير إطالة عمر أدميتس Adametuas ( ملك فيري Pherae في تساليا) أن يرضي إنسان ما أن يموت بدلاً منه. وتعرض زوجته أن تفتديه بحياتها، وتودعه بقصيدة من مائة بيت يستمع إليها في صبر ونبل، وتُحمل ألسستيز باعتقاد أنها قد ماتت ولكن هرقل يخرج من مجلس الخمر والولائم، ويجادل الموت، وينهره، ويرغمه على ترك ألسستيز، ويعيد إليها حياتها. ولا يمكن فهم المسرحية إلا على أنها محاولة خبيثة لتسخيف هذه الخرافة (1).
وتستخدم مسرحية هيبوليتس Hippolytus هذه الطريقة عينها طريقة إقامة البرهان بنقض نقيضه، ولكن بطريقة أظرف وأكثر دهاء. فالبطل الوسيم هنا شاب صياد يقسم لأرتميس Artemis العذراء إلهة الصيد أن يكون على الدوام وفياً لها، وأن يتجنب النساء طول حياته، وأن يجد أعظم لذته في الأدغال. وتغضب أفرديتي لهذه العزوبة المهينة فتصب في قلب فدرا Phaedra زوجة ثسيوس هياماً جنونياً بهبوليتس بن ثسيوس من أنتيوبي Antiope زوجته المحاربة. وهذه هي أولى مآسي العشق فيما لدينا من كتابات أدبية، وفيها نجد من بداية الأمر جميع أعراض الحب في أعقد أزماتها وأقوى درجاتها، وذلك حين يصد هبوليتس عن فدرا فيتحطم قلبها، ويذوى غصنها، وتكاد تقضى من فرط الأسى. وتصبح مربيتها فيلسوفة
_________
(1) وقد مثلت في عام 438، مع ثلاث مسرحيات أخرى بقلم يوربديز؛ ولعل المقصود منها أن تكون مسرحية نصف خرافية ونصف جدية، لا مسرحية بين المأساة والمسلاة؛ وقد أخذ بروننج Browning في قصيدته Balaustion's Adventure هذه المسرحية على ظاهرها مدفوعاً إلى هذا بسذاجته وكرم نفسه.(7/284)
على غير انتظار فتأخذ في التفكير في الحياة بعد الموت، وتظهر في تفكيرها هذا من الشك في هذه الحياة ما لا يقل عن شك هملت فيها:
"ومع هذا فحياة الإنسان كلها ألم وكدر، وليس ثمة راحة على ظهر هذه الأرض؛ وإذا كانت هناك حالة بعيدة أحب إلى الموتى من الحياة فإن يد "الظلماء" تقبض عليها وتحجبها في ظلمات من فوقها ومن أسفل منها. ومن الناس من يرغبون في الحياة ويتعلقون بالبقاء على هذه الأرض بهذا الشيء البراق الذي لا أعرف ماذا أسميه، وذلك لأن الحياة الأخرى نبع مختوم مغلق، والأعماق التي من تحتنا لم تكشف لنا، ونحن تتقاذفنا الخرافات والأوهام إلى أبد الدهر" (84).
وتحمل المربية رسالة إلى هبوليتس تقول إن فدرا ترحب به في فراشها؛ ويرتاع هو لهذه الرسالة لأنه يعرف أن التي تدعوه إلى فراشها زوجة أبيه، وينطلق لسانه بإحدى الفقرات التي اشتهر من أجلها يوربديز بأنه عدو النساء:
"رباه! لم وضعت في سبيلنا هذا الشرك البراق، تلك النساء اللاتي يتعقبن خطانا على ظهر هذه الأرض السعيدة؟ هل إرادتك هي التي اقتضت أن يولد الإنسان عن طريق الحب والمرأة؟ " (85).
ثم تموت فدرا، ويجد زوجها في يدها رسالة كتب فيها أن هبوليتس أغواها. ويستشيط ثسيوس غضباً، ويدعو بوسيدن أن يقتل هبوليتس؛ ويحتج الشاب بأنه بريء ولكن أحداً لا يصدقه؛ ويخرجه ثسيوس من البلاد. وبينما كانت عربته تمر في سيرها بشاطئ البحر إذ يخرج من الموج أسد بحر ويطارده؛ ويجفل جواداه ويقلبان العربة ويجران هبوليتس (بعد أن مزقه الجوادان) فوق الصخور حيث يموت شر ميتة. وترفع فرقة المنشدين صوتها بهذه الأبيات التي أدهشت أثينة وأزعجتها بلا ريب:(7/285)
"أيتها الآلهة، يا من أوقعته في الشرك، إني أقذف في وجهك كرهي واحتقاري".
وفي مسرحية ميديا ينسى يوربديز إلى حين غضبه على الآلهة ويصوغ من قصة ركاب السفينة أرجوس أقوى مسرحياته على الإطلاق. فعندما يصل جيسن Jason إلى كلشيز، تهيم الأميرة ميديا بحبه، وتساعده على أخذ الجزة الذهبية، وفي دفاعها عنه تخدع أباها وتقتل أخاها. ويقسم جيسن أن يحبها حبا أبديا ويأخذها معه إلى أيوكلس Iolcus. وهناك تدس ميديا الوحشية الطباع السم إلى الملك بلياس لكي تجلس جيسن على العرش الذي وعد به. وإذ كانت شريعة تساليا تحرم الزواج من الأجنبيات فإن جيسن يعيش مع ميديا عيشة العاشقين بغير زواج وتلد له طفلين. ولكنه لا يلبث أن يضيق ذرعا بشهوتها الوحشية، ويتطلع حوله باحثا عن زوجة شرعية ووارث لملكه، ويعرض أن يتزوج ابنة كريون ملك كورنثة. ويوافق كريون على هذا الزواج وينفي ميديا من البلاد؛ وتفكر ميديا فيما ارتكبته من أخطاء، وتنطق بفقرة من أشهر فقرات يوربديز التي يدافع فيها عن النساء:
"لم أر بين جميع الأشياء التي تنمو ويسيل منها الدم، شيئاً تهشم كما تهشمت المرأة. إن علينا أن نقدم كل ما جمعناه من الذهب وادخرناه لهذا اليوم الوحيد، لنبتاع به حب رجل، ولكننا نبتاع به سيداً ليتصرف في أجسامنا! وهذا لعمري أشد ما يؤلمنا في هذا العمل المشين. ولا نعرف بعد ذلك هل سيكون هذا السيد إنساناً خيراً أو شريراً، وذلك هو خطر يتهددنا طوال حياتنا ... إن بيتها لم يعلمها أحسن وسيلة تهدي بها ذلك الشيء الذي ينام بجانبها سبل السلام. وإن التي تجد بعد جهودها المضنية الطويلة وسيلة تجعله يحسب لها حسابها، فلا ينفض عن ظهره عبأها بعنف، تعد نفسها سعيدة. أما التي تعجز من النساء عن العثور على تلك الوسيلة فلتتمن الموت. إن زوجها إذا مل رؤية وجهها في داخل المنزل(7/286)
غادره، وذهب إلى مكان أروح من المنزل وأحب منه إلى قلبه؛ أما هي فقد كتب عليها البقاء حيث هي، لا تقع عيناها إلا على نفس واحدة. ثم يقولون بعدئذ إنهم هم الذين يلبون نداء الحرب، على حين أننا نجلس في عقر دورنا وفي حمايتها بعيدات عن كل خطر! إن هذا لسخرية وبهتان! ولأن أنزل ثلاث مرات إلى ميدان القتال، أخوض المعارك وترسي في يدي لأحب إليَّ من أن أحمل طفلاً واحداً (86).
ثم تتبع هذه القصة انتقامها الرهيب، فترسل إلى منافستها مجموعة من الأثواب الثمينة متظاهرة بأنها تريد بذلك أن تسترضيها. وتلبس الأميرة الكورنثية أحد هذه الأثواب فتحترق بالنار؛ ويحاول كريون أن ينجيها فيحترق هو أيضاً ويموت. وتقتل ميديا أطفالها، وتخرج بجثثهم على مرأى من جيسن، وتنشد فرقة المرتلين هذه الخاتمة الفلسفية:
"لزيوس في السماء ردهات ملأى بالكنوز يفرق منها على بني الإنسان مصائرهم القريبة من خير وشر لم يكونوا يرجونه أو يرهبونه. فأما الغاية التي كانوا يتطلعون إليها فلا ينالونها؛ فهناك طريق لم يفكر أحد فيه! ذلك ما حدث في هذا المكان".
وتدور سائر المسرحيات في الغالب حول قصة طروادة. ففي مسرحية هلن نرى القصة كما رواها استسكورس Stesichorus وهيرودوت (87)؛ فملكة إسبارطة حسب هذه الرواية لا تفر مع باريس إلى طروادة، بل تنقل رغم إرادتها إلى مصر، حيث تنتظر مجيء زوجها دون أن يعتدي أحد على عفافها؛ ويقول يوربديز إن بلاد اليونان كلها قد خدعتها خرافة هلن في طروادة. وفي مسرحية إفجينيا في أوليس يغمر يوربديز قصة تضحية أجممنون بفيض من العواطف لم تعهد من قبل في المسرحيات اليونانية، وبطائفة من أشنع الجرائم التي دفع الناسَ إليها دينُهم القديم. وكان إسكلس وسفكليز قد كتبا أيضاً في هذا الموضوع، ولكن(7/287)
مسرحياتهما لم تلبث أن نسيت وطغى عليهما سناً من المسرحيات الحديثة. وفي هذه المسرحية ينظر يوربديز إلى قدوم كليتمنسترا وابنتها نظرة عطف وحنان، ويظهر أرستيز "وهو لا يزال بعد طفلاً رضيعاً لا يستطيع الكلام" ليشهد خرافة القتل التي تقرر مصيره فيما بعد. وترى الفتاة يجللها الخفر وتغمرها السعادة وهي تهرول لتحيي الملك:
إفجينيا: ما أشد شوقي يا أبتاه إلى أن أرتمي على صدرك بعد هذا
الغياب الطويل؟ وأرجو ألا يغضبك أنني قد سبقت غيري
إليك- لأني مشتاقة إلى طلعتك .... ولأنك يسرك كل
السرور أن تراني. ولكن لم أراك مهموماً محزوناً؟
أجممنون: إن الملوك والقادة كثيرو الهموم.
إفجينيا: لتكن هذه الساعة لي- هذه الساعة لا أكثر. لا تستسلم للهموم!.
أجممنون: سأكون كلي لك؛ فلا تتشتتي يا أفكاري. . .
إفجينيا: ومع هذا- ومع هذا- فإني أرى الدموع تترقرق في عينيك!
أجممنون: نعم، لأن الغياب في المستقبل سيطول.
إفجينيا: لست أعرف، لست أعرف، يا أبتي العزيز ماذا تقصد؟
أجممنون: إن فطنتك الرشيدة تضاعف أحزاني.
إفجينيا: سأنطق إذن بالسخف لأدخل السرور على قلبك (88).
وحين يقبل أخيل تتبين أنه لا يعرف شيئاً عن زواجهما المزعوم، بل تعرف بدل هذا أن الجيش قد طال انتظاره للتضحية بها؛ فتلقي بنفسها على قدمي أجممنون وتتوسل إليه أن يبقى على حياتها:
لقد كنت أولى أبنائك- وأولى من قال لك يا أبت، وأولى من جلس على ركبتيك من أطفالك؛ وتبادلت وإياك الحديث في مسرات الحياة. وهذا(7/288)
ما كنت تقوله لي: "أي بنيتي العزيزة، هل يقدر لي أن أراك ممتعة سعيدة في بيت سيدك وزوجك الخليق بك؟ " واحتضنت لحيتك التي أمسك بها الآن متوسلة، وأجبتك بقولي: "وأنا الأخرى سأرحب بك يا أبت، حين يبيض شعرك من طول السنين، في داخل بيتي الحلو الجميل، وسأجزيك على حبك إعزازاً وتكريماً". هذا كنا ما نتحدث عنه، أذكره جيداً، ولكني أراك تنساه وتريد أن تقضي على حياتي" (89).
وتندد كليتمنسترا باستسلام أجممنون لهذه الطقوس الوحشية، وتتوعده بعبارات تحتوي على الكثير من المآسي: "لا تضطرني إلى الغدر بك"، وتشجع أخيل على ما يبذله من الجهد لإنقاذ الفتاة، ولكن إفجينيا تغير رأيها وتأبى أن تهرب:
استمعي يا أماه إلى ما خطر ببالي وأنا أقلب الفكر في أمري:
لقد اعتزمت أن أموت، ويسرني أن أموت هذه الميتة المجيدة- وأن أبعد عني جميع الأفكار الدنيئة ... إن هلاس العظيمة كلها تتطلع إلي، وما من أحد غيري يستطيع أن يمد إليها يداً ويسدي إليها تلك النعم: فتسير سفنها، وتهزم فيريجيا عدوتها، وتنقذ بناتها من البرابرة في أيامها المقبلة، حتى لا يستطيع الناهبون أن يختطفونهم من بيوتهن ويقضوا بذلك على سعادتهن، بعد أن يعاقب باريس على اعتدائه وهلن على ما جللت به نفسها من عار. كل هذا الخير ستناله البلاد بموتي، وسيكون اسمي مباركاً محوطاً بالإجلال لأني وهبت الحرية لهلاس (90).
وحين يقبل الجنود ليأخذوها تأمرهم بألا يمسوها بأيديهم وتسير طائعة مختارة إلى كومة وقود التضحية.
وفي مسرحية هكيبا تضع الحرب أوزارها، ويستولى اليونان على طروادة، ويقتسم المنتصرون الأسلاب. وترسل هكيبا زوجة بريام بوليدورس(7/289)
أصغر أبنائها ومعه كنز من الذهب إلى بولمنستر Polymnestor ملك تراقيا وصديق بريام. لكن بولمنستر يطمع في الذهب فيقتل الغلام ويلقي بجثته في البحر، فتقذفها الأمواج فوق ساحل إليون. وتحمل إلى هكيبا. وفي هذه الأثناء يمنع شبح أخيل الميت الريح من أن تدفع الأسطول اليوناني إلى بلاده، حتى يضحي له بيولكسينا Polyxena أجمل بنات بريام. ويأتي تلثبيوس Talthybius رسول اليونان إلى هكيبا ليأخذ منها الفتاة، فيجدها ملقاة على الأرض منفوشة الشعر ذاهلة، وقد كانت منذ قليل ملكة مكرمة، ينشد أبياتاً من الشعر تدل على تشكك يوربديز:
ماذا أقول يا زيوس؟ - أأقول إنك تنظر إلى الخلق؟ أم إلى قولنا إن هناك جيلاً من الآلهة ليس إلا وهماً وخداعاً كاذباً نستمسك به ولا يجدينا نفعاً، وإن المصادفة دون غيرها هي التي تسيطر على جميع مصائر البشر؟ (91).
والفصل التالي في المسرحية المركبة هو المرأة الطروادية. وقد مثلت هذه المسرحية الجزئية في عام 415، بعد أن دمر الأثينيون ميلوس في عام 406 بزمن قليل، وقبيل الحملة التي سيرت إلى صقلية للاستيلاء عليها وضمها إلى الإمبراطورية الأثينية. وكانت هذه هي اللحظة التي روع فيها يوربديز بالمذبحة التي وقعت في ميلوس، وبالنزعة الاستعمارية الوحشية التي دفعت الأثينيين إلى مهاجمة سرقوصة، فجرؤ على الجهر بدعوة حارة إلى السلم، صور فيها ما حدث تصويراً جريئاً على أنه انتصار من وجهة نظر المغلوبين، وكان تصويره هذا "أعظم تشهير بالحرب في الأدب القديم" (92). وهو يبدأ حيث ينتهي هومر- بعد الاستيلاء على طروادة. فالطرواديون ملقون على الأرض بعد مذبحة جامعة، ونساؤهم قد ذهب الروع بعقولهن، وهن يخرجن من مدينتهن المخربة ليكن سبايا للغالبين. وتقبل هكيبا مع ابنتيها أندرمكي وكسندرا بعد أن ضحى بحياة بولكسينا، ويأتي تلثيبيوس ليأخذ كسندرا إلى خيمة أجممنون. وتسقط هكيبا على الأرض(7/290)
من فرط الحزن، وتحاول أندرمكي أن تواسيها، ولكنها هي الأخرى يغلب عليها الجزع حين تضم الأمير الصغير أستياناكس Astyanax إلى صدرها وتذكر أباه الميت.
أندرمكي: ... ولقد شددت وتر قوسي من زمن بعيد وصوبت سهمي نحو حسن سمعتي، وأدركت أن سهمي قد أصاب هدفه، ومن أجل هذا فأنا بعيدة كل البعد عن السلام. لقد أحببت من أجل هكتور كل ما يثني عليه الرجال فينا، وبذلت جهدي في الوصول إليه. لقد عرفت أن التجوال في خارج البلاد يسيء إلى سمعة المرأة سواء أصابها شر في هذا التجوال أو عادت منه بريئة طاهرة، ومن أجل هذا قمعت في نفسي هذه الرغبة، وكان تجوالي في حديقة بيتي، ولم تدخل قط من باب داري ألفاظ النساء المستهترة أو أحاديثهن المرحة. وتحدثت إلى قلبي، ولم أكن أبغي ذلك الحديث، فسعدت به. وكثيراً ما لزمت الصمت وأسبلت العين حين كان هكتور يحييني، وحرصت كل الحرص على أساليب الحياة الطيبة وعرفت أين أرشد، وأين أطيع ...
ولقد قال الناس إن ليلة واحدة تذلل المرأة وتلقيها في أحضان الرجل. فيا للعار، يا للعار! أي شفتين هاتين اللتين توردان المرأة موارد الهلكة وتسمحان للغريب أن يقبلهما؟. إن أنثى الحيوان الأعجم، إن المهرة، لا تجري خالية من الهموم إذا كان رفيقها بعيداً عنها ...
أي هكتور! يا أحب الناس إليّ، لقد كنت زوجي، وكنت كل شيء لي، كنت أميري، وحكيمي، يا أشجع الشجعان! إن رجلاً ما لم يمسني أو يقترب مني من يوم أن أخذتني من دار أبي وجعلتني زوجة لك ... وها أنت ذا قد مِتَّ وقذفت بي الحرب إلى الرق وعيش المذلة في هلاس وراء البحار الكريهة!.
وتفكر هكيبا في يوم انتقام بعيد فتأمر أندرمكي أن ترضى بسيدها(7/291)
الجديد لعله يسمح لها أن تربي استياناكاس، حتى يستطيع في يوم من الأيام أن يعيد بيت بريام ومجد طروادة. غير أن اليونان كانوا قد فكروا هم أيضاً في هذا، ويقبل تلثبيوس ليعلن أن استياناكاس لابد أن يموت: "لقد قرروا أن يلقي ولدك من فوق سور طروادة العالي ذي الأبراج". وينتزع الطفل من بين ذراعي أمه، وتتشبث به أندرمكي إلى آخر لحظة وتودعه وداعاً حاراً وعقلها مشتت مضطرب:
الق الموت يا أحب الناس إليّ وأعزهم عليّ، بأيدي رجال قساة غلاظ الكباد، واتركني وحيدة في هذا المكان؛ لقد كان أبوك شجاعاً مقداماً، ومن أجل هذا يقتلونك ... ولا تجد من يرحمك! ... ألا أيها المخلوق الصغير الذي تتلوى بين ذراعي، ما أزكى هذه الرائحة التي تنبعث من حول عنقك! أيها الحبيب أعبثاً ضمك هذا الصدر وغذاك، وهل إلى غير غاية قضيت الليالي قلقة أسهر عليك في مرضك حتى أضناني السهر؟ قبلني قبلة واحدة لن تتكرر بعد ذلك أبداً. امدد ذراعيك وارفع نفسك حول عنقي، قبلني الآن وضع شفتيك فوق شفتي ... آه أيها اليونان الظرفاء، لقد عثرتم على نوع من العذاب لم يعرف مثله الشرق من قبل! ... أسرعوا خذوه، جروه، ألقوه من فوق الأسوار، إن كنتم تريدون أن تلقوه من فوقها! مزقوه أيها الوحوش، عجلوا! لقد خارت عزيمتي فلست أقوى على رفع يدي لأنجي طفل من الهلاك.
ثم تأخذ في الهذيان، ويغشي عليها، ويخرج بها الجند، وحينئذ يظهر منلوس، ويأمر جنوده أن يأتوا بهلن، وكان قد أقسم ليقتلنها، وترتاح هكيبا حين تفكر أن هلن ستلقى آخر الأمر جزاءها:
أباركك يا منلوس، أباركك إن أنت قتلتها! ولكن حذار أن تنظر إلى وجهها لئلا تأسرك فتخر صريعاً!.
وتدخل هلن، لم يمسسها أحد بسوء. ولا تخش أن تمس بسوء، تزهو إذ تشعر بأنها جميلة.(7/292)
هكيبا: هل أتيت الآن مزدانة الصدر والجبين، وهل تتنفسين مع سيدك ما يتنفسه من هواء، أنت يا ذات القلب الخبيث، فليطأطأ رأسك، ولينفش شعرك، ولتمزق أثوابك، فلن يكون من تحتها شيء يرفع من شأنك، بل سيكون من داخلها ما يجللك العار لما ارتكبت من الآثام. كن صادق العزم أيها الملك، وضع على جبين هلاس تاج العدالة؛ اقتل هذه المرأة ...
منلوس: صه، أيها العجوز صه ... (ثم يلتفت إلى الجند):
أعدوا لها سفينة كبيرة متعددة الحجرات تجوب فيها البحار ....
هكيبا: إن من أحب مرة سيظل محباً على الدوام.
وحين تخرج هلن ويخرج منلوس يعود تلثبيوس يحمل جثة أستياناكس القتيل!.
تلثبيوس: لقد سحرت أندرمكي ... هذه الدموع في عيني وهي تبكي بلادها من وراء البحار. لقد نظرت إلينا، وأخذت تتحدث إلى قبر هكتور، وترجو أياً كان ما نفعله به ألا نغفل المراسم المرعية في دفن هذا الطفل ... وأمرتني أن ألفه في أربطة الموت وأثوابه وأن أضعه بين يديك ... (تأخذ هكيبا الطفل).
هكيبا: آه! أي موت لاقيت أيها الصغير! ... أيها الذراعان الرقيقان. إن صورتكما العزيزة لهي بعينها صورة ذراعيه ... ويا أيتها الشفتان اللتان يشع منهما الكبرياء، لقد انطبقتما إلى أبد الدهر! ماذا كانت تلك الكلمات الكاذبة التي نطقت بها وأنت تحبو إلى فراشي؟ لقد ناديتني بأسماء رقيقة وقلت لي: أي جدتي، سأقص شعري حين تموتين وأركب على رأس القواد إلى قبرك". لم خدعتني هذا الخداع؟ وهاأنذا، العجوز، الطريدة، الثكلى، أبكيك بالدمع الغزير، أبكي طفولتك وأبكي ميتتك التعسة. أي إلهي! وأبكي خطاك حين تجيء لترحب بي، وأبكي جلوسك في حجري، وأبكي رقادنا معاً! لقد ذهب كل هذا ولن يعود. وكيف يستطيع شاعر أن ينحت شاهد قبرك ليقص قصتك صادقة؟(7/293)
"هنا يثوي طفل خافه اليونان، فقتلوه لأنهم خافوه". نعم، وستبارك بلاد اليونان بأجمعها القصة التي يقصها ذلك الشاهد.
ألا ما أشد غرور الإنسان، إنه يتباهى بمسراته ولا يخاف شيئاً، ومن حوله صروف الزمان ترقص رقص البلهاء في الريح! .... (تلف الطفل في أكفانه).
إن أحسن الثياب الفريجية التي كنت أحتفظ بها ليوم زواجك بإحدى ملكات الشرق بعد أن جبت البلاد القاصية للبحث عنها، إن هذه الثياب تلفك الآن إلى أبد الدهر (93) ...
وفي مسرحية إلكترا نرى الموضوع القديم قد خطا خطوات إلى الأمام فأجممنون قد مات، وأرستيز في فوسيس، وإلكترا قد زوجتها أمها بفلاح يخلص لها إخلاصاً ساذجاً، ويرهب أصلها الملكي أشد رهبة، ولا يؤثر في إخلاصه لها ورهبته إياها طول تفكيرها في أمرها وإهمالها شئونه. وبينما هي تفكر هل يعثر عليها أرستيز ويأتي إليها إذ يأمره أبلو نفسه (ويؤكد يوربديز هذه النقطة ويحرص على إبرازها) بأن يثأر لموت أجممنون. وتستفزه إلكترا، وتقول إنه إذا لم يقتل السفاح فستقتله هي، ويبحث الصبي عن إيجسثس ويقتله ثم ينقلب على أمه. وتبدو كليتمنسترا هنا عجوزاً شمطاء، ذليلة، منهوكة القوى، ويؤنبها ضميرها على جرائمها، يتنازع قلبها خوف الأطفال الذين يكرهونها وحبها إياهم في نفس الوقت، وتطلب الرحمة في غير توسل، وترضى إلى حد ما بما جوزيت به على ذنوبها. وحين ينتهي القتل يرتاع أرستيز من هول ما حدث ويقول:
شقيقتي، هل لمستها مرة أخرى، واحسرتاه غطي جسدها، وضعي عليه ثوبها الجميل، وسدي هذا الجرح الأحمر المميت. أي أماه، هل كانت نتيجة آلامك أن ولدت قاتلك (94)؟.
ويسمي يوربديز الفصل الخامس من فصول المسرحية إفجينيا في توريس(7/294)
أو إفجينيا بين التوريين. وفيه يبدو أن أرتميس قد وَضعت على كومة الحريق في أوليس غزالة بدل ابنة أجممنون، واختطفت الفتاة من اللهب، وجعلتها كاهنة في معبد أرتميس بين التوريين أنصاف الهمج سكان القرم. وكانت عادة التوريين أن يضحوا للآلهة بكل غريب تطأ قدمه بلادهم، وتقوم إفجينيا بدور العاملة البائسة الشقية التي تقدم الضحايا. وكانت الثمان عشرة سنة المليئة بالأحزان التي قضتها خارج بلاد اليونان قد بلدت ذهنها، وكان أبلو قد وعد أرستيز على لسان الوحي أن ينزل السكينة على قلبه إذا انتزع من التوريين صورة أرتميس المقدسة وجاء بها إلى أتكا. ويبحر أرستيز وبيلاديز ويصلان آخر الأمر إلى أرض التوريين، ويقبلهما هؤلاء الناس ويرونهما هدية طيبة أهداها البحر إلى أرتميس، ويسرعون بهما ليذبحوهما على مذبحها. وتنتاب أرستيز نوبة عصبية يخر على أثرها مغشياً عليه عند قدمي إفجينيا، وهي، وإن كانت لا تعرفه، تأخذها الشفقة عليه حين ترى رفيقين في نضرة الشباب يساقان إلى الموت:
إفجينيا: إن أحداً من الناس لم يعط علم بداية أحزانه أو نهايتها؛ ذلك أن الله خفي، وأساليبه كلها تخفيها المصادفات العمياء عنا فلا نعرفها. ألا أيها الرجلان الشقيان، من أين جئتما؟ ... ومن أمكما؟ ومن أبوكما؟ أفصحا أيها الغريبان، ومن هي أختكما إن كانت لكما أخت؟ ولم تتركانها من غير أخوة وكلاكما في ميعة الصبا ونضرة الشباب وشجاعته ... ؟
أرستيز: ألا ليت يد أختي تسبل عيني وأنا مسجي على فراش الموت!
إفجينيا: وا أسفاه، إنها تعيش تحت سماوات بعيدة، ودعاؤك أيها الشقي لا يجديك نفعاً. ولكنك من أرجوس، ومن أجل هذا فسأقدم لك كل ما في وسعي من عناية، ولن أضن عليك بشيء منها. سآتيك بثياب ثمينة تدفن فيها، وبزيت يبرد كومة حريقك حين يلفها اللهب الذهبي، وسألقي عليها الشهد الذي جمعه النحل الطنان من آلاف الأزهار الجبلية لكي يفنى معك في وسط العبير.(7/295)
وتعدهما بأن تنجيهما إذا حملا معهما إلى أرجوس رسالة تأمرهما بأن ينقشاها في ذاكرتهما.
إفجينيا. قولا "لأرستيز بن أجممنون إن التي قتلت في أويس، والتي فقدتها بلاد اليونان ولكنها لا تزال حية، إن إفجينيا تبعث إليه السلام".
أرستيز: إفجينيا! أين هي؟ أعادت من بين الأموات؟
إفجينيا: أنا هي! ولكن لا تتكلم حتى لا تفسد عليّ تدبيري. "خذني يا أخي إلى أرجوس قبل أن أموت".
ويريد أرستيز أن يضمها بين ذراعيه، ولكن الحراس يمنعونه، لأن كاهنة أرتميس لا يصح أن يمسها إنسان. ويعلن أنه أرستيز، ولكنها لا تصدقه فيقنعها بأن يذكر لها القصص التي روتها لهما إلكترا.
إفجينيا: أهذا هو الطفل الذي عرفته، الطفل الصغير قد انتقل خفيفاً كما ينتقل الطير؟. أي أرض أرجوس، أيها الموقد، أيها اللهب المقدس الذي أشعلك سكلوبس الشيخ؛ إني أباركك لأنه عاش، ولأنه نما، وصار ضياء وقوة، أخي وابن أبي، إني أبارك اسمك إلى أبد الدهر (95).
ويعرضان عليها أن ينجياها من أسرها، وتساعدهما هي على أن يأخذا صورة أرتميس. ويستطيعان بحيلتها الماهرة أن يصلا آمنين إلى سفينتهما، ويحملان التمثال إلى برورون Brauron. وفيها تصير إفجينيا كاهنة، وتصبح بعد موتها إلهة معبودة. ويتخلص أرستيز من ربات الانتقام، وينعم بالطمأنينة والسلام بضع سنين، وتروي الآلهة غليلها وتتم مسرحية أطفال تنتالوس.
2 - يوربديز الكاتب المسرحي
لا مناص لنا من أن نوافق أرسطاطاليس على أن هذه المسرحيات، إذا نظرنا إليها من ناحية الفن المسرحي، لا تصل إلى المستوى الذي وضعه له إسكلس(7/296)
وسفكليز (96). نعم إن مسرحيات ميديا، وهبوليتس، والباخيات قد رسمت لها خطة محكمة، ولكن هذه المسرحيات نفسها لا يمكن مع ذلك أن توازن من حيث سلامة التركيب والبناء بمسرحية أرستيا، أو من ناحية الوحدة المعقدة بمسرحية أوديب الملك. ذلك أن يوربديز لا يثب دفعة واحدة إلى الحادثة الهامة في المسرحية فيعرضها ثم يفسر بعدئذ مقدماتها تفسيراً تدريجياً طبيعياً في سياق القصة، بل نراه يستخدم الوسيلة المصطنعة وسيلة المقدمة التمهيدية؛ بل يفعل ما هو أسوأ من هذا فيضعها على لسان إله من الآلهة. وهو لا يظهر لنا هذه الحادثة من بادئ الأمر كما يقضي بذلك فن التمثيل، بل نراه يأتي في كثير من الأحيان برسول يصفها وإن لم يكن فيها شيء من العنف. يضاف إلى هذه أنه لا يجعل الغناء الجماعي جزءاً من الحوادث التي تمثل، بل يحوله إلى عمل فرعي ثانوي، ويستخدمه لوقف تطور حوادث المسرحية بما يتضمنه من أغان جميلة على الدوام، ولكنها كثيراً ما تكون عديمة الصلة بتلك الحوادث. وهو لا يعرض ما يريد من آراء عن طريق الحادثات التي تتضمنها المسرحية، بل يعمد إلى استبدال الأفكار بالحادثات ويجعل المسرح مدرسة للتأمل والبلاغة والجدل. وما أكثر ما تعتمد حبكات مسرحياته على المصادفات "والذكريات" - وإن كانت الأفكار هنا حسنة التنظيم ومعروضة عرضاً مسرحياً صادقاً. وتختتم معظم مسرحيات يوربديز بإله ينزل من إله (كما كان يفعل بعض الكُتاب من قبله)، وتلك وسيلة لا يمكن أن نغتفرها له إلا إذا افترضنا أن المسرحية الحقيقية قد اختتمت قبل هذه الحيلة الدينية، وأن إله لم ينزل إلا لكي يختتم التمثيل بخاتمة فاضلة لولاها لكان في نظرهم شائناً فاضحاً (97). وقد استطاع عظماء الكتّاب الإنسانيين دون غيرهم أن يعرضوا بهذه الوسيلة مروقهم وإلحادهم على المسرح.
أما مادة المسرحية فهي، كصيغتها وشكلها، خليط من العبقرية والصناعة، وسبب ذلك أن أهم ما يمتاز به يوربديز هو الإحساس المرهف كما يجب أن(7/297)
يكون سائر الشعراء. وهو يحس بمشاكل الجنس البشري إحساساً قوياً ويعبر عنها تعبيراً مؤثراً عظيم الوقع في النفوس؛ ومآسيه أشد المآسي فجائع وهو أعظم كتابها إنسانية، ولكن إحساسه يكون في أغلب الأحيان مفرطاً في الحنو أو متكلفاً له؛ و "إذرافه الدمع السخين" (98) أيسر مما يجب أن يكون؛ وهو لا يدع فرصة تفلت منه ويستطيع أن يظهر فيها أماً تفارق طفلها، وينتزع كل ما يستطيع انتزاعه من العواطف من كل موقف من المواقف. وتلك المناظر دائمة الحركة، وهو يصفها في بعض الأحيان بقوة لا تعادلها قوة أي وصف من المآسي قبله أو بعده، ولكنها تنحط أحياناً إلى التمثيل الشجوي الغنائي وتتخم بالعنف والرعب كما ترى في خاتمة مسرحية ميديا. وقصارى القول أن يوربديز في بلاد اليونان هو بيرن، وشلي، وهوجو، مجتمعين، وهو بمفرده حركة إبداعية كاملة.
وهو يفوق منافسيه في تصوير الشخصيات، ويحل عنده التحليل النفسي، أكثر مما يحل عند سفكليز نفسه، محل تصاريف القضاء. وهو لا يمل من تقصي القوانين الأخلاقية والبواعث التي تحدد سلوك بني الإنسان. ويدرس أنواعاً مختلفة من الرجال: من زوج إلكترا الفلاّح إلى ملوك بلاد اليونان وطروادة؛ ولسنا نجد كاتباً مسرحياً غيره قد صور مثل ما صور هو من أصناف النساء المختلفة، أو صورها بمثل ما صورها هو من العطف عليها، فقد كان كل لون من ألوان الرذيلة أو الفضيلة يهمه ويسترعي انتباهه، فيصوره تصويراً واقعياً. وهو في هذا يختلف عن إسكلس وسفكليز، فقد كان هذان الكاتبان مستغرقين فيما هو عام وأبدى استغراقاً عجزا معه عن رؤية ما هو فردي ومؤقت سريع الزوال؛ وقد خلقاً بذلك أصنافاً من الشخصيات عميقة غير عادية، أما يوربديز فقد صور أفراداً أحياء، وحسبنا شاهداً على هذا أن أحداً ممن عاش قبله لم يتصور إلكترا بمثل الوضوح الذي تصورها هو به. وفي هذه المسرحيات نرى المسرحيات التي(7/298)
تمثل الصراع مع الأقدار تتخلى عن مكانها شيئاً فشيئاً إلى المسرحيات التي تمثل الموقف والأخلاق، وهي تمهد السبيل للمسلاة الخلقية التي استحوذت في القرن التالي على المسرح اليوناني على أيدي فلمون Philemon، ومنندر Menander.
3 - يوربديز الفيلسوف
لكن من السخف أن يكون أهم ما نقدر به يوربديز هو مسرحياته، ذلك أن أهم ما يعنى به لم يكن الفن المسرحي، بل كان البحث الفلسفي والإصلاح السياسي؛ فهو وليد السوفسطائيين، وشاعرة الاستنارة، وممثل الشباب المتطرف الذي كان يسخر من الأساطير القديمة، ويرنو بطرف إلى الاشتراكية، ويدعو إلى نظام اجتماعي جديد يقل فيه استغلال الرجال للرجال والرجال للنساء، واستغلال الدولة لهؤلاء وأولئك؛ وهذه النفوس الثائرة هي التي كان يكتب لها يوربديز؛ وهي التي كان من أجلها يضيف إلى مسرحياته تلك الغمزات المتشككة، ويحشر مئات الضلالات بين سطور مسرحياته الدينية المزعومة، وهو يغطي هذه وتلك بفقرات مليئة بعبارات التقي والصلاح وبالأغاني الوطنية. وكان يعرض الأساطير المقدسة بحرفيتها فيبدو ما فيها من سخافات وأباطيل واضحاً جلياً، ومع ذلك فإن أحداً لا يستطيع أن يتهمه بالمروق من الدين؛ وهو يدعو في مسرحياته بوجه عام إلى التشكك في الآلهة والدين، ولكنه يوجه ألفاظها الأولى والأخيرة إلى الآلهة. ويرجع بعض ما يمتاز به من الدهاء والذكاء، كما يرجع دهاء رجال دوائر المعارف الفرنسيين وذكائهم، إلى أنه قد أرغم على أن يفصح عن آرائه وهو يحاول إنقاذ حياته. ولقد كان شعاره هو شعار لكريشيوس:
Tantum religio potuit suader emalorum. ما أكثر الشرور التي يدفع إليها الدين: نبوءات تولد العنف في أثر العنف، وأساطير ترفع من شأن الفساد الخلقي بما تضربه من أمثلة قدسية، وما تعلنه من رضاء الآلهة عن الخيانة(7/299)
والزنا، والتلصص، والتضحية بالآدميين، والحروب. وهو يصف العراف بأنه "رجل ينطق بقليل من الحقائق وكثير من الأباطيل" (99)؛ ويقول: إن "من البلاهة المحضة" تعرف المستقبل بالفحص عن أحشاء الطير (100)؛ ويندد بجميع الوسائل التي تستخدم لمعرفة الغيب واستنزال الوحي (101)؛ وأهم من هذا كله أن يستنكر أشد الاستنكار ما تؤدي إليه الخرافات الرائجة من نشر الفساد ويقول:
سيدرك الناس أن لا وجود لآلهة، وأن لا ضوء في السماء، إذا كان الباطل سيغلب الحق في آخر الأمر ... لا تقل إن في السماء زانياً وزانية، وآلهة مسجونين وآلهة سجانين: لقد أحس قلبي من زمن بعيد أن هذه خسة ودناءة، ولن أتحول قط عن هذا الإحساس ... إنما هذه كلها أقاصيص كاذبة، شأنها شأن الحفلات الهمجية التي تقام لتنتالوس، وللآلهة التي تمزق أجساد الأطفال. إن هذه الأرض أرض السفاحين قد خلعت على الآلهة ما تتصف به هي من جشع وشهوانية. والشر ليس مقره في السماء ... وهذه كلها أقاصيص ميتة آثمة من اختراع المغنين (102).
وتراه أحياناً يقلل من حدة هذه الفقرات بترانيم لديونيشس أو مزامير دينية للآلهة مجتمعة، ولكنه في بعض الأحيان ينطق إحدى شخصياته بتشككه في الآلهة جميعها:
هل في الناس من يقول إن في السماء آلهة؟ كلا! ليس في السماء آلهة، ليس فيها آلهة، لا تسمحوا لأحد هؤلاء الحمقى الذين غرتهم هذه الخرافات الباطلة أن يخدعكم ويضللكم هذا الضلال. انظروا إلى الحقائق في ذاتها، ولا تثقوا بكلماتي أكثر مما تستحق أن يوثق بها؛ إني أصارحكم أن الملوك يقتلون، وينهبون، ويحنثون في أيمانهم، ويخربون المدن زوراً وغدراً، ولكنهم رغم هذه الآثام أسعد حالاً من الذين يحيون حياة هادئة ملؤها التقي والصلاح (103).(7/300)
وهو يبدأ مسرحية ميلانبي المفقودة بهذين البيتين اللذين يثيران أعظم الدهشة: أي زيوس، إن كان ثمة زيوس، لأني لا أعرف عنه إلا ما يقوله الناس فيه.
ويقال إن النظارة حين سمعوا هذا القول هبوا واقفين احتجاجاً عليه، وهو يختم هذه المسرحية بقوله:
والآلهة الذين يعدهم البشر حكماء، ليسوا أكثر وضوحاً من أحلام مجنحة؛ ولا تختلف أساليبهم عن أساليب الآدميين، فهي كلها فوضى واضطراب يتلوه اضطراب. ومن أراد أن يكون أقل الناس عذاباً، وألا تعمى بصيرته كما يعمى الكهنة بصائر البلهاء، يمض إلى الموت الذي يعرفه من يعرفونه (104).
وهو يعتقد أن مصائر الناس نتيجة لأسباب طبيعية، أو للمصادفات العمياء، وليست من تدبير قوى عاقلة مفكرة تتصف بها كائنات تسمو على الكائنات البشرية (105)، ويفسر بعض ما يظنه الناس معجزات تفسيراً يستند إلى العقل والمنطق: فيقول مثلاً إن ألستيز لم تمت حقاً، بل أخذت لكي تدفن حية، ولكن هرقل أدركها قبل أن تموت (106). وهو لا يقول لنا صراحة ما يعتقده هو نفسه في هذا، ولعل منشأ ذلك هو شعوره بأن ما يورده من الشواهد لا يؤدي إلى الاعتقاد الواضح؛ لكن عباراته التي هي أكثر ما يمتاز بها عن غيره هي العبارات الدالة على الإيمان بوحدة الوجود، وعلى العقيدة التي أخذت من ذلك الوقت تحل عند المتعلمين من اليونان محل عقيدة الشرك القديمة:
"يا صاحب الأساس العميق الذي يقوم عليه العالم، ويا ذا العرش الرفيع الذي يعلو على العالم، أياً كنت، يا من لا نعرفك ويصعب علينا أن نتصورك، يا منسق الموجودات، ويا عقل عقولنا؛ إليك يا الله أرفع صوتي بالثناء، لأني أرى فيك السبيل الصامتة التي تأتي بالعدالة، قبل أن يصل إلى نهاية أجله كل من يحيا ويموت (107).(7/301)
والعدالة الاجتماعية هي النغمة الصغرى في أغانيه؛ وهو يتمنى، كما يتمنى جميع من امتلأت قلوبهم عطفاً على الخلق، أن يحين الوقت الذي يكون فيه الأقوياء أكثر مم هم عطفاً على الضعفاء، والذي يقضي فيه على أسباب البؤس والنزاع (108)؛ وتراه حتى في أيام الحرب، وما تستلزمه من إثارة الروح الوطنية والحماسة للقتال، يصف مصائب الحرب وأهوالها وصفاً واقعياً لا يخفى فيه شيئاً هذه الأهوال:
كيف تعمى عيونكم يا من تدكون المدن، وتخربون المعابد، وتدمرون القبور، تلك الأحداث المحرمة التي يثوي فيها الموتى القدامى؟ ألا تعلمون أنكم عما قريب ستموتون (109)؟.
ويمتلئ قلبه حسرة حين يرى الأثينيين يقاتلون الإسبارطيين، وتدوم الحرب بينهم خمسين عاماً، يستعبد فيها بعضهم بعضاً، ويهلك فيها خير رجالهم؛ ويدعو في إحدى مسرحياته المتأخرة دعوة حارة مؤثرة إلى السلام:
"أيتها السلم؛ إنك تفيضين بالخير العميم كأنك تأتين به من نبع عميق؛ ليس في العالم كله جمال كجمالك، بل إنا لا نرى له مثيلاً حتى بين الآلهة الأخيار. إن قلبي يكاد يتفطر لطول غيابك، لقد وهن العظم مني ولم تعودي؛ وهل تكل عيناي قبل أن تريا زهرتك وجمالك؟ وهل يقضي عليّ المشيب والأحزان قبل أن تسمع أذناي مرة أخرى أغاني الراقصين الشجية ووقع أقدام من تطوق رؤوسهم أكاليل الزهر؟ ألا عودي إلى مدينتنا أيتها الحبيبة المقدسة ولا تقيمي بعيدة عنا يا من تطفئين الحقد. إن العداوات والأحقاد ستفارقنا إذا أقمت معنا وسيخرج من أبوابنا الجنون وظبا السيوف (109 أ).
ويكاد ينفرد من بين كُتاب عصره العظام بالجرأة على مهاجمة الرق. ذلك أنه قد اتضح له في أثناء حرب البلوبونيز أن معظم الأرقاء لم يكونوا كذلك بطبيعتهم، بل إنهم قد ساقتهم إلى هذه الحال ظروف الحياة وحدها؛(7/302)
وهو لا يعترف بوجود أرستقراطية طبيعية، ويرى أن البيئة لا الوراثة هي التي تخلق الرجال. والأرقاء في مسرحياته يضطلعون بأدوار هامة، وكثيراً ما ينطقون بأجمل أشعاره. وهو حين يبحث حال النساء يعطف عليهن عطف الشاعر الواسع الخيال؛ فهو يعرف أغلاطهن ويعرضها عرضاً واقعياً جعل أرسطوفان يتهمه بأنه يكره النساء؛ ولكنه في الحقيقة قد عرض قضية المرأة أحسن مما عرضها أي شاعر قديم آخر أيد حركة تحريرها التي كانت وقتئذ في بداية عهدها. وتكاد بعض مسرحياته أن تكون حديثة الطابع، تحتوي على دراسات في مشاكل الجنس البشري كالدراسات التي نشأت بعد أيام إبسن Ibsen بل إنها تحتوي على دراسات في الشذوذ الجنسي نفسه (110). وهو يصف الرجال وصفاً واقعياً، أما النساء فوصفه إياهن ينطوي على كثير من الشهامة، وتنال ميديا الرهيبة من عطفه أكثر مما يناله جبسن البطل غير الوفي؛ وهو أول كاتب مسرحي جعل المسرحية تدور حول الحب؛ حتى لقد كان آلاف من شباب اليونان يتغنون بأغنيته إلى إيروس إله الحب في مسرحية إندرمدا التي لم تصل إلينا:
"أيها الحب، إلهنا، ملك الآلهة والبشر! هلا امتنعت عن تعليمنا ما هو الحب؟ أو ساعدت المحبين المساكين، الذين تشكلهم كما تشكل الطين، كي يصلوا بكدحهم وجدهم إلى غاية موفقة سعيدة" (111).
ويوربديز بطبيعته متشائم، لأن كل من يروي قصص الحب يصبح متشائماً حين تصطدم الحقيقة بالخيال، وفي ذلك يقول هوراس وولبول Horaces Walpole " إن الحياة مسلاة عند من يفكرون، ومأساة عند من يحسون" (112): ويقول شاعرنا:
لقد نظرت من أمد بعيد إلى حياة الإنسان فلم أجد إلا خيالاً أشمط. وفي وسعي أن أؤكد أيضاً أن الذين يعدون من بين الناس حكماء، شديدي الذكاء، مبتدعين لأعظم الخطط، يجزون على هذا شر الجزاء. وهل(7/303)
أبصرت عين الله مذ بدأت الحياة رجلاً واحداً سعيداً (113)؟.
وهو يعجب من جشع الإنسان وقسوته، ومن الشريرين وسعة حيلتهم، ومن اختطاف الموت للناس اختطافاً دنيئاً خبط عشواء. وهو ينطق الموت في بداية مسرحية ألسيس بقوله: "أليست مهمتي أن أقبض أرواح المقضي عليهم؟ "؛ ويجيبه أبلو بقوله: "لا؛ بل مهمتك أن تقبض من نضجوا ووصلوا إلى الشيخوخة الكاملة". ومن رأيه أن الموت إذا جاء بعد أن يحيا الإنسان حياته كاملة كان أمراً طبيعياً، لا يصح أن يغضب أحد منه: "لو أن كل جيل من الناس جاء في أثر الجيل الذي قبله، وازدهر ثم ذبل، ثم انقضى أجله، كما يأتي الحصاد بعد الحصاد على مر السنين، لو أن هذا حدث لما بكينا صروف الزمان وما تصيبنا به الأقدار. إن هذا هو الذي تجري به سنن الطبيعة، ومن واجبنا أن لا نبتئس بما تجعله قوانينها أمراً محتوماً لا مفر منه" (114). وينتهي أمره إلى الرواقية: "اصبر كما يجب أن يصبر الرجال، ولا تضجر" (115). وتراه من حين إلى حين يحذو حذو أنكسيمانس Anaximenes ويستبق فلسفة الرواقيين فيواسي نفسه بالتفكير في أن روح الإنسان جزء من الهواء المقدس، النيوما Pneuma، وفي أنها ستبقى بعد الموت جزءاً من روح العالم (116):
من يدري؟ لعل هذا الذي نسميه موتاً هو حياة، ولعل ما نسميه حياة هو الموت؟ وكل ما هنالك من فرق أن الناس وهم أحياء يقاسون مرارة الأحزان، فإذا ما أسلموا الروح، لم تبق لديهم أحزان، ومن ثم لا يحزنون (117).(7/304)
4 - يوربديز الطريد
إن الرجل الذي نصوره من مسرحياته هذا التصوير ليشبه تمثاله الجالس في متحف اللوفر، وتماثيله النصفية في نابلي، شبهاً يحملنا على الاعتقاد بأن هذه التماثيل منقولة نقلاً أميناً عن أصول يونانية حقيقية. فوجهه الملتحي وسيم، ولكنه أضناه التفكير، ورققه الحزن الحنون. ويتفق أصدقاؤه وأعداؤه على أنه كان مكتئب الطبع يكاد أن يكون نكداً، لا يميل إلى المرح أو الضحك، وأنه قضى سنيه الأخيرة في عزلة في أرض الجزيرة التي ولد فيها. وكان له ثلاثة أبناء ذكور كانت طفولتهم سبباً فيما استمتع به من سعادة قليلة (118). وكان يجد سلواه في الكتب، ومبلغ علمنا أنه كان أول مواطن فرد في بلاد اليونان جمع لنفسه مكتبة كبيرة (1). وكان له أصدقاء أخيار، منهم بروتاغوراس ومنهم سقراط؛ ولم يكن ثانيهم يهتم بالمسرحيات ولكنه كان يقول إنه لا يتردد في أن يسير إلى ببريه مشياً على قدميه ليشهد مسرحية من مسرحيات يوربديز، وذلك لعمري قول خطير لصدوره من فيلسوف كبير. وكان الجيل الناشئ ممن تحررت عقولهم، من أسر التقاليد يعدونه زعيماً لهم، ولكنه كان له من الأعداء أكثر مما كان لأي كاتب آخر في تاريخ اليونان. وقد اقتصر القضاة الذين كانوا فيما نظن يرون
_________
(1) لقد كان في بلاد اليونان على الدوام دور كتب تقتنيها الدولة أو الملوك كما رأينا في خلال هذه القصة؛ ويمكن تتبع هذه المجموعات في مصر إلى أيام الأسرة الرابعة. وكانت المكتبة اليونانية تتألف من ملفات مرتبة في عيون صوان. وكان نشر الكتاب عندهم يعني أن مؤلفه أجاز نسخ مخطوطة ونشر النسخ المنقولة عنه. فإذا حدث هذا جاز بعد ذلك كتابة عدة نسخ من المخطوط من غير حاجة إلى إذن المؤلف أو الحصول منه على "حق النشر". وكانت النسخ المنقولة من المؤلفات المنقولة من المؤلفات الشعبية المتداولة كثيرة العدد ولم تكن كثيرة التكاليف. ويحدثنا أفلاطون في الأبولوجيا أن رسالة أنكساغوراس في الطبيعة يمكن شراؤها بدرخمة واحدة (أي ريال أمريكي)، وقد أصبحت أثينة في عصر بركليز مركز تجارة الكتب في بلاد اليونان.(7/305)
أن واجبهم يقضي عليهم بأن يحموا الدين والأخلاق من سهام تشككه، اقتصر هؤلاء القضاة على تتويج خمس من مسرحياته بتاج النصر. ولقد كان الأركون المشرف على شئون الدين سخياً غاية السخاء حين قبل هذا العدد من مسرحيات يوربديز ضمن المسرحيات التي يجيز تمثيلها الدين. وكان المحافظون على اختلاف نزعاتهم يلقون عليه هو وسقراط تبعة انتشار نزعة الكفر بالآلهة بين شباب أثينة. وحاربه أرسطوفان من بادئ الأمر في مسرحية الأركانيين، وهجاه وصوره تصويراً هزلياً مرحاً في مسرحية الشموفريازوسي؛ وفي السنة التالية لموت الشاعر واصل هجومه عليه في مسرحية الضفادع. على أنه يقال لنا رغم هذا إن الكاتبين كاتب المآسي وكاتب المسالي، ظلا صديقين إلى النهاية (120). أما النظارة فكانوا ينددون بإلحاده ويهرعون إلى مشاهدة مسرحياته. ولما أن نطق الصياد الشاب في السطر 612 من مسرحية هبوليتس بقوله "لقد أقسم لساني، ولكن عقلي لا يزال طليقاً" احتج الجمهور احتجاجاً قوياً على ما ظنه انتهاكاً شديداً لحرمة الآداب والدين حتى اضطر يوربديز أن يقف في مكانه ويهدئ ثائرتهم بأن يؤكد لهم أن هبوليتس سيجزى على قوله هذا الجزاء الأوفى قبل انتهاء القصة - وهو وعد مأمون العاقبة يكاد يصدق على كل شخصية في المأساة اليونانية.
ووجهت إليه حوالي عام 410 تهمة المروق من الدين، ولم يمض بعدئذ إلا قليل من الوقت حتى وجه إليه هجيانون Hygianon تهمة أخرى، تتصل بالجزء الأكبر من ثروته، واستدل على خيانة يوربديز بالبيت الذي نطق به هبوليتس. وبرىء الشاعر من التهمتين، ولكن موجة السخط التي قوبلت بها مسرحية المرأة الطروادية أشعرت يوربديز أنه لم يكد يبقى له صديق واحد في أثينة. ويقال إن زوجته نفسها قد انقلبت عليه لأنه لم(7/306)
يشترك في حفلات الزواج الحماسية في المدينة، وما وافت سنة 408، وكان قد بلغ الثانية والسبعين من العمر، حتى قبل دعوة وجهها إليه الملك أرخلوس Archelaus لينزل ضيفاً عليه في عاصمة مقدونية. ووجد يوربديز في مدينة بلا Pella تحت حماية هذا الفردريك (1) - ولم يكن كملك بروسيا يخشى منه على عقائد شعبية - وجد في هذه المدينة الطمأنينة والراحة، وفيها كتب مسرحية إفجينيا في أوليس التي تكاد تكون كلها من قصائد الرعاة، ومسرحية الباخيات الدينية العميقة. ومات بعد ثمانية عشر شهراً من قدومه إلى تلك المدينة، ويقول أشقياء اليونان إن موته كان نتيجة لهجوم كلاب الملك وتمزيقها جسده.
وبعد سنة من موته عرض ابنه المسرحيتين في احتفال المدينة بعيد الديونيشيا ومنحهما القضاة الجائزة الأولى. ويظن النقاد، ومنهم العلماء المحدثون أنفسهم، أن مسرحية الباخيات كانت ترضية قدمها يوربديز للدين اليوناني (122). على أنه ليس ببعيد أن يكون قد قصد بالمسرحية أن تكون قصة رمزية لما لقيه يوربديز من معاملة على أيدي الشعب في أثينة.
وتقص المسرحية كيف مزقت جماعة من النساء المتظاهرات في الحفلات الديونيشية تقودهن أجيف Agave أم بنثيوس Pentheus ملك طيبة، نقول كيف مزقت أولئك النسوة جسم هذا الملك لأنه طعن في خرافتهن الباطلة الهمجية وتدخل من غير حق في شئون حفلاتهن.
ولم تكن هذه فكرة جديدة، فإن القصة من الأساطير الدينية المأثورة. وكانت أسطورة التضحية بحيوان أو تمزيق جسم إنسان إذا جرؤ على حضور هذه المواكب جزءاً من الطقوس الديونيشية. وقد ربطت هذه المسرحية
_________
(1) يقصد أرخلوس نفسه الذي استضاف يوربديز كما استضاف فردريك الأكبر ملك بروسيا فلتير. (المترجم)(7/307)
القوية بين المأساة اليونانية في عنوان قوتها وبين المأساة اليونانية في بداية نشأتها، وذلك بعودتها إلى استمداد حبكتها من قصة ديونيشس. وقد ألف الشاعر هذه المسرحية بين جبال مقدونيا التي تصفها في أشعار لا تضعف قوتها، ولعله كان يقصد أن تمثل في بلا حيث كانت عبادة باخوس Bacchus ذات قوة عظيمة. وهي تدل على علم مدهش غزير بالطقوس الدينية ونشوتها؛ وفيها ينطق عباد باخوس بمزامير تدل على الخشوع والصلاح ليس ببعيد أن يكون الشاعر قد تجاوز فيها حدود العقلية، وأدرك وقتئذ ضعف العقل، وأن العواطف والشاعر لا بد منها للنساء والرجال على السواء. ولكن القصة تحيي من طرف خفي الدين الديونيشي، وموضوعها هي الأخرى هو ما قد ينشأ من العقائد الخرافية من شرور.
وتفصيل ذلك أن الإله ديونيشس يزور طيبة متخفياً في صورة باخوس أو متجسداً ويدعو إلى عبادة ديونيشس. وترفض بنات كدمس رسالته فيسلبهن وعيهن ويبث فيهن نشوة دينية قوية، فيذهبن إلى التلال ليعبدنه بالرقص الهمجي العنيف، ويرتدين جلود الحيوان. ويتمنطقن بالأفاعي، ويضعن على رؤوسهن أكاليل من الخلباب، ويرضعن صغار الذئاب والظباء، ويقاوم ملك طيبة هذه الطقوس ويقول إنها تناقض العقل والأخلاق والنظام، ويسجن الداعي إليها فيصبر على العقاب صبر المسيحيين الأولين. ولكن الإله الذي يتجلى ويفتح جدران السجن ويستعين بقوته الإلهية على تخدير الحاكم الشاب. ويلبس بنثيوس تحت هذا التأثير ثياب امرأة، ويتسلق التلال، وينضم إلى جماعة المحتفلات. وتتبين النسوة أنه رجل، فيمزق جسمه إرباً. وتحمل أمه، التي تملكتها "النشوة" فأفقدتها وعيها، رأسه(7/308)
المفصول في يديها ظناً منها أنه رأس أسد، وتغني عليه أغنية نصر. ثم تفيق فتدرك أنها تمسك برأس ابنها، وتشمئز من تلك الطقوس التي أسكرتها وأفقدتها وعيها، ويقول لها ديونيشس إنها سخرت منه وهو إله، وإن ذلك هو جزاؤها على هذه السخرية، فتجيبه بقولها وهل يليق بالإله أن يشبه بالرجل المتكبر في نوبة غضبه؟ والدرس الأخير الذي يلقيه علينا يوربديز في هذه المسرحية هو بعينه الذي يلقيه علينا في أولى مسرحياته، ولقد كان يوربديز في مسرحيته التي وضعها وهو يحتضر هو بعينه يوربديز الذي عهدناه في أيامه الأولى.
وذاع صيته وأحبه الناس بعد موته حتى في أثينة نفسها، وأصبحت الفكرة التي جاهد من أجلها هي الآراء المسيطرة على العقول في القرون التالية. ولما انتشرت الحضارة اليونانية خارج بلاد اليونان نفسها أخذ المتحضرون الجدد يعدونه هو وسقراط أعظم من عرفتهم بلاد اليونان من أصحاب العقول الملهمة الحافزة. ذلك أن يوربديز كان يعالج المسائل الحية لا أقاصيص الشعر الميتة، ولقد ظل العالم يذكره ولم ينسه إلا بعد زمن طويل. فقد خيم النسيان على مسرحيات من سبقوه من المؤلفين؛ أما مسرحياته فكان تمثيلها يتكرر في كل عام، وفي كل مكان أنشئ فيه مسرح يوناني. ولما أخفقت الحملة التي وجهت إلى سرقوصة (415) والتي تنبأ يوربديز بإخفاقها في مسرحية المرأة الطروادية، وواجه الأسرى الأثينيون الموت أحياء وهم يعملون عبيداً مصفدين بالأغلال في محاجر صقلية، ولما حدث هذا أطلق سراح كل من استطاع أن ينشد فقرات من مسرحيات يوربديز (كما يحدثنا بذلك بلوتارخ (123)). وقد صيغت المسلاة الجديدة على غرار مسرحياته، وتطورت منها؛ وفي ذلك يقول أحد زعماء هذه المسلاة: "لو أنني كنت واثقاً من أن للموتى عقولاً تدرك لشنقت نفسي لكي(7/309)
أرى يوربديز" (124). وكان إحياء فلسفة التشكك، والحرية العقلية، والنزعة الإنسانية، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان هذه الإحياء سبباً في بعث يوربديز إلى الوجود وجعله أكثر اندماجاً في ذلك العهد من شكسبير. وجملة القول أن شكسبير وحده هو الذي كان يضارع يوربديز، وإن كان جيته يستكثر هذا على شكسبير نفسه. ومن الأسئلة التي يوجهها جيته إلى إكرمان: "هل أنجبت أمم الأرض بعد يوربديز كاتباً مسرحياً جديراً بأن يخلفه؟ " (125). والجواب عن هذا أنها لم تنجب أكثر من كاتب واحد (1).
_________
(1) يريد شكسبير. (المترجم)(7/310)
الفصل السادس
أرسطوفان
1 - أرسطوفان والحرب
المأساة اليونانية أشد قتاماً من المآسي الإنجليزية في عصر الملكة إليزابث لأنها قلما تستخدم مبدأ الترفيه التهكمي الذي يتخلل المأساة فيزيد قدرة السامع على احتمال ما فيها من فواجع. والكاتب اليوناني المسرحي لم يكن يلجأ إلى هذه الطريقة لأنه كان يفضل أن تكون مأساته عالية المستوى من بدايتها إلى نهايتها، ولذلك ترك المسلاة إلى كتاب المسرحيات الهزلية الخالية من المغزى والتي تهدئ عواطف النظارة المهتاجة بما تهيئه لهم من الفكاهة والراحة. وقد انفصلت المسلاة على مر الزمن من المأساة واستقلت عنها، وأفرد لها يوم خاص في الحفلات الديونيشية اقتصر منهج الاحتفال فيه على ثلاثة مسال أو أربع يكتبها مؤلفون مختلفون وتمثل واحدة بعد واحدة لتحصل كل منها على جائزة مستقلة.
وازدهرت المسلاة اليونانية كما ازدهرت الخطابة، في صقلية أول الأمر. ذلك أنه قدم إلى سرقوصة من كوس في عام 484 فيلسوف، شاعر، طبيب، كاتب مسرحي يدعى إبكارمس Epicharmus أخذ يعرف الناس بفيثاغورس وهرقليطس ومبادئ العقليين في خمس وثلاثين مسلاة لم يبق منها إلا عبارات متفرقة منقولة عنها، وبعد اثنتي عشرة سنة من قدوم إبكارمس إلى صقلية أجاز الأركون الأثيني لفرقتها أن تمثل مسلاة؛ وسرعان ما نما الفن الجديد وتطور بتأثير الديمقراطية والحرية حتى أصبح أهم وسائل الهجو الأخلاقي والسياسي في أثينة؛ وكانت حرية التعبير الواسعة المسموح بها في المسلاة تقليداً يرجع إلى المواكب الديونيشية التي كانت تحمل عضو التناسل في الذكور. ولما أسيء استعمال هذه(7/311)
الحرية سن في عام 440 ق. م قانون يحرم التهجم على الأشخاص في المسلاة، لكن هذه الخطر ألغي بعد ثلاث سنين من ذلك الوقت وظل الكُتاب يستمتعون بحرية الكلام وحرية السباب كاملتين حتى في أيام حرب البلوبونيز، فكانت المسلاة اليونانية والحالة هذه تؤدي واجب الصحافة الحرة في الديمقراطيات الحديثة، أعني بذلك واجب النقد السياسي.
ونحن نسمع عن كثيرين من كتّاب المسالي قبل أرسطوفان، بل إن أرسطوفان نفسه - وهو ريليه العهد العظيم، قد نزل من عليائه فأثنى على بعضهم بعد أن انقشع عجاج المعارك التي احتدمت بينه وبينهم. ومن هؤلاء الكتّاب أقراطينوس Cratinus لسان سيمون Cimon الناطق، والذي أثار حرباً شعواء على بركليز ولقبه "الإله القادر ذا الرأس الشبيه ببصل الفأر (1) " (126). ولقد أنجانا الزمان الرحيم من قراءة مسرحيات هذا الكاتب ... ومن هؤلاء السباقين أيضاً فركراتس الذي هجا في مسرحية الرجال الهمج التي كتبها حوالي 420 ق. م الأثينيين الذين يعلنون أنهم يمقتون الحضارة ويتمنون العودة إلى الطبيعة. ألا ما أقدم البدع التي يبتدعها الناس في شبابهم! على أن أقدر منافسي أرسطوفان هو يوبوليس Eupolis، وقد تعاونا أولاً في العمل ثم تنازعا وافترقا، وأخذ كلاهما يهجو صاحبه أقذع الهجاء، ولكنهما مع ذلك اتفقا في حملتهما على الحزب الديمقراطي. وإذا كانت المسلاة قد عادت الديمقراطية طوال القرن الخامس فقد كان من أسباب هذا العداء أن الشعراء يحبون المال، وأن الأشراف كانوا أغنياء؛ لكن أكبر أسبابه أن وظيفة المسلاة اليونانية كانت تسلية الجماهير عن طريق النقد، وأن الحزب الديمقراطي كان وقتئذ صاحب السلطان. وإذ كان بركليز زعيم الديمقراطية يعطف على الأفكار الجديدة كتحرير المرأة والنزعة العقلية في الفلسفة فإن كتاب المسالي قد اتفقوا جميعاً، اتفاقاً يبعث على الريبة في مصدره، على مقاومة التطرف في جميع
_________
(1) نبات بصلي يسمى أيضاً العنصل والسيقل Squill. ( المترجم)(7/312)
أشكاله، وأخذوا يدعون إلى العودة إلى أساليب "رجال مرثون" وما كان يعزى إليهم من مبادئ أخلاقية. وكان أرسطوفان لسان هذه الرجعية ومردد صداها، كما كان سقراط ويوربديز رائدي الآراء الجديدة. وهكذا استحوذ النزاع بين الدين والفلسفة على مسرح التمثيل الهزلي.
وكان لدى أرسطوفان من الأسباب ما يبرر حبه للأرستقراطية، فقد كان ينتمي إلى أسرة مثقفة غنية، ويبدو أنه كان يمتلك أرضاً في إيجينيا، بل إن اسمه نفسه ليدل على أنه من النبلاء لأن معناه "الأفضل يظهر". وكان مولده حوالي عام 450 ق. م، وإذن فقد كان في عنفوان الشباب حين دارت بين أثينة وإسبارطة تلك الحرب العوان التي أضحت فيما بعد موضوعاً مشئوماً لمسرحياته. وقد اضطره غزو إسبارطة لأتكا إلى مغادرة مزرعته في الريف والسكنى في أثينة. وكان يكره حياة المدن، وأظهر شديد استيائه حين طلب إليه فجأة أن يكره الميغاريين، والكورنثيين، والإسبارطيين. وأخذ يندد بهذا التطاحن الذي يقتل فيه اليوناني أخاه، ويدعو في كل مسرحية يكتبها إلى السلم.
وانتقلت السلطة العليا في أثينة بعد موت بركليز في عام 429 إلى يدي كليون Cleon دابغ الجلد الغني ممثل المصالح التجارية التي تدعو إلى القضاء قضاءً مبرماً على إسبارطة منافسة أثينة في السيادة على بلاد اليونان. وقد سخر أرسطوفان في مسرحية له مفقودة تدعى "البابليين" (426) سخريةً لاذعة من كليون وأساليبه السياسية قدم بسببها إلى المحاكمة بتهمة الخيانة وحكم عليه بغرامة. وثأر أرسطوفان لنفسه بعد عامين من هذا الحكم بإخراج مسرحية الفرسان The Knights؛ وكانت أهم شخصية في هذه المسرحية هي شخصية ديموس Demos ( أي الشعب)؛ وكان لديموس هذا رئيس خدم يدعى "الدباغ". ولم يكن أحد يجهل من المقصود بهذه الألقاب حتى كليون نفسه الذي كان ممن شاهدوا المسرحية. وكان ما فيها من هجو لاذعاً شديداً إلى حد امتنع الممثلون جميعاً عن تمثيل دور الدباغ خوفاً(7/313)
من العقاب السياسي الصارم، فلم يجد أرسطوفان بداً من أن يمثل بنفسه هذا الدور وفي هذه المسرحية يعلن نيشياس Nicias ( وهو اسم الزعيم المحترف رئيس الحزب الألجركي) أن الوحي أنبأه بأن الحاكم الثاني الذي سيتولى الأمر في بيت ديموس سيكون بائع وزم. ويُقْبل هذا البائع الدوار ويحييه العبيد ويلقبونه "زعيم المستقبل في أثينتنا المجيدة! " ويخاطبه بائع الوزم بقوله: "أرجو أن تسمح لي بأن أذهب لأغسل سقطي ... إنك تسخر مني". ولكن رجلاً يدعى دمستين يؤكد له أنه يتصف بالصفات التي تؤهله لأن يحكم الشعب- أليس هو وغداً منحطاً، مجرداً من العلم على اختلاف أنواعه؟ ويخشى الدباغ أن يفقد مركزه فيؤكد ولاءه لديموس واستعداده لخدمته، ويقول إن أحداً غيره لم يخدم ديموس كما خدمه هو إلا العاهرات. وتحوى المسرحية المجون الذي اعتاده أرسطوفان: فالوزام يضرب الدباغ بالسقط ويستعد لمباراة خطابية في الجمعية بأكل مقدار من الثوم؛ ويعقب هذا تنافس في الملق والدهان ليعرف مَن من المتنافسين يستطيع أن يسرف في مديح ديموس أكثر من سواه، فيكون بذلك "أكثر استحقاقاً لرضاء ديموس وبطنه". ويحضر المتنافسون قدراً عظيماً من الطيبات، يبسطونها أمام ديموس قبل الانتخاب لتكون وعداً منهم بما سوف يقدمونه له بعدها. ويقترح الوزام أن يختبر شرفهم وأمانتهم بأن تفتش خزانة كل مرشح، فيعثر في خزانة الدباغ على كومة من المأكولات الشهية الطرية، أهمها كعكة ضخمة لم يقطع منها لديموس إلا قطعة جد صغيرة (وكان ذلك إشارة إلى تهمة رائجة في ذلك الوقت تقول إن كليون قد سرق قدراً كبيراً من أموال الدولة). وعلى أثر هذا يفصل الدباغ من عمله ويصبح الوزام حاكم بيت ديموس.
وتواصل مسرحية الزنابير السخرية من الديمقراطية سخرية أخف من السخرية السابقة. ففيها يظهر جماعة من المواطنين المتعطلين - على هيئة زنابير - يسعون إلى كسب أبلة أو أبلتين في كل يوم بأن يكونوا قضاة، حتى(7/314)
يستطيعوا بالاستماع إلى "المنزلفين" وجباية الضرائب الباهظة أن يستولوا على أموال الأغنياء ويضعوها في خزانة الدولة وفي جيوب الفقراء.
ولكن أكثر ما يهتم به أرسطوفان في هذه المسرحيات الأولى هو السخرية من الحرب والدعوة إلى السلم. فبطل مسرحية الأكارنيين (425) رجل يسمى دسيوبوليس Dicaeopoles " المواطن الشريف" وهو مزارع يشكو من أن الجيوش قد أتلفت أرضه حتى لم يعد يستطيع العيش بعصر النبيذ من كرومه. وهو لا يجد ما يدعو إلى الحرب، ويؤمن بأنه ليس بينه وبين الإسبارطيين سبب للخصام. ويطول انتظاره لأن يعقد القواد والسياسيين الصلح، فيوقع هو معاهدة شخصية مع اللسديمونيين، ويشهر به جماعة من جيرانه الوطنيين دعاة الحرب فيجبهم بقوله:
أني أشك كثيراً هل الإسبارطيون هم الملومون وحدهم في جميع الأحوال.
الجيران: أتقول إنهم غير ملومين في جميع الأحوال؟ يا لك من وغد أفاق! كيف تجرؤ على النطق بهذه الخيانة الوطنية أمامنا، ثم تظن أنك ستنجو منا؟
ويوافق على أن يسمح لهم بقتله إذا عجز عن البرهنة على أن أثينة يقع عليها من اللوم في إشعال نار الحرب بقدر ما يقع على إسبارطة. ويوضع رأسه على وضم، ويبدأ في الإدلاء بحجته. وفي هذه اللحظة يدخل قائد أثيني، مهزوم، متبجح، منتهك لحرمة الآلهة، يشمئز منه الحاضرون، فيخلو سبيل ديسيوبوليس، ويدخل السرور على قلب كل إنسان بأن يبيع لهم خمراً يسمى السلم. وكانت المسرحية غاية في الجرأة ولا يجيزها إلا شعب تعود أن يستمع إلى ما يقال ضده. وقد استفاد أرسطوفان من عادة الاستطراد التي كانت تجيز لكاتب المسلاة أن يخاطب النظارة على لسان فرقة المنشدين أو إحدى شخصيات المسرحية، فأخذ يشرح للجمهور الغرض الذي يهدف له بوصفه رجلاً دواراً فكهاً بين الأثينيين ينقب عن عيوبهم ويكشفها لهم.
"لم يعمد شاعرنا منذ كتب المسالي إلى إطراء نفسه على المسرح ... ولكنه(7/315)
يعتقد أنه فعل لكم الخير الكثير. وإذا لم يقبلوا بعد الآن أن يسرف الغرباء في خداعكم، أو يغروكم بالملق والدهان، وإذا لم تكونوا في السياسة إمعات كما كنتم من قبل، فالفضل في ذلك راجع إليه. وقد كنتم من قبل إذا أرادت وفود المدن الأخرى أن تخدعكم لا يتطلب ذلك منهم إلا أن يصفوكم بأنكم "الشعب المتوج بالبنفسج"، فلا تكادون تسمعون لفظ بنفسج حتى تعتدلوا في جلستكم على أطراف أعجازكم. وإذا أراد أحد أن يستثير غروركم وتحدث عن "أثينة الغنية الناعمة نال كل ما يبغيه منكم لأنه يتحدث عنكم كما يتحدث عن السردين في الزيت. ولقد أحسن الشاعر إليكم كل الإحسان حين حذركم من هذه الحيل الخادعة" (127).
ولقد نال الشاعر أعظم النصر في مسرحية السلم التي أخرجها عام 421. ففي ذلك الوقت كان كليون قد مات، وأوشك نيشياس أن يوقع مع إسبارطة معاهدة سلام وصداقة تدوم خمسين عاماً. ولكن الحرب اشتعلت نارها مرة أخرى بعد بضع سنين، وخاب أمل أرسطوفان في بني وطنه فدعا نساء اليونان في عام 411 أن يعملن لحقن الدماء. وتبدأ مسرحية ليسستراتا باجتماع نساء أثينة، في مطلع الفجر ورجالهن نائمون في مجلس حربي قرب الأكربوليس، ويتفقن على أن يمنعن عن أزواجهن متع الحب حتى يعقدوا الصلح مع العدو، ثم يرسلن رسولاً إلى نساء إسبارطة يدعونهن إلى معاونتهن في حملة السلم الجديدة. ثم يستيقظ الرجال آخر الأمر من نومهم فيعون النساء أن يعدن إلى بيوتهن، وتأبى النساء العودة فيحاصرهن الرجال بدلاء ملأى بالماء الساخن وبسيل من الكلام؛ وتلقي ليسسترا (منقذة أثينة) على الرجال درساً تقول فيه:
لقد صبرنا عليكم كثيراً في الحروب الماضية ... ولكننا كنا نفرض عليكم رقابةً شديدة، وكثيراً ما كنا نسمع، ونحن في منازلنا، أنكم قد(7/316)
أخطأتم في تقرير أمر من الأمور. فإذا سألنا عنه قال الرجال: "وما شأنكن أنتن والمسألة عن هذا؟ اصمتن". وسألنا "كيف يحدث يا زوجي أن تسير الأمور بهذه السخف على أيدي الرجال؟ ". ويجيب زعيم الرجال بقوله إن النساء يجب أن يبتعدن عن شئون الدولة، لأنهن عاجزات عن تصريف شئون الخزانة العامة. (وتتسلل بعض النساء في أثناء هذا النقاش إلى أزواجهن وهن يتمتمن بحجج من نوع حجج أرسطوفان). وترد ليسسترا على ذلك بقوله: "وكيف لا يستطعن؟ فطالما دبرت الزوجات شئون أزواجهن المالية لخيرهم ولخيرهن". وتبدي من الحجج القوية ما يقنع الرجال آخر الأمر بعقد مؤتمر من الدول المحاربة، ويجتمع مندوبو هذه الدول، وتهيئ لهم ليسسترا كل ما يستطيعون أن يشربوه من الخمر. وسرعان ما تلعب الخمر برؤوسهم فيوقعون المعاهدة التي طال انتظارها. ويختم المنشدون المسرحية بنشيد مدح السلم.
2 - أرسطوفان والمتطرفون
يرى أرسطوفان أن انحلال الحياة الأثينية العامة يرجع إلى شرين أساسيين هما الديمقراطية والخروج على الدين. وهو يتفق مع سقراط في أن سيادة الأمة قد انقلبت فأصبحت سيادة السياسيين؛ ولكنه كان واثقاً من أن تشكك سقراط، وأنكساغورس والسوفسطائيين قد ساعد على انحلال عرى الروابط الخلقية التي كانت في الزمن القديم عاملاً قوياً في تدعيم النظام الاجتماعي والاستقامة الفردية. وقد سخر أشد السخرية من الفلسفة الجديدة في مسرحية السحب. وخلاصتها أن رجلاً من الطراز القديم يدعى استربسياديز Stripsiades كان يبحث عن حجة يبرر بها التنصل من ديونه، فيغتبط إذ يسمع أن سقراط يدير متجراً للتفكير، يستطيع كل إنسان أن يتعلم فيه كيف يثبت كل ما يريد إثباته ولو كان خاطئاً. ويتخذ الرجل طريقة إلى مدرسة "المفكرين الأشداء"، ويرى(7/317)
في وسط حجرة الدرس سقراط معلقاً من السقف في سلة، ومنهمكاً في التفكير كما يرى بعض الطلاب منحنين متجهين بأنوفهم نحو الأرض:
استربسياديز: ماذا يفعل هؤلاء الناس الذين ينحنون هذا الانحناء العجيب؟
الطالب: إنهم يفحصون عن الأسرار العميقة عمق ترتروس.
استربسياديز: ولكن لم- عفواً ولكن- أجزاءهم الخلفية- لم أراهم مثبتين في الهواء على هذا النحو العجيب؟
الطالب: إن أطرافهم الأخرى تدرس الفلك.
يطلب استربسياديز إلى سقراط أن يعلمه بعض الدروس
سقراط: وبأي الآلهة تقسمون، لأن الآلهة ليست من العملة الرائجة عندنا؟.
ويشير إلى فرقة المرتلين في مسرحية السحب
إن هؤلاء هم الآلهة الحقيقيون.
استربسياديز: لكن قل لي، ألا تؤمن بزيوس؟.
سقراط: ليس لزيوس وجود.
استربسياديز: ومن الذي ينزل المطر إذن؟.
سقراط: هذه السحب، فهل رأيت مطراً ينزل من غير سحاب؟
ولو أن زيوس كان هو الذي ينزل المطر لأنزله في الجو الصحو وحين تظهر السحب ...
استربسياديز: ولكن قل لي من الذي يرسل الرعد؟ إن جسمي ليرتجف منه
سقراط: إن هذه السحب في اندفاعها تحدث الرعد.
استربسياديز: كيف؟(7/318)
سقراط: إذا امتلأت بالماء واندفعت في سيرها تساقطت بقوة عنيفة بعضها على بعض وأحدثت هذه القعقعة.
استربسياديز: ولكن من الذي يسوقها؟ أليس هو زيوس؟
سقراط: كلا، إن الدوامة الأثيرية هي التي تسوقها.
استربسياديز: إذن فأعظم الآلهة كلها هي الدوامة. ولكن ما الذي يحدث قعقعة الرعد؟
سقراط: سأعلمك من حالتك أنت نفسك. ألم يحدث لك مرة ما أن امتلأت بالطعام في إحدى الولائم،
ثم اضطربت معدتك فحدثت في داخلك كركرة؟
وفي منظر أخر يلتقي فيديبديز Pheidippides بن استربسياديز بالحجة الصحيحة والحجة الباطلة مجتمعتين. وتخبره أولاهما بأن عليه أن يقلد الفضائل الرواقية التي كان يتصف بها رجال مرثون، ولكن الأخرى تشير عليه بأن يتخلق بالأخلاق الحديثة. وتسأله الحجة الباطلة: هل في الناس من نال شيئاً بالعدالة أو الفضيلة أو الاعتدال؟، وتقول: إنه إذا وجد رجل شريف ناجح وجد معه على الدوام عشرة رجال خونة ناجحين معظمين. وتضيف على ذلك قولها: انظر على الآلهة نفسها. لقد كذبت، وسرقت، وقتلت، وزنت. وهاهي ذى يعبدها اليونان جميعهم. وحين تشك الحجة الصحيحة في أن معظم الناجحين كانوا خونة، تسألها الحجة الباطلة:
من أي طبقة من الناس يخرج رجال القانون عندنا؟
الحجة الصحيحة: من بين السفهاء.
الحجة الباطلة: هذا حق. ومن أي صنف يخرج شعراؤنا كتاب المآسي.
الحجة الصحيحة: من بين السفهاء.(7/319)
الحجة الباطلة: وخطباؤنا العموميون؟
الحجة الصحيحة: كلهم سفهاء.
الحجة الباطلة: انظري الآن إلى من حولك:
تلتفت وتشير إلى النظارة
أية طبقة من الطبقات تنتمي إليها الكثرة الغالبة من أصدقائنا الحاضرين هنا؟.
وتغمض الحجة الصحيحة عن النظرة في جد ووقار
الحجة الصحيحة: إن الكثرة الغالبة منهم سفهاء.
وفيدبديز تلميذ الحجة الباطلة يأتمر بأمرها ويبلغ من طاعته إياها أن يضرب أباه بحجة أنه يقوى على ضربه وأنه يستمتع بهذا الضرب، ويسأل فوق ذلك "ألم تضربني وأنا غلام؟ " ويستحلفه استربسياديز بزيوس أن يرحمه، ولكن فيدبديز يرد عليه بقوله إن زيوس لم يعد له وجود، لأن الدوامة قد حلت محله. ويستشيط الوالد غضباً، ويهيم في الطرقات، ويدعو جميع المواطنين الصالحين إلى القضاء على هذه الفلسفة الجديدة، فيهاجمون متجر التفكير ويحرقونه ولا ينجو سقراط بحياته إلا بعد جهد شديد.
ولسنا نعرف ماذا كان لهذه المسلاة من أثر في مأساة سقراط. وكل الذي نعرفه أنها مثلث في عام 423 قبل المحاكمة الشهيرة بأربع وعشرين سنة؛ ويبدو أن ما فيها من فكاهة طيبة لم يغضب الفيلسوف، بل يقال إنه ظل واقفاً طوال التمثيل (128) ليمكن أعداءه من أن يروه أوضح رؤية. ويصور أفلاطون سقراط وأرسطوفان في صورة الصديقين بعد التمثيل، وقد أوصى أفلاطون نفسه ديونيشيوس الأول ملك صقلية بهذه الأعجوبة المسلية، وظل محتفظاً بصداقته لأرسطوفان حتى بعد أن مات أستاذه (129). وقد كان ملاتوس أحد الثلاثة الذين اتهموا سقراط في عام 399 طفلاً(7/320)
حين مثلت المسلاة، وكان ثانيهما وهو أنيتس على وفاق مع سقراط بعد أن مثلت (130)؛ وأكبر الظن أن انتشار المسرحية بعدئذ بوصفها قطعة أدبية أضر بالفيلسوف أكثر مما أضر به التمثيل الأول. ولقد أشار سقراط في دفاعه عن نفسه- كما يرويه أفلاطون- إلى هذه المسرحية وقال عنها إنها من أكبر الأسباب التي سوأت سمعته وألبت القضاة عليه.
وكان في أثينة هدف آخر وجه إليه أرسطوفان سهام هجائه، وقد وجهها هذه المرة سهام عداوة لا تنطفئ نارها. ذلك أنه لم يكن يثق بتشكك السوفسطائيين؛ أو بالفردية الأخلاقية، والاقتصادية، والسياسية التي كانت تنخر في عظام الدولة؛ أو بالدعوة النسائية العاطفية التي ترمي إلى مساواة النساء بالرجال، والتي كانت تثير ثائرة النساء؛ أو بالاشتراكية التي كانت تعمل عملها بين الأرقاء. لقد رأى هذه المبادئ كلها واضحة أجلى وضوح في يوربديز، واعتزم أن يقضي بالضحك والسخرية على ما كان للكاتب المسرحي الكبير من أثر في العقلية اليونانية.
وبدأ يعمل لهذه الغاية في عام 411 بمسرحية أسماها السموفريزوسيات The smophoriazusae. وقد اشتق هذا اللفظ من اسم النساء اللائى كن يحتفلن بعيد دمتر وبرسفوني عن طريق الامتناع الجنسي. وفيه يجتمع عبادهما ليناقشن آخر ما سخر به يوربديز من بنات جنسهن، ويدبرن أمر الانتقام منه. وتترامى أنباء هذه الخطة إلى يوربديز فيشير على نسيلكس Mnesilochus والد زوجته بأن يلبس ثياب النساء ويدخل الاجتماع ليدافع عنه. وتشكو أولاهن من أن الكاتب المسرحي قد حرمها من وسيلة كسب عيشها؛ فقد كانت من قبل تصنع أكاليل الزهر للهياكل، فلما أن قال يوربديز إنه لا وجود للآلهة، كسدت تجارتها. ويدافع نسيلكس عن يوربديز بقوله إن أسوأ ما قاله عن النساء حق لا مراء فيه، وإنه أخف مما تعرفه النساء أنفسهن من أخطائهن. وترتاب النساء في أن هذا(7/321)
الطعن في النساء صادر عن امرأة، فيمزقن ثياب نسيلكس، ولا يستطيع النجاة من تمزيق جسمه إرباً إلا بأن يختطف طفلاً رضيعاً من بين ذراعي امرأة، وينذرهن بأنه سيقتله إذا مسسنه هو بسوء. ولكنهن لا يعبأن بهذا التهديد ويهجمن عليه، فيخلع عن الطفل لفافته، فيجد أنه زق خمر قد لف في ملابس طفل هرباً من أداء ضريبة الإيراد. ويقول إنه رغم هذا سيقطع عنقه وتحزن لهذا صاحبة الزق وتصيح قائلة: "سألتك ألا تتلف زقي العزيز، فإن كنت لا بد فاعلاً فجيء بجفنة تتلق فيها دماءه". ويحل نسيلكس المشكلة بأن يشرب الخمر، ويرسل في الوقت نفسه دعوة إلى يوربديز بأن يخف لإنقاذه من ورطته. وخليق بنا أن نقول بهذه المناسبة إن يوربديز يظهر في أجزاء مختلفة من مسرحياته- في صورة منلوس، أو برسيوس، أو إكو Echo. وفي هذه المرة يفلح أخيراً في تمكين نسيلكس من الهرب.
ويعود في مسرحية الضفادع إلى مهاجمة يوربديز رغم موته. ذلك أننا نرى ديونيشس إله المسرحية غاضباً على من بقي حياً في أثينة من كُتاب المسرحيات، فينزل إلى الجحيم ليعود بيوربديز. وتلتقي به وهو ينتقل في قارب إلى العالم السفلي طائفة من الضفادع فتحييه بنقيقها تحية لا نشك في أن شباب أثينة ظل يتندر بها شهراً كاملاً. ولا ينسى أرسطوفان أيضاً أن يسخر من ديونيشس ولا يخشى من تمثيل طقوس إلوسبز تمثيلاً ساخراً. ذلك أن الإله حين يصل إلى العالم السفلي يجد يوربديز يحاول خلع إسكلس عن زعامة كُتاب المسرحيات جميعهم. ويتهم إسكلس يوربديز بأنه يعمل على نشر التشكيك، والحيل القانونية الخطرة، وعلى إفساد أخلاق نساء أثينة وشبابها. ويقول إن من سيدات الطبقة العليا من قتلن أنفسهن لأنهن لم يطقن سماع بذاءة يوربديز. ثم يؤتى بميزان ويلقي كل شاعر في إحدى كفتيه أبياتاً من مسرحياته. وترجح عبارة قوية من عبارات إسكلس على اثنتي عشرة عبارة من عبارات يوربديز (وهذا هجاء في الشاعر الشيخ(7/322)
نفسه). ويعرض إسكلس آخر الأمر أن يقفز الشاعر الشاب إلى إحدى الكفتين ومعه زوجه، وأبناؤه، ومتاعه، ويقول إنه يؤكد أن بيتاً واحداً من الشعر يرجح عليهم جميعاً. ويخسر المتشكك العظيم في آخر الأمر المباراة، ويعود إسكلس إلى أثينة منتصراً (1). وقد منح القضاة هذه المقالة الأولى في النقد الأدبي الجائزة الأولى، وبلغ من سرور النظارة بها أن أعيد تمثيلها مرة أخرى بعد بضعة أيام.
وكذلك وجه أرسطوفان سخريته إلى الحركة المتطرفة بوجه عام في مسرحية متوسطة القدر تدعى الإكليزيازوسيات The Ecclesiazusae أي نساء الجمعية (393). وموضوعها أن نساء أثينة يتخفين في زي الرجال، ويملأن مقاعد الجمعية، وترجح أصواتهن على أصوات أزواجهن، وإخوتهن، وأبنائهن، ويختار منهن حكام الدولة. وتتزعم هذه الحركة امرأة تدعى براكساغورا Praxagora شديدة التحمس لنيل النساء حقوقهن السياسية، وتتهم بنات جنسها بالغفلة لأنهن يرضين بأن يحكمهن الرجال البلهاء. وتقترح أن تقسم الثروة بالتساوي بين المواطنين على أن يترك الأرقاء من غير أن يفسدهن الذهب. ويتخذ الهجوم على "المدينة الفاضلة" صورة أخف من هذه وأرحم في مسرحية الطيور أرقى مسرحيات أرسطوفان جميعها (414). ومضمونها أن اثنين من مواطني أثينة يستولي عليهما اليأس، فيتسلقان إلى مسكن الطيور، يأملان أن يجدا فيه الحياة المثالية التي ينشدانها. ويستعينان بالطيور على بناء مدينة فاضلة بين الأرض والسماء تدعى نفلوككسيجيا Nepheloccygia أي "أرض وَقْوقَ السحاب". وتوجه الطيور مجتمعة خطابها إلى الآدميين في نشيد لا يفوقه أي نشيد آخر وضعه شعراء المآسي تقول فيه:
_________
(1) ربما كان هذا إشارة إلى تكرار تمثيل مسرحيات إسكلس.(7/323)
أي بني الإنسان، يا قصار الأجل، ويا من تملأ الأحزان حياتكم يوماً بعد يوم، يا عراة، يا منزوعي الريش، يا ضعاف الأجسام، يا كثيري النزاع، يا مرضى، يا من تنتابكم النوائب، يا من خلقتم من طين! استمعوا إلى أقوال السادة الطيور، الخالدة، مالكة الهواء، التي تشرف من علِ بأعينها الرحيمة، على ما بينكم من نزاع، وشقاء، وكدح، وقلق.
وتضع الطيور خطة لمنع كل الاتصال بين الآلهة والبشر، ولا تسمح بأن تصعد القرابين إلى السماء. وتقول المصلحة منها إن الآلهة القدامى لن تلبث أن تموت جوعاً فتسود الطيور. ثم تخترع آلهة جدد على صورة الآدميين عن عروشها، ثم يأتي آخر الأمر وفد من أولمبس يسعى لعقد هدنة، ويقبل زعيم الطير أن يتزوج من خادمة زيوس، وتختتم المسرحية بهذا الزواج الموفق.
3 - الفنان والمفكر
أرسطوفان مزيج من الجمال والحكمة والقذارة لا نستطيع أن نحدد الصنف الذي ينتمي إليه من الناس. كان في وسعه إذا اعتدل مزاجه أن يكتب أغاني من الشعر اليوناني الخالص الرصين، لم يستطع مترجم حتى الآن أن ينقله بروعته إلى لغة غير لغته الأصلية. وحواره هو الحياة نفسها، أو لعل أكثر سرعة، وأعظم طلاوة، وأشد قوة مما تجرؤ أن تكون عليه الحياة، وهو يشبه ربليه Rabelais وشكسبير، ودكنز، في قوة أسلوبه وحيويته، وشخصياته كشخصياتهم أصدق تصويراً للعصر الذي عاش فيه من جميع ما ألفه المؤرخون في ذلك العصر؛ ويفوح منها شذاه أقوى مما يفوح من هذه المؤلفات كلها مجتمعة؛ وليس في وسع أحد أن يعرف الأثينيين حق المعرفة إذا لم يكن قد قرأ مسرحيات أرسطوفان. ومع هذا فإن حبكات مسرحياته هزأة سخيفة، جمع أطرافها بإهمال يكاد أن(7/324)
يكون مرتجلاً. وتراه في بعض الأحيان يستنفد موضوع المسرحية الرئيسي قبل أن يبلغ منتصفها، ويتعارج ما بقي منها على عكازتي المجون والهزل حتى يصل إلى نهايتها. والفكاهة في العادة من النوع الدنيء؛ مثقلة بالجناس السهل الساذج، وتطول حتى لا يطيق الإنسان طولها، وكثيراً ما تستعار عباراتها من عمليات الهضم، والتكاثر، والتبرز. ففي مسرحية الأركانيين تسمع عن شخص لا ينقطع ساعة عن التبرز طيلة ثمانية أشهر (131). وفي السحب نرى فضلات الإنسان الكبيرة تمتزج بالفلسفة العليا (132)، ولا تمر صفحة إلا نجد في التي تليها أردافاً، وصدراً، وغدداً تناسلية، وسفاداً، ولواطاً، واستنماءً، كل ذلك يعرض علينا (133)؛ ثم نراه يتهم منافسه الشيخ أقراطينوس Cratinus بسيأ البول ليلاً (134). وهو بهذا كله أكثر الشعراء القدامى شبهاً بأهل هذه الأيام لأن الإسفاف والبذاءة لا يختص بهما عصر من العصور. وإذا ما تحدثنا عنه بعد حديثنا عن مؤلف يوناني سواه - وبخاصة بعد حديثنا عن يوربديز - بدا لنا مسفاً إلى حد تشمئز منه النفس وتنقبض، حتى ليصعب علينا أن نتصور أن النظارة الذين يستمعون إلى أحدهما هم بعينهم الذين يستمعون إلى الآخر.
وإذا كنا محافظين صادقين أطقنا هذا كله، وحجتنا في ذلك أن أرسطوفان يهاجم التطرف بكافة أشكاله، ويستمسك مخلصاً بالفضائل والرذائل القديمة أياً كان نوعها. وهو على ما نعلم أحط الكُتاب اليونان جميعهم خلقاً، ولكنه يأمل أن يعوض هذا النقص بمهاجمة الفساد الخلقي، ونراه دائماً إلى جانب الأغنياء، ولكنه يشتهر بالجبن؛ ويكذب كذباً يؤسف على يوربديز حياً وميتاً، ولكنه يهاجم الغدر والخيانة؛ ويصف نساء أثينة بالفظاظة إلى حد غير معقول، ولكنه يشهر بيوربديز لأنه يفتري ويسخر بالآلهة سخرية جريئة (1). وإذا وازنا بينه وبين سقراط التقي لم نجد بداً من أن نصوره
_________
(1) وقد ورد في أقواله: إن بعض الآلهة تقيم المواخير في السماء.(7/325)
كافراً مهزاراً، لكنه رغم هذا يدعو بقوة إلى الدين ويتهم الفلاسفة بأنهم يعملون للقضاء على الآلهة. لكن تصوير كليون ذي السلطان القوي تصويراً هزلياً، وكشف عيوب ديموس أمام ديموس نفسه يتطلبان شجاعة حقة؛ وتبين الخطر الشديد الذي يتهدد حياة أثينة من جراء اتجاه الدين والأخلاق من التشكك السوفسطائي إلى الفردية الأبيقورية، نقول إن تبين هذا الخطر يتطلب كثيراً من الفطنة ونفاذ البصيرة. ولعل أثينة كان يصلح حالها لو أنها عملت ببعض نصائحه، ولم تشتط في نزعتها الاستعمارية، وعقدت صلحاً مبكراً مع إسبارطة، وخففت بزعامة أرستقراطية ما فشا في الديمقراطية التي قامت بعد عصر بركليز من فوضى وفساد.
ولقد أخفق أرسطوفان لأنه لم يكن جاداً في نصائحه إلى الحد الذي يحمله على العمل بها. وكان إسرافه في تمثيل الدعارة وفي الشتائم من الأسباب التي أدت إلى تحريم الهجو الشخصي؛ ومع أن القانون الذي صدر بهذا التحريم قد ألغى بعد قليل من الوقت، فإن "المسلاة القديمة" ذات النقد السياسي قد ماتت قبل موت أرسطوفان (385)، وحلت محلها في مسرحياته الأخيرة نفسها "المسلاة الوسطى" مسلاة الأخلاق والغرام. لكن الحيوية التي كانت تمتاز بها المسلاة اليونانية قد اختفت باختفاء ما كان فيها من إسراف ووحشية، وظهر فليمون ومناندر واختفيا وعفا ذكرهما، أما أرسطوفان فقد ظل باقياً رغم تبدل المبادئ الأخلاقية والأنماط الأدبية، حتى وصل إلى عصرنا هذا ومعه إحدى عشرة مسرحية من مسرحياته الاثنتين والأربعين كاملة لم ينقص منها شيء. ولا يزال إلى هذا اليوم حياً في هذه المسرحيات رغم ما يعترض فهمها وترجمتها من صعاب. وإذا ما استطعنا أن نسد أنوفنا حتى لا يؤذيها فحشه وبذاءته استطعنا أن نقرأ مسرحياته بكثير من البهجة الدنسة.(7/326)
الفصل السّابع
المؤرخون
لم ينس اليونان النثر كل النسيان في نشوة الشعر المسرحي، فقد أولعوا أشد الولع بالخطابة مدفوعين إلى هذا بنزاعهم القضائي ونظامهم الديمقراطي. وإذا رجعنا إلى ذلك التاريخ البعيد - عام 446 ق. م - رأينا كوراكس Corax السرقوصي يكتب رسالة يسميها تكني لوجون Techne Logon ( فن الكلمات) يرشد بها المواطنين الذين يريدون أن يخاطبوا الجمعية أو القضاة؛ ونجد فيها منذ ذلك العهد تقسيم الخطبة إلى ديباجة، وقصة، ونقاش، وملاحظات ثانوية، ومسك الختام. ونقل غورغياس هذا الفن إلى أثينة، واستخدم أنتيفون Antiphon الأسلوب المنمق في الخطب والنشرات التي خصها بالدعاوة الألجركية، ثم أضحت الخطابة اليونانية على يد ليسياس أكثر وضوحاً وأقرب إلى الأسلوب الطبيعي؛ غير أن الخطب التي كانت تلقى على الجماهير لم تتخلص من خداع الألفاظ، ولم تثبت ما للأسلوب الحديث البسيط من قوة الأثر، إلا عند أعظم الساسة والحكام أمثال ثمستكليز وبركليز. وشحذ السوفسطائيين هذا السلاح الجديد واستغله تلاميذه استغلالاً بلغ من قوته أن حرم الحزب الألجركي تعليم فنون البلاغة بعد استيلائه على مقاليد الحكم في عام 404 (136).
وكان التاريخ أعظم ما أنتجه النثر في عصر بركليز، ونستطيع أن نقول إن القرن الخامس هو الذي كشف عن الماضي وبحث عن علاقة الإنسان بالزمن. ويمتاز فن التاريخ عند هيرودوت بكل ما في الشباب من سحر وقوة، فإذا ما وصلنا إلى توكيديدز بعد خمسين عاماً من عصر هيرودوت رأيناه قد بلغ حداً من النضوج لم يفقه فيه أي عهد من العهود التي أعقبته، وكانت(7/327)
الفلسفة السوفسطائية هي التي فصلت بين هذين المؤرخين وميزت كلاً منهما من الآخر. فقد كان هيرودوت أكثر بساطة من صاحبه، ولعله كان أكثر منه رأفة، وما من شك في أنه كان أبهج منه روحاً. وقد ولد في هليكرنسس Halicarnassus حوالي عام 484، من أسرة بلغت من رفيع المنزلة درجة أمكنتها أن تشترك في الدسائس السياسية. ونفي من بلده وهو في الثانية والثلاثين من عمره بسبب مغامرات عمله السياسية، فبدأ من ذلك الوقت تلك الرحلات البعيدة التي كان لها أكبر الأثر في تواريخه. وقد مر بفينيقية في طريقه إلى مصر وتوغل فيها حتى وصل إلى جزيرة إلفنتين، ووصل في ترحاله غرباً إلى قورينة وشرقاً إلى السوس وشمالاً إلى المدن اليونانية القائمة على شاطئ البحر الأسود. وكان حيثما ذهب يلاحظ، ويبحث بعين العالم وتطلع الطفل؛ ولما ألقي عصا التسيار في أثينة حوالي عام 447 كان في جعبته مقدار ضخم من المذكرات المختلفة عن جغرافية الدول المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط، وتاريخها وعادات أهلها. وقد استعان بهذه المذكرات وسرقات قليلة من هكتيوس Hecataeus وغيره من المؤرخين السابقين على تأليف أشهر الكتب التاريخية على الإطلاق. وقد وصف في كتابه هذا حياة الناس في مصر، والشرق الأدنى، وبلاد اليونان، وسجل فيه تاريخ هذه البلاد كلها، من بدايته الخرافية إلى نهاية الحرب الفارسية. وتقول إحدى القصص القديمة إنه قرأ أجزاء من كتابه هذا على الجمهور في أثينة، وإن الأثينيين أعجبوا أشد الإعجاب بما ورد فيه من وصف الحرب وما قاموا به فيها من أعمال مجيدة، فقرروا له اثنتي عشرة وزنة (تالنت) أي ما يعادل ستين ألف ريال أمريكي - وهو مبلغ يرى أي مؤرخ أنه يبلغ من الضخامة حداً يجعله غير معقول. ويعلن هيردوت في مقدمة الكتاب بأسلوب رائع الغرض من وضعه فيقول:
"هذا عرض لبحوث ( Historia) هيرودوت الهليكرنسي يقصد به(7/328)
ألا يمحو الزمان ما قام به الهلينيون والبرابرة من أعمال مجيدة عجيبة، ويقصد به بنوع خاص ألا تنسى الأسباب التي من أجلها شنوا الحرب بعضهم على بعض".
والكتاب إلى حد ما "تاريخ عالمي" لأنه يتناول قصة جميع الأمم التي تسكن في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو أوسع في مجال بحثه من الموضوع الضيق الذي شمله كتاب توكيديدز، وتسري في الكتاب روح الوحدة غير المقصودة بما يتضمنه من بيان الفرق بين حكم البرابرة المطلق والديمقراطية اليونانية؛ ثم ينتقل بخطى وئيدة واستطرادات مضطربة إلى الخاتمة الروائية المتوقعة في سلاميس. والغرض من الكتاب كما يقول المؤلف هو تسجيل "الأعمال العجيبة والحروب" (138)، والحق أن القصة في بعض مواضعها تعيد إلى الذاكرة سوء فهم جبن Gibbon للتاريخ حين يقول إنه "لا يعدو أن يكون سجلاً لجرائم البشرية وحماقاتها ومصائبها" (139). على أن هيردوت رغم هذا يتسع له المجال لإيراد حقائق طريفة لا تحصى عن ملابس الجماعات التي يصفها، وعاداتها، وأحلامها، ومعتقداتها. وهو يذكر لنا كيف يستطيع المصريون أن يقفزوا إلى النار، وكيف يسكر أهل الدانوب من رائحة الخمر، وكيف بنيت أسوار بابل، وكيف يأكل المساجيتي Massagetee آباءهم، وكيف كانت لكاهنة أثينة في بداسس Pedasus لحية ضخمة. وهو لا يقتصر على تصوير الملوك والملكات، بل يصور كذلك الرجال من جميع الطبقات، ويبعث الحياة في صحفه بذكر النساء اللاتي لا يجدن لهن مكاناً في كتاب توكيديدز، ويصف أحذيتهن، وجمالهن، وقسوتهن، وفتنتهن.
وفي "هيرودوت كثير من الهراء" كما يقول استرابون (140)، ولكن المجال الذي يبحث فيه مؤرخنا واسع سعة مجال أرسطاطاليس، وفيه فرص كثيرة للزلل، وجهله لا يقل سعة عن عمله، كما لا تقل سذاجته وسرعة(7/329)
تصديقه لكل ما يروى له عن حكمته؛ فهو يعتقد أن نطفة الأحباش سوداء (141)، ويصدق الخرافة القائلة إن اللسدمونيين قد نالوا النصر لأنهم جاءوا بعظام أرستيز إلى إسبارطة (142)، وينقل أعداداً ضخمة عن جيوش خشيارشاي، وعن قتلى الفرس وعن انتصارات اليونان الذين لم يكادوا يصابون فيها بجروح. وتسري في قصته روح الوطنية ولكنها ليست بعيدة عن الإنصاف، فهو يعطي قسطاً من العناية لكلا الطرفين في معظم المنازعات السياسية (1)، ويمجد بطولة الغزاة، ويعترف بما كان يتصف به الفرس من شرف وشهامة، وهو يقع في أشنع أخطائه حين يعتمد على ما يحدثه به الأجانب؛ فهو يظن مثلاً أن نبوخدنصر امرأة، وأن جبال الألب نهر، وأن كيوبس عاش بعد رمسيس الثالث، لكنه حين يبحث في أشياء أتيحت له الفرصة لمشاهدتها بنفسه، يكون أدعى للثقة به، وكلما ازداد علمنا بالتاريخ ازدادت أقواله ثباتاً.
وهو لا يتردد في قبول الكثير من الخرافات والأوهام، ويسجل الكثير من المعجزات، ويرى النبوءات في خشوع الأتقياء، ويسود صحفه بالتفاؤل والتطير؛ ويحدد تواريخ سميلي Semele، وديونيشس، وهرقل؛ ويعرض التاريخ كله، كما يعرضه بوسيه Bossuet كأنه مسرحية من وضع القوة الإلهية المدبرة لشئون العالم، تثاب فيها الفضائل، وتعاقب الخطايا والجرائم، وطغيان الناس إذا استغنوا. لكن عقله تكون له الغلبة أحياناً؛ ولعل سبب ذلك أنه استمع للسوفسطائيين في آخر حياته. فهو يشير إلى أن هومر وهزيود هما اللذان وضعا أسماء آلهة أولمبس وخلعا عليها صورها، وأن أديان الناس وليدة عاداتهم، وأن ما يعرفه إنسان ما عن الآلهة يعادل ما يعرفه غيره (143). وهو يرى أن العناية الإلهية هي الحكم الذي لا معقب لحكمه في تاريخ العالم، لكنه يهمل بعد ذلك أمرها
_________
(1) قارن بحثه الخيالي البارع في الملكية، والأرستقراطية، والديمقراطية في الكتاب الثالث.(7/330)
ويبحث عن الأسباب الطبيعية للحوادث، ويوازن بين شخصيات ديونيشس وأوزيريس، وأساطيرهما موازنة العالم المحقق؛ ويبتسم ابتسامة المتسامح مما يروي عن تدخل الآلهة في حوادث العالم، ويعرض لتفسيرها أسباباً طبيعية (144)؛ ويكشف لنا عن خطته العامة ويغمز بطرف عينه حين يقول: "إني مضطر إلى أن أقص ما ينقل إليّ، ولكني غير ملزم بتصديقه، وأحب أن يصدق هذا القول على كل قصة أرويها في هذا التاريخ" (145)، وهو أول من وصلت إلينا مؤلفاتهم من المؤرخين اليونان، وعلى هذا الاعتبار لا نلوم شيشرون على وصفه إياه بأنه أبو التاريخ. ويضعه لوشيان، كما يضعه معظم الأقدمين، في منزلة أرقى من منزلة توكيديدز (146).
ومع هذا كله فإن الفرق بين عقل هيرودوت وعقل توكيديدز كالفرق بين المراهقة والنضوج، ذلك أن توكيديدز ظاهرة من ظواهر عصر الاستنارة اليوناني، وهو من سلالة السوفسطائيين، كما كان جبن من الناحية الروحية من سلالة بايل Bayle وفولتير. وكان والده من أثرياء الأثينيين يمتلك مناجم للذهب في تراقية، وكانت أمه تراقية من أسرة عريقة. وقد تلقى كل ما كان في أثينة في أيامه من تعليم، ونشأ في جو التشكك الفلسفي، ولما شبت نار حرب البلوبونيز أخذ يسجل حوادثها يوماً فيوماً، ثم مرض بالطاعون في عام 430، وفي عام 424 اختير وهو في سن السادسة والثلاثين (أو الأربعين) أحد قائدين توليا قيادة حملة بحرية سيرت إلى تراقية، ولما أن عجز عن قيادة قواته إلى أمفبوليس Amphipolis ليفك عنها الحصار في الوقت المناسب - نفاه الأثينيون، فقضى العشرين سنة التالية من عمره يتنقل من بلد إلى بلد وخاصة في إقليم البلوبونيز. وإلى هذا العلم المباشر بأحوال العدو يرجع بعض ما يمتاز به كتابه من نزاهة ذات أثر كبير في النفس. ولما شبت الثورة الألجركية في عام 404 انتهى أجل نفيه فعاد إلى أثينة. ومات - ويقول بعضهم إنه اغتيل - في عام 396 أو قبله قبل أن يتم تاريخ(7/331)
حرب البلوبونيز. وهو يبدأ ذلك التاريخ بهذه العبارة البسيطة:
كتب توكيديدز - وهو رجل أثيني - تاريخ الحرب التي دارت رحاها بين البلوبونيز والأثينيين، من ساعة أن اشتعلت نارها. وكان يعتقد أنها حرب خطيرة الشأن، أجدر بالرواية من أية حرب سبقتها.
ويبدأ قصته الافتتاحية من المنطقة التي انتهى إليها هيرودوت في ختام حرب الفرس. ومما يؤسف له أن عبقرية أعظم المؤرخين اليونان لا ترى في الحياة اليونانية شيئاً أجدر بالتسجيل من حروبها. لقد كان هيرودوت يكتب وهو يستهدف تسلية القارئ المتعلم، أما توكيديدز فيكتب ليمد مؤرخي المستقبل بالمعلومات، ويسجل السوابق ليسترشد بها الحكام في المستقبل. وكان هيرودوت يكتب بأسلوب سهل مهلهل غير متماسك، ولعل الذي أوحى إليه بهذا الأسلوب هو ملاحم هومر الجوالة الهائمة. أما توكيديدز فيكتب كما يكتب من استمع إلى الفلاسفة، والخطباء، والكُتاب المسرحيين، بأسلوب يكثر فيه التعقيد والغموض، لأنه يحاول أن يجمع فيه بين الإيجاز والدقة والعمق، أسلوب تفسده في بعض الأحيان بلاغة غورغياس وزخرفها، ولكنه في بعض الأحيان لا يقل عن أسلوب ناستس وضوحاً وإحكام سبك، ويسمو في اللحظات الحاسمة إلى العبارات المسرحية التي تبلغ من القوة ما تبلغه أية عبارة من عبارات يوربديز. ولسنا نجد في المسرحيات اليونانية ما هو أروع من الصفحات التي يصف فيها حملة سرقوصة، أو تردد نيشياس، أو ما أعقب الهزيمة من فزع وروع. ولنعد مرة أخرى إلى الموازنة بين هيرودوت وتوكيديدز فنقول إن هيرودوت يتنقل من مكان إلى مكان، ومن عصر إلى عصر؛ أما توكيديدز فيضغط قصبته في إطار جامد من الفصول والسنين، مضحياً في ذلك بتسلسلها. وكان هيرودوت يكتب عن الأشخاص أكثر مما يكتب عن مجرى الحوادث لأنه يحس أن الشخصيات هي التي تجري الحادثات؛ أما توكيديدز فهو وإن كان يعترف بما للأفراد غير(7/332)
العاديين من خطر في التاريخ، وإن كان يخفف من أعباء موضوعة بما يبثه فيه من صورة بركليز، وألقبيادس، ونيشياس وأمثالهم، يجنح لتدوين الحادثات أكثر مما يجنح لذكر الأشخاص، ويبحث في علل الحوادث وتطوراتها، ونتائجها. وكان هيرودوت يكتب عن حوادث جد بعيدة عنه نقلت إليه أخبارها معنعنة مرتين أو ثلاث مرات في معظم الحالات، أما توكيديدز فكثيراً ما يحدثنا عما شاهده بعينيه، أو عما سمعه ممن شاهدوا بعيونهم، أو اطلعوا على وثائقه الأصلية، وكثيراً ما يثبت الوثائق التي يتحدث عنها. وهو شديد الحرص على الدقة، وحتى وصفه الجغرافي نفسه قد ثبتت صحة تفاصيله. وقلما يصدر أحكاماً أخلاقية على الرجال أو الحادثات، ويطلق العنان لسخريته الأرستقراطية من الديمقراطية الأثينية فتتغلب عليه وهو يصور كليون؛ ولكنه في أكثر الأحيان يبعد شخصيته عن قصته، ويروي الحقائق بنزاهة لا يتحيز لأحد الطرفين، ويقص قصة حياته توكيديدز العسكرية القصيرة وكأنه لم يعرف ذلك الرجل قط، دع عنك أنه هو الرجل الذي يقص قصته. وهو مبتدع الطريقة العلمية في التاريخ، ويفخر بما بذله في تأليفه من الجد والعناية. ويقول وهو يشير من طرف خفي إلى هيرودوت:
"إني أعتقد أن النتائج التي وصلت إليها من الأدلة التي ذكرتها هنا يمكن أن يوثق بها ويعتمد عليها. وما من شك في أنها لن تؤثر فيها قصص شاعر يعرض ما في صناعته من مبالغات، ولا تآليف الإخباريين التي يضحى فيها بالحقائق في سبيل الطرافة والجاذبية لأن الموضوعات التي يعالجونها خارجة عن نطاق الأدلة والبراهين، ولأن قدم عهدها قد سلبها قيمتها التاريخية ورفعها إلى مقام الخرافات. أما نحن فلم نلجأ إلى هذه الطريقة أو تلك، ولا ريب عندنا في أننا قد اعتمدنا على أصح المعلومات وأكثرها وضوحاً، وأننا قد وصلنا إلى نتائج تبلغ من الدقة أقصى ما ينتظره الإنسان في أمثال هذه المسائل الموغلة في القدم ... وإني لأخشى أن يفقد كتابي بعض ما يجب أن يحتويه من طرافة ومتعة بسبب خلوه(7/333)
من القصص الخيالية المثيرة للعواطف، ولكن إذا رأى الباحثون الذين يرغبون في الوصول إلى حقائق الماضي الصحيحة ليستعينوا بها على تفسير حوادث المستقبل - وهي التي تشبه بلا ريب حوادث الماضي، إن لم تكن صورة مطابقة لها - إذا رأى هؤلاء الباحثون أن فيه فائدة لهم، فأني أرضى بهذا وأقنع به. وملاك القول أني لم أكتب كتابي هذا ليكون مقالة يكسب بها تصفيق الناس وثناؤهم لحظة قصيرة، بل كتبته ليكون ملكاً لجميع العصور (147).
لكنه مع هذا يضحي بالدقة في سبيل الطرافة في حالة واحدة معينة، فهو مولع بأنه ينطق شخصياته بالخطب الطنانة، ويعترف صراحة بأنه معظم هذه الخطب من نسج الخيال، ولكنها مع ذلك تساعده على توضيح الشخصيات والأفكار والحوادث وإنعاشها. وهو يدعي بأن كل خطبة من هذه الخطب تتضمن خلاصة خطبة حقيقية ألقيت فعلاً في الوقت الذي يتحدث عنه. فإذا كان هذا صحيحاً فإن جميع رجال الحكم وقواد الجيش من اليونان قد درسوا بلا ريب فنون البلاغة مع غورغياس، والفلسفة مع السوفسطائيين، وعلم الأخلاق مع ثرازمكس. يضاف على هذا أن الخطب جميعها واحدة في أسلوبها ومراوغتها ودهائها، ونظرتها الواقعية إلى الأمور. وهي تجعل الإسبارطي صاحب الرد الموجز المسكت مراوغاً كأي أثيني تربى بين السوفسطائيين، وتنطق الدبلوسيين بحجج أبعد ما تكون عن الدبلوماسية (1) وتضفي على عبارات قادة الجند أمانة صارمة لا قبل لهم بها. وليست "خطبة بركليز الجنازية" إلا مقالاً بديعاً في فضائل أثينة، كتبها بأسلوب رشيق رجل مطرود من بلده؛ مع أن بركليز قد اشتهر ببساطة خطبه وبعدها من فنون البلاغة، هذا إلى أن بلوتارخ يفسد على توكيديدز دعواه الخيالية الروائية بقوله إن بركليز لم يخلف وراءه شيئاً مكتوباً، وإن أقواله لا يكاد يبقى منها شيء على الإطلاق (148).
_________
(1) خطب ألقبيادس في إسبارطة، المجلد الرابع (ص 20، 98).(7/334)
ولتوكيديدز من العيوب ما يعادل فضائله، فهو صارم كصرامة التراقي، وتنقصه روح المرح والفكاهة الأثينية، ولذلك يخلو كتابه من الفكاهة أياً كانت، وتراه منهمكا على الدوام في "هذه الحرب التي يؤرخها توكيديدز" (وهي عبارة يكررها في كثير من الفخر) إنهماكاً يصرفه عن كل شيء عدا الحوادث السياسية والحربية. وهو يملأ صفحاته بالتفاصيل العسكرية، ولا يذكر قط فناناً واحداً ولا عملاً من أعمال الفن. وهو دائم البحث عن علل الأشياء، ولكنه قلما يتعمق إلى العوامل الاقتصادية التي تكمن وراء العوامل السياسية وتحدد مجرى الحادثات؛ وهو وإن كان يكتب للأجيال المقبلة، لا يحدثنا بشيء عن دساتير الدول اليونانية أو عن حياة المدن، أو نظم المجتمعات، وهو يتجنب التحدث عن النساء بقدر تجنبه التحدث عن الآلهة، ويأبى أن يكون لهم موضع في قصته؛ وهو ينطق بركليز صاحب الشهامة والمروءة الذي عرض حياته للخطر من أجل محظية تطالب بحرية المرأة، ينطقه بقوله: "إن سمعة المرأة إنما تقوم على امتناع الرجال عن ذكرها بالخير أو بالشر قدر المستطاع" (149). وهو وإن عاش في عصر يعد أعظم عصور التاريخ ثقافة، يضل في بيداء الانتصارات والهزائم العسكرية المتعاقبة التي تقوض قواعد المنطق من أساسها، ولا يتغنى بالحياة العقلية الأثينية التي تهز المشاعر هزاً، بل يبقى قائداً عسكرياً بعد أن يصبح مؤرخاً.
على أننا رغم هذا كله مدينون له بالشيء الكثير، وليس من حقنا أن نعيبه فوق ما يستحق لأنه لم يكتب ما لم يتكفل بكتابته، فهاهنا نجد في القليل طريقة لكتابة التاريخ منظمة، واحتراماً للحقائق، ودقة في الملاحظة، ونزاهة في الحكم، وجزالة في اللفظ لم تبق بعده طويلاً، وسحراً في الأسلوب، وعقلاً قوياً سديداً عميقاً، تصلح واقعيته الصارمة لأن تكون دعامة لأرواحنا الروائية الخيالية بفطرتها. ولسنا نجد في كتابه شيئاً من(7/335)
القصص الخرافية، أو الأساطير، أو المعجزات. وهو يقبل قصص البطولة، ولكنه يحاول أن يفسرها بالاستناد إلى العلل الطبيعية؛ ويغفل ذكر الآلهة إغفالاً تاماً، ولا يجعل لها موضعاً في كتابه، ويسخر من النبوءات والوحي ومن غموضها الذي يجعلها في مأمن من الخطأ (150). ويندد في سخرية بغباء نيشياس إذ يركن إلى النبوءات بدل أن يركن إلى المعرفة الحقة. وهو لا يعترف بوجود قوة عليا مدبرة مرشدة، أو خطة إلهية موضوعة محكمة، بل إنه لا يعترف حتى "بالتقدم" نفسه؛ وهو ينظر إلى الحياة والتاريخ نظرته إلى مسرحية دنيئة ونبيلة معاً، يرفع من شأنها بين الفينة والفينة عظماء الرجال، ولكنها تهوي على الدوام إلى وهدة الخرافة، والحرب. وفي شخصه يحسم النزاع بين الدين والفلسفة وتنتصر الفلسفة.
وبعد، فإن بلوتارخ وأثينيسوس يشيران في كتبهما إلى مئات من المؤرخين اليونان، ولكن الذين عاشوا منهم في العصر الذهبي، عدا هيرودوت وتوكيديدز قد عدا الدهر عليهم كلهم تقريباً فعفت آثارهم، ومن جاء بعدهم من المؤرخين لم يبق من كتبهم إلا فقرات متفرقة. وقد حدث هذا بعينه لمختلف الآداب اليونانية الأخرى؛ فليس لدينا من آثار كُتاب المآسي المسرحية الذين يعدون بالمئات والذين نالوا الجوائز في حفلات ديونيشيا إلا عدد قليل من المسرحيات كتبها ثلاثة من الشعراء، أما كتّاب المسالي الكثيرون فلم يبق إلا أثر لواحد منهم، ولم يبق من فلسفة ذلك العصر إلا آثار رجلين اثنين. وفي وسعنا أن نقول بوجه عام إنه لم يبق من الآداب اليونانية التي يعزوها النقاد إلى القرن الخامس قبل الميلاد أكثر من جزء واحد من عشرين جزءاً من نتاج ذلك القرن، وإنه لم يبق من آثار القرون التي سبقته أو تلته إلا أقل من هذا القليل (151). والكثرة الغالبة مما بقي لنا قد جاءتنا من أثينة؛ ولقد أنبتت المدن الأخرى، كما نستدل من عدد الفلاسفة الذين بعثت بهم إلى أثينة، عدداً كبيراً من العباقرة؛ ولكن البربرية التي طغت عليها من خارجها ومن أسفل منها(7/336)
قد ابتلعت ثقافتها أكثر مما ابتلعت ثقافة أثينة، فضاعت مخطوطاتها في فوضى الثورات والحروب، وليس في وسعنا إلا أن نحكم على الكل من هتامات الجزء.
لكن تراث هذه الحضارة رغم هذا كله تراث عظيم، عظيم في شكله بلا ريب إن لم يكن في مقداره (ومن ذا الذي استطاع أن يستوعبه كله؟). والشكل والنظام هما جوهر أسلوب العصر الذهبي في الأدب وفي الفن على السواء؛ فالكاتب اليوناني، كالفنان اليوناني الذي يعد أنموذجاً لذلك العصر، لا يقنع بمجرد التعبير عما يريد، بل يتوق إلى أن يكسب مادته شكلاً وجمالاً. وهو يعمد إلى مادته فيقصها من أطرافه ويشذبها، ويعيد تنظيمها لتكون واضحة جلية، ويحولها إلى صورة من البساطة المعقدة؛ وهو دائماً واضح يسلك أقصر الطرق إلى قصده، وقلّما يلجأ إلى الدوران أو الغموض، يتجنب المبالغة والتحيز، وإذا ما لجأ إلى الخيال في مشاعره حاول أن يكون منطقياً في تفكيره. وهذا الجهد الدائم الذي لا ينفك يبذله لإخضاع الخيال للعقل، وهو الصفة الغالبة المسيطرة على العقل اليوناني؛ لا بل على الشعر اليوناني نفسه. ومن أجل هذا كان الأدب اليوناني أدباً "حديثاً" بل قل أدباً معاصراً؛ فإنا ليصعب علينا أن نفهم دانتي أو ملتن؛ أما يوربديز، وتوكيديدز، فهما شديدا القرب من عقولنا وينتميان إلى عصرنا. وسبب ذلك أن العقل يبقى من غير تغيير وإن تغيرت الأساطير، وأن حياة العقل تؤاخي بين أنصارها ومحبيها في كل زمان ومكان.(7/337)
الباب الثامن عشر
انتحار بلاد اليونان
الفصل الأول
العالم اليوناني في عهد بركليز
خليق بنا قبل أن نواجه منظر حرب البلوبونيز المحزنة أن نلقي نظرة على العالم اليوناني خارج أتكا. ولكن معلوماتنا عن الدولة الواقعة في هذا العالم ضئيلة إلى حد لا يسعنا معه إلا أن نفترض ما لا نستطيع أن نقيم عليه الدليل، وهو أنها كانت تشترك مع أثينة في الازدهار الثقافي الذي امتاز به العصر الذهبي وإن لم تبلغ مبلغ أثينة نفسها في هذا الازدهار.
في عام 459 سيّر بركليز أسطولاً ضخماً ليطرد الفرس من مصر حرصاً منه على أن يضمن لبلاده قمحها. وأخفقت الحملة في غرضها، وسار بركليز من ذلك الحين على السياسة التي كان يسير عليها ثمستكليز، وهي أن يكسب العالم بالتجارة لا بالحرب. من أجل ذلك ظلت مصر وقبرص طوال القرن الخامس خاضعتين لحكم الفرس، واحتفظت رودس بحريتها، ثم انضمت مدنها الثلاث وأصبحت مدينة واحدة عام 408 فتهيأت بذلك إلى أن تكون في العهد الذي اصطبغ فيه في العالم المعروف بالصبغة اليونانية مركزاً من أغنى المراكز التجارية في حوض البحر الأبيض المتوسط. واحتفظت المدن اليونانية في آسية باستقلالها الذي ظفرت به في ميكالي عام 479 حتى أضحت بعد تدمير الإمبراطورية الأثينية(7/338)
ضعيفة عاجزة عن مقاومة جباة الملك العظيم (1). وازدهرت المستعمرات اليونانية في تراقية وعلى شواطئ الهلسبنت والبروبنتس واليوكسين (2) تحت السيطرة الأثينية، ولكن الحرب البلوبونيزية أكلت فيها الأخضر واليابس. وخرجت مقدونية تحت حكم أرخلوس Archelaus من غمار الهمجية وأضحت إحدى الدول الكبرى في العالم اليوناني. فأنشئت فيها الطرق الصالحة، وصار لها جيش حسن النظام والتدريب من رجال الجبال الأشداء، وبنيت لها عاصمة جديدة جميلة في بلا، ورحب بلاطها بكثيرين من عباقرة اليونان أمثال تموثيوس Timotheus، وزيوكسيز Zeuxis، ويوربديز، وضربت بلاد اليونان في الحلف البؤوني مثلاً طيباً لم تنتفع به لحياة الدول حرة مستقلة في ظلال السلم والتعاون الدولي.
وفي إيطاليا عانت المدن اليونانية أشد البلاء من جراء الحروب المتكررة ومن تفوق أثينة في مجال التجارة البحرية. وأرسل بركليز في عام 443 جماعة من الهلينيين جمعهم من عدة دول لينشئوا بالقرب من سيبارس مستعمرة ثورياي Thurii الجديدة لتكون تجربة في سبيل الوحدة الهلينية الجامعة، ووضع بروتاغوراس قانوناً عاماً للمدينة، وخطط هبودامس المهندس المعماري شوارعها على نظام مربع حذت كثير من المدن الأخرى حذوه في القرون التالية. ولكن لم تمض على تلك التجربة إلا بضع سنين حتى انقسمت المستعمرات أحزاباً وشيعاً حسب أصولها، وحتى عاد معظم الأثينيين، وأكبر الظن أن هيرودوت كان منهم، إلى أثينة.
وظلت صقلية - وهي التي كانت دائماً مضطربة ولكنها كانت دائماً غنية -تنمو ثروتها وتزداد ثقافتها. وشادت سلينس وأقراغاس معابد ضخمة
_________
(1) يريد ملك الفرس. (المترجم)
(2) أي الدردنيل وبحر مرمرة والبحر الأسود. (المترجم)(7/339)
وبلغت أقراغاس في عهد ثيرون درجة من الغنى قال فيها أنبادوقليس: "ينغمس رجال أقراغاس في الترف كأنهم يموتون غداً، ولكنهم يؤثثون بيوتهم كأنهم يعيشون أبداً" (1). وترك جيلون الأول بعد موته في عام 478 لسرقوصة نظاماً إدارياً لا يكاد يقل إحكاماً عن النظام الذي خلفه نابليون لأوربا الحديثة. وأضحت المدينة في عهد أخيه هيرون الأول الذي جلس على العرش من بعده مركزاً للأدب والعلم والفن فضلاً عن التجارة والثروة. وفيها أيضاً بلغ الترف غايته. فكانت المآدب السرقوصية مضرب المثل في البذخ، وكثرت "البنات الكورنثيات" في المدينة حتى كان الرجل الذي ينام في منزله يعد من القديسين؛ وكان الأهلون سريعي البديهة حداد الألسنة، يستمتعون بالخطب البليغة إلى حد أفسد عليهم أمورهم، ويتزاحمون في الملهى الفخم ذي الهواء الطلق ليستمعوا إلى مسالي إبكارمس ومآسي إسكلس (1).
وكان هيرون هذا ملكاً مستبداً غليظ القلب حسن القصد، قاسياً على أعدائه، مكرماً لأصدقائه. فتح بابه وخزائنه لسمونيديز، وبكليديز، وبندار، وإسكلس، واستعان بهم على جعل سرقوصة إلى وقت ما عاصمة اليونان العقلية.
لكن الناس لا يعيشون على الفن وحده؛ وكان السرقوصيون يتوقون إلى نعمة الحرية، فلما توفي هيرون خلعوا أخاه وأقاموا حكومة ديمقراطية مقيدة، وشجع هذا مدن الجزيرة الأخرى، فحذت حذو سرقوصة وطردت الطغاة الحاكمين، وقضت على الأشراف ملاّك الأراضي وأنشأت ديمقراطيات تجارية تقوم على نظام من الاسترقاق القاسي الشديد. وقضت الحرب بعد ستين
_________
(1) وأكبر الظن أن هذا الملهى قد بني في عهد هيرون الأول (475 - 468) ثم أعيد بناؤه في عهد هيرون الثاني (270 - 216). وقد بقي منه جزء كبير. ومثلت فيه في هذا القرن الكثير من المسرحيات اليونانية القديمة.(7/340)
سنة من ذلك الوقت على هذه الفترة من فترات الحرية كما قضت من قبل على فترة أخرى مماثلة لها على يد جيلون الأول. وفي عام 409 غزا القرطاجيون صقلية بأسطول ضخم مؤلف من ألف وخمسمائة سفينة وعشرين ألف رجل بقيادة هنيبال حفيد هملكار؛ وذلك بعد أن ظلوا ثلاثة أجيال محتفظين بذكرى هزيمة هملكار في هيميرا Himera. وحاصر هنيبال سلينس وكانت قد جنحت إلى السلم بعد أن عمها الرخاء، وأهملت معاقلها فلم تصلح شأنها. فلما أن باغت العدو المدينة استغاثت بأقراغاس وسرقوصة؛ وتباطأ أهلها المنعمون في إغاثتها تباطؤ الإسبارطيين، حتى استولى العدو على سلينس، وذبح كل من بقي حياً من أهلها وقطع أوصالهم، وأصبحت المدينة جزءاً من الإمبراطورية القرطاجية. وواصل هنيبال زحفه على هيميرا، واستولى عليها دون عناء، وعذّب وقتل ثلاثة آلاف من أهلها، ليرضي بذلك شبح جده المهزوم. ثم فشا الطاعون بين جنوده فأهلك أكثرهم، ومات به هنيبال نفسه في أثناء حصار أقراغاس، غير أن القائد الذي خلفه سكّن غضب آلهة قرطاجة بأن حرق ابنه حياً زلفى لهذه الآلهة. واستولى القرطاجيون على المدينة، وعلى جيلا Gela وكمرينا Camarina وزحفوا على سرقوصة. وبوغت السرقوصيون وهو منهمكون في ولائمهم، فأسلموا زمام السلطة المطلقة لديونيشس أعظم قائد في بلدهم، ولكن ديونيشس عقد الصلح مع القرطاجيين وترك لهم القسم الجنوبي من صقلية بأجمعه واستخدم جنوده في إقامة الدكتاتورية ثانية (405). ولم يكن ذلك كله غدراً منه وخيانة لبلاده، فقد كان يعرف أن المقاومة غير مجدية، فنزل للعدو عن كل شيء عدا مدينته وجيشه، واعتزم أن ينهض بالمدينة والجيش حتى يستطيع أن يفعل ما فعله جيلون من قبله فيطرد الغزاة من صقلية.(7/341)
الفصل الثاني
كيف شبت نار الحرب الكبرى
لا يستطيع المواطن الساذج إلا أن يعتقد أن سبب كل الحروب هو على الدوام سبب شخصي - بل شخص واحد في العادة، كما لا تستطيع النفس الساذجة إلا أن تصور إلهها في صورة إنسان. وحتى أرسطوفان نفسه قد فعل ما فعله الثرثارون النمّامون من رجال عصره فادعى أن بركليز هو الذي أوقد نار الحرب البلوبونيزية بهجومه على ميغارا لأن ميغارا أساءت إلى إسبانيا (3). والراجح أن بركليز الذي لم يتردد في الاستيلاء على إيجينا، كان يأمل أن تستحوذ أثينة على التجارة اليونانية بأجمعها، وذلك بسيطرتها على ميغارا وعلى كورنثة أيضاً؛ ولقد كان مركز كورنثة بالنسبة لبلاد اليونان كمركز اسطنبول في شرق البحر الأبيض المتوسط في وقتنا الحاضر - كانت باباً ومفتاحاً لتجارة نصف قارة. لكن سبب الحرب الجوهري هو نمو الإمبراطورية الأثينية، وازدياد سيطرة أثينة على الحياة التجارية والسياسية في بحر إيجة. لقد كانت أثينة تترك التجارة حرة في هذا البحر وقت السلم، لكنهما لم تكن تفعل ذلك إلا إذا أجازته هي وسمحت به مصالحها الإمبراطورية؛ ولم يكن في مقدور أية سفينة أن تمخر عباب هذا البحر إلا برضائها. وكان رجال أثينيون موكلون منها يحددون مستقر كل سفينة تغادر ثغور الحبوب في البلاد الشمالية؛ ولما أن كان الجدب يهلك ميثوني Methone لم تستطع أن تستورد القليل من الحبوب إلا بعد استئذان أثينة (4). وكانت تلك المدينة تدافع عن هذه السيطرة لأنها تراها أمراً حيوياً لا بد منه لبقائها، فقد كانت تعتمد في طعامها على ما تستورده من خارج بلادها، وقد أجمعت أمرها على أن تحرس الطرق التي يصل منها هذا(7/342)
الطعام إليها؛ على أنها بحراستها طرق التجارة الدولية كانت تؤدي خدمة حقة للسلم والرخاء في بحر إيجة، ولكن الطريقة التي سارت عليها في أداء هذه الخدمة ازدادت إيلاماً للمدن الخاضعة لها وجرحاً لكبريائها كلما زاد ثراء هذه المدن وقوي إحساسها بعزتها القومية. وكانت أثينة قد أخذت تنفق الأموال التي تبرعت بها هذه المدن لتصد بها غارات الفرس عنها في تجميلها، بل لقد بلغ منها أن أخذت تنفقها في شن الحرب على غيرها من مدن اليونان (5). وكانت الأحوال المفروضة على تلك المدن تزداد عاماً بعد عام حتى بلغت في عام 432 ق. م 460 وزنة (000ر300ر2 ريال أمريكي) في العام. وكانت أثينة قد قصرت على المحاكم الأثينية حق النظر في جميع القضايا التي تنشأ في داخل الحلف إذا كان أحد طرفي النزاع مواطناً أثينياً أو كانت القضايا تشمل جرائم كبرى. فإذا ما وقفت مدينة في وجه أثينة أخضعتها بالقوة؛ وعلى هذا النحو أخمد بركليز بسرعة ومهارة الفتن التي ثار نقعها في إيجينا (457)، وعوبية (446)، وساموس (440).
وإذا جاز لنا أن نصدق قول توكيديدز فإن زعماء الديمقراطية الأثينية كانوا يعترفون أن حلف المدن الحرة قد أصبح إمبراطورية تقوم على القوة؛ وإن كانوا قد اتخذوا الحرية الغرض الأسمى لسياستهم في داخل أثينة نفسها، وفي ذلك يقول توكيديدز على لسان كليون مخاطباً الجمعية في عام 427: "عليكم أن تذكروا أن إمبراطوريتكم ليست إلا طغياناً تفرضونه على أقوام خاضعين لسلطانكم رغم أنوفهم، وأنهم لا ينفكون يأتمرون بكم، وهم لا يطيعونكم نظير خير تقدمونه لهم وتضرون به أنفسكم لتنفعوهم فتؤثروهم بذلك على أنفسكم، بل يطيعونكم لأنكم سادتهم، وهم يحبونكم مرغمين، ولكنهم لا يخضعون لكم إلا بالقوة" (6). وقد أدى هذا التناقض الأساسي بين عبادة الحرية؛ وطغيان الإمبراطورية منضماً إلى النزعة الفردية المتأصلة(7/343)
في الدول اليونانية أدى هذا وذاك إلى القضاء على العصر الذهبي في بلاد اليونان.
وشرعت مدن اليونان جميعها تقريباً تقاوم سياسة أثينة (7)، فقاومت بؤوتية في كورونيا (447) ما بذلته أثينة من جهود لضمها إلى الإمبراطورية. واستغاثت بعض المدن الخاضعة لأثينة وبعضها الآخر الذي يخشى الخضوع لها بإسبارطة، وطلبت إليها أن تقف في وجه أثينة. ولم يكن الإسبارطيون متحمسين للحرب راغبين فيها، لعلمهم بقوة الأسطول الأثيني وشجاعة رجاله، ولكن الكراهة العنصرية القديمة بين الدوريين والأيونيين أشعلت نار البغضاء في قلوبهم، وبدا للألجركية الإسبارطية مالكة الأراضي أن الخطة التي جرت عليها أثينة وهي إقامة حكومة ديمقراطية تستمد سلطتها من الإمبراطورية في كل مدينة من المدن الخاضعة لها، نقول بدا لهذه الألجركية أن تلك الخطة تهدد كيان الحكومات الأرستقراطية أينما كانت، واكتفى الإسبارطيون حيناً من الدهر بتقديم المعونة للطبقات العليا في كل مدينة من هذه المدن، وأخذوا يعملون على مهل في تكوين جبهة متحدة ضد أثينة.
ورأى بركليز نفسه يحيط به الأعداء من داخل أثينة وخارجها، فأخذ يعمل للسلم ويستعد للحرب. وهداه تفكيره إلى أن في مقدور الجيش أن يدافع عن أتكا، أو عن جميع سكان أتكا إذا اجتمعوا داخل أسوار أثينة، وأن في مقدور الأسطول أن يحمي الطرق التي تسلكها السفن المحملة بالحبوب من بلاد اليوكسين أو مصر إلى ثغر أثينة المسور ويبقيها مفتوحة. وكان يعتقد أنه لا يستطيع النزول عن شيء لأعدائه دون أن يعرض للخطر موارد الطعام الذي تعتمد عليه أثينة؛ وبدا له كما يبدو لإنجلترا في هذه الأيام، أنه أمام واحدة من اثنتين إما الإمبراطورية أو الموت جوعاً ولا وسط بينهما. ولكنه مع هذا أرسل الرسل إلى جميع الدول اليونانية يدعوها إلى عقد مؤتمر هليني للبحث عن حل للمشاكل التي تدفع(7/344)
اليونان للحرب. فرفضت إسبارطة الدعوة، إذ أحست أن قبولها إياها سيفسر بأنه اعتراف منها بزعامة أثينة، وحذت كثير من الدول الأخرى حذوها بوحي منها (8)، وبذلك فشل مشروع بركليز. وفي هذا يقول توكيديدز مقالة تفسر كثيراً من الحقائق التاريخية: "لقد كانت البلوبونيز وأثينة مملوءتين بالشباب تدفعهم نقص تجربتهم إلى الرغبة في امتشاق الحسام" (9).
كانت هذه العوامل الأساسية تعمل عملها، ولم يكن قيام الحرب يتطلب أكثر من حادث يستفز النفوس. وقد وقع هذا الحادث في عام 435. وذلك أن كرسيرا Corcyra إحدى المستعمرات الكورنثية أعلنت استقلالها عن كورنثة وانضمت إلى الحلف الأثيني ليحميها من تلك المدينة. وأرسلت كورنثة عمارة بحرية لإخضاع الجزيرة. واستغاث الديمقراطيون المنتصرون في كرسيرا بأثينة فسيّرت أسطولاً لإغاثتهم. وحدثت معركة غير حاسمة بين أهل كرسيرا وأثينة من جهة، وأهل ميغارا وكورنثة من جهة أخرى. وفي عام 432 حاولت بوتيديا Potidaea وهي مدينة في جزائر خلقيدية تؤدي الجزية لأثينة ولكن أهلها من عنصر كورنثي، حاولت هذه المدينة أن تخلع النير الأثيني عن كاهلها، فسيّر عليها بركليز جيشاً يحاصرها، ولكنها ظلت تقاومه سنتين كاملتين استنفدت في خلالهما موارد أثينة العسكرية وأضعفت هيبتها. ولما أن مدت ميغارا يدها مرة أخرى بالمعونة إلى كورنثة أمر بركليز بمنع كل محصولاتها من دخول أسواق أتكا والإمبراطورية. واستغاثت ميغارا وكورنثة بإسبارطة، فعرضت على أثينة أن تلغي قرار التحريم، ووافق بركليز على شريطة أن تسمح إسبارطة للدول الأجنبية بأن تتجر مع لكونيا، فرفضت إسبارطة هذا الشرط، واشترطت من جانبها للصلح أن تعترف أثينة باستقلال جميع المدن اليونانية استقلالاً تاماً، أي أن تنزل أثينة عن إمبراطوريتها. وأقنع بركليز الأثينيين أن يرفضوا هذا الطلب، فما كان من إسبارطة إلا أن أعلنت الحرب (10).(7/345)
الفصل الثالث
من الوباء إلى السلم
وانضمت بلاد اليونان كلها إلى هذا الطرف أو ذاك من الطرفين المتنازعين، فانضمت دول البلوبونيز ما عدا أرغوس إلى إسبارطة، وحذت حذوها كورنثة، وميغارا وبؤونية، ولكريس، وفوسيس. أما أثينة فقد قدمت لها المدائن الأيونية واليكسينية، والجزائر الإيجية في بادئ الأمر بعض معونتها. وكانت المرحلة الأولى من مراحل تلك الحرب كالمرحلة الأولى من الحرب العالمية الكبرى في هذه الأيام (1) صراعاً بين القوتين البحرية والبرية، فقد ضرب الأسطول الأثيني مدن البلوبونيز الساحلية، وأما الجيش الإسبارطي فغزا أتكا واستولى على غلاّتها وأتلف تربتها. ودعا بركليز سكان أتكا إلى الاعتصام داخل أسوار أثينة، وأبى أن يخرج جيوشه للقتال، ونصح الأثينيين الذين هاج هائجهم بأن يصبروا ويصابروا حتى ينتصر أسطولهم.
وقد كان هذا تدبيراً سديداً من الناحية العسكرية الفنية، ولكنه غفل عن عامل كاد أن يحسم النزاع. فقد كان ازدحام أثينة بأهل أتكا سبباً في تفّشي وباء فيها - لعله الملاريا (11) - في عام 430 دام قرابة ثلاث سنين، وأهلك ربع جنودها، وعدداً كبيراً من أهلها المدنيين (2). واستولى اليأس على قلوب الأهلين لما لحقهم من العذاب بسبب الوباء والحرب فاتهموه بأنه أصل كليهما. وتقدم كليون وغيره للقضاة متهمين بركليز بأنه أساء التصرف
_________
(1) يريد الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918). (المترجم)
(2) انظر وصف لكيرشس القوي لهذا الوباء في ص 1135 - 1286 من الجزء الرابع من De Rerum Natura.(7/346)
في الأموال العامة؛ وإذا كان قد استخدم أموال الدولة كما يبدو في إرشاء ملوك إسبارطة لعقد الصلح، فقد عجز من أن يقدم حساباً مقنعاً عما تصرف فيه من الأموال؛ وثبتت عليه التهمة، وأخرج من منصبه، وفرضت عليه غرامة باهظة مقدارها خمسون وزنة (000ر300 ريال أمريكي). وفي ذلك الوقت عينه أو حواليه ماتت أخته ومات اثنان من أبنائه الشرعيين بالوباء. لكن الأثينيين لم يجدوا لهم زعيماً يخلفه فأعادوه إلى منصبه (429)؛ وأرادوا أن يظهروا تقديرهم له وعطفهم عليه في محنته، فخرقوا قانوناً كان هو واضعه، ومنحوا ابناً له من اسبازيا حقوق المواطنية الأثينية. ولكن الأثيني الطاعن في السن كان هو نفسه قد أصيب بالوباء، ووهنت قواه يوماً بعد يوم ومات بعد بضعة أشهر من عودته إلى منصبه. ولقد وصلت أثينة في عهده إلى ذروة مجدها، وصلت إليها بفضل الثروة التي أفاءها عليها حلف كاره من جهة، وبفضل القوة التي أوغرت عليها صدور الدول جميعاً من جهة أخرى، ولهذا فإن القواعد التي رست عليها دعائم العصر الذهبي لم تكن سليمة، وكان لا بد أن تتقوض حين عجزت السياسة الأثينية عن تسيير دفة الحكم في زمن السلم.
ولعل أثينة، كما يشير توكيديدز، كانت تستطيع أن تظفر بالنصر رغم هذا العجز، لو أنها ظلت تسير على خطة فابيوس Fabius التي وضعها بركليز. ولكن خلفاءه تعجلوا في تنفيذ منهاج كان يتطلب كثيراً من ضبط النفس. فقد كان زعماء الحزب الديمقراطي الجدد تجاراً من نمط كليون تاجر الجلود، ويكراتيز Eucrates بائع الحبال، وهيبربولس Hyperbolus صانع المصابيح. وكان هؤلاء الرجال يدعون إلى مواصلة الحرب في البر والبحر، وكان كليون أقدرهم جميعاً وأعظمهم كفايةً، وأفصحهم لساناً، وأكثرهم استهتاراً بالمبادئ الأخلاقية، وأشدهم فساداً. ويصفه بلوتارخ بأنه "أول خطيب من الأثينيين خلع رداءه وضرب على فخذه وهو يخاطب الجماهير" (12)؛ ويقول أرسطاطاليس إن كليون كان شديد الحرص على الظهور على المنصة في ثياب العمال (13). وكان على رأس(7/347)
عدد كبير من الزعماء الشعبيين حكموا أثينة منذ مات بركليز إلى أن فقد الأثينيون استقلالهم يوم قيرونة Chaeronea (335) .
وأثبت كليون كفايته عام 425 حين حاصر الأسطول الأثيني جيشاً إسبارطياً في جزيرة اسفكتيريا Sphacteria القريبة من بيلس Pulus المسينية. ولاح أنه لا يوجد قائد بحري يستطيع الاستيلاء على الحصن، فلما أن عهدت الجمعية إلى كليون الإشراف على الحصار (وكانت ترجو بعض الرجاء أن يقتل في الهجوم عليه)، أدهش الناس كلهم بتوجيه الهجوم بمهارة وشجاعة أجبرتا اللسدمونيين على الاستسلام على غير عادتهم. وأذل هذا الاستسلام إسبارطة فطلبت الصلح والتحالف مع أثينة نظير الإفراج عن أسراها، ولكن كليون استطاع بفصاحته الخطابية أن يقنع الجمعية بأن ترفض هذا العرض وأن تواصل الحرب. وقويت سيطرته على الجماهير بعد أن عرض على الجمعية اقتراحاً أجازته من فورها يعفي الأثينيين فيما بعد من أداء الضرائب التي تتطلبها مواصلة الحرب، على أن يؤخذ ما يلزمها من المال بزيادة الخراج الذي تؤديه المدن الداخلة في نطاق الإمبراطورية (424). وكانت السياسة التي يسير عليها كليون في هذه المدن، كالسياسة التي يسير عليها في أثينة، هي أن يستولي من الأغنياء على أكبر قدر يجده عندهم من المال. ولما أن ثارت الطبقات العليا في متليني، ونبذت الحكم الديمقراطي، وأعلنت تحرر لسيوس من ولائها لأثينة (429)، اقترح كليون أن يقتل جميع الذكور البالغين من سكان المدينة العاصية. ووافقت الجمعية على هذا الاقتراح - ولعل الذين حضروا هذه الجلسة لم يكونوا سوى العدد القانوني الذي يصح أن تعقد بحضوره - وأرسلت سفينة تحمل أوامره بتنفيذه إلى باكيز Paches القائد الأثيني الذي قمع الثورة. ولما أن ذاع نبأ هذا الأمر الوحشي في أثينة، دعا العقلاء المعتدلون إلى عقد اجتماع ثان للجمعية، واستصدروا منها قراراً بإلغاء القرار السابق، وأرسلوا سفينة أخرى أدركت باكيز قبيل تنفيذ أمر(7/348)
المذبحة. وبعث باكيز إلى أثينة ألفاً من زعماء الثوار، قتلوا عن آخرهم إجابة لاقتراح كليون وجرياً على سنة ذلك العصر (14). وكفر كليون على ذنبه بأن مات في الميدان وهو يحارب البطل الإسبارطي براسيداس Brasidas الذي كان يستولي على المدن في شمال بلاد اليونان الأصلية والخاضعة لأثينة أو المتحالفة معها مدينة في إثر مدينة. وهذه الحرب هي التي خسر فيها توكيديدز منصبه البحري ومسكنه في أثينة من جرّاء تباطؤه في إنقاذ أمفبوليس المدينة التي كانت تتحكم في مناجم الذهب في تراقية. وقتل براسيداس في هذه الحرب نفسها، فلم تجد إسبارطة زعيماً يستطيع مواجهة الهيلوتيين الذين كانوا يهددونها بالثورة فعرضت الصلح مرة أخرى على أثينة، وانصاعت أثينة للمرة الأولى لنصيحة الزعيم الألجركي فوقعت صلح نيشياس (421). ولم تكتف المدن المتحاربة بأن تعلن انتهاء الحرب، بل وقعت شروط حلف يستمر خمسين عاماً، وتعهدت أثينة أن تخف لمساعدة إسبارطة إذا ما ثار عليها الهيلوتيون (15).(7/349)
الفصل الرابع
ألقبيادس
واجتمعت ثلاثة عوامل حولت هذا العهد الذي أخذته المدن اليونانية على نفسها بأن تدوم المودة بينها خمسين عاماً كاملة إلى هدنة مؤقتة لم تدم إلا ست سنين. وهذه العوامل الثلاثة هي: الفساد الذي طرأ على السلم فجعله "حرباً بوسائل أخرى؛ وقيام ألقبيادس على رأس حزب ينادي بامتشاق الحسام؛ ومحاولة أثينة الاستيلاء على المستعمرات الدورية في صقلية، ورفض حلفاء إسبارطة أن يوقعوا شروط الاتفاق مع أثينة، وانشقوا عليها بعد أن ذهبت قوتها، وحولوا ولاءهم إلى أثينة. واحتفظ ألقبيادس في أثينة بالسلم رسمياً، ولكنه كان في واقع الأمر يعد العدة لمحاربة إسبارطة، وحشد المدن اليونانية الموالية لأثينة في واقعة دارت رحاها عند منتينيا Mantinea (418) . وانتصرت إسبارطة في المعركة، وعقدت المدن اليونانية هدنة أخرى على الرغم منها.
وفي هذه الأثناء سيَّرت أثينة أسطولاً إلى جزيرة ميلوس الدورية تطلب إليها أن تكون دولة خاضعة لسلطان الإمبراطورية الأثينية (416). ويقول توكيديدز - وأكبر الظن أن المؤرخ الذي فيه يخضع للفيلسوف السوفسطائي أو الطريد المنتقم - إن الرسل الأثينيين لم يبرروا اعتداءهم بأكثر من قولهم إن القوة هي الحق: "لقد أملت علينا الآلهة وعلمنا الناس أن هؤلاء وأولئك يحكمون أينما استطاعوا وفقاً لقانون محتوم متأصل في طبيعتهم، ولسنا نحن أول من سنّ هذا القانون أو عمل به؛ لقد وجدناه قائماً من قبلنا، وسنتركه قائماً سرمدياً من بعدنا؛ وكل ما نستطيع أن نفعله أن نسير على سننه، لأنا نعرف أنكم أنتم وكل من عداكم من الناس ستفعلون فعلنا إذا أوتيتم ما أوتينا من قوة" (16). وأبى أهل(7/350)
ميلوس أن يخضعوا وأعلنوا أنهم سيفوضون أمرهم إلى الآلهة ويضعون فيها ثقتهم. ولما أن وصلت بعدئذ إلى الأسطول الأثيني إمدادات لا قبل لهم بها استسلموا للغزاة الفاتحين بلا شرط ولا قيد. وأعدم الأثينيون كل من وقع في أيديهم من الذكور البالغين، وباعوا النساء والأطفال بيع الرقيق، وأقطعوا الجزيرة لخمسمائة من المستعمرين الأثينيين. وابتهجت أثينة بهذا الفتح المبين، وشرعت من ذلك الحين تبرهن، بما مَثل بين جدرانها من مآس حية، على ذلك المبدأ الذي مَثله كُتابها على المسرح، وهو أن الانتقام الإلهي يتعقب الانتصار الوقح.
وكان ألقبيادس ممن أيدوا في الجمعية القرار الماضي بإعدام الذكور من أهل ميلوس (17). وكان تأييده لكل اقتراح أياً كان نوعه يكفي في الغالب لإقراره، لأنه كان وقتئذ أقوى رجل في أثينة، تعجب به لفصاحة لسانه، وبهاء طلعته، وعبقريته المتعددة الكفايات، بل تعجب به أيضاً لعيوبه وجرائمه. وكان أبوه أقلينياس Cleinias الثري قد قتل في واقعة كورونيا Coronea، وكانت أمه وهي القميونية Alemaeonid تمت بالقرابة إلى بركليز، قد أقنعت ذلك السياسي أن يربي ألقبيادس في منزله. وكان الغلام مشاكساً، ولكنه ذكي شجاع، حارب وهو في سن العشرين بجانب سقراط في بوتيديا Potidaea، وحارب في السادسة والعشرين من عمره في واقعة دليوم Delium (424) . ويبدو أن الفيلسوف كان يحس بعطف قوي على الغلام، وأنه ردّه إلى الفضيلة، كما يقول بلوتارخ، بألفاظ، "بلغ من تأثيرها في ألقبيادس أن استدرت الدمع من عينيه، وأقلقت باله، ولكنه مع ذلك كان يسلم نفسه أحياناً للمتملقين، حين كانوا يعرضون عليه ألواناً من الملاذ، فيهجر سقراط، ويأخذ الفيلسوف في مطاردته كأنه عبد آبق" (18).
وكانت بديهة الشاب الوقّادة ومجونه حديث الناس في أثينة وموضع دهشتهم وإعجابهم. ولما أن عاب عليه بركليز تكبره واستبداده برأيه بقوله إنه لم يفعل فعله هو مع أنه هو الآخر كان زلق اللسان في صباه، رد عليه ألقبيادس(7/351)
بقوله: "أشد ما آسف له أنني لم أعرفك حين كان عقلك في عنفوانه" (19). وأراد مرة أن يرد على تحدي أحد رفاقه المتهورين الصخابين فصفع رجلاً من أغنى الأثينيين وأشدهم بطشاً يدعى هبونكس Hipponicus على وجهه، ثم دخل في اليوم الثاني بيت ذلك العظيم، وخلع ملابسه، ورجا هبونكس أن يضربه بالسوط عقاباً له على فعلته. وتأثر الشيخ بفعل الشاب فزوجه بابنته هبريتي ومهرها بعشر وزنات، وأقنعه ألقبيادس بأن يضاعف المهر وأنفق معظمه على نفسه، وعاش عيشة بلغت من الترف درجة لم تعرف أثينة مثلها من قبل. فقد ملأ بيته بالأثاث الثمين، واستخدم الفنانين في رسم الصور على الجدران، وجمع طائفة من جياد السباق، فاز بها مراراً في سباق المركبات في أولمبيا. وقد فازت خيله في إحدى هذه المباريات بالجوائز الأولى والثانية والرابعة فما كان منه إلا أن أولم وليمة لجميع أعضاء الجمعية (20). وكان في بعض الأحيان يعد السفن ويؤدي نفقات الممثلين من ماله الخاص، وإذا ما طلبت الدولة تبرعات للحرب من أبنائها كان هو أكبر المتبرعين.
ولم يكن ألقبيادس يتقيد بواعز من ضمير أو عرف أو خوف، ولهذا كان يعبث في صباه وكهولته عبثاً بهيمياً، وكأن أثينة بقضها وقضيضها كانت تستمتع معه بسعادته. وكان يتلعثم قليلاً في نطقه تلعثماً بلغ من سحره أن أصبح التلعثم الطراز الشائع بين شباب أثينة العصريين، واحتذى مرة طرازاً جديداً من الأحذية، فلم يلبث شباب المدينة الأثرياء المتأنقون أن لبسوا أحذية ألقبيادس؛ وقد خرج على مائة قانون، وأساء إلى مائة رجل، ولكن أحداً لم يجرؤ على مقاضاته. وقد بلغ من حب السراري له أن نقش على درعه الذهبي صورة لإله الحب وإلى جانبه صاعقة كأنه يعلن بذلك انتصاراته في الحب (21)، وصبرت زوجته على خياناته صبر الكرام، فلما تمادي فيها عادت إلى منزل أبيها وأخذت تستعد لمقاضاته طلباً للطلاق، ولما ظهرت أمام الأركون، احتضنها ألقبيادس، وسار بها إلى منزله مخترقاً السوق(7/352)
العامة دون أن يجرؤ إنسان على اعتراضه، فلم يسعها والحالة هذه إلا أن تطلق له العنان، وأن تقنع منه بفتات حبه، ولكن موتها المبكر يوحي بأنها ماتت كسيرة القلب بسبب خياناته الزوجية.
ولما أن دخل ميدان السياسة بعد موت بركليز لم يجد فيه إلا منافساً واحداً له، هو نيشياس الثري التقي. ولكن نيشياس كان ضالعاً مع طبقة الأشراف جانحاً للسلم، ومن أجل هذا شرع ألقبيادس يخص بعطفه طبقات التجار، ويدعو إلى النزعة الاستعمارية دعوة أثارت كبرياء الأثينيين. وكان صلح نيشياس مشيناً في نظره لأنه يحمل اسم منافسه. ولما اختير في عام 520 قائداً من عشرة قوّاد بدأ يضع تلك الخطط الطموحة التي قذفت بأثينة مرة أخرى في معمعان القتال، ولما أن هتفت له الجمعية ابتهج لهتافها تيمن Timon كاره المجتمع وتنبأ بما سوف يحل بها من الفواجع (22).(7/353)
الفصل الخامس
المغامرة الصقلية
كان خيال ألقبيادس هو الذي أفسد عمل بركليز. ذلك أن أثينة قد انتعشت بعد ما حل بها من كوارث الحرب، وأخذت التجارة تدر عليها ثروة جزائر بحر إيجة. لكن القانون الطبيعي الذي يخضع له كل كائن حي هو قانون النماء الذاتي؛ فأما المطامع والإمبراطوريات فلا تقنع أبداً بما تبلغ، ولا تقف أبداً عند حد. وكان ألقبيادس يطمع في أن يبني لأثينة إمبراطورية جديدة في مدائن إيطاليا وصقلية الغنية، حيث تستطيع أن تجد الغلال، والمواد، والرجال، وحيث تستطيع أن تسيطر على موارد الطعام في البلوبونيز، وتضاعف الخراج الذي كان يوشك أن يجعلها أعظم المدن اليونانية. ولم يكن في وسع أية مدينة أن تنافسها غير سرقوصة، ولم تكن هي تطيق التفكير في هذه المنافسة، وكانت ترى أنها إن استولت على سرقوصة خضع لسلطانها جميع حوض البحر الأبيض المتوسط الغربي، ونالت أثينة من المجد ما لم يحلم به بركليز نفسه.
وحدث في عام 427 أن حذت صقلية حذو بلاد اليونان الأصلية فانقسمت إلى معسكرين متنازعين، تتزعم أحدهما سرقوصة الدورية، وتتزعم الأخرى ليونتيني Leontini الأيونية. وأرسلت ليونتيني غورغياس إلى أثينة يستنجدها، ولكن أثينة كانت وقتئذ أضعف من أن تغيث مستغيثاً.
وفي عام 416 أرسلت سجستا رسلاً إلى أثينة يبلغونها أن سرقوصة تعد العدة لتخضع صقلية كلها، وتفرض عليها حكومة دورية، وتمد إسبارطة بالمؤن والأموال إذا ما تجددت الحرب الكبرى. واغتنم ألقبيادس هذه الفرصة السانحة وقال إن اليونان في صقلية منقسمون على أنفسهم انقساماً لا يرجى من ورائه لهم(7/354)
خير، وإن كل مدينة فيها منقسمة على نفسها، وإن من أيسر الأمور وبقليل من الشجاعة أن تضم الجزيرة كلها إلى الإمبراطورية، وإن من أوجب الواجبات أن تظل الإمبراطورية تتسع رقعتها، وإلا فلا مناص لها من أن تبدأ في الاضمحلال، وإن الشعب الذي يريد أن تكون له إمبراطورية في حاجة إلى مناوشة من آن إلى آن لتدريبه على أساليب حكم الشعوب (23). وقام نيشياس في الجمعية يعارضه ويطلب إليها ألا تستمتع لرجل يغريه بذخه بالإقدام على مشروعات التوسع الخيالية، ولكن بلاغة ألقبيادس وخيال شعب تحلل الآن تحللاً خطيراً من المبادئ الأخلاقية تغلباً على حجج نيشياس، وأعلنت الجمعية الحرب على سرقوصة ووافقت على الأموال اللازمة لإعداد أسطول ضخم لغزوها، وكأنما أرادت أن تجعل هزيمة أثينة مؤكدة فوزعت القيادة بين ألقبيادس ونيشياس.
وسارت الاستعدادات على قدم وساق مدفوعة بالحماسة الشديدة التي هي من أخص خصائص الحرب؛ وأخذ الأهلون ينتظرون سفر الأسطول ليحتفلوا به احتفالاً وطنياً عظيماً. ولكن حدث قبل اليوم المحددة لسفره بأيام قلائل حادث عجيب هز مشاعر المدينة التي كانت قد فقدت كثيراً من تقواها وإن لم تفقد شيئاً من خرافاتها وأوهامها. وتفصيل ذلك أن أشخاصاً مجهولين تسللوا في جنح الظلام وحطموا أنوف تماثيل الإله هرمس، وآذانها، وأعضاء تذكيرها. وكانت هذه التماثيل قائمة أمام المباني العامة وكثير من المساكن الخاصة رمزاً للإخصاب ووقاية لها من كل سوء. وجاء باحث متحمس يفضي إلى القوم بشهادة لا سند لها منقولة عن جماعة من الغرباء والأرقاء يقولون فيها إن هذا العبث من فعل طائفة من أنصار ألقبيادس السكارى بزعامة ألقبيادس نفسه. واحتج القائد الشاب على هذا القول وحاول أن يبرئ نفسه منه، وطلب أن يقدم إلى المحاكمة على الفور، حتى يدان أو يبرأ قبل سفر الأسطول. ولكن أعداءه الذين كانوا يتوقعون صدور الحكم ببراءته، أفلحوا في تأجيل المحاكمة. وعلى هذا أبحر الأسطول(7/355)
العظيم في عام 415 وقد عقد لواؤه لداعية من دعاة السلم خوار القلب يبغض الحرب، ورجل جريء من أنصار الحرب، يقف توزيع القيادة وخشية البحارة أن يكون قد استحق غضب الآلهة، حائلاً بين عبقريته وبين الجهود التي لابد من بذلها لنيل النصر. ولم تكد تمضي على سفر الأسطول بضعة أيام حتى وردت أدلة كالأدلة السابقة لا سند لها يؤديها ولا يمكن الوثوق بها تقول إن ألقبيادس وأصدقاءه قد اشتركوا في تمثيل الطقوس الإلوريتية الخفية تمثيلاً هزلياً ساخراً. وأسرعت الجمعية تدفعها الجماهير الهائجة الغاضبة، فأرسلت السفينة السريعة سلامينيا Salaminia للحاق بألقبيادس وإعادته إلى أثينة ليقدم فيها للمحاكمة. وقبل ألقبيادس الدعوة، وانتقل إلى سلامينيا؛ ولما أن رست السفينة عند ثورباي نزل إلى البر خفية وفر هارباً. فلما أن غلبت الجمعية الأثينية على أمرها أصدرت حكمها بنفيه ومصادرة جميع أملاكه. وإعدامه إذا ما استطاع الأثينيون القبض عليه. واستولى عليه الحزن إذ رأى أن مشروعاته التي تهدف إلى مجد أثينة وتوطيد دعائم إمبراطوريتها قد قضى عليها من جرّاء حكم لا يزال يعده ظالماً، فلجأ إلى البلوبونيز، وحضر إحدى جلسات الجمعية الإسبارطية، وعرض أن يساعد إسبارطة على هزيمة أثينة وإقامة حكومة أرستقراطية فيها. ويقول توكيديدز على لسانه: "أما الديمقراطية فإن العقلاء منا يعرفون حقيقة أمرها، ولست أنا أقل علماً بذلك عن أي واحد منهم، لأن عندي من أسباب الشكوى منها أكثر مما عندهم، ولكني لا أجد شيئاً جديداً أذكره عن هذا السخف المتأصل فيها" (24). وأشار على الإسبارطيين أن يسّيروا أسطولاً لمساعدة سرقوصة، وجيشاً للاستيلاء على دسيليا Deceleia - وهي مدينة في أتكا إذا استولت عليها إسبارطة تحكمت عسكرياً في أتكا بأجمعها ما عدا أثينة، فتمنع بذلك مناجم الفضة في لوريوم أن تمد أثينة بالأموال التي تمكّنها من مقاومة الغزو، حتى إذا(7/356)
رأت المدن الخاضعة لأثينة أن هزيمتها محققة امتنعت عن أداء الجزية. وعملت إسبارطة بهذه النصيحة.
وظهرت قوة عزيمته حين نبذ ما تعوده في حياة الترف وعاش كما يعيش الإسبارطيون متقشفاً، مقتصداً، متحفظاً، يأكل غليظ الطعام، ويلبس خشن الثياب، ويسير حافي القدمين، ويستحم في نهر اليوروتاس Eurotas صيفاً وشتاءً، ويطيع قوانين لسدمونيا وعاداتها عن وفاء وإخلاص. لكن طلعته البهية، وجاذبيته رغم هذا كله أفسدتا عليه خططه، فقد هامت الملكة بحبه، وحملت منه بولد، وأسرّت إلى أصدقائها في زهو وفخار أنه أبوه. واعتذر هو لأصدقائه عن فعلته هذه بأنه لم يستطع أن يقاوم رغبته في أن يكون ملوك لكونيا من نسله. وجاء الملك أجيس إلى بلده، وكان متغيباً عنه مع جيشه. وعلم ألقبياس بذلك فحصل على منصب في قسم أسطول إسبارطة كان مسافراً إلى آسية. وتبرأ الملك من الطفل، وبعث بأوامر سرية تقضي باغتيال ألقبيادس، ولكن أصدقاءه حذروه من هذا، ففر وانضم لطشفرن Tissaphernes قائد الأسطول الفارسي في سرديس.
وكان نيشياس يواجه في الطرف الآخر من ميدان القتال مقاومة لا يستطيع التغلب عليها إلا عبقرية ألقبيادس العسكرية ومهارته في حبك الدسائس وتدبير المؤامرات. ذلك أن صقلية بأجمعها تقريباً خفت لمساعدة سرقوصة. وفي عام 414 استطاع أسطول صقلية بمساعدة أسطول إسبارطي يقوده جيبلس Gylippus أن يحصر السفن الأثينية الحربية في ميناء سرقوصة ويمنع عنها الطعام. وفقدت هذه السفن آخر فرصة أتيحت لها للخروج من هذا المأزق حين خسف القمر فارتاع لذلك نيشياس وكثيرون من جنوده وحملهم هذا الروع على أن ينتظروا فرصة أخرى أكثر من هذه إرضاء للآلهة. ولكنهم في اليوم الثاني وجدوا أنفسهم يحيط بهم أعداؤهم فاضطروا كارهين(7/357)
أن يخوضوا المعركة، ومنوا بالهزيمة في البحر أولاً ثم في البر بعدئذ. وحارب نيشياس رغم ضعفه ومرضه ببسالة، ولكنه أسلم نفسه آخر الأمر لرحمة السرقوصيين، فلم يكن منهم إلا أن أعدموه؛ ثم أرسل من بقي على قيد الحياة من الأثينيين، وكانوا كلهم من طبقة المواطنين، إلى العمل في مناجم صقلية، حيث ذاقوا طعم الحياة التي ظل يحياها عدة أجيال أولئك الذين ظلوا عدة قرون يكدحون في استخراج الفضة من مناجم لوريوم وهلكوا فيها كما هلك هؤلاء.(7/358)
الفصل السادس
انتصار إسبارطة
وقضت هذه الكارثة على روح أثينة المعنوية، فقد هلك أو استرق فيها نصف مواطنيها تقريباً، وترمّل نصف هذه الطبقة من النساء، وتيتم نصف الأطفال. ولم يكد يبقى لها شيء من الأموال التي جمعها بركليز في خزائنها، وكان عام آخر كفيلاً باستنفاد كل درهم فيها. وحسبت المدن الخاضعة لأثينة أنها ساقطة لا محالة فامتنعت عن أداء الجزية، وتخلف عنها معظم حليفاتها وانضمت الكثيرات منهن إلى إسبارطة. وفي عام 413 ادعت إسبارطة أن أثينة قد خرقت أكثر من مرة شروط صلح "الخمسين عاماً" فأعلنت إليها الحرب من جديد، واستولى اللسديمونيون في هذه المرة على ديسيليا، وحالوا دون وصول الطعام إليها من عوبية والفضة من لوريوم. وتمرد الأرقاء الذين كانوا يعملون في هذه المناجم، وانضموا بكامل عددهم البالغ عشرين ألف رجل إلى الإسبارطيين. وبعثت سرقوصة جيشاً لينضم إلى المهاجمين، ورأى ملك الفرس الفرصة سانحة ليثأر لنفسه من هزيمة مرثون وسلاميس، فأمد بالمال الأسطول الإسبارطي الناشئ، بعد أن اتفق مع إسبارطة ذلك الاتفاق المشين، وهو أن تساعد الفرس على أن يستعيدوا سيادتهم على مدائن أيونيا اليونانية (25).
ومما يدل على شجاعة الديمقراطية الأثينية وما كان فيها من حيوية أن أثينة استطاعت أن تقاوم أعداءها عشر سنين أخرى، فقد نظمت حكومتها تنظيماً راعت فيه قواعد الاقتصاد، وجدت في جميع الضرائب وفرض الإعانات لبناء أسطول جديد، فلم تكد تمضي سنة على هزيمتها في سرقوصة(7/359)
حتى أصبحت متأهبة لأن تنازع إسبارطة سيادتها الجديدة على البحار. ولما كاد انتعاش أثينة يبدو أمراً مؤكداً نظم الحزب الألجركي ثورة في البلاد، واستولى على أزمة الحكم وأنشأ مجلساً أعلى قوامه أربعمائة ألف (411). ولم يكن أعضاء هذا الحزب في يوم من الأيام في جانب الحرب، بل إنهم كانوا في واقع الأمر يودون لو انتصرت إسبارطة على أثينة لتنتعش فيها الأرستقراطية. واستولى الرعب على الجمعية بعد أن اغتيل كثيرون من زعماء الديمقراطية فاقترعت على أن تكفي نفسها بنفسها. وناصر الأغنياء الثورة لأنهم رأوا فيها الوسيلة الوحيدة للقضاء على حرب الطبقات التي وحدت صفوف الطبقات المتماثلة في أثينة وإسبارطة، كما وحد كفاح الطبقات الوسطى ضد الأرستقراطية أحزاب الأحرار في إنجلترا وأمريكا إبان الثورة الأمريكية. وما كاد الألجركيون يستولون على أزمة الحكم حتى أرسلوا الرسل لعقد الصلح مع إسبارطة، وأخذوا يمهدون السبيل سراً لدخول الجيش الإسبارطي في أثينة. وفي هذا الوقت تولى ثرمنيز، وهو زعيم حزب وسط من الأرستقراط المعتدلين، ثورة مضادة للثورة السالفة الذكر، واستبدل بمجلس الأربعمائة الذي تولى الحكم نحو أربعة أشهر مجلساً آخر من خمسمائة عضو (411)، واستمتعت أثينة فترة قصيرة بحكم ديمقراطي أرستقراطي مشترك كان في نظر توكيديدز وأرسطاطاليس (26) (وكلاهما من الأشراف) خير ما رأته أثينة بعد عهد صولون من أنظمة الحكم وأكثرها عدلاً. ولكن الثورة الثانية نسيت، كما نسيت الثورة الأولى، أن طعام أثينة وحياتها نفسها يعتمدان على أسطولها، الذي حرمت الثورتان رجاله عدا قليلين من زعمائهم من حقوقهم السياسية. وثارت ثائرة البحّارة حين سمعوا هذا الخبر، فأعلنوا أنهم سيحاصرون أثينة إن لم تعد إليها حكومتها الديمقراطية. وانتظر الألجركيون قدوم الجيش الإسبارطي ولكن الإسبارطيين تباطئوا شأنهم في كل مرة، وولى الحكام الجدد الأدبار، وأعاد الديمقراطيون المنتصرون الدستور القديم (411).(7/360)
وكان ألقبيادس قد أيد الثورة الألجركية سراً، وكان يرجو أن تمهد السبيل لعودته إلى أثينة، فلما عادت الديمقراطية إلى سابق عهدها استدعته إليها ووعدته بالعفو عنه؛ ولعلها كانت تجهل دسائسه، ولكنها كانت تعرف بلا ريب سيئات الحكومات التي توالت عليها بعد نفيه منها. غير أن ألقبياس أرجأ عودته ظافراً إلى أثينة، وتولى قيادة الأسطول المرابط عند ساموس، وأقدم على العمل بسرعة ونجاح سعدت بهما أثينة فترة قصيرة من الزمان. فقد اجتاز الهلسبنت مسرعاً، والتقى بأسطول إسبارطي عند سزكس Cyzicus ودمره تدميراً تاماً. (410)، ثم حاصر خلقيدون وبيزنطية حصاراً دام عاماً كاملاً استولى بعده عليهما وأعاد بذلك إلى أثينة سيطرتها على مواد الطعام المارة بالبسفور. ثم عاد بأسطوله نحو الجنوب فالتقى بعمارة إسبارطية أخرى قرب جزيرة أندروس وهزمها دون عناء. ورجع بعدئذ إلى أثينة (407)، فحياه أهلها على بكرة أبيهم أحسن تحية واستقبلوه أحسن استقبال. لقد نسوا وقتئذ ذنوبه ولم يذكروا إلا عبقريته وحاجة أثينة الشديدة إلى قائد قدير مثله (27). ولكن أثينة وهي تحتفل بانتصاراته لم ترسل إليه المال الذي يؤدي به رواتب بحارة أسطوله. وهنا أيضاً قضى على ألقبياس عدم استمساكه بالمبادئ الأخلاقية الكريمة. ذلك أنه ترك الجزء الأكبر من أسطوله عند نوتيوم Notium ( قرب إفسوس) تحت إمرة رجل يدعى أنتيكس Antiochus، وأمره أن يبقى في الميناء وألا يشتبك في القتال مهما تكن الأسباب، ثم سار هو ومعه عدد قليل من السفن إلى كاريا Caria ليجمع منها المال إلى رجاله بأساليب لا يرضى عنها القانون. وطمع أنتيكس في الشهرة فغادر الميناء، وتحدى أسطولاً إسبارطياً صغيراً بقيادة ليسندر Lysander فقبل هذا القائد التحدي، وقَتَل أنتيكس بيده وأغرق معظم سفائن الأسطول الأثيني أو استولى عليها (407). ولما علمت أثينة بهذه الفاجعة، وكان لها في الجمعية رد فعل سريع، فقد اجتمعت من فورها ووجهت اللوم إلى ألقبيادس(7/361)
لتركه أسطوله وعزله من قيادته. وأصبح ألقبياس يخشى أثينة وإسبارطة على السواء، فلم ير بداً من الالتجاء إلى بيثينيا Bithynia.
وأمرت أثينة في يأسها أن يصهر ما في التماثيل والقرابين القائمة على الأكربوليس من ذهب وفضة، وأن ينفق هذا كله في بناء أسطول جديد من مائة وخمسين سفينة ذات ثلاثة صفوف من المجاديف، ثم قررت أن تعتق الأرقاء، وتمنح حقوق المواطنية للغرباء، الذين يدافعون عن المدينة. وهزم الأسطول الجديد عمارة إسبارطية بالقرب من جزائر أرجنوسي Arginusae ( جنوب لسيوس) في عام 406، واهتزت مشاعر أثينة مرة أخرى بنشوة الظفر، ولكن الجمعية استشاطت غضباً حين سمعت أن قوادها (1) قد تركوا بحارة خمس وعشرين سفينة من السفن التي أغرقها العدو يموتون غرقاً على أثر عاصفة بحرية. ونادى المتحمسون أن أرواح هؤلاء الغرقى الذين لم يدفنوا طبقاً للمراسيم المرعية، ستطوف قلقة حول العالم؛ واتهموا الباقين على قيد الحياة بإهمالهم إنقاذ الغرقى، واقترحوا أن يحكم بالقتل على ثمانية من القواد المنتصرين (ومنهم ابن بركليز من أسبازيا). وتصادف أن كان سقراط عضواً في لجنة الرياسة في ذلك اليوم فأبى أن يعرض هذا الاقتراح على الجمعية. ولكنه عرض ووافقت عليه على الرغم منه، ونفذ الحكم بنفس السرعة التي صودق بها عليه. وما هي إلا أيام قلائل حتى ندمت الجمعية على فعلتها، وحكمت بالإعدام على من أقنعوها بقتل القواد. وفي هذه الأثناء عرض الإسبارطيون، بعد أن أوهنتهم الهزيمة، أن يعقدوا الصلح مرة أخرى، ولكن الجمعية الأثينية رفضت هذا العرض متأثرة ببلاغة كليوفون المخمور (28).
واتجه الأسطول الأثيني بعدئذ نحو الشمال، تحت إمرة قواد من الطبقة
_________
(1) كان لفظ استراتجوس Strategos يطلق على قواد الجيش والأسطول على السواء.(7/362)
الثانية، ليلاقي الإسبارطيين بقيادة ليسندر في بحر مرمرة. ورأى ألقبيادس من مخبئه بين التلال أن السفن الأثينية قد اتخذت لها موضعاً شديد الخطورة عند إيجسبتماي Aegospotami قرب لمبسكس Lampascus، فما كان منه إلا أن خاطر بحياته ونزل إلى الشاطئ على ظهر جواده، ونصح أمراء البحر الأثينيين أن يبحثوا لهم عن موضع أقل تعرضاً للخطر من موضعهم؛ ولكنهم لم يثقوا بنصحه ولم يعملوا به، وذكروه بأنه لم يعد له شأن بالقيادة. وفي اليوم الثاني حدثت المعركة الفاصلة، وأغرقت فيها مائتان من سفن الأسطول الأثيني المائتين والثمان، أو استولى عليها العدو، وأمر ليسندر بقتل ثلاثة آلاف من الأسرى الأثينيين (29). وترامى إلى ألقبياس أن ليسندر قد أمر بقتله، ففر إلى فريجيا مع القائد الفارسي فرنيزوس Pharnapazus الذي وهبه قصراً وحظية. ولكن ملك فارس أمر فرنيزوس بأن يقتل ضيفه عملاً بنصيحة ليسندر. وحاصر اثنان من القتلة ألقبيادس في قصره، وأشعلا النار فيه، فخرج منه عارياً يائساً، يريد أن يقاتل دفاعاً عن حياته، ولكن سهام مهاجميه وحربتيهما اخترقت جسمه قبل أن يمسهما سيفه فقضى نحبه في السادسة والأربعين من عمره؛ وكان أعظم العباقرة في تاريخ اليونان العسكري، كما كان إخفاقه أعظم الفواجع في هذا التاريخ.
وأصبح ليسندر بعدئذ صاحب السلطان المطلق في بحر إيجة، فأخذ يتنقل بأسطوله من مدينة إلى مدينة، يقضي على الديمقراطيات ويقيم مكانها حكومات ألجركية خاضعة لإسبارطة، ثم دخل ثغر بيرية من غير أن يلقى مقاومة، وضرب الحصار على أثينة، وقاومه الأثينيون ببسالتهم المعهودة، ولكن ما كان لديهم من الطعام لم يكفهم أكثر من ثلاثة أشهر، وامتلأت طرقات المدينة بالموتى أو المحتضرين. وعرض ليسندر على أثينة شروطاً للصلح مذلة ولكنها رحيمة. فقد قال إنه لا يريد أن يخرب مدينة أدت في الماضي خدمات مشرفة إلى بلاد اليونان، ولن يريد فوق ذلك أن يستعبد أهلها،(7/363)
ولكنه طلب دك الأسوار الطويلة واستدعاء الألجركيين المنفيين، وتسليم جميع ما كان باقياً من أسطولها عدا ثمان سفن، وأن تقطع على نفسها عهداً بأن تساعد إسبارطة مساعدة جدية في كل حرب تخوض غمارها في المستقبل، واحتجت أثينة على هذه الشروط ولكنها قبلتها صاغرة.
واستولى الألجركيون العائدون بزعامة أقرتياس وثرمنيز على أزمة الحكم بتأييد ليسندر، وألفوا مجلساً من ثلاثين عضواً ليحكم أثينة (404). ولم يفد هؤلاء العائدون من دروس الماضي شيئاً، كما لم يفد منها آل بربون Bourbon بعد أن عادوا إلى حكم فرنسا. فقد صادروا أموال كثيرين من أغنياء التجار، وأوغروا عليهم صدورهم. ونهبوا أموال الهياكل، وباعوا بثلاث وزنات أرصفة بيرية التي كلفت أثينة ألف وزنة (30)، ونفوا من المدينة خمسة آلاف من الديمقراطيين، وأعدموا ألفاً وخمسمائة آخرين؛ وقتلوا جميع الأثينيين الذين لم يكونوا هم راضين عنهم لأسباب سياسية أو شخصية؛ وقضوا على حرية التعليم والاجتماع، والكلام؛ وحرم أقريتياس على سقراط، وقد كان يوماً ما تلميذ هذا الفيلسوف، أن يواصل أحاديثه العامة. وأراد الثلاثون أن يُعرّضوا الفيلسوف للشبهات ويضموه إلى قضيتهم فأمروه هو وأربعة غيره أن يقبضوا على ليون Leon الديمقراطي، فأطاع الأربعة أمرهم ورفضه سقراط.
وازدادت جرائم الألجركيين وتضاعفت إلى حد أنسى الأثينيين أوزار الديمقراطية، فأخذ عدد من يريدون التخلص من هذا الطغيان الدموي، ومن بينهم كثيرون من ذوي اليسار؛ يزداد يوماً بعد يوم؛ ولما أن اقترب من بيرية ألف من الديمقراطيين المدججين بالسلاح بقيادة ثرازيبولس Thrasypulus لم يكد الثلاثون يجدون من يدافع عنهم غير شيعتهم الأقربين. ونظم أقريتياس جيشاً صغيراً، وخرج هو إلى ميدان القتال فهزم وقتل. ودخل ثرازيبولس(7/364)
أثينة وأعاد إليها الحكم الديمقراطي (403). وسارت الجمعية بإرشاده سيراً معتدلاً لم تألفه من قبل، فلم تحكم بالإعدام إلا على أكابر من بقوا على قيد الحياة من زعماء الثورة، وسمحت لهم بالنجاة من هذا الحكم بالخروج من المدينة؛ ثم أعلنت العفو العام عن جميع من ساعد الألجركيين من غير هؤلاء الزعماء، بل إنها ردت على إسبارطة المائة الوزنة التي أعارها حكامها إلى الثلاثين (31). وأعادت هذه الأعمال المنطوية على كثير من الإنسانية وحسن السياسة إلى أثينة ذلك السلام الذي حرمت منه جيل من الزمان.(7/365)
الفصل السابع
موت سقراط
من أغرب الأشياء أن العمل القاسي الوحيد الذي ارتكبته الديمقراطية بعد عودتها، قد ارتكبته مع فيلسوف طاعن في السن تحول سنوه السبعون بينه وبين القيام بأي عمل يضر الدولة. ولكن كان بين زعماء الحزب المنتصر ذاك الأنيتوس Anytus الذي هدد قبل عدة سنين من ذلك الوقت بأن ينتقم لنفسه من سقراط لبعض إهانات لحقته من جدله، ولأن الفيلسوف "أفسد" ابنه. وكان أنيتوس هذا رجلاً صالحاً، حارب ببسالة تحت إمرة ثرازيبولس، وأنقذ حياة بعض من أسرهم جنوده من الألجركيين. وكانت له يد في إصدار العفو العام؛ وسمح للذين ابتاعوا أملاكهم، بعد أن صادر الثلاثون الأملاك، أن يستبقوها لأنفسهم لا ينازعهم فيها منازع. ولكنه لم يحتفظ بهذه الصفات الكريمة في معاملته لسقراط. فهو لم ينس أن ابنه بقي مع سقراط وصار سكيراً عربيداً بعد أن ذهب هو إلى منفاه (32)؛ ولم يخفف من حقده على الفيلسوف أن سقراط أبى أن يطيع الثلاثين وأعلن أن أقريتياس حاكم ظالم (هذا إذا كان لنا أن نصدق رواية أكسانوفون عن هذا الحادث (33)). فقد بدا لأنيتوس أن تأثير سقراط في الأخلاق وفي السياسة أسوأ من تأثير أي سوفسطائي آخر، وأنه يقوض دعائم العقيدة الدينية التي كانت تستند إليها الأخلاق، وأن انتقاداته الدائمة كانت تضعف إيمان الأثينيين المتعلمين في الأنظمة الديمقراطية (1). وبدا لأنيتوس أن من الخير أن يخرج سقراط من أثينة أو أن يموت.
_________
(1) لقد انقطع أقريتياس وألقبيادس عن سقراط في أوائل عهده بالتدريس لأنهما لم يقبلا القيود التي كان يدعو إليها.(7/366)
ووجَّه الاتهام إلى سقراط أنيتوس، وملاتوس، وليقون في عام 339 وكان نصه: "أن سقراط مذنب عام لأنه لا يعترف بالآلهة التي تعترف بها الدولة، بل يدخل فيها كائنات شيطانية" (الديمونيون السقراطية)؛ "وأنه مذنب كذلك لأنه أفسد الشباب" (1). وجرت المحاكمة أمام محكمة شعبية (ديكاستريون Dikasterion) مؤلفة من حوالي خمسمائة من المواطنين معظمهم ممن لم ينالوا قسطاً كبيراً من التعليم. وليس لدينا وسيلة نعرف بها ما في رواية أفلاطون وأكسانوفون الخاصة بدفاع سقراط عن نفسه من دقة؛ وكل ما نعرفه محققاً أن أفلاطون شهد المحاكمة بنفسه (37)، وأن روايته عن اعتذار سقراط تتفق في كثير من المواضع مع رواية أكسانوفون. يقول أفلاطون إن سقراط قد أكد أنه يؤمن بألوهية الشمس والقمر نفسيهما. "تقولون أولاً إني لا أؤمن بالآلهة ثم تقولون بعدئذ إني أومن بأنصاف الآلهة ... إن مثلكم في هذا كمثل من يؤكد وجود البغال ثم ينكر وجود الخيل والحمير" (38) ثم أشار وهو مكتئب حزين إلى ما كان لهجاء أرسطوفان من أثر فعّال:
"لقد اتهمني كثيرون، اتهموني في الزمن القديم، وظلت تهمهم الكاذبة تطاردني كثيراً من السنين؛ وأنا أخشاهم أكثر مما أخشى أنيتوس ورفاقه ... لأنهم بدءوا يتهمونني وأنتم أطفال، واستحوذوا بأكاذيبهم على عقولكم، إذ حدثوكم عن شخص يسمى سقراط، وهو رجل حكيم، يفكر في السموات العلا، ويفحص عن الأرض من تحتنا، ويجعل أسوأ الأسباب تبدو للعين كأنها أحسنها. أولئك هم المتهمون الذين أخشى بأسهم، لأنهم هم الذين ينشرون
_________
(1) يعتقد كروازيه Croiset أن سبب الاتهام الحقيقي هو عداء زراع أتكا لكل من يثير الشك في آلهة الدولة. فقد كان من أشهر أسواق الماشية سوق تقام ليشتري منها الأتقياء الصالحون ما يقربونه للآلهة من الماشية. وكان أي نقص في العقيدة الدينية يسبب الكساد لهذه السوق، وكان أرسطوفان وهو يعلل العداء على هذا النحو إنما ينطق بلسان أولئك الزراع الذين تعرض عليهم مسرحياته إذ نجحت مراراً كثيرة.(7/367)
هذه الشائعة، وسرعان ما يخيل إلى المستمعين إليهم أن من يفكر هذا التفكير لا يؤمن بالآلهة. وما أكثر هؤلاء، وما أقدم التهم التي يوجهونها إليَّ، وقد كانوا يوجهونها أثناء طفولتكم التي ينطبع فيها كل شيء قوياً في عقولكم، أو لعلهم وجهوها إليَّ في أثناء شبابكم، وسواء كان هذا أو ذاك فإن التهمة إذا وجهت ولم تجد من يفندها ثبتت في العقول. وأصعب ما في الأمر كله أني لا أستطيع ذكر أسمائهم لأني أجهلها، اللهم إلا اسم واحد عرفته مصادفة وهو شاعر هزلي ... تلك هي حقيقة التهم الموجهة إلي، وهذا هو الذي رأيتموه بأعينكم في مسلاة أرسطوفان (39).
وهو يقول إنه مكلف برسالة إلهية هي أن يهدي الناس إلى الحياة الصالحة البسيطة، وإنه لن يمتنع عن إبلاغ الناس هذه الرسالة أياً كان ما يهدد به:
"ولو فعلت لكان مسلكي عجيباً بحق. أي رجال أثينة، إذا كنت وأنا تحت إمرة القواد الذين اخترتموهم رؤساء عليَّ في بوتيديا، وأمفبوليس، ودبليوم قد ثبتُّ حيث أمروني بالثبات، وواجهت الموت كما واجهه كل رجل آخر - وإذا كنت الآن، وأنا أعتقد وأتصور أن الله يأمرني بأن أؤدي رسالة الفيلسوف فأفحص عن نفسي وعن غيري من الناس، إذا كنت أنا أتخلى عن مهمتي خشية الموت ... ، وإذا ما قلتم لي: يا سقراط إنا سنعفو عنك الآن ولا نشترط عليك إلا أن تكف من هذه الساعة عن البحث والتفكير على هذا النحو ... أجبتكم: أي رجال أثينة، إني أجلكم وأحبكم، ولكني سأطيع الله ولا أطيعكم، ولن أمتنع، ما دمت حياً وما دامت لدي قوة، عن ممارسة الفلسفة أو تعليمها للناس، أعظ كل من ألقاه على طريقتي الخاصة، وأقنعه، وأقول له: أي صديقي، لم تعنى كل هذه العناية كلها بادخار أكبر قدر مستطاع من المال والشرف والسمعة الطيبة ولا تدخر إلا النزر اليسير من الحكمة والحقيقة وأنت مواطن في مدينة أثينة العظيمة، القوية، الحكيمة؟ وأهيب بكم يا رجال(7/368)
أثينة أن تفعلوا ما يأمركم به أنيتوس، برئوني أو لا تبرئوني، ولكن أياً كان ما تفعلونه بي، فلتعلموا أني لن أبدل طرائقي، ولو مت مرات كثيرة (40).
ويبدو أن القضاة قد قاطعوه عند هذه النقطة، وأمروه ألا يسترسل فيما بدا لهم أنه وقاحة، ولكنه واصل دفاعه بكبرياء أشد من ذي قبل:
أحب أن تعرفوا أنكم إذا قتلتم رجلاً مثلي، أسأتم إلى أنفسكم أكثر مما تسيئون إليَّ ... لأنكم إن قتلتموني لن يسهل عليكم أن تجدوا رجلاً آخر مثلي، فأنا، إذا سمح لي أن ألجأ إلى هذا التشبيه المضحك السخيف، كذبابة بعثها الله إلى الدولة، والدولة شبيهة بجواد عظيم كريم، بطيء الحركة لضخامة جسمه، في حاجة إلى ما يبث فيه الحياة ... وإذ كنتم لن تجدوا غيري رجلاً مثلي، فإني أنصحكم أن تبقوا عليًّ (41).
وصدر الحكم بإدانته بأغلبية ضئيلة لا تزيد على ستين صوتاً، ولو أن دفاعه كان أقل حدة وأكثر استرضاء للقضاة لكان من الجائز أن يبرأ. وكان من حقه أن يقترح عقاباً آخر بدل الإعدام، ولكنه أبى في أول الأمر أن يطلب هذا الطلب؛ فلما ألح عليه أفلاطون وغيره من الأصدقاء، عرض أن يؤدي غرامة قدرها مائة مينا (3000 ريال أمريكي). وضمنه أفلاطون وهؤلاء الأصدقاء في تعهده. فلما أخذ الرأي للمرة الثانية زاد عدد أصوات الذين حكموا بإعدامه ثمانين صوتاً على عددهم في المرة الأولى (42).
وقد كان في استطاعته بعدئذ أن يفر من السجن، وقد مهد له أقريطون وغيره من الأصدقاء (إذا جاز لنا أن نصدق أفلاطون) بالرشا سبيل الفرار (45)، والرجح أن أنيتوس كان يأمل أن ينتهي الأمر على هذا النحو. ولكن سقراط بقى كما هو إلى آخر يوم في حياته. فقد كان يحس أنه لن تطول حياته أكثر من بضع سنين وأنه "لن يلقى عن كاهله إلا أبهظ جزء من الحياة؛ وهو الجزء الذي يشعر فيه الناس كلهم أن قواهم العقلية آخذة في النقصان" (46).(7/369)
لهذا لم يقبل اقتراح أقريطون، بل أخذ يبحثه من وجهة النظر الأخلاقية، ويناقشه على الطريقة الجدلية، ويطبق عليه المنطق إلى النهاية (47). ولم ينقطع تلاميذه عن زيارته في سجنه كل يوم خلال الشهر الذي انقضى بين إدانته وتنفيذ الحكم فيه، ويبدو أنه ظل يتحدث إليهم وهو هادئ حتى الساعة الأخيرة من حياته. ويحدثنا أفلاطون أنه أخذ يعبث بشعر فيدون Phaedo ويقول: "يخيل إليَّ يا فيدون أن هذه الغدائر الجميلة ستقص غداً" - حزناً عليَّ. وجاءته زانثبي باكية وبين ذراعيها أصغر أطفالهما؛ فأخذ يواسيها، وطلب إلى أقريطون أن يصحبها إلى دارها. وقال له أحد تلاميذه المتحمسين: "إنك لا تستحق هذه الميتة" فأجابه سقراط بقوله: "هل تريد إذن أن أستحقها؟ " (49).
ويقول ديودور الصقلي (50). إن الأثينيين ندموا على فعلتهم بعد موته وأعدموا من اتهموه. ويقول سويداس إن ملاتوس مات رجماً بالحجارة (51)، ولكن بلوتارخ يروي رواية أخرى فيقول إن الشعب غضب على متهميه غضباً بلغ من شدته إنهم لم يجدوا مواطناً يوقد لهم النار، أو يجيب لهم عن سؤال، أو يستحم في ماء استحموا هم فيه، فلم يسعهم آخر الأمر إلا أن يقتلوا أنفسهم (52). ويروي ديوجانس ليرتيوس أن ملاتوس أعدم، وأن أنيتوس نفي، وأن تمثالاً من البرنز أقيم في أثينة تخليداً لذكرى الفيلسوف (53). ولكنا لا نعرف ما في هذه القصص من الصدق أو الكذب (1).
وانتهى العصر الذهبي بموت سقراط. فقد خارت قوى أثينة المادية والمعنوية؛ ولم يكن ثمة ما يستطاع به تعليل القسوة المتناهية التي عاملت بها ميلوس، والحكم الوحشي الذي أصدرته على متليني، وإعدام قواد أرجنوسي،
_________
(1) أما جروت (45). فيشك فيها، ومما يبعث في نفوسنا نحن الشك في صدقها ما يبذله أفلاطون وأكسانوفون من الجهد في الدفاع عن سمعة سقراط. ولكن هذه الروايات كان يقبلها الناس بوجه عام في الزمن القديم (كان يقبلها مثلاً ترتليان وأوغسطين (55))، وهي تتفق كل الاتفاق مع عادات الأثينيين.(7/370)
والتضحية بسقراط على مذبح الدين المحتضر، لم يكن ثمة ما يستطاع به تعليل هذا كله إلا ما أصاب الأخلاق فيها من تدهور بسبب الحروب الطوال التي خاضت غمارها وما جرته على أهلها من عذاب وآلام. لقد تصدعت جميع الدعائم التي تستند إليها الحياة الاثينية: فأقفرت تربة أتكا من جراء الغارات الإسبارطية، وأحرقت أشجار الزيتون البطيئة النمو، ودمر الأسطول الأثيني فلم تستطع أثينة بعد تدميره أن تسيطر على الطرق التجارية وتضمن ما يلزمها من الطعام؛ وأقفرت خزائنها من المال، وفرض على الثروات الخاصة من الضرائب الباهظة ما كاد يذهب بها كلها؛ وقتل نحو ثلثي مواطنيها. وكان ما أصاب بلاد اليونان من الضرر بسبب غزوة الفرس أقل مما أصابها بسبب حروب البلوبونيز. لقد تركت موقعتا سلاميس وبلاتيا بلاد اليونان فقيرة ولكنها مرفوعة الرأس تملأ نفوس أهلها العزة وتعمر قلوبهم الشجاعة، أما الآن فقد افتقرت بلاد اليونان مرة أخرى، وأثخنت أثينة بجراح في روحها مستنسرة لا يرجى لها برء.
ولم يكن يحفظ عليها حياتها إلا شيئان: عودة الديمقراطية على أيدي رجال من ذوي الحكمة والاعتدال، وشعورها بأنها في خلال الستين سنة الأخيرة، وحتى في خلال الحرب نفسها، قد أخرجت إلى العالم فناً وأدباً لا يدانيهما نتاج أي عصر آخر في تاريخ البشر. نعم إن أنكساغورس قد نفي، وأن سقراط قد أعدم، ولكن القوة التي بعثاها في الفلسفة كانت تكفي لأن تجعل أثينة من ذلك الحين، وعلى الرغم منها، مركز التفكير اليوناني الذي بلغ فيها ذروته. فقد نضجت فيها تلك الآراء التي كانت من قبل أفكاراً تجريبية لم تتشكل بعد وأضحت نظماً عظيمة مستقرة ظلت مصدر الحركة في الحياة الفكرية الأوربية عدة قرون؛ وحلت محل نظم التربية العالية المضطربة التي لا تخضع لقاعدة والتي كان يتولى أمرها السوفسطائيون، حلت محلها أولى الجامعات التي عرفها التاريخ - وهي الجامعات التي جعلت أثينة في(7/371)
مستقبل الأيام "مدرسة هلاس" كما تعجل وسماها سيديدز قبل اكتمالها. ولم تقض الحروب وما أريق فيها من دماء وما أحدثته من فوضى واضطراب على مقومات الفن وتقاليده قضاءً تاماً، بل ظل المثالون والمهندسون اليونان عدة قرون بعد ذلك الوقت ينحتون ويشيدون لجميع بلاد البحر الأبيض المتوسط. ولقد انتعشت أثينة من اليأس الذي دب فيها بعد هزيمتها، وعادت إليها حيويتها عوداً يثير الدهشة، فتجددت ثروتها، وثقافتها، وقوتها، وازدهر خريف حياتها وأثمر أحسن الثمار.(7/372)
الكِتابُ الرّابع
اضمحلال الحرية اليونانية وسقوطها
من 399 إلى 322 ق. م.(7/374)
الباب التاسع عشر
فليب
الفصل الأول
إمبراطورية إسبارطة
بسطت إسبارطة الآن سيادتها البحرية على بلاد اليونان، ودامت لها هذه السيادة فترة قصيرة من الزمان مثلت في التاريخ مرة أخرى مأساة من مآسي النجاح يذل صاحبَه الكبرياء. فهي لم تمنح المدن التي كانت من قبل خاضعة لأثينة ما وعدتها به من حرية، بل فرضت عليها بدلاً من هذا جزية سنوية مقدارها ألف وزنة (000ر000ر6 ريال أمريكي)، وأقامت في كل منها حكماً أرستقراطياً يشرف عليه حاكم لسدموني تؤيده حامية إسبارطية. ولم تكن هذه الحكومات مسئولة إلا أمام الحكام الإسبارطيين البعيدين عنها، فأوغلت في الفساد والظلم إيغالاً لم يلبث أن أوغر الصدور على الحكومة الجديدة أكثر مما كانت موغرة على الحكومة القديمة.
وفي إسبارطة نفسها كان سيل من المال والهدايا المنهمر من المدائن الخاضعة لاستبدادها والألجركيين الأذلاء سبباً في تقوية العوامل الداخلية التي كانت تدفع المدينة دفعاً إلى الانهيار. فلم يستهل القرن الرابع حتى تعلمت الطبقة الحاكمة كيف تجمع بين الترف في الحياة الخاصة والبساطة في الحياة العامة، وحتى الحكام أنفسهم لم يعودوا يتأدبون بأدب ليتورغ إلا في(7/378)
المظهر الخارجي دون غيره. وانتقل الكثير من الأراضي عن طريق البائنات والوصايا إلى النساء؛ وهذه الثروة المكدسة جعلت النساء الإسبارطيات - وهن اللائي لم يكنَّ يتحملنَّ عبء تربية الذكور من الأبناء - يحيين حياة مريحة متحللة من القيود الأخلاقية لا توائم الأنوثة بحال من الأحوال. هذا إلى أن ما تعاقب على بعض الضياع من تقسيم في إثر تقسيم قد أفقر بعض الأسر فقراً عجزت معه عن تقديم نصيبها من الطعام العام، ففقدت بذلك ما كان لها من حقوق المواطنية، على حين أن تضخم بعض الثروات الأخرى عن طريق الزواج والوصايا قد أوجد لدى العدد القليل من "الأنداد" الباقين ثروات كبيرة مركزة أثارت الغيرة والحسد في القلوب (1). وفي ذلك يقول أرسطاطاليس: "من الإسبارطيين من يمتلك ضياعاً واسعة، ومنهم من لا يكادون يمتلكون شيئاً على الإطلاق، فالأرض بأجمعها في أيدي عدد قليل منهم" (3). وتكون من الطبقات العليا التي فقدت حقوقها السياسية ومن اليريسيين المحرومين من هذه الحقوق، والهيلوتيين الحانقين، مجموعة من الأهلين يضطرب في نفوسها من القلق والعداء ما لا يسمح للحكومة أن تقدم على شئ من المغامرات العسكرية الخارجية التي يتطلبها الحكم الإمبراطوري إقداماً يشغلها زمناً طويلاً في أماكن واسعة.
وكانت الحرب الأهلية القائمة في بلاد الفرس وقتئذ تشكل مصائر بلاد اليونان؛ فقد ثار قورش الأصغر في عام 401 على أخيه أرتخشتر الثاني، واستعان عليه بإسبارطة، وجند جيشاً من آلاف اليونان وغيرهم من الجنود المرتزقة الذين أصبحوا ولا عمل لهم في آسية على أثر انتهاء حرب البلوبونيز الفجائي. والتقى الأخوان المتقاتلان في كونكسا بين دجلة والفرات وقرب ملتقاهما. وهزم قورش في هذه الواقعة وقُتل وأسر جيشه كله أو أبيد عدا فرقة مؤلفة من اثني عشر ألفاً من اليونان استعانوا بسرعة بديهتهم وإقدامهم
_________
(1) كان عدد الهمويوي Homoioi أو "الأنداد" ثمانية آلاف في عام 480، وألفين في عام 371 وسبعمائة في عام 341.(7/379)
على الهرب إلى داخل بلاد بابل. وطاردتهم قوات الملك فاختاروا على طريقتهم الدمقراطية الساذجة ثلاثة قواد يهدونهم سبيل السلامة. وكان من بين هؤلاء القواد أكسانوفون الذي كان في يوم من الأيام تلميذاً لسقراط، والذي كان وقتئذ جندياً شاباً مغامراً، قدر له أن يُخلَّد اسمه على الأخص بمؤلَّفه المعروف بالأناباسيس Anabasis أو الصعود الذي وصف فيه وصفاً بسيطاً رائعاً "ارتداد العشرة آلاف" الطويل متتبعين مجرى نهر الفرات نحو منبعه وفوق تلال كردستان وأرمينية إلى البحر الأسود. وكان هذا الارتداد من أعظم المغامرات في تاريخ البشر. وإنا لتدهشنا أشد الدهشة بسالة هؤلاء اليونان وهم يشقون طريقهم سيراً على أقدامهم يوماً بعد يوم خمسة شهور كاملة، قطعوا في أثنائها ألفي ميل كاملة في بلاد معادية لهم، واجتازوا سهولاً قائظة لا يجدون فيها طعاماً، وطرقاً وعرة خطرة فوق الجبال تتراكم فيها الثلوج إلى عمق ثمان أقدام، يتعرضون فيها لهجمات الجيوش والعصابات المسلحة من خلفهم وأمامهم، وعن أيمانهم وشمائلهم، ولا يترك أهل البلاد وسيلة إلا اتبعوها لقتلهم أو إضلالهم أو سد الطريق في وجههم. ونحن حين نقرأ هذه القصة الرائعة، التي شوهها في شبابنا إرغامنا على ترجمتها، ندرك أن أهم سلاح تحتاجه الجيوش هو سلاح الطعام، وأن مهارة القائد في تدبير المؤن لجيشه لا تقل أهمية عن مهارته في تدبير الفوز في المعركة. وقد هلك من هؤلاء اليونان من التعرض للعوامل الجوية أكثر ممن هلك منهم في الوقائع الحربية، وإن كانت هذه الوقائع لم تنقطع يوماً واحداً. ولما أن وقعت عيون الباقين منهم أحياء، وكانت عدتهم 600ر8، على بحر اليوكسين عند تربيزي (طربزون) غمرت قلوبهم موجة من السرور:
"ولم تكد مقدمتهم تصل إلى قمة الجبل حتى علت في الجو صيحة شديدة، سمعها أكسانوفون ومَن في المؤخرة فخيل إليهم أن أعداء آخرين يهاجمون المقدمة - لأن الأعداء كانوا يقتفون آثارهم من خلفهم ... فاستحثوا الخطى إلى(7/380)
الأمام ليساعدوا رفاقهم، وسرعان ما سمعوا الجنود يصيحون "البحر! البحر! " والصيحة تنتقل من صف إلى صف. وحينئذ هرول جنود المؤخرة جميعهم، وأخذت دواب الحمل تتسابق إلى الأمام ... ولما صعدوا جميعاً إلى قمة الجبل أخذ كل منهم يعانق زميله، لا فرق بين الجنود والضباط والقواد، والدموع تترقرق في أعينهم من فرط السرور" (4).
ذلك أن هذا البحر بحر يوناني وأن مدينة ترابيزي مدينة يونانية، فهاهم أولاء قد وصلوا سالمين، وفي وسعهم أن يستريحوا ولا يخشوا أن يفاجئهم الموت في سكون الليل. وترددت أصداء جهودهم المضنية في طول بلاد هلاس القديمة وعرضها، وشجعت فليب بعد مائتي عام من ذلك الوقت على الاعتقاد بأن قوة يونانية حسنة التدريب خليقة بأن يركن إليها في هزيمة جيش فارسي يفوقها في العدد أضعافاً مضاعفة. وهكذا مهد أكسانوفون على غير علم منه السبيل إلى الإسكندر.
ولعل أجسلوس الذي اعتلى عرش إسبارطة في عام 399 قد شعر بهذا الأثر. فلقد كان في الاستطاعة إقناع بلاد الفرس أن تغفر لإسبارطة إقدامها على معونة قورش، لكن هذا الملك، وهو أقدر ملوك إسبارطة على الإطلاق، لم يكن ينظر إلى حرب الفرس أكثر من نظرته إلى مغامرة ممتعة، ولذلك سار على رأس قوة صغيرة ليحرر جميع بلاد آسية اليونانية من حكمهم (1). ولما علم أرتخشتر الثاني أن أجسلوس لم يكن يلقى عناء في تشتيت شمل جميع الجيوش الفارسية التي أرسلت لصده، بعث الرسل يحملون كميات كبيرة من الذهب إلى أثينة وطيبة ليرشوا بها هاتين المدينتين كي تعلنا الحرب على إسبارطة (6). وسرعان ما أفلح هؤلاء الرسل في مهمتهم، وتجددت الحرب بين إسبارطة وأثينة بعد أن دام السلم بينهما تسعة أعوام. واستُدعي أجسلوس من آسية ليواجه جيوش أثينة وطيبة مجتمعة عند
_________
(1) وقال وقتئذ: "في أي شيء يعلو عليّ ملك الفرس، إلا إذا كان أكثر مني استقامة وأشد مني كبحاً لجماح نفسه (5)؟ ".(7/381)
كرونيا. واستطاع أن يهزمها بشق الأنفس؛ ولكن أسطولي أثينة وفارس مجتمعين بقيادة كونون Conon دمرا الأسطول الإسبارطي قرب نيدس بعد شهر واحد من ذلك الوقت وقضيا بذلك على ما كان لإسبارطة من سيادة بحرية قصيرة الأجل. وابتهجت أثينة بهذا النصر المؤزر وأخذت تعمل بجد مستعينة بما أمدتها به فارس من المال لإعادة بناء أسوارها الطويلة. ودافعت إسبارطة عن نفسها بأن أرسلت رسولاً يدعى أنتلسداس Antalcidas إلى الملك العظيم يعرض عليه أن تسلمه المدن اليونانية في آسية ليحكمها الفرس إذا فرضت فارس على مدن اليونان الأصلية صلحاً يحمي إسبارطة من العدوان. ووافق الملك العظيم على هذا الشرط، وامتنع عن مساعدة أثينة وطيبة بالمال، وأرغم المتنازعين جميعاً على أن يوقعوا في سرديس (387) "صلح أنتلسداس" أو "صلح الملك"، وأعطيت بمقتضى هذا الصلح لمنوس، وأميروس، وسيروس إلى أثينة، وضمن الاستقلال للدول اليونانية الكبرى؛ ولكنه أعلن أن جميع المدائن اليونانية في آسية، وجزيرة قبرص، قد أضحت ملكاً للملك العظيم. ووقعت أثينة على شروط الصلح بعد أن احتجت عليها لعلمها أن هذه كانت أكثر الحوادث إذلالاً لها في تاريخ اليونان كله. وهكذا ضاعت ثمار نصر مرثون كلها، وظلت أثينة ضائعة جيلاً كاملاً، وبقيت دول اليونان الأصلية حرة بالاسم، أما في واقع الأمر فقد ابتلعتها قوة الفرس. ونظرت بلاد اليونان بأجمعها إلى إسبارطة نظرتها إلى الخائن الغادر، وأخذت تنتظر على أحر من الجمر أن تقوم أمة من الأمم تهلكها وتدمرها.(7/382)
الفصل الثاني
إباميننداس
وكأنما أرادت إسبارطة أن تقوي هذا الحقد في صدور الدول اليونانية الأخرى، فادعت لنفسها حق تفسير شروط "صلح الملك" وإرغام هذه الدول على الخضوع لها. وأرادت أن تضعف قوة طيبة فأصرت على أن الحلف البؤوتي لا يتفق مع الشرط القاضي باستقلال الدول اليونانية الكبرى وحتمت حله. وتذرعت إسبارطة بهذه الحجة فأقامت في كثير من المدن البؤوتية حكومات ألجركية موالية لها، تؤيدها في كثير من الحالات حاميات إسبارطية، ولما احتجت طيبة على هذا العمل استولت قوة لسديمونية على كدميا Cadmeia معقلها الحصين، وأقامت فيها حكومة ألجركية خاضعة لسيطرة إسبارطة. وأثارت هذه الأزمة في نفس طيبة بطولة لا عهد لها بها، فاغتال بلبداس Plopidas وستة من رفاقه طغاة طيبة الأربعة صنائع إسبارطة، وأعادوا إلى المدينة حريتها واستقلالها. وأعيد تنظيم الحلف واختير بلبداس زعيماً له. واستدعى بلبداس لمعونته صديقه وحبيبه إباميننداس، فدرب الجيش الذي أعاد إسبارطة إلى عزلتها القديمة، وقاده بنفسه في المعارك التي انتهت بهذه النتيجة.
وكان إباميننداس من أسرة عريقة أخنى عليها الدهر، تفخر بأن ترجع بأصولها إلى أنياب الهولة التي زرعها كدمس قبل مولده بألف عام. وكان رجلاً هادئاً قيل عنه إنه ليس بين الناس من هو أقل منه كلاماً أو أكثر منه معرفة (7)؛ وقد حببه إلى أهل طيبة، على الرغم من النظام العسكري الذي أخذهم به، تواضعه واستقامته، وحياته التي لا تكاد تفترق في شيء عن حياة الزهاد، وإخلاصه لأصدقائه، وسداد رأيه إذا استنصح، وشجاعته(7/383)
المصحوبة بالتؤدة وضبط النفس وقت العمل. ولم يكن يحب الحرب ولكنه كان يعتقد أنه لا توجد أمة على ظهر الأرض تستطيع الاحتفاظ بحريتها إذا فقدت روحها وعاداتها الحربية. ولما اختير المرة بعد المرة رئيساً للحلف البؤوتي حذر الذين أرادوا أن يعطوه أصواتهم بقوله: "فكروا في الأمر مرة أخرى لأنني إذا وليتموني قيادتكم سأضطركم إلى الخدمة في جيشي" (8). ودرب الطيبيون المتراخون تحت قيادته حتى صاروا جنوداً بواسل، وحتى العشاق اليونان الذين كثر عددهم في المدينة ألّف منهم بلبداس "عصبة مقدسة" تبلغ عدتها ثلاثمائة من المحاربين قطع كل منهم على نفسه عهداً بأن يقف في المعركة إلى جانب صديقه حتى يموت.
ولما غزا بؤوتية جيش إسبارطي عدته عشرة آلاف جندي يقوده الملك كليمبروتس، التقى به إباميننداس عند لكترا بالقرب من بلاتية ومعه ستة آلاف رجل وانتصر عليه نصراً كان له أعظم الأثر في تاريخ اليونان كله وفي أساليب أوربا العسكرية. وكان هو أول يوناني وجه عنايته إلى دراسة الحركات العسكرية، وكان يقدر على الدوام أنه سيواجه في كل معركة عدواً يفوقه في عدد الرجال، فكان يركز نخبة مقاتليه ليهاجم به أحد جناحي العدو، ثم يأمر بقية الجيش أن تلتزم خطة الدفاع؛ فإذا تقدم العدو في القلب أمكن تشتيت شمله بهجوم على جناحه الأيسر. ولما تم له النصر في واقعة لكترا زحف هو وبلبداس إلى البلوبونيز وحررا مسينيا من تبعيتها لإسبارطة التي دامت قرناً من الزمن، وأسسا مدينة مغالوبوليس لتكون معقلاً لجميع الأركاديين. ونزل الجيش الطيبي إلى ليكونيا نفسها؛ وتلك حادثة لم يكن لها مثيل منذ مئات من السنين. ولم تستفق إسبارطة قط مما لحق بها من الخسارة في هذه الحرب: "فلم تستطع" على حد قول أرسطاطاليس "أن تفيق من هزيمة واحدة، وقضى عليها قلة عدد مواطنيها" (9).
ولما أقبل فصل الشتاء انسحب الطيبيون إلى بؤوتية. واغتر إباميننداس(7/384)
بالنصر كما كان يغتر به سائر قواد اليونان المنتصرين، فبدأ يفكر في إنشاء إمبراطورية طيبية تحل محل الوحدة التي أفاءتها زعامة أثينة أو إسبارطة من قبل على بلاد اليونان، وقد جرته هذه الخطة إلى محاربة الأثينيين، وأرادت إسبارطة أن تسترد مكانتها السابقة فتحالفت مع أثينة، والتقت جيوش الأعداء عند منتينيا عام 362 ق. م، وانتصر إباميننداس في هذه المعركة، ولكنه قتل في أثنائها بيد جرلس Gryllus بن أكسانوفون. ولم تجنِ هلاس خيراُ دائماً من زعامة طيبة القصيرة. نعم إنها حررت بلاد اليونان من طغيان إسبارطة، ولكنها عجزت، كما عجز مَن قبلها، على أن توجد نطاق بؤوتة وحدة متجانسة متماسكة؛ وكان من أثر النزاع الذي خلقته في بلاد اليونان أن أضحت الدول اليونانية من أثره مضطربة ضعيفة عاجزة عن لقاء فليب حينما انقض عليها من الشمال.(7/385)
الفصل الثالث
الإمبراطورية الأثينية الثانية
وحاولت أثينة للمرة الأخيرة أن تؤلف هذه الوحدة. واستطاعت بفضل أسوارها الطويلة، وأساطيلها التي جددت بناءها، وماليتها الثابتة الموثوق بها، وما تيسر لها من زمن بعيد من الوسائل المالية والتجارية، استطاعت بفضل هذا كله أن تستعيد ما كان لها من سيادة تجارية في بحر إيجة. وكانت الدول التي خضعت لها من قبل والدول المتحالفة معها قد علمتها الحروبُ التي دامت خمسين عاماً كاملة إنها في مسيس الحاجة إلى سلامة أعظم مما تهيئه لها السيادة الفردية، ولهذا اتحدت معظم هذه الدول مرة أخرى في عام 378 بزعامة أثينة، ولم يحل عام 370 حتى كانت هذه المدينة مرة أخرى أقوى الدول سلطاناً في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وكانت الصناعة والتجارة هما وقتئذ عماد حياتها الاقتصادية. ذلك أن أرض أتكا لم تكن في يوم من الأيام مما يوائم الزراعة الجماعية. نعم إن العمل الشاق الطويل قد جعلها أرضاً مثمرة بفضل عناية الأهلين بأشجار التوت وبالكروم؛ ولكن الإسبارطيين كانوا قد دمروا هذه الغروس، وقلما كان من المزارعين من يستطيع الصبر نصف جيل حتى تثمر بساتين الزيتون الجديدة ثمارها. وكان معظم الزراع الذين عاشوا قبل الحروب قد قضوا نحبهم، وكان معظم من بقي من الزُراع قد دب اليأس في نفوسهم فمنعهم أن يعودوا إلى أملاكهم المخربة فباعوها بأبخس الأثمان لملاك يستغلونها وهم بعيدون عنها، وفي وسعهم أن يستثمروا أموالهم فيها استثماراً طويل الأجل. وبهذه الطريقة، وبانتزاع ملكية الأراضي الزراعية المثقلة بالدين، انتقلت هذه الأراضي في أتكا إلى أيدي عدد قليل من الأسر كانت(7/386)
تستغل كثيراً من المزارع الواسعة بجهود الأرقاء (10). وأعيد فتح مناجم لوريوم، وأرسل إلى الحفر ضحايا جدد، وتكونت ثروات جديدة من الفضة الغفل ومن الدماء البشرية؛ وعرض أكسانوفون (11) طريق ظريفة تستطيع بها أثينة أن تملأ خزائنها بالمال، ولا تكلفها أكثر من أن تشتري مائة ألف من الأرقاء تؤجرهم إلى المقاولين في لاريوم. وأثمرت هذه الطريقة ثمرتها المرجوة فاستخرجت من الفضة مقادير تفوق ما كان ينتج من السلع، فارتفعت الأثمان، أسرع من ارتفاع الأجور، ووقع عبء هذا الانقلاب على كاهل الفقراء.
وازدهرت الصناعة وتلقت محاجر بنتلكس ومصانع الفحار في السرمكس طلبات من عالم بحر إيجة كله. وجمع بعضهم ثروات طائلة لشراء منتجات الصناع اليدويين أو المصانع الصغيرة بأثمان بخسة وبيعها بعدئذ بأغلى الأثمان في الأسواق المحلية أو الخارجية. وسرعان ما تضاعف عدد المصارف المالية في أثينة تبعاً لنمو التجارة وتجمع الثروة النقدية بدل الثروة العقارية. وتلقت هذه المصارف كثيراً من النقود أو الذخائر القيمة لحفظها لديها، ولكن يلوح أنها لم تكن تؤدي فوائد من هذه الودائع. وسرعان ما وجد أصحاب المصارف أن هذه الودائع لا تسترد كلها في وقت واحد في الظروف العادية، فشرعوا يقرضون المال بفوائد عالية، واقتصروا في بادئ الأمر على إقراض المال دون الاشتغال بوسائل الائتمان الأخرى، فكانت تضمن عملاءها، وتحصل لهم مطلوباتهم، وتقرض النقود بضمان العقاري أو النفائس، وتمد السفن التي تنقل البضائع بحاجتها من المال. وكان في وسع التاجر، بفضل هذه المصارف وأكثر من هذا بفضل القروض التي يقدمها الأفراد مجازفة منهم ومضاربة لجني الأرباح الطائلة، أن يستأجر سفينة ينقل عليها بضاعته إلى إحدى الأسواق الأجنبية، ويشتري منها بدل هذه البضاعة شحنة أخرى، إذا وصلت إلى بيرية بقيت فيها ملكاً لأصحاب الديون حتى يستردوا ديونهم (12). ولما تصرم بعض القرن الرابع نشأ نظام من نظم الائتمان الحقيقي: فشرع(7/387)
أصحاب المصارف يصدرون خطابات الاعتماد، والأذون المالية، والتحاويل المصرفية بدل أن يقدموا النقود؛ وبهذه الطريق أصبحت الثروة تنتقل من عميل إلى عميل بتدوينها في سجلات المصارف لا غير (13). وكان رجال الأعمال أو أصحاب المصارف يصدرون السندات للحصول على القروض التجارية، حتى صارت هذه السندات جزءاً كبيراً من كل شركة. وكان لبعضهم - كالمعتوق باسيون مثلاً - صلات مالية متشعبة، واشتهروا بين الناس بأمانتهم ونزاهتهم فوثقوا بهم، وكانت سنداتهم موضع الثقة في جميع بلاد اليونان. وكان لمصرف باسيون Pasion أقسام متعددة يعمل فيها عدد كبير من الموظفين معظمهم من الأرقاء، ويحتفظ بطائفة كبيرة من السجلات المختلفة الأنواع تدون فيها كل عملية مالية بعناية فائقة جعلت في المحاكم أدلة لا يقبل الطعن فيها. ولم يكن إفلاس المصارف أمراً غير مألوف، ويحدثنا المؤرخون عما كان يحدث من "ذعر" مالي يغلق فيه مصرف بعد مصرف أبوابه (14). وكانت توجه أحياناً إلى المصارف، ومنها أعظمها نفوذاً، تهم خطيرة لسوء استعمال ما آل إليها من سلطان، وكان الناس ينظرون إلى رجال المصارف نظرة يجتمع فيها من الحسد والإعجاب، والكراهية مثل ما يجتمع في نظرة الفقراء إلى الأغنياء في جميع العصور (15).
وأنتج تبدل الثروة من عقارية إلى منقولة كفاحاً شديداً للحصول على المال، وكان لا بد للغة اليونانية من أن تخترع لفظاً تعبر به عن هذه الشهوة الجامحة للحصول على "أكثر فأكثر" من المال، فأطلقت عليه لفظ "بليونكسيا Pleonexia" ولفظاً آخراً يعبر عن الانهماك في طلب الثراء "كرماتستيكي Chrematistike". وأخذت السلع والخدمات من ذلك الوقت تقدر قيمتها بالمال، بل إن الناس أنفسهم أصبحوا يقدرون به وبما يمتلكون منه، وأصبحت الثروات تتكون ثم تزول بسرعة لا عهد للناس بها، وتنفق في مظاهر من البذخ لو شهدتها أثينة في عصر بركليز لارتاعت واهتزت منها مشاعرها. فأخذ "الأثرياء المحدثون" (وكان لهم(7/388)
عند اليونان اسم خاص هو نيوبلوتوي Neoplutoi) يشيدون البيوت الكثيرة الزخرف، ويزينون نساءهم بالملابس والجواهر الغالية ويفسدونهن بكثرة الخدم، وأصبح تقديم أغلى أصناف المأكل والمشرب للضيوف دون غيرها من المأكولات والمشروبات هو القاعدة المقررة المألوفة (16).
وانتشر الفقر وسط هذه الثروة الطائلة، ذلك بأن حرية التبادل وأنواعه المختلفة اللتين أمكنتا مهرة الناس من جمع المال جعلتا السذج منهم يفقدونه أسرع مما كانوا يفقدونه من قبل، فكان الفقراء في نظام الاقتصاد التجاري الجديد أفقر نسبياً مما كان في أيام استرقاقهم في أملاك إقطاعيين؛ فكان الفلاحون في الريف يكدحون ليحصلوا بكدحهم وعرقهم على قليل من الزيت أو الخمر؛ وفي الحواضر ظلت أجور العمال الأحرار منخفضة المستوى بسبب منافسة الأرقاء؛ وكان مئات من المواطنين يعتمدون في معيشتهم على الأجور التي ينالونها نظير حضور جلسات الجمعية أو المحاكم؛ ولم يكن آلاف من الناس يجدون طعاماً إلا ما تقدمه لهم المعابد أو الدولة، ولا يملكون شيئاً. وفي عام 431 بلغ عدد من لا يملكون شيئاً قط من الناخبين (دع عنك عدد السكان بوجه عام) خمسة وأربعين في المائة من مجموعهم الكلي، فلما حلت سنة 335 ارتفعت هذه النسبة إلى سبعة وخمسين في المائة (17). وفقدت الطبقات الوسطى، التي كانت لكثرة عددها وسلطانها تحفظ التوازن بين الأشراف والعامة، جزءاً كبيراً من ثروتها، ولم يعد في وسعها أن تتوسط بين الأغنياء والفقراء، بين المتحفظين الشديدي العناد والخياليين المتطرفين، وبذلك انقسم المجتمع الأثيني إلى "مدينتي" أفلاطون-"إحداهما مدينة الفقراء والأخرى مدينة الأغنياء، وكلتاهما في حرب مع الأخرى" (18). وأخذ الفقراء يضعون الخطط لسلب مال الأغنياء بالتشريع أو بالثورة، كما أخذ الأغنياء ينظمون أنفسهم جماعات لاتقاء شر الفقراء. ويقول أرسطاطاليس إن المنتمين إلى بعض النوادي الألجركية كان كل منهم يقسم بأن "أكون عدو الشعب"(7/389)
(أي العامة) "وأن أوذيهم في المجلس بكل ما أستطيع من الأذى" (19) وقد كتب إسقراط حوالي عام 366 يقول: "لقد أصبح الأغنياء ينفرون من سائر الطبقات الأخرى نفوراً يفضلون معه أن يلقوا بثروتهم في البحر عن أن يعينوا بشيء منها المحتاجين، على حين أن الرقيقي الحال يسرهم أن ينتهبوا أموال الأغنياء أكثر مما يسرهم العثور على كنز ثمين" (20).
وانحاز عدد متزايد من أفراد الطبقات المتعلمة إلى جانب الفقراء (21). ذلك بأنهم كانوا يحتقرون التجار ورجال المصارف لما بدا لهم من أن ثروتهم تتناسب تناسباً عكسياً مع ثقافتهم وأذواقهم. وحتى الأغنياء من هؤلاء العلماء أخذت تدور بخلدهم أفكار شيوعية. وكان بركليز قد اتخذ من الاستعمار صمام أمان ليقلل به حدة النزاع بين الطبقات (22)؛ ولكن ديونيشيوس كان يسيطر على الغرب، ومقدونية كانت تمد أملاكها في الشمال، فأخذت الصعاب تزداد في سبيل فتح أثينة بلاداً جديدة والاستقرار فيها. واستحوذ الفقراء في آخر الأمر على جميع السلطة في الجمعية وشرعوا يقررون مصادرة أموال الأغنياء ويحولونها إلى خزائن الدولة، لتوزعها من جديد على المحتاجين والناخبين عن طريق المشروعات الحكومية والأجور (23). وأخذ رجال السياسة يبذلون كل ما في وسعهم من جهد ويستخدمون كل ما وهبوا من ذكاء ليكشفوا عن موارد جديدة لزيادة إيراد الدولة، فضاعفوا الضرائب غير المقررة، والضرائب الجمركية على الواردات والصادرات، وضريبة الواحد في المائة على نقل الملكية العقارية، وظلوا في وقت السلم يجبون الضرائب غير الاعتيادية التي قررت زمن الحرب، وأخذوا يطالبون بالتبرعات "الاختيارية"، وفرضوا على الأغنياء "فروضاً" أو "خدمات" جديدة متزايدة لتمويل المشروعات العامة من أموالهم الخاصة. وكانوا يلجأون بين الفينة والفينة إلى مصادرة الأموال ونزع الملكيات، ووسعوا نطاق ضريبة الإيراد حتى شملت مستويات من الثروة أدنى مما كانت تشملها من قبل (24).(7/390)
وكان في وسع كل من يلقى عليه عبء إحدى الخدمات العامة أن يستعين بالقانون لكي يرغم غيره على أدائها، إذا استطاع أن يثبت أن لهذا الممول الثاني أكثر منه ثروة، وأنه لم تفرض عليه خدمة ما في خلال سنتين. وعملوا على تسهيل جمع الإيرادات بتقسيم دافعي الضرائب إلى مائة جماعة من الشركاء. فكان يطلب إلى أغنى الأعضاء في كل جماعة أن يؤدوا في بداية كل سنة ضرائبية جميع الضريبة المفروضة على هذه الجماعة طوال السنة، ثم يترك لهم بعدئذ أن يجبوا في خلال السنة ما يخص غيرهم من الأعضاء بما يرونه من الوسائل.
وكانت نتيجة هذه الفروض أن أخذت هذه الجماعات والأفراد تخفي ثروتها وإيرادها إخفاءً تاماً، وانتشر التهرب من الضرائب بين الناس جميعاً، وتفننوا في أساليبه تفنن الدولة في فرضها وجبايتها. وفي عام 355 عين أندروتيون Androtion على رأس فرقة من رجال الشرطة مهمتها البحث عن الإيرادات المخبوءة، وجباية الضرائب المتأخرة، وحبس الذين يفرون من الضرائب، فكانت تكبس البيوت وتصادر الأمتعة، ويلقى الرجال في السجن. ولكن الثروة مع ذلك ظلت تختفي أو تذوب. وقال إسقراط الشيخ الغني الغاضب في عام 353 يشكو مما فرض عليه من خدمات: "لما كنت في صباي، كانت الثروة تعد من الأشياء المأمونة التي يعجب بها الناس، حتى كان الواحد منا يتظاهر بأن لديه أكثر مما يملك فعلاً ... أما الآن فقد أصبح من واجب كل إنسان أن يدفع عن نفسه تهمة الغنى، كأن هذا أشنع الجرائم" (25). ولم تكن الطريقة التي اتبعت في غير أثينة لمنع تركيز الثروة تستند إلى القانون كما كانت تستند إليه فيها. من ذلك أن المدنيين في متليني قتلوا دائنيهم جملة بحجة أنهم جياع، وأن الدمقراطيين في أرغوس (370) انقضوا فجاءة على الأغنياء وقتلوا منهم ألفاً ومائتين، وصادروا أملاكهم، وعقدت الأسر الغنية في غير هذه من الدول التي كان العداء قائماً بينها لغير هذا السبب حلفاً سرياً تعهدت فيه أن يساعد بعضها بعضاً إذا قامت(7/391)
في إحداها ثورات شعبية. وأخذت الطبقات الوسطى تحذو حذو الطبقات العليا في عدم الثقة بالدمقراطية وترى أنها حسد أتيح له السلطان، كما أخذ الفقراء يفقدون ثقتهم فيها ويرونها مساواة زائفة بين الناخبين تنقصها الفروق الهائلة بين الثروات. وقد تركت هذه الأحقاد المريرة بين الطبقات بلاد اليونان منقسمة على نفسها داخلياً ودولياً حين انقض عليها فليب، حتى لقد رحب بقدومه كثيرون من الأغنياء في المدن اليونانية، ورأوا أنه لولاه لما كان هناك مفر من اندلاع لهيب الثورة في أرجائها (26).
وسار الانهيار الخلقي مع ازدياد الترف واستنارة العقل جنباً إلى جنب، واعتزت العامة بخرافاتها واستمسكت بأساطيرها، فقد كانت آلهة الأولمبس تلفظ أنفاسها الأخيرة ولكن آلهة أخرى كانت تولد، فكانت أرباب غريبة مثل إيزيس وأمون، وأتيس، وبندس، وسبيل، وأدنيس تستورد من مصر وآسية؛ وجمع انتشار الأرفية عباداً جدد للديونشس في كل يوم. ولم يكن للدين التقليدي القديم فائدة تذكر لطبقة الملاك الوسطى النصف الأجنبية الآخذ شأنها في الارتفاع، فلم تكن آلهة المدينة التي ترعاها تنال من هذه الطبقة إلا الاحترام الصوري الرسمي، ولم تعد توحي إلى أفرادها بالمبادئ الخلقية أو الإخلاص للدولة والولاء لها (1). وكافحت الفلسفة لكي تجد في الولاء السياسي ومبادئ الأخلاق الطبيعية بديلاً من الأوامر الإلهية، أو أن تتخذ منها رباً يرقب الناس من علٍ، ولكن قل من المواطنين من كان يهمه أن يعيش عيشة البساطة السقراطية أو عيشة رجل سقراط السامي "ذي العقل العظيم".
ولما فقد دين الدولة سلطانه على الطبقات المتعلمة زاد بالتدريج تحرر الأفراد
_________
(1) يقول أفلاطون (في القوانين صفحة 948): "والآن وفي الناس طائفة لا تؤمن قط بوجود الآلهة ... أصبح الواجب وضع شرائع تستند إلى العقل وتضع حداً للأيمان التي تقسمها كلتا الطائفتين".(7/392)
من القيود الأخلاقية القديمة - فتحرر الابن من سلطان أبويه، وتحرر الذكور من الزواج، وتحررت المرأة من الأمومة، وتحرر المواطن من التبعة السياسية. وما من شك في أن أرسطوفان قد بالغ في وصفه لهذه التطورات، وإذا كان أفلاطون، وأكسانوفون، وإسقراط كلهم يتفقون معه في رأيه، فإنهم كانوا جميعاً من المحافظين الذين ترتعد فرائصهم من مثال الجيل الناشئ الجديد. وتحسنت أخلاق الناس في الحرب خلال القرن الرابع، وجاءت موجة من الإنسانية المستنيرة في أعقاب تعاليم يوربديز وسقراط والمثل الذي ضربه للناس أجسلوس (27). ولكن الآداب والجنسية السياسية ظلت سائرة في طريق الانهيار، وزاد عدد العزاب والسراري وأصبحت الصلات بين هؤلاء وأولئك هي الطراز الحديث الذي يهواه الناس، كما أن الاتصال الحر بين الرجال والنساء أصبحت له الغلبة على الزواج الشرعي (28). انظر مثلاً إلى هذا السؤال الذي يسأله أحد الأشخاص في مسلاة ألفت في القرن الرابع: "أليست الحظية مرغوباً فيها أكثر من الزوجة؟ ولم لا؟ إن إحداهما في جانبها القانون الذي يرغمنا على الاحتفاظ بها، مهما نكن كارهين لها، أما الأخرى فهي تعلم أن من واجبها أن تتسلط على الرجل بحسن سلوكها، وإلا فإن عليها أن تبحث لها عن رجل غيره" (29). وعلى هذا النحو عاشر بركستليز ومن بعده هيبريديز Hypereides فريني Phryne، وعاشر أرستبوس لئيس Lais، وعاشر أستلبو Stilpo نكريتي Nikarete، وعاشر ليسياس متنيرا Metaneira، وعاشر إسقراط الصارم لجسكيوم Lagiscium (30) . وفي ذلك يقول ثيوبمبس مبالغاً في قوله كعادة رجل الأخلاق: "لقد كان الشبان يقضون كل أوقاتهم بين السراري والقيان، أما الذين هم أكبر من هؤلاء قليلاً فكانوا منهمكين في الميسر والفسق، وكان الناس كلهم ينفقون على المآدب العامة والملاهي أكثر مما ينفقونه على الأعمال اللازمة لحفظ كيان الدولة ورعاية مصالحها" (31).(7/393)
وأصبح تحديد عدد أفراد الأسرة تحديداً اختيارياً هو الطراز العصري في ذلك الوقت؛ وكانوا يصلون إلى هذا الغرض بمنع الحمل، أو الإجهاض، أو قتل الأطفال. ويقول أرسطاطاليس إن بعض النساء كن يمنعن الحمل بطلاء جزء الرحم الذي يسقط عليه مني الرجل بزيت شجر الأرز، أو بمرهم الرصاص. أو الكندر الممزوج بزيت الزيتون (1). وكانت الأسر القديمة سائرة في طريق الانقراض فلم تكن توجد، على حد قول إسقراط، إلا في قبورها؛ وأخذت الطبقات الدنيا يتضاعف عدد أفرادها، أما طبقة المواطنين في أتكا فقد نقص عددها من 000ر43 في عام 431 إلى 000ر22 في عام 400 وإلى 000ر21 في عام 313 (33). ويقابل هذا نقص في عدد المواطنين الذين كانوا يجندون للخدمة العسكرية؛ ويرجع بعض هذا النقص إلى مذابح الحرب، وبعضه إلى قلة من لهم في الدولة أملاك يتحتم عليهم الدفاع عنها، وبعضه إلى رغبة الناس عن الخدمة العسكرية. ذلك أن حياة الدعة والانصراف إلى العناية بالشئون المنزلية، والانهماك في الأعمال التجارية والصناعية، وطلب العلم، كل ذلك قد حل محل حياة الرياضة البدنية، والتربية العسكرية، والعناية بالشئون العامة، وهي الحياة التي كان يألفها الناس في عهد بركليز (34). فأما الرياضة فقد أصبحت حرفة، وصار المواطنون الذين كانوا في القرن السادس يملأون مدارس التدريب الرياضية يقنعون الآن بأن يجهد غيرهم أنفسهم بالنيابة عنهم، وحسبهم هم أن يشاهدوا استعراض المحترفين. وكان بعض الشبان يتلقون بعض الدروس في فن الحرب، ولكن الكبار كانوا يجدون عشرات من الطرق للهرب من الخدمة العسكرية. وأضحت الحرب نفسها مهنة بسبب ما دخل عليها من التعقيدات الفنية، تحتاج إلى رجال مدربين
_________
(1) إذا شاء القارئ أن يعرف استعمال زيت الزيتون لهدا الغرض ذاته في الوقت الحاضر فليطلع على كتاب التاريخ الطبي لمنع الحمل Medical History of Contraception تأليف هيمز Himes ص80.(7/394)
لها تدريباً خاصاً يستغرق وقتهم كله؛ وكان لا بد من استبدال الجنود المرتزقة بالمحاربين المواطنين، وكان هذا نذيراً بأن زعامة بلاد اليونان لن تلبث أن تنتقل من رجال السياسة إلى رجال الحرب. وبينما كان أفلاطون يتحدث عن الملوك الفلاسفة، كان الملوك العسكريون ينشئون تحت سمعه وبصره. وكان مرتزقة اليونان يبيعون أنفسهم إلى القواد سواء كانوا من اليونان أو "البرابرة" بلا تفريق بين هؤلاء وأولئك؛ ولقد حاربوا في الجيوش التي غزت بلاد اليونان بقدر ما حاربوا دفاعاً عنها، وشاهد ذلك أن الجيوش الفارسية التي واجهها الإسكندر كانت ملأى باليونان؛ فلم يكن الجنود وقتئذ يسفكون دماءهم دفاعاً عن بلادهم، بل كانوا يسفكونها في سبيل من يؤدي لهم أكبر الأجور.
وظل الفساد السياسي والاضطراب اللذان أعقبا موت بركليز سائرين في طريقهما خلال القرن الرابع، إذا استثنينا من ذلك حكم يكلديز الطاهر النزيه (403)، وإدارة ليقورغ المالية (338 - 326). فالرشوة مثلاً كان يعاقب عليها، حسب نص القانون، بالإعدام؛ لكن إسقراط يقول إن المرتشي كان يجزى على ارتشائه بالترقي في المناصب العسكرية والسياسية. ولم يجد الفرس أية صعوبة في إرشاء ساسة اليونان وحملهم على أن يشنوا الحرب على الدول اليونانية أو على مقدونية؛ وحتى دمستين نفسه أصبح في آخر الأمر مرآة تنعكس عليها أخلاق أهل زمانه. لقد كان من أنبل الأفراد في جماعة من أحط الجماعات في أثينة - أعني جماعة الخطباء المأجورين الذين صاروا في ذلك القرن محامين وساسة محترفين. ومن هؤلاء الناس من كانوا مثل ليقورغ شرفاء معقولين، ومنهم من كانوا مثل هيبريديز ذوي شهامة ومروءة، ومنهم من لم يكونوا خيراً مما وجب عليهم أن يكونوه؛ وإذا جاز لنا أن نصدق ما يقوله عنهم أرسطاطاليس فقد كان منهم من تخصص في إبطال نصوص الوصايا (36). وجمع الكثيرون منهم ثروات طائلة بانتهاز الفرص السياسية وبالتهريج والخطابة في الجماهير.(7/395)
وانقسم الخطباء المأجورون أحزاباً، ومزقوا الهواء بحملاتهم. ونظم كل حزب لنفسه لجاناً، ووضع له كلمات سر، وعين له وكلاء، وجمع له مالاً. وكان الذين يؤدون نفقات هذه الأعمال كلها يعترفون صراحة بأنهم "سيستردونها ضعفين" (37).
وكانت الروح الوطنية تضعف كلما زادت السياسة قوة، واستنفذت مرارة الانقسام كل الجهود العامة والوفاء للوطن، فلم تترك للمدينة من هذه الجهود وذلك الإخلاص إلا القليل الذي لا يغني، وكان دستور كليستنيز، والنزعة الفردية التي أثارتها التجارة والفلسفة، قد زعزعا كيان الأسرة، وحررا الفرد؛ وكأنما أراد الفرد الحر وقتئذ أن يثأر للأسرة مما أصابها من انحلال فهوى بمعوله على الدولة يقوض أركانها.
وأراد الدمقراطيون المنتصرون في عام 400 ق. م أو حواليه أن يضمنوا حضور المواطنين الفقراء في الإكليزيا، وأن يمنعوا بذلك ذوي الأملاك أن تكون لهم السيطرة عليها، فجعلوا حضور الجمعية هو الآخر عملاً من الأعمال التي يؤجر الناس عليها. وكان كل مواطن في بادئ الأمر يؤجر على حضور الجلسة أبلة (17 slash100 من الريال الأمريكي)، ولما زادت نفقات المعيشة زيد هذا الأجر إلى أبلتين، ثم إلى ثلاث أبلات، وظل يزداد حتى كان في زمن أرسطاطاليس درخمة (أي ريالاً أمريكياً) عن اليوم الواحد (38). ولقد كان هذا في حد ذاته تدبيراً معقولاً لا غبار عليه، لأن المواطن العادي كان يكسب في أواخر القرن الرابع درخمة في كل يوم؛ ولم يكن ينتظر منه أن يترك عمله دون أن يعوض عن تركه. وما لبثت هذه الخطة أن جعلت للفقراء الأغلبية في الجمعية، ويئس الأغنياء من الانتصار فيها، فزاد إعراضهم عنها تدريجاً، وامتنعوا عن حضور جلساتها. وعدل الدستور في عام 403 وقصر حق التشريع على هيئة مكونة من خمسة مشترعين Nomothetai يُختارون من بين المواطنين الذين انتخبوا بالقرعة ليكونوا(7/396)
قضاة، ولكن هذا التعديل لم تكن له أقل فائدة في الحد من طغيان الطبقات الدنيا. ذلك أن هذه الهيئة الجديدة هي الأخرى إلى جانب العامة، وكان تدخلها سبباً في إضعاف هيئة المجلس الذي هو أكثر محافظة من الجمعية والانتقاص من سلطانه. ويبدو أن مستوى الذكاء في الجمعية قد نقص في القرن الرابع، ولعل منشأ هذا النقص هو أداء الأجور على حضور جلسات الجمعية. نقول هذا ببعض التحفظ لأن الذين نعتمد عليهم في هذا القول هم الرجعيون المتحيزون أمثال أرسطوفان وأفلاطون (39). ويقول إسقراط إن أعداء أثينة هم الذين يجب عليهم أن يؤدوا الأجور لحضور جلسات الجمعية حتى يكثر اجتماعها، وذلك لكثرة ما ترتكبه من الأغلاط (40) في أعمالها.
وخسرت أثينة بسبب هذه الأغلاط إمبراطوريتها وحريتها جميعاً. ذلك أن الحرص الشديد على المال والسلطان الذي قوض أركان الحلف الأول قد دك وقتئذ قواعد الحلف الثاني أيضاً، فقد شعرت أثينة بعد سقوط إسبارطة في لكترا أن في وسعها الآن أن توسع أملاكها، وكانت وهي تنظم إمبراطوريتها الجديدة قد قطعت على نفسها عهداً ألا تسمح للرعايا الأثينيين بامتلاك أرضين خارج حدود أتكا (41). ولكنها بعد أن فتحت ساموس، والكرسنيز التراقية، ومدائن بدنا، وبوتيدبا، وميتوني على سواحل مقدونية وتراقية استعمرتها على أيدي المواطنين الأثينيين. واحتجت على ذلك الدول المتحالفة معها وانسحب الكثير منها من الحلف. واستخدمت أثينة وسائل القسر والعقاب التي استخدمتها من قبل في القرن الخامس، ولكنها لم تجنِ من ورائها فائدة في هذه المرة كما لم تجن منها فائدة في المرة السابقة. وكانت النتيجة أن أعلنت طشيوز، وكوس، ورودس، وبيزنطية في عام 357 "حرب" عصيان "اجتماعية". ولما أن رفض تموثيوس Timotheus وأفكراتيز، وهما قائدان من أعظم القواد الأثينيين كفاية، أن يهاجما الأسطول الثائر في الهلسبنت أثناء عاصفة هوجاء، اتهمتهم الجمعية(7/397)
بالجبن، وفرضت على تموثيوس غرامة باهظة لا قبل لأحد بأدائها قدرها مائة وزنة (000ر600 ريال أمريكي)، فلم يجد أمامه سبيلاً إلا الفرار من البلاد، وبرئ إفكرتيز ولكنه لم يقم لأثينة بخدمة ما فيما بقي من حياته. وأحبط الثوار كل ما بذلته من محاولات لإخضاعهم، فاضطرت في عام 355 إلى أن توقع صلحاً تعترف فيه باستقلال بلادهم، وأضحت المدينة العظيمة بلا أحلاف، ولا زعماء، ولا مال، ولا أصدقاء.
ولعل عوامل أخرى أدق وأخفى من العوامل السابقة كان لها أثر في إضعاف أثينة. ذلك أن حياة الفكر تعرض للخطر كل حضارة تزدان بهذه الحياة. ففي المراحل الأولى من تاريخ الأمة قل أن يكون للتفكير وجود، بل الذي يسود وينتشر هو العمل، ويكون الناس في هذه المراحل صريحين، محررين من عوامل الكبت جريئين في مشاكساتهم وصلاتهم الجنسية. وكلما ارتقى مدارج الحضارة وفرضت عليهم العادات، والأنظمة، والشرائع، وقواعد الآداب والأخلاق، قيوداً تزداد على مر الأيام كبتاً للغرائز، حل التفكير محل العمل، والخيال محل الإقدام، والاحتيال محل الصراحة، والخفاء محل التعبير الصادق، والعطف محل القسوة، والشك محل اليقين؛ وزالت الوحدة الأخلاقية التي يشترك فيها الإنسان البدائي مع الحيوان؛ وأصبح السلوك مجزءاً طابعه التردد، والإدراك، وتقدير العواقب؛ وضعفت الرغبة في القتال، واستحالت ميلاً إلى الجدل الذي لا يقف عند حد. وما أقل الأمم التي استطاعت أن تصل إلى الرقي العقلي والإحساس القوي بالجمال من غير أن تضحي في سبيل ذلك بالقدر الكثير من رجولة أبنائها ووحدتهم، فلم تستطيع صد الأقوام الهمج المعدمين الطامعين في ثروتها. فحول كل رومة يحوم الغاليون، وحول كل أثينة يحوم المقدونيون.(7/398)
الفصل الرابع
نهضة سراقوصة
كانت سراقوصة طوال القرن الرابع من أكبر المدن اليونانية ثروة وأعظمها قوة، رغم ما كان ينتابها من الاضطرابات السياسية الكثيرة. وكان ملكها ديونيشيوس الأول مجرداً من الضمير، خائناً غداراً، مختالاً مغروراً، ولكنه كان أقدر رجال زمانه في الشئون الإدارية. حوَّلَ هذا الرجل جزيرة أرتيجيا Ortygia إلى قلعة حصينة اتخذها مسكناً له، وسور الطريق الذي يوصلها بأرض القارة، فأصبح مركزه فيها أمنع من عقاب الجو؛ ثم ضاعف أجور الجنود، وقادهم بنفسه إلى انتصارات هينة، فحبب نفسه إليهم وكسب ولاءهم، فاستطاع البقاء على العرش ثمانية وثلاثين عاماً. ولما أن ثبت قواعد حكمه استبدل بسياسة القسوة التي نهجها في بداية أمره سياسة رحيمة استرضى بها الأهلين، وبسط على البلاد حكماً استبدادياً طابعه العدالة والمساواة (1). وأقطع ضباطه وأصدقاءه أجزاء من أحسن الأراضي وأعظمها خصباً، وخص جنوده بجميع المساكن في أرتيجيا والطريق الموصل إليها إلا القليل النادر منها؛ ووزع كل ما بقي من أرض سراقوصة وما حولها على سكان المدينة الأحرار منهم الأرقاء من غير تمييز بينهم. وبهديه وإرشاده ازدهرت سراقوصة، وإن كان قد فرض عليها من الضرائب ما لا يكاد
_________
(1) ولما حكم على فنتياس Phintias ( المسمى خطأ بيتياس Pythias) الفيثاغوري بالإعدام لاشتراكه في إحدى المؤامرات، استأذن فنتياس في أن يذهب إلى منزله يقضي فيه يوماً ينظم فيه شئونه. وعرض صديقه دامون Damon ( وهو غير دامون معلم الموسيقى لبركليز وسقراط) أن يكون رهينة له حتى يعود، وعرض أن يعدم إذا لم يعد فنتياس. ولكن فنتياس عاد ودهش ديونيشبوس كما دهش تايلون فيما بعد من أن يبلغ الإخلاص بين الأصدقاء هذا المبلغ، فعفى عن فنتياس، ورجاه أن يكون هو زميلاً لهما في هذه الصداقة المتينة.(7/399)
يقل عما فرضته الجمعية على الأثينيين. ولما أن أسرفت نساء المدينة في زينتهن أعلن أن دمتر قد جاءته في الحلم وأمرته أن يجمع حلي النساء كلها ويودعها في معبدها. وصدع الملك بأمر الإلهة، وصدعت به كذلك معظم النساء؛ ثم ما لبث أن "اقترض" الحلي من دمتر ليمول بها حروبه (43).
ذلك أن خططه كلها كانت تهدف إلى إخراج القرطاجيين من صقلية. وقد آلمه وحز في نفسه أن يستطيع هنيبال استخدام آلات التدمير القوية في حصار سيلينس، فجمع في خدمته خيرة الصناع والمهندسين من بلاد اليونان القريبة؛ وطلب إليهم أن يعملوا على تحسين عدد الحرب. وكان من بين ما اخترعه هؤلاء الرجال من آلات الهجوم والدفاع الجديدة المنجنيق الذي يقذف الحجارة الثقيلة وغيرها من القذائف، وانتقل هذا الاختراع من المخترعات العسكرية من صقلية إلى بلاد اليونان واستخدمه فليب المقدوني. وأرسل يدعو لخدمته جنوداً مرتزقة، وأخذت دور الصنعة في سراقوصة تخرج مقادير لا عهد للناس بها من الأسلحة والدروع تتفق مع عادات كل طائفة من طوائف الجند المختلفة ومع حذقها في القتال. وكان المشاة قبل هذا الوقت هم الذين يقاتلون في المعارك البرية لكن ديونيشيوس نظم فيالق كبيرة من الفرسان، وأفاد من هذا أيضاً فليب والإسكندر. وأخذ في الوقت نفسه يصب المال صباً لبناء مائتي سفينة معظمها من ذات الأربعة الصفوف أو الخمسة، فأنشأ بذلك أسطولاً ضخماً لم ترَ له بلاد اليونان قبل ذلك مثيلاً في سرعته أو قوته.
ولم يحل عام 397 حتى كان كل شيء على أهبة الاستعداد، وأرسل ديونيشيوس بعثة إلى قرطاجة يطلب إليها أن تحرر جميع المدن اليونانية في صقلية من سيطرة القرطاجيين، وتوقع ألا يُجاب إلى طلبه فدعا هذه المدن إلى خلع نير الحكم الأجنبي، فاستجابت إلى دعوته، وكانت لا تزال حاقدة على القرطاجيين ولم تنسَ ما ارتكبه فيها هنيبال من المذابح، فأعدمت جميع من وقع في(7/400)
أيديها منهم بعد أن أذاقتهم من ألوان العذاب ما لم يعذبه اليونان أحداً غيرهم من قبل، ولم يدخر ديونيشيوس جهداً في الحيلولة بينهم وبين هذا التعذيب لأنه كان يريد أن يبيع أسرى القرطاجيين في أسواق الرقيق. ونقلت قرطاجة جيشاً كبيراً بقيادة هملكون Himilcon بطريق البحر، ودارت الحرب بين الأمتين في فترات متقطعة خلال أعوام 397، 392، 383، 368. وانتهت هذه الحرب بأن استردت قرطاجة كل ما استولى عليه ديونيشيوس من أملاكها، وعادت الأمور بعد الدم المهراق كله إلى ما كانت عليه من قبل.
وكان ديونيشيوس في هذه الأثناء قد وجه قوته الحربية لإخضاع المدن اليونانية في الجزيرة، وربما كان مدفوعاً إلى هذا بحب السلطان أو بما كان يحس به من أنه لا سبيل من القضاء على سلطان قرطاجة في صقلية إلا إذا اتحدت كلها تحت حكومة واحدة. فلما تم له إخضاعها، عبر الجزيرة إلى إيطاليا، وأخضع رجيوم Rheginm وفرض سلطانه على جميع إيطاليا الجنوبية. ثم هاجم إتروريا واستولى على ألف وزنة من هيكلها القائم في أجلا Agylla، ووضع الخطط لنهب ضريح أبلو في دلفي، ولكن الأيام وقفت في سبيله فلم تمكنه من تنفيذ خططه. فقد وأدت بلاد اليونان في نفس ذلك العام (387) حريتها في الغرب، ثم باعتها "بصلح الملك" إلى الفرس في الشرق. وكان برنس Brennus والغليون قد وقفوا ظافرين أمام أبواب رومة يدقونها دقاً، وكان البرابرة المحيطون بالعالم اليوناني يزدادون قوة في كل مكان، وكان ما حل بإيطاليا الجنوبية من التدمير على يد ديونيشيوس قد مهد السبيل للأهلين القاطنين حول المستعمرات أولاً ثم للرومان أنصاف البرابرة بعدئذ لغزو هذه المستعمرات والاستيلاء عليها. وقام الخطيب ليسياس في الدورة التالية من دورات الألعاب الأولمبية يدعو بلاد اليونان إلى الخروج على الطاغية الجديد، فهاجم الجماهير الثائرة خيام رسل ديونيشيوس وأصمت آذانها عن الاستماع إلى أشعاره.(7/401)
وهذا الطاغية الذي عرض على أهل رجيوم بعد أن تم له الاستيلاء عليها حريتهم إذا آتوه بكل ما يدخرونه من مال فدية لهم، فلما جاءوه به باعهم بيع الرقيق، هذا الطاغية نفسه كان رجلاً واسع الثقافة من أرباب السيف والقلم ولم يكُ فخره بقلمه أقل من فخره بسيفه. ولما أن طلب إلى الشاعر فلكينس رأيه في شعره وأجاب بأنه غث لا قيمة له حكم علية بالأشغال الشاقة في المحاجر (44). على أن ديونيشيوس، كان يناصر الآداب والفنون على الرغم من هذه الأعمال المثبطة، وقد استضاف أفلاطون أثناء أسفاره في صقلية وسره أن يستمتع لحظة بهذا الفيلسوف (387). وهناك قصة ذائعة نقلها ديوجانس ليرتيوس تقول إن الفيلسوف أخذ يطعن في حكم الطغاة فرد عليه ديونيشيوس بقوله: "إن أقوالكَ أقوال عجوز محترف"، فأجابه أفلاطون قائلاً: "إن هذه اللغة هي لغة الطغاة". ويقال إن ديونيشيوس باع أفلاطون في سوق الرقيق ولكن أنسريز القيروني لم يلبث أن افتداه (45).
ولم يقضِ على حياة الفيلسوف واحد من القتلة السفاحين الذين كان يخشى بأسهم بل قضى عليه شعره نفسه. وتفصيل ذلك أن مأساته افتداء هكنز نالت الجائزة الأولى في عيد لينيا الأثيني عام 367. وسُر ديونيشيوس من هذا الفوز سروراً جعله يحتفل بأصدقائه ويُفرط في الشراب، فيصاب بالحمى ويموت.
وقبلت المدينة المغتاظة التي كانت قد ارتضته بديلاً من الخضوع لقرطاجة قبلت أن يخلفه ابنه على العرش راجية الخير على يديه. وكان ديونيشيوس الثاني وقتئذ شاباً في الخامسة والعشرين من عمره، ضعيف الجسم والعقل، فظن السراقوصيون الماكرون أنه لهذا السبب سيحكمهم حكماً رحيماً يترك لهم فيه الحبل على الغارب. وكان له من عمه ديون Dion والمؤرخ فلستيوس مستشاران قديران. فأما ديون فكان رجلاً واسع الثراء ولكنه جمع إلى ثرائه حبه للآداب والفلسفة، وكان من أوفى تلاميذ أفلاطون وألصقهم به. وأصبح عضواً(7/402)
في المجمع العلمي وعاش في داخل بيته وخارجه عيشة البساطة الفلسفية. وخطر بباله أن الطاغية الجديد الشاب اللدن العود سوف يتيح له الفرصة لأن يقيم على الأقل حكماً دستورياً يُستطاع به توحيد صقلية بأجمعها وتمكينها بسبب هذه الوحدة من القضاء على سلطان القرطاجيين فيها، هذا إذا لم يتمكن من أن يجعل منها "المدينة الفاضلة" التي وصفها له أفلاطون.
ودعا ديونيشيوس الثاني بناءً على اقتراح ديون، أفلاطون إلى بلاطه، فلما قبل أفلاطون الدعوة تتلمذ عليه ديونيشيوس وصار من أتباعه. ومما لاشك فيه أن الشاب الطاغية أراد أن يظهر للفيلسوف خير طباعه، فأخفى عليه إدمانه الخمر والعهر (47)، الذي جعل أباه يتنبأ أن الأسرة ستنقرض بموت ولده. وانخدع أفلاطون برغبة الشاب الظاهرة في الفلسفة فقاده إليها من أصعب السبل - من سبيل العلوم الرياضية والفضيلة. وعلَّم الحاكم، كما علَّم كنفوشيوس دوق لو، أن المبدأ الأول من مبادئ الحكم هو القدوة الصالحة، وأنه إذا أراد أن يُصلح شعبه، فعليه أن يجعل نفسه أنموذجاً لهم في الذكاء والنية الحسنة، وشرعت الحاشية كلها تدرس الهندسة، وتقف مذهولة سياسياً أمام خطوط مرسومة في الرمل. ورأى فلستيوس أن مقام أفلاطون أصبح أعلى من مقامه، فهمس في أذن الطاغية أن ذلك كله لم يكن إلا مؤامرة أراد بها الأثينيون، الذين عجزوا عن فتح سراقوصة بقوة الجيش والأسطول، أن يستولوا عليها بعمل رجل واحد، وأن أفلاطون بعد أن استولى على القلعة المنيعة بالرسوم والحوار، سَيُنزل ديونيشيوس عن عرشه، ويجلس ديون مكانه. ووجد ديونيشيوس في هذا الهمس فرصة قيمة للنجاة من متاعب الهندسة، فنفى ديون، وصادر أملاكه، ووهب زوجته لرجل من رجال البلاط كانت ترهبه. وغادر أفلاطون سراقوصة، رغم تأكيد الطاغية له بأنه يحبه أشد الحب، وانظم إلى ديون في أثينة. وبعد ست سنين من ذلك الوقت عاد إلى سراقوصة استجابة لطلب الملك نفسه، وألح عليه في أن يستدعي ديون، ولما(7/403)
رفض ديونيشيوس رجاءه اعتزله أفلاطون وآوى إلى المجمع العلمي (48).
وفي عام 357 جند ديون من بلاد اليونان القارّية، وكان وقتئذ فقيراً في المال غنياً في الأصدقاء، قوة مؤلفة من ثمانمائة رجل أبحر بهم إلى سراقوصة، ودخل فيها سراً فألفى الأهلين شديدي الرغبة في تأييده. وكانت معركة واحدة نال فيها النصر ببسالته، مع أنه كان وقتئذ في سن الخمسين، كافية لهزيمة جيش ديونيشيوس، ودب الرعب من هولها في قلب الملك الشاب فآثر الفرار إلى إيطاليا. وفي هذا الوقت عزلت الجمعية السراقوصية ديون من القيادة، وكان هو الذي دعاها إلى الاجتماع، خشية أن ينصب نفسه حاكماً بأمره. وكانت في عملها هذا تجري على ما طبع عليه اليونان من الاندفاع وعدم التبصر في العواقب. وانسحب ديون في سلام إلى اليونتيني؛ ولكن جيوش ديونيشيوس شجعها تقلب الأحداث فهاجمت الجيش الوطني على حين غفلة، وبددت شمله. وأرسل الزعماء الذين كانوا قد عزلوا ديون من القيادة يطلبون إليه أن يعود مسرعاً ويتولى قيادة جيش الشعب، فاستجاب إلى دعوتهم، وانتصر على أعدائه مرة أخرى، وعفا عن الذين قاوموه، وأعلن قيام دكتاتورية مؤقتة قال إنها ضرورية لعودة النظام إلى البلاد، وأبى أن يكون له حرس خاص مخالفاً بذلك نصيحة أصدقائه، وقال إنه "يفضل أن يموت على أن يعيش على حذر دائم من أصدقائه وأعدائه على السواء" (49). واحتفظ بدلاً من هذا الحرس بحياته المتواضعة المعتدلة رغم ما كان يحيط به من الثراء وقوة السلطان.
ويقول بلوتارخ "إنه، وإن كان قد نال ما يشتهيه من النجاح، لم يكن يرغب في أن ينال فائدة عاجلة أتاحها له حظه الطيب ... فاكتفى بقدر معتدل من الثراء راعى فيه جانب الاقتصاد، وأدهش بذلك الناس جميعاً. وبينما كانت صقلية وقرطاجة وبلاد اليونان بأجمعها ترى أنه قد بلغ أعلى مراتب النعيم والثراء، وأن ليس بين الأحياء جميعاً من هو أعظم منه، أو بين القواد(7/404)
من هو أوسع منه شهرة في البسالة والظفر، كان يبدو في حرسه، وحاشيته، وعلى مائدته، أنه يشترك مع أفلاطون في المجمع العلمي. ولا يعيش بين ضباطه المأجورين وجنوده المرتزقة الذين يجدون في ملء بطونهم بلذيذ المأكل والمشرب والاستمتاع بلذائذ الحياة عزاء لهم عن كدحهم المتواصل وما يتعرضون له من الأخطار" (50).
وإذا أخذنا بقول أفلاطون فإن ديون كان يبغي إقامة ملكية دستورية، وإلى إصلاح حياة السراقوصيين وأخلاقهم على مثال الحياة والأخلاق الإسبارطية، وأن يعيد بناء المدن اليونانية المستعيدة أو المخربة في صقلية، وينشئ منها دول موحدة، حتى إذا تم له ذلك أخرج القرطاجيين من الجزيرة. ولكن السراقوصيين كانوا يحرصون أشد الحرص على النظام الدمقراطي، ولم يكونوا يتوقون إلى الفضيلة أكثر مما يتوق إليها ديونيشيوس الأول أو الثاني. فاغتال ديون صديق له، وانطلقت على أثر اغتياله الفوضى من عقالها، وأسرع ديونيشيوس بالعودة إلى سراقوصة، واستولى مرة أخرى على أرتيجيا وعلى أزمة الحكم، وسار فيه بالقسوة والفظاعة التي ينتظرها الإنسان من طاغية خُلِعَ عن عرشه ثم استرده.
وبعد، فإن الأقدار تصيب أحياناً من لا يستحقها من الأفراد، ولكنها قلما تفعل ذلك بالأمم. ثم استغاث السراقوصيون بأمهم كورنثة. وجاءت هذه الاستغاثة في وقت كان فيه كورنثي نبيل نبلاً لا يكاد يصدقه العقل ينتظر أن تتاح له فرصة يُظهر فيها بطولته. لقد كان تيمليون رجلاً من الأشراف، بلغ من حبه للحرية أنه لم يتردد في قتل أخيه تموفانيز حين أراد هذا الرجل أن يقيم نفسه حاكماً مستبداً في كورنثة. واستنزلت أمه اللعنة عليه عقاباً له على عمله هذا، وأنبهَ عليه ضميره، فاعتزل هذا القاتل الناس وآوى إلى الغابات. ولكنه سمع وهو في مأواه بحاجة سراقوصة إلى النجدة، فخرج من ملجأه، ونظم قوة من المتطوعين، وأبحر بها إلى صقلية، وقاد شرذمته(7/405)
القليلة بمهارة لم يرَ جيش الملك معها بُداً من الاستسلام، بعد أن ذاق البلاء من جراء براعته في القيادة، ومن غير أن يقتل من رجاله رجل واحد. ومنح تيمليون الطاغية الذليل من المال ما يمكنه من العودة إلى كورنثة حيث قضى ما بقي من حياته يعلم في المدرسة ويسأل الناس القوت في بعض الأحيان (51).
وأعاد تيمليون الدمقراطية، وهدم الحصون التي جعلت أرتيجيا معقلاً حصيناً للاستبداد، ورد عنها غارة شنها القرطاجيون، وأعاد الحرية والدمقراطية إلى المدن اليونانية. وبفضله ساد السلام وعم الرخاء صقلية جيلاً من الزمان، هرع إليها في خلاله مستوطنون جدد من جميع أنحاء العالم اليوناني. وأبى مع ذلك أن يتولى منصباً عاماً، بل اعتزل الحياة السياسية وفضل عليها الحياة الخاصة؛ ولكن الدمقراطيات القائمة في الجزيرة كانت تعرض عليه كل شئونها الكبرى تستنصحه وتعمل برأيه إيماناً منها بحكمته واستقامته. ولما اتهمه الناس من "المرشدين" بسوء استخدام سلطته أصر على الرغم من احتجاج الشعب وإعلانه شكره له واعترافه بجميله، أن يحاكم من غير محاباة حسب قانون البلاد، وحمد الآلهة على أن عادت إلى صقلية حرية الكلام والمساواة أمام القانون. ولما مات في عام 337 حزنت عليه بلاد اليونان كلها وعدَّته من أعظم عظماء أبنائها.(7/406)
الفصل الخامِس
تقدم مقدونية
بينما كان تيمليون يعد إلى الديمقراطية أنفاسها الأخيرة في صقلية القديمة، كان فليب يقضي عليها في أرض اليونان القارية. لقد كانت مقدونية حين اعتلى فليب العرش عام 359 لا تزال في الأغلب الأعم بلاد همجية يسكنها أقوام أشداء جبليون وذلك رغم كرم أركلوس وثقافته العالية؛ والحق أنها وإن استخدمت اليونانية لغة رسمية لها لم تفد الحياة اليونانية طوال تاريخها بمؤلف أو فنان أو فيلسوف واحد.
وكان فليب قد أقام ثلاث سنين مع أقارب إباميننداس في طيبة فاستقى منه قدراً متوسطاً من الثقافة وقدراً عظيماً من الأفكار الحربية. وكان يتصف بجميع الفضائل عدا فضائل الحضارة، وكان قوي الجسم والإرادة، مولعاً بالرياضة البدنية، وسيماً؛ وجملة القول أنه كان حيواناً عظيماً، يحاول بين الفينة والفينة أن يكون أثينياً مهذباً. وكان كابنه الشهير ذا مزاج حاد عنيف وكرم فائق، مولعاً بالحرب إلى حد كبير وبالشرب إلى حد أكبر. وكان يختلف عن الإسكندر في مرحه وميله إلى الضحك، ولَّى أحد الأرقاء منصباً كبيراً لأنه أدخل على قلبه السرور. وكان يحب الغلمان كثيراً، ولكنه يحب النساء أكثر منهم، وتزوج أكبر عدد استطاعه منهن، وحاول وقتاً ما أن يقتصر على زوجة واحدة هي أولمبياس الأميرة المولوسية Molossian الجميلة التي كانت تعيش على الفطرة والتي ولدت له الإسكندر، ولكنه لم يلبث أن مال إلى غيرها، فأخذت أولمبياس تدبر الانتقام منه إلى نفسها. وكان أحب الناس إليه أشداء الرجال الذين يجازفون بأرواحهم طوال النهار، ويقامرون معه وينادمونه على الشراب إلى نصف الليل. وكان (إلى ما قبل(7/407)
الإسكندر) أشجع الشجعان بلا منازع، وخلّف جزءاً من نفسه في كل ميدان من ميادين القتال. وقد أعجب به دمستين وقال فيه: "يا له من رجل! لقد خسر في سبيل القوة والسلطان عيناً فقئت، وكتفاً كسرت، وذراعاً وساقاً أصيبتا بالشلل" (52). وكان ذا قريحة وقّادة قادراً على أن ينتظر فرصته متربصاً، وعلى أن يسير بعزم ثابت إلى هدفه مجتازاً في سبيله كل ما يعترضه من صعاب. وكان في سياسته لطيفاً غداراً؛ لا يبالي بأن يحنث في وعده، ويجدد هذا الوعد لساعته؛ لا يعترف في الحكم بالمبادئ الأخلاقية، ويرى أن الكذب والرشوة بديلين رحيمين من القتل وسفك الدماء. ولكنه كان رحيماً في انتصاره وكان من عادته أن يعرض على اليونان المنهزمين شروطاً أحسن مما يعرضها بعضهم على بعض. وقد أحبه كل من التقى به، عدا دمستين العنيد، ووصفوه بأنه أقوى رجال زمانه وأكثرهم طرافة.
وكانت حكومته ملكية أرستقراطية يدوم سلطان الملك فيها ما دام متفوقاً في قواه الجسمية أو العقلية، وما دام أشراف البلاد راغبين في معونته. وكان ثمانمائة من أمراء الإقطاع يكونون "صحابة الملك". وكان هؤلاء الصحابة من كبار الملاك الذين يحتقرون حياة الحواضر والزحام والكتب، فإذا ما أعلن الملك الحرب برضاهم خرجوا من ضياعهم وهم أقوياء الأجسام صناديد ليوث غاب. وكانوا في الجيش يؤلفون فرقة الفرسان ويمتطون صهوة الجياد المقدونية والتراقية القوية الشكيمة، وقد دربهم فليب على أن يحاربوا جماعات متراصة يستطيعون إذا صدر إليهم أمر قائدهم أن يبدلوا حركاتهم العسكرية من فورهم كأنهم رجل واحد. وكان إلى جانب هؤلاء الفرسان مشاة من الصيادين والفلاحين الشعث ينظموا في "فيالق"، يصوب ستة عشر صفاً منهم رماحهم فوق رؤوس الصفوف التي أمامهم - ويضعونها فوق أكتافهم - وبذلك يكون كل فيلق أشبه بجدار من الحديد. وكان طول الرمح إحدى وعشرين قدماً،(7/408)
وكان متزناً من مؤخرته فإذا شرعه صاحبه برز إلى الأمام خمسة عشر قدماً. ولما كان كل صف من الجند يتقدم ثلاث أقدام عن الذي يليه فإن رماح الخمسة صفوف الأولى كانت تبرز أمام الفيلق كله، وكانت رماح الثلاثة صفوف الأولى تبرز أمام الفيلق أطول من حراب أقرب المشاة اليونان التي لا تزيد على ستة أقدام. وكان الجندي المقدوني بعد أن يقذف عدوه برمحه يحارب بسيف قصير ويقي رأسه ببيضة من نحاس، وجسمه بدرع، وساقيه بجرموقتين، وصدره بترس خفيف. ويأتي من وراء هذا الفيلق فرقة من الرماة على الطراز القديم يصوبون سهامهم فوق رؤوس حملة الرماح، ومن وراء هؤلاء فرق الحصار بمناجيقها وكباشها المدمرة. ودرب فليب في صبر وعزيمة هذا الجيش المكون من عشرة آلاف جندي حتى جعله أعظم قوة محاربة شهدتها أوربا حتى ذلك الوقت، وأعده للإسكندر كما أعد فردرك وليم جيشه لابنه فردرك الأكبر.
واعتزم أن يستخدم هذه القوة لتوحيد بلاد اليونان وإخضاعها لحكمه، حتى إذا تم له ذلك استعان ببلاد هلاس جميعها وعبر الهلسبنت وطرد الفرس من آسية اليونانية. ولكنه كان في كل خطرة يخطوها نحو هذه الغاية يجد نفسه يعمل ضد حب اليونان للحرية، وكان وهو يحاول أن يتغلب على هذه النزعة ينسى الغاية التي يعمل لها بهذه الوسيلة. ووقف في حركته الأولى وجهاً لوجه أمام أثينة لأنه أراد أن يستولي على المدن التي ضمتها إلى أملاكها على ساحلي مقدونية وتراقية. ولم تكن هذه المدن تسد طريقه إلى آسية وحسب، بل كانت فوق هذا تحتوي مناجم غنية من الذهب، وكانت ذات تجارة رائجة في مقدوره أن يفرض عليها الضرائب. وبينما كانت أثينة منهمكة في "الحرب الاجتماعية" التي انتهت بها إمبراطوريتها الثانية، استولى فليب على أمفبوليس (357)، وبدنا، وبوتيديا (356)؛ ولما احتجت أثينة على هذا العمل العدواني أجابها بالثناء على آدابها وفنونها. وفي عام 355 استولى على ميتوني، وفقد عينه في(7/409)
حصارها، وفي عام 347 استولى على أولنثس بعد حرب طويلة أستعين فيها بضروب كثيرة من البسالة والخداع. وتمت بهذه الأعمال السيطرة على الشاطئ الأوربي لبحر إيجة الشمالي، ودخل خزائنه في كل عام ألف وزنة من مناجم تراقية (53)، واستطاع أن يوجه تفكيره نحو اكتساب معونة بلاد اليونان.
وكان فليب قد حصل على المال الذي أنفقه في حروبه ببيع آلاف من الأسرى في أسواق الرقيق، وكان من بينهم كثيرون من الأثينيين، فنفرت منه قلوب الهلينيين. وكان من حسن حظه أن المدن اليونانية كانت في خلال هذه السنين تنهك قواها في "حرب مقدسة" ثانية (356 - 346) سببها انتهاب الفوسيين كنوز دلفي. وأيد الإسبارطيون والأثينيون الفوسيين، وحاربت العصبة الأمفكتيونية: بؤوتية، والكريس، ودوريس، وتساليا، ضدهم. ولما دارت الدائرة على هذه العصبة استغاث مجلسها بفليب، ووجد الفرصة ملائمة له فجاء مسرعاً مخترقاً الطرق الجبلية المفتوحة أمامه، وأخذ الفوسيين على غرة (346)، وضُم إلى الحلف الأمفكتيوني الدلفي، ونودي به حامياً للضريح المقدس، وقبل الدعوة التي وجهت إليه لِرياسة اليونان جميعاً في الألعاب البيثية. وهنا امتد بصره إلى دول البلوبونيز المنقسمة على نفسها، وأحس أن في استطاعته أن يحملها جميعاً، عدا إسبارطة الضعيفة، على أن ترتضيه زعيماً لحلف يوناني في مقدوره أن يحرر جميع اليونان في الشرق والغرب. ولكن أثينة استمعت إلى أقوال دمستين فلم ترَ في فليب محرراً لها، بل رأته ساعياً لاستعبادها، وقررت أن تحارب لتحتفظ للمدن اليونانية بالسيادة التي كانت تحرص عليها، وبالدمقراطية الحرة التي جعلتها نور العالم الوضاء.(7/410)
الفصل السّادس
دمستين (دمستنيز)
إن تمثال الخطيب العظيم القائم في متحف الفاتيكان ليعد من الروائع الفنية الواقعية التي أخرجها العصر الذي انتشرت فيه الحضارة اليونانية خارج بلاد اليونان الأصلية؛ فوجهه يبدو عليه الهم والقلق، كأن كل نصر أحرزه فليب قد أحدث غصناً جديداً في جبهته؛ والجسم نحيل منهوك، ومظهره مظهر الرجل الذي يوشك أن يدعو الناس للأخذ بيده للدفاع عن قضية يرى أنه قد خسرها. وتكشف العينان عن حياة قلقة، وتتنبئان بموت مدبر.
وكان أبوه صانع سيوف وأسِرَّة، ترك له تجارة تبلغ قيمتها أربع عشرة وزنة (000ر84 ريال أمريكي). واختار الوالد ثلاثة من الرجال ليديروا هذه الأملاك لصالح الغلام، ولكنهم أنفقوها على أنفسهم بسخاء، اضطر معه دمستين حين بلغ سن العشرين (363) أن يقاضي الأوصياء عليه لكي يستعيد ما بقي من ميراثه. وأنفق معظم ما آل إليه في تجهيز سفينة ذات ثلاثة صفوف من المجاديف وهبها للأسطول الأثيني، ثم أخذ يعمل لكسب عيشه بكتابة الخطب للمتقاضين؛ وكان أقدر على الكتابة منه على الكلام، لأنه كان ضعيف الجسم عيّ اللسان. ويقول عنه بلوتارخ إنه كان في بعض الأحيان يعد دفاعاً لكلا الطرفين المتنازعين. وكان يعمل في هذه الأثناء للتغلب على ما فيه من نقص طبيعي، فكان يخاطب البحر وفمه مملوء بالحصباء، أو يخطب وهو يصعد فوق الجبل. وكان مجداً في عمله لا يشغله عنه إلا السراري والغلمان. وقال أمين سره يشكو أمره: "ماذا عسى أن يفعل الإنسان بدمستين؟ إن الشيء الذي قضى عاماً(7/411)
كاملاً يفكر فيه لتربكه امرأة واحدة في ليلة واحدة" (54). وأصبح الرجل بعد جهود مضنية دامت عدة سنين أغنى المحامين في أثينة، يعرف دقائق هذا الفن ويقنع المستمعين إلى خطبه، ولا يتقيد كثيراً بقواعد الأخلاق. وشاهد ذلك أنه دافع عن المصرفي فورميو طالباً تبرئته من تهم وجهها هو بعينها إلى الأوصياء عليه، وكان يتناول أجوراً عالية من الأفراد نظير تقديم بعض القوانين للجمعية والدفاع عنها، ولم يدفع عن نفسه التهمة التي وجهها إليه زميله هيبريديز وهي أنه كان يتلقى المال من ملك الفرس ليشعل نار الحرب على فليب (55). وبلغت ثروته في ذروة مجده عشرة أضعاف ما خلفه له أبوه.
لكنه رغم هذا بلغ من النزاهة درجة رضي معها بالتعذيب والموت في سبيل الآراء التي استؤجر للدفاع عنها. ذلك أنه أخذ يندد باعتماد أثينة على الجنود المرتزقة، وأصر على أن المواطنين الذين يتقاضون أجوراً من "الرصيد" المخصص لإعانة من يحضرون ألعاب الحفلات الدينية ويشاهدون المسرحيات، يجب أن يكسبوها بالخدمة في الجيش؛ وبلغ من شجاعته أن طالب بألا يؤدى هذا المال أجوراً لهؤلاء المواطنين، بل يجب أن ينفق في إعداد قوة حربية للدفاع عن الدولة أحسن من القوة التي لديها (1). وقال للأثينيين إنهم قوم كسالى منحلون فقدوا ما كان يتصف به آباؤهم من فضائل حربية، وأبى أن يصدق أن دولة المدينة قد وهنت قواها بالانقسامات الحزبية والحروب، وأن الوقت قد آن لتوحيد بلاد اليونان. وأنذر الأثينيين بأن هذه الوحدة ليست إلا أقوالاً تخفي ورائها خضوع
_________
(1) لقد توسعت الدولة في رصيد "المناظر" هذا ( Dheoric Fund) حتى صار يستخدم في كثير من الاحتفالات بدرجة كاد معها أن يجعل جزءاً كبيراً من المواطنين في عداد مَن يتلقون إعانات من الدولة. وفي ذلك يقول جلوتز Glotz: " إن الجمهورية الأثينية قد أصبحت جمعية تعاونية خيرية تأخذ المال من إحدى الطبقات لتُنفقه على طبقة أخرى" (56). وكانت الجمعية قد جعلت الإعدام جزاء كل مَن يقترح تحويل هذا المال لأغراض غير الغرض الذي رصد له.(7/412)
بلاد اليونان جميعها لرجل واحد. ولقد تبين أطماع فليب من أعراضها الأولى وتوسل إلى الأثينيين أن يحاربوا للاحتفاظ بأحلافهم ومستعمراتهم في الشمال.
وكان، إسكنيز وفوشيون وحزب السلم يعارضون دمستين وهيبريديز وحزب الحرب. وليس ببعيد أن كلتا الطائفتين كانت مرتشية الثانية من قبل الفرس والأولى من قبل فليب (57)، وأن الاثنتين كانتا تعملان بإخلاص للوصول إلى أغراضها تدفعهما الحماسة التي أثارتها كلتاهما في قلوب أتباعها. وقد أجمع أهل ذلك العصر على أن فوشيون كان أشرف رجال السياسة في أيامه - كان رواقياً قبل أن يؤسس زينون الرواقية، وفيلسوفاً من خريجي مجمع أفلاطون العلمي، وخطيباً يحتقر الجمعية احتقاراً يستطيع القارئ أن يتبينه إذا ذكرنا له أنها حين صفقت له التفت إلى أحد أصدقائه وسأله: "ألم أرتكب خطأ في قولي من حيث لا أدري؟ " (58) وقد اختير قائداً ( Strategos) خمساً وأربعين مرة ففاق في هذا بركليز نفسه؛ وتولى مراراً كثيرة قيادة الجيش وأظهر في كل مرة كفاية عظيمة، ولكنه قضى معظم حياته يدعو إلى السلم. ولم يكن رفيقه إسكنيز رواقياً في معيشته، بل كان رجلاً ارتقى من الفقر المدقع إلى الثراء الواسع، اشتغل في صباه بالتدريس والتمثيل فأعانه ذلك على أن يكون خطيباً مصقعاً، وأول خطيب يوناني - على ما يقول المؤرخون - يرتجل الخطب ارتجالاً وينجح في ذلك أعظم نجاح (59)، بينما كان منافسوه يعدون خطبهم ويكتبونها قبل إلقائها. واشترك مع فوشيون في عدة وقائع حربية، فأخذ عنه سياسة التراضي مع فليب بدل الاشتراك معه في الحرب؛ ولما أن كافأه فليب على جهوده استحال تحمسه للسلم ولاءً لها وإخلاصاً.
واتهم دمستين إسكنيز مرتين بأنه يرتشي بالذهب من مقدونية، ولكنه في كلتا المرتين عجز عن إثبات التهمة. على أن فصاحة دمستين الحربية وتقدم فليب نحو الجنوب أقنعا الأثينيين آخر الأمر أن يمتنعوا وقتاً ما عن توزيع رصيد المناظر وأن يستخدموه في الاستعداد للحرب. ففي عام 338 نظموا على عجل(7/413)
قوة زحفوا بها إلى الشمال لملاقاة فيالق فليب عند قيرونيا البؤتية. وأبت إسبارطة أن تقدم معونتها لأثينة، ولكن طيبة أحست بقبضة فليب تطبق على عنقها فأرسلت فرقتها المقدسة لتحارب إلى جانب الأثينيين، وقتل الثلاثمائة جندي الذين تتألف منهم هذه الفرقة في الميدان؛ وحارب الأثينيون بهذه الشجاعة نفسها أو بما يقرب منها، ولكنهم كانوا قد تباطأوا فوق الحد المباح، ولم يعدوا العدة لملاقاة جيش المقدونيين المسلح على أحدث طراز. فكانت النتيجة أن منوا بهزيمة شتتت شملهم ففروا أمام بحر الرماح الزاحفة عليهم وفر معهم دمستين. وكان الإسكندر بن فليب يبلغ وقتئذ الثامنة عشر من عمره، وكان يقود فرقة الفرسان المقدونية بشجاعة تبلغ درجة التهور أنالته شرف الانتصار في هذه المعركة الحامية الوطيس.
وكان فليب كريماً في انتصاره كرماً تمليه عليه خطته السياسية التي رسمها. نعم إنه أعدم بعض زعماء طيبة المعادين للمقدونيين، وأقام في تلك المدينة حكومة ألجركية من أشياعه، ولكنه أطلق سراح الألفي أثيني الذين وقعوا أسرى في يديه، وأرسل الإسكندر الظريف وانتباتر Antipater العاقل الحكيم ليعرضا الصلح على أثينة على شريطة أن تعترف به قائداً عاماً لبلاد اليونان كلها ضد عدوها المشترك. وكانت أثينة تتوقع شروطاً أقسى من ذلك كثيراً، ولهذا فإنها لم تقبل هذا الشرط فحسب، بل أصدرت فوق ذلك قرارات تكيل فيها الثناء لهذا الأجممنون الجديد. وعقد فليب في كورنثة جمعية (سندريون Sunderion) من الدول اليونانية، وألف منها جميعاً (عدا إسبارطة) حلفاً على نظام الحلف البؤوتي، ورسم الخطوط الرئيسية لخططه التي تهدف إلى تحرير آسية. واختير بالإجماع قائداً عاماً لهذه المغامرة الكبرى، وتعهدت كل دولة أن تمده بالرجال والسلاح، ووعدته ألا يحارب يوناني من أي بلد كان في صفوف أعدائه. وكانت هذه التضحيات كفارة رخيصة للعداء الذي أظهرته هذه المدن من قبل.(7/414)
ولم تقف النتائج التي تمخضت عنها قيرونيا عند حد. فقد تحققت بها الوحدة التي عجزت عن تحقيقها بلاد اليونان من قبل، وإن كانت لم تتحقق إلا على ظبا سيف رجل يكاد أن يكون أجنبياً عنها. وكانت الحرب البلوبونيزية قد أثبتت عجز أثينة عن تنظيم هلاس، وأثبتت الحوادث التي أعقبت هذه الحرب عجز إسبارطة عن هذا التنظيم، وعجزت طيبة عن بسط سيادتها على البلاد، وأنهكت حرب الجيوش والطبقات قوى دول المدائن، وتركتها ضعيفة عاجزة عن الدفاع عن نفسها. لهذا كان من حسن حظها أن تجد لها في هذه الظروف فاتحاً معقولاً يعرض عليها أن ينسحب من ميدان النصر ويترك للمغلوبين قسطاً كبيراً من الحرية. والحق أن فليب ومن بعده الإسكندر كانا يحيطان استقلال الدول المتحالفة بحمايتهما ورقابتهما، حتى لا تضم إحدى هذه الدول غيرها إليها فيكون لها من القوة ما تستطيع به أن تحل بينها محل مقدونية. بيد أن فليب قد سلبها نوعاً غالياً من الحرية - ونعني به حق الثورة. فقد كان محافظاً صريحاً، يرى أن استقرار الملكية حافز لا غنى عنه للإقدام والنشاط، ودعامة لا بد منها للحكم. ومن أجل هذا حمل المجمع المقدس في كورنثة على أن يضع بين مواد الحلف عهداً يقطعه المتحالفون على ألا يُدخلوا في الدستور تغييراً ما، وألا يبدلوا النظم الاجتماعية بحال من الأحوال، وألا يتورطوا في الانتقامات السياسية. وكان في كل ولاية يؤيد بنفوذه المدافعين عن الملكية، وقضى قضاءً تاماً على الضرائب الفادحة التي تبلغ درجة مصادرة الأملاك.
وكان قد أحكم وضع خططه كلها إلا ما يختص منها بزوجته أولمبياس Olympias، ولهذا فإن الذي قرر مصيره آخر الأمر لم يكن هو انتصاره في ميدان القتال، بل كان عجزه عن الانتصار على زوجته. ولم يكن يرهب منها أخلاقها وحِدَّة طباعها فحسب، بل كان يرهب فوق ذلك اشتراكها في الطقوس الديونيشية الهمجية. وقد وجد في ذات ليلة أفعى إلى جانبها في(7/415)
السرير، فارتاع ولم يذهب عنه روعه حتى بعد أن قيل له إن الأفعى إله من الآلهة. وأسوأ من هذا أن أولمبياس أخبرته ذات مرة أنه لم يكن والد الإسكندر الحقيقي، بل إن صاعقة قد انقضت عليها ليلة زفافها، وأشعلت فيها النار، وأن الإله العظيم زيوس - أمون هو الذي حملت منه بالأمير المقدام. ونفّرت هذه المنافسات المختلفة فليب منها فولى وجهه شطر غيرها من النساء، وشرعت أولمبياس تثأر لنفسها منه فأخبرت الإسكندر بسر أبوته الإلهية (60). وزاد الطين بلّة أن قائداً من قواد فليب يدعى أتلس Atallus طلب أن يشرب نخب ولد فليب المرتقب من زوجة أخرى وقال إنه الوارث "الشرعي" (أي المقدوني لحماً ودماً) لعرش البلاد. فما كان من الإسكندر إلا أن ضربه بالكأس في رأسه وصاح قائلاً: "وهل أنا إذن ابن زنى؟ ". واستل فليب سيفه يريد أن يقتل به ولده ولكنه كان ثملاً لا يستطيع الوقوف. فضحك منه الإسكندر وقال: "هاهو ذا رجل يستعد للانتقال من أوربا إلى آسية وهو لا يستطيع أن يخطو آمناً من مقعد إلى مقعد". وبعد بضعة أشهر من ذلك طلب ضابط من ضباط فليب يدعى بوسينياس أن يأخذ له الملك بحقه من أتلس لإهانة لحقت به منه، فلما لم يجبه الملك إلى طلبه اغتاله (336). وكان الإسكندر محبوباً من الجيش حباً يقرب من العبادة، وكانت أولمبياس تؤيده (1) فاستولى على أزمة الملك، وتغلب على كل ما لقيه من مقاومة، وأخذ يعد العدة لفتح العالم.
_________
(1) وكان يظن أنها هي التي حرضت بوسنياس على قتل فليب.(7/416)
الباب العشرون
الآداب والفنون في القرن الرابع
الفصل الأول
الخطباء
كانت الآداب في أثناء هذا الاضطراب كله ينعكس عليها ما انتاب بلاد اليونان من اضمحلال في الأخلاق وضعف في صفات الرجولة. فلم يكن الشعر كما كان من قبل تعبيراً عاطفياً إبداعياً يبتكره الأفراد، بل أصبح تدريباً ظريفاً وثمرة من نتاج العقول في الندوات، وصدى للواجبات والتمارين المدرسية. نعم إن تموثيوس الملطي كتب ملحمة شعرية، ولكنها لم تكن توائم عصر الجدل والنقاش، وظلت بعيدة عن الشعب بُعد موسيقاه في عهدها الباكر؛ وظلت المسرحيات تُمثل ولكن تمثيلها كان أضعف وأضيق نطاقاً من ذي قبل. ذلك إن إقفار خزانة الدولة من المال وضعف الروح الوطنية عند الأثرياء من الأفراد قللا من أقدار الممثلين وأفقداهم ما كان لهم من شأن في ماضي الأيام. واكتفى كُتاب المسرحيات شيئاً فشيئاً بالمقطوعات الموسيقية التي تعزف بين الفصول ولا صلة لها بالمسرحية بدل الأغاني التي تكون جزءاً منها، واختفى اسم رئيس فرقة المرتلين فلم يعد مما يهتم به النظارة، ثم اختفى بعدئذ اسم الشاعر نفسه، ولم يبقَ إلا اسم الممثل. وبَعُدت المسرحية بالتدريج عن القصيدة وأضحت شيئاً فشيئاً عرضاً للحوادث التاريخية، وأصبح العصر كله عصر كبار الممثلين وصغار الكتاب المسرحيين. ذلك أن المأساة اليونانية قد قامت على الدين والأساطير،(7/417)
وكانت تتطلب شيئاً من التقى والإيمان عند المستمعين، ومن أجل هذا كان لا بد أن يضمحل شأنها حين أوشكت شمس الآلهة على الأفول.
وازدهرت المسلاة في الوقت الذي اضمحلت فيه المأساة، وانتقل إليها بعض ما كان يتصف به مسرح يوربديز من براعة، وظرف، ومادة طيبة؛ وفقدت هذه المسلاة الوسطى (400 - 323) حبها للهجاء السياسي وتشجيعها له، وقت أن كانت السياسة تتطلب "الصديق الصريح"؛ وليس ببعيد أن يكون هذا الهجاء قد حُرِّم أو أن النظارة قد سئموا السياسة بعد أن أصبح حكام أثينة رجالاً من الطراز الثاني. وكان اعتزال الرجل اليوناني بوجه عام الحياة العامة إلى الحياة الخاصة في القرن الرابع سبباً في توجيه اهتمامه إلى شئون منزله وقلبه وإغفاله شئون الدولة. وظهرت في ذلك الوقت المسلاة الأخلاقية، وأخذ الحب يسيطر على مناظرها؛ ولم يكن يسيطر عليها دائماً عن طريق الفضيلة، بل كانت العاهرات يظهرن على خشبة المسرح مع بائعات السمك، والطهاة والفلاسفة الحيارى. وإن كان زواج الممثل والكاتب ينقذ شرفهما في آخر التمثيل. خلت هذه المسرحيات من فحش أرسطوفان ومجونه اللذين كانا سبباً في خشونة المسرحيات وخلوها من الصقل الجميل، ولكنها خلت أيضاً من حيويته وخصب خياله. ولدينا أسماء تسعة وثلاثين شاعراً من كُتاب المسلاة الوسطى، وإن لم يكن لدينا شيء من مسرحياتهم، ولكنا نستطيع أن نحكم من القطع الباقية لدينا أنهم لم يكتبوا شيئاً جديراً بالخلود. وقد كتب ألكسيس الثوريائي ( of Thurii) 245 مسرحية، وكتب أنتفانيز Antiphanes 260. لقد ذاع صيتهم في زمانهم فلما انقضى ذلك العهد أفل نجمهم.
أما الخطباء فكان هذا زمانهم. ذلك أن نهضة الصناعة والتجارة قد حولت عقول الناس إلى الحياة الواقعية والعملية؛ وأخذت المدارس التي كانت قبل تعلم أشعار هومر تدرب تلاميذها الآن على أساليب البلاغة. ولقد كان(7/418)
إسيوس Isaeus، وليقورغ، وهيبريديز، ودمديز Demades، وديناركس Deinarchus، وإسكنيز، ودمستين كلهم خطباء سياسيين، يتزعمون أحزاباً سياسية، ويسيطرون ببلاغتهم على عقول الجماهير، وظهر رجال في سراقوصة في الفترات التي ساد فيها الحكم الدمقراطي، أم الدول الدمقراطية فلم تكن تطيقهم؛ وكانت لغة الخطباء الأثينيين تمتاز بالوضوح والقوة، والبعد عن المحسنات اللفظية وكانت تسمو بين الفينة والفينة إلى مراقي الوطنية النبيلة، وتسف إلى المهاترات المنحطة والشتائم القذرة التي لا يُسمح بها حتى في المنازعات الحديثة. وكان ما تتصف به الجمعية الأثينية والمحاكم الشعبية من عدم التجانس في أعضائها سبباً في انحطاط فن الخطابة اليونانية، وحافزاً لها في الوقت عينه. وانتقل هذا الأثر بنوعيه عن طريق الخطابة إلى الأدب اليوناني بوجه عام، فقد كان سرور المواطن الأثيني من سماع الشتائم في خطب الخطباء لا يكاد يقل عن سروره من مشاهدة مباراة لنيل جائزة، وإذا عُرف أن مبارزة لفظية ستقوم بين محاربين بالألفاظ مثل إسكنيز، ودمستين أقبل الناس لسماعهما من القرى النائية والدول الأجنبية؛ وكان أكثر ما يستثيره الخطباء هو غريزة الكبرياء والهوى. وقد عَرَّفَ أفلاطون البلاغة، وكان يكره الخطابة ويصفها بأنها السم القاتل للدمقراطية، عرفها بأنها فن حكم الناس باستثارة مشاعرهم وعواطفهم.
وحتى دمستين نفسه، رغم حيويته وقوة أعصابه، وسموه في كثير من الأحيان إلى فقرات تفيض بالحماسة الوطنية، ورغم هجومه الشديد على الأشخاص هجوماً أخذ يضعف على مر الزمان، ومهارته في تعاقب القصص والجدل في خطبه تعاقباً يريح الأذن ويطرد السآمة، وما في لغته من انسجام وتوازن كان يُعنى بهما كل العناية، ورغم تدفقه في خطبه كالسيل الجارف، نقول إن دمستين نفسه رغم هذا كله يبدو لنا أقل قليلاً من الخطيب العظيم. وكان يرى أن التمثيل هو سر العظمة الخطابية، وبلغ من إيمانه بهذا المبدأ أن كان يعيد خطبه مراراً في كثير من الأناة،(7/419)
ويتلوها على نفسه أمام مرآة. واحتفر لنفسه كهفاً كان يعيش فيه عدة أشهر، لا يكاد يعلم به أحد وكان في هذه الفترات يحلق نصف وجهه ويبقي على النصف الأخر حتى لا تحدثه نفسه بالخروج من مأواه (1). وكان إذا وقف على منصة الخطابة اتجه بوجهه نحو تمثاله، ودار يمنة ويسرة، ووضع يده على جبهته كأنه يفكر، ورفع صوته في أغلب الأحيان إلى حد الصراخ (2). ويقول بلوتارخ إن هذا كله "كان يسر العامة كل السرور، أما المتعلمون أمثال دمتريوس الفاليري ( Demetrius of Phalerum) فكانوا يظنون هذا عملاً حقيراً، مهيناً، لا يتفق مع الرجولة الحقة". وإنا لَنُسَرّ من حركات دمستين المسرحية، ونعجب بتقديره لنفسه واعتزازه بها، وتحيرنا استطراداته وتُرَوّعنا بذائته. وليس في خطبه إلا القليل من الفكاهة والقليل من الفلسفة. ولولا حماسته الوطنية، وما يبدو من إخلاص في دعوته الحارة اليائسة إلى الحرية، لما كان له شأن كبير.
وبلغت الخطابة اليونانية أرقى درجاتها في عام 330. وكان تسفون Ctesiphon قبل ذلك العام بست سنين قد اقترح على المجلس مبدئياً أن يهدي دمستين تاجاً أو إكليلاً من الزهر اعترافاً منه بحسن سياسته، وبما قدمه للدولة من منح مالية كثيرة. ووافق المجلس على هذا الاقتراح وأراد إسكنيز أن يحول بين منافسه وبين هذا الشرف العظيم فاتهم تسفون بأنه عرض على المجلس اقتراحاً غير دستوري (وهو اتهام صحيح من الناحية الشكلية) وأجلت القضية المرة بعد المرة، ثم عُرضت أخيراً على هيئة القضاء المؤلفة من خمسمائة من المواطنين. وكانت هذه بطبيعة الحال قضية من أشهر القضايا شهدها كل من استطاع الحضور إلى أثينة مهما بعد موطنه؛ ذلك بأن أعظم خطباء أثينة في ذلك الوقت كان في واقع الأمر يدافع فيها عن سمعته وعن حياته السياسية. ولم يُضِع إسكنيز في مهاجمة تسفوت إلا قليلاً من الوقت ولكنه وجه هجومه إلى أخلاق دمستين(7/420)
وسيرته، ورد عليه دمستين بخطبة من نوع خطبته هي خطبته الشهيرة المعروفة باسم "في سبيل التاج". ولا نزال نحس في كل سطر من أسطر الخطبتين بما كان يضطرم في صدر صاحبيهما من اهتياج شديد، وحقد في قلب عدوين التقيا وجهاً لوجه في ميدان القتال. وكان دمستين يعرف أن الهجوم أفضل من الدفاع، فقال إن فليب قد اختار بوقاً له في أثينة أحط خطبائها وأشدهم فساداً، ثم أخذ يرسم صورة لحياة إسكنيز يتجلى فيها الحقد بأوضح معانيه فقال:
لابد لي أن أدلكم على حقيقة هذا الرجل الذي يطلق لسانه بالشتائم المقذعة ... وإلى أي الآباء ينتسب. الفضيلة أيها الوغد الخائن! ... ما شأنك أنت أو أسرتك بالفضيلة؟ ... وبأي حق تتحدث عن التربية والتعليم؟ ... هل أقص على الناس كيف كان أبوك عبداً يدير مدرسة أولية قرب هيكل ثسيوس. وكيف كان مصفداً بالحديد في ساقه، وكيف كان حول عنقه طوق من الخشب، وكيف كانت أمك تقيم حفلات الزواج في مرافق بيت في وضح النهار؟ ... لقد كانت تساعد أباك في كدحه في مدرسة صغيرة، تطحن له الخبز، وتنظف المقاعد بالأسفنج، وتكنس الحجرة، وتقوم بعمل الخادم ... ثم سجلت اسمك في سجل أبرشيتك - وليس في مقدور أحد أن يعرف كيف استطعت أن تفعل ذلك، ولكن ما علينا من هذا - لقد اخترت لنفسك مهنة خليقة بأشرف الرجال المهذبين فكنت كاتباً وموصل رسائل لصغار الموظفين. وبعد أن ارتكبت جميع الجرائم التي تعير بها غيرك من الناس، أعفيت من هذا العمل ... والتحقت بخدمة الممثلَين الشهيرَين سميلس Simylus وسقراط المشهورين باسم "المدمدمين". ومثلت أدواراً صغيرة تحت إشرافهم، فكنت تلتقط التين والعنب والزيتون وتعيش على هذه القذائف خيراً مما تعيش من جميع الوقائع التي كنت تخوضها للنجاة من الموت. إن الحرب التي كانت قائمة بينك وبين النظارة لم تكن فيها هدنة أو وقف للقتال ...(7/421)
وازن إذن يا إسكنيز بين حياتك وحياتي. لقد كنت تعلم مبادئ القراءة وكنت أنا طالباً في المدرسة؛ وكنت أنت راقصاً وكنت أنا رئيس الممثلين ... وكنت كاتباً عمومياً، وكنت أنا خطيباً عاماً. وكنت ممثلاً من الدرجة الثالثة وكنت أنا ممن يشهدون التمثيل. وأخفقت أنت في تمثيل دورك وسخرت أنا منك بالصفير (3).
وكانت هذه خطبة عنيفة؛ ولم تكن أنموذجاً للترتيب والأدب ولكنها كانت فصيحة اللفظ شديدة الانفعال إلى حد حملت القضاة على أن يبرئوا تسفون بأغلبية خمسة أصوات ضد صوت واحد. وفي العام التالي منحت الجمعية دمستين التاج المتنازع. ولما عجز إسكنيز عن أداء الغرامة التي تُفرض حتماً على مَن يعجز عن إثبات جريمة يتهم بها أحد المواطنين، فر إلى رودس، حيث أخذ يكسب الكفاف من العيش بتعليم البلاغة. وتقول إحدى الروايات إن دمستين كان يرسل إليه المال ليخفف عنه آلام الفاقة.(7/422)
الفصل الثاني
إسقراط
وكانت هذه المبارزة في الخطابة من الموضوعات التي يمجدها ويعنى بدراستها كل جيل من الأجيال اللاحقة، ولكنها في واقع الأمر تمثل الدرك الأسفل من الانحطاط الذي هوت إليه السياسة الأثينية. ولسنا نرى شيئاً من النبل أو الكرامة في هذا التنابذ بالشتائم، وهذا الكفاح الحقير لنيل الثناء من الجماهير، بين رجلين كان كلاهما يتلقى الذهب الأجنبي في الخفاء. أما إسقراط فكان أكثر منهما جاذبية إلى حد ما وينتقل فيه إلى القرن الرابع بعض عظمة القرن الخامس. ولد إسقراط في عام 436، وعاش حتى عام 338، ومات حين ماتت الحرية اليونانية. وكان أبوه قد جمع ثروة كبيرة بصنع آلات الناي الموسيقية، وأتاح لابنه جميع الفرص التعليمية، ولم يبخل عليه بإرساله لدراسة البلاغة على غورغياس في تساليا. وقضت حرب البلوبونيز وخطة ألقبيادس على صناعة الناي وذهبتا بثروة الأسرة؛ فاضطر إسقراط إلى كسب قوته بعرق قلمه. فبدأ بكتابة الخطب لغيره، وفكر في أن يكون هو خطيباً، ولكنه كان خجولاً، ضعيف الصوت، شديد البغض لسفالة الحياة السياسية؛ وكان يمقت أشد المقت الزعماء المهرجين الذين سيطروا على الجمعية، وانزوى وقتاً ما في حياة التعليم الهادئة.
فافتتح في عام 391 أعظم مدارس البلاغة نجاحاً في أثينة، وهرع الطلاب إليها من جميع أنحاء العالم اليوناني؛ ولعل اختلاف أصولهم ونظراتهم إلى الحياة قد ساعد على تكوين فلسفته الهلينية الجامعة. وكان يظن أن مَن عداه من المدرسين يسيرون كلهم في غير الطريق السوي. وقد ندد في نشرة له ضد السوفسطائيين بالذين يرفعون كل أخرق مأفون إلى فيلسوف نظير دريهمات(7/423)
معدودة، والذين يرجون، كما يرجو أفلاطون، أن يعدوا الناس لتولي الحكم بتدريبهم في علوم الطبيعة وما وراء الطبيعة. أما هو فكان يقر بأنه لا يستطيع أن يحصل من الطالب على نتائج طيبة إلا إذا كان هذا الطالب ذا موهبة طبيعية. ولم يكن في وسعه أن يدرس العلوم الطبيعية أو ما وراء الطبيعة لأنها، كما يقول، بحوث لا يرجى منها خير، في أمور غامضة لا يمكن الكشف عن خفاياها. ولكنه رغم هذا كان يطلق اسم الفلسفة على ما يعلمه في مدرسته. وكان منهاج الدراسة يدور حول فني الكتابة والكلام، ولكنه كان يدرّسهما من حيث صلتهما بالأدب والسياسة (5). وكان يدرس للطلاب منهجاً ثقافياً، على حد تعبير هذه الأيام، يخالف المنهج الرياضي الذي كان يدرس في مجمع أفلاطون العلمي. وكان الهدف الذي يريد الوصول إليه هو فن الخطابة، وقد كان هذا الفن في ذلك الوقت وسيلة التقدم في الحياة العامة، لأن الجدل هو الذي كان وقتئذ يحكم الدولة الأثينية. ومن أجل ذلك كان إسقراط يعلم تلاميذه طريقة استعمال الألفاظ، كيف يضعونها في أوضح ترتيب، وفي تتابع منسجم ولكنه غير موزون، وفي عبارات مصقولة ولكنها غير مزخرفة، وكيف ينتقل بالأصوات والأفكار انتقالاً هادئاً سلساً (1)، وكيف تكون الجمل متزنة والوقفات كثيرة. وكان من رأيه أن هذا النثر يسر الأذن المهذبة بقدر ما يسرها الشعر. تخرج في هذه المدرسة كثيرون من الزعماء في عصر ديمستين: تموثيوس القائد، وإفورس وثيوبومس المؤرخان، وإسيوس، وليقورغ، وهبيريديز، وإسكنيز الخطباء، وإسيبوس خليفة أفلاطون، وأرسطاطاليس نفسه في رأي بعضهم (6).
_________
(1) مثال ذلك أن إسقراط - وحذا حذوه في ذلك معظم من جاء بعده من كتاب اليونان - كان يرى أن من الخطأ أن تختتم كلمة بأحد الحروف المتحركة، ثم تبدأ الكلمة التي تليها بحرف متحرك أيضاً.(7/424)
ولم يكن إسقراط يقنع بتكوين عظماء الرجال، بل كان يرغب في أن تكون له يد في تصريف شئون عصره. وإذا كان عاجزاً عن أن يكون خطيباً أو سياسياً فقد أخذ يؤلف النشرات. فكان يوجه خطباً طويلة لجمهور الأثينيين، وللزعماء أمثال فليب، أو لليونان المحتشدين في ساحات الألعاب اليونانية الجامعة؛ ولم يكن يلقي هذه الخطب، بل كان ينشرها، فابتدع بذلك على غير علم منه المقالة بوصفها فناً من فنون الأدب. وقد بقيت لنا تسع وعشرون من خطبه تعد من أكثر ما بقي من الأدب القديم إمتاعاً. وكانت خطبته الأولى العظيمة المعروفة باسم الجمعية العامة أو البانيجركس Panegyricus (1) مفتاح تفكيره كله والهدف الذي كان يبتغيه معلمه القديم غورغياس، وهو دعوة بلاد اليونان إلى نسيان سيادتها الصغيرة والاندماج في دولة واحدة. وكان إسقراط أثينياً فخوراً بموطنه - "لقد فاقت مدينتنا سائر بلاد العالم في أفكارها وخطبها حتى أصبح تلاميذها معلمي الدنيا بأجمعها"، لكنه كان يفخر بيونانيته أكثر من فخره بأثينيته؛ ولم يكن معنى الهلينستية عنده (2)، كما لم يكن معناها عند رجال العصر الهلينستي، هو الانتساب إلى جنس بعينه، بل كان معناه الاشتراك في ثقافة بعينها؛ وكان يشعر بأن هذه الثقافة هي أرقى ثقافة ابتدعها الإنسان في أي بلد من بلاد العالم (7)؛ وكان "البرابرة" يحيطون بهذه الثقافة من جميع الجهات - في إيطاليا، وصقلية، وإفريقية، وآسية، والبلاد المعروفة لنا الآن باسم بلاد البلقان. وكان يحزنه ويقض مضجعه أن يرى هؤلاء البرابرة يزيدون كل يوم قوة، وأن يرى بلاد الفرس تقوى سيطرتها على أيونية، على حين أن الدول اليونانية كانت تقضي على نفسها بحروبها الداخلية.
_________
(1) سميت كذلك لأنها كانت موجه إلى البانيجريس أو الجمعية العامة (بان - أجورا Pan-Agora) اليونانية في الدورة الأولمبية المائة.
(2) الهلينستية هي الاصطباغ بالصبغة اليونانية في غير بلاد اليونان الأصلية. (المترجم)(7/425)
"ما أكثر الشرور التي تلازم الطبيعة البشرية؛ ولكننا نحن قد اخترعنا من أكثر الشرور التي تفرضها علينا الطبيعة، بإثارة الحروب والانقسامات الداخلية ... ولم يقم أحد قط بمقاومة هذه الشرور، والناس لا يستحيون أن يبكوا من الكوارث التي اصطنعها الشعراء، على حين أنهم ينظرون بعين الرضا إلى ما تؤدي إليه الحرب القائمة بيننا من آلام حقة، وكوارث لا حصر لها. وهم لا يشفقون منها، بل إنهم ليبتهجون مما يصيب غيرهم من الأحزان أكثر من ابتهاجهم بما ينالون من النعم" (8).
وكان يقول إنه إذا كان لا بد لليونان أن يقاتلوا فلم لا يقاتلون عدواً حقيقياً؟ لم لا يطردون الفرس إلى هضابهم؟ ويتنبأ بأن شرذمة قليلة من اليونان تستطيع أن تهزم جيشاً كبيراً من الفرس (9). وقد توحد حرب مقدسة من هذا النوع بلاد اليونان في آخر الأمر، ولم يكن أمام اليونان إلا واحدة من اثنتين فإما وحدة اليونان وإما انتصار البرابرة ولا ثالثة لهما.
واعتزم إسقراط أن يحقق نظريته هذه عملياً، فأخذ يطوف ببحر إيجة بعد عامين من نشر هذه الدعوة (378) وبصحبته تلميذه السابق تموثيوس، وساعد على وضع شروط الحلف الأثيني الثاني. وكان ما تعاقب على هذه الأمل الجديد في الوحدة من قوة تارة وخيبة تارة أخرى من أشد الآلام الكثيرة التي مني بها في حياته الطويلة. فأخذ يقرع أثينة في نشرته القوية الجريئة "في السلم" لأنها أفسدت الحلف مرة أخرى فحولته إلى إمبراطورية، وأهاب بها أن توقع صلحاً يؤمن كل دولة يونانية من أن تعتدي عليها أثينة مرة أخرى: "إن ما تسميه إمبراطورية لهو في الحقيقة كارثة، لأنها بطبيعة تكوينها تفسد كل من له صلة بها" (10). ومن أقواله أن الاستعمار قد قضى على الدمقراطية لأنه علم الأثينيين أن يعيشوا على الجزية الأجنبية؛ فلما خسروا هذه الجزية أرادوا أن يعيشوا على(7/426)
الإعانات التي تقدمها لهم الدولة، ورفعوا إلى أعلى المناصب مَن وعدوهم بأكبر معونة:
"إنكم حين تتناقشون في أعمال الدولة ترتابون في أصحاب الذكاء الفائق ولا تحبونهم؛ وترفعون بدلاً منهم أخطر من يتقدم إليكم من الخطباء ... إنكم تفضلون السكارى عمن لا يتعاطون الخمر، ومن لا عقل لهم عن الحكماء، ومن يبددون أموال الدولة عمن يؤدون الخدمات العامة وينفقون عليها من مالهم الخاص" (11).
وكان أخف من هذا وطأة على الدمقراطية في خطابه الثاني المسمى الأريوبجستس. ويقول في إحدى فقراته التي تصدق على كل زمان: "إنا لنجتمع في حوانيتنا ندد بالنظام الحاضر، ولكننا نرى أن الدمقراطيات الفاسدة النظام نفسها تسبب من الكوارث أقل مما تسببه الألجركية" (12). ويتساءل، ألم تكن سيادة إسبارطة على بلاد اليونان أسوأ من سيادة أثينة؟ "ألم نصبح نحن جميعاً بفضل جنون "الثلاثين" أشد تحمساً للدمقراطية من الذين احتلوا فيلي (1)؟ " (13) ولكن أثينة قد قضت على نفسها بتجاوز الحد في الأخذ بمبدأ الحرية والمساواة، و"بتدريب المواطنين تدريباً يجعلهم يعدون الوقاحة دمقراطية، والخروج على القانون حرية، والسفاهة في القول مساواة، وقدرتهم على أن يفعلوا كل ما يشاءون سعادة" (14). "ليس الناس كلهم أكفاء، ويجب ألا يكونوا كلهم أكفاء، في تولي المناصب العامة". وكان يشعر أن نظام القرعة قد نزل بمستوى الحكم الأثيني إلى الدرك الأسفل، وأدى إلى أوخم العواقب. ويقول إن خيراً من "حكم الغوغاء" هذا "حكم الملاك" الذي كان يدعو إليه صولون وكليسثنيز لأن الجهل المحبب للناس، والفصاحة التي تبتاع بالمال، تقل أمامهما فرص
_________
(1) ثرازيبولس، وأنيتوس، وغيرهما ممن أعادوا الديمقراطية في عام 404.(7/427)
الارتقاء إلى مراتب الزعامة؛ ولأن القادرين من الناس يرقون رقياً طبيعياً إلى أعلى المناصب، فإذا تلقفهم الأريوبجس بعد فترة توليهم مناصبهم، أصبحوا من تلقاء أنفسهم عقل الدولة الناضج.
ولما عقدت أثينة الصلح مع فليب في عام 346، وكان إسقراط وقتئذ في سن التسعين، وجه إلى الملك المقدوني خطاباً مفتوحاً. وقد هداه تفكيره إلى أن فليب سيفرض سيادته على بلاد اليونان فتوسل إليه ألا يستخدم سلطانه كما يستخدم المستبدون سلطانهم، بل يستعين به على جمع شمل اليونان المستقلين وتوجيههم إلى حرب يحررون بها بلادهم من "صلح الملك"، وتحرير أيونيا من حكم الفرس، وأخذ حزب الحرب يطعن في هذا الخطاب ويصفه بأنه استسلام للطغيان، وظل إسقراط سبع سنين ممسكاً بقلمه يرد به على هذه التهمة. ثم كتب خطبة أخرى في عام 339 موجهاً الخطاب إلى اليونان الذين اجتمعوا لمشاهدة الألعاب الأثينية الجامعة. وكانت "الخطبة الأثينية الجامعة (البان أثنيكس Panathenaicus) " تكراراً ضعيفاً مسهباً لخطبة الجمعية العامة. فنحن نحس أسلوبها يرتجف في يد الشيخ الطاعن في السن، ولكنها مع ذلك عمل عجيب من رجل لا تنقص سنه عن قرن كامل إلا ثلاث سنين. وفي عام 338 دارت معركة قيرونية وهزمت فيها أثينة، ولكن ما كان يحلم به إسقراط من وحدة بلاد اليونان أوشك أن يتحقق. وتقول إحدى الروايات اليونانية التي ذاعت بعدئذ إنه لما بلغه الخبر لم يفكر في فليب أو في الوحدة، بل كان تفكيره كله في مدينته التي ذُلت، وفي أيام مجدها التي ولت؛ وإنه بعد أن بلغ ثمانية وتسعين عاماً وبلغ من العمر كفايته أمات نفسه جوعاً (15). ولسنا نعرف هل هذه القصة صادقة أو كاذبة، ولكن أرسطاطاليس يحدثنا بأن إسقراط مات قبل أن تمضي على قيرونية خمسة أيام.(7/428)
الفصل الثالث
أكسانوفون
إذا كان أثر "الشيخ الفصيح" في ساسة عصره قابلاً للشك، فإن أثره في الأدب كان أثراً عاجلاً وخالداً (1). وكان المؤرخون أول مَن أحسوا بهم، فلقد قلده أكسانوفون وغيره من المؤرخين في الصورة التي رسمها لإفجروس Evagoras (2) ؛ وأصبحت السير من بعده فناً شائعاً من فنون الأدب اليوناني، بلغت غايتها في روائع بلوتارخ الثرثارة. وقد عهد إسقراط إلى تلميذ من تلاميذه يدعى إفورس Ephorus أن يضع تاريخاً عاماً لبلاد اليونان - لا يؤرخ حوادث دولة واحدة من دوله بل يؤرخ لبلاد اليونان بوجه عام. وقام إفورس بما عهد إليه خير قيام وأجاده إجادة حملت معاصريه على أن يضعوا كتابه "التاريخ العام" في مستوى كتاب هيرودوت. وخص إسقراط تلميذاً آخر هو ثيوبمبس الطشيوزي بتأريخ الحوادث القريبة العهد، فصدع ثيوبمبس بالأمر ووصف هذه الحوادث في كتابيه الهلينيكا والفلبيكا وهما مؤلفان رائعان يمتازان بحيويتهما وعباراتهما اللاذعة، وحازا إعجاب معاصريه. وكتب دسياركس Dicaearchus المسانى ( of Messana) حوالي عام 340 تاريخاً للحضارة اليونانية عنوانه حياة اليونان ( Bios Hellados) . ألا ما أقدم هذه المغامرة التي أقدمنا نحن عليها، وما أعظم الشبه بين ذلك العمل القديم وعملنا هذا الذي يتفق معه حتى في الاسم.
ولم يخلد من مؤرخي القرن الرابع أحد غير أكسانوفون. ويصفه ديوجانس ليرتيوس في شبابه بقوله:
_________
(1) لقد بنا شيشرون، وملتن، وماسيون، وجرمي تيلر، وإمندبيرك أسلوبهما النثري على الجمل المتزنة الطويلة التي هي من خصائص أسلوب إسقراط.
(2) الطاغية المستنير الذي أدخل الثقافة اليونانية في قبرص 410 - 387.(7/429)
كان أكسانوفون رجلاً شديد التواضع، وسيماً كأعظم ما يتصور الإنسان الوسامة؛ ويقال إن سقراط التقى به في حارة ضيقة فسد عليه مدخلها بعصاه، ومنعه أن يخرج منها، وأخذ يسأله عن الأماكن التي تباع فيها كثير من ضرورات الحياة. فلما أجابه أكسانوفون عن أسئلته سأله من جديد أين يصنع الرجال الطيبون الأفاضل؟ ولما عجز أكسانوفون عن الإجابة قال له سقراط: "اتبعني إذن وتعلم مني" وأصبح أكسانوفون من ذلك الوقت أحد أتباع سقراط (17).
وكان أشد تلاميذه ميلاً إلى الفلسفة العملية، وكان يعجبه في سقراط قوة حيلته الجذابة ويرى أنه قديس فيلسوف. ولكنه كان يُعجب بالعمل كما يُعجب بالتفكير، ولذلك صار جندياً مغامراً على حين أن غيره من رجال العلم كانوا كما يقول فيهم أرسطوفان مستهزئاً "يقيسون الهواء" (18).
وخدم وهو في سن الثلاثين أو ما يقرب منها في جيش قورش الأصغر وحارب في كونكسا وقاد العشرة آلاف إلى النجاة. وفي بيزنطية انضم إلى الإسبارطيين في حربهم ضد الفرس وأسَر ميديَّاً غنياً، وقبلَ مبلغاً كبيراً من المال فدية له، وعاش من هذا المال بقية أيام حياته، وأصبح بعد تلك الحرب صديقاً لأجسلوس ملك إسبارطة، وأعجب به، وترجم له ترجمة تدل على هذا الإعجاب، وعاد إلى بلاد اليونان مع أجسلوس بعد أن أعلنت أثينة الحرب على إسبارطة، وآثر الولاء له على الولاء لمدينته؛ فلم يكن من أثينة إلا أن أعلنت نفيه وصادرت أملاكه؛ وحارب في صفوف اللسديمونيين في قورونية وكوفئ على هذا بضيعة في سِلس Scilus من أعمال إيليس Elis، وكانت وقتئذ تحت سيطرت إسبارطة، وقضى فيها عشرين عاماً يعيش عيشة سادات الريف، يزرع ويصطاد، ويكتب، ويربي أولاده تربية صارمة على الطريقة الإسبارطية (19).
ونحن مدينون بنفيه إلى كتبه المختلفة التي رفعته إلى المقام الأول بين المؤلفين في زمانه. وكان يكتب، إذا حلت له الكتابة، في تدليل الكلاب، وترويض(7/430)
الخيل وتدريب الزوجة، وتربية الأمراء، والحرب إلى جانب أجسلوس، أو جباية المال لأثينة. وقد قص في الآباباسيس بأسلوبه العذب السائغ أسلوب الرجل الذي شاهد الأعمال التي يصفها أو اشترك بنفسه فيها، قص في هذا الكتاب قصة مسيرة العشرة آلاف إلى البحر، وهي القصة المثيرة التي لا سند لها غيره. وفي كتابه الهلينيكا واصل قصة بلاد اليونان من حيث انتهى توكيديدز، إلى واقعة منتينيا التي قتل فيها ولده جريس وهو يحارب ببسالة بعد أن قتل بيده أباميننداس. والكتاب في حد ذاته سرد ممل للحوادث يدل على أن كاتبه يفهم التاريخ على أنه سلسلة لا نهاية لها من الوقائع الحربية، وسرد للانتصارات والهزائم ومحاولة غير مجدية لتعليلها منطقياً. والأسلوب قوي، والشخصيات واضحة، لكن الحوادث قد أحسن اختيارها لكي يثبت تفوق الأساليب الإسبارطية. وفي كتاب أكسانوفون تعود الخرافات التي كانت قد اختفت من التاريخ في كتاب توكيديدز، وهو يستند إلى القوى غير الطبيعية ليفسر بها سير الحوادث. وبمثل هذه السذاجة أو هذا النفاق تحيل الممورابيليا سقراط إنساناً كاملاً إلى حد لا يصدقه عقل سليم، فهو مستمسك بالدين القويم، والأخلاق الفاضلة، والحب العذري، وقصارى القول أنه مكمل في كل شيء إذا استثنينا احتقاره للدمقراطية، ذلك الاحتقار الذي حببه إلى قلب أكسانوفون الطريد. وكتابه "المائدة" أقل من هذا الكتاب الأخير جدارة بالثقة. وهو ينقل حديثاً يزعم أنه دار حين كان لا يزال أكسانوفون طفلاً.
اما في الإكونمكس Oeconomicus فإن أكسانوفون يتحدث في الميدان الذي يحق له أن يتحدث فيه، ويكشف عن نزعته التحفظية بصراحة تسحر عقولنا على الرغم منا. لقد كان أكسانوفون خبيراً في الزراعة، وشاهد ذلك أنه لما طلب إلى سقراط ان يعلم فنونها أقر في كثير من التواضع بجهله، ولكنه ذكر نصيحة المالك الثري إسكوماكس Ischomachus والمثل الذي ضربه للناس بنفسه. ويجهر إسكوماكس هذا باحتقار أكسانوفون لكل عمل(7/431)
عدا الزراعة والحرب، ولا يكتفي بشرح أسرار النجاح في الأعمال الزراعية، بل يشرح معها فن إدارة الرجل أملاكه وأملاك زوجته. ويحدثنا إسكوماكس في أسلوب لا يكاد يقل رشاقة عن أسلوب أفلاطون كيف علم عروسه أن تعنى بمنزلها، وتضع كل شيء في مكانه، وتسوس خدمها بالرفق من غير أن تختلط بهم وتفقد منزلتها في أعينهم، وتشتهر بين الناس، لا بجمالها المصطنع، بل بإخلاصها في أداء واجباتها بوصف كونها زوجة، وأماً، وصديقة. والزواج في رأي إسكوماكس - أكسانوفون رابطة اقتصادية وجسمية معاً، وهو يضمحل حين يقوم الشريك الصامت بالعمل كله. ولعل حديثه عن استعداد الزوجة الشابة لقبول هذا كله لا يعدو أن يكون أمنية يتمناها ذلك القائد الذي لم ينل نصراً ما في ميدان البيت؛ ولكننا لا يمنعنا مانع من أن نصدق كل شيء في القصة إلا أن إسكوماكس قد استطاع في لحظة وجيزة أن يقنع زوجته بترك المساحيق والأصباغ الحمراء (20).
وبعد أن شرح أكسانوفون فن الزواج أخذ يصف في القيروبيديا (أي تربية قورش) مثله العليا في التعليم والحكم، كأنه يرد بها على آراء أفلاطون في الجمهورية. وكان أكسانوفون بارعاً في تكييف السير الخرافية لخدمة الفلسفة، فأخذ يروي قصة خيالية عن تعليم قورش الأكبر، وحياته، ونظامه الإداري؛ وهو يجعل القصة شخصية مسرحية، ويبعث فيها الحياة بحواره، ويجملها بما يدخله فيها من أقدم قصص الحب في الآداب التي كانت موجودة في زمانه. ويكاد يغفل في كتابه التربية الثقافية، ويركز اهتمامه في كيفية جعل الغلام رجلاً صحيح الجسم، قادراً، شريفاً؛ فالصبي يتعلم الألعاب الرياضية الخليقة بالرجال، وفنون الحرب، وعادة الصمت والطاعة، ويتعلم أخيراً كيف يسيطر على مرءوسيه سيطرة قوية قائمة على الإقناع. ويرى أكسانوفون أن خير أنواع الحكم هو الحكم الملكي المستنير الذي تؤيده وتحد منه أرستقراطية متخصصة في الأعمال الزراعية والشئون الحربية. وهو يعجب بقوانين الفرس التي تقضي بمكافأة المحسن وعقاب المسيء (21)،(7/432)
ويقول لليونان ذوي النزعة الفردية إن من المستطاع ضم كثير من المدن والدول في إمبراطورية واحدة تستمتع بالنظام والسلم في الداخل، ويضرب لهم بلاد الفرس مثلاً. ولقد بدأ أكسانوفون كما بدأ فليب وهو يحلم بالفتح وبسطة الملك، وينتهي كما انتهى الإسكندر أسير حب الشعوب التي فكر في التغلب عليها.
وهو قصاص بارع، ولكنه فيلسوف وسط. وهو هاوٍ في كل شيء عدا الحرب، يبحث في مائة موضوع وموضوع، ولكنه يبحث فيها على الدوام بعقلية العسكري. وهو يبالغ في مزايا النظام، ولا يجد كلمة يقولها عن الحرية؛ وفي مقدورنا أن نستدل من هذا على مقدار ما بلغه الاضطراب في أثينة. وإذا كان القدامى قد وضعوه في مرتبة هيرودوت وتوكيديدز، فذلك راجع من غير شك إلى أسلوبه الذي يمتاز بصفائه الأتكي الساحر الطلي، ونثره السلس المتدفق المنسجم الذي وصفه شيشرون بأنه "أحلى من الشهد" (22)، وإلى اللمحات الشخصية التي تُكسب الموضوع حياة وإنسانية، وإلى لغته ذات البساطة والثقافة التي تمكن القارئ أن يرى من خلال هذا الوسط الصافي الرأي أو الموضوع الذي يعالجه الكاتب. وإن الصلة التي بين أكسانوفون وأفلاطون من جهة وتوكيديدز وسقراط من جهة أخرى لشبيهة كل الشبه بالصلة التي بين أبليز وبركستليز من ناحية وبلجنوتس من الناحية الأخرى - فقد بلغت أناقة الأسلوب والمهارة الفنية على أيديهما أعلى منزلتهما بعد عصر من الابتكار في التفكير وقوة الأسلوب.(7/433)
الفصل الرّابع
أبليز
إن الذي بلغ فيه القرن الرابع إلى الذروة لم يكن الأدب بل الفلسفة والفن؛ ذلك أن الفرد قد تحرر فيه، كما تحرر في السياسة، من المعبد ومن الدولة، ومن التقاليد ومن المدرسة. فلما أن حل الولاء الفردي محل الإخلاص الوطني، نزل فن العمارة إلى الدرجة الوسطى، وازداد طابعه الدنيوي شيئاً فشيئاً، واضمحل شأن تمثيليات الموسيقى والرقص وحل محلها تمثيل يقوم به أفراد محترفون، وظل التصوير والنحت يزينان المباني العامة بصور طرز من الآلهة أو النبلاء، ولكنهما في الوقت ذاته دخلا في خدمة الأفراد الأحياء وشرعا يصورانهم حتى أصبح هذا طابع العصر الذي أعقب ذلك القرن. وإذا كانت بعض المدن قد ظلت تناصر الفن مناصرة قوية واسعة النطاق، فما ذلك إلا لأنها كانت كمدائن نيدس، وهليكرنسس، وإفسوس لم تجتاحها الحرب اجتياحاً تاماً، أو كسراقوصة قد وجدت في مواردها الطبيعية ونظام حكمها وسائل الانتعاش العاجل.
وأما فن العمارة في أرض اليونان الأصلية فقد كان في ذلك الوقت واقفاً يترقب لا يتقدم ولا يتأخر وإن كانت قد شُيدت فيه بعض العمائر. من ذلك أن ليقورغ جدد في عام 338 بناء ملهى ديونيشيوس، وساحة الألعاب، واللوقيون؛ وشاد فيلون بإشرافه دار صنعة كبيرة رائعة في بيرية. ولما أن ازداد ميل الناس إلى الرقة والدقة في البناء فقد الطراز الدوري جدته وانصرف الناس عنه، لأن بساطته الصارمة لم تعد تستجيب لها النفس، وارتفع شأن الطراز الأيوني وازداد انتشاراً، وكان هذا في الفن يقابل ظرف بركستليز في النحت وسحر أفلاطون في الأدب. وأنشئ على الطراز الكورنثي "برج الرياح"(7/434)
والنصب التذكاري للتمثيل في لسكرتيز Lysicartes. وشاد اسكوباس Scopas في تيجيا Tegea الأركادية هيكلاً لأثينة جمع فيه بين الطرز الثلاثة، فكانت فيه مجموعة من العمد الدورية، وأخرى أيونية، وثالثة كورنثية (23)، ثم جمّله بالتماثيل نحتها بيده الصناع العضلية.
وكان التمثال الثالث المقام لأرتميس في إفسوس أكبر من هذا وأعظم شهرة؛ وكان التمثال الثاني قد احترق يوم ولد الإسكندر في عام 356؛ وتلك مصادفة يقول عنها بلوتارخ بظرفه المعهود إن هجسياس المغنيزي Hegesias of Magnesia " اتخذها سبباً لغرور بلغ من البرودة حداً يكفي لإخماد النار" (24). وسرعان ما بُدئ بإقامة البناء الثاني، ولم ينته ذلك القرن حتى كان البناء قد تم. وعرض الإسكندر أن يتحمل جميع نفقات المبنى كلها إذا نُقش اسمه على هذا الصرح، وقيل إنه أقيم من ماله؛ ولكن يونان إفسوس أبت عليهم عزة نفسهم أن يقبلوا هذا العرض، وكانت حجتهم في رفضه حجة لا تستطاع مقاومتها (أو لعلهم أرادوا بها هجو الإسكندر والسخرية منه) وهي أنه "لا يليق أن ينشئ إله هيكلاً لإله آخر" (25). غير أن الذي حدث رغم هذا أن مهندس الإسكندر المقرب إليه هو الذي رسم مبنى الهيكل وجعله أكبر هياكل هلاس على الإطلاق. وقام عدد من المثالين بعمل النقوش القليلة البروز على ستة وثلاثين عموداً، وكان من بينهم اسكوباس الذي نرى له نقوشاً في كل مكان في بلاد اليونان. وفي المتحف البريطاني صفحة من أحد هذه العمد، نحتت عليها تماثيل، وكأنها قد قاومت عوادي الزمان لكي تثبت بما عليها من تصوير للثياب دون غيره أن فن النحت اليوناني لا يزال قريباً جداً من ذروته. وليست رؤوس التماثيل جامدة نحتت على غرار طرز حددتها التقاليد والأجيال الطوال، ولكنها تمثل وجوهاً لأفراد تنبض بالشعور والمميزات الخلقية - وتبشر بالواقعية الهلنستية.
وفي الأحجام الصغيرة امتاز القرن الرابع بالتماثيل الصغيرة المصنوعة من(7/435)
الآجر المحروق. وقد أضحى اسم تنجارا البؤوتية Boeotiam Tangara مرادفاً للتماثيل الصغيرة المصنوعة من الصلصال المحروق غير المزجج المصبوب على غرار طرز عامة، ولكنه يُشكَّل ويلون باليد فتخرج منه آلاف من الصور الفردية التي تنبعث فيها ألوان الحياة العامة على اختلاف أشكالها. وكان يلجأ إلى التصوير في هذا القرن كما كان يلجأ إليه في القرون السابقة له لمساعدة غيره من الفنون. غير أنه قد أصبحت له وقتئذ كرامة ومنزلة مستقلة، وأضحى أساتذته يُستدعَون لأداء أعمال فنية في جميع أنحاء العالم اليوناني. وكان بمفيلس الأمفبلوسي Panphilus of Amphipolis معلم أبليز يرفض أي تلميذ لا يبقى عنده اثنتي عشرة سنة كاملة، وكان يطلب ما يعادل ستة آلاف ريال أمريكي لتدريس المنهج. وقد أدى ناسون Mnason طاغية إلاتيه اللكرية Locrian Elatea عشر مينات أجراً عن كل صورة من المائة الصورة في منظر واقعة حربية رسمه أرستيدز الطيبي، وبذلك حصل هذا الرسام على مائة ألف ريال أمريكي أجراً لرسم منظر واحد، وهذا الطاغية المتحمس نفسه وهب اسكلبيودورس ما يعادل 000ر360ريال أمريكي أجراً للوحة صُور عليها الاثنا عشر الكبار من الآلهة الأولمبية. ودفع ما يعادل 000ر12 ريال أمريكي ثمناً لنسخة ثانية من الصورة الملونة التي رسمها بوسياس السشيوني لجلسيرا عشيقة مناندر (26). ويقول بلني إن صورة من عمل أبليز كانت تباع بثمن يعادل ما في خزائن مدائن بأجمعها (27).
ويقول هذا الهاوي المتحمس نفسه أن "أبليز القوسي فاق كل من عداه من المصورين السابقين واللاحقين، وإنه بمفرده أفاد فن التصوير كما لم يفده جميع المصورين مجتمعين" (28). وما من شك في أن أبليز كان أعظم أهل فنه وأهل زمانه، ولولا ذلك لما استطاع أن يسرف هذا الإسراف النادر في مدح غيره من المصورين؛ من ذلك أنه لما علم أن بروتجنبر أكبر منافسيه يعيش في فقر مدقع، سافر إلى رودس لزيارته. ولم يكن بروتجنيز في مرسمه حين أقبل أبليز(7/436)
لأن أحد لم ينبئه بهذه الزيارة. وقابلت الزائر خادم عجوز وسألته عن اسمه لتبلغه إلى سيدها بعد أن يعود. فما كان جواب أبليز إلا أن أخذ فرشاة ورسم على لوحة إطار غاية في الدقة بجرة واحدة. ولما عاد بروتجنيز وأخبرته الخادم العجوز أنها تأسف لأنها لا تستطيع أن تخبره باسم الزائر، ثم اطلع على الإطار وشاهد دقته، صاح قائلاً: "إن أحد لا يستطيع رسم هذا الإطار إلا أبليز". ثم رسم في داخله إطار أدق منه وأمر المرأة أن تطلع عليه الزائر الغريب إذا عاد. وعاد أبليز فعلاً ودُهش من حذق بروتجنيز الغائب، ولكنه رسم بين الإطارين إطاراً ثالثاً بلغ من الرقة والرشاقة حد لم يسع بروتجنيز معه حين رآه إلا أن يعترف أن منافسه قد غلبه، ثم أسرع إلى الميناء ليستبقي أبليز ويرحب به. وانتقلت هذه الآية الفنية من جيل إلى جيل حتى اشتراها يوليوس قيصر، ثم احترقت في النار التي دمرت قصره القائم على تل البلاتين. وتاقت نفس أبليز إلى أن يوقظ في العالم اليوناني الاهتمام ببروتجنيز وتقدير قيمته فسأله أن يخبره كم من المال يطلب ثمناً لبعض رسومه؛ ولما طلب بروتجنيز مبلغاً متواضعاً عرض عليه أبليز بدلاً منه خمسين وزنة (000ر300 ريال أمريكي)، ثم أذاع أنه سيبيع هذه الرسوم زاعماً أنها من صنع يده. وكان هذا الإعلان سبباً في أن أهل رودس قدروا عمل فنانهم خيراً من ذي قبل فدفعوا إلى بروتجنيز أكثر مما عرضه عليه أبليز واحتفظوا بالصور بين كنوز مدينتهم (29).
وكان أبليز في هذه الأثناء قد نال إعجاب العالم اليوناني كله بصورة أفرديتي أنديوميني Aphrodite Anadyomene أي أفروديتي الخارجة من البحر. وأرسل الإسكندر في طلبه وعرض عليه أن يرسمه في مواقف كثيرة. ولم تعجب الشاب الفاتح صورة لجواده بسفالس Bucephalies في أحد هذه الرسوم، وأمر بأن يقرب الجواد من الصورة ليوازن بينه وبينها، فلما نظر الجواد إلى صورته صهل، فقال أبليز للإسكندر "يلوح أن جواد(7/437)
جلالتك يعرف عن التصوير أكثر مما تعرف" (30). وكان الملك في مرة أخرى يتحدث عن الفن في رسم أبليز، فرجاه الفنان أن ينتقل إلى موضوع آخر حتى لا يسخر منه الغلمان الذين يسحقون الألوان، ولم يغضب الإسكندر من هذا القول. ولما أن استخدم الفنان في تصوير حظيته المحبوبة، وشغف بها أبليز أهداها إليه الملك (31). وكان أبليز يغطي صوره بعد الفراغ منها بطبقة رقيقة من الطلاء؛ تحفظ الألوان، وتخفف من بريقها ولكنها تجعلها أكثر بهجة وإمتاعاً من ذي قبل. وظل أبليز يعمل إلى آخر أيامه ووافته المنية وهو يعمل مرة أخرى في تخطيط صورة أفرديتي الخالدة.(7/438)
الفصل الخامِس
بركستليز
وكانت خير آيات النحت في ذلك العصر وأعظمها روعة هي الضريح الذي أقيم لموسولوس Mausolus ملك هليكرنسس. وكان موسولوس مرزباناً من مرازبة الفرس بالاسم، ولكنه بسط سلطانه على كاريا Caria وأجزاء من أيونيا وليشيا Lyoia، واستخدم موارده الكثيرة في إنشاء أسطوله وتجميل عاصمته. ولما مات (353) أقامت أخته وهي أيضاً زوجته مباراة شهيرة في الخطابة تكريماً له، واستدعت أشهر الفنانين اليونان ليشتركوا في إقامة ضريح يكون تذكاراً جديراً بعبقريته. وكانت ملكة بطبعها كما كانت بزواجها. ولما أن اغتنم أهل رودس فرصة موت الملك وغزوا كاريا غلبتهم بحيلها واستولت على أسطولهم وعاصمة بلادهم، وما لبثت أن أملت شروطها على أولئك التجار الأثرياء (32). ولكن حزنها على وفاة موسولوس هد ركنها فلم تعش بعده أكثر من عامين، قبل أن يتم الضريح الذي صار فيما بعد حديث الناس كلهم في بلاد الغرب. وكان اسكوباس، وليوكاريز Leochares، وبريكسيس Bryaxis، وتمثيوس يعملون في جد وأناة لإقامة ضريح رباعي الشكل من ألواح من الرخام الأبيض فوق قاعدة من الآجر، ويغطونه بسقف هرمي، ويزينونه بستة وثلاثين عموداً، وبطائفة كبيرة من التماثيل الصغيرة والنقوش. وقد عثر الإنجليز في خرائب هليكرنسس عام 1857م على تمثال لموسولوس يظهره رجلاً هادئاً قوياً. وكان أعظم من الضريح نفسه صقلا إفريز (1) يمثل مرة أخرى كفاح اليونان مع المحاربات الخرافيات الأمزونيات. ويعد هذا النقش وما فيه من رجال
_________
(1) وهما الآن في المتحف البريطاني.(7/439)
ونساء وجياد من أعظم روائع العالم كله في النقش القليل البروز. وليست الأمزونيات التي به نساء مسترجلات خُلقن للحرب، بل هن نساء ذوات جمال شهواني، وما أخلقهن بأن يثرن في اليونان عواطف أرقى من عاطفة الحرب. وقد أضحى هذا الضريح هو وهيكل إفسوس الثالث من عجائب العالم السبع.
وبلغ فن النحت وقتئذ ذروة مجده من نواح كثيرة. نعم إنه كان ينقصه الحافز الديني، ولم يبلغ ما بلغته قواصر البرثنون من جلال وقوة، ولكنه استمد إلهاماً جديداً من الرشاقة النسوية، وبلغ من الجمال ما لم يبلغه ذلك الفن قبل هذا الوقت أو بعده. لقد صور القرن الخامس رجالاً عراة، ونساء مكتسيات، أما القرن الرابع فقد آثر أن ينحت نساء عاريات ورجال مكتسين؛ وجعل القرن الخامس نماذجه مثلاً عليا يحتذي الفنانون حذوها ولا يحيدون عنها، وصبوا أو نحتوا حياة الإنسان الشقية في صورة خلائق مجردين من العواطف يستريحون من عناء تلك الحياة وشئونها؛ أما القرن الرابع فقد حاول فنانوه أن يمثلوا في الحجر شيئاً من الفردية والإحساسات البشرية. وأضحت للرأس والوجه في صور الرجال أهمية أكثر مما كان لها من قبل، وقلت أهمية الجسم نفسه، وحلت دراسة الأخلاق محل عبادة القوة العضلية، وتسابق كل من كان ذا مال على أن تكون له صورة من حجر؛ وتحرر الجسم من وضعه الجامد المعتدل، وصار يتكئ مستريحاً على عصا أو شجرة؛ ومُثل فيه التفاعل الحي للضوء والظل. وقد بلغ من حرص ليسستراتس السكيوني على أن يكون واقعياً إلى أقصى حد، أن كان يعمل غلافاً من الجص فوق وجه الشخص المراد تصويره، ويصب فيه القالب المبدئي، ولعله كان أول من فعل هذا من اليونان (33).
وبلغ تمثيل جمال الجسم ورشاقته حد الكمال على يد بركستليز. والعالم كله يعرف أنه أحب فيريني Phyrene، وأنه صور جمالها تصويراً مخلداً، ولكن أحداً من الناس لا يعرف متى ولد هذا الفنان أو متى توفي. وكان(7/440)
ابناً وأباً لمثالين يعرفان باسم سفسدوتس Cephissdotus، ولذا يحق لنا أن نقول إنه يمثل أعظم ما بلغته تقاليد أسرة من الفنانين المجدين الصابرين. وكان يعمل في البرنز والرخام على حد سواء، وبلغ من شهرته أن كانت اثنتا عشرة مدينة تتنافس للحصول على خدماته؛ منها كوس التي عهدت إليه في عام 360 أن ينحت لها تمثالاً لأفرديتي؛ فنحت لها هذا التمثال بمساعدة فيريني، ولكن الكوسيين ساءهم أن وجدوا الإلهة مجردة من الثياب، فما كان من بركستليز إلا أن هدأ ثورة غضبهم بأن صنع لها تمثالاً آخر مكتسياً، وابتاعت نيدس التمثال الأول. وعرض نكومديز ملك بيثيا على نيدس أن يبتاع هذا التمثال بكل ما على المدينة من ديون، ولكن نيدس آثرت المجد الخالد على العرض الزائل. وأقبل السياح من جميع بلاد البحر الأبيض المتوسط ليشاهدوا التمثال، وحكم الخبراء على أنه أجمل تمثال صنع حتى ذلك الوقت في بلاد اليونان كلها، وقال الثرثارون إن الرجال كانت تستثار عواطفهم إلى حد الجنون حين يشاهدون هذا التمثال (1).
وكما أذاع تمثال أفرديتي شهرة نيدس في الخافقين، كذلك اجتذبت بلدة ثسبيا الصغيرة إحدى بلاد بؤوتة مسقط رأس فيريني السائحين، لأن فيريني قد وضعت فيها تمثالاً لإيروس (الحب) من نحت بكستليز. ذلك أنها سألته يوماً ما أن يقدم لها برهاناً على حبه أجمل تمثال في منحته، وأراد أن يترك لها الخيار؛ ولكن فيريني أرادت أن تكشف بنفسها عن تقديره لأعماله، فهرولت إليه في يوم من الأيام وأخبرته أن منحته يحترق؛ فلما سمع هذا النبأ صاح قائلاً "إن كان تمثال جني الغاب وتمثال إيروس قد احترقا فيالهول النكبة" (35)
_________
(1) وفي متحف الفاتيكان صورة تطابق صورة هذا التمثال المنقوشة على النقود النيدية التي عُثر عليها في أنقاض المدينة.(7/441)
واختارت فيريني من فورها تمثال إيروس وأهدته إلى مسقط رأسها (1). وكان إيروس في أول أمره إله هزيود Hesiod وخالقه، ثم استحال في تفكير بكستليز شاباً حالماً رقيقاً، يرمز إلى سلطان الحب على النفوس؛ ولم يكن قد أصبح بعد كيوبت Cupid اللعوب الخبيث الذي نعرفه في الفنين الهلينستي والروماني.
ولعل تمثال جِنّي الغاب المحفوظ في متحف الكبتولين برومة والمعروف باسم إله الحقول والرعاة الرخامي صورة من التمثال الذي فضله بركستليز على تمثال إيروس. ويظن بعضها أن جذع التمثال المحفوظ في متحف اللوفر من التمثال الأصلي نفسه (36). وتمثال الجِنّي يصوره في صورة غلام متين البنية مبتهجاً سعيداً، ليس فيه من جسم الحيوان إلا أذناه الطويلتان القائمتان؛ وهو يتكئ متراخياً على جذع شجرة وقد لف إحدى قدميه بالأخرى. وقل أن تجد في الرخام تمثيلاً أصدق من هذا للراحة الكاملة. فأنت ترى تراخي الحدوثة الساحر بادياً في الأطراف المرتخية والوجه المطمئن الواثق. وربما كانت الأطراف مستديرة ناعمة فوق ما يجب أن تكون؛ وذلك لأن بركستليز لم يستطع بطول نظره إلى فيرين أن يمثل الرجال تمثيلاً صادقاً. ويؤيد ذلك أن تمثال أبلو قاتل العظايا Apolls Sauroctomus نسائي إلى حد يكاد يحملنا على أن نضمه إلى تماثيل المخنثين الكثيرة بين التماثيل الهلينستية.
ويقول بوسنياس في عبارة موجزة إيجازاً يؤسف له إن من بين تماثيل هيرايوم Heraeum وفي أولمبيا تمثالاً "من الحجر لهرمس يحمل ديونيشس من عمل بكستليز" (37). وبينما كان علماء الآثار الألمان ينقبون في هذا
_________
(1) وأمر نيرون فجيء به إلى رومة، حيت أحرق في النار التي شبت عام 64م وقد يكون تمثال كيوبت السنتوسي Cupid of Centocelle المحفوظ في الفاتيكان صورة منقولة عنه.(7/442)
المكان عام 1877م، إذ توجت جهودهم بالعثور على هذا التمثال مطموراً في طبقات من الأقذار والطين ظلت تتراكم عليه عدة قرون. وليس في وسع القارئ أن يتخيل صورة حقيقية له من وصفه، وصوره الشمسية، والنماذج التي تعمل له، بل على الإنسان أن يقف خاشعاً أمامه في متحف أولمبيا الصغير، ويمر بإصبعه خلسة على سطحه، لكي يدرك ما في نسيج هذا اللحم الرخامي من نعومة وحياة. أما موضوعه فهو أن الإله الرسول قد عهد إليه إنقاذ الطفل ديونيشس من غيرة هيرا وحمله إلى حور الغابات والبحيرات ليربينه في السر. ويقف هرمس في الطريق، ويضطجع على جذع شجرة ويمسك بعنقود من العنب أمام الطفل. وليس تمثال الطفل نفسه جيد الصقل، كأن تمثال الإله الأكبر قد استنفذ جميع وحي الفنان. وقد ضاعت ذراع هرمس اليمنى وأعيدت إليه بعض أجزاء من الساقين، أما بقية الجسم فيبدو أنها هي كما صاغتها يد المثال. وتكشف الأطراف المتينة ويكشف الصدر العريض عن قوة الجسم وصحته؛ والرأس في حد ذاته آية فنية رائعة بجماله الأرستقراطي، ومعارفه الرقيقة وشعره المنثني، والقدم اليمنى قد بلغت درجة الكمال حيث يندر الكمال في التمثيل. وكان الأقدمون يعدون هذا التمثال من أعمال الفنان الصغرى، وفي وسعنا أن نحكم من هذا على مقدار ما كان يمتاز به هذا العصر من ثروة فنية عظيمة.
ويصف بوسنياس (38) في فقرة أخرى مجموعة رخامية أقامها بكستليز في منتينيا. ولم يعثر المنقبون إلا على قاعدة هذه المجموعة، تحمل تماثيل لثلاث من ربات الفن لعل الذين نحتوها هم التلاميذ لا الأستاذ نفسه. وإذا جمعنا ما في بوسنياس من إشارات إلى تماثيل بركستليز في الكتابات اليونانية التي كانت موجودة في أيامه، خرجنا منها بنحو أربعين من الأعمال الكبرى (39)؛ وما في شك في أن هذه الأربعين لم تكن إلا جزءاً من إنتاجه العظيم. ونحن إذا درسنا القطع الباقية من هذه الأعمال نجد فيها ما نجده في تماثيل فدياس(7/443)
من سمو وقوة وهيبة وإجلال، وترى الآلهة قد أخلت مكانها لفيريني، وترى مشاكل الحياة القومية الكبرى قد أغفلت ليحل محلها الحب الفردي. ولكن ما من مثال قد فاق بركستليز في دقة الصياغة، وفي قدرته التي تكاد تبلغ حد الإعجاز على أن يمثل في الحجر الصلب الراحة والرشاقة، وأرق العواطف وبهجة الحواس، والاستمتاع بالغابات. لقد كان فدياس فناناً دورياً وأما بكستليز فكان أيونياً، وإنا لنجد فيه مرة أخرى ما ينذر بغزو أوربا الثقافي الذي أعقب انتصارات الإسكندر.(7/444)
الفصل السّادس
اسكوباس وليسبوس
لقد كان اسكوباس لبيرن Byron كما كان فيدياس لملتن وبكستليز لكيتس Keats. ولسنا نعرف شيئاً عن حياة المَثال القديم إلا من أعماله، وهي الترجمة الحقة لأي إنسان؛ ولكننا لا نعرف أعماله نفسها معرفة أكيدة موثوقاً بصحتها. وإن الرؤوس القصيرة الممتلئة المنفرة للتماثيل المعزو له، أو النسخ التي يقال إنها منقولة عن التماثيل الأصلية، لتظهره في صورة الرجل المسرف في قوته وفي نزعته الفردية. ولقد سبق القول إنه كان يعمل في تيجيا مهندساً معمارياً ومثالاً معاً، وإنه لا يفوقه في قوته وتعدد كفاياته أحد في جميع القرون التي بين فيدياس وميكل أنجلو. وكل ما عثر عليه المنقبون من أعماله قطع قليلة من قوصرة، أهمها رأسان أصيبا بكثير من التلف يمتازان بقصرهما وعرضهما واستدارتهما وبالنظرة العابسة الجافة، وهي الصفات الغالبة على جميع أعمال اسكوباس، ومنها تمثال مهشم لأطلنطا. ويشبه هذه البقايا شبهاً عجيباُ رأس ملياجر Meleager المحفوظ في بيت مديشي برومة. وفي هذا الرأس أيضاً نرى الخدين الممتلئين، والشفتين الشهوانيتين، والعينين المكتئبتين، والجبهة ذات الحافة البارزة بروزاً قليلاً فوق الأنف، والشعر الملوي الأشعث بعض الشيء؛ ولعل هذا التمثال نسخة رومانية من تمثال ملياجر الذي نحته اسكوباس ليكون جزءاً من مجموعة تمثل منظر صيد كلدوني. وفي متحف نيويورك الفني رأس آخر لا نكاد نشك في أنه من صنع اسكوباس، أو منقول عن رأس من صنعه؛ وهو قوي بليد ولكنه وسيم ذكي، وهو أصدق الرؤوس تمثيلاً لما بقي من آثار النحت في العصور القديمة.(7/445)
ويقول بوسنياس (40) إن اسكوباس قد "صَبَّ" في إليس "تمثالاً من الشبه لأفريديتي البندينية جالسة فوق جَدْي من الشبه". ونحت في سكيون تمثالاً رخامياً لهرقليز لعل النسخة الرومانية المحفوظة في بيت لاندسدون بلندن منقولة عنه مباشرة. وجسم التمثال يدل على النكسة الفنية والعودة بالفن إلى الطراز العضلي البولكليتي، والرأس صغير مستدير كالعادة، والوجه يكاد يبلغ من الرقة وجوه تماثيل بركستليز. وقد أقام في ميغارا، وأرجوس، وطيبة، وأثينة ما يكفي من الوقت لنحت تماثيل شاهدها بوسنياس بعد خمسة قرون من ذلك الوقت، ولعله قد اشترك في تجديد بناء معبد أبدورس. وعبر بعدئذ بحر أيجة ونحت لنيدس تمثالين لأثينا وديونيشس، وكان له شأن كبير في أعمال النحت التي احتاجها بعض الأعمدة في هيكل إفسوس. وفي برجموم Bergamum نحت تمثالاً ضخماً لآريس Ares يمثله جالساً؛ وفي كريسا في أرض طروادة أقام تمثالاً لأبلو سمنثيوس Apollo Smintheus ليخيف الجرذان ويطردها من الحقول. وأقام في سمثريس Samothrace تمثالاً لأفريديتي كان من أسباب شهرتها العظيمة، ونحت في بيزنطية البعيدة تمثالاً لكاهنة باكس Bacchante ربما كان التمثال المحفوظ في متحف البرتنوم بدرسدن والمعروف باسم ميناد الغامضة نسخة رومانية منه. وإن هذا التمثال الرخامي الصغير وحده لخليق بأن يرفع صانعه إلى مرتبة الفنانين العظام - فهو تمثال قوي النحت، فخم الثياب، فذ في وقفته، حي في غضبه، وجميل من كافة نواحيه. ويشير بلني إلى تماثيل أخرى كثيرة من صنع اسكوباس كانت في أيامه قائمة في قصور رومة. منها تمثال لأبلو يرجح أنه هو الذي نقل عنه تمثال أبلو ثيسارودس Apollo Citharoedus المحفوظ في الفاتيكان؛ ومجموعة تماثيل لبسيدن، وثيتيس، وأخيل، ونربديز، وهي كما يقول بلني "آية في دقة الصنع حتى لو أن صاحبها قد قضى حياته كلها في إتمامها؛ ومنها تمثال لأفرديتي عارية يكفي وحده لأن يذيع شهرة أية مدينة" (41).(7/446)
وملاك القول أن هذه الأعمال، إذا جاز لنا أن نصدر حكماً على صاحبها يستند إلى بقايا قليلة ظنية، توحي بأن لاسكوباس منزلة تقرب جداً من منزلة بركستليز. فهو يمتاز بالابتكار في غير إسراف، والقوة في غير غلظة، وبالتمثيل المسرحي للنوازع والعواطف والمزاج، دون أن تشوه هذه كلها شدةٌ متكلفة. لقد كان بركستليز يعشق الجمال، أما اسكوباس فكان ينجذب نحو الخلق، وكان بركستليز يرغب في الكشف عن الرشاقة والحنان في النساء، وعن الصحة المبهجة والمرح في الشباب؛ أما اسكوباس فقد اختار أن يمثل آلام الحياة ومآسيها، ورفع من شأنها بهذا التمثيل الغني البديع. ولو أننا كان لدينا من أعماله أكثر مما عثرنا عليه منها لما فضلنا عليه أحداً غير فدياس.
حسبنا هذا عن اسكوباس، أما ليسبوس السيكوني فقد بدأ حياته صانعاً وضيعاً في النحاس؛ وكان يتوق إلى أن يكون فناناً، ولكنه لم يكن لديه من المال ما يمكنه من أن يتتلمذ على معلم. غير أنه تشجع حين سمع يوبومس المصور يعلن أنه يفضل محاكاة الطبيعة نفسها عن محاكاة أي فنان مهما يكن قدره (42). فلما سمع ليسبوس هذا القول اتجه من فوره إلى دراسة الكائنات الحية، ووضع قانوناً جديداً للنسب في فن النحت ليستعيض به عن قاعدة بلكليتس الصارمة؛ فأطال الساقين وقصر الرأس، وزاد من ثخانة الأطراف، وخلع على الصورة كلها كثيراً من الحيوية والراحة. ومن أعماله تمثال أبكسيومنوس Apxyomenos وهو صورة لتمثال ديامنوس، تختلف عنها من بعض الوجوه. فرجل بلكليتس الرياضي يربط عصابة فوق جبينه، أما ليسبوس فيزيل الزيت والغبار عن ذراعه بمكشط، ويبدو فيها أكثر نحافة ورشاقة. وأكثر من هذا التمثال جاذبية وحيوية، إذا جاز لنا أن نستند في حكمنا إلى الصورة الرخامية المحفوظة في متحف دلفي، تمثال أجياس Agias الشاب التسالي النبيل. ذلك أن ليسبوس لم يكد يتحرر من القيود حتى أخذ يشق طريقه في ميادين فنية جديدة، فاستبدل تصوير الفرد بتصوير(7/447)
الطراز، والنزعة الانطباعية بالعرف والتقاليد (1).
وكاد هو أن يبتدع النحت المصوَّر عند اليونان. وقد قطع فليب حروبه وعشقه ليجلس أمام ليسبوس لينحت له تمثالاً؛ وسُر الإسكندر من التماثيل النصفية التي نحتها له الفنان سروراً جعله يختاره دون غيره مَثاله الملكي الرسمي، كما منح من قبل أبليز وحده حق تصويره وإلى برجتليز حق نقش هذه الصورة على الجواهر.
وثمة طائفة من أجمل التماثيل التي خلفها القرن الرابع في فن النحت لا يُعرف مَن صنعها: منها تمثال من الشبه لشاب عُثر عليه في البحر قرب مرثون، ومنها نسخة قديمة لتمثال هرمس الأندروسي الذي صُنع في القرن الرابع، وتمثال رقيق لهيجيا المفكرة عثر عليه في تيجيا (2) -وكل هذه التماثيل في متحف أثينة، وفي متحف بسطن رأس فتاة من طشيوز غاية في الجمال. ومن آثار هذا العصر، بقدر ما وصل إليه علمنا معظم تماثيل نيوبي التي نقلت إلى رومة من آسية الصغرى في أيام أغسطس، والتي نراها الآن موزعة في متاحف أوربا. وربما كان من آثار هذا العهد أيضاً التماثيل الأصلية الثلاثة من تماثيل أفرديتي التي تعزى إلى بركستليز: وهي تمثال فينوس المفكرة الذي جيء به من كبوا Capua والمحفوظ في متحف نابلي، وتمثال فينوس المضطجعة المحفوظ في متحف الفاتيكان
_________
(1) يقول ليسبوس، في عبارة لو سمعها مانت Manet لسر منها أيما سرور، إن غيره من المثالين يصورون الرجال كما هم أما هو فإنه يصورهم "كما يبدون للناس".
(2) وقد سُرق هذا الرأس الجميل، الذي يرى القارئ صورته في الصفحة الأولى من الجزء الأول من هذا المجلد في متحف تيجيا الصغير، ثم عثر عليه بعد بحث دام تسع سنين اسكندر فبلدلفيوس Alexander Philadelpheus أمين المتحف القومي بأثينة في هري قمح بقرية من قرى أركاديا. وموضوع التمثال والعصر الذي صنع فيه غير معروفان على وجه التحقيق، ولكن طرازه البركستيلي يرجعه في ظننا إلى القرن الرابع. ويرى السيد فبلدلفيوس الخير الجواد أنه "درة تاج المتحف القومي".(7/448)
وتمثال فينوس أرلوس المتواضع المحفوظ في متحف اللوفر. وأعظم من هذه كلها من ناحية الجمال الناضج، وعمق الشعور الهادئ، تمثال دمتر الجالس الذي عُثر عليه في نيدس عام 1858، والذي يعد الآن من أروع التحف المحفوظة في المتحف البريطاني. ولسنا نعرف موضوع التمثال على وجه التحقيق، ولعله لا يعدو أن يكون أجمل صورة جنائزية وصلت إلينا من العهود القديمة، أو لعله يمثل إلهة التلال في صورة الأم الحزينة Mater Dolorose؛ تتحسر وهي صامتة على اغتصاب برستوني. وقد مثلت العاطفة هنا في غير إسراف كما كان المثالون يفعلون في العصر الذهبي؛ ويبدو في الوجه والعينين حنو الأمومة كله، واستسلامها الصامت. وهذا التمثال مضافاً إلى تمثال هرمس، لا تماثيل أفرديتي المتحببة المستعطفة، هي روائع النحت الحية وآياته الخالدة التي أنتجتها بلاد اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد.(7/449)
الباب الحادي والعِشرون
العصر الذهبي للفلسفة
الفصل الأوّل
العلماء
إذا وازنا بين حال العلم في القرن الرابع وبين الخطوات الجريئة التي خطاها إلى الأمام في القرن الخامس، وبالانقلاب الثوري الذي حدث فيه في القرن الثالث، حكمنا من فورنا بأنه كان في هذا القرن الأوسط في حالة ركود، وأنه قنع في معظم الأحوال بتسجيل ما تجمع له في القرن السابق. فقد كتب أكسانوقراطيس Xenocrates تاريخاً للهندسة، وكتب ثاوفرسطوس تاريخاً للفلسفة الطبيعية، وكتب مينون Menon تاريخاً للطب، وأوديموس Eudemus تواريخ للحساب، والهندسة، والفلك (1). وبدا لعلماء ذلك العصر أن المسائل الدينية والأخلاقية والسياسية أكثر أهمية وأولى بالدرس من مشاكل الطبيعة، فتحول الناس مع سقراط من دراسة العالم المادي دراسة موضوعية إلى البحث في أحوال النفس وشئون الدولة.
وكان أفلاطون يحب العلوم الرياضية فغمر فيها فلسفته إلى أعماق بعيدة، وجعلها شغل المجمع العلمي، وكاد في سراقوصة أن يهب لها ممالك بأسرها. لكن الحساب كان في نظره نظريات في الأعداد تتصف بالكثير من الغموض؛ ولم تكن الهندسة هي قياس الأرض، بل كانت تدريباً عقلياً، خالصاً، وطريقاً يصل به العقل إلى الله. ويحدثنا بلوتارخ عن "غضب" أفلاطون من أودسكوس(7/450)
Eudoxus وأرخيتاس Archytas لأنهما قاما بتجارب في الميكانيكا "فأفسدا الشيء الوحيد الطيب في الهندسة، وقضيا عليه قضاء مبرماً، وأبعداه بطريقة مخجلة يجللهما العار من المسائل العقلية الخالصة غير المجسمة إلى المحسوسات، واستعانا على عملهما هذا بالمادة". ويقول بلوتارخ بعد ذلك: "إن الميكانيكا قد انفصلت بهذه الطريقة عن الهندسة، وأنكرها الفلاسفة، وأهملوا أمرها، فأصبحت من فنون الحرب" (2). على أن أفلاطون رغم هذا قد قدم للعلوم الرياضية بطريقته العقلية المجردة أجل الخدمات؛ فأعاد تعريف النقطة وقال إنها مبدأ الخط (3)، ووضع قاعدة لإيجاد الأعداد المربعة التي هي مجموع مربعين (4)، واخترع التحليل الرياضي أو ارتقى به (5)، ونعني بالتحليل الرياضي البرهنة على صحة قضية أو خطأها بالنظر إلى النتائج التي يؤدي إليها الأخذ بها؛ وليست طريقة إقامة البرهان بنقض نقيضه إلا صورة من هذه الطريقة. وكان الاهتمام بالرياضيات في منهاج المجمع العلمي عوناً كبيراً للعلوم الطبيعية، ولو لم يؤد هذا الاهتمام إلا لتدريب تلاميذ مبتكرين أمثال أودكسوس النيدي (1)، وهرقليدس البنتي، لكفاه فضلاً.
وعمل أرخيتاس صديق أفلاطون على ترقية رياضيات الموسيقى، وضاعف المكعب، وكتب أول رسالة معروفة في الميكانيكا. هذا إلى أنه اختير حاكماً لمدينة تاراس Taras سبع مرات، وكتب عدة بحوث في الفلسفة الفيثاغورية. ويعزو إليه الأقدمون ثلاثة اختراعات عظيمة الخطر - البكرة وطارة السير، واللولب، (والخشخيشة). وكان الاختراعان الأولان أساس الصناعة الآلية، أما ثالثهما فيقول عنه أرسطاطاليس في كثير من الجد والوقار إنه "هيأ للأطفال
_________
(1) Heracleides of Ponltus, Eudoxus of Cnidus(7/451)
عملاً يشغلون به أنفسهم فمنعهم بذلك أن يحطموا ما في البيت من أدوات" (6). وفي هذا العصر نفسه "ربع" ديونستراتس Dinostratus " الدائرة" باستخدام القوس الذي يمكن به إيجاد الخطوط المستقيمة المساوية لمحيطات الدوائر أو غيرها من المنحنيات. ووضع أخوه مينكموس Menaechmus أحد تلاميذ أفلاطون، أساس هندسة القطاعات المخروطية (1)، وضاعف المكعب، ووضع قاعدة التكوين النظري للخمسة أجسام الصلبة المنتظمة (2)، وصاغ نظرية الأعداد الصماء، وأورث العالم تلك العبارة المشهورة، وهي قوله للإسكندر: "أيها الملك إن ثمة طرقاً للملوك وأخرى لعامة الشعب يسافرون عليها في أقطار الأرض؛ أما الهندسة فليس فيها إلا طريق واحد يسلكه جميع الناس (3).
وأعظم رجال العلم في القرن الرابع هو أودكسوس الذي أعان بركستليز على تخليد اسم نيدس في التاريخ. وقد ولد فيها حوالي عام 408، وشرع وهو في الثالثة والعشرين من عمره يدرس الطب مع فلستيون Fhilistion في لكري Locri، والهندسة مع أرخيتاس في تاراس، والفلسفة مع أفلاطون في أثينة. وكان لفقره يعيش معيشة ضنكا في بيرية، ويسير منها على قدميه إلى المجمع العلمي في كل يوم من أيام الدراسة. وبعد أن
_________
(1) عرف اليونان القطاعات المخروطية بأنها الأشكال - القطع الناقص، والقطع المكافئ، والقطع الزائد - التي تنتج من قطع مخروط ذي زويا حادة، وزوايا قائمة، وزوايا منفرجة بسطح عمودي عليه. وتضيف العلوم الرياضية الحديثة إلى هذه الأجسام الدائرة الخطوط المتقاطعة.
(2) وهما الهرم الثلاثي المنتظم، والمكعب (ذو الستة أوجه المنتظمة)، والمثمن المنتظم، وذو الاثني عشر وجهاً المنتظم، وذو العشرين وجهاً المنتظم - وهي الأجسام الصلبة المحدبة التي تحدها أربعة سطوح منتظمة، أو ستة، أو ثماني، أو اثنا عشر سطحاً أو عشرون.
(3) كان لفظ الطرق الملكية يطلق عادة على الطرق العظمى التي أنشئت في الإمبراطورية الفارسية. وتعزى هذه القصة أيضاً إلى إقليدس وبطليموس الأول.(7/452)
أقام زمناً ما في نيدس سافر إلى مصر وقضى فيها ستة عشر شهراً يدرس الفلك على كهنة عين شمس ثم نجده بعد ذلك في سيزقوس البربوبنثية Proportin Cyzcus يحاضر في العلوم الرياضية. ولما بلغ الأربعين من عمره انتقل هو وتلاميذه إلى أثينة وافتتح فيها مدرسة لتعليم العلوم الطبيعية والفلسفة، ونافس أفلاطون وقتاً ما. ثم عاد آخر الأمر إلى نيدس وأقام فيها مرصداً، وعهد إليه أن يضع للمدينة طائفة من القوانين (9).
وقد وضع في الهندسة عدة مبادئ أساسية، فهو الذي وضع نظرية النسبة (1) ومعظم الفروض التي انتقلت إلينا في الكتاب الخامس من كتب إقليدس، وهو الذي اخترع طريقة إفناء الفرق التي أمكن بها إيجاد مساحة الدائرة وحجم الكرة، والهرم، والمخروط؛ ولولا هذا لكان عمل أرشميدس المبدئي مستحيلاً. ولكن العلم الذي وهب له أودكسوس معظم جهوده هو علم الفلك. ونستطيع أن نلمح روح العالم في قوله إنه يسره أن يحترق كما احترق فيتون إذا استطاع بهذا أن يكشف عن طبيعة الشمس وحجمها وشكلها (10). وكان لفظ التنجيم Astrology يستعمل في ذلك الوقت ليشمل ما نسميه الآن علم الفلك Astronomy، ولكن أودكسوس أشار على تلاميذه أن يغفلوا نظرية الكلدانيين القائلة إن مستقبل الإنسان يمكن التنبؤ به بالنظر لمواقع النجوم وقت مولده. وكان شديد الرغبة في أن يرجع جميع الحركات السماوية إلى قوانين ثابتة، ووضع في كتابه الفينومينا Fhainomena - الذي يعده الأقدمون أعظم ما كتبوه في علم الفلك - أساس التنبؤات الجوية.
_________
(1) وكان من المسائل المحببة له مسألة إيجاد "القطاع الذهبي" أي أن يقسم الخط في نقطة بحيث تكون النسبة بين الخط كله وجزئه الأكبر، كالنسبة بين هذا الجزء الأكبر والجزء الأصغر.(7/453)
وأخفقت أشهر نظرياته إخفاقاً باهراً. فقد قال إن العالم يتكون من سبعة وعشرين دائرة شفافة لا تراها العين لشفيفها تدور في اتجاهات مختلفة وبسرعات متباينة حول مركز الأرض، وإن الأجرام السماوية مثبتة حول قشرة هذه الدوائر المتحدة المركز. ويبدو هذا النظام الآن نظاماً مغرقاً في الخيال، ولكنه كان أول محاولة بُذلت لتفسير حركات الأجرام السماوية تفسيراً علمياً. وعلى أساس هذه النظرية حسب أدكسوس بدقة عظيمة (إذا ما اتخذنا "معلوماتنا" الحاضرة في مثل هذه المسائل مقياساً نحكم به على الأشياء) أوقات اقتران الكواكب وحلولها في البروج المختلفة (1). وكان لهذه النظرية أثر أقوى من أية نظرية أخرى في الزمن القديم لإيقاظ روح البحث العلمي.
وكتب إكفنتوس السراقوصي حوالي عام 390. ومن أقواله أن الأرض تدور حول مركزها في اتجاه شرقي (12). وأخذ هرقليدس البنتي هذا الإيحاء، أو لعله وصل إليه مستقلاً، وقال إن العالم لا يدور حول الأرض، وإن الظواهر المتصلة بهذا الفرض يمكن تفسيرها إذا افترضنا أن الأرض نفسها تدور مرة في كل يوم حول محورها (13). ومن أقواله أيضاً أن الزهرة وعطارد يدوران
_________
(1) إن فترة الاقتران لجرم من الأجرام السماوية هي الزمن المحصور بين اقترانين متتاليين بينه وبين الشمس، كما يرى من الأرض. أما فترة الحلول في برج من البروج فهي الزمن المحصور بين ظهور جرم سماوي مرتين متتاليتين في هذا البرج أي في ذلك الجزء من السماء المقسمة تقسيماً خيالياً إلى اثنتي عشر قسماً يسمى كل منها برجاً. وقدر أودكسوس فترة اقتران زحل بـ 390 يوماً ونقدرها نحن الآن بـ 387؛ والمشتري بـ 390، وتقديرنا نحن هو 399؛ والمريخ بـ 260 ونقدرها نحن بـ 780، وعطارد بـ 110 (وقد ورد في أحد المخطوطات 116)، وتقديرنا هو 116؛ والزهرة بـ 570 وتقديرنا هو 584. أما الفترة بين حلول الكواكب في الأبراج مرتين متتاليتين كما قدرها أودكسوس فهي 30 سنة لزحل وتقديرنا نحن هو 29 سنة و166 يوماً، وللمشتري 12 سنة وتقديرنا نحن 11 سنة و315 يوماً، وللمريخ سنتان وتقديرنا سنة و322 يوماً، ولعطارد والزهرة سنة. وهذا يتفق بالضبط مع تقديرنا (11).(7/454)
حول الشمس، ولعل هرقليدس في لحظة من لحظات التجلي العلمي قد استبق أرسطرخوس وكوبرنيق، لأنا نقرأ في الجزازات الباقية من كتابات جمنوس Geminus ( حوالى عام 70 ق. م) أن هرقليدس البنتي قال: "حتى لو افترضنا أن الأرض تدور بطريقة ما، وأن الشمس ساكنة بطريقة ما، فإن ما يبدو لنا من عدم انتظام الشمس لا يستعصي على الفهم" (14). وأكبر الظن أننا لن نستطيع فهم ما كان يقصده هرقليدس بقوله هذا بالضبط.
وكانت العلوم الطبيعية في هذه الأثناء تتقدم تقدماً بطيئاً. ففي الجغرافية قام ديقايرخوس المساني Dicaearchus of Messana كاتب السير اليوناني بقياس ارتفاع الجبال، وقدر طول محيط الأرض بما يقرب من ثلاثين ألف ميل، ولاحظ تأثير الشمس في المد والجزر. وفي عام 325 سافر نيارخوس Nearchus أحد قواد الإسكندر بحراً من مصب نهر السند محاذياً ساحل آسية الجنوبي إلى مصب الفرات؛ وكان سجل سفينته الذي احتفظ أريان Arrian ببعضه في كتابه Indica (15) من أهم الكتب الجغرافية القديمة وكان علم المساحة التطبيقية - أي قياس السطوح، والمرتفعات، والمنخفضات والمواقع، والأحجام- قد وضع له اسم خاص يميزه من الهندسة النظرية Geometry وهو الجيوديزيا (16). وكان فلستيون Fhilistion أحد أبناء بلدة لكري Lorcri الإيطالية يمارس تشريح الحيوانات في بداية ذلك القرن وقال إن القلب هو المنظم الرئيسي للحياة ومركز النيوما أي النفس. وشرح ديوقليس Diocles أحد أبناء بلدة كرستوس Carystus العوبية حوالي عام 370 أرحام إناث الحيوان، ووصف الأجنة البشرية من بداية اليوم السابع والعشرين إلى اليوم الأربعين من حياتها، وتقدمت على يديه علوم التشريح والأجنة وأمراض النساء والولادة، وأصلح إحدى الأغلاط اليونانية الشائعة بقوله إن "بذرتي" الذكر والأنثى تشتركان في تكوين(7/455)
الجنين (17). وكانت امرأة تدعى أسبازيا (غير أسبازيا أم الإسكندر) من أشهر الطبيبات في أثينة في القرن الرابع، وذاع صيتها بمؤلفاتها في أمراض النساء والجراحة وغيرها من فروع الطب (18). وخشي إينياس تكتكوس Aeneas Tocticus الأركادي أن يؤدي تقدم الطب إلى إنقاص نسبة الوفيات أكثر مما تحتمله موارد الغذاء، فنشر حوالي عام 360 أول كتاب شهير في فن الحرب، وجاء نشره في الوقت الذي استطاع فليب والإسكندر أن يفيدا بما ورد فيه من المعلومات.(7/456)
الفصل الثاني
المدارس السقراطية
1 - أرستبوس
إذا كان العلم في القرن الرابع لم يتجاوز الدرجة الوسطى من الرقي، فقد كان هذا القرن عصر الفلسفة الذهبية. لقد بسط المفكرون الأولون آراء عامة في نظام الكون، وجاء السوفسطائيين فشكوا في كل شيء عدا البلاغة، وأثار سقراط آلاف الأسئلة ولم يجب عن واحد منها. أما الآن فقد نبتت البذور التي زرعت في مائتي عام وصارت نظماً عظيمة في بحوث ما وراء الطبيعة، والأخلاق، والسياسة. وكانت أثينة وقتئذ أفقر من أن تحتفظ للدولة بمصلحة طبية، ولكنها رغم فقرها هذا أنشأت جامعات خاصة، فأضحت بذلك "مدرسة هلاس" على حد قول إسقراط، وحاضرة بلاد اليونان الذهبية، والحكم الذي لا معقب لحكمه في شئونها العلمية، ولما أن أضعف الفلاسفة الدين القديم أخذوا يكافحون لكي يجدوا في الطبيعة وفي العقل بديلاً من هذا الدين يكون دعامة الأخلاق وهادياً للناس في سبيل الحياة.
وكان أول ما عملوه أن ارتادوا السبل التي فتحها لهم سقراط. ذلك أن السوفسطائيين كانوا قد ارتكسوا فاقتصروا في الغالب على تدريس البلاغة، وزالوا بوصفهم طبقة مستقلة؛ ولهذا أصبح تلاميذ سقراط مركز عاصفة من الفلسفات الشديدة التباين. فقد أثار إقليدس الميغاري Eucleides of Megara، الذي سافر إلى أثينة ليستمع إلى سقراط "عاصفة من الجدل" في مسقط رأسه كما يقول تيمن الأثيني (19)، وارتقى بنقاش زينون وسقراط فجعله(7/457)
فناً من الجدل يرتاب في كل نتيجة منطقية، وأدى ذلك في القرن التالي إلى نزعة بيرون وقرنيادس التشككية. وبعد أن مات إقليدس اتجه تلميذه النابه استلبون Stilpon بالمدرسة الميغارية شيئاً فشيئاً نحو النظرة الكلبية ( Cynic) التي تقول: بما أن كل فلسفة يمكن دحضها، فإن الحكمة لا تكون في بحوث ما وراء الطبيعة، بل في الحياة البسيطة التي تحرر الفرد من الاعتماد في رفاهيته على العوامل الخارجية. ولما سأل دمتريوس بليوقريطس Demetrius Poliocretes بعد نهب ميغارا عن مقدار ما خسره استلبون أجابه ذلك الحكيم بقوله إنه لم يكُ يملك شيئاً غير المعرفة، وأن أحداً لم يغتصبها منه (20). وكان من بين تلاميذه في آخر سني حياته واضع أسس الفلسفة الرواقية، ولذلك فإن من حقنا أن نقول إن المدرسة الميغارية قد بدأت بزينون واختتمت بزينون آخر.
وسافر أرستبوس الظريف بعد موت سقراط إلى مدن متفرقة، وقضى بعض الوقت في سلس Scillus مع أكسانوفون، ووقتاً أطول من هذا مع لئيس Lais في كورنثة (21)، ثم ألقى عصا الترحال في قورينة مدينته الأصلية القائمة على ساحل أفريقية. وكان ثراء الطبقات العليا في هذه المدينة النصف الشرقية قد كونا عاداته، فكان أكثر مما يتفق عليه مع مبادئ أستاذه هو قوله إن السعادة أعظم فضيلة. وكان أرستبوس وسيم الطلعة، دمث الأخلاق، بارعاً في الحديث، فشق بهذه الصفات طريقاً له في كل مكان. وتحطمت به سفينته قرب رودس واشتد عليه الفقر فيها، فذهب إلى مدرسة للتدريب الرياضي، وأخذ يخطب فيها، فافتتن به رجالها وقدموا له هو وأصحابه جميع وسائل الراحة؛ فلما فعلوا ذلك قال لهم إن الآباء يجب أن يسلحوا أبناءهم بثروة يستطيعون أن يحملوها معهم إلى البر إذا تحطمت بهم السفن (22).
وكانت فلسفته بسيطة وصريحة؛ قال: إن كل ما نفعله إنما نفعله طمعاً في اللذة أو خوفاً من الألم - حتى إذا أفقرنا أنفسنا لخير أصدقائنا، أو ضحينا(7/458)
بحياتنا من أجل قوادنا. وعلى هذا فالناس كلهم مجمعون على أن اللذة هي الخير الذي لا خير بعده، وأن كل ما عداها حتى الفضيلة والفلسفة يجب أن يحكم عليه حسب قدرته على توفير اللذة. وعلمنا بالأشياء غير مؤكد، وكل ما نعرفه معرفة مباشرة أكيدة هو حواسنا، فالحكمة إذاً لا تكون في السعي وراء الحقيقة المجردة بل في اللذات الحسية. وليست أعظم اللذات هي اللذات العقلية أو الأخلاقية، بل هي اللذات الجسمية أو الحسية، ولهذا فإن الرجل العاقل هو الذي يسعى وراءها أكثر من سعيه وراء أي شيء آخر، والذي لا يضحي بخير عاجل في سبيل خير آجل غير مؤكد. والحاضر وحده هو الموجود، وأكبر الظن أنه لا يقل من حيث الخير على المستقبل إن لم يفقه في ذلك. وفن الحياة هو التهاب اللذائذ وهي عابرة والاستمتاع بكل ما نستطيع أن نحصل عليه في الساعة التي نحن فيها (23). وليست فائدة الفلسفة في أنها قد تبعدنا عن اللذة، بل فائدتها في أنها تهدينا إلى أن نختار أحسن اللذات وننتفع بها. وليس صاحب السلطان على اللذات هو الزاهد المتقشف الممتنع عنها، بل هو الذي يستمتع بها دون أن يكون عبداً لها، والذي يستطيع بعقله أن يقرن بين اللذائذ التي تعرضه للخطر، والتي لا تعرضه له. ومن ثم كان الرجل الحكيم هو الذي يُظهر الاحترام المقرون بالفطنة للرأي العام وللشرائع، ولكنه يعمل بقدر ما يستطيع على "ألا يكون سيداً لإنسان ما أو عبداً له" (24).
وإذا كان يشرف الإنسان أن يعمل بما يدعو الناس إلى عمله فقد كان أنتسبوس خليقاً ببعض هذا الشرف. فقد كان في فقره وغناه على السواء سمحاً كريماً، ولم يكن يتظاهر بالميل إلى إحدى الناحيتين. وكان يصر على أن يتقاضى أجراً على ما يعمله، ولا يتردد في أن يتملق للطغاة إذا كان في هذا الملق ما يوصله إلى أغراضه. وقد ابتسم ولم يأفف حين بصق دنيسوس الأول في وجهه وقال: "إن من واجب الصياد أن يتحمل أكثر من هذا الماء ليمسك بسمكة(7/459)
أصغر من التي أريدها" (25). ولما أن لامه صديق له على ركوعه أمام دنيسوس أجابه: "بأنه ليس من عيبه أن تكون أذنا الملك في قدميه"، ولما سأله دنيسوس لم يلازم الفلاسفة أبواب الأغنياء، ولا يلازم الأغنياء مجالس الفلاسفة أجابه بقوله: "ذلك بأن الأولين يعرفون ما يريدون أما الآخرون فلا يعرفونه" (26). ولكنه مع ذلك كان يحتقر من يطلبون المال لذاته. من أنه لما أن أراه سيموس Simus الفريجي الثري بيتاً له جميلاً مفروشاً بالرخام، بصق أنتسبيوس في وجهه، فلما أن احتج عليه سيموس اعتذر بأنه لم يجد بين ذلك الرخام كله مكاناً أليق من وجهه بالبصق عليه (27). ولما أن جمع من المال ما يريده أنفقه بسخاء على الطعام الشهي، والكساء الجميل، والمسكن الفخم، والنساء الحسان (على ما كان يبدو له). ولما أن لامه بعضهم على أنه يعاشر حظية أجابه بقوله إنه لا يعارض في أن يعيش في بيت سكنه آخر قبله أو أن يسافر في سفينة سافر فيها غيره (28). ولما قالت له عشيقته: "أني أعاشرك معاشرة الأزواج" قال لها: "إنك لا تستطيعين أن تقولي إنني أنا الذي أعاشرك، كما لا تستطيعين أن تقوليه بعد أن تخترقي أجمة أية شوكة فيها خدشتك" (29).
وقتله الناس رغم أنه كان رجلاً شريفاً، ظريفاً، مهذباً، مثقفاً، طيب القلب، مشهوراً باسم سيموس اللطيف. وما من شك في أن من أسباب دعوته السافرة للسعي وراء اللذة أنه كان يسر من التشهير بالكبار الفاسدين من أهل المدن. وقد كشف عن خليقته بتبجيل سقراط، وحبه الفلسفة (1)، واعترافه بأن أجل منظر في الحياة، هو منظر الرجل الفاضل الذي يشق طريقه مطمئناً واثقاً من نفسه بين الأنذال (31).
وقال وهو على فراش الموت (356) إن أعظم تراث يتركه لابنته
_________
(1) يقول أرستبوس إن مَثل الذين يهملون الفلسفة في تعليمهم "كمثل الذين جاءوا يخطبون بنلبي؛ فقد ... وجدوا أن كسب الخادمات أسهل لهم من زواج السيدة".(7/460)
أريتي Arete هو أنه علمها "ألا ترى قيمة ما لشيء تستطيع أن تستغني عنه" (32) وهو استسلام منه لديوجانس عجيب. وقد خلفته ابنته في رياسة مدرسة قورينة وألفت أربعين كتاباً، وكان لها تلاميذ يمتازون وحبتها مدينتها قبرية مشرفة هي: "ضياء هلاس" (33).
2 - ديجين (ديوجانس)
ووافق أستانس على نتيجة هذه الفلسفة وإن لم يوافق على مناقشاتها، واستخلص من أقوال سقراط نفسه فلسفة للحياة قائمة على التقشف. وكان مؤسس المدرسة الكلبية ابن مواطن أثيني وأمة تراقية، وحارب ببسالة في يوم تنغارا عام 426، ودرس زمناً ما مع غورغياس وبرودكوس، ثم أنشأ بعدئذ مدرسته؛ ولكنه بعد أن سمع مناقشات سقراط، ذهب ومعه تلاميذه ليتلقى فلسفة الذي يفوقه سناً. وكان مثل أودكسوس يعيش في بيرية، ويسير إلى أثينة مشياً على قدميه كل يوم تقريباً. ولعله كان حاضراً حين كان سقراط (أو أفلاطون) يناقش خطيباً ظريفاً في مشكلة اللذة:
سقراط: هل تظن أن الفيلسوف يجب أن يهتم بملذات ... المأكل والمشرب؟.
سمياس: لا، من غير شك.
سقراط: وما قولك في لذات الحب- هل يجب عليه أن يهتم بها؟.
سمياس: لا، يجب ألا يهتم بحال من الأحوال.
سقراط: وهل يجوز له أن يفكر فيما عدا ذلك من طرق المتعة الجسمية-
كالحصول على الملابس الغالية، أو الأحذية وما إليها من زينة
الجسم؟ أليس الواجب عليه، بدل أن يُعنى بهذه الأشياء، أن
يحتقر كل ما تتطلبه الطبيعة؟.
سمياس: من واجبي أن أقول إن الفيلسوف الحق هو الذي يحتقرها (34).(7/461)
هذا هو جوهر الفلسفة الكلبية: أن تقتصر حاجات الجسم على الضرورات المحضة حتى تكون الروح حرة قدر المستطاع. وقد استمسك أنتستانس بحرفية النظرية، وأصبح كأنه راهب فرنسيسي يوناني بلا دين. وكان شعار أرستبوس هو: "إني أملك ولكن أحداً لا يملكني"، أما شعار انتستانس فقد كان: "إني لا أملك حتى لا يمتلكني أحد". ولم يكن عنده مال (35)، وكان يرتدي ثوباً خلقاً عيره به سقراط بقوله: "إني أستطيع أن أرى غرورك يا أنتستانس من خلال ثقوب ثوبك" (36). وإذا ضربنا صفحاً عن هذا فقد كان عيبه الوحيد هو تأليف الكتب؛ وقد ترك منها ثمانية، أحدها تاريخ للفلسفة. ولما مات سقراط اضطلع أنتستانس بواجب تدريس الفلسفة لطالبيها واختار موضعاً لمحاضراته ساحة "كلب البحر للتدريب الرياضي"، وكان سبب اختيارها أنها مخصصة لأفراد الطبقات الدنيا، أو الغرباء، أو غير الشرعيين، وغلب اسم الكلبي على المدرسة بسبب مكان وجودها لا بسبب العقيدة التي تُدرس فيها (37). وكان أنتستانس يرتدي ثياب العمال، ولا يتقاضى أجراً على قيامه بالتدريس، ويفضل أن يكون تلاميذه من الفقراء، ويطرد من مدرسته بلسانه أو عصاه كل من لا يعيش معيشة الفقراء ولا يتحمل شظف العيش.
وأبى في أول الأمر أن يقبل ديجين ضمن تلاميذه فلما أصر ديجين وصبر على الإهانة، قبلهُ، فأذاع التلميذ نظريات أستاذه في جميع أنحاء هلاس بأن اتبع تعاليمه في معيشته لا يحيد عنها قيد شعرة. لقد كان أنتستانس في أصله نصف رقيق، وكان ديجين رجلاً مصرفياً مفلساً من سينوب اضطرته شدة الحاجة إلى التسول، وسره أن يعلم أن هذا جزء من الفضيلة والحكمة، فلبس أثواب المتسولين، وحمل جرابهم، وتوكأ على عصاهم، وعاش وقتاً ما داخل قصعة في ساحة معبد سيبيل في أثينة (38). وكان يحسد الحيوان على حياته البسيطة ويحاول أن يحذو حذوه، ينام على الأرض، ويطعم مما يستطيع الحصول عليه أينما وجده؛ ويؤكدون لنا أنه كان(7/462)
يقضي حاجة الطبيعة ومراسم الحب على مرأى من جميع الناس (39). ولما رأى طفلاً يشرب الماء بيديه ألقى هو الآخر كوب الماء (40). وكان في بعض الأحيان يحمل شمعة أو مصباحاً ويقول إنه يبحث بهما عن رجل (41). ولم يسئ في حياته إلى إنسان، ولكنه رفض أن يعترف بالقوانين، وأعلن قبل الرواقيين بزمن طويل أنه مواطن عالمي ( Kosmopolites) . وكان يطوف بالبلاد على مهل، ونسمع أنه أقام بعض الوقت في سراقوصة. وقبض عليه القراصنة في بعض أسفاره وباعوه عبداً لأكسنياديس صاحب كورنثة. ولما سأله سيده عما يستطيع أن يؤديه من الأعمال قال: "إنه يستطيع أن يحكم الرجال"، فاتخذه أكسنياديس مربياً لأبنائه، ومشرفاً على شئون قصره، وأحسن ديجين القيام بكلا العملين إحساناً جعل سيده يطلق عليه لقب "العبقري الصالح"، ويعمل بمشورته في كل شيء. وظل ديجين يحيا حياته البسيطة لا يحيد عنها قط حتى أصبح بعد الإسكندر أشهر رجل في بلاد اليونان.
وكان متصنعاً بعض الشيء، وما من شك في أنه كان يحب الشهرة، وكان بارعاً في الجدل، ويقول سميه إنه لم يُغلب قط في مناقشة (42). وكان يصف حرية الكلام بأنها أعظم الطيبات، وقد أفاد منها كثيراً هي والمزاح الخشن، والفكاهة التي لم تكن تُعجزه قط. وعنف ذات يوم امرأة تركع وتسجد أمام صورة مقدسة بأن سألها: "ألا تخافين أن تكوني في هذا الوضع وقد يكون في ورائك إله من الآلهة، لأن الآلهة يملأون كل مكان" (43)؟؛ ولما رأى ابن حظية يرمي جماعة من الناس بحجر قال: "احذر أن تصيب أباك" (44). وكان يكره النساء، ويحتقر من الرجال من يسلكون مسلك النساء، من ذلك أن شاباً كورنثياً جاءه متعطراً متأنقاً في ثيابه الغالية يسأله سؤالاً فأجابه بقوله: "لن أجيبك عن سؤالك حتى تخبرني: أولد أنت أم بنت" (45)؟.
والعالم كله يعرف قصته مع الإسكندر حين التقى بالفيلسوف في كورنثة(7/463)
نائماً في الشمس وقال له: "أنا الإسكندر الأكبر"، وأجابه الفيلسوف بقوله: "وأنا ديجين الكلب". وقال لهُ الملك: "اسألني أي شيء تريد"، فأجابه: "ابتعد حتى لا تحجب عني الشمس". وقال الجندي الشاب: "لو لم أكن أنا الإسكندر لتمنيت أن أكون ديجين" (46)، ولسنا نعرف أن ديجين قد رد على هذه التحية. ويراد منا أن نعتقد أن الرجلين توفيا في يوم واحد من أيام عام 323 الإسكندر في بابل وهو في سن الثالثة والثلاثين، وديجين في كورنثة بعد أن جاوز التسعين (47). وقد وضع الكورنثيون فوق قبره كلباً من الرخام؛ وأقامت له سينوب التي نفته نصباً تذكارياً تخليداً لذكراه.
وليس ثمَ شيء أوضح من الفلسفة الكلبية؛ فهي لم تعمد إلى المنطق إلا ريثما تدحض نظرية المعرفة التي كان أفلاطون يحير بها عقول العلماء في أثينة. كذلك كانت الميتافيزيقا في نظر الكلبيين عبثاً عقيماً؛ وكانوا يقولون إن من واجبنا ألا ندرس الطبيعة لنفسر العالم بهذه الدراسة، وهو أمر مستحيل، بل لنعلم حكمة الطبيعة ونسترشد بها في الحياة، والفلسفة الوحيدة الحقة هي فلسفة الأخلاق، والغرض من الحياة هو السعادة، ولكن هذه السعادة لا تكون في طلب اللذة، بل في الحياة الفطرية البسيطة المستقلة قدر المستطاع عن المساعدات الخارجية؛ ذلك أن اللذة، وإن كانت عملاً مشروعاً إذا أتت نتيجة كدح الإنسان وجهوده الخاصة، ولم يعقبها شيء من الندم ووخز الضمير (48)، كثيراً ما تفلت منا أثناء السعي إليها، أو تخيب رجاءنا فيها بعد أن ننالها؛ ومن أجل هذا فإن الأخلق بنا أن نعدها شراً لا خيراً. والسبيل الوحيد إلى السعادة الباقية هي أن يحيا الإنسان حياة معتدلة فاضلة. والثروة تفسد الطمأنينة والسلام، والشهوة الحاسدة تأكل النفس كما يأكل الصدأ الحديد، والاسترقاق عمل ظالم ولكنه ليس عملاً خطيراً؛ والرجل الحكيم يسهل عليه أن يجد السعادة في الرق كما يجدها في الحرية، لأن حرية النفس هي الحرية الحقة. ويقول ديجين إن الآلهة(7/464)
قد وهبت الإنسان الحياة السهلة المريحة، ولكن الإنسان هو الذي عقّدها بالتلهف على الترف. وليس معنى هذا أن الكلبيين كانوا شديدي الإيمان بالآلهة، وشاهد ذلك أن قسيساً أخذ يعدد لأنتستانس ما يتمتع به المستمسكون بأسباب الفضيلة من خير كثير بعد وفاتهم، فسأله الفيلسوف: "ولم إذن لا تموت؟ " (49)، وكان ديجين يسخر من الطقوس الدينية الخفية، ويقول عن القرابين التي قربها في سمثريس من نجوا من الموت بعد أن حُطمت سفينتهم: "لو أن هذه القرابين قد قربها الذين هلكوا لا الذين نجوا لكانت أكثر من هذا عدداً" (50)، وكان كل شيء في الدين عدا الاستمساك بالفضيلة يبدو للكلبيين أوهاماً وخرافات، وهم يرون أن جزاء الفضيلة يجب أن يكون هو الفضيلة نفسها، وأن من الواجب ألا يكون هذا الجزاء موقوفاً على عدالة الآلهة. وقوام الفضيلة هو الأكل والتملك، والحد من الرغبات قدر المستطاع، والاقتصار على شرب الماء، وعدم الإساءة لأي إنسان. وسُئل ديجين: وكيف يستطيع الإنسان أن يدفع عنه أذى عدوه؟ فأجاب بقوله: "بأن يثبت أنه شريف مستقيم" (51). والشهوة الجنسية دون غيرها هي التي كانت تبدو للكلبيين غريزة معقولة، وكانوا يتجنبون الزواج بوصفه رابطة خارجية ولكنهم كانوا يحمون البغايا. وكان ديجين يدعو إلى الحب الجر الطليق، وإلى شيوعية الزوجات (52)؛ وكان أنتستانس يطلب الاستقلال في كل شيء، ومن أجل ذلك كان يشكو من أنه لا يستطيع أن يشبع جوعه بمفرده كما يستطيع أن يشبع شهوته الجنسية على هذا النحو (53). وإذ كان الكلبيون قد قرروا أن الشهوة الجنسية شهوة سوية طبيعية كالجوع، فقد أعلنوا أنهم لا يفقهون لم يخجل الناس من إشباع إحدى الرغبتين جهرة أمام الناس كما يشيعون الأخرى (54). ومن رأيهم أن الإنسان يجب أن يكون مستقلاً في كل شيء حتى في الموت نفسه،(7/465)
فيختار لنفسه مكان موته وزمانه؛ وعندهم أن الانتحار عمل مشروع، ويقول بعضهم إن ديجين قتل نفسه بأن أمسك عن التنفس (55).
وكانت الفلسفة الكلبية جزءاً من الحركة التي تهدف إلى "الرجوع إلى الطبيعة"، وهي الحركة التي قامت في أثينة في القرن الخامس رداً على ما أحدثته الحضارة المعقدة من ملل في النفوس وعدم توازن في شئون الحياة. ذلك أن الناس ليسوا متحضرين بالفطرة، وهم لا يتحملون قيود الحياة المنظمة، إلا لأنهم يخشون مغبة العقاب والوحدة. وكانت الصلة بين ديجين وسقراط شبيهة بعض الشبه بالصلة التي بين روسو وفلتير: فقد كان يرى أن الحضارة لا خير فيها، وأن بوميثيوس قد استحق أن يصلب لأنه جاء بها إلى بني الإنسان (56). وكان الكلبيون، كما كان الرواقيون، وكما كان روسو في العصر الحديث، يجعلون مثلهم الأعلى هو "الشعوب الطبيعية" (57)؛ وقد حاول ديجين أن يأكل اللحم النيئ لأن طهو الطعام عمل غير طبيعي (58)، ويظن أن أحسن المجتمعات هو المجتمع الخالي من أسباب الخداع ومن القوانين.
وكان اليونان يسخرون من الكلبيين، ويصبرون عليهم صبر المجتمع في العصور الوسطى على القديسين. وقد أصبحوا بعد ديجين هيئة دينية من غير دين، اتخذوا الفقر قاعدة وأساساً لعقيدتهم، وكانوا يعيشون من الصدقات، وينفسون عن عزوبتهم بالشيوعية الجنسية، وافتتحوا مدارس لتعليم الفلسفة. ولم تكن لهم بيوت، بل كانوا يعملون وينامون في الطرقات أو مداخل المعابد. وانتقلت العقائد الكلبية على أيدي استلبو Stllpo وأقراطيس Crates تلميذي ديجين إلى العصر الهلنستي، وكانت فيه أساس الرواقية، واختفت المدرسة بوصفها ذات كيان مستقل حوالي القرن الثالث، ولكنها ظلت ذات أثر قوي في التقاليد اليونانية، ولعلها عادت(7/466)
إلى الوجود في شخص الإسينيين (1) في بلاد اليهود، والرهبان في مصر، في أوائل عهد المسيحية. وليس في مقدور العلماء أن يقرروا حتى الآن مقدار ما تأثرت به هذه الحركات كلها بأمثالها من حركات الطوائف المختلفة في الهند، أو ما كان للثانية من أثر في الأولى. وإن الذين يدعون للرجوع إلى الطبيعة في أيامنا هذه، لهم الأبناء الذهنيون لأولئك الرجال والنساء الذين عاشوا في بلاد الشرق أو اليونان في الأيام الخالية، والذين ملوا القيود الضيقة غير الطبيعية، وظنوا أن في وسعهم أن يعودوا إلى الحيوانات ويعيشوا بينها؛ واعتقادنا أنه ليس ثمة حياة كاملة خالية من هذه اللوثة الحضرية.
_________
(1) جماعة دينية قامت بين اليهود الأقدمين، كان أعضاؤها يعيشون عيشة العزلة والتقشف وكانت الملكية عندهم مشاعة. (المترجم)(7/467)
الفصل الثالِث
أفلاطون
1 - المعلم
لقد تأثر أفلاطون نفسه بالمبادئ الكلبية. وشاهد ذلك أنه يصف في المقالة الثانية من الجمهورية (59) مدينة فاضلة تعيش عيشة فطرية شيوعية؛ ونستشف من هذا الوصف عطفه على هذه المدينة وحبه إياها. نعم إنه يكتفي بقبولها ولا يدعو إليها، ويصور دولة "في الدرجة الثانية بعدها"، ولكنه حين يعمد إلى تصوير ملوكه - الفلاسفة نستشف في هذه الصورة الحلم الكلبي، فنجد رجالاً لا أملاك لهم ولا زوجات، يستمسكون بالحياة البسيطة والفلسفة الراقية، قد استحوذوا على حصن أجمل خيال في تاريخ اليونان. وكانت الخطة التي رسمها أفلاطون لإيجاد أرستقراطية شيوعية محاولة باهرة من رجل محافظ ثري للتوفيق بين احتقاره للديمقراطية وبين مثالية زمانه المتطرفة.
وكان ينتمي إلى أسرة يرجع أصلها من ناحية أمه إلى صولون ومن ناحية أبيه إلى ملوك أثينة الأولين، بل لقد ذهب بعضهم إلى أنها ترجع من هذه الناحية إلى بسيدن إله البحر (60). وكانت أمه أخت خرميدس Charmides وابنه أخ أقريتياس، ومن أجل هذا يكاد كره الديمقراطية أن يكون متأصلاً في دمه. وقد سمى أرستقليس Aristocles- أي الأحسن الشهير- وبرع الشاب في جميع نواحي الحياة تقريباً، فنبغ في الموسيقى، والرياضيات، والبلاغة والشعر. وافتتنت النساء، والرجال بلا ريب، بجمال طلعته؛ وصارع في الألعاب البرزخية، ولقبوه من قبيل السخرية فلاطون Platon أي العريض لامتلاء جسمه وقوة بنيته؛ وحارب(7/468)
في ثلاثة معارك، ونال جائزة في الشجاعة (61). وكتب فكاهات شعرية، وغزلاً، ومأساة رباعية (1)؛ وبينما كان يتردد بين الشعر والسياسة لا يعرف أيهما يختار طريقاً له في الحياة، إذ افتتن وهو في سن العشرين بسقراط؛ وما من شك في أنه كان يعرف من قبل، لأن الفيلسوف الكبير كان صديقاً لخاله خرميدس؛ ولكنه لما بلغ هذه السن كان يستطيع أن يفهم تعاليم سقراط ويستمتع بمنظر الرجل الشيخ وهو يقذف بأفكاره في الهواء كالبهلوان، مرتكزاً على أسنة أسئلته. فما كان منه إلا أن أحرق قصائده، ونسي يوربديز والألعاب الرياضية، والنساء، وتبع المعلم الشيخ كأنه سحره أو نومه تنويماً مغناطيسياً. ولعله كان يكتب مذكرات في كل يوم، لأنه كان يشعر كما يشعر الفنان المرهف الحس بما لهذا الشيخ البطين المشوه المحبوب من شأن عظيم في مستقبل الأيام.
ولما بلغ أفلاطون الثالثة والعشرين من عمره شبت ثورة المحافظين في عام 404 بقيادة جماعة من أقربائه، وشهد أيام الإرهاب الألجركي العصيبة، وشجاعة سقراط في تحدي الثلاثين، وموت أقريتياس وخرميدس، وعودة الديمقراطية، ومحاكمة سقراط وموته. وبدا العالم كله يتصدع ويتهدم حول هذا الشاب الذي كان من قبل لا يتطرق الهم إلى قلبه، ففر من أثينة التي بدت في نظره كأنها مأوى الشياطين، ووجد بعض الراحة في ميغارا في بيت إقليدس، ثم في قورينا ولعله كان فيها مع أرستبوس. ويظهر أنه سافر منها إلى مصر حيث درس على الكهنة العلوم الرياضية والمعارف التاريخية الشعبية (62). ونراه مرة أخرى في أثينة حوالي عام 395، وبعد عام من ذلك الوقت حارب دفاعاً عن كورنثة. وبدأ أسفاره مرة أخرى حوالي عام 387، ودرس فلسفة فيثاغورس مع أرخيتاس
_________
(1) يقول أرستبوس إن مَثل الذين يهملون الفلسفة في تعليمهم "كمثل الذين جاءوا يخطبون بنلبي؛ فقد ... وجدوا أن كسب الخادمات أسهل لهم من زواج السيدة".(7/469)
في تاراس ومع تيماس في لكري، ثم انتقل إلى صقلية ليشاهد بركان إتنا، وارتبط برباط الصداقة مع ديون طاغية سراقوصة، وقُدّم لدنيسوس الأول، وبِيعَ بَيْعَ الرقيق، ثم عاد سالماً إلى أثينة في عام 386. ولما رفض أنسريس Anniceris الثلاثة آلاف درخمة التي جمعها أصدقائه ليفتدوه بها، ابتاع له هؤلاء الأصدقاء بهذا المال أيكة للتنزه في ضاحية من ضواحي المدينة وأطلقوا عليها اسماً مشتقاً من إلهها المحلي أكديموس Academus (62 أ)، وفيها أنشأ أفلاطون الجامعة التي قُدِر لها أن تكون فيما بعد مركز بلاد اليونان العقلي تسعمائة عام كاملة (1).
وكان المجمع العلمي (الأكاديمية) من الناحية الفنية إخوة دينية (ثاسيوس Thasios) مخصصاً لعبادة ربات الشعر والفن، ولم يكن الطلاب يؤدون فيه أجوراً عن التعليم، ولكنهم كانوا في الغالب من أبناء الأسر الغنية، ولذلك كان يُنتظر من آبائهم أن يهبوا المعهد هبات قيمة. وفي ذلك يقول سويداس إن الأغنياء " كانوا يوصون قبل وفاتهم لأعضاء المدرسة بما يكفل لهم أن يحيوا حياة الفلاسفة غير مضطرين إلى العمل لكسب أقواتهم" (63). ويقال إن دنيسوس الثاني وهب المعهد ثمانين وزنة (000ر480 ريال أمريكي) (64) - وفي هذا ما قد يفسر صبر الفيلسوف على هذا الملك. وكان الشعراء الفكهون في ذلك الوقت يهجون الطلاب بقولهم إنهم أشخاص متصنعون في أخلاقهم متطرفون في ملابسهم - ذوو قلانس رشيقة وعصي، وستر قصيرة أو أردية جامعية (65). ألا ما أقدم تقاليد إيتن والأثواب الجامعية السوداء! وكانت النساء يُقبلن في المجمع مع الرجال، لأن أفلاطون بقي من هذه الناحية متطرفاً في
_________
(1) ولم تكن هي أولى جامعات بلاد اليونان. ذلك أن مدرسة أقروطرنا الفيثاغورية كانت منذ عام 520 تقدم مناهج دراسية مختلفة لمجتمع علمي متحد النزعة، كما كانت مدرسة إسقراط قائمة قبل مجمع أفلاطون العلمي بثمان سنين.(7/470)
أفكاره تطرفاً جعله من أقوى أنصار المرأة، وكانت أهم موضوعات الدرس هي العلوم الرياضية والفلسفة، وقد كُتِب على مدخل المجمع هذا التحذير: "لن يدخل هذا المكان إنسان بلا هندسة"؛ ولعل قدراً كبيراً من الحساب كان من شروط القبول في المجمع. وكان معظم ما حدث من التقدم في العلوم الرياضية في القرن الرابع على أيدي رجال ممن درسوا فيه. وكان منهاج الرياضة يشمل الحساب (نظرية العدد) والهندسة الراقية، والفلك، "والموسيقى" (ولعل هذه كانت تتضمن الأدب والتاريخ)، والقانون، والفلسفة (66)؛ وكانت الفلسفة الأخلاقية والسياسية آخر الدراسات في هذا المنهاج، هذا إذا كان أفلاطون قد أخذ بالنصيحة التي ينطق بها سقراط في معرض الدفاع إلى حد ما عن أنيتوس وملاتوس:
سقراط: إنك تعرف أن ثمة مبادئ معينة في العدالة والخير تعلمناها في طفولتنا، ونشأنا تحت رعايتها الأبوية، نطيعها ونعظمها.
أجلوكون: هذا صحيح.
سقراط: وثمة أيضاً مبادئ مناقضة لها وعادات من أنواع السرور تتملق أرواحنا وتجذبها إليها، ولكنها لا أثر لها فيمن لديهم أي إحساس بالحق، ومن لا ينقطعون عن إجلال تعاليم آبائهم وطاعتها.
أجلوكون: حق.
سقراط: فإذا كان الإنسان في هذه الحال وسألته روحه السائلة ما هو الشيء الجميل الشريف؟ وأجاب بأن ذلك هو الذي يأمر به القانون، نقضت الحجج أقوال المشترع، فاضطر إلى الاعتراف بأن لا شيء فيه من الجمال أكثر مما فيه من القبح، أو فيه من العدالة والطيبة أكثر مما فيه من نقيضيهما، وإلى الاعتراف بأن هذا بعينه ينطبق على جميع آرائه التي خلع عليها الزمن جلالاً وتعظيماً، إذا حدث هذا فهل تظن أنه سيظل يعظم هذه التعاليم ويطيعها؟.
أجلوكون: هذا مستحيل.(7/471)
سقراط: وإذا لم يعد يظنها كما كان يظنها من قبل شريفة وطبيعية، ثم عجز عن معرفة الحق، فهل يُنتظر منه أن يحيا حياة غير الحياة التي تتملق شهواته؟
أجلوكون: ذلك ما لا يُنتظر منه.
سقراط: وهل ينقلب بعدئذ من إنسان طائع للقوانين إلى إنسان خارج عليها؟.
أجلوكون: بلا ريب.
سقراط: وإذن فلا بد من الحذر الشديد في إدخال مواطنينا الذين لا يتجاوزون سن الثالثة والثلاثين في الجدل ... إذ يجب ألا يسمح لهم بتذوق هذه اللذة العزيزة قبل الأوان؛ هذا شيء ينبغي تجنبه بنوع خاص، لأن الشبان، كما رأيت، إذا تذوقوا الجدل بدءوا من فورهم يجادلون حباً في الجدل، ولا ينفكون يعارضون غيرهم ويدحضون حججهم تقليداً منهم لمن ينقضون حججهم هم؛ فهم في هذا أشبه بصغار الكلاب التي يسرها أن تشد أثواب كل من يقترب منها وتمزقها.
أجلوكون: نعم إن هذا هو الذي يسرها.
سقراط: وإذا ما غلبوا الكثيرين من الناس وغلبهم الكثيرون اندفعوا بسرعة وعنف إلى حال لا يؤمنون معها بأي شيء كانوا يؤمنون به من قبل، ومن ... ثم تسوء سمعة الفلسفة عند سائر الناس.
أجلوكون: هذا هو عين الحق.
سقراط: ولكن الرجل إذا بدأ يكبر، فإنه لا يرتكب هذا الضرب من الأعمال الجنونية؛ بل يحذو حذو الرجل المنطقي الذي يبحث عن الحقيقة، لا حذو الخصيم الذي يعارض لما يجده في المعارضة من لذة؛ وإن إجلال الناس لخلقه سيزيد من شرف هذا السعي بدل أنه ينقص منه (67).
وكان أفلاطون وأعوانه يعلمون الناس بالمحاضرات والحوار، وبعرض(7/472)
المسائل على الطلاب لحلها؛ وكان من هذه المسائل إيجاد: "الحركات المنتظمة المتساوية التي يمكن بالاستناد إليها تعليل حركة الكواكب" (68)؛ ولعل أودكسوس وهرقليدس قد وجدا في هذه البحوث ما يحفزهما إلى العمل. وكانت المحاضرات علمية، وكانت في بعض الأحيان مخيبة لآمال مَن جاءوها طلباً للكسب المادي، ولكن تلاميذ أرسطو ودمستين وليقورغ، وهيبريدس، وأكسانوقراطيس تأثروا بها أعمق التأثر ونشروا في كثير من الأحيان ما كتبوه عنها من مذكرات. وقال أنتفانس متفكهاً إن الكلمات التي كان ينطق بها أفلاطون أمام طلابه في شبابهم لم يفهموها إلا في شيخوختهم؛ كما كانت الألفاظ في إحدى المدن القائمة في أقصى الشمال تتجمد حين تخرج من أفواه المتكلمين ثم تُسمع في الصيف حينما تسيح (69).
2 - الفنان
يقر أفلاطون نفسه أنه لم يكتب في حياته رسالة علمية (70)، ويشير أرسطوطاليس إلى ما كان يلقى من العلوم في المجمع العلمي بقوله "تعاليم" أفلاطون "غير المكتوبة" (71). ولسنا نعرف مدى اختلاف هذه التعاليم عما ورد في المحاورات (1)، وأكبر الظن أن هذه المحاورات كانت في بادئ الأمر وسيلة للترويح عن النفس، وأنها كانت تُلقى بطريقة فكهة إلى حد ما (72). ومن سخريات التاريخ أن المؤلفات الفلسفية التي تدرس في الجامعات الأوربية والأمريكية والتي تَلقى فيها أعظم التقدير والإجلال في هذه الأيام قد ألفت لتقرب الفلسفة من أذهان غير العلماء بربطها بإحدى الشخصيات المعروفة. ولم تكن محاورات أفلاطون أول ما كُتب من الحوار الفلسفي، فقد اتبع زينون الإليائي وكثيرون غيره هذه الطريقة ذاتها (73)، ونشر تيمن الأثيني قاطع الجلود بطريقة
_________
(1) إن من فقرات في كتب أرسطو ما يوحي بأنه كان يفهم أفلاطون وخاصة نظريته في الأفكار على غير ما نفهمه نحن من المحاورات.(7/473)
الحوار أحاديث سقراط التي كانت تدور في حانته (74). وكانت المحاورات كما أوردها أفلاطون قطعة أدبية لا تاريخية؛ وهو لا يدعي أنه ينقل لنا نصاً دقيقاً للأحاديث التي كانت تجري قبل أن يكتبها بثلاثين عاماً أو خمسين، بل ولا يدعي أنه يحرص على أن يكون ما فيها من إشارات منسقاً غير متناقض بعضه مع بعض. وذهل غورغياس كما ذهل سقراط حين سمعا الألفاظ التي أنطقهما بها الفيلسوف المسرحي (75). وقد كتبت المحاورات مستقلة كل منها عن الأخرى، ولعلها كتبت في فترات متباعدة تباعداً طويلاً، وليس من حقنا أكثر من هذا أن نرتاع لما فيها من آراء متناقضة. وليس ثمة خطة موضوعة للتأليف بينها كلها وجعلها وحدة منسقة، اللهم إلا البحث المتواصل الذي يقوم به عقل ينمو ويتطور تطوراً واضحاً ملموساً عن الحقيقة التي لا يستطيع الحصول عليها أبداً (1).
والمحاورات مركبة بمهارة وإن كانت لا ترقى إلى الدرجة الوسطى. وهي تصور الأفكار تصويراً مسرحياً، وترسم صورة منسقة لسقراط تدل على حب أفلاطون الشديد له؛ ولكنها قلما تدل على وحدة الأفكار أو تسلسلها، وكثيراً ما تنتقل من موضوع إلى موضوع وتسئم القارئ في كثير
_________
(1) ليس في وسعنا أن نحدد تواريخ للمحاورات الست والثلاثين أو أن نصنفها تصنيفاً علمياً لا مطعن فيه. غير أن في وسعنا أن نقسمها تقسيماً منسقاً إلى الأقسام الآتية: (1) مجموعة أولى وأهمها الأبولوجيا، وأقريطون، وليسيز، وأيون، وخرميدس، وأقراطيلوس، وأوطيفرون وأوتيدموس. (2) ومجموعة وسطى وأهمها غورغياس، وبوتاغوراس، وفيدون، ومعرض الآراء (سمبوزيوم)، وفيدروس، والجمهورية. (3) ومجموعة متأخرة وأهمها برمنيدس، وتيتياتوس، والسوفسطائي، والسياسي، وفيلابوس، وتيماوس، والقوانين. وأكبر الظن أنه ألف المجموعة الأولى قبل أن يبلغ الرابعة والثلاثين من العمر، والثانية قبل الأربعين، والثالثة بعد الستين، وأنه كان يخصص السنين التي بين كل مجموعة والتي تليها للمجمع العلمي.(7/474)
من أجزائها لأنه يورد الحديث بمعناه لا بلفظه - فيجعل رجلاً واحداً ينقل سائر أحاديث غيره من الناس. ويقول سقراط إن ذاكرته "غاية في الضعف" (77). ولكنه مع ذلك يتلو على صديق له عن ظاهر قلب أربعاً وأربعين صفحة من نقاش جرى في أيام شبابه بينه وبين بروتاغوراس. ومما يضعف معظم المحاورات أنها يعوزها المتكلمون الأقوياء القادرون على أن يردوا على سقراط "بغير نعم" أو ما في معناها. ولكن هذه العيوب تختفي في تألق اللغة ووضوحها، وما في الموقف، والتعبير، والفكرة من فكاهة؛ والعالم الحي وما فيه من مختلف الشخصيات البشرية الحقيقية، وما تفتحه هذه المحاورات من نوافذ توصل إلى العقل العميق النبيل. وفي وسعنا أن نحكم على ما كان لهذه المحاورات من قيمة عظيمة عند الأقدمين، إذا ذكرنا أنها أكمل نتاج عقلي وصل إلينا من أي مؤلف يوناني؛ وإن شكلها ليضعها في تاريخ الأدب في منزلة لا تقل سمواً عن المنزلة التي يضعها فيها موضوعها في تاريخ الفكر.
وأقدم المحاورات من خير الأمثلة في جدل الشباب الخصيم الذي يندد به في الفقرة التي أوردناها من قبل، ولكن الصورة الساحرة التي تصور بها هذه المحاورات الشباب الأثيني تذهب بما فيها من عيوب من هذه الناحية. ومعرض الآراء هو خير ما كتب من نوعه في أدب العالم كله، وهو خير مقدمة لكتب أفلاطون؛ وإن ما فيه من تصوير مسرحي للمناظر (ونورد على سبيل المثال قول أجاثون Agathon لخدمه: "تصوروا أنكم أرباب المنزل وأنني أنا وأصحابي ضيوفكم" (78))، والصورة الحية التي رسمها لأرسطوفان "وقد تملكه الفواق من كثرة الأكل"، وقصته المرحة عن ألقبيادس الثمل الذي افتضح أمره بين الناس، وأهم من هذا كله براعته في التأليف بين الواقعية القاسية في صورة سقراط وبين فكرته السامية عن الحب، نقول إن هذه الصفات تجعل معرض الآراء آية أدبية رائعة في فن النثر. أما الفيدون فأقل من معرض الآراء قوة وأكثر منه جمالاً. فالنقاش الرئيسي فيه، مهما يبلغ من الضعف، نقاش أمين لا التواء فيه ولا مغالطة، يبيح لصاحب الرأي(7/475)
المخالف فرصة مكافئة لفرصة مناظره؛ ويتدفق تدفقاً أكثر سلاسة وسط مناظر يتغلب هدوؤها على ما فيها من مآسٍ، حتى أن موت سقراط نفسه ليشبه اختفاء النهر عن العين حين يلتف عند أحد المنحنيات. ويدور بعض ما يشتمل عليه فيدروس من حوار على شواطئ نهر إليسوس Illissus حين يبرّد سقراط وتلميذه أقدامهما في ماء النهر. ولا حاجة إلى القول بأن أعظم المحاورات كلها على الإطلاق هي الجمهورية لأنها أكمل عرض لفلسفة أفلاطون، وهي في أولى أجزائها صراع مسرحي بين الأشخاص والآراء. والبارمنيدس أسوأ مثل للتلاعب المنطقي في الأدب كله، كما أنه أجرأ مثل في تاريخ الفلسفة للمفكر الذي يفند أحب العقائد إلى نفسه - نعني نظرية الأفكار - تفنيداً لا يقوى أحد على الرد عليه ودحض حججه. وفي المحاورات الأخيرة تضعف قدرة أفلاطون الفنية، فتضمحل شخصية سقراط، وتفقد الميتافيزقيا شعريتها، وتفقد السياسة "مُثُل الشباب العليا" حتى إذا ما وصلنا إلى القوانين، استسلم الرجل المتعب المنهوك القوى الذي ورث جميع ثقافة أثينة على اختلاف مناحيها إلى إغراء إسبارطة، وطلّق الحرية، والشعر والفن والفلسفة نفسها.
3 - الميتافيزيقي
لم يتبع أفلاطون فيما خلفه من أفكار خطة منظمة، وإذا لخصنا نحن آراءه ووضعنا لها رؤوس موضوعات مختلفة كالمنطق، وما وراء الطبيعة، والأخلاق، وعلم الجمال، والسياسة، ليسهل علينا أن نتحدث عنها حديثاً منظماً، فإن من الواجب أن نذكر أن أفلاطون نفسه كان شاعراً مغرقاً في شاعريته إلى حد يمنعه أن يقيد أفكاره ويحدها بحدود. وإذ كان أفلاطون شاعراً فقد كان المنطق أكثر ما يعترض سبيله من الصعاب، فهو يجول هنا وهناك يبحث(7/476)
عن التعاريف ويضل السبيل في التشبيهات التي تعرضه لأشد الأخطار؛ "ثم دخلنا في تيه، ولما حسبنا أننا قد وصلنا إلى آخره، رأينا أنفسنا مرة أخرى في بدايته، وكان علينا أن نعود إلى البحث عن مخرج" (79)، ويختم حديثه هذا بقوله: "ولست واثقاً قط من أنه يوجد من بين العلوم علم كالمنطق" (80). ولكنه مع هذا يخطو فيه الخطوة الأولى. فهو يفحص عن طبيعة اللغة ويقول إنها مشتقة من محاكاة الأصوات (81)؛ ويبحث في التحليل والتركيب، والتشبيهات والمغالطات، ويقبل الاستقراء، ولكنه يفضل الاستدلال (82)؛ ويضع في هذه المحاورات الشعبية نفسها مصطلحات فنية، كالجوهر، والطاقة، والفعل والانفعال، والتوليد، وهي المصطلحات التي استخدمتها الفلسفة فيما بعد. وهو يضع أسماء لخمس من المقولات العشر التي أذاعت شهرة أرسطوطاليس. وهو يرفض قول السوفسطائيين إن الحواس خير وسيلة لمعرفة الحقيقة وإن الفرد هو مقياس الأشياء جميعها؛ ويقول إنه لو صح هذا لكان ما يقوله أي إنسان عن العالم مساوياً في قيمته لما يقوله أي نائم، وأي مخبول، أو أي قرد (83).
ولسنا نستمد من فوضى الحواس إلا فيضاً من التغيرات الهرقليطية؛ ولو لم تكن لنا إلا إحساسات، لما كانت لدينا قط معلومات أو حقائق؛ ذلك أن المعلومات لا تأتي إلا عن طريق الأفكار، وعن طريق الصور المعممة، والأشكال التي تصوغ فوضى الإحساسات وتكون منها التفكير المنظم (84). ولو كنا لا ندك إلا الأشياء المفردة لكان التفكير مستحيلاً، ذلك أننا نتعلم التفكير بجمع الأشياء وتصنيفها حسب ما بينها من أوجه الشبه، ثم نعبر عن الصنف بأجمعه باسم عام له، فلفظ رجل يمكننا من أن نفكر في جميع الرجال، ولفظ منضدة يمكننا من التفكير في جميع المناضد ولفظ ضوء في جميع الأضواء التي سطعت في البر أو البحر. وليست هذه الآراء ( Ideai, Eida) أشياء تدركها الحواس، ولكنها حقائق تعرف بالتفكير، لأنها تبقى، ولا تتغير، ولو انعدمت(7/477)
جميع الموجودات الحسية المقابلة لها. فالرجال يولدون ويموتون، ولكن "الرجل" يبقى. وليس كل مثلث بمفرده إلا مثلثاً ناقصاً، يفنى عاجلاً أو آجلاً، ومن أجل هذا فهو غير حقيقي نسبياً، ولكن "مثلث"- أي الشكل والقانون اللذين ينطبقان على جميع المثلثات- كامل سرمدي (85). وكل الأشكال الرياضية أفكار سرمدية وكاملة (1)، وكل ما تقوله الهندسة عن المثلثات، والدوائر، والمربعات، والمكعبات، والكرات، يبقى صحيحاً، ومن ثم فهو "حقيقي" ولو لم توجد هذه الأشكال في العالم المادي في الماضي أو في المستقبل. والمعاني المجردة هي الأخرى حقيقية بهذا المعنى؛ فالأعمال الفردية الفاضلة قصيرة الأجل ولكن الفضيلة تبقى حقيقية خالدة في التفكير وأداة للتفكير؛ وهذا أيضاً شأن الجمال، والكبر، والمشابهة وما إليها (87). فالأعمال والأشياء الفردية أشياء وأعمال بالصورة التي نعرفها بها، لأنها تشترك في هذه الأشكال الكاملة أو الأفكار، وتحقق وجودها بدرجة قليلة أو كثيرة. وعالم العلم والفلسفة لا يتكون من أشياء مفردة، بل يتكون من أفكار (2) (88)؛
_________
(1) ولقد حاول أفلاطون في سنيه الأخيرة أن يبرهن على عكس نظرية فيثاغورس، أي أن الأفكار جميعها صورة رياضية.
(2) وازن بين هذا وبين قول كرل: "إن الأفكار وحدها عند العلماء المحدثين، كما هي عند أفلاطون، هي الحقائق" (89). وانظر أيضاً قول أسبنوزا: "لست أفهم من قولهم تتابع العلل والمعلولات الحقة، أن هناك سلسلة من الأشياء الفردية المتغيرة؛ وليس ذلك فقط لأن عددها يخطئه الحصر، بل لأن ... وجود الأشياء المعينة لا صلة بينه وبين جوهر هذه الأشياء، وليس هو حقيقة أزلية" (لكي تكون هندسة المثلثات حقيقية، ليس من الضروري أن يوجد أي مثلث خاص). "على أنه ليس من الضروري أن نفهم سلسلة الأشياء الفردية المتغيرة، لأن جوهرها ... لا يوجد إلا في الأشياء الثابتة الأزلية ومن القوانين المسجلة في هذه الأشياء، والمكونة لشرائعها الحقة التي بمقتضاها صنعت ورتبت" (90). ويلاحظ القارئ أن هرقليطس وبارمنيدس يتفقان مع أفلاطون في نظريته الخاصة بالأفكار: فهرقليطس إذن على حق، وتتابع الأشياء حقيقي في عالم الحواس؛ كما أن بارمنيدس على حق والوحدة التي لا تتبدل حقيقة في عالم الأفكار.(7/478)
والتاريخ المتميز عن السِّيَر هو قصة الإنسان، وليس علم الأحياء هو علم كائنات عضوية معينة بل هو علم الحياة نفسها، وليست العلوم الرياضية هي دراسة الأشياء المجسمة بل هي دراسة العدد، والعلاقة، والشكل، مستقلة عن الأشياء نفسها، ولكنها تصدق على جميع الأشياء. والفلسفة هي علم الأفكار.
وكل شيء في ميتافيزيقية أفلاطون يدور حول نظرية الأفكار. فالله المحرك الأول الذي لا يتحرك، أو روح العالم (91)، يحرك كل شيء وينظمه حسب القوانين والأشكال الأزلية، وهي الأفكار التي لا تتبدل والتي تكون، على حد قول أصحاب الأفلاطونية الحديثة، الكلمة أو الحكمة الإلهية أو عقل الله. وأرقى الأفكار هو الخير، ويرى أفلاطون في بعض الأحيان أن هذا الخير هو الله نفسه (92)، ولكنه في أكثر الأحيان هو أداة الخلق الهادية المرشدة، والشكل الأعلى الذي تنجذب إليه كل الأشياء. وإدراك هذا الخير، ورؤية هذا المثل الأعلى الذي يشكل عملية الخلق، هو أسمى غاية تبتغيها المعرفة (93). وليست الحركة وعملية الخلق عمليتين آليتين، بل هما تحتاجان في العالم، كما نحتاج نحن، إلى روح أو مبدأ حيوي يكون هو قوتهما المنشئة المبدعة (94).
وليس شيء حقيقياً إلا الذي فيه قوة (95)، ومن أجل هذا فإن المادة ليست حقيقة أساسية ( to me on) بل هي مجرد مبدأ من القصور الذاتي، وإمكانياته تنتظر أن يعطيها الله أو الروح شكلاً خاصاً وكياناً حسب فكرة من الأفكار. والروح هي القوة المتحركة بنفسها الموجودة في الإنسان، وهي جزء من الروح المتحركة بنفسها الموجودة في الأشياء جميعها (96). وهي قوة حيوية خالصة، مجردة من الجسم، وخالدة. وقد وجدت قبل الجسم، وجاءت معها من حلولها في أجسام سابقة بذكريات كثيرة إذ أيقظتها الحياة الجديدة حسبناها خطأ معلومات جديدة. ولنضرب لذلك مثلاً الحقائق(7/479)
الرياضية فهي بأجمعها حقائق فطرية بهذه الطريقة، وكل ما يفعله التعليم هو أنه يوقظ ذكريات الأشياء التي عرفتها الروح في حيواتها الكثيرة الماضية (97). وإذا مات الإنسان انتقل روحه أو مبدأ الحياة الذي فيه إلى كائنات عضوية أخرى أرقى منه أو أحط حسب ما استحقته في تجسداتها السابقة. وربما ذهبت الروح المذنبة إلى المطهر أو الجحيم، وذهبت الروح الفاضلة إلى جزائر المباركين (98). فإذا ما تطهرت الروح في خلال الحيوات المختلفة من جميع آثامها، تحررت من التجسد وصعدت إلى الفردوس تتمتع فيه بالسعادة السرمدية (1).
4 - العالم الأخلاقي
لقد كان أفلاطون يعرف أن كثيرين من قرائه سيكونون من المتشككين، ودليلنا على هذا أنه قضى بعض الوقت يحاول وضع قانون أخلاقي طبيعي يبعث في نفوس الناس الرغبة في الاستقامة والصلاح من غير أن يعتمدوا على السماوات والمطهر والجحيم (101)؛ وإن المحاورات التي كتبها في حياته الوسطى لتتحول شيئاً فشيئاً من الميتافيزيقا إلى الأخلاق والسياسة "إن أعظم أنواع الحكمة وأجملها هي الحكمة المتصلة بتنظيم الدول والأسر" (102).
والمشكلة الرئيسية في علم الأخلاق تدور حول النزاع الظاهر بين ملاذ الفرد وبين الخير الاجتماعي. ويعرض أفلاطون هذه المشكلة عرضاً واضحاً ويورد على لسان كلياس Callias من الحجج التي تبرر الأنانية ما لا يقل عن أقوى الحجج التي أوردها أي داعية لمخالفة القواعد الخلقية في عصر من العصور (103). وهو يعترف بأن كثيراً من اللذائذ لا عيب فيه ولا إثم،
_________
(1) يصعب علينا أن نحكم عن مقدار ما في هذه العقيدة، عقيدة الخلود، الهندية-الفيثاغورية-الأورفية من تصوير متعمد يهدف إلى حماية الناس من الزلل. ويعرضها أفلاطون عرضاً فكهاً، كأنها في نظره لا تعدو أن تكون أسطورة نافعة، أو عوناً شعرياً على الخلق الطيب.(7/480)
وأن الإنسان في حاجة إلى الذكاء للتمييز بين اللذات الطيبة واللذات الضارة، وأن من الواجب أن تربى في الطفل عادة الاعتدال وإدراك "الأواسط الذهبية للأمور" خشية أن يأتي الذكاء متأخراً بعد فوات الوقت (104).
وتتكون النفس أو أصل الحياة من ثلاث درجات أو أجزاء- الشهوة، والإدارة، والفكر، ولكل جزء من هذه الأجزاء فضيلته الخاصة- الاعتدال والشجاعة، والحكمة؛ ويجب أن تضيف إليها التقوى والعدالة- وأداء واجب الإنسان نحو والديه وآلهته. ويمكن تعريف العدالة بأنها هي تعاون الأجزاء في الكل، أو العناصر في الأخلاق، أو الأهلين في الدولة، بحيث يقوم كل جزء بواجبه اللائق به على الوجه الأكمل (105). وليس الخير هو الفعل وحده أو اللذة وحدها، بل هو امتزاجهما بنسب ومقادير تنتج منها حياة الفعل (106). والخير الأسمى كائن في العلم الخالص بالأشكال والقوانين السرمدية، و"أسمى خير" من الناحية الأخلاقية " ... هو ما في النفس من قدرة أو موهبة، إذا كان ثمة شيء من هذا النوع تستطيع به أن تعرف الحقيقة، وأن تفعل كل الأشياء من أجل الحقيقة (107)؛ ومن يحب الحقيقة لا يهمه أن يجزي الإساءة بالإساءة" (108)، بل يفضل أن يتحمل على أن يرتكب هو الظلم، و"يضرب في الأرض براً وبحراً يبحث عن الناس الذين لا يجد الفساد سبيلاً إليهم، والذين لا تُقَوَّم صحبتهم بالمال أياً كان ... والذين يهبون أنفسهم للفلسفة بحق يمتنعون عن الشهوات الجسمية، وإذا ما عرضت عليهم الفلسفة أن تطهرهم من الشر وتحررهم منه، أحسوا بأن من واجبهم ألا يقاوموا تأثيرها فيهم؛ ومن أجل ذلك يميلون نحوها، ويسيرون خلفها للهدف الذي تقودهم إليه" (109).
وكان أفلاطون قد حرق قصائده وفقد عقائده الدينية، ولكنه ظل مع ذلك شاعراً وعابداً؛ يغمر فكرته عن الخير إحساس قوي بالجمال وتقوى ممتزجة(7/481)
بالزهد والتقشف؛ توحدت فيه الفلسفة والدين وامتزجت فيه الأخلاق بحاسة الجمال. ولما تقدمت به السن عجز عن أن يرى الجمال منفصلاً عن الخير والحقيقة. وكان في دولته المثالية يفرض الرقابة على جميع الفن والشعر اللذين قد ترى الحكومة أن فيهما نزعة مغايرة للأخلاق الفاضلة أو الوطنية، وهو يمنع فيها جميع الخطب وجميع المسرحيات المضادة للدين؛ وحتى شعر هومر نفسه- الذي يصور الدين المغاير للأخلاق تصويراً مغرياً- يجب أن يضحى به. وكان يجيز في هذه الدولة المثالية أساليب الموسيقى الدُّورية والفريجية؛ ولكنه يشترط ألا تضر بها آلات معقدة التركيب أو يعزفها فنانون يُحدثون "أصواتاً وحشية" في أثناء عرضهم الفني (110)، أو يُدخلون فيها بدعاً متطرفة.
"يجب الابتعاد عن إضافة أي نوع جديد لأنواع الموسيقى، لأن هذا يعرض الدولة كلها للخطر؛ وسبب ذلك أن الأنماط الموسيقية إذا اضطربت أثرت حتماً في أهم الأنظمة السياسية ... ذلك أن النمط الجديد يتأصل في الدولة تدريجاً، ويتطرق شيئاً فشيئاً إلى أخلاق الناس وعاداتهم، ومن هذه الأخلاق والعادات يهاجم الشرائع والدساتير، ويظهر في هذا الهجوم منتهى السفالة، وينتهي الأمر بقلب كل شيء في الدولة رأساً على عقب (111).
والجمال كالفضيلة إنما يكون في اللياقة، والتناسب، والنظام. والعمل الفني يجب أن يكون مخلوقاً حياً، ذا رأس، وجذع، وأطراف، توحدها وتبعث فيها الحياة، فكرة واحدة (112). ويظن هذا المتزمت المتحمس أن الجمال الحق هو جمال العقل لا جمال الجسم، وأن الأشكال الهندسية ذات جمال سرمدي مطلق، وأن القوانين التي تقوم عليها السماوات تفوق النجوم في جمالها (113). والحب هو طلب الجمال ويتألف من ثلاث مراحل أولاها حب الجسم والثانية حب الروح والثالثة حب الحقيقة. وحب الجسم بين الرجل والمرأة مشروع لا إثم فيه لأنه وسيلة للتناسل الذي هو نوع من أنواع الخلود (114)؛ ولكنه مع ذلك صورة بدائية من(7/482)
الحب غير جديرة بالفيلسوف. والحب الجسمي بين الرجل والرجل أو بين المرأة والمرأة مناف للطبيعة ويجب قمعه لأنه يعطل التناسل (115). وقمعه مستطاع بالسمو به إلى المرحلة الثانية أي المرحلة الروحية من مراحل الحب: ففي هذه المرحلة يحب الرجل الكبير السن الشاب لأن وسامته رمز للجمال الطاهر السرمدي، والشاب يحب الشيخ لأن حكمته تيسر له سبيل الفهم والشرف. ولكن أسمى أنواع الحب هو "حب الاستحواذ على الخير الأبدي" وهو الحب الذي يسعى وراء الجمال المطلق للأفكار أو الأشكال الكاملة السرمدية (116). وهذا النوع لا العاطفة غير الجسمية بين الرجل والمرأة هو "الحب الأفلاطوني"، وهو النقطة التي يتحدث عندها أفلاطون الشاعر مع أفلاطون الفيلسوف في الرغبة القوية في الفهم، وتكاد هذه الرغبة أن تكون شغفاً صوفياً بما في القانون وما في بناء العالم وحياته وغايته من نور النعيم الباهر.
"لأن أديمنتس، الذي لا يتحول عقله عن الوجود الحق لا يجد لديه وقتاً يطل فيه على شئون الناس، أو يمتلئ فيه قلبه حسداً وغُلاً من النزاع معهم؛ ذلك أن عينه تتجه على الدوام نحو المبادئ الثابتة التي لا تتبدل، وهي التي لا يؤذي بعضها بعضاً، بل يراها كلها تتحرك في نظام حسب قوانين العقل؛ فهو يحذو حذو هذه المبادئ، وعلى مثالها يشكل حياته قدر المستطاع" (117).
5 - الطوباوي
ولكنه مع هذا يهتم بشئون الناس، وتتمثل أمام ناظريه رؤيا اجتماعية أيضاً، ويحلم بوجود مجتمع خالٍ من الفساد والفقر والظلم والحروب. وقد روعته ما كان يسود أثينة من انقسامات حزبية مريرة "وشقاق، وعداء، وحقد، وريبة، لا تكاد تخبو نارها حتى تعود إلى الاشتعال" (118). وكان يحتقر ألجركية المال كما يحتقرها جميع النبلاء أبناء الأسر الشريفة ذات المجد التليد،(7/483)
ويقول عن رجالها إنهم "رجال الأعمال ... الذين لا تطاوعهم نفوسهم إلى رؤية من قضوا عليهم بجشعهم، ويدفعون سمومهم - أي مالهم - في جسم كل من لا يحْذَرهم، ثم يستردون ما أخذوه منهم أضعافاً مضاعفة: وتلك هي الطريقة التي يملأون بها الدولة بالكسالى والمعدمين" (119) "ثم تنشأ الديمقراطية، بعد أن يتغلب الفقراء على معارضيهم، فيقتلون بعضهم، وينفون من البلاد البعض الآخر، ثم يمنحون الباقي أقساطاً متساوية من الحرية والسلطة" (120). ويتضح آخر الأمر أن الديمقراطيين لا يقلون فساداً عن الحكام الأثرياء: فهم يستخدمون القوة التي تؤول إليهم لكثرة عددهم ليوزعوا الأموال العامة على الفقراء، ومناصب الدولة عليهم أنفسهم؛ وهم يتملقون العامة ويداهنونهم حتى تنقلب الحرية فوضى، وتنحط المعايير بعد أن تؤول السلطة العليا إلى أراذل الناس، وتغلظ الطباع بسبب انتشار الوقاحة والسباب؛ وكما أن السعي الجنوني وراء المال يقضي على الحكم الألجركي، كذلك يقضي على الديمقراطية التطرف في الحرية.
سقراط: ففي هذه الدولة تسود الفوضى، وتتخذ سبيلها إلى البيوت الأفراد، وتنهي الأمر بانتقال عدواها إلى الحيوانات ... فيتعود الأب النزول إلى مستوى أبنائه ... ويتعود الابن أن يضع نفسه في مستوى أبيه، فلا يخشى أبويه، ولا يستحي منهما .. ويخاف الأستاذ طلابه ويتملقهم، ويحتقر الطلاب أساتذتهم ومعلميهم .. ويصبح الكبار والصغار سواسية، فيضع الشاب نفسه في مستوى الشيخ، ولا يستنكف أن يعارضه بالقول والفعل، ولا يتحرج الشيوخ من تقليد الشبان. ومن واجبي ألا أنسى حرية الجنسين الذكور والإناث ومساواة كليهما بالآخر في علاقتهما بعضهما ببعض ... والحق أن الخيل والحمير، لن تعدم وقتئذ سبيلاً للسير مع الناس جنباً إلى جنب، والاستمتاع بكل ما لأحرار الناس من حقوق وكرامات ... وقصارى القول أن الأشياء جميعها توشك أن تنفجر لكثرة ما أتخمت بالحرية ...(7/484)
أديمنتس: ولكن ما هي الخطوة التالية؟ ...
سقراط: إن ازدياد أي شيء فوق حده كثيراً ما يؤدي إلى انقلاب في الاتجاه المضاد له ... ولهذا يبدو أن الإفراط في الحرية، سواء كان ذلك من ناحية الأفراد أو من ناحية الدول، لن يؤدي إلا إلى الاستعباد ... ونرى أن أشد أنواع الحكومات استبداداً تنشأ من أشد أنواع الحرية تطرفاً.
وإذا ما صارت الحرية تحللاً من كل القيود، فقد اقتربت الدكتاتورية. ذلك أن الأغنياء يخشون وقتئذ أن تجردهم الديمقراطية من مالهم فيأتمرون بها ليقضوا عليها (122) "وقد يغتصب السلطة أحد الأفراد المغامرين، ويعد الفقراء بكل ما يرغبون فيه، ويحيط نفسه بجيش خاص به، ويقتل أولاً أعداءه ثم يتبعهم بأصدقائه "حتى يطهر الدولة" من هؤلاء وأولئك، ويقيم حكومة دكتاتورية. (123). وفي هذا الصراع العنيف بين الآراء المتطرفة يكون الفيلسوف الذي ينادي بالاعتدال والتفاهم أشبه "برجل وقع بين الوحوش"؛ فإذا كان حكيماً "احتمى بجدار حتى تمر العاصفة والريح الهوجاء" (124)
ومن العلماء من يلجئون في هذه الأزمات إلى الماضي، ويشتغلون بكتابة التاريخ، أما أفلاطون فيلجأ إلى المستقبل، ويضع نظام المدينة الفاضلة، ويرى أن أول ما يجب عمله هو "البحث عن ملك صالح يسمح بأن نجري التجارب على شعبه، وواجبنا الثاني هو أن نبعد من هذه المدينة جميع الكبار فلا نستبقي منهم إلا من لا غنى عنهم لحفظ النظام وتعليم الشبان، وذلك لأن أساليب الكبار تفسد الشباب وتطبعهم بطابع الماضي. ثم نعد للشباب رجالاً كانوا أو نساء منهجاً تعليمياً يمتد إلى عشرين عاماً، ويشمل تعليم الأساطير" وهو لا يقصد بها أساطير الدين القديم الفاسدة، بل أساطير جديدة تعود النفس طاعة الآباء والدولة (1). فإذا قضوا في التعليم هذه المدة وضعت لهم اختبارات جسمية وعقلية وأخلاقية. فأما الذين يخفقون
_________
(1) أي أن أفلاطون يحكم بأن القانون الأخلاقي الطبيعي لا يكفي بمفرده.(7/485)
في هذه الاختبارات فيصبحون هم رجال الاقتصاد في الدولة- رجال الأعمال، والصناع، والزراع؛ ويسمح لهؤلاء بأن تكون لهم أملاك خاصة، وأن يكونوا على درجات مختلفة في الثراء (داخل حدود معينة) حسب كفاياتهم، على أنه لا يسمح بوجود العبيد. أما من يجتازون هذا الاختبار الأول فيتلقون منهاجاً آخر من التعليم والتدريب يمتد إلى عشرة أعوام أخرى.
ثم يختبرون من جديد بعد الأعوام الثلاثين؛ فأما الساقطون فيصبحون جنوداً، لا يسمح لهم بأملاك خاصة ولا يشتغلون بالأعمال التجارية والمالية، بل يعيشون في شيوعية عسكرية. وأما الذين يجتازون الاختبار الثاني فيبدأون في ذلك الوقت (لا قبله) دراسة "الفلسفة الإلهية" (125) مدة خمس سنين. وتشمل الدراسة جميع فروع هذه الفلسفة من رياضيات إلى منطق إلى سياسة وقانون. فإذا أتموا هذه الدراسة النظرية خمسة وثلاثين عاماً، ألقوه في الحياة العملية ليكسبوا قوتهم ويشقوا طريقهم. وبعد خمسين عاماً يصبح الباقون منهم على قيد الحياة الطبقة المهيمنة على المدينة أو حكامها من غير حاجة إلى انتخاب.
ويمنح هؤلاء السلطة كلها، ولكنهم لا تكون لهم أملاك. ولن تكون للمدينة قوانين، بل تعرض كل القضايا والمنازعات على الملوك - الفلاسفة ليفصلوا فيها بحكمتهم التي لم تفسدها السوابق. ولن يكون لهؤلاء الملوك - الفلاسفة ملك ولا مال، ولا أسر، ولا زوجات يختصمون بهن على الدوام، وذلك لكيلا يسيئون استخدام سلطتهم. ويتولى الشعب التصرف في أموال المدينة كما يتولى الجند السلطة العسكرية. وليست الشيوعية عند أفلاطون نوعاً من الديمقراطية، بل هي أرستقراطية، يعجز عن بلوغها عامة الشعب، ولا يتحملها إلا الجنود والفلاسفة.
أما الزواج فيجب أن ينظمه الحراس لجميع الطبقات تنظيماً دقيقاً يهدف إلى غرض مقدس هو تحسين النسل. "فيجب أن يجتمع أفضل الجنسين بعضهما ببعض أكثر ما يستطيعون، وأن يجتمع المنحطون من الرجال بالمنحطات من النساء،(7/486)
ثم يربى أبناء الأولين ولا يربى أبناء الآخرين، لأن هذه هي السبيل الوحيدة للاحتفاظ بالشعب في حالة صالحة" (126) وعلى الدولة أن تتولى تربية الأطفال جميعهم وتقدم لهم فرصاً للتعليم متكافئة. ويجب ألا تكون الطبقات وراثية، وأن يكون للبنات من الفرص مثل ما للأولاد، وألا تمنع النساء من تولي مناصب الدولة لأنهن نساء. ويعتقد أفلاطون أنه بهذا المزيج من الفردية والشيوعية، وبالعمل على تحسين النسل، ومساواة المرأة بالرجل في الحقوق، يستطيع أن يوجد مجتمعاً يسر الفيلسوف أن يعيش فيه. ويختم بحثه بالعبارة الآتية: "وإلى أن يكون الفلاسفة ملوكاً، أو أن يتشبع ملوك هذا العالم وأمراؤه بروح الفلسفة وقوتها ... لن تنجو المدن ولن ينجو الجنس البشري من الشر" (127).
6 - المشترع
وظن أنه وجد في دنيسوس الثاني الأمير المطلوب. وكان يشعر كما يشعر فلتير أن الملكية المطلقة تمتاز عن الديمقراطية بأن المصلح في الحالة الأولى لا يحتاج إلى إقناع أكثر من رجل واحد (128). وفي ذلك يقول إنك إذا أردت أن تنشئ دولة صالحة فما "عليك إلى أن تضع على رأسها حاكماً بأمره، شاباً معتدلاً، سريع التعلم، قوي الذاكرة شجاعاً، كريم الطبع ... حسن الحظ؛ ويكون حسن حظه في أنه معاصر لمشترع عظيم، وأن الظروف الموفقة تجمع أحدهما إلى الآخر" (129) لكن اجتماعه بدنيسوس كان كما سبق القول من أسوأ الظروف.
وكان أفلاطون في آخر سني حياته لا يزال يتوق إلى أن يكون مشترعاً، ولذلك عرض على الناس دولة تلي الدولتين السابقتين في الحسن. وهو يتحدث عن هذه الدولة الثالثة في كتاب القوانين، وهذا أقدم المراجع الأوربية المعروفة في التشريع، وهو إلى هذا دراسة نافعة في عهد الشيخوخة(7/487)
اليوناني الذي أعقب عهد الشباب الإبداعي. وفيه يقول أفلاطون إن الدولة الجديدة ينبغي أن تكون في داخل الأرض، بعيدة عن البحر حتى لا تفسد الآراء الأجنبية إيمانها، والتجارة الأجنبية أمنها، والترف الأجنبي بساطتها وانطواءها على نفسها (130). ويجب أن يقتصر عدد مواطنيها الأحرار على العدد السهل الانقسام وهو 5040 يضاف إليهم أفراد أسرهم. ويختار المواطنون من بينهم 360 حارساً يقسمون إلى جماعات تتألف كل واحدة منها من ثلاثين شخصاً يتولون تصريف أعمال الدولة شهراً واحداَ، ويختار الحراس الثلاثمائة والستون مجلساً ليلياً مؤلفاً من ستة وعشرين عضواً يجتمع في الليل ويشرع لكل شئون المدينة الحيوية (131). ويجب على هؤلاء الأعضاء أن يقسموا الأرض بين أسر المواطنين أقساماً متساوية على ألا يسمح لهؤلاء الملاك بتقسيمها بعدئذ ولا بالنزول عنها لغيرهم. وعلى الحراس "أن يتخذوا ما يجب اتخاذه من الاحتياطات حتى لا يضر المطر بالأرض بدل أن ينفعها ... وأن يمنعوا المطر عنها بالجسور والخنادق، ويجعلوا قنوات" الري "توصل الكثير من الماء لجميع الأراضي حتى الأراضي الجافة" (132). ويجب ألا تزيد التجارة عن الحد الأدنى حتى لا ينشأ من هذا عدم المساواة الاقتصادية. ويجب ألا يحتفظ الناس بشيء من الذهب أو الفضة، وألا يتعاملوا بالربا (133)، وألا يُشَجع أي إنسان على أن يعيش باستثمار أمواله، بل يُشَجع على أن يعيش بالاشتغال بزرع الأرض بجد ونشاط. ويجب على كل من يحصل من ريع الأرض على أربعة أمثال قيمته أن يرد الباقي إلى الدولة. وقد قُيد حق التوريث والوصية بأشد القيود (134) وجعل للنساء فرصاً تعليمية وسياسية متكافئة مع الرجال (135)، وفرض على الرجال أن يتزوجوا بين الثلاثين والخامسة والثلاثين، وإلا ألزموا بدفع غرامات سنوية باهضة، (136) وعليهم ألا يلدوا أطفالاً إلا في خلال عشر سنين. ومن الواجب تنظيم الشراب وغيره من وسائل اللهو للمحافظة على أخلاق الشعب (137).(7/488)
وللوصول إلى هذا كله في هدوء وسلام يجب أن تشرف الدولة إشرافاً تاماً على شئون التعليم، والنشر، وغيرها من وسائل تكوين الرأي العام، وأخلاق الأفراد، ويجب أن يكون أكبر موظف في الدولة هو وزير المعارف ويجب أن تحل السلطة محل الحرية في شئون التعليم، وذلك لأن ذكاء الأطفال أقل من أن يجيز لنا أن نتركهم يختطون لنفسهم حياتهم. ويجب ألا تفرض الرقابة على الآداب، والعلوم والفنون، فلا يجوز أن يُعبر عن آراء يرى أعضاء المجلس أنها ضارة بالآداب العامة أو الخلق القويم. وإذ كانت طاعة الوالدين والقوانين لا بد أن تستند إلى قوة أعلى من قوة البشر وتأييدها فإن الدولة هي التي تقرر أي الآلهة تُعبد وكيف تُعبد ومتى تُعبد. وكل من يتردد في الخضوع لهذا الدين الرسمي يسجن، فإن أصر على عدم الخضوع له وجب أن يقتل (138).
وليست الحياة الطويلة نعمة لصاحبها على الدوام. ولقد كان من الخير لأفلاطون أن يموت قبل أن يوجه هذه التهمة لسقراط، وأن يمهد هذا التمهيد لجميع محاكم التفتيش المستقبلة. ولعل دفاعه عن نفسه هو أنه يحب العدالة أكثر من حبه للحقيقة، وأن هدفه هو أن يمحو الفقر والحرب، وأنه لا يستطيع أن يمحوهما إلا بسيطرة الدولة على الأفراد سيطرة تامة، وأن هذه السيطرة لا تكون إلا بواحدة من اثنتين القوة أو الدين. وكان يظن أن ما أصاب الأثينيين من انحلال أيوني في الأخلاق والسياسة لا علاج له إلا بالقوانين الإسبارطية المشتقة من النظام الدوري. والنزعة السارية في تفكير أفلاطون كله هي خوفه من أن يساء استخدام الحرية، وأن يفهم الناس الفلسفة على أنها الرقيب على شئون الناس والمنظمة للفنون. ويعرض أفلاطون في كتاب القوانين تسليم أثينة المحتضرة التي استوفت حياتها لإسبارطة التي قضت نحبها من أيام ليقورغ. وإذا لم يكن في وسع أشهر فلاسفة أثينة أن يقول أكثر مما قال دفاعاً عن الحرية، فمعنى هذا أن بلاد اليونان كانت على أتم استعداد لأن يتولى أمورها ملك. وإذا ما ألقينا نظرة(7/489)
شاملة على جميع هذه الآراء اعترتنا الدهشة إذ نرى أن أفلاطون قد جاء في هذا الوقت القديم بكل ما جاء به في العصور الوسطى الفلسفة والدين والأنظمة المسيحية، وبالشيء الكثير مما جاءت به الفاشية في العصر الحديث. لقد صارت نظرية الأفكار هي "واقعية" المدرسين - واقعية "العموميات" الموضوعية، ولم يكن أفلاطون مسيحياً قبل وجود المسيحية - على حد قول نتشة -فحسب، بل كان فوق ذلك متزمتاً مسيحياً قبل وجود عصر التزمت المسيحي. فهو يرتاب في الطبيعة البشرية ويراها شراً، ويعتقد أنها هي الخطيئة الأولى التي لوثت النفس. وهو يعمد إلى تلك الوحدة القائمة بين الجسم والروح والتي كانت هي الفكرة الرئيسية في القرنين السادس والخامس، فيقسمها إلى جسم خبيث وروح قديسة (139) وهو يستمد من فيثاغورس والأورفية اعتقاد الشرق في تناسخ الأرواح، والكرما (1)، والخطيئة والتطهير، و"الانطلاق"؛ ويضرب في كتبه الأخيرة على نغمة أخروية شبيه بنغمة أوغسطين أي نغمة الرجل الذي تاب وأناب وعاد إلى الدين الصحيح، ولولا هذا النثر الذي بلغ غاية الكمال لشك الإنسان في أن أفلاطون من اليونان.
وقد بقي أفلاطون أحب المفكرين اليونان إلى الناس لأنه يتصف بعيوبهم الجذابة المحبوبة. وكان مثل دانتي مرهف الحس إلى حد يستطيع معه أنه يرى الجمال الكامل السرمدي وراء الأشكال الدنيوية غير الكاملة. وكان زاهداً لأنه كان مضطراً في كل لحظة إلى أن يكبح جماح مزاجه القوي العنيف (140). وكان شاعراً يسيطر عليه الخيال ويسير وراء كل فكرة شاذة غريبة، وتستحوذ عليه مآسي الأفكار ومباهجها، يهيجه التحمس الذهني
_________
(1) عقيدة بوذية تقول إن أعمال الإنسان والكائنات الحية بوجه عام يحددها تتابع العلل والمعلولات السابقة بنظام محتوم لا يتبدل. (المترجم)(7/490)
المنبعث من الحياة العقلية الحرة التي كانت تستمتع بها أثينة. ولكن كان من سوء حظه أنه رجل منطق وشاعر معاً، وأنه كان أقوى مجادل في العصر القديم، فقد كان أدق في جدله من زينون الإليائي ومن أرسطو، وأنه كان يشغف بالفلسفة أكثر من شغفه بأية امرأة أو أي رجل، وأنه انتهى في آخر الأمر بمثل ما انتهى إليه البحاث الأكبر في رواية دستيوفسكي، وهو قمع كل تفكير حر، واعتقاده بأن الفلسفة يجب أن يُقضى عليها لكي يعيش الإنسان ولو أن مدينته الفاضلة تحققت فعلاً لكان هو أول ضحاياها.(7/491)
الفصل الرّابع
أرسطوطاليس
1 - أعوام التجوال
لما مات أفلاطون شيد أرسطو طاليس مذبحاً له وكرمه تكريماً يكاد يبلغ حد التأليه، ذلك لأنه كان يعجب بأفلاطون وإن لم يكن يميل إليه. وكان أرسطوطاليس قد قدم من أثينة من مسقط رأسه في اسطاغيرا وهي مستعمرة يونانية صغيرة في تراقية. وكان أبوه الطبيب الخاص لأمينتاس الثاني Amyntas II والد فليب، وكان قد علّم الشاب) إذا لم يكن جالينوس مخطئاً في قوله (شيئاً من التشريح قبل أن يبعث به إلى أفلاطون. واجتمعت باجتماع الفيلسوفين نزعتان متعارضتان في تاريخ الفكر- النزعة الصوفية والنزعة الطبيعية- وأخذتا تحتربان. ولو أن أرسطوطاليس لم يستمع إلى أفلاطون تلك المدة الطويلة) التي يقدرها بعضهم بعشرين عاماً (لجاز أن يكون له عقل علمي محض؛ أما وقد استمع له تلك المدة فأن ابن الطبيب أخذ ينازع فيه تلميذ المعلم المتزمت، ولم تتغلب إحدى النزعتين على الأخرى، لهذا لم يقر أرسطو طول حياته أي النزعتين يطيع. لقد كدس حوله ملاحظات علمية تكفي لإخراج موسوعة كاملة، ثم حاول أن يحشرها في القالب الأفلاطوني الذي صُنع عقله المدرسي على غراره. ولقد نقض حجج أفلاطون في كل مرحلة من مراحل تفكيره لأنه كان يستعير منه في كل صفحة من صفحات كتبه.
وكان طالباً مجداً، وسرعان ما لاحظ فيه معلمه هذا الجد. ولما قرأ أفلاطون رسالته عن الروح في المجمع العلمي كان أرسطوطاليس) على حد قول ديجين(7/492)
ليرتس ("الشخص الوحيد الذي يستمع إليها من أولها إلى آخرها، أما غيره فقد انفضوا من حوله". ولما مات أفلاطون ذهب أرسطوطاليس إلى بلاط هرمياس Hermeias، وكان قد درس معه في المجمع العلمي وارتفع من، عبد رقيق إلى أن صار حاكماً بأمره في أترنيوس Atarneus وأسوس Assus من بلاد آسية الصغرى. وتزوج أرسطوطاليس بيثياس Pythias ابنة هرمياس؛ وأوشك أن يستقر في أسوس، لكن الفرس اغتالوا هرمياس، لأنهم ظنوه يدبر الخطط لمعاونة فليب في غزوه المرتقب لبلاد آسية. وفر أرسطوطاليس مع بيثياس إلى لسبوس القريبة وقضى فيها بعض الوقت يدرس تاريخ الجزيرة الطبيعي. ثم ماتت بيثياس بعد أن رزق منها بنتاً، ثم تزوج أرسطوطاليس بعدئذ الغانية هربليس Herpyllis أو عاشرها، ولكنه ظل إلى آخر أيام حياته يعز ذكرى بيثياس، وأوصى وهو على فراش الموت أن تدفن عظامه بجوار عظامها، ذلك أنه لم يكن بالرجل المنكب على الدرس والكتب الذي قد يتصوره الإنسان بالنظر إلى مؤلفاته. وفي عام 343 دعاه فليب ليتولى تعليم الإسكندر، وكان وقتئذ غلاماً طائشاً في الثالثة عشر من عمره. وأكبر الظن أن فليب قد عرف الفيلسوف أيام شبابه في بلاط أمينتاس. وجاء أرسطوطاليس إلى بلا؛ وظل يقوم بهذا الواجب الثقيل أربع سنين؛ وفي عام 340 كلفه فليب بالإشراف على إعادة بناء اسطرخوس وتعميرها، وكانت قد ضربت في أثناء الحرب مع أولنثوس Olynthus؛ وطلب إليه فوق ذلك أن يضع لها شرائعها؛ وقد قام بهذه الأعمال جميعها قياماً أرضى أهل المدينة، فأخذت من ذلك الحين تحيي ذكرى هذا التعمير بإقامة عيد له في كل عام (146).
وفي عام 334 عاد إلى أثينة، وافتتح فيها مدرسة لتعليم البلاغة والفلسفة- وأكبر الظن أن الإسكندر قد أمده بما يلزمه من المال، واختار مكانها في أجمل دار للتدريب الرياضي في أثينة، وهي طائفة من المباني خاصة بأبلو لوقيوس(7/493)
Apolls Lyceus) إله الرعاة (تحيط بها حدائق غناء، وطرقات مسقوفة، وكان في صدر النهار يلقي على الطلاب المنتظمين فيها دروساً في موضوعات راقية، وفي عجزه يلقي محاضرات على جماعات من الشعب أقل انتظاماً وأقل رقياً ممن يستمعون إليه في الصباح. وأكبر الظن أن هذه المحاضرات الثانية كانت في البلاغة، والشعر؛ والأخلاق والسياسة، وقد جمع في هذا البناء مكتبة كبيرة، وأنشأ فيهِ حديقة للحيوان ومتحفاً للتاريخ الطبيعي، وسميت المدرسة فيما بعد، باللوقيون Lyceun، كما سمي الطلاب بالمشائين وسميت فلسفتهم بالمشائية نسبة إلى المماشي المسقوفة ( Perptaoi) التي كان أرسطوطاليس يحب أن يسير فيها مع طلابه وهو يحاضرهم. وقامت منافسة حادة بين اللوقيون التي كان معظم طلابها من الطبقة الوسطى، وبين المجمع العلمي الذي كان يستمد معظم أعضائه من طبقة الأشراف، ومدرسة إسقراط التي كان يؤمها في الغالب يونان المستعمرات. ثم خفت حدة هذه المنافسة فيما بعد حين وجه إسقراط اهتمامه إلى الفلسفة، وحين أخذ المجمع العلمي يعنى بالعلوم الرياضية، وما وراء الطبيعة، والسياسة، وأخذت اللوقيون تعنى بالتاريخ الطبيعي. وكان أرسطو يطلب إلى تلاميذه أن يجمعوا المعلومات في الميادين العلمية المختلفة وينسقوها: كعادات البرابرة؛ ودساتير المدن اليونانية، وتواريخ الفائزين في الألعاب البيثية والديونيشيا الأثينية، وأعضاء الحيوانات، وعاداتها، وأصناف النباتات وتوزيعها؛ وتاريخ العلوم والفلسفة، وأضحت هذه البحوث ذخيرة طيبة من المعلومات يستمد منها رسائلهم المختلفة التي يخطئها الحصر، وكان أحياناً يولي هذه المعلومات من الثقة أكثر مما تستحق.
وكتب لأنصاف المتعلمين نحو سبع وعشرين محاورة يرى شيشرون وكونتليان أنها تضارع محاورات أفلاطون؛ وهذه المحاورات هي التي قامت عليها شهرته في الزمن القديم؛ وقد ضاعت فيما ضاع على أثر استيلاء البرابرة على رومة.(7/494)
أما ما بقي من مؤلفاته فهو مجموعة من الكتب الفنية، المجردة إلى أبعد حد في التجريد، والخالية من المتعة إلى درجة تعز على التقليد، وقلما كان العلماء الأقدمون يشيرون إليها في مؤلفاتهم، ولعله قد كتبها في السنين العشرين الأخيرة من حياته بالرجوع إلى مذكرات له وضعها بنفسه ليعتمد عليها في محاضراته، أو من مذكرات دونها تلاميذه عن هذه المحاضرات. ولم تكن هذه الذخيرة العلمية الفنية معروفة خارج اللوقيون حتى نشرها أندرنكوس Andronicus من أهل رودس في القرن الأول قبل الميلاد. وقد بقيت لنا من هذه الكتب أربعون كتاباً، ولكن ديجين ليرتس يضيف إليها 360 كتاباً أخرى أكبر الظن أنها رسائل قصيرة كل منها في موضوع واحد. وهذه البقايا العلمية القليلة هي التي يجب علينا أن نبحث فيها عن الأفكار التي كانت وقتاً ما أفكاراً حية، والتي أكسبت أرسطوطاليس في العصور التي تلت عصره لقب "الفيلسوف". وإذا ما أخذنا ندرسه فعلينا ألا نتوقع أن نرى في كتاباته من البهجة ما في أفلاطون، ومن الفكاهة ما في ديجين؛ بل كل الذي نجده هو طائفة كبيرة من المعلومات القيمة، ومن الحكمة المتحفظة الخليقة بصديق الملوك الذي يعيش من رفدهم (1).
_________
(1) ويمكن تقسيم ما بقي من رسائله ستة أقسام: 1 - رسائل في المنطق: مقولات، شروح، تحليلات سابقة، تحليلات لاحقة، موضوعات، استدلالات سوفسطائية 2 - علوم: (أ) علوم طبيعية: طبيعة، ميكانيكا، هيئة، ظواهر جوية. (ب) أحياء: تاريخ حيوان، أجزاء حيوان، حركات الحيوان، انتقال لحيوان، تناسل الحيوان. (جـ) علم النفس: في الروح، مقالات قصيرة في طبيعة العالم 3 - ما وراء الطبيعة 4 - علم الجمال: البلاغة، والشعر 5 - علم الأخلاق: الأخلاق النيقوماخية، الأخلاق الأوديمية 6 - السياسة: علم السياسة، دستور أثينة.(7/495)
2 - العالم الطبيعي
إن الاعتقاد السائد هو أن أرسطو فيلسوف قبل كل شيء، ولعل هذا من الأخطاء الشائعة؛ بيد أننا سنعده في هذا الكتاب عالماً طبيعياً أولاً، حتى إذا لم يكن لهذا سند إلا أنه رأى في الرجل جديد.
وأول ما نقوله عنه أن عقله الطلَعة يهتم بعملية الاستدلال وأصولها الفنية، ويحلل هذه العملية والأصول تحليلاً بلغ من الدقة حداً اصبح معه الأورغانون ( Organon) أو الآلة) الفكرية (- وهو الاسم الذي أطلق بعد وفاته على رسالاته في المنطق- المرجع الذي ظل المناطقة يعتمدون علية مدى ألفي عام. وهو يتوق إلى أن يكون واضح التفكير، وإن كان لا يصل إلى هذا الغرض فيما لدينا من كتبه إلا نادراً؛ فهو يقضي نصف وقته في تعريف مصطلحاته، فإذا فرغ من هذا شعرَ بأنه قد حل المسئلة التي يبحث فيها. وهو يرَّف التعريف نفسه تعريفاً دقيقاً بأنه تحديد الشيء أو الفكرة بذكر الجنس أو الصنف الذي ينتمي إليه ذلك الشيء، أو تنتمي إليهِ تلك الفكرة) كقوله "الإنسان حيوان" (والفروق الخاصة التي تميزه أو تميزها عن جميع أفراد الصنف (الإنسان حيوان عاقل). ومما تمتاز به طريقته المنظمة أنه قسم المظاهر الرئيسية التي يمكن دراسة أي شيء بمقتضاها عشرة أقسام: المادة، والكم، والكيف، والعلاقة، والمكان، والزمان، والموضع، والمِلْك، والفاعلية، والانفعالية- وهو تصنيف وجد فيه بعض الكتاب ما يعينهم على تنشيط ذهنهم الكليل.
وهو يرى أن الحواس هي المصدر الوحيد للمعرفة، وأن القوانين العامة ليست إلا أفكاراً معممة، وأنها ليست فطرية بل تكونت من مشاهدات للأشياء المتماثلة، فهي مدركات وليست أشياء. وهو يقرر قرار(7/496)
الواثق مبدأ التناقض، بوصفه الشيء البديهي في المنطق كله، وهو أن "الصفة الواحدة لا يمكن أن تكون من صفات الشيء الواحد ومن غير صفاته في العلاقة الواحدة". ويكشف عن المغالطات التي يقع فيها السوفسطائيين أو يغرون الناس بالوقوع فيها، وينتقد المتقدمين لأنهم صوروا الكون أو وضعوا نظرياتهم عنه من خيالهم بدل أن يمضوا الوقت الطويل في الرصد والتجارب بصبر وأناة. ومثله الأعلى في الاستدلال المنطقي وهو القياس- المكون من ثلاث قضايا ثالثتها نتيجة محتومة للقضيتين الأوليتين؛ ولكنه يقر بأنه إذا أريد تجنب الوقوع في خطأ المصادرة على المطلوب الأول (1) وجب أن يسبق القياس استقراء واسع يجعل قضيته الكبرى مرجحة؛ وهو وإن كان في رسائله الفلسفية يضل في بيداء الاستدلال يمجد الاستقراء ويجمع في كتبه العلمية ذخيرة طيبة من الملاحظات المحدودة الدقيقة، ويسجل في بعض الأحيان تجاربه هو أو تجارب غيره من العلماء (2). وقصارى القول أنه رغم أغلاطه واضع أساس الطريقة العلمية وأول من نضم التعاون في البحث العلمي.
فهو يبدأ بحثه العلمي من حيث انتهى ديموقريطس، ولا يخشى أن يلج كل ميدان فيه. وهو أضعف ما يكون في الرياضيات والطبيعة، ويقتصر فيهما على دراسة المبادئ الأساسية. فهو في كتابه "الطبيعة" لا يسعى وراء اكتشافات جديدة بل يهتم بوضع التعاريف الواضحة للمصطلحات المستعملة في هذا العلم كالمادة، والحركة، والمكان، والزمان، والاستمرار، واللانهائي، والتغير، والنهاية. فالحركة والمكان عنده مستمران، وهما لا تتكونان، كما يفترض زينون،
_________
(1) هو افتراض صحة ما يراد إثباته. (المترجم)
(2) مثال ذلك أنه يشير في كتابه "تناسل الحيوان (1: 6: 4) " إلى نمو العينين من جديد إذا أزيلتا في صغار الطير؛ وهو يرفض النظرية القائلة: إن الخصية اليمنى تنتج الذكورة واليسرى الإناث من الأبناء، ويستدل على ذلك بأن رجلاً أزيلت خصيته اليمنى ومع ذلك ظل ينجب بنين وبنات.(7/497)
من لحظات أو أجزاء صغيرة غير قابلة للانقسام، والشيء "اللانهائي" موجود بالقوة لا بالفعل. وهو يحس بالمشاكل التي أثارت تفكير نيوتن وإن لم يعمل شيئاً لحلها؛ وهذه المشاكل هي: القصور الذاتي، والجاذبية والحركة، والسرعة. ولديه فكرة عن توازن القوى، ويقول في قانون الروافع: "كلما كان الثقل المحرك بعيداً عن نقطة الارتكاز كان أقدر على تحريك) الجسم (".
ويقول إن الأجرام السماوية كلها كرات- ويؤكد ذلك بالنسبة للأرض بنوع خاص، لأنه لا يستطيع تفسير شكل القمر إذا خسف بسبب اعتراض الأرض بينه وبين الشمس إلا إذا كانت الأرض كروية. وهو يدرك الأزمنة الجيولوجية إدراكاً يستثير الإعجاب فيقول مثلاً إن البحر يستحيل إلى أرض والأرض تستحيل إلى بحر على توالي الأيام، ولكنا لا نحس بهذا التحول، وقد ظهرت أمم وحضارات لا حصر لها ثم اختفت، إما بسبب الكوارث السريعة، وإما بسبب عدوان الأيام البطيء. " وأكبر الظن أن كل فن قد نما وازدهر وارتفع إلى أعلى الدرجات عدة مرات ثم اختفى. وهذا أيضاً شأن الفلسفة ". والحرارة أهم عامل في التغيرات الجيولوجية والجوية. وهو يجازف بتفسير أصل السحب والضباب، والندى، والصقيع، والمطر، والثلج، والبرد، والرياح، والرعد، والبرق، وقوس قزح، والشهب. ونظرياته في الغالب شاذة غريبة، ولكن رسالته الصغيرة في الظواهر الجوية عظيمة الخطر من الناحية التاريخية، لأنها لا تستند إلى القوى الخارقة للطبيعة، بل يحاول فيما أن يُرجع ما في الجو من تقلبات تبدو له غير منطبقة على القوانين الطبيعية إلى أسباب طبيعية تعمل متعاقبة وفقاً لنظام محدد، ولم يكن من المستطاع أن ترقى العلوم الطبيعية فوق الحد الذي وصلت إليه على يديه إلا بعد أن أمدتها الاختراعات بأجهزة وآلات أوسع مدى وأدق في الرصد والقياس.(7/498)
أما علم الأحياء فهو ميدان أرسطو الحقيقي، فهو فيه واسع الملاحظة عظيم الإطلاع؛ وفيه أيضاً يرتكب أكثر الأغلاط؛ وأعظم فضل له على هذا العلم الحيوي أنه نسق كل ما كشف فيه من قبل ودعم أركانه، وقد استعان بتلاميذه على جمع المعلومات القيمة عن الحيوان والنبات في بلا د بحر أيجة كما جمع في مكان واحد أولى المجموعات العلمية من الحيوان والنبات. إذا جاز لنا أن نأخذ بقول بلني Pliny فأن الإسكندر أصدر الأوامر لصياديه، وحارسي صيده، وصائدي السمك له، وغيرهم ألا يمنعوا عن أرسطو أي نوع يطلبه منها وأن يمدوه بما يريده من المعلومات. ويعتذر الفيلسوف عن اهتمامه بتلك الأشياء الصغيرة فيقول: "ليس في الأشياء الطبيعية ما يخلو من الأعاجيب، وإذا ما احتقر إنسان التفكير في الحيوانات الدنيا، فغن عليه أن يحقر نفسه".
وهو يقسم المملكة الحيوانية قسمين، ذات دم وغير ذات دم: إنيما، وأنيما Anaima, Enaima وهما يقابلان بوجه التقريب تقسيمنا إياها إلى "فقاريات" و "لا فقاريات". ثم يعود فيقسم الحيوانات غير ذات الدم إلى صدفية، وقشرية، ورخوة، وحشرات، ويقسم الدموية إلى أسمال، وقوازب (1)، وطيور، وثدييات.
وتشمل بحوثه في هذا العلم ميداناً واسعاً مختلف الأنحاء. فهو يبحث في أعضاء الهضم، والإخراج، والحس، والحركة والتكاثر، والدفاع؛ وفي أنواع الأسماك، والطيور، والزواحف، والقردة، ومئات غيرها من الأصناف؛ وفي فصول تزاوجها، وطريقة حملها صغارها، وتربيتها إياها؛ وفي ظواهر البلوغ، والحيض، والحمل، والإجهاض، والوراثة، والإتئام؛ وفي مواطن الحيوانات وهجرتها؛ وما يعيش عليها من الطفيليات وما ينتابها من الأمراض؛ وفي طرق نومها وفصول سباتها ... وهو يشرح حياة النحلة شرحاً وافياً ممتعاً (160). وكتابه مليء بالملاحظات
_________
(1) القوازب أو البرمائيات: هي التي تعيش في البر والبحر على السواء. (المترجم)(7/499)
العجيبة العارضة، كقوله إن دم الثيران يتجمد أسرع من تجمد دماء معظم الحيوانات الأخرى، وإن بعض ذكور الحيوان كالجدي بنوع خاص قد تدر اللبن؛ وإن الخيل ذكوراً وإناثاً أكثر الحيوانات شهوانية بعد الإنسان (1).
وهو شديد الاهتمام بأجهزة التوالد وأساليبها في الحيوان، وتثير دهشته كثرة الأساليب التي تتوصل بها الطبيعة إلى الإبقاء على أنواع الأحياء، وكيف "تحتفظ بالنوع حين يعجزها أن تحتفظ بالفرد"؛ وقد ظل عمله في هذا الميدان فذاً منقطع النظير حتى القرن الماضي. ومن أقوله أن حياة الإنسان تدور حول بؤرتين- الأكل والتوالد: "فللأنثى عضو يجب أن يعد بمثابة مبيض لأنه يحتوي على ما يكون في بادئ الأمر بيضة غير متميزة، ثم تتميز بعدئذ فتصبح بويضات كثيرة (2) ". والعنصر الأنثوي يزود مادة الجنين بالطعام، أما عنصر الذكورة فيزوده بالجهد والحركة، والأنثى هي العنصر المنفعل، أما الذكر فهو العنصر النشيط الفعال. ويرفض أرسطو ما يراه أنبادوقليس وديموقريطس من أن جنس الجنين تعينه حرارة الرحم أو تغلب أحد عنصري التكاثر على العنصر الآخر؛ ثم يصوغ بعد إذ هذه النظريات على أنها من وضعه فيقول: "كلما عجز العنصر المكوَّن) الذكر (عن أن تكون له الغلبة، ولم يستطع لنقص حرارته أن يطبخ المادة، أو يشكلها في شكله هو، انتقلت هذه المادة إلى ... صورة الأنثى". ويضيف إلى ذلك قوله: "وقد يحدث أحياناً أن تلد
_________
(1) تدل بعض الإشارات الواردة في "تاريخ الحيوان" على أن أرسطو أعد مجلداً في الرسوم التشريحية، وأن بعض هذه الرسوم قد نقلت من هذا المجلد على جدران اللوقيون؛ وهو يستخدم في كتابة الحروف على الطريقة الحديثة، ليشير بها إلى بعض الأعضاء أو بعض النقط في الرسوم.
(2) لقد عجز أرسطو طاليس على أن يميز بين المبيض والرحم، ولكن وصفه لم يتحسن تحسناً ذا بال قبل عمل استنس Stenson في عام 1669(7/500)
المرأة ثلاثة صغار أو أربعة، وخاصة في أجزاء معينة من الأرض. وأكبر عدد ولدته امرأة هو خمسة أبناء، وقد حدث هذا عدة مرات. وحدث في زمن ما أن وضعت امرأة عشرين طفلاً على أربع دفعات وأن عاش معظم هؤلاء الأطفال حتى كبروا".
وهو يستبق القرن التاسع عشر في كثير من نظريات علم الأحياء. فهو يعتقد مثلاً أن أعضاء الجنين وخواصه تتكون بواسطة جزيئات دقيقة) هي "ذرات التناسل بالتجمع العام" التي يذكرها دارون (1) (تنتقل من كل جزء من أجزاء الشخص الكبير إلى عناصر التوالد. وهو يقول كمل يقول فن بير Von Baer إن الخواص المميزة للجنس تظهر في الجنين قبل غيرها من الصفات، ثم تليها الخواص المميزة للنوع، وتلي هذه الخواص المميزة للفرد. وهو يذكر مبدأ يفخر به هربرت اسبنسر، وهو أن خصوبة الكائن الحي بوجه عام تتناسب تناسباً عكسياً مع تعقد تطوره. وخير ما يتجلى فيه نبوغه هو وصفه جنين الدجاج:
"أجرِ إذا شئتَ هذه التجربة: إيت بعشرين بيضة أو أكثر، واجعل دجاجتين أو أكثر ترقدان عليها. ثم خذ منها بيضة في كل يوم؛ ابتداءً من اليوم الثاني إلى أن تفقس واكسرها وافحص عنها ... ففي حالة الدجاجة العادية تُستطاع رؤية الجنين أو لمرة بعد ثلاثة أيام ... فيظهر القلب في صورة نقطة من الدم، ينبض ويتحرك كأنه قد وهب الحياة، ويخرج منه وعاءان بهما دم يسيران في تلافيف، وغشاء يحمل خيوطاً رفيعة دموية من
_________
(1) يشير الكاتب إلى مذهب دارون في الوراثة القائل بوجود ذرات تنفصل من جميع أنواع خلايا الجسم فتلتقطها غدد التناسل، وهذه الذرات رموز جميع الأنسجة تتجمع في الجرثومة ومنها يتخلق المولود الجديد (معجم الدكتور شرف). (المترجم).(7/501)
أنابيب الوريدين ويحيط بجميع أجزاء المخ) الصفار ( ... وبعد عشرة أيام يُرى المخ بجميع أجزائه واضحاً كل الوضوح".
ويعتقد أرسطو أن جنين الإنسان ينمو كما ينمو جنين الكتكوت: "ويرقد الطفل في رحم أمه بهذه الطريق عينها ... لأن طبيعة الطائر يمكن تشبيهها بطبيعة الإنسان". وهو يستطيع بنظريته الخاصة بالأعضاء المتشابهة أن يرى عالم الحيوان في صورة جامعة: "فالظفر مماثل للمخلب، واليد شبيهة بثنية السرطان القاطعة، والريشة بقشرة السمكة". وهو يقترب في بعض الأحيان من نظرية النشوء والارتقاء:
"تسير الطبيعة قليلاً قليلاً من الأشياء غير الحية إلى الحياة الحيوانية بطريقة يستحيل معها أن نحدد تحديداً دقيقاً متى تنتهي هذه وتبدأ تلك ... فجنس النبات مثلاً يأتي بعد الجمادات غير الحية في سلم الرقي، وهذا النبات لا حياة فيهِ نسبياً إذا وازنا بينه وبين الحيوان، ولكنه حي إذا ووزنَ بالأشياء الجامدة. وفي النبات سلم تصاعدي مستمر نحو مرتبة الحيوان. ففي البحر أشياء لا يستطيع الإنسان أن يقول هل هي حيوان أو نبات ... فالإسفنج مثلاً شبيه بالنبات من جميع الوجوه ... وبعض الحيوانات ثابتة في أماكنها لا تنتقل منها، وإذا انتزعت منها هلكت ... أما من حيث الحساسية فإن بعض الحيوانات لا يظهر فيها ما يدل عليها، وبعضها تظهر فيها غامضة ... وهذا التنوع بعينهِ يظهر في سلم الرقي الحيواني.
وهو يرى أن القرد صورة وسطى بين الإنسان وغيره من الحيوانات التي تلد، ولا يقبل فكرة أنبادوقليس عن الانتخاب الطبيعي للتغيرات العارضة، لأن النشوء والارتقاء ليس فيهما أشياء عارضة، بل أن خطوط التطور يحددها ما في كل فرد، ونوع، وجنس من دافع فطري لكي ينمي نفسه(7/502)
نماءً يصل به إلى أقصى درجة من تحقيق طبيعته. إن لهذا التطور خطة موضوعة ولكنها دفع من الداخل نحو الغرض يجذب كل شيء إلى أن يكمل طبيعته.
ويمتزج بهذه الآراء النيرة كل ما يتوقع الإنسان وجوده في ذلك الزمن القاصي الذي يبعد عنا ثلاثة وعشرين قرناً من أخطاء كثيرة، يبلغ بعضها من الشناعة حداً لا نرى معه حرجاً إذا ظننا أن مؤلفات أرسطو في علم الحيوان قد اختلطت مذكراته بمذكرات تلاميذه. فكتابه في تاريخ الحيوان معين لا ينضب من الأخطاء؛ فهو يقول فيه إن الفئران تموت إذا شربت الماء في الصيف، ولأن الفيلة لا يصيبها إلا مرضان- الزكام والانتفاخ، وإن الحيوانات كلها ما عدا الإنسان يصيبها السعور إذا عضها كلب كلِب (1) وإن ثعبان الماء ينشأ نشأة شيطانية، وإن الإنسان وحده هو الذي يخفق قلبه، وإنه إذا رثجَ صفار بيضات اجتمع وسط الإناء، وإن البيض يطفو فوق الماء الكثير الملح. يضاف إلى هذا أن أرسطو يعرف عن الأعضاء الداخلية للحيوان أكثر مما يعرفه عن الإنسان، فقد يلوح أنه لا هو ولا أبقراط قد تحررا من سلطان الدين فأقدما على تشريح الأجسام البشرية. ومن أجل هذا وقع في أغلاط شنيعة منها قوله أن ليس للإنسان إلا ثمانية أضلاع، وإن أسنان المرأة أقل من أسنان الرجل، وإن القلب أعلى من الرئتين، وإن القلب لا المخ هو مركز الإحساس (2). وإن وظيفة المخ هي تبريد الدم) بالمعنى الحرفي لهذه العبارة (. وآخر ما نذكره من هذه الأغلاط أنه) هو أو إنسان آخر سمجاً ثقيلاً (قد ذهب بنظرية الخطة الموضوعة مذاهب يضحك منها كل حكيم. "من الواضح أن النباتات قد خلقت لمنفعة الحيوانات، كما خلقت الحيوانات لمنفعة الإنسان" "لقد جعلت الطبيعة الأعجاز للراحة، لأن ذوات الأربع تستطيع أن تقف
_________
(1) ويسمى أيضاً الحديث والقريث والمزف، وهو ضرب من الحيونات البحرية ( Eels)
(2) وقد أوقعه في هذا الخطأ عدم إحساس أنسجة المخ بالتنبيه المباشر. (المترجم)(7/503)
على أرجلها دون أن تتعب، أما الإنسان فهو في حاجة إلى ما يجلس عليه. وحتى هذه الفقرة الأخيرة تكشف عن طبيعة أرسطوطاليس العلمية؛ فمؤلف هذا الكتاب يرى أن من الأمور المسلم بها أن الإنسان حيوان، ولهذا يبحث عن الأسباب الطبيعية لما بين الإنسان والحيوان من فروق في التشريح. وقصارى القول أن تاريخ الحيوان في مجموعه هو خير مؤلفات أرسطوطاليس على الإطلاق، وأنه أعظم ما أثمره العلم في بلاد اليونان أثناء القرن الرابع. وقد لبث علم الأحياء عشرين قرناً ينتظر ظهور مؤلف يضارعه.
3 - الفيلسوف
إذا ما انتقل أرسطوطاليس إلى دراسة الإنسان نفسه أصبح ميتافيزيقياً أكثر منه عالماً طبيعياً. ولسنا ندري هل منشأ هذا التحول هو تقواه الشديدة أو احترامه لآراء بني الإنسان. وهو يعرف النفس ( Psyche) أو العنصر الحيوي بأنه "الدافع الداخلي الأول في الكائن العضوي" أي الصورة الفطرية المقدرة لهذا الكائن والتي تدفع نماءه وتحدد اتجاهه. وليست النفس شيئاً يأتي إلى الجسم من خارجه أو يسكن فيه بل هي موجودة معه في كل جزء من أجزائه، أي أنها هي الجسم نفسه من حيث "قدرته على تغذية نفسه وتنميته وانحلاله"؛ فهي جماع وظائف الكائن العضوي، وهي للجسم كقوة الإبصار للعين. بيد أن هذه الناحية الوظيفية ناحية أساسية، فالوظائف هي التي توجد التراكيب والرغبات هي التي تشكل الأعضاء، والنفس هي التي تكون الجسم: "فالأجسام الطبيعية كلها أعضاء للنفس (1) ".
_________
(1) ويضيف أرسطو طاليس إلى قوله السابق الدال على نزعة مثالية عجيبة قوله: إن "النفس هي بمعنى ما جميع الموجودات؛ لأن الأشياء كلها إما إحساسات أو أفكار" وهو يتفق في آرائه مع بركل Berkeley ومع هيوم Hume في آن واحد. أنظر مثلاً إلى قوله: "إن العقل واحد ومستمر بالمعنى الذي تكون به عملية التفكير واحدة مستمرة؛ والتفكير هو بعينه الأفكار الي هي أجزاؤه.(7/504)
والنفس ثلاث درجات: نامية، وحاسة، وناطقة. فالنبات يشترك مع الإنسان والحيوان في النفس النامية- أي في قدرته على تغذية نفسه وعلى النماء الداخلي، وللحيوان والإنسان فضلاً عن هذه النفس نفس حاسة- أي قدرة الإحساس، وللحيوانات الراقية والإنسان نفس "منفعلة عاقلة"- أي قدرة على الأشكال البسيطة البدائية من الذكاء، والإنسان وحده هو الذي له نفس "فاعلة عاقلة"- أي قدرة على التعميم والابتكار. وهذه النفس الأخيرة جزء أو انبعاث من قوة الكون الخالقة العاقلة وهي الله، وهي بهذا الوصف لا تموت. ولكن هذا الخلود غير شخصي، أي أن الذي يبقى هو القوة لا الشخصية؛ والفرد مركب فد فان من المواهب النامية والحاسة والعاقلة؛ وهو لا يصل إلى الخلود إلا نسبياً؛ وذلك عن طريق التوالد، وبطريقة غير شخصية عن طريق الموت (1).
والله هو "صورة" العالم أو "حقيقته الفعلية Entelechy"- طبيعته الفطرية، ووظائفه، وأغراضه (2) كما أن الروح هي "صورة" الجسم.
_________
(1) ويمكن تفسير أقوال أرسطو طاليس المتناقضة في هذه النقطة تفسيرات أخرى. والنص الذي أثبتناه هنا مأخوذ من المجلد الرابع من تاريخ كامبردج القديم Cambridge Ancient History ص233، ومن كتاب النفس ( Psyche) تأليف رود Rhode ص493.
(2) ويرى أرسطو كما يرى أفلاطون أن الأمر الجوهري في أي شيء هو "الصورة" eidos لا المادة المصورة؛ وليست المادة هي "الشيء الحقيقي" بل هي إمكانية سالبة منفعلة لا تتخذ لها وجوداً خاصاً إلا إذا دفعتها الصورة وحددتها.(7/505)
والعلل كلها ترتد آخر الأمر إلى العلة الأولى التي لا علة لها (1)، كما تُرد كل الحركات إلى المحرك الأول الذي لا محرك له؛ ولا بد لنا أن نفترض وجود أصل أو مبدأ لما في العالم من حركة أو قوة، وهذا الأصل هو الله. وكما أن الله هو جماع الحركة كلها ومصدرها، فهو كذلك جماع كل غايات الطبيعة وهدفها، فهو العلة الآخرة والأولى. وإنا لنرى الأشياء في كل مكان تتحرك نحو غايات معينة: فالأسنان الأمامية تنمو حادة لتقطع الطعام، والأضراس تنمو مستوية لتطحنه، والجفن يطرف ليقي العين، والحدقة تتسع في الظلام لتدخل قدراً كبيراً من الضوء، والشجرة تمد جذورها في الأرض، وغصونها نحو الشمس. وكما أن الشجرة تجذبها طبيعتها الفطرية وقوتها وأغراضها نحو الضوء، فكذلك العالم ينجذب بطبيعته الفطرية وقوته وأغراضه وهذه كلها هي الله. وليس الله هو خالق العالم المادي، ولكنه صورته المنشطة، وهو لا يحركه من خلفه ولكنه هو الموجه له من الداخل أو هدفه، يحركه كما يحرك الحب الحبيب، ويقول أرسطو أخيراً إن الله فكر خالص، وروح عاقل، يتبدى في الصور السرمدية التي تكون جوهر العالم والله في وقت واحد.
وغاية الفن، كفاية الميتافيزيقيا، هي القبض على الصورة الجوهرية للأشياء، وهو تقليد أو تمثيل للحياة، ولكنه ليس نسخة آلية لها؛ والذي تقلده هو روح المادة لا جسم المادة ولا المادة نفسها؛ وعن طريق هذه البصيرة أو عكس هذا الجوهر كما تعكس المرآة الجسم قد يبدو الشيء القبيح جميلا. والجمال
_________
(1) يقول أرسطو: إن كل معلول يخرج من أربعة علل: المادية (التي يتكون منها)، والفعالة (العامل فيها أو فعله)، والشكلية (طبيعة الشيء)، والغائية (الهدف). وهو يضرب لذلك مثلاً عجيباً فيقول: "ما هي العلة المادية للإنسان؟ هي الطمث (أي وجود البيضة). وما هي العلة الفعالة؟ هي البذرة والنطفة (أي عملية التلقيح). وما هي الشكلية؟ هي الطبيعة (أي طبيعة العوامل ذات الشأن). وما هي العلة الغائية؟ هي الغاية التي يهدف إليها"(7/506)
هو الوحدة، هو تعاون الأجزاء وتماثلها في الكل. وتكون هذه الوحدة في المسرحية وحدة العمل قبل كل شيء؛ ولذلك يجب أن يكون أعظم ما تهتم بهِ المسرحية عملاً واحداً، وأن يكون الغرض الوحيد مما فيها من أعمال أخرى هو أن ترقى بهذه القصة الرئيسية أو توضحها. وإذا أريد أن يكون العمل الفني غاية في الروعة والجودة وجب أن يكون موضوعه متسماً بالنبل أو البطولة.
ويقول أرسطو في تفسيره الشهير للمأساة: "المأساة تمثيل موضوع في البطولة، كامل متسع إلى حد ما، بلغة تزدان بكل أنواع المحسنات ... فهي تمثل رجالاً يعملون ولا تعمد إلى القصص، ثم تستعين بالرحمة والخوف لتخفف من واقع هذه العواطف وغيرها". والمأساة تستثير أعمق عواطفنا ثم تهدئها بخاتمتها المسكنة. ويذلك تعرض علينا تعبيراً عن العواطف لا ضرر فيه ولكنه ينفذ إلى أعماق النفس، ولولا هذا التعبير لتجمعت العواطف فصارت عُصَاباً أو عنفاً. فهي تظهر لنا من الآلام والأحزان ما هو أكثر رهبة من آلامنا وأحزاننا، وتعيدنا إلى بيوتنا مبرئين مطهرين. وقصارى القول أن ثمة لذة في تأمل عمل من أعمال الفن الحقيقية. ومن الشواهد الدالة على رقي الحضارة أن تقدم للروح أعمالاً خليقة بهذا التأمل. ذلك بأن "الطبيعة لا تطلب إلينا أن نشغل أوقاتنا بالأعمال الطيبة فحسب بل تتطلب فوق ذلك أن نكون قادرين على أن نستمتع بفراغنا بأشراف الوسائل (193) ".
فما هي الحياة الطيبة إذن يجيب أرسطو عن هذا السؤال ببساطة وصراحة فيقول إنه الحياة السعيدة؛ وهو لا يريد أن يبحث في كتاب الأخلاق (1)
_________
(1) لقد كان كتاب أخلاق نيقوماخوس (وسمي كذلك لأن الذي نشره هو نيقوماخوس ابن أرسطو) وكتاب السياسة أول الأمر كتاباً واحداً. وكان الناشرون اليونان يستخدمون هذه الصيغة المزدوجة وهي الأخلاق والسياسة ( ta etika of ta politika) ليعبروا بها عن عدة مشاكل أخلاقية وسياسية، وقد احتفظ بها كما هي حين انتقلت الكلمتان إلى اللغة الإنجليزية.(7/507)
(كما يبحث أفلاطون) كيف يجعل الناس أخياراً، بل يريد أن يبحث كيف يجعلهم سعداء! وهو يرى أن غي ر السعادة من الأغراض لا يسعى إليها لذاتها بل هي وسيلة لغاية، أما السعادة فهي وحدها التي تُبتغى لذاتها. وثمة بعض أشياء لا بد منها للحصول على السعادة الباقية وهي: المولد الطيب، والصحة الجيدة، والوجه الجميل، والحظ الطيب، والسمعة الحسنة، والأصدقاء الأوفياء، والمال الوفير، والصلاح. "وليس في وسع إنسان أن يكون سعيداً إذا كان دميم الخلقة" "أما الذين يقولون إن الذي يعذب على العذراء، أو تحل به كارثة شديدة، يكون سعيداً بشرط أن يكون صالحاً فقولهم هراء". وينقل أرسطو بصراحة يندر وجودها في الفلاسفة، جواب سمنيدس لزوجة هيرن إذ سألته أيهما أفضل الحكمة أو الغنى فقال: "الغنى، لأنا نرى الحكماء يقضون أوقاتهم على أبواب الأغنياء". لكن الثروة وسيلة لا أكثر، فهي في حد ذاتها لا ترضي غير البخيل؛ وإذ كانت الثروة نسبية فإنها لا ترضي إنساناً زمناً طويلاً. وسر السعادة هو العمل، أي بذل الجهد بطريقة تتفق مع طبيعة الإنسان ظروفه. والفضيلة حكمة عملية، وهي تقدير الإنسان بعقلهِ لما فيه من خير، وهي في العادة وسط بين نقيضين؛ والإنسان في حاجة إلى الذكاء لمعرفة هذا الوسط، وإلى ضبط النفس) إنكراتيا enkratia أو القوة الداخلية (لممارستها. ويقول أرسطو في جملة من جملهِ النموذجية إن "الذي يغضب مما وممن ينبغي أن يغضب منه، ويغضب فوق ذلك بالطريقة الحقة وفي الوقت المناسب للغضب، ويطول غضبه الزمن الملائم، إن هذا الرجل خليق بالثناء. وليست الفضيلة عملاً، بل هي تعود عمل الصواب، ولا بد أن تفرض في أول الأمر بالتدريب والتهذيب، لأن الشبان لا يستطيعون أن يحطموا في مثل هذه الأمور حكماً صادقاً حكيماً، فإذا مضى بعض الوقت فإن ما كان من قبل نتيجة الإرغام يصبح عادة أي "طبيعة ثانية"، ويكاد يبعث من اللذة ما تبعثه الشهوة.(7/508)
ويختم أرسطو هذا البحث خاتمة تناقض أشد التناقض ما بدأه به وهو قوله إن السعادة في العمل، وإن أحسن حياة هي حياة الفكر. ذلك أن الفكر في رأيه هو الدليل على ما انفرد به الإنسان من تفوق وامتياز، وأن " العمل الخليق بالإنسان هو أن تعمل نفسه بالاتفاق مع عقله ". وأسعد الناس حظاً هو الذي يجمع بين قدر من الرخاء وقدر من العلم، أو البحث أو التفكير، فهذا الرجل هو أقرب الناس إلى الآلهة. "والذين يرغبون في اللذة المستقلة يجب أن يطلبوها في الفلسفة، لأن غيرها من اللذات يحتاج إلى معونة الإنسان".
4 - السياسي
ويرى أرسطو أن علم السياسة هو علم السعادة الجماعية كما أن علم الأخلاق هو علم السعادة الفردية، وأن وظيفة الدولة هي أن تقيم مجتمعاً يحقق أعظم سعادة لأكبر عدد "والدولة هي مجموعة من المواطنين ذات عدد كاف لتحقيق جميع أغراض الحياة، وهي نتاج طبيعي، لأن "الإنسان بطبيعته حيوان سياسي"، أي أن غرائزه تؤدي به إلى الاجتماع مع غيره. "والدولة سابقة بطبيعتها على الأسرة، وعلى الفرد": ذلك أن الإنسان كما نعرفه يولد في مجتمع منظم من قبل يشكله في صورته.
وبعد أن درس أرسطو مع طلابه 158 دستوراً يونانياً (1)، قسم هذا الدساتير ثلاثة أنواع مختلفة: ملكية، وأرستقراطية، وتمقراطية، أي حكم أصحاب السلطان، وأصحاب المولد الشريف، والنبهاء. وكل نوع من
_________
(1) لم يبق من هذه الدراسات إلا كتابه "أحوال الدولة الأثينية Athenion Politeia وقد عثر عليه في عام 1891، وهو تاريخ دستوري لأثينة من خير ما كتب في موضوعه(7/509)
هذه الأنواع قد يكون صالحاً حسب زمانه ومكانه وظروفه. وتقول إحدى الجمل التي يجب على كل أمريكي أن يحفظها عن ظهر قلب "إن نوعاً من أنواع الحكم قد يكون أحسن من غيره من الأنواع ولكن ليس ثمة ما يمنع أن يكون نوع آخر خيراً منه في ظروف خاصة". وكل حكم حسن إذا كانت السلطة الحاكمة تعمل لمصلحة الناس جميعاً لا لمصلحتها الخاصة، فإذا لم تفعل هذا فكل حكم سيء. ومن ثم كان لكل نوع من أنواع الحكم الصالح شبيه فاسد حين يكون حكماً لمصلحة الحاكمين لا لمصلحة المحكومين؛ ففي هذه الحال تنحط الملكية فتصير استبداداً، والأرستقراطية فتصبح ألجركية، والتمقراطية فتكون دمقراطية أي حكم العامة. فإذا كان الحاكم المفرد صالحاً وقديراً كانت الملكية خير أشكال الحكم، أما إذا كان أتقراطياً أنانياً كان حكمه استبداداً ظالماً، وهو شر أنواع الحكم. وقد تصلح الحكومة الأرستقراطية إلى حين ولكن الأشراف) الأرستقراط (الذين يتولون أمورها ينزعون إلى الاضمحلال والانحطاط. "ويندر أن نجد شخصاً نبيل الخُلق بين الأشراف بمولدهم بل إن معظمهم لا يصلحون لشيء على الإطلاق ... فالأسر ذوات المواهب العالية كثيراً ما تنحط فيكون أبناؤها من المجانين، ومن أمثلة ذلك أبناء ألقبيادس ودنيسوس الأكبر، أما المتوسطون منهم فكثيراً ما يكونون حمقى أو أغنياء كأبناء سيمون، وبركليز، وسقراط". وإذا ما انحطت الأرستقراطية حلت محلها في العادة حكومة ألجركية من أصحاب المال أي حكومة ذوي الثراء. وهذه خير من طغيان الملك أو طغيان الغوغاء، ولكنها تضع السلطة في أيدي رجال لا تتسع نفوسهم لأكبر من ذلك العمل الصغير وهو حساب تجارتهم، أو ذلك العمل الإجرامي الدنيء وهو أكل الربا، وقد ينتهي أمرهم إلى استغلال الفقراء بلا وازع من ضمير.(7/510)
والدمقراطية- وهو يعني بها حكومة العامة من المواطنين demos لا تقل خطورة عن الألجركية لأنها تعتمد على انتصار الفقراء القصير على الأغنياء في كفاحهما من أجل السلطة؛ ونتيجتها هي الفوضى المؤدية إلى القضاء عليهما معاً. وخير ما تكون الديمقراطية حين يسيطر عليها الملاك الزراعيون، وأسوأ ما تكون حين يسيطر عليها رعاع المدن من الصناع والتجار. نعم إن "حكم الكثرة يكون في كثير من الحالات خيراً من حكم الفرد، لأنها لكثرة أفرادها أبعد عن الفساد والرشوة بعد الماء الكثير من التلوث". ولكن الحكم يتطلب كفاية خاصة ودراية خاصة و "ليس في مقدور من يعيش عيشة الصانع البسيط أو الخادم الأجير أن يحصل على التفوق المطلوب"،) أي على الخلق الطيب والتدريب، وصحة الحكم على الأمور (. وقد خلق الناس كلهم غير متساوين. نعم إن "العدل في المساواة؛ ولكن هذا لا يكون إلا بين الأكفاء". ولا يقل استعداد الطبقات العليا لإثارة الفتن إذا فرضت عليهم مساواة غير طبيعة عن استعداد الطبقات الدنيا للتمرد إذ بلغ عدم المساواة درجة من التطرف غير طبيعية (1). وإذا ما سيطرت الطبقات الدنيا على الدمقراطية فرضت الضرائب على الأغنياء لتوفر المال للفقراء؛ "فإذا أخذه الفقراء شرعوا يستزيدون منه، وما أشبه هذه الحال بصب الماء في المنخل". ومع هذا فإن الرجل المحافظ الحكيم لن يترك الناس يموتون جوعاً، "يجب على الوطني الحق في الحكومة الديمقراطية أن يحذر من أن تكون أغلبية الشعب في فقر مدقع ... ، وعليه أن يبذل جهده في أن يوفر لها الخير على الدوام؛ وإذا كان الأغنياء يستفيدون أيضاً من هذا، فإن من الواجب أن يقسم ما يمكن ادخاره من الأموال العامة بين الفقراء بحيث يكفي نصيب كل منهم لأن يبتاع به حقلاً" (218).
_________
(1) ويظن أرسطو أن الرق نفسه نظام مشروع: فكما أن من الصواب أن يحكم العقل الجسم، فإن من الصواب كذلك أن يحكم المتفوقون في الذكاء من لا يتفوقون إلا في قوة الجسم(7/511)
وهكذا يرد أرسطو للأغنياء ما كان يعدل ما أخذه منهم، وبعد أن يفعل هذا يعرض توصيات متواضعة لا يقصد بها أن يقيم مدينة فاضلة، بل يهدف إلى إقامة مجتمع خير من المجتمع القائم في زمانه إلى حد ما.
ثم ينتقل بعد هذا للبحث عن أصلح نوع من أنواع الحكم وأحسن أسلوب من أساليب الحياة يوائم المجتمعات بوجه عام.
ولسنا نريد أن يكون هذا الحكم وذلك الأسلوب مما يتفق مع تلك الفضيلة السامية البعيدة عن متناول العامة، أو مع تلك التربية التي لا ينالها إلا من هيأت له الطبيعة والحظ جميع الفرص الطيبة، أو مع تلك الخطط الخالية التي يضعها الناس في أوقات لهوهم ومرحهم؛ بل نريد أن يتفقا مع أسلوب الحياة الذي تستطيع كثرة الجنس البشري أن تصل إليه، ومع نظام الحكم الذي تستطيع معظم المدن أن تقيمه ... ومن أراد أن يقيم حكومة على أساس شيوعية السلع فليرجع إلى تجارب كثير من السنين؛ فإذا فعل فسيتضح له هل هذا نظام نافع أو غير نافع؛ ذلك أن الأشياء كلها تقريباً قد عُرفت ولم يبق مجهولاً إلا القليل ... إن الشيء الذي يشترك فيه كثيرون لا يعني به إلا أقل عناية؛ ذلك بأن الناس يوجهون من العناية إلى ما يملكونه لأنفسهم أكثر مما يوجهون إلى ما يشاركهم فيه غيرهم ... ولابد لنا أن نبدأ بحثنا بافتراض مبدأ عام وهو أن ذلك الجزء من الدولة الذي يرغب في بقاء الدستور الجديد يجب أن يكون أقوى من ذلك الجزء الذي لا يرغب في بقائه ... ويتضح من هذا أن أحسن الدول نظاماً هي التي تكون الطبقات الوسطى فيها أكبر عدداً وأعظم قوة من الأغنياء أو الفقراء ... وفي جميع الحالات التي قل فيها عدد أفراد الطبقة الوسطى عن الحد الواجب تغلبت عليها الطبقة التي تفوقها في العدد، سواء أكانت طبقة الأغنياء أم طبقة الفقراء، وتولت بنفسها تصريف الشؤون العامة ... ، وإذا ما سيطر الأغنياء على الفقراء، أو الفقراء على الأغنياء؛ لم تستطع هذه الطبقة أو تلك أن تقيم دولة حرة (223).(7/512)
ويقترح أرسطو وضع "دستور مختلط" أو إقامة حكم "تمقراطي"، وهو خليط من الأرستقراطية والدمقراطية، ليمنع به هذه الدكتاتوريات المقيدة للحرية سواء أكانت دكتاتورية الأغنياء أم الفقراء. وهو يريد أن يكون حق الانتخاب في هذا النظام مقصوراً على ملاك الأراضي، وأن تكون فيه طبقة وسطى قوية هي مصدر السلطة وقطب دائرتها، "ويجب أن تقسم الأرض قسمين، أحدهما يملكه المجتمع بوجه عام، والآخر يملكه الأفراد متفرقين". ولا بد أن يكون كل مواطن من الملاك، ويجب "أن يطعموا على الموائد العامة جماعات"، وهؤلاء وحدهم هم الذين يقترعون أو يحملون السلاح. وسيكون هؤلاء أقلية صغيرة من السكان، لا تزيد علة عشرة آلاف. "ويجب ألا يسمح لواحد منهم أن يشتغل بمهنة آلية أو يكسب عيشه من طريق التجارة، لأن هاتين المهنتين غير شريفتين، وتقضيان على التفوق". كذلك يجب أل يفلحوا الأرض؛ ... بل ينبغي "أن يكون الفلاحون طبقة من الشعب قائمة بنفسها"- ولعله يريد أن تكون من الأرقاء. ويختار المواطنون الموظفين العموميين ويحاسبون كلا منهم على أعماله في نهاية المدة التي يتولى فيها منصبه. ويجب أن تحدد القوانين الموضوعة وفقاً لنظام قويم ما يصدر من الأحكام في جميع القضايا بقدر المستطاع بحيث لا يترك إلا أقل عدد مستطاع منها لتصرف القضاة ... " ذلك أن " حكم القانون خير من حكم الفرد ... ، وأن من يعهد بالسلطة العليا لإنسان أياً كان إنما يعهد بها إلى وحش من الوحوش، لأن شهواته تجعله في بعض الأحيان وحشاً. وللعواطف أثر كبير فيمن يتولون السلطة، ولو كانوا هم خير من يتولاها، أما القانون فهو العقل مجرداً عن الشهوة. والدولة المقامة على هذا النظام تتولى تنظيم الملكية، والصناعة، والزواج، والأسرة، والتعليم، والأخلاق، والموسيقى، والأدب، والفن. "وأحق من هذا كله بالعناية ألا يتجاوز عدد الناس حداً معيناً ... لأن إهمال هذا(7/513)
الواجب يؤدي إلى افتقار المواطنين؛ ويجب ألا يُسمح بتربية أبناء مشوهين عاجزين"، ومن هذه الأسس تتفتح أزهار الحضارة والطمأنينة. "وإذ كان الذكاء أعظم الفضائل، فإن أهم ما يجب على الدولة ليس هو إعداد المواطنين للتفوق الحربي، بل هو تعليمهم كيف يستفيدون من السلم الاستفادة الصحيحة".
وبعد فليس من الضروري أن ننصب أنفسنا حكاماً على أعمال أرطوطاليس. وحسبنا أن نقول إنا نعرف أحداً من الناس قبله قد شاد مثل هذا الصرح الرائع من التفكير. وحين يمتد نشاط الإنسان الذهبي إلى ميادين واسعة، فإن من حقه علينا أن نعفو عن كثير من زلاته، إذا ما وسعت نتائج بحوثه إدراكنا للحياة. وإن أخطاء أرسطو- أو أخطاء المجلدات التي نعدها بالحق أو الباطل ثمار قلمه- لتبلغ من الوضوح حداً لا نحتاج معه إلى إيرادها مفصلة. فهو رجل منطق، ولكن هذا لا يمنعه أن يقع في كثير من الأغلاط المنطقية؛ وهو يضع قواعد البلاغة والشعر، ولكن كتبه أيكة مشتبكة الأغصان من سوء النظام، أوراقها المتربة نفثةٌ من ريح الخيال. بيد أننا إذا ما توغلنا في هذه الأيكة، التقينا فيها بكنز من الحكمة والنشاط العقلي الذي شق طرقاً كثيرة في ميدان العقل.
وليس في وسعنا أن نقول إنه قد علم الأحياء، أو تاريخ النظم الدستورية، أو النقد الأدبي- إذ ليس في العالم قط بدايات- ولكن هذه الموضوعات كلها قد أفادت منه أكثر مما أفادته من أي رجل نعرفه من الأقدمين. والعلوم الطبيعية والفلسفة مدينة له بالعدد الجم من المصطلحات التي يسرت في صورتها اللاتينية تبادل الأفكار ... منها: المبدأ، والنهاية، والموهبة، والوسط، والصنف، والطاقة، والباعث، والعادة، والغاية، principle, maxim, faculty, means, catxegory, energy, motive, habit, end. ولقد كان كما سماه بيتر Pater " أول المدرسيين (230) "(7/514)
وكانت سيطرته الطويلة على الأساليب والبحوث والفلسفة مما يوحي بخصب تفكيره، ونفاذ بصيرته. وإن كتابيه في الأخلاق والسياسة (1) ليفوقان أمثالهما كلها في الشهرة وعميق التأثير حتى أيامنا هذه، وإذا ما أنقصنا من تقديرنا له كل ما فيه من عيوب، فإنه يبقى بعدها "سيد العارفين". وذلك دليل مشجع على ما يمتاز به العقل البشري من مدى واسع مرن، وهو إلهام مطمئن إلى الذين يكدحون في سبيل جمع معلومات الناس المتفرقة وتنسيقها وفهمها.
_________
(1) لقد ترجم هذين الكتابين إلى اللغة العربية الأستاذ أحمد لطفي السيد وطبعتهما لجنة التأليف. (المترجم)(7/515)
الباب الثاني والعِشرون
الإسكندر
الفصل الأوَل
نفسية فاتح
لقد كانت حياة أرسطو العقلية بعد أن غادر تلميذه الملكي مماثلة لحياة الإسكندر العسكرية؛ ذلك أن كلتا الحياتين تعبر عن نزعة الفتح، والبناء، والتركيب. وربما كان الفيلسوف هو الذي غرس في عقل الشاب تحمسه الشديد للوحدة وهو التحمس الذي رفع بعض الشيء من قدرات الإسكندر؛ لكن أرجح من هذا أن هذا التحمس قد انحدر إليه من مطامع أبيه، ثم أحاله دم أمه إلى ولع وهيام. وإذا شئنا أن نفهم الإسكندر على حقيقته، وجب علينا أن نتذكر على الدوام أن عروقه كان يجري فيها نشاط فليب العارم وحدة ألمبياس الهمجية؛ يضاف إلى هذا أن ألمبياس كانت تدعي الانتساب إلى أخيل، ومن أجل هذا كان الإسكندر يهوى الإلياذة ويفتتن بها؛ وكان يفسر عبوره الهلسبنت بأنه تتبع لخطوات أخيل نفسه واستيلاءه على آسية الغربية بأنه إتمام للعمل الذي بدأه جده الأعلى في طروادة. وكان في خلال حملاته العسكرية كلها يحتفظ معه بنسخة من الإلياذة عليها شروح بقلم أرسطو؛ وكثيراً ما كان يضعها تحت وسادته أثناء الليل بجوار خنجره، كأنه يرمز بهذا إلى أداته وهدفه.
وعني ليونداس Leonidas وهو مولوسي Molosian صارم بتربية الغلام الجسمية، وعلمه ليسمخوس الأدب، وحاول أرسطو أن يكون عقله. وكان فليب(7/516)
يرغب في أن يدرس ولده الفلسفة "حتى لا يفعل أشياء كثيرة من نوع الأشياء التي فعلتها أنا والتي آسف على فعلها" (1) كما قال فليب نفسه. وقد أفلح أرسطو إلى حد ما في أن يجعل منه رجلاً هلينياً؛ ذلك أن الإسكندر كان طوال حياته يعجب بالأدب اليوناني ويحسد اليونان على حضارتهم؛ وقد قال مرة لرجلين يونانيين كانا يجلسان معه أثناء المأدبة الوحشية التي قتل فيها كليتوس: "ألا تشعران حين تجلسان في صحبة هؤلاء المقدونيين بأنكما أشبه بإلهين بين خلائق من الهمج" (2).
وكان الإسكندر من الناحية الجسمية شاباً مثالياً. وذلك أنه كان يجيد كل ضروب الألعاب الرياضية: كان عداءً سريعاً، وفارساً جريئاً، ومبارزاً ماهراً؛ وكان يجيد الرماية بالقوس، ولا يرهب أي شيء في الصيد. ولما رغب إليه أصدقاؤه أن يشترك في سباق العدو في أولمبيا أجاب بأنه لم يكن يمانع في ذلك لو أن المتبارين معه كانوا ملوكاً. ولما عجز غيره عن تذليل بوسفلس Bucephalus الجواد الجامح الجبار، نجح الإسكندر في هذا العمل؛ فلما رأى ذلك فليب، كما يقول بلوتارخ، حياه بتلك الألفاظ التي كانت أشبه بنبوءة بما يخبؤه له القدر: "أي بني، إن مقدونية لا تتسع لك، فابحث لنفسك عن إمبراطورية أوسع منها، وأجدر بك" (3). وكان حتى في أثناء زحفه يصرف بعض نشاطه في أن يرمي بالسهام بعض ما يمر به من الأهداف، أو ينزل من مركبته ثم يعود فيركبها وهي تجري بأقصى سرعتها. وكان إذا تراخت الحرب خرج إلى الصيد وواجه بمفرده وهو واقف على قدميه وحشاً ضارياً؛ وسمع ذات مرة بعد أن فرغ من قتال أسد بعضهم يقول إنه كان يحارب الأسد كأنه يبارزه لتقرر نتيجة البراز أيهما يكون هو الملك (4)، فسر من هذا القول أيما سرور. وكان مولعاً بالعمل الشاق والمغامرات الخطرة، ولم يكن يطيق الراحة. وكان يسخر من بعض أصدقائه الكثيري الخدم ويقول إنهم لا يجدون ما يفعلون. ومن أقواله لهم: "عجيب أمركم،(7/517)
كيف لم تدلكم تجاربكم على أن من يعملون ينامون نوماً أعمق من نوم من يعمل لهم غيرهم، وهل لا تزالون بحاجة إلى من يدلكم على أن أعظم ما نحتاجه بعد انتصارنا هو أن نتجنب الرذائل وأسباب الضعف التي كان يتصف بها من غلبناهم على أمرهم" (5). وكان يؤلمه ما يضيع من الوقت في النوم ويقول: "إن النوم وعملية التناسل هما أهم ما كان يشعره بأنه آدمي فان" (6). وكان معتدلاً في الطعام، وظل إلى آخر سني حياته معتدلاً كذلك في الشراب، وإن كان يحب أن يطيل المكث مع أصدقائه على كأس من الخمر. وكان يحتقر الأطعمة الدسمة، وقد رد مشهوري الطهاة الماهرين الذين عرضوا عليه، وقال أن مشي ليلة كفيل بأن يقوي شهوته للفطور، وإن فطوراً خفيفاً يقوي شهوته للغداء (7). ولعل هذه العادات هي التي جعلت وجهه وضاء إلى حد كبير، وجعلت رائحة جسمه ونفسه "زكية تفوح من ملابسه التي على جسمه" (8). وإذا ما أخذنا بأقوال معاصريه وضربنا صفحاً عن ملق الذين رسموا صوره أو نحتوا تماثيله أو نقشوا رسمه، حكمنا بأنه كان وسيماً بدرجة لم يسبقه إليها أحد من الملوك الذين قبله: كان ذا معارف قوية التعبير، وعينين زرقاوين رقيقتين وشعر غزير أصحر. وهو الذي ساعد على إدخال عادة حلق اللحية في أوربا، وحجته في ذلك أن اللحية تمكن العدو من القبض على صاحبها (8أ). ولعل أكثر آثاره في التاريخ هو هذا الأثر التافه.
أما من الناحية العقلية فقد كان شديد التحمس للدرس، لكن التبعات التي ألقيت عليه قبل الأوان لم تترك له فسحة من الوقت ينضج فيها عقله. وكان يحزنه ما يحزن الكثيرين من رجال الجد والعمل وهو أنه لا يستطيع أن يكون أيضاً مفكراً. ويقول بلوتارخ إنه "كان شديد الشغف بالعلم، شغفاً يزداد على مر الأيام ... وكان مولعاً بجميع أنواع المعارف محباً لقراءة جميع أنواع الكتب". وكان من أسباب سروره بعد أن يقضي يوماً في السير أو في القتال أن يسهر إلى منتصف الليل يتحدث إلى الطلاب والعلماء. وقد كتب إلى أرسطو يقول: "خير لي أن أتفوق على غيري(7/518)
في العلوم من أن أتفوق عليهم في اتساع المُلك وقوة السلطان" (9). ولقد أرسل بعثة لارتياد منابع النيل -وقد يكون هذا بإيعاز أرسطو - وأعان بالمال كثيراً من البحوث العلمية. وليس في وسعنا أن نحكم أكان إذا امتد به أجله يبلغ ما بلغه قيصر من صفاء الذهن أو ما بلغه نابليون من دقة الفهم. لكن مشاغل المُلك أدركته وهو في العشرين من عمره، واستغرقت شئون الحرب والإدارة كل وقته وجهده، ومن أجل هذا بقي ناقص التعليم إلى آخر أيام حياته. نعم إنه كان متحدثاً لبقاً، ولكنه كان يتورط في مئات الأغلاط إذا تطرق الحديث إلى شئون السياسة والحرب. ويلوح أنه رغم حروبه الكثيرة لم يعرف من الجغرافية ما كان في مقدور ذلك العلم في أيامه أن يمده به. وكان عقله في بعض الأحيان يسمو عن الآراء الضيقة التحكمية، ولكنه بقي إلى آخر أيام حياته عبداً للخرافات والأوهام، شديد الثقة بالعرافين والمنجمين الذين تزدحم بهم حاشيته. ولقد قضى الليلة السابقة لواقعة أربيلا يقوم بمراسم سحرية مع الساحر أرستندر Aristander ويقرب القربان إلى إله الخوف. وكان هذا الرجل الذي واجه الناس والوحوش بشجاعة ونشوة "يرتاع لأقل النذر الموهومة" ارتياعاً يحمله على تغيير خططه (10). وكان في مقدوره أن يقود آلاف الرجال، ويهزم الملايين منهم، ويحكمهم، ولكنه لم يكن يستطيع السيطرة على طبعه. ولم يتعلم قط الاعتراف بما يرتكب من خطأ أو بما فيه من نقص، وكان يغتر بالثناء اغتراراً يطغى على حكمته ويفسدها. وقد عاش طول حياته في جو من الانفعال والمجد يكاد يذهب بعقله، وكان يحب الحرب حباً استحوذ على عقله فلم يترك له ساعة ينعم فيها بسلام.
وكانت أخلاقه تحوم حول أمثال هذه التناقضات. فقد كان في قرارة نفسه عاطفياً سريع الانفعال، تستبقه عبراته، شديد التأثر بالشعر والموسيقى، وكان في أيام شبابه الأولى يعزف على القيثارة ويتأثر بأنغامها(7/519)
أشد التأثر. ولما عنفه فليب على هذا هجر تلك الآلة، ورفض من ذلك الوقت أن يستمع لغير النغمات العسكرية؛ ولعله أراد بهذا أن يتعود السيطرة على حواسه (11). كذلك كان يستمسك بالفضيلة من الناحية الجنسية، ولم يكن ذلك من مبدأ يدين به، بل لأن مشاغله كانت تحول بينه وبين الانحراف إلى هذه الناحية. ذلك أن نشاطه الدائم، وسيره الطويل، وحروبه الكثيرة، وخططه المعقدة، وأعبائه الإدارية، كانت تستنفذ كل قواه، ولا تترك إلا القليل من شهوة الحب. وكانت له زوجات كثيرات، ولكن زواجه بهن كان تضحية منه قضت بها شئون السياسة والحكم؛ وكان شهماً ذا مروءة في معاملته للنساء، ولكنه كان يفضل عليهن صحبة قواده. وجاءه رجاله ذات مرة إلى خيمته بامرأة جميلة بعد أن مضى من الليل أكثره، فسألها "لم تأخرت إلى هذا الوقت؟ " فردت عليه بقولها: "كان علي أن أنتظر حتى أنيم زوجي". فصرفها الإسكندر وعنف خدمه وقال لهم إنه كاد بأعمالهم أن يصبح زانياً (12). وكان فيه كثير من صفات اللوطيين، وكان يحب هفستيون Hephaestion إلى حد الجنون؛ لكنه حين جاءه ثيودورس التاراسي Theodorus of Taras يعرض عليه أن يبيعه غلامين بارعي الجمال، طرد ثيودورس من مجلسه وطلب إلى أصدقائه أن يفحصوا له عما أظهره من سفالة وخسة نفس تحملان إنساناً ما على أن يتقدم إليه بهذا العرض الدنيء (13). وكان يستمسك بصداقة الأصدقاء ويهبهم ما يهبه معظم الناس إلى المحب من اشتياق ورقة وعاطفة؛ وليس بين من نعرف من السادة، دع عنك القواد، من فاقه في صدق القول الخالي من التكلف أو في الصداقة الوفية القوية، أو في إخلاصه في حبه وغرضه، أو في كرمه لمعارفه وأعدائه دع عنك أصدقائه (14). وفي ذلك يقول بلوتارخ "وهو ينتهز أقل الظروف ليكتب الخطابات لخدمة الأصدقاء". وقد كسب حب جنوده بعطفه عليهم؛ وكان يخاطر بحياتهم ولكنه لم يكن يفعل ذلك جزافاً من غير ميالاة، كأنه كان يحس بجميع جراحهم؛ وكما عفى قيصر عن(7/520)
بروتس وشيشرون، وكما عفى نابليون عن فوشيه Foche` وتليران Talleyrand، كذلك عفى الإسكندر عن هربالس Harpalus صاحب بيت المال الذي اختفى بما في عهدته منه ثم عاد إليه يرجو عفوه؛ وقد أدهش الشاب الفاتح الناس جميعاً بأن أعاده إلى منصبه، ويبدو أنه أصلحه بذلك العمل (15). ومرض الإسكندر في طرسوس عام 333 فعرض عليه طبيبه فليب شراباً مسهلاً. وفي تلك اللحظة وصلت إلى يد الملك رسالة من برمنيو يقول فيها إن دارا قد رشا فليب ليدس له السم، فما كان من الإسكندر إلا أن عرض الرسالة على فليب، بينما كان الطبيب يقرؤها شرب الإسكندر الدواء - ولم يصب بسوء. وقد كان اشتهاره بالنبل والكرم عوناً له في حروبه؛ فقد كان كثيرون من أعدائه يلقون بأنفسهم أسرى بين يديه، وكانت المدن تفتح أبوابها إذا اقترب منها لأنها تخشى على أنفسها من النهب. لكنه كان فيه شيء من الشراسة المولوسية، وقد شاء القدر القاسي أن يقضي عليه ما كان ينتابه أحياناً من نوبات القسوة. مثال ذلك أنه لما استولى على غزة بعد أن حاصرها واقتحم أسوارها واستفزته بطول مقاومتها أمر بأن تخرق قدما باتيس Batis قائدها الباسل، وأن توضع فيهما حلقات من نحاس. ثم أسكرته ذكرى أخيل، فشد القائد الفارس بعد موته إلى العربة الملكية بالحبال، وجرت به بأقصى سرعتها بالمدينة (16). وكان إدمانه الخمر إدماناً متزايداً ليهدئ به أعصابه مما دفعه في سنيه الأخيرة إلى كثير من أعمال القسوة العمياء التي أخذت تزداد على مر الأيام، وكانت تتلوها نوبات من الندم الصامت وتوبيخ الضمير العنيف.
وكان من صفاته صفة لها الغلبة على ما عداها ونعني بها الطموح. فقد كان وهو شاب يتبرم من انتصارات فليب، حتى لقد شكا مرة إلى أصدقائه من أن "أباه سيفرغ من كل شيء قبل أن نستعد نحن، ولن يترك لي أو لكم فرصة نعمل فيها شيئاً عظيماً خطيراً" (17). وقد دفعته هذه(7/521)
الرغبة الشديدة في العمل العظيم إلى محاولة القيام بكل واجب واقتحام كل خطر. ففي يوم قيرونيا مثلاً كان هو أول من هجم على "العصبة الطيبة المقدسة"؛ وفي يوم غرانيقوس أطلق العنان لما كان يسميه رغبة في ملاقاة الأخطار" (18). وقد أصبحت هذه الرغبة هي الأخرى شهوة جامحة، فكان صوت الحرب ومنظرها يسكرانه، فينسى في ذلك واجبات القائد ويندفع إلى معمعان القتال، وكثيراً ما كان جنوده يلحون عليه أن يرتد إلى المؤخرة لخوفهم أن يفقدوه. على أنه لم يكن قائداً عظيماً، بل كان جندياً باسلاً أوصله جَلَده وعناده وعدم مبالاته بالعقبات التي كانت تبدو مستحيلة التذليل إلى انتصارات مؤزرة لم يسبقه أحد إلى مثلها. وكان هو الملهم لجنوده، أما قواده الذين كانوا من أقدر الرجال فالراجح أنهم هم الذين كانت تقع عليهم أعباء التنظيم والتدريب والكر والفر والفنون الحربية. وكان يقود جنوده بخياله الوضاء، وفصاحته الطبيعية غير المتكلفة، واستعداده لمقاسمتهم صعابهم وأحزانهم استعداد المخلص الوفي. ولا جدال في أنه كان إدارياً حازماً؛ وقد حكم الأملاك الواسعة التي افتتحها بقوة السلاح حكماً رفيقاً حازماً؛ وكان يفي بالعهود التي يقطعها على نفسه لقواد الجند المهزومين وللمدن المغلوبة، ولم يسمح قط لموظفيه أن يظلموا رعاياه أو يستبدوا بهم، ولم يكن وهو يخوض غمار القتال والهيجاء مشتجرة والأرض متزلزلة يغفل قط عن هدفه الأسمى الذي لم يحل موته إنجازه: وهو ضم البحر المتوسط الشرقي في وحدة ثقافية جامعة، تسيطر عليها وتسمو بها حضارة بلاد اليونان الآخذة في الانتشار.(7/522)
الفصل الثاني
طريق المجد
لما ارتقى الإسكندر العرش ألفى نفسه على رأس دولة متصدعة؛ فقد ثارت القبائل الشمالية الضاربة في تراقية وإليريا؛ وخرجت من طاعته إتوليا، وأكرنانيا Acarnania، وفوسيس، وإليس، وأرجولس، وطرد الأمبراقيوتيون Ambarciotes الحامية المقدونية من بلادهم؛ وكان أرتخشتر الثالث يفخر بأنه هو المحرض على قتل فليب، وأن بلاد الفرس لا تخشى شيئاً من هذا الحدث المراهق الذي ورث المُلك وهو في العشرين من العمر. ولما أن وصلت البشائر إلى أثينة بأن فليب قد مات زُينَ دمستين بأفخر الثياب وتوج رأسه بإكليل من الزهر، واقترح على الجمعية أن تضع تاجاً على رأس قاتله بوسنياس تكريماً له (19). وفي مقدونية نفسها كانت عشرة أحزاب أو أكثر تأتمر بحياة الملك الشاب.
وواجه الإسكندر هذه الصعاب كلها بهمة قعساء وعزيمة ماضية قضى بهما على المقاومة الداخلية وخطا الخطوة الأولى نحو مستقبله العظيم. ولما أن ألقى القبض على زعماء المتآمرين في داخل البلاد وقتلهم اتجه بجيوشه جنوباً نحو بلاد اليونان (336) وبلغ طيبة بعد بضعة أيام. وأسرعت بلاد اليونان فقدمت له ولاءها وبعثت إليه أثينة معتذرة عما فرط منها، وعرضت عليه تاجين، ومنحته ما تمنحه الآلهة من مراسم التكريم. فلما هدأت ثورة الإسكندر أعلن إلغاء جميع الحكومات الدكتاتورية في بلاد اليونان، وأمر أن تعيش كل مدينة حرة حسب قوانينها. وثبت له المجلس الأمفكتيوني جميع الحقوق التي منحها فليب،(7/523)
واجتمع في كورنثة مؤتمر من جميع دول اليونان ما عدا إسبارطة وأعلنه قائداً عاماً لجميع اليونان، ووعد أن يعينه بالمال والرجال في حروبه الآسيوية المرتقبة. ثم رجع الإسكندر إلى بلا، ونظم شئون العاصمة، واتجه بعدئذ نحو الشمال ليقلم أظفار الفتنة التي أوقدت نارها القبائل المتبربرة (335). وزحف على رأس جنوده بسرعة نابليونية حتى وصل إلى موضع مدينة بخارست الحالية، ورفع علمه على ضفة الدانوب الشمالية. ثم ترامى إليه أن أهل إلريا يزحفون على مقدونية فاجتاز مائتي ميل في قلب بلاد الصرب وفاجأ مؤخرة الغزاة، وهزمهم، ورد فلولهم إلى جبالهم.
لكن إشاعة راجت وقتئذ في أثينة بأن الإسكندر قد قتل وهو يحارب عند نهر الدانوب. فأخذ دمستين يدعو إلى حرب لنيل الاستقلال، ولم ير حرجاً في أن يقبل مبالغ طائلة من الفرس يستعين بها على تنفيذ خططه. واستجابت طيبة إلى تحريضه فخرجت من طاعة الإسكندر، وقتلت الموظفين المقدونيين الذين تركهم فيها الملك الشاب، وحاصرت الحامية المقدونية المعسكرة في حصن الكدميا. وأرسلت أثينة المدد إلى طيبة، ودعت بلاد اليونان والفرس إلى التحالف على مقدونية. وثارت ثائرة الإسكندر لهذا العمل الذي لم يكن الدافع إليه في نظره رغبة اليونان في الاستقلال، بل كان غدراً منها وكفراً بفضله عليها؛ فزحف بجنوده المتعبين نحو الجنوب وهاجم بلاد اليونان مرة أخرى. ووصل إلى طيبة بعد ثلاثة عشر يوماً، وشتت شمل جيش سيرته ليصد زحفه؛ ثم ترك مصير هذه المدينة المجردة من وسائل الدفاع إلى أعدائها الأقدمين - بلاتيه، وأركمنوس وثسبيا، وفوسيس؛ فقررت هذه المدن أن تُحرق طيبة عن آخرها وأن يباع أهلها أرقاء. وأراد الإسكندر أن يلقي درساً على غيرها من المدن فأمضى هذا القرار، ولكنه اشترط ألا يمس الجنود الظافرون بيت بندار بسوء، وأن يبقوا على قيد الحياة الكهنة والكاهنات وجميع الطيبين الذين يثبتون أنهم قاوموا الثورة. وقد ندم(7/524)
فيما بعد على هذا الانتقام العنيف وعده سبة له "ولم يكن يتردد في أن يعطي أي طيبي ما يطلبه إليه". وقد كفّر عن بعض ذنبه بمعاملته اللينة لأثينة، فقد عفا عن نكثها ما قطعته على نفسها من عهود في السنة السابقة، ولم يتشدد في طلبه تسليم دمستين وغيره من الزعماء الذين قاوموا المقدونيين، وظل إلى آخر حياته يظهر لهم دلائل الاحترام والحب، فوهب الأكربوليس كثيراً من الغنائم التي ظفر بها في انتصاراته الآسيوية، ورد إلى أثينة تمثالي قاتلي الطغاة اللذين نهبهما خشيارشاي، وقال عقب حملة حربية مجهدة: "أيها الأثينيون، هل تعلمون أي أخطار أعرض نفسي لها لأكون خليقاً بحمدكم" (21).
وبعد أن أعربت جميع الدول اليونانية ما عدا إسبارطة عن ولائها للإسكندر عاد إلى مقدونية وأخذ يستعد لغزو آسية. وقد وجد أن خزائن الدولة تكاد أن تكون خاوية، بل وجد أنها مثقلة من عهد فليب بعجز يبلغ مقداره خمسمائة وزنة (نحو 000ر000ر3 ريال أمريكي) (22)، فاقترض ثمانمائة وشرع يتغلب على ديونه قبل أن يتغلب على العالم. وكان قد عقد النية على محاربة بلاد الفرس بوصفه بطل هلاس وناصرها، ولكنه عرف أن نصف بلاد اليونان كان يرجو أن يلاقي حتفه. ونقل إليه عيونه أن في مقدور الفرس أن يحشدوا لقتاله ألف ألف رجل؛ أما هو فلم تزد قوته التي سيرها لقتالهم على ثلاثين ألف من المشاة، وخمسة آلاف من الفرسان. بيد أن هذا الأخيل الجديد لم يعبأ بهذا الفرق الهائل، وترك اثني عشر ألف جندي بقيادة أنتباتر Antipater لحراسة مقدونية ومراقبة بلاد اليونان، وبدأ عام 334 أجرأ وأعجب مغامرة روائية في تاريخ الملوك. وعاش بعد ذلك إحدى عشرة سنة ولكنه لم ير من ذلك اليوم بلاده أو أوربا. وبينما كان جيشه يعبر الهلسبنت من لسبوس إلى أبيدوس اختار هو أن ينزل إلى البر عند رأس سجيوم Sigeum ويسير في الطريق الذي كان يعتقد أن أجممنون سار فيه إلى طروادة. وكان في كل خطوة يذكر لرفاقه فقرات من الإلياذة،(7/525)
فقد كان يحفظها كلها تقريباً عن ظهر قلب. ولما جاء إلى قبر أخيل المزعوم صب عليه الزيت تكريماً له ووضع عليه تاجاً من الزهر، وسعى عارياً حوله كما كان يفعل الأقدمون، وصاح قائلاً: "ما أسعد أخيل إذ كان له في حياته هذا الصديق الوفي، وبعد مماته ذلك الشاعر العظيم ليمجده ويخلّد ذكره" (24). وأقسم في تلك الساعة أن يواصل ذلك الكفاح الطويل بين أوربا وآسية الذي بدأ عند طروادة حتى نهايته المظفرة.
وليس من غرضنا في هذا الكتاب أن نعيد ذكر انتصاراته. وحسبنا أن نقول التقى بأول جيش فارسي عند نهر غرانيقوس وهزمه. وفي هذه الواقعة أنقذ كليتس Cleitus حياة الإسكندر بأن قطع يد جندي فارسي أوشك أن يضرب الإسكندر من خلفه. وليس من دأبنا أن نفعل ما يفعله بعض المؤرخين الخياليين فنفترض الفروض ونبني التاريخ على أمثال هذه الحوادث العارضة أو نتخذها أساساً لهذه الفروض. وبعد أن أراح رجاله بعض الوقت واصل السير إلى أيونيا، وأنشأ في المدن اليونانية حكومات ديمقراطية تحت حمايته. وقد فتحت له معظم المدن أبوابها من غير مقاومة. والتقى عند إسوس بجيش الفرس الرئيسي، وكان يبلغ 000ر600 مقاتل يقودهم دارا الثالث. وكسب المعركة مرة أخرى باستخدام فرسانه للهجوم ومشاته للدفاع. وفر دارا من الميدان وترك وراءه أمواله وأسرته، وشكر له الإسكندر هديته الأولى وعامل الهدية الثانية معاملة الرجل الشهم الكريم. وبعد أن استولى على دمشق وصيدا من غير قتال حاصر صور، وكان بها أسطول فينيقي قوي أستأجره الفرس لخدمتهم في القتال. وقاومته المدينة القديمة مقاومة طويلة غضب لها الإسكندر أشد الغضب؛ ولما أن استولى عليها آخر الأمر ركب رأسه فترك رجاله يذبحون ثمانية آلاف من أهلها، ويبيعون منهم ثمانين ألفاً بيع الرقيق. واستسلمت له أورشليم بلا(7/526)
مقاومة فأحسن معاملتها، وحاربته غزة حتى قُتل كل رجل في المدينة وسُبيت كل امرأة.
وواصل المقدونيون زحفهم المظفر مخترقين صحراء سيناء إلى مصر، وفيها كان الإسكندر حكيماً، فعظم آلهتها ورحب به أهلها، ورأوا فيه منقذاً أرسلته الآلهة ليحررهم من نير الفرس. وعرف الإسكندر أن الدين أقوى من السياسة فاخترق صحراء أخرى إلى واحة سيوة، وقدم الطاعة إلى الإله آمون - وهو أبوه نفسه إذا جاز لنا أن نصدق ألمبياس. وتوجَّه القساوسة المرنون فرعوناً، وأقاموا له الطقوس القديمة، ومهدوا بعملهم هذا الطريق لأسرة البطالمة. فلما تم له ذلك عاد إلى وادي النيل وبدا له أن يقيم عاصمة جديدة، أو لعله وافق على إقامتها، عند أحد مصاب نهر النيل الكثيرة؛ وربما كان اليونان المقيمون في نقراطس (نقراش) القريبة من هذا المكان قد أشاروا عليه بإنشائها لأنها بموقعها هذا تكون مستودعاً أحسن من نقراطس للتجارة اليونانية الكبيرة التي كان يرجى أن تتبادل بين مصر وبلاد اليونان. وخطط الإسكندر محيط أسوار الإسكندرية وحدود شوارعها الرئيسية، ومواضع الهياكل التي اعتزم أن يقيمها لآلهة المصريين واليونان، ثم ترك ما عدا هذا من التفاصيل لمهندسه دنقراطيس Dinocrates (1) .
ثم عاد بجيشه إلى آسية والتقى عند جوكميلا قرب أربيلا بجيش دارا المؤلف من خليط من الأمم، وارتاع لكثرة عدده، وكان يعرف أن هزيمة واحدة كفيلة بأن تذهب بجميع ما سبقها من انتصارات. لكن جنوده هدّأوا روعه وقالوا له: "طب نفساً أيها السيد المعظم، ولا ترهبك كثرة عدد الأعداء،
_________
(1) وكان دينوقراطيس قد أدخل السرور على قلب الإسكندر بأن عرض عليه أن ينحت جبل آثوس - الذي يبلغ ارتفاعه ستة آلاف قدم - ليجعله تمثالاً للإسكندر يقف والبحر يغمره إلى وسطه، ويمسك مدينة في إحدى يديه ومرفأ في اليد الأخرى (24). لكن هذا المشروع ظل حلماً من الأحلام.(7/527)
لأنهم لن يستطيعوا الوقوف أمام رائحة المعز التي تصحب جيوشنا" (25). وقضى الليلة يستكشف الأرض التي ستدور فيها المعركة، ويقرب القرابين للآلهة. وكان نصره مؤزراً حاسماً، فلم تستطع جيوش دارا المختلة النظام أن تصمد أمام فيالق الإسكندر المتراصة، ولم تعرف كيف تدافع عن نفسها أمام هجمات الفرسان المقدونيين السريعة المتكررة، فتبدد شملها وولت الأدبار، ولم يكن دارا آخر الفارين. وقتله قواده جزاءً له على جبنه، في الوقت الذي كان الإسكندر يتقبل فيه خضوع بابل، ونصيباً من ثروتها، ويوزع بعضها على جنده، ويأسر قلوب أهل المدينة بتعظيم آلهتها وإصدار أوامر بإعادة أضرحتها المقدسة. ولم تنته 331 حتى كان قد وصل إلى مدينة السوس، وكان أهلها لا يزالون يذكرون مجد عيلام القديم فاستقبلوه استقبال المنقذ. وقد حمى المدينة من النهب وعوض جنوده عن ذلك بأن قسّم بينهم بعض الخمسين ألف وزنة (000ر000ر000ر3 ريال أمريكي) التي وجدها في أقبية دارا. وأرسل إلى أهل بلاتية قدراً كبيراً من هذا المال لأنهم قاوموا الفرس مقاومة عنيفة في عام 480، ويبدو أنه رد إلى مدن آسية "العطايا" التي استولى عليها منها في بداية الحملة (26). وأعلن إلى اليونان في جميع أنحاء العالم في فخر وكبرياء أنهم أصبحوا الآن أحراراً مستقلين أتم الاستقلال عن حكم الفرس.
ولم يكد يستريح في سوس حتى واصل الزحف فوق الجبال في قلب الشتاء ليستولي على برسبوليس؛ وقد بلغ من سرعة زحفه أن وصل إلى قصر دارا قبل أن يستطيع الفرس إخفاء الكنوز الملكية. وهنا ركب رأسه فحرق المدينة العظيمة ودكها دكاً، وانطلق جنوده ينهبون البيوت ويسبون النساء ويقتلون الرجال. ولعل الذي أثار سخطهم هو أنهم رأوا وهم مقبلون على المدينة ثمانمائة من اليونان قد مثل بهم الفرس لأسباب مختلفة فقطعوا أرجلهم(7/528)
أو أيديهم أو آذانهم أو فقأوا عيونهم. وأبصرهم الإسكندر فبكى من فرط التأثر وأقطعهم أرضاً زراعية وخصهم بأتباع يزرعونها لهم.
ولم يكتف الإسكندر بما نال من مجد فحاول أن يفعل ما عجز عن فعله قورش - وهو إخضاع القبائل التي كانت تحوم حول تخوم بلاد الفرس من الشرق، ولعله كان يأمل لقلة معلوماته الجغرافية أن يجدوا وراء الشرق الغامض المجهول ذلك الأقيانوس الذي يصلح لأن يكون حداً طبيعياً للدولة العظيمة التي أقامها بسيفه. ولما دخل سجديانا مر بقرية يسكنها أبناء البرنشيدي Branchidae الذين أسلموا لخشيارشاي قرب ميليطس كنوز هيكلهم. وتملكته فكرة الانتقام للإله الذي انتهب ماله، فأمر بأن يُقتل جميع أهلها بما فيهم النساء والأطفال - فاقتص بهذا العمل من الآباء بعقاب الجيل الخامس من الأبناء. وكانت حروبه في سجديانا، وأريانا، وبكتريانا، وحشية لم يجن منها نفعاً، فقد نال فيها النصر، وعثر في أعقابها على بعض الذهب، وترك من ورائه أعداء في كل مكان. وقبض رجاله قرب بخارى على بسوس Bessus قاتل دارا. وأقام الإسكندر نفسه فجاءه مطالباً بدم الملك العظيم، فضُرب بسوس بأمره بالسياط حتى كاد يقضي عليه، وجدع أنفه وصلمت أذناه، ثم أرسل إلى إكباتانا حيث قٌتل بأن ربط ذراعاه في إحدى الأشجار وساقاه في شجرة أخرى، وكانت الشجرتان قد ضمتا بالحبال، فلما قطعت حبالهما مزقت الشجرتان جسمه (27). وهكذا الإسكندر كلما بعد عن بلاد اليونان قلت فيه صفات اليونان وزادت نزعته الهمجية.
ونراه في عام 327 يخترق جبال الهملايا لينقض على الهند. وكأن غروره وتشوفه كانا يأتمران به ليقوداه إلى هذا الصقع النائي. ونصحه قواده بألا يقدم على هذه المغامرة، وأطاعه جنده وهم كارهون، فعبر نهر السند، وهزم الملك بروس Porus، وأعلن أنه سيواصل الزحف حتى بهر الكنج Ganges لكن(7/529)
جنوده أبوا أن يتقدموا خطوة واحدة. فحاول إقناعهم، وقضى ثلاثة أيام متجهماً في خيمته كما فعل جده أخيل من قبل؛ ولكن ذلك لم يجده نفعاً لأن جنوده قد سئموا القتال، فعاد أدراجه مكتئباً حزيناً، كارهاً أن يواجه الغرب مرة أخرى. وشق طريقه وسط قبائل معادية له، بشجاعة لم يسع جنده حين شهدوها إلا أن يبكوا لعجزهم عن تحقيق جميع أحلامه.
وكان هو أول من تسلق أسوار ماليا Mallia؛ وبعد أن قفز هو واثنان من جنده إلى داخل المدينة، تحطم السلم الذي صعدوا عليه، ووجد هو وزميلاه أنفسهم يحيط بهم الأعداء من كل جانب. وحارب الإسكندر حتى سقط على الأرض مثخناً بالجراح، وكان جنوده في هذه الأثناء قد اقتحموا أسوار المدينة، وأخذوا واحداً بعد واحد يضحون بحياتهم دفاعاً عن مليكهم الملقى على الأرض. فلما انتهت المعركة، حُمل الإسكندر إلى خيمته، والجند يقبلون ثيابه وهو مار بهم. وبعد أن قضى ثلاثة أشهر في دور النقاهة بدأ الزحف من جديد بمحاذاة نهر السند حتى وصل آخر الأمر إلى المحيط الهندي. ومن هنا أرسل قسماً من جيوشه بطريق البحر إلى بلاده بقيادة نيارخوس Nearchus، واستطاع هذا القائد الماهر أن يقوم بهذه الرحلة بعد أن اخترق بحاراً لا عهد له بها. وقاد الإسكندر بنفسه بقية الجيش متجهاً به نحو الشمال الغربي بمحاذاة ساحل الهند، ومخترقاً صحراء جدروسيا Gedrosia ( بلوخستان)؛ وقاسى جنوده فيها ما قاسته جنود نابليون في أثناء ارتدادهم من موسكو، فقد آلاف منهم من شدة الحر، وهلك من العطش أكثر من هؤلاء؛ ثم وجدوا قليلاً من الماء، وجيء به إلى الإسكندر، فصبه متعمداً على الأرض (28). ووصلت فلول جيشه إلى السوس بعد أن قتل منهم عشرة آلاف، واختلت موازين عقل الإسكندر نفسه من كثرة ما لاقاه من الأهوال.(7/530)
الفصل الثالث
موت إله
وكان قد قضى حتى ذلك الوقت تسع سنين في آسية، أحدث فيها من التأثير بانتصاره أقل مما أحدثته هي بأساليبها الشرقية. ذلك أن أرسطو قد علمه أن يعامل اليونان معاملة الأحرار وأن يعامل "البرابرة" معاملة العبيد. ولكنه دهش إذ وجد بين أشراف الفرس مستوى من الرقة وحسن الخلق لم يره كثيراً في الديمقراطيات اليونانية المضطربة؛ وأعجب بالطريقة التي نظم بها الملوك العظام إمبراطوريتهم، وارتاب في مقدرة المقدونيين الغلاظ على أن يحلوا محل حكام هذه الإمبراطورية، وأدرك أن السبيل الوحيدة إلى تثبيت فتوحه واستقرارها بعض الاستقرار هي أن يسترضي أشراف الفرس حتى يقبلوا زعامته، فإذا فعلوا استخدمهم في المناصب الإدارية. وزاد سروره برعاياه الجدد يوماً بعد يوم، فتخلى عن فكرته القديمة وهي أن يحكمهم بوصفه ملكاً مقدونياً، وخال نفسه إمبراطوراً يونانياً - فارسياً يحكم دولة يكون فيها الفرس واليونان أكفاء، وتمتزج ثقافتهم ودماؤهم امتزاجاً سلمياً، فينتهي النزاع الطويل بين أوربا وآسية بذلك الاقتران السعيد بين حضارتيهما.
وكان آلاف من جنوده قد تزوجوا من نساء البلاد المفتوحة، وأخذوا يعاشرونهن؛ فلم لا يفعل هو أيضاً فعلهم؟ فيتزوج بابنة دارا ويسوي النزاع بين الأمتين بأن يلد لهما ملكاً يجري في عروقه دم الأسرتين. لقد تزوج قبل ذلك الوقت ركسانا الأميرة البكترية، ولكنه لم يكن يرى أن هذه عقبة تقف في طريقه، وعرض الفكرة على ضباطه وأشار عليهم أن يتخذوا لهم(7/531)
أزواجاً فارسيات. وتبسموا ضاحكين من فكرة توحيد الأمتين، ولكنهم كانوا قد قضوا زمناً طويلاً بعيدين عن ديارهم، وكانت نساء الفرس ذوات جمال بارع. ومن ثم أقيم عرس عظيم في السوس (324) تزوج فيه الإسكندر استاتيرا Statira ابنة دارا الثالث، وبريساتس Parysatis ابنة أرتخشتر الثالث، وبهذا ربط نفسه بفرعي الأسرة المالكة الفارسية، واتخذ ثمانون من ضباطه لهم زوجات فارسيات. وحذا حذوهم بعد زمن يسير آلاف من الجنود فتزوجوا من فارسيات. ووهب الإسكندر كل ضابط من ضباطه بائنة قيمة وأدى ما على الجنود الذين تزوجوا من ديون - وقد بلغت هذه الهبات (إذا جاز لنا أن نأخذ بأقوال أريان Arrian) عشرين ألف وزنة (000ر000ر120ريال أمريكي (29)). وأراد أن يزيد هذا الاتحاد بين الشعبين قوة، ففتح أراضي الجزيرة وفارس للمستعمرين اليونان؛ وخفف بهذا العمل ضغط السكان في بعض الدول اليونانية وقلل من حدة الطبقات. ومن ذلك الوقت بدأت تقوم تلك المدن المتأغرقة الآسيوية التي صارت فيما بعد جزءاً هاماً من الإمبراطورية السلوقية Seleucid Empire وجمع في الوقت نفسه ثلاثين ألفاً من شباب الفرس وعلمهم على الطريقة اليونانية ودربهم على فنون الحرب اليونانية.
ولعل زوجاته كن من أسباب ميله إلى الأساليب الشرقية، أو لعل هذا الميل كان خطأ وقع فيه لشدة تواضعه، أو لعله كان جزءاً من خطة موضوعة. وفي ذلك يقول بلوتارخ: "فلما كان في فارس بدأ يلبس الثياب "البربرية" (أي الأجنبية) ولعله أراد بذلك أن ييسر تحضير الفرس لأن أكبر ما يؤثر في الناس هو اتباع عاداتهم ... بيد أنه لم يتبع عادات الميديين ... بل اختط خطة وسطاً بين الأساليب الفارسية والمقدونية، وكيف عاداته بحيث خلت من التفاخر الذي هو من مميزات الأولين، ولكنها كانت أكثر أبهة وفخامة من الآخرين" (30)(7/532)
وكان جنوده يرون هذا التغيير استسلاماً من الإسكندر للشرق، ويحسون أنهم بذلك قد خسروه، وفقدوا ما كانوا يرونه من أدلة العناية والعطف التي كان يضفيها عليهم في كل حين. وأظهر له الفرس فروض الطاعة والولاء، وأرضوه بضروب الملق والدهان؛ وشرع المقدونيون، بعد أن رقق الترف الشرقي طباعهم يظهرون استياءهم من الواجبات الثقيلة التي كان يفرضها عليهم، ونسوا إحسانه لهم، وأخذوا يتهامسون بالفرار من الجيش، بل إنهم شرعوا يأتمرون به ليقتلوه. وبدأ هو يفضل صحبة عظماء الفرس على صحبة اليونان.
وكان أكبر شاهد على ارتداده عن دينه أو على حسن سياسته هو جهره بألوهيته؛ وذلك أنه بعث في عام 324 إلى جميع الدول اليونانية ما عدا مقدونية (لأن ما في الرسالة التي بعث بها من إهانة لفليب قد يثير غضب أهلها) يبلغها أنه يرغب في أن يعترف به من ذلك الوقت ابناً لزيوس - أمون. وصُدعت معظم الدول بما أمرت، ولم ترَ في الأمر أكثر من لقب صوري، بل إن الإسبارطيين المعاندين أنفسهم لم يخرجوا على الأمر وقالوا في أنفسهم: "فليكن الإسكندر إلهاً إذا شاء". ولم يكن تأليه إنسان ما، بمعنى لفظ الألوهية عند اليونان، ليرفع من شأنه كثيراً؛ ذلك أن الهوة التي تفصل بين الإنسانية والألوهية لم تكن وقتئذ واسعة كما أضحت في الأديان الحديثة. ولقد جمع كثيرون من اليونان بين الصفتين، ومن هؤلاء هبوداميا، وأوديب، وأخيل، وإجينيا، وهلن. كذلك كان المصريون يحسبون فراعنتهم آلهة؛ ولو أن الإسكندر غفل عن أن يضع نفسه في هذا الموضع لكان من المحتمل أن يغضب المصريون لخروجه هذا الخروج العنيف عن السوابق المقررة عندهم. ولقد أكد كهنة سيوة، وديديما Didyma، وبابل، وهم الذين يعتقد الناس فيهم أن لديهم مصادر خاصة يستقون منها أمثال هذه الأنباء، أنه من نسل الآلهة. أما أن الإسكندر قد اعتقد بحق (كما يظن جروت (31)) أنه إله بأكثر من المعنى المجازي لهذا اللفظ فأمر(7/533)
بعيد الاحتمال. نعم إنه بعد أن أله نفسه أصبح سريع الغضب متغطرساً، وإن سرعة غضبه وغطرسته أخذتا تزدادان على مر الأيام. ولسنا ننكر أيضاً أنه جلس على عرش من الذهب، وارتدى ثياب كهنوتية، وزين رأسه في بعض الأحيان بقرني أمون (32). ولكنه حين لم يكن يظهر ألوهيته لأغراضه الدنيوية كان يسخر من هذه العظمة التي يدعيها لنفسه؛ ولما أن جرحه سهم قال لبعض أصدقائه: "هاأنتم هؤلاء ترون أن هذا دم لا غذيذة كالتي تسيل من جراح الآلهة المخلدين" (33). وما من شك في أنه لم يكن يحمل قصة والدته عن الصاعقة محمل الجد، ذلك واضح من غضبه الشديد على أتلس حين قال ما قال عن مولده، ومن قوله هو عن حاجته إلى النوم الذي يميز البشر عن الآلهة. وحتى أولمبياس نفسها قد ضحكت ساخرة حين سمعت أن الإسكندر قد سجل قصتها الخرافية في السجلات الرسمية، وسألت قائلة: "ألم يأن للإسكندر أن يمتنع عن التشنيع عليّ عند هيرا" (34)؟ ولقد ظل الإسكندر نفسه بالرغم من ربوبيته يقرب القرابين إلى الآلهة، وهو عمل لم نسمع قط بأن إلهاً قد أتى به. ولم يكن بلوتارخ وأريان وهما الرجلان اللذان يستطيعان أن يحكما في هذه المسألة لأنهما يونانيان، يشكان في أن الإسكندر قد أله نفسه ليتخذ ذلك التأليه وسيلة تيسر له حكم سكان إمبراطوريته المختلفي الأجناس والذين يؤمنون بالخرافات (35). ولا ريب في أنه كان يحس أن مهمة توحيد العالمين المتعاديين تُيَسَّر له إذا قبلت الطبقات العليا من أهلهما دعوى ربوبيته وعظمته الطبقات الدنيا وقدسته. ولعله قد فكر في أن يتغلب على ما تثيره الأديان المختلفة في الإمبراطورية من نزعة انفصالية بأن ينشر فيها حول شخصيته أسطورة مقدسة وديناً عاماً تؤمن به جميع شعوب هذه الإمبراطورية (1).
_________
(1) ويحدثنا لوشيان عن هذا الرأي القديم في إحدى "محاورات الموتى" فيقول: "فليب: لا تستطيع أن تنكر أنك ولدي، ولو أنك كنت ابن أمون لما جاز عليك الموت. الإسكندر: لقد كنت طوال الوقت أعرف أنك أبي، ولم أقبل قول الوحي إلا لأني ظننته خطة سياسية صالحة ... ذلك أن البرابرة حين عرفوا أن الذي أمامهم إله، امتنعوا عن القتال، وقد يسر لي ذلك هزيمتهم وفتح بلادهم".(7/534)
ولم يكن في مقدور المقدونيين أن يسبروا غور خطط الإسكندر السياسية. ذلك أنهم وإن تأثروا بالروح اليونانية إلى الحد الذي تحررت به عقولهم من الاسترقاق الفكري، لم يرقوا إلى درجة التسامح الفلسفي؛ ورأوا أن ما طلبه إليهم من السجود له حين يقتربون منه لا يرضونها لأنفسهم. ومن أجل ذلك دبر فيلوتاس Philotas، وهو ضابط من أشجع ضباطه ابن قائد من أكفأ قواده وأحبهم إليه، بالاشتراك مع القائد برمنيو Parmenio مؤامرة لقتل الإله الجديد. ووصلت أنباء المؤامرة إلى مسامع الإسكندر، فأمر بالقبض على فيلوتاس وانتزع منه بضروب التعذيب اعترافاً باشتراك أبيه مع المتآمرين. وأرغم على أن يكرر هذا الاعتراف أمام الجند، فرجموه من فورهم بالحجارة حتى مات، وكانت هذه عادتهم في مثل هذه الحالة. أما برمنيو فقد أعدم بأمر الملك لأنه مجرم في أغلب الظن، وأنه على كل حال عدو لا يؤمن جانبه. وتوترت العلاقات بين الإسكندر وجيشه من ذلك الحين - فأخذ الجنود يزدادون غضباً واستياء، وأخذ الملك يزداد في كل يوم ريبة وقسوة وعزلة.
وحمله تساميه، وعزلته، وكثرة مشاغله المطردة الزيادة، على أن يحاول إغراق همومه في الشراب. وقد حدث في مأدبة أقيمت في سمرقند أن شرب كليتس الذي أنقذ حياة الإسكندر في يوم غرانيقوس حتى فقد وعيه، فقال للإسكندر: إن ما نال من النصر يرجع الفضل فيه إلى جنوده لا إليه، وإن أعمال فليب أعظم من أعماله. وكان الإسكندر هو الآخر ثملاً فقام ليضربه، ولكن بطليموس لاجوس ptolemy Lagus ( الذي أصبح بعد قليل والياً(7/535)
على مصر) أخرج كليتس من مكان المأدبة. بيد أن كليتس كان يريد أن يقول أكثر مما قال، فعاد ليواصل طعنه. فرماه الإسكند بحربة أردته قتيلاً. وندم الإسكندر بعدئذ على عمله هذا ندماً حمله على أن يعتزل الناس ثلاثة أيام كاملة، امتنع فيها عن الطعام، وانتابته نوبات هستيرية، حاول فيها أن ينتحر. ولم يمض بعد ذلك ألا قليل من الوقت حتى قام هرمولوس Hermolaus، وهو خادم من خدم الإسكندر عاقبه في يوم من الأيام عقاباً ظالماً، بتدبير مؤامرة أخرى لقتله. وقبض على الغلام وعُذب حتى أتى باعتراف اتهم فيه كلستانس Callisthenes ابن أخي أرسطو. وكان كلستانس هذا يرافق الحملة بوصفه مؤرخاً رسمياً لها، وكان قد أغضب الملك لأنه أبى أن يسجد له، وأخذ ينتقد أساليبه الشرقية، ويتباهى بأن الخلف لن يعرف الإسكندر إلا عن طريق كلستانس المؤرخ. وأمر به الإسكندر فسجن حتى مات بعد سبعة أشهر من ذلك الوقت (1). وقضت هذه الحادثة على ما كان بين الإسكندر وأرسطو من صداقة، وكان الفيلسوف قد ظل عدة سنين يعرض حياته لأشد الأخطار بدفاعه عن قضية الإسكندر في أثينة.
وظل سخط الجيش يزداد حتى أوشك أن يكون في آخر الأمر تمرداً علنياً. ولما أعلن الملك في يوم من الأيام أنه يريد أن يرجع إلى مقدونية أكبر الجنود سناً بعد أن يمنح كلاً منهم جائزة سنية نظير خدمته (2)، هاله أن يسمع الجند يتهامسون بأنهم يحبون أن يفصلهم جميعاً من سلك الجندية، لأنه وهو إله لا حاجة له بالناس ليحققوا أغراضه. فلم يكن منه إلا أن أمر
_________
(1) تروى قصص متناقضة عن جريمته وموته. وأشهر ما تركه وراءه ثلاثة كتب: "الهلينيكا hellenica " وهو تاريخ لبلاد اليونان من 387 إلى 337، "وتاريخ الحرب المقدسة" و"تاريخ الإسكندر".
(2) ويؤكد لنا أريان أنه وهب كلاً منهم وزنة زيادة على مرتبه الذي لم يكن لينقطع حتى يعود إلى وطنه.(7/536)
بقتل زعماء الفتنة، ثم ألقى على الجنود خطبة مؤثرة (39) (ولكنها في أغلب الظن مشكوك في صحتها) ذكر فيها كل ما فعلوه من أجله، وكل ما فعله هو من أجلهم، وسألهم هل فيهم مَن يستطيع أن يظهر في جسده من الجروح أكثر مما فيه هو؟ وهل فيهم رجل مثله في جسمه أثر من كل سلاح من أسلحة القتال؟ ثم أذن لهم جميعاً في آخرها أن يعودوا إلى ديارهم وقال لهم: " عودوا إلى أوطانكم وقولوا للناس إنكم تخليتم عن مليككم، وتركتموه في حماية الأجانب المغلوبين". ثم آوى إلى حجرته وأبى أن يقابل أحداً من الناس. فندم جنوده أشد الندم، وأقبلوا على قصره، وألقوا بأنفسهم على الأرض أمامه، وأعلنوا أنهم لن يغادروا أماكنهم حتى يعفو عنهم ويعيدهم إلى جيشه. ولما أن ظهر أمامهم في آخر الأمر، أجهشوا بالبكاء وأصروا على أن يقبلوه، فلما رضي عنهم عادوا إلى معسكرهم ينشدون أناشيد الحمد والثناء.
واغتر الإسكندر بمظاهر الحب هذه، فأخذ يحلم بمواصلة الحروب والانتصارات، ووضع الخطط لفتح بلاد العرب الغامضة، وأرسل بعثة لارتياد أقاليم بحر قزوين، وفكر في الاستيلاء على أوربا حتى أعمدة هرقل. غير أن تعرضه للأجواء المختلفة وإدمانه الشرب كانا قد أضعفا بنيته القوية، كما أن مؤامرات ضباطه وتمرد جنوده كانا قد أوهنا قوته النفسية. وبينما كان الجيش في إكبتانا مرض هفستيون Hephaestion أعز أصدقائه وقضى نحبه. وكان الإسكندر يحبه حباً بلغ من شدته أنه حين دخلت زوجة دارا خيمة الملك الفاتح وانحنت أولاً لهفستيون احترماً له لظنها أنه هو الإسكندر، قال لها الملك الشاب في رقة ولطف: "إن هفستيون هو أيضاً إسكندر" (40) وكأنما أراد بقوله هذا أنه هو وهفستيون رجل واحد. وكثيراً ما كان الرجلان يشتركان في خيمة واحدة، وكانا في الحرب يقاتلان جنباً إلى جنب. وأحس الملك بعد موته أن نصفه قد انتزع منه، فأحزنه ذلك وفت(7/537)
في عضده، وقضى عدة ساعات ملقى على جثة صديقه يبكي وينتحب؛ واقتلع شعره من فرط الحزن، وأبى أن يتناول شيئاً من الطعام عدة أيام متوالية، وحكم بالإعدام على الطبيب الذي ترك الشاب المريض ليشهد الألعاب العامة، وأمر أن تكرم ذكرى هفستيون بإقامة محرقة جنائزية ضخمة بلغت نفقاتها كما يقولون عشرة آلاف وزنة (000ر000ر60 ريال أمريكي) وبعث يسأل مهبط الوحي من أمون هل يجوز أن يُتخذ هفستيون إلهاً يُعبد؟ وأمر في الوقائع الحربية التي دارت بعدئذ أن تقتل قبيلة على بكرة أبيها قرباناً لروح هفستيون. وكانت الفكرة التي تراوده وهي أن أخيل لم يعش طويلاً بعد موت بتركلس تقض مضجعه كأنها حكم عليه بالإعدام.
ولما عاد إلى بابل زاد انغماسه في الشراب شيئاً فشيئاً. وبينما كان يشرب مع ضباطه ذات ليلة إذ عرض عليهم أن يتباروا في شرب الخمر. فتجرع برامكس نحو ثلاثة جالونات وفاز بالجائزة وهي وزنة من الذهب، ومات بعد ثلاثة أيام. وأقيمت مأدبة أخرى بعد أيام قلائل شرب فيها الإسكندر خابية تحتوي نحو جالون ونصف من الخمر، وعاد في الليلة التالية إلى الشراب، ثم اشتد البرد فجأة فأصيب بالحمى وآوى إلى فراشه. ولم تفارقه الحمى عشرة أيام كاملة ظل في أثنائها يصدر الأوامر إلى جيشه وأسطوله. ثم مات في اليوم الحادي عشر في السنة الثالثة والثلاثين من عمره (323). ولما سأله قواده لمن يترك ملكه أجابهم بقوله: "إلى أعظمكم قوة" (41).
وقد عجز الإسكندر كما عجز أكثر العظماء عن أن يجد رجلاً جديراً بأن يخلفه على عرشه، وكان قد قضى نحبه قبل أن يتم عمله. على أن هذا العمل رغم هذا لم يكن جليلاً فحسب بل كان فوق ذلك أبقى على الدهر مما يظنه الناس عادة. فكأن الضرورات التاريخية قد اختارت الإسكندر لتغيير(7/538)
الأوضاع السياسية القائمة في ذلك الوقت، فقد قضى على عهد دول المدن، وأنشأ بعد التضحية بقسط غير قليل من حرية هذه المدائن نظاماً أوسع رقعة وأعظم استقراراً من أي نظام عرفته أوربا قبل عهده. وقد ظلت الفكرة التي قامت بذهنه عن الحكم، الحكم الاستبدادي الذي يستعين بالدين لفرض السلم على أمم مختلفة الأجناس والألوان، نقول ظلت هذه الفكرة هي المسيطرة على أوربا حتى العصر الحديث عصر القومية والديمقراطية. وقد حطم الحواجز القائمة بين اليونان و "البرابرة" ومهد السبيل لعالمية العصر الهلنستي؛ وفتح آسية الدنيا للاستعمار اليوناني، وأنشأ في بلاد الشرق مستعمرات يونانية وصلت في هذا الاتجاه إلى بكتريا، وجمع عالم البحر الأبيض المتوسط الشرقي في نظام تجاري موحد واسع النطاق شجع التجارة وأطلقها من قيودها؛ ونقل الآداب والفلسفة والفنون اليونانية إلى آسية، ومات قبل أن يدرك أنه مهد السبيل لذلك الانتصار الديني العظيم الذي ظفر فيه الشرق بالغرب. ولقد كان ارتداؤه الملابس الشرقية وتحوله إلى الأساليب الشرقية بداية انتقام آسية من أوربا.
ولقد كان من الخير للإسكندر أن يموت وهو في عنفوان مجده؛ ولو أنه طال به العمر لتكشف له أنه كان مخدوعاً في كثير من الأمور، ولعله لو عاش لأقضت مضجعه الهزائم والآلام ولأحب السياسة - وكان قد بدأ يحبها - أكثر مما يحب الحرب. لكنه أجهد نفسه فوق طاقته، وأكبر الظن أن ما كان يتطلبه حفظ دولته العظيمة قوية موحدة، ومراقبة أجزائها المختلفة بأجمعها، قد بدأ يحدث الاضطراب في عقله المشرق النير. ذلك أن الجد ليس إلا نصف العبقرية، أما نصفها الآخر فهو السيطرة على أعنة هذا الجد وتملك ناصيته؛ ولكن الإسكندر كان كله جداً ونشاطاً. وكان يعوزه - وإن لم يكن من حقنا أن نتطلب منه - نضج قيصر الهادئ أو حكمة أغسطس ودهاؤه.(7/539)
ونحن نعجب بنابليون لأنه لاقى بمفرده نصف العالم، ولأنه يشجعنا على أن نؤمن بما في نفوس الأفراد من قوة كامنة لا يكاد الإنسان يؤمن بوجودها فيها. ونحن نشعر بعطف طبيعي عليه رغم إيمانه بالخرافات والأوهام وتصديقه ما لا يصح لمثله أن يصدقه، وذلك لأننا نعرف أن أقل ما يمكن أن يقال فيه أنه كان شاباً كريم النفس قوي العاطفة، كما كان رجلاً قديراً باسلاً لا يكاد يدانيه أحد في قدرته وبسالته، وأنه كان يكافح ليتخلص مما في دمه من تراث من الهمجية يذهب بالعقل الحصيف، وأنه فيما خاض من المعارك العنيفة وفيما أهرق من الدماء الغزيرة لم يغب عنه قط حلمه العظيم وهو نشر نور أثينة في عالم أوسع منها رقعة.(7/540)
الفصل الرّابع
خاتمة عصر
لما علمت بلاد اليونان بموت الإسكندر اندلع لهيب الثورة على سلطان مقدونية في جميع أنحائها. ونظم أهل طيبة المنفيون في أثينة قوة من الوطنيين وحاصروا الحامية المقدونية المرابطة في كدميا. وفي أثينة نفسها، حيث كان الكثيرون يتضرعون إلى الآلهة أن تقضي على الإسكندر، توج أعضاء الحزب المعادي للمقدونيين رءوسهم بأكاليل الغار حين أحسوا بأن دعاءهم قد استجيب، وأخذوا يقصفون ويمرحون لموت مَن كانوا قبل موته يتخذونه إلهاً يُعبد، وينشدون، كما يقول بلوتارخ "أناشيد النصر كأنهم قد فازوا عليه بشجاعتهم" (42).
وكان دمستين في هذه اللحظة القصيرة في ذروة مجده؛ ذلك أن أموره في خلال حروب الإسكندر لم تكن كما يحب: فقد اتهم بأنه قبل رشوة كبيرة من هربالوس Harpalus وزج في السجن، ثم سُمح له بالفرار وعاش تسعة أشهر يقاسي آلام النفي في تريزن Troezen. فلما مات الإسكندر استدعى من منفاه وأرسل في مهمة سياسية إلى البلوبونيز ليعقد حلفاً لأثينة يعاونها في حرب الاستقلال والحرية. وزحفت قوة متحدة نحو الشمال والتقت بجيش أنتباتر عند كرانون Crannon ودارت عليها الدائرة. وفرض الجندي الطاعن في السن، الذي لم يكن كالإسكندر يشعر بشيء من العطف على الثقافة الأثينية، أفدح الشروط على المدينة المهزومة، فطلب إليها أن تتحمل جميع نفقات الحرب، وأن تقبل فيها حامية مقدونية، وتلغي دستورها الديمقراطي ومحاكمها، وتُحرم من حق الانتخاب، وتنقل إلى المستعمرات الخارجية كل المواطنين (000ر12 من 000ر21)(7/541)
الذين تقل قيمة ممتلكاتهم عن ألفي درخمة، وأن تسلم دمستين، وهيبريدز، واثنين غيرهما من الخطباء المعادين للمقدونيين. فلما سمع دمستين بهذه الشروط فر إلى كالوريا Calauria ولجأ إلى حمى أحد الهياكل. ولما أحاط به مطاردوه المقدونيون تجرع ملء قارورة من السم، ومات قبل أن يستطيع جر نفسه من البهو المقدس.
وشهدت هذه السنة المشئومة نفسها خاتمة حياة أرسطو. لقد كان منذ زمن طويل غير محبب للأثينيين: فقد كان المجمع العلمي ومدرسة إسقراط يحقدان عليه لأنه كان ينقدهما وينافسهما، بينما كان الوطنيون يعدونه زعيماً للحزب المناصر للمقدونيين. وانتهز أعداؤه فرصة موت الإسكندر فاتهموا أرسطو بالمروق من الدين، وجيء بفقرات من كتبه دالة على كفره بالآلهة تأييداً لهذه التهمة؛ واتُهم أيضاً بأنه كرم الطاغية هرمياس Hermeias بما يكرم به الآلهة، وكان هرمياس هذا عبداً رقيقاً ومن ثم لم يكن في مقدوره أن يصبح إلهاً. وغادر أرسطو المدينة في هدوء وهو يقول إن نفسه لا تطاوعه أن يتيح لأثينة فرصة أخرى ترتكب فيها الإثم في حق الفلسفة (43). ولجأ إلى بيت أسرة والدته في خلقيديا وأوصى ثاوفراسطوس Theophrastus أن يعنى بشئون اللوقيون. وحكم عليه الأثينيون بالإعدام، ولكن الفرصة لم تسنح لهم لتنفيذ الحكم، كما أنهم لم يكونوا في حاجة لتنفيذه. ذلك أن أرسطو قضى نحبهُ بعد بضعة أشهر من مغادرته أثينة؛ وقد يكون سبب موته مرضاً أصيب به في معدته واشتد عليه بسبب فراره، وقد يكون سببهُ كما يقول بعضهم أنه تجرع السم. وكان وقت وفاته في الثالثة والستين من عمره، وكانت وصيته مثلاً أعلى في الحنان والتقدير لزوجته الثانية، وأسرته، وعبيده.
وبعد فقد كان موت الديمقراطية اليونانية موتاً عنيفاً وطبيعياً في وقت واحد. وكان أهم أسباب هذا الموت ما أصاب هذا النظام من اضطراب(7/542)
تغلغل في كيانه، ولم يكن سيف مقدونية إلا الضربة الأخيرة التي أجهزت عليه وهو يلفظ آخر أنفاسه. لقد تبين أن دولة المدينة لا تستطيع حل مشاكل الحكم: فقد عجزت عن حفظ النظام في الداخل، وصد الأعداء في الخارج؛ ولم تهتد إلى وسيلة توفق بها بين الاستقلال وبين الاستقرار القومي وقوة السلطان رغم نداء غورغياس، وإسقراط وأفلاطون لهذه المدن بأن تستعين بشيء من التنظيم الُّدوري القوي لتكبح به جماح الحرية الأثينية. هذا إلى أن حب دولة المدينة للحرية لم يقف قط في سبيل نزعتها الإمبراطورية. يضاف إلى هذا أن حرب الطبقات قد اشتدت حتى أفلت زمامها من أيدي الزعماء، وجعلت الديمقراطية سباقاً إلى الانتهاب عن طريق التشريع. وانحطت الجمعية التي كانت هيئة شريفة في أحسن أيامها فأصبحت هيئة من الرعاع الصخابين تكره كل سلطة فوق سلطتها، وترفض كل قيد يحد من هذه السلطة، تقسو على الضعيف وتخضع ذليله للقوي، توافق على كل ما تنال من ورائه النفع لنفسها، وتفرض على الأملاك من الضرائب الفادحة ما من شأنه أن يقضي على الابتكار والنشاط والادخار. إن فليب والإسكندر وأنتباتر لم يكونوا هم الذين قضوا على الحرية اليونانية، بل إن هذه الحرية هي التي قضت على نفسها بنفسها؛ ولقد أبقى النظام الذي أقاموه حضارة لولاه لقضى عليها ما فيها من عناصر الفوضى الاستبدادية، ونشر هذه الحضارة في مصر والشرق.
ومع هذا كله فهل استطاعت الألجركية أو الملكية المطلقة أن تفعل خيراً مما فعلتهُ تلك الديمقراطية؟ إن حكومة "الثلاثين" قد ارتكبت في الشهور القلائل التي استولت فيها على أزمة الحكم من الفظائع ضد الأنفس والأموال أكثر مما ارتكبته الديمقراطية في مائة السنين السابقة لهذا الحكم (45). وبينما كانت الديمقراطية تخلق الفوضى في أثينة كانت الملكية تخلق الفوضى في مقدونية؛ وهل ثمة فوضى أكثر من حروب تربى على عشر جر إليها النزاع(7/543)
على العرش، ومائة من الاغتيالات، وألف من القيود على الحرية، وذلك كله من غير أن يصحب هذه الفوضى شيء من المجد الأدبي أو العلمي أو الفني يخفف من فظاعتها؟ ولقد كان ضعف الدولة وصغرها في بلاد اليونان نعمة كبرى على الفرد، نعمت بها روحه بلا ريب إن لم ينعم بها جسمه؛ ذلك أن هذه الحرية، وإن كلفته كثيراً، قد أمكنت العقل اليوناني من أن يقوم بجلائل الأعمال. إن الفردية تقضي في آخر الأمر على الجماعة، ولكنها قبل أن تقضي عليها تقوي الشخصية، والكشف العقلي، والإبداع الفني. ولسنا ننكر أن الديمقراطية اليونانية أضحت فاسدة عاجزة يجب أن تموت؛ ولكن الناس أدركوا بعد موتها ما كانت عليه من الجمال في أيام مجدها، وكانت الأجيال القديمة التالية على بكرة أبيها ترنو ببصرها إلى عهود بركليز وأفلاطون وتعدها أعظم العهود التي شهدتها بلاد اليونان بل أحسن العهود في التاريخ كله.(7/544)
الكتاب الخامس
انتشار الهلنستية
من 322 إلى 146 ق. م.(8/2)
مقدمة الترجمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى جميع أنبيائه ورسله، وبعد: فهذا هو الجزء الثالث والأخير من المجلد الثاني من مجلدات قصة الحضارة الستة، وهو يقص تاريخ اليونان ويصف حضارتهم في عهد انتشارهم في بلاد الشرق والغرب حتى الفتح الروماني كم يصف أسباب قوتهم وضعفهم وما يدين يه العالم إلى هذا الشعب العظيم.
وقد تداركنا في هذا الجزء بعض ما فاتنا في الجزأين السابقين من الأسماء اليونانية التي وردت في الطتب العربية القديمة فكتبناها كما وردت في تلك الكتب وإن اختلفت بعض الاختلاف عن نطقها الذي أثيته المؤلف في الأصل الإنجليزي، فإذا وجد القارئ بعض الاختلاف في كتابة تلك الأسماء في هذا الجزء الثالث عنها في الجزأين السابقين فسبب هذا أن المراجع العربية لم تكن ميسرة لنا من قبل. وليس هذا الاختلاف بذي بال وهو لا يعدو عدداً قليلاً من الألفاظ أمثال القبيادس وأكسانوفون Xonophon, Alcibiades ولربما كان تعريبها كما ورد في الجزأين السابقين أقرب غلى نطقها اليوناني من الصيغة التي وردت بها في الكتب العربية القديمة، ولكننا آثرنا أن نثبتها حتى تكون الصورتان أمام القارئ.
ولا يسعنا مرة أخرى إلا أن ننوه بفضل الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية التي اختارت هذا الكتاب وعهدت إلينا لترجمته، وإلى لجنة التأليف والترجمة والنشر التي تكفلت بطبعه ونشره، وإلى القراء الذين أقبلوا على أجزائه السابقة إقبالاً كان الحافز الأكبر لما بذلناه وما نبذله من جهد في ترجمة هذه الموسوعة القيمة.
المترجم
محمد بدران
مايو 1954(/)
الباب الثالِث والعِشرون
بلاد اليونان ومقدونية
الفصل الأوَل
تنازع السلطان
يقسم المؤرخون الماضي أحقاباً، وسنين، وحوادث، كما يقسم الفكر العالم جماعات، وأفراداً أو أشياء؛ ولكن التاريخ لا يعرف، كما لا تعرف الطبيعية، إلا الاستمرار والتغير- والتاريخ لا يقفز قفزات- Historia mon facit. لهذا لم تشعر بلاد اليونان الهلنستية بأن موت الإسكندر كان نهاية عصر من العصور؛ بل نظرت إلى الإسكندر نفسه بأنه بداية العصور "الحديثة" وعلى أنه رمز الشباب القوي لا على أنه عامل من عوامل الاضمحلال والفناء؛ وكان هذا العالَم موقناً بأنه قد بدأ الآن أعظم مراحل النضوج، وأن زعمائه لم يكونوا يقلون عظمة وفخامة عن الزعماء في أي عصر من العصور الماضية ما عدا الملك الشاب نفسه، فهو دون غيره نسيج وحده (1). ولقد كان هذا العالَم على حق من نواح كثيرة. ذلك أن الحضارة اليونانية لم تمت بموت الحرية اليونانية، بل إنها على العكس من ذلك قد افتتحت لنفسها أقطاراً جديدة، وانتشرت في ثلاث جهات بعد أن حطم تكوين الإمبراطوريات الواسعة ما كان يعترض سبل الاتصال والاستعمار والتجارة من حواجز سياسية. وكان اليونان لا يزالون شعباً مغامراً يقظاً، فهاجروا بمئات الآلاف إلى آسية، ومصر، وإبيروس، ومقدونية، وبذلك لم تزدهر أيونيا مرة أخرى وحسب، بل إن الدم الهليني(8/7)
واللغة اليونانية والثقافة اليونانية قد شقت طريقها إلى داخل آسية الصغرى، وفينيقية وفلسطين؛ واخترقت سوريا، وبابل؛ وتخطت نهري الفرات ودجلة، بل وصلت إلى بكتريا والهند نفسهما. ولم تكن الروح اليونانية في وقت من الأوقات أشد مما كانت في ذلك الوقت حماسة وشجاعة؛ لم تحرز الآداب والفنون اليونانية نصراً مؤزراً أوسع من النصر الذي أحرزته في تلك الأيام.
ولعل هذا هو السبب الذي جعل المؤرخين يختتمون تاريخ بلاد اليونان بالإسكندر؛ ذلك أن العالم اليوناني بعد موته قد بلغ من الاتساع والتعقد حداً لا يستطيع الإنسان معه أن ينظر إليه على أنه وحدة، أو يقص تاريخه قصة متصلة. ذلك أنه لم تقم فيه ثلاث دول ملكية كبرى فحسب- مقدونية، وسلوقية ومصر-؛ بل نشأ فيه أيضاً مائة من دول المدن اليونانية تتمتع بدرجات مختلفة من الاستقلال؛ وقامت أحلاف واتحادات متشابكة؛ وأنشأت دول نصف يونانية في أبيروس، وبلاد اليهود، وبرجموم، وبيزنطية، وبيثينيا، وكبدوكيا، وغلاشيا، وبكتريا. وقامت في الغرب إيطاليا وصقلية اليونانيتان تتنازعهما قرطاجة العجوز ورومة الفتية. وكانت دول الإسكندر المزعزعة القواعد لا تربطها إلا روابط ضعيفة من اللغة وسبل الاتصال، والعادات والدين، لا تقوى معها على البقاء طويلاً. يضاف إلى هذا أنه لم يترك وراءه رجلاً قوياً واحداً بل ترك رجالاً كثيرين، ولم يكن منهم من يقنع بأقل من السيادة التامة. وغفلت الدولة الجديدة لسعتها واختلاف أصقاعها عن فكرة الديمقراطية، فقد كان الاستقلال، كما يفهمه اليونان، يفترض وجود دولة مدينة يستطيع مواطنوها أن يجتمعوا في أوقات معينة في مكان واحد. يضاف إلى هذا أن فلاسفة أثينة الديمقراطية قد عابوا على هذه الديمقراطية نفسها أنها مستقر الجهالة والتحاسد والفوضى. وكان خلفاء الإسكندر جماعة من الزعماء المقدونيين تعودوا من زمن بعيد أن يقيموا حكمهم بالسيف؛ ولم يكن للديمقراطية نصيب من تفكيرهم إلا في أوقات متفرقة(8/8)
يستشيرون فيها أعوانهم. وبعد عدة مناوشات حربية صغيرة تخلصوا فيها من صغار منازعيهم، قسموا الدولة خمسة أقسام (321)، فاختص أنتباتر بمقدونية وبلاد اليونان؛ وليسماخوس بتراقية، وأنتجونس بآسية الصغرى، وسلوقس ببابل، وبطليموس بمصر. ولم يروا ضرورة لدعوة مجمع عام من الدول اليونانية يؤيد هذا التقسيم. وظلت الملكية من تلك الساعة إلى قيام الثورة الفرنسية- إذا استثنينا فترات متقطعة في تاريخ بلاد اليونان نفسها وتاريخ جمهورية رومة الأرستقراطية- هي المسيطرة على أوربا بأكملها.
إن المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه الديمقراطية هو الحرية التي تدعو إلى الفوضى، كما أن المبدأ الأساسي في الملكية هو السلطان الذي يدعو إلى الاستبداد والثورة والحرب. ولقد كانت الحروب الخارجية والأهلية من عهد فليب إلى عهد برسيوس، ومن قيرونية إلى بدنا (338 - 168) تكملها الحروب الخارجية والداخلية في الممالك لأن منافع الحكم تغري مائة من القواد على أن يتنازعوا العروش. ولم يكن العنف أقل انتشاراً في بلاد اليونان الهلنستية منه في رومة في عهد النهضة. كذلك لم يكن زعماء العصابات الذين يُستأجرون بالمال لتأييد هذا الفريق أو ذاك أقل عدداً أو أقل شهرة في الأولى منهم في الثانية. ولما مات أنتباتر ثارت أثينة مرة أخرى، وقتلت فوشيون الشيخ الطاعن في السن بعد أن حكمها باسم أنتباتر حكماً كان أعدل ما يستطيع أن يهبها من أحكام، وأعاد كسندر بن أنتباتر المدينة إلى حكم مقدونية (318)، ووسع حق الانتخاب حتى شمل من كان يملك ألف درخمة، وأناب عنه في الحكم دمتريوس الفلرومي Demetrius of Phalerum الفيلسوف، والعالم، والفنان الهاوي الذي نعمت المدينة في عهده بعشر سنين من الرخاء والسلام. وفي هذه الأثناء كان أنتجونس الأول "الجبار الأعور" يحلم بضم دولة الإسكندر كلها تحت عينه الواحدة؛ ولكن حلفاً من أقسام هذه الدولة هزمه عند إبسوس (301)، وانتزع منه سلوكس آسية الصغرى، وحرر(8/9)
ابنه دمتريوس بوليكريتيز ("آخذ المدن") بلاد اليونان من نير مقدونية، واستمتعت أثينة تحت حكمه باثني عشر عاماً أخرى من الحكم الديمقراطي؛ وأقام في البرثتون ضيفاً على المدينة، وجاء بالسراري ليعشن معه فيه (2)، ودفع بعض الشبان المستيئسين إلى أعمال العنف بمغامراته النسائية (1)، وانتصر في معركة بحرية انتصاراً باهراً على بطليموس الأول قرب قبرص (308)، وحاصر رودس ستة أعوام استخدم فيها آلات جديدة من آلات الحصار، لكنه ارتد عنها خائباً. وجعل نفسه ملكاً على مقدونية (294)، وقضى على حرية أثينة بحامية وضعها فيها، وتورط في حرب بعد حرب، حتى هزمه سلوكس وقبض علية؛ ومات من كثرة الشراب.
وبعد أربع سنين من ذلك الوقت (279)، انتهزت جموع من الكلت أو "الغاليين" بزعامة برنوس Brennus فرصة ما حدث من الاضطراب بسبب النزاع القائم على السلطة في شرق البحر الأبيض المتوسط (2)، فانقضت على بلاد اليونان مخترقة تراقية ومقدونية. ويقول بوسنياس إن برتوس "أشار إلى ضعف بلاد اليونان، وإلى ما في مدنها من ثروة طائلة، وما في هياكلها من نذور ضخمة، وإلى ما في البلاد من مقادير هائلة من الفضة والذهب (4) ". وشبت في نفس هذا الوقت نار الثورة في مقدونية بزعامة أبلودوروس Apollodorus؛ وانضم قسم من الجيش إلى الثوار، وأيدوا الفقراء الجياع في ثأرهم الدوري المتكرر من الأغنياء وانتهاب ثروتهم. وما من شك في أن الغاليين قد وجدوا لهم بإرشاد أحد اليونان طريقاً سرياً حول ترموبيلي، فعاثوا في الأرض فساداً، يقتلون وينهبون بلا حرج ولا تمييز، ثم تقدموا بجموعهم نحو هيكل دلفي
_________
(1) وبحث دمتريوس عن دمكليز Damocles في كل مكان، ولما أوشك أن يقبض عليه قتل نفسه بأن قفز في قدر بها ماء يغلي (3). وليس لنا أن نحكم على الأثينيين حكماً خاطئاً مستندين إلى هذا المثل الفذ من أمثلة الفضيلة.
(2) وهو غير برنوس الذي غزا إيطاليا في عام 390 ق. م.(8/10)
الغني. فلما صدتهم عنه قوة يونانية وعاصفة هوجاء أرسالها أبلو كما يعتقد اليونان للدفاع عن مزاره، تقهقر برتوس وقتل نفسه فراراً من العار. وعبرت فلول الغاليين الذين نجوا من القتل إلى آسية الصغرى، ويقول فيهم بوسنياس إنهم "ذبحوا جميع الذكور، والعجائز، كما ذبحوا الأطفال على صدور أمهاتهم؛ وشربوا دمائهم وأكلوا لحوم السمان منهم". فلما رأت ذلك النساء الشريفات والعذارى المخدرات انتحرن فراراً من العار ... وتعرض من بقين على قيد الحياة لأصناف من الامتهان لا حصر لها ... فمنهن من ألقين بأنفسهن على شفار سيوف الغاليين، يطلبن لأنفسهن الموت، ومنهن من قضين نحبهن من الجوع وعدم النوم، وكان هؤلاء البرابرة الغلاظ الأكباد يغتصبونهن واحدة في إثر واحدة ويشبعون فيهن شهواتهم سواء كن أحياءً أو أمواتاً (1).
وبعد أن عاث الغزاة فساداً في البلاد أعواماً طوالاً، أقنعهم يونانيو آسية بما نفحوهم من المال بأن ينسحبوا من شمالي فريجيا (وعُرفت مستعمراتهم فيها باسم غالاشيا)، وإلى تراقية وبلاد البلقان. وظل الغاليون جيلين كاملين يرهبون سلوقس الأول والمدن اليونانية القائمة على سواحل آسية وشواطئ البحر الأسود. وكانت بيزنطية وحدها تؤدي لهم جزية سنوية تقدر بما يوازي 240. 00 ريال أمريكي (2). وكما أن أباطرة رومة وقوادها قد شغلوا في القرن الثالث بعد الميلاد بصد غارات البرابرة على الدولة الرومانية، كذلك
_________
(1) ليس لدينا رواية من الغاليين أنفسهم عن هذه الحوادث، كما أننا ليس لدينا أية رواية من "البرابرة" عن غزو اليونان لآسية، أو إيطاليا، أو صقلية.
(2) سنقدر الوزنة في الصفحات التالية من هذا الكتاب بما يعادل 3000 ريال أمريكي على أساس قيمة الريال في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1939، وذلك لكي نُدخل في حسابنا ما حدث في العصر الهلنستي من ارتفاع في الأسعار.(8/11)
سخّر ملوك برجموم، وسلوقيا، ومقدونية هم وقوادها مواردهم وقواهم في القرن الثالث قبل الميلاد لصد موجات الكلت الغزاة المتكررة على البلاد اليونانية. ذلك أن الحضارة القديمة كانت طوال تاريخها تعيش على شاطئ بحر من الهمجية طالما هددها بإغراقها واجتياحها؛ وقد استطاعت بسالة المواطنين أن تصد أمواج هذا البحر الطامي في يوم من الأيام بعد أن أعدت لهذا الغرض إعداداً دائماً طويل الأمد؛ ولكن البسالة كانت تحتضر في بلاد اليونان في وقت أن كان الدهر يضفي عليها صبغتها القديمة ويخلع عليها اسمها اللذين عرفت بهما في مستقبل أيامها.
وطرد أنتجونس الثاني ابن دمتريوس بوليكراتيس والمعروف باسم "جوناتاس" لأسباب لا نعرفها الآن، طرد الغاليين من مقدونية، وقلّم أظفار فتنة أبلودوروس، وحكم مقدونية حكماً حازماً معتدلاً دام ثمانية وثلاثين عاماً (277 - 239). وكان سمحاً جوّاداً يناصر الآداب والعلوم والفلسفة، واستدعى شعراء مثل أراطوس السليائي إلى بلاطه، ووثق مع زينون الرواقي الصداقة التي دامت طوال حياته، وكان أول تلك السلسلة غير المتصلة الحلقات من الفلاسفة الملوك التي انتهت بماركس أورليوس. ومع هذا ففي أثناء حكمه بذلت أثينة آخر جهودها لاستعادة حريتها. وذلك أن الحزب الوطني الأثيني الذي كان يتزعمه في ذلك الوقت أقرمنيدس Chremonides أحد تلاميذ زينون الشبان استولى على أزمة الحكم في عام 267. واستطاع بمعونة مصر أن يطرد الجنود المقدونيين من المدينة، ويعلن استقلال أثينة وحريتها. وجاءه أنتجونس على مهل، واسترد المدينة (262)، ولكنه عامله معاملة من يحترم الفلسفة والشيخوخة؛ فوضع حاميات في بيرية وسلاميس وعند سنيوم، وحذر أثينة من الاشتراك في أحلاف والاشتباك في حروب، وفيما عدا هذا ترك للمدينة حريتها كاملة.
وكانت المدن اليونانية الأخرى وقتئذ تحل بأساليب أخرى مشكلة التوفيق بين الحرية والنظام، فشرعت إيتوليا الصغيرة حوالي عام 279، وكان يسكنها(8/12)
كما يسكن مقدونية أقوام جبليون نصف همج لم يخضعوا في حياتهم لغريب، شرعت هذه المدينة الصغيرة تنظم مدن اليونان الشمالية- وخاصة مدن الحلف الدلفي الاثني عشري- وتضمها في الحلف الإيتولي؛ وضم الحلف الآخي المؤلف من مدائن بتري Patrae، وديمي Dyme، وبليني، إلى عضويته حوالي ذلك الوقت كثيراً من مدن البلوبونيز. وظلت الهيئات البلدية التي يتألف منها كلا الحلفين تشرف على جميع فروع الحكومة المحلية، ولكنها أسلمت قواها المسلحة وعلاقاتها الخارجية إلى مجلس الاتحاد وإلى استراتيجوس ينتخبه من يستطيع من المواطنين أن يحضر الجلسات السنوية التي تعقدها الجمعية في إجيوم من أعمال آخية أو في ثرموس من أعمال إيتوليا. وكانت مهمة كل حلف أن يحافظ على السلم، ويوحد المقاييس والموازين والسكة في الأصقاع التي يشملها- وتلك خطوة في سبيل التعاون تجعل القرن الثالث أرقى من عصر بركليز من بعض الوجوه.
وحوّل أراتوس السكيوني عصبة الدول السكيونية إلى قوة من الطراز الأول. واستطاع هذا الثمستكليز الجديد وهو في سن العشرين أن يحرر سكيون من طاغيتها بأن باغته بالهجوم ليلاً هو وحفنة من الرجال. واستطاع بفصاحته وبراعته في المفاوضات أن يُقنع جميع مدن البلوبونيز ما عدا إسبارطة وإليس بأن تنظم إلى العصبة التي ظلت تنتخبه رئيساً لها مدى عشر سنين (245 - 235). ودخل مدينة كورنثة سراً ومعه بضع مئات من رجاله وتسلق قمة أكروكورنثس المنيعة، وبدد شمل الجيوش المقدونية، وأعاد إلى المدينة حريتها. ثم انتقل إلى ثغر بيرية ورشا الحامية المقدونية المقيمة بها بالمال فاستسلمت له وأعلن تحرير أثينة، وظلت تلك المدينة من ذلك الوقت إلى الفتح الروماني تستمتع باستقلال فذ في نوعه- فقد كانت لا حول لها ولا طول(8/13)
من الناحية العسكرية ولكن الدول الهلنستية تركتها وشأنها لم تمسها بسوء لأن جامعاتها العلمية جعلتها العاصمة الذهنية للعالم اليوناني. ووجهت أثينة عنايتها للفلسفة، واختفت من ذلك الحين من التاريخ السياسي.
وكانت عصبتا الدول اليونانية وقتئذ في عنفوان قوتهما، ثم أخذتا تضعفان نفسهما بمحاربة كل منهما للأخرى في الخارج، وبحروب الطبقات في الداخل. ففي عام 220 اشتبكت العصبة الإيتولية ومعها إسبارطة وإليس في الحرب "الاجتماعية" العوان ضد العصبة الآخية ومقدونية. وكان أراطوس المدافع عن الحرية يدافع أيضاً عن حق الملكية؛ ولذلك كانت العصبة تؤيد حزب الملاك في كافة المدن. وشكا فقراء المواطنين من أنهم لا يستطيعون حضور الجمعيات النائية لعصبة الدول وأنهم كانوا في واقع الأمر محرومين من الحقوق السياسية؛ وكانوا يرتابون في فائدة حرية لا معنى لها إلا أن تتيح الفرصة كاملة للأقوياء والمهرة دون غيرهم لكي يستغلوا الضعفاء والسذج؛ فأخذوا يؤيدون تأييداً متزايداً المهرجين من زعماء الشعب الذين كانوا ينادون بإعادة توزيع الأراضي الزراعية؛ وشرع الفقراء يفضلون حكم المقدونيين على حكومتهم الوطنية كما كان يفعل الأغنياء قبل مائة عام من ذلك الوقت.
بيد أن الذي قضى على مقدونية آخر الأمر هو أمانة أنتجونس الثالث. وذلك أنه كان قد استولى على زمام السلطة بوصفه وصياً على فليب ابن زوجته، ووعد بأن يتخلى عن الملك حين يبلغ فليب سن الرشد. وأطلق عليه الساخرون في ذلك الوقت اسم "الدوسون Doson أي الواعد"، لأنهم على ما يبدو كانوا موقنين بأنه لن يوفي بوعدهِ. ولكنه أنجز هذا الوعد فعلاً، وبدأ فليب الخامس في عام 221، وهو في السابعة عشرة من عمره، حكماً طويلاً مليئاً بالدسائس والحروب. وكان فليب شجاعاً قديراً، ولكنه كان مختالاً ميت الضمير، لم(8/14)
يتورع عن أن يغرر بزوجة ابن أراطوس، ويسم أراطوس نفسه، ويقتل ابنه هو لأنه ظنه يأتمر به، وأقام ولائم من الخمر المسموم للذين وقفوا في وجه خططه (7). وقد وسع رقعة مقدونية وزاد ثروتها، وتركها وهي أكثر سكاناً وأعظم رخاءً مما كانت عليه منذ مائة وخمسين عاماً. ولكنه في عام 215 أوجس خيفة من قوة رومة النامية، فارتكب الغلطة التاريخية الموبقة بأن تحالف مع هنيبال وقرطاجة، فما كان من رومة إلا أن أعلنت الحرب على مقدونية بعد عام واحد من ذلك الوقت وبدأت تستولي على بلاد اليونان.(8/15)
الفصل الثاني
الكفاح من أجل المال
ويقول أثنيوس، وهو ثرثار خليق بأن يُعتمد عليه بالقدر الذي يصح أن يُعتمد به على أمثاله الثرثارين، إن دمتريوس الفالرومي أحصى سكان أثينة حوالي عام 310 ق. م فوجد فيها 21. 000 من المواطنين، و 10. 000 من الغرباء المستوطنين، و 400. 000 من الأرقاء (8): فأما العدد الأخير فلا يمكن تصديقه، ولكنا لا نعرف شيئاً ينقضه، وأكبر الظن أن عدد الأرقاء الذين كانوا يعملون في المزارع قد ازداد لأن الضياع كانت آخذة في الاتساع، ولأن استغلالها بجهود العبيد تحت إشراف العبيد الذين يعملون في خدمة المالك البعيد عنها، كان آخذاً في الازدياد (9). وبفضل هذا النظام انتشر نظام الزراعة الذي يعتمد على العلم أكثر من ذي قبل؛ ودليلنا على ذلك أن فارو Varro كان يعرف أسماء خمسين كتاباً في فن الزراعة. ولكن عوامل التعرية وتقطيع الغابات أدت إلى اكتساح التربة في مساحات واسعة من الأرض الخصبة. وحتى في القرن الرابع ذ كر أفلاطون أن الأمطار وفيضانات الأنهار قد جرفت على مر الزمن كثيراً من تربة أتكا الخصبة؛ ويشبه ما بقي من التلال بالهيكل العظمي الذي انتزع منه اللحم (10). وما وافى القرن الثالث حتى كانت مساحات واسعة في أتكا قد تعرت من تربتها الخصبة إلى درجة اضطرت أصحاب كثير من الضياع القديمة إلى هجرها، وأخذت غابات بلاد اليونان تختفي شيئاً فشيئاً، حتى اضطر الأهلون إلى استيراد الخشب كما اضطروا إلى استيراد الطعام من خارج البلاد (11). كذلك أجدبت مناجم لوريوم، وكادت هي الأخرى أن تُهجر، وكان(8/16)
استيراد الفضة من أسبانيا أرخص من استخراجها من مناجم البلاد، وأضحت مناجم الذهب في تراقية تُغني خزائن مقدونية وتجمل عملتها بعد أن كانت تصب ثروتها في أثينة.
وبينما كانت موارد الرجولة والمواطنية المستقلة ينضب معينها في القرى، كانت الصناعة وحرب الطبقات تفعلان فعلهما في المدن، فكانت المصانع الصغيرة في أثينة وفي جميع المدائن الكبرى في العالم الهلنستي يتزايد عددها وعدد العبيد الذين يعملون فيها؛ وكانت تجار الرقيق يصحبون الجيوش، ويبتاعون من لا يُفتدون من الأسرى، ويبيعونهم بسعر ثلاث مينات أو أربع (مائة وخمسين ريالاً أو مائتي ريال) في أسواق الرقيق الكبرى في ديلوس ورودس. وكان عدد من الناس يشعرون بما في هذا النظام القديم، نظام الاسترقاق، من مجافاة للمبادئ الإنسانية؛ وكان من ثمار الفلسفة أن سرت في قلوب الناس عاطفة إنسانية نبيلة؛ يُضاف إلى هذا أن الروح العالمية التي سادت ذلك العصر لم تكن تميز بين الأجناس البشرية، وأن العمال المأجورين الذين يخرجون من الأعمال حين لا تأتي بأرباح ليعيشوا من معونة الدولة، كانوا في كثير من الظروف أقل كلفة من العبيد الذين لا بد من إطعامهم على الدوام (12). وكان من أثر هذه العوامل كلها أن أخذ عدد العبيد المحررين يزداد في ذلك الوقت زيادة ملحوظة.
وكسدت التجارة في المدن القديمة ولكنها راجت في المدن الحديثة، فازدهرت الثغور اليونانية في آسية ومصر على حساب ثغر بيرية، وحتى في أرض اليونان القارية كانت خلقيس وكورنثة هما اللتين استفادتا من تيار التجارة الهلنستية الزاخر؛ فقد كان التجار لا ينقطعون عن التردد غادين رائحين على هذين البلدين ذوي المركز الهام والاستعداد التجاري العظيم، كما لم يكونوا ينقطعون عن التردد على أنطاكية، وسلوقية، ورودس، والإسكندرية، وسرقوسة؛ وكانوا ينشرون مع تجارتهم نزعتهم العالمية والمتشككة. وتضاعف عدد رجال المصارف، ولم يكونوا يقرضون المال(8/17)
للتجار والملاك فحسب، بل كانوا يقرضونه أيضاً للمدن والحكومات (13). وكان لبعض المدن مثل ديلوس وبيزنطية مصارف عامة أو وطنية تودع فيها الحكومات أموالها ويديرها موظفون معينون من قبل الدولة (14). وفي عام 324 أنشأ أنتمنيس الرودسي أول نظام معروف للتأمين، وذلك بأن ضمن للملاك نظير ثمانية في المائة من إيرادهم ما عسا أن يصيبهم من الخسارة إذا فر منهم عبيدهم (15). وكانت نتيجة انطلاق الأموال المكدسة في خزائن بلاد الفرس، وسرعة تداول رؤوس الأموال، أن نقص سعر الفائدة إلى عشرة في المائة في القرن الثالث، وإلى سبعة في المائة في القرن الثاني. كذلك انتشرت المضاربات انتشاراً كبيراً، ولكنها كانت على غير نظام؛ فمن المضاربين من كانوا يعملون لرفع الأسعار بتحديد الإنتاج؛ وقد وجد في البلاد من كانوا يدعون إلى تحديد مقدار الحاصلات الزراعية لكي يحتفظ الزراع بقدرتهم على الشراء (16). وكانت أثمان السلع مرتفعة في العادة لأن الإسكندر هو الآخر قد صب في أيدي الناس الأموال المكدسة في خزائن الملوك الأكمينيين؛ لكن هذا السبب عينه كان من الأسباب التي يسّرت سبل التجارة، ونشطت الإنتاج فعادت الأثمان إلى مستواها العادي. وازدادت ثروة الأغنياء إلى حد لم يُعرف له مثيل في تاريخ اليونان، فاستحالت البيوت قصوراً، وأضحت الرياش والعربات أفخم من ذي قبل، وكثر العبيد، وصارت وجبات الطعام قصفاً ولهواً خليعاً، وأضحت النساء معارض لثراء أزواجهن (17).
ولم تستطع الأجور لانخفاضها مجاراة أثمان السلع الآخذة في الارتفاع، فإذا انخفضت هذه الأسعار انخفضت معها الأجور على الفور؛ ولم تكن تكفي إلا لإطعام شخص بمفرده، وكانت سبباً في انتشار العزوبة والمسكنة، وإقفار البلاد من أهلها؛ وأخذ الفرق بين أجر العمل الحر ونفقات الرقيق ينقص-تدريجاً. ولم يكن العمل ميسراً للعمال على الدوام، وترك آلاف من الرجال مواطنهم في المدن اليونانية التي في أرض القارة ليعملوا جنوداً(8/18)
مرتزقين في خارج البلاد، أو ليُخفوا فقرهم في عزلتهم الريفية (18). وأعانت حكومة أثينة المعدمين من أهلها بهبات من الحبوب، وأخذ الأغنياء يسلونهم بما يقدمون لهم من التذاكر التي تبيح لهم حضور الحفلات والألعاب. فقد كانوا يقترون في الأجور، ولكنهم كانوا أسخياء في الصدقات؛ وكثيرا ماكانوا يُقرضون المال لمدنهم من غير فائدة، أو يُنقذونها من الإفلاس بالهبات الضخمة، أو يُنشئون المباني العامة على نفقتهم الخاصة، أو يهبون المال للهياكل والجامعات، أو يجودون بالكثير منها لإقامة التماثيل، أو إجازة الشعراء الذين يذيعون في الناس ملاحمهم أو يُشيدون بعطاياهم. ونظم الفقراء أنفسهم في اتحادات ليتبادلوا المعونة فيما بينهم، ولكنهم كانوا أضعف من أن يحدوا من سلطان الأغنياء أو مهاراتهم؛ ومن جمود الفلاحين واستعداد الحكومات والأحلاف المتنافسة لتبادل المعونة المسلحة للقضاء على الثورات (19). وقد أدت حرية الكفايات غير المتكافئة في جمع الثروة أو الهلاك جوعاً إلى ما أدت إليه من قبل في أيام صولون، ألا وهو تركز الثروة في أيدي عدد قليل جداً من الأفراد. وكان الفقراء سريعي الاستجابة إلى الدعايات الاشتراكية، فأخذ ممثلوهم يطالبون بإلغاء الديون، وإعادة توزيع الأراضي الزراعية على الأهلين، ومصادرة الثروات الكبرى؛ وكان أكثرهم جرأة يطالبون من حين إلى حين بتحرير العبيد (20).
وكان ضعف العقيدة الدينية سبباً في نشأة الدعوة إلى إقامة مدائن فاضلة خيالية تعوض على الناس هذا الضعف: فوصف زينون الرواقي في جمهوريته التي نشرها عام 300ق. م على ما يظن نظاماً شيوعياً مثالياً؛ وألهم يمبولوس أحد أتباعه (250 في الغالب) الثوار اليونان برواية له وصف فيها جزيرة مباركة في المحيط الهندي (قد تكون جزيرة سرنديب) قال إن الناس كلهم فيها أكفاء لا في الحقوق فحسب، بل في مقدرتهم وذكائهم؛ وإنهم كلهم يعملون على قدم المساواة، ويقتسمون ثمار عملهم بالتساوي، ويشتركون(8/19)
كلهم إذا جاء دورهم في تصريف شؤون الحكومة، وإن هذه الجزيرة لم يكن فيها غنى ولا فقر، ولا حرب بين الطبقات، وإن الطبيعة تنتج فيها الفاكهة موفورة بلا حاجة إلى جهد، وإن الناس يعيشون فيها متآخين متحابين (20).
وأممت بعض الحكومات عدداً من الصناعات: فاستولت حكومة برييني على مصانع الملح، وأممت ميليطس مصانع النسيج، ورودس ونيدس مصانع الفخار؛ ولكن الحكومات لم تؤدي للعمال أجوراً أعلى مما يؤديه أصحاب الأعمال الشحيحون، وكانوا يمتصون من كدح عبيدهم كل مل يستطيعون امتصاصه من المكاسب. واتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء (21)، وأضحت حرب الطبقات أشد مرارة مما كانت قبل؛ فأخذت كل مدينة قديمة كانت أو حديثة تردد أصداء كراهية الطبقات بعضها لبعض، وكانت هذه الكراهية تتمثل في الفتن، والمذابح، وأعمال القمع، والنفي، والقضاء على الأنفس والثمرات. فإذا ما انتصر فيها حزب طرد الحزب الآخر وصادر أملاكه؛ فإذا عاد إلى المنفيين سلطانهم ثأروا لأنفسهم مثل هذا الثأر وقتلوا أعداءهم، ألا فليتصور القارئ أي استقرار يمكن أن يتاح لنظام اقتصادي يتعرض لأمثال هذه الاضطرابات والهزات العنيفة. وقد وصل ما حل من الخراب ببعض المدن اليونانية القديمة من جراء النزاع بين الطبقات إلى درجة أن هجرتها الصناعات وفر منها الناس، وأن نمت الأعشاب في شوارعها وأقبلت عليها الماشية ترعاها (22). وكتب بولبيوس حوالي عام 150 ق. م يصف بعض مظاهر هذه الحرب كما يراها رجل محافظ ثري:
"ولما أن هيئوا (أي الزعماء المتطرفون) نفوس العامة إلى الجشع والرشوة، قُضي على ما في الديمقراطية من فضيلة، واستحالت حكم العنف والاستبداد. ذلك أنه إذا اعتادت الغوغاء أن تطعم على حساب غيرها، وأن تُبعَث فيها الآمال بأن تعيش من مال جيرانها، ثم وجدت زعيماً أوتي قدراً كافياً من(8/20)
الطموح والجرأة ... إذا حدث هذا نشأ عنه حكم العنف. وحينئذ تقوم الجمعيات الصاخبة، والمذابح، والنفي، وإعادة توزيع الأرض (23) ".
وكانت الحروب ونزاع الطبقات هي التي أضعفت بلاد اليونان الأصلية حتى جعلتها غنيمة سهلة لرومة. ذلك أن قسوة المنتصرين وغلظة قلوبهم المتناهية، وتدمير الغلات، والكروم، والبساتين، وتخريب الضياع، وبيع الأسرى في سوق العبيد قد قضى على إقليم في إثر إقليم، وترك البلاد أشبه بقشرة فارغة أمام العدو الأخير. وهل تقوى أرض أفقرها التنازع والتباغض، واكتسحت تربتها عوامل التعرية، وقُطعت غاباتها، ولم يكن يزرع أرضها إلا المستأجرون الفقراء أو الأرقاء الكليلون، هل تقوى أرض هذا شأنها على منافسة السهول الفيضية التي تشقها أنهار العاصي، والفرات، ودجلة، والنيل. أضف إلى هذا أن المدن الشمالية لم تعد كما كانت من قبل قائمة على الطرق التجارية الكبرى، وأنها قد فقدت أساطيلها الحربية، ولم يكن في مقدورها أن تشرف على موارد الحبوب وطرقها وهي الموارد والطرق التي كانت أثينة وإسبارطة تسيطران عليها في أيام عظمتهما الإمبراطورية. وانتقلت مراكز القوة، بما فيها قوة الإبداع الأدبية والفنية، إلى أماكنها القديمة في آسية ومصر، وهي المراكز التي أخذت منها بلاد اليونان في تواضع وخشوع آدابها وفنونها قبل ذلك الوقت بألف عام.(8/21)
الفصل الثالِث
أخلاق الانحلال
لقد عجل فشل نظام دول المدائن تدهور الدين القديم؛ ذلك أن آلهة المدينة قد ثبت عجزها عن حمايتها، ومن أجل هذا تزعزع إيمان الناس بهذه الآلهة. واختلط أهلها بالتجار الأجانب الذين لم يكن لهم نصيب في حياة البلد المدنية والدينية والذين انتشر تشككهم ولهوهم بين المواطنين. على أن أساطير الآلهة المحلية القديمة قد بقيت بين الفلاحين والسذج من سكان المدن، وبقيت كذلك في الطقوس الرسمية، وظل المتعلمون يستخدمونها في الشعر والفن؛ أما من تحررت من عقائدهم بعض التحرر من سلطانهم فأخذوا يهاجمونها بعنف. غير أن الطبقات العليا ظلت تستمسك بها وتستعين بها على حفظ النظام، وتقاوم الإلحاد الصريح وتعده شاهداً على فساد الذوق. ولما قامت دول كبيرة أدى قيامها هذا إلى توحيد الآلهة واندماجها هي الأخرى، وسرت في نفوس الناس نزعة غامضة نحو التوحيد، وحاول الفلاسفة أن يصوغوا للأدباء مذهب وحدة الوجود في صيغة لا تتعارض تعارضاً صريحاً كل الصراحة مع العقائد الثابتة القديمة. من ذلك أن أوفمروس Euphemerus أحد سكان مسانا في صقلية نشر حوالي عام 300 ق. م. كتابه المسمى هيرا أنجرافا Hiera Anagrapha ( ومعناها الحرفي الكتابات أو السجلات المقدسة)، والذي قال فيه إن الآلهة إما أن تكون قوى طبيعية جسدها الناس، وإما أن تكون-وهذا هو الأغلب الأعم-أبطالاً آدميين ألَّههم خيال الشعب أو عبدهم اعترافاً بفضلهم على بني الإنسان؛ وإن الأساطير هي إلا استعارات وتشبيهات، وإن الاحتفالات الدينية كانت في الأصل مراسم تخليداً لذكرى الموتى. فزيوس(8/22)
مثلاً كان فاتحاً مات في كريت وأفرديتي كانت موجدة الدعارة ونصيرتها، ولم تكن قصة كرونوس وأكله أبناءه إلا طريقة للقول بأن أكل اللحوم البشرية في الزمن القديم عادة متبعة على ظهر الأرض. وقد كان لهذا الكتاب أثر قوي في نشر النزعة الإلحادية في بلاد اليونان في القرن الثالث قبل الميلاد (1).
بيد أن الناس لا يستريحون للتشكك لأنه يترك قلب الإنسان وخياله فارغين، وهذا الفراغ لا يلبث أن يجذب إليه عقيدة جديدة مشجعة؛ وقد مهدت انتصارات الفلسفة وانتصارات الإسكندر السبيل إلى الطقوس الدينية الجديدة. وسادت أثينة في القرن الثالث عقائد دينية غريبة اضطربت لها أحوالها، وكانت كلها تقريباً، تبشر بالجنة ونذر بالجحيم، حتى أحس أبيقور، كما أحس لكريشيوس في رومة في القرن الأول، أن من واجبه أن يندد بالدين ويقول إنه يتعارض مع طمأنينة العقل ومتعة الحياة. ومن أجل هذا أصبحت المعابد الجديدة، حتى في أثينة نفسها، تشاد عادة لإيزيس، وسرابيس، Serapis، وبنديس Bendis وأدنيس، وغيرها من الأرباب الأجانب. وانتشرت الطقوس الإليزينية الخفية وأخذ الناس يحاكونها في مصر، وإيطاليا، وصقلية، وكريت. وظلت عبادة ديونيشيوس إليوثيريوس-المحرر-واسعة الانتشار حتى اندمج هذا الإله في المسيح. وانضوى تحت لواء الأرفية أتباع جدد حين جددت اتصالها بالأديان الشرقية التي نشأت هي عنها. لقد كان الدين القديم أرستقراطياً، وكان يحرم على الأجانب والرقيق أن يكونوا من أتباعه، أما الطقوس الشرقية الجديدة فكانت تقبل بين أتباعها جميع الرجال والنساء، ومنهم الأجانب، والأرقاء، والأحرار، وكانت تعد الناس على اختلاف طبقاتهم بالخلود في الدار الآخرة.
_________
(1) وربما كان هذا الكتاب تعبيراً عن العادة الهلنستية عادة تأليه الملوك ومشجعاً لها في الوقت نفسه.(8/23)
وانتشرت الخرافات والأوهام في الوقت الذي بلغ فيه العلم أوجه، وإن الصورة التي رسمها ثاوفراسطوس "للرجل المخرف" لتكشف عن رقة الغشاء الثقافي في حاضرة النور والفلسفة نفسها. فلقد كان العدد 7 عدداً مقدساً إلى حد لا يصوره العقل؛ فكان ثمة سبعة كواكب سيارة، وسبعة أيام في الأسبوع، وسبع عجائب في العالم، وسبعة أعمار للإنسان، وسبع سماوات، وسبعة أبواب للجحيم. وانتعش علم التنجيم على أثر انتشار التجارة مع بابل، وكان من العقائد المسلم بها والتي لا تقبل الجدل أن النجوم آلهة تتصرف في مصائر الأفراد والدول صغيرها وكبيرها، وحتى خلق الإنسان كان يحدده الكوكب الذي ولد الإنسان في مطلعهِ، فيكون مرحاً إذا ولد والمشتري في السماء؛ أو نشطاً زواغاً، إذا كان فيها عطارد، أو نكداً إذا كان زحل (1). وحتى اليهود أنفسهم كانوا يعبرون عن الأماني الطيبة بقولهم: "مزول-توف Mazzol-Tof " " نرجو أن يكون كوكبك سعداً (24) ". وكان علم الفلك يكافح في سبيل الحياة ضد التنجيم، ثم استسلم له آخر الأمر في القرن الثاني بعد الميلاد. وكان الناس في جميع أنحاء العالم الهلنستي يعبدون تيكي Tyche إله الفرص.
وليس في مقدور الإنسان أن يدرك عظيم الأثر الذي يحدثه في الأمة موت دينها التقليدي إلا إذا أوتي خيالاً قوياً لا يكل، أو قدرة فائقة على الملاحظة. لقد قامت الحضارة اليونانية القديمة على الإخلاص لدولة المدينة والتفاني في حبها، وكانت العقائد الخرافية من أقوى العوامل في تدعيم المبادئ الأخلاقية وإن كانت هذه المبادئ متأصلة في القصص الشعبي والمعارف الشعبية أكثر من تأصلها في العقيدة الدينية. لكن الرجل اليوناني المتعلم قد خسر في الوقت الذي نتحدث عنه دينه ووطنيته؛ ومحت الإمبراطوريات الحدود المدنية، وأضحت
_________
(1) ويطلق على هذه الصفات بالإنجليزية Saturnine, Mercurial, Jovial على التوالي.(8/24)
المبادئ الخلقية، وشؤون الزواج، والأبوة، والقوانين، بسبب انتشار المعارف من الأمور الدنيوية. وقد كان عصر الاستنارة في أيام بركليز من أسباب تدعيم الأخلاق إلى حين، وهذا شبيه بما حدث في أوربا الحديثة فقد نمت المشاعر الإنسانية، وأيقظت-دون جدوى-في نفوس الناس استياءً شديداً من الحروب، ونشأت عادة التحكيم في المنازعات بين المدن والأفراد، وأصبحت الآداب أظرف مما كانت وأكثر صقلاً، وصار الجدل أكثر تحضراً، وانتقلت آداب اللياقة والمجاملات اللطيفة من حاشيات الملوك، حيث كان الباعث عليها السلامة الشخصية والهيبة الملكية، إلى أفراد الشعب، فلما أن جاء الرومان دُهش اليونان أشد الدهشة من سوء آدابهم وغلظة طباعهم. لقد أضحت الحياة في بلاد اليونان أرقى مما كانت وأكثر تهذيباً، وكان النساء يستمتعن بقسط أوسع من الحرية في غدوهن ورواحهن، ويبعثن في الرجال الميل إلى الظرف والرشاقة؛ فأخذوا يحلقون لحاهم وخاصة في بيزنطية ورودس، حيث كانت القوانين تحرم هذا العمل وتعده تشبهاً بالنساء (25). غير أن الجري وراء اللذات قد أنهك حياة الراشدين من أفراد الطبقات العليا. ولم تجد المشكلة القديمة مشكلة الآداب والقوانين الأخلاقية، وكيف يوفق الناس بين أبيقورية الفرد الفطرية ورواقية الدولة الضرورية، لم تجد هذه المشكلة حلاً لها في الدين، أو السياسة، أو الفلسفة.
وانتشر التعليم ولكن انتشاره كان رقيقاً غير عميق، فقد كان يفعل ما يفعله في جميع العصور التي كانت الغلبة فيها للعقل فيعنى بالمعارف أكثر مما يعنى بالأخلاق، ولذلك أخرج جماهير غفيرة من أنصاف المتعلمين الذين انتزعوا من العمل ومن الأرض، وأخذوا يطوفون وهم ساخطون حيث يجب أن لا يكونوا، كأنهم بضاعة سائبة في سفينة الدولة. وأنشأت بعض المدن مثل ميليطس ورودس مدارس عامة تنفق عليها الدولة، وكان الذكور والإناث(8/25)
يتعلمون مجتمعين في مدارس تيوس Teos، وطشيوز، وكانت تُعطى للجنسين فرص متكافئة لا نظير لها إلا في إسبارطة (26). وتطورت مدارس الرياضة البدنية حتى أضحت مدارس عليا أو كليات جامعية بها غرف للتدريس، وقاعات للمحاضرات ومكتبات. كذلك ازدهرت ساحات التدريب الرياضي وأضحى لها شأن في بلاد الشرق؛ ولكن الألعاب العامة اضمحلت حتى أصبحت مباريات بين المحترفين وخاصة في الملاكمة، التي كانت قوة الجسم فيها أهم من المهارة والحذق؛ وأصبح اليونان أمة من النظارة يقنعون بأن يشاهدوا ولا يعملوا وقد كانوا في ماضي أيامهم أمة من الرياضيين.
وتحللت الأخلاق الجنسية من القيود أكثر من تحللها في عصر بركليز نفسه، وإن كان هذا التحلل لم يقلل من انتشار اللواط بل ظل كما كان في سابق الأيام. أنظر إلى قول سميثا Simaetha في بعض قصائد ثاوفراطوس: "إن الشاب دلفس Delphis يحب، ولكني لا أعرف أيحب امرأة أم رجلاً (27) ". ظلت الحظية صاحبة السلطان الأعلى، وهل أدل على ذلك من أن دمتريوس بليوكرتيز جبى من الأثينيين ضريبة مقدارها مائتي وزنة وخمسين (750. 000 ريال أمريكي) ثم وهبها لعشيقته لاميا Lamia بحجة أنها في حاجة إلى هذا المال لتبتاع به ما يلزمها من الصابون؛ وقال الأثينيون الغضاب "إن هذه السيدة لا بد أن تكون قذرة إلى أبعد حدود القذارة". وأصبح الناس لا يتأففون من رقص النساء العاريات بل يرونه من العادات المألوفة، وكان هذا يحدث أمام أحد ملوك مقدونية (29). وقد صور منندر في مسرحياته الحياة الأثينية بأنها حياة تدور كلها حول السفاسف، والغواية والزنى.
واشتركت المرأة اليونانية اشتراكاً نشيطاً في الأعمال الثقافية في ذلك العصر، وكانت لها جهود موفقة في الأدب والعلم والفلسفة والفن، فكانت أرسطوداما Aristodama الأزميرية تنشد أشعارها في طول بلاد اليونان وعرضها وتقابل أينما حلت بأعظم مظاهر التكريم؛ ولم يتردد بعض(8/26)
الفلاسفة، كأبيقور مثلاً، في قبول النساء في مدارسهم. وبدأ الأدب يعنى بوصف جمال المرأة الجسماني بعد أن كان من قبل يُعنى بقيمتها وفتنتها من ناحية الأمومة، ونشأت العبادة الأدبية للجمال النسوي في ذلك العهد إلى جانب أشعار الحب الروائي وقصصه. وقد صحب هذا التحرير الجزئي للمرأة ثورة على قصر وظيفتها على الأمومة، وأضحى تحديد النسل من أهم الظواهر البارزة في ذلك العصر، فلم يكن يُعاقَب على الإجهاض مثلاً إلا إذا لجأت إليه المرأة على غير إرادة زوجها، أو بتحريض من أغواها؛ وكان الطفل في كثير من الأحيان يعرض للجو القاسي. ولم يكن عدد الأسر التي تربي أكثر من بنت واحدة في المدن اليونانية القديمة يزيد على واحد في المائة من مجموع أسرها؛ وفي ذلك يقول بوسيدبوس Posidippus، " وحتى الرجل الغني نفسه، كان يعرض ابنته للجو القاسي على الدوام. وكان يندر وجود أخوات للأبناء، وكثر عدد الأسر التي لم يكن لها أبناء قط أو كان لكل منها ولد واحد. وفي وسعنا أن نتتبع من النقوش الباقية إلى هذه الأيام خصوبة تسع وسبعين أسرة من سكان ميليطس في عام 200 ق. م: لقد كان لاثنتين وثلاثين من هذه الأسر طفل واحد، ولإحدى وثلاثين منها طفلان؛ وكان مجموع أبناء هذه الأسر جميعها مائة وثمانية عشر ولداً وثمانياً وعشرين بنتاً (30). وفي إريتريا Eretria لم يكن عدد الأسر التي لها ولدان يزيد على أسرة واحدة في كل اثنتي عشرة أسرة، وقلما كان لأسرة واحدة ابنتان. وكان الفلاسفة يتجاوزون عن قتل الأطفال بحجة أنه يخفف من ضغط السكان على موارد الرزق؛ فلما أن لجأت الطبقات الدنيا إلى هذه العادة وأسرفت فيها تساوت نسبة الوفيات مع نسبة المواليد. ولم يعد في مقدور الدين أن يتغلب على مقتضيات الراحة ونفقات الأبناء، مع أن الدين نفسه كان في الأيام الخالية يُخيف الناس ويحذرهم من قلة النسل حتى تجد أرواحهم من يُعنى بها بعد موتهم. وحل المهاجرون في المستعمرات محل الأسر القديمة، فلما أن نقص عدد المهاجرين في أتكا والبلوبونيز إلى أدنى حد قل عدد السكان كثيراً. ورأى(8/27)
ذلك فليب الخامس فحرم تحديد عدد أفراد الأسر في مقدونية، وزاد بذلك عدد الرجال بنسبة خمسين في المائة مما كانوا عليه قبل هذا الأمر (31)؛ وفي وسعنا أن نستدل من هذا على مبلغ ما وصلت إليه عادة تحديد النسل حتى في مقدونية التي كانت لا تزال نصف بدائية، وفي هذا المعنى يقول بولبيوس في عام 150 ق. م:
لقد سرت في جميع بلاد اليونان موجة من نقص المواليد ومن قلة السكان تبعاً لهذا النقص، نشأ عنها أن أقفرت المدن من السكان وأجدبت الأرض فلم تعد تخرج ثمرها ... ذلك أن الناس قد انغمسوا في الترف والبخل والكسل، فلم يعودوا يرغبون في الزواج، أو في تربية الأبناء إذا تزوجوا، وأقصى ما كانوا يسمحون به أن يكون لهم من الأبناء ولد أو ولدان حتى يظلوا يستمتعون برخاء العيش، وحتى يربوا هؤلاء الأبناء ليتلفوا ما يتركون لهم من المال. واستشرى هذا الفساد بسرعة وإن تكن غير ملحوظة، وكان يحدث أحياناً أن يهلك أحد الولدين في الحرب وأن يقضي الموت على الولد الثاني، فيكون مصير البيت الخراب ... وهكذا نضب معين المدن وحل بها الوهن شيئاً فشيئاً (32).(8/28)
الفصل الرّابع
الثورة في إسبارطة
وفي هذه الأثناء كانت تركز الثروة في أيدي عدد قليل من الأفراد يثير النزاع الأبدي بين الطبقات في جميع أنحاء اليونان. وكان من أثر هذا التركز في إسبارطة أن بذلت محاولتان لإصلاح الحال بإحداث انقلاب تام في أحوال تلك المدينة. لقد استطاعت إسبارطة بفضل عزلتها بين الحواجز الجبلية أن تحافظ على استقلالها، وأن تصد جيوش مقدونية، وتهزم جيش بيروس (272) الضخم ببسالة أبنائها وشدة بأسهم. ولكن نهم الأقوياء أحدث في داخل البلاد من الخراب ما لم تقوَ جيوش الأعداء على إحداثه فيها من الخارج. فقد ألغي قانون ليقورغ الذي كان يمنع انتقال الأرض من أيدي ملاكها بالبيع أو تقسيمها بالوصية (1)، واستخدم الإسبارطيون ما عاد عليهم من الثروة بطريق الإمبراطورية أو الحرب في شراء هذه الأراضي من أصحابها (33). وما وافت سنة 244 حتى آلت أراضي لكونيا الزراعية التي تبلغ مساحتها 700. 000 فدان إلى مائة أسرة لا أكثر (34)، وحتى لم يحتفظ بحقوق المواطنية إلا سبعمائة رجل، وحتى هؤلاء السبعمائة لم يكونوا يُطعمون مجتمعين كما كانوا يُطعمون من قبل. ذلك أن الفقراء لم يستطيعوا تقديم قسطهم من الطعام، وأن الأغنياء كانوا يفضلون ولائمهم الخاصة. وحلت الفاقة بمعظم الأسر التي كانت من قبل تستمتع بالحقوق السياسية، وأخذت تطالب بإلغاء الديون وإعادة توزيع الأراضي على الأهلين.
_________
(1) ولعل سبب إلغاءه أنه أدى إلى تحديد عدد أفراد الأسرة، كما حدث في فرنسا الحديثة.(8/29)
وكان من فضائل الملكية أن محاولة إصلاح هذا الحال قد قام بها ملوك إسبارطة. ذلك أن أجيس الرابع Agis IV وليونداس قد ارتقيا عرش المدينة المزدوج في عام 242. وأيقن أجيس أن ليقورغ كان يقصد أن تكون الأراضي موزعة بالتساوي بين جميع الأحرار، فاقترح أن يشرع في توزيعها بينهم من جديد، وأن تُلغى جميع الديون، وأن يُعاد النظام شبه الشيوعي الذي وضعه ليقورغ. وأيد الملاك الذين كانت أرضهم مرتهنة اقتراح إلغاء الديون؛ فلما أن وافق على المشروع عارضوا أشد المعارضة كل ما عداه من عناصر إصلاحات أجيس؛ ثم اغتيل أجيس نفسه بتحريض ليونداس، واغتيلت معه أمه وجدته، وكانت كلتاهما قد نزلت عن ضياعها طائعة مختارة لتوزع على أبناء الشعب. وكانت النساء أنبل الشخصيات في هذه المسرحية الملكية؛ فقد كانت كلونيس Chilones ابنة ليونداس زوجة كليمبروتوس Cleombrotus الذي يؤيد أجيس. ولما نفي ليونداس واغتصب كليمبروتوس الملك هجرت كلونيس زوجها الظافر لتشترك في النفي مع زوجها، ولما أن استعاد ليونداس السلطة ونفي كليمبروتوس، آثرت كلونيس أن تُنفى مع أبيها (35).
وأراد ليونداس أن يضم لأملاك أسرته ما كان لأرملة أجيس من ثروة طائلة، فأرغمها على أن تتزوج بابنه كليمنيس Cleomenes. ولكن كليمنيس هام بحب زوجته، واستلهم منها آراء الملك القتيل؛ ولما أن اعتلى العرش باسم كليمنيس الثالث، قرر أن ينفذ إصلاحات أجيس. واستطاع أن يضم الجيش إلى جانبه ببسالته في الحرب، وأن يكسب تأييد الشعب ببساطة معيشته، فلما تم له ذلك ألغى الإفورية الألجركية بحجة أن ليقورغ لم يوافق عليها قط، وقتل أربعة عشر من الذين عارضوا هذا الإلغاء، ونفى منهم ثمانين، وألغى جميع الديون، ووزع الأراضي على الأهلين الأحرار، وأعاد نظام ليقورغ إلى ما كان عليه من قبل. ولم يكتف بهذا، بل شرع(8/30)
يفتح البلوبونيز أمام الثورة. ورحب به الصعاليك في كل مكان ورأوا فيهِ منقذاً ومحرراً لهم، واستسلمت له عدة مدن وهي فرحة مستبشرة، فاستولى على أرجوس، وبليني، وفليوس Philius، وإبدورس، وهرميوني Hermione، وتريزين Troezeu؛ وحتى كورنثة الفتية استسلمت له هي الأخرى في آخر الأمر. وانتشرت عدوى خطته هذه في كل مكان: ففي بؤوشيا امتنع المدينون عن الوفاء بديونهم، واستولت الدولة على الأموال لاسترضاء الفقراء؛ وفي مجالوبوليس Megalopolis قام الفيلسوف سرسداس Cercidas يدعوا الأغنياء أن يمدوا يد المعونة للفقراء قبل أن تُطيح الثورة بجميع أموالهم (36). ولما أن غزى كليمنيس آخية Achaea وهزم أراطوس، دب الرعب في قلوب الطبقات العليا جميعها خوفاً على أملاكها، واستغاث أراطوس بمقدونية ولبى نداءه أنتجونس دوسن Antigonus Doson، وهُزم كليمنيس في سلاسيا Sellasia (221) ، وأعاد النظام الألجركي في لسديمون. وفر كليمنيس إلى مصر، وحاول دون جدوى أن يستعين ببطليموس الثالث، كما حاول دون جدوى أن يدفع أهل الإسكندرية إلى الثورة، فلما أخفق في كلتا المحاولتين لم يجد بداً من الانتحار (37).
وظلت حرب الطبقات مستعرة نارها، فخرج أهل إسبارطة على حكومتهم بعد جيل واحد من حكم كليمنيس، وأقاموا دكتاتورية ثورية، فما كان من فلوبيمين الذي خلف أراطوس في رياسة العصبة الآخية إلا أن غزا لكونيا، وأعاد إليها حكم الملاك. وما كاد فلوبيمين ينصرم أجله حتى ثار الشعب مرة أخرى، وأقام مكانه نابيس Nabis حاكماً بأمره (207). وكان نابيس هذا سوري الموطن سامي الجنس، أخذ أسيراً في الحرب، وبيع عبداً في مجالوبوليس. ولم يطق صبراً على كفايته المقموعة فانتقم لنفسه بتنظيم ثورة بين الهيلوتين، ولما تم له الأمر منح حق المواطنية الإسبارطية لجميع الأحرار، وقال للهيلوتين كونوا(8/31)
أحراراً فكانوا. ولما وقف الأغنياء في وجهه صادر أملاكهم وقطع رؤوسهم. وانتشرت أنباء أعماله هذه في خارج إسبارطة، ووجد من أيسر الأمور أن يفتح بمعونة الطبقات الفقيرة مدائن أرجوس، ومسينيا، وإليس، وبعض أركاديا. وكان أينما سار يؤمم المزارع الكبرى، ويعيد توزيع الأراضي على الأهلين، ويلغي الديون (38). ورأت عصبة الدول الآخية أنها عاجزة عن القضاء عليه فطلبت العون من رومة. ولبى فلامنينوس طلبه، ولكن نابيس قاومه مقاومة عنيفة أرغمت الرومان على قبول هدنة رضي بمقتضاها نابيس أن يطلق سراح الأغنياء المسجونين، ولكنه اشترط أن يظل محتفظاً لنفسه بالسلطة. وفي هذه الأثناء اغتال نابيس مغتال بتحريض عصبة الدول الإيتولية (192) (39). وبعد أربع سنين من ذلك الوقت زحف فلبومين مرة أخرى على إسبارطة، وأعاد السلطة إلى الملاك، وألغى أنظمة ليقورغ، وباع ثلاثة آلاف من أتباع نابيس في أسواق الرقيق. وهكذا قضى على الثورة، ولكن إسبارطة قُضي عليها أيضاً؛ نعم إن المدينة ظلت قائمة، ولكنها لم يكن لها بعدئذ شأن في تاريخ بلاد اليونان.(8/32)
الفصل الخامِس
سيادة رودس
انتقلت التجارة ورؤوس الأموال من بلاد اليونان القارية وأخذت تبحث لها عن ملاجئ جديدة في جزائر بحر إيجة، وذلك لأنها خشيت عنف الانقسامات الحزبية، ولأن حركات السكان اجتذبتها إلى تلك الجزائر. فازدهرت ديلوس في القرن الثاني، وقد كانت من قبل موفورة الثراء بسبب وجود هيكل أبلو بها؛ وأضحت ثغراً حراً تحت حماية رومة وإن كانت أثينة هي التي تصرف شؤونها. وازدحمت الجزيرة الصغيرة بالتجار الأجانب، وبمكاتب رجال الأعمال وبالقصور، والأكواخ، والهياكل المختلفة التي أقيمت للآلهة الأجنبية.
وبلغت رودس غاية مجدها في القرن الثالث، وأضحت بإجماع الآراء أجمل مدائن هلاس وأعظمها حضارة. وقد وصف استرايون الثغر الكبير بأنه "يفوق سائر الثغور في مرافئه، وطرقه، وأسواره، وما أدخل عليه من الإصلاحات، حتى لأعجز عن القول بأن مدينة أخرى تضارعه أو تكاد تضارعه (40) ".
وكانت رودس ذات موقع طيب في ملتقى الطرق التجارية التي تخترق البحر الأبيض المتوسط، يمكنها من أن تفيد من التجارة الآخذة في الانتشار والتي يسرت سبلها فتوح الإسكندر، بين أوربا، ومصر، وآسية، ومن أجل هذا حلت مرافئ رودس الرحبة محل مرافئ صور وبيرية، وأضحت المرافئ التي يعاد منها شحن البضائع، كما أضحت مكان المقاصة التجارية والمالية والعاملة على تنظيمها في شرق البحر. وكان لتجارها سمعة حسنة في الأمانة، ولمصارفها وحكومتها شهرة طيبة في الاستقرار، وسط عالم كله خيانة وتقلقل. وأفادت(8/33)
الجزيرة كثيراً من هذهِ السمعة الحسنة، وكان لها عمارة بحرية قوية يسيرها ملاحون من مواطنيها، استطاعت أن تطهر إيجة من القراصنة، وتؤمن السبل البحرية لجميع السفن التجارية لسائر الأمم على قدم المساواة، وأن تضع قوانين صالحة للملاحة تدل على عقلية ناضجة، رضيت بها سائر السفن التجارية، وظلت هذه القوانين هي المسيطرة على تجارة البحر الأبيض قروناً عدة، ثم أضحت جزءاً من القوانين التجارية لرومة والقسطنطينية والبندقية.
وبعد أن حررت رودس نفسها من سيطرة مقدونية بفضل مقاومتها الباسلة لدمتريوس بليوكريتيس (305)، وجهت سفينتها السياسية توجيهاً ناجحاً وسط بحر السياسة المضطرب في ذلك العصر، فاحتفظت بحيادها احتفاظاً حكيماً ولم تتورط في الحرب إلا لتحول بين ازدياد سلطان دولة معتدية يخشى بأسها، أو لتحفظ للبحار حريتها. وقد ضمت كثيراً من مدن بحر إيجة وألفت منها "عصبة جزرية"، وكانت في ممارستها حقوق السيادة عليها عادلة إلى حد لم تشُك أية واحدة منها فيما لها من حق الزعامة عليها. وكانت لها حكومة ذات نظام أرستقراطي على أساس ديمقراطي، شبيهة بحكومة رومة في عصر الجمهورية؛ وكانت تحكم مدائن لندس، وكميروس Camirus، وياليسوس Ialysus، ورودس مجتمعة بمهارة وعدل نسبي، ومنحت المقيمين فيها من الأجانب من الامتيازات ما لم تمنحه أثينة من هاجر إليها من الغرباء؛ وبسطت حمايتها على عدد كبير من الأرقاء، ولما أن تعرضوا للخطر لم تتردد في تسليحهم للدفاع عن أنفسهم، وفرضت على أغنياء المدينة أن يعنوا بالفقراء من أهلها (41). وكانت الدولة تواجه نفقاتها بفرض ضريبة مقدارها اثنان في المائة على الصادرات والواردات؛ وكانت تقرض المال بسخاء، ومن غير فائدة في بعض الأحيان، إلى المدن إذا حلت بها الأزمات.(8/34)
ولما أن خرب الزلزال رودس نفسها (225)، هب جميع العالم اليوناني لمعونتها، وذلك لأن اليونان على بكرة أبيهم كانوا يعتقدون أن اختفاءها من وسط بحر إيجة سيؤدي لا محالة إلى الفوضى التجارية والسياسية. فأرسل هيرون الثاني مثلاً مائة وزنة ذهبية (300. 000 ريال أمريكي)، وأعاد في المدينة نحت طائفة من التماثيل تمثل أهل رودس يتوجهم السرقوسيون، وأرسل بطليموس الثالث ثلثمائة وزنة (1)، وأنتجونس الثالث ثلاثة آلاف، ومعها مقادير كبيرة من الخشب والقار لتستخدمها في البناء، وتبرعت زوجته الملكة كريسيس Chryseis بثلاثة آلاف وزنة من الرصاص، وبما يعادل ثمانية وعشرين أردباً من الحبوب؛ وبعث سلوقس الثالث بضعفي هذا القدر وبعشر سفن ذات خمسة صفوف من المجاديف كاملة العدة. "أما المدن التي قدمت كل منها ما يتناسب مع قدرتها المالية فهذه يخطئها الحصر على حد قول بولبيوس (42). لقد كانت هذه الفترة مشكاة نيرة في دياجير التاريخ السياسي المظلمة، وكانت فرصة من الفرص القليلة النادرة التي فكر فيها العالم اليوناني وعمل يداً واحدة.
_________
(1) كانت الوزنة اليونانية تزن نحو ثمانية وسبعين رطلاً مصرياً. (المترجم)(8/35)
الباب الرابع والعِشرين
الهلنية والشرق
الفصل الأوّل
الإمبراطورية السلوقية
إذا انتقلنا من أرض اليونان مجتازين بحر إيجة إلى المستقرات اليونانية في آسية ومصر أدهشنا أن نجد فيها حياة جديدة مزدهرة، وأدركنا أن العصر الهلنستي لم يشهد سقوط الحضارة اليونانية بل شهد انتشارها. ذلك أن طوائف في إثر طوائف من الجنود والمهاجرين اليونان أخذت تتدفق على آسية، وزادت فتوح الإسكندر من ضخامة هذه الطوائف بما أتاحت للمغامرات اليونانية من فرص وما مهدت لها من سبل جديدة.
وكان سلوقس الملقب "بنيكاتور" Nicator ( المظفر) يمتاز من بين قواد الإسكندر بالشجاعة، وقوة الخيال، والكرم الذي لا حد له. وحسبك دليلاً على هذا الكرم أنه وهب زوجته الثانية استرتنيسي Stratonice الحسناء لابنه دمتريوس لما عرف أن الغلام قد افتتن بها. وغضب أنتجونس الثاني حين جعلت بابل من نصيب سلوقس فزحف بجيوشه ليستولي على جميع بلاد الشرق الأدنى، ولكن سلوقس وبطليموس هزماه عند غزة (312). وكانت الأسرة السلوقية تعد هذه الحادثة مبدأ لتاريخ الإمبراطورية السلوقية والعصر الجديد، وهي طريقة في التأريخ بقيت في غرب آسية إلى ظهور الإسلام. وضم سلوقس تحت لوائه عدة ممالك وثقافات قديمة هي عيلام، وسومر، وفارس، وبابل،(8/36)
وآشور، وسورية، وفينيقية؛ وشملت آسية الصغرى وفلسطين في بعض الأحيان، وأنشأ في سلوقية وأنطاكية عاصمتين لملكه كانتا أعظم ثروة وأكثر سكاناً من أية مدن عرفناها في بلاد اليونان الأصلية. واختار لسلوقية موضعاً قرب موضع مدينة بابل القديمة التي شُيدت فيه بغداد فيما بعد، لا يبعد إلا قليلاً عن ملتقى نهر دجلة والفرات؛ وكان هذا الموضع من أصلح المواضع لاجتذاب التجارة المتبادلة بين أرض الجزيرة والخليج الفارسي وما وراءه. ولم يكد يمضي عليها نصف قرن من الزمان حتى بلغ عامرها 600. 000 نفس، كانوا خليطاً من مختلف أجناس آسية تسيطر عليها أقلية يونانية (1). وكان موقع أنطاكية على نهر العاصي شبيهاً بموقع سلوقية، ولم تكن تبعد عن مصبه بعداً يحول دون وصول السفن المحيطة إليها، ولكنها تبعد عنه بعداً يجعلها في مأمن من هجوم الأساطيل المعادية، ويمكنها من استغلال حقول وادي النهر الغنية، ومن اجتذاب تجارة البحر الأبيض المتوسط وشمالي الجزيرة وسوريا. وفي هذه المدينة شاد الأباطرة السلوقيون المتأخرون قصورهم، وظلت المدينة تنمو وتزدهر حتى صارت في عهد أنتيوخوس الرابع أغنى مدائن آسية السلوقية. تزينها المعابد والأروقة المعمدة، ودور التمثيل، وساحات الألعاب الرياضية، والمدارس، وحدائق الأزهار، والشوارع الواسعة ذات المناظر الرائعة، والبساتين الجميلة ومنها حديقة دفني Daphne التي طبقت الخافقين شهرة ما بها من أشجار الغار والسرو، والفوارات والجداول.
واغتيل سلوقس الأول في عام 281، وبعد أن حكم البلاد حكماً صالحاً دام خمساً وثلاثين سنة كسب فيها قلوب شعبه. وأخذت دولته بعد موته في التفكك،
_________
(1) وقد استخرج الأستاذ لروي ووترمان Leroy Waterman من هذا الموضع في عام 1931 ألواحاً تدل على أن رجلاً من أغنى رجال سلوقية قد ظل يتهرب من أداء الضرائب خمساً وعشرين سنة.(8/37)
تمزقها الاختلافات الجغرافية والعنصرية، والتنازع العنيف على العرش، وغارات البرابرة من كل صوب. واستبسل أنتيوخوس الأول سوتر Soter ( المنقذ) في حرب الغاليين؛ وعاش أنتيوخوس الثاني ثيوس (الإله)، عيشة الإدمان المستمر، كأنه أراد أن يثبت مرة أخرى ما تتعرض له البلاد ذات الحكومات الملكية المطلقة من خطر شديد؛ وبدأت زوجته لأوديسي Laodice سلسلة الدسائس والمؤامرات التي مزقت البيت المالك شر ممزق وقضت عليه في آخر الأمر. وكان أنتيوخوس الثالث الأكبر رجلاً عظيم الكفاية، حسن الثقافة؛ ويُظهره تمثاله النصفي المحفوظ في متحف اللوفر رجلاً يونانياً-مقدونياً جمع إلى شجاعة المقدونيين ذكاء اليونان. وقد استعاد بحروبه الطويلة معظم الأقاليم التي فقدتها الإمبراطورية من أيام سلوقس الأول، وأنشأ مكتبة في أنطاكية وناصر الحركة الأدبية التي بلغت ذروتها على يدي مليجر الغزي Meleager of Gaza في أواخر القرن الثاني. وحافظ هذا العاهل على العادة اليونانية، عادة استقلال المدن بشؤونها، وكتب إليها يقول إنه "إذا أمر بشيء يخالف القوانين، فعليها ألا تعير أمره التفاتاً، بل يجب أن تفترض أنه فعل ما فعل عن جهل (2) ". ولكنه قضت عليه المطامع المفرطة، والخيال القوي، والعشق العنيف. وهزمه بطليموس الرابع عند رافيا Raphia في عام 217، وضاعت منه فينيقية، وسوريا، وفلسطين. وخفف من وقع هذه الهزيمة وأعقابها حملته المظفرة إلى بكتريا والهند (208)، وهي الحملة التي جددت أعمال الإسكندر. وأغراهم هنيبال بأن يساعدهم على رومة فأرسل جيشاً إلى عوبية؛ وهام وهو في سن الخمسين بحب فتاة حسناء في خلقيس، وأخذ يغازلها غزلاً شريفاً، ثم تزوجها باحتفال عظيم، ونسي الحرب وقضى فصل الشتاء يستمتع معها بالسعادة (3). وهزمه الرومان في ترمبيلي، وطردوه إلى آسية الصغرى، وهجموا عليه هجوماً عنيفاً في مجنيزيا. ولم تطاوعه(8/38)
نفسه على السكون فتورط في حرب أخرى في بلاد الشرق مات في أثنائها بعد أن حكم ستة وثلاثين عاماً.
وكان ابنه سلوقس الرابع ميالاً للسلم، صرف شؤون الدولة بالاقتصاد والحكمة، واغتيل في عام 175 ق. م. وكان أصغر ابنيه في ذلك الوقت أركونا في أثينة، حيث ذهب ليدرس الفلسفة. فلما سمع بموت سلوقس، جمع جيشاً زحف به على أنطاكية، وخلع قاتل أبيه، واعتلى العرش. وكان أنتيوخوس الرابع أجدر أفراد هذه الأسرة بالاهتمام وأكثرهم أخطاء؛ ذلك أنه كان مزيجاً نادراً من الذكاء والجنون، والجاذبية، وقد حكم مملكته حكماً حازماً رغم ما ارتكبه من مئات المظالم والسخافات. فقد أجاز لعماله أن يسيئوا استخدام سلطتهم، وأطلق يد عشيقته في ثلاث مدن؛ وكان كريماً وقاسياً لا يعتمد في أحكامه على عقل، يحكم ويصفح عن هوى، ويفاجئ البسطاء من أفراد الشعب؛ بالهدايا القيمة، ويلقي بالنقود على رؤوس الجماهير في الشوارع كما يفعل الأطفال المنتشون. وكان يحب الخمر والنساء والفنون؛ يفرط في الشراب، ويقوم من مجلسه في الولائم ليرقص عارياً مع أضيافه، أو يتعاطى نفايات الطعام والشراب. وكان رجلاً إباحياً شاءت الأقدار أن تحقق له ما كان يحلم به من سلطان. كان يحتقر وقار البلاط وزخرفه، ويمزح مزاحاً عملياً مع كبار رجال الدولة، ويتخفى ليستمتع بما يهيئه التخفي من الترف. وكان يسره أن يختلط بأفراد الشعب ليتعرف ما يقولونه عن الملك، وأن يتجول في أماكن الفنانين ليدرس أعمال الحفارين والصيّاغ ويناقشهم في التفاصيل الفنية لصناعتهم. وكان يشعر بحماسة صادقة للآداب والفنون والأفكار اليونانية، وبفضله ظلت أنطاكية مائة عام كاملة مركز الفنون في العالم اليوناني؛ وكان يجود بالمال بسخاء على الفنانين لينحتوا التماثيل ويشيدوا المعابد في غير أنطاكية من مدن هلاس، فأعاد تزيين ضريح أبلو في ديلوس، وشاد دار تمثيل لتيجيا، وتبرع بالأموال اللازمة لإتمام الأولمبيوم في أثينة. وإذ كان(8/39)
قد قضى في رومة أربعة عشر عاماً وهو في سن يكون فيها المرء سريع التأثر بما حوله، فقد تشرب فيها بحب الأنظمة الجمهورية؛ وكأنما أراد أن يستبق عهد أغسطس، فكان يسره ويوائم مزاجه وسياسته أن يخلع على سلطته الملكية المطلقة ستاراً من الحرية الجمهورية. وكان أهم آثار هيامه بكل ما هو روماني أن أدخل ألعاب المجالدين في أنطاكية عاصمة ملكه. واستاء الشعب من هذه الألعاب الوحشية، ولكن أنتيوخوس استرضاه بما أقام له من الاستعراضات الفخمة الرائعة وما أنفق عليها من أموال طائلة؛ فلما أن ألف الشعب مظاهر التقتيل عد انحطاطه هذا نصراً له. وكان من مميزاته أنه بدأ حياته رواقياً شديد التحمس للرواقية، ثم اختتمها بعد أن تحول في غير عناء إلى الأبيقورية. وكان يستمتع بصفاته هذه استمتاعاً بلغ من قدره أن نقش على النقود التي ضربت في أيامه "أنتيوخوس الإله البَيِّن Antiochus Iheos Epiphanes ". ولما أن عدا طوره كما يفعل أمثاله من ذوي الخيال، حاول في عام 169 أن يفتح مصر. وكاد يتم له مما أراد لولا أن أمرته رومة، وكانت هي الأخرى تتطلع إلى الاستيلاء على مصر، أن ينسحب من أرض إفريقية بأجمعها. وطلب أنتيوخوس أن يتاح له بعض الوقت ليفكر في أمره، ولكن بوبليوس رسول رومة رسم في الرمل دائرة حول أنتيوخوس وأمره أن يقطع برأي قبل أن يجتاز محيطها. فاستسلم وهو غاضب ثائر، ونهب هيكل أورشليم ليسترد ما أنفق في حملته من الأموال، وطلب المجد كما طلبه أبوه من قبل في شن الحرب على القبائل الشرقية، ومات في فارس وهو في طريقه إلى هذه القبائل من الصرع والجنون والمرض (5).(8/40)
الفصل الثاني
الحضارة السلوقية
لقد كانت مهمة الدول السلوقية في التاريخ أن تهب الشرق الأدنى الاستقرار الاقتصادي والنظام السياسي، اللذين وهبتهما إياه فارس قبل الإسكندر، واللذين أعادتهما إليه رومة بعد قيصر. ولقد أدت في واقع الأمر هذه المهمة رغم ما ينتاب أحوال البشر من حروب وثورات ونهب وفساد. ذلك أن الفتوح المقدونية قد حطمت ما أقامته الحكومات واللغات من حواجز بين الأمم، ودعت الشرق والغرب إلى تبادل المصالح التجارية تبادلاً أتم مما كان بينهما من قبل؛ وكانت نتيجة هذا أن بُعثت الحياة في بلاد آسية اليونانية بعثاً باهراً جديداً. فبينما كان الانقسام والنزاع وجدب التربة وتحول الطرق التجارية يقضي على بلاد اليونان الأصلية، كانت الوحدة والسلم اللتان احتفظ بهما الأباطرة السلوقيون ذواتي أثر عظيم في تشجيع الزراعة والتجارة والصناعة. ولم تعد مدن آسية اليونانية حرة في إشعال نار الثورات أو التجارب في أساليب الحكم؛ بل أرغمها الملوك على أن تأتلف، حتى أصبح الائتلاف إلهاً يعبد في هذه المدن (6)، وكانت نتيجة هذا أن ازدهرت من جديد مدن قديمة مثل ميليطس، وإفسوس، وأزمير.
وكانت أودية دجلة والفرات، والأردن، والعاصي، وميندر، وهاليس، وجيحون خصبة إلى حد لا يستطيع خيالنا أن يتصوره الآن لما يثقله من مناظر الصحارى، والقفار الصخرية التي تغطي أصقاع واسعة من بلاد الشرق الأدنى بعد أن ظلت ألفي عام كاملة معرضة لعوامل التعرية، ولتقطيع الغابات وإهمال الأهلين حرثها وزرعها (7). وكانت الأرض في أيام تلك الإمبراطورية ترويها(8/41)
شبكة من القنوات تشرف عليها الدولة وتُعنى بأمرها. وكانت وقتئذ ملكاً للملوك والنبلاء من رجال حاشيته، أو للمدن، أو الهياكل، أو الأفراد. وكان الأقنان هم الذين يزرعونها في جميع هذه الأحوال وينتقلون معها إذا ما أورثت أو بيعت. وكانت الحكومة تعد كل ما تحتويه الأرض من ثروة ملكاً قومياً (8)، ولكنها قلما كانت تُعنى باستغلالها. وقد بلغت الحرف وقتئذ، والمدن نفسها، درجة عظيمة من التخصص؛ فكانت مليطس مثلاً مركزاً هاماً لصناعة النسيج، وكانت أنطاكية تستورد المواد الغفل وتحيلها إلى بضائع مصنوعة، وبلغت بعض المصانع الكبرى التي تستخدم العبيد درجة لا بأس بها من الإنتاج الكبير ترسله للأسواق العامة (9). ولكن الاستهلاك المحلي لم يجارِ الإنتاج، لأن فقر الأهلين لم يساعد على قيام أسواق محلية كبيرة تشجع الصناعات الكبرى.
وكانت التجارة حياة الاقتصاد الهلنستي، فهي التي أوجدت الثروات الكبرى، وشادت المدن العظيمة، واستخدمت نسبة متزايدة من السكان الآخذين في الازدياد. وحل التعامل بالنقد في ذلك الوقت محل المقايضة التي ظلت أربعة قرون وسيلة للتعامل لم تقضِ عليها نقود كروسس. لكنها وقتئذ كادت تختفي اختفاءً تاماً من تلك البلاد، فقد أصدرت مصر، ورودس، وسلوقية، وبرجموم، وغيرها من الحكومات نقوداً بلغت من الاستقرار والتشابه حداً يكفي لتيسير التجارة الدولية. وكانت المصارف تيسر وسائل الائتمان الفردي والعام، وكانت السفن كبيرة تتراوح سرعتها بين أربعة أميال بحرية وستة أميال في الساعة، وكان لها فضل تقصير المسافات بعد أن استطاعت السير في عرض البحار. وفي البر عنى السلوقيون بالطرق الكبرى التي ورثتها بلاد الشرق عن فارس، وأكثروا منها، وزادوا في أطوالها. وكانت طرق القوافل الممتدة من أطراف آسية الصغرى تلتقي في سلوقية ثم تتفرع منها إلى دمشق، وبريتس (بيروت) وأنطاكية. وأثرت سلوقية من هذه التجارة الواسعة،(8/42)
وعملت على إنمائها، فقامت أحياء غاصة بالسكان فيها وفي بابل، وصور، وطرسوس، وزانثوس، ورودس، وهليكرنسس، وميليطس، وإفسوس، وأزمير، وبرجموم، وبيزنطية، وسزيكوس Cyzicus، وأباميا Apamea، وهرقلية، وأمسوس Amisus، وسينوب، وبنتيكبيوم Banticapaeum، وألبيا Albia، ولسماكيا Lysimacheia، وأبيدوس، وثسلونيكا (سلونيكا)، وخلقيس، وديلوس، وكورنثة، وأمبراشيا Ambracia، وإبدامنوس Epidamnus ( درازو الحالية)، وتراس، ونيبوليس Neapolis ( نابلي) ورومة، ومساليا، وإمبوريوم Emporium، وبنورموس Banormus ( بالرمو)، وسرقوسة، ويوتيكا Utica، وقرطاجة، وقوريني Cyrene والإسكندرية. وكانت شبكة ناشطة من طرق التجارة تربط أسبانيا في عهد قرطاجة برومة؛ وقرطاجة في أيام هملكار وسرقوسة في عهد هيرون الثاني برومة أيام آل سبيو؛ ومقدونية في عهدالأنتجونيين، وبلاد اليونان في عهد العصب المتحالفة، ومصر في عهد البطالمة، والشرق الأدنى في عهد السلوقيين، والهند في عهد آل موريا Maurya والصين في عهد أسرة هان. وكانت الطرق الآتية من بلاد الصين تخترق التركستان، وبكتريا، وفارس، أو تجتاز بحر أرال والبحر الأسود وبحر قزوين. أما الطرق الآتية من الهند فكانت تجتاز أفغانستان وفارس إلى سلوقية أو تخترق بلاد العرب والبتراء إلى أورشليم ودمشق، أو تعبر المحيط الهندي إلى أدانا (عدن) ثم تجتاز البحر الأحمر إلى أرستوي (السويس الحالية)، ومنها إلى الإسكندرية. ومن أجل الإشراف على هذين الطريقين الآخرين اشتبك السلوقيون والبطالمة في "الحروب السورية" التي أضعفتهما جميعاً آخر الأمر ضعفاً أخضعهما إلى رومة.
وورثت الملكية السلوقية التقاليد الآسيوية فكانت ملكية مطلقة، لا تحد من سلطتها جمعية شعبية. وقد نظم بلاط الملك على الطراز الشرقي فكان فيه(8/43)
رجال التشريفات ذوو الملابس المزركشة، والحلل الرسمية، والبخور والموسيقى؛ ولم يبقَ فيهِ شيء يوناني عدا الكلام والملابس الداخلية. ولم يكن الأشراف فيها زعماء شبه مستقلين كما كانت الحال في مقدونية وفي أوربا في العصور الوسطى، بل كانوا موظفين إداريين أو عسكريين يعينهم الملوك. وهذا النظام الملكي هو الذي انتقل من بلاد الفرس عن طريق السلوقيين والساسانيين إلى رومة في عهد دقلديانوس، وبيزنطية في عهد قسطنطين. وكان السلوقيون يعرفون أن سلطانهم في هذا المحيط الأجنبي إنما يعتمد على ولاء السكان اليونان، ولهذا بذلوا كل ما يستطيعون من جهد لإعادة المدن اليونانية القديمة وإنشاء مدن أخرى جديدة؛ فأنشأ سلوقس الأول تسع مدن باسم سلوقية وستاً باسم أنطاكية وخمساً باسم لأوديسيا، وثلاثاً باسم أباميا، وواحدة باسم أسترتونيس Stratonice، وحذا خلفاؤه حذوه بقدر ما وسعته جهودهم التي كانت أقل من جهوده. ونمت هذه المدن وتضاعف عددها كما حدث في أمريكا في القرن التاسع عشر.
وعن طريقهم أخذ غربي آسية يصطبغ بالصبغة اليونانية بخطى سريعة في ظاهر الأمر. ولا حاجة إلى القول بأن هذه العملية كانت قديمة العهد، فقد بدأت في أيام الهجرة الكبرى، وكان الانتشار الهلنستي من بعض نواحيهِ هو نهضة أيونيا من جديد وعودة الحضارة اليونانية إلى مواطنها الآسيوية القديمة، ولقد كان اليونان حتى قبل الإسكندر يشغلون مناصب رفيعة في الإمبراطورية الفارسية، كما كان التجار اليونان يسيطرون على المسالك التجارية في الشرق الأدنى القريب. أما الآن فإن الفرص السياسية والتجارية والفنية قد اجتذبت سيلاً جارفاً من المهاجرين المغامرين، والمستعمرين والكتبة، والجند والتجار، والأطباء، والعلماء، والسراري. وكان المثّالون والحفارون اليونان ينحتون التماثيل وينقشون النقود لملوك فينيقية، وليشيا، وكاريا، وصقلية، وبكتريا.(8/44)
وهرعت الراقصات اليونانيات إلى الثغور الآسيوية (10)، وغشى الفساد الخلقي الجنسي ستار يوناني ظريف، وأثارت مدارس الألعاب الرياضية اليونانية وساحاتها في بعض الشرقيين شغفاً لم يألفوه من قبل بالألعاب والحمامات. فأنشأت المدن طرقاً جديدة تمدها بالماء ونظماً جديدة لصرف الأقذار، ورصفت الطرق ونظفت. ونشطت المدارس، ودور الكتب، والتمثيل والقراءة والأدب؛ وكان طلاب العلم في الكليات والجامعات يطوفون بشوارع المدن يحاجج بعضهم بعضاً، أو يحاجون الناس كما كانوا يفعلون في العهد القديم؛ ولم يكن أحد يحسب من المثقفين إلا إذا كان يفهم اللغة اليونانية، ويستطيع الاستمتاع بمسرحيات مناندر، ويوربديز. وكانت سيطرة الحضارة اليونانية على بلاد الشرق الأدنى من أغرب الظواهر في التاريخ القديم؛ ولم ترَ آسية من قبل مثل هذا التبدل السريع الواسع المدى. غير أننا لا نعرف من تفاصيله وآثاره إلا النزر اليسير؛ ذلك أن ما وصلنا من المعلومات عن آداب آسية السلوقية، وفلسفتها، وعلومها جد ضئيل، وإذا لم نجد فيه إلا عدداً قليلاً من الشخصيات الجبارة أمثال زينون الرواقي، وسلوقس الفلكي، وفي العهد الروماني مليجر الشاعر، وبسيدبس الذي كان يلم بكثير من العلوم المختلفة، إذا لم نجد إلا هذا العدد القليل فإنا لا نستطيع أن نجزم أنه لم يكن هناك كثيرون غيرهم. والحق أن هذه الثقافة كانت ثقافة مزدهرة، ذات ألوان متعددة، رقيقة مهذبة، متحمسة، لا تقل خصباً في الفنون عن أية ثقافة سبقتها. ومبلغ علمنا أنه لم توجد قبلها ثقافة تضارعها في سعة انتشارها وفي وحدتها المعقدة بين ما كان يحيط بها من بيئات متباينة. وقصارى القول أن غرب آسية ظل مدى قرن من الزمان تابعاً لأوربا، وأن السبيل قد مُهد للسلام الروماني والتآلف المسيحي الجامع الشامل.
ولكن هذا لا يعني أن الشرق قد غلب على أمره، فلقد كانت خصائصه متأصلة فيه قديمة العهد، ولم يكن من اليسير أن يسلم روحه إلى الغرب أياً كانت(8/45)
قوته. لهذا ظلت جمهرة الناس تتخاطب بلغاتها الوطنية، وتجري على سننها وأساليبها المألوفة من قديم الزمان، وتعبد الآلهة التي كان يعبدها آباؤها وأجدادها؛ وكان الغشاء اليوناني الذي يغشى البلاد البعيدة عن شواطئ البحر الأبيض المتوسط رقيقاً، وكانت المراكز الهلينية القائمة في هذه الأصقاع أمثال سلوقية على نهر دجلة جزائر يونانية في البحر الشرقي. ولم تمتزج في هذه الأصقاع الأجناس والثقافات الامتزاج الذي كان يحلم بهِ الإسكندر؛ بل كان من فوق سطحه يونان وحضارة يونانية، ومن تحتها خليط من الشعوب والثقافات الشرقية، ولم تدخل الصفات الذهنية اليونانية في العقل الشرقي، ولم تُحدث ما امتاز بهِ اليونان من نشاط وحب للجديد، وحرص على الشؤون الدنيوية، ورغبة شديدة في الكمال، والتعبير عن الذات والنزعة الفردية القوية، لم يُحدث هذا كله تغييراً ما في أخلاق الشرقين. بل حدث عكس هذا، حدث على مر الأيام أن جاشت أساليب التفكير والإحساس الشرقية من أسفل وغمرت الطبقة اليونانية الحاكمة، ثم نقلها هؤلاء إلى الغرب فكانت هي التي بدلت العالم "الوثني". ففي بابل استعاد التاجر السامي ومَصْرَفِيُّ الهيكل الصابران سيطرتهما على الهلني المتقلب الفَرَّار، فاحتفظا بالكتابة المسمارية، وأنزلت اللغة اليونانية إلى المكانة الثانية في عالم الأعمال؛ وأفسد التنجيم، والكيمياء الكاذبة، فلك اليونان وعلومهم الطبيعية، وأثبتت الملكية المطلقة الشرقية أنها أقوى من الديمقراطية اليونانية، وانتهى الأمر بأن فرضت صورتها على الغرب نفسه، فأصبح الملوك اليونان والأباطرة الرومان آلهة كما كانوا في بلاد الشرق، وانتقلت نظرية حق الملوك المقدس التي كانت تسود بلاد الشرق إلى أوربا الحديثة عن طريق رومة والقسطنطينية.
وبث الشرق عن طريق زينون نزعته التجريبية والجبرية في الفلسفة اليونانية، كما سرى تصوفه وتقواه من مئات السبل إلى الفراغ الذي تركه تدهور(8/46)
الدين اليوناني السليم. وسرعان ما قبل اليونان آلهة الشرق ورأوا أنهم في جوهرهم آلهتهم هم؛ ولكن اليوناني لم يكن في واقع الأمر يؤمن بالآلهة كما كان يؤمن بها الشرقي، ولهذا بقي الإله الشرقي ومات الإله اليوناني، فعادت أرتميس الإفيزية كما كانت إلهة شرقية للأمومة، ذات اثنتي عشر ثدياً، واستسلم عدد عظيم من غزاة اليونان للطقوس الدينية البابلية، والفينيقية، والسورية. وقصارى القول أن اليونان عرضوا على الشرق الفلسفة، وأن الشرق عرض على اليونان الدين، كانت الغلبة للدين، لأن الفلسفة كانت ترفاً يقدم للأقلية الضئيلة، أما الدين فكان سلوى للكثيرين. واستعاد الدين سلطانه في هذا التبادل التاريخي المضطرب بين الإيمان والكفر؛ والنزعة التصوفية والنزعة الطبيعية؛ والدين والعلم؛ وذلك لأن الدين أدرك ما ينطوي عليه الإنسان من ضعف وعزلة، وبعث فيه الإلهام والشعر. وقد سَرَّ العالم الذي زالت عن أعينه غشاوة الخداع، العالم المستقل، الذي سئم الحروب، وسر هذا العالم أن يعود إليه الإيمان والأمل. وكان أعمق فتوح الإسكندر أثراً نتيجة أبعد ما تكون عن العقل، ألا وهي اصطباغ الروح الأوربية بالصبغة الشرقية.(8/47)
الفصل الثالث
برجموم
لقد كان امتصاص آسية لليونان امتصاصاً تدريجياً سبباً في ضعف قوة الدولة السلوقية، ونشأة ممالك مستقلة على أطراف العالم الهلنستي. فقد أقامت منذ عام 280 بلاد أرمينية، وكبدوكيا وتيتس، وبيثينيا ممالك مطلقة مستقلة؛ ولم تلبث المدن اليونانية القائمة على شواطئ البحر الأسود أن خضعت لحكم الأسيويين. وانفصلت بكتريا وسجديانا من حكم السلوقيين حوالي عام 250؛ وفي عام 247 اغتال أرسسيز زعيم البارني Parni- وهي قبيلة إيرانية بدوية- حاكم بلاد الفرس السلوقي، وأنشأ مملكة بارثيا التي قُدر لها أن تنازع رومة سلطانها عدة قرون؛ وفي عام 282 استولى فلاتيروس Philataerus على تسعة آلاف وزنة من المال، وكان لسمخوس Lysemachus قد ائتمنه عليها، كما استولى على تل برجموم الحصين في آسية وأعلن استقلاله عن الدولة السلوقية. وضم ابن أخيه أمنيز الأول Eumenes إلى ملكه بيتاني Pitane وأترنيوس Atarneus وجعل برجموم مملكة مطلقة مستقلة ذات سيادة (262). وكان لأتلوس الأول Attaus I فضل كبير على آسية اليونانية لأنه صد عنها الغاليين الذين اخترقوا هذه الأصقاع حتى وصلوا إلى أسوار مدينته (230)؛ وواصل أمنيز الثاني أكبر أبنائه حكم أبيه الحازم، ولكنه أثار دهشة اليونان بأن استغاث برومة لتحميه من أنتيوخوس الثاني؛ وبعد أن هزم بمعونتها أنتيوخوس عند مجنيزيا ترك له الرومان جميع بلاد آسية الصغرى تقريباً؛ وخلفه على العرش أخوه أتلوس الثاني، وكان يرتاب في مقدرة أبنائه على أن يحتفظوا بحرية برجموم، فأوصى بملكه وهو على فراش الموت (139) إلى رومة.(8/48)
وبذلت الدولة الصغيرة كل ما في وسعها لتكفر عما أحاط بمولدها ونشأتها من غدر وخيانة، فأخذت تنافس الإسكندرية بوصفها مركزاً للعلم والفن؛ فلم تنفق كل ما عاد عليها من خيرات المناجم، والكروم، وحقول الغلال، ومن نسيج الصوف وصناعة رقائق الجلد والعطور، والآجر والقرميد، ومن سيطرتها على تجارة بحر إيجة، نقول إنها لم تنفق كل ما عاد عليها من هذا في إنشاء جيش وأسطول قويين بل أنفقت جانباً كبيراً منه في تشجيع الأدب والفن؛ ذلك أن ملوك برجموم كانوا يؤمنون بأن الحكم والأعمال التجارية والمالية الخاصة تستطيعان أن تتنافسا تنافساً يؤتي خير الثمرات، وأن تقضيا على كثير من أسباب العجز والشره. فقد كان الملك يستخدم العبيد في زرع مساحات واسعة من الأرضين، ويدير كثيراً من المصانع، والمحاجر والمناجم، وإن لم يكن ذلك بطريق الاحتكار. وبهذه الطريقة الفذة ازدادت الثروة وتضاعفت، وأضحت برجموم حاضرة مزخرفة، اشتهرت بمذبح زيوس، وبقصورها الفخمة، وبمكتبتها الجامعة، ودار تمثيلها العظيمة، وبما كان فيها من مساحات رياضية وحمامات؛ بل إن ما كان فيها من دورات مياه عامة ليشهد بفضل إدارتها البلدية (11). ولم تكن مكتبتها الجامعة يفوقها في عدد مجلداتها، وفي شهرة علمائها الواسعة إلا مكتبة الإسكندرية وحدها، وكان معرض صورها يحتوي على مجموعة عظيمة من الرسوم الملونة يتردد عليها الزائرون ليستمتعوا بجمالها. وظلت برجموم خمسين عاماً أنضر زهرة في الحضارة الهلينية.
وكان بيت سلوقس في هذه الأثناء آخذاً في الاضمحلال والفناء. ذلك أن قيام الممالك المستقلة في أنحاء الإمبراطورية السلوقية كان يقصر سلطان الملوك السلوقيين على سوريا وبلاد الجزيرة. وأخذت بارثيا وبرجموم، ومصر، ورومة تعمل جاهدة في صبر وأناة لإضعاف هذه الأسرة، يساعدها على هذا(8/49)
المدعوون الذين كانوا يطالبون بعرش البلاد كلما انتقل هذا العرش من ملك إلى ملك، كما تساعدها الحزازات والانشقاق والحرب الأهلية. وبينما كان دمتريوس الأول يعيد القوة والنشاط للحكومة السلوقية، إذ جيشت رومة في عام 153 جيشاً من مرتزقة الجند جاءت بهم من كافة الأنحاء لتأييد مغامر من أهل أزمير في مطالبته الباطلة بعرش البلاد. وانضمت برجموم ومصر في الهجوم على دمتريوس، فقاوم هذا الملك جيوش أعدائه مقاومة الأبطال، وخر صريعاً في ميدان القتال، وآلت سلطة السلوقيين إلى يدي رجل حقير خامل يدعى ألكسندر بالاس Alexander Balas، كان ألعوبة في أيدي عشيقاته ورومة.(8/50)
الفصل الرّابع
الهلنية واليهود
يدور تاريخ بلاد اليهود في العصر الهلنستي حول نزاعين: الكفاح الخارجي بين آسية السلوقية ومصر البطالمة للاستيلاء على فلسطين، والكفاح الداخلي بين أساليب الحياة الهلنية والعبرية. فأما الكفاح الأول فهو تاريخ ميت، وفي وسعنا أن نفرغ منه في عبارات موجزة، وأما الكفاح الثاني فهو في اعتقاد ماثيو آرنلد Mathew Arnold أحد الانشقاقات الخالد التي طرأت على الأفكار والمشاعر البشرية. وكانت بلاد اليهود (أي فلسطين الواقعة جنوب السامرة) في التقسيم الأول لإمبراطورية الإسكندر من نصيب بطليموس؛ ولكن السلوقيين لم يقبلوا قط هذا التقسيم لأنهم وجدوا أنفسهم بمقتضاه منفصلين عن البحر الأبيض المتوسط، ولأنهم كانوا يطمعون فيما قد يعود عليهم من ثراء بسبب التجارة المارة بدمشق وأورشليم. وانتصر بطليموس في الحروب التي ثارت بسبب هذا النزاع، واستولى على بلاد اليهود وظلت خاضعة لسلطان البطالمة أكثر من مائة عام (318 - 198)، كانت تؤدي في خلالها جزية سنوية مقدارها ثمانية آلاف وزنة، ولكنها ازدهرت وعمها الرخاء رغم هذا العبء الثقيل. وقد ترك البطالمة لبلاد اليهود قسطاً كبيراً من الحكم الذاتي، تحت سلطان كاهن أورشليم الأكبر والجمعية الوطنية الكبرى. وأضحت الجروسيا أو مجلس الكبار، التي أنشأها عزرا ونحيما قبل ذلك العهد بمائتي عام، مجلس شيوخ ومحكمة عليا في وقت واحد. وكان أعضاؤها السبعون أو الأكثر من السبعين يختارون من بين رؤساء الأسر الشهيرة في البلاد، ومن بين أكبر رجال العلم (السفريم Soferim) . وقد ظلت قرارات هذه الجمعية المعروفة(8/51)
باسم "الدبرسفريم" Dibre Soferim أساس الدين اليهودي العام من العصر الهلنستي إلى العصر الحديث.
وكان أساس اليهودية هو الدين: كما كانت فكرة وجود إله قادر تسيطر على كل ناحية من نواحي الحياة اليهودية وكل لحظة من لحظاتها. وكان مجلس الكبراء يفرض القوانين الأخلاقية والآداب الاجتماعية بجميع دقائقها. ويشرف على تنفيذها إشرافاً تاماً. وكانت أسباب اللهو والتسلية والألعاب قليلة محدودة، وكان الزواج بغير اليهود محرماً، وكذلك العزوبة وقتل الأطفال. ومن ثم كان اليهود يلدون كثيراً ويربون جميع أبنائهم، وظلوا طوال العصور القديمة يتكاثرون رغم الحروب والمجاعات حتى بلغ عددهم في الإمبراطورية الرومانية أيام قيصر سبعة ملايين. وكان معظم السكان قبل العهد المقدوني يشتغلون بالزراعة، لأن اليهود لم يكونوا قد أصبحوا بعض أمة من التجار. وقد كتب عنهم يوسفوس Josephus في ذلك العهد المتأخر، وهو القرن الأول بعد الميلاد، يقول: "لسنا شعباً تجارياً (13) ". أما الشعوب التجارية العظيمة في ذلك العصر فهي الفينيقيون والعرب واليونان. وكان الرق موجوداً في بلاد اليهود كما كان في غيره من الأقطار، غير أن حرب الطبقات كانت هادئة نسبياً. ولم يكن للفنون عندهم شأن عدا الموسيقى فقد كانت راقية مزدهرة. وكان الناي والطبل، والصنوج و "قرن الكبش" أو البوق، والقيثارة تُستخدم مصاحبة للصوت الواحد، أو للأغاني الشعبية، أو الترانيم الدينية. وكان الدين اليهودي يعيب على الطقوس اليونانية استرسالها في الخضوع لخيال الشعب ويزدريها لهذا السبب؛ وكانت الصلة مقطوعة بينه وبين الصور، والنبوءات، ومعرفة الغيب بالنظر في أحشاء الطير. وكان أقل تجسيدا وتخريفاً، وأقل بهرجة ومرحاً من دين اليونان. وكان الربانيون يواجهون طقوس الشرك الهلنية بإنشاد هذه النغمة التي لا تزال تتردد حتى اليوم في كل كنيس يهودي: "استمعي يا إسرائيل: الرب إلهنا، الرب واحد".(8/52)
وأدخل الغزاة اليونان في هذه الحياة البسيطة المتزمتة كل ما في الحضارة المهذبة الأبيقورية من أسباب اللهو والغواية. وقد كان يحيط ببلاد اليهود حلقة من المستقرات والمدن اليونانية: السامرة، ونيوبوليس، وغزة، وعسقلان، وأزوتس Azotus ( أشرود) وجبا Joppa ( يافا)، وأبولونيا Appollonia، ودوريس Dorisa، وسكمينا Sycamina، وبوليس Polis ( حيفا) وأكو (عكا). وكان على الضفة الأخرى من نهر الأردن عصبة من عشر مدن يونانية: هي دمشق، وجدارا Gadara، وجراسا Gerasa، وديوم Dium، وفلدلفيا، وبلا Pella، ورافيا Raphia، وهبو Hippo، واسكيثوبوليس Csythopolis، وكنيثا Canetha. وكانت تقوم في كل واحدة من هذه المدن نظم ومؤسسات يونانية وهياكل للآلهة والإلهات اليونانية، ومدارس، ومجامع علمية، ومدارس وساحات للألعاب الرياضية، وألعاب يشترك فيها الناس وهم عراة. وأقبل على أورشليم من هذه المدن ومن الإسكندرية، وأنطاكية، وديلوس، ورودس يونان ويهود يحملون العدوى الهلينية، عدوى التبحر في العلم والفلسفة، والفن، والأدب، والاستمتاع بالجمال واللذة، والغناء، والرقص، والشراب، والطعام، والألعاب الرياضية، والعشيقات، والغلمان؛ فضلاً عن السفسطة المرحة، التي ترتاب في جميع القوانين الأخلاقية، والتشكك الذي قضى على كل عقيدة في خوارق الطبيعة. وهل يستطيع الشاب اليهودي أن يقاوم هذه المغريات، التي تدعوه إلى الاستمتاع باللذة وإلى التحرر من آلاف القيود الضيقة الثقيلة؟ لقد بدأ الشبان اليهود الفكهون يسخرون من الكهنة ويصفونهم بأنهم طلاب مال، كما يصفون الأتقياء من أتباعهم بأنهم حمقى، ينحدرون إلى الشيخوخة من غير أن يعرفوا الملاذ والترف ومباهج الحياة. وانضم إليهم في هذا أغنياء اليهود، لأنهم كانوا يستطيعون أن يستجيبوا لداعي الغواية. وأحس اليهود الذين كانوا يطلبون المناصب من الموظفين اليونان بأن من(8/53)
حسن السياسة أن يتكلموا اللغة اليونانية، وأن يعيشوا كما يعيش اليونان، بل أن يقولوا بضع كلمات طيبة في حق الآلهة اليونانية.
وكانت ثلاث قوى تحمي اليهود من هذا الهجوم القوي على عقلهم وحواسهم! هي ما وقع عليهم من الاضطهاد أيام أنتيوخوس الرابع، وحماية رومة، وسلطان القانون وهيبته لأنه كان في اعتقاد اليهود وحياً منزلاً من عند ألله. وتجمع الأتقياء من اليهود، كما تتجمع الكرات البيضاء من الدم لحماية الجسم من جراثيم الأمراض، وألفوا هيئة من الصفوة المختارة أطلقوا عليها اسم "المتقين". وبدأت هذه الجماعة (حوالي عام 300 ق. م) بعهد بسيط قيدوا به أنفسهم أن يمتنعوا عن شرب الخمر زمناً معيناً؛ ثم ذهبوا فيما بعد مدفوعين بسيكولوجية الحرب المحتومة إلى أبعد حدود التزمت، فحرّموا جميع الملاذ الجسمية وعدوها استسلاماً للشيطان واليونان. وعجب منهم اليونان أشد العجب وضموهم إلى زمرة الفلاسفة الزاهدين العرايا العجيبين الذين التقت بهم جيوش الإسكندر في بلاد الهند. وحتى اليهودي العادي نفسه كان يعارض في تزمت جماعة المتقين الشديد ويبحث لنفسهِ عن خطة وسطى بين التزمت والإباحية، ولعله هو وأمثاله كان يستطيع أن يجد هذا الحل الوسط لولا أن أنتيوحوس إيفانيز حاول أن يقحم الهلنية في بلاد اليهود بالإقناع تارة وبالسيف تارة أخرى.
وظلت بلاد اليهود تابعة لمصر حتى عام 198 حين هزم أنتيوخوس الثالث بطليموس الخامس وضمها إلى الإمبراطورية السلوقية. وكان اليهود قد ملوا حكم المصريين فأعانوا أنتيوخوس ورحبوا باستيلائه على أورشليم وتحريرهم من حكامهم؛ ولكن خلفه أنتيوخوس الرابع لم يرَ في بلاد اليهود إلى أنها مصدر للإيراد؛ وكان وقتئذ يستعد لحروب عوان تتطلب الكثير من الأموال، فأمر اليهود أن يؤدوا إلى خزانة الدولة ثلث محصولاتهم من الحبوب، ونصف ما تُثمره أشجار الفاكهة (14). ثم عين جيسن المعروف بتذلله وملقه حاخاماً(8/54)
أكبر، وتجاهل في هذا التعيين ما جرت به العادة من توارث هذا المنصب الديني. وكان جيسن هذا يمثل الحزب القائم في أورشليم والذي ينادي بفرض الثقافة الهلنية على بلاد اليهود، ويطلب الإذن بإقامة النظم اليونانية في تلك البلاد. وأصغى أنتيوخوس إلى مطالبه وهو فرح مستبشر لأن اختلاف الطقوس الدينية الشرقية في بلاد آسية اليونانية وقوة هذه الطقوس كانا يقلقان باله إذ كان يحلم بتوحيد إمبراطوريته المتعددة اللغات والأجناس بإخضاعها كلها لشريعة واحدة وعقيدة واحدة. ولما أن أبطأ جيسن في العمل للوصول إلى هذه الغاية عين أنتيوخوس بدلاً منه منلوس، بعد أن وعده بأكثر مما وعده بهِ سلفه ونفحه برشوة أكبر (15). وتوحد يهوة وزيوس على يدي منلوس، وبيعت آنية المعابد للحصول على المال، وقربت بعض الجماعات اليهودية القرابين إلى الآلهة الهلنية. واُفتتحت في أورشليم مدرسة للرياضة البدنية، واشترك شباب اليهود والكهنة أنفسهم وهم عراة في الألعاب الرياضية. وبلغ من تحمس بعض الشبان اليهود للهلنية أن تحملوا جراحات في أجسامهم ليعالجوا بها بعض العيوب التي قد تكشف عن أصلهم (16).
وارتاعت كثرة الشعب اليهودي من هذه التطورات وأحست أن دينها يكاد ينهار من أساسه، فانحازت إلى آراء المتقين؛ ولما أن طرد بوبليوس (165) أنتيوخوس الرابع من مصر، شاع في أورشليم أنه قُتل، فاغتبط اليهود بالنبأ، وخلعوا الموظفين المعينين عليهم من قبله، وقتلوا زعماء الحزب الذي كان يدعوا إلى الثقافة الهلينية، وطهروا الهياكل مما كانوا يرونه منكراً أو كفراً. لكن أنتيوخوس لم يكن قد مات، بل هُزم وذُلَ وأصبح فقيراً معدماً؛ وقد أيقن أن اليهود كانوا سبباً في هزيمته في مصر وأنهم كانوا يأتمرون ليعيدوا بلادهم إلى البطالمة (17)، فعاد إلى أورشليم وذبح آلافاً من اليهود رجالهم ونسائهم، ودنس الهيكل ونهبه، وصادر مذبحه الذهبي وآنيته وكنوزه وضمها إلى الخزائن الملكية، وأعاد إلى منلوس سلطته العليا، وأمر أن يثقف اليهود كلهم(8/55)
على الرغم منهم بالثقافة الهلينية (167)، وأن يعود الهيكل كما كان ضريحاً مقدساً لزيوس، وأن يقام مذبح يوناني فوق المذبح القديم، وأن يُستبدل بالقرابين القديمة قربان من الخنازير. ثم حرم تقديس السبت والاحتفال بالأعياد اليهودية، وجعل الختان جريمة يُعاقب عليها بالإعدام، وحُرمت جميع مراسم الدين اليهودي في جميع أنحاء بلاد اليهود، وألزم الأهلون باتباع المراسم اليونانية، وعوقب من يخالف هذه الأوامر بالإعدام. وكان كل من يأبى من اليهود أن يأكل لحم الخنزير وكل من يوجد عنده كتاب الشريعة يُسجن أو يُقتل، وأمر أن يُحرق هذا الكتاب أنى وجد (18). وأشعلت النار في أورشليم نفسها، وهُدمت أسوارها، وبيع سكانها اليهود في أسواق الرقيق، وجيء بالأجانب ليُقيموا في مواضعها، وشيد حصن جديد على جبل صهيون، ووضعت فيه حامية من الجند لتحكم المدينة باسم الملك (19). ويبدو أن أنتيوخوس سعى في بعض الأوقات لأن يجعل نفسه إلهاً، وأنه طلب إلى الناس أن يتخذوه إلهاً يعبدونه (20).
وزاد الاضطهاد شدة على مر الزمن. ذلك أنه يوجد دائماً في كل مجتمع أقلية فطرت على الابتهاج إذا أذن لها بالاضطهاد، لأنها ترى في هذا الاضطهاد انطلاقاً من قيود الحضارة. وكان عملاء أنتيوخوس من هذه الأقلية، فأنهم بعد أن قضوا على جميع مظاهر اليهودية في أورشليم انطلقوا انطلاق اللهب يبحثةن عن هذه المظاهر في المدائن والقرى: وكانوا أينما حلوا يخيرون الأهلين بين الموت والاشتراك في العبادات الهلنية وما تتضمنه من أكل لحم الخنازير المذبوحة على النصب (21). وأغلقت جميع الهياكل والمدارس اليهودية، وعُد جميع من يأبون الاشتغال في يوم السبت عصاة خارجين عن القانون. وأرغم اليهود في عيد باخوس أن يزينوا باللبلاب كاليونان أنفسهم، وأن يشتركوا في المواكب، وأن يُنشدوا الأناشيد الهمجية تكريماً لديونيشس. وصدع الكثيرون من اليهود بما أمروا به، وترقبوا أن تمر العاصفة، وفر كثيرون غيرهم إلى(8/56)
الكهوف أو المعاقل الجبلية النائية، وعاشوا على ما يلتقطونه خلسة من الحقول، وثبتوا على ممارسة أساليب الحياة اليهودية. وأخذ "المتقون" يطوفون بهم يدعونهم إلى الشجاعة والمقاومة. وعثرت شرذمة من جنود الملك على كهوف آوى إليها آلاف من اليهود-رجال ونساء وأطفال- فأمروهم بالخروج؛ فلما عصوا أمر الجنود وأبوا كذلك أن يزيلوا ما عساه أن يكون في مدخل الكهوف من الحجارة، لأن اليوم كان يوم السبت، أعمل فيهم الجنود النار والسيف، وقتلوا كثيرين من اللاجئين، واختنق الباقون بالدخان (22). وفي المدن قبض على النساء اللائي ختن من ولدن حديثاً من الأطفال وألقين هن وأطفالهن من فوق الأسوار (23). وما كان أشد دهشة اليونان من استمساك الأهلين بدينهم القديم، وذلك أنهم لم يروا من عدة قرون مثل هذا الإخلاص للرأي والاستمساك بالعقيدة. وكانت قصص الاستشهاد تتناقلها الألسن وتملأ بها الكتب، فضربت للمسيحيين أمثلة صادقة في الاستشهاد والشهداء. وهكذا أضحت اليهودية ديناً وقومية وثبتت قواعدها وتأصلت جذورها وآثرت العزلة لتحتمي بها من أعدائها.
وكان من بين اليهود الذين فروا وقتئذ من أورشليم متاثياس Mattathias من أسرة هزموناي Hasmonai من سبط هارون-وأبناؤه الخمسة يوهنان كاديس، وسيمون، وبوداس، والبزر، ويوناثان. ولما أقبل أبليز عامل أنتيوخوس إلى مدين Modin التي لجأ إليها هؤلاء الستة، أمر أهلها أن يجحدوا "الشريعة" ويقربوا لزيوس. وجاء متاثياس الشيخ ومعه أبناؤه الخمسة وقال: "لو أن جميع سكان المملكة أطاعوا أمركم بالمروق من دين آبائهم لبقيت أنا وأولادي الخمسة مستمسكين بعهد آبائنا الأولين". ولما أن اقترب أحد اليهود من المذبح ليقرب القربان المطلوب ذبحه متاثياس بيده وذبح أيضاً مندوب الملك. ثم نادى في الشعب قائلاً: "من كان يغار على الشريعة، وأراد(8/57)
أن يؤيد العهد فليتبعني (24). فساروا وراءه هو وأبنائه كثيرون من القرويين حتى وصلوا إلى جبل إفرايم، حيث انضمت إليهم جماعة صغيرة من الشبان الثائرين ومن كان باقياً على قيد الحياة من "المتقين".
وبعد قليل من هذا الحادث توفي متاثياس بعد أن أوصى بأن يرأس أتباعه من بعده ابنه بوداس المعروف باسم مكابي (1). وكان بوداس هذا رجل حرب أوتي من الشجاعة ما أوتي من التقوى. وكان من عادته قبل أن يخوض أية معركة أن يصلي كما يصلي الأولياء المطهرون، حتى إذا خاض غمارها "كان كالأسد في سورته". وكان جيشه الصغير "يعيش في الجبال كما تعيش الوحوش، ويقتات بالأعشاب". ثم ينقض من حين إلى حين على إحدى القرى المجاورة ويقتل المارقين ويهدم مذابح الوثنيين و "إذا وجدوا أطفالاً لم يختتنوا أجروا لهم عملية الاختتان بشجاعة (25) ". ونقلت هذه الأنباء إلى أنتيوخوس فسير عليهم جيشاً من السوريين اليونان وأمره أن يهدم حصن المكابيين. والتقى بهم بوداس في ممر إموس Emmaus وانتصر عليهم نصراً مؤزراً (166)، مع أن اليونان كانوا من الجنود المرتزقة المدربين أحسن تدريب والمسلحين أتم تسليح، بينما كانت فرقة بوداس يعوزها الكثير من السلاح والثياب. وسير أنتيوخوس عليهم قوة أخرى أكبر من القوة السابقة بلغ من ثقة قائدها بالنصر أن جاء معه بالنخاسين ليبتاعوا من كان ينتظر أسرهم من اليهود، ووضع في المدن لوحات بما يطلب فيهم من الأثمان (26). وهزم بوداس هذا الجيش في مزباح، وكانت الهزيمة حاسمة سقطت على إثرها أورشليم في قبضته دون مقاومة؛ فلما دخلها أخرج ما كان في الهيكل من مذابح وزينات وثنية وطهره ودشنه من جديد، وأعاد الصلوات القديمة إلى سابق عهدها وسط مظاهر الابتهاج من اليهود العائدين المستمسكين بالدين (2) (164).
_________
(1) يفسر هذا اللفظ عادة "بالمطرقة" وإن كان هذا التفسير غير موثوق بصحته.
(2) لا تزال ذكرى هذا المولد الجديد من الأعياد التي يحتفل بها في كل بيت يهودي تقريباً.(8/58)
ولما تقدم ليسياس Lysias نائب الملك بجيش جديد ليسترد به العاصمة، شاع بين الجند أن أنتيوخوس قد مات-وكانت هذه الشائعة صادقة في هذه المرة (163). وأراد ليسياس أن يكون حراً في العمل في غير هذا الميدان فعرض على اليهود أن يترك لهم حريتهم الدينية الكاملة إذا ما ألقوا السلاح؛ فرضي بذلك "المتقون" ورفضه المكابيون، وأعلن بوداس أن بلاد اليهود لا تأمن على نفسها من الاضطهاد إلا إذا نالت استقلالها السياسي والديني جميعاً. وسكر المكابيون بخمرة النصر فبدؤوا أنفسهم يضطهدون أعداءهم، وينتقمون من الحزب المشايع لليونان في أورشليم وفي المدن المجاورة للحدود (27). وفي عام 161 هزم بوداس نكانور Nicanor عند أداسا Adasa نفسه بأن عقد حلفاً مع رومة، ولكنه قُتل في تلك السنة نفسها وهو يحارب جيشاً أقوى من جيشه عند إلاسا Elasa. وواصل أخوه يوناثان الحرب بشجاعة عظيمة ولكنه قُتل هو الآخر عند عكا (143). ولم يبق بعدئذ من الأخوة الخمسة إلا سيمون، وقد استطاع بمعونة رومة أن ينال من دمتريوس الثاني في عام 142 اعترافاً باستقلال بلاد اليهود. وعين سيمون بمرسوم شعبي حاخاماً أكبر وقائداً عسكرياً، وإذ كان هذان المنصبان قد أصبحا وراثيين في هذه الأسرة فقد أضحى هو مؤسس الأسرة المالكة الهزمونية Hasmonean، وعدت أول سني حكمه بداية التاريخ الجديد، وصدرت عملة تعلن مولد الدولة اليهودية الجديدة.(8/59)
الباب الخامس والعِشرون
مصر والغرب
الفصل الأوّل
سجل الملوك
كانت أصغر أجزاء تركة الإسكندر وأغناها من نصيب قواده وأعظمهم حكمة. وقد برهن بطليموس بن لاجوس على ولائه العظيم للملك المتوفي-ولعله أراد أن يدعم سلطانه بهذا الولاء-بأن نقل جثته إلى منفيس وأمر أن تودع تابوتاً من الذهب (1) وجاء معه أيضاً بتاييس Thais التي كانت عشيقة الإسكندر في بعض الأوقات، وتزوجها ورزق منها بولدين. وقد كان بطليموس هذا جندياً بسيطاً، صريحاً، خشن الطباع، قادراً على الإحساس الكريم والتفكير الواقعي. وبينما كان غيره من ورثة ملك الإسكندر يقضون نصف حياتهم في الحروب، ويحلمون بأن تكون لكل منهم دون غيره السيادة على هذا الملك، بذل بطليموس جهوده كلها في تدعيم مركزه في البلد الأجنبي الذي كان من نصيبه، وفي ترقية زراعته وتجارته وصناعته. وأنشأ لذلك أسطولاً عظيماً وأمن مصر من الغزو البحري كما أمنتها الطبيعة من الغزو البري، وجعلتها من هذه الناحية أمنع من عقاب الجو. وساعد رودس وعصب المدن المتحالفة على الاستقلال عن مقدونية، ومن أجل هذا سمي "سوتر Soter "؛ ولم يلقب نفسه ملكاً إلا بعد ثمانية عشر عاماً من العمل الشاق دعم في خلالها
_________
(1) وقد أمر بطليموس فلدلفس أن ينقل التابوت إلى الإسكندرية، وأذاب بطليموس هذا الذهب لينتفع به وعرض جثة الإسكندر في تابوت من الزجاج.(8/60)
حياة مملكته الجديدة من النواحي السياسية والاقتصادية، وأقامها على نظام ثابت متين (305). وكانت نتيجة جهود خلفه أن بسطت مصر حكمها على قورينة، وكريت، وجزائر سكلديز، وقبرص، وعلى سوريا، وفلسطين، وفينيقية وساموس، ولسبوس، وسمثريس، والهلسبنت. وقد وجد في شيخوخته متسعاً من الوقت يكتب فيه شروحاً وتعليقات صادقة صدقاً مدهشاً على حروبه، وأن ينشئ حوالي عام 290 دار العاديات والمكتبة اللتين قامت عليهما شهرة الإسكندرية. ولما بلغ الثانية والثمانين من عمره وأحس بضعف الشيخوخة أجلس ابنه الثاني بطليموس فلدلفس مكانه على العرش وأسلمه زمام الحكم، واتخذ مكانه كأحد الرعايا في بلاط الملك الشاب. ومات بعد عامين من ذلك الوقت.
وكان وادي النيل الخصيب وداله قد ملأ خزائن الملك بالمال. وحسبنا دليلاً على هذا أن بطليموس الأول حين أراد أن يولم وليمة لأصدقائه اضطر إلى أن يقترض آنيتهم الفضية وطنافسهم، أما بطليموس الثاني فقد أنفق في آخر حفلات تتويجه ما قيمته 2. 500. 000 ريال أمريكي (2). واعتنق الملك المصري الجديد فلسفة قورينة واعتزم أن يستمتع بكل ما تتيحه له الساعة التي هو فيها من لذة. فكان يتخم معدته بشهي الطعام، وجرب كثيراً من العشيقات، وأقصى عنه زوجته، وتزوج آخر الأمر باخته أرسينوئي (3) Arsinoe. وحكمت الملكة الجديدة الإمبراطورية وصرفت شؤونها الحربية بينما كان بطليموس الثاني يحكم بين طهاته وعلماء بلاطه. وحذا حذو أبيه وزاد عليه بأن استقدم إلى الإسكندرية مشهوري الشعراء، والعلماء، والنقاد، والمتبحرين في العلوم الطبيعية والفلسفة، والفنانين، واستضافهم عنده؛ وزين عاصمته بالمباني الفخمة على الطراز اليوناني حتى صارت الإسكندرية في أثناء حكمه الطويل عاصمة بلاد البحر الأبيض المتوسط الأدبية والعلمية، وازدهرت آدابها ازدهاراً لم ترَ مثله مرة(8/61)
أخرى. لكن فلدلفس لم يكن مع هذا كله سعيداً في شيخوخته. فقد اشتد عليه داء النقرس، وزادت متاعبه بازدياد ثروته وسلطانه. وأطل مرة من نافذة قصره فأبصر متسولاً يرقد مستريحاً في الشمس على كثبان الميناء الرملية، فحسد الرجل على نعمته وقال متحسراً: "وا أسفاه! ليتني ولدت واحداً من هؤلاء (4)! ". وساوره خوف الموت، فطلب إلى الكهنة المصرين أن يدلوه على إكسير الخلود السحري (5).
ووسع المتحف والمكتبة وأنفق عليهما من المال ما جعل المؤرخين الذين جاءوا بعده يقولون إنه هو الذي أنشأهما. وكان دمتريوس فليرم قد لجأ إلى مصر في عام 307 بعد أن طرد من أثينة، فإذا نحن نجده بعد عشر سنين من ذلك الوقت في بلاط بطليموس الأول؛ ويلوح أنه هو الذي أوحى إلى بطليموس سوتر أن عاصمة ملكه وأسرته تذيع شهرتهما إذا أنشأ متحفاً (أي بيتاً لربات الفنون والعلوم Muses (1)) يضارع جامعات أثينة. وأكبر الظن أن دمتريوس قد ألهم نشاط أرسطو في جميع الكتب، وضروب المعرفة، وأنواع الحيوان، والنبات، ودساتير الحكم، وتصنيف ما جمعه منها، فأشار على ما يظهر بأن تقام طائفة من المباني لا تتسع لإيواء مجموعة عظيمة من الكتب فحسب، بل تتسع فوق ذلك لإيواء العلماء الذين يقضون حياتهم في البحث العلمي. واقتنع بطليموس الأول والثاني بهذه الفكرة، فأمداه بالمال، وقامت الجامعة الجديدة على مهل بالقرب من القصور الملكية. وكانت تحتوي على ردهة عامة يلوح أن العلماء كانوا يتناولون فيها الطعام، وقاعة للمحاضرات، وبهواً، ورواقاً، وحديقة، ومرصداً فلكياً، والمكتبة الكبرى. وكان رئيس هذا المعهد كله من الناحية الرسمية كاهناً دينياً، كان مخصصاً لإلهات الفن بوصفها
_________
(1) هذا هو المعنى الحرفي للفظ Museum ( المترجم)(8/62)
معبودات بحق. وكان يعيش في المتحف أربع طوائف من العلماء: فلكيين، وكتاب، وعلماء في الطبيعة، وأطباء. وكان هؤلاء كلهم من اليونان، وكانوا جميعاً يتقاضون مرتبات من الخزانة الملكية. ولم يكن مهمتهم أن يعلموا الطلاب، بل أن يتوفروا على البحوث والدراسات وإجراء التجارب. ولما تضاعف عدد الطلاب في المتحف في العقود التالية، قام أعضاؤه بإلقاء المحاضرات، ولكنه بقي إلى آخر أيامه معهداً للدراسات الراقية أكثر مما كان جامعة للطلاب. ومبلغ علمنا أنه كان أول مؤسسة أقامتها دولة للعمل على تقدم الآداب والعلوم، وكانت أهم ما أفاده تاريخ الحضارة من البطالمة ومن الإسكندرية.
ومات بطليموس فلدلفس عام 246 بعد حكم طويل قام فيه بكثير من جلائل الأعمال. وكان بطليموس الثالث أورجيتيس Euergetes ( المحسن) ملكاً من طراز تحتمس الثالث يبغي فتح بلاد الشرق الأدنى. فبدأ بالاستيلاء على سرديس وبابل، ثم واصل زحفه حتى بلغ بلاد الهند، وزعزع كيان الإمبراطورية السلوقية حتى انهارت حين مستها جيوش رومة. ولسنا نريد أن نتتبع حادثات حروبه، لأنها، وإن كانت في تفاصيلها أشبه الأشياء بالرواية التمثيلية، كانت في أسبابها ونتائجها موحشة لا حد لوحشتها؛ وإن تاريخ الحروب إذا قُص أصبح تابعاً ذليلاً لتقلبات القوة والسلطان تلغي فيها الانتصارات والهزائم بعضها بعضاً فتجعله تاريخاً أجوف لا قيمة له. وحسبنا أن نقول إن برنيس Berenice زوجة أورجيتيس الشابة عبرت عن شكرها لانتصاراته بأن وهبت خصلة من شعرها للآلهة؛ وتغنى الشعراء بهذه القصة، ورفع الفلكيون عقيرتهم بها إلى السماء فسموا إحدى المجموعات النجمية باسم كوما برنيسيز Coma Berenices أي شعر برنيس.
وكان بطليموس الرابع فلوباتر يحب أباه حباً حمله على أن يحذو حذوه في(8/63)
حروبهِ وانتصاراتهِ. ولكنه أحرز النصر على أنتيوخوس الثالث في رافيا (217) باستخدام جيوش مصرية، وكانت هذه أول مرة استخدم فيها البطالمة هؤلاء الجنود؛ فلما أن تسلح المصريون على هذا النحو وشعروا بقوتهم بدءوا يقوضون سلطان اليونان في وادي النيل. وانغمس فلوباتر في اللهو، وقضى كثيراً من الوقت في قارب نزهته، وأدخل عيد البكاناليا في مصر، وكاد يُقنع نفسه بأنه من نسل ديونيشس. وقد حدث في عام 205 أن قتلت عشيقته زوجته، ولم يلبث فلوباتر نفسه أن اختفى هو الآخر من التاريخ. وأعقبت موته فترة من الفوضى أوشك فيها فليب الخامس المقدوني وأنتيوخوس الثالث السلوقي أن يمزقا أوصال مصر ويضماها إلى بلادهما، ولكن رومة التي عقد معها بطليموس الثاني معاهدة صداقة-تدخلت في الأمر وهزمت فليب، وأرغمت أنتيوخوس على أن يعجل بالعودة إلى بلاده وبسطت حمايتها على مصر (205).(8/64)
الفصل الثاني
الاشتراكية في عهد البطالمة
إن أهم ما يعنينا في مصر البطالمة هو تجربتها الواسعة في الاشتراكية الدولية. لقد كانت ملكية الأرض من زمن بيد عادة مقدسة في مصر، وكان لفرعون، بوصفهِ ملكاً وإلهاً، حق كامل على الأرض وعلى كل ما تنتجه. ولم يكن الفلاح عبداً، ولكنه لم يكن يستطيع أن يترك مكانه إلا بإذن الحكومة، وكان يُطلب إليه أن يورد الجزء الأكبر من محصوله إلى الدولة (6). وأبقى البطالمة على هذا النظام ووسعوا نطاقه باستيلائهم على الأراضي الواسعة التي كانت في عهد الأسر الحاكمة السابقة ملكاً للأعيان المصريين أو للكهنة. وكانت هيئة بيروقراطية كبيرة من الموظفين الحكوميين، يؤيدها حراس مسلحون، تدير شؤون أرض مصر كلها كأنها مزرعة حكومية ضخمة (7). وكان هؤلاء الموظفون يعينون لكل زارع تقريباً قطعة الأرض التي ينبغي له أن يزرعها، والمحصولات التي يجب أن ينتجها؛ وكان في وسع الدولة أن تجنده هو ودوابه للعمل في المناجم، وإقامة المباني العامة، والصيد، وشق قنوات الري، وإنشاء الطرق. وكانت محصولاته تكال بمكاييل حكومية؛ ويدون الكتبة مقدارها، وتُدرس في أجران الملك، ويحملها الفلاحون أنفسهم إلى مخازن الملك (8). وكان يُستثنى من هذا النظام بعض حالات: فقد كان البطالمة يجيزون للفلاح أن يمتلك بيته وحديقته، ويجيزون الملكية الخاصة في الحواضر، ويؤجرون قطعاً من الأرض للجنود يكافئونهم بها على ما قدموا للدولة من خدمات. ولكن هذه الأراضي المستأجرة كانت مقصورة في العادة على المساحات التي يوافق صاحبها على أن يخصصها للكروم، أو البساتين، أو أشجار الزيتون؛ ولم يكن(8/65)
يُسمح له أن يورثها أبناءه أو أن يوصي بها لمن يشاء؛ وكان للملك أن يلغي حق الإيجار متى أراد. ولما تحسنت حال هذه الأرض التي يشترك في ملكيتها الفرد والدولة بفضل جهود اليونان ومهارتهم، بدأ أصحابها يطالبون بأن يكون لهم حق توريثها أبناءهم. وكان العرف لا القانون يجيز هذا التوريث في القرن الثاني، ثم أعترف به القانون في القرن الأول قبل الميلاد (9)، وتم بذلك التطور المألوف من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة.
وما من شك في أن تطور هذا النظام الاشتراكي الحكومي، قد حدث لأن أحوال الزراعة في مصر كانت تتطلب من التعاون ووحدة العمل في الزمان والمكان أكثر مما تستطيع أن تهيئه الملكية الفردية، وأن مقدار ما يزرع من الغلات ونوعها يقفان على مقدار الفيضان السنوي، وكفاية نظام الري والصرف، وهذه كلها مسائل تتطلب أن تشرف عليها هيئة مركزية. وقد عمل المهندسون اليونان الذين استخدمتهم الحكومة على تحسين الأساليب القديمة، واستخدموا في زراعة الأرض وسائل أكثر انطباقاً على العلم وعلى الإنتاج الضيق الوفير، فاستبدل بالشادوف "الناعورة" أو "الساقية"، وهي عجلة كبيرة يبلغ طول قطرها أحياناً أربعين قدماً تعلق عليها دلاء غير مشدودة على حافتها الخارجية (1). فإذا وصل الدلو إلى أعلى مكان في العجلة أثناء دورتها مال على قضيب وأفرغ ما فيه من الماء في حوض. وخير من هذه الآلة "لولب أركميديز (2) " ومضخة تسبيوس (3) وهما يرفعان الماء بسرعة لم تكن معروفة قبل عصر البطالمة. وبفضل تركيز الإدارة الاقتصادية في يد الحكومة ونظام السخرة أمكن إقامة المنشآت العامة للتحكم في فيضان النيل، وإنشاء الطرق،
_________
(1) في الأصل الإنجليزي الداخلية ولكن ما أثبتناه هنا هو الصحيح ولا تزال هذه الآلة مستعملة في ريف مصر إلى الآن. (المترجم)
(2) هذا هو المعروف عندنا بالطنبور.
(3) انظر الباب السابع والعشرين.(8/66)
وشق قنوات الري، وتشييد المباني، وتمهيد السبيل للأعمال الهندسية الكبرى التي تمت في أيام الحكم الروماني. وقد جفف بطليموس الثاني بحيرة موريس وحول قاعها إلى مساحة واسعة من الأرض الخصبة وزعها على جنوده، وشرع في عام 258 يعيد فتح القناة التي تصل النيل بالقرب من عين شمس بالبحر الأحمر قرب السويس (11). وكان نخاو ودارا قد حفرا هذه القناة من قبل، ولكن الرمال في كلتا الحالتين طمرها، كما طمرت قناة بطليموس بعد مائة عام من شقها.
وسارت الصناعة وسط ظروف مماثلة لهذه الظروف، فلم تكن الحكومة تمتلك المناجم فحسب، بل كانت تديرها بنفسها أو تستولي على ما يخرج من المعادن (12). واستغل البطالمة رواسب الذهب الغنية في بلاد النوبة، وكانت لهم عملة ذهبية مستقرة؛ وكانوا يسيطرون على مناجم النحاس في قبرص وطورسيناء، ويحتكرون صناعة الزيت-ولم يكونوا يستخرجونه من الأرض، بل كانوا يعصرونه من النبات كبذور الكتان وحب الملوك (الكروتن)، والسمسم؛ وكانت الحكومة تحدد في كل عام مقدار ما يُزرع من الأرض بهذه النباتات، وتستولي على المحصول بالثمن الذي تحدده له؛ وتصر الزيت في مصانع تمتلكها الدولة بعصَّارات من كتل الخشب الضخمة يحركها أقنان الأرض، ثم تبيع الزيت إلى تجار التجزئة بالثمن الذي تريده هي، وتمنع المنافسة الأجنبية بالضرائب الجمركية العالية؛ وكانت أرباحها من هذه العملية تتراوح بين سبعين وثلاثمائة في المائة (13). ويلوح أن الحكومة كانت تجني أرباحاً مماثلة لهذا الربح من الملح، والنطرون (كربونات الصودا المستخدمة في صنع الصابون)، والبخور، والبردي، والمنسوجات. وكانت في البلاد مصانع للنسيج يمتلكها الأفراد، ولكنها كانت تضطر إلى بيع كل ما تنتجه إلى الحكومة (14). أما الصناعات الصغرى فقد تُركت للأفراد، وكانت الدولة تكتفي بالتصريح بها(8/67)
ومراقبتها، وابتياع جزء كبير من منتجاتها بالثمن الذي تحدده لها، وفرض ضريبة طيبة على أرباحها تُجبى لخزانتها. وكانت الصناعات اليدوية تقوم بها هيئات من العمال يتوارث أعضاؤها صناعاتهم بحكم التقاليد المرعية، وكانوا بحكم هذه التقاليد نفسها مرتبطين بقراهم ومنازلهم أيضاً (15). وكانت الصناعة متقدمة، فكانت العربات، وقطع الأثاث، والفخار، والأبسطة، ومواد التجميل تُصنع بكميات كبيرة؛ وكان صنع الزجاج ونسيج التيل من الصناعات التي اختصت بها الإسكندرية. وكانت الاختراعات أكثر تقدماً في مصر في عصر البطالمة منها في أي عصر آخر قبل رومة الإمبراطورية. وكانت الأدوات اللولبية والتروس، وطارات السيور، والضاغطات اللولبية، كانت هذه كلها معروفة مستعملة (16)؛ وتقدمت كيمياء الصباغة إلى حد استطاعوا معه أن يعالجوا الأقمشة بالقواعد الكيميائية المختلفة بحيث إذا غُمر القماش في صبغة واحدة نتج عن ذلك عدد من الألوان الثابتة (17). وكانت مصانع الإسكندرية يديرها العبيد عادة، وكانت نفقاتهم القليلة تمكن البطالمة من أن يبيعوا منتجاتها في الأسواق الأجنبية بأقل مما تُباع به المصنوعات اليدوية اليونانية (18).
وكانت الحكومة تشرف على التجارة بأجمعها وتنظم شؤونها، فكان بائعو الأشتات عادة وكلاء معينين من قبل الدولة لتوزيع بضائع الدولة (19)، وكانت الدولة تمتلك جميع طرق القوافل والطرق المالية. وقد أدخل بطليموس الثاني الجمل في مصر وأقام مخفراً من راكبي الجمال في جنوب القطر؛ يتولى نقل المخابرات الحكومية دون غيرها؛ ولكن هذه المخابرات كانت تشمل الرسائل التجارية كلها تقريباً. وكان نهر النيل غاصاً بسفن الركاب والبضائع، ويبدو أن هذه السفن كانت ملكاً للأفراد وخاضعة لأنظمة الدولة (20). وقد أنشأ البطالمة لتجارة البحر الأبيض المتوسط أعظم أسطول تجاري في ذلك الوقت، وكانت حمولة السفينة الواحدة من سفنه تبلغ ثلاثمائة طن (21). وكانت مخازن(8/68)
الإسكندرية تستهوي التجارة العالمية، وكان مرفأها المزدوج مما تحسدها عليه سائر المدن، كما كانت منارتها من عجائب الدنيا السبع (1). وكانت حقول مصر ومصانعها كبيرة وصغيرة تنتج قدراً كبيراً من الغلات الزائدة على حاجة البلاد تباع في الأسواق النائية التي تصل إلى الصين شرقاً، وإلى أواسط إفريقية جنوباً، وإلى الروسيا والجزائر البريطانية شمالاً. وقد سار الرواد المصريون جنوباً حتى بلغوا زنجبار وبلاد السومال ونقلوا إلى العالم أخبار سكان الكهوف الذين يعيشون على سواحل إفريقية الشرقية ويقتاتون بالأطعمة البحرية، والنعام، والجزر، وجذور النبات (24). واستطاعت السفن المصرية أن تقضي على سيطرة العرب على تجارة الهند مع بلاد الشرق الأدنى بسيرها من النيل إلى الهند مباشرة، وأضحت الإسكندرية بتشجيع البطالمة وحكمتهم أهم الثغور التي يُعاد منها شحن البضائع المرسلة إلى أسواق بلاد البحر المتوسط.
وكان مما زاد في سرعة نماء التجارة والصناعة وازدهارهما ما قدمته المصارف المالية من تسهيلات عظيمة. لقد بقي في مصر حتى ذلك الوقت قدر من المقايضة ورثته البلاد من العهود القديمة؛ وكانت الحبوب المحفوظة في المخازن الملكية بمثابة رصيد احتياطي للمصارف؛ ولكن إيداع الحبوب وسحبها، وتحويلها من يد إلى يد كان في الاستطاعة إتمامها على الورق بدل إجراء هذه العمليات
_________
(1) ويقول سستراتس النيدي Sostratus of Cnidus إن الذي أقامها هو بطليموس الثاني وإنه أنفق في تشييدها ثمانمائة وزنة (نحو 2. 400. 000 ريال أمريكي (22". وكانت تعلو بدرج متراجعة إلى ارتفاع أربعمائة قدم، ويغطيها الرخام الأبيض وتزينها تماثيل من الرخام والبرونز. وقد وضع فوق القبة المقامة على الأعمدة والتي كانت تحمل الضوء تمثال لبسيدن يبلغ ارتفاعه إحدى وعشرين قدماً. وكان هذا الضوء ينبعث من نار وقودها خشب راتنجي؛ والراجح أن مرايا محدبة كانت تعكسه بحيث يُرى على بعد ثمانية وثلاثين ميلاً (23) وقد تم بناء المنارة في عام 279 ق. م وهُدمت في القرن الثالث عشر الميلادي. ومحل جزيرة فاروس التي كانت مقامة عليها هو الآن حي رأس التين بالإسكندرية. أما موضع المنارة نفسه فقد غمره ماء البحر.(8/69)
بالفعل (25). وقد قام إلى جانب هذه المقايضة المعدلة نظام اقتصادي نقدي معقد. وكانت الحكومة تحتكر لنفسها إنشاء المصارف، ولكن كان في وسعها أن تنيب عنها في أعمالها شركات خاصة (26). وكانت الحسابات تُدفع بتحاويل مما لأصحابها في المصارف من أرصدة؛ وكانت المصارف تقرض المال بالربا، وتسدد حسابات الخزائن الملكية. وقصارى القول أننا لا نعرف في التاريخ كله عهداً بلغت فيهِ الزراعة، والصناعة والتجارة، والمالية، ما بلغته كلها في هذا العهد من ثراء، ووحدة، ونماء خالٍ من العاطفة الإنسانية.
وكان المشرفون على هذا النظام ومنفذوه هم اليونان الأحرار المقيمون في العاصمة. وكان على رأسهم كلهم فرعون-الملك-الإله. وكان بطليموس في نظر سكان بلاد اليونان منقذاً Soter، أو محسناً Euergetes بحق، فقد وهبهم مائة ألف منصب حكومي وأتاح لهم فرصاً اقتصادية لا حد لها، ويسر لهم سبل الحياة العقلية تيسيراً لا عهد لهم به من قبل، وأوجد لهم بلاطاً كان مصدر الحياة الاجتماعية المترفة ومركزها. ولم يكن الملك نفسه ملكاً مستبداً لا يُسئل عما يفعل؛ فقد اجتمعت التقاليد المصرية والشرائع اليونانية على إقامة نظام تشريعي أخذت بعضه عن القانون الأثيني وحسنت فيه من جميع نواحيه ما عدا ناحية الحرية. وكان لأوامر الملك قوة القانون بأكملها؛ ولكن المدن كانت تستمتع بقسط كبير من الحكم الذاتي، وكانت الجماعات المصرية، واليونانية، واليهودية، تخضع كل منها لشرائعها الخاصة، وتختار قضاتها، وتحاكم أمام محاكمها (27). وفي تورين بردية سُجلت فيها إحدى قضايا الإسكندرية، وقد حُدد فيها موضوع النزاع تحديداً دقيقاً، وعُرضت فيها الأدلة بعناية فائقة، ولُخصت السوابق، ثم صدر الحكم بالنزاهة المطلوبة من القضاة. وثم برديات أخرى سُجلت فيها وصايا أهل الإسكندرية وهي تزيح الستار عن قدم الصيغ(8/70)
والعبارات القانونية: "هذه هي وصية بيزياس Peisias اللوشياني ابن س، الكامل العقل، الحر الاختيار (28) ".
وكانت حكومة البطالمة أقدر الحكومات وأحسنها نظاماً في العالم الهلنستي، وقد أخذت شكلها القومي المركزي عن مصر وفارس، واستقلال مدنها بشؤونها الخاصة عن بلاد اليونان، ثم أخذتهما عنا رومة. وقد قسمت البلاد إلى أقاليم، يدير كلاً منا موظفون يعينهم الملك، وكانوا كلهم تقريباً من اليونان. وقد أغفل البطالمة ما كان يعتزمه الإسكندر من جعل اليونان والشرقيين أو المصريين يعيشون ويختلطون على قدم المساواة بعد أن تبين لهم أن هذه الفكرة غير اقتصادية، وأصبح وادي النيل في ظاهر الأمر وباطنه يُحكم كما تُحكم البلاد المفتوحة، فقد أدخل المشرفون اليونان على حياة مصر الاقتصادية كثيراً من الرقي في النواحي الفنية وإدارية، وزادوا ثروة البلاد من الناحية الاقتصادية، ولكنهم استولوا على ما زاد من هذه الثروة. ورفعت الدولة أثمان الغلات التي كانت تسيطر عليها، ومنعت المنافسة الأجنبية بفرض الضرائب الجمركية العالية، فكان ما يباع من زيت الزيتون بإحدى وعشرين درخمة في ديلوس يباع باثنتين وخمسين في الإسكندرية. وكانت الحكومة في كل مكان في البلاد تجبي الضرائب وإيجار الأرض، والرسوم الجمركية، وعوائد المرور على الطرق، وتستولي من الناس أحياناً على جهودهم وحياتهم نفسها. وكان الفلاح يؤدي للدولة أجراً على امتلاك الماشية، وعلى ما يقدمه لها من علف، وعلى الإذن له برعيها في أرض الكلأ العامة. وكان ملاك الحدائق، والكروم، والبساتين، من الأفراد يؤدون للدولة سدس منتجاتها (في أيام بطليموس الثاني نصف هذه المنتجات (29". وكان الأهلون كلهم، ما عدا الجنود، ورجال الدين، وموظفي الحكومة، يؤدون فرضة الرؤوس. وكانت الضرائب مفروضة على الملح، والمحررات الرسمية، والمواريث. وكانت تُفرض على الإيجارات ضريبة قدرها خمسة في المائة منها، وعلى المبيعات عشرة(8/71)
في المائة من أثمانها، وخمسة وعشرون في المائة على الأسماك المصيدة في المياه المصرية، وعوائد على البضائع التي تُنقل من القرى أو المدن أو تُنقل بطريق النيل. وكانت رسوم عالية تُفرض في الثغور المصرية على جميع الصادرات والواردات؛ وكانت ضرائب خاصة تُفرض للإنفاق على الأسطول والمنارة البحرية، وللترفيه عن أطباء البلديات ورجال الشرطة، ولشراء تاج من الذهب لكل ملك جديد (30). وقصارى القول أن الدولة لم تكن تترك شيئاً يسمنها إلا فرضت عليهِ ضريبة. وقد احتفظت الدولة بجيش من الكتبة، وبنظام واسع من التسجيل للأشخاص والاملاك، لتستطيع بهما إحصاء جميع الحاصلات والإيرادات والعمليات المالية والتجارية التي يصح فرض الضرائب عليها. أما جباية هذه الضرائب فقد كانت تُعهد إلى جماعة من الأخصائيين، تراقب هي أعمالهم، وتجعل أملاكهم ضماناً تحت يدها حتى يؤدوا لها حقها. والراجح أن مجموع إيرادات البطالمة نقداً وعيناً كان أكبر ما جمعته دولة من الدول في الفترة المحصورة بين سقوط دولة الفرس وعظمة رومة.(8/72)
الفصل الثالث
الإسكندرية
وكان الجزء الأكبر من هذه الثروة يُرد إلى الإسكندرية، وكانت عواصم الأقاليم وقلة من المدن الأخرى تستمتع أيضاً بالرخاء، فكانت أرضها مرصوفة وشوارعها مضاءة، وكانت لها شرطة تحمي أهلها، وكانت تُمد بالماء النقي؛ ولكن الإسكندرية بنوع خاص كانت تستمتع بنظام "حديث" لم يعهد له مثيل من قبل. ويصفها استرابون في القرن الأول بعد الميلاد فيقول إنها كانت تبلغ أكثر من ثلاثة أميال في الطول وميلاً في العرض؛ ويقدر بلني طول أسوارها بخمسة عشر ميلاً (31). وقد اختط المدينة دنقراطس المهندس الرودسي، وسستراتس النيدي على شكل مستطيل في وسطه شارع رئيسي يبلغ عرضه مائة قدم يخترقها من الشرق إلى الغرب، ويقطعه شارع آخر في مثل عرضه من الجنوب إلى الشمال. وكان هذان الشارعان الرئيسيان، وأكبر الظن أن شوارع غيرهما، يُضاءان ليلاً وتظللهما أميال من العمد. وكان الشريانان الرئيسيان السابق ذكرهما يقسمان المدينة أربعة أحياء، أبعدها نحو الغرب حي ركوتس Rhacotis وكانت كثرة سكانه من المصريين؛ وكان الحي الشمالي الشرقي حي اليهود، والجنوب الشرقي أو البركيوم Brucheum يحتوي على القصر الملكي، والمتحف والمكتبة، ومقابر البطالمة، وضريح الإسكندر، ودار الصنعة البحرية، وأهم الهياكل اليونانية، وكثير من الحدائق الفسيحة. وكان لإحدى هذه الحدائق مدخل تبلغ مساحته ستمائة قدم. وكانت حديقة أخرى تحتوي على مجموعة الحيوانات الملكية. وكان في وسط المدينة مباني الإدارات والمخازن الحكومية، والمحكمة، ومدرسة الألعاب الرياضية، وألف حانوت وسوق.(8/73)
وكان في خارج الأبواب الكبرى ملعب رياضي، وميدان للسباق، ومدرج، ومقبرة عظيمة تُعرف بمدينة الموتى ( Necropolis) (32) . وكانت تمتد على طول شاطئ البحر مقاصير للاستحمام والاصطياف. وكان يصل المدينة بجزيرة فاروس جسر أو حاجز يُسمى الهبتستديوم Heptastadium لأن طوله كان يبلغ سبعة استديومات (1)، وكان المرفأ مرفأين. وكانت تقع خلف المدينة بحيرة مريوط، وتستخدم مرافئ ومخارج للسفن النيلية. وفي هذه البحيرة كان البطالمة يحتفظون بقوارب التنزه، ويقضون ساعات الراحة من عناء الأعمال (2).
وكان سكان الإسكندرية في عام 200 ق. م خليطاً من أجناس مختلفة كما هي حال سكان العواصم في هذه الأيام. وكانت عدتهم تتراوح بين أربعمائة ألف وخمسمائة ألف من المقدونيين، واليونان، والمصريين، واليهود، والفرس، وأهل الأناضول، والعرب، والزنوج (3). وزاد انتشار التجارة عدد أفراد الطبقة الوسطى-الدنيا وملأ العاصمة المختلطة السكان بطائفة نشيطة، وثرثارة، متشاحنة من أصحاب الحوانيت والتجار، لا تغفل لهم عين عن اقتناص أية فرصة لعقد الصفقات التجارية غير مراعين في ذلك شرفاً أو أمانة. وكان على رأس هذه الطوائف السالفة الذكر المقدونيين واليونان، يعيشون عيشة بلغت من الترف حداً أدهش السفراء الرومان الذين عينوا في بلاط ملوك مصر عام 273. ويذكر أثنيوس أصناف الأطعمة الشهية التي كانت تثقل موائد هؤلاء السادة ومعداتهم (34)،
_________
(1) الاستديوم مقياس يوناني يبلغ طوله 600 قدم يونانية أو 582 قدم إنجليزية.
(2) ولا يكاد يوجد الآن من الإسكندرية القديمة إلا عدد قليل من سراديب الموتى والأعمدة. وإذ كانت آثار هذه المدينة تحت الإسكندرية الحالية مباشرةً، فإن أعمال الحفر للكشف عنها تكون عظيمة النفقة. وأكبر الظن أن هذه الآثار قد هبطت إلى ما تحت مستوى ماء البحر، ولا شك في أن البحر الأبيض المتوسط قد غمر أجزاء من المدينة القديمة.
(3) وكان عدد سكان الإسكندرية في عام 1927 هو 570. 000.(8/74)
ويقول عنهم هروداس Herodas إن "الإسكندرية هي بيت أفرديتي، وإن الإنسان ليجد فيها كل شيء-ثروة، وملاعب، وجيشاً كبيراً، وسماء صافية، ومعارض عامة، وفلاسفة، ومعادن ثمينة، وشباناً ظرفاء، وبيتاً ملكياً طيباً، ومجمعاً للعلوم، وخمر لذيذة، ونساء حساناً (35) ". وكان شعراء الإسكندرية قد أخذوا يكشفون ما للعذارى من قيمة أدبية، وسرعان ما جعلهن كتابها القصصيون موضوعاً لكثير من قصصهم، كما جعلوا سقوطهن خاتمة تنتهي بها هذه القصص. غير أن المدينة قد اشتهرت في ذلك الوقت بسماحة نسائها وبكثرة ما فيها من فتيات المتعة، حتى لقد شكا بولبيوس من أن أجمل البيوت الخاصة في الإسكندرية تمتلكها العاهرات (36). وكانت النساء من مختلف الطبقات يسرن بكامل حريتهن في الشوارع، ويبتعن حوائجهن من الحوانيت، ويختلطن بالرجال. وكان منهن أديبات وعالمات مشهورات (37). وكانت الملكات المقدونيات وسيدات بلاطهن من أريسينوئي زوجة بطليموس الثاني إلى كليوبطرة يقمن بدور هام في الشؤون السياسية، ويقترفن جرائمهن خدمة للأغراض السياسية لا للحب، ولكنهن قد احتفظن بما يكفي من الجمال والفتنة لإثارة الرجال لأعمال من الشهامة والبطولة لا مثيل لها من قبل، في عالم الشعر والنثر على الأقل إن لم يكن في واقع الأمر، وقد أدخلن في مجتمعات الإسكندرية عنصراً من الظرف والرشاقة النسوية لم يكن معروفاً في بلاد اليونان أيام مجدها.
والراجح أن نحو خُمس سكان الإسكندرية كان وقتئذ من اليهود. ولقد كان في مصر منذ القرن السابع قبل الميلاد مواطن للعبرانيين، ثم قدم إليها كثيرون من تجار اليهود في أعقاب الفتح الفارسي؛ وكان الإسكندر قد حثهم على الهجرة إليها وعرض عليهم، كما يقول يوسفوس، أن يكن لهم ما لليونان من حقوق سياسية واقتصادية (38). وجاء بطليموس الأول بعد استيلائه على أورشليم بآلاف من الأسرى اليهود الذين أطلق خلفه سراحهم (39)، ثم دعا(8/75)
في الوقت نفسه كثيراً من أثرياء العبرانيين إلى الإقامة فيها ومزاولة الأعمال التجارية والمالية (40). ولم يكد يستهل القرن الأول الميلادي حتى بلغ عدد اليهود في مصر مليوناً من الأنفس (41)، يعيش عدد كبير منهم في حي اليهود من العاصمة. ولكنهم لم يكونوا مرغمين على الإقامة في هذا الحي، بل كان لهم مطلق الحرية في الإقامة في أي حي من أحيائها عدا البروكيوم Brucheum الذي كان مقصوراً على أسر الموظفين ومن يخدمونهم. وكانوا يختارون لأنفسهم مجلس كبرائهم، ويمارسون شعائر دينهم، وقد أقام أنياس Anias حاخامهم الأكبر في عام 169 هيكلاً عظيماً في ليونتبوليس Leontopolis إحدى ضواحي الإسكندرية، وخصص صديقه بطليموس السادس إيراد عين شمس للإنفاق على هذا الهيكل. وكان هذا الهيكل وأمثاله مدارس وأمكنة اجتماع كما كانت معابد دينية، ومن ثم أطلق عليها من يتكلمون اللغة اليونانية من اليهود اسم سيناجوجاي أي أمكنة الاجتماع. وإذ لم يكن في مصر من بين اليهود المصريين بعد الجيل الثاني أو الثالث إلا أقلية ضئيلة تعرف اللغة العبرية، فإن قراءة الشريعة كان يتلوها شرح لها باللغة اليونانية، ومن هذه الشروح والتطبيقات نشأت عادة قراءة المواعظ من نصوص مكتوبة، كما نشأت من هذه الشعيرة الدينية أولى أشكال القداس الكاثوليكي (42).
ونشأت من هذه الفوارق الدينية والعنصرية مضافة إلى المنافسات الاقتصادية حركة مناهضة للسامية في أواخر ذلك العصر. ذلك أن المصريين واليونان قد اعتادوا جميعاً وحدة الدين والدولة، ولم يكن يرضيهم استقلال اليهود الثقافي عن سائر أهل البلاد. يضاف إلى هذا أن منافسة الصانع ورجل الأعمال اليهودي كانت ثقيلة الوطأة عليهم، ولم يكونوا يُطيقون نشاطه وصبره وحذقه؛ ولما أن أخذت رومة تستورد الحبوب من مصر كان تجار الإسكندرية اليهود هم الذين ينقلون هذه البضاعة في أساطيلهم (42أ). وأدرك اليونان عجزهم عن صبغ(8/76)
اليهود بالصبغة الإغريقية، فأوجسوا خيفة على مستقبلهم في دولة تستمسك الكثرة الغالبة من أهلها بشرقيتها وتتكاثر بسرعة كبيرة. ونسي اليونان تشريع بركليز، فأخذوا يشكون من أن الشريعة اليهودية تحرم التزاوج بينهم وبين أهل الأديان الأخرى، ومن أن معظم اليهود لا يختلطون بغيرهم. وكثرت الكتب والرسائل المناهضة للسامية، ونشر مانيثون المؤرخ المصري القصة القائلة بأن اليهود قد أخرجوا من مصر من عدة قرون لأنهم أصيبوا بداء الخنازير أو الجذام (43)، واشتدت الأحقاد من كلا الجانبين حتى أدت في القرن الأول الميلادي إلى أعمال العنف المخربة.
وبذل اليهود غاية جهدهم لتخفيف حدة الغضب من عزلتهم الاجتماعية ونجاحهم في أعمالهم المالية والتجارية، فأخذوا يتكلمون اللغة اليونانية، وإن ظلوا متمسكين بدينهم، كما أخذوا يدرسون الآداب اليونانية ويكتبون فيها، ويترجمون كتبهم المقدسة وتواريخهم إلى اللغة اليونانية. ثم سعوا إلى تعريف اليونان بالتقاليد الديني اليهودية وتمكين اليهودي الذي لا يعرف العبرية من قراءة كتبه المقدسة، فقامت طائفة من علماء اليهود بالإسكندرية، في عهد بطليموس الثاني على الأرجح، تترجم التوراة العبرية إلى اللغة اليونانية. وسُر الملوك من ذلك العمل لأنهم كانوا يرجون أن تؤدي هذه الحركة إلى جعل يهود مصر أكثر استقلالاً عن أورشليم مما كانوا حتى ذلك الوقت، وأن يقل تسرب الأموال اليهودية-المصرية إلى فلسطين. وتقص إحدى القصص الخرافية كيف دعا بطليموس فلدلفس، عملاً بمشورة دمتريوس الفاليري، سبعين عالماً من علماء اليهود إلى المجيء من بلادهم في فلسطين في سنة 250، وكلفهم بترجمة كتبهم المقدسة، وكيف أسكن الملك كل واحد من هؤلاء العلماء في حجرة خاصة بجزيرة فاروس، ولم يسمح له بالاتصال بأحد من الناس حتى فرغ كل منهم من ترجمة أسفار موسى الخمسة؛ فلما فرغ السبعون من ترجماتهم وجدها تتفق(8/77)
بعضها مع بعض في كل كلمة، فدل ذلك على أن هذه النصوص موحى بها من عند الله، وأن المترجمين أنفسهم قد أوحيت الترجمة إليهم، وكيف نفح الملك هؤلاء العلماء بعطايا قيمة من الذهب. وتروي القصة في نهايتها أن الترجمة اليونانية للتوراة العبرية قد عُرفت لهذا السبب باسم-الشروح عن السبعين Hermeneia keata tous hebdomebkonta وباللاتينية ( Seniorum) Interpretatio Selpuaginta أو في كلمة واحدة "%=@وهذه القصة مرجعها خطاب يُقال أنه بخط كاتب يُدعى أرستياس Aristeas عاش في القرن الأول الميلادي. وقد أثبت هودي الأكسفردي Hody of Oxford في 1684 أن هذا الخطاب مزور. @ Septuagint". وأياً كانت طريق الترجمة فيبدو أن أسفار موسى الخمسة قد ظهرت باللغة اليونانية قبل نهاية القرن الثالث، وأن كتب الأنبياء قد ظهرت بهذه اللغة في القرن الثاني؛ وهذا هو الكتاب المقدس الذي استعان به فيلو وبولس الرسول.
وأخفقت عملية الأغرقة في مصر إخفاقاً تاماً مع المصريين واليهود على السواء؛ وكان سبب هذا الإخفاق أن المصريين في خارج الإسكندرية عضوا بالنواجذ على دينهم، وعلى لباسها أو عريهم، وعلى أساليبهم التي ورثوها من أقدم الأزمنة. يضاف إلى هذا أن اليونان كانوا يرون أنهم فاتحون وليسوا كغيرهم من الخلق؛ ولم يهتموا بإقامة مدن يونانية جنوب الوجه البحري أو بتعلم لغة المصريين، كما أن قوانينهم لم يكن تعترف بالزواج بين المصريين واليونان. وقد حاول بطليموس الأول أن يوحد الدينين اليوناني والمصري بقوله أن سرابس وزيوس إله واحد؛ وشجع من جاء بعده من البطالمة أهل البلاد على أن يتخذوهم آلهة يعبدونها لكي يقدموا بذلك للأهلين المختلفي الأجناس معبوداً مشتركاً لا يلقون صعوبة في عبادته. ولكن المصريين الذين لم تكن لهم مطامع في المناصب العامة لم يلقوا بالاً لهذه العبادات المصطنعة. وأما الكهنة(8/78)
المصريون الذين جُردوا من ثروتهم وسلطتهم، والذين كانوا يعيشون من الأموال التي تمنحهم إياهم الدولة، فقد ظلوا صابرين ينتظرون انحسار هذه الموجة اليونانية. ولم تكن الغلبة في الإسكندرية آخر الأمر للصبغة اليونانية، بل كانت للنزعة الصوفية. ووضعت في ذلك الوقت أسس الأفلاطونية الجديدة وذلك الخليط من الطقوس المليئة بالأماني، والتي كانت تتنازع فيما بينها للاستحواذ على نفوس أهل الإسكندرية في القرون التي أحاطت بميلاد المسيح. وأضحى أوزريس في صورة سرابس الإله المحبب لمصريين في ذلك العهد المتأخر من تاريخهم، وللكثيرين من اليونان المصريين، واستعادت إيزيس مكانتها بوصفها إلهة النساء والأمومة؛ ولما دخلت المسيحية البلاد لم يجد الكهنة أو الشعب ما يحول بينهم وبين أستبدال مريم بإيزيس أو المسيح بسرابيس.(8/79)
الفصل الرّابع
الفتنة
إن الدرس الذي نستفيده من نظام البطالمة الاشتراكي هو أن الحكومة نفسها قد تستغل الناس. نعم إن هذا النظام قد سار مستقيماً إلى حد معقول في أيام بطليموس الأول والثاني، فقد تمت في عهدهما مشروعات هندسية عظيمة، وتقدمت الزراعة، ونظمت عمليات البيع والشراء، ولم يفرط مفتشوا الحكومة في الظلم والمحاباة؛ ومع أن استغلال الحكومة للمواد والرجال كان استغلالاً كاملاً لا هوادة فيه فإن الجزء الأكبر مما عاد عليها من هذا الاستغلال قد استخدم في تزيين البلاد وفي إمداد الحياة الثقافية بما يلزمها من المال. ولكن البطالمة شنوا الحروب وأنفقوا مقداراً متزايداً من مكاسب الشعب على الجيوش والأساطيل والوقائع الحربية، وتدهورت طباع الملوك تدهوراً سريعاً بعد فلدلفس؛ فقد انهمكوا في ملاذ الأكل والطعام والنساء وتركوا أزمة الحكم في أيدي السفلة الذين ابتزوا كل درهم من الفقراء؛ ولم ينسَ المصريون قط أن هؤلاء المستغلين كانوا من الأجانب، ولم يغب ذلك عن عقول الكهنة الذين كانوا يحلمون بالحياة المترفة التي كانوا يستمتعون يها قبل سيادة الفرس واليونان.
وكان أهم ما يفهمه البطالمة من الاشتراكية أنها نظام للإنتاج الكثير لا للتوزيع الواسع النطاق. فقد كان الفلاح ينال من محصولهِ ما يكفي لحفظ حياته، ولكن لا يكفي لتشجيعه على عملهِ أو إعانته على تربية أسرته. وزاد مقدار ما تنزعه الحكومة منه جيلاً بعد جيل، ولم يعد الناس يُطيقون سيطرت الدولة على كل صغيرة وكبيرة كما لا يُطيق الأبناء متى كبروا الرقابة الدائمة التي يفرضها الأب المستبد عليهم. وكانت الدولة تُقرض الفلاح البذور ليزرع بها(8/80)
أرضه ولكنها كانت تقيده بالبقاء في الأرض حتى يجني المحصول، ولم يكن في وسع أي فلاح أن ينتفع بأي قدر من محصولهِ إلا بعد أن تؤدى ما عليه للدولة من التزامات وديون. ولقد كان هذا الفلاح صبوراً بطبعه. ولكنه رغم طبعه هذا بدأ يتذمر، فلم يكد يستهل القرن الثاني حتى بارت مساحات واسعة من الأرض لعدم وجود من يزرعها، ولم يجد مستأجروا أراضي الملك من يؤجرونها لهم ليزرعوها، فحاولوا أن يقوموا هم أنفسهم بزرعها، ولكنهم عجزوا عن ذلك العمل، فأخذت الصحراء تزحف شيئاً فشيئاً على الحضارة. وكان العبيد يعملون في مناجم الذهب ببلاد النوبة وهم عراة، في سراديب مظلمة ضيقة، وأجسامهم ملتوية، وهم مثقلون بالأغلال، يسوقهم الملاحظون إلى العمل بالسياط، طعامهم حقير لا يكاد يسد الرمق، وقد هلك آلاف منهم من سوء التغذية ومن فرط التعب، وكانت سلواهم الوحيدة في هذه الحياة هي الموت (47). وكان العامل العادي في المصانع يتقاضى أبلة واحدة (9 slash100 من الريال الأمريكي) في اليوم، أما الصانع الماهر فكان يتقاضى أبلتين أو ثلاث أبلات، ويستريح من العمل يوماً في كل عشرة أيام.
وعم الاستياء، وازدادت الشكاوى، وكثر الإضراب: إضراب بين عمال المناجم، والمحاجر، ورجال القوارب، والفلاحين، والصناع، والتجار، ثم تعداهم إلى الملاحظين ورجال الشرطة أنفسهم. ولم يكن الغرض من الإضراب زيادة الأجور، فإن الكادحين قد يئسوا من هذه الزيادة من زمن بعيد، بل كان الدافع إليه هو الإعياء واليأس. وتقول بردية تسجل إضراباً من هذا النوع: "لقد خارت قوانا، وسنفر من العمل" أي أنهم سيعتصمون بأحد الهياكل (48). وكان كل المستغلين تقريباً من اليونان، وكل الكادحين المستَغلين تقريباً من المصريين أو اليهود. وكان الكهنة يُثيرون مشاعر الأهلين خفية باسم الدين، على حين كان اليهود يُعارضون في كل عمل تقوم بهِ الحكومة لتخفيف الضغط عليهم أو على المصريين. ولجأت الحكومة في العاصمة إلى العطايا(8/81)
وأساليب التسلية لترشوا بها الجماهير، ولكنها لم تكن تسمح لهم بدخول الأحياء الملكية، وكانت تسلط عليهم قوة عسكرية كبيرة تراقبهم وتتجسس عليهم، ولم تكن تسمح لهم بنصيب ما في إدارة شؤونهم. وما لبثت هذه الجماهير أن أضحت في آخر الأمر جماعات من الغوغاء عنيفة لا تحس بأية تبعة (49). وثار المصريون في عام 216 ولكن الثورة أخمدت؛ ثم ثاروا مرة أخرى في عام 189 ودامت ثورتهم خمس سنين. وسيطر البطالمة على الموقف وقتاً ما بقوة جيشهم وبزيادة هباتهم للكهنة، ولكن الموقف كان قد تحرج إلى أقصى حدود التحرج، لأن موارد البلاد نضبت عن آخرها، حتى لقد أحس المستغلون أنفسهم أنه لم يبقَ فيها شيء يستغلونه.
وبدأ الانحلال يدب في كل شيء، فانتقل البطالمة من الرذائل الطبيعية إلى الرذائل غير الطبيعية، ومن الذكاء إلى الغباوة، وانطلقوا يتزوجون بلا قيد وبسرعة أفقدتهم احترام الشعب، وانغمسوا في الترف انغماساً أعجزهم عن إدارة دفة الحرب أو الحكم، وأفقدهم آخر الأمر القدرة على التفكير. وضعفت قدرة الأرض على الإنتاج عاماً بعد عام لخروج الناس على القانون، وقلة أمانتهم وعجزهم ويأسهم، ولانعدام المنافسة بينهم، ولضعف الهمم والدوافع التي تبعثها الملكية في النفوس. وذوى غصن الآداب، وقُضي على الفن المبدع الخلاق، فلم تكد تضيف الإسكندرية إليهما شيئاً بعد القرن الثالث؛ وفقد المصريون احترامهم لليونان؛ وفقد اليونان احترامهم لأنفسهم، إذا صح أن الإنسان قد يفقد احترامه لنفسهِ، فنسوا على مر السنين لغتهم، وأخذوا يتكلمون خليطاً فاسداً من اللغتين اليونانية والمصرية؛ وازداد عدد من يتزوجون منهم بأخواتهم زيادة مطردة، كما كان يفعل أهل البلاد، ومن يتزوجون من أسر مصرية، فامتصتهم البلاد واندمجوا في أهلها، وعبد الآلاف منه الآلهة المصرية. وما وافى القرن الثاني حتى لم يعد اليونان هم الشعب المسيطر حتى من الوجهة السياسية؛ ذلك أن البطالمة اعتنقوا دين المصريين(8/82)
واتبعوا طقوسهم ليحافظوا بهذا على سلطانهم، وزادوا لهذا السبب عينه من سلطة الكهنة. ولما انغمس الملوك في الترف والملاذ بدأ الكهنة يستعيدون سلطانهم ويثبتون قواعد زعامتهم، واستعادوا عاماً بعد عام الأراضي والمزايا التي سلبها منهم البطالمة الأولون (50). ويصف حجر رشيد الذي يرجع إلى عام 196 ق. م. الاحتفال بتتويج بطليموس الخامس وصفاً لا يكاد يختلف في شيء عن المراسم المصرية القديمة؛ وفي عهد بطليموس الخامس (203 - 181) وبطليموس السادس (181 - 145) أنهكت المنازعات القائمة بين أفراد الأسرة المالكة قوة البيت المالك، واضمحلت الزراعة والصناعة غاية الاضمحلال، ولم يعد الأمن والسلام إلى ربوع البلاد حتى جاء قيصر فاستولى على مصر من غير عناء، ولم يكن استيلاؤه عليها حادثاً عادياً من حوادث حياته. وفي عام 30 ق. م. جعلها قيصر ولاية رومانية.(8/83)
الفصل الخامِس
شمس الحضارة اليونانية تغرب في صقلية
كانت قبلة العهد الهلنستي هي الشرق والجنوب وكاد يُغفل الغرب إغفالاً تاماً، وازدهرت قوريني كالعادة وعمها الرخاء لأنها أدركت أن التجارة خير لها من الحرب. ونبغ فيها في ذلك العهد كلمخوس الشاعر، وإرتسثنيز وكرنيدز الفيلسوفان. أما إيطاليا اليونانية فقد أضعفها وأقضَ مضجعها ازدياد سكانها وقوة رومة الناشئة، وعاشت صقلية تتوجس خيفة من قوة قرطاجة، وقام أغنياؤها بثورة بعد ثلاثة وعشرين عاماً من مجيء تمليون Timoleon فقضوا على حكومة سرقوسة الديمقراطية ووضعوا زمام الحكم في أيدي ستمائة من الأسر الألجركية (320). ولكن هذه الأسر ما لبثت أن تفرقت وكانت شيعاً، وقضت عليها ثورة من المتطرفين قُتل فيها أربعة آلاف نفس، ونُفي من البلاد ستة آلاف آخرون. ونصب أجثكليز Agathocles نفسهُ طاغية واستعان على ذلك بأن وعد بإلغاء الديون وإعادة توزيع الأراضي (51). وهكذا يصل تركيز الثورة من آن إلى آن إلى أقصى حد، ولا تُصلح الحال إلا بالضرائب أو الثورات.
ودامت الفوضى في سرقوسة أربعين عاماً غزا فيها القرطاجيون الجزيرة مراراً وتكراراً، وجاءها ببرس، وانتصر، وهُزِم، وخرج منها، ثم سقطت لحسن حظها التي كانت غير جديرة بهِ في يد هيرون الثاني Hieron خير الطغاة الكثيرين الذين أنتجتهم عواطف أهل صقلية اليونان واضطراب نفوسهم. وحكم هيرون البلاد أربعة وأربعين عاماً "لم يقتل فيها مواطناً واحداً أو ينفيهِ أو يمسهُ بأذى، وذلك بلا جدال أعجب ما سمع بهِ الإنسان" كما يقول بولبيوس (52). وكان هيرون يعيش عيشة متواضعة رغم ما يحيط به من(8/84)
أسباب الترف، وقد عمر حتى بلغ سن التسعين. وأراد في مناسبات عدة أن ينزل عن سلطته، ولكن الشعب توسل إليهِ أن يحتفظ بها (53). وقد هدته حكمته إلى أن يعقد حلفاً مع رومة، وبذلك حمى البلاد من غزو القرطاجيين نحو نصف قرن من الزمان، واستمتعت المدينة في أيامه بالسلم والنظام وبقسط كبير من الحرية، وأقام منشآت عامة عظيمة، وترك عند موتهِ خزائنها عامرة بالمال دون أن يُرهق الأهلين بالضرائب. وبفضل حمايتهِ أو مناصرته رفع أركميديز العلم القديم إلى أعلى ذروتهِ، وتغنى ثوفريطوس، باللغة اليونانية الفصيحة في أواخر أيامها، بجمال صقلية وبعطايا مليكها المرتقبة. وأضحت سرقوسة وقتئذ أكثر بلاد هلاس سكاناً وأعظمها رخاء (54).
وكان هيرون يسلي نفسه وقت فراغه بمراقبة صناعه وهم يعملون بإشراف أركميديز في بناء سفينة لنزهتهِ، تتمثل فيها جميع فنون بناء السفن وجميع العلوم التي عرفها الأقدمون وكان طولها يبلغ نصف استديوم (407 قدم)، ولها سطح واسع للألعاب الرياضية، ومدرسة للتدريب الرياضي، وحمام من الرخام، وحديقة مظللة، جمع فيها كثيراً من أنواع النباتات المختلفة. وكان فيها ستمائة من الفلاحين يدفعونها بعشرين مجموعة من الجاديف، وكان في مقدورها أن تحمل فوق هذا العدد ستمائة من البحارة أو المسافرين. وكانت تحتوي على ستين مقصورة، صنعت أرض بعضها من الفسيفساء، وأبوابها من العاج والأخشاب الثمينة. وكان أثاثها فخماً ظريفاً، وزينت جدرانها وسقفها بالرسوم الجميلة والتماثيل، وكان يحميها من الهجوم دروع وأبراج؛ وكانت تمتد من أبراجها الثمانية كتل ضخمة من الخشب بكل منها ثقب في نهايتها تسقط من الحجارة على السفن المعادية. وأنشأ أركميدز بطول هذه السفينة منجنيقاً عظيماً يستطيع قذف حجارة زنة الواحد منها ثلاث وزنات (174 رطلاً) أو سهام طول الواحد منها ثمان عشرة قدماً. وكانت هذه السفينة تتسع لحمل 3900 طن(8/85)
من البضاعة، وكانت زنتها وحدها ألف طن. وكان هيرون يأمل أن يستخدمها في الأسفار المنتظمة بين سرقوسة والإسكندرية، ولكنه وجد أن أحواضها لا تتسع لها لضخامتها، وأن نفقاتها كثيرة، فملأها بالحب والسمك من حقول صقلية وبحارها الغنية، وأرسلها هي وحمولتها هدية منه لمصر، وكانت وقتئذ تعاني نقصاُ في الحبوب غير عادي (55).
ومات هيرون في عام 216؛ وكان يرغب أن يضع قبل موتهِ دستوراً ديمقراطياً للمدينة، لكنه استمع في شيخوخته لرأي بناته فأوصى بالملك إلى حفيده (56). وتبين أن هيرونموس Hieronymus هذا نذل ضعيف، نبذ حلف رومة واستقبل وفوداً من قرطاجة، وسمح لهم أن يكونوا من الوجهة العملية حكام سرقوسة، وكانت رومة لا تجد كفايتها من الحبوب فأخذت تستعد لقتال قرطاجة لتنتزع منها ثروة الجزيرة التي لم تتعلم في يوم من الأيام كيف تحكم نفسها. وكان عالم البحر الأبيض المتوسط وقتئذ أشبه بالفاكهة العفنة على استعداد بأن يسقط في يدي فاتح أشد بأساً وأقسى قلباً من كل من عرفهم تاريخ اليونان من الفاتحين.(8/86)
البابُ السَّادسُ والعِشرون
الكتب
الفصل الأوَّل
دور الكتب والعلماء
في كل ميدان من ميادين الحياة الهلنستية، عدا ميدان التمثيل، نجد ظاهرة بعينها-نجد الحضارة اليونانية تنتشر ولا تنعدم. فقد كانت أثينة تحتضر، وكانت المحلات اليونانية في الغرب، عدا سرقوسة، آخذة في الانهيار والزوال؛ ولكن المدن اليونانية في مصر وفي الشرق كانت في ذروة مجدها المادي والثقافي. وقد كتب بولبيوس، وهو رجل واسع التجارب، غزير العلم بالتاريخ، حصيف الرأي، صادق الحكم، كتب في عام 148 ق. م عن هذه الأيام "التي تتقدم فيها العلوم والفنون بخطى سريعة (1) "؛ وهي نغمة ألفنا سماعها من غيره من الكتاب. وبفضل انتشار اللغة اليونانية واتخاذها لغة عامة وجدت وحدة ثقافية دامت في بلاد البحر الأبيض المتوسط ما يقرب من ألف عام. فكان جميع المتعلمين في الإمبراطوريات الجديدة يتعلمون اللغة اليونانية ويتخذونها وسيلة للصلات الدبلوماسية، ولنشر الآداب والعلوم؛ وكان الكتاب المؤلف باليونانية يفهمه كل متعلم تقريباً من غير أنباء اليونان في مصر والشرق الأدنى. وكان الناس إذا تحدثوا عن العالم المعمور (الأيكوميني Oikoumene) تحدثوا عنه بوصفهِ عالماً ذا حضارة واحدة، قد أصبحت(8/87)
له نظرة عالمية للحياة أقل بعثاً للهمم من النظرة القومية الضيقة المتغطرسة التي كانت تسود دول المدن ولكنها قد تكون أكثر منها مطابقة لمقتضيات العقل.
ولهذه الدائرة الواسعة من القراء كتب آلاف الكتاب مئات الآلاف من الكتب، ولدينا أسماء آلف ومائة مؤلف هلنستي؛ وما من شك في أن من لا يعرف أسماءهم يخطئهم في الحصر؛ ونشأ خط سريع دارج لتسهيل الكتابة، بل إننا لنسمع في واقع الأمر منذ القرن الرابع عن طرق للاختزال يُستطاع بها "التغيير عن بعض الحروف والحركات بشروط مختلفة الأوضاع". وظلت الكتب تُكتب على أوراق البردي المصري حتى حرم بطليموس الرابع تصدير هذه المادة من مصر لعله يمنع بذلك نمو مكتبة برجموم. ورّد يومنيز الثاني على هذا العمل بأن شجع صناعة معالجة جلود الضأن والعجول على نطاق واسع، وكانت هذه الجلود تُستعمل للكتابة في بلاد الشرق من زمن بعيد، وسرعان ما أصبح الرق المصنوع في برجموم والمشتق اسمه الأوربي Parchment من اسمها ينافس الورق بوصفهِ أداة للتخاطب وبقل الآداب.
وبعد أن تضاعف عدد الكتب إلى هذا الحد أصبح إنشاء دور الكتب ضرورة محتومة. كانت هذه الدور قد قامت في مصر وبلاد النهرين قبل ذلك الوقت، غير أنها كانت فيهما من وسائل الترف التي يختص بها الملوك؛ ولكن يبدو أن مكتبة أرسطو كانت أولى مجموعات الكتب الخاصة الكبيرة. وفي وسعنا أن نقدر حجم هذه المكتبة وقيمتها إذا عرفنا أنه دفع ما قيمته 18. 000 ريال أمريكي ثمناً لجزئها الذي اشتراه من اسبيوسبوس خليفة أفلاطون. وأوصى أرسطو بكتبه إلى ثاوفراسطوس، ثم أوصى بها هذا (في عام 287) إلى نيلوس Neleus، ونقلها هذا إلى اسكبسيس Scepsis في آسية الصغرى، حيث دفنت في باطن الأرض، كما تقول بعض الروايات، لتنجو من شره ملوك برجموم العلمي. وبعد أن ظلت هذه الكتب مدفونة على هذا النحو البالغ(8/88)
الضرر، بيعت حوالي عام 100 ق. م. إلى أبلكون Apellison التيوسي of Teos الفيلسوف الأثيني. ووجد أبلكون أن فقرات كثيرة في الكتب قد أتلفتها رطوبة الأرض، فكتب منها نسخاً جديدة، وملأ الثغرات المفقودة بقدر ما هداه إليهِ تفكيره (3)؛ وقد يكون هذا هو السبب في أن أرسطو أكثر الفلاسفة جاذبية في التاريخ القديم. ولما استولى سلا Sylla على أثينة عام 86 أخذ مكتبة أبلكون ونقلها إلى رومة، حيث سجل أندرنكوس Andronicus العالم الرودسي نصوص مؤلفات أرسطو (4). ونشر هذه النصوص المسجلة-وكان لهذه الحادثة في تاريخ التفكير الروماني أثر لا يقل عن أثر يقظة الفلسفة في العصور الوسطى.
وإن قصة هذه المجموعة وتنقلها من مكان إلى مكان ليدلنا على ما يدين به الأدب لملوك البطالمة لإنشائهم مكتب الإسكندرية العظيمة وجعلها جزءاً من متحفها. لقد بدأ هذه المكتبة بطليموس الأول وأتمها بطليموس الثاني، ثم أضاف إليها مكتبة أصغر منها في معبد سرابيس بإحدى ضواحي المدينة. وقد بلغ عدد ما فيها من الملفات قبل نهاية حكم فلدلفس 532. 000 ملف يتكون منها في أكبر الظن مائة ألف كتاب بالمعنى الذي يفهم من هذا اللفظ في هذه الأيام (5). وظل تكبير هذه المجموعة حيناً من الدهر ينافس في قلوب ملوك مصر حبهملتقوية سلطانهم. ومن الشواهد الدالة على ذلك أن بطليموس الثالث أمر أن كل كتاب يصل إلى الإسكندرية يجب أن يودع في المكتبة، وأن تنسخ من صور تُعطى واحدة منها لصاحبه وتجتفظ المكتبة بأصل الكتاب. وطلب هذا الملك صاحب السلطان المطلق إلى أثينة أن تعيره مخطوطات إيسكلس، وسفكليز، ويوربديز، وأودع لديها ما قيمته 90. 000 ريال أمريكي ضماناً لعودتها سالمة، فلما أرسلت إليه احتفظ بأصولها ور إليها نسخاً منها، وأبلغ الأثينيين أن يحتفضوا بالمال جزاء له على عمله (6). وانتشرت رغبة(8/89)
الناس في اقتناء الكتب انتشاراً بلغ من اتساعه أن نشأت طائفة من الناس تخصصت في صبغ المخطوطات الجديدة وإتلافها ليبيعوها لجامعي النسخ الأولى على أنها كتب قديمة (7).
وما لبثت الكتبة أن زادت على المتحف في أهميتها وتعلق الناس بها، وأصبح منصب أمين المكتبة أكبر المناصب مرتباً عند الملك، وصار من اختصاصاته أن يكون المعلم الخاص لولى العهد. وقد بقيت لنا أسماء هؤلاء الأمناء وإن اختلفت بعضها عن بعض في المخطوطات المختلفة. ويذكر أحدث ثبت لها أسماء الستة الأمناء الأولين وهم: زنودوتس، وأبلونيوس الرودسي، وأرستثنيز القوريني، وأبلونيوس الإسكندري، وأرسطوفان البيزنطي، وأرستارخوس السمثراسي؛ وإن اختلاف أصولهم ليوحي مرة أخرى بوحدة الثقافة الهلنية. ولا يكاد يقل عن هذه الأسماء أهمية كلمخوس الشاعر والعالم الذي صنف هذه المجموعة ونظمها في فهرس عام بلغ عدد ملفاته مائة وعشرين ملفاً. وإنا لتطوف بخيالنا صورة طائفة كبيرة من النساخين، نظن أنهم من العبيد، ينسخون صوراً ثانية من أصول الكتب القيمة، ومعهم عدد ل يحصى من العلماء يقسمون هذه الكتب مجموعات. وكان بعض هؤلاء الرجال يكتبون تواريخ مختلف الآداب والعلوم، وبعضهم يخرجون للناس "طبعات" من الروائع القيمة، ومنهم من كانوا يكتبون تعليقات وشروحاً للنصوص ليستنير بها غير الأخصائيين وقراء الأجيال التالية. وقد أحدث أرسطوفان Aristophanes البيزنطي انقلاباً عظيماً في الأدب بفصل الجمل المستقلة والتبعية في المخطوطات القديمة بعضها عن بعض بالحروف الكبيرة ( Capitals) ، وبعلامات الترقيم، وكان هو الذي اخترع النبرات التي تضايقنا أشد المضايقة في قراءة الكتابات اليونانية. وقد بدأ زنودوتس تهذيب الألياذة والأوذيسة، وواصل أرسطوفان عمله، وأتمه أرستارخورس، وكانت نتيجة عملهم هو النص الحالي لهاتين الملحمتين، وهم الذين شرحوا ما غمض فيها شرحاً يدل على غزارة الاطلاع. ولم ينقضِ القرن الثالث(8/90)
حتى أضحت الإسكندرية بفضل متحفها ومكتبتها وعلمائها العاصمة الذهنية للعالم اليوناني في كل فرع من فروع العلم والأدب عدا الفلسفة.
وما من شك في أن مدناً هلنستية أخرى كانت بها دور كتب، يدل على ذلك أن علماء الآثار النمساويين قد كشفوا عن بقايا مكتبة جميلة الشكل تابعة لبلدية إفسوس، ونسمع أن مكتبة عظيمة قد احترقت حين خرب سبيو Scipio مدينة قرطاجة. ولكن المكتبة الوحيدة التي يمكن موازنتها بمكتبة الإسكندرية هي مكتبة برجموم. ذلك أن ملوك هذه الدولة القصير الأجل كانوا يحسدون حسد المستنيرين ملوك البطالمة على جهودهم الثقافية، وقام يومنيز الثاني بإنشاء مكتبة برجموم، واستقدم لأبهائها طائفة من أعظم علماء اليونان. وأخذت مجموعة الكتب التي بها تنمو نمواً سريعاً، حتى بلغ عددها، حين أهداها أنطونيوس لكليوبطرة ليعوض بها ذلك الجزء من مكتبة الإسكندرية الذي احترق أثناء الثورة على قيصر عام 48 ق. م.، مائتي ألف ملف. وبفضل هذه المكتبة، وما كان لملوك برجموم من ذوق أتيكي حسن أضحت هذه المدينة في أواخر العصر الهلنستي مركزاً لأنقى مدرسة من مدارس النثر اليوناني، وهي مدرسة لم تكن ترى أن لفظاً ما يونانياً نقياً إلا إذا كان قد ورد في كتابات العصر القديم. ونحن مدينون إلى حماسة هؤلاء الأدباء بما بقي من روائع النثر الأتيكي.
ولقد كان هذا العصر أولاً وقبل كل شيء عصر النابهين والعلماء، عصراً أصبحت الكتابة فيهِ مهنة لا هواية، ونشأت فيهِ جماعات وحلقات يتناسب تقدير بعضها مواهب البعض الآخر تناسباً عكسياً مع مربع المسافة بينها. وبدأ الشعراء يكتبون للشعراء، وأضحت كتاباتهم لذلك متكلفة مصطنعة، وأخذ العلماء يكتبون للعلماء، فكانت كتاباتهم خالية من البهجة والروعة، وشعر المفكرون أن إلهام اليونان المبدع كاد ينضب معينه، وأن أبقى خدمة يستطيعون أدائها هي أن يجمعوا، ويحفظوا، ويدونوا، ويشرحوا الأعمال الأدبية التي أنشأها(8/91)
عصر أسمى وأعظم جرأة من عصرهم. لذلك أوجدوا طرق نقد النصوص والآداب بجميع أشكالهِ تقريباً، وحاولوا ان يستخرجوا خلاصة المخطوطات الكثيرة التي كانت بين أيديهم، وأن يرشدوا الناس إلى ما يجب أن يقرؤوه منها. فوضعوا قوائم "بأحسن الكتب" و "شعراء البطولة الأربعة" و "التسعة المؤرخين" و "العشرة الشعراء الغنائيين" و "العشرة الخطباء" وما إلى هذا (9). وألفوا سيراً لكبار الكتاب والعلماء، وجمعوا وأنجوا من الدمار المعلومات المشتتة التي لا نعرف الآن غيرها عن هؤلاء الرجال. وكتبوا خلاصات في التاريخ والآداب، والتمثيل، والعلم، والفلسفة (10)؛ وقد ساعدت هذه الخلاصات التي كانت أشبه "بالطرق المختصرة للمعرفة" على حفظ المؤلفات الأصلية التي لخصتها، وإن كان بعضها قد حل محلها وقضى بغير علم واضعيها على هذه المؤلفات. وأقضَ مضاجع العلماء الهلنستيين تدهور اللغة اليونانية الأتكية الفصحى وحلول الرطانة اليونانية الشرقية المنتشرة في ذلك الوقت محلها، فأخذوا يضعون المعاجم وكتب النحو؛ وأصدرت مكتبة الإسكندرية، كما يفعل المجمع العلمي الفرنسي في هذه الأيام، وقرارات تبين الاستعمال الصحيح للألفاظ والعبارات اليونانية القديمة. ولولا جد هؤلاء العلماء وصبرهم لقضت الحروب، والثورات، والكوارث التي توالت على هذا الجزء من العالم مدى ألفي عام، على هذه "الشذرات الثمينة" التي انتقلت إلينا من حطام التراث اليوناني القديم.(8/92)
الفصل الثاني
كتب اليهود
لقد احتفظ اليهود وسط هذا الجو المضطرب الذي لف ذلك العصر بحبهم التقليدي للبحث العلمي، وأخرجوا أكثر من نصيبهم من الأدب الخالد الذي أخرج في ذلك العصر. وإلى ذلك العصر تنتمي طائفة من أجمل أجزاء الثورات فقد ألف شاعر يهودي (أو ألفت شاعرة يهودية) قبيل اختتام القرن الثالث نشيد الإنشاد الجميل: في هذا النشيد كل ما حواه السفر اليوناني من سافو إلى ثاوفريطوس من روعة فنية، ولكن فيهِ فوق هذا ما لا يمكن العثور عليه عند أي مؤلف من مؤلفي ذلك العصر-فيه قوة الخيال، وعمق في الشعور، وإخلاص مثالي، حوى من القوة ما يكفي للترحيب بجسم الحب وروحه، وأن يبدل الجسم نفسهُ روحاً. وقد كتب اليهود الهلنستيون وقتئذ-بالعبرية أو الآرامية أو اليونانية-روائع خالدة كأسفار الجامعة، ودانيال، وأجزاء من الأمثال، والمزامير، والجزء الأكبر من الأسفار الإبوكريفية، كتبوا بعضها في أورشليم، ومعظمها في الإسكندرية، وبعضها الآخر في مدائن شرق البحر الأبيض المتوسط. وكتبوا تواريخ كسفر الأخبار وقصصاً صغيرة كإستر ويهوديت، وأناشيد للأسر كسفر طوبيت. وحول كبار العلماء الكتابة العبرية من النمط الآشوري القديم إلى النمط السوري المربع الذي احتفظت بهِ إلى اليوم (11). وإذ كان معظم اليهود في بلاد الشرق الأدنى يتكلمون وقتئذ الآرامية بدل العبرية، فقد أخذ علماؤهم يفسرون لهم الكتاب المقدس بترجمته إلى الآرامية، وافتتحت المدارس لدراسة أسفار موسى، والشريعة، وتفسير القوانين الأخلاقية للشبان الناشئين. وانتقلت هذه الشروح(8/93)
والتعليقات، والإيضاحات من المعلم إلى الطالب جيلاً بعد جيل، فكان منها في العصور التالية معظم المادة التي احتواها التلمود.
وقبل أن يُختتم القرن الثالث كان علماء المجمع العظيم قد فرغوا من نشر الأدب القديم كله وانتهوا من كتب العهد القديم (12). وقد حكموا في ذلك الوقت أن عصر الأنبياء قد انقضى وأن الوحي اللفظي قد انتهى زمنه، وكانت نتيجة هذا الحكم أن كثيراً مما كُتب في ذلك العصر وإن كان مليئاً بالحكمة والجمال لم تُتح له فرصة السند الإلهي، فكان نصيبه أن يصبح جزءاً من أسفار الأبكريفا المنكودة (1). ولعل بعض أسفارهما مدينة بروعتها الأدبية إلى براعة المترجمين في عهد الملك جيمس، ولكن هؤلاء المترجمين لا يمكن أن يكونوا أصحاب الفضل في تلك العبارات المؤثرة التي تصف سؤالاً للملك أوريل أن يفسر كيف يفلح الخبيثون ويعذب الصالحون؟ وكيف تكون إسرائيل أسيرة ذليلة، فيجيب الملك، بتشبيهات ومجازات قوية ولكن في عبارات سهلة بسيطة أن ليس من حق الجزء أن يفهم الكل أو يحكم عليه.
وتقول مقدمة سفر الحكمة إن هذا السفر ترجمة يونانية تمت في عام 132 لأحاديث باللغة العبرية كتبها يسوع بن سيراك جد المترجم قبل ذلك الوقت
_________
(1) أسفار الأبكريفا (ومعناها الحرفي الخفية) في العهد القديم هي الأسفار التي استبعدت من النص اليهودي القديم الموحى بهِ، ولكنها اشتملت عليها النسخة الكاثوليكية للكتاب المقدس، أي الترجمة اللاتينية التي قام بها القديس جيروم للنصوص العبرية واليونانية. وأهم أسفار الأبكريفا في العهد القديم هي سفر الحكمة، وسفر المكابيين الأول والثاني. أما أسفار الرؤيا (أي الوحي) فهي الي يقولون إنها تحتوي على الوحي والتنبؤات الإلهية؛ وقد بدأ ظهور هذه الكتابات الأخيرة حوالي عام 250 ق. م. واستمرت إلى العهد المسيحي. وتُعد بعض أسفار الرؤيا كسفر أخنوخ أبكريفية غير معترف بصحتها، ويُعد بعضها الآخر كسفر الرؤيا صحيحاً مُعترف بصحتهِ.(8/94)
بجيلين. وكان يسوع بن سيراك هذا عالماً ورجلاً من رجال الأعمال، رأى بعض أحوال العالم في خلال أسفاره ثم استقر في بلده واتخذ منزله مدرسة للطلاب، وألقى عليهم هذه الأحاديث يبين لهم فيها حكمة الحياة (13). وهو يندد فيها بأغنياء اليهود الذين خرجوا على دينهم ليكون لهم شأن في عالم الكفار؛ ويحذر الشبان من العاهرات والواقفات لهم بالمرصاد في كل مكان، ويعرض عليهم شريعة موسى ويصفها بأنها لا تزال خير هادٍ لهم وسط شرور العالم ومزالقه. ولكنه ليس بالرجل المتزمت في دينه فلا ينحو نحو "المتقين" بل يجد كلمة طيبة يقولها ليدخل بها السرور البريء على قلب محدثه، وهو يندد بالمتصوفين الذين يرفضون الدواء بحجة أن المرض مرسل من عند الله، وأنه لذلك لا يشفيه إلا الله وحده. والكتاب مليء بالحكم أشهرها كلها الحكمة التي تجمع بين الطفل والعصا. ويقول رينان Renan إن "السياط التي يبررها ضاربوها بهذه الحكمة ليُخطئها الحصر بلا ريب (14) ". والحق أن هذا السفر العظيم وأنه أكثر حكمة ورأفة من سفر الجامعة.
وقد ورد في الإصحاح الرابع والعشرين من سفر الحكمة أن "الحكمة أول ما أوجده الله، فقد خلقها من بداية العالم". وفي هذه الإصحاح وفي الإصحاح الأول من سفر الأمثال نجد أقدم صورة من صور نظرية "الكلمة"-أي الحكمة-بوصفها خالقاً وسطاً عهد إليها الله تنظيم العالم. وتشخيص الحكمة بهذه الصورة أي جعلها ذكاءً مجسداً يصبح من المبادئ الرئيسية ذات الشأن في الدين اليهودي خلال القرون السابقة لظهور المسيح مباشرة. وإلى جانب هذا ترى فكرة الخلود الشخصي تزداد وضوحاً شيئاً فشيئاً. وفي كتاب أخنوخ الذي كتبه على ما يظهر عدد من الكتاب المختلفين في فلسطين بين عامي 170، 66 قبل الميلاد يصبح الأمل في ملكوت السماوات حاجة أساسية؛ وسبب ذلك أن ما يناله الأشرار من خير وفلاح وما يلقاه الأتقياء والصالحون والأوفياء من سوء المصير لم يعد يُستطاع تحمله إلا إذا عمرت صدور الناس(8/95)
بهذا الأمل. وقد بدا للناس أن الحياة والتاريخ إذا تجردا من هذا الأمل كانا من عمل الشيطان لا من فعل الله. وسينزل مسيح يقيم مملكة السماء في الأرض ويجزي المتقين بالسعادة السرمدية بعد الموت.
ويعبر سفر دانيال عما كان يسود عهد أنتيوخوس الرابع من هول ورعب. فقد حدث حوالي عام 166 حينما كان المؤمنون يُعذَبون ويقتلون لتمسكهم بدينهم، وكان الأعداء المتزايدون يهاجمون المكابيين، أن أخذ أحد "المتقين" على الأرجح على نفسه أن يستثير شجاعة الشعب بأن يصف له ما لاقاه دانيال من العذاب، وما نطق به من التنبؤات في بابل أيام نبوخذنصر. وتداولت أيدي اليهود في السر نسخاً من هذا الكتاب، وقيل عنه إنه من وضع نبي من الأنبياء عاش قبل ذلك العهد بثلاثمائة وسبعين عاماً، وإنه لاقى ألواناً من العذاب أشد مما لاقاه أي يهودي في عصر أنتيوخوس، وإنه خرج منها ظافراً، وتنبأ بأن شعبه سينال من النصر مثل ما ناله هو، وقال إنه إذا كان الصالحون والمؤمنون لم يلقوا ما هم خليقون بهِ من السعادة في هذا العالم، فسوف ينالون جزائهم الأوفى يوم الحساب، حين يُدخلهم الله في ملكوت السموات لينعموا فيها بالسعادة السرمدية ويُلقي بمن عذبوهم في الجحيم الأبدي.
وجملة القول أن ما بقي من كتابات اليهود في ذلك العهد يمكن وصفه بأنه أدب صوفي خيالي يهدف إلى تعليمهم وتقوية روحهم ومواساتهم. لقد كانت الحياة نفسها كافية لليهود الذين عاشوا قبل ذلك العهد، ولم يكن الدين وقتئذ طريقاً للفرار من العالم، بل كان تمثيلاً مسرحياً للأخلاق بِشِعر الأيمان، يصور لهم إلهاً قديراً يحكم كل شيء ويرى كل شيء، يثيب على الفضيلة ويعاقب على الرذيلة في هذه الحياة الدنيا. ثم زعزع "الأسر" هذه العقيدة، وجددتها إعادة بناء الهيكل، ثم حطمتها ضربات أنتيوخوس. ووجد التشاؤم الآن الميدان فسيحاً أمامه، ورأى اليهود في كتابات اليونان أفصح تعبير عن(8/96)
مظالم الحياة ومآسيها. وكان اتصال اليهود في هذه الأثناء بأفكار الفرس عن الجنة والنار، وعن الكفاح بين الخير والشر، وانتصار الخير في آخر الأمر، كان هذا كله مما يسر لهم الفرار من فلسفة اليأس؛ ولعل أفكار الخلود التي انتقلت من مصر إلى الإسكندرية، والأفكار التي قامت عليها طقوس اليونان الخفية، لعل هذه وتلك قد تعاونت على أن تبعث في قلوب اليهود في العصرين اليوناني والروماني ذلك الأمل الذي أبقى على كيانهم خلال الحادثات التي مرت بالهيكل والدولة. ومن هؤلاء اليهود، ومن المصريين، والفرس، واليونان، سرت فكرة الثواب والعقاب الأبديين إلى دين جديد أقوى من دين اليهود، وأعانت هذا الدين على أن يضم تحت لوائه عالَماً كان سائراً في طريق الانحلال.(8/97)
الفصل الثالث
مناندر
بلغ التمثيل في ذلك العهد، كما بلغ غيره من الفنون، ذروته من حيث كمية الإنتاج، ولقد كان لكل مدينة بل كاد يكون لكل بلدة في المرتبة الثالثة دار للتمثيل. وكان الممثلون أحسن تنظيماً مما كانوا في أي عصر سابق، وكان الطلب عليهم كثيراً، وكانوا ينالون أجوراً عالية، ويعيشون من الناحية الخلقية عيشة أرقى من أهل زمانهم. وظل كتاب المسرحيات يكتبون المآسي، ولكن الدهر أسبل عليهم ثوب النسيان، سواء كان ذلك من قبيل المصادفات أو كان سببه ارتقاء أذواق الناس. لكن مزاج أثينة الهلنستية، كمزاج هذه الأيام، كان يفضل قصص المسلاة الحديثة، الخفيفة الروح، النزقة، العاطفية، ذات الخاتمة المفرحة. ولم يبقَ من هذه أيضاً إلا قطع متفرقة، ولكن لدينا نماذج منها غير مشجعة مختلسات بلوتس Plautus وترنس Terence الذين ألفا مسرحياتهما بترجمة المسالي الهلنستية وتحويرها. وقد أغفلت في المسالي الجديدة شؤون الدولة وشؤون الروح العليا التي ألهمت أرسطوفان لأن كتابة هذه المسالي كانت أكثر مما تتحمله طاقة الكتاب الأدبية؛ وكان موضوعها في العادة مأخوذاً من المنزل أو الحياة الخاصة، بتعقب الطرق الملتوية التي تُرفع بها النساء إلى منزلة الكرامة وتؤدي بالرجال مع ذلك إلى الزواج. وترى فيها الحب يسير في طريق النصر لكي يصبح أهم شيء على المسرح؛ وترى مئات الفتيات حائرات بائسات على المسرح ولكنهن ينلن الشرف ويحصلن على الأزواج في آخر المسرحية. ولم يبقَ وجود للملابس القديمة التي كانت تمثل فيها أعضاء الذكور، ولا للخلاعة والفجور الأولين؛ بل كانت تدور القصة في مجال ضيق حول عذرة السيدة(8/98)
المهمة فيها، ولم يكن للفضيلة فيها شأن كبير كشأنها في الصحف اليومية في هذه الأيام. وإذ كان الممثلون يلبسون أقنعة، وكان عدد الأقنعة محدوداً، فإن كاتب المسلاة كان يحيك حبكته وما فيها من دسائس وخطأ في هوية أشخاص المسرحية حول عدد قليل من الأشخاص البلهاء كان يسر النظارة على الدوام أن يميزوهم بعضهم من بعض. وكانت الشخصيات التي تتكرر باستمرار هي شخصية الأب القاسي، والشيخ الهرِم، والخير، والابن المتلاف، والوارثة التي يُخطئ الناس فيظنونها فقيرة، والجندي الصاخب، والعبد الحاذق، والمتملق، والطفيلي، والطبيب، والقس، والفيلسوف، والطاهي، والعشيقة، والقواد.
وكان رافعا علم هذه المسلاة الأخلاقية في أثينة في القرن الثالث هما فلمون Philemon ومناندر Menander. فأما فلمون فلا يكاد يبقى لنا من آثاره شيء سوى صدى شهرته، وكان الأثينيون يحبونه أكثر مما يحبون مناندر، وقد منحوا أولهما من الجوائز أكثر مما منحوا الأخر؛ ولكن فلمون ارتفع بفن تنظيم المصفقين المأجورين في دار التمثيل إلى ذروته؛ وإذ كانت الأجيال المقبلة قد أغفلَ أمرها ولم يحسب لها حساب في تلك الأجور، فإنها لم تأخذ بحكم هؤلاء المصفقين وقلبته ظهراً لبطن، ووضعت التاج على عظام مناندر. وكان هذا المؤلف المسرحي يماثل كنجريف Cogreve في العصر الحديث ابن أخ كاتب مسرحي آخر غزير الإنتاج هو ألكسيس الثوريائي Alexis of Thurii تلميذ ثاوفراسطوس وصديق أبيقور. وقد تعلم من أستاذه وصديقه أسرار المسرحيات، والفلسفة، وهدوء النفس، وكاد أن يحقق مثل أرسطو الأعلى؛ فقد كان جميلاً، ثرياً يفكر في الحياة في هدوء وحسن إدراك، ويستمتع بملاذها استمتاع الرجل المهذب. وكان عاشقاً متقلباً، قنع بأن يجزي جلسرا Glycera على حبها وإخلاصها له بأن يمس اسمها بعصا الخلود السحرية. ولما دعاه بطليموس الأول إلى الإسكندرية بعث فلمون بدلاً منه وقال: "إن فلمون(8/99)
ليست له جلسرا". وسُرت جلسرا بذلك أيما سرور، وكانت قد قاست كثيراً بانتصارها على ملك من الملوك (15). ويؤكد لنا رواة أخباره أنه عاش معها بعد ذلك الوقت وأخلص لها حتى مات في الثانية والخمسين من عمره باعتقال العضلات بينما كان يستحم في بيرية (292) (16).
وظهرت مسرحيته الأولى في السنة التي أعقبت وفاة الإسكندر، كأنها بظهورها في تلك السنة تعلن بداءة عهد جديد. وكتب بعد ذلك العام مائة مسلاة وأربعاً، نالت ثمانٍ منها الجائزة الأولى. وقد بقي من هذه المسرحيات نحو أربعة آلاف سطر كلها قطع منها قصيرة متفرقة ما عدا بردية عُثر عليها في مصر عام 1905. وتحتوي هذه البردية على نصف مسلاة المحكمين Epitrepontes وقد هبطت بسمعة مناندر. ولو أننا شكونا من أن موضوعات هذه المسالي مسئمة كموضوعات فنون النحت، والعمارة، والخزف اليونانية، لذهبت شكوانا هذه مع الريح؛ بل ينبغي لنا أن نذكر أن اليونان لم يكونوا يحكمون على المسرحية بالقصة التي تقصها-وهو معيار خليق بالأطفال-بل بالطريقة التي تقصها بها. ومن أجل هذا كان ما يُعجب به العقل اليوناني في مناندر هو أسلوبه الأنيق المصقول، والفلسفة المركزة في فكاهته، وتصوير المناظر العادية تصويراً بلغ من واقعيته أن صاح أرسطوفان البيزنطي متسائلاً: "أي مناندر، وأنتِ أيتها الحياة، ترى أيكما يقلد الآخر؟ (17) " وكان مناندر يرى أنه لم يبقِ للإنسان شيء في هذا العالم الذي ضاع تحت أقدام الجنود إلا أن يفكر في شؤون البشر تفكير الناظر إليها وهو خارج منها، يعطف عليها من غير أن يتورط فيها. وهو يلاحظ غرور النساء وتقلبهن، ولكنه يسلم بأن الزوجة العادية نعمة من أجل النعم. وتدور فكرة المحكمين في بعض أجزائها على رفض المعيار المزدوج (18)؛ ويدور موضوع إحدى المسرحيات بطبيعة الحال حول عاهر مخلصة ترفض كما ترفض ذات الكميليا دوماس، الرجل الذي تحبه، لكي تمكنه من أن يتزوج زواجاً محترماً بسيدة يجني من وراء(8/100)
زواجه بها نفعاً (19). وفي بعض القطع الباقية من المسرحيات سطور جرت مجرى الأمثال، منها قوله: "إن أخبار السوء تفسد الخلق الطيب" (وقد نقلها القديس بولس (20"، و "الضمير الحر يخلق من الجبناء رجالاً بواسل (21) ". ومن الناس من يعزو إلى مناندر أصل قول ترنس الشهير: "إني رجل، ولا أرى شيئاً من مستلزمات الرجولة غريباً عني". وتعثر في كتاباته أحياناً على لآلئ من الفطنة والفراسة كقوله: "كل شيء يموت إنما يموت بما يعتريه من فساد؛ وكل ما يفسد يفسد من الداخل" وكهذه الأبيات التي تعد أنموذجاً صادقاً لشعر مناندر، والتي يتنبأ فيها بموته المبكر:
إن الذين تحبهم الآلهة يموتون صغاراً؛ طوبى للرجل
الذي يرى في اطمئنان هذا الموكب الرهيب
موكب الشمس، والنجوم، والبحر، والنار، ثم يعود بعد ذلك
مسرعاً إلى بيته وقلبه مطمئن لم يمسسه سوء.
وسواء كانت الحياة قصيرة أو طويلة فإنك بلا ريب
يا برمينو لن ترى شيئاً أحسن
من هذه الأشياء، إذن فاتخذ مقامك هنا كما
لو كنت ممن يترددون على دور التمثيل أو الأعراس.
كلما أسرعت كان ذلك أضمن لراحتك.
سوف تعود مزوداً بأحسن زاد، لا عدو لك، قوياً عند الحاجة؛
أما من يبطئ فسيقضى في الطريق منهوك القوى، تثقله السنون،
ويلاحقه الأعداء الذين تؤلبهم عليه متاعب الحياة النكدة؛
وهكذا يموت أسوأ ميتة من يبطئ عليه الموت.(8/101)
الفصل الرّابع
ثاوقريطوس
ماتت المسلاة اليونانية، ومات الأدب الأثيني إلى حد كبير، بموت فليمون عام 262. نعم إن المسرح قد ازدهر ولكنه لم ينتج من الروائع ما رأى الزمان أو العلماء أنه خليق بالبقاء، وأخذ تكرار المسالي القديمة-وخاصة مسالي فليمون ومناندر-يطرد من هذه المسارح التمثيليات المبتكرة. ولما انقضى القرن الثالث خفتت معه روح المرح التي أوجدت المسلاة الجديدة وحلت محلها في أثينة النزعة الجدية التي كانت من خصائص المدرسة الفلسفية. وحاولت مدن أخرى وخاصة مدينة الإسكندرية أن تنقل إليها غروس فن التمثيل ولكنها لم توفق.
وجددت المكتبة الكبرى والعلماء الذين اجتذبتهم إليها نفحة الأدب الإسكندري. فكان لا بد للكتب أن تتفق مع أذواق القراء المتعلمين الناقدين التي "سفسطها" العلم والتاريخ. وحتى الشعر نفسه أضحى شعراً علمياً وحاول أن يستر ما فيه من ضعف الخيال بالإشارات الغامضة والتلاعب الدقيق بالألفاظ. وأخذ كلمكس يكتب تراتيل ميتة لآلهة ميتة، ونكات شعرية طريفة تلتمع يوماً واحداً، ومدائح تنم عن فطنة وروية مثل خصلة برنيس The Lock of Bernice وقصيدة إرشادية عن الأسباب ( Aitia) وهي قصيدة تحتوي على كثيراً من المعارف العلمية في الجغرافية، والأساطير، والتاريخ، وعلى قصة من أقدم قصص الحب في الأدب. ومضمون هذه القصة أن بطلها أكنتيوس Acontius فتى بارع الجمال إلى درجة لا يصدقها العقل، وأن سيدبي Cydippe ذات جمال مفرط؛ ويلتقي الفتى والفتاة فيتحابان من أول نظرة، ويقف في سبيل هذا الحب أبوهما الشرهان المحبان للمال، فيهددانهما.(8/102)
تلك هي القصة التي رواها ملايين من الشعراء والقصصيين منذ ذلك العهد، والتي سيظل يرويها ملاين آخرون من هؤلاء وأولئك في مستقبل الأيام. غير أننا يجدر بنا أن نضيف إلى هذا أن كلمكس يعود في إحدى مقطوعاته إلى الأذواق اليونانية المألوفة:
اشرب الآن وأحب يا دمقراطيس Democrates؛ لأنا
لن نجد بعد خمراً أو غلماناً إلى أبد الآبدين (24).
وكان منافسه الوحيد في القرن الذي عاش فيه هو تلميذه أبلونيوس الروديسي. ولما أن سطا هذا التلميذ على أشعار أستاذه ونافسه عند البطالمة، أخذ الرجلان يتنازعان بالعمل وبالكتابة تنازعاً أدى إلى عودة أبلونيوس إلى رودس، حيث برهن على شجاعته بأن كتب في عصر يفضل الإيجار على الإطناب ملحمة متوسطة القيمة هي ملحمة الأرجنوتكا Argonautica. ولم تنل هذه الملحمة من عناية كلمكس أكثر من نكتة شعرية قصيرة هي قوله: "إن الكتاب الكبير شر مستطير"-وهو قول يستطيع القارئ أن يجد شاهداً عليه في الكتاب الذي بين يديه. وكوفئ أبلونيوس على عمله في آخر الأمر فنال المنصب الذي كان يطمع فيه وهو منصب أمين مكتبة الإسكندرية، وأفلح فوق هذا في إقناع بعض معاصريه أن يقرؤوا ملحمته. ولا تزال هذه الملحمة باقية إلى الآن، وفيها دراسة فلسفية ممتازة لحب ميديا، ولكنها ليست من الملاحم التي لا غنى عنها لطالب العلم الحديث (1).
وتنم نشأة شعر الرعاة عن قيام حضارة مدنية غير ريفية، ويكاد هذا الشعر أن يجاري تلك الحضارة خطوة فخطوة. ذلك أن اليونان في القرون الأولى من تاريخهم لم يقولوا إلا النزر اليسير عن جمال الريف لأن معظمهم كانوا يعيشون من قبل في الضياع نفسها أو قريبين منها، وكانوا يعرفون ما في الحياة
_________
(1) وقد نسج فرجيل في الإلياذة على منوالها في شكلها، وفي مادتها أحياناً، وحاكاها أحياناً سطراً سطراً.(8/103)
الريفية وعزلتها من صعاب، كما يعرفون ما فيها من هدوء وجمال. وما من شك في أن إسكندرية البطالمة كانت حارة متربة كإسكندرية هذه الأيام، ولهذا فإن من كان يقيم فيها من اليونان كانوا يعودون بذاكرتهم إلى تلال بلادهم الأصلية وحقولها، ويتخيلون هذه التلال والحقول المثل الأعلى في جمال المنظر؛ فكانت المدينة العظيمة والحالة هذه هي المكان الموحي بالشعر الرعوي. وأقبل عليها حوالي عام 276 شاب جريء يحمل ذلك الاسم الظريف وهو ثاوقريطوس. وكان قد بدأ حياته في صقلية، وقضى بعدئذ جزءاً منها في كوس، ثم عاد إلى سرقوسة يسعى إلى رفد هيرون الثاني، ولكنه لم يوفق؛ غير أنه لم ينسَ قط جمال صقلية، وجبالها وأزهارها، وسواحلها وخلجانها، فلما انتقل بعدئذ إلى الإسكندرية أنشأ قصيدة في مدح بطليموس الثاني نال عليها رضاء البلاط وهو رضاء قصير الأجل. ويبدو أنه ظل بضع سنين يعيش بين رجال البلاط والعلماء، بينما كانت الصور الجميلة التي يرسمها لحياة الجبال تحببه إلى سوفسطائي العاصمة. وتصف قصيدة بركسنووا Praxinoa ما يلقاه الإنسان في شوارع الإسكندرية المزدحمة من هول وفزع:
رباه: ما أكثر أولئك الغوغاء! ليس في وسعي أن أتصور
كيف نستطيع أن نشق طريقنا، أو كم من الزمن يلزمنا لكي نشقه فيها؛
إن عش النمل لا يعد شيئاً إلى جانب هذا الهرج والمرج ...
أي جرجون Gorgon، يا عزيزي، أنظر! -ماذا في مقدورنا أن نفعل؟
أولئك هم فرسان الملك! لا تطؤونا بسنابك خيولكم!
أونوا Eunoa، تنحى عن طريقهم!
وكيف يستطيع رجل له نفس شاعر وذكريات صقلية أن يكون سعيداً في هذه البيئة؟ لقد كان يمدح الملك لكي يستطيع العيش، ولكنه كان يغذي رومة بما في مخيلته من صور جزيرته الأصلية، ولعله كان يغذيها أيضاً بصور جزيرة كوس؛ وكان يحسد الراعي على حياته البسيطة ويتخيله وهو يخطو وراء قطعانه(8/104)
الهادئة الوديعة فوق منحدرات التلال المعشوشبة المطلة على البحار المشمسة. وقد أتم وهو في هذه الحالة نشيد الرعاة-الإيدليون Eidyllion أو الصورة الصغيرة-ووصه ذلك الوصف الذي لا يزال محتفظاً به إلى الآن، وهو نقش ريفي أو قصة شعرية. وليس في الاثنتين والثلاثين مقطوعة التي وصلت إلينا من أشعار ثاوقريطوس إلا عشرة أناشيد رعوية، ولكن هذه الأناشيد العشرة قد طبعت ذلك الاسم الذي يشملها جميعاً بطابع نصف ريفي. وبهذه الأناشيد يدخل وصف الطبيعة آخر الأمر في الأدب اليوناني، وهو لا يدخله دخول الإلهة فحسب، بل يدخله كذلك دخول معالم الأرض الحية المحببة إلى النفوس. ولم ينقل الأدب اليوناني قبل ذلك العهد، بمثل هذا الشعور الحي، الإحساس الخفي بالصلة التي تبعث في النفس حب الصخور والجداول، والماء والأرض والسماء، والاعتراف بفضلها على بني الإنسان.
بيد أن موضوعاً آخر ينفذ في قلب ثاوقريطوس إلى أعماق أبعد من التي ينفذ إليها الشعر الرعوي- ذلك هو موضوع الحب. ولكنه وهو لا يزال يونانياً رغم بعده عن بلاد اليونان، ينشئ أغنيتين شعريتين (الثانية عشرة والتاسعة والعشرين) في الصداقة الجنسية بين الغلمان، ويقص قصصاً واضحاً جياشاً بالعاطفة قصة هرقل وهيلاس Hylas ( الأغنية الثالثة عشرة)، وكيف "قاوم الجبار وحشية الأسد، وأحب شاباً، وعلمه، كما يعلم الأب ابنه، كل ما يستطيع به أن يكون رجلاً طيباً ذائع الصيت؛ ولم يكن يفارق الغلام في مطلع الفجر، أو وقت الظهيرة أو في المساء، ولكنه كان يعمل دائباً على أن يشكله بالصورة التي يحب من صميم قلبه أن يكون عليها، وأن يجعله رفيقه الحقيقي، يماثله في أعمال العظمة". وثمة أنشودة أشهر من الأنشودة السابقة (الأنشودة رقم 1) وهي التي تعيد إلى مسامعنا قصة دفنيس Daphnis لاسنكسورس الراعي الصقلي الذي زمر وغنى زميراً وأغاني بلغ من جمالها أن جعلته الأقاصيص(8/105)
الخرافية مخترع شعر رعاة البقر. وخلاصة القصة أن دفنيس ظل وقتاً ما يراقب قطعانه، ويحسدها على مرحها وحبها، حتى إذا ما نبتت الشعرة الأولى على شفته هامت بحبه إحدى حور الغاب المقدسات، وتزوجت بهِ. ولكنها تقاضت من ثمن حبها بأن جعلته يقسم ألا يحب قط امرأة غيرها. وحاول جهده أن يبر بقسمهِ وأفلح في هذا إلى أن افتتنت ابنة أحد الملوك بشبابه وأسلمت نفسها له في الحقول. وأبصرت هذا أفرديتي، وانتقمت لزميلتها الإلهة بأن جعلت دفنيس يذوب قلبه وجسمه من الحب غير المستجاب. فلما مات أوصى بمزماره إلى بان Pan في أغنية يضيف إليها صاحب القصة قراراً موسيقياً يردده بعد كل مقطوعة في الأغنية:
"أقبل يا سيدي؛ وخذ هذا المزمار الجميل
المغمور في الشمع الذي لا تزال تفوح منه رائحة الشهد
والمربوط عند الشفتين بالخيط. ذلك أن حبي قد أقبل
ليناديني إلى بيت الأموات".
يا ربات الشعر أقلعي، أقلعي عن نشيد الرعاة
"والآن فليخرج العوسج والحسك أزهار،
البنفسج؛ وليزهر النرجس،
فوق العرعر؛ ولتتنكب كل الأشياء طريقها السوي،
وليثمر الصنوبر الكمثري، لأن دفنيس سوف يموت.
ولتطارد الوعول كلاب الصيد، وليطرد البوم الناعق
العندليب من التلال"
يا ربات الشعر أقلعي، أقلعي عن نشيد الرعاة
"قال هذا-ثم لم يقل شيئاً. وكان يود أفرديتي
أن ترفعه؛ ولكن ربات الأقدار
قطعت حبل حياته، فهوى دفنيس(8/106)
في نهر الموت وجرفه التيار، وانقفل الدردور على رأسه
رأس من كانت تحبه ربات الشعر بأجمعها
رأس من لم تغضب منه حور الغاب"
يا ربات الشعر أقلعي، أقلعي عن نشيد الرعاة
وتواصل الأنشودة الثانية موضوع الحب، ولكنها تواصله في نغمة أعنف من هذه النغمة. وتقص كيف أغوى دلفيس Delphis سميثيا Simaetha عذراء سرقوسة ثم هجرها فأخذت تستثير حبه بالتعاويذ، ورحيق العشاق، وتقول إنها اعتزمت أن تتجرع السم إذا عجزت عن كسب حبه. وتقف تحت النجوم وتصف لسيليني Selene إلهة القمر ما دب في قلبها من الغيرة حين رأت دلفيس يسير مع رفيقته.
وما كدنا نصل إلى منتصف الطريق عند مسكن ليكون Lycon
حتى شاهدت دلفيس مقبلاً مع أودانبوس Eudanippus
وكانت وجنات الفتى والفتاة وذقنهما
أنصع بياضاً من القَسْوس حين يكمل نماءه
نعم، وصدراهما أكثر تلألؤاً منك يا سيليني،
يدّلان على أنهما قد اقبلا تواً من كدح المصارعين النبيل.
فكري في حُبي، وفكري من أين جاء، أنت يا سيدة سيليني.
فلما رأيتهما، استشطت غضباً، واتقدت نار الغيرة في صدري
فاكتوى بنار الحب الضائع قلبي. وذبل جمالي ولم أعد
أرقب المراكب حين تمر؛ ولم أدرِ كيف عدت إلى داري
لأن آفة كريهة، أو مرضاً لافحاً، قد قضى عليّ،
وظللت أربعة أيام مسجى على فراشي وعشر ليالٍ قضيتها في ألم ممض.
فكري في حبي، وفكري من أين جاء، أنت يا سيدة سيليني
وكثيراً ما جفت نضرة جسمي واصفرت كالهشيم الجاف،
أجل وتساقط شعر رأسي، وكل ما كنته قبلاً
لم يبقَ منه إلا جلد وعظم، وما من إنسان إلا لجأت إليه،
وما من طريق فيه عجوز شمطاء تتلو فيه رقبة حب إلا سلكته.
لكنني لم أجد عزاء، ومرت الأيام سراعاً.
فكري في حبي، وفكري من أين جاء، أنت يا سيدة سيليني(8/107)
والأنشودة الثانية تصل بنا إلى الحورية أمرلس Amaryllis ومفاتنها البعيدة المنال، وتصل بنا الرابعة إلى الراعي كريدون Corydon والسابعة إلى لسداس Lycidas راعي المعز الشعري-وتلك كلها أسماء قد تغنى بها آلاف الشعراء من فرجيل إلى تنسسن Tennyson. ولقد أصبح أولئك الشعراء الريفيون مثلاً عليا ينطقون بأجمل الأشعار اليونانية، وفي وسع كل منهم أن يقرض أبياتاً سداسية الأوتاد أجمل من أبيات هومر؛ ولكننا قد علمنا أن تراثهم، الذي لا يكاد يدرك العقل جماله كأنه تقليد مألوف، متوسط القدر حين نستسلم إلى ما في أغانيهم من نغمة حزينة. بيد أن ثاوقريطوس يعيدهم إلينا أشخاصاً واقعيين يحدثنا عن ثيابهم التي تفوح منها رائحة أجسامهم، وحين يذكرنا فحش أفكارهم؛ ذلك أن في فكاهاتهم من الفجور ما يحط بعض الشيء من رقيق عواطفهم فيجعلهم أناساً حقيقيين. وجملة القول أن هذا الشعر أكمل شعر يوناني كتب بعد يوربديز، وهو دون غيره من الشعر الهلنستي الباقي إلى يومنا هذا الشعرُ الذي تسري فيه أنفاس الحياة.(8/108)
الفصل الخامِس
بولبيوس
إذا كان العصر الهلنستي لم يلهم إلا شاعراً واحداً، فإنه قد أخرج مقداراً من النثر مختلف الأنواع لم يخرج مثله عصر آخر قبله. ففيه ابتدع التحدث الخيالي وابتدعت المقالة، ودائرة المعارف. وواصل فيه الكتاب إخراج التراجم القصيرة الواضحة، وأضاف الأدب اليوناني في العهد الروماني الذي تلا هذا العهد الذي نتحدث عنه الموعظة والرواية القصصية. أما الخطابة فكانت في دور الاحتضار أنها كانت تعتمد على النزاع السياسي، والتقاضي أمام المحاكم الشعبية، وعلى حق الناس الديمقراطي في أن يتكلموا. وأصبحت الرسالة الأداة المحبوبة لنقل الأفكار سواء في التخاطب أو في الأدب. ففي هذا العصر تقررت صور الرسائل وعباراتها التي نجدها في أقوال شيشرون، بل تقررت أيضاً الديباجة الشهيرة التي كان يستمسك بها أجدادنا ويجلونها: "أرجو أن يصلك هذا وأنت بخير كما تركتني" (28).
وازدهرت كتابة التاريخ، فقد كتب بطليموس الأول، وأراتوس الآخي، وبيرس الأبيروسي مذكرات عن حروبهم، فوضعوا بذلك تقليداً بلغ غايته في قيصر. وكتب مانيثون الكاهن المصري الأكبر باللغة اليونانية حوليات مصر Aigyptaka التي جمعت الفراعنة بطريقة تعسفية إلى حد ما في أسر مالكة لا تزال هي التقسيم المتبع حتى اليوم. وأهدى بروسس كبير الكهنة الكلدان إلى أنتيوخوس الأول تاريخاً لبابل معتمداً على السجلات المسمارية. وأدهش مجسثنيز Megasthenes سفير سلوقس الأول لدى شندراجوبتا ماريا Shandragupta Mourya العالم اليوناني بكتاب عن الهند أخرجه حوالي عام 300. وجاء في فقرة موحية من هذا الكتاب: "إن بين البراهمة طائفة من الفلاسفة ...(8/109)
تعتقد أن الله هو الكلمة، وهم لا يقصدون بها الكلام المنطوق بل يقصدون حديث العقل" (29). وهنا أيضاً نجد عقيدة الكلمة التي قُدر لها أن تكون ذات أثر عميق في الدين المسيحي. وقام تيماوس الترومنيومي Timoeus of Tauromenium بعد أن نفاه أجثكليز Agathocles من صقلية (317) برحلات واسعة في أسبانيا وغالة، ثم ألقى عصا التسيار في أثينة وكتب فيها كتاباً عن صقلية وعن الغرب. وكان طالباً مجداً، بلغ من حرصه على أن يدون في كتابه هذا كل شيء أن لقبه بعض منافسيه "جامع الأسمال العجوز" (30). وقد بذل غاية جهده في أن يصل إلى تواريخ صحيحة للحوادث التي رواها، حتى عثر على طريقة تأريخ هذه الحوادث بدورات الألعاب الأولمبية. وكان شديد النقد لمن سبقع من المؤرخين، وكان من حسن حظه أن مات قبل أن يشهد هجوم بولبيوس الوحشي على كتابهِ (31).
وأعظم المؤرخين في العصر الهلنستي واليوناني، والمؤرخ الوحيد الخليق بأن يوضع إلى جانب هيرودوت وتوكيديدس، هو بولبيوس. وكان مولده في أركاديا عام 208. وكان والده ليكورتاس Lycortas أحد زعماء العصبة الآخية، فقد اختير في مهمة سياسية في رومة عام 189، وعين استرتيموس في عام 184. ونشأ ابنه في الجو السياسي، ودُرب للجندية بإشراف فيلوبيمين، واشترك في حروب الرومان ضد الغاليين في آسية الصغرى، وسافر مع والده في بعثة سياسية إلى مصر (280)، واختير ليكون قائد فرسان العصبة الآخية (هباركوس Hipparchos) في عام 169 (32). ولكن تفوقه هذا قد جر عليه كثيراً من المتاعب: ذلك أنه حين أراد الرومان أن يعاقبوا العصبة الآخية لتأييدها برسوس ضدهم أخذوا ألفاً من زعماء الآخيين رهائن إلى رومة، وكان منهم بولبيوس (167). وظل في المنفى ستة عشر عاماً يعاني فيها آلام النفي، ومنها كما يقول هو نفسه "ضياع الروح المعنوية والشلل العقلي الذي بلغ أقصى حد" (33). ولكن سبيو الأصغر بذل له مودته، وضمه إلى الدائرة السبيونية التي كانت تشمل الرومان المتعلمين، وأقنع مجلس الشيوخ(8/110)
حين كان يشتت غيره من المنفيين في أنحاء إيطاليا، أن يسمح بأن يعيش بولبيوس معه في رومة. ورافق سبيو في كثير من الوقائع الحربية، وأسدى إليه نصائح عسكرية قيمة، وارتاد له سواحل أسبانيا وأفريقية، ووقف إلى جانبه حين أحرق رومة (146). وكان قبل ذلك قد نال حريته في عام 151، واختير في عام 149 ليمثل رومة في تنظيم الوفاق الذي تم بين المدن اليونانية وبين مجلس الشيوخ الروماني، سيدها البعيد عنها. وما من شك في أنه قد قام بهذا الواجب البغيض على خير وجه، لأن كثيراً من المدن كرمته بإقامة أنصاب تذكارية له، وإن لم يكن في وسع الإنسان أن يعرف متى يشعر الناس بفضل أحد عليهم. وبعد أن عاش بولبيوس ستين عاماً في جد متواصل اعتزل هذا النوع من العمل ليكتب كتبه الثلاثة: رسالة في الفنون العسكرية، وحياة فيلوبيمين، وكتاب التواريخ الضخم. ومات كما يموت السادة الأشراف، فقد سقط عن ظهر جواده وهو عائد من رحلة صيد، بعد أن بلغ الثانية والثمانين من العمر.
ولسنا نعرف قط رجلاً كتب التاريخ مستنداً إلى أوسع مما استند إليه بولبيوس من علم، وأسفار، وتجارب. وكانت الخطة التي وضعها لكتابه خطة واسعة النطاق، فلم يكن يقصد أن يكتب تاريخ بلاد اليونان فحسب، بل كان يبغي كتابة تاريخ "العالم كله" (أي أمم البحر الأبيض المتوسط) من عام 221 إلى 146 ق. م. "تلك هي الخطة التي وضعتها، ولكن كل شيء يتوقف على ما تحبوني به الأقدار من حياة تطول حتى أخرجها إلى حيز الوجود" (34). وكان يشعر بحق أن رومة هي مركز دائرة التاريخ السياسي في الفترة التي يريد أن يؤرخها، ولهذا أسبغ على كتابه وحدة جامعة إذ جعل رومة محور حوادثه، ودرس بتشوف الرجل الدبلوماسي الوسائل التي استخدمتها رومة، والتي تدعي كما يدعي البريطانيون أن الظروف هي التي ساقتها لها على غير قصد منها، للسيطرة على عالم البحر الأبيض المتوسط (35). وكان شديد الإعجاب(8/111)
بالرومان، لأنه شاهدهم في عصر مجدهم، ولأن أكثر من عرفهم منهم هم خيرهم في جماعة سبيو. وكان يشعر أنهم يتصفون بتلك الصفات التي لا توجد في الخُلُق ولا في الحكم اليوناني، والتي كان عدم وجودها في اليونان سبباً في القضاء عليهم. وإذ كان هو من أبناء الأشراف وكان صديقاً للأشراف، فإنه لم يعطف قط على المراحل المتأخرة من الديمقراطية اليونانية التي لم تكن في رأيه غير حكم الغوغاء. وكان التاريخ السياسي يبدو له دورة متكررة من الملكية المطلقة (أو الدكتاتورية)، والأرستقراطية، والألجركية، والديمقراطية، ثم الملكية المطلقة مرة أخرى. وكانت خير طريقة في رأيه للنجاة من هذه الدورة هي طريق "الدستور المختلط" الشبيهة بدستور ليقورغ أو دستور رومة-وهو الذي يقضي بوجود مواطنين يستمتعون بحقوق سياسية ولكنها حقوق محدودة، ويختارون كبار الموظفين، ولكن سلطانهم يحدده سلطان مجلس الشيوخ الأرستقراطي الدائم (36). وكانت هذه النظرة هي التي اهتدى بها في كتابه تاريخ عصره.
وبولبيوس هو "مؤرخ المؤرخين" لأنه يهتم بطريقته كما يهتم بموضوعه. وهو يميل إلى التحدث عن الخطة التي يسير عليها، ويعمد إلى التفلسف في كل فرصة تتاح له. وهو يصور مؤهلاته على أنها خير المؤهلات ومثلها الأعلى، ويصر على أن التاريخ ينبغي أن يكتبه أولئك الذين رأوا بأعينهم-أو استشاروا غيرهم ممن رأوا بأعينهم-ما يصفونه من الحوادث. يندد بتيماوس لأنه اعتمد على أذنيه بدل اعتماده على عينه، ويتحدث بفخر وإعجاب عن أسفاره في البحث عن المعلومات، والوثائق، والحقائق الجغرافية، ويذكر لنا كيف اخترق جبال الألب وهو عائد من أسبانيا إلى إيطاليا من نفس الممر الذي اخترقه هنيبال في بروتيوم (37). ويقول إنه يعتزم أن يجعل تاريخه دقيقاً بقدر ما تسمح به "ضخامة عمله، والطريقة الشاملة التي عالجه بها" (38). وهو في تاريخه رجل عقلي النزعة واقعيها، ينفذ فكره في ألفاظ الدبلوماسيين(8/112)
الأخلاقية ليعرف ما تهدف إليه خططهم من اعتراضات حقيقية، ويسره أن يدرك كيف يخدع الناس بسهولة أفراداً كانوا أو جماعات، ويُخدعون أكثر من مرة، بنفس الحيل والأساليب التي خُدعوا بها من قبل (40). ويقول في عبارة شائقة استبق بها مبادئ مكيفلي: "قلما يتفق العمل الخير مع العمل النافع، وما أقل من يستطيعون الجمع بين العملين والتوفيق بينهما" (41). وهو يقبل عقيدة الرواقيين الدينية التي تقول بوجود قوة إلهية مدبرة ولكنه يعطف مجرد عطف على الطقوس الدينية السائدة في عصره، ويسخر ضاحكاً من عقيدة تدخل القوى غير الطبيعية في شؤون العالم (42). ويعترف بما للمصادفات من شأن في التاريخ، وما لعظماء الرجال من أثر فعال في بعض الأحيان، ولكنه لا يتردد في أن يكشف عن تسلسل العلل والمعلولات تسلسلاً حقيقياً خارجاً في كثير من الأحيان عن إرادة الآدميين، وبذلك يكون التاريخ مصباحاً مضيئاً للعقول في الحاضر والماضي (44). "ليس شيء أسرع تصحيحاً لسلوك الناس من معرفة الماضي" و "خير تعليم وإعداد للحياة السياسية النشيطة هو دراسة التاريخ" (45)؛ "والتاريخ، والتاريخ وحده، هو الذي ينضج عقولنا، ويهيئنا للنظر إلى الأشياء نظرة صحيحة مهما تكن الأزمات أو سير الحوادث" (46). وهو يرى أن خير طريقة لفهم التاريخ هي أن ينظر إلى حياة الأمة على أنها وحدة عضوية، ثم تضم قصة كل جزء من أجزائها إلى تاريخ حياة الأمة بأجمعه. والذي يعتقد أنه إذا درس التواريخ منفصلة بعضها عن بعض يستطيع أن ينظر نظرة صحيحة إلى التاريخ بأجمعه ليشبه في رأيي ذلك الرجل الذي نظر إلى أطراف حيوان كان من قبل حياً وجميلاً، ثم يتصور أنه كمن شاهد بعينه الحيوان نفسه في جميع حركاته وأدرك ما فيها من رشاقة وجمال (47).
وقد أبقى الدهر على خمسة من الكتب التي قسم إليها بولبيوس تواريخه، وأنجى المختصرون قطعاً متفرقة قيمة من الكتب الباقية. ومما يؤسف له أشد(8/113)
الأسف أن أخرج هذه الفكرة العظيمة إلى حيز الوجود قد أفسدته لغة ذلك الوقت اليونانية الفاسدة، ونقده المر لغيره من المؤرخين، واقتصاره تقريباً على شؤون الحرب والسياسة، وتقسيمه قصته تقسيماً سخيفاً إلى دورات أولمبية، وكتابة تاريخ جميع أمم البحر الأبيض المتوسط في كل دورة مقدارها أربع سنوات، وما أدى إليه ذلك من استطرادات مملة ومن انعدام التسلسل إلى حد يحير القارئ ويضله. ويسمو بولبيوس في قصته أحياناً إلى البلاغة المسرحية، ولكنه يتجنب بشدة الأسلوب الخطابي المزخرف الذي كان شائعاً بين من سبقوه مباشرة من الكتاب، حتى أنه ليفخر بثقل أسلوبه وخلوه من البهجة (48). وفي ذلك يقول أحد النقاد الأقدمين. "لا أعرف قط رجلاً قرأ كتابه من أوله إلى آخره" (49). ولقد كاد العالم أن ينساه، ولكن المؤرخين سيظلون دهراً طويلاً يدرسون كتابه لأنه كان من أعظم أصحاب النظريات في كتابة التاريخ وأعظم من طبقوها في كتاباتهم، ولأنه جرؤ على أن يكون واسع الأفق في كتابته، وأن يكتب "تاريخاً عاماً"؛ ولأنه فوق هذا وذاك أدرك أن الحقائق وحدها لا قيمة لها إلا مع شرحها وتفسيرها، وأن الماضي لا قيمة له إلا من حيث هو جذورنا المتأصلة والضوء ينير لنا حاضرنا ومستقبلنا.(8/114)
البابُ السَّابع والعِشرون
الفن في عهد التشتت
الفصل الأوَّل
موضوعات أشتات
لقد تأخر اضمحلال الحضارة اليونانية من ناحية الفن زمناً طويلاً. ففي هذه الناحية لا يقل ازدهار العصر الهلنستي، في خصوبة الإنتاج وفي الابتكار، عن ازدهار أي عصر آخر في التاريخ. وما من شك في أن الفنون الصغرى لم يطرأ عليها شيء من الاضمحلال، وأن مهرة الصناع في الخشب والعاج والفضة والذهب انتشروا في جميع أنحاء العالم اليوناني الذي اتسعت رقعته. وفيهِ بلغ الحفر على الجواهر والنقود أعلى درجاته، وكان الملوك الهلنستيون في البلاد الممتدة إلى بكتريا يحلون نقودهم بالكثير من النقوش، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن القطعة ذات العشر الدرخمات من نقود هيرون الثاني كانت أجمل ما رأته العين في فن المسكوكات الذي سجله التاريخ. واشتهرت الإسكندرية بمن فيها من صائغي الذهب والفضة، الذين لم يكن فنهم يقل جمالاً عن اسلوب شرائعها الذي لا تشوبه قط شائبة، كما اشتهرت بأحجارها الثمينة وأصدافها ذات النقوش البارزة الملونة، وبخزفها الأخضر والأزرق، وبفخارها المغطى بطبقة زجاجية بديعة، وبزجاجها الكثير الألوان ذي النقش الدقيق الجميل. ويتجلى هذا الفن بأجلى مظاهره في مزهرية بورتلاند Portland وهي في أغلب الظن من صنع الإسكندرية، فقد نُقشت عليها صور رشيقة محفورة في طبقة زجاجية ناصعة البياض في لون اللبن الصافي فوق جسم من الزجاج الأزرق. وما أشبه هذه(8/115)
التحفة في الزمن القديم بتحف جوسيا ودجود في الزمن الحديث (1).
وظلت الموسيقى شائعة بلين جميع طبقات السكان، وتبدلت فيها السلالم والأنغام في اتجاه الرقة والجدة (1)؛ وأدخلت الأنغام الناشزة القصيرة في النغمات المتوافقة؛ وازدادت الآلات والتآليف الموسيقية تعقيداً (2). وكبرت "زمارات بان" القديمة حوالي عام 420 في الإسكندرية حتى صارت مجموعة من الزمارات البرنزية، وحسن تسبيوس حوالي عام 175 هذه الآلة فجعلها أرغناً يدار بالماء والهواء مجتمعين ويجعل في مقدور العازف أن يُحدث به نغمات من الصوت جد طويلة. ولسنا نعرف عن تركيب هذه الآلة أكثر مما ذكرنا، ولكننا سنرى كيف تطورت تطوراً سريعاً في أيام الرومان حتى صارت هي أرغن المسيحية وأرغن هذه الأيام (3). وكانت الآلات تجتمع فيتكون منها جوقة العازفين؛ وكانت ألحان من الموسيقى الآلية الخالصة مكونة في بعض الأحيان من خمس حركات تُعزف في ملاهي الإسكندرية وأثينة وسرقوسة (4). ونال عدد من مهرة الموسيقيين شهرة واسعة وأصبحت لهم مكانة اجتماعية تتناسب مع أجورهم العالية. وفي عام 318 كتب أرستكسنوس Aristoxenus التاراسي، تلميذ أرسطو، رسالة صغيرة تُدعى قواعد الألحان صارت هي النص القديم الذي يُرجع إليه في النظريات الموسيقية. وكان أرستكسنوس هذا رجلاً جاداً، لم يستسغ كما لم يستسغ معظم الفلاسفة موسيقى زمانهم. ويروي عنه أثينيوس قوله في عبارات سمعتها أجيال كثيرة من بعده: "بعد أن طغت البربرية على دور التمثيل، وبعد أن فسدت الموسيقى وقُضي عليها القضاء الأخير، وأصبحنا نحن أقلية صغرى في هذا الزمان، نستعيد في عقولنا، ونحن جالسون بمفردنا، ما كانت عليه الموسيقى في الأيام الخالية" (5).
أما عمارة العصر الهلنستي فليس لها وقع في نفوسنا لأن الدهر قد عدا عليها
_________
(1) وقد سميت كذلك نسبة إلى دوق بورتلاند الذي جاء بها إلى رومة. وهي الآن في المتحف البريطاني.(8/116)
فسواها بالأرض وناصبها العداء بلا تفريق بين بعضها والبعض الأخر. غير أننا نستدل من الأدب ومن آثارها، على أن فن العمارة اليوناني أنتشر في هذا العصر من بكتريا إلى أسبانيا. ولقد نشأ من التأثير المتبادل بين بلاد اليونان والشرق خليط من الأنماط: فغزت الأروقة المعمدة والعرضة الراكزة داخل آسية، ودخلت الأقواس والعقود والقباء بلاد الغرب. ففي ديلوس نفسها، وهي المركز اليوناني القديم، قامت تيجان العمد المصرية والفارسية. وقد بدا الطراز الدوري جامداً كئيباً في عصر أولع بالرقة والزينة، ولهذا أخذ يختفي من مدينة إثر مدينة، في الوقت الذي أخذ فيه الطراز الكورنثي المزخرف يرقى حتى بلغ ذروته. وكانت النزعة الدنيوية في الفن تجاري في سرعة تقدمها النزعة الدنيوية في نظام الحكم، وفي الشرائع والأخلاق، والآداب، والفلسفة؛ وأخذت العمد المقامة حول البيوت، والمداخل الواسعة، والأسواق، ودور القضاء، وقاعات الجمعيات الوطنية، ودور الكتب والتمثيل، ومدارس التدريب الرياضي، والحمامات، أخذت هذه العمد تحل محل المعابد؛ وكانت قصور الملوك والأفراد ميداناً جديداً ظهر فيهِ فن التخطيط والزخرف اليوناني. وصارت مداخل البيوت تزدان بالرسوم، والتماثيل، والنقوش على الجدران، كما أخذت الحدائق الخاصة تحيط بالبيوت الواسعة الفخمة. وأنشئت للملوك بساتين وحدائق، وبحيرات، وسرادقات في حواضر البلاد، وكانت تفتح عادة للجماهير. وتطور فن تخطيط المدن ليجاري فن العمارة، فخططت الشوارع على طراز هبودامس Hippodamus الرباعي، وكان منها شوارع رئيسية لا يقل عرضها غن ثلاثين قدماً-وهو عرض يتناسب مع الخيل والمركبات التي كانت وسائل النقل في تلك الأيام. وكانت مدينة أزمير تزهو بشوارعها المرصوفة (6)، ولكن لأكبر الظن أن معظم شوارع المدن الهلنستية كانت أرضاً معبدة تعرف مساوئ التراب والطين.
وكثرت المباني الجميلة كثرة لم يكن لها مثيل من قبل؛ ففي أثينة شيدت في(8/117)
القرن الثاني العمد الكورنثية المقامة في الأولمبيوم ووضع الروماني كوسوتيوس Cossotius الخطة العامة للصرح الرحب العظيم الذي كان أفحم بناء في أثينة-وكان كوسوتيوس بهذا العمل قلباً للوضع المألوف وهو اعتماد رومة على الفنانين اليونان. ويصف ليفي هيكل زيوس الأولمبي بأنه لم يرَ بناء غيره يليق لأن يكون مسكناً لإله الآلهة (7). ولا تزال ستة عشر عموداً من أعمدته قائمة وهي أجمل النماذج الباقية من الطراز الكورنثي. وفي إلوسيس أتم صلاح أثينة في دور احتضاره، وأتمت عبقرية فليون، هيكل الطقوس الخفية الفخم الذي بدأه بركليز في موضع كان مكاناً مقدساً منذ العصور الميسينية. ولم يبقَ من هذا الهيكل إلا قطع متفرقة، ولكن بعضها يدل على أن التخطيط والنحت اليونانيين كانا لا يزالان وقتئذ في أوجهما. وقد كشف الفرنسيون في ديلوس عن قواعد هيكل أبلو كما كشفوا عن مدينة كانت في أيامها مزدحمة بالمباني الفخمة المحصصة للأعمال التجارية أو لإيواء مائة من الآلهة اليونانية أو الأجنبية. وأقام هيرون الثاني في سرقوسة كثيراً من المباني الضخمة ذات الروعة والجلال، وجدد دار التمثيل التابعة للبلدية وزاد في مساحتها، ولا نزل في هذه الأيام نقرأ اسمه منقوشاً على حجارتها. وزين البطالمة مدينة الإسكندرية بالمباني الشاهقة التي أذاعت اشتهارها بالجمال، ولكن شيئاً من هذه المباني لم يبقَ حتى الآن. وشاد بطليموس الثالث عند إدفو معبداً هو أفحم ما بقي من العمائر من عصر الاحتلال اليوناني، وشاد خلفؤه معبد أيزيس في جزيرة فيلي وجددوا بناءه. وفي أيونيا أقيمت بيوت جديدة للآلهة في ميليطس، وبريني Priene، ومجنيزيا، وغيرها من المدن؛ وتم في عام 300 ق. م بناء المعبد الثالث لأرتميس في إفسوس، وشاد المهندسان بيونيوس Paeonius، ودفنيس في ديديا بالقرب من ميليطس معبداً أوسع من هذا تكريماً لأبلو (332 ق. م. -41م)؛ ولا تزال صفحات الأعمدة الأيونية الفخمة التي كانت قائمة في هذا المعبد باقية إلى اليوم. وفي برجموم أذاع(8/118)
أومنيز الثانث شهرت عاصمته في طول بلاد اليونان وعرضها بما أنشأه فيها من المباني وخاصة مذبح زيوس الذائع الصيت الذي كشفه الألمان في عام 1878، وأعادوا بناءه بحذق عظيم في متحف برجموم القائم في برلين. وكانت مجموعتان فخمتان من الدرج حول بابين عظيمين لهذا المذبح تؤديان إلى بهو رحب ذي عمد؛ وكان حول مائة وثلاثين قدماً من القاعدة إفريز يبلغ في أيامه من الفخامة ما بلغه ضريح الإسكندر في القرن الرابع أو البارثنون في القرن الخامس. وقصارى القول أن بلاد اليونان لم تزدن في وقت من الأوقات بمثل ما ازدانت به في تلك الأيام، وأن حماسة مواطنيها ومهارة فنانيهالم تفعلا مثل ما فعلتاه في ذلك الوقت من تحويل الكثير من مساكن أهلها إلى قصور فخمة ذات روعة وجمال.(8/119)
الفصل الثاني
التصوير
التصوير في العادة آخر فن عظيم ينضج في الحضارة؛ فهو في المراحل الأولى من مراحل الثقافة يخضع للعمارة الدينية ولعمل التماثيل الدينية، ولا يصبح فناً مستقلاً إلا حين تدعوه الحياة الخاصة والثروة الخاصة إلى زخرفة المنازل أو لتخليد ذكرى اسم من الأسماء. ولما أن أضعفت موت الديمقراطية من معنى الدولة في عقول الناس، عاد الفرد إلى طلب السلوى في منزله، فشاد الأغنياء قصوراً يسكنون فيها، وأدوا أجوراً عالية للفنانين الذين يستطيعون أن يزينوا فسقية أو يجملوا جداراً. فكانت الإسكندرية تتخذ التصوير على الزجاج وسيلة من الوسائل التي تزين بها الجدران؛ وكانت جميع المدن الهلنستية تستخدم لهذا الغرض إطارات متحركة من الخشب؛ وكان الأمراء والكبراء يفضلون عن هذه الإطارات الصور الضخمة المرسومة على ألواح من الرخام يمكن فصلها ووضعها في أي مكان شاءوا. ويصف بوسنياس عدداً لا يُحصى من الصور التي رآه في تجوالهِ ببلاد اليونان، ولكن الدهر لم يبقِ منها إلا على رسوم حائلة من الخشب أو الحجارة، ولهذا لا نجد سبيلاً لمعرفة حقيقة هذه الصور إلا الحدس والتخمين والاعتماد على الصور الحائلة المتوسطة القدر المنقولة عنها والتي عُثر عليها في بمبياي، وهركولانيم Hercolaneum ورومة.
وظلت بلاد اليونان تضع مصوريها في المستوى العالي الذي تضع فيهِ مثاليها ومهندسيها، بل لعلها كانت تضع الأولين في مستوى أعلى من مستوى الآخرين. وكانت تؤدي إليهم من الأجور مثل ما يؤديه الأمريكيون للمصورين في هذه الأيام، وتروي عن حياتهم قصصاً تدل على حبها وتكريمها لهم. ومنها أن ثسكليز الإفسوسي، حين لم ينل من الملكة استرتنيس Stratonice ما كان يرجو من(8/120)
عطاء صورها وهي تعبث مع صائد سمك، وعرض الصورة على الجماهير، ثم ركب البحر لينجو من القتل. ورأت استرتنيس "أن الصورتين قد عبرتا عن ملامحها وملامح الصياد تعبيراً يدعو إلى الإعجاب" فعفت عنه وسمحت له بالعودة (8). ولما استولى أراتس على سكيون أمر بإتلاف جميع صور طغاتها السابقين. وكان ملانثوس Milanthus ( وهو مصور من رجال القرن الرابع) قد صور أحد هؤلاء الطغاة واسمه أركستراتوس Archestratus إلى جانب مركبته الحربية تصويراً حياً واضحاً تأثر به الفنان نيكليز Neacles فتوسل إلى أراتس أن يبقي على الصورة، وقبل أراتس رجاءه على شريطة أن يستبدل بصورة أراتس صورة أخرى لا تثير من البغض ما تثيره صورة هذا الرجل (9). ويقول استرابون إن بروتجنيز Poatogenes صور ساتيرة Satyr (1) ، وإلى جانبها صورة حجل وقد بلغت صورة الحجل من الإتقان درجة جعلت أخواته الحية تناديه، ثم محا المصور بعدئذ صورة الطائر حتى يقدر الناس جمال صورة الساتيرة (10). ويقول بلني أن هذا المصور نفسه وضع أربع طبقات من اللون على صورته الذائعة الصيت صورة ياليسوس Ialyisus ( الذي يزعم الناس أنه مؤسس المدينة المسماة بهذا الاسم في رودس)، حتى تبقى الألوان ناضرة زاهية إذا ما أزال الدهر الطبقة العليا منها. ويقال إن بروتجنيز قد غضب من عجزه عن أن يصور الزبد الذي يتساقط من فم كلب ياليسوس تصويراً صادقا، فلم يتمالك نفسه ورمى الصورة بأسفنجة يريد أن يتلفها. ووقعت الأسفنجة بطبيعة الحال على المكان، وتركت في ذلك المكان بقعة من اللون شبيهة كل الشبه بالزبد الخارج من فم كلب يلهث. ولما أن حاصر دمتريوس بليورسيتيز جزيرة رودس أبى لأن يشعل النار في تلك المدينة لئلا تتلف هذه الصورة. ولم ينقطع بروتجنيز عن العمل أثناء الحصار في مرسمه، وكان هذا المرسم أما خط زحف المقدونيين مباشرة. واستدعاه دمتريوس إليه وسأله:
_________
(1) حيوان خرافي نصفه الأعلى آدمي ونصفه الأسفل ماعز. (المترجم)(8/121)
لِمَ لمْ يحتم داخل أسوار المدينة كما فعل غيره من المقدونيين؟ فأجابه بروتجنيز بقولهِ: "ذلك بأني أعرف أنك إنما تشن الحرب على أهل رودس لا على الفن". فما كان من الملك إلا أن عين له حرساً يحمه، وترك الحصار ليشاهد أعمال الفنان العظيم (11).
وكان المصورون الهلنستيون يعرفون خداع المنظور، وتمثل الأشخاص بارزين في عين الناظر، وسقوط الضوء، وتجمع الأشكال. ومع أنهم لم يستخدموا المناظر الطبيعية إلا لتكون مؤخرة للصورة لتجميلها، وأنهم صوروها حين استخدموها بطريقة خالية من الحياة جارية على العرف (إذا حكمنا عليها مما نقل عنها من الصور في بمبياي)، فإنهم أدركوا على الأقل أن الطبيعة موجودة، وجعلوا لها مكاناً في الفن في الوقت الذي كان ثيوقريطس يجعل لها مكاناً في الشعر. ولكنهم كانوا شديدي الولع بالإنسان وبأعماله كلها إلى حد غفلوا معه عن الأشجار والأزهار. لقد اقتصر أسلافهم على رسم الآلهة والأغنياء من الآدميين أما الفنانون الهلنستيون فقد افتتنوا بكل ما هو آدمي وتبينوا أن الموضع القبيح المنظر قد يصور تصويراً جميلاً أو على الأقل يأتي بأجر كبير، فانقلبوا يصورون الحياة البشرية بحماسة كحماسة الهولنديين، وسرهم أن يصوروا الحلاقين والأساكفة والعاهرات، والخياطات، والحمير، والرجال المشوهين، والحيوانات الغريبة. ثم أضافوا إلى هذه الصور المأخوذة من الحياة المألوفة أو الريفية، صوراً من الحياة الساكنة الجامدة-كالكعك، والبيض، والفاكهة، والخضر، والسمك، والطير، والحيوان المصيد، والخمر، وكل ما يتصل بها من الطقوس القديمة. وكان سوسوس Sosus البرجمومي يسلى معاصريه بأن يمثل لهم أرضاً من الفسيفساء الخادعة لا تزال منتشرة عليها بقايا وليمة (12). لكن المصورين المحافظين قد ساءهم هذا فأخذوا ينددون بهؤلاء الذين يرفعون من شأن الأشياء العادية ويصفونهم بأنهم(8/122)
يصورون الفحش والأقذار Pornographoi and Rhparographoi وحرم القانون في طيبة تصوير الأشياء القبيحة (13).
وقد أنقذت حمم بركان فيزوف بعض روائع ذلك العصر الكبيرة من النسيان وإن لم تحفظ لنا هذه الحمم أسماء أصحابها. وقد وجد في أستيا مظلم يبدو أنه صورة ضعيفة منقولة عن أصل هلنستي، وهي معروفة لدينا باسم عرس الألدر برنديني The Aldorbrandini Wedding نسبة إلى الأسرة الإيطالية التي كانت تمتلكها قبل أن نجد لها مكاناً في متحف الفاتيكان. وفي هذه الصورة تُظهر أفرديتي ممتلئة الجسم شبيهة بصور الرسام الهولندي روبنز Rubens تبعث الشجاعة في قلب العروس الخائفة، على حين ينتظر العريس، وهو في غير حاجة إلى من يستحثه، على أحر من الجمر إلى جانب الفراش. وأجمل هاتين الشخصيتين الرئيسيتين صورة امرأة رشيقة توقع نشيداً على مزهر حائل اللون. وثمة صورة جدار من بمبياي يقول بعض الخبراء، وإن لم يرقَ قولهم إلى مرتبة اليقين، وأنها منقولة عن أصل يوناني رُسِمَ في القرن الثالث. وهي تصور أخيل وإلى جانبهِ بتركلوس، يسلم، وهو غاضب، بريسيس لفجور أجمنون. ويبدو لأذواقنا ومألوف عاداتنا أن في صور الآدميين في هذا الرسم من الجحيم أكثر مما فيها من الجمال؛ ذلك أننا قد ألفنا أن نرى أجسامناً أقل من هذه الأجسام وسيقاناً أطول من تلك السيقان؛ ولكننا يجب أن نسلم أن الفنانين الأقدمين كانوا يعرفون الرجال اليونانيين والنساء واليونانيات، أحسن مما نعرفهم نحن أو يعرفهم من سيأتون بعدنا. وقد ذهب الزمان بنضرة هذه الصورة؛ وما من شيء يستطيع أن يعيد لها ما كان لها من بهاء ونضارة، كانا بلا ريب موضع إعجاب جمهرة الشعب وملوكه، إلا الخيال القوى القادر على تصوير ما كانت عليه في الأيام الخوالي.
وأوقع من هذه في النفس قطع من الفسيفساء (1) الرومانية منقولة على
_________
(1) وهذه الفسيفساء وصور أخيل وبريسيس محفوظتان في متحف نابلي.(8/123)
ما يظهر عن رسوم هلنستية. لقد كانت الفسيفساء من النون القديمة في مصر وأرض الجزيرة، ثم أخذها عنهما اليونان وسموا بها إلى أعلى الدرجات، فكانت الصور تقسم بالخطوط إلى مربعات صغيرة، وكانت المكعبات الرخامية الدقيقة تلون بحيث إذا وضع بعضها إلى جانب البعض الآخر مثلت الصورة تمثيلاً لا يبليه الزمان، ولا تزال قطع من الفسيفساء محتفظة بألوانها تقص علينا القصة القديمة وإن كانت قد وطأتها أرجل لا يحصى عديدها. وقد عُثر في بمبياي على صورة تمثل واقعة إسوس، ويرى بعضهم أنها ذات صلة بصورة يونانية من تصوير فلكسينوس (وإن كان هذا مشكوكاً فيهِ). وتتكون هذه الصورة من نحو 1. 500. 000 حجر، لا تزيد مساحة كل منها على مليمترين مربعين أو ثلاثة مليمترات، ويبلغ طول هذه الفسيفساء كلها ست عشرة قدماً، ويبلغ عرضها ثماني أقدام. وقد ألحق بها الزلزال وثوران البركان اللذان نكبت بهما بمبياي في عام 79م. ضرراً بليغاً، ولكن ما بقي منها يكفي للدلالة على ما كانت تمتاز به هذه الصورة من براعة وقوة. ففيها يرى الإسكندر وقد اسود جسمه وانتفش شعره من وهج الشمس وقذارة الماء، يوجه الهجوم وهو على ظهر جواده بوسفلسوس Bucephalus، ولا يبعد إلا بضع أقدام عن مركبة دارا الحربية. وقد ألقى عظيم من عظماء الفرس نفسه بين الملكين، وتلقى في جسمه طعنة من رمح الإسكندر. وينحني دارا من مركبته نحو صديقه المجندل، غير عابئ بما يتعرض له من الخطر (لأن الإسكندر يوجه إليه طعنته الثانية) ووجهه مليء بالقلق والحزن. ويهجم فرسان الفرس لينقذوا مليكهم، ويظل رمح الإسكندر متزناً في الهواء. وأهم ما في هذه الصورة وأبدعه هو تمثيل العواطف الكثيرة المعقدة في وجه الإسكندر؛ ولكن أجمل رأس في هذه المجموعة كلها هو رأس جواده. وليس في الفسيفساء كلها ما هو أعظم من هذه القطعة.(8/124)
الفصل الثالِث
النحت
لم تبلغ التماثيل من الكثرة في عصر من العصور مثل ما بلغته في العصر الهلنستي، فقد كانت الهياكل والقصور، والدور والشوارع، والحدائق والبساتين كلها غاصة بالتماثيل التي تصور كل ناحية من نواحي الحياة البشرية وكثيراً من مظاهر العالم النباتي والحيواني. وكانت تمثيل نصفية تخلد إلى وقت ما الموتى من الأبطال والمشهورين من الأحياء؛ وانتهى الأمر بأن نحتت من الحجارة تماثيل للمعاني المجردة كالحظ، والسلام، والنميمة، والفرصة السانحة.
وقد صنع يوتكيديز السكيوني Eutychides of Sicyon تلميذ ليسبوس Lysippus لمدينة أنطاكية أنموذجاً ذائع الصيت لتمثال الحظ ليمثل فيه روح المدينة وأملها. وواصل تماخوس Timachus وسفسودوتسوس Cephisodotus ابنا بركستليز تقاليد النحت الأثيني الظريفة. وفي البلوبونيز طبقت شهرة دمفون المسيني Damphon of Messene الخافقين حين نحت مجموعته الضخمة المكونة من دمتر، وبرسفوني، وأرتميس. غير أن الكثرة الغالبة من المثالين الجدد كانت تتبع أقرب طريق ينقذها من الموت جوعاً ألا وهو تزيين قصور الملوك والعظماء اليونان الشرقيين.
ونشأت في جزيرة رودس في القرن الثالث مدرسة في النحت ذات طابع خاص لا مثيل له في غيرها من المدارس. فلقد كان في الجزيرة مائة تمثال ضخم يكفي الواحد منها على حد قول بلني، لأن ينشر في الآفاق شهرة مدينة. وكان أعظمها كلها تمثال ضخم من البرونز لهليوس Helios إله الشمس صنعه كاريز(8/125)
اللندوسي Chares of Lindus حوالي عام 280. وتقول رواية ضعيفة إن كاريز هذا قد انتحر حين رأى أن نفقة التمثال قد زادت كثيراً على ما كان مقدراً لها، وإن لاكيز اللندوسي Laches of Lindus أتم التمثال. ولم يكن هذا التمثال مقاماً إلى جانبه ويعلو إلى ارتفاع مائة قدم وخمس أقدام؛ ويوحي هذا الحجم بأن ذوق أهل رودس كان يتجه نحو المظاهر الفخمة والضخامة، ولكن لعل الرودسيين كانوا يستخدمون منارة للسفن ورمزاً للجزيرة. وإذا جاز لنا أن نصدق ما جاء في قصيدة ديوان الشعر اليوناني (15) فإن هذا التمثال كان يرفع بيده ضوءاً وأنه كان يرمز إلى الحرية التي تستمتع بها رودس-وتلك سابقة عجيبة لتمثال شهير في أحد الثغور الحديثة (1). وكان هذا التمثال بلا ريب يُعد إحدى عجائب الدنيا السبع؛ ويقول بلني أنه:
"قد ألقاه على الأرض زلزال بعد ست وخمسين عاماً من إقامته؛ وإنه قل ما يوجد من الرجال من يستطيع تطويق إبهامه بذراعيهِ، وإن أصابع يديه أكبر من أجسام معظم التماثيل، وإنه إذا ما كسرت أطرافه شوهد في داخل الجسم كهوف واسعة مفتوحة. ويُرى في داخله أيضاً صخور ضخمة أراد المثال أن يثبت بها التمثال في موضعه أثناء اشتغاله بإقامته. ويقال إنه قضى في نحته اثنتي عشرة سنة، وإن نفقاته بلغت ثلاثمائة وزنة-وقد حصلت الجزيرة على هذا المبلغ من آلات الحرب التي تركها دمتريوس وراءه بعد حصاره الفاشل للجزيرة (2) ".
ويكاد يضارع هذا التمثال في شهرته التاريخية مجموعة أخرى من صنع المدرسة الرودسية تُعرف باسم اللاؤكؤن Laocoon. وقد شاهد بلني هذه المجموعة في قصر الإمبراطور تيتس، وعُثر عليها عام 1506م في حمامات هذا
_________
(1) يبلغ ارتفاع تمثال الحرية مائة وإحدى وخمسين قدم من القاعدة إلى طرف الشعلة.
(2) وقد بقي في المكان الذي سقط فيهِ حتى بيعت مواده في عام 653. وقد استخدمت في نقلها تسعمائة بعير.(8/126)
الإمبراطور؛ ولا يكاد يخامرنا أدنى شك في أنها هي المجموعة الأصلية التي نحتها أجسندر Agesander، وبليدوروس Polydorus، وأثينودوروس Athenodorus من قطعتين كبيرتين من الرخام في القرن الثاني أو الثالث قبل الميلاد (18). وقد هز كشفها مشاعر إيطاليا في عهد النهضة وكان لها أعمق الأثر في ميكل أنجلو الذي حاول عبثاً أن يعيد إلى التمثال الأوسط فيها ذراعه اليمنى الضائعة (1). وكان لاؤكؤون الذي تسمى المجموعة باسمه كاهناً طروادياً نصح الطرواديين بأن لا يقبلو االحصان الخشبي حين بعث به اليونان إليهم وقال لهم، كما يروي فرجيل، "أني أخشى اليونان حتى وهم يحملون إلينا الهدايا Timeo Danaos et Dona Ferentes (19) ". وأرادت أثينا التي تحب اليونان أن تعاقبه على حكمته فأرسلت إليهِ حيتين لتقتلاه. فقبضتا أولاً على ولديهِ، وأبصرهما لاؤكؤون فهجم عليهما لينقذهما، فوقع بين طيات الحيتين، وانتهى الأمر بأن طُحنت أجسامهم جميعاً وماتوا من سم أنياب الحيتين. ولقد أجاز المثالون لأنفسهم ما أجازه فرجيل لنفسهِ (وما أجازه لنفسه سفكليز في فلكتيتس) فعبروا عن الألم بقوة، ولكن النتيجة لا تتفق وما في طبيعة الحجر من دوام. إن الألم في الأدب وفي الحياة عادةً لا يدوم؛ أما في اللاؤكؤون فأن صرخة الألم قد دامت دواماً غير طبيعي، والناظر إليها لا يتأثر كما يتأثر بحزن دمتر الصامت (2). على أن الذي يثير إعجابنا هو براعة الفكرة وإتقان التنفيذ. نعم إن العضلات قد بولغَ فيها، ولكن أطراف الكاهن الشيخ، وجسمي ولديهِ قد صيغا صياغة مثلت في كثير من الهيبة والتحفظ ولعلنا لو عرفنا
_________
(1) والذراع المعادة التي في الفاتيكان من صنع برنيني Bernini، وهي متقنة الصنع في تفاصيلها، غير أنها تفسد على المجموعة وحدتها المركزية. ولكن ونكلمان رغم هذا قد أعجب بالمجموعة إعجاباً حمل لسنج Lessing حين قرأ وصفه إياها على أن يؤلف كتاباً في نقد حاسة الجمال، يشير إليها تارة من طرف خفي ويدور حولها تارة أخرى في صراحة واضحة.
(2) البادي في تمثال دمتر المحفوظ بالمتحف البريطاني.(8/127)
القصة قبل أن نشاهد المجموعة لتأثرنا بها كما تأثر بلني، الذي ظنها أعظم عمل من أعمال الفن اللدن (20).
وقامت في مراكز يونانية أخرى مدارس زاهرة للنحت في هذا العصر الذي لم يقدره الناس حق قدره؛ غير أن الإسكندرية قد انقلبت أرضها وتبدلت مبانيها مراراً كثيرة في أثناء تاريخها الطويل، فلم تحتفظ بما أقامه الفنانون اليونان للبطالمة من أعمال؛ وكل ما بقي من الأعمال الجليلة الشأن هو تمثال النيل الوقور المحفوظ في متحف الفاتيكان والذي يسنده ستة عشر طفلاً ترمز إلى الستة عشر قيراطاً التي يعلوها النهر في فيضانه. وقد نحت مثال يوناني من صيدا عدداً من التوابيت لطائفة غير معروفة من الكبراء أحسنها كلها التابوت المسمى خطأ بتابوت الإسكندر والمحفوظ في متحف اسطنبول. ويضارع ما فيه من الحفر ما في إفريز البارثنون وإن قل عنه في الكم؛ فالصور جميلة متقنة التناسب، والنحت قوي ولكنه واضح، والألوان الهادئة التي لا تزال عالقة بالحجارة تدل على العون الذي كان يلقاه النحت اليوناني من فن التصوير. وصب أبلونيوس وتورسكس في ترالس Trallas من أعمال كاريا Caria حوالي 150ق. م. مجموعة ضخمة من البرنز لرودس تُعرف الآن باسم ثور فارنيز. وتتألف هذه المجموعة من غلامين وسيمين يسيطان درسي Dirce الجميلة ويدفعانها إلى قرني ثور وحشي، لأنها أساءت معاملة أمهما أنتيوبي Antiope التي تنظر إليهما راضية مطمئنة اطمئناناً تعافه النفس (1). وفي برجموم صب المثّالو ن اليونان من البرنز عدة مجموعات حربية أقامها أتلس أول الأمر في عاصمة ملكه ليخلد بها ذكرى صد غارات الغاليين. وأراد أتلس أن يعبر عما تشعر به الثقافة اليونانية بأجمعها من فضل أثينة عليها، ولعله أراد أيضاً أن
_________
(1) وأصل هذه المجموعة ضائع. وقد عُثر في القرن السادس عشر وفي حمامات كركلا Cararcalla على نسخة رخامية رومانية منقولة عنها في القرن الثالث الميلادي، وأصلحها ميكل أنجلو، واحتفظ بها وقتاً ما في قصر فارنيز وهي الآن في متحف نابلي.(8/128)
يذيع شهرته، فأهدى صوراً من هذه المجموعة لتقام على الأكربوليس بأثينة. وقد بقيت قطع صغيرة منها في صورة الغالي المحتضر المحفوظ في متحف الكبتولين، وفي الصورة المسماة خطأ بيتس وأرّيا (1) -وهي صورة غالي يؤثر الموت على الأسر فيقتل زوجته أولاً ثم يثني بنفسه- وفي قطع أخرى أصغر منها منتشرة الآن في مصر وأوربا. ولعل من هذه المجموعة أيضاً صورة الأمزونة الميتة (2) التي لا عيب في تفاصيلها كلها عدا ثدييها الذين بلغا من الكمال حداً لا يتصوره العقل. وتكشف هذه الصورة عن تحفظ في التعبير عن الانفعالات شبيهة بما كان في عصر اليونان الزاهر. فالرجال المغلوبون يقاسون الآلام والأحزان المبرحة، ولكنهم يموتون وهم صابرون؛ وقد أجاز المنتصرون للفنانين أن يمثلوا فضائل أعدائهم كما يمثلون هزيمتهم. ولسنا نتبين هنا أي دليل على نقص القدرة على التفكير أو دقة ملاحظة أجزاء الجسم، أو مهارة التمثيل أو الصبر عليه. ولا يكاد يقل عن هذه المجموعة كمالاً النقش العظيم الذي كان يمتد على طول قاعدة مذبح زيوس وأكربوليس برجموم، والذي يقص مرة أخرى قصة الحرب التي نشبت بين الآلهة والجبابرة-ويبدو أن هذا النقش تمثيل متواضع للحرب بين أهل برجموم والغاليين. والنقش هنا شديد الازدحام، ويبدو أحياناً عنيفاً عنفاً مسرحياً، ولكن بعض رسومه تضارع خير ما أنتجه الفن اليوناني. فصورة زيوس التي لا رأس لها منحوتة بقوة لا تقل عن قوة اسكوباس Scopas، والإلهة هكتي Hecate مثال في الرشاقة والجمال بين أهوال الحرب وفظائعها.
وكان هذا العصر غنياً بما فيه من روائع الفن التي لا يعرف أصحابها والتي تكاد تشمل صوراً لجميع الآلهة الكبار، ونذكر منها رأس زيوس الفخم
_________
(1) في متحف ترمي Museo Delle Terme في رومة.
(2) في متحف نابلي.(8/129)
الذي عُثر عليه في أتركولي Atricoli وتمثال لودوفيزي هيرا Lodovisi Hera المحفوظ في متحف ترمي، وقد أعجب بهما جيتة في شبابه إعجاباً حمله على أن ينقل معه قالبين لهما إلى ألمانيا كأنهما تذكاران حقيقيان أهداهما إليه جوف ويونو, أما أبلو بلفدير الذي كان من قبل موضع الإعجاب فهو فاتر متكلف خال من دلائل الحياة، ولكنه مع ذلك أزكى نار الحماسة في قلب ونكلمان منذ قرنين من الزمام (21). ويختلف أشد الاختلاف عن هذا التمثال الأملس الضعيف تمثال هرقل الفانيزي الذي نقله جليكون Glycon الأثيني عن أصل له يُعزى إلى ليسبوس-وجسمه الضخم كله عضلات، وكله ملل، وكله حنو، ووجهه كله عجب ودهشة-كأن القوة كانت تسأل نفسها ذلك السؤال الذي لم يجب عن أحد قط: ماذا يجب أن يكون هدفها؟ أما أفرديتي فقد أخرج لها ذلك العصر تماثيل لا يقل عنها في عددها إلا عبادها وحدهم؛ وقد بقي عدد من هذه التماثيل معظمها مما نقله الرومان عن أصولها اليونانية. غير أن تمثال أفرديتي ميلوس المحفوظ في متحف اللوفر والمعروف فيه باسم زهرة ميلو يبدو أنه تمثال يوناني أصيل نُحت في القرن الثاني قبل الميلاد. وقد عثر على هذا التمثال في ميلوس عام 1820 بالقرب من قطعة من القاعدة نقشت عليه الحروف ساندوس Sandos، وربما كان أجسندر الأنطاكي واسمه مأخوذ من سرادق الفاتيكان الذي وضع فيه التمثال أولاً وهو الذي نحت هذا التمثال العادي المتواضع.
وليس لوجه التمثال ذلك الجمال الرقيق الذي يزدان به وجه التمثال الموضوعة صورته في الصفحة الأولى من هذا المجلد، ولكن الجسم نفسه ممتلئ بالصحة التي يكون الجمال ثمرتها الطبيعية. ولسنا نرى فيهِ ذلك الخصر النحيل الذي لا يتفق مع الجسم الملئ والوركين المكتنزتين ... ولم يبلغ هذا الكمال كله تمثالا فينوس الكبتولينية، وفينوس الميديشية (1). وتمثال فينوس كلبيجي
_________
(1) والتمثال الأول محفوظ في متحف الكبتولين في رومة والثاني في متحف أفيزي بفلورنس.(8/130)
Venus Callpyge أو فينوس ذات الإليتين الجميلتين (1) يثير الغريزة الجنسية قوية، وقد غطيت فيه مفاتنها لكي تكشف عنها، وتلتفت لتبدي إعجابها بردفيها في البحيرة. وأوقع من هذه التماثيل كلها في النفس تمثال نَيْكي Nike أو نصر سموثريس الذي وجد في ذلك المكان عام 1863، وهو الآن أروع آيات النحت في متحف اللوفر (2). وقد مثلت إلهة النصر كأنها تحط وهي طائرة بأقصى سرعتها على مقدم سفينة مسرعة، وتقودها إلى الهجوم. ويخيل إلى الرائي أن جناحيها العظيمتين يجذبان السفينة ضد النسيم الذي يعبث بأثوابها. وهذا أيضاً تسيطر على التمثال فكرة اليونان عن المرأة، وهي أنها ليست متعة حلوة فحسب، بل أنها فوق ذلك أم قوية. فليس جمالها هو جمال الشباب الضعيف الزائل بل هو نداء المرأة الذي يدوم طول الحياة للرجل لكي يسمو إلى الأعمال الجليلة؛ وكأنما أراد الفنان أن يمثل هنا السطور الأخيرة من فوست Faust للشاعر جيته. لعمري أن حضارة تستطيع أن تفكر في هذا التمثال وأن تنحته لحضارة أبعد ما تكون عن الموت.
ولم تكن الآلهة أهم ما يعنى به المثالون الذين ازدان بهم خريف الفن اليوناني؛ لقد كان هؤلاء الفنانون ينظرون إلى أولمبس نظرتهم إلى معين من الموضوعات لا أقل من ذلك ولا أكثر. ولما نضب هذا المعين من كثرة ما أخذ من انتقلوا إلى الأرض نفسها وسرهم أن يمثلوا ما في الحياة البشرية من حكمة وجمال، وغرابة وسخافات. فنحتوا أو صبوا رؤوساً ذات
_________
(1) في متحف نابلي.
(2) وكان يعتقد أولاً أن دمتريوس بليوكريتيز قد أقامه في عام 305 ليخلد به ذكرى انتصاره البحري على بطليموس الأول قرب سلاميس القبرصية عام 306ق. م. ولكن الجدل الحديث يميل إلى جعل هذا التمثال ذا صلة بمعركة كوس (258 أو معركة أخرى من نوعها) وهي المعركة التي انتصرت فيها أساطيل مقدونية، وسلوفيا، ورودس على بطليموس الثاني.(8/131)
روعة اهومر، ويوربديز، وسقراط. وصنعوا عدداً من التماثيل الملساء الرقيقة لهرمفرديتي Hermaphrodite يستلفت العين جماها الغامض؛ وهي قائمة في متحف العاديات باسطنبول، أو في معرض بورجا في رومة، أو في متحف اللوفر. وكان الأطفال في هذه التماثيل يقفون وقفات طبيعية منشطة، كوقفة الغلام الذي يخرج شوكة من قدمه؛ والغلام الأخر الذي يقاتل إوزة (1). وأجمل ما في هذا الصنف من التماثيل تمثال الشاب القائم للصلاة والذي يتجلى الإيمان في وجهه، ويعزى هذا التمثال إلى بؤيثس Boëthus تلميذ ليسبوس (2). وكان المثالون يذهبون إلى الغابات ويصورون جن الغاب كجنية بربريني المحفوظ تمثالها في ميونخ Munich أو الساترات الفرحة كتمثال سلينس السكرى المحفوظ في متحف نابلي. وكانوا يضعون في مواضع متفرقة بين صورهم الوجنتين المتوردتين والحيل الخادعة الماكرة التي يعزوها الأقدمون إلى إله الحب.
_________
(1) وكلاهما في متحف الفاتيكان.
(2) في متحف الدولة ببرلين.(8/132)
الفصل الرّابع
تعليق
إن إقحام الفكاهة الفجائي على النحو الذي وصفناه في الفصل السابق في موضوعات النحت اليونانية التي كانت من قبل موضوعات مقدسة الطابع، لمن الخصائص التي يمتاز بها الفن الهلنستي. ولقد احتفظ كل متحف من المتاحف بين ما أحتفظ به من آثار ذلك العصر بتمثال لإلهة الحقول يضحك، أو إله الرعاة يغني، أو إله الشراب يصخب، أو لغلام يستخدم فوارة يخرج منها الماء بطريقة يأباها الذوق والأدب. ولعل عودة الفن اليوناني إلى آسية قد أرجعت له ما كاد يفقده في عهد اليونان القديم، حين كان خاضهاً للدين والدولة، من اختلاف في الشكل، ومن شعور وتحمس قويين. لقد بدأ الفنانون وقتئذ يستمتعون بالطبيعة بعد أن كانوا من قبل يعبدونها. ولم يكن هذا لأن الاعتدال القديم قد زال: فها هو ذا تمثال شاب سبياكو Subiaco في متحف ترمي، وتمثال أدريدني النائمة ( Adriadne) ، في متحف الفاتيكان، والفتاة الجالسة في قصر الكنسرفتوري كلها تواصل تقاليد بركستيليز وما فيها من رقة؛ وظل كثيرون من المثالين في أثينة طوال ذلك العصر يقومون النزعات "الاعتدالية" التي فشت في أيامهم بعودتهم متعمدين إلى أنماط القرن الرابع والقرن الخامس، بل إنهم من حين إلى حين يعودون إلى الوقار القديم وقار القرن السادس. ولكن روح العصر كانت روح التجارب، والفردية، والنزعة الطبيعية، والواقعية، مع وجود تيار قوي خفي نحو الخيال، والمثالية، والعاطفية، والتأثير المسرحي. وأخذ الفنانون يعنون بالإفادة من تقدم التشريح، ويكثرون من استخدام النماذج الحية في مناحتهم ومراسمهم؛ فكان المثالون ينحتون تماثيل لا ينظر إليها الإنسان من الأمام فحسب، بل ينظر إليها من جميع النواحي.(8/133)
وأخذوا يستخدمون مواد جديدة-كالبلور، والعقيق الأبيض، والياقوت، والزجاج، والبازلت القاتم اللون، والرخام الأسود، والرحام السماقي ليقلدوا لون الزنوج، أو وجوه الساترات المتوردة التي تزيد الخمر بريقاً.
وكان خصب اختراعهم يضارع سيطرتهم الفنية؛ ذلك أنهم قد ملوا تكرار الأنماط القديمة، وكأنهم عرفوا مقدماً ما يعيبه رسكن على الفنانين (1)، فاعتزموا أن يظهروا في صورهم ما للأشخاص والأشياء من وجود حقيقي ومن خواص فردية. ولم يعودوا يقتصرون على تمثيل ما هو كامل وجميل، كالرياضيين والأبطال، والآلهة، بل أخذوا يخرجون صوراً من الحياة الريفية المألوفة، أو تماثيل من الآجر للصناع، وصائدي السمك، والموسيقيين، والبائعين والمشترين في الأسواق، ومدربي الخيول، والخصيان. وبحثوا عن موضوعات غير مطروقة في الأطفال والفلاحين، وفي شخصيات ممتازة كسقراط، وفي رجال شيوخ حاقدين كدمستين، وفي وجوه قوية تكاد تكون وحشية كوجه يوثدموس Euthydemus الملك البكتري اليوناني، وفي أماكن مهجورة منبوذة كتمثال امرأة السوق العجوز المحفوظ في متحف نيويورك. وقد أدركوا وأحبوا تنوع مظاهر الحياة وتعقدها. ولم يترددوا في أن يكونوا في تماثيلهم وتصويرهم شهوانيين؛ فلم يكونوا آباء يحرصون على عفة بناتهم، أو فلاسفة تقض مضاجعهم ما تؤدي إليه النزعة الفردية الأبيقورية من عواقب اجتماعية خطيرة؛ بل كانوا يشاهدون مفاتن الجسم، وينحتونها، ويبرزون الجمال الذي يستطيع أن يسخر إلى حين من الزمن وما يحدثه فيه من آثار. ولقد تحرر
_________
(1) ليست هناك صفة شخصية في الفن اليوناني-بل فيه آراء مجردة عن الشباب، والشيخوخة، والقوة، والسرعة، والفضيلة، والرذيلة-؛ ولكنه خال أيضاً من الفردية. إن رسكن لم يكن يفكر إلا في الفن اليوناني في القرنين الخامس والرابع؛ كما أن ونكلمان ولسنج كانا يعرفان بنوع خاص فن العصر الهلنستي.(8/134)
هؤلاء المثالون من قيود العرف التي كانت تسود العصر الزاهر القديم، فانهمكوا في إبراز العواطف الرقيقة، وصوروا بإحساس قوي وإخلاص عظيم رعاة يموتون بعد أن تكشفت لبصائرهم حقيقة الحب وآلامه، ورؤوساً جميلة سابحة في أحلام اليقظة، وأمهات يفكرن بحنان في أبنائهن: لقد بدت لهم هذه الموضوعات أيضاً جزءاً من الحقيقة الخليقة بالتسجيل؛ ثم واجهوا في آخر الأمر حقائق الألم والحزن، والفواجع المحزنة، والموت في شرخ الشباب، وعقدوا النية على أن يجدوا لها مكاناً فيما يمثلونه من نواحي الحياة البشرية.
وليس ثمة دارس مستقل في تفكيرهِ يطاوعه عقله على أن يصدر حكماً عاماً شاملاً على اضمحلال العصر الهلنستي؛ فما أسهل أن يتخذ حكم عام كهذا حجة يتذرع بها لاختتام قصة بلاد اليونان قبل أن يكشف عما كان لها من شأن في الحضارة العالمية. نعم إننا نشعر في ذلك العصر ببطيء في قوة الابتكار، ولكن هذا يعوضه كثرة منتجات الفن بعد أن أصبحت لها السيطرة التامة على أدواته. وإذ كان الشباب لا يدوم أبداً، وإذ لم يكن لمفاتنه أعلى مقام في الحياة؛ فقد كان لا بد أن يحل الخمود الطبيعي بحياة بلاد اليونان كما يحل الخمود بكل حياة، وأن تتقبل عهد الشيخوخة والنضوج. لقد دب دبيب الاضمحلال في البلاد، وأخذت عوامل الضعف تعمل عملها في الدين والأخلاق والآداب، ووسمت بميسمها أعمالاً فردية في أماكن متفرقة في البلاد؛ ولكن قوة العبقرية اليونانية الدافقة أبقت الفن اليوناني، كما أبقت العلوم والفلسفة اليونانية، قرب ذروته إلى آخر أيام ذلك العصر، ولم يبلغ هيام اليونان بالجمال ولا قدرتهم وصبرهم على تجسيده في أيام شبابهم وعزلتهم مثل ما بلغه هيامهم وقدرتهم وصبرهم في العصر الهلنستي، أو كان لهذه الصفات قوة دافعة وآثار عظيمة في مدن الشرق الغافلة في العهد الأول مثل ما كان لها في هذا العصر الذي نتحدث عنه. وفي هذه المدن وجدتها رومة ونقلتها إلى سائر بلاد العالم.(8/135)
الباب الثامِن والعِشرون
ذروة مجد العلم اليوناني
الفصل الأوَّل
إقليدس وأبولونيوس
شهد القرن الخامس ذروة مجد الآداب، وشهد القرن الرابع ازدهار الفلسفة، وشهد القرن الثالث ذروة مجد العلوم الطبيعية. ذلك أن الملوك كانوا أكثر من الديمقراطيات تسامحاً في البحث العلمي وأكثر منها تشجيعاً له. من ذلك أن الإسكندر أرسل إلى المدن اليونانية القائمة على ساحل آسية جمالاً محملة بألواح الفلك البابلية لم تلبث أن تُرجمت إلى اللغة اليونانية، وأنشأ البطالمة المتحف الذي كان معهداً للدراسات الراقية، وجمعوا علوم بلاد البحر الأبيض المتوسط وثقافاتها في المكتبة؛ وأهدى أبولونيوس كتابه "المخروطات" إلى أتلس الأول، ورسم أركميديز برعاية هيرون الثاني دوائره. وقد كان لزوال الحدود السياسية بين الأقطار، ووجود لغة واحدة مشتركة، وسهولة تبادل الكتب والأفكار، والقضاء على علم الميتافيزيقا، وضعف الدين القديم، وقيام طبقة من التجار ذات عقلية دنيوية لا دينية في الإسكندرية، ورودس، وأنطاكية، وبرجموم، وسرقوسة، وازدياد عدد المدارس، والجامعات، والمراصد الفلكية، ودور الكتب، كان لهذه كلها مجتمعة مع ازدياد الثروة وتقدم الصناعة، ومناصرة الملوك أكبر الأثر في تحرير العلم من الفلسفة، وتشجيعه في العمل على تنوير الأذهان، وازدياد الثراء وتهديد العالم بأكبر الأخطار.(8/136)
وحدث حوالي مستهل القرن الثالث- أو لعله حدث قبله بزمن طويل- أن أصبحت علماء الرياضة اليونان أجود وأدق مما كانت باختراع طريقة للعد والحساب أبسط من الطريقة التي كانت متبعة حتى ذلك الوقت. ذلك أن التسعة الحروف الأولى من حروف الهجاء قد استخدمت للدلالة على الأرقام التسعة البسيطة، ثم استخدم الحرف الذي يليها للدلالة على الرقم 10، والتسعة التي تليه للدلالة على 20، و30 الخ، والذي ليلها للدلالة على 100، والتسعة التي تلي هذا للدلالة على 200، 300، وهكذا. وعبر عن الكسور والأعداد الترتيبية بوضع شرطة صغيرة مائلة من اليمين إلى اليسار بعد الحرف، فهذه العلامة (مثلاً تدل إما على عشر أو العاشر حسب السياق، وحرف (الصغير إذا وضع تحت الحرف دل على ألف. فكانت هذه الطريقة الحسابية المختصرة وسيلة سهلة للعد والحساب؛ ومن البرديات اليونانية الباقية إلى الآن ما يجمع عمليات حسابية معقدة، تختلف ما بين الكسور العشرية والملايين، في الفراغ أقل مما تشغله أمثال هذه العمليات في طريقتنا الحسابية في هذه الأيام (1).
لكن أعظم ما أحرزته العلوم من انتصارات في الغصر الهلنستي كان في الهندسة النظرية، فمن علماء ذلك العصر إقليدس الذي ظل اسمه مدى ألفي عام مرادفاً لاسم هذه الهندسة. وكل ما نعرفه من يسرته أنه أنشأ مدرسة في الإسكندرية، وأن تلاميذه بزوا كل من عداهم من التلاميذ في هذا الفرع من العلوم؛ وأنه لم يكن يعنى قط بالمال، وأنه حين سأله أحد تلاميذه "ماذا يفيدني تعلم الهندسة؟ " أمر أحد العبيد أن يعطيه أبلة "لأنه يريد أن يربح المال مما يتعلم (1) "، وأنه
_________
(1) ليست هذه البرديات أقدم من مدينة الإسكندرية ذاتها، ولكنها وهي تستخدم حرف الديجما Digamma اليوناني البدائي المهجور للدلالة على الرقم 6، فإن أكبر الظن أن استخدام الحروف الهجائية للدلالة على الأرقام قد حدث قبل الغصر الهلنستي.(8/137)
كان شديد التواضع والرأفة، وأنه حين كتب كتابه الشهير المسمى "العناصر (1) " Elements حوالي عام 300 لم يخطر بباله قط ان يعزو ما بهِ من مختلف النظريات إلى واضعيها لأن كل ما ادعاه لنفسه أنه جمع في نظام منطقي معلومات اليونان الهندسية. وقد بدأ الكتاب، دون تقديم أو اعتذار، بالتعاريف البسيطة، ثم ثنى بالفروض الضرورية، وجاء بعدها بـ "الأفكار العامة" أو البدائة. وقد سار على ما أوصى به أفلاطون فاقتصر على الأشكال والبراهين التي لا تحتاج من الآلات غير المسطرة والفرجار. واتبع طريقة في العرض والإثبات معروفة لمن سبقه من العلماء ولكنه وصل بها إلى حد الكمال، وهي الطريقة التي تسير على النظام الآني: الفرض، والعمل، والبرهان، والنتيجة. وكانت النتيجة الكلية لجهوده، رغم ما فيها من عيوب قليلة، أن أقامت للعالم صرحاً رياضياً ينافس البارثنون في رمزه للعقل اليوناني. بل الحق أن هذا الصرح العلمي قد عاش كاملاً بعد أن تحطم البارثنون، وذلك لأن "عناصر" إقليدس قد ظل حتى هذا القرن الكتاب المدرسي المعترف به في كل جامعة أوربية تقريباً. وإذا أردنا أن نجد ما يشبه هذا الكتاب في أثره الباقي فعلينا أن نذهب إلى الكتاب المقدس نفسه لنجد هذا الشبيه.
وثمة كتاب لإقليدس في المخروطات قد ضاع فيما ضاع من كتب؛ وهو يلخص دراسات من منيكمس، وأرستيوس وغيرهما من علماء الهندسة في المخروط. وقد عمد أبلونيوس البرجاوي Apollonius of Perga، بعد أن ظل يدرس الهندسة في مدرسة إقليدس عدة سنين، إلى هذه الرسالة فاتخذها بداية لكتابهِ هو في
_________
(1) يلخص الكتاب الأول والثاني أعمال فيثاغورس الهندسية؛ ويلخص الكتاب الثالث أعمال أبقراط الطشيوزي، والكتاب الخامس أعمال يودكسوس؛ والرابع والسادس والحادي عشر والثاني عشر آراء علماء الهندسة الفيثاغوريين والأثينيين المتأخرين؛ وتبحث الكتب السابع والثامن والتاسع في الرياضيات العليا.(8/138)
المخروطات، ويحث في ثمانية "كتب" و 387 نظرية خواص المنحنيات التي تنشأ من تقاطع مخروط مع سطح مستوٍ. وقد أطلق على ثلاثة من هذه المنحنيات (والدائرة هي رابعتها) أسماءها المعروفة بها إلى الآن وهي: القطع المكافئ Parbola، والقطع الناقص أو الإهليجي Ellipse، والقطع الزائد Hyperbola. وقد يسرت اكتشافاته وضع نظرية القذائف، وكانت من أكبر العوامل فيما حدث في الميكانيكا والملاحة والفلك من تقدم عظيم. وكان عرضه لنظرياته طويلاً مجهداً مملاً، ولكن الطريقة التي اتبعها طريقة عملية خالصة؛ ولم يكن مؤلفه أقل من مؤلف إقليدس وضوحاً ودقة، ولا تزال السبعة الكتب الباقية منه حتى اليوم أعظم كتاب علمي مبتكر في كل ما كتب في الهندسة النظرية.(8/139)
الفصل الثاني
أركميديز
ولد أعظم العلماء الأقدمين في سرقوسة حوالي عام 287ق. م، وكان والده هو فيدياس Pheidias الفلكي؛ ويلوح أنه ابن عم هيرون الثاني أعظم حكام زمانه استنارة. وفعل أركميديز ما فعله كثيرون غيره من اليونان الهلنستيين الذين أولعوا بالعلوم، وكان لديهم من المال ما يمكنهم من إشباع هذا الولع، فسافر إلى الإسكندرية حيث درس على خلفاء إقليدس، وشُغف بالرياضيات وأفاد من دراستها فائدتين- انهماكاً فيها وموتاً مفاجئاً بسببها. وعاد من الإسكندرية إلى سرقوسة، حيث وهب حياته، كما يهب الربان حياتهم، لكل فرع من فروع العلوم الرياضية. وكثيراً ما كان يهمل كما يهمل نيوتن، طعامه وشرابه، والعناية بجسمه، لكي يتتبع نتائج نظرية رياضية جديدة، أو يرسم بالزيت أشكالاً على جسدهِ، أو بالرماد على الموقد، أو على الرمل الذي اعتاد علماء الهندسة اليونان أن يفرشوه على أرض منازلهم (2). على أنه لم يكن تنقصه الفكاهة: فقد تعمد أن يضع في كتابه "الكرة والاسطوانة"، الذي يرى هو أنه أحسن كتبه، نظريات خاطئة (كما يؤكد بعضهم) ليمزح مع من أرسل إليهم المخطوط من الأصدقاء من جهة، وليوقع في الشرك لصوص العلم الذين يبيحون أن يغتصبوا لأنفسهم أفكار غيرهم من الناس من جهة أخرى (3). وكان تارة يسلي نفسه بألغاز كادت أن توصله إلى اختراع الجبر كمشكلة الماشية الشهيرة التي حيرت لسنج أشد الحيرة (4)، وتارة أخرى يخترع آلات عجيبة ليدرس بها القوانين التي يستخدمها. ولكن الذي كان يعنى بهِ وتلذه دراسته على الدوام هو العلم البحت يتخذه مفتاحاً لفهم الكون لا أداة للمنشآت العملية أو زيادة الثروة. ولم يكن يكتب للطلاب بل للعلماء(8/140)
المتخصصين ينقل إليهم في عبارات قصيرة جامعة النتائج العويصة التي استخلصها من بحوثهِ. وقد افتتن كل من جاء بعده من الأقدمين بما تمتاز به رسائله العلمية من ابتكار، وعمق، ووضوح. وقد وصفها فلوطرخس بقولهِ: "ليس من المستطاع أن نجد في الهندسة كلها مسائل أصعب وأعوص، أو شروحاً أبسط وأوضح، مما احتوته هذه الرسائل". ومن الناس من يعزو هذا إلى عبقريته الفطرية، ومنهم من يظن أن هذه الصحف السهلة الميسرة كانت ثمرة كدح وجهود لا يصدقها العقل (5).
وقد أبقى الزمان على عشرة من مؤلفات أركميديز التي كتبها بعد رحلات كثيرة في أوربا وبلاد العرب وهي: (1) الطريقة ويشرح فيهِ لإرتسثنيز، الذي عقد معه صداقة وثيقة في الإسكندرية كيف توسع التجارب العلمية معلومات الإنسان الهندسية. وقد وضعت هذه المقالة حداً لحكم المسطرة والفرجار الذي أقامه أفلاطون، وفتحت باب الطرق التجريبية؛ لكنها مع هذا تكشف عما بين المزاجين العلميين القديم والحديث من اختلاف. فقد كان الأقدمون يجيزون التجارب العملية ليتوصلوا بها إلى فهم النظريات، أما المحدثون فيستخدمون النظريات لما عساه أن تؤدي إليه من نتائج عملية (2) مجموعة من القضايا العارضة وفيها يبحث سبعة عشر "اختباراً" أو فرضاً متبادلاً في الهندسة المستوية. (3) قياس الزاوية ويصل فيهِ إلى 1 slash7 3 و 10 slash71 3 للنسبة التقريبية أي نسبة محيط الدائرة إلى قطرها؛ وهو يصل إلى تربيع الدائرة بأن يوضح بطريقة إفناء الفرق أن مساحة الدائرة تساوي مساحة مثلث قائم الزاوية ارتفاعه يساوي نصف قطر الدائرة وطول قاعدته يعادل طول محيطها. (4) تربيع القطع المكافئ وفيه يدرس بطريقة حساب التكامل المساحة التي يفصلها وتر قوس من القطع المكافئ ومساحة القطع الناقص. (5) في اللولبيات وفيه يعرف اللولبيات بأنها الأشكال التي تحدثها نقطة تتحرك من(8/141)
نقطة معينة بسرعة منتظمة في خط مستقيم يدور في سطح مستوٍ بسرعة منتظمة حول هذه النقطة المعينة نفسها؛ ثم يتوصل إلى معرفة المساحة المحصورة بين قوس لولبي ونصفي قطر في قطع ناقص، مستخدماً في ذلك طرقاً تقرب من حساب التفاضل (6) الكرة والاسطوانة وفيه يبحث عن قوانين رياضية لإيجاد أحجام الهرم، والاسطوانة، والكرة، ومساحة سطوحها (7) في أشباه المخروط وأشباه الكرة ويشتمل على دراسة للأجسام الجامدة المتولدة من دوران القطاعات المخروطية حول محاورها. (8) حاسب الرمل وفيهِ ينتقل من الهندسة إلى الحساب، بل يكاد ينتقل إلى اللغرتمات، وذلك بقولهِ أن الأعداد الكبيرة يمكن أن تمثل بمضاعفات أو "طبقات" 10. 000 وبهذه الطريقة يحصي أركميديز حبات الرمل التي يحتاج إليها لملء الكون- على فرض أن للكون حجماً معقولاً، كما يقول هو بعبارته الفكهة الظريفة. والنتيجة التي يصل إليها، والتي يستطيع إي إنسان أن يحققها بنفسهِ، أن العالم لا يحتوي على أكثر من ثلاث وستين "وحدة كل منها عشرة ملايين من الطبقة الثامنة من الأعداد" أو 6310 حسب طريقتنا في هذه الأيام. ويدل ما في هذا الكتاب من إشارات إلى ما ضاع من مؤلفات أركميديز على أنه كشف أيضاً طريقة لإيجاد الجذر التربيعي للأعداد غير المربعة (9) في الموازنات المستوية وفيهِ يطبق الهندسة على الميكانيكا ويدرس مركز الجاذبية لعدة أجسام ذات أشكال مختلفة، ويصوغ ما هو معروف لنا من قوانين علم القوى المتوازنة (10) في الأجسام الطافية وفيه يضع علم توازن السوائل الساكنة وضغطها (الهيدروستاتيكا) وذلك حين يصل إلى قوانين رياضية لمعرفة توازن الجسم الطافي.
ويبدأ الكتاب بالفكرة التي أدهشت الناس في ذلك الوقت وهي أن(8/142)
سطح أي جسم سائل ساكن في حالة توازن هو سطح كري، وأن مركز الكرة التي هو جزء منها هو مركز الأرض نفسها.
ولعل الذي دعا أركميديز إلى دراسة علم توازن السوائل حادثة تكاد تبلغ من الشهرة ما بلغته حادثة نيوتن. وخلاصة قصتها أن الملك هيرون أعطى لصائغ سرقوسي مقداراً من الذهب ليصوغه تاجاً له. فلما أعطاه التاج كان وزنه مساوياً لوزن الذهب، ولكن الملك ارتاب في أن يكون الفنان قد استبدل ببعض الذهب مثل وزنه من الفضة، واحتفظ لنفسه بما أنقصه من الذهب. وأفضى هيرون بريبته هذه إلى أركميديز وأعطاه التاج، ويبدو أنه اشترط عليهِ أن يبدد ارتيابه دون أن يلحق بالتاج أذى، وظل أركميديز عدة أسابيع يقلب الأمر في فكره. حتى إذا خطا يوماً ما في وعاء كبير بحمام عام، لاخظ أن ماءه قد فاض بقدر العمق الذي وصل إليهِ فيهِ، خيل إليه أن وزن جسمه- أي ضغطه إلى أسفل- يقل تدريجاً كلما انغمس في الماء. فما كان منه وهو صاحب العقل الطّلعة إلا أن وضع فجأة "قانون أركميديز"، وهو أن الجسم الطافي يفقد من وزنهِ ما يساوي وزن الماء الذي يزيغه. وظن أن الجسم المغمور في الماء يزيغ منه بمقدار حجمه، وأدرك أن هذا القانون يمكنه من حل مشكلة التاج فخرج عارياً في الطريق (إذا صدقنا قول فتروفيوس المعروف برزانته) وهرول إلى مسكنه وهو يصيح "يوريكا" (لقد وجدتها! لقد وجدتها!). وسرعان ما أدرك وهو في بيته أن قدراً من الفضة ذا وزن معين إذا غمس في الماء يزيغ منه مقداراً أكثر مما يزيغه ذهب مساوٍ له في الوزن، لأن حجم الفضة يزيد على حجم الذهب المساوي له في الوزن. ولاحظ أيضاً أن التاج المغمور في الماء يزيغ منه أكثر مما يزيغه مقدار من الذهب مساوٍ له في الوزن. فاستنتج من هذا أن التاج قد وضع فيهِ معدن أقل كثافة من الذهب. فأخذ يستبدل في الذهب الذي كان يستخدمه للمقارنة فضة بذهب حتى أزاغ الخليط قدر ما يزيغه التاج(8/143)
من الماء. وبذلك استطاع أركميديز أن يعرف بالضبط مقدار ما استخدم في التاج من الفضة، ومقدار ما اختلس من الذهب.
ولم تكن لتحقيقه رغبة الملك من الأهمية لديهِ ما يعادل كشفه قانون الأجسام الطافية وطريقة تقدير الثقل النوعي للأجسام. وصنع أركميديز آلة مثل فيها الشمس والأرض والقمر والخمسة الكواكب المعروفة وقتئذ (زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد) ورتبها بحيث إذا أدير ذراع مركب في الآلة رأى الإنسان هذه الأجرام جميعاً تتحرك في اتجاهات وبسرعات مختلفة (6)؛ ولكنه في أغلب الظن كان يتفق مع أفلاطون في قوله إن القوانين المسيطرة على حركات الأجرام السماوية أجمل من النجوم (1).
وقد صاغ أركميديز، في رسالة مفقودة بقي بعضها في ملخصات لها، قوانين الرافعة والميزان صياغة بلغ من دقتها أن تقدماً ما لم يحصل فيها حتى عام 1586م، فهو يقول مثلاً في الفرض الرابع: "الأجسام المتناسبة تتوازن إذا كانت على مسافات تتناسب تناسباً عكسياً مع جاذبيتها" (8)، وتلك حقيقة عظيمة النفع تبسط العلاقات المعقدة بين الأجسام تبسيطاً بارعاً يؤثر في نفس العالم كما يؤثر تمثال هرمس لبركستليز في نفس الفنان. وذهل أركميديز حين شاهد ما في الرافعة والبكرة من قوة فأعلن أنه إذا أعطى مرتكزاً ثابتاً استطاع أن يحرك أي شيء يريد تحريكه، ويروى عنه أنه قال في لهجة سرقوسة الدورية Pa po, kai tan gan kino": أعطني مكاناً أقف عليهِ، أحرك لك الأرض (9) " وتحداه هيرون أن يفعل ما يقول، وأشار إلى ما كان يلقاه
_________
(1) وقد رأى شيشرون هذا الجهاز بعد قرنين من ذلك الوقت، وعجب من تناسق حركات الأجرام الممثلة فيهِ في أوقاتها المختلفة رغم تعقيدها الشديد؛ وكتب في ذلك يقول: "حين حرك جلوس Gallus الكرة تبينا أن القمر كان على الدوام يتم دورات خلف الشمس على الجهاز البرنزي تتفق في عددها اتفاقاً تاماً مع عدد الأيام التي يتخلف فيها وراء الشمس في السماء. وبهذا يحدث خسوف الشمس على الجهاز كما يحدث في الحقيقة (7) ".(8/144)
رجاله من المشقة في رفع سفينة كبيرة من سفن الأسطول الملكي إلى شاطئ البحر. فما كان من أركميديز إلا أن وضع عدداً من الأضراس والبكر بطريقة أمكنته بمفرده وهو جالس عند نهاية هذا الجهاز أن يرفع السفينة الكاملة الشحنة من الماء إلى الأرض (10).
وسر الملك من هذا العمل فطلب إلى أركميديز أن يضع له تصميمات لبعض عدد الحرب، وكان من غريب صفات الرجلين أن أركميديز بعد أن وضع هذه التصميمات نسيها، وأن هيرون لحبه السلم لم يستخدمها. وقد وصف فلوطرخس أركميديز فقال:
"إنه بلغ من علو الهمة وعمق التفكير، وغزارة المادة العلمية ما سما به عن أن يترك وراءه أي شيء مكتوب في هذه الموضوعات، وإن كانت هذه الاختراعات قد أذاعت في الخافقين ذكاءه العظيم الذي لا نظير له بين الخلائق طراً. فقد نبذ كل فن لا غاية له إلا النفع والكسب المادي وعده فناً دنيئاً حقيراً، وخص حبه كله وآماله كلها في تلك المباحث العلمية الخالصة التي لا صلة بنها وبين مطالب الحياة الوضيعة- وهي تلك الدراسات التي لا يشك إنسان في سموها على سائر الدراسات، بل كل ما يشك فيهِ هو هل جمال الموضوعات التي تبحثها وعظمتها، أو دقة طرق البرهنة على صحتها وقوة الاقتناع بها، هي أعظم الأشياء جدارة بإعجابنا".
ولما أن مات هيرون قام النزاع بين سرقوسة ورومة، وهاجمها مارسلس الباسل براً وبحراً. وكان أركميديز وقتئذ (212) في السابعة والخمسين من عمرهِ ولكنه مع هذا أشرف على الدفاع في الجبهتين، فأقام خلف الأسوار التي تحمي الميناء منجنيقات تقوى على قذف الحجارة الثقيلة مسافات بعيدة. وكان وابل القذائف التي تلقيها هذه المنجنيقات شديد الوقع فاضطر مارسلس إلى التقهقر حتى يفاجئ المدينة ليلاً. فلما أن أبصر أهلها سفن العدو قرب الشاطئ أمطر الرماة بحارتها وابلاً من السهام من بين الثقوب التي صنعها أعوان أركميديز في الأسوار. وفضلاً عن هذا فقد وضع المخترع العظيم في داخل(8/145)
هذه الأسوار رافعات وبكرات ضخمة تلقي بالقرب من السفن كتلاً كبيرة من الحجارة والرصاص أغرقت الكثير منها. وكانت رافعة أخرى، مسلحة بخطاطيف تمسك بالسفن، وترفعها في الهواء، وتقذفها على الصخور، أو تلقيها بمقدمها في البحر (1). وابتعد مارسلس بأسطوله ووضع كل آماله في هجومه براً. ولكن أركميديز أمطر الجنود حجارة ضخمة من منجنيقات بلغت من القوة والإحكام حداً اضطر معه الرومان إلى الفرار وهم يقولون إن الآلهة نفسها كانت تقاومهم.، وأبوا أن يتقدموا بعدئذ للقتال (14). يعلق يولبيوس على ذلك بقوله: "وهكذا تتبدى في هذا الاختراع العظيم المدهش عبقرية رجل واحد استخدمت الاستخدام الصحيح". ولم يكن الرومان الأقوياء بحراً وبراً يرتابون في الاستيلاء على المدينة من فورهم إذا أبعد عنها رجل واحد طاعن في السن؛ وما دام هذا الرجل باقياً فيها فإنهم لم يجرءوا قط على مهاجمتها (15) ".
وتخلى مارسلس عن فكرة الاستيلاء على المدينة عنوة وآثر أن يستولي عليها بالحصار الطويل، فضرب عليها حصاراً دام ثمانية أشهر نفدت فيها مئونتها فاستسلمت له من فرط الجوع. وأعمل فيها الجند القتل والسلب لكن مارسلس أمرهم ألا يمسوا أركميديز بأذى. والتقى في أثناء النهب جندي روماني بشيخ سرقوسي منهمك في دراسة أشكال رسمها على الرمل. فأمره الجندي الروماني بأن يحضر من فوره لمقابلة مارسلس وأبى أركميديز أن يذهب إلا بعد أن تحل المسألة التي كان منهمكاً فيها. ويقول فلوطرخس إنه "ألح على الجندي وتوسل إليه أن ينتظره قليلاً، حتى لا يضطر إلى ترك ما يشتغل به ناقصاً لم يصل فيه إلى
_________
(1) لوشيان هو أقدم المراجع التي نستند إليها في قولنا إن أركميديز أشعل النار في السفن الرومانية بتسليطه أشعة الشمس عليها من مرايا مقعرة (13). وأقوال لوشيان من المراجع التي لا يصح الاعتماد عليها كل الاعتماد.(8/146)
نتيجة مقنعة؛ ولكن الجندي لم يؤثر فيه رجاء الرجل فقتله من فوره (16) ". ولما سمع بذلك مارسلس حزن عليه وبذل كل ما في وسعه ليواسي أهل القتيل (17). وأقام القائد الروماني قبراً فخماً تخليداً لذكراه نقش عليه بناء على رغبة العالم الرياضي كرة داخل اسطوانة. ذلك أن أركميديز كان يعتقد أن وصوله إلى القوانين التي أوجد بها مساحتي هذين الشكلين وحجميهما أعظم ما عمله في حياته. ولم يكن الرجل في ظنه هذا بعيداً كل البعد عن الصواب، فإن إضافة نظرية هامة إلى نظريات الهندسة أعظم قيمة للإنسانية من حصار مدينة أو الدفاع عنها. ومن حق أركميديز علينا أن نضعه في المستوى الذي نضع فيه نيوتن، وأن تقول إنه ترك للعالم "عدداً من الاكتشافات الرياضية الجليلة الشأن لا يفوقه فيه إنسان بمفرده في تاريخ العالم كله (18) ".
ولولا كثرة الأرقاء وقلة أجورهم لكان أركميديز زعيم انقلاب صناعي حقيقي. ذلك أن رسالة في المسائل الميكانيكية تعزى خطأ إلى أرسطو، ورسالة في الأثقال تعزى خطأ إلى إقليدس، قد وضعتا عدة قوانين أولية في علم القوى المحركة (الديناميكا) وعلم القوى المتوازنة (الأستاتيكا) قبل أركميديز بمائة عام. وأحال استراتو اللمبسكسوسي Strato of Lampasacus، الذي تولى بعد ثاوفراسطوس رياسة اللوقيون، ماديته الجبرية إلى علم الطبيعة وصاغ (حوالي عام 280) المبدأ القائل بأن "الطبيعة تكره الفراغ (19) ". ولما أن أضاف إلى ذلك قوله إن "الفراغ يمكن إيجاده بوسائل اصطناعية" مهد بذلك السبيل إلى ألف من المخترعات. فدرس تسبيوس الإسكندري Ctesibius طبيعة الممصات (وكانت مستخدمة في مصر من عام 1500 ق. م) واخترع المضخة الرافعة، والأرغن المائي، والساعة المائية. وأكبر الظن أن أركميديز قد حسن اللولب المائي المصري (الطنبور) الذي أطلق عليه اسمه على غير علم منه، وهو الآلة(8/147)
التي جعلت الماء يجري إلى أعلى (20). واخترع فيلون البيزنطي الآلات التي تتحرك بالهواء، وعدداً من آلات الحرب المختلفة الأنواع (21). وكانت الآلة البخارية التي اخترعها هيرون الإسكندري Heron of Alex.، بعد أن فتح بلاد اليونان آخر مخترعات هذا العصر وأعظمها. وسبب ذلك أن التقاليد الفلسفية كانت أقوى من أن تقضي عليها هذه النزعة العلمية العملية، وأن الصناعة اليوناني قد اقتنعت بالاعتماد على الأرقاء. لقد كان اليونان على علم بالمغنطيس وبما في الكهرمان من خواص كهربائية، ولكنهم لم يروا في هذه الظواهر الغريبة ما يمكن أن تفيد منه الصناعة، وحكم القدم على غير علم منه أن الحداثة غير جديرة بالعناية.(8/148)
الفصل الثالِث
أرستاخوس، وهبارخوس، وإرتسثنيز
تدين علوم اليونان الرياضية بازدهارها والقوة الدافعة لها إلى مصر، ويدين الفلك اليوناني بازدهاره وقوته الدافعة إلى بابل. ذلك أن استيلاء الإسكندر على بلاد الشرق قد أدى إلى تبادل الأفكار وإلى اتساع ذلك التبادل الذي أعان منذ ثلاثة قرون قبل ذلك الوقت على ميلاد العلم اليوناني في أيونيا. وفي وسعنا أن نعزو إلى هذا الاتصال الجديد بمصر والشرق الأدنى ما نراه من تناقض. فقد بلغ العلم اليوناني ذروته في العصر الهلنستي، حين كان الأدب اليوناني والفن اليوناني آخذين في الاضمحلال.
ولمع اسم أرتساخوس الساموسي في الفترة الواقعة بين العهدين اللذين سيطرت فيهما على علم الفلك النظرية القائل بأن الأرض مركز الكون. وكان هذا العالم شديد التحمس لدراسة الفلك فلم يترك فرعاً منه إلا بحثه، ونبغ في هذه الفروع جميعاً (22). ولسنا نجد في رسالته الوحيدة التي بقيت لنا حتى الآن والمسماة "في حجم الشمس والقمر وبعديهما (1) " أية إشارة إلى أن الشمس مركز العالم، بل إن هذه الرسالة تفترض عكس هذا، تفترض أن الشمس والقمر يتحركان في دائرتين حول الأرض. ولكن كتاب أركميديز "حاسب الرمل"
_________
(1) قدر أرستاخوس حجم الشمس قدر حجم الأرض ثلاثمائة مرة (وهي في الحقيقة أكبر منها بأكثر من مليون مرة)، وتقديره هذا يبدو صغيراً، ولكنه تقدير لو عرفه أنكساغورس أو أبيقور لدهش منه. وقدر قطر القمر بثلث قطر الأرض، ولا يزيد خطأ هذا التقدير على ثمانية في المائة، كما قدر بعد الأرض عن الشمس بقدر بعدنا عن القمر عشرين مرة (وهو يكاد يبلغ قدره أربعمائة مرة). ويقول في إحدى نظرياته إنه "حين يحدث كسوف كلي للشمس تقع الشمس والقمر وقتئذ داخل مخروط واحد رأسه عند عيننا (28) ".(8/149)
يعزو صراحة إلى أرستاخوس "الفرض القائل إن النجوم الثوابت والشمس تظل ثابتة لا تتحرك، وإن الأرض تدور حول الشمس في محيط دائرة، وإن الشمس في وسط هذا المدار (23) "، ويقول فلوطرخس إن كلينثيز الرواقي كان يعتقد أن أرستاخوس يجب أن يتهم "بتحريكه مسكن الكون" (أي الأرض (25". وأيد سلوقس السلوقي Seleucus of Selucia الرأي القائل بأن الشمس مركز العالم، ولكن رأي العلماء في العالم اليوناني قرر عكس هذا، ويبدو أن أرستاخوس نفسه قد نزل عن هذا الافتراض حين عجز عن التوفيق بينه وبين حركات الأجرام السماوية التي كانوا يظنونها دائرية؛ ذلك أن علماء الفلك على بكرة أبيهم كانوا يرون أن من القضايا المسلم بها قطعاً أن هذه الأفلاك دائرية. ولعل كراهية السم هي التي دفعت أرستاخوس إلى أن يكون جليلو العالم القديم وكوبرنيقه.
وكان من سوء حظ العلم الهلنستي أن أعظم الفلكيين اليونان هاجم النظرية القائلة إن الشمس مركز العالم بحجج كانت تبدو للناس أجمعين قبل كوبرنيق أنها حجج لا يمكن دحضها أبداً. وكان هبارخوس النيقي of Nicaea ( في بيثينيا) عالماً من الطراز الأول، رغم ما وقع فيه من خطأ كان له شأن عظيم في عصره؛ فقد كان عظيم الشغف بالمعرفة، طويل الصبر على البحث، دقيقاً شديد العناية بالملاحظة ونقل ما يلاحظ إلى غيره، حتى لقد أطلق عليه الأقدمون لقب "حبيب الحقيقة (26) ". وقد مس وازن كل فرع من فروع الفلك تقريباً، وظلت النتائج التي وصل إليها فيه ثابتة سبعة عشر قرناً كاملة. غير أننا لم يبقَ لنا من مؤلفاته الكثيرة إلا كتاب واحد- وهو شرح لكتاب الفينومينا Phainomena ( الظواهر الطبيعية) ليودكسوس، وأراتوس الصولي؛ ولكننا بعرفه من كتاب المجسطي تأليف كلوديوس بطليموس Claudius Ptolemy (140 م. تقريباً)، لأن هذا الكتاب يعتمد على بحوثه وتقديراته. ومن أجل(8/150)
هذا كان من الواجب أن يسمى "فلك بطليموس" "فلك هبارخوس". وأكبر الظن أنه هو الذي حسن الاسطرلابات وآلات قياس الزوايا وهي أهم الآلات الفلكية في زمانه؛ ولعله قد استعان على هذا التحسين بنماذج الآلات البابلية؛ واخترع طريقة تعيين الأماكن على سطح الأرض بخطوط الطول والعرض، وحاول أن ينظم الفلكيين في بلاد البحر الأبيض المتوسط ليقوموا بأعمال الرصد والقياس التي يستطيعون بها تحديد مواضع البلاد الهامة بهذه الطريقة. لكن الاضطرابات السياسية حالت دون تنفيذ هذه الخطة حتى استتب النظام في عصر بطليموس. واستطاع هبارخوس بفضل دراسته الرياضية للعلاقات الفلكية أن يضع جداول جيوب الزوايا، وأن يبتكر بذلك حساب المثلثات. ومما لا ريب فيه أنه استعان بالسجلات المسمارية التي جيء بها من بابل فحدد أطوال السنين الشمسية، والقمرية، والنجمية، تحديداً لا يكاد يختلف عن أطوالها الصحيحة؛ فقد قدر السنة الشمسية بثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم إلا أربع دقائق و48 ثانية- وهو يختلف عن تقدير هذه الأيام بست دقائق لا أكثر. وكان تقديره للشهر القمري الوسطى 29 يوماً، 12 ساعة، 44 دقيقة، 1 slash22 ثانية. وهو يختلف عن التقدير المعترف به اليوم بأقل من ثانية (27). وحسب أزمنة اقتران الكواكب، وميل مدار القمر عن فلك الأرض، وحدد أكبر بعد بين الشمس والأرض، واختلاف موقع القمر بالنسبة للنجوم باختلاف موضع الراصد على سطح الأرض (28)، وقدر بعد القمر عن الأرض بمائتي ألف وخمسين ألف ميل فلم يخطئ إلا في خمسة في المائة.
واستنتج هبارخوس بالاعتماد على هذه المعلومات كلها أن القول بأن الأرض مركز العالم يفسر هذه الحقائق كلها أحسن مما يفسرها فرض أرستارخوس. ذلك أن النظرية القائلة بأن الشمس مركز العالم لا يمكن أن تثبت على التحليل الرياضي إلا إذا افترضنا أن مدار الأرض قطع ناقص، وهو فرض لا يوائم التفكير(8/151)
اليوناني، حتى ليبدو أن أرستارخوس نفسه لم يعنَ ببحثهِ. وأوشك هبارخوس أن يمسه في نظريته عن "الانحرافات" التي فسر بها ما يبدو من شذوذ في سرعة مسير الشمس والقمر في فلكيهما حين قال إن مركزي فلكي الشمس والقمر مائلان قليلاً على أحد جانبي الأرض. وأوشك هبارخوس أن يكون أعظم أصحاب النظريات الفلكية وأعظم الراصدين بين علماء الفلك الأقدمين على بكرة أبيهم.
وبينما كان هبارخوس يرقب السماء ليلة بعد ليلة إذ دهش ذات مساء لظهور نجم في مكان لا ريب عنده في أنه لم يرقب فيه نجماً من قبل. ولكي يثبت ما سوف يحدث من اختلاف في مواضع النجوم في مستقبل الأيام صنع حوالي عام 129 ق. م. فهرساً، وخريطة، وكرة حدد فيها مواضع 1080 من النجوم الثوابت بالنسبة لخطوط الطول والعرض السماوية. وقد أفاد دارسو السماء من عملهِ ذها أعظم فائدة. ووازن هبارخوس خريطته بخريطة تموكارس التي صنعها قبل خريطته بمائة وست وستين سنة فتبين أن النجوم قد غيرت مكانها الظاهري نحو درجتين في هذه الفترة الزمنية. وعلى هذا الأساس كشف هبارخوس أدق كشوفه كلها (1). وهو تقدم الاعتدالين- ويعني به تقدم اللحظة التي تقع فيها نقطتا الاعتدالين على خط الزوال (2). وقدر هذا التقدم بست وثلاثين ثانية كل سنة؛ والتقدير المأخوذ به الآن خمسون ثانية.
ولقد كان بين أرستارخوس وهبارخوس في الترتيب الزمني عالم آخر واسع
_________
(1) هذا إذا لم يكن قد أخذه عن كدنو Kidinnu البابلي الذي عاش قبله.
(2) الاعتدالان، ومعنى اللفظ الإنجليزي (الليلتان المتساويتان Equinoxes) هما اليومان اللذان تعبر فيهما الشمس في حركتها الظاهرية أثناء السنة خط الاستواء شمالاً (وهو الاعتدال الربيعي عندنا، والاعتدال الخريفي في نصف الكرة الجنوبي) أو جنوباً (وهو الاعتدال الخريفي عندنا والربيعي في نصف الكرة الجنوبي) وفي كل منهما الليل والنهار يوماً واحدً. ونقطتا الاعتدالين هما النقطتان السماويتان اللتان يتقاطع فيهما خط الاستواء السماوي بفلك الأرض.(8/152)
الاطلاع، في فروع من العلم متعددة، ويمتاز بغزارة علمه في عدد كبير من الميادين، وكان ثاني المتفوقين فيها جميعاً، ومن أجل ذلك لقب بنتاثلوس وبيتا Pentathlos and Beta. وتقول الرواية المأثورة إن ارتسثنيز تلقى العلم على معلمين أفذاذ: زينون الرواقي، وأرسلوس المتشكك، وكلمخوس الشاعر، وليسنياس النحوي. وقبل أن يبلغ الأربعين من عمره ذاعت شهرته في كثير من فروع العلم المختلفة حتى جعله بطليموس الثالث أمين مكتبة الإسكندرية. وكتب ديوان شعر وتاريخاً للمسلاة، وحاول في كتاب الكرونوغرافيا Chronography أن يحدد أوقات الحادثات الكبرى في تاريخ بلاد البحر الأبيض المتوسط. وقد كتب أيضاً رسائل في الرياضيات واخترع طريقة آلية لإيجاد نسب وسطى متناسبة تناسباً مطرداً بين خطين مستقيمين. وقاس ميل مستوى الفلك وحدد هذا الميل ب51 23ْ فلم يخطئ إلا في نصف في المائة. لكن أعظم أعماله هو تقديره طول محيط الأرض ب24. 662 ميلاً (30)، ونحن نقدره الآن ب24. 847. فقد لاحظ في ظهر يوم الانقلاب الصيفي أن الشمس عند مدينة سييني (1) تسطع عمودية على سطح جدار ضيق، ثم عرف أن ظل مسلة في الإسكندرية التي تبعد عن سييني إلى الشمال بنحو خمسمائة ميل يدل على أن الشمس تميل عن سمت الرأس بنحو 12 7ْ إذا قيست وقت الزوال على خط الطول الذي يصل بين البلدين، فاستنتج من هذا أن القوس الذي يبلغ 12 7ْ على محيط الأرض يساوي خمسمائة ميل، وأن محيط الأرض بهذه النسبة =360 ÷ 7. 5 × 500 أو 24. 000 ميل.
وبعد أن قاس إرتسثنيز الأرض انتقل إلى وصفها فجمع في كتابهِ الجغرافيكا Geographica تقريرات جميع علماء المساحة في الإسكندرية، والرحالة البريين أمثال Megasthenes والبحريين أمثال نيارخوس، والرواد أمثال بيثياس المساليائي Pythias of Massalia، الذي طاف حول اسكتلندة في عام 320،
_________
(1) وموقعها قرب موقع مدينة أسوان الحالية. (المترجم)(8/153)
ووصل إلى النرويج ولعله وصل أيضاً إلى الدائرة القطبية الشمالية (31). ولم يكتفِ أرتسثنيز بوصف تضاريس كل إقليم ومظاهره الطبيعية، بل حاول أيضاً أن يفسرها بفعل المياه الجارية، والنيران والزلازل والثورات البركانية (32). وطلب إلى اليونان أن يتخلوا عن تقسيمهم الضيق لبني الإنسان إلى هلنيين وبرابرة، وأعلن أن الناس يجب أن يقسموا أفراداً لا أقواماً؛ وقال إنه يرى أن كثيرين من اليونان سفلة أنذال، وأن كثيرين من الفرس والهنود قوم ظرفاء؛ وأن الرومان قد أظهروا أنهم أكثر استعداداً من اليونان للنظام الاجتماعي والحكم الصالح القدير (33). ولم يكن يعرف إلا القليل عن شمالي أوربا وآسية، وكان علمه بالهند الممتدة جنوب نهر الكنج أقل من هذا القليل. أما شمال أفريقية فلم يكن يعرف عنه شيئاً على الإطلاق. ولكنه كان على ما وصل إليه علمنا أول عالم جغرافي ذكر الصينيين في كتبهِ. وقد ورد في فقرة أخرى من هذه الكتب عظيمة الدلالة: "لو أن اتساع المحيط الأطلنطي لم يقم عقبة في سبيلنا لكان من السهل علينا أن ننتقل بطريق البحر من إيبيريا Iberia ( أسبانيا) إلى الهند متتبعين دائرة واحدة من دوائر العرض (34) ".(8/154)
الفصل الرّابع
ثاوفراسطوس، هيروفيلوس، إراسستراتوس
لم يبلغ علم الحيوان في الزمن القديم مثل ما بلغه في كتاب أرسطو المسمى تاريخ الحيوان، والراجح أن خليفته ثاوفراسطوس قد اتفق معه على أن يوزعا العمل بينهما، فكتب هو تاريخ النبات، وكتب بحثاً آخر أكثر إيغالاً في البحث النظري يسمى أسباب النبات. وكان ثاوفراسطوس يحب فن فلاحة البساتين ويعرف كل صغيرة وكبيرة في موضوعه. وكانت نزعته العلمية في كثير من النواحي أعظم من نزعة أستاذه، كما كان أكثر منه عناية بالحقائق، وأدق نظاماً في عرضها؛ ومن أقوالهِ في هذا المعنى أن الكتاب الخالي من التصنيف غير خليق بأن يعتمد عليه مثله كمثل الجواد غير الملجم (35). وقد قسم النباتات جميعاً إلى أشجار، وشجيرات، وأعشاب، وحشائش؛ وميز أجزاء النبات بعضها من بعض، وقسمها إلى جذر، وساق، وأغصان، وعساليج، وأوراق، وأزهار، وفاكهة- وهو تقسيم لم يدخل عليه أي تحسين حتى عام 1561 (36) م. وقد كتب في ذلك يقول: "للنبات قدرة على التوالد سارية في جميع أجزائه، لأن فيه حياة تسري فيها جميعاً ... وطرق توالد النبات هي: الطريقة التلقائية من بذرة، أو جذر، أو قطعة تقطع منه، أو غصن، أو عسلوج، أو قطع من الخشب تقسم أقساماً صغيرة، أو من الجزع نفسه (37) ". ولم يعرف شيئاً عن التكاثر بالتزاوج الجنسي في النبات، اللهم إلا عن عدد قليل من أنواعه كأشجار التين، ونخل البلح؛ وهنا سار على نهج البابليين فوصف عمليتي التلقيح، والتختين لإنضاج الفاكهة قبل الأوان بوسائل اصطناعية. وبحث في التوزيع الجغرافي للنبات، وفي فوائده للصناعة، وفي أنسب الأحوال(8/155)
الجوية لنمائه وقوته. ودرس التفاصيل الجزئية لنحو خمسمائة نوع من أنواع النبات دراسة دقيقة في جميع أجزائها دقة تثير الدهشة، وذلك في وقت لم يكن فيه مجهر يعين على هذه الدراسة. وأدرك قبل جيتة بعشرين قرناً أن الزهرة ورقة متحولة (38). وكان عالماً طبيعياً في أكثر من ناحية، يرفض بقوة ما كان منتشراً في أيامه من تفسير بعض المظاهر العجيبة في النبات بالرجوع إلى القوى غير الطبيعية (39). وكان يتصف بما يتصف به العلماء من حب البحث؛ ولم يكن يرى أن مقامه بوصفه فيلسوفاً ينقص منه أن يكتب رسائل كل واحدة منها في موضوع واحد، كالحجارة، والمعادن، والجو، والرياح، والسأم، والهندسة النظرية، والفلك، ونظريات الطبيعة التي كانت منتشرة عند اليونان قبل أيام سقراط (40). وفي ذلك يقول سارتن Sarton: " لو لم يكن أرسطو من رجال ذلك العصر لسمي عصر ثاوفراسطوس (41) ".
ولخص "كتاب" ثاوفراسطوس التاسع كل ما كان يعرفه اليونان عند خواص النباتات. وفي هذا الكتاب فقرة تشير إلى التخدير وردت في قوله إن "الدقتمون Dittany نبات نافع بوجه خاص للنساء في أثناء الوضع؛ ويقول بعض الناس إنه إما أن يسهل الوضع أو إنه يوقف الألم (42) " وتقدم الطب بخطى سريعة في هذا العصر، ولعل سبب تقدمه أنه كان لا بد له أن يسير بنفس السرعة التي تفشو بها الأمراض الجديدة المتزايدة في حضارة المدن المعقدة. وكانت دراسة اليونان لمعلومات المصريين الطبية باعثاً قوياً على هذا التقدم. وكان البطالمة لا يترددون في تقديم أية مساعدة يحتاجها علماء الطب، فلم يكونوا يجيزون تشريح الحيوانات وجثث الموتى من الآدميين فحسب، بل كانوا يرسلون بعض المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام لتشرح أجسامهم وهم أحياء (43). وبفضل هذا التشريح أصبح التشريح الآدمي علماً، وقلت إلى حد كبير الأغلاط السخيفة التي وقع فيها أرسطو.
وقام هيروفيلوس الخلقدوني الذي كان يعمل بالإسكندرية حوالي عام(8/156)
85 بتشريح العين ووصف الشبكية وأعصاب النظر وصفاً طبياً. وشرح أيضاً المخ، ووصف مقدم الدماغ، والمخيخ، والسحايا، وسمي باسمه معصار هيروفيلي (1). وأعاد للمخ مكانته السامية بأن جعله مركز التفكير، وفهم وظيفة الأعصاب، وكان البادئ بتقسيمها إلى أعصاب حس وأعصاب حركة، وفصل أعصاب الجمجمة عن أعصاب النخاع الشوكي، وميز الشرايين من الأوردة، وحدد وظيفة الشرايين بأنها هي الأوعية التي تحمل الدم من القلب إلى مختلف أجزاء الجسم، وكشف في واقع الأمر الدورة الدموية قبل أن يكشفها هارفي (44) Harvey. بتسعة عشر قرناً. وقد أخذ بإشارة وردت في أقوال بركساغورس الطبيب الكوسي فضم جس النبض إلى وسائل تشخيص الأمراض، واستخدم ساعة مائية لقياس عدد ضربات القلب. وشرح المبيض والرحم والحويصلات المنوية، وغدة البرستاتة ووصفها كلها؛ ودرس الكبد، والبنكرياس، وسمى الأمعاء الأثني عشري بالاسم الذي لا يزال يعرف به إلى اليوم (45). ومن أقوال هروفيلوس المأثورة؛ "إن العلم والفن لا يكون لهما ما يعرضانه، وإن القوة لتعجز عن بذل أي جهد، والثروة لتصبح عديمة النفع، والفصاحة تفقد قوتها، حين تنعدم صحة الجسم (46) ".
ولقد كان هروفيلوس، على قدر ما نستطيع أن نحكم بالاستناد إلى معلوماتنا الحاضرة، أعظم علماء التشريح في العهد القديم، كما كان إرسستراتوس أعظم علماء وظائف الأعضاء. وقد ولد اسستراتوس في كيوس Ceos، ودرس في أثينة، ومارس مهنة الطب في الإسكندرية حوالي عام 258 ق. م. وقد استطاع أن يميز المخ من المخيخ تمييزاً أدق من هروفيلوس، وأجرى تجارب على الأجسام الحية لدراسة عمليات المخ، ووصف وشرح عمل الغلصمة (لسان المزمار)، والأوعية اللمفاوية في غشاء الأمعاء؛ والصمامين الأورطي،
_________
(1) هو مصب تجاويف الدماء في الأم الجافة أو الغشاء الخارجي للمخ.(8/157)
والرئوي في القلب. وكان لديه فكرة ما عن التمثيل الأساسي للأغذية لأنه ابتدع مسعراً فجاً لقياس حرارة الزفير (47). ويقول إرسستراتوس إن كل عضو يتصل بسائر أجزاء الكائن الحي بثلاث طرق- بشريان، ووريد، وعصب. وأجتهد أن يعلل جميع الظواهر الفسيولوجية بعلل طبيعية، ورفض كل ما يشير إلى موجودات خفية كما رفض نظرية الاختلاط التي قال بها هبارخوس، والتي احتفظ بها هروفيلوس. وكان يرى أن الطب هو فن منع المرض بمراعاة قواعد الصحة، وليس هو علاج المرض بالدواء. وكان يقاوم كثرة استعمال العقاقير، والحجامة، ويعتمد على تنظيم التغذية والاستحمام والرياضة (48).
أولئك هم الرجال الذين جعلوا الإسكندرية في العصر القديم أشبه بفينا في هذه الأيام. غير أنه كانت توجد أيضاً مدارس عظيمة للطب في تراتس Tralles، وميليطس، وإفسوس، وبرجموم، وتاراس؛ وسرقوسة. وكان للكثيرين من المدن إدارات طبية بلدية، بتقاضي الأطباء القائمون بالعمل فيها مرتباً وسطاً، ولكن كان من أسباب فخرهم أنهم لا يفرقون بين الأغنياء والفقراء، والأحرار والأرقاء، وأنهم كانوا تهبون أنفسهم لعلمهم في أي وقت مهما يكن الخطر المحدق بهم. فقد ذهب أبلونيوس الملطي ليكافح الطاعون في الجزائر القريبة من موطنه دون أن ينال على ذلك أجراً، ولما أن فتك المرض بجميع أطباء كوس بعد أن بذلوا كل ما يستطيعون من الجهد لمقاومته، وأقبل غيرهم من أطباء المدن المجاورة لإنقاذهم. وما أكثر القرارات العامة التي أصدرها الحكام للإشادة بذكر الأطباء الهلنستيين والاعتراف بفضلهم؛ ومع أن الكثيرين من القدماء كانوا يسخرون من عجز الأطباء المأجورين، فإن هذه المهنة العظمى قد احتفظت بذلك المستوى الأخلاقي الرفيع الذي ورثته عن أبقراط والذي كانت تعده أعظم تراثه وأثمنه.(8/158)
الباب التاسِع والعِشرون
استسلام الفلسفة
ثلاث نزعات امتزجت في الفلسفة اليونانية: النزعة الطبيعية (الفيزيقية) والنزعة الميتافيزيقة، والنزعة الأخلاقية. ووصلت النزعة الطبيعية إلى غايتها في أرسطو والميتافيزيقية في أفلاطون، والأخلاقية في زينون القتيومي؛ وانتهى تطور النزعة الطبيعية بفصل العلم عن الفلسفة على يد أركميديز، وهبارخوس، وانتهت النزعة الميتافيزيقية بتشكك بيرون Pyrrho والمجمع المتأخر، وبقيت النزعة الأخلاقية حتى غلبت المسيحية على الأبيقورية والرواقية أو اندمجتا فيها.
الفصل الأوَّل
هجوم المتشككة
لقد احتفظت أثينة في هذه الثقافة الهلنستية- وكانت هي أم الكثير، وسيدة الجزء الأكبر، منها- احتفظت فيها بمكان الزعامة في ميدانين: التمثيل والفلسفة. ولم يكن العالم منهمكاً في الحروب والثورات، والعلوم الجديدة والأديان الجديدة، وحب المال والجري وراء المال، لم يكن منهمكاً في هذا كله إلى حد لا يستطيع معه أن يجد بعض الوقت ينفقه في المشاكل التي لا يجد لها جواباً، ولكنها لا تنفك تواجَه فلا يستطيع منه فراراً، مسائل الخطأ والصواب، والمادة، والعقل، والحرية والضرورة، والنبل والخسة، والحياة والموت. وقدم الشبان من جميع مدن البحر الأبيض المتوسط، وكثير(8/159)
ما كانوا يلاقون أشد الصعاب وهم قادمون، ليدرسوا في الأبهاء والحدائق التي خلفها أفلاطون وأرسطو آثاراً لهما خالدة من بعدهما.
وواصل ثاوفراسطوس اللسيوسي المجد النشط في اللوقيين تقاليد الطريقة الأختبارية. لقد كان المشاءون علماء وباحثين أكثر منهم فلاسفة، وهبوا حياتهم للبحث المتخصص في علوم الحيوان والنبات، والسير، وتاريخ العلوم، والفلسفة، والأدب، والقانون. وارتاد ثاوفراسطوس في أثناء زعامته العلمية التي دامت أربعاً وثلاثين سنة (322 - 288) ميادين علمية كثيرة، ونشر بحوثه في أربعمائة مجلد تكاد تعالج كل موضوع من الحب إلى الحرب. وقد شدد النكير على النساء في رسالته "في الزواج"، فردت علمية لينتيوم حظية أبيقور برسالة غزيرة المادة، شديدة الوقع عليهِ، فندت فيها أراءه (1). ومع هذا فإن ثنيوس يعزو إلى ثاوفراسطوس ذلك القول الدال على رقعة العاطفة: "إن التواضع هو الذي يجعل الجمال جميلاً (2) " ويصفه ديجين ليرتس بأنه "من أحب الناس للخير ومن أكثرهم ظرفاً". وقد بلغ من فصاحته أن نسي الناس اسمه الأول فلم يذكروه إلا بالاسم الذي أطلقه عليه أرسطو والذي يعني أنه يتكلم كما تتكلم الآلهة؛ وقد بلغ من حب الناس إياه أن ألفين من الطلاب كانوا يهرعون إلى سماع محاضراته، وكان مناندر من أخلص أتباعه (3). وقد عني الناس من بعده أشد العناية بالاحتفاظ بكتابه في "الأخلاق"، ولم يكن احتفاظهم به لأنه أوجد طرازاً جديداً في الأدب، بل لأنه سخر أشد السخرية من الأخطاء التي يعزوها الناس جميعاً لغيرهم من الناس. فهنا الرجل الثرثار الذي يبدأ بمدح زوجته، ثم يروي الرؤيا التي نراها في الليلة السابقة، ويعدد أصناف الأطعمة التي تناولها في العشاء صنفاً صنفاً؛ ثم يختم حديثه بقولهِ "إننا لم نعد كما كنا" من قبل الأيام الخالية. وهنا الرجل الغبي الذي(8/160)
"إذا ذهب ليشاهد مسرحية، تركه الناس في آخر التمثيل مستغرقاً في النوم في الدار الخاوية ... فهو يثقل معدته بالعشاء الدسم، فيضطر إلى السهر ليلاً، ويعود إلى منزله وهو بين النوم واليقظة، فلا يعرف بابه، ويعضه كلب جاره (4) ".
ومن الحوادث القليلة في حياة ثاوفراسطوس أن الدولة أصدرت مرسوماً (307) يحتم موافقة الجمعية على من يُختارون لرياسة المدارس الفلسفية. وحوالي هذا الوقت نفسه، وجه أجننيديز Agnonides إلى ثاوفراسطوس التهمة القديمة، تهمة المروق من الدين؛ فما كان من ثاوفراسطوس إلا أن غادر أثينة في هدوء، ولكن الطلاب الذين غادروها بعده بلغوا من الكثرة حداً جعل التجار يجأرون بالشكوى من كساد بضاعتهم الذي يوشك أن يحل بهم الخراب. فلم تمضِ سنة على صدور المرسوم حتى اضطرت الدولة إلى إلغائه، وعاد ثاوفراسطوس ظافراً ليرأس اللوقيين ويظل رئيساً لها إلى قرب وفاته في سن الخامسة والثمانين. ويقال إن "أثينة بأجمعها" شيعت جنازته. ولم تبقَ مدرسة المشائين طويلاً بعد وفاته؛ ذلك أن العلم خرج من أثينة بعد أن افتقرت إلى الإسكندرية الغنية الرخية، وانحطت اللوقيون التي كانت قد وهبت نفسها للبحث العلمي فلم يعد يسمع الناس عنها إلا القليل.
وفي هذه الأثناء كان اسبيوسبوس Speusippus قد خلف أفلاطون أكسانوقراطيس اسبيوسبوس Xenocrates Speusippus في المجمع العلمي. وظل أكسانوقراطيس يحكم المجمع ربع قرن من الزمان (339 - 314)، ورفع من شأن الفلسفة بحياته النبيلة البسيطة. وقد انهمك في الدرس والتعليم، فلم يكن يترك المجمع إلا مرة واحدة في العام ليشهد المآسي الديونيشية، ويقول ليرتيوس إنه كان إذا ظهر "أفسح الطريق له غوغاء المدينة المشاكسون المشاغبون (5) ". وكان يأبى أن يتقاضى أجراً ما على عملهِ. وبلغ من فقره(8/161)
أن كاد يُزج به في السجن لعجزه عن أداء الضرائب، ولكن أمتريوس الفالرومي أدى عنه ما كان متأخراً عليه وأطلق سراحه. وقال فليب المقدوني إن أكسانوقراطيس كان أطهر يداً من جميع الشعراء الأثينيين الذين أرسلوا إليه. وقد تضايقت فريني Phryne من اشتهاره بالفضيلة، فادعت أن بعض الناس يطاردونها، ولجأت إلى بيته، ولما رأت أن ليس فيهِ إلا سرير واحد سألته هل يقبل أن تنام معه فيه. وأجابها إلى ما طلبت مدفوعاً إلى ذلك، على ما يقال لنا، بعوامل إنسانية محضة؛ ولكنه بلغ من بروده وعدم استجابته لتوسلاتها وفتنتها، أن فرت من فراشهِ وضيافتهِ، وشكته إلى أصدقائهِ قائلة إنها وجدت تمثالاً لا رجلاً (6). ذلك أن أكسانوقراطيس لم يكن يريد أن يعشق غير الفلسفة.
ولما مات أوشكت النزعة الميتافيزيقية في التفكير اليوناني أن يُقضى عليها في الأيكة التي كانت مزارها ومتعبدها. ذلك أن خلفاء أفلاطون كانوا من علماء الرياضة والأخلاق، وقلما كانوا ينفقون شيئاً من وقتهم في دراسة المسائل المجردة التي كانت من قبل تتردد بين جوانب المجمع العلمي، واستعادت تحديات زينون الإليائي التشككية، ونزعة هرقيطس الموضوعية، وتشكك غورغياس بروتاغواس المنظم، ولا أدرية سقراط، وأرستبوس وإقليدس المجاري، استعادت هذه كلها ما كان لها من سيطرة على الفلسفة اليونانية، وكان ذلك خاتمة عصر العقل. لقد فكروا في كل فرض من الفروض العلمية، وبحث ثم نسي وأهمل؛ واحتفظ الكون بأسرارهِ، ومل الناس البحث الذي عجزت عنه أنبه العقول نفسها. وكان أرسطو قد اتفق مع أفلاطون في نقطة واحدة- وهي أن في الإمكان الوصول إلى الحقيقة النهائية (7). وعبر بيرون Pyrrho وهي تشكك عصره بقولهِ إن هذه النقطة هي التي أخطأ فيها الفيلسوفان أكثر مما أخطأا في أية نقطة أخرى.
وولد بيرون في أليس Elis حوالي عام 360 وسار مع جيش الإسكندر(8/162)
الزاحف على الهند، وتلقى العلم على "من فيها من" السوفسطائيين العراة Gmnosophists، ولعله أخذ عنهم بعض آرائهم عن التشكك الذي صار اسمه مرادفاً له في ما بعد. ولما عاد إلى إليس عاش فقيراً يعلم الناس الفلسفة. وقد منعه الحياء من تأليف الكتب، ولكن تلميذه تيمن الفليوسي Timon of Phlius نشر آراء بيرون في أنحاء العالم في سلسلة من رسائل الهجاء ( Silloli) . وكانت هذه الآراء تقوم على قواعد رئيسية أولها: أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها، وأن الرجل العاقل يرجئ حكمه، ويبحث عن الطمأنينة لا عن الحقيقة؛ وأنه لما كانت كل النظريات خاطئة في أغلب الظن فإن من الخير للإنسان أن يقبل أساطير زمانه ومكانه وما جرى به العرف فيهما. وثانيتهما أن ليس في مقدور الحواس والعقل أن تمدنا بعلم أكيد: فالحواس تشوه الشيء الخارجي حين تحسه، وليس العقل إلا خادم الشهوات المخالط المخادع. وكل قياس منطقي يصادر على المحمول لأن قضيته الكبرى تفترض صحة النتيجة. "وكل علة لها علة تقابلها وتناقضها (8) "؛ والتجربة الواحدة قد تكون سارة حسب الظروف المحيطة بها ومزاج صاحبها؛ والشيء الواحد قد يبدو صغيراً أو كبيراً، قبيحاً أو جميلاً؛ والعمل الواحد قد يُعد فضيلة أو رذيلة حسب المكان والزمان الذين نعيش فيهما؛ والآلهة نفسها قد تكون وقد لا تكون حسب اعتقاد أمم الخلائق المختلفة؛ وكل شيء هو رأي، ولا شيء قط حقيقي كل الحق- فمن الحمق إذن أن ينحاز الإنسان في المنازعات إلى هذا الجانب أو ذاك، أو أن يبحث له عن مكان آخر يعيش فيهِ أو طريقة أخرى يعيش بها، أو أن يحسد المستقبل أو الماضي؛ فالرغبات كلها خداع باطل. وحتى الحياة نفسها خير غير مؤكد، والموت نفسه ليس شراً مؤكداً، والواجب على الإنسان أن لا يتحيز ضد هذا الشيء وذاك. وثالثة هذه القواعد أن أفضل الأشياء جميعاً للإنسان أن يقبل الحياة كما هي في هدوء واطمئنان، فلا يحاول إصلاح العالم، بل يرضى به وهو صابر عليه، ولا ينهمك في العمل على تقدمه، بل يقنع بالسلام. وحاول بيرون مخلصاً أن يسير في حياته على(8/163)
هدى هذه الفلسفة النصف الهندية، فخضع لعادات إليس وعبادتها، ولم يبذل جهداً ما في تجنب الأخطار أو إطالة حياته (9)، ومات في سن التسعين. وأحبه مواطنوه ورضوا عنه وكرموه بأن أعفوا زملائه الفلاسفة من الضرائب.
وكان من سخريات الأيام أن أتباع أفلاطون هم الذين وجهوا هذه الحملة على الميتافيزيقا. ذلك أن أرسسلوس الذي أصبح في عام 269 رئيس "المجمع العلمي الأوسط" حول رفض أفلاطون للمعلومات المستمدة من الحواس إلى تشكك كامل يضارع في ذلك تشكك ديون، ولعلهم فعلوا ذلك بتأثير بيرون نفسه. ومن أقوال أرسسلوس في هذا المعنى: "لا شيء مؤكد، حتى ذلك القول نفسه (11) ". ولما قيل له إن هذه العقيدة تجعل الحياة مستحيلة قال إن الحياة قد عرفت من زمن بعيد كيف تدبر أمرها بالاحتمالات. وقام على رأس "المجمع العلمي الجديد" بعد قرن من الزمان رجل كان أكثر تشككاً من أرسسلوس، وأوصل عقيدة التشكك العام إلى العدمية الذهنية والأخلاقية، ونعني بذلك الرجل قرنيادس القوريني Carneades of Cyrene. فقد جاء هذا الأبلار (1) اليوناني إلى أثينة حوالي عام 193، ونغص الحياة على كريسبوس Chrysippus وغيره من معلميه، بحججه الدقيقة المؤلمة ضد كل عقيدة يعلمونها. وإذ كانوا يبغون أن يجعلوه عالماً منطقياً، فقد اعتاد أن يقول لهم موجهاً قوله إلى بروتاغوراس: "إذا كان منطقي صحيحاً فبها ونعمت، وإذا كان خطأ فأعيدوا إلي ما أديته من الأجر لتعليمي (12) ". ولما أنشأ لنفسهِ حانوتاً كان يحاضر في صباح يوم ما فيحبذ رأياً من الآراء، وفي اليوم التالي يحبذ نقيضه، ويبرهن على صحة كليهما بحيث يقضي عليهما جميعاً، بينما كان تلاميذه، وكاتب سيرته نفسه، يحاولون عبثاً أن يعرفوا آراءه الحقيقية. وأخذ على عاتقهِ أن يفند واقعية الرواقيين المادية ببحثهِ التحليلي الأفلاطوني- الكانتي في الحواس والعقل.
_________
(1) بيبر أبلار Pierre Abelard الفيلسوف الفرنسي 1079 - 1142. (المترجم)(8/164)
وهاجم كل النتائج المنطقية ووصفها بأنها لا يستطاع الدفاع عنها عقلياً، وأمر طلابه أن يقنعوا بالاحتمالات ويرضوا بعادات زمانهم. ولما أرسلته أثينة ضمن بعثة سياسية إلى رومة (155) أدهش مجلس الشيوخ بأن خطب في يوم من الأيام مدافعاً عن العدالة، ثم خطب في اليوم التالي مستهزئاً بها وواصفاً إياها بأنها حلم غير عملي وقال: إذا شاءت رومة أن تتبع طريق العدالة فعليها أن تعيد إلى أمم البحر الأبيض الموسط كل ما أخذته منها بفضل تفوقها عليها في القوة (13). وفي اليوم الثالث اضطر كاتو أن يعيد البعثة إلى بلدها لأنها خطر على الأخلاق العامة. وربما كان بولبيوس- وكان وقتئذ رهينة عند سبيو- قد سمع هاتين الخطبتين أو سمع عنهما، لأنه يندد تنديد الرجل العملي بأولئك الفلاسفة.
"الذين دربوا أنفسهم في مناقشات المجمع العلمي على الإفراط في الاستعداد للخطابة. ذلك أن بعضهم يلجئون إلى أشد الأشياء تناقضاً فيما يبذلون من جهد ليحيروا عقول سامعيهم، وأنهم برعوا في اختراع ما يبررون به هذه المتناقضات، حتى أنك تراهم يتناقشون وهم حيارى لا يدرون هل يستطيع من في أثينة أن يشموا رائحة البيض الذي يغلي في إفسوس أو لا يستطيعون أن يشموها، ويظنون طوال الوقت الذي يناقشون فيه مسألة في المجمع العلمي أنهم يكونون نائمين في بيوتهم يؤلفون خطبهم في أحلامهم ... وقد سوءوا سمعة الفلسفة جميعاً بهذا الحب المفرط للمتناقضات ... وغرسوا في عقول شبابنا هذا الحب الشديد، فكان من أثرهِ أن أولئك الشبان لا يفكرون أقل تفكير في المسائل الأخلاقية والسياسية التي تفيد طلاب الفلسفة بحق، بل تراهم يقضون وقتهم في محاولات عديمة الجدوى لاختراع السخافات والأباطيل التي لا نفع فيها" (14).(8/165)
الفصل الثاني
فرار الأبيقورية
لقد أخطأ بولبيوس إذ ظن أن المسائل الأخلاقية قد فقدت إغراءها للعقل اليوناني، وإن كان قد وصف للأجيال التالية الكثيرة صاحب النظريات الذي يضيع حياته في دياجير البحث النظري المعقد. ودليلنا على خطئه في هذا الظن أن النغمة الأخلاقية نفسها هي التي حلت في ذلك العهد محل النغمتين الفيزيقية والميتافيزيقية فكانت النغمة السائدة في الفلسفة. والحق أن المشاكل السياسية قد خمدت نارها لأن حرية الكلام قد قضى عليها وجود الحاميات الملكية في البلاد أو ذكرى وجودها، وفهم الناس ضمناً أن الحرية القومية إنما تقوم على الهدوء والاستقرار. يضاف إلى هذا أن مجد الدولة الأثينية كان قد انقضى عهده، وأن الفلسفة كان عليها أن تواجه تلك القطعية التي لم يكن لبلاد اليونان عهد بها من قبل ونعني بها القطعية بين السياسة الأخلاق. وكان عليها أن تجد أسلوباً للحياة يجمع بين رضاء الفلاسفة وعدم التعارض مع العجز السياسي. ولذلك لم تفهم المشكلة التي تواجهها على أنها لم تعد مشكلة بناء دولة عادلة، بل فهمتها على أنها تكوين الفرد الراضي القانع المنطوي على نفسهِ.
وقد سار التطور الأخلاقي وقتئذ في اتجاهين متضادين؛ فسلك أحدهما السبيل التي يتزعمها هرقليطس، وسقراط، وأنستانس، وديجين، ووسع نطاق الفلسفة الكليية التي أضحت هي الفلسفة الرواقية. وتفرع الطريق الآخر من دمتريطس ومال ميلاً شديداً نحو أرستبوس واجتذب العقيدة القورينية إلى العقيدة الأبيقورية. وجاءت النزعتان من آسية وكانت كلتاهما تعويضاً فلسفياً عن التدهور الديني والسياسي الذي حل في ذلك الوقت. فاشتقت الرواقية من العقيدة السامَّية عقيدة وحدة الوجود، والجبرية، والاستسلام(8/166)
للقضاء والقدر؛ واشتقت الأبيقورية من طبيعة اليونان المستوطنين شواطئ آسية وما فطروا عليه من حب اللذة.
وقد ولد أبيقور في جزيرة ساموس عام 341. وشغف بالفلسفة وهو في الثانية عشر من عمرهِ؛ ولما بلغ التاسعة عشر رحل إلى أثينة وقضى عاماً في مجمعها العلمي، وكان كفرنسيس بيكن يفضل دمقريطس عن أفلاطون وأرسطو، وعنه أخذ بعض اللبنات التي شاد بها فلسفته، كما أخذ عن أرستبوس حكمة اللذة، وعن سقراط لذة الحكمة، وعن بيرون عقيدة الهدوء، واسمها الطنان الرنان أتركسيا Ataraxia. وما من شك في أنه كان يرقب بكثير من الاهتمام حياة معاصره ثيودورس القوريني، الذي كان يخطب في أثينة داعياً إلى الخروج على الدين والأخلاق جهرة وفي صراحة جعلت الجمعية توجه إليه تهمة الإلحاد (15) - وكان درساً لم ينسه أبيقور قط. ثم عاد إلى آسية وأخذ يلقي محاضرات في الفلسفة في كلوفون Colophon. وقد بلغ من تأثر اللمبسكيين بآرائه وأخلاقه أن شعروا بوخز ضميرهم على أنانيتهم إذ يحتفظون به في مدينتهم النائية، فجمعوا مبلغاً من المال قدره ثمانون مينا (4000 ريال أمريكي)، واشتروا به بيتاً وحديقة في ضواحي أثينة، وأهدوهما إلى أبيقور ليكونا له مدرسة ومنزلاً. ولما بلغ أبيقور الخامسة والثلاثين من عمرهِ في عام 306 اتخذ هذه الدار مسكناً له وأخذ يعلم الأثينيين فلسفة لم تكن أبيقورية إلا في اسمها؛ وكان من أدلة تحرر النساء في ذلك الوقت أنه كان يرحب بهن حين يجئن للاستماع إلى محاضراته، بل كان يرحب بهن في الجماعة القليلة العدد التي كانت تسكن معه. ولم يكن يفرق بين الناس بسبب مراكزهم أو أجناسهم، فكان يقبل العاهرات والزوجات، والأرقاء والأحرار، وكان أحب تلاميذه إليه عبده ميسيس Mysis. وأضحت العاهر ليونتيوم Leontium عشيقته وتلميذته، ووجدت فيه رفيقاً شديد الغيرة كأنه قد حصل عليها بالطريقة(8/167)
القانونية المرسومة. وولدت منه طفلاً واحداً، وبتأثيره ألفت عدة كتب لم يتأثر فيها أسلوبها بفساد أخلاقها.
وأما فيما عدا هذا فقد عاش أبيقور عيشة الرواقيين البسيطة، واتخذ له شعاراً "عش معتدلاً". وكان يؤدي واجبه في طقوس المدينة الدينية، ولكنه لم يلوث يديه بشؤونها السياسية، ولم يقيد روحه بشؤون العالم. وكان يقنع في غذائهِ بالماء وقليل من الخمر، والخبز والجبن. وكان منافسوه يتهمونه بأنه يملأ معدته بالطعام حين كان ذلك في مقدورهِ، وأنه لم يتعفف عن الإكثار منه إلا حين أتلف جهازه الهضمي بكثرة الأكل. ولكن ديجين ليرتيوس يؤكد لنا: "أن الذين يقولون هذا مخطئون جميعهم" ويضيف إلى ذلك قوله: "إن كثيراً من الناس ليشهدون بما ينطوي عليه قلب الرجل من شفقة، ليس بعدها شفقة، على الناس جميعاً- سواء في ذلك أهل بلاده التي كرمته بإقامة التماثيل، وأصدقاؤه الذين كانوا من الكثرة بحيث تضيق بهم مدن برمتها (17) ". وكان باراً بأبويه، سخياً مع أخوته، رفيقاً بخدمة الذين كانوا يشتركون معه في دراساتهِ الفلسفية. ويقول سكنا إن تلاميذه كانوا ينظرون إليه نظرتهم إلى إله قائم بينهم، وكان شعارهم بعد موته هو: "عش كأن عين أبيقور ترقبك".
وقد وجد بين دروسه وحبه من الوقت ما يؤلف فيه ثلاثمائة كتاب. وحفظ لنا رماد هركيولانيوم قطعاً متفرقة من أهم كتاب له وهو المسمى "في الطبيعة". وورث المتأخرون عن ديجين ليرتيوس، أفلوطرخس الفلسفة، ثلاثة من خطاباتهِ، وأضافت إليها الاستكشافات المتأخرة عدداً آخر من هذا كله أن لكريشيوس خلد أفكار أبيقور في قصيدة له تعد أعظم القصائد الفلسفية على الإطلاق.
ولعل أبيقور قد أدرك وقتئذ أن فتوح الإسكندر كانت تطلق من الشرق على بلاد اليونان ما لا يحصى من الطقوس الغامضة الخفية، فبدأ بتقرير المبدأ(8/168)
القائل إن هدف الفلسفة هو أن تحرر الناس من الخوف- وخاصة من خوف الآلهة؛ وهو يكره الدين لأن الدين، في رأيهِ، يقوم على الجهل، ويزيده، ويظلم الحياة بما يبثه في النفس من رهبة جواسيس السماء، والأقدار الصارمة القاسية، والعقاب الذي لا يقف عند حد. ويقول أبيقور إن الآلهة موجودة، وأنها تستمتع في مكان بعيد بين النجوم بحياة صافية هادئة منزهة عن الموت، ولكنها أعقل من أن تشغل نفسها بشؤون البشر وهم ذلك النوع الصغير التافه من الخلائق. وليست الآلهة هي التي أنشأت العالم وليست هي التي ترشده وتسيره. وكيف يستطيع هؤلاء الأبيقوريون المقدسون أن يخلقوا هذا العالم الوسط، وهذا المشهد المسكون من خليط من النظام والفوضى؛ والجمال والألم (10)؟؛ يضيف أبيقور إلى ذلك قوله: "فإن كان هذا لا يرضيكم، فلتعزوا أنفسكم بأن تفكروا في أن الآلهة بعيدة عنكم بعداً لا تستطيع معه أن تضركم أو تنفعكم، ذلك أنها لا تستطيع أن تراقبكم، أو أن تحكم على أعمالكم، أو أن تقذف بكم إلى الجحيم. أما الآلهة الخبيثة أو الشياطين فهي أوهام تسعة تصورها لنا أحلامنا".
وبعد أن رفض أبيقور الدين رفض أيضاً الميتافيزيقا. وحجته في هذا أننا عاجزون عن معرفة شيء عن العالم الذي لا تدركه الحواس؛ ولذلك يجب ألا نشغل عقولنا بغير التجارب الذي تدركها الحواس، وأن نعد هذه التجارب آخر محك للحقيقة. ويجمع أبيقور في جملة واحدة كل المسائل التي ناقشها لك Locke وليبنتز Leibnitz بعد ألفي عام من ذلك الوقت: إذا لم تأتِ المعرفة من الحواس، فمن أي طريق آخر تأتي إذن؟ وإذا لم تكن الحواس هي الحكم الأخير في الحقائق، فكيف نجد هذا الحكم في العقل الذي لا تصل إليه المعلومات إلا عن طريق الحواس؟.
ومع هذا فهو يرى أن الحواس لا تمدنا بمعلومات أكيدة عن العالم الخارجي، فهي لا تمسك بالذرات الدقيقة التي يقذف(8/169)
بها كل جزء من سطحهِ، والتي تطبع على حواسنا نسخة صغيرة من طبيعته وشكله فإذا كان لا بد لنا والحالة هذه أن نكون لأنفسنا نظرية عن العالم (وليس تكوين هذه النظرية في واقع الأمر ضرورياً) فخير لنا أن نأخذ برأي دمقريطس القائل بأن لا شيء موجود، أو يمكن أن يكون معروفاً لنا، بل لا شيء يمكن أن نتخيله، اللهم إلا الأجسام والفضاء، وبأن الأجسام كلها تتألف من ذرات لا تنقسم ولا تتغير ... وليس لهذه الذرات لون، ولا حرارة، ولا صوت، ولا ذوق، ولا رائحة. وإنما تنتج كلها من الكريات المشعة من الأجسام والتي تلقى على أعضاء الحس في أجسامنا. ولكن الذرات تختلف في حجمها، ووزنها وشكلها؛ لأن هذا الفرض وحده هو الذي نستطيع أن نفسر به بين الأشياء من اختلاف لا آخر له. وكان أبيقور يحب أن يفسر عمل الذرات على مبادئ آلية خالصة، ولكنه لما كان مولعاً بالأخلاق أكثر من ولعهِ بنظام الكون، ولما كان حريصاً على أن يستمسك بحرية الإدارة بوصفها مصدر التبعة الأخلاقية ودعامة الشخصية، فإنه يترك دمقريطس معلقاً بين السماء والأرض، ويفترض وجود نوع من التلقائية في الذرات: فهي تحيد قليلاً عن الخط العمودي حين تهوي في الفضاء، وبهذا تدخل في التراكيب التي تتكون منها الأركان (العناصر) الأربعة، والتي تتكون منها- عن طريق هذه الأركان- المشاهد الخارجية (20). وهناك عوالم كثيرة، ولكن ليس من العقل في شيء أن نشغل بها أنفسنا. وفي وسعنا أن نفترض أن حجمي الشمس والقمر يقربان من حجميهما اللذي يبدوان لنا، فإذا فعلنا هذا كان في مقدورنا أن نصرف وقتنا في دراسة الإنسان.
والإنسان نتاج طبيعي في جزئياته ومجموعه. وأكبر الظن أن الحياة قد بدأت بالتوالد التلقائي، ثم ارتقت على غبر خطة مرسومة بالانتخاب الطبيعي لأصلح الأشكال (21). وليس العقل إلا نوعاً آخر من المادة، والروح جسم مادي رقيق منبث في جميع أجزاء الجسم (22)، وهي لا تستطيع أن تحس(8/170)
أو تعمل إلا بواسطة الجسم، وتموت بموتهِ. ولكن علينا بالرغم من هذا كله أن نقبل ما ندركه إدراكاً مباشراً من أننا أحرار فيما نريد، وإلا كنا ألاعيب على مسرح الحياة لا قيمة لها ولا معنى لوجودها. وخير لنا أن نكون عبيداً للآلهة التي يقول بها الخلق، من أن نكون عبيداً للأقدار التي يقول بها الفلاسفة (23).
على أن وظيفة الفلسفة الحقيقية ليست هي تفسير العالم، لأن الجزء لا يستطيع قط أن يفسر الكل، بل وظيفتها أن تهدينا بحثنا عن السعادة. "وليس الذي نضعه نصب أعيننا هو مجموعة من النظم والآراء التي لا جدوى منها، بل الذي يجب علينا أن نعنى به هو الحياة المبرأة من كل نوع من أنواع الجزع والاضطراب (24) ". وقد كتبت على مدخل حديقة أبيقور تلك الخرافة الجذابة "أيها الزائر، ستكون هنا سعيداً، لأن السعادة هنا تعد أعظم خير"؛ وليست الفضيلة في هذه الفلسفة غاية في ذاتها، بل هي وسيلة لا بد منها للوصول إلى الحياة السعيدة (25). وليس في وسع الإنسان أن يحيا حياة سارة من غير أن يحيا حياة تتصف بالفطنة، والشرف والعدالة؛ وليس في وسعه أن يحيا حياة متصفة بالفطنة والشرف والعدالة من غير أن يحيا حياة سارة (26) ". وليس في الفلسفة إلا قضيتان اثنتان مؤكدتان، وهما أن اللذة خير، وأن الألم شر؛ والملاذ الجنسية في ذاتها مشروعة، وستجد الحكمة لها مكاناً فيها؛ غير أنه لما كانت هذه الملاذ قد تؤدي إلى عواقب وخيمة، فإنها في حاجة إلى جهاد حصيف فطين لا يستطيعه إلا صاحب الذكاء.
"فإذا قلنا إذن اللذة هي أعظم خير، فلسنا نقصد بذلك لذات الرجل الفاجر الداعر، أو اللذات التي تقع في مجال المتعة الجنسية ... ولكننا نقصد تحرر الجسم من الألم، والروح من الانزعاج. ذلك أن الشراب والمرح الدائمين أو الاستمتاع بصحبة النساء أو ولائم السمك وغيره من الأطعمة الغالية ليست هي التي تجعل الحياة سارة لذيذة، بل يجعلها كذلك هو التفكير الهادئ(8/171)
الرزين، الذي يفحص عن أسباب اختيار هذا الشيء وتجنب ذاك، والذي يطرد الأفكار الباطلة التي ينشأ عنها معظم ما يزعج النفس من اضطراب.
ونخلص من هذا إذن إلى أن الفهم ليس هو أسمى الفضائل فحسب، بل إنه أيضاً أسمى أنواع السعادة، لأنه يعيننا أكثر مما تعيننا أية موهبة أخرى من مواهبنا على تجنب الألم والحزن. والحكمة هي وسيلتنا الوحيدة إلى الحرية: فهي تحررنا من رق الانفعالات، ومن خوف الآلهة، والفزع من الموت؛ وهي تعلمنا كيف نتحمل مصائب الدهر، وكيف نستمد من طيبات الحياة البسيطة ولذات العقل الهادئة لذة عميقة خالدة. وليس الموت مخيفاً رهيباً كما نظنه إذا نظرنا إليه نظرة عاقلة قائمة على الذكاء والفطنة؛ فقد يكون ما ينطوي عليه من الألم أقصر أمداً وأخف وقعاً مما عانيناه المرة بعد المرة في أثناء حياتنا. والذي يخلع على الموت ما يعلق به من رهبة هو أوهامنا السخيفة عما قد يكون وراء الموت. ثم انظر إلى القليل الذي تحتاجه القناعة الحكيمة- إنها لا تحتاج إلا إلى الهواء الطلق، وأرخص الطعام، ومأوى متضع، وفراش، وقليل من الكتب، وصديق "وكل شيء طبيعي يسهل الحصول عليه، والعديم النفع وحده هو الكثير النفقة". وعلينا ألا نقضي حياتنا في نكد مستمر نحاول أن نحقق كل شهوة تطوف برؤوسنا: "وفي وسعنا أن نغفل الشهوات متى كان عجزنا عن إشباعها لا يسبب لنا ألماً بحق (29) "، وحتى الحب، والزواج، والأبوة أمور يمكن الاستغناء عنها، فهي تعود علينا بلذائذ متقطعة، وبحزن لا ينتهي أبداً (30). وإذا تعودنا المعيشة البسيطة، والأساليب غير المعقدة، فذلك طريق لا يكاد يخطئ يوصلنا إلى صحة الجسم (31). والرجل الحكيم لا يحترق قلبه بالمطامع أو شهوة الصيت؛ وهو لا يحسد أعدائه على ما نالوه من حظ طيب، بل إنه لا يحسد أصدقائه على هذا الحظ؛ وهو يتجنب ما في المدينة من حمى(8/172)
المنافسات وضوضاء المنازعات السياسية، بل يطلب هدوء الريف، ويجد أوكد السعادة وأعمقها في هدوء الجسم والعقل. ولما كان هو المسيطر على شهواتهِ، فإنه يعيش بعيداً عن الادعاء الكاذب، ويطرح وراءه كل المخاوف، وتجزيه "حلاوة الحياة" Hedone الطبيعية بأعظم أنواع الخير وأعلاها شأناً وهو السلم.
تلك عقيدة شريفة جديرة بالحب، ومما يملأ النفس شجاعة أن يجد المرء فيلسوفاً لا يخاف اللذة ومنطقياً ليه كلمة طيبة يقولها عن الحواس. وليس في هذا الكلام غموض وليس فيه تمجيد شديد للفهم، بل إن الأبيقورية، على الرغم من أنها هي التي نقلت النظرية الذرية من العهد القديم إلى العصر الحديث، كانت نقطة تحول من نزعة النشوف القوية التي أنشأت العلم اليوناني والفلسفة اليونانية. وأكبر عيب في هذه الفلسفة هو سلبيتها: فهي تفكر في اللذة على أنها التحرر من الألم، وفي الحكمة على أنها فرار من مخاطر الحياة وامتلائها؛ وهي خطة صالحة طيبة للفردية ولكنها لا تصلح للمجتمع. وكان أبيقور يحترم الدولة لأنه يراها شراً لا بد منه، يستطيع تحت حمايتها أن يعيش آمناً من الأذى في حديقته، ولكن يبدو أنه لم يكن يعنى بالاستقلال القومي، بل يبدو أن مدرسته كانت في واقع الأمر تفضل الملكية المطلقة عن الديمقراطية، لأن الأولى أقل من الثانية ميلاً إلى اضطهاد الإلحاد (32) - وهو قلب للعقائد الحديثة يستلفت الأنظار. وكان أبيقور على استعداد لأن يقبل أية حكومة لا تضع أية عقبة في سبيل طلب الحكمة والصداقة طلباً مطلقاً من القيود والعوائق. وكان إخلاصه للصداقة يعدل إخلاص الأجيال التي سبقته للدولة: "إن الصداقة أهم الوسائل التي تهيئها الحكمة لسعادة الحياة بأجمعها (33) ". وكانت صدقات الأبيقوريين مضرب المثل في دوامها، ورسائل زعيمهم مليئة بعبارات الحب الخالص القوي (34). وقد بادله مريدوه هذا الشعور بالقوة التي نعهدها في مشاعر اليونان. وحسبنا دليلاً على هذا أن الشاب كولوتيز(8/173)
Colotes حين سمع أبيقور لأول مرة خر راكعاً، وبكى، وحياه بأنه إله (35).
وظل أبيقور ثلاثين عاماً يعلم في حديقته ويفضل المدرسة عن الأسرة حتى إذا كان عام 270 قاسى أشد الآلام من حصوة في المثانة، ولكنه تحمل الألم بصبر عجيب، ووجد وهو على فراش الموت متسعاً من الوقت للتفكير في أصدقائهِ: "أكتب إليكم في هذا اليوم السعيد الذي هو آخر أيام حياتي. إن انسداد مثانتي، وآلامي الداخلية قد وصلا إلى غايتهما، ولكنهما يقف في سبيلهما ابتهاج عقلي حين أفكر في حديثي معكم. اعتنوا بأطفال متردوروس العناية الخليقة بإخلاصكم لي وللفلسفة طوال حياتكم" (36). وأوصى بما يملك للمدرسة راجياً "ألا يشعر أي واحد من الذين يدرسون الفلسفة بالحاجة ... على قدر ما تصل إليه قوتنا لمنعها" (37).
وترك أبيقور وراءه مريدين خلف بعضهم بعضاً زمناً طويلاً، وقد بلغ من وفائهم لذكراه أن ظلوا قروناً طوالاً يأبون أن يغيروا كلمة واحدة من تعاليمهِ. وكان أشهر تلاميذه كلهم مترودوروس اللمبسكي Metrodorus of Lampascus، وقد أدهش بلاد اليونان كلها أو أثار ضحكها بتلخيصهِ الأبيقورية كلها في قولهِ إن "كل الطيبات ذات صلة بالبطن" (38)، ولعله كان يقصد بهذا أن الملاذ كلها جسمية وأنها في آخر الأمر معوية. ورد عليهِ كريسبوس بتسميتهِ علم البطنة الذي تخصص فيهِ أركستراتوس "مركز الفلسفة الأبيقورية" (30). وأساء الجمهور فهم الأبيقورية فنددوا بها علناً وساروا على سننها في أوساط كبيرة في جميع أنحاء هلاس. واتبعها كثيرون من اليهود الهلنستيين، وبلغ من كثرتهم أن أضحت كلمة أبيقور عند الأحبار مرادفة لكلمة مرتد عن الدين (40). وفي عام 137، أو 155 أخرج من رومة اثنان من فلاسفة(8/174)
الأبيقوريين بحجة أنهم كانوا يفسدون أخلاق الشباب (41). وبعد مائة عام من ذلك الوقت ألقى شيشرون هذا السؤال: "لماذا كان لأبيقور أتباع بهذه الكثرة؟ " (42)، وكتب لكريشيس أكمل وأظرف عرض بقي حتى الآن للطريقة الأبيقورية. وظل لمدرستهم أتباع ينتمون إليها جهرة إلى عهد قسطنطين، منهم من سوأ اسم أستاذه فجعله مرادفاً للنهم في المأكل والمشرب، ومنهم من ظل أميناً يعلم الحكم البسيطة التي لخص فيها فلسفته "الآلهة لا ينبغي أن تخاف؛ والموت لا يمكن الشعور به؛ والخير يستطاع نيله؛ وكل ما نرهبه يمكن التغلب عليهِ" (43).(8/175)
الفصل الثالث
التوفيق بين الأبيقورية والرواقية
لما كان عدد متزايد من أتباع أبيقور قد أخذوا يفسرون أقواله بأنه ينصح الناس بالجري وراء اللذة الجسمية فإن النظرية الأساسية في علم الأخلاق- وهي ما هي الحياة الطيبة؟ - لم يتوصل إلى حلها، بل كل ما في الأمر أنها وضعت في صيغة أخرى وهي: كيف يوفق بين أبيقورية الفرد الفطرية وبين الرواقية التي لا بد منها للجماعة والجنس البشري؟ - وكيف يستطاع أن يوحي إلى أعضاء المجتمع أو أن يرهبوا حتى يسيطروا على أنفسهم أو يضحوا بها لأن هذه التضحية وتلك السيطرة لا غنى عنهما لبقاء المجتمع. ولم يعد في مقدور الدين القديم أن يؤدي هذا الواجب، كما أن الدولة القديمة دولة- المدينة لم تسمُ بالناس إلى حد يجعلهم ينسون أنفسهم. واتجه اليونان المتعلمون إلى الفلسفة يسألونها الجواب، واستدعوا الفلاسفة يطلبون إليهم التضحية أو السلوى في أزمات الحياة، وبحثوا في الفلسفة عن نظرة تكسب الوجود الإنساني معنى خالداً أو حكمة دائمة في نظام الأشياء، وتمكنهم من أن ينظروا إلى الموت الذي هم ملاقوه حتماً بلا رهبة ولا فزع. لقد كانت الرواقية آخر ما بذله الأقدمون الأمجاد من جهد للبحث عن مبدأ خلقي فطري، ولقد حاول زينون مرة أخرى أن يصل إلى الهدف الذي عجز أفلاطون عن الوصول إليهِ.
وكان زينون من أهل سيتبوم إحدى مدائن قبرص؛ وكانت المدينة فينيقية في بعض أحيائها يونانية في أكثرها؛ وكثيراً ما يقال إن زينون فينيقي، ويقال أحياناً إنه مصري؛ والذي لا شك فيه أن أبويه يختلط فيهما الدم الهليني والدم السامي (44). ويصفه أبلونيوس الصوري بأنه نحيل الجسم، طويل القامة،(8/176)
أسمر اللون، وأن رأسه كان يميل إلى أحد الجانبين، وأن ساقيه كانتا ضعيفتين. ويخيل إلينا أن أفرديتي لو عرض عليها لأسلمته إلى أثينة، وإن لم يكن هفستس Hephaestus خيراً منه. وإذ لم يكن له ما يشغل باله ويشتت جهوده فإنه سرعان ما جمع من التجارة ثروة طائلة، فلما أن جاء إلى أثينة أول مرة كان لديه، كما يقولون، أكثر من ألف وزنة. ويقول ديجين ليرتيوس إن السفينة تحطمت به عند ساحل أتكا، وإنه فقد ثروته، فوصل إلى أثينة حوالي عام 314 وهو لا يكاد يملك شيئاً (45). وجلس الرجل إلى جوار دكة كتبي وشرع يقرأ في كاتب ممر بيليا لأكسانوفون وسرعان ما افتتن بأخلاق سقراط، وأخذ يسأل: "أين يوجد أمثال هذا الرجل اليوم؟ ". ومر به في تلك الساعة أقراطيس الفيلسوف الكلبي، فأشار عليه الكتبي أن يتبع ذلك الرجل. انظم زينون وهو وقتئذ في سن الثلاثين إلى مدرسة أقراطيس وسره أن كشف الفلسفة وقال: "لقد قمت برحلة ناجحة موفقة حين تحطمت سفينتي" (46). وكان أقراطيس هذا رجلاً من أهل طيبة نزل عن ثروتهِ البالغ قدرها ثلاثمائة وزنة إلى مواطنيهِ وعاش عيشة الزهد والتقشف التي يعيشها الكلبيون المتسولون. وكان يندد بالدعارة المتفشية في أيامهِ، وينصح الناس بأن يجوعوا ليعالجوا الحب. وشغفت تلميذته هباركيا Hipparchia بحبهِ، لكثرة ما كان لديها من الطعام، وهددت أبويها بأنها سوف تقتل نفسها إذا لم يزوجاها بهِ، فتوسلا إلى أقراطيس أن ينصحها بالرجوع عن عزمها، وحاول هو أن يجيبهما إلى ما طلبا ووضع مخلاة تسوله بين قدميها وقال لها: "هذا كل ما أملك؛ ففكري الآن فيما تفعلين"؛ ولم يثنِ ذلك من عزمها فغادرت منزلها الفخم، وارتدت ثياب المتسولين، وذهبت لتعيش مع أقراطيس عيشة العشق الحر الطليق. ويقال لنا إن زواجها قد تم علناً، ولكن حياتهما كانت مثلاً أعلى في الحب والوفاء (47).
وأثرت في نفس زينون حياة الكلبيين البسيطة الصارمة؛ ذلك أن أتباع(8/177)
أنستانس قد أصبحوا وقتئذ هم الرهبان الفرنسسكان في الزمن القديم، نذروا أن يعيشوا فقراء زاهدين، ينامون في مأوى طبيعي يعثرون عليه، ويعيشون على صدقات الناس الذين يمنعهم جدهم أن يكونوا قديسين. وأخذ زينون عن الكلبيين المبادئ الأولية لنظامهِ الأخلاقي، ولم يحول قط أن يخفي ما هو مدين بهِ إليهم. وقد تأثر بهم في أول كتاب له وهو كتاب الجمهورية تأثراً جعله يعتنق شيوعيتهم الفوضوية التي ى تكون فيها نقود، ولا ملكية، ولا زواج، ولا دين، ولا شرائع (48). ولما أدرك أن هذه الطوبى، وأن نظام التغذية الكلبي، لا يصلحان لأن يكونا منهاجاً علمياً للحياة، فارق أقراطيس وأخذ يدرس مع زنوقراطيس في المجمع العلمي ومع استبلو المغاري. وما من شك في أنه قرأ كتب هرقليطس قراءة استيعاب لأنه أدخل في أفكارهِ كثيراً من آراء هرقليطس- كالنار المقدسة بوصفها روح الإنسان والكون، وأبدية القانون وتكرار خلق العالم واحتراقه؛ ولكن كان من عادته أن يقول إنه مدين لسقراط بأكثر مما هو مدين به لغيرهِ من الفلاسفة، وإن سقراط هو معين الفلسفة الرواقية ومثله الأعلى.
وبعد أن قضى زينون كثيراً من السنين تحت وصاية غيره من الفلاسفة أنشأ أخيراً مدرسته الفلسفية الخاصة به في عام 301، وذلك بأن أخذ يتحدث إلى الطلاب وهو رائح غادٍ تحت أعمدة الاستواء بوسيلي Stoa Poecile أو المدخل المحدد. وكان يرحب بالفقراء والأغنياء على السواء، ولكنه لم يكن يشجع انضمام الشبان إلى تلاميذهِ، لأنه كان يشعر بأن الفلسفة لا يفهمها إلا الرجال الناضجوا العقل. وحدث أن أطال أحد الشبان في الكلام فقال له زينون "لقد خُلق لنا أذنان وفم واحد لكي ننصت كثيراً ونتكلم قليلاً" (49). وحضر أنتجونس الثاني وهو في أثينة دروس زينون، وأضحى صديقاً له معجباً بهِ، يستنصحه في مهام الأمور، وأغراه بالترف برهة وجيزة، ودعاه لأن يعيش(8/178)
ضيفاً عليهِ في بلا Pella، ولكن زينون اعتذر له وأرسل إليه بدلاً منه تلميذه برسيوس Persaeus، وظل هو أربعين عاماً (1) يعلم في الاستوا ويعيش عيشة تتفق وتعاليمه اتفاقاً أصبحت معه عبارة "أكثر اعتدالاً من زينون" مثلاً سائراً في بلاد اليونان. وأسلمته الجمعية الأثينية رغم صلته الوثيقة بأنتجونس "مفاتيح الأسوار"، ووافقت على المال الذي خصص لإقامة تمثال له وإهدائه تاجاً. وهذا نص القرار:
"لما كان زينون الستيومي قد قضى سنين كثيرة في مدينتنا يدرس الفلسفة، ولما كان في كل ما عدا هذا رجلاً طيباً (هكذا)، يحض جميع الشبان الذين يسعون لصحبتهِ على الاعتدال في حياتهم ويجعل حياته أنموذجاً لأعظم ما تسمو إليه الحياة ... فقد صحت عزيمة الشعب على تكريم زينون ... وعلى أن يهديه تاجاً من الذهب ... وأن يبني له قبراً في حي الرمكس من الأموال العامة" (51).
والشائع أن موته كان في سن التسعين، ويقول ليرتيوس إنه مات بالطريقة الآتية: "بينما هو خارج من مدرستهِ إذ زلت قدمه وكسر إصبع من أصابعها، فضرب الأرض بيدهِ وأعاد بيتاً من الشعر في نيوبي وهو "لقد جئتُ؛ فلمَ تناديني على هذا النحو؟ " ثم خنق نفسه من فورهِ" (52).
وواصل عمله في الاستوا رجلان من يونان آسية هما أقلانتيتوس الأسوسي Cleanthes of Assus ومن بعدهِ أقريسبوس الصوليي Chrysippus of Soli. وكان أقلانتيتوس ملاكماً محترفاً قدم إلى أثينة ومعه أربع درخمات، واشتغل فاعلاً عادياً، ورفض أن يتقاضى إعانة من الدولة، ودرس على زينون تسعة عشر عاماً، وعاش مجداً فقيراً زاهداً، أما أقريسبوس فكان أكثر تلاميذ المدرسة
_________
(1) إن جميع التواريخ الواردة عن زينون مثار الجدل؛ والأصول المأخوذة عنها متناقضة. وقد استنتج زلر Zeller من بحوثهِ أن مولده كان في عام 350، وأن وفاته كانت في عام 260 (50).(8/179)
علماً وإنتاجاً، وهو الذي أكسب العقيدة الرواقية صورتها التاريخية بأن شرحها في 270 كتاباً، جعلت ديونيشيوس الهلكرنسي Dionysius of Halicarnassus يعدها أنموذجاً لغزارة العلم المملة. وانتشرت الرواقية من بعدهِ في جميع أنحاء هلاس، وكان أعظم دعاتها في آسية: بانيتيوس الرودسي Panaetius of Rhodes، وزينون الترسوسي، وبؤيثوس الصيداومي Boethus of Sidon، وديجين السلوقي. وكل الذي نستطيعه للتعريف بها أن نؤلف مما عثرنا عليه عرضاً من النتف الباقية من المؤلفات الضخمة الكثيرة التي كتبت عنها صورة لأوسع فلسفات العالم القديم انتشاراً وأعظمها أثراً.
وأكبر الظن أن أقريسبوس هو الذي قسم الفلسفة الرواقية إلى منطق، وعلوم طبيعية، وأخلاق. وكان زينون ومن جاء بعده يفخرون بما كتبوه في النظريات المنطقية، ولكن أنهار المداد التي فاضت بها أقلامهم في هذا الموضوع لم تترك أثراً ملحوظاً في إنارة العقول أو في نفعها (1). لقد كان الرواقيون يتفقون مع الأبيقوريين في أن المعرفة لا تنشأ إلا من الحواس، وكان المقياس النهائي للحقيقة في رأيهم هو المدركات الحسية التي تضطر العقل إلى قبولها بما فيها من وضوح أو ثبات، على أنه ليس من الضروري أن تؤدي التجارب إلى المعرفة، لأن بين الحواس والعقل توجد العواطف أو الانفعالات، وهذه قد تشوه التجارب فتجعلها أخطاء، كما تشوه الرغبات فتجعلها رذائل. والعقل هو أسمى ما أحرزه الإنسان، وهو بذرة من بذور العقل الكلي الذي وضع قواعد العالم.
والعالم كالإنسان مادي بأكملهِ وإلهي بفطرتهِ. فكل ما تنقله لنا الحواس مادي، والأشياء المادية دون غيرها هي التي تحدث الأفعال أو تستقبلها.
_________
(1) مع استثناء إضافات قليلة للمصطلحات ككلمة Logic ( المنطق) نفسها. وقد شبه أرستو Aristo تلميذزينون المناطقة بقوم يأكلون الحيوانات الصدفية البحرية، فهم يبذلون كثيراً من الجهد ليحصلوا على قطعة صغيرة من اللحم مختفية بين كثير من الصدف (53).(8/180)