أما وزير خارجية ألمانيا "يوشكا فيشر" فإنه يعلن في محاضرة "حول آفاق السياسة الدولية إثر اعتداءات 11 سبتمبر" أمام طلبة جامعة "فراي" ببرلين فيعلن شكوكه في "قدرة الإسلام على التطور"! ويتساءل: "هل يوجد طريق إسلامي إلى الحداثة"؟ بمعناها الغربي! ثم يصف الأصولية الإسلامية الرافضة للحداثة والقيم الغربية بأنها "التوتاليتارية الجديدة"(7) أي الديكتاتورية والشمولية الجديدة!
أما أساطين الفكر الإستراتيجي الأمريكي المشيرون على صانع القرار، والذين توضع نظرياتهم في الممارسة والتطبيق من مثل "فرانسوا فوكوياما" الذي أعلن أن "الليبرالية الرأسمالية المنتصرة على الشيوعية هي نهاية التاريخ التي يجب تعميمها وقبولها في كل الفضاءات العالمية"... ومن مثل "صموئيل هنتنجتون"، الكاشف عن الموقف الغربي في نزعة صدام الحضارات.. والذي أشار على صانع القرار الأمريكي بتحييد الحضارات العالمية حتى يفرغ من مصادمة ومصارعة الإسلام.
أما هؤلاء المفكرون فإن المشروع الغربي للهيمنة يضع نظرياتهم في الممارسة والتطبيق، ونراها رأي العين، وتلمسها حواسنا في طوفان التصريحات والقراءات التي توالت وانهالت عقب "قارعة سبتمبر"... وفي المواجهة الحادة التي قام بها الغرب ضد الإسلام، والحروب، والمحاصرات.. والتهديد والوعيد.. الذي يمثل هذا "الكابوس" القائم في عالم الإسلام.
أما أساطين الفكر الإستراتيجي هؤلاء... فلقد كانت لهم فضيلة "الصراحة العارية" في التعبير عن حقيقة هذه الحرب ومقاصدها.
الهوامش
(1) صحيفة "الأهرام" في 30-10-2001م.
(2) صحيفة "الشرق الأوسط" في 3-2-2002م، و"الحياة" لندن في 26-2-2002م، و"الأهرام" في 11-12-2002م.
(3) "صحيفة الأهرام" 2-3-2002م، 3-3-2002م، والأهرام ينقل عن مقال "زخاري كاربيل" في "النيوزويك" الأمريكية بتاريخ 14-1-2002م.
(4) صحيفة "الشرق الأوسط" في 14-2-2002م.
(5) صحيفة "الحياة" في 3-9-2001م.
(6) صحيفة "الأهرام" في 2-3-2002م.
(7) صحيفة "الشرق الأوسط" في 26-2-2002م.
صورة الإسلام في الخطاب الغربي(14)
حرب لتغيير طبيعة الإسلام!
د.محمد عمارة
إن الحرب ضد الإسلام ليست حرباً على "جماعات العنف العشوائي" الإسلامية ولا على ما يسمى "بالإرهاب"، وإنما هي "حرب داخل الإسلام"، لتغيير طبيعته وخصوصيته "وحتى يقبل الحداثة بمعناها الغربي"، أي القطيعة مع خصوصيته وماضيه "فيصبح علمانياً، يقبل المبدأ المسيحي: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، فيقف عند ما لله في ملكوت السماء والدار الآخرة، وخلاص الروح، ويترك دنيا العالم الإسلامي وثرواته للهيمنة الأمريكية والغربية!
وبعبارات "فوكوياما": "فإن الحداثة التي تمثلها أمريكا وغيرها من الديمقراطيات المتطورة ستبقى القوة المسيطرة في السياسة الدولية، والمؤسسات التي تجسد مبادئ الغرب الأساسية ستستمر في الانتشار عبر العالم... وهذه القيم والمؤسسات تلقى قبولاً لدى الكثير من شعوب العالم غير الغربية، إن لم نقل جميعها... لكن السؤال الذي نحتاج إلى طرحه هو: هل هناك ثقافات أو مناطق في العالم ستقاوم، أو تثبت أنها منيعة على عملية التحديث" بهذا المعنى الأمريكي والغربي؟
ثم يجيب "فوكوياما" على هذا التساؤل الذي طرحه فيقول:
"إن الإسلام هو الحضارة الرئيسة الوحيدة في العالم التي يمكن الجدال بأن لديها بعض المشكلات الأساسية مع الحداثة.. فالعالم الإسلامي يختلف عن غيره من الحضارات في وجه واحد مهم، فهو وحده قد ولّد تكراراً خلال الأعوام الأخيرة حركات أصولية مهمة، ترفض ليس السياسات الغربية فحسب، وإنما المبدأ الأكثر أساسية للحداثة: التسامح الديني.. والعلمانية نفسها.. وإنه بينما نجد شعوب آسيا وأمريكا اللاتينية، ودول المعسكر الاشتراكي السابق وإفريقيا الاستهلاكية الغربية مغربة، وتود تقليدها، لو أنها فقط استطاعت ذلك، فإن الأصوليين المسلمين يرون في هذه الاستهلاكية دليلاً على الانحلال الغربي".
فالرفض الإسلامي ليس فقط لظلم السياسات الأمريكية والغربية.. وإنما هو رفض للتبعية لمنظومة القيم الغربية.. ولذلك يعلن "فوكوياما" أن هذه الحرب التي أعلنتها أمريكا والغرب على الإسلام المقاوم، ليست حرباً على "جماعات العنف العشوائي" ولا على هذا الذي سموه "إرهاباً" وإنما هي حرب على الإسلام الرافض للحداثة الغربية والعلمانية الغربية والاستهلاكية الغربية.. يعلن ذلك في "صراحة عارية" يحمد عليها فيقول:(11/362)
"إن المسألة ليست ببساطة حرباً على الإرهاب، كما تظهرها الحكومة الأمريكية بشكل مفهوم (؟!) وليست المسألة الحقيقية كما يجادل الكثير من المسلمين هي السياسة الخارجية الأمريكية في فلسطين أو نحو العراق. إن الصراع الأساسي الذي نواجهه لسوء الحظ، أوسع بكثير، وهو مهم، ليس بالنسبة إلى مجموعة صغيرة من الإرهابيين، بل لمجموعة أكبر من الراديكاليين الإسلاميين، ومن المسلمين الذين يتجاوز انتماؤهم الديني جميع القيم السياسية الأخرى... إن الصراع الحالي ليس ببساطة معركة ضد الإرهاب، ولا ضد الإسلام كدين أو حضارة، ولكنه صراع ضد العقيدة الإسلامية الأصولية التي تقف ضد الحداثة الغربية.. وإن التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة، اليوم هو أكثر من مجرد معركة مع مجموعة صغيرة من الإرهابيين، فبحر الغاشية الإسلامية الذي يسبح فيه الإرهابيون يشكل تحدياً أيديولوجياً هو في بعض جوانبه، أكثر أساسية من الخطر الذي شكلته الشيوعية"!
ثم يتحدث "فوكوياما" عن "التطور الأهم" الذي يجب أن يحدث للإسلام ذاته والذي يجب أن يتم داخل الإسلام، لتعديل الإسلام حتى يصبح قابلاً للحداثة الغربية والعلمانية الغربية والاستهلاكية الغربية، فيقول: "إن التطور الأهم ينبغي أن يأتي من داخل الإسلام نفسه، فعلى المجتمع الإسلامي أن يقرر فيما إذا كان يريد أن يصل إلى وضع سلمي مع الحداثة، خاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية"؟.. أم لا؟!(1).
فالقضية في التحليل الأعمق ليست "إرهاب" جماعات العنف العشوائي.. ولا هي "قارعة سبتمبر سنة 2001م" ولا حتى السياسة الخارجية الأمريكية المعادية لقضايا المسلمين العادلة... فكل ذلك تجليات للصراع بين المشروع الغربي وبين النزوع الإسلامي إلى التمايز الحضاري والاستقلال القيمي والثقافي، والذي يرفض الهيمنة الغربية التي تفرض حداثتها وعلمانيتها على العالم، بما في ذلك عالم الإسلام.
الهوامش
(1) "النيوزويك" العدد السنوي ديسمبر سنة 2001م فبراير سنة 2002م.
صورة الإسلام في الخطاب الغربي(15)
"الحداثة"والموروث الديني
د.محمد عمارة
وحتى لا يخلط الوهم بين هذه "الحداثة الغربية".. التي تقيم قطيعة معرفية كبرى مع الموروث الديني، وبين "التجديد الإسلامي"، الذي يستصحب الثوابت ويطور في المتغيرات... نسوق كلمتين لاثنين من دعاة هذه الحداثة في بلادنا.
أولاهما كلمة "هاشم صالح"، المتخصص في ترجمة وتسويق المشروع الحداثي للدكتور محمد أركون.. فلقد كتب عقب قارعة سبتمبر داعياً إلى انتهاز فرصة الهجمة الغربية على الإسلام، لتبني الحداثة الغربية التي أحلت وتحل "الدين الطبيعي" محل "الدين الإلهي"!! فقال: "إننا يجب أن نلتحق بفولتير (1734 1778م) وتصوره الطبيعي عن الدين والأخلاق، فالدين الحقيقي هو الدين الطبيعي.. وإن العبرة هي بأعمال الإنسان وليست بمعتقداته، أو حتى صلواته وعباداته.. ولابد من تأويل جديد لتراثنا يختلف عن تأويل الأصولية، بل وينقضه.. تأويل يكشف عن تاريخية النصوص التأسيسية، ويحل القراءة التاريخية محل القراءة التبجيلية لهذا التراث"!(1).
أما الكلمة الثانية فهي للدكتور على حرب، والذي قال عن حداثة مشروع أركون وهاشم صالح: "إنها القول بمرجعية العقل وحاكميته.. وإحلال سيادة الإنسان وسيطرته على الطبيعة مكان إمبريالية الذات الإلهية وهيمنتها على الكون..."(2).
فالعدو عند المشروع الأمريكي هو الإسلام المقاوم للعلمانية الغربية والحداثة الغربية والاستهلاكية الغربية. أي الإسلام المقاوم للمسخ الغربي والأمريكي.
والعدو عند الحداثيين الذين يحملون الأسماء المسلمة ليس الإمبريالية الأمريكية وهيمنتها، وإنما "إمبريالية الذات الإلهية وهيمنتها على الكون"... ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
@@@
هذه هي حقيقة الموقف الذي نحن فيه.. وحقيقة التحدي الذي نواجهه الآن...
صحيح أنه يشبه "الكابوس" خصوصاً إذا رأيناه في ضوء حال الأمة حكاماً ومحكومين وفي ضوء نجاح الغرب في استغلال مشكلة الأرثوذكسية الروسية مع المسلمين الشيشان.. ومشكلة الهندوسية الهندية مع المسلمين في كشمير ومشكلة "الكونفشيوسية الصينية مع المسلمين في تركستان الشرقية... نجاح الغرب في استغلال هذه المشكلات لإقامة تحالفات بعض أطرافها متعاون وبعضها صامت في هذه الحرب الغربية على الإسلام، حتى ليتذكر المحلل للموقف الراهن مشورة "صموئيل هنتنجتون" سنة 1993م، على صانع القرار الأمريكي، بتحييد الحضارات الأخرى، وبدء صدام الحضارات، أولاً بالإسلام!".(11/363)
إننا، أمام هذا "الكابوس" في موقف شبيه بموقف المسلمين يوم غزوة الأحزاب... عندما تحالفت كل أطراف الشرك.. رغم ما بينها من تناقضات مع اليهود رغم ما بينهم وبين الشرك والوثنية من تناقضات تحالفوا جميعاً ضد الدولة الإسلامية الوليدة، والدين الإسلامي الجديد... حتى لقد زاغت من الصحابة الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً من هول هذا "التحالف الكابوس"... بل وظنوا بالله الظنون!... إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (10) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11)(الأحزاب).
أو لكأننا أمام الحلف "الصليبي التتري"، الذي اجتاح فيه التتر ودمروا مشرق العالم الإسلامي، وهددوا بقية الوجود الإسلامي في مصر والمغرب... يوم أعلنوا بعد دمارهم لبغداد والمشرق :
"لقد فتحنا بغداد، وقتلنا فرسانها، وهدمنا بنينانها، وأسرنا سكانها".. ثم وجهوا التهديد لمن بمصر، قائلين: "إنهم إن كانوا في الجبال نسفناها، وإن كانوا في الأرض خسفناها"!!... وأرسل "هولاكو" (1217 1265م) إنذاره إلى الملك المظفر "قطز" (658ه- 1260م) قائلاً: فيه: "لقد فتحنا البلاد، وقتلنا معظم العباد.. فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، ونحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى! فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعدونا كالرمال، فمن طلب حربنا ندم، فاتعظوا بغيركم، وسلموا إلينا أمركم، وعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب.. ولقد أعذر من أنذر"!!.. حتى لقد حسب الناس يومئذ "أن القيامة قد قامت"!!(3).
فما كان من العلماء والأمراء والخاصة والعامة إلا أن نفروا للجهاد، فكان نصر الله في "عين جالوت" (658ه-1260م)... وانهزم التتار لأول مرة في تاريخهم... ثم دخلت دولتهم وقبائلهم بعد ذلك في الإسلام.
الهوامش
(1) صحيفة "الشرق الأوسط" في 26-12-2001م.
(2) صحيفة "الحياة" في 18-11-1996م.
(3) المقريزي "كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك" ج1، ق1، ص427، 428، تحقيق: د.محمد مصطفى زيادة، طبعة القاهرة، سنة 1956م.
صورة الإسلام في الخطاب الغربي(15)
"الحداثة"والموروث الديني
د.محمد عمارة
وحتى لا يخلط الوهم بين هذه "الحداثة الغربية".. التي تقيم قطيعة معرفية كبرى مع الموروث الديني، وبين "التجديد الإسلامي"، الذي يستصحب الثوابت ويطور في المتغيرات... نسوق كلمتين لاثنين من دعاة هذه الحداثة في بلادنا.
أولاهما كلمة "هاشم صالح"، المتخصص في ترجمة وتسويق المشروع الحداثي للدكتور محمد أركون.. فلقد كتب عقب قارعة سبتمبر داعياً إلى انتهاز فرصة الهجمة الغربية على الإسلام، لتبني الحداثة الغربية التي أحلت وتحل "الدين الطبيعي" محل "الدين الإلهي"!! فقال: "إننا يجب أن نلتحق بفولتير (1734 1778م) وتصوره الطبيعي عن الدين والأخلاق، فالدين الحقيقي هو الدين الطبيعي.. وإن العبرة هي بأعمال الإنسان وليست بمعتقداته، أو حتى صلواته وعباداته.. ولابد من تأويل جديد لتراثنا يختلف عن تأويل الأصولية، بل وينقضه.. تأويل يكشف عن تاريخية النصوص التأسيسية، ويحل القراءة التاريخية محل القراءة التبجيلية لهذا التراث"!(1).
أما الكلمة الثانية فهي للدكتور على حرب، والذي قال عن حداثة مشروع أركون وهاشم صالح: "إنها القول بمرجعية العقل وحاكميته.. وإحلال سيادة الإنسان وسيطرته على الطبيعة مكان إمبريالية الذات الإلهية وهيمنتها على الكون..."(2).
فالعدو عند المشروع الأمريكي هو الإسلام المقاوم للعلمانية الغربية والحداثة الغربية والاستهلاكية الغربية. أي الإسلام المقاوم للمسخ الغربي والأمريكي.
والعدو عند الحداثيين الذين يحملون الأسماء المسلمة ليس الإمبريالية الأمريكية وهيمنتها، وإنما "إمبريالية الذات الإلهية وهيمنتها على الكون"... ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
@@@
هذه هي حقيقة الموقف الذي نحن فيه.. وحقيقة التحدي الذي نواجهه الآن...
صحيح أنه يشبه "الكابوس" خصوصاً إذا رأيناه في ضوء حال الأمة حكاماً ومحكومين وفي ضوء نجاح الغرب في استغلال مشكلة الأرثوذكسية الروسية مع المسلمين الشيشان.. ومشكلة الهندوسية الهندية مع المسلمين في كشمير ومشكلة "الكونفشيوسية الصينية مع المسلمين في تركستان الشرقية... نجاح الغرب في استغلال هذه المشكلات لإقامة تحالفات بعض أطرافها متعاون وبعضها صامت في هذه الحرب الغربية على الإسلام، حتى ليتذكر المحلل للموقف الراهن مشورة "صموئيل هنتنجتون" سنة 1993م، على صانع القرار الأمريكي، بتحييد الحضارات الأخرى، وبدء صدام الحضارات، أولاً بالإسلام!".(11/364)
إننا، أمام هذا "الكابوس" في موقف شبيه بموقف المسلمين يوم غزوة الأحزاب... عندما تحالفت كل أطراف الشرك.. رغم ما بينها من تناقضات مع اليهود رغم ما بينهم وبين الشرك والوثنية من تناقضات تحالفوا جميعاً ضد الدولة الإسلامية الوليدة، والدين الإسلامي الجديد... حتى لقد زاغت من الصحابة الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً من هول هذا "التحالف الكابوس"... بل وظنوا بالله الظنون!... إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا (10) هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11)(الأحزاب).
أو لكأننا أمام الحلف "الصليبي التتري"، الذي اجتاح فيه التتر ودمروا مشرق العالم الإسلامي، وهددوا بقية الوجود الإسلامي في مصر والمغرب... يوم أعلنوا بعد دمارهم لبغداد والمشرق :
"لقد فتحنا بغداد، وقتلنا فرسانها، وهدمنا بنينانها، وأسرنا سكانها".. ثم وجهوا التهديد لمن بمصر، قائلين: "إنهم إن كانوا في الجبال نسفناها، وإن كانوا في الأرض خسفناها"!!... وأرسل "هولاكو" (1217 1265م) إنذاره إلى الملك المظفر "قطز" (658ه- 1260م) قائلاً: فيه: "لقد فتحنا البلاد، وقتلنا معظم العباد.. فأي أرض تؤويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، ونحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى! فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعدونا كالرمال، فمن طلب حربنا ندم، فاتعظوا بغيركم، وسلموا إلينا أمركم، وعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب.. ولقد أعذر من أنذر"!!.. حتى لقد حسب الناس يومئذ "أن القيامة قد قامت"!!(3).
فما كان من العلماء والأمراء والخاصة والعامة إلا أن نفروا للجهاد، فكان نصر الله في "عين جالوت" (658ه-1260م)... وانهزم التتار لأول مرة في تاريخهم... ثم دخلت دولتهم وقبائلهم بعد ذلك في الإسلام.
الهوامش
(1) صحيفة "الشرق الأوسط" في 26-12-2001م.
(2) صحيفة "الحياة" في 18-11-1996م.
(3) المقريزي "كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك" ج1، ق1، ص427، 428، تحقيق: د.محمد مصطفى زيادة، طبعة القاهرة، سنة 1956م.
=======================
الفهرس العام :
تابع الباب الحادي عشر – مقالات وخطب حول ردود فعل المسلمين ... 1
بين الدفاع عن السامية والتطاول على رسول الإنسانية ... 1
بين السنة والسيرة ... 2
بين ثقافتي التسامح والكراهية ... 5
.. بين محطم الأصنام، والباكين عليها.. ... 7
تحبونهم ولا يحبونكم ... 9
تحت ستار حرية الرأي .. ... 15
تعليقاً على الدراسة التي أدانت أداء الحكومة الدانمركية ... 21
تنبيه هام جدا ... 23
ثورة طلبة الإخوان دفاعًا عن الرسول القدوة [1938]صفحة من تاريخ الإخوان ... 24
"جهود العلماء في مقاومة الوضع" ... 30
حادثة وحديث حول نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ... 44
حدود حرية التعبير ... 46
حديث عن المصطفى المختار ... 50
حرية التعبير أم كل الحقوق لكل الناس ... 57
حرية التعبير بين القانون الدولي والمعايير الغربية المزدوجة ... 60
حرية الرأي ... 64
حقائق كشفها الزور ... 71
حقاً.. إنّ شانئك هو الأبتر! ... 78
حملة للفاتيكان شعارها مليون ضد محمد ... 80
حول الرسول صلى الله عليه وسلم ... 84
خصوصيات الر سول صلى الله عليه وسلم ... 88
خطوات عملية للانتصار لخير البشرية ... 90
خطيب العالم ... 93
درس في النصرة من سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ... 102
دروس الرسوم الدنماركية ... 104
دفاعاً عن نبي الرحمة ... 106
دور المرأة وفقه السنّة.. قبل الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 108
ذكر النبي الخاتم ووصف أمته ومكان دعوته ما زال بين سطور التوراة ... 111
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ... 121
رب ضارة ناجعة ... 122
ربيع المتطرفين ... 124
ردع التطاول على النبي.. أسبقية عقدية ودبلوماسية وإعلامية ... 128
رسول الأُمِّيّين ... 131
رسومات شيطانية ... ... 134
سب النبي صلى الله عليه وسلم فرصة لمريدي الخير ... 139
سلاح المقاطعة وأثره في نصرة المسلمين ... 141
سلاح حضاري لنصرة الحبيب صلى الله عليه وسلم ... 143
سليمان البطحي نبذل ما نستطيع وأي عمل يحتاج إلى دعم ... 148
سنة الأنبياء ... 150
شواهد ربانية تلهم التغيير ... 153
شيء من عبق الرسول ... 156
صبر النبي عليه الصلاة والسلام على الدعوة ... 160
صراع الكاريكاتورات أم صراع المصطلحات؟ ... 163
صرخةٌ دوَّت فضجَت منها مسامعي ... ... 166
صفة مزاح النبي صلى الله عليه وسلم ... 170
صمت القبور على أفعال الفاتيكان! ... 175
طبت حياً وميتاً ... 177
عدوان على الذاكرة... الخط الأول في الدفاع عن الهوية ... 179
عذراً ... بأبي أنت وأمي يا رسول الله ... 181
عذراً.. يا رسول الله ... 184
على من يقع اللوم؟ ... 193
عودة الى قضايا اسلامية ... 195(11/365)
فتوى فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي عن المقاطعة الاقتصادية ... 197
فخر لهذه الأمة وقفتها الشريفة ... 200
فداك أبي وأمي يا رسول الله ... 202
فداك نفسي وأمي بل فداك أبي ... 203
فداك أبي وأمي يا أعز الناس - [ كيف تنصر نبيك فعلا ؟] ... 204
فدتك نفسي يا رسول الله ... ... 208
فضل اتباع السنة ... 210
فلا تلوموهم ولوموا أنفسكم ... 229
فليسقط من سبّ سيد البشر ... 232
في خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم ... 234
في عيشه صلى الله عليه وسلم في المأكل والمشرب و الحياة ... 242
فيا عميى البصائر والعيونا ... 249
قاطعوهم.. يرتدعوا صاغرين ... 250
قوائم المقاطعة ضوابط وأحكام ... 252
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم ... 253
قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم فليغرسها ... 258
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(2 طلب العلم فريضة ... 268
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(3) قبل أن تدعوا فلا أجيب ... 276
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(4) لا تفكروا في ذات الله ... 283
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(5) تعبد الله كأنك تراه ... 293
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(6) وليرح ذبيحته ... 300
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(7) وتبسمك في وجه أخيك صدقة ... 308
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(8) ما أسكر كثيره فقليله حرام ... 315
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(9)ادرءوا الحدود بالشبهات ... 325
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(10)سفينة المجتمع ... 334
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(11)أنتم أعلم بأمور دنياكم ... 343
{قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} ... 355
كفر سابَّ الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- ... 360
كيف ننصر الرسول عليه الصلاة والسلام ... 362
كيف يستطيع المسلم أن ينمّي داخله محبة النبي صلى الله عليه وسلم ... 366
كيفية الاستفادة من كتب الحديث الستة ... 368
لا أعتقد ذلك يا ولدي ... 376
لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ... ... 377
لا تلومونا على حب النبي صلى الله عليه وسلم ... 380
لا تولوهم الأدبار ... 383
لماذا أساؤوا إلينا..؟ ... 385
لماذا لا توجد أي صورة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في أي مكان في العالم ؟. ... 389
لماذا يجب علينا أن نحب رسولنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم؟ ... 391
لن نرضى بأقل من الاعتذار ومعاقبة المسيئين للرسول صلى الله عليه وسلم ... 393
لن نموت إذا خلت موائدنا من خيرات البقرات الدنماركية ... 396
لنتحاور مع أنفسنا.. ثم نتحاور مع الآخرين ... 396
ليس فقط نبينا صلى الله عليه وسلم ... 400
مؤتمر الدانمارك.. فشل متوقع ... 402
ما هي أُسس الحوار مع الغرب؟! ... 405
مائة وسيلة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ... 412
ماذا فعلت للدفاع عن الإسلام ؟ ... 419
مثيرو الكراهية ... 423
محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السماوية العهد الجديد ... 425
محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السماوية القرآن والسنة ... 434
( أعظم إنسان في العالم في القرآن والسنة ) ... 436
محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة ... 436
محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل عليهم السلام ... 447
مدخل لفهم السيرة ... 449
مدير مركز التنوير لابد من وقف الحوار مع الفاتيكان ... 484
مزيداً من التفاعل للدفاع عن رسولنا صلى الله عليه وسلم ... 487
مسلمو الدنمارك وأزمة الرسوم المسيئة ... 495
مشكلات الحوار الثقافي بين الغرب والإسلام ... 499
مصطلح الحديث في سؤال وجواب 503
مفاهيم أساسية لدراسة السيرة النبوية 539
مقاطعة البضائع الأمريكية واليهودية 568
مقاطعة السلع الأجنبية: رؤية فقهية 570
مقاطعة السلع والمصنوعات الأجنبية 572
مقاطعة المنتجات الصينية لاضطهادهم المسلمين 573
مقاطعة بضائع الكفار نظرة شرعية 574
الغرب والإسلام 588
صورة الإسلام في الخطاب الغربي 611(11/366)
فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم وحقوقه ((10))
تابع الباب الحادي عشر – مقالات وخطب حول ردود فعل المسلمين
مقاطعة من سب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
تاريخ الإجابة 05/02/2006
نص السؤال الأخوة الأعزاء لعلكم سمعتم بهذه الهجمة الشرسة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وسمعتم عن تخاذل الكثير من الحكومات تجاه هذه الحملة، فما واجبنا نحن كشعوب، وهل تكفي المقاطعة كرد على هذه الحملة ؟
اسم المفتي مجموعة من الباحثين
نص الإجابة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
فيقول الدكتور رجب أبومليح المشرف على الفتوى في موقع إسلام أون لاين:
سب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو إهانة المقدسات الإسلامية جريمة لا تغتفر في حق الأفراد أو الهيئات أو الحكومات التي تقوم بذلك، وهذا السب لا يتوجه لشخص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده بل هو سب لكل مسلم ومسلمة إلى قيام الساعة، والله عز وجل يقول (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) الأحزاب 16
وواجب المسلمين هو الدفاع عن مقدساتهم ونبيهم بما استطاعوا، والمقاطعة وإن كانت سلاحا حضاريا فعالا، غير أنه لا يكفي، فهذا يدخل في جهاد الدفع الذي هو فرض عين على كل مسلم كل حسب طاقته وقدرته، وعلى المسلمين أن يستفيدوا من هذه الأحداث لتعريف الناس جميعا بشخص رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإطلاعهم على الجوانب المضيئة في سيرته فلو عرفوه لأحبوه وعلموا قدره .
ولكي يكون سلاح المقاطعة أكثر فعالية لا بد أن نضع له هذه الضوابط :
أولا:أن الأصل في معاملة غير المسلمين الجواز، والتحريم هنا تحريم عارض ، فهو ليس محرم لذاته بل محرم لغيره، هو محرم لكسر شوكة العدو المحارب وتقوية شوكة المسلمين وإثراء اقتصادهم ، لأن الناس لن يستطيعوا العيش بدون بيع وشراء وأخذ وعطاء فلو تحولت هذه المعاملات التي تجري بين المسلمين وبين غير المسلمين إلى معاملات بين المسلمين بعضهم البعض لتحول حالهم من هذا الضعف والذلة إلى قوة وعزة، ولو امتنع الأثرياء من العرب وغيرهم عن وضع أموالهم في البنوك الأجنبية وهذه الأرصدة التي تقدر بمئات المليارات ثم تحولت هذه الأرصدة للاستثمار بين بعضهم البعض لصار الحال غير الحال.
ثانيا:إن هذه المقاطعة لو حدثت عن طريق الحكومات والدول لكانت أجدى وأوقع ففي هذه الحالة ستمتنع الدولة عن استيراد سلع الدول المحاربة، وستقوم بتصنيع السلع البديلة وساعتها لا توقع الناس في حرج، لكن تخاذل الحكومات وعجزهم لا يعفينا من أن نقوم كشعوب بدورنا حتى ولو كان صغيرا تطبيقا لحديث الفسيلة، ذلك الحديث الذي يقول فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل)، وإعمالا للجهاد الذي تحول إلى فرض عين على كل مسلم ومسلم سواء إذن به الحاكم أو لم يأذن كل حسب قدرته وإمكاناته .
ثالثا:المقاطعة الاقتصادية ليست هي المقصودة فقط بل لابد أن تكون هذه المقاطعة مقاطعة شاملة تشمل المقاطعة الاقتصادية والمقاطعة الثقافية والمقاطعة السلوكية والاجتماعية وغير ذلك حتى نقف حجر عثرة أمام هذا المشروع المخالف لعقيدتنا الذي يريد عدونا أن يصدره إلينا بكل صوره وأشكاله حتى يدمر قيمنا ويهدم أخلاقنا ويستعبدنا لنظل مقهورين مأسورين نعيش على فتات موائده التي سلبها من قوتنا وأموالنا عنوة بغير حق .
رابعا:إن فتاوى المقاطعة ليست حكما عاما يطبق في كل زمان ومكان وعلى كل الأشخاص في كافة الظروف والأحوال، بل هي فتاوى ترتبط بالزمان والمكان والأشخاص والظروف والأحوال ، فما يكون محرما على شخص قد لا يكون محرما على شخص آخر، وما يكون محرما في مكان قد لا يكون محرما في مكان آخر ، والأمر يخضع لفقه الموازنات وفقه الأولويات، كما يخضع لفقه المصالح والمفاسد، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والمصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة، ولو أن إنسانا مضطرا للعمل أو استيراد سلعة لا تتوافر عند غير أعدائنا فالضرورات تبيح المحظورات، لكن الضرورة تقدر بقدرها، ويتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأكبر إلى آخر هذه القواعد والضوابط الفقهية.(12/1)
فعلى سبيل المثال المسلم الذي يعيش في أمريكا غير المسلم الذي يعيش في مصر أو أي بلد عربي أو إسلامي، والأشياء التي لا نجد لها بديلا عند غير الدولة المحاربة وهي من الأشياء الأساسية وليس من الكماليات بل من الضروريات تختلف عن الأشياء التي نجد لها بدائل كثيرة، والموظف الذي يعمل في شركة دولة محاربة ولا يجد بديلا يقتات منه يباح له العمل للضرورة أو الحاجة الشديدة التي تنزل منزلة الضرورة، وبخاصة لو كان الدور الذي يقوم به ثانويا لا يؤثر على الشركة التي يعمل فيها تأثيرا يذكر .
خامسا:ليست الشركات والأشياء التي يجب أن نقاطعها على قدر واحد ، فالشركات الأسرئيلية والأمريكية (مثلا) تأتي في المرحلة الأولى ثم تتبعها الدول الأخرى التي تحارب المسلمين في دولهم أو تضطهدهم في دولها ثم الشركات الأمريكية صاحبة العلامة التجارية في الدول العربية والإسلامية إلى آخر هذه الترتيبات .
سادسا:على رجال الاقتصاد أن يقوموا بالدراسات الجادة حول هذه المسألة حتى يمكننا معرفة الشيء الهام الذي لو قاطعناه أثر في أعدائنا ومعرفة الأشياء التي لا بديل لها لدينا وغير ذلك من الأسس والضوابط التي تعين الفقيه على إصدار فتواه بشكل علمي صحيح، وقام بعض الأفراد بإعداد قوائم للسلع التي تساهم بشكل أو آخر في اقتصاد الدول المحاربة غير أن هذه القوائم ليست دقيقة بل هي جهود فردية تخطيء في بعض الأحيان فتضع بعض السلع على قائمة المقاطعة وهي شركات محلية، أو تقترح بديلا لشيء تجب مقاطعته فتأت بشيء آخر لنفس الدولة المحاربة، لكننا بحاجة إلى إعداد دراسات جادة محايدة في هذا الصدد لأن المقاطعة ليست مقصودة لذاتها بل الغرض منها إحداث النكاية بالأعداء أو جلب المصالح للمسلمين، فإن لم تؤد هذا الدور أو كانت نتيجتها سلبا لا إيجابا فلا فائدة منها إذن .
========================
مكانة الرسول عالية وإن حاولوا الإساءة إليها
نشرت جريدة الوطن في 25/12/1426هـ
مكانة الرسول عالية وإن حاولوا الإساءة إليها
تبقى مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عالية، لأن الله تعالى قد رفع ذكره وقرن اسمه باسمه، فقال سبحانه وتعالى مبيناً رفع ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم (ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك).
وقرن الله العظيم، الإله الحق، المعبود اسمه باسم رسوله في مواضع كثيرة فقال (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين... التوبة:62)، كما قرن اسمه باسم رسوله في أعظم مشهود به وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ولهذا فلن يضر النبي صلى الله عليه وسلم ما يفعله الحاقدون من الدنماركيين وغيرهم من الاستهزاء بخير البشر الذي أرسله الله تعالى رحمة للخلق جميعاً ومنهم هؤلاء الذين لا يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة لهم ولجميع المخلوقات كما قال الله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). ويقول النبي الكريم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم "إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً... رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، بل لقد وصفه الله العظيم بأجمل صفات ونعته بأجمل نعوت فقال سبحانه (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً). ولكن حتى لو أخرج بعض الدنماركيين حقدهم وبغضهم لنبي الإسلام فإن الله قد أخبرنا عنهم وعن أمثالهم فقال جل شأنه "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" (التوبة: 32-33)، وقال سبحانه وتعالى (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم" (التوبة: 61)، وقال جل شأنه وتقدست أسماؤه (قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون" (التوبة:64)، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تصله افتراءات المفترين وإساءات المسيئين، إنه خليل الله وما أعظمها من خلة حيث قال صلى الله عليه وسلم "إن الله قد اتخذني خليلاً" رواه الحاكم وصححه الألباني، وقال صلى الله عليه وسلم "لو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخي وصاحبي" رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، إنه نبينا وقدوتنا وحبيبنا الذي نحبه أكثر من آبائنا وأمهاتنا وأنفسنا، وقد قال لنا "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" رواه مسلم. ولن تزيدنا تلك الكتابات عن نبينا صلى الله عليه وسلم إلا حباً وتقديراً واقتداء واتباعاً له صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
الدكتور نهار عبدالرحمن العتيبي - داعية إسلامي
=========================
مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عالية(12/2)
نشرت جريدة الجزيرة في 25/12/1426هـ:
مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عالية
دكتور نهار بن عبدالرحمن العتيبي /داعية إسلامي
تبقى مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عالية؛ لأن الله تعالى قد رفع ذكره، وقرن اسمه باسمه، فقال سبحانه وتعالى مبينا رفع ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2)الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}. وقرن الله العظيم الإله الحق المعبود اسمه باسم رسوله في مواضع كثيرة، فقال {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}(62) سورة التوبة. كما قرن اسمه باسم رسوله في أعظم مشهود به، وهي شهادة ألا إله إلا الله محمد رسول الله؛ ولهذا فلن يضر النبي صلى الله عليه وسلم ما يفعله الحاقدون من الدنماركيين وغيرهم من الاستهزاء بخير البشر الذي أرسله الله تعالى رحمة للخلق جميعا، ومنهم هؤلاء الحمقى الذين لا يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرسل رحمة لهم ولجميع المخلوقات كما قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}. ويقول النبي الكريم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يبعثني معنّتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلماً ميسراً..) رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها. بل لقد وصفه الله العظيم بأجمل صفات ونعته بأجمل نعوت، فقال سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}. ولكن حتى لو أخرج الدنماركيون حقدهم وبغضهم للإسلام ولنبي الإسلام فإن الله قد أخبرنا عنهم وعن أمثالهم فقال جل شأنه {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (33)سورة التوبة. وقال سبحانه وتعالى {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(61) سورة التوبة. وقال جل شأنه وتقدّست أسماؤه {قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}(64)سورة التوبة. إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يصله نعيق الناعقون.. إنه خليل الله، وما أعظمها من خلة، حيث قال صلى الله عليه وسلم (إن الله قد اتخذني خليلاً) رواه الحاكم وصححه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم (لو كنت متخذا غير ربي خليلاً لاتخذت أبابكر خليلاً، ولكن أخي وصاحبي) رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما. إنه نبينا وقدوتنا وحبيبنا الذي نحبه أكثر من آبائنا وأمهاتنا وأنفسنا.. وقد قال لنا (لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) رواه مسلم.
ولن تزيدنا تلك الكتابات عن نبينا صلى الله عليه وسلم إلا حباً وتقديراً واقتداء واتباعا له صلى الله عليه وسلم، وهو المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
نسأل الذي لا تخفى عليه خافية ولا تغيب عنه غائبة ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء أن ينتقم لرسوله، وأن يرينا في من حاول النَّيْل منه عجائب قدرته، وهو القوي العزيز. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
========================
من أولى بالسخرية والاستهزاء ؟
الكاتب: مروة سميح السيد ـ القاهرة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أفضل خلق الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد ..
هالني كثيراً سخرية هؤلاء الحاقدين على النبي صلى الله عليه وسلم دون علم به ولا بما جاء به ، فظهر بذلك حقدهم وجهلهم ؛ بل وعدم علمهم بكتابهم وما به من غرائب والعجائب التي لو قرأها الإنسان دون علمه أن هذه نصوص بالكتاب الذي يدعون أنه مقدسا لظنها من حكايات ( ميكي وماوس ) أو من القصص الخرافية التي تحكى للصغار قبل نومهم .
وهنا أحببت أن أنقل للقارئ بعضا من فقرات كتابهم ( المقدس ) ليعلم أينا أحق بالسخرية من الآخر ؟!
طير يمشي على أربعة أرجل؟؟
" وكل دبيب الطير الماشي على اربع فهو مكروه لكم " .[ Lv: 11:20: 20. ]
هذا من الإعجاز العلمي بـ ( الكتاب المقدس ) فالطيور في هذا الكتاب أصبحت لها أربعه أرجل تمشي عليهم !!!
الأرنب المجتر !!
" والأرنب لأنه يجترّ لكنه لا يشق ظلفا فهو نجس لكم [Lv:11:6: 6 ]"
وهل تجتر الأرانب . إلا في الكتاب المقدس ؟!
حيوانات لها أعين من الخلف تجلس بجوار عرش ( الرب ) ! !(12/3)
جاء في [ رؤيا 4: 6-8 ] : و قدام العرش بحر زجاج شبه البلور و في وسط العرش و حول العرش اربعة حيوانات مملوة عيونا من قدام و من وراء . و الحيوان الاول شبه اسد و الحيوان الثاني شبه عجل و الحيوان الثالث له وجه مثل وجه انسان و الحيوان الرابع شبه نسر طائر "
فتخيل معي أخي القارئ أربعة حيوانات لكل منهم عيون من الامام والخلف بل والحيوان الأول أسد والآخر عجل والثالث له وجه انسان والأخير نسر وكل هذه الحيوانات تجلس أمام عرش الله تبارك وتعالى .... تعالى الله عن إفك النصارى علواً كبيراً.
سلق الأطفال وأكلهم !
جاء في سفر الملوك الثاني : الإصحاح السادس الفقرة الثامنة و العشرون وما بعدها : [ سألَها: ما بِكِ؟ فأجابَت: قالَت لي هذِهِ المرأةُ: هاتي إبنَكِ فنَأْكُلَهُ، وغدًا نأْكُلُ إبني. 29فطَبَخنا إبني وأكلْناهُ، وقُلتُ لها في اليومِ الثَّاني: هاتي إبنَكِ لِنَأكُلَهُ فأخفَتْهُ]
بالله دا كلام مقدس ؟!.
سلامات !
يقول بولس ــ مؤسس النصرانية الحقيقي ـــ في رسالته الثانية إلي صديقه تيموثاوس [ 4 : 19 ] : " سلم على فرسكا واكيلا وبيت انيسيفورس. اراستس بقي في كورنثوس.واما تروفيمس فتركته في ميليتس مريضا. بادر ان تجيء قبل الشتاء.يسلم عليك افبولس وبوديس ولينس وكلافدية والاخوة جميعا. "
ويقول بولس لصديقه تيطس [ تي 3 : 12 ] : " حينما أرسل إليك ارتيماس او تيخيكس بادر أن تأتي إلي الى نيكوبوليس لاني عزمت ان أشتي هناك."
ونسأل : هل أصبح السلام على فرسكا و... ودعوى أحد للحضور في المكان الذي سيشتي فيه بولس وحي من عند الله يتعبد بتلاوته ؟؟!!
مناجاة !!
_ سفر الخروج [ 5 : 22 ] : " فرجع موسى إلى الرب وقال يا سيد لماذا أسأت إلى هذا الشعب . لماذا أرسلتني . فانه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب . وأنت لم تخلّص شعبك]
وعندنا : (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) (الأعراف : 155 )
وفي مزمور [ 10 : 1 ] : يا رَبُّ : لماذا تقف بعيداً ؟ لماذا تختفي في أزمنة الضيق ؟ ]
وعندنا : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة : 186 )
وعندنا : (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) (النمل : 62 )
مزمور [ 35 : 17 ] : " يارب إلى متى تنتظر .. لا يشمت بي الذين هم أعدائي باطلاً استيقظ وانتبه إلى حكمي "
وعندنا : (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة : 255 )
وعندنا : (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران : 26 )
وفي ( الكتاب المقدس ) كلام جنسي فاضح يخدش حياء العاهرات فضلات عن الغافلات المؤمنات ، وفي ( الكتاب المقدس ) حوار بين الأشجار ، وحرب النجوم ، وحرب الماعز والخرفان ، وفيه حمار رد حماقة النبي ، وفيه خروف بسبعة قرون . وفيه الإله ينوح ويولول . . . ويمشي عرياناً طول النهار . . . ويُسلط عليه الشيطان أربعين يوما يسرح به كيف يشاء . . . ويكذب على إخوته . . . ويخسر المصارعة أمام يعقوب . . . ويسكر . . ويتعب . . . وينام ... ويسيء . . . وينسى . . . ويصفر للذباب . . . ويصفق . . . ويخاف . . . ويندم . . . ويخرج الدخان من أنفه . . . ويحزن . . . ويصف نفسه بالخروف واللبوة والعثة والفرخة والدبة .........تعالى الله عما يقولون الضالون علواً كبيراً
وجملة : إن وجدت ثكلى فقدت وحيدها وترملت لتوها تستطيع أن تضحكها بأن تحكي لها طرفا مما في الكتاب المقدس .
وبعد هذا يسخرون من الحبيب ؟؟ !!(12/4)
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) (المائدة : 15 )
==========================
من فقه المقاطعة
الكاتب: حسن بن عبدالحميد بخاري
* شغلت المقاطعة مساحة واسعة جداً من خارطة العالم الإسلامي؛ تعبيراً عن الشعور الغاضب الذي عمّ الأمة تجاه دولة الدانمارك التي أساءت برسومها الساخرة إلى نبي الأمة (صلى الله عليه وسلم) ، وقياماً بإحدى الخطوات الواجبة على الأمة نصرةً لنبيها (صلى الله عليه وسلم) بعد تلك الإساءة !
والراصد لقضية المقاطعة الإسلامية لمنتجات الدانمارك يقف على نتيجتين "قويتين":
إحداهما- قوة التفاعل الإيجابي مع قرار المقاطعة والالتزام الجاد به من قِبَل الشعوب المسلمة في كل بلاد الإسلام.
والأخرى- قوة أثر تلك المقاطعة –مع أنها لاتزال في بداياتها- على حسابات دولة الدانمارك: السياسية والاقتصادية... وأخرى غيرها!
* وبما أن قرار المقاطعة الاقتصادية الذي اتخذته الشعوب المسلمة ذو إطار شرعي (حيث يمثل الدور الواجب على الأمة في نصرة النبي (صلى الله عليه وسلم) )؛ وجب أن يأخذ حظه الكافي من التأصيل الشرعي للمسألة، لئلا تستأثر العاطفة وحدها -مهما كانت صادقة- على القضية، فتتجاوز بها بعض الحدود والضوابط الشرعية.. إفراطاً أو تفريطاً !
ومن هنا فقد كانت هذه الأسطر محاولة - على عجل- لتقريب شيء من فقه المقاطعة الاقتصادية، يتناول عرض الأدلة ووجه الدلالة، وفي طياته إيضاح لبعض المشكلات، ودفع لبعض الشبهات، أرجو أن يتضح به المسلك الشرعي للمسألة، ووراء ذلك من البحث للمستزيد مزيد .
وقد جاء بحث مسائل الموضوع تحت العناوين التالية:
مشروعية المقاطعة.
هل المقاطعة واجبة أو مستحبة؟
لماذا المقاطعة؟
إلى متى المقاطعة؟
1- مشروعية المقاطعة:
ثبت في عدد من الأدلة الشرعية مشروعية المقاطعة التجارية للعدو، وأنها وسيلة مشروعة تُسلك لإرغام العدو والتضييق عليه، أو الانتقام منه وأخذ الثأر، وتلك الأدلة منها ما هو عام الدلالة تندرج تحته المقاطعة، ومنها ما هو خاص بها، ومن ذلكم:
( أ ) كل آيات الجهاد في كتاب الله المتضمنة لجهادي المال والنفس، نحو قوله تعالى:]انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله[، ]ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم`تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم[ .
والمقاطعة التجارية داخلة في جهاد العدو بالمال؛ لأن الجهاد بالمال كما يكون ببذله لإضعاف العدو، يكون بإمساكه عنه لإرهاقه كذلك!
وليُلحظ تقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في كل الآيات، إلا موضع سورة التوبة:]إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة[، وهذا التقديم للجهاد بالمال على النفس له دلالة ولابد، ولعل منها: اقتدار كل المكلفين على الجهاد بالمال(بذلاً وإمساكاً) بلا استثناء، بخلاف الجهاد بالنفس الذي قد يعجز عنه بعض المكلفين أو يُحال بينهم وبينه. ومنها: كون الجهاد بالمال دعامة للجهاد بالنفس وليس العكس، وكونه أسبق منه إعداداً وتنفيذاً في ميادين الجهاد، فناسب ذلك سبقه عليه في الذكر الحكيم، والعلم عند أحكم الحاكمين!
( ب ) قوله تعالى – في أوجه العمل الصالح الذي يُكتب لصاحبه لوناً من ألوان الجهاد-:]ماكان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولايرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لايصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئاًُ يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كُتب لهم به عمل صالح].
والمقاطعة الاقتصادية للعدو نيل عظيم منه ولا شك، لمّا تبور تجارته بديار المسلمين ويحل بها الكساد.
( ج ) قوله (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الصحيح الذي أخرجه أبوداود والنسائي: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم"، وقد تقدم أن الجهاد بالمال كما يكون بإنفاقه في الغزو وتجهيز الغزاة، فإنه يكون بإمساكه عن الوصول للعدو لئلا يتقوى به على قتال المسلمين وعدائهم.
ولئلا يُقال: إن هذا تكلف في فهم الدليل وإقحام ما لا يحتمله من المعاني فيه، فهاهنا دليلان من وقائع السيرة، أحدهما فعل والآخر إقرار منه (صلى الله عليه وسلم) ، وكلاهما دال على المشروعية :(12/5)
( د ) كل الغزوات والسرايا التي كانت قبل غزوة بدر الكبرى، بل حتى غزوة بدر ذاتها كان المقصد منها اعتراض قوافل قريش التجارية وأخذ أموالها وحصارها اقتصادياً، فسرية حمزة إلى (سِيف البحر)، وسرية سعد بن أبي وقاص إلى (الخرّار)، وغزوة الأبواء (ودّان) وسرية عبيدة بن الحارث إلى (رابغ)، وغزوة (بُواط)، وسرية عبدالله بن جحش إلى (نخلة)، وغزوة (العُشَيرة) التي أفلت فيها أبوسفيان بالقافلة في ذهابه إلى الشام، وهي القافلة ذاتها التي خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) يريدها حين عادت نادباً إليها أصحابه قائلاً: "هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله يُنفّلكموها"، لكنها أفلتت فكانت غزوة بدر الكبرى !
فكل تلك الغزوات والسرايا كان هدفها الأول هو الحصار الاقتصادي واعتراض القوافل وقطع تجارة قريش، إضعافاً للعدو وكسراً لشوكته... وهل المقاطعة الاقتصادية إلا من هذا الباب ؟
( هـ) قصة ثمامة بن أثال (رضي الله عنه) لمّا أسلم، فقطع تجارة الحنطة عن قريش التي كانت تأتيهم من قِبَله من اليمامة، وأقسم لهم: "ولا والله لايأتيكم من اليمامة حبّةُ حنطة حتى يأذن فيها النبي (صلى الله عليه وسلم) "، وخبره هذا في الصحيحين. فكان ثمامة (رضي الله عنه) بذلك أول مقاطِع تجاري للعدو في الإسلام –بمعناه الاصطلاحي-، فإنه استشعر دوره ضد قريش لكفرها وحربها لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، واستخدم سلاحه الذي يملك وقاطع تجارتهم، فكان في ذلك إرهاق قريش وتجويعها، حتى أرسلوا إليه (صلى الله عليه وسلم) يسألونه بالرحم أن يكتب إلى ثمامة ليُخلي لهم حمل الطعام، فكتب له النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك ورفع الحصار.
وفي الحديث من الفقه: عدم اشتراط إذن الإمام للمقاطعة، خلافاً لمن قال به! فإن ثمامة قاطعهم ولم يستأذن النبي (صلى الله عليه وسلم) ، بل أقره (صلى الله عليه وسلم) على ذلك ولم ينكر عليه إقدامه على ذلك بلا إذن منه، ولا عدّ ذلك افتئاتاً وجرأة على مقامه (صلى الله عليه وسلم) ، بل لو استدل مستدل بهذا الخبر على اشتراط إذن الإمام لرفع المقاطعة بعد إقدام المسلمين عليها لكان أقرب... وهو بعيد!
وبعد: فما سبق من الأدلة دلّ على مشروعية المقاطعة كما تقدم، والدلالة على "المشروعية" أعم من الدلالة على أحد أفرادها: الوجوب، والندب، والإباحة، وإذا كانت المقاطعة –عند الحاجة إليها والمناداة بها- مطلباً شرعياً فقد خرجت من حيّز الإباحة، وانحصر حكمها بين الوجوب والاستحباب (الندب)، وهذا هو المبحث التالي:
2- هل المقاطعة الاقتصادية اليوم واجبة أم مستحبة ؟
الأصل في التعامل مع غير المسلم الإباحة (بالضوابط الشرعية)، وحكم المقاطعة (الدائر بين الوجوب والاستحباب) لا يتعارض مع ذلك الأصل؛ لأن حكم المقاطعة طارئ، يطرأ بطروء أسبابه ودواعيه، ويزول بزوالها ، والنبي (صلى الله عليه وسلم) مع عداوة اليهود له بالمدينة وحصاره إياهم وحربهم وإجلائهم فقد كان يبيع ويشتري معهم، لكنه لمّا احتاج إلى المقاطعة في ظرف من الظروف حاصرهم في حصونهم، بل وحرق نخل مزارعهم كما فعل مع بني النضير، وفي ذلك نزل قوله تعالى: [ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين].
وعندئذ: فمتى احتاج المسلمون إلى المقاطعة التجارية كما هو الحال اليوم مع دولة الدانمارك الصليبية بعد استهزائهم برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسخريتهم منه، فإن أدنى درجات ذلك هو الاستحباب، وحيث نقول: أدنى درجاته الاستحباب فإن معنى ذلك أنه لا يمتنع أن يصل إلى الوجوب في بعض الأحوال، والمراد بوجوب المقاطعة: تحريم بيع منتجاتهم وشرائها، غير أن هذا التحريم ليس تحريماً لعينه، فإن المحرّمات في فقه البيوع إما أن تحرم لعينها (كبيع الخمر والخنزير)، أولغيرها بمعنى أنها تحرم لكونها وسيلة إلى محرم (كبيع العنب لمن يصنعه خمراً)، وهذا ما يعبّر عنه الفقهاء بقولهم: "الوسائل لها حكم المقاصد"، وعلى هذا يُحمل الوجوب في المقاطعة التجارية –إن قيل به-، أنه لغيره لا لذاته، من جهة أن البيع والشراء مع العدو وسيلة إلى تمكينه مادياً من الاستمرار على عداوته وحربه للمسلمين... وذلك محرّم !
والذي أراه أن المقاطعة التجارية تتجاوز حدّ الاستحباب إلى الوجوب في إحدى صور ثلاث:
أ- إذا أمر الإمام بذلك وحمل الناس عليه وجبت المقاطعة ؛ لوجوب طاعة الإمام.
ب- إذا انحصرت وسائل دفع العدو وكسر شوكته في المقاطعة، بحيث لم يجد المسلمون وسيلة أخرى وجبت المقاطعة؛ لأن دفع العدو وجهاده بكل الوسائل الممكنة واجب، وإذا انحصرت الوسائل في المقاطعة صارت هي الواجب كله، بحيث يؤدي تركها إلى ترك الواجب الذي يأثم به الجميع.(12/6)
مع مراعاة أن الذي يقرر انحصار الوسائل في المقاطعة وتعذّر غيرها هم المختصون من أهل العلم والدراية بالمسألة المباشرون للقضية ، العارفون بأبعادها، ممن يحسن تطبيق قواعد المصالح والمفاسد، لا أن يكون ذلك حقاً لكل مسلم يمارس فيه اجتهاده الشخصي !
ج- إذا عجز المكلف عن غير المقاطعة من الوسائل المشروعة، ولم يقدر إلا على المقاطعة وجبت في حقه؛ لأنها ستكون في حقه الجزء الذي يحقق به الوجوب في الجهاد والدفع؛ لقدرته عليه وعجزه عن غيره، والواجبات كلها تجب بالقدرة وتسقط بالعجز !
والصورتان الأخيرتان تدخلان في القاعدة الأصولية الشهيرة: "مالا يتم أداء الواجب إلا به فهو واجب" .
3- لماذا المقاطعة ؟
من المهم جداً عند اتخاذ قرار المقاطعة التجارية تحديد الهدف منها، والتي تختلف من حال إلى حال، ومن زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان.
فتارة تكون المقاطعة حصاراً لعدو يُراد استسلامه وإخلاء بلاده بما فيها، وتارة تكون إرغاماً له وإضعافاً لإمكاناته، وتارة تكون ثأراً وانتقاماً لاعتداء بدا منه، وتارة تكون ضغطاً عليه لاسترجاع حق اغتصبه ...، وهكذا.
فمن الضروري تحديد هدف المقاطعة الذي يتحدد من خلاله المدى الزمني للمقاطعة (وسيأتي الحديث عنها في النقطة التالية)، كما يُحكم على المقاطعة بالنجاح أوالفشل بناءً على تحقق الهدف أو عدمه، وهذا ما يجعل القضية منضبطة شرعاً، غير خاضعة لعواطف جياشة أو حماسة مندفعة، وفي الوقت ذاته يغلق الباب في وجوه المخذّلين والمثبطين، ممن ينادي بعدم جدوى المقاطعة، وأنها ما هي إلا تفريغ شحنة عاطفية ما تلبث أن تنطفئ!
وفي قضية الدانمارك اليوم التي تقررت فيها المقاطعة شاع بين الناس خطأً أن الهدف منها هو أخذ حق النبي (صلى الله عليه وسلم) ممن سخر منه وهزئ به، عن طريق المقاطعة!
وإنما قلت: "خطأً"؛ لوقوع خلط في هذا المفهوم بين حق النبي (صلى الله عليه وسلم) وواجب الأمة تجاه الاعتداء والتطاول عليه (صلى الله عليه وسلم) ، فالسخرية والانتقاص الذي أظهرته تلك الرسوم اعتداء على حقه (صلى الله عليه وسلم) ، وحقه (صلى الله عليه وسلم) شخصي محض، بمعنى أن أخذ الحق فيه أو العفو عنه متعلق بشخصه (صلى الله عليه وسلم) ، وهذا ما لا يمكن لأحد مهما اتخذ من أسباب أن يدعي أنه استوفى حقه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأن صاحب الحق فقط هو الذي يقرر استيفاء الحق من عدمه، ولا يسع الأمة كلها أن تتنازل عنه، أو تطالب بمطالب (اعتذار أو غيره) ترى أنه يستوفي الحق له (صلى الله عليه وسلم) ، ولهذا صرّح الفقهاء بأن شاتم النبي (صلى الله عليه وسلم) يُقتل ولا يُستتاب؛ لأن التوبة هنا متعلقة بحق شخصي، ولا محل بعد وفاته (صلى الله عليه وسلم) لاستعفائه، ولهذا: فلا المقاطعة ولا غيرها من الوسائل يُقال عنها: إنها تستوفي حق النبي (صلى الله عليه وسلم) أو تُسقطه... فلماذا المقاطعة إذن ؟
إننا إنما ندعوا إلى المقاطعة قياماً بواجب الأمة في القضية، لا استيفاءً لحق النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وهنا نحتاج إلى التفريق بين المسألتين: بين حق النبي (صلى الله عليه وسلم) في القضية، وواجب الأمة فيها...
أما حقه فقد تقدم، وأما واجب الأمة فهو النصرة والتعزير والتوقير، على حدّ قول الله سبحانه: ]إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً`لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزّروه وتوقّروه[ ، وواجب النصيحة له (صلى الله عليه وسلم) بالدفاع عنه والذبّ عن عرضه والنيل ممن تعرض له بسوء وإن قلّ، وواجب المحبة المتضمنة لافتدائه (صلى الله عليه وسلم) بالأنفس والأموال والأعراض، ومعاداة من عاداه، ومحاربة من آذاه .
وهذه الواجبات المتعلقة بالأمة هي الدوافع لقرار المقاطعة، فالهدف منها إذن: هو إبراء الذمة بذلك، وإقامة شاهد المحبة له (صلى الله عليه وسلم) بالسخط على من تعرض له بأذىً أو ناله بسوء، وردعه وكفّ باطله، وضمان ألا يعود لذلك، وألا يتجرّأ غيره فيفعل فعلته الوقحة، وبالتالي فإن هذه المقاطعة – طالت أو قصرت- لا علاقة لها بحق النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وطالما كان الغرض منها ما ذُكر فلا حرج أن تُحدّ بحدود يكون فيها: بذل المعاذير من المعتدي، والاعتراف بالجريرة، والتماس العفو والصفح، في ندم تام، وعهد غليظ بعدم تكرار ذلك، واستبدال الإحسان - قولاً وفعلاً - بإساءته تلك...، وغير ذلك مما يتحقق معه الهدف من المقاطعة، الذي لن يُسقط – بحال – حق النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وفي حديث ثمامة السابق شاهد على إيقاف المقاطعة(بأمره (صلى الله عليه وسلم) ) متى لاحت في ذلك المصلحة؛ إذ لم يكن الغرض منها قتلهم جوعاً، بل سوقهم إلى الهداية سَوقاً !!
وهذا ما يجب أن ترجع الأمة فيه ( أعني حدّ المقاطعة) إلى أولي العلم والبصيرة، ممن يحقق مناط المصالح، ثم يزنها بالمفاسد، ويحكم بالراجح فيها، وهذا هو عنوان المسألة التالية:
4- إلى متى المقاطعة ؟(12/7)
أحسب أن ما سبق تقريره في النقطة السابقة يُجيبنا عن هذا السؤال!
ولذلك فإنه لما خلط بعض الفضلاء بين المقاطعة (وأهدافها) وبين حق النبي (صلى الله عليه وسلم) بنَوا على ذلك استمرار المقاطعة إلى الأبد، ذلك أن حق النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يسقط بحال، فوجب أن تكون المقاطعة ماضية إلى الأبد !
وهذا التقرير خطأ من وجهين:
الأول- أن فيه خلطاً بين حق النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي لا يسقط بحال، وواجب الأمة الذي لا تبرأ بتركه بحال، وقد تقدم ذلك. الثاني- أنه لو اعتبرنا المقاطعة عقاباً لمن نال من النبي (صلى الله عليه وسلم) أو استيفاءً لحقه منه، فإن فيه خلطاً بين المسيء الشاتم الساخر - وهو الرسّام-، والمقِرّ له –وهو الصحيفة والحكومة-، وبين الشركات التجارية والتجّار والشعب المقصودين بالمقاطعة! فلئن كانت المقاطعة عقاباً فليُنزل بمستحق العقاب فقط، ولئن كانت استرجاع حق فليؤخذ من المعتدي فحسب !!
وحينئذ؛ فلا يسعنا إلا أن نقول: إن المقاطعة وسيلة شرعية يُراد بسلوكها تعريف المعتدي بخطئه، وإقراره بجرمه، وإقلاعه عنه، وعدم عودته إليه... الخ، وذلك ما يمكن أن يُحدّ بمطالب يضعها أولوا العلم والبصيرة في الدين وأهل الدراية في الأمة، ممن أوتي حظاً وافراً من الموازنة بين المصالح والمفاسد، وترجيح المتكافئ منهما، مع فقه تام بالواقع ومجاري الأحداث وتطورات الأوضاع؛ وصولاً إلى تحقيق المصالح من المقاطعة، واجتناباً لما يُتوقع من مفاسد، دون أن يكون لذلك أدنى أثر فيما يتعلق بحقه (صلى الله عليه وسلم) ، بمعنى أن الرسّام الآثم لو جاءنا بمعاذير الدنيا كلها وقبّل منا الأيدي والرؤوس والأرجل، طالباً أن نصفح عنه ونغفر له خطأه ... فإن الأمة لا تملك ذلك بحال !
وهنا يجب أن نعلم أن من الفقه: فقهَ حال الأمة اليوم ومعرفة وزنها بين الأمم؛ لتحديد المطالب التي يسمح بها ثقلُها ووزنُها، وأن الأمة اليوم في غَلَبة وضعف من أمرها إلى حدّ أشبه بوضع الإسلام في العهد النبوي المكي منه في العهد النبوي .
ولذلك فليس من الحكمة اليوم المطالبة بمطالب أكبر من حجم الأمة، أو الإصرار على إقامة حدّ شاتم الرسول (صلى الله عليه وسلم) على المعتدي بتلك الرسوم، فإن كل ما ورد في السنة من وقائع أمر فيها النبي (صلى الله عليه وسلم) أو أقرّ فيها بقتل من شتمه وهجاه إنما هي وقائع مدنية، كقصة كعب بن الأشرف، وعصماء بنت مروان الخَطْمية، والأعمى الذي قتل أم ولده، وغيرها كثير، حتى قتل عبدالله بن خَطَل الذي كان متعلقاً بأستار الكعبة يوم الفتح، كل ذلك إنما كان أيام صولة الإسلام بالمدينة وقوة دولته، وأما قبلُ.. فلم يُعرف أنه (صلى الله عليه وسلم) انتقم ممن كان يؤذيه، مع أنه كان يناله في مكة من الأذى والشتم ما هو أشد مما كان في المدينة، بل ما هو أعظم من الشتم وأمرّ ! ألم يوضع سلا الجزور على ظهره وهو ساجد؟ فلم يكن (صلى الله عليه وسلم) - مع شدة غضبه- يصنع شيئاً أكثر من الدعاء ؛ مراعاةً للمصلحة، ومعرفة بما يناسب الوضع آنذاك.
أو لم يكن يملك قتل عقبة بن أبي معيط أو الوليد ين المغيرة أو أبي جهل أو أبي لهب أو غيرهم من صناديد الكفر أو يأمر خفية بقتلهم ؟!
بلى.. ولكن الحكمة النبوية الراشدة التي تزن المصالح والمفاسد لم تكن ترى مثل هذا الرأي في ظرف كذلك، وهي ذاتها الحكمة النبوية القائلة في المدينة –بعد العز والتمكين-: "مَن لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله" ، "ألا آخذٌ لي من ابنة مروان؟" ، وقيل له يوم الفتح : هذا ابن خَطَل متعلق بأستار الكعبة، فقال: " اقتلوه " !!
وليفطن كثير من الغيورين ممن أخذتهم الحمية أن كثيراً مما يمارسونه أو ينادون به من قتل وحرق ونحوه قرارات حمقاء! خاصة في ظل ظرف الأمة الراهن وأوضاعها المزرية، مما قد يُفسد ثمار المقاطعة الناجحة، فيقلب الكفة لصالح العدو.
وكم نحتاج في هذه المرحلة إلى حكمة تفقه الحِكم النبوية في أطوار الأمة ومراحلها وما يناسب كل مرحلة منها؛ لنفرّق جيداً بين: الحكمة والفقه في الدين، وبين: الخَوَر والانهزامية والاستسلام لواقع الأمة المرير ،،،
=================
فقه المقاطعة الاقتصادية
نتيجة لاتساع النشاط الإنتاجي للشركات في العقود الأخيرة وتجاوزه للحدود الجغرافية والسياسية، مما جعل البعض يطلق على هذه الشركات مسميات من قبيل "الشركات متعددة الجنسية" أو "الشركات فوق القومية"، بسبب أن إنتاجها الضخم لم يعد محصوراً بدولة واحدة أو بقعة جغرافية معينة، وأصبح من الضروري النظر للسلع المنتجة والمنتشرة في الأسواق من زوايا عدة لتؤتي المقاطعة الاقتصادية أثرها المرجو.
ويمكن تلخيص هذه الزوايا أو المرتكزات في ثلاث مرتكزات لأي سلعة من ناحية العوائد المستفادة منها، وهي كما يلي:
1 الشركة المنتجة: وهي الشركة المالكة للمصنع المنتج للسلعة، ويسجل اسمها على السلعة عادة قبل اسم البلد المنتج.(12/8)
2 العلامة التجارية "الماركة": وهي الاسم التجاري الذي تُسوق السلعة تحت مسماه، وتحصل الشركة المالكة للعلامة على مبلغ سنوي أو نسبة من الأرباح لقاء السماح باستخدام علامتها التجارية.
3 بلد الإنتاج: هو البلد الذي تمت فيه عملية تصنيع السلعة (أي البلد الذي يضم المصنع المنتج للسلعة).
ولفهم كيف يمكن الاستفادة من هذه المرتكزات في المقاطعة الاقتصادية، يمكننا تقسيم المقاطعة إلى ثلاث مستويات:
1 المقاطعة من الدرجة الأولى: وهذه تتحقق عندما تكون الشركة المنتجة والشركة المالكة للعلامة التجارية وبلد الإنتاج أمريكي أو يهودي. أي أن جميع المرتكزات أمريكية أو يهودية. ولا أقل للمسلم من أن يلتزم بالمقاطعة من هذه الدرجة، ولا عذر له إن لم يقاطع.
2 المقاطعة من الدرجة الثانية: وهذه تتحقق عندما يكون مرتكزين من المرتكزات الثلاثة أمريكياً أو يهودياً.
وهذا يكون في الأعم الأغلب في المرتكز الأول "الشركة المنتجة" والمرتكز الثاني "الماركة" فقط.
وعلى المسلم أن يقاطع مثل هذه المنتجات أيضاً، وبخاصة إن كانت كمالية أو غير ضرورية، أو كانت ضرورية، ولكن لها بديل آخر يمكن الحصول عليه.
3 المقاطعة من الدرجة الثالثة وهذه الحالة تتحقق غالباً في العلامة التجارية "الماركة"، وكثير من المنتجات المنتشرة في أسواقنا من هذا الصنف، وعلى المسلم أن يقاطعها أيضاً كلما أمكنه ذلك.
مما سبق يتبين أن أفضل السلع هي ما كانت خارج نطاق الدرجات المذكورة سابقاً. وكلما كانت المرتكزات الثلاث للسلعة محلية أو عربية وإسلامية أو آسيوية على الترتيب كلما كانت هذه السلعة أولى بالشراء.
نقاط مهمة
الأثرياء اليهود مساهمون أو مالكون لكبريات الشركات في العالم، وحيثما كانت الحرية التجارية أكبر في بلد كان النفوذ التجاري اليهودي أكبر. وعلى العموم ينتشر النفوذ اليهودي بشكل أساسي في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا ودول أوروبا الغربية.
ليست جميع المنتجات الأمريكية يمكن مقاطعتها لعدم وجود البديل، لكن هناك من المنتجات الأمريكية ما لا يعذر المسلم في عدم مقاطعتها.
إن المقاطعة تحتاج إلى شيء من الدقة والمفاضلة عند التسوق، والسؤال والاستفسار من أهل الاختصاص، كما تحتاج إلى تغيير بعض الماركات والمنتجات التي اعتدنا عليها بأخرى محلية أو غيرها قد تكون أقل جودة إلا أنه مع الإرادة والعزيمة والصبر يمكن التكيف، ولنذكر أن الله لا يضيع عنده شيء.
على كل مسلم ومسلمة يعمل بالمقاطعة أن يستحضر النية الصالحة بأن مقاطعته وتغيير النمط الذي اعتاد عليه هو إرضاء وقربى لله وموالاة لإخوانه المسلمين المستضعفين وبراءة من أعداء الإسلام ممن يدعمون الكفر وأهله.
يجب أن نتذكر أننا بالمقاطعة الاقتصادية ندعم اقتصاد بلدنا، ونتجه بسرعة أكبر نحو التحرر من التبعية الاقتصادية للغرب.
ماتزال كثير من المنتجات الأجنبية تحصد أرباحاً في أسواقنا رقم وجود منتجات محلية تنافسها في الجودة، بل تتعدادها أحياناً وبأسعار أقل، إلا أنه وللأسف يفضلها البعض بسبب عقدة النقص والانهزامية النفسية.
لابد من الانتقاء والتدرج في المقاطعة، فالمنتج المحلي أفضل وأولى بالدعم، والمنتج العربي والإسلامي أفضل من المنتج المشابه الآسيوي، والمنتج الآسيوي أفضل من المنتج الغربي، وعند الضرورة المنتج الأوروبي أفضل
من المنتج الأمريكي، وأخيراً وعند عدم توافر البدائل فالشركة الأمريكية التي لا تستثمر في إسرائيل أولى من التي لديها استثمارات في إسرائيل.
يجب ألا يلتفت للمثبطين والمخذلين ممن ينتسبون لهذه الأمة ممن يطعنون في جدوى المقاطعة الاقتصادية ويشككون في أثرها، إذ هذا ديدنهم في كل عصر ومصر، يقول الله عز وجل: إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم (49) (الأنفال)، ويقول: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون67 (التوبة).
المقاطعة لا تقوم فقط على السلع، بل يجب أن تشمل المحلات والأسواق والمطاعم التي يملكها مستثمرون يهود أو أمريكيون، وتعرف هذه المحلات من أسمائها التي تحمل أسماء عالمية مشهورة لا تخفى على عاقل.
يمكن أن ينطلق المسلم الفطن من هذه المقاطعة إلى قاعدة ومنهج يسير عليه مع جميع السلع والمنتجات أو الأسواق والمحلات، فما كان يُعرف منها بدعم الخير وأهله هو أولى بالدعم من غيره، وعلى النقيض من ذلك المنتج الذي تنتجه شركة أو يبيعه محل يعرف بنشر المنكر أو دعمه هو أولى بالمقاطعة.
===================
إعادة النظر في فقه المقاطعة
مركز المنطلق الإسلامي
الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستهديه, ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه :
أما بعد :(12/9)
فمنذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في الأرض المحتلة وسماح عرفات وعصابته للشعب الفلسطيني للتعبير عن رفضه للاحتلال اليهودي والبطش الصهيوني انتشرت في أنحاء العالم الإسلامي دعوات لمقاطعة المنتجات والمصنوعات اليهودية والأمريكية, ودفع الناس إلى عدم التعامل في هذه البضائع والسلع. وقد أخذت حملات المقاطعة عدة صور: فتاوى من علماء ومشايخ, منابر المساجد في بعض البلاد, رسائل بريدية إلكترونية تصل إلى عشرات الألوف من رواد الإنترنت, نشرات توزع في الشوارع والميادين, كتب ورسائل وحملات إعلامية من خلال القنوات الفضائية وغيرها من وسائل إعلامية …
وبررت كثير من القوى الشعبية الإسلامية حملات المقاطعة تلك بأن هذه المقاطعة تحاول وقف الدعم المالي المباشر والغير المباشر الموجه لآلة القمع الإسرائيلية؛ سواء عن طريق البضائع الإسرائيلية, أو عن طريق حليفتها الأمريكية التي تمدها بمختلف أنواع الدعم من معنوي ومالي, وأن هذا هو الطريق الوحيد ـ أو شبه الوحيد ـ أمام الجماهير المسلمة لمساندة انتفاضة الأقصى, بعد أن حالت الأنظمة التي تجلس على سدة الحكم في الأقطار الإسلامية بين هذه الشعوب وشعبنا الأسير في فلسطين لنجدته ونصرته.
ونحن ـ كموقف مبدئي مع المقاطعة تلك ـ نناصرها ونؤيدها؛ ليس باعتبار أنها السبيل الوحيد لمواجهة اليهود, ولكن باعتبارها وسيلة من ضمن العديد من الوسائل في مواجهة الهجمة اليهودية البروتستانتية على العالم الإسلامي, هذا من حيث الهدف العام لحملة المقاطعة. أما من حيث الوسيلة المطبقة لهذه المقاطعة فلنا بعض التحفظ, أو ندعو لتوسيع رؤية واقع هذه المقاطعة والمصالح والمفاسد المترتبة عليها.
فأولى هذه الاعتبارات التي يجب مراعاتها والنظر إليها عند الحديث عن المقاطعة:
**مئات الألوف من العمال الذين يعملون في المصانع والمحلات التي أصبحت على وشك الغلق والإفلاس من جراء المقاطعة والتشريد وانقطاع المورد الرئيسي لدخلهم, مع ملاحظة أن هؤلاء العمال يعولون أسرهم مما يتعدى الضرر إلى ملايين الأفراد, في ظل أزمة اقتصادية خانقة تمر بها أغلب دول المنطقة, وبطالة فاقت نسبها كل حد, وما تشكله من انهيار أخلاقي واجتماعي شديد, في ظل عجز الأنظمة وعدم قدرة فصائل الصحوة الإسلامية على استيعاب هؤلاء وتوفير ما يعول أسرهم نتيجة للظروف الأمنية وغيرها مما تمر به الصحوة. وغني عن البيان ومما يعزز وجهة النظر تلك أن هؤلاء المطالبين بالمقاطعة لا يجرؤون على مطالبة مئات الألوف من العمال الفلسطينيين على ترك المصانع الإسرائيلية التي يعملون بها.
**التفريق بين بعض الدول ذات المستوى المعيشي المرتفع والأخرى التي تجاوزت فيها نسب الفقر أي خط, فالأولى تبدو المقاطعة فيها أكثر قبولا حيث القدرة على تنويع السلع والبضائع والقوة الشرائية التي تحصل عليها بأي سعر, أما الثانية فالخيارات أمامها قليلة والقوة الشرائية لدى المواطن المتوسط الدخل فيها محدودة وهذا التفريق يسري في البلد الواحد مع تعدد مستويات الدخل بين طبقاته.
**وإذا كانت مقاطعة اليهود والأمريكان واجبة الآن لما يفعلونه بالمسلمين ومن انتهاك للمقدسات، إذا كانت هذه أحد أسباب المقاطعة أو أهم أسبابها فإن الأنظمة العربية أولى بالمقاطعة تلك, فكثير من المشروعات والمنتجات التي يصب دخلها في موازنة هذه الأنظمة تعود وترتد سلاحًا في نحور إخواننا الذين يجاهدون هذه الأنظمة, وتتدعم بها أجهزة الإعلام وأنظمة التعليم لإفساد الناس والحيلولة بينهم وبين الإسلام فيما يعرف باسم "الأرض المحروقة", ويشيد بها سجونًا وقلاعًا محصنة تنتهك فيه كرامة الأخ المسلم ويتمنى أن يعامل فيها معاملة الحيوان.
وأسوق هذه الواقعة التي رواها لنا أحد الأخوة ممن نثق في دينه والتزامه عن واقعة حدثت أمامه في إحدى هذه المعتقلات عندما كان يجري التفتيش فيها على أي متعلقات شخصية للمعتقل الممنوع عنه أي زيارة أو حديث، المكدس في زنزانة يوجد فيها أكثر من ثلاثين معتقلاً وهي أصلاً مصممة لتستوعب ثمانية أفراد, وكان من ضمن الممنوعات والتي يجري عليها التفتيش بدقة وبحزم وتعاقب عليه الزنزانة بأكملها إن وجد كتاب الله وكان الإخوة يشترونه من الحراس خلسة بثمن باهظ لكي يقسموه إلى ملزمات صغيرة لكي تتمكن عدة زنازين فيها مئات من قراءته وتلاوته وكانوا يجتهدون في إخفائه لدرجة إخفائه في أماكن لا يجوز فيها شرعا إخفائه كدورة المياه مثلاً!!! ولكنها الحاجة الشديدة للقرآن لأنه كان بمثابة الروح التي تعينهم على البقاء في ظل هذه الأجواء.(12/10)
وحدث مرة أن ضبط أحد هذه الملزمات مع أحد السجناء فما كان من ضابط السجن إلا أن رص صفوف المساجين وأسند ظهورهم إلى الحائط وأمر حراسه بضربهم بالعصي ضربا مبرحا إلى أن يقروا أين بقية أجزاء المصحف؟ فما كان من أحد الأخوة المعتقلين إلا أن التفت وصرخ في الضابط والحراس صائحًا فيهم: تضربوننا من أجل المصحف يا كفرة !!! وتوقع الجميع أن يأمر الضابط حراسه ويفعلوا بهذا الأخ الأفاعيل ولكن يبدو أن هذه العبارة قد أصابت شيئا ما أو بقية إيمان في نفسه فأمر بوقف التعذيب وإعادة المعتقلين إلى زنزاناتهم وهذه الرواية حرصت على روايتها برغم طولها لأستدل بجبن هؤلاء الزعماء ومدى انحراف هذه الأنظمة وبيان أنها أصبحت أشد على المسلمين من اليهود والنصارى وحينئذ يبدو السؤال منطقيا: أليست مقاطعة هؤلاء أولى؟
إن كثيرا من الناس قد يفهم دعوتنا تلك كنوع من تثبيط الهمم وبث روح الاستسلام والهزيمة أمام العدو ولكننا ندعو إلى أخذ الأمور بجد, وإحياء فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد, وتعديل طرائق التفكير وسبل التعامل مع المشاكل, والدعوة إلى النظر فيها بالأساليب العلمية, وليس وراء دعوة عاطفية, أو لهثًا بأماني كاذبات, ولكنها إعادة التدبر والتفقه في هذه المشكلة وأمثالها مما يوسع دائرة النظر ويستوعب جميع المفاسد والمصالح في أي أمر من أمورنا, لكي نهيئ أنفسنا لاتخاذ القرار الصائب بعيدا عن الأهواء والعواطف.
ولسنا ندّعي أن هذا الرأي هو الصواب في هذه المسألة ولكن كما قلنا ونكرر ندعو إلى إمعان النظر ورؤية الموضوع من جميع زواياه المختلفة حتى تتضح الصورة ونفقه الواقع قبل الحكم عليه وأخذ المواقف على ذلك الحكم.
================
مناورات الأشقياء لقتل خاتم الأنبياء
أبو يوسف محمد زايد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نادي عبده المجتبى ورسوله المصطفى، فقال:?يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً *? (الأحزاب 45-46)
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأبى الكافرون، ورفض الملحدون، وأعرض الصم البكم العمي الذين لا يعقلون... قال تعالى: ?هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ? (التوبة: 33 )؛ وقال: ?هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً? (الفتح: 28 )؛ وقال مخاطبا نبيه الكريم عليه أنمى الصلاة وأبلغ التسليم: ? إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ? (النمل: 80 )؛ وقال:
?وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ? (النمل: 81)؛وقال: ? أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ? (الزخرف: 40)....
الحمد لله الذي قال في محكم كتابه المبين: ? اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ? (الحج: 75 )؛ وقال: ?اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ? (الأنعام: 124 )؛ وقال: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ? (الأنعام: 112 ) وقال: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً? (الفرقان: 31 )...
الحمد لله البالغ أمره، النافذ حكمه، كتب على نفسه الرحمة، وقال ?وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ? (الأعراف: 156)(12/11)
الحمد لله العزيز ذي انتقام الذي قال: ? يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ) (الدخان: 16 )؛ وقال ( إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ? (السجدة: 22 )؛ وقال: ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ? (الروم: 47 )؛ وقال: ? لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ? (آل عمران: 181 )
الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وجميع إخوانه الأنبياء وعلى آله الأصفياء وصحابته الأوفياء وكل من كان من الأتقياء إلى اليوم الذي يفصل فيه الواحد القهار بين السعداء أهل دار السلامة والكرامة، والأشقياء حطب دار الندامة...
أما بعد، فهذا كتاب حاولت أن أجمع فيه ما يسر الله لي من المناورات التي حاكها يهود غاوون ومشركون وثنيون لقتل سيد ولد آدم، خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم... وقد كان اعتمادي بالدرجة الأولى على كتابي التفسير والبداية والنهاية للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير رحمه الله، مع بعض الإضافات من غيرهما أبينه – إن شاء الله – في محله..........
تنبه: سميتهم أشقياء لما أقدموا عليه من شنيع الفعال، بل أشنعها وأكبرها مقتا عند الله، ألا وهو محاولة اغتيال النبي المرسل رحمة للعالمين...فهم أشقياء حين تلبسهم بالجريمة والإقدام على تنفيذها... حتى كان منهم من غلبت عليه شقوته ومات على كفره فحق عليه قول ربنا فيمن قال فيهم: ? إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ? (آل عمران: 21 )، ومنهم من شرح الله صدره للإسلام فأسلم وجهه لله وحسن إسلامه فأصبح من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشارك معه في غزواته وحارب إلى جنبه الشريف ضد أهل الشرك والبغي والفساد في الأرض...وأصبح من رواة حديثه والمبلغين لسنته...اهـ.
وصدق الله العظيم إذ يقول في محكم التنزيل: ? مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ? (الأعراف: 178 ) ويقول: ? مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً ? (الكهف: 17 )
ويقول: ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ? (الزمر: 23 ).....
نعم.. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له... أنزل على رسول الله أمره : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ *)(الحجر: 94- 96).
قال ابن كثير رحمه الله:
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصدع به, وهو مواجهة المشركين به, كما قال ابن عباس في قوله: {فاصدع بما تؤمر} أي أمضه, وفي رواية:افعل ما تؤمر.. وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة. وقال أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود: ما زال النبي مستخفياً حتى نزلت {فاصدع بما تؤمر}, فخرج هو وأصحابه. وقوله: {وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين} أي بلغ ما أنزل إليك من ربك, ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله {ودّوا لو تدهن فيدهنون} ولا تخفهم فإن لله كافيك إياهم وحافظك منهم, كقوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}.(12/12)
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن, حدثنا إسحاق بن إدريس, حدثنا عون بن كهمس عن يزيد بن درهم, عن أنس قال: سمعت أنساً يقول في هذه الآية, {إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر} قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فغمزه بعضهم فجاء جبريل, أحسبه قال: فغمزهم, فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا. قال محمد بن إسحاق: كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر, وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم: من بني أسد بن عبد العزى بن قصي الأسود بن المطلب أبي زمعة, كان رسول الله فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه, فقال: «اللهم أعم بصره, وأثكله ولده» ومن بني زهرة الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة, ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم, ومن بني سهم ابن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد, ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد بن ـ عمرو بن ملكان ـ. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله الاستهزاء أنزل الله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)...وقال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أو غيره من العلماء,أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت, فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه, فمر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه, فاستسقى بطنه, ومر به الوليد بن المغيرة, فأشار إلى أثر جرحٍ بأسفل كعب رجله, وكان أصابه قبل ذلك بسنتين, وهو يجز إزاره, وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلاً له, فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش, وليس بشيء, فانتفض به فقتله, ومر به العاص بن وائل, فأشار إلى أخمص قدمه فخرج على حمار له يريد الطائف, فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه فقتلته, ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخط قيحاً فقتله.
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن رجل, عن ابن عباس قال: كان رأسهم الوليد بن المغيرة وهو الذي جمعهم, وهكذاروي عن سعيد بن جبير وعكرمة نحو سياق محمد بن إسحاق به, عن يزيد عن عروة بطوله, إلا أن سعيداً يقول: الحارث بن غيطلة, وعكرمة يقول الحارث بن قيس. قال الزهري: وصدقا هو الحارث بن قيس, وأمه غيطلة, وكذا روي عن مجاهد ومقسم وقتادة وغير واحد أنهم كانوا خمسة. وقال الشعبي: كانوا سبعة, والمشهور الأول: وقوله: {الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون} تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع لله معبوداً آخر.
وقال القرطبي رحمه الله:
قوله تعالى: "فاصدع بما تؤمر" أي بالذي تؤمر به، أي بلغ رسالة الله جميع الخلق لتقوم الحجة عليهم، فقد أمرك الله بذلك. والصدع: الشق. وتصدع القوم أي تفرقوا؛ ومنه "يومئذ يصدعون" [الروم: 43] أي يتفرقون. وصدعته فانصدع أي انشق. أصل الصدع الفرق والشق … فقوله: "اصدع بما تؤمر" قال الفراء: أراد فاصدع بالأمر، أي أظهر دينك، فـ "ما" مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر. وقال ابن الأعرابي: معنى اصدع بما تؤمر، أي اقصد. وقيل: "فاصدع بما تؤمر" أي فرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرقون بأن يجيب البعض؛ فيرجع الصدع على هذا إلى صدع جماعة الكفار.
قوله تعالى: "وأعرض عن المشركين" أي عن الاهتمام باستهزائهم وعن المبالاة بقولهم، فقد برأك الله عما يقولون. وقال ابن عباس: (هو منسوخ بقوله "فاقتلوا المشركين" [التوبة: 5]). وقال عبد الله بن عبيد: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزل قوله تعالى: "فاصدع بما تؤمر" فخرج هو وأصحابه. وقال مجاهد: أراد الجهر بالقرآن في الصلاة. "وأعرض عن المشركين" لا تبال بهم. قال ابن إسحاق: لما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى "فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين. إنا كفيناك المستهزئين. الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون". والمعنى: اصدع بما تؤمر ولا تخف غير الله؛ فإن الله كافيك مَن آذاك كما كفاك المستهزئين،(12/13)
قلت: وصدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أمره به ربه جل في علاه، فصدقه ناس حبب الله إليهم الإيمان وشرح صدورهم لتلقي نور الإسلام فكانوا من جنده الذين جاهدوا في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم فحملوا رايته عالية، حتى أظهره الله الذي نصر عبده ورسوله ومن سار معه على النهج القويم والصراط المستقيم آخذين ما جاء به من الهدى والرشاد من عند رب العباد ؛ وكذبه رهط لم يرد الله أن يطهر قلوبهم فبقوا في ظلمات غيهم يعمهون وفي غيابات الجهل يتخبطون، وهؤلاء هم الأشقياء الذين آذوا رسول رب العالمين للناس أجمعين... بسطوا إليه ألسنتهم بالسوء وأيدهم بشتى أنواع السلاح... فسوف يعلمون..
***
وقبل الشروع في المناورات والمؤامرات التي كان غرض مَن خططوا لها مع العزم على تنفيذها القضاء على الدين الجديد ووأده في شخص النبي المبعوث بتبليغه، أشير إلى تلكم النية السيئة التي سرعان ما انقلبت إلى حسنة من أعظم الحسنات بفضل استجابة العلي القريب، القدير المجيب، دعاء الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لما نادى ربه قال: اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، قال: وكان أحبهما إليه عمر- أخرجه الترمذي... ورواه ابن ماجه ولفظه: اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة –
وقصة إسلام الفاروق عمر رضي الله عنه لا يخلو منها كتاب في التفسير أو السيرة أو التاريخ... ففي البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله:
قال ابن إسحاق وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة..-
- حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت أبي حثمة قالت: والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا إذ أقبل عمر فوقف علي وهو على شركه، فقالت وكنا نلقى منه أذى لنا وشدة علينا... قالت،فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت: نعم.. والله لنخرجن في أرض من أرض الله إذ آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا.. قالت، فقال: صحبكم الله..ورأيت له رقة لم أكن أراها ثم انصرف وقد أحزنه فيما ارى خروجنا، قالت: فجاء عامر بحاجتنا تلك، فقلت له: يا أبا عبد الله، لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا؟ قال: أطمعت في إسلامه؟ قالت،قلت: نعم... قال: لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب... قالت: يأسا منه لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام...(12/14)
قلت هذا يرد قول من زعم أنه كان تمام الأربعين من المسلمين فان المهاجرين إلى الحبشة كانوا فوق الثمانين اللهم إلا أن يقال إنه كان تمام الأربعين بعد خروج المهاجرين ويؤيد هذا ما ذكره ابن إسحاق ههنا في قصة إسلام عمر وحده رضي الله عنه وسياقها، فانه قال: وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل كانت قد أسلمت واسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون بإسلامهم من عمر، وكان نعيم بن عبد الله النحام رجل من بني عدي قد أسلم أيضا مستخفيا بإسلامه من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرؤها القرآن فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه...فذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين من بين رجال ونساء ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة؛ فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمدا، هذا الصابي الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فاقتله... فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة، فقد والله أسلما وتابعا محمدا صلى الله عليه وسلم على دينه فعليك بهما.. فرجع عمر عائدا إلى أخته فاطمة وعندها خباب بن الأرت معه صحيفة فيها(طه) يقريها إياها فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها.. وقد سمع عمر حين دنا إلى الباب قراءة خباب عليها؛ فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له:ما سمعت شيئا.. قال: بلى... والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم..قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك... فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع وارعوى وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي كنتم تقرأون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد...وكان عمر كاتبا؛ فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها.. قال: لا تخافي... وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها... فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت: يا أخي، إنك نجس على شركك وإنه لا يمسه إلا المطهرون... فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها (طه) فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.. فلما سمع ذلك خباب بن الأرت خرج إليه فقال له: والله يا عمر إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب... فالله الله يا عمر.. فقال عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأُسلم..فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه...فاخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر من خلل الباب فإذا هو بعمر متوشح بالسيف فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا بالسيف...فقال حمزة: فاذن له فان كان جاء يريد خيرا بذلناه وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إئذن له .فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه في الحجرة فاخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة فقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فو الله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة... فقال عمر: يا رسول الله جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله... قال فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة فعرف أهل البيت أن عمر قد أسلم فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة وعلموا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتصفون بهما من عدوهم..
قال ابن إسحاق فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر حين أسلم رضي الله عنه.(12/15)
وقال : حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي عن أصحابه عطاء ومجاهد وعمن روى ذلك أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول كنت للإسلام مباعدًا وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك فلم أجد فيه منهم أحدا فقلت لو أني جئت فلانا الخمار لعلي أجد عنده خمرا فاشرب منها فخرجت فجئته فلم أجده قال فقلت لو أني جئت الكعبة فطفت سبعا أو سبعين قال فجئت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي.. وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام.. وكان مصلاه بين الركنين الأسود واليماني.. قال فقلت حين رأيته والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى اسمع ما يقول فقلت لئن دنوت منه لاستمع منه لأروعنَّه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها فجعلت أمشي رويدا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي يقرأ القرآن حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة قال فلما سمعت القرآن رق له قلبي وبكيت ودخلني الإسلام فلم أزل في مكاني قائما حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته ثم انصرف وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين وكان مسكنه في الدار الرقطاء التي كانت بيد معاوية... قال عمر فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس ودار ابن أزهر أدركته فلما سمع حسي عرفني فظن أني إنما اتبعته لاوذيه فنهمني ثم قال: ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة؟ قال قلت جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله... قال فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: قد هداك الله يا عمر، ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات ثم انصرفت ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته.. قال ابن إسحاق فالله أعلم أي ذلك كان...
قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أي قريش انقل للحديث؟ فقيل له جميل بن معمر الجمحي.. فغدا عليه؛ قال عبد الله وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كلما رأيت حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل إني أسلمت ودخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: فو الله ما راجعه حتى قام يجر رداءه، واتبعه عمر واتبعته أنا حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، وهم في أنديتهم حول الكعبة، ألا إن ابن الخطاب قد صبا...قال يقول عمر من خلفه: كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله.... وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤسهم.. قال وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فاحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا... قال فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: صبأ عمر.. قال: فمه؟ رجل اختار لنفسه أمرا، فماذا تريدون؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا .؟ خلوا عن الرجل... قال فو الله لكأنما كانوا ثوبًا كشط عنه.. قال فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبتِ، من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟ قال: ذاك أي بني العاص بن وائل السهمي...وهذا إسناد جيد قوي وهو يدل على تأخر إسلام عمر لأن ابن عمر عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة وكانت أحد في سنة ثلاث من الهجرة وقد كان مميزًا يوم أسلم أبوه فيكون إسلامه قبل الهجرة بنحو من أربع سنين وذلك بعد البعثة بنحو تسع سنين والله أعلم...
مناورات الأشقياء لقتل خاتم الأنبياء(2)
أبو يوسف محمد زايد
"عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك إما عمر بن الخطاب، أو أبي جهل بن هشام، فكان أحبهما إلى الله: عمر رضي الله عنه".(12/16)
وروي "عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال لعمر رضي الله عنه: لم سميت الفاروق؟ فقال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام، ثم شرح الله صدري للإسلام، وأول شئ سمعته من القرآن ووقر في صدري: " الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى "، فما في الأرض نسمة أحب إلي من نسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألت عنه؟ فقيل لي: هو في دار الأرقم، فأتيت الدار -وحمزة في أصحابه جلوساً في الدار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت - فضربت الباب، فاستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم؟ فقالوا: عمر. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بمجامع ثيابي، ثم نترني نترة لم أتمالك أن وقعت على ركبتي، فقال: ما أنت بمنته يا عمر؟! فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد، فقلت: يا رسول الله! ألسنا على الحق، إن متنا أو حيينا؟ قال: بلى، فقلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن، فخرجنا في صفين: حمزة في صف، وأنا في صف -له كديد ككديد الطحن- حتى دخلنا المسجد، فلما نظرت إلينا قريش أصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها قط. فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الفاروق".
وقال صهيب: لما أسلم عمر رضي الله عنه جلسنا حول البيت حلقاً، فطفنا واستنصفنا ممن غلظ علينا.
قال ابن إسحاق... وأسلم عمر بن الخطاب وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحمزة حتى غاظوا قريشًا فكان عبد الله بن مسعود يقول: ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما اسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه... قلت وثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: ما زلنا أعزة منذ اسلم عمر بن الخطاب... وقال زياد البكائي حدثني مسعر بن كدام عن سعد بن إبراهيم قال، قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحا وإن هجرته كانت نصرا وإن إمارته كانت رحمة ولقد كنا وما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه..
*** وهكذا أراد الله عز وجل...ولا يكون إلا ما شاء الله أن يكون... رجل يخرج من بيته مشركا، متوشحا سيفه، ونيته قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فيلقاه عبد مؤمن فيرده بكلمة تجعله بإذن الله يغير وجهته فيذهب إلى بيت أخته... حيث يقرأ بعد اغتسال يحصل به تطهير الظاهر: ?طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى* إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى* تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى*اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى *? (طه 1-8)... آيات بينات من الذكر الحكيم تنفذ إلى أعماقه فتخلي قلبه من الإعراض والكراهية وتحليه بالإقبال والمحبة ليحصل تطهير الباطن؛ فيذهب إلى نبي الله ليسلم وجهه لله ويتبع رسول الله...
وأعز الله تعالى الإسلام بعمر... فيا ليت قومي يسمعون قولة الفاروق رضي الله عنه (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله) رواه الحاكم وقال صحيح على شرطهما ؛ وفي رواية (إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نبتغي العز بغيره)..
لكن... كان هنالك من لم يرد الله بهم خيرا لعلمه وهو العليم الخبير أن قلوبهم المظلمة لا تنطوي على أدنى ذرة منه، فبذلوا كل ما كان في وسعهم لاغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإطفاء النور الذي أرسل به؛ (.. وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة: 32)..
*******
والآن مع جملة من المناورات التي – والحمد لله الذي أحبطها – باءت كلها بالفشل... أقول، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب:
المناورة الأولى
قال الله تعالى: ?وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ? (الأنفال: 30).
قال ابن كثير رحمه الله في التفسير
- قال ابن عباس ومجاهد وقتادة {ليثبتوك} ليقيدوك, وقال عطاء وابن زيد: ليحبسوك, وقال السدي: الإثبات هو الحبس والوثاق, وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء وهو مجمع الأقوال, وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء, وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج: قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه. قال له عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال «يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني». فقال: من أخبرك بهذا ؟ قال «ربي» قال: نعم الرب ربك استوص به خيراً. قال «أنا استوصي به, بل هو يستوصي بي».(12/17)
- وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني محمد بن إسماعيل المصري المعروف بالوساوسي, أخبرنا عبد الحميد بن أبي داود عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك ؟ قال «يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني». فقال: من أخبرك بهذا؟ قال «ربي». قال: نعم الرب ربك فاستوص به خيراً. قال «أنا استوصي به, بل هو يستوصي بي». قال: فنزلت {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} الآَية. وذكر أبي طالب في هذا غريب جداً, بل منكر, لأن هذه الآَية مدنية, ثم إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل إنما كان ليلة الهجرة سواء, وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترؤوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه, والدليل على صحة ما قلنا ما روى الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: وحدثني الكلبي عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس أن نفراً من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل فلما رأوه قالوا له من أنت ؟ قال شيخ من أهل نجد, سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا: أجل, ادخل, فدخل معهم, فقال: انظروا في شأن هذا الرجل, والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره. فقال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم. قال: فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال: والله ما هذا لكم برأي والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم, فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم, قالوا: صدق الشيخ فانظروا في غير هذا. قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه.وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق والله, فانظروا رأياً غير هذا. قال: فقال أبو جهل لعنه الله, والله لأشيرن عليكم برأي ما أركم أبصرتموه بعد, لا أرى غيره. قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاماً شاباً وسيطاً نهداً, ثم يعطى كل غلام منهم سيفاً صارماً, ثم يضربونه ضربة رجل واحد, فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها, فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها. فإنهم إذا رأوا ذلك, قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه. قال: فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي, القول ما قال الفتى, لا أرى غيره. قال: فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له. فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك بالخروج وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء, {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} فكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة للذي اجتمعوا عليه من الرأي, وعن السدي نحو هذا السياق وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى: {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً} وكذا روى العوفي عن ابن عباس, وروي عن مجاهد وعروة بن الزبير وموسى بن عقبة وقتادة ومقسم وغير واحد نحو ذلك, وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أمر الله حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به وأرادوا به ما أرادوا أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً بن أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر ففعل ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه, وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رؤوسهم وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ {يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم(12/18)
مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ *},
-وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: روي عن عكرمة ما يؤكد هذا, وقد روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, قال: دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: «ما يبكيك يا بنية؟» قالت يا أبت ومالي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاهدون باللات والعزى, ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك, فقال: «يا بنية ائتني بوضوء» فتوضأ رسول صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلى المسجد فلما رأوه قالوا: ها هو ذا فطأطأوا رؤوسهم وسقطت رقابهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها وقال: «شاهت الوجوه» فما أصاب رجلاً منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافراً, ثم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه, ولا أعرف له علة.
-وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر أخبرني عثمان الجزري, عن مقسم مولى ابن عباس أخبره ابن عباس في قوله: {وإذ يمكر بك} الآَية قال: تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم, وقال بعضهم بل اقتلوه, وقال بعضهم: بل أخرجوه فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم, وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم, فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا علياً رد الله تعالى مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال لا أدري, فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال, وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم. اهـ
** كانت هذه أول مناورة ظالمة باء أعداء الحق عبدة الطواغيت الذين خططوا لها وقاموا بتنفيذها بفشل ذريع سجله التاريخ بمداد الذل على ورق الخزي ليبقى عبرة لمن أراد أن يعتبر...وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة، واتجه صوب المدينة المنورة، يصحبه في هجرته المباركة أبو بكر الصديق رضي الله عنه...
وازداد غيظ المشركين وملأ قلوبهم المظلمة الحقد والرغبة في قتل الأمين صلى الله عليه وسلم والخلاص من دعوته فأرسلوا في طلبه من يأتيهم به حيًا أو ميتًا، وجمعوا لذلك مالا كثيرًا، عشرات من النوق الثمبنة، وكان ممن أغروا بهذا الثراء من شبانهم الأقوياء سراقة بن مالك المدلجي... وكانت.
المناورة الثانية...
قال الإمام البيهقي في دلائل النبوة:
باب اتباع سراقة بن مالك بن جعشم أثر رسول الله وما ظهر في ذلك من دلائل النبوة..(12/19)
- أخبرنا أبو الحسين محمد بن الحسين القطان ببغداد وقال أخبرنا عبد الله بن جعفر بن درستويه قال حدثنا يعقوب بن سفيان قال حدثنا عبيد الله بن موسى وعبد الله بن رجاء أبو عمر الغداني عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال اشترى أبو بكر من عازب رحلا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر رضي الله عنه لعازب: مر البراء فليحمله إلى رحلي... فقال له عازب: لا حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله حين خرجتما والمشركون يطلبونكما.. قال أدلجنا من مكة ليلا فأحيينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فرميت ببصري هل أرى من ظل نأوي إليه فإذا صخرة فانتهيت إليها فإذا بقية ظل لها فسويته ثم فرشت لرسول الله فروة ثم قلت اضطجع يا رسول الله فاضطجع ثم ذهبت أنفض ما حولي هل أرى من الطلب أحدا فإذا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة يريد منها الذي نريد يعني الظل فسألته فقلت: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من قريش.. فسماه فعرفته؛ فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم.. قلت: هل أنت حالب لي؟ قال: نعم.. فأمرته فاعتقل شاة من غنمه وأمرته أن ينفض ضرعها من التراب ثم أمرته أن ينفض كفيه فقال هكذا فضرب إحدى كفيه على الأخرى فحلب لي كثبة من لبن، وقد رويت معي لرسول الله إداوة على فمها خرقة فصببت على اللبن حتى برد أسفله فأتيت رسول الله فوافقته وقد استيقظ فقلت: أتشرب يا رسول الله؟ فشرب رسول الله حتى رضيت؛ ثم قلت:قد آن الرحيل يا رسول الله... قال فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له فقلت هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، قال: لا تحزن إن الله معنا.. فلما أن دنا منا وكان بيننا وبينه قيد رمحين أو ثلاثة قلت هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله وبكيت فقال: ما يبكيك ؟ فقلت أما والله ما على نفسي أبكي ولكني إنما أبكي عليك.. قال فدعا عليه رسول الله فقال اللهم اكفنا بما شئت قال فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها فوثب عنها ثم قال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن تنجيني مما أنا فيه فو الله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله لا حاجة لنا في إبلك وغنمك ودعا له رسول الله فانطلق راجعا إلى أصحابه ومضى رسول الله وأنا معه حتى قدمنا المدينة ليلا..
رواه البخاري في الصحيح عن عبد الله بن رجاء وأخرجه مسلم من وجه آخر عن إسرائيل.
-وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال أخبرني أبو الوليد الفقيه قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا سلمة بن شبيب قال حدثنا الحسن ابن محمد بن أعين قال حدثنا زهير قال حدثنا أبو إسحاق قال سمعت البراء يقول: جاء أبو بكر إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا وذكر الحديث بمعنى حديث إسرائيل إلى أن قال فارتحلنا بعدما زالت الشمس واتبعنا سراقة بن مالك.. قال ونحن في جلد من الأرض فقلت: يا رسول الله أتينا.. فقال: لا تحزن إن الله معنا. فدعا عليه رسول الله فارتطمت فرسه إلى بطنها... فقال: إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي فادعوا لي فالله لكما أن أرد عنكما الطلب.. فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتم ما ههنا، ولا يلقى أحدا إلا رده، ووفى لنا..
رواه مسلم في الصحيح عن سلمة بن شبيب وأخرجه البخاري من وجه آخر عن زهير بن معاوية.(12/20)
-أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار قال حدثنا ابن ملحان قال حدثنا يحيى بن بكير قال حدثني الليث عن عقيل – ح - وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال أخبرني أبو الحسن محمد بن عبد الله قال حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا أبو صالح قال حدثني الليث قال حدثني عقيل قال قال ابن شهاب وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم وفي رواية ابن عبدان أن سراقة بن مالك بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وفي أبي بكر دية كل واحد منهما في قتله أو أسره فبينا أنا جالس في مجلس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم قال ابن عبدان وذكر الحديث.. قال أبو عبد الله في روايته قال: فقلت له إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا.. قال: ثم قلَّ ما لبث في المجلس حتى قمت فدخلت بيتي فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي فتهبطها من وراء أكمة فتحبسها علي فأخذت رمحي وخرجت من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض وخفضت عالية الرمح حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب حتى إذا دنوت منهم عثرت بي فرسي فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقمت بها أأضرهم أو لا أضرهم فخرج الذي أكره لا أضرهم فركبت فرسي وعصيت الأزلام فرفعتها تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر التلفت ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثمان ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره أن لا أضرهم فناديتهما بالأمان فوقفا لي وركبت فرسي حتى جئتهما ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهما أنه سيظهر رسول الله فقلت له إن من قومك قد جعلوا فيكما الدية فأخبرتهما أخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يرزآني شيئا ولم يسلني إلا أن قال أخف عنا فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم ثم مضى رسول الله..
رواه البخاري في الصحيح عن يحيى بن بكير عن الليث.
- وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد قال أخبرنا أبو بكر محمد ابن عبد الله بن عتاب العبدي قال حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة قال أخبرنا إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة قال حدثنا ابن شهاب قال حدثني عبد الرحمن ابن مالك بن جعشم المدلجي أن أباه مالكا أخبره أن أخاه سراقة بن جعشم أخبره أنه لما خرج رسول الله من مكة مهاجرًا إلى المدينة جعلت قريش لمن رده عليهم مائة ناقة قال فبينما أنا جالس في نادي قومي إذ جاء رجل منا فقال والله لقد رأيت ركبا ثلاثة مروا علي آنفا إني لأظنه محمدا قال فأومأت إليه بعيني أن اسكت وقلت إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم قال لعله ثم سكت قال فمكثت قليلا ثم قمت فدخلت بيتي وأمرت بفرسي فقيد إلى بطن الوادي وأخرجت سلاحي من وراء حجراتي ثم أخذت قداحي استقسم بها ثم لبست لأمتي ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا تضره وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة قال فركبت على أثره فبينا فرسي يسير بي عثر فسقطت عنه قال فأخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا تضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت فلما بدا لي القوم فنظرت إليهم عثر بي فرسي فذهبت يداه في الأرض فسقطت عنه فاستخرج يديه واتبعهما دخان مثل الغبار فعلمت أنه قد منع مني وأنه ظاهر فناديتهم فقلت انظروني فو الله لا آذيتكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه فقال رسول الله قل له ماذا تبتغي قال قلت اكتب لي كتابًا يكون بيني وبينك آية قال اكتب له يا أبا بكر قال فكتب لي ثم ألقاه إلي فرجعت فسكت فلم أذكر شيئًا مما كان حتى إذا فتح الله عز وجل مكة وفرغ رسول الله من أهل خيبر خرجت إلى رسول الله لألقاه ومعي الكتاب الذي كتب لي فبينما أنا عامد له دخلت بين ظهري كتيبة من كتائب الأنصار قال فطفقوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك إليك حتى دنوت من رسول الله وهو على ناقته أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة فرفعت يدي بالكتاب فقلت يا رسول الله هذا كتابك فقال رسول الله يوم وفاء وبر أدنه قال فأسلمت ثم ذكرت شيئا اسل عنه رسول الله
قال ابن شهاب إنما سأله عن الضالة وشيء فعله في وجهه الذي كان فيه فما ذكرت شيئا إلا أني قد قلت يا رسول الله الضالة تغشى حياضي قد ملأتها لإبلي هل لي من أجر إن سقيتها فقال رسول الله نعم في كل كبد حرى قال وانصرفت فسقت إلى رسول الله صدقتي.(12/21)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال حدثنا يونس بن بكير قال قال ابن إسحاق قال أبو جهل في أمر سراقة أبياتا فقال سراقة يجيب أبا جهل:
أبا حكم واللات لو كنت شاهدا لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم تشكك بأن محمدا نبي وبرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف الناس عنه فإنني أرى أمره يوما ستبدو معالمه
بأمر يود النصر فيه بإلبها لو أن جميع الناس طرا تسالمه
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان قال أخبرنا أحمد بن عبيد قال حدثنا ابن أبي قماش قال حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي ببغداد عن أبي معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة عن أبي هريرة قال قال رسول الله لأبي بكر في مدخله المدينة أله الناس عني فإنه لا ينبغي لنبي أن يكذب قال فكان أبو بكر إذا سئل ما أنت قال باع فإذا قيل من الذي معك قال هاد يهديني...اهـ.
قال ابن كثير في البداية والنهاية
وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم عن أبيه عن عمه سراقة فذكر هذه القصة إلا أنه ذكر أنه استقسم بالازلام أول ما خرج من منزله فخرج السهم الذي يكره لا يضره وذكر أنه عثر به فرسه أربع مرات وكل ذلك يستقسم بالازلام ويخرج الذي يكره لا يضره حتى ناداهم بالامان وسأل أن يكتب له كتابا يكون أمارة ما بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فكتب لي كتابًا في عظم أو رقعة أو خرقة وذكر أنه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة مرجعه من الطائف فقال له يوم وفاء وبر أدنه فدنوت منه وأسلمت قال ابن هشام هو عبد الرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم وهذا الذي قاله جيد..
قال تعالى: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40).
قال ابن كثير رحمه الله في التفسير
: يقول تعالى: {إلا تنصروه} أي تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين} أي عام الهجرة لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه فخرج منهم هارباً بصحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أذى فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» كما قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا همام أنبأنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال: فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» أخرجاه في الصحيحين, ولهذا قال تعالى: {فأنزل الله سكينته عليه} أي تأييده ونصره عليه أي على الرسول صلى الله عليه وسلم في أشهر القولين وقيل على أبي بكر, وروي عن ابن عباس وغيره قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينة وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ولهذا قال: {وأيده بجنود لم تروها} أي الملائكة {وجعل كلمة الذين كفرواالسفلى وكلمة الله هي العليا} قال ابن عباس يعني بكلمة الذين كفروا الشرك، وكلمة الله هي لا إله إلا الله. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وقوله: {والله عزيز} أي في انتقامه وانتصاره, منيع الجناب لا يضام من لاذ ببابه, واحتمى بالتمسك بخطابه {حكيم} في أقواله وأفعاله... اهـ.
*** ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوفا بعناية ربه الذي أرسله بالهدى ودين الحق طيبةَ الطيبة حيث وجد في انتظاره الأنصار الذين كانوا بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم وأزرهم، ومعهم في ضيافتهم من سبقه صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الأولين... فنزل بين ظهرانيهم في حمايتهم، يحبونه كحبهم أنفسهم وذويهم، بل أكثر، ويجودون بالأرواح والأموال في سبيل نصرته وإظهار ما جاء به من عند ربه... نِعم القوم، ونِعم المقام... ونِعم المقيم...(12/22)
لكن قتلة الرسل والأنبياء، اليهود الحاقدين؛ وعبدة الأوثان والأهواء،المشركين الكارهين، لم يفتر غيظهم ولم تخبُ نار حقدهم وعداوتهم للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم وللدين الخالص الذي جاء به والرسالة الخاتمة التي أمره الله بتبليغها... فتوالت مناوراتهم، وترادفت محاولاتهم للنيل منه ومن أصحابه... وكانت.
المناورة الثالثة..
قال ابن كثير في البداية والنهاية:
في أول سنة ثلاث من الهجرة كانت غزوة نجد ويقال لها غزوة ذي أمر قال ابن اسحاق فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة السويق أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريبا منها غزا نجدا يريد غطفان وهي غزوة ذي أمر قال ابن هشام واستعمل على المدينة عثمان بن عفان قال ابن إسحاق فأقام بنجد صفرا كله أو قريبا من ذلك ثم رجع ولم يلق كيدا وقال الواقدي بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان من بني ثعلبة بن محارب تجمعوا بذي أمر يريدون حربه فخرج إليهم من المدينة يوم الخميس لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث واستعمل على المدينة عثمان بن عفان فغاب أحد عشر يومًا وكان معه أربعمائة وخمسون رجلًا وهربت منه الأعراب في رءوس الجبال حتى بلغ ماء يقال له ذو أمر فعسكر به وأصابهم مطر كثير فابتلت ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل تحت شجرة هناك ونشر ثيابه لتجف وذلك بمرأى من المشركين واشتغل المشركون في شئونهم فبعث المشركون رجلا شجاعا منهم يقال له غورث بن الحارث أو دعثور بن الحارث فقالوا: قد أمكنك الله من قتل محمد... فذهب ذلك الرجل ومعه سيف صقيل حتى قام على رسول الله بالسيف مشهورًا، فقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ قال: الله.. ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله فقال: من يمنعك مني؟ قال لا أحد.. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعا أبدا... فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه.. فلما رجع إلى أصحابه فقالوا:ويلك مالك؟ فقال: نظرت إلى رجل طويل فدفع في صدري فوقعت لظهري فعرفت أنه ملك وشهدت أن محمدًا رسول الله والله لا أكثر عليه جمعا, وجعل يدعو قومه إلى الإسلام؛ قال ونزل في ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (المائدة: 11) قال البيهقي وسيأتي في غزوة ذات الرقاع قصة تشبه هذه فلعلهما قصتان قلت إن كانت هذه محفوظة فهي غيرها قطعًا لأن ذلك الرجل اسمه غورث بن الحارث أيضًا لم يسلم بل استمر على دينه ولم يكن عاهد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتله والله أعلم.
مناورات الأشقياء لقتل خاتم الأنبياء(3)
أبو يوسف محمد زايد
قصة غورث بن الحارث في البداية والنهاية(12/23)
قال ابن إسحاق في هذه الغزوة حدثني عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من بني محارب يقال له غورث قال لقومه من غطفان ومحارب ألا أقتل لكم محمدًا قالوا بلى وكيف تقتله قال: افتك به قال فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فقال: يا محمد أنظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم.. فأخذه ثم جعل يهزه ويهم فكبته الله، ثم قال: يا محمد أما تخافني؟ قال: لا ما أخاف منك... قال: أما تخافني وفي يدي السيف؟ قال: لا... يمنعني الله منك.. ثم عمد إلى سيف النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه فأنزل الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) قال ابن إسحاق وحدثني يزيد بن رومان أنها إنما نزلت في عمرو بن جحاش أخي بني النضير وما هم به هكذا ذكر ابن إسحاق قصة غورث هذا عن عمرو بن عبيد القدري رأس الفرقة الضالة وهو وإن كان لا يتهم بتعمد الكذب في الحديث إلا أنه ممن لا ينبغي أن يروى عنه لبدعته ودعائه إليها وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه ولله الحمد.. فقد أورد الحافظ البيهقي ها هنا طرقا لهذا الحديث من عدة أماكن وهي ثابتة في الصحيحين من حديث الزهري عن سنان بن أبي سنان وأبي سلمة عن جابر أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته القائلة في واد كثير العضاه فتفرق الناس يستظلون بالشجر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ظل شجرة فعلق بها سيفه قال جابر فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فأجبناه وإذا عنده أعرابي جالس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا أخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال من يمنعك مني؟ قلت: الله.... فقال:من يمنعك مني؟ قلت: الله.... فشام السيف وجلس ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فعل ذلك. وقد رواه مسلم أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن أبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة فأخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترطه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:تخافني؟ قال: لا.. قال: فمن يمنعك مني ؟ قال: الله يمنعني منك... قال فهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغمد السيف وعلقه...
عن أبي عوانة عن أبي بشر أن اسم الرجل غورث بن الحارث وأسند البيهقي من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن سليمان بن قيس عن جابر قال قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب وغطفان بنخل فرأوا من المسلمين غره فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وقال: من يمنعك مني؟ قال:الله..فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف وقال:من يمعنك مني؟ قال:كن خير آخذ.. قال: تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال:لا..ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك.. فخلى سبيله فأتى أصحابه وقال جئتكم من عند خير الناس...
*** وتمر الأيام، ويزداد الإسلام مع مرورها عزة ورفعة ومناعة، ويزداد جنده بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرة وقوة وبسالة، وتضحية في سبيل الله... فخاضوا المعارك، وشهدوا الغزوات، وبذلوا النفس والنفيس ابتغاء مرضات الله الذي ارتضى لهم الإسلام دينا... (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران: 126).. ثم كانت وقعة أحد... وضمنها:
المناورة الرابعة...
قال ابن كثير في البداية والنهاية
فصل فيما لقي النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ، أي يوم أحُد، من المشركين قبحهم الله(12/24)
- قال البخاري ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الجراح يوم أحد حدثنا إسحاق بن نصر حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه يشير إلى رباعيته اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله... ورواه مسلم من طريق عبد الرزاق حدثنا مخلد بن مالك حدثنا يحيى بن سعيد الأموي حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال اشتد غضب الله على من قتله النبي في سبيل الله اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد وهو يسلت الدم عن وجهه وهو يقول: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته.. وهو يدعو إلى الله فأنزل الله: (ليس لك من الامر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فانهم ظالمون) ورواه مسلم عن القعنبي عن حماد بن سلمة به ورواه الإمام احمد عن هشيم ويزيد بن هارون عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم.. فأنزل الله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء)... وقال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب عن أبي حازم انه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووي قال كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله وعلي يسكب الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم وكسرت رباعيته يومئذ وجرح وجهه وكسرت البيضة على رأسه... وقال أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا ابن المبارك عن إسحاق عن يحيى بن طلحة بن عبيد الله أخبرني عيسى بن طلحة عن أم المؤمنين عائشة قالت كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال ذاك يوم كله لطلحة ثم أنشأ يحدث قال كنت أول من فاء يوم أحد فرأيت رجلاً يقاتل في سبيل الله دونه وأراه قال حمية قال فقلت كن طلحة حيث فاتني ما فاتني فقلت يكون رجلا من قومي أحب الي وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وهو يخطف المشي خطفا فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكما صاحبكما يريد طلحة وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله قال وذهبت لأنزع ذاك من وجهه فقال اقسم عليك بحقي لما تركتني فتركته فكره تناولها بيده فيؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزم عليها بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين ووقعت ثنيته مع الحلقة وذهبت لأصنع ما صنع فقال أقسمت عليك بحقي لما تركتني قال ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة فكان أبو عبيدة رضي الله عنه من أحسن الناس هتما فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار فإذا به بضع وسبعون من بين طعنة ورمية وضربة وإذا قد قطعت أصبعه فأصلحنا من شأنه وذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير قال سمعت رجلا من المهاجرين يقول شهدت أحدا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يومئذ يقول دلوني على محمد لا نجوت إن نجا ؛ ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد فجاوره فعاتبه في ذلك صفوان بن أمية فقال: والله ما رايته أحلف بالله انه منا ممنوع خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إليه...
قال الواقدي ثبت عندي أن الذي رمى في وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بن قمئة؛ والذي رمى في شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص... وان الرباعية التي كسرت له عليه السلام هي اليمنى السفلى.
- قال ابن إسحاق وحدثني صالح بن كيسان عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص قال ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص وإن كان ما علمت لسيء الخلق مبغضا في قومه ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله...
- وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عثمان الحرري عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي وقاص حين كسر رباعيته ودمى وجهه فقال: اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا... فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار...(12/25)
ولما نال عبد الله بن قمئة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نال رجع وهو يقول قتلت محمدا وصرخ الشيطان أزب العقبة يومئذ بأبعد صوت ألا إن محمدًا قد قتل فحصل بهتة عظيمة في المسلمين واعتقد كثير من الناس ذلك وصمموا على القتال عن جوزة الإسلام حتى يموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أنس بن النضر وغيره ممن سيأتي ذكره وقد أنزل الله تعالى التسلية في ذلك على تقدير وقوعه فقال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ *وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ * بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ *سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ) ( آل عمران 144-151)... وقد خطب الصديق رضي الله عنه في أول مقام قامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يموت ثم تلا هذه الآية (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144)؛ قال فكأن الناس لم يسمعوها قبل ذلك، فما من الناس أحد إلا يتلوها...
-وروى البيهقي في دلائل النبوة من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه قال مر رجل من المهاجرين يوم أحد على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل فقال الأنصاري إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل فقد بلغ الرسالة فقاتلوا عن دينكم فنزل قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ)(آل عمران: 144 ) ولعل هذا الأنصاري هو أنس بن النضر رضي الله عنه وهو عم أنس بن مالك...
قال الإمام أحمد حدثنا يزيد حدثنا حميد عن أنس أن عمه غاب عن قتال بدر فقال غبت عن أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين، لئن الله أشهدني قتالا للمشركين ليرين ما أصنع، فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إني أعتذر إليك عما صنع هؤلاء يعني أصحابه ، وابرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعني المشركين... ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال سعد أنا معك قال سعد فلم أستطع أصنع ما صنع فوجد فيه بضع وثمانون من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم قال فكنا نقول فيه وفي أصحابه نزلت (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23) ورواه الترمذي عن عبد بن حميد والنسائي عن إسحاق بن راهويه كلاهما عن يزيد بن هارون به وقال الترمذي حسن قلت بل على شرط الصحيحين من هذا الوجه.(12/26)
-وقال أحمد حدثنا بهز وحدثنا هاشم قالا حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال، قال أنس عمي قال هاشم أنس بن النضر سميت به ولم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر قال فشق عليه وقال أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه ولئن أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع... قال فهاب أن يقول غيرها فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد قال فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أنس يا أبا عمرو أين واها لريح الجنة أجده دون أحد قال فقاتلهم حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية قال فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر فما عرفت أخي إلا ببنانه ونزلت هذه الآية (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23) قال فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه ورواه مسلم عن محمد بن حاتم عن بهز بن أسد ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن المبارك وزاد النسائي وأبو داود وحماد بن سلمة أربعتهم عن سليمان بن المغيرة به وقال الترمذي حسن صحيح.
-وقال أبو الأسود عن عروة بن الزبير قال كان أبي بن خلف أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفته قال: بل أنا أقتله إن شاء الله...فلما كان يوم أحد أقبل أبي في الحديد مقنعا وهو يقول لا نجوت إن نجا محمد.. فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله فاستقبله مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فقتل مصعب بن عمير وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه فيها بالحربة فوقع إلى الأرض عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور فقالوا له: ما أجزعك، إنما هو خدش... فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:أنا أقتل أبيا..ثم قال والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون فمات إلى النار فسحقا لأصحاب السعير.
- وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري عن سعيد بن المسيب نحوه وقال ابن إسحاق لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: لا نجوت إن نجوت.. فقال القوم يا رسول الله يعطف عليه رجل منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه... فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة فقال بعض القوم كما ذكر لي فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم انتفض انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنه تدأدأ منها عن فرسه مرارا... ذكر الواقدي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الله ابن كعب بن مالك عن أبيه نحو ذلك قال الواقدي وكان ابن عمر يقول مات أبيّ بن خلف ببطن رابغ فأني لاسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا أنا بنار تأججت فهبتها وإذا برجل يخرج منها بسلسلة يجذبها يهيجه العطش فإذا رجل يقول لا تسقه فإنه قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أبي بن خلف...
- وقد ثبت في الصحيحين كما تقدم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله".
- ورواه البخاري من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس اشتد غضب الله على من قتله رسول الله بيده في سبيل الله وقال البخاري وقال أبو الوليد عن شعبة عن ابن المنكدر سمعت جابرا قال لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهونني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبكه أو ما تبكيه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع... هكذا ذكر هذا الحديث ههنا معلقا وقد أسنده في الجنائز عن بندار عن غندر بن شعبة.. اهـ
*** من غزوة بدر العظمى وما أيد الله القوي المتين به رسوله والمؤمنين من نصر مبين إلى معركة أحد وما كان فيها من شبه هزيمة ، لم تزدد الدعوة إلى الله ودينه إلا ظهورا على المناوئين من أهل الغدر والمكر ومساعديهم من المنافقين والمارقين. ويفعل الله ما يشاء...حتى دخلت السنة الرابعة من الهجرة...وكانت.
المناورة الرابعة...
قال ابن كثير في البداية والنهاية(12/27)
قال الواقدي حدثني إبراهيم بن جعفر عن أبيه وعبد الله بن أبي عبيدة عن جعفر بن الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية الضمري وعبد الله بن جعفر عن عبد الواحد بن أبي عوف وزاد بعضهم على بعض قالوا كان أبو سفيان بن حرب قد قال لنفر من قريش بمكة ما أحد يغتال محمدا فانه يمشي في الأسواق فندرك ثأرنا فأتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله وقال له إن أنت وفيتني وخرجت إليه حتى أغتاله فإني هاد بالطريق خريت معي خنجر مثل خافية النسر قال أنت صاحبنا وأعطاه بعيرا ونمقه وقال اطو أمرك فإني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد قال: قال العربي لا يعلمه أحد فخرج ليلاً على راحلته فسار خمسا وصبح ظهر الحي يوم سادسه ثم أقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المصلى فقال له قائل قد توجه إلى بني عبد الأشهل فخرج الأعرابي يقود راحلته حتى انتهى إلى بني عبد الأشهل فعقل راحلته ثم أقبل يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده في جماعة من أصحابه يحدث في مسجده، فلما دخل ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إن هذا الرجل يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريده... فوقف وقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب... فذهب ينحني على رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه يساره فجبذه أسيد بن حضير وقال تنح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجذب بداخل ازاره فإذا الخنجر؛ فقال: يا رسول الله هذا غادر، فأسقط في يد الاعرابي وقال: دمي دمي يا محمد..وأخذه أسيد بن حضير يلببه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اصدقني من أنت ؟ وما اقدمك ؟ فان فعلت نفعك الصدق، وان كذبتني فقد اطلعت على ما هممت... به قال العربي فأنا آمن؟ قال: وأنت آمن..فأخبره بخبر أبي سفيان وما جعل له فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير.. ثم صارا من الغد.. فقال: قد أمنتك فاذهب حيث شئت أو خير لك من ذلك..قال: وما هو؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد ما كنت أفرق من الرجال فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت ثم اطلعت على ما هممت به فما سبقت به الركبان ولم يطلع عليه أحد فعرفت أنك ممنوع وأنك على حق وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان... فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم وأقام أياما ثم استأذن النبي صلى الله عليه وسلم فخرج من عنده ولم يسمع له بذكر.. اهـ.
*** خاب سعي كل من أراد بالنبي سوءا ، لكن الغدر الكمين في نفوس الأغبياء والحقد الدفين بين أضلع الأعداء وثنيهم ويهوديهم ظل يؤجج نار المكر في صدورهم المختوم عليها، فقتلوا الأبرياء ، وحاولوا قتل خاتم الأنبياء، إمام الأصفياء صلى الله عليه وسلم... وكانت.
المناورة الخامسة...
قال ابن كثير في البداية والنهاية
- في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه كان يسميها سورة بني النضير وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال كانت بنو النضير بعد بدر بستة أشهر قبل أحد وقد أسنده ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري به وهكذا روى حنبل بن إسحاق عن هلال بن العلاء عن عبد الله بن جعفر الرقي عن مطرف بن مازن اليماني عن معمر عن الزهري فذكر غزوة بدر في سابع عشر رمضان سنة ثنتين قال ثم غزا بني النضير ثم غزا أحدًا في شوال سنة ثلاث ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع وقال البيهقي وقد كان الزهري يقول هي قبل أحد قال وذهب آخرون إلى أنها بعدها وبعد بئر معونة أيضا قلت هكذا ذكر ابن إسحاق كما تقدم فانه بعد ذكره بئر معونة ورجوع عمرو بن أمية وقتله ذينك الرجلين من بني عامر ولم يشعر بعهدهما الذي معهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:لقد قتلت رجلين لأدينهما.(12/28)
- قال ابن إسحاق ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية للعهد الذي كان صلى الله عليه وسلم أعطاهما، وكان بين بني النضير وبين بني عامر عهد وحلف فلما أتاهم صلى الله عليه وسلم قالوا نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة ويريحنا منه فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب فقال أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي فأتى رسول الله الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعا إلى المدينة فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال رأيته داخلا المدينة فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به...
- قال الواقدي فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده فبعث إليهم أهل النفاق يثبتونهم ويحرضونهم على المقام ويعدونهم النصر فقويت عند ذلك نفوسهم وحمى حيي بن أحطب وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يخرجون ونابدوه بنقض العهد، فعند ذلك أمر الناس بالخروج إليهم..
قال الواقدي فحاصروهم خمس عشرة ليلة وقال ابن إسحاق وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم قال ابن هشام واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وذلك في شهر ربيع الأول قال ابن إسحاق فسار حتى نزل بهم فحاصرهم ست ليال... وتحصنوا في الحصون فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها فنادوه أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه فما بال قطع النخيل وتحريقها؟ قال وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي ووديعة ومالك وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم أن قوتلتم قاتلنا معكم وان أخرجتم خرجنا معكم.. فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا وقذف الله في قلوبهم الرعب فسألوا رسول الله أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة..
- قال ابن إسحاق فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام فكان من أشراف من ذهب منهم إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب فلما نزلوها دان لهم أهلها فحدثني عبد الله بن أبي بكر انه حدث انهم استقبلوا بالنساء والأبناء والأموال معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم بزهاء وفخر مارؤي مثله لحي من الناس في زمانهم... قال وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني النخيل والمزارع فكانت له خاصة يضعها حيث شاء فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فقرا فأعطاهما وأضاف بعضهم إليهما الحارث بن الصمة حكاه السهيلي قال ابن إسحاق ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان وهما يامين بن عمير بن كعب ابن عم عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب فأحرزا أموالهما قال ابن إسحاق وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: "ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني" فجعل يامين لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله لعنه الله...(12/29)
قال ابن إسحاق فأنزل الله فيهم سورة الحشر بكمالها يذكر فيها ما أصابهم به من نقمته وما سلط عليهم به رسوله وما عمل به فيهم ثم شرع ابن إسحاق يفسرها وقد تكلمنا عليها بطولها مبسوطة في كتابنا التفسير ولله الحمد قال الله تعالى:(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ*وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ * ( الحشر 1-5) اهـ.
*** وكان الجلاء حيث طهر الله تعالى الأرض التي اختارها سبحانه لمقام رسوله وإعلاء راية دينه من رجس اليهود الذين لم يعرف لهم التاريخ إلا الغدر والخيانة ونقض المواثيق وخلف العهود والتمرد على الأنبياء وقتلهم وتبديل كلام الله وتحريف كتبه وتطويعها لأهوائهم البهيمية وأغراضهم الدنية...(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد: 23 ) آذوا رسول الله ، فليحققنَّ الله فيهم قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) (الأحزاب: 57)... أُبعدوا.. شُردوا... طُردوا.. لكن دمهم النجس لم يزل يغلي في عروقهم العفنة ، فتارة يحرضون غيرهم على اغتيال النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وأخرى يدبرون وينفذون ما دبروا بأنفسهم... وكذلك الجانب الآخر ، جانب عبدة الأصنام اللات والعزى ومناة وغيرها من الحجر الذي لا ينفع ولا يضر، لم تهدأ لهم نفس ولم يسكن لهم بال ، فظلوا يحاولون النيل من المبعوث رحمة للعالمين...وكانت
المناورة السادسة...
قال ابن كثير في البداية والنهاية
قصة غورث بن الحارث
- قال ابن إسحاق في هذه الغزوة حدثني عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر بن عبد الله أن رجلا من بني محارب يقال له غورث قال لقومه من غطفان ومحارب: ألا أقتل لكم محمدًا ؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله؟ قال: افتك به... قال فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فقال: يا محمد ، أنظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم.. فأخذه ثم جعل يهزه ويهم فكبته الله ثم قال: يا محمد، أما تخافني؟ قال: لا ما أخاف منك. قال أما تخافني وفي يدي السيف ؟ قال: لا يمنعني الله منك.ثم عمد إلى سيف النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه... فأنزل الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم اذ هم قوم أن يبسطوا اليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون).(12/30)
- قال ابن إسحاق وحدثني يزيد بن رومان أنها إنما نزلت في عمرو بن جحاش أخي بني النضير وما همَّ به ، هكذا ذكر ابن إسحاق قصة غورث هذا عن عمرو بن عبيد القدري رأس الفرقة الضالة وهو وان كان لا يتهم بتعمد الكذب في الحديث إلا أنه ممن لا ينبغي أن يروى عنه لبدعته ودعائه إليها... وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه ولله الحمد. فقد أورد الحافظ البيهقي هاهنا طرقا لهذا الحديث من عدة أماكن وهي ثابتة في الصحيحين من حديث الزهري عن سنان بن أبي سنان وأبي سلمة عن جابر أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته القائلة في واد كثير العضاه فتفرق الناس يستظلون بالشجر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم تحت ظل شجرة فعلق بها سيفه.. قال جابر فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فأجبناه وإذا عنده أعرابي جالس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال: من يمنعك مني ؟ قلت: الله. فقال: من يمنعك مني؟ قلت الله... فشام السيف وجلس.. ولم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فعل ذلك وقد رواه مسلم أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن أبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اذا كنا بذات الرقاع وكنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بشجرة فأخذ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترطه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم تخافني؟ قال: لا... قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك.. قال فهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغمد السيف وعلقه قال ونودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين قال فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان وقد علقه البخاري بصيغة الجزم عن أبان به قال البخاري وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر أن اسم الرجل غورث بن الحارث وأسند البيهقي من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن سليمان بن قيس عن جابر قال قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب وغطفان بنخل فرأوا من المسلمين غره فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وقال: من يمنعك مني؟ قال: الله... فسقط السيف من يده، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف وقال: من يمعنك مني ؟ قال: كن خير آخذ...قال: تشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال: لا ولكن أعاهدك على أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى سبيله فأتى أصحابه وقال جئتكم من عند خير الناس... والله أعلم.
*** فانظر يا محب الحبيب كيف يتجلى العفو عند المقدرة ، وانظر كيف تسمو طيبةً عطرةً خلالُ الرحمة والكرم حتى على من سولت له نفسه القتل فاعتدى وظلم... فداك روحي يا رسول الله... أرسلت بالآيات الخالدات فأبلغتها ، وبعثت بمكارم الأخلاق فأتممتها،...
فأي آدمي عنده مثقال حبة من خرذل من عقل يتصدى لقتل سمح كريم، عفو جواد، سماه الله رؤوفا رحيما وأرسله ليخلص البشرية من المعبودات الزائفة ، ويخرجها من ظلمات الغي إلى نور الرشد ؟ سفهاء ـ ورب الأرض والسماء ـ من أتعبوا أنفسهم للنيل منه ، وهو بأعين ربه الذي أنزل عليه: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: 36 )...
بلى.. كافيه وكافي من معه...لكن الذين ران على قلوبهم الغل بشتى أصنافه وغطاها ليل العماهة بظلامه ظلوا على حالهم يتخبطون بين الكيد والمكر ، والخيانة والغدر...وكانت
المناورة السابعة...
قال ابن كثير في البداية والنهاية
قصة الشاة المسمومة والبرهان الذي ظهر
-قال البخاري رواه عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا الليث حدثني سعيد عن أبي هريرة قال لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم... هكذا أورده ها هنا مختصرا..(12/31)
-وقد قال الإمام احمد حدثنا حجاج ثنا ليث عن سعيد بن أبى سعيد عن أبى هريرة قال لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي من كان ها هنا من يهود.. فجمعوا له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه ؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم.. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:من أبوكم ؟ قالوا: أبونا فلان.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:كذبتم، بل أبوكم فلان... قالوا: صدقت وبررت.. فقال: هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم عنه؟ قالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا...فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:من أهل النار ؟ فقالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها.. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:والله لا نخلفكم فيها
أبدا.. ثم قال لهم: هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم.. فقال: هل جعلتم في هذه الشاة سما؟ فقالوا: نعم....قال: ما حملكم على ذلك ؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك وإن كنت نبيا لم يضرك.. وقد رواه البخاري في الجزية عن عبد الله بن يوسف وفي المغازي أيضا عن قتيبة كلاهما عن الليث به..
-وقال البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو العباس الأصم حدثنا سعيد بن سليمان ثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن امرأة من يهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فقال لأصحابه: أمسكوا فإنها مسمومة.. وقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله عليه وإن كنت كاذبا أريج الناس منك.. قال فما عرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود عن هارون بن عبد الله عن سعيد بن سليمان به..
- ثم روى البيهقي عن طريق عبد الملك بن أبي نضرة عن أبيه عن جابر بن عبد الله نحو ذلك وقال الإمام احمد حدثنا شريح ثنا عباد عن هلال هو ابن خباب عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فأرسل إليها فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: أحببت أو أردت إن كنت نبيا فان الله سيطلعك عليه وإن لم تكن نبيا أريح الناس منك... قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد من ذلك شيئا احتجم قال فسافر مرة فلما أحرم وجد من ذلك شيئا فاحتجم تفرد به أحمد وإسناده حسن
-وفي الصحيحين من حديث شعبة عن هشام ابن زيد عن أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك قالت: أردت لأقتلك.. فقال صلى الله عليه وسلم:ما كان الله ليسلطك علي أو قال على ذلك...قالوا ألا تقتلها ؟ قال: لا.. قال أنس فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- وقال أبو داود حدثنا سليمان بن داود المهري ثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال كان جابر بن عبد الله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:ارفعوا أيديكم...وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها فقال لها: أسممت هذه الشاة ؟ قالت اليهودية: من أخبرك ؟ قال: أخبرتني هذه التي في يدي ، وهي الذراع.. قالت: نعم.. قال: فما أردت بذلك؟ قالت: قلت إن كنت نبيا فلن يضرك وإن لم تكن نبيا استرحنا منك... فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها ؛ وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة... واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة حجمه أبو هند بالقرن والشفرة ، وهو مولى لبني بياضة من الأنصار..
- ثم قال أبو داود حدثنا وهب بن بقية ثنا خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية ، نحو حديث جابر ، قال: فمات بشر ابن البراء بن معرور فأرسل إلى اليهودية فقال: ما حملك على الذي صنعت؟ فذكر نحو حديث جابر؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت ولم يذكر أمر الحجامة.(12/32)
-قال البيهقي ورويناه من حديث حماد ابن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال ويحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء ثم لما مات بشر بن البراء أمر بقتلها وروى البيهقي من حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن امرأة يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية بخيبر، فقال: ما هذه؟ قالت هدية وحذرت أن تقول صدقة فلا يأكل.. قال فأكل وأصحابه ، ثم قال: امسكوا... ثم قال للمرأة: هل سممتها؟ قالت: من أخبرك هذا؟ قال: هذا العظم ،لساقها وهو في يده... قالت: نعم. قال: لم ؟ قالت: أردت إن كنت كاذبا أن نستريح منك وإن كنت نبيا لم يضرك...قال فاحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكاهل وأمر أصحابه فاحتجموا، ومات بعضهم..
- قال الزهري فأسلمت فتركها النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال البيهقي هذا مرسل ولعله قد يكون عبد الرحمن حمله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة وكذلك موسى بن عقبة عن الزهري قالوا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وقتل منهم من قتل أهدت زينب بنت الحارث اليهودية وهي ابنة أخي مرحب لصفية شاة مصلية وسمتها وأكثرت في الكتف والذراع لأنه بلغها أنه أحب أعضاء الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور وهو أحد بني سلمة فقدمت إليهم الشاة المصلية فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف وانتهش منها وتناول بشر عظما فانتهش منه فلما استرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لقمته استرط بشر بن البراء ما في فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم فان كتف هذه الشاة يخبرنى أنى نعيت فيها..فقال بشر بن البراء: والذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت فما منعني إن ألفظها إلا أني أعظمتك أن أبغضك طعامك فلما أسغت ما في فيك لم ارغب بنفسي عن نفسك ورجوت أن لا تكون استرطتها وفيها نعي فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان وماطله وجعه حتى كان لا يتحول حتى يحول... قال الزهري قال جابر: واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، حجمه مولى بني بياضة بالقرن والشفرة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي توفي فيه فقال: ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة يوم خيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري ؛ فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا...
وقال محمد بن إسحاق فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام ابن مشكم شاة مصلية وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها الذراع ، فأكثرت فيها من السم ثم سمت سائر الشاة ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها ومعه بشر بن البراء بن معرور قد اخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما بشر فاساغها وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها ثم قال: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم.. ثم دعا بها فاعترفت ؛ فقال: ما حملك على ذلك؟ قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت إن كان كذابا استرحت منه وإن كان نبيا فسيخبر... قال فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات بشر من أكلته التي أكل.
- قال ابن إسحاق وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في مرضه الذي توفي فيه ودخلت عليه أخت بشر بن البراء بن معرور يا أم بشر إن هذا الأوان وجدت انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر قال ابن هشام الأبهر العرق المعلق بالقلب قال فان كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدًا مع ما أكرمه الله به من النبوة وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا هلال بن بشر وسليمان بن يوسف الحراني قالا ثنا أبو غياث سهل بن حماد ثنا عبد الملك بن ابي نضرة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة سميطا فلما بسط القوم أيديهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسكوا فان عضو من أعضائها يخبرني أنها مسمومة... فأرسل الى صاحبتها: أسممت طعامك ؟ قالت: نعم..قال: ما حملك على ذلك؟ قالت: إن كنت كذابا أن أريح الناس منك وإن كنت صادقا علمت أن الله سيطلعك عليه.. فبسط يده وقال:كلوا بسم الله.. قال فأكلنا، وذكرنا اسم الله، فلم يضر أحد منا... ثم قال لا يروى عن عبد الملك بن أبى نضرة إلا من هذا الوجه..قلت وفيه نكارة وغرابة شديدة والله أعلم.(12/33)
- وذكر الواقدي أن عيينة بن حصن قبل أن يسلم رأى في منامه رؤيا ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر خيبر فطمع من رؤياه أن يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظفر به فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وجده قد افتتحها فقال: يا محمد اعطني ما غنمت من حلفائي، يعني أهل خيبر.. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:كذبت رؤياك ، وأخبره بما رأى.. فرجع عيينة فلقيه الحارث بن عوف فقال: ألم أقل إنك توضع في غير شيء والله ليظهرن محمد على ما بين المشرق والمغرب وإن يهود كانوا يخبروننا بهذا ؛ أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول إنا لنحسد محمدًا على النبوة حيث خرجت من بني هارون إنه لمرسل ويهود لا تطاوعني على هذا ولنا منه ذبحان واحد بيثرب وآخر بخيبر..قال الحارث:قلت لسلام يملك الأرض ؟ قال: نعم والتوراة التي أنزلت على موسى وما أحب أن تعلم يهود بقولي فيه... اهـ.
مناورات الأشقياء لقتل خاتم الأنبياء(4)
أبو يوسف محمد زايد
حديث مسلم في كتاب السلام باب السم
حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي. حدثنا خالد بن الحارث. حدثنا شعبة عن هشام بن زيد، عن أنس؛ أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة. فأكل منها. فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك. قال" ما كان الله ليسلطك على ذاك" قال أو قال "علي" قال قالوا: ألا نقتلها؟ قال "لا" قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال النووي
قوله: (أن يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذاك قالت أردت لأقتلك، قال: وما كان الله ليسلطك على ذاك قال أو قال علي، قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا، قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم). وفي الرواية الأخرى: (جعلت سماً في لحم). أما السم فبفتح السين وضمها وكسرها ثلاث لغات الفتح أفصح جمعه سمام وسموم. وأما اللهوات فبفتح اللام والهاء جمع لهات بفتح اللام وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك قاله الأصمعي. وقيل اللحمات اللواتي في سقف أقصى الفم. وقوله: (ما زلت أعرفها) أي العلامة كأنه بقي للسم علامة وأثر من سواد أو غيره. وقولهم: (ألا نقتلها) هي بالنون في أكثر النسخ وفي بعضها بتاء الخطاب. وقوله صلى الله عليه وسلم "ما كان الله ليسلطك على ذاك أو قال علي" فيه بيان عصمته صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم كما قال الله تعالى: {والله يعصمك من الناس} وهي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سلامته من السم المهلك لغيره وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة وكلام عضو منه له فقد جاء في غير مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذراع تخبرني أنها مسمومة"... وهذه المرأة اليهودية الفاعلة للسم اسمها زينب بنت الحارث أخت مرحب اليهودي روينا تسميتها هذه في مغازي موسى بن عقبة ودلائل النبوة للبيهقي قال القاضي عياض: واختلف الآثار والعلماء هل قتلها النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فوقع في صحيح مسلم أنهم قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا. ومثله عن أبي هريرة وجابر. وعن جابر من رواية أبي سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قتلها. وفي رواية ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم دفعها إلى أولياء بشر بن البراء بن معرور وكان أكل منها فمات بها فقتلوها. وقال ابن سحنون: أجمع أهل الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها. قال القاضي: وجه الجمع بين هذه الروايات والأقاويل أنه لم يقتلها أولاً حين اطلع على سمها وقيل له اقتلها فقال لا فلما مات بشر بن البراء من ذلك سلمها لأوليائه فقتلوها قصاصاً، فيصح قولهم لم يقتلها أي في الحال، ويصح قولهم قتلها أي بعد ذلك والله أعلم....
*** ماذا تركوا فلم يحاولوا؟...من عصابة القريشيين وما أبرموا إلى التي أهدت الشاة وقد سمتها حتى العظم، مرورا بالذي سل السيف الصارم تحت الشجرة، وذاك الذي أعد للطعن خنجرا دسه بين طيات ثوبه، والآخر الذي اتعب كاهله بحمله الصخرة الصماء،...، خابوا وخسروا... وباءت كل مناوراتهم بالفشل... لكنهم لم يعتبروا، لأن القلوب أغلقتها أقفالها، والعيون أعمتها غشاوتها... فكلما فشلوا عاودوا الكرة، وكلما عادوا أحبط الله أعمالهم وجعل البوار نصيبهم...ومع ما تكبدوا من فادح خسارات وتجرعوا من خانق المهانات، كانت
المناورة الثامنة...(12/34)
*** حاول المغضوب عليهم التأثير على عقل المعصوم حيث لجأ خبثاؤهم إلى السحر... فيا لغباوتهم... كيف ينالون من الذي أنزل الله عليه: (وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ)؟؟ (البقرة : 102)؛ أم كيف يكون لسحرهم تأثير على لب المصطفى وهو الذي يتلو فيما نزِّل عليه من ربه: (وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) (يونس : 77)؛ (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (طه: 69)... ألا يجدون في كتبهم قبل أن يحرفوا كلمها عن مواضعه أن سحرة فرعون فشلوا لما عارضوا موسى عليه السلام، وأنبأنا به العليم الخبير في قوله عز من قائل: (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) (الأعراف : 120)؛ (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) (طه : 70)؛ (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) (الشعراء : 46)...تالله إن السحرة الذين عاشوا زمن ابن عمران عليه السلام كانوا أفضل ممن عاصروا محمدًا صلى الله عليه وسلم، لأنهم لما عرفوا الحق انصاعوا له وسجدوا لله وأعلنوا إيمانهم به غير مبالين بتهديدات فرعون وعصابته المجرمين بتقطيع الأيدي والأرجل والتصليب على جذوع النخل... قال تعالى عنهم: (قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف : 12) و(الشعراء : 47)، وصرخوا في وجه الطاغية الذي استكبر في الأرض يذبح ويقتل ويسوم بني إسرائيل سوء الذاب، (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه : 72-73)...
فالذين عرفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ويجدونه مكتوبًا عندهم في كتبهم، ختم الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، وطمس على أعينهم فهم لا يبصرون، وجعل في آذانهم الوقر فهم لا يسمعون... أليسوا بأضل من الأنعام ؟؟؟
روى البخاري في كتاب بدء الخلق؛ وفي كتاب الأدب؛ وفي كتاب الجزية؛ وفي كتاب الدعوات وفي كتاب الطب باب: السحر.
وقول الله تعالى: {ولكنَّ الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منها ما يفرِّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرُّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لَمَنِ اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} /البقرة: 102/.وقوله تعالى: {ولا يفلح الساحر حيث أتى} /طه:69/.وقوله: {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} /الأنبياء:3/.وقوله: {يُخيَّل إليه من سحرهم أنها تسعى} /طه:66/.
وقوله: {ومن شرِّ النَّفَّاثات في العقد} /الفلق:4/: والنَّفَّاثات: السواحر. {تُسْحَرون} /المؤمنون: 89/: تُعَمَّوْن.
- حدثنا إبراهيم بن موسى: أخبرنا عيسى بن يونس، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زُرَيق، يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا، ثم قال: (يا عائشة، أشَعَرْتِ أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مُشط ومُشاطة، وجُفِّ طَلْع نخلة ذَكَر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذَرْوان). فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: (يا عائشة، كأن ماءها نُقاعة الحِنَّاء، أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين). قلت: يا رسول الله: أفلا استخرجته؟ قال: (قد عافاني الله، فكرهت أن أثَوِّرَ على الناس فيه شراً). فأمر بها فدُفنت.تابعه أبو أسامة وأبو ضمرة وابن أبي الزناد، عن هشام.وقال الليث وابن عُيَينة، عن هشام: (في مُشط ومُشاقة).يقال: المُشاطة: ما يخرج من الشعر إذا مشط، والمُشاقة: من مُشاقة الكَتَّان.
باب: هل يُستخرج السحر.
وقال قتادة: قلت لسعيد بن المسيَّب: رجل به طِبٌّ، أو: يُؤخذ عن امرأته، أيُحَلُّ عنه أو يُنَشِّرُ؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع الناس فلم يُنْهَ عنه.(12/35)
- حدثني عبد الله بن محمد قال: سمعت ابن عُيَينة يقول: أول من حدثنا به ابن جُرَيج يقول: حدثني آل عروة، عن عروة، فسألت هشاماً عنه، فحدثنا عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن، قال سفيان: وهذا أشد ما يكون من السحر، إذا كان كذا، فقال: (يا عائشة، أعَلِمْتِ أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليَّ، فقال الذي عند رأسي للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبَّه؟ قال: لبيد بن أعصم - رجل من بني زُرَيق حليف ليهود كان منافقاً - قال: وفيم؟ قال: في مُشط ومُشاقة، قال: وأين؟ قال: في جُفِّ طلعةٍ ذَكَرٍ، تحت رَعوفة في بئر ذروان). قالت: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم البئر حتى استخرجه، فقال: (هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحنَّاء، وكأن نخلها رؤوس الشياطين). قال: فاستخرج، قالت: فقلت: أفلا؟ - أي تنشَّرت - فقال: (أما والله فقد شفاني الله، وأكره أن أثير على أحد من الناس شراً).
باب: السحر.
- حدثنا عبيد بن إسماعيل: حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت:
سُحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي، دعا الله ودعاه، ثم قال: (أشَعَرْتِ يا عائشة أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه). قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: (جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليَّ، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي من بني زُرَيق، قال: في ماذا؟ قال: في مُشط ومُشاطة وجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان). قال: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر، فنظر إليها وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة فقال: (والله لكأن ماءها نقاعة الحنَّاء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين). قلت: يا رسول الله أفأخرجته؟ قال: (لا، أما أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخشيت أن أثوِّر على الناس منه شراً). أمر بها فدُفنت.
وفي كتاب الدعوات باب: تكرير الدعاء.
- حدثنا إبراهيم بن منذر: حدثنا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طُبَّ، حتى أنه ليخيل إليه أنه قد صنع الشيء وما صنعه، وإنه دعا ربه، ثم قال: (أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه). فقالت عائشة: فما ذاك يا رسول الله؟ قال: (جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: من طبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في ماذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة، قال: فأين هو؟ قال: في ذروان). وذروان بئر في بني زريق، قالت: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى عائشة، فقال: (والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين). قالت: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرها عن البئر، فقلت: يا رسول الله فهلا أخرجته؟ قال: (أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً).زاد عيسى بن يونس والليث بن سعد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا ودعا، وساق الحديث.
ورواه مسلم في كتاب السلام ؛ باب السحر
حدثنا أبو كريب. حدثنا ابن نمير عن هشام، عن أبيه، عن عائشة. قالت:
سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق. يقال له: لبيد بن الأعصم. قالت: حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله. حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم دعا. ثم دعا. ثم قال "يا عائشة! أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي. فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي، أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في آي شيء؟ قال: في مشط ومشاطه. قال وجب طلعة ذكر. قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان". قالت: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه. ثم قال "يا عائشة! والله! لكأن ماءها نقاعة الحناء. ولكأن نخلها رؤوس الشياطين".قالت فقلت: يا رسول الله! أفلا أحرقته؟ قال "لا. أما أنا فقد عافاني الله. وكرهت أن أثير على الناس شرا. فأمرت بها فدفنت".
حدثنا أبو كريب. حدثنا أو أسامة. حدثنا هشام عن أبيه، عن عائشة. قالت:سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وساق أبو كريب الحديث بقصته، نحو حديث ابن نمير. وقال فيه: فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البئر. فنظر إليها وعليها نخل. وقالت: قلت: يا رسول الله! فأخرجه. ولم يقل: أفلا أحرقته؟ ولم يذكر" فأمرت بها فدفنت".(12/36)
*** ولتنبح كلاب الغدر حتى الصعر...فقافلة الإيمان تمر، نور الحق يفتح طريقها، وترتيل القرآن يحدوها، وسيوف الرجال الأوفياء الذين (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) تحميها... من طال لسانه قصروه فأخرصوه، ومن مد يده ضربوا عنقه فأسكتوه...
لكن... كلما ازداد دين الله الذي ارتضاه لعباده المؤمنين عزا وسؤددا، سعِّرت نيرانُ بغض المبغضين تشوي أفئدتهم الفاسدة.. وتزج بهم إلى ما لا عاقبة له إلا الدرك الأسفل من لظى، تلكم النزاعة للشوى.. ورغم كونهم كلما أشعلوا نارا لم يحرقوا بها إلا أنفسهم، كانت.
المناورة التاسعة...
قال القاضي عياض في " الشفا بتعريف حقوق المصطفى"
ومن مشهور ذلك خبر عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس ـ حين وفدا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عامر قال له : أنا أشغل عنك وجه محمد فاضربه أنت. فلم يره فعل شيئًا، فلما كلمه في ذلك قال له: والله ما هممت أن أضربه إلا وجدتك بيني و بينه، أفأضربك؟...
وقال ابن كثير في "البداية والنهاية ":
وفد بني عامر وقصة عامر بن الطفيل واربد بن مقيس
قال ابن إسحاق وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر بن الطفيل وأربد بن مقيس ابن جزء بن جعفر بن خالد وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم وقدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد الغدر به وقد قال له قومه يا أبا عامر: إن الناس قد اسلموا فاسلم.. قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش؟ ثم قال لاربد: إن قدمنا على الرجل فأني سأشغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك فأعله بالسيف...فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالني ..قال: لا والله حتى تؤمن بالله وحده... قال: يا محمد خالني.. قال وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به فجعل أربد لا يحير شيئا فلما رأى عامر ما يصنع أربد قال : يا محمد خالني.. قال لا حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له, فلما أبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: أما والله لاملأنها عليك خيلاً ورجالًا... فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني عامر بن الطفيل فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر بن الطفيل لأربد: أين ما كنت أمرتك به ؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل أخوف على نفسي منك، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا... قال : لا أبالك، لا تعجل علي، والله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك.. أفأضربك بالسيف؟؟ وخرجوا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله عز وجل على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول فجعل يقول: يا بني عامر أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول؟- قال ابن هشام ويقال أغدة كغدة الابل وموت في بيت سلولية؟
-وروى الحافظ البيهقي من طريق الزبير بن بكار حدثتني فاطمة بنت عبد العزيز بن موءلة عن أبيها عن جدها موءلة بن جميل قال أتى عامر بن الطفيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا عامر أسلم ..فقال: أسلم على أن لي الوبر ولك المدر.. قال: لا ثم قال أسلم...فقال : أسلم على أن لي الوبر ولك المدر.. قال: لا... فولى وهو يقول: والله يا محمد لأملأنها عليك خيلا جردا ورجالا مردا ولاربطن بكل نخلة فرسًا.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني عامرا وأهد قومه...فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة من قومه يقال لها سلولية فنزل عن فرسه ونام في بيتها فأخذته غدة في حلقه فوثب على فرسه وأخذ رمحه وأقبل يجول وهو يقول غدة كغدة البكر وموت في بيت سلولية فلم تزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه ميتًا..
وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب في أسماء الصحابة موءلة هذا فقال هو موءلة بن كثيف الضبابي الكلابي العامري من بني عامر بن صعصعة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشرين سنة فاسلم وعاش في الإسلام مائة سنة وكان يدعى ذا اللسانين من فصاحته روى عنه ابنه عبد العزيز وهو الذي روى قصة عامر بن الطفيل غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية.(12/37)
قال الزبير بن بكار حدثتني ظميا بنت عبد العزيز بن موءلة بن كثيف بن جميل بن خالد بن عمرو بن معاوية وهو الضباب بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قالت حدثني أبي عن أبيه عن موءلة أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسلم وهو ابن عشرين سنة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح يمينه وساق أبله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقها بنت لبون ثم صحب أبا هريرة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاش في الإسلام مائة سنة وكان يسمى ذا اللسانين من فصاحته قلت والظاهر أن قصة عامر بن الطفيل متقدمة على الفتح وإن كان ابن إسحاق والبيهقي قد ذكرها بعد الفتح وذلك لما رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم عن الأصم أنبأنا محمد بن إسحاق أنبأنا معاوية بن عمرو ثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة عن أنس في قصة بئر معونة وقتل عامر بن الطفيل حرام بن ملحان خال أنس بن مالك وغدره بأصحاب بئر معونة حتى قتلوا عن آخرهم سوى عمرو بن أمية كما تقدم قال الأوزاعي قال يحيى فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا: اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت وابعث عليه ما يقتله.. فبعث الله عليه الطاعون وروى عن همام عن إسحاق ابن عبد الله عن أنس في قصة ابن ملحان قال وكان عامر بن الطفيل قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أخيرك بين ثلاث خصال يكون لك أهل السهل ويكون لي أهل الوبر وأكون خليفتك من بعدك أو أغزوك بغطفان بآلف أشقر أتلف شقراء قال فطعن في بيت امرأة فقال غدة كغدة البعير وموت في بيت امرأة من بني فلان ائتوني بفرسي فركب فمات على ظهر فرسه..
قال ابن إسحاق ثم خرج أصحابه حين رأوه حتى قدموا أرض بني عامر شاتين فلما قدموا أتاهم قومهم فقالوا وما وراءك يا أربد قال لا شيء والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت لو أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله الآن فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما قال ابن إسحاق وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لامه فقال لبيد يبكي أربد
ما أن تعرى المنون من أحد ***لا والد مشفق ولا ولد
أخشى على أربد الحتوف ولا ***أرهب نوء السماك والأسد
فعين هلا بكيت أربد إذ *** قمنا وقام النساء في كبد
إن يشغبوا لا يبال شغبهم****أو يقصدوا في الحكوم يقتصد
حلو أريب وفي حلاوته****مر لصيق الاحشاء والكبد
وعين هلا بكيت أربد إذ *** ألوت رياح الشتاء بالعضد
وأصبحت لاقحا مصرمة *** حتى تجلت غوابر المدد
أشجع من ليث غابة لحم *** ذو نهمة في العلا ومنتقد
لا تبلغ العين كل نهمتها *** ليلة تمسي الجياد كالفدد
الباعث النوح في مآتمه***مثل الظباء الأبكار بالجرد
فجعني البرق والصواعق بالفا ** رس يوم الكريهة النجد
والحارب الجابر الحريب إذا *** جاء نكيبا وإن يعد يعد
يعفو على الجهد والسؤال كما **** ينبت غيث الربيع ذو الرصد
كل بني حرة مصيرهم *** قل وإن كثروا من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن*** أمروا يوما فهم للهلاك والنفد
وقد روى ابن إسحاق عن لبيد أشعارا كثيرة في رثاء أخيه لأمه أربد بن قيس تركناها اختصارًا واكتفاء بما أوردناه والله الموفق للصواب.
قال ابن هشام وذكر زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال فانزل الله عز وجل في عامر وأربد قوله تعالى: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار له معقبات من بين يده ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ثم ذكر أربد وقتله، فقال الله تعالى: (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دونه من وال هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال).(12/38)
وقد وقع لنا إسناد ما علقه ابن هشام رحمه الله فروينا من طريق الحافظ أبي القاسم سليمان بن احمد الطبراني في معجمه الكبير حيث قال حدثنا مسعدة بن سعد العطار حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثني عبد العزيز بن عمران حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب وعامر بن الطفيل بن مالك قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهيا إليه وهو جالس فجلسا بين يديه فقال عامر بن الطفيل يا محمد ما تجعل لي إن أسلمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ما للمسلمين وعليك ما عليهم قال عامر أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل قال أنا الآن في أعنة خيل نجد اجعل لي الوبر ولك المدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا...فلما قفا من عنده قال عامر: أما والله لاملأنها عليك خيلا ورجالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يمنعك الله, فلما خرج أربد وعامر قال عامر يا أربد أنا اشغل محمدًا بالحديث فاضربه بالسيف فان الناس إذا قتلت محمدًا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية قال أربد أفعل فأقبلا راجعين إليه فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك, فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخليا إلى الجدار ووقف معه رسول الله يكلمه وسل أربد السيف فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف فلم يستطع سل السيف فأبطأ أربد على عامر بالضرب فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما فلما خرج أربد وعامر من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بالحرة حرة وأرقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير فقالا اشخصا يا عدوا الله لعنكما الله, فقال عامر من هذا يا سعد قال أسيد بن حضير الكتائب فخرجا حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته وخرج عامر حتى إذا كان بالحرة أرسل الله قرحة فأخذته فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول غدة كغدة الجمل في بيت سلولية يرغب عن أن يموت في بيتها ثم ركب فرسه فأحضرها حتى مات عليه راجعا فانزل الله فيهما الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد إلى قوله له معقبات من بين يديه ومن خلفه يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ثم ذكر أربد وما قتله به فقال ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء الآية وفي هذا السياق دلالة على ما تقدم من قصة عامر وأربد وذلك لذكر سعد بن معاذ فيه والله أعلم... اهـ
وقال رحمه الله في التفسير
وقد روي في سبب نزول قوله تعالى ?وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ *وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ *? (الرعد 11-13).
ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا إسحاق, حدثنا علي بن أبي سارة الشيباني, حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً مرة إلى رجل من فراعنة العرب, فقال: «اِذهب فادعه لي». قال: فذهب إليه فقال: يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له: من رسول الله؟ وما الله؟أمن ذهب هو؟ أم من فضة هو؟ أم من نحاس هو؟ قال: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال: يا رسول الله, قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك, قال لي كذا وكذا, فقال لي: «ارجع إليه الثانية» فذهب فقال له مثلها, فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك, فقال: «ارجع إليه فادعه» فرجع إليه الثالثة, قال: فأعاد عليه ذلك الكلام, فبينما هو يكلمه إذ بعث الله عز وجل سحابة حيال رأسه, فرعدت فوقعت منها صاعقة, فذهب بقحف رأسه, فأنزل الله عز وجل {ويرسل الصواعق} الآية, ورواه ابن جرير من حديث علي بن أبي سارة به.(12/39)
ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبدة بن عبد الله عن يزيد بن هارون, عن ديلم بن غزوان, عن ثابت, عن أنس فذكر نحوه, وقال: حدثنا الحسن بن محمد, حدثنا عفان, حدثنا أبان بن يزيد, حدثنا أبو عمران الجوني عن عبد الرحمن بن صحار العبدي أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى جبار يدعوه فقال: أرأيتم ربكم أذهب هو؟ أم فضة هو؟ أم لؤلؤ هو؟ قال: فبينما هو يجادلهم إذ بعث الله سحابة فرعدت, فأرسل عليه صاعقة, فذهبت بقحف رأسه, ونزلت هذه الآية. وقال أبو بكر بن عياش عن ليث بن أبي سليم, عن مجاهد قال: جاء يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن ربك, من أي شيء هو ؟ من نحاس هو, أم من لؤلؤ أو ياقوت؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته, وأنزل الله {ويرسل الصواعق} الآية.
وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن, وكذب النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل الله صاعقة فأهلكته, وأنزل الله {ويرسل الصواعق} الآية, وذكروا في سبب نزولها قصة عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة, لما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر, فأبى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له عامر بن الطفيل ـ لعنه الله ـ: أما والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يأبى الله عليك ذلك وأبناء قيلة» يعني الأنصار, ثم إنهما هما بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يخاطبه, والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه, فحماه الله تعالى منهما وعصمه, فخرجا من المدينة فانطلقا في أحياء العرب يجمعان الناس لحربه عليه الصلاة والسلام, فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته, وأما عامر بن الطفيل, فأرسل الله عليه الطاعون فخرجت فيه غدة عظيمة, فجعل يقول: يا آل عامر غدة كغدة البكر, وموت في بيت سلولية, حتى ماتا لعنهما الله, وأنزل الله في مثل ذلك {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله}, وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخو أربد يرثيه:
أخشى على أربد الحتوف ولا *** أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق بالـ***ــفارس يوم الكريهة النجد
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا مسعدة بن سعيد العطار, حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي, حدثني عبد العزيز بن عمران, حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما, عن عطاء بن يسار, عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن جليد بن جعفر بن كلاب, وعامر بن الطفيل بن مالك, قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانتهيا إليه وهو جالس فجلسا بين يديه, فقال عامر بن الطفيل: يا محمد, ما تجعل لي إن أسلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم». قال عامر بن الطفيل: أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس ذلك لك ولا لقومك, ولكن لك أعنة الخيل» قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد, اجعل لي الوبر ولك المدر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا», فلما قفلا من عنده قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمنعك الله», فلما خرج أربد وعامر, قال عامر: يا أربد, أنا أشغل عنك محمداً بالحديث فاضربه بالسيف, فإن الناس إذا قتلت محمداً لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب, فنعطيهم الدية. قال أربد: أفعل, فأقبلا راجعين إليه, فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك, فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلسا إلى الجدار, ووقف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه, وسل أربد السيف, فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف, فلم يستطع سل السيف, فأبطأ أربد على عامر بالضرب, فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع, فانصرف عنهما, فلما خرج عامر وأربد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بالحرة ـ حرة راقم ـ نزلا, فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير, فقالا: اشخصا يا عدوي الله لعنكما الله, فقال عامر: من هذا يا سعد ؟ قال: هذا أسيد بن حضير الكتائب, فخرجا حتى إِذا كانا بالرقم, أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته, وخرج عامر حتى إذا كان بالخريم أرسل الله قرحة فأخذته, فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول, فجعل يمس قرحته في حلقة ويقول: غدة كغدة الجمل في بيت سلولية, ترغب أن يموت في بيتها, ثم ركب فرسه فأحضره حتى مات عليه راجعاً, فأنزل الله فيهما {الله يعلم ما تحمل كل أنثى ـ إلى قوله ـ وما لهم من دونه من وال} قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمداً صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر أربد وما قتله به, فقال {ويرسل الصواعق} الآية.(12/40)
وقوله {وهم يجادلون في الله} أي يشكون في عظمته, وأنه لا إله إلا هو, {وهو شديد المحال} قال ابن جرير: شديدة مما حلته في عقوبة من طغى عليه, وعتا وتمادى في كفره, وهذه الآية شبيهة بقوله: {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين}, وعن علي رضي الله عنه {وهو شديد المحال} أي شديد الأخذ, وقال مجاهد: شديد القوة. اهـ.
مناورات الأشقياء لقتل خاتم الأنبياء(5)
أبو يوسف محمد زايد
قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "
الآيتان: 12 – 13من سورة الرعد
{هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال، ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال}
قوله تعالى: "هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال" أي بالمطر. "السحاب" جمع، والواحدة سحابة، وسحب وسحائب في الجمع أيضا. "ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته" قد مضى في "البقرة" القول في الرعد والبرق والصواعق فلا معنى للإعادة؛ والمراد بالآية بيان كمال قدرته؛ وأن تأخير العقوبة ليس عن عجز؛ أي يربكم البرق في السماء خوفا للمسافر؛ فإنه يخاف أذاه لما ينال من المطر والهول والصواعق؛ قال الله تعالى: "أذى من مطر" [النساء: 102] وطمعًا للحاضر أن يكون عقبه مطر وخصب؛ قال معناه قتادة ومجاهد وغيرهما. وقال الحسن: خوفا من صواعق البرق، وطمعا في غيثه المزيل للقحط. "وينشئ السحاب الثقال" قال مجاهد: أي بالماء. "ويسبح الرعد بحمده" من قال إن الرعد صوت السحاب فيجوز أن يسبح الرعد بدليل خلق الحياة فيه؛ ودليل، صحة هذا القول قوله: "والملائكة من خيفته" فلو كان الرعد ملكا لدخل في جملة الملائكة. ومن قال إنه ملك قال: معنى. "من خيفته" من خيفة الله؛ قاله الطبري وغيره. قال ابن عباس: إن الملائكة خائفون من الله ليس كخوف ابن آدم؛ لا يعرف وأحدهم من على يمينه ومن على يساره، لا يشغلهم عن عبادة الله طعام ولا شراب؛ وعنه قال: الرعد ملك يسوق السحاب، وإن بخار الماء لفي نقرة إبهامه، وإنه موكل بالسحاب يصرفه حيث يؤمر، وإنه يسبح الله؛ فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح، فعندها ينزل القطر، وعنه أيضًا كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وروى مالك عن عامر بن عبد الله عن أبيه أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحانه الذي يسح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول: إن هذا وعيد لأهل الأرض شديد. وقيل: إنه ملك جالس على كرسي بين السماء والأرض، وعن يمينه سبعون ألف ملك وعن يساره مثل ذلك؛ فإذا أقبل على يمينه وسبح سبح الجميع من خوف الله، وإذا أقبل على يساره وسبح سبح الجميع من خوف الله.(12/41)
قوله تعالى: "ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء" ذكر الماوردي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب ومجاهد: نزلت في يهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني! من أي شيء ربك؛ أمن لؤلؤ أم من ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأحرقته. وقيل: نزلت في بعض كفار العرب؛ قال الحسن: (كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه إلى الله ورسوله والإسلام فقال لهم: أخبروني عن رب محمد ما هو، ومم هو، أمن فضة أم من حديد أم نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته؛ فقال: أجيب محمدًا إلى رب لا يعرفه!؟ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه مرارًا وهو يقول مثل هذا؛ فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم، فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة، فأحرقت الكافر وهم جلوس؛ فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: أحترق صاحبكم، فقالوا: من أين علمتم؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. "ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء". ذكره الثعلبي عن الحسن؛ والقشيري بمعناه عن أنس، وسيأتي. وقيل: نزلت الآية في أربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة، وفي عامر بن الطفيل؛ قال ابن عباس: أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة العامريان يريدان النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد جالس في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد، فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور، وكان من أجمل الناس؛ فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا يا رسول الله عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك؛ فقال: دعه فإن يرد الله به خيرا يهده... فأقبل حتى قام عليه فقال؛ يا محمد مالي إن أسلمت؟ فقال: لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين... قال: أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: ليس ذاك إلي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء. قال: أفتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ قال: (لا). قال: فما تجعل لي؟ قال: (أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها في سبيل الله). قال: أو ليس لي أعنة الخيل اليوم؟ قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عامر أومأ إلى أربد: إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه واضربه بالسيف، فجعل يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم ويراجعه؛ فاخترط أربد من سيفه شبرا ثم حبسه الله، فلم يقدر على سله، ويبست يده على سيفه؛ وأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته؛ وولى عامر هاربا وقال: يا محمد! دعوت ربك على أربد حتى قتلته؛ والله لأملأنها عليك خيلا جردا، وفتيانا مردا؛ فقال عليه السلام: يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة... يعني الأوس والخزرج؛ فنزل عامر بيت امرأة سلولية؛ وأصبح وهو يقول: والله لئن أصحر لي محمد وصاحبه - يريد ملك الموت - لأنفذتهما برمحي؛ فأرسل الله ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب؛ وخرجت على ركبته غدة عظيمة في الوقت؛ فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية؛ ثم ركب على فرسه فمات على ظهره. ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد فقال:
يا عين هلا بكيت أربد إذ قمـ*** ـنا وقام الخصوم في كبد
أخشى على أربد الحتوف ولا ** * أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق بالـ**ــفا رس يوم الكريهة النجد
وفيه قال:
إن الرزية لا رزية مثلها فقـ**ــدان كل أخ كضوء الكوكب
يا أربد الخير الكريم جدوده *** أفردتني أمشي بقرن أعضب
وأسلم لبيد بعد ذلك رضي الله عنه.
مسألة: روى أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تأخذ الصاعقة ذاكرا لله عز وجل). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد يقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته). وذكر الخطيب من حديث سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده قال: كنا مع عمر في سفر فأصابنا رعد وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ ففعلنا فعوفينا؛ ثم لقيت عمر بن الخطاب رضى الله عنه فإذا بردة قد أصابت أنفه فأثرت به، فقلت: يا أمير المؤمنين ما هذا؟ قال بردة أصابت أنفي فأثرت، فقلت: إن كعبا حين سمع الرعد قال لنا: من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ فقلنا فعوفينا؛ فقال عمر: أفلا قلتم لنا حتى نقولها؟(12/42)
قوله تعالى: " وهم يجادلون في الله " يعني جدال اليهودي حين سأل عن الله تعالى: من أي شيء هو؟ قال مجاهد. وقال ابن جريج: جدال أربد فيما همَّ به من قتل النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون، "وهم يجادلون في الله" حالا، ويجوز أن يكون منقطعا. وروى أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى عظيم من المشركين يدعوه إلى الله عز وجل، فقال لرسول الله: أخبرني عن إلهك هذا؟ أهو من فضة أم من ذهب أم من نحاس؟ فاستعظم ذلك؛ فرجع إليه فأعلمه؛ فقال: ارجع إليه فادعه فرجع إليه وقد أصابته صاعقة، وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل: "وهم يجادلون في الله" "وهو شديد المحال" قال ابن الأعرابي: "المحال" المكر، والمكر من الله عز وجل التدبير بالحق. النحاس: المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر. وروى ابن اليزيدي عن أبي زيد "وهو شديد المحال" أي النقمة. وقال الأزهري: "المحال" أي القوة والشدة. والمحل: الشدة؛ الميم أصلية، وما حلت فلانا محالا أي قاويته حتى يتبين أينا أشد. وقال أبو عبيد: "المحال" العقوبة والمكروه. وقال ابن عرفة: "المحال" الجدال؛ يقال: ما حل عن أمره أي جادل. وقال القتيبي: أي شديد الكيد؛ وأصله من الحيلة، جعل ميمه كميم المكان؛ وأصله من الكون، ثم يقال: تمكنت. وقال الأزهري: غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة؛ بل هي أصلية، وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية؛ مثل: مهاد وملاك ومراس، وغير ذلك من الحروف. ومفعل إذا كانت من بنات الثلاثة فإنه يجيء بإظهار الواو مثل: مزود ومحول ومحور، وغيرها من الحروف؛ وقال: وقرأ الأعرج ـ "وهو شديد الَمحال" بفتح الميم؛ وجاء تفسيره على هذه القراءة عن ابن عباس أنه الحول، ذكر هذا كله أبو عبيد الهروي، إلا ما ذكرناه أولا عن ابن الأعرابي؛ وأقاويل الصحابة والتابعين بمعناها؛ وهي ثمانية: أولها: شديد العداوة، قاله ابن عباس. وثانيها: شديد الحول، قاله ابن عباس أيضا. وثالثها: شديد الأخذ، قال علي بن أبي طالب. ورابعها: شديد الحقد، قاله ابن عباس. وخامسها: شديد القوة، قال مجاهد. وسادسها: شديد الغضب، قاله وهب بن منبه. وسابعها: شديد الهلاك بالمحل، وهو القحط؛ قاله الحسن أيضا. وثامنها: شديد الحيلة؛ قاله قتادة. وقال أبو عبيدة معمر: المحال والمماحلة المماكرة والمغالبة ..
*** بزغ نور النبوة في مكة المكرمة حيث كان فجر الدين الحق، ثم سطع في المدينة المنورة ومنها أخذ ينتشر في بلاد العرب، فلم يرق ذلك كثيرا من ذوي النفوس المريضة الذين كانوا، لسفاهتهم ، يرون في الإسلام قضاء على جاههم الزائف وغناهم الزائل.. ومن هؤلاء فاطمة بنت ربيعة بن بدر أم قرفة التي خشيت ضياع مكانتها بين قومها وذهاب عزها ونفوذها ، وكانت
المناورة العاشرة...
فجندت أم قرفة هذه بنيها وكانوا عصبة وضمت إليهم عصابة من المجرمين ملأت قوةُ شبابهم عينَها المقيتة، وأمدت الجميع بالخيل الجياد والسلاح الحاد ، وكان من خطتها الشيطانية لقتل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن تدخل الشرذمة الغاوية المدينة ليلا، والناس نيام.. وظنت أن جنح الظلام كفيل بستر خطتها حتى التمام لتحقق ما أرادت وتفلح فيما رامت.. حتى تطفيء نار الحقد المستعرة في جوفها العفن...
لكن الله تعالى أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على أمرها وكشف له عن مرادها ، فبعث إليها ، في عقر دارها وبين عشيرتها، سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه ...
قال الواقدي في كتاب المغازي
- سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى أُمّ قِرْفَةَ في رَمَضَانَ سَنَةَ سِتّ نَاحِيَةَ وادي الْقُرَى إلَى جَنْبِهَا.(12/43)
حدثني أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِىّ، قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِىّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ، قَالَ: خَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ في تِجَارَةٍ إلَى الشّامِ، وَمَعَهُ بَضَائِعُ لأَصْحَابِ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ خُصْيَتَىْ تَيْسٍ فَدَبَغَهُمَا ثُمّ جَعَلَ بَضَائِعَهُمْ فِيهِمَا، ثُمّ خَرَجَ حَتّى إذَا كَانَ دُونَ وَادِى الْقُرَى وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ لَقِيَهُ نَاسٌ مِنْ بَنِى فَزَارَةَ مِنْ بَنِى بَدْرٍ، فَضَرَبُوهُ وَضَرَبُوا أَصْحَابَهُ حَتّى ظَنّوا أَنْ قَدْ قُتِلُوا، وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ ثُمّ اسْتُبِلّ زَيْدٌ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى النّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَهُ فِى سَرِيّةٍ، فَقَالَ لَهُمْ: اُكْمُنُوا النّهَارَ وَسِيرُوا اللّيْلَ. فَخَرَجَ بِهِمْ دَلِيلٌ لَهُمْ وَنَذَرَتْ بِهِمْ بَنُو بَدْرٍ فَكَانُوا يَجْعَلُونَ نَاطُورًا لَهُمْ حِينَ يُصْبِحُونَ فَيَنْظُرُ عَلَى جَبَلٍ لَهُمْ مُشْرِفٍ وَجْهَ الطّرِيقِ الّذِى يَرَوْنَ أَنّهُمْ يَأْتُونَ مِنْهُ فَيَنْظُرُ قَدْرَ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَيَقُولُ اسْرَحُوا فَلا بَأْسَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ لَيْلَتَكُمْ، فَلَمّا كَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى نَحْوِ مَسِيرَةِ لَيْلَةٍ أَخْطَأَ بِهِمْ دَلِيلُهُمْ الطّرِيقَ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقًا أُخْرَى حَتّى أَمْسَوْا وَهُمْ عَلَى خَطَأٍ فَعَرَفُوا خَطَأَهُمْ ثُمّ صَمَدُوا لَهُمْ فِى اللّيْلِ حَتّى صَبّحُوهُمْ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ نَهَاهُمْ حَيْثُ انْتَهَوْا عَنْ الطلب ....
قَالَ: ثُمّ وَعَزَ إلَيْهِمْ أَلاّ يَفْتَرِقُوا، وَقَالَ: إذَا كَبّرْت فَكَبّرُوا، وَأَحَاطُوا بِالْحَاضِرِ ثُمّ كَبّرَ وَكَبّرُوا، فَخَرَجَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ فَطَلَبَ رَجُلاً مِنْهُمْ حَتّى قَتَلَهُ، وَقَدْ أَمْعَنَ فِى طَلَبِهِ وَأَخَذَ جَارِيَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَجَدَهَا فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ وَأُمّهَا أُمّ قِرْفَةَ وَأُمّ قِرْفَةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَغَنِمُوا، وَأَقْبَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَقْبَلَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ بِالْجَارِيَةِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ جَمَالَهَا، فَقَالَ: يَا سَلَمَةُ مَا جَارِيَةٌ أَصَبْتهَا؟ قَالَ جَارِيَةٌ يَا رَسُولَ اللّهِ رَجَوْت أَنْ أَفْتَدِىَ بِهَا امْرَأَةً مِنّا مِنْ بَنِى فَزَارَةَ، فَأَعَادَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا يَسْأَلُهُ : مَا جَارِيَةٌ أَصَبْتهَا؟ حَتّى عَرَفَ سَلَمَةُ أَنّهُ يُرِيدُهَا فَوَهَبَهَا لَهُ فَوَهَبَهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَزْنِ بْنِ أَبِى وَهْبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ امْرَأَةً لَيْسَ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ غَيْرُهَا.
فَحَدّثَنِى مُحَمّدٌ، عَنْ الزّهْرِىّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِى بَيْتِى، فَأَتَى زَيْدٌ فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَجُرّ ثَوْبَهُ عُرْيَانًا، مَا رَأَيْته عُرْيَانًا قَبْلَهَا، حَتّى اعْتَنَقَهُ وَقَبّلَهُ ثُمّ سَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا ظَفّرَهُ اللّهُ.
- ذِكْرُ مَنْ قَتَلَ أُمّ قِرْفَةَ
قَتَلَهَا قَيْسُ بْنُ الْمُحَسّرِ قَتْلاً عَنِيفًا؛ رَبَطَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا حَبْلاً ثُمّ رَبَطَهَا بَيْنَ بَعِيرَيْنِ وَهِىَ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ. وَقَتَلَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ، وَقَتَلَ قَيْسَ بْنَ النّعْمَانِ بْنِ مَسْعَدَةَ ابْنِ حَكَمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ بَدْرٍ.
وقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ في كتاب السيرة النبوية:(12/44)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ آلَى أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ غُسْلٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ بَنِي فَزَارَةَ، فَلَمَّا اسْتَبَلَّ مِنْ جِرَاحَتِهِ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ إلَى بَنِي فَزَارَةَ فِي جَيْشٍ، فَقَتَلَهُمْ بِوَادِي الْقُرَى، وَأَصَابَ فِيهِمْ، وَقَتَلَ قَيْسَ بْنَ الْمُسَحَّرِ الْيَعْمُرِيَّ مَسْعَدَةَ بْنَ حَكَمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَأُسِرَتْ أُمُّ قِرْفَةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ بَدْرٍ، كَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةٌ عِنْدَ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَبِنْتٌ لَهَا، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعَدَةَ، فَأَمَرَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ قَيْسَ بْنَ الْمُسَحَّرِ أَنْ يَقْتُلَ أُمَّ قِرْفَةَ، فَقَتَلَهَا قَتْلًا عَنِيفًا؛ ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ بِابْنَةِ أُمِّ قِرْفَةَ، وَبِابْنِ مَسْعَدَةَ.
وَكَانَتْ بِنْتُ أُمِّ قِرْفَةَ لِسَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ، كَانَ هُوَ الَّذِي أَصَابَهَا، وَكَانَتْ فِي بَيْتِ شَرَفٍ مِنْ قَوْمِهَا؛ كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ: (لَوْ كُنْتَ أَعَزَّ مِنْ أُمِّ قِرْفَةَ مَا زِدْتُ). فَسَأَلَهَا رَسُولَ اللَّهِ سَلَمَةُ، فَوَهَبَهَا لَهُ، فَأَهْدَاهَا لِخَالِهِ حَزْنَ بْنَ أَبِي وَهْبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَزْنٍ.
*** أُسرت أم قرفة. ثم قُتلت.. وتجري الأيام ...ناس يدخلون في دين الله أفواجا يتولون الله ورسوله والذين آمنوا ، سعداء يكثرون حزب الله الغالب ، وآخرون ينضوون تحت لواء ابليس أشقياء في ظلمات حزبه المغلوب ... وكانت
المناورة الحادية عشرة...
باب سرية نجد يقال أنها كانت في المحرم سنة ست من الهجرة بعث فيها محمد بن مسلمة فجاء بسيد أهل اليمامة ثمامة بن أثال وما ظهر في أخذه وإسلامه من الآثار..
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ رحمه الله قال أخبرنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه قال أخبرنا أحمد بن إبراهيم هو ابن ملحان قال حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث قال حدثنا سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول بعث رسول الله خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندي ما قلت لك أن تنعم تنعم على شاكر وأن تقتل تقتل ذا دم وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فقال رسول الله أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك وقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي والله ما كان دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الدين كله إلي والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى فيسره رسول الله وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل صبأت يا ثمامة قال لا ولكني أسلمت مع رسول الله فوالله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله..
رواه البخاري في الصحيح عن عبد الله بن يوسف ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الليث وأخرجه مسلم أيضا من حديث عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري هكذا,
وخالفهما محمد بن إسحاق بن يسار عن المقبري في كيفية أخذه وذكر أولا من قبل نفسه أن ثمامة بن أثال كان رسول مسيلمة إلى رسول الله فدعا الله أن يمكنه منه..
ثم روى عن المقبري ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو محمد بن موسى ابن الفضل قالا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال حدثنا أحمد بن عبد الجبار قال حدثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال حدثني سعيد المقبري عن أبي هريرة قال كان إسلام ثمامة بن أثال الحنفي أن رسول الله دعا الله حين عرض لرسول الله بما عرض له أن يمكنه الله منه وكان عرض له وهو مشرك فأراد قتله فأقبل ثمامة معتمرا وهو على شركه حتى دخل المدينة فتحير فيها حتى أخذ فأتي به رسول الله وهو مشرك فأمر به فربط إلى عمود من عمد المسجد فخرج عليه رسول الله فقال مالك يا ثمام هل أمكن الله منك فقال قد كان ذلك يا محمد أن تقتل تقتل ذا دم وأن تعف تعف عن شاكر وإن تسأل مالا تعطه.. فمضى رسول الله وتركه حتى إذا كان الغد مر به فقال مالك يا ثمام فقال خيرا يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم وأن تعف تعف عن شاكر وإن تسأل مالا تعطه ثم انصرف عنه رسول الله..
قال أبو هريرة فجعلنا المساكين نقول بيننا ما يصنع بدم ثمامة والله لأكلة من جزور سمينة من فدائه أحب إلينا من دم ثمامة, فلما كان الغد مر به رسول الله فقال مالك يا ثمام فقال خيرا يا محمد أن تقتل تقتل ذا دم وإن تعف تعف عن شاكر وإن تسأل مالا تعطه فقال رسول الله عفوت عنك يا ثمام.(12/45)
فخرج ثمامة حتى أتى حائطا من حيطان المدينة فاغتسل به وتطهر وطهر ثيابه ثم جاء رسول الله وهو جالس في المسجد في أصحابه فقال يا محمد والله لقد كنت وما وجه أبغض إلي من وجهك ولا دين أبغض إلي من دينك ولا بلد أبغض إلي من بلدك ثم لقد أصبحت وما وجه أحب إلي من وجهك ولا دين أحب إلي من دينك ولا بلد أحب إلي من بلدك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله يا رسول الله إني كنت خرجت معمرا وأنا على دين قومي فيسرني في عمرتي فيسره رسول الله في عمرته وعلمه فخرج معتمرًا.
فلما قدم مكة وسمعته قريش يتكلم بأمر محمد من الإسلام قالوا صبأ ثمامة فأغضبوه فقال إني والله ما صبوت ولكني أسلمت وصدقت محمدا وآمنت به وأيم الذي نفس ثمامة بيده لا تأتيكم حبة من اليمامة وكانت ريف مكة ما بقيت حتى يأذن فيها محمد وانصرف إلى بلده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش فكتبوا إلى رسول الله يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يخلى حمل الطعام ففعل رسول الله..
وأخبرنا أبو طاهر الفقيه قال أخبرنا أبو حامد بن بلال قال حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا النفيلي قال حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق قال فأخبرني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال أمر رسول الله يعني ثمامة فربط بعمود من عمد الحجرة ثلاث ليال فذكر الحديث بمعناه
وهذه الرواية توهم أن يكون صدر الحديث في رواية يونس بن بكير من قول محمد بن إسحاق عن شيوخه ورواية الليث بن سعد ومن تابعه أصح في كيفية أخذه والذي روى في حديث محمد بن إسحاق من قول أبي هريرة وغيره في إرادة فدائه يدل على شهود أبي هريرة ذلك وأبو هريرة إنما قدم على النبي وهو بخيبر فيشبه أن يكون قصة ثمامة فيما بين خيبر وفتح مكة والله أعلم.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال حدثنا أبو قتيبة سلمة بن الفضل الأدمي بمكة قال حدثنا إبراهيم بن هاشم قال حدثنا محمد بن حميد الرازي قال حدثنا أبو ثميلة يحيى بن واصح قال حدثنا عبد المؤمن بن خالد الحنفي عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن ابن أثال الحنفي لما أتى به النبي وهو أسير خلى سبيله فأسلم فلحق بمكة يعني ثم رجع فحال بين أهل مكة وبين الميرة من اليمامة حتى أكلت قريش العلهز فجاء أبو سفيان بن حرب إلى النبي فقال ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين قال بلى قال فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فأنزل الله تبارك وتعالى (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون)..
*** وتعدو الأيام وتجري الشهور، والإسلام يزداد انتشارًا، وشوكة جنده تقوى وتزداد صلابة... ويأتي عام الفتح الأكبر بالعودة إلى مكة يسبقها دوي التهليل والتكبير ، والشكر لله العلي الكبير على ما أمد به من نصر مؤزر جيوش الحق والنور...
لكن، لا تزال على ظهر الأرض بقية من الناقمين الحاقدين تحترق أحشاؤهم غيظا، ويزج بهم إبليس اللعين في ظلمات الغي والغباء إلا من أراد الله به خيرا فأنقذه من مخاليبه وأنجاه من مكايده..
مناورات الأشقياء لقتل خاتم الأنبياء(6)
أبو يوسف محمد زايد
المناورة الثانية عشرة...
قال ابن كثير في البداية والنهاية
حدثني بعض أهل العلم أن فضالة بن عمير بن الملوح يعني الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضالة؟ قال: نعم.. فضالة، يا رسول الله.... قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء.. كنت أذكر الله... قال فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله... ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه؛ فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.. قال فضالة فرجعت إلى أهلي فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها فقالت: هلم الى الحديث.. فقال: لا .... وانبعث فضالة يقول
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا * يأبى عليك الله والإسلام
أو ما رأيت محمدا وقبيله * بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينا * والشرك يغشى وجهه ألاظلام
**** فسبحان من عصم عبده من مكر الماكرين وأنجاه من غدر الغتدرين... وحفظه من شر الإنس والجن حتى بلغ رسالات ربه وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ...ولن تعدم الأرض هلكى إلى يوم الدين...وذلك من دفع الناس بعضهم ببعض ... مجاهدون في سبيل الله همهم إعلاء كلمته ابتغاء ما عنده يواجهون محاربين في سبيل الطاغوت بغيتهم زرع الفساد في الأرض... وكانت
المناورة الثالثة عشرة...(12/46)
- قال البيهقي أنبأ أبو عبد الله الحافظ ومحمد ابن موسى بن الفضل قالا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا العباس بن محمد بن بكير الحضرمي ثنا أبو ايوب بن جابر عن صدقة بن سعيد عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به ولكن أبيت أن تظهر هوازن على قريش فقلت وأنا واقف معه يا رسول الله إني أرى خيلا بلقا... فقال: يا شيبة إنه لا يراها الا كافر ؛ فضرب يده في صدري ثم قال: اللهم أهد شيبة ... ثم ضربها الثانية فقال: اللهم أهد شيبة ... ثم ضربها الثالثة ثم قال: اللهم أهد شيبة... قال فو الله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلى منه ثم ذكر الحديث في التقاء الناس وانهزام المسلمين ونداء العباس واستنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى هزم الله المشركين ..
-وقال البيهقي أنبأ أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو محمد أحمد عبد الله المزني ثنا يوسف بن موسى ثنا هشام بن خالد ثنا الوليد بن مسلم حدثني عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي عن عكرمة مولى ابن عباس عن شيبة بن عثمان قال لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قد عرى ذكرت أبى وعمى وقتل على وحمزة إياهما فقلت اليوم أدرك ثأري من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذهبت لأجيئه عن يمينه فإذا بالعباس بن عبد المطلب قائم عليه درع بيضاء كأنها فضة ينكشف عنها العجاج فقلت عمه ولن يخذله قال ثم جئته عن يساره فإذا أنا بابي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقلت ابن عمه ولن يخذله قال ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أساوره سورة بالسيف إذ رفع شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت أن يمحشني فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى ؛ فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا شيب أدن مني.. اللهم اذهب عنه الشيطان... قال فرفعت اليه بصري ولهو احب الي من سمعي وبصري؛ فقال: يا شيب قاتل الكفار ...
-وقال ابن اسحاق وقال شيبة بن عثمان بن ابي طلحة اخو بني عبد الدار قلت اليوم أدرك ثأري وكان أبوه قد قتل يوم أحد اليوم أقتل محمدا قال فأدرت برسول الله صلى الله عليه وسلم لأقتله فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذاك وعلمت أنه ممنوع مني ....
*** أجل ...كان رسول الله ممنوعا من كل معتد أثيم لأن الباري عز وجل خاطبه بقوله الحق وهو الحق لاإله إلا هو: ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ? (المائدة: 67 )
قال الطبري رحمه الله
القول في تأويل قوله تعالى: {يََأَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }..
هذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قصّ الله تعالى قصصهم في هذه السورة وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجتراءهم على ربهم وتوثبهم على أنبيائهم وتبديلهم كتابه وتحريفهم إياه ورداءة مطاعمهم ومآكلهم وسائر المشركين غيرهم, ما أنزل عليه فيهم من معايبهم والإزراء عليهم والتقصير بهم والتهجين لهم, وما أمرهم به ونهاهم عنه, وأن لا يشعر نفسه حذرا منهم أن يصيبه في نفسه مكروه, ما قام فيهم بأمر الله, ولا جزعا من كثرة عددهم وقلة عدد من معه, وأن لا يتقى أحدا في ذات الله, فإن الله تعالى كافيه كلّ أحد من خلقه, ودافعٌ عنه مكروه كل من يتقي مكروهه. وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شيء مما أنزل إليه إليهم, فهو في تركه تبليغ ذلك وإن قلّ ما لم يبلغ منه, فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئا.
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
* حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني معاوية, عن عليّ بن أبي طلحة, عن ابن عباس, في قوله تعالى (يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ) يعني: إن كتمت آية مما أنزل عليك من ربك, لم تبلغ رسالتي.
* حدثنا بشر بن معاذ, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ... الاَية, أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس ويعصمه منهم, وأمره بالبلاغ. ذكِر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له: لو احتجبت فقال: «واللّهِ لأُبْدِيَنّ عَقِبي للنّاسِ ما صَاحَبْتُهُمْ».(12/47)
*حدثني الحارث بن محمد, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا سفيان الثوريّ, عن رجل, عن مجاهد, قال: لما نزلت:(بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ) قال: «إنّما أنا وَاحِدٌ, كَيْفَ أصْنَعُ؟ تَجْتَمِعُ عليّ لناسُ» فنزلت: _ (وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ)... الاَية.
* حدثنا هناد وابن وكيع, قالا: حدثنا جرير, عن ثعلبة, عن جعفر, عن سعيد بن جبير, قال: لمّا نزلت:(يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رسالَتَهُ واللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ )قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَحْرُسُونِي إنّ رَبيّ قَدْ عَصَمَنِي».
* حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع, قالا: حدثنا ابن عُلَية, عن الجريري, عن عبد الله بن شقيق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه, فلما نزلت:( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ )خرج فقال: « يا أيّها النّاسُ الْحَقُوا بِمَلاحِقِكُمْ, فإنّ اللّهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ النّاسِ».
*حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن عاصم بن محمد, عن محمد بن كعب القرظي, قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتحارسه أصحابه, فأنزل الله:( يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رَسالَتَهُ) ... إلى آخرها.
* حدثني المثنى, قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم, قال: حدثنا الحارث بن عبيدة أبو قدامة الإيادي, قال: حدثنا سعيد الجريري, عن عبد الله بن شقيق, عن عائشة, قالت: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحرس, حتى نزلت هذه الآية:(وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ) قالت: فأخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة, فقال: «أيّها النّاسُ انْصَرِفُوا, فإنّ اللّهَ قَدْ عَصَمَنِي».
* حدثنا عمرو بن عبد الحميد, قال: حدثنا سفيان, عن عاصم, عن القرظي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحرس حتى أنزل الله: (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ.)
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الاَية, فقال بعضهم: نزلت بسب أعرابيّ كان همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكفاه الله إياه. ذكر من قال ذلك:
* حدثني الحارث, قال: حدثنا عبد العزيز, قال: حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي وغيره, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة, فيقيل تحتها, فأتاه أعرابي, فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ قال: «الله». فرعدت يد الأعرابي, وسقط السيف منه. قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه, فأنزل الله: ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ.)
وقال آخرون: بل نزلت لأنه كان يخاف قريشا, فأومن من ذلك. ذكر من قال ذلك:
* حدثنا القاسم, قال: حدثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جريج, قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يهاب قريشا, فلما نزلت: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ استلقى ثم قال: «مَنْ شاءَ فَلْيَخْذُلْنِي» مرّتين أو ثلاثا.
* حدثنا هناد, قال: حدثنا وكيع, عن أبي خالد, عن عامر, عن مسروق, قال: قالت عائشة: من حدّثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب. ثم قرأت: «يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ ... الآية.
حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا جرير, عن المغيرة, عن الشعبيّ, قال: قالت عائشة: من قال إن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم فقد كذب وأعظم الفرية على الله, قال الله: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ... الآية.
حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: حدثنا ابن علية, قال: أخبرنا داود بن أبي هند, عن الشعبيّ, عن مسروق, قال: قال عائشة: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية, والله يقول: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّك... الآية.
حدثني المثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالح, قال: ثني الليث, قال: ثني خالد, عن سعيد بن أبي هلال, عن محمد بن الحميم, عن مسروق بن الأجدع, قال: دخلت على عائشة يوما, فسمعتها تقول: لقد أعظم الفرية من قال: إن محمدا كتم شيئا من الوحي, والله يقول: يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ.
ويعني بقوله: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ: يمنعك من أن ينالوك بسوء, وأصله من عصام القربة, وهو ما توكأ به من سير وخيط, ومنه قول الشاعر:
وَقُلْتُ عَلَيْكُمْ مالِكا إنّ مالِكا***سيَعْصِمُكْم إنْ كانَ فِي النّاسِ عاصِمُ
يعني: يمنعكم. وأما قوله:(إنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ) فإنه يعني: إن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحقّ وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئته به من عند الله, ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه.
وقال ابن كثير رحمه الله(12/48)
يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة, وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به, وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك, وقام به أتم القيام, قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن يوسف, حدثنا سفيان عن إسماعيل, عن الشعبي عن مسروق, عن عائشة رضي الله عنها, قالت: من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب, الله يقول {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} الآية, هكذا رواه هاهنا مختصراً وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولاً, وكذا رواه مسلم في كتابي الإيمان, والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننهما من طرق عن عامر الشعبي, عن مسروق بن الأجدع, عنها رضي الله عنها, وفي الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت: لو كان محمداً صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي: حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا عباد عن هارون بن عنترة, عن أبيه قال: كنا عند ابن عباس, فجاء رجل فقال له: إن ناساً يأتونا فيخبروننا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس فقال ابن عباس: ألم تعلم أن الله تعالى قال: {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك} والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء, وهذا إسناد جيد, وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة, إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن وما في هذه الصحيفة, قلت: وما في هذه الصحيفة ؟ قال: العقل, وفكاك الأسير, وأن لا يقتل مسلم بكافر.
وقال البخاري: قال الزهري: من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم, وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة, واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع, وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفاً, كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ «أيها الناس إنكم مسؤولون عني, فما أنتم قائلون ؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت, فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول «اللهم هل بلغت» ؟. قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير, حدثنا فضيل يعني ابن غزوان, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. «يا أيها الناس، أي يوم هذا ؟ »قالوا: يوم حرام, قال: أي بلد هذا ؟ قالوا: بلد حرام, قال: أي شهر هذا ؟ قالوا: شهر حرام, قال: «فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا, في بلدكم هذا, في شهركم هذا» ثم أعادها مراراً, ثم رفع أصبعه إلى السماء فقال «اللهم هل بلغت ؟» مراراً. قال: يقول ابن عباس: والله لوصية إلى ربه عز وجل, ثم قال «ألا فليبلغ الشاهد الغائب: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» وقد روى البخاري عن علي بن المديني, عن يحيى بن سعيد, عن فضيل بن غزوان به نحوه.
وقوله تعالى: {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} يعني وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به, فما بلغت رسالته, أي وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا قبيصة بن عقبة, حدثنا سفيان عن رجل, عن مجاهد قال: لما نزلت {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} قال: يا رب, كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون عليّ ؟ فنزلت {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} ورواه ابن جرير من طريق سفيان وهو الثوري به.
وقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} أي بلغ أنت رسالتي وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم, فلا تخف ولا تحزن فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يحرس, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا يحيى قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث أن عائشة رضي الله عنها كانت تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت: فقلت ما شأنك يا رسول الله ؟ قال «ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة» قالت: فبينا أنا على ذلك, إذ سمعت صوت السلاح, فقال «من هذا ؟» فقال: أنا سعد بن مالك. فقال: «ما جاء بك ؟» قال: جئت لأحرسك يا رسول الله. قالت:فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه, أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري به, وفي لفظ: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مقدمه المدينة يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة رضي الله عنها, وكان ذلك في سنة ثنتين منها.(12/49)
- وقال ابن أبي حاتم: حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري, نزيل مصر, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا الحارث بن عبيد يعني أبا قدامة عن الجريري, عن عبد الله بن شقيق, عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية {والله يعصمك من الناس} قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة وقال «يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل» وهكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد, وعن نصر بن علي الجهضمي, كلاهما عن مسلم بن إبراهيم به, ثم قال: وهذا حديث غريب, وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه من طريق مسلم بن إبراهيم به, قال الحاكم: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه, وكذا رواه سعيد بن منصور عن الحارث بن عبيد أبي قدامة عن الجريري, عن عبد الله بن شقيق, عن عائشة به, ثم قال الترمذي: وقد روى بعضهم هذا عن الجريري عن ابن شقيق, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية, ولم يذكر عائشة. قلت: هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن علية, وابن مردويه من طريق وهيب, كلاهما عن الجريري عن عبد الله بن شقيق مرسلاً, وقد روى هذا مرسلا عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي, رواهما ابن جرير, والربيع بن أنس, رواه ابن مردويه, ثم قال: حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا أحمد بن رشدين المصري, حدثنا خالد بن عبد السلام الصدفي, حدثنا الفضل بن المختار عن عبد الله بن موهب, عن عصمة بن مالك الخظمي قال: كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل. حتى نزلت {والله يعصمك من الناس} فترك الحرس, حدثنا سليمان بن أحمد, حدثنا حمد بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي, حدثنا كردوس بن محمد الواسطي,
-حدثنا يعلى بن عبد الرحمن عن فضيل بن مرزوق عن عطية, عن أبي سعيد الخدري, قال: كان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه, فلما نزلت هذه الآية {والله يعصمك من الناس} ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس.
-حدثنا علي بن أبي حامد المديني, حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد, حدثنا محمد بن مفضل بن إبراهيم الأشعري, حدثنا أبي, حدثنا محمد بن معاوية بن عمار, حدثنا أبي قال: سمعت أبا الزبير المكي يحدث عن جابر بن عبد الله, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت {والله يعصمك من الناس} فذهب ليبعث معه, فقال «يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من تبعث» وهذا حديث غريب وفيه نكارة, فإن هذه الآية مدنية, وهذا الحديث يقتضي أنها مكية, ثم قال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا محمد بن يحيى, حدثنا أبو كريب, حدثنا عبد الحميد الحماني عن النضر, عن عكرمة عن ابن عباس, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} قال: فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه, فقال: «إن الله قد عصمني من الجن والإنس», ورواه الطبراني عن يعقوب بن غيلان العماني, عن أبي كريب به,
وهذا أيضاً حديث غريب, والصحيح أن هذه الآية مدنية بل هي من أواخر ما نزل بها, والله أعلم,
ومن عصمة الله لرسوله, حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها, مع شدة العداوة والبغضة, ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً, بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدرته وحكمته العظيمة, فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب إذ كان رئيساً مطاعاً كبيراً في قريش, وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية, ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها, ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه, فلما مات عمه أبو طالب, نال منه المشركون أذي يسيراً, ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام وعلى أن يتحول إلى دارهم وهي المدينة, فلما صار إليها, منعوه من الأحمر والأسود, وكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله, ورد كيده عليه, كما كاده اليهود بالسحر فحماه الله منهم, وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء, ولما سمه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر, أعلمه الله به وحماه منه, ولهذا أشباه كثيرة جداً يطول ذكرها, فمن ذلك ماذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة:(12/50)
فقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا الحارث, حدثنا عبد العزيز, حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي, وغيره, قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها, فأتاه أعرابي فاخترط سيفه, ثم قال: من يمنعك مني ؟ فقال « الله عز وجل» فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه, وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه, فأنزل الله عز وجل: {والله يعصمك من الناس}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان, حدثنا زيد بن الحباب, حدثنا موسى بن عبيدة, حدثني زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري, قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار, نزل ذات الرقاع بأعلى نخل, فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه, فقال غورث بن الحارث من بني النجار: لأقتلن محمداً, فقال له أصحابه: كيف تقتله ؟ قال: أقول له: أعطني سيفك, فإذا أعطانيه, قتلته به, قال: فأتاه. فقال: يا محمد, أعطني سيفك أشيمه, فأعطاه إياه, فرعدت يده حتى سقط السيف من يده, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حال الله بينك وبين ما تريد», فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} وهذا حديث غريب من هذا الوجه, وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أبو عمرو بن أحمد بن محمد بن إبراهيم, حدثنا محمد بن عبد الوهاب, حدثنا آدم, حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, قال: كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها, فينزل تحتها, فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها, فجاء رجل فأخذه, فقال: يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الله يمنعني منك ضع السيف» فوضعه, فأنزل الله عز وجل: {والله يعصمك من الناس} وكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن عبد الله بن محمد, عن إسحاق بن إبراهيم, عن المؤمل بن إسماعيل, عن حماد بن سلمة به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة, سمعت أبا إسرائيل, يعني الجشمي, سمعت جعدة هو ابن خالد بن الصمة الجشمي رضي الله عنه, قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلاً سميناً, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومىء إلى بطنه بيده ويقول «لو كان هذا في غير هذا, لكان خيراً لك» قال: وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل, فقيل: هذا أراد أن يقتلك, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لم ترع ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي». وقوله {إن الله لا يهدي القوم الكافرين} أي بلغ أنت والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء, كما قال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} وقال {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.
وقال القرطبي رحمه الله
قوله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين}
قوله تعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك". قيل: معناه أظهر التبليغ؛ لأنه كان في أول الإسلام يخفيه خوفا من المشركين، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس. وكان عمر رضى الله عنه أول من أظهر إسلامه وقال: لا نعبد الله سرا؛ وفي ذلك نزلت: "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين" [الأنفال: 64] فدلت الآية على رد قول من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من أمر الدين تقية، وعلى بطلانه، وهم الرافضة، ودلت على أنه صلى الله عليه وسلم لم يسر إلى أحد شيئا من أمر الدين؛ لأن المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك ظاهرا، ولولا هذا ما كان في قوله عز وجل: "وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" فائدة. وقيل: بلغ ما أنزل إليك من ربك في أمر زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها. وقيل غير هذا، والصحيح القول بالعموم؛ قال ابن عباس: المعنى بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فإن كتمت شيئا منه فما بلغت رسالته؛ وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئا من أمر شريعته، وقد علم الله تعالى من أمر نبيه أنه لا يكتم شيئا من وحيه؛ وفي صحيح مسلم من مسروق عن عائشة أنها قالت: من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب؛ والله تعالى يقول: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" وقبح الله الروافض حيث قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه.(12/51)
قوله تعالى: "والله يعصمك من الناس" فيه دليل على نبوته؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه معصوم، ومن ضمِن اللهُ سبحانه له العصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئا مما أمره الله به. وسبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلا تحت شجرة فجاء أعرابي فاخترط سيفه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من يمنعك مني؟ فقال: الله؛ فذعرت يد الأعرابي وسقط السيف من يده؛ وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه؛ ذكره المهدوي. وذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء قال: وقد رويت هذه القصة في الصحيح، وأن غورث بن الحارث صاحب القصة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه؛ فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس. وقد تقدم الكلام في هذا المعنى في هذه السورة عند قوله: "إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" [المائدة: 11] مستوفى، .... وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع وسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف مصلتا في يده فقال لي: من يمنعك مني؟ - قال - قلت الله... ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟- قال - قلت الله... قال فشام السيف فها هو ذا جالس ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية) وكان أبو طالب يرسل كل يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل: "والله يعصمك من الناس" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [يا عماه إن الله قد عصمني من الجن والإنس فلا احتاج إلى من يحرسني].
قلت: وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة، وأن الآية مكية وليس كذلك، وقد تقدم أن هذه السورة مدنية بإجماع؛ ومما يدل على أن هذه الآية مدنية ما رواه مسلم في الصحيح عن عائشة قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة فقال: [ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة] قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح؛ فقال: [من هذا] ؟ قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ما جاء بك] ؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام. وفي غير الصحيح قالت: فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح؛ فقال: [من هذا] ؟ فقالوا: سعد وحذيفة جئنا نحرسك؛ فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه ونزلت هذه الآية؛ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة آدم وقال: [انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله].
وقرأ أهل المدينة: "رسالته" على الجميع. وأبو عمرو وأهل الكوفة: "رسالته" على التوحيد؛ قال النحاس: والقراءتان حسنتان والجمع أبين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ثم يبينه، والإفراد يدل على الكثرة؛ فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه كقوله: "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها" [إبراهيم: 34]. "إن الله لا يهدي القوم الكافرين" أي لا يرشدهم وقد تقدم. وقيل: أبلغ أنت فأما الهداية فإلينا. نظيره "ما على الرسول إلا البلاغ" [المائدة:99] والله أعلم.
وقال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (المائدة 11).(12/52)
قال جماعة: نزلت بسبب فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع حين اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يعصمك مني يا محمد؟ كما تقدم في "النساء". وفي البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه. وذكر الواقدي وابن أبي حاتم أنه أسلم. وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق شجرة حتى مات. وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث بن الحارث (بالغين منقوطة مفتوحة وسكون الواو بعدها راء وثاء مثلثة) وقد ضم بعضهم الغين، والأول أصح. وذكر أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي، وأبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي أن اسمه دعثور بن الحارث، وذكر أنه أسلم كما تقدم. وذكر محمد بن إسحاق أن اسمه عمرو بن جحاش وهو أخو بني النضير. وذكر بعضهم أن قصة عمرو بن جحاش في غير هذه القصة. والله أعلم. وقال قتادة ومجاهد وغيرهما: نزلت في قوم من اليهود جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية فهموا بقتله صلى الله عليه وسلم الله منهم. قال القشيري: وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى لادكار ما سبق. "أن يبسطوا إليكم أيديهم" أي بالسوء. "فكف أيديهم عنكم" أي منعهم.
وقال السعدي رحمه الله
قوله تعالى:(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين).
هذا أمر من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، بأعظم الأوامر وأجلها، وهو: التبليغ لما أنزل الله إليه. ويدخل في هذا، كل أمر تلقته الأمة عنه صلى الله عليه وسلم، من العقائد، والأعمال، والأقوال، والأحكام الشرعية، والمطالب الإلهية. فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ، ودعا، وأنذر، وبشر، ويسر، وعلم الجهال الأميين، حتى صاروا من العلماء الربانيين. وبلغ، بقوله، وفعله، وكتبه، ورسله. فلم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرها عنه، وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة، من الصحابة، فمن بعدهم من أئمة الدين، ورجال المسلمين. " وإن لم تفعل " أي: لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك " فما بلغت رسالته " أي: فما امتثلت أمره . " والله يعصمك من الناس " هذه حماية وعصمة من الله، لرسوله من الناس، وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ، ولا يثنيك عنه خوف من المخلوقين فإن نواصيهم بيد الله، وقد تكفل بعصمتك، فأنت إنما عليك البلاغ المبين، فمن اهتدى، فلنفسه. وأما الكافرون الذين لا قصد لهم إلا اتباع أهوائهم فإن الله لا يهديهم، ولا يوفقهم للخير، بسبب كفرهم .
وقال ابن عطية رحمه الله
وقال عبد الله بن شقيق كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعقبه أصحابه يحرسونه فلما نزلت (والله يعصمك من الناس) خرج فقال: يا أيها الناس الحقوا بملاحقكم فإن الله قد عصمني... وقال محمد بن كعب القرظي نزلت (والله يعصمك من الناس) بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله به... قال القاضي أبو محمد: هو غورث بن الحارث والقصة في غزوة ذات الرقاع... وقال ابن جريج كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهاب قريشًا فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: (والله يعصمك من الناس) استلقى وقال: من شاء فليخذلني... مرتين أو ثلاثا و (يعصمك) معناه يحفظك ويجعل عليك وقاية.. ومنه قوله تعالى (يعصمني من الماء).. ومنه قول الشاعر (فقلت عليكم مالكا إن مالكا سيعصمكم إن كان في الناس عاصم).. وهذه العصمة التي في الآية هي من المخاوف التي يمكن أن توقف عن شيء من التبليغ كالقتل والأسر والأذى في الجسم ونحوه وأما أقوال الكفار ونحوها فليست في الآية... وقوله تعالى _(لا يهدي القوم الكافرين) إما على الخصوص فيمن سبق في علم أنه لا يؤمن وإما على العموم على أن لا هداية في الكفر ولا يهدي الله الكافر في سبل كفره..
(رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)
كان الفراغ من جمعه وتأليفه
يوم 11 صفر الخير 1427
أبو يوسف محمد زايد.
=====================
مولد نبي مولد حضارة
الكاتب: سناء الشاذلي
تتغنى دعوات بشرية شتّى بحضاراتها، وتزعم أنها الأصلح للمجتمعات، وأن عليها أخذها كنموذج طُبق وقطفت ثماره في كل حين وفي كل لون.
غير أن ثمة ما ينفي ذلك الادعاء، لخروج فئة أخرى من جلدة تلك الحضارة تنفي وتفند تلك الأكذوبة، وتقف كحاجز حصين ضد ما سمّوه حضارة، وضد ما يُطلق عليه تقدم أوتطور، لم يؤد إلا إلى مزيد من دمار وانحدار في حضارات لم تفرق بين الخير والشر, وصدرت الأمراض والتشوهات والشذوذ والأمراض النفسية والانتحارات, بدعوى حضارية المنهج والهدف والسلوك، ما أدى إلى قيام مجموعات عدة بحملة قوية تدعو إلى العودة إلى الأخلاق والتنقيب عنها في أمهات الكتب، وأخذ ما يفيد من الماضي والحاضر، بغية إنقاذ البقية الباقية من بشرية خاضت الحضارة بشكل خاطئ.(12/53)
غير أن المهمة شاقة لتعدد تلك الاتجاهات التي تستقي منها الحضارة معينها ومنقذها، فلا ديانتها بقت على حالها لتستقي منها ما ينقذها ولا كذلك الجنوح للإلحاد والعلمانية والرأسمالية والاشتراكية والوجودية، مكنها من أن تسترد به عافيتها، ما يضطرها إلى إضفاء المزيد من المصطلحات والقوانين، فكلما فشلت في مشروع لجأت لآخر، إذ ترى أنه غير صالح لزمان ما وفئة ما، ما يفرض عليها تقديم مشروع آخر.
لكن ثمة حضارة لم يطرأ عليها تغيير على مر العصور, ولا تطوير ولم تنتقل لمشروع آخر كما الحضارات الأخرى وإن كان القائمون عليها قد أخفقوا في نواح شتى، وهو ما سبب تأخر هذه الحضارة لا اندثارها، ولها سمة بارزة إذ يشارك الكبير والصغير والضعيف والقوي في بنائها.
كما أنها ليس لها وقت محدد تموت به وتنتهي... فلقد ولدت مع ولادة أعظم نبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أسهمت - لا كغيرها - في الأخذ بيد ذلك الإنسان الكريم على الله نحو التقدم والازدهار، وحفظت حقوقه، ولم تفرض عليه حضارة حيوانية شهوانية تدمر كل شيء في طريقها، ولم تكلفه فوق ما يطيق حتى في العبادة, بل مازجت بين الفطرة والسلوك, بين الروح والجسد, بين الألم والأمل, بين التفاؤل والتشاؤم.
إنها ولادة تشهد مع كل يوم حضارة ثابتة في قوانينها مرنة في اتجاهاتها. حضارة ولدت بمولد نبيها والذي أعجب له كل العجب أن البعض يتخذ يوماً واحداً يحتفل فيه بمولد هذا النبي على رغم أنه يولد فينا كل يوم, مع بكاء طفل مسلم للتو خرج للدنيا, مع دعوة لله صداها في كل مكان, مع جماعات حضرت صلواتها في كل حين, مع أذان صدع في أرجاء الدنيا, مع أذكار وتسابيح تخرج من أفواه العصافير والأشجار, والأحجار, مع أناس قاموا باتباع السنة على الوجه الصحيح، ومع أناس نهلوا من أخلاق النبي حاملين رسالته بأخلاقهم التي ميّز الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
مع كل هذا وغيره يبقى من الظلم أن يحتفل بمولده بأشكاله المختلفة التي لا تخلو من مزامير ومديح مبالغ فيه وطبول وغناء.
انه لظلم حقاً أن تختزل ولادته وهو المولود فينا كل يوم في يوم واحد لم تقم به خير القرون، وكلنا يعلم قصة بداية أول احتفال بمولده على أيدي المذاهب الباطنية، انه حقاً ظلم لحضارة نبوية تحمل أرقى معاني التقدم... نبي رأت أمه وكأن نورا خرج منها أضاء قصور كسرى في الشام، ما يدلنا على أنه لا يمكن أن تتصور إلا ذلك النور الذي أوصل الإسلام والسلام والأمان والأخلاق الى البشرية جمعاء.
صحيفة الحياة اللندنية
====================
ميلاد نبي .. مولد أمة
الكاتب: د. عبدالستار إبراهيم الهيتي
في فترة من فترات التاريخ الغابرة، وعلى ثرى البقعة المباركة التي اختارها الله لتكون مثابة للناس وأمنا، وفي ظل أجواء مليئة بالجهل والظلم، وتحكم الغني بالفقير، وسيطرة القوي على الضعيف كان العالم كله يرقب ولادة جديدة تنتشل الأمة من وهدتها، وتطيح بالظلم والطغيان لتضع الأمور في نصابها وتعيد للإنسانية كرامتها وترتفع بالبشرية من حياة الذل والضياع متطلعة بها إلى حياة العزة والمجد.
وسط هذه الأجواء الملبدة بغيوم الجهل والشرك والوثنية كانت الولادة المرتقبة، فانتبهت مكة على إيقاع صوت الحق ينطلق من بين أزقتها، وأفاقت تلك المدينة المقدسة الوادعة على أنغام الترحاب بالوليد اليتيم الذي لم يكن يخطر ببال أحد أنه سيكون منقذا لأمة ومؤسسا لحضارة ومعلما للبشرية وقائدا لركب الإيمان والتوحيد.
إنه في صبيحة الثاني عشر من ربيع الأول كان العالم على موعد مع العلم والفضيلة والحضارة التي انطوت جميعها فتمثلت بالميلاد الميمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت كانت فيه البشرية بأمس الحاجة إلى تصحيح الأفكار وبناء العقائد وبرمجة الرؤى والتوجهات، بحيث أصبح ذلك الميلاد علامة مضيئة في التاريخ الإنساني ليس للمسلمين فحسب وإنما للإنسانية جمعاء على اختلاف مللها وتعدد نحلها، ويؤكد هذا المعنى ما أشار إليه أحد الشعراء المسيحيين بقوله:
أمحمد والمجد بعض صفاته
مجّدت في تعليمك الأديانا
بعث الجهاد لدن بعثت وجردت
أسياف صحبك تفتح البلدانا
ورفعت ذكر الله في أمية
وثنية ونفحتها الإيمانا
مرحا لأمي يعلم سفره
نبغاء يعرب حكمة وبيانا
إني مسيحي أحب محمدا
وأراه في فلك العلا عنوانا(12/54)
لم يكن ميلاد محمد بن عبد الله العربي القرشي حدثا تاريخيا عابرا يمر عليه المؤرخون مرورا وإنما مثّل من خلال نبوته ورسالته أبرز دعوات الإصلاح والتربية في دنيا البشرية على الإطلاق، فقد استطاع أن يجعل من جزيرة العرب مصدر إشعاع فكري وثقافي وحضاري، قدمت الأمة من خلاله للعالم صياغة روحية ومادية حملت بين طياتها معالم البعد الرسالي لدعوة الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة، حيث تمكن محمد «صلى الله عليه وسلم» أن يتبوأ قمة الهرم ليكون على رأس المصلحين الذين كان لهم أثر بارز في توجيه البشرية نحو الفضيلة والرشاد، وفي هذا يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
المصلحون أصابع جمعت يدا
هي أنت بل أنت اليد العصماء
ففي ميدان الإصلاح العقائدي والفكري كان لمحمد «صلى الله عليه وسلم» الفضل الكبير في ترسيخ معالم عقيدة التوحيد التي تعني إفراد العبودية لله تعالى ونبذ الشرك والوثنية والإطاحة بعبادة الأصنام لتخليص الفكر البشري من سفاهات العقائد الباطلة والترفع به عن عبادة البشر أو الحجر:
بك يا ابن عبد الله قامت سمحة
للحق من ملل الهدى غراء
بنيت على التوحيد وهو حقيقة
نادى بها سقراط والحكماء
وفي ميدان الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي كان لمحمد «صلى الله عليه وسلم» الباع الطويل في بناء نظرية اقتصادية ترعى الفقراء وتهتم بشؤونهم وتحافظ على حقوقهم من أن يتعدى عليها المتنفذون وأصحاب رؤوس الأموال، كما كان له الفضل الكبير في تحقيق العدالة والمساواة بعيدا عن التمايز الطبقي أو التفاوت الاجتماعي:
جاءت فوحّدت الزكاة سبيله
حتى التقى الكرماء والبخلاء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى
فالكل في حق الحياة سواء
فلو أن إنسانا تخيّر ملّة
ما اختار إلا دينَك الفقراء
أما السياسة والقيادة عند محمد «صلى الله عليه وسلم» فلها نمط آخر وصيغة متقدمة لم يستطع العالم الذي يعيش اليوم أوج حضارته وقمة تقدمه الحضاري أن يصل إلى ذلك النهج السوي من حيث الوضوح في الطرح والصدق في التعامل والأمانة في العهود والعدل في الحكم، فمزج بذلك السياسة بالأخلاق والقيادة بالرحمة والامارة بالمساواة، فتحقق بذلك حلم الفلاسفة القدماء وآمال المفكرين الحكماء:
والدين يسر والخلافة بيعة
والأمر شورى والحقوق قضاء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته
فجميع عهدك ذمة ووفاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب
هذان في الدنيا هما الرحماء
وعلى أساس هذه الثوابت شيّد «محمد النبي والرسول» قواعد حضارة عربية إسلامية، وبنى مجداً وعزاً وعلماً لا يزال العالم ينهل منه ويفيد من طروحاته ويرجع إليه عند اشتداد الأزمات واحتلاك الخطوب، فالمصدر رباني إلهي، والصياغة محمدية نبوية، وآلية التطبيق عربية إسلامية عاش العالم في ضلالها ردحا طويلا من الزمن ينعم بالأمن والأمان والخير والسلام، فلا ظلم ولا طغيان، ولا انتهاك ولا عدوان، الجميع تحت مظلة القانون سواسية، فكلكم لآدم وآدم من تراب، فلا ميزة لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولا فرق بين مسلم أو يهودي أو نصراني من حيث الحقوق والواجبات، فلهم مالنا وعليهم ما علينا، ومحمد يقول: من آذى ذميا فقد آذاني، ويقول: إنه قد أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له، وهكذا قدم «محمد» برنامج عمل وصياغة قانونية لدولة العدل والتسامح والمساواة قبل أن يعرف العالم بوادر النهضة الحديثة وقبل أن تبرز طلائع الثورة الفرنسية التي يفخر الغرب بها وبطروحاتها حتى كان ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم ميلاد أمة بكاملها شادت حضارة وأقامت دولة ونشرت في ربوع العالم العلم والمعرفة.
إذا كانت هذه هي المعاني السامية التي قدمها محمد للعالم كافة وللعرب والمسلمين خاصة، فإن الأمة اليوم مطالبة ببرمجتها على أرض الواقع وتقديمها كحلول ناجعة للخلاص من حالة الضياع والتشرذم الذي آلت إليه أحوالها في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإذا كان العامة من أبناء الأمة ملتزمين بالكثير من هذه المفاهيم والمعاني الكبيرة في علاقاتهم الدينية والأخلاقية، فإن خاصتها من المثقفين والسياسيين وأصحاب القرار يحتاجون إلى مراجعة حثيثة لأنفسهم ولخطواتهم ولقراراتهم لتأتي متفقة مع الإرث الحضاري الذي خلفه محمد بن عبد الله لهذه الأمة ولتحظى بالمكانة السامية التي حظي بها أسلافنا يوم سادوا العالم وقدموا له أفضل برامج الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وإلى أن يتحقق ذلك فإن أولي الأمر في هذه الأمة وعلماءها ومثقفيها مطالبون بجهد كبير وسعي حثيث لتصحيح علاقاتهم مع الله أولا ومع شعوبهم ثانيا عن طريق الحوار الهادف البناء والمرونة في الطرح والتعامل والمشاركة الحقيقية لشعوبهم في آمالهم وآلامهم ليكونوا جزءا من الأمة وليس في أبراج عالية بعيدة عنها.(12/55)
صحيفة الشرق القطرية
=========================
مَنْ أَوْلى بالسخرية والاستهزاء؟
21/12/1426
مروة سميح السيد ـ القاهرة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على أفضل خلق الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
هالني كثيراً سخرية هؤلاء الحاقدين على النبي - صلى الله عليه وسلم - دون علم به ولا بما جاء به، فظهر بذلك حقدهم وجهلهم؛ بل وعدم علمهم بكتابهم وما به من غرائب، والعجائب التي لو قرأها الإنسان دون علمه أن هذه نصوص بالكتاب الذي يدعون أنه مقدس لظنها من حكايات (ميكي ماوس) أو من القصص الخرافية التي تحكى للصغار قبل نومهم.
وهنا أحببت أن أنقل للقارئ بعضاً من فقرات كتابهم (المقدس) ليستيقظ القوم من غفلتهم.
طير يمشي على أربعة أرجل؟؟
"وكل دبيب الطير الماشي على أربع فهو مكروه لكم".[ Lv: 11:20: 20].
هذا من الإعجاز العلمي بـ(الكتاب المقدس) فالطيور في هذا الكتاب أصبحت لها أربعه أرجل تمشي عليهم!!!
الأرنب المجتر!!
"والأرنب لأنه يجترّ لكنه لا يشق ظلفا فهو نجس لكم" [Lv:11:6: 6].
وهل تجتر الأرانب. إلا في الكتاب المقدس؟!
حيوانات لها أعين من الخلف تجلس بجوار عرش (الرب)!!
جاء في [ رؤيا 4: 6-8 ]: وقدام العرش بحر زجاج شبه البلور وفي وسط العرش وحول العرش أربعة حيوانات مملوءة عيوناً من قدام ومن وراء. والحيوان الأول شبه أسد، والحيوان الثاني شبه عجل، والحيوان الثالث له وجه مثل وجه إنسان والحيوان الرابع شبه نسر طائر".
فتخيل معي - أخي القارئ - أربعة حيوانات لكل منهم عيون من الأمام والخلف، بل والحيوان الأول أسد، والآخر عجل، والثالث له وجه إنسان، والأخير نسر، وكل هذه الحيوانات تجلس أمام عرش الله تبارك وتعالى!!.... تعالى الله عن إفك النصارى علواً كبيراً.
سلق الأطفال وأكلهم!
جاء في سفر الملوك الثاني: الإصحاح السادس الفقرة الثامنة والعشرون وما بعدها: [سألَها: ما بِكِ؟ فأجابَت: قالَت لي هذِهِ المرأةُ: هاتي ابنَكِ فنَأْكُلَهُ، وغدًا نأْكُلُ ابني. 29فطَبَخنا ابني وأكلْناهُ، وقُلتُ لها في اليومِ الثَّاني: هاتي إبنَكِ لِنَأكُلَهُ فأخفَتْهُ]
بالله هذا كلام مقدس؟!.
سلامات!
يقول بولس (مؤسس النصرانية الحقيقي) في رسالته الثانية إلى صديقه تيموثاوس [ 4: 19 ]: "سلم على فرسكا واكيلا وبيت انيسيفورس. اراستس بقي في كورنثوس. وأما تروفيمس فتركته في ميليتس مريضاً. بادر أن تجيء قبل الشتاء. يسلم عليك افبولس وبوديس ولينس وكلافدية والاخوة جميعا".
ويقول بولس لصديقه تيطس [تي 3: 12]: "حينما أرسل إليك ارتيماس أو تيخيكس بادر أن تأتي إلي إلى نيكوبوليس لأني عزمت أن أشتي هناك".
ونسأل: هل أصبح السلام على فرسكا و... ودعوى أحد للحضور في المكان الذي سيشتي فيه بولس وحي من عند الله يتعبد بتلاوته؟؟!!
مناجاة!!
سفر الخروج [ 5: 22]: [فرجع موسى إلى الرب وقال يا سيد لماذا أسأت إلى هذا الشعب. لماذا أرسلتني. فإنه منذ دخلت إلى فرعون لأتكلم باسمك أساء إلى هذا الشعب. وأنت لم تخلّص شعبك].
وعندنا: "وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ" (الأعراف: 155).
وفي مزمور [ 10: 1]: [يا رَبُّ: لماذا تقف بعيداً؟ لماذا تختفي في أزمنة الضيق؟].
وعندنا: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)
وعندنا: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) (النمل: 62)
مزمور [ 35: 17]: "يا رب إلى متى تنتظر.. لا يشمت بي الذين هم أعدائي باطلاً استيقظ وانتبه إلى حكمي ".
وعندنا: (اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة: 255)
وعندنا: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 26)(12/56)
وفي (الكتاب المقدس) كلام جنسي فاضح يخدش حياء العاهرات فضلاً عن الغافلات المؤمنات، وفي (الكتاب المقدس) حوار بين الأشجار، وحرب النجوم، وحرب الماعز والخرفان، وفيه حمار رد حماقة النبي، وفيه خروف بسبعة قرون. وفيه الإله ينوح ويولول... ويمشي عرياناً طول النهار... ويُسلط عليه الشيطان أربعين يوما يسرح به كيف يشاء... ويكذب على إخوته... ويخسر المصارعة أمام يعقوب... ويسكر.. ويتعب... وينام... ويسيء... وينسى... ويصفر للذباب... ويصفق... ويخاف... ويندم... ويخرج الدخان من أنفه... ويحزن... ويصف نفسه بالخروف واللبؤة والعثة والفرخة والدبة.........تعالى الله عما يقول الضالون علواً كبيراً.
وجملة: إن وجدت ثكلى فقدت وحيدها وترملت لتوها تستطيع أن تضحكها بأن تحكي لها طرفاً مما في الكتاب المقدس.
وبعد هذا يسخرون من الحبيب؟؟!!
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ) (المائدة: 15).
تعليق التحرير:
نحن لا نسخر أبداً من كتاب مقدس، ولكننا نؤكد أن الكتاب الذي أنزله الله - تبارك وتعالى - على موسى وعيسى - عليهما السلام – ليس أبداً ولا يليق أن يكون الكتاب المتداول بينهم، والذي جاءت مقتطفات منه في هذا المقال، بل هو من كتابة الذاكرة، وفيه مغالطات كثيرة جداً ومقالات بشرية، وبعض أصول للقصص والروايات التي قرأها أو سمعها مؤلفو وكاتبو الكتاب ممن قبلهم مما عرفوه من كتاب الله – تبارك وتعالى – الذي أنزل على موسى وعيسى.
===================================
نبي الإسلام هل هناك من يغار عليك؟
نشرت جريدة الوطن 24/12/1426هـ
نبي الإسلام: هل هناك من يغار عليك؟
محمد علي الهرفي*
أصبح المسلمون اليوم كالأيتام على مأدبة اللئام، الكل يسخر منهم، الكل يتجرأ عليهم، ديارهم مستباحة، ودماؤهم مباحة، وثرواتهم منهوبة، وإرادتهم مسلوبة.
ولو اقتصر الأمر عند هذا الحد لهان ـ على سوئه الذي لا يحتمل ـ لكنه تعداه إلى السخرية بدينهم ونبيهم ومعتقداتهم.
هذا الاستهزاء ليس وليد اليوم ـ وأنا أتحدث عن عصرنا الحاضر ـ فقد كان له سوابق كثيرة مرت كلها بسلام ـ إلا من احتجاجات ضعيفة من هنا وهناك ـ ولما رأى هؤلاء المستهزئون هوان المسلمين وضعفهم تمادوا في غيهم لأنهم أمنوا العقاب، بل أمنوا حتى العتاب فمضوا إلى أبعد من ذلك بكثير. صحيفة "مغازينات" النرويجية ومثلها صحيفة "جيلاندر بوستر" الدنماركية ومنذ حوالي ثلاثة أشهر تقريباً وهما تنشران صورا كاريكاتورية تسخر بالرسول عليه الصلاة والسلام كما تتحدثان عنه بصورة مشوهة وسيئة لا تليق حتى بأهون الناس فضلاً عن الأنبياء عامة وأفضلهم عند الله خاصة.
هاتان الصحيفتان اتخذتا الحرية الصحفية مطية لما تقومان به، وهذه الحرية ـ كما يدعون ـ متاحة للغربيين عامة وهي جزء من ثقافتهم وسلوكهم ـ هكذا يقولون ـ وقد نقلت صحيفة "الرياض" نقلا عن أحد كبار الكتاب في الدنمارك بعد أن اعترف بكل الإساءات التي وجهت للرسول قوله عن هذه الإساءات إنها "لون من ألوان الأدب وهو متقبل في المجتمعات الغربية فالرسومات النقدية الكاريكاتورية والكلمات الساخرة التي تتناول شتى المواضيع وكافة الفئات والأفكار هي عبارة عن نقد وسخرية هادفة وذكية أيضاً وإن هذا مقبول ومتعارف عليه في العالم بأسره". إذن وكما قال فإن السخرية بالرسول عمل هادف وذكي، وهو أيضاً أمر متعارف ومألوف في العالم أيضاً.
هذه الأقوال التي يرددها البعض مليئة بالأكاذيب فدعوى الحرية لا تجعل البعض يستهزئ بالمقدسات الدينية لأصحاب الأديان الأخرى فالجمعية العامة للأمم المتحدة رفضت مبدأ تشويه الأديان وطالبت في جلستها العامة المنعقدة في 11/11/2004م بمناهضة تشويه الأديان ودعت إلى الحوار بين الأديان بدلاً من الإساءة إليها.(12/57)
وبعيداً عن الأمم المتحدة وقراراتها التي لا تطبق غالباً إلا على الأمم الضعيفة لماذا لا يعد هذا الكاتب وسواه ـ وهم كثر ـ انتقاد بعض مزاعم اليهود من الحريات الصحفية؟ لماذا يكون الحديث عن المحرقة اليهودية وبيان التهويل الذي يقال عنها أمراً محرماً؟ لماذا يكون الحديث عن السامية المزعومة لليهود ـ بصورة ناقدة أمراً محرماً أيضاً؟ بل إن هذه الدول التي تبيح السخرية برسولنا الكريم بدعوى الحفاظ على الحريات العامة تعاقب وتجرم من ينتقد الصهاينة بدعوى الإساءة للسامية، وهذا النقد مهما كانت درجته فهو لا يصل بأي حال إلى درجة الإساءة للرسول الكريم فلماذا تغيب الحرية هنا وتظهر هناك؟ هذه الحرية التي تتشدق بها حكومتا الدنمارك والنرويج هل تسمحان بها لو أن أحداً مجد الإرهاب وشجع عليه بدعوى الحرية؟ لماذا يحاكم أبو حمزة المصري وهو لم يقم بأي عمل إرهابي بل اكتفى ـ كما يقول قاضيه ـ بالتشجيع على الإرهاب؟ لماذا لا تترك له الحرية ليقول ما يشاء ما دامت هذه الحرية يقبلها العالم كله؟ أعتقد أن المسألة ليست كما يزعمون بل إن حقيقة المسألة أن هؤلاء حاقدون على الإسلام وحكوماتهم تشجعهم على هذه الأعمال الدنيئة، وفوق هذا وذاك فإن ضعف المسلمين وضعف حكوماتهم يشجع هؤلاء وسواهم على الاستمرار في هذه البذاءات لأنهم لم يشاهدوا موقفاً قوياً يردعهم ويوقفهم عند حدودهم.
العالم الإسلامي وهيئاته كلها كانت مواقفها ضعيفة ومخجلة أيضا، فمنظمة المؤتمر الإسلامي وعلى لسان رئيسها الدكتور إحسان أوغلي اكتفت بالاستنكار وطالبت العالمين المسيحي واليهودي بإعلان موقفهما بصراحة من هذه القضية. أما أمين عام مجمع الفقه الإسلامي في جدة فقد اكتفى بالاستهجان والاستغراب مما فعلته تلك الصحف، ودعا الحكومة الدنماركية إلى وجوب تدارك الأمر حفاظاً على التعاون مع الدول العربية، أما الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي فقد أدانت "هذا العمل المشين" لأنه ـ كما نقول ـ يخدش مشاعر المسلمين!! ـ مجرد خدش ولا شيء أكثر من هذا ـ ودعت الأمانة الأسرة الدولية إلى وضع حد لهذه الممارسات المشينة.
إذن منظماتنا - بارك الله فيها - استنكرت وأدانت وشجبت، وهي بهذا استنفدت كل طاقاتها المخزونة، خاصة وأن الإنسان المستهدف هو رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فالذي فعلته يتناسب مع مكانته في نفوس المسلمين كلهم!. لم أسمع شيئا عن ردة الفعل العربية عدا أن وزارة الخارجية المصرية - وبحسب بعض الصحف المصرية - نقلت سفيرتها في الدنمارك - عقابا لها - لأنها تبنت مسألة الدفاع عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إزاء تلك الصحف السيئة.
الواضح أن المنظمات الإسلامية كلها لم تتبن موقفا مشرفا يعتبر الحد الأدنى من واجباتها تجاه كل مسلم وتجاه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، هذا التخاذل هو الذي شجع وسوف يشجع من يتمادى في الإساءة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لأن هؤلاء يشاهدون الهوان الإسلامي والعربي في أسوأ حالاته، ومن يهن يسهل الهوان عليه.
لا ألوم كثيرا أولئك الذين يسيئون للمسلمين بكل الصور ابتداء من احتلال أراضيهم وانتهاء بالسخرية من مقدساتهم لأن كل هؤلاء حاقدون على المسلمين ومقدساتهم لكنني أضع اللوم كله على البلدان الإسلامية والعربية والمنظمات الإسلامية كلها، كما أضع اللوم بعد ذلك على كل مسلم على وجه الأرض.
كان من واجب الحكومات الإسلامية ومنها العربية ألا تكتفي بالشجب فقد مللنا هذه اللغة التي لا تفيد بشيء، كان الأجدر بها أن تقطع علاقاتها بهاتين الدولتين، أو على أقل تقدير أن توقف كل علاقاتها التجارية معهما لأن هذه هي اللغة الوحيدة التي يحترمها هؤلاء، أما ما عداها فلا قيمة له على الإطلاق.
ومع أنني أكره الصهاينة وأفعالهم إلا أن هؤلاء يجبرون الآخرين على احترامهم لأنهم جادون وعمليون في كل قضاياهم مهما كانت صغيرة، ليت الحكومات الإسلامية تنظر إليهم كيف يعملون عندما يعتقدون أن هناك عملا - مهما كان - يسيء إلى معتقداتهم، السفير الصهيوني في السويد حطم عملا فنيا في متحف لأنه يمجد فلسطين، هل يجرؤ سفير عربي على القيام بمثل هذا العمل؟ الحكومة الصهيونية أقامت الدنيا ضد الرئيس الإيراني لأنه تحدث عن المحرقة اليهودية بما لا يعجبهم فلماذا تسكت الحكومات الإسلامية عن إهانة نبيهم ومعتقداتهم؟ لماذا لا يكونون مثل الصهاينة؟ هل نبيهم لا يستحق منهم أي عمل جاد؟، من العار أن نطالب حكومات المسلمين بأن تكون مثل الصهاينة وحكومتهم ولكن ماذا نفعل ونحن نشاهد كل هذا الهوان الذي يقودوننا إليه؟(12/58)
وإذا كانت تلك الحكومات قد اكتفت بالشجب والاستنكار فما هو دور المسلمين؟ أعتقد أن أقل شيء هو أن يقاطع كل مسلم أي منتج لهاتين الدولتين، وهناك بدائل كثيرة لكل منتج دنماركي أو نرويجي وحتى لو لم يكن هناك بدائل فكرامة رسولنا تستحق منا أن نقدم لها أرواحنا فضلا عن بعض المنتوجات التي لا تمثل لنا شيئا يذكر، وعلى الغرف التجارية في العالم الإسلامي كله أن يكون لها موقف مشرف في هذا الشأن أقله التعريف بالمنتجات التي تصدرها هاتان الدولتان وكذلك تشجيع التجار على مقاطعتهما مهما كانت النتائج.
إن التهاون في الشيء القليل سيقود حتما إلى التهاون فيما هو أكبر منه بكثير، والشواهد واضحة، أمامنا ضاعت بعض بلادنا، واستهزئ برسولنا وديننا والقادم أسوأ إن لم يتحرك كل منا وبقوة.
ومع كل هذا الظلام فإنني أعتقد جازما بقوله تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي)، وأعتقد أن الإسلام سينتصر لا محالة بنا أو بغيرنا لأن دين الله سيبقى عاليا لا محالة.
وما زلت متفائلا أن يتحرك المسلمون بجدية لإيقاف هذا المسلسل البذيء هم وحكوماتهم لأن سكوتهم يعني أن مسلسل الهوان لن يقف عند حد ويومها سيضيع الجميع.
*أكاديمي وكاتب سعودي
=======================
نبي الإسلام
الكاتب: د. جمال الحسيني أبوفرحة
في حديث كتب البراهمة والزرادشتية والصابئة
لا شك أن أثر محمد - صلى الله عليه وسلم – كان على البشرية عظيمًا حتى إن " مايكل هارت"-الكاتب المسيحي– قد وضعه - صلى الله عليه وسلم – على رأس المائة الخالدين في تاريخ البشرية من حيث تأثيرهم في التاريخ بصرف النظرعن كون هذا التأثير إيجابيًا أو سلبيًا؛ ومن ثمة فشخص مثله - صلى الله عليه وسلم – لا يكفي التبشير العام به في كتب الأنبياء إن كان صادقًا، كما لا يكفي التحذير العام منه إن كان كاذبًا، بل لابد من تسميته، وتفصيل صفته، حتى يعرفه أهل الكتاب ( كما يعرفون أبناءهم ) البقرة : 146 . . بل حتى يعرفه العالم أجمع ما دام أعلن إنه يحمل رسالة لجميع العالم ونجح في بثها بين جميع شعوبه، "وما دام الله ليس إله تشويش" 1كورنثوس : 33:14.
وهو ما حدث بالفعل فاسم الرسول العربي ( أحمد ) مكتوب بلفظه في "الساما فيدا" SAMA VIDA من كتب البراهمة؛ فقد ورد في الفقرات من السادسة إلى الثامنة من الجزء الثاني: إن "أحمد تلقى الشريعة من ربه، وهي مملوءة من الحكمة، وقد قبس منه النور كما يقبس من الشمس".
وكذلك في كتب زرادشت التي اشتهرت باسم الكتب المجوسية نجد في كتاب "زند أفستا" Z صلى الله عليه وسلم ND AV صلى الله عليه وسلم STA نبوءة عن رسول يوصف بأنه رحمة للعالمين، ويتصدى له عدو يسمى بالفارسية القديمة "أبو لهب" ويدعو إلى إله واحد لم يكن له كفوًا أحد، ولا ضريع، ولا قريع، ولا صاحب، ولا صاحبة، ولا أب، ولا أم، ولا ولد، ولا مسكن، ولا جسد، ولا شكل، ولا لون، ولا رائحة، ولا أول، ولا آخر.
والإشارة هنا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم – واضحة؛ فهو الذى وصفه القرآن بأنه (رحمة للعلمين) الأنبياء :107 . . وهو الذي نزلت عليه سورة "الصمد" متضمنة تلك المعاني المشار إليها في البشارة، وكان من أعدى أعدائه عمه أبو لهب الذي نزلت فيه سورة "المسد".
وفي الكتب الزرادشتية كذلك: إن أمة زرادشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون، وينهض رجل في بلاد العرب يهزم أتباعه فارس، ويخضع الفرس المتكبرين، وحينئذ يولون وجوههم نحو كعبة إبراهيم، التي ستكون قد تطهرت من الأصنام، ويومئذ يصبحون وهم أتباع للنبي رحمة للعالمين وسادة لفارس .....وإن نبيهم ليكونن فصيحًا يتحدث بالمعجزات.
ونبوءة خلافة العرب لملوك الفرس قد وردت كذلك في كتاب الصابئة المقدس "الكنزه ربه" في الكتاب الثامن عشر؛ كما ذكر في نفس هذا الكتاب أن ملك العرب المسمى "سيهولدايو" : أي تالي الأنبياء أو خاتمهم، سيخرج في زمن ملك للفرس يسمى "ازدجر" وهو ما كان بالفعل بالنسبة لرسولنا - صلى الله عليه وسلم – هذا قيل من كثير لا يتسع المقام إلا للتمثيل له.
فصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: ( ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) الرعد43 .
د. جمال الحسيني أبوفرحة
أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
gamalabufa صلى الله عليه وسلم ha@yahoo.com
======================
نحري دون نحرك يا رسول الله ...
17/12/1426
إبراهيم بن صالح الدحيم(12/59)
شرت صحيفة (جلاندز بوستن) الدنمركية يوم الثلاثاء 26/8/1426هـ (12) رسماً كاريكاتيرياً ساخر.. بمن يا ترى؟! هل كان ذلك بمسؤول كبير.. بجنرال.. برئيس دولة... بل كان ذلك بأعظم رجل وطأت قدماه الثرى، بإمام النبيين وقائد الغر المحجلين صلى الله عليه وسلم. صور آثمةٌ وقحةٌ وقاحة الكفر وأهلة، أظهروا النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى هذه الرسومات عليه عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأسه!! وكأنهم يريدون أن يقولوا إنه – مجرم حرب – "أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ" (الأنعام: من الآية31).
ثم في هذه الأيام وفي يوم عيد الأضحى بالتحديد – إمعاناً في العداء - تأتي جريدة (ما جزينت) النرويجية لتنكأ الجراح وتشن الغارة من جديد، فتعيد نشر الرسوم الوقحة التي نُشرت في المجلة الدنمركية قبل! "أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ" (الذاريات:53).
بالله ماذا يبقى في الحياة من لذة يوم ينال من مقام محمد صلى الله عليه وسلم ثم لا ينتصر له ولا يذاد عن حياضه. ماذا نقول تجاه هذا العداء السافر، والتهكم المكشوف.. هل نغمض أعيننا، ونصم آذاننا، ونطبق أفواهنا.. لا وربي.. لا يكون ذلك ما دام في القلب عرق ينبض. والذي كرَّم محمداً وأعلى مكانته لبطن الأرض أحب إلينا من ظاهرها إن عجزنا أن ننطق بالحق وندافع عن رسول الحق. ألا جفت أقلام وشُلت سواعد امتنعت عن تسطير أحرفٍ تذود بها عن حوضه صلى الله عليه وسلم وتدافع عن حرمته.
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم فداء.
ونحن إذ ندافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحمي بذلك ديننا وعقيدتنا، ونؤكد شيئاً من حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم..
إن مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيع برفعة الله له، لن ينال الشانئ منه شيئاً "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ" (الشرح:4).
قال مجاهد: لا أذكر إلا ذكرت معي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله. نعم لقد رفع الله ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم رغم أنوف الحاقدين والجاحدين، فهاهم المسلمون يصوتون باسمه على مآذنهم في كل مكان.
والله تعالى قد تولى الدفاع عن نبيه صلى الله عليه وسلم "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا" (الحج: من الآية38)، وأعلن عصمته له من الناس "وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" (المائدة: من الآية67)، وأخبر أنه سيكفيه المستهزئين "إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ" (الحجر:95)، سواء كانوا من قريش أو من غيرهم. قال الشنقيطي رحمه الله: وذكر – الله – في مواضع أخرى أنه كفاه غيرهم كقوله في أهل الكتاب: "فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ" (البقرة: من الآية137)، وقال: "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ" (الزمر: من الآية36). وقال ابن سعدي رحمه الله: "وقد فعل –تعالى-، فما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة.أهـ أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل وابن مردويه بسند حسن والضياء في المختارة، عن ابن عباس في قوله: "إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ" قال: المستهزئون، الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عبطل السهمي والعاص بن وائل، فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرني إياهم، فأراه كل واحد منهم، وجبريل يشير إلى كل واحد منهم في موضع من جسده ويقول: كَفَيْتُكَهُ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما صنعت شيئاً!. فأما الوليد، فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً فأصاب أكحله فقطعها. وأما الأسود بن المطلب، فنزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بنيّ، ألا تدفعون عني؟ قد هلكت وطُعنت بالشوك في عينيّ فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً فلم يزل كذلك حتى عتمت عيناه. وأما الأسود بن عبد يغوث، فخرج في رأسه قروح فمات منها. وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منه. وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل من أخمص قدمه شوكة فقتلته.(الدر المنثور 5/101)
لقد أعظمت قريش الفرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرمته بالسحر تارة وبالكذب تارة وبالجنون أخرى، والله يتولى صرف ذلك كله عنه لفظاً ومعنىً، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا ترون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً، وأنا محمد"، وهكذا هذه الرسومات التي نشرت على هذه الصفحات السوداء، هي - قطعاً - لا تمثل شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هي صور أملاها عليهم خيالهم الفاسد، واعتمدها الشيطان ورسمها لهم السامري!. أما محمد صلى الله عليه وسلم فوجهه يشع بالضياء والنور والبسمة والسرور، لم يستطع أصحابه - رضي الله عنهم - أن يملئوا أعينهم منه إجلالاً له - وقد عاصروه - فكيف بمن لم يجمعه به زمان ولم يربطه به خلق ولا إيمان؟!(12/60)
لقد جاء خبر الصدق من الملك الحق المبين "إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ" (الكوثر:3) ليبقى كل شانئٍ للنبي صلى الله عليه وسلم وكل معارض لدينه هو الأبتر المقطوع المنبوذ. أين أبو جهل؟ هل بقي ذكره أم التصق به وصف الجهل في حياته وبعد مماته؟! وأين أبو لهب؟ لقد مات ومات ذكره فليس يعرف إلا باللهب؟! و"سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ" (المسد:3)، وأين ملوك الأكاسرة والقياصرة.. أين ماركس ولينين وهتلر وكمال أتاتورك... لقد طمرتهم الأرض ونُسيت رسومهم، ولحقتهم اللعنات، وباءوا بثقل التبعات.
لقد مزق كسرى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسخر من رسوله، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمزق الله ملكه، فمزّق وقتل على يد أقرب الناس إليه– ابنه –! وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس قال: "كان رجل نصراني، فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانياً، فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فِعْل محمدٍ وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه".
علَّق شيخ الإسلام ابن تيمية على الحديث فقال: فهذا الملعون الذي قد افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدري إلا ما كتب له، قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مراراً، وهذا أمر خارج عن العادة، يدل كل أحد على أن هذا كان عقوبة لما قاله، وأنه كان كاذباً..الخ، ويقول أيضا رحمه الله: "وإنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد، ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول، أهل الفقه والخبرة، عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه. وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل الغرب – يعني المغرب - حالهم مع النصارى كذلك.أهـ (الصارم المسلول ص 116-117).
وبالمقابل فقد علم بعض ملوك النصارى أن إكرام كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي فيه الملك ما شاء الله. ذكر السهيليُ أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيماً له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سِبطه، فحدثني بعضُ أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر، وسأل أن يمكِّنه من تقبيله فامتنع.
ثم ذكر ابن حجر عن سيف الدين فليح المنصوري أن ملك الفرنج أطلعه على صندوق مُصفَّح بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتاباً قد زالت أكثر حروفه، وقد التصقت عليه خِرقَة حرير، فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤُنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال المُلْك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا" أهـ.
إن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم لا تكاد تحصى كثرةً فهو منّة الله على هذه الأمة "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ" (آل عمران: من الآية164)، امتدحه ربه ورفع منزلته فهو أول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة، وله المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، والحوض المورود.. إلى غير ذلك من الفضائل والخصائص التي اختص بها عن غيره، وهي مدونة في كتب الدلائل والشمائل والخصائص والفضائل، لقد شهد بفضل نبينا صلى الله عليه وسلم القاصي والداني والصديق والعدو، وأنَّى لأحد أن يكتم فضائله صلى الله عليه وسلم وهي كالقمر في ضيائه، وكالشمس في إشراقها، ولعلّي أورد شيئاًً مما نطق به عقلاء القوم في مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وعلو منزلته وسطرته أيديهم راغبين غير راهبين، مختارين غير مكرهين - ونحن إذ نورد شيئاً من كلامهم لا نورده حاجةً منا إليهم لتزكية المقام المحمدي فقد زكاه ربه وطهَّره ونقَّاه، وإنما نورد ذلك من باب "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا" (يوسف: من الآية26)، ونورده – تنزلاً – مع مفتونٍ لا يقرأ إلا بالعجمية ولا يفهم إلا لغة أهلها؟! نخاطبه بلغته التي أعجب بها وهام في حبها-..(12/61)
يقول البروفيسور (راما كريشنا راو) في كتابه (محمد النبيّ): "لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها. ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة. فهناك محمد النبيّ، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلاً".
ويقول (مايكل هارت) في كتابه (مائة رجل في التاريخ): إن اختياري محمداً، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.
وأخيراً: ما هو دورنا؟
إن على كل مؤمن يحب الله ورسوله ويغار لدينه أن ينتصر لرسوله وأن يقدم كل ما في وسعه لرد هذه الهجمة الشرسة. على الدول الإسلامية أن تهب لنصرة نبيها وأن تستنكر ذلك أشد الاستنكار وأن ترفع عقيرتها بالاستنكار والتنديد والمطالبة الجادة وذلك في المؤتمرات والمحافل العامة رعاية لحق من أهم حقوقها. وعلى المؤسسات أن تقوم بدورها من خلال كتابة بيانات تستنكر فيه هذا الفعل المشين، وتطالب بمحاكمة هذه المجلات؛ رداً لاعتبار أكثر من مليار وأربعمائة مليون مسلم!، ثم على المؤسسات والصحف والمجلات والمواقع الإسلامية أن تكتب رداً على هذه الافتراءات، وأن تسطر على صفحاتها- بقلم يسيل عطراً- شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تبين الدور العظيم الذي قام به صلى الله عليه وسلم لإنقاذ البشرية وأنه أُرسل(رحمة للعالمين) وهداية للناس أجمعين.
لقد أحزنني كثيراً يوم دخلت على عدد من المواقع الإسلامية وكنت أتصور أن أجد فيها تفاعلاً يناسب ضخامة الحدث وعظم الهجمة، فرأيت أقل مما كنت أرجوه، بل إن قلت أن عدداً من المواقع لم تعرض للخبر أصلا؟! وهذا أمر يحزن ويزيد من جرأة المعتدين...
ولعلّي أختم الحديث بذكر قصيدة للشيخ جمال الدين الصرصري، الذي قال عنه ابن كثير: الصرصري المادح، الماهر، ذو المحبة الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يشبه في عصره بحسان بن ثابت رضي الله عنه. يقول:
محمد المبعوث للناس رحمةً *** يشيِّد ما أوهى الضلال ويصلح
لئن سبَّحت صُمُّ الجبال مجيبةً *** لداود أو لان الحديد المصفح
فإن الصخور الصمَّ لانت بكفه *** وإن الحصا في كفه ليُسَبِّح
وإن كان موسى أنبع الماء بالعصا *** فمن كفه قد أصبح الماء يَطفح
وإن كانت الريح الرُّخاءُ مطيعةً *** سليمان لا تألو تروح وتسرح
فإن الصبا كانت لنصر نبينا *** ورعبُ على شهر به الخصم يكلح
وإن أوتي الملكَ العظيم وسخِّرت *** له الجن تسعى في رضاه وتكدح
فإن مفاتيح الكنوز بأسرها *** أتته فرَدَّ الزاهد المترجِّح
وإن كان إبراهيم أُعطي خُلةً *** وموسى بتكليم على الطور يُمنح
فهذا حبيب بل خليل مكلَّم *** وخصِّص بالرؤيا وبالحق أشرح
وخصص بالحوض الرَّواء وباللِّوا *** ويشفع للعاصين والنار تَلْفح
وبالمقعد الأعلى المقرَّب ناله *** عطاءً لعينيه أَقرُّ وأفرح
وبالرتبة العليا الوسيلة دونها *** مراتب أرباب المواهب تَلمح
ولَهْوَ إلى الجنات أولُ داخلٍ *** له بابها قبل الخلائق يُفْتَح
هذا وأسأل الله أن يعلي دينه وينصر كتابه
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وأله وصحبه أجمعين .
صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم dd@gawab.com
===============
نحري دون نحرك يا رسول الله
مشاركة من الأخت / صدى الدعوة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :
فإنه قد آلمني كما آلم الكثير من المسلمين ما نشر عن حبيبنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من رسوم تسيء له وتقدح في شخصيته عن طريق رسوم كاريكاتيرية نشرت في صحيفتي :( جلاندز بوسطن ) الدنمركية و( ماغازينت ) النرويجية ولا يخفى على الجميع أن هذه الرسوم إنما نشرت لاستفزاز المسلمين وتهيج مشاعرهم والقدح في اعز وأغلى ما يفتخرون به ويعتبرونه قدوة لهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك فإنني قررت بأن أسخر قلمي للدفاع عن سيد الخلق وأزكاهم وأطهرهم محمد صلى الله عليه وسلم وأن أبرز لهؤلاء بعض صفاته التي اتصف بها وحباه الله بها ليعلموا مكانته العظيمة صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين ويتوقفوا عن هذا العبث ويبادروا بالاعتذار للمسلمين عما بدر منهم .
أولاً : كان النبي صلى الله عليه وسلم جامع لمكارم الأخلاق فقد اجتمع فيه شكر نوح ، وخلة إبراهيم ، وإخلاص موسى ، وصدق وعد إسماعيل ، وصبر يعقوب وأيوب ، واعتذار داود ، وتواضع سليمان وعيسى ، وغيرها من أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
لكَّل نبيًّ في الأنامِ فضيلة وجملتها مجموعة لمحمدِ(12/62)
ثانيًا : إن رسولنا الكريم قد أوتي جوامع الكلم ، لأنه مبعوث ليتم مكارم الأخلاق كما قال عليه الصلاة والسلام ] إنما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق [ ولذلك قال الله تعالى : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) . و قد عرضت عليه مفاتيح الأرض فلم يقبلها، ورقَّاه الله ليلة المعراج، وأراه جميع الملائكة والجنَّة فلم يلتفت إليها قال تعالى: ( ما زاغ البصر وما طغى ).
ثالثًا : كان صلى الله عليه وسلم لشدة حيائه لا يواجه أحدًا بما يكره ، بل تعرف الكراهية في وجهه ، كما في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءًا من العذراء في خدرها ، فإذا رأى شيئًا يكرهه ، عرفناه في وجهه .
رابعًا : كان صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله ، وأعذبهم كلامًا ، وأسرعهم أداءً ، وأحلمهم منطقًا ، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ، ويسبي الأرواح ، ويشهد له بذلك أعداؤه ، وكان إذا تكلم تكلَّم بكلام مفصل مبيَّنٍ يعدُّه العادُّ ، ليس بهذًّ مسرعِ لا يحفظ ، ولا منقطع تتخلله السكتات بين أفراد الكلام ، بل هديه فيه أكمل الهدي ، قالت عائشة : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّنٍ فَصْلٍ يحفظهُ من جلس إليه .
خامسًا : كان صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفُّؤًا ، وكان أسرع الناس مشيةٍ ، وأحسنها وأسكنها .
قال أبو هريرة: ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأن الشمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحدًا أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنما الأرض تُطوى له ، وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مُكترِث .
سادسًا : سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه فقالت : (( كان خلقه القرآن )) تعني : أنه تأدب بآدابه وتخلق بأخلاقه ، فما مدحه القرآن كان فيه رضاه ، وما ذمه القرآن كان فيه سخطه وجاء في رواية عنها قالت : كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه .
سابعًا : أن هؤلاء الذين كذبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم سوف ينالون جزائهم من رب العالمين فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من كذب علي متعمدًا فليتبؤا مقعده من النار )) .
وأخيرًا : أسأل الله العلي القدير أن أكون قد وفقت للدفاع عن رسولنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم فيا رب يا من بيده ملكوت السموات والأرض اعف عني إن قصرت في نصرة حبيبك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين يا قوي يا عزيز اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم فأشغله في نفسه ورد كيده في نحره واجعل تدميره وبالاً عليه يا رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وصلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
======================
نحن والآخر من يملك الحقيقة؟
الكاتب: سعد الصويان
إن كنا جادين في حوارنا مع الآخر، فالحوار البناء له شروط ومتطلبات. أولها أننا إذا جلسنا معهم نجلس على طاولة مستديرة وإن وقفنا نقف على قدم المساواة، وأن نقر بمبدأ تبادل الأدوار، بمعنى أن ندرك أننا "آخر" من منظورهم هم مثلما أنهم "آخر" من منظورنا، وأنهم يعتبرون أنفسهم "نحن" مثلما أننا نعتبر أنفسنا "نحن". والهدف من الحوار ليس تغيير المواقف وإقناع الآخر بتبني مواقفنا جملة وتفصيلا والذوبان في "نحننا"، وإلا تحولت العملية إلى حمل لواء الدعوة والتبشير الديني بدلا من السعي إلى حوار حضاري حقيقي. الهدف من الحوار هو تفهّم المواقف وليس تغيير المواقف، أن يفهم الآخر مواقفنا ونفهم مواقفه والدوافع وراء هذه المواقف ومن ثم البحث عن أرضية مشتركة تمكننا من التعايش بسلام رغم اختلاف المواقف والمنطلقات.
من لديه قناعة تامة بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة لا يمكنه الدخول في حوار مثمر مع أي طرف آخر لأن الطرف الآخر أيضا له مواقفه التي تخدم مصالحه وقناعاته التي تتماشى مع طريقته في التفكير. الذهنية التي ترى أن قناعاتها فقط هي الصحيحة وما خالفها من القناعات خاطئة هي أقرب إلى الذهنية البدائية التي تؤمن بالمطلق وترفض التعددية. لقد أدرك العالم المتحضر بعد صراع طويل مع المطلق أن كل شيء مرهون بزمانه ومكانه وظروفه التاريخية والبيئية، وأن الأمور في نهاية المطاف كلها نسبية، من النسبية الرياضية التي نادى بها أينشتاين إلى النسبية الثقافية التي نادى بها الأنثروبولوجيون. أضف إلى ذلك نظرية التطور التي تقول إن التغير سنة من سنن الكون الذي لا يمكن الوقوف في وجهه. وبذلك تحولت نظرتهم إلى العالم من نظرة سكونية إلى نظرة ديناميكية حيوية لها القدرة على التكيف والتعامل مع التغير والتعددية.(12/63)
إنه لمن المكابرة وقصر النظر أن نتجاهل ما توصل إليه الآخر من إنجازات حضارية حققها بعد كفاح مرير وتضحيات جسيمة ونتوقع منه كي يجارينا في حوارنا معه أن يعود أدراجه في التاريخ إلى الوراء ويتقهقر إلى تلك المرحلة من ماضيه التي كان فيها تفكيره آنذاك يتمشى مع تفكيرنا الآن وسلوكه يتمشى مع سلوكنا. من يعيش في مجتمع يحكمه القانون وتسوده العدالة وتتحقق فيه كرامة الفرد وحقوق الإنسان وحرية التعبير والتفكير لا يمكن أن يتراجع عن كل هذه المكتسبات ويعود القهقرى لينفض الغبار عن قناعات خبرها وكافح ليتخلى عنها ويودعها إلى غير رجعة. ومن المضحك والمستهجن، في نظر الآخر، أننا بينما نسمح لأنفسنا أن نستمتع وبشراهة منقطعة النظير بكل ما تنتجه مصانعه من أجهزة ومعدات فإننا في الوقت نفسه نرفض وننكر ما يقف وراء هذه المنجزات التقنية من علم وفكر، بل إن منا من يوظفها في محاربة هذا العلم والفكر الذي يقف وراءها وفي تكريس التخلف ونشر الدمار بدلا من تعمير هذا الكون الذي هو أعظم مسؤولية ألقاها الخالق على عاتق الإنسان وأعظم كرامة كرمه الله بها.
ولا ننس أن الآخر مؤهل للحوار معنا أكثر مما نحن مؤهلون للحوار معه. لماذا؟ لأننا لا نعرف عنه شيئا بينما هو يعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا. علينا أن نعترف بأن اكتشافنا لكنوز حضارتنا جاء عن طريق مدارس الاستشراق التي نبهتنا لهذه الكنوز ونحن عنها غافلون. أليس علماء الآثار عندهم هم الذين نبشوا حضارات الشرق القديم؟ ألم نزل مضطرين للجوء إلى خبرائهم وما يصدر عن مؤسساتهم الأكاديمية ومراكز الأبحاث ودوائر الاستخبارات عندهم لمعرفة أي شيء نريد معرفته عن شعوبنا وأوطاننا وثرواتنا وعن مجتمعنا وثقافتنا؟ ألسنا نرتجف خوفا من مقاطعتهم لنا قناعة منا أننا لا نستطيع تدبر أمورنا وتسيير شؤون حياتنا من دون مساعدتهم لنا؟ من منا أكثر حاجة إلى الآخر؟ بل من منا حقيقة هو الآخر؟ كم لدينا في جامعاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية من كلية، أو حتى قسم، لدراسة الثقافات والمجتمعات والأمم الأخرى؟ كم لدينا من الخبراء المحليين الذين يجيدون التعامل والتحدث مع الشعوب الأخرى؟ بل إننا لم نلتفت حتى الآن لدراسة مجتمعاتنا وثقافاتنا دراسة أكاديمية جادة. إننا ندرس اللغة الفصحى لكننا لا ندرس اللهجات المحلية، ندرس الدين لكننا لا ندرس المعتقدات الشعبية، ندرس الثقافة الرسمية لكننا لا ندرس الثقافات التقليدية، ندرس تاريخ الدول والملوك لكننا لا ندرس تاريخ الشعوب والمجتمعات، وهلم جرا. ليست لدينا معرفة موثوقة بواقعنا الاجتماعي ولا نعرف حقيقة كيف يفكر معظم الناس عندنا ولا بماذا يفكرون ولا ماذا يريدون. بل من منا أصلا يستطيع أن يقول ما يعتقده أو يعبر صراحة عما يفكر فيه! لا يزال خطابنا في كل المجالات مشبعا بالمقولات الرنانة ومثقلا بالشعارات الطنانة ومسكونا بهاجس الخوف والرقابة الذاتية، وما زلنا بعيدين عن مرحلة التفكير الحيادي الموضوعي الحر الذي يبحث عن الحقيقة وبس.
غالبيتنا لديها قناعة بأن الولاء الحقيقي للوطن والتمسك الصادق بالدين هو أن يكون كل واحد منا نسخة كربونية من الآخر في كل شيء، ليس فقط في التفكير والمعتقد، بل حتى في المأكل والمشرب والملبس وكل مناحي السلوك، وأي خروج عن هذا المسار الضيق يعد شذوذا وتحريفا للصورة الأصل. إذا افتقدنا التسامح فيما بيننا فكيف لنا أن نكون متسامحين مع الآخر! هاهي مآذننا تصدح في عواصمهم وهاهي الجاليات المسلمة تنشط في بلدانهم وترفع صوتها عاليا في الهواء الطلق، بينما نحرم نحن على من يقيم منهم بين ظهرانينا أن يحتفل بمناسباته الدينية في بيته خلف الجدران والأبواب المغلقة. وها نحن نلعنهم في صلواتنا ونفرٌ منا يمتشقون السيوف والعبوات الناسفة ليجبروا الناس على الدخول في حظيرة الدين بينما هم يبنون المستشفيات ويقدمون المساعدات الإنسانية ويصلون للمنكوبين. لا يمكننا فصل الدين عن الحضارة، فالمجتمعات المتحضرة تمارس دينها، أيا كان ذلك الدين، وتدعو إليه وفق أساليب متحضرة وتقدمه كخيار حر لمن يجد فيه ما يروي ظمأ الروح ويقود إلى طمأنينة النفس ويلبي حاجة الوجدان ونوازع الضمير.(12/64)
هذا الحديث عن الحوار مع الآخر ليس مجرد شطحات نظرية فأنا لا أتحدث من فراغ وإنما من رصد ومراقبة للأحداث. لكنني لا أجرؤ على إيراد الأمثلة التي تبين مدى ما نبذله كأمة من جهد على الساحة الدولية في محاولاتنا لشرح مواقفنا وإقناع الآخرين لتفهم وجهة نظرنا، لكننا في المقابل لا نبذل أي جهد يذكر لتفهم وجهة نظر الآخرين ومواقفهم. ولنترك الساحة الدولية جانبا ونلتفت إلى المشهد المحلي. أليس ما حدث في معرض الكتاب الأخير خير دليل على عدم قدرتنا على الدخول في حوار حضاري بناء ومفيد فيما بيننا؟ وهذه الساحات تعج بالكتابات التي يندى لها الجبين من سب وقذف وتجريح لشخصيات اجتماعية وقادة فكر ومسؤولين كبار لمجرد الاختلاف معهم في الرأي أو التوجه.
من يمارس الكتابة الصحافية يدرك ما نعانيه من افتقار إلى أدبيات الحوار من الردود التي يتلقاها والمداخلات والتعليقات. أنا هنا لا أتكلم عن الاختلاف في وجهات النظر، فهذا أمر مسلم به، بل مطلوب. إنني أتحدث عن الأساليب والطرق التي يعبر بها البعض عن اختلافهم معك، أساليب فجة وغوغائية. والمؤسف أن هذه الأساليب ليست حكرا على خط فكري معين أو توجه محدد، بل سمة عامة. إننا في معظم الأحوال متشنجين في حواراتنا وطروحاتنا مهما كانت القضية المطروحة ومهما كان أسلوب الطرح. ولأتحفكم ببعض من الأدواء التي تجرعتها. فحينما كتبت عن موضوع كنت أظنه مسالما وحياديا، وهو موضوع انحسار البداوة كتب لي أحدهم (هل الحضارة هي الأيديولوجيا والإيكولوجيا والأنثروبولوجيا التي ترددها مدعيا الثقافة! إذا كنت تعتقد أن القبائل البدوية اختفت من الوجود فمد يدك أو تلفظ على طفل من أطفالهم يا مستر صويان)، هذا مع العلم أنني لم أتطرق إلى هذه اليولوجيات التي سردها المعلق، ومع ذلك أسأل: إن لم تكن هذه اليولوجيات جزءا أصيلا من الثقافة، فما الثقافة إذن؟! وحينما كتبت عن الإبل الذي كنت أظن أيضا أنه موضوع لا يسيء إلى مشاعر أي أحد، علق أحدهم يقول (إذا كان تخصص البدوي استيلاد الإبل فما هو تخصصك يا مستر صويان؟ تتخبط بمقالات عديمة القيمة والهدف، كثيرا ما تكتب عن البدو! هل هذا تخصصك أم هو الحقد الدفين؟ قابلهم وجها لوجه لتختبر رجولتهم). كيف يمكن الدخول في حوار مفيد مع إنسان يسمح لنفسه بالنزول إلى هذا المستوى في مخاطبة شخص بريء من دمه وعرضه؟! أما حينما كتبت مقالا بعنوان "رايات الإصلاح بدأت ترفرف", علق أحد القراء بما يلي (لكي يقبل الناس فلسفتك منتهية الصلاحية فعليك ألا تخجل من وضع صورتك الحقيقية) فما دخل صورتي بالفكر الذي أطرحه؟! أما من علق على مقالي: "الديمقراطية نسخة عربية معطلة"، بالقول (يا سخف مقالاتك، هذه لوثة الغرب، أنفقت عليك البلد لتقدم مخترعات وإذا بك تأتي بفكر خرب) فإنني لا ألومه حيث يبدو أنه يعاني حساسية جلدية ضد الديمقراطية.
لكن مع ذلك تبقى هناك حلقة فضية مضيئة تحيط بهذه السحابة الداكنة. فقد تلقيت العديد من ردود الفعل الإيجابية والمهذبة. وأنتهز الفرصة لأوضح للقراء الذين يرسلون تعليقاتهم عبر رقم الجوال الذي يظهر أسفل المقال أن رسائلهم تصلني عن طريق الجريدة دون أن تظهر أرقامهم مما يعني أنني لا أستطيع الرد عليهم أو تلبية طلباتهم, فعذرا لهم مع جزيل الشكر.
صحيفة الإقتصادية السعودية
=======================
نحورنا دون نحرك يا رسول الله
أ. د. عبدالعزيز بن إبراهيم العُمري *
فوجئ المسلمون جميعاً خلال الأسابيع الماضية بما نشر في صحيفة دنماركية من سخرية متعمدة طالت نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ومست قلوب وأرواح المسلمين في أصقاع الأرض دون استثناء بشتى طوائفهم واختلاف انتماءاتهم، إن هذه الرسوم المتعمدة والتهكم الواضح ليس لها من تفسير إلا الحقد الدفين والكره للرسول ولكل من ينتمي لهذا الرسول صلى الله عليه وسلم.. وقد تسارعت الأحداث المرتبطة بالحدث.
ومما يثير السخرية أن الجهات المسؤولة في الدنمارك لم تعط الحدث ما يستحق فقد زعموا أن هذا من باب حرية التعبير وكأنهم يعطون أنفسهم تاجاً من الحرية نحن لا نعرفه ويضعون احتراماً لأنفسهم ومبادئهم، وكأننا لا نقدر المثل وما يحملون من قيم. إن حرية التعبير المزعومة التي يتذرعون بها يدركها جميع المسلمين وغيرهم، لكن السخرية بالآخرين باسم التعبير ليس لها مكان بيننا.. إننا في العالم الإسلامي دافعنا سابقاً عن المسيح عليه السلام حينما سخرت منه بعض الأفلام الإباحية الأوروبية، فدافعنا عنه كما ندافع الآن عن محمد صلى الله عليه وسلم.(12/65)
أين الدنمارك ودول أوروبا وغيرها من حرية التعبير حينما يتحدث الناس عن قضية محرقة اليهود على أيدي النازيين في ألمانيا وهي قضية تاريخية قابلة للمناقشة، لكن قوانين حرية التعبير المزعومة تمنع أي مناقشة للموضوع أو بحث علمي ذي صلة بالقضية أما الإساءة للإسلام والمسلمين وبالكاريكاتير وبأعز شخصية لدى المسلمين بل لدى البشر وبرسوم خيالية حسب مزاج فنان منحرف فهذا من حرية التعبير. وبمتابعة الحدث نجد أن هناك محاولة اعتذار من قبل المسؤولين الدنماركيين على مستوى رئيس الوزراء والوزراء والسفراء لكنها في مجملها وبقراءتها توحي أن فيها تعالي واستكبار عن مجرد الاعتذار فكلها تعلن احترامها للأديان والمعتقدات والرموز الدينية هكذا إجمالاً، لكن الواقع أنه لا يوجد فيها ما يؤكد الاعتذار عما صار أو عمل في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لكنها إعلان لمبادئ عامة وما جرى وما حدث في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مخالف لتلك المبادئ المعلنة وكأنه لا يستحق الإشارة إليه مباشرة وما عمل في حقه صلى الله عليه وسلم أو الاعتذار عن ذلك.
إن تفاعل المسلمين مع الحدث تفاعل إيجابي وإعلان حقيقي للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزء من حقه علينا وهو صاحب الفضل الأعلى على الإنسانية جميعاً {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وعلى من آمن به على وجه الخصوص وقلوب المسلمين دون استثناء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حي في قلوبنا وذكره مرفوع كما قال الله وهو السميع العليم {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}، أما المستهزئون {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}، وكأن هذه الآيات لا تخص حياته مع قريش بل تمتد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
إن التفاعل مع الحدث لم يتوقف على المسلمين فقط بل بادرت عدد من الشركات الأوروبية العاملة في العالم الإسلامي بالبراءة مما حدث وبالإعلان في الصحف عن هويتها حتى لا يقع الخلط بينها وبين الشركات الدنماركية التي لم تمارس ضغطها كما يجب لاستخراج الاعتذار مما حدث لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الدنماركيين وهذا هو المطلوب، وليس المطلوب هو التصريح العام المائع عن احترامهم لكافة الأديان هذا شأنهم، أما نحن فنبينا صلى الله عليه وسلم شأننا وروحنا وشعورنا.
وفي هذا الموقف لا يسعنا إلا الشكر والدعاء لكل من ساهم في الدفاع عن الرسول من السفراء المسلمين والجاليات المسلمة في الدنمارك، كما لا ننسى تصريحات مجلس الشورى ومجلس الوزراء في المملكة العربية السعودية الذين عبروا عن ضمير وطنهم مهد الرسالة ومواطنيهم حملة الإسلام وأهل النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه.
كنا في اجتماع خاص ضم عدداً من المثقفين من مشارب مختلفة اتضح أن بعضهم حين الحديث عن الإساءة للنبي صلى الله عليه وسلم غير مكترث مما حدث وأنه وأمثاله لا يريدون ردة الفعل التي تمس الغرب ومصالحه، واستنكر ذاك الشخص الحملة على الدنمارك، وألمح أنها ربما تستخدم من قبل المنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية لمعاقبة المملكة بسبب مقاطعة تجارة الدنمارك، فرد عليه بعض الحضور بأن المقاطعة هي شعبية وهي من حرية الناس وليست حرية التعبير فقط التي يتنطع بها المسؤولون الدنماركيون في مناقشتهم للموضوع، وأن الغرب يدركون المقاطعة الشعبية، وأن الشعوب المسلمة أكثر منك إدراكاً للحدث. وإذا كان هذا وأمثالهم ممن ينتمون لنا يسلبوننا حق الدفاع عن نبينا بل وفي نظرهم ربما يخافون علينا من غضب الغرب لأننا غضبنا من سب نبينا ويتعلقون بذلك ويحاولون أن يظهروا فهماً للقوانين الدولية فنقول: أفهمونا أولاً قبل أن تزعموا أنكم الأفهم في العلاقة مع الغرب كونوا معنا ولا تكونوا علينا أين أنتم من فهم مجتمعكم الذي أرضعكم اللّبن، ووطنكم الذي غذاكم وحماكم وحتى الآن لا تعرفون مكانة محمد صلى الله عليه وسلم عند أهل هذا الوطن الذي تنتمون إليه وعند شعوب العالم الإسلامي فإما أنكم لا تفهمون أو تتجاهلون والأخرى أعظم {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ} أين أنتم من شعور آبائكم وأمهاتكم وإخوانكم، وجيرانكم وأهلهكم، أين أنتم ممن يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم؟.
إن كنتم لا تشعرون وأنتم تعيشون بين المسلمين ومحسوبون معهم ولم يحرك فيكم سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ساكناً وتحاولون الدفاع عن موقف الدنمارك، كما قال حسان بن ثابت:
أمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم فداء
وكما قالت عاتكة بنت عبدالمطلب:
سيكفي الذي ضيعتم من نبيكم
وينصره الحيان عمرو وعامر (تقصد الأنصار)
وأقول كما قال حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم:
فيا ويح من أمسى عدو محمد
لقد جار عن قصد الهوى وتخيرا
وكما قال كعب بن مالك:
شهدنا بأن الله لا رب غيره
وأن رسول الله بالحق ظاهر(12/66)
وأكرر دائماً نحورنا دون نحرك يا رسول الله.
وأحذر من دول أوروبية تحاول عمل الشيء نفسه حتى تبعثر الجهود وتضيع وتميع المقاطعة لتنقذ الدنمارك من ورطتها التي جلبتها لنفسها فعلينا الانتباه لذلك والله المستعان.
* عضو المجلس البلدي بالرياض
========================
نصائح منهجية لطالب علم السنة النبوية
تأليف الشريف حاتم بن عارف العوني
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وصلى الله أفضل صلاة وأكمل تسليم على سيد ولد آدم المبعوث رحمة للعالمين محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وأصحابه والتابعين:
أما بعد: فإن طلب العلم من أعظم العبادات، وثوابه يفضل ثواب أكثر القربات، وسبل تحصيله سبل الجنات، تظله الملائكة فيها بأجنحتها خاضعات، وتنزل على مجالسه السكينة والرحمات.
فرضي الله عن سهر تلك الليالي في الجد والتحصيل، وأنعم بتلك الخطى في طلب علوم التنزيل، وأعظم بالزاهدين إلا في ميراث النبوة، الهاجرين المضاجع والأوطان الآخذين الكتاب بقوة.
فإن عجب أحد من هذا الثناء القليل، في طالب العلم الجليل ؛ سألته بالله:
هل دبت على وجه الأرض خطى أشرف من خطى طالب علم ؟!
وهل حوت الأسحار والأبكار أجد منه في طلبه ؟! وهل مر على الأسماع ألذ من دندنة المتحفظين وزجل القارئين ؟! وهل امتلأت القلوب هيبة لمثل منكب على كتاب ؟! وهل انشرحت الصدور إلا في مجالس الذكر ؟! وهل انعقدت الآمال جميعها إلا على حلق التعليم ؟! وهل نزلت السكينة والرحمة على مثل الدارسين لكتاب الله العظيم ؟! وهل تضاءلت عروش الملوك إلا عند منابر العلماء ؟! وهل عمرت المساجد في غير أوقات الصلوات بمثل مجالس التعليم ؟!
أخبروني ؟ بالله عليكم!!!
ثم أسألكم بالله: هل تعلمون خيراً من شاب في هذا العصر، هجر الدنيا وزهد ملذاتها، ونأى بعيداً عن شهواتها، وانعزل عن فتنها التي تستفز الحليم، وانقطع عن إغواءاتها التي تستخف بالرزين، وترك الناس على دنياهم يتكالبون، وهجر من أهله وإخوانه تنافسهم على القصور والأموال والمناصب، فإن مر على اللغو مر مر الكرام، وإن تعرض له الجاهلون أعرض وقال: سلام ؛ وهو مع ذلك شاب في عنفوان الشباب، أمامه مستقبل عريض، وعليه مسئولية بناء جديد، وينظر إلى الأفق البعيد نظرة ملؤها الآمال والأحلام، تفور فيه غرائز الشهوات، ويجيش فؤاده بالعواطف، وتتفجر دماؤه حماساً ؛ ثم هو هو ذلك الذي تجاوز هذا كله!! وجعله وراءه ظهرياً!! وأقبل على العلم.. على مرارته، وانكب على الكتاب.. على ملالته، وإذا حن إلى عناق كاعب..خالفته يدا كاتب، وإذا اشتهت شفتاه أن يرتشف الرضاب.. تمتم ملتذاً بقراءة كتاب ؛ قطع الأيام في التحصيل، وسهر الليالي على الدرس والترتيل ؛ يقرأ حتى تزوغ عينه، ويكتب حتى تكل يده، ويدرس حتى يكد ذهنه!!!
أخبروني.. من أفضل من هذا ؟!!
مع ذلك فإنه يرى أن الذي هو فيه: هو الحياة حقاً، وجنة دار الفناء صدقاً، يرحم أهل الدنيا، ويحنو على أبناء الملذات ؛ لأنه يعرف أنه على برنامج العلماء، ومنهج الأولياء، وخطة الفقهاء، وغاية الكبراء، ومعارج الأتقياء.
فيترنم بقول القائل :
لمحبرة تجالسني نهاري أحب إلي من أنس الصديق
ورزمة كاغد في البيت عندي أحب إلي من عدل الدقيق
ولطمة عالم في الخد مني ألذ لدي من شرب الرحيق
ولست أنا بالذي يذكر فضل طالب العلم، إذ قد رددت ذلك المحاريب وأصداؤها، وضجت به أروقة المساجد وقبابها، وتعبد بترتيله المتهجدون، وتقرب بتدبره أهل العلم الراسخون ؛ وقبل ذلك نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ؛ وقبل ذلك تكلم به الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ؛ فقال تعالى : في الحث على سؤال التعلم – الذي هو أول درجاته – (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) [النحل: 43]، وقال عز وجل في الأمر بالرحلة لطلب العلم: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) [التوبة:122]، وما أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بطلب الزيادة في شيء في الدنيا،إلا من العلم، فقال تعالى: (وقل رب زدني علماً) [طه:114] ؛ وأشاد سبحانه – أيما إشادة! – بفضل أهل العلم، ورفع من شأنهم، وأعلى من قدرهم، بما يعجز عن بيانه إلا البيان المبين، من كلام رب العالمين، فقال عز من قائل (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل عمران: 18]، وقال سبحانه وتعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر: 28]، وقال سبحانه (يرفع الله الذين ءامنوا والذين أوتوا العلم درجات) [المجادلة: 11]، وقال عز شانه (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) [الزمر: 9].(12/67)
فلما كانت لطالب العلم مكانته التي نوهنا ببعضها، تبين أنه على صغر سنة طالب جليل، وعلى قلة عمله بسلوكه مسالك الطلب استحق التبجيل.
ومن حق هذا الذي يقفو آثار العظماء، ويلوث على رأسه عمامة العلماء ؛ أن يكون له نصيب من التوجيه كبير، وحظ من النصح وفير.
ولما طلب مني مكتب التوعية بمكة المكرمة أن ألقي كلمة على منهج القراءة في كتب الحديث والمصطلح، ورأيت أن الرفض لا يسعني، أجبتهم إلى رغبتهم، على ضعف وعجز. لكني من حين أجبت، عزمت على أن أجعل المنهج المطروح منهجاً مستقى من مناهج العلماء، ودرباً نص الأئمة على أنهم قد ساروا عليه، أو دلت سيرهم وأخبارهم وعلومهم على أنهم قد طرقوه. وإنما عزمت على هذا العزم، لأن منهج تعلم أي علم يجب أن يؤخذ عن العلماء بذلك العلم، الذين عرفوا دروبه، وأحاطوا بسبله، وملأتهم الخبرة به بصيرة بالأسلوب الصحيح في تلقيه، وأشبعتهم فنونه بالوسائل المبلغة إليه.
وتم ما أعددته لتلك الكلمة في الشهر الأول من عام (1418هـ)، وألقيتها في هذا التاريخ.
ثم تكرر إلى الطلب بنشرها مكتوبة، حسن ظن من الطالبين، فرأيت أن إجابة سؤالهم فيه تحقيق فائدة وإن صغرت، وتوجيه نصيحة لطلبة العلم لا تخلو من نفع.
وعلى هذا فهذه الرسالة في أصلها كلمة ملقاة، ضمن سلسة من الكلمات نظمتها إدارة مكتب التوعية بمكة المكرمة مشكورة مأجورة إن شاء الله تعالى. وقد سبقت هذا الكلمة كلمات حول آداب العلم وطلبه ومناهجه عموماً، ثم خصصت علوم الحديث بالدرس الذي أقوم بنشره اليوم. وعلى هذا فرسالتنا هذه مسبوقة بما يغني عن تكراره هنا، ولذلك فقد جاءت مقتصرة على الوسائل المبلغة لطالب العلم إلى أن يصبح محدثاً عارفاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، دون التطرق إلى أبواب العلم الأخرى على جلالتها وفضلها.
فأسأل الله عز وجل أن ينفع بهذه الورقات وأن يستخرج بها من قلب مؤمن بظهر الغيب دعوات صالحات، وأن يجعلها في موازين الحسنات.. آمين.
والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وكتب
الشريف حاتم بن عارف بن ناصر العبدلي العوني
تمهيد
هناك مبادئ عامة ينصح بها كل طالب علم، ليضعها أمام عينيه عند أول ما ينوي السير في طريق العلم الطويل. وبعض هذه المبادئ العامة سوف تكون مدخلنا إلى الجواب عن السؤال الذي يسأل عنه قارئ هذه الورقات، وهو: كيف أصبح محدثاً عارفاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ؟
فلا شك أن أول ما يلزم من أراد أن يكون طالب علم (أي علم من العلوم)، أن يتعرف على العلوم من جهة موضوعاتها وغاياتها والثمرة الناتجة عنها. لأنه بذلك يعرف شرف كل علم وفضله، ومنقبة حملة ذلك العلم ورفعة قدرهم. وهذا يجعله قادراً على ترتيب العلوم على حسب أهميتها، ووضعها في مراتبها من أولوية التعليم.
فإذا ما ابتدأ طلب علم من العلوم بعد ذلك، وقد عرف أنه فضائله ومناقب حملته، وعرف إنما ابتدأ به لأنه أحق من غيره ببداية التعلم، وأولى مما سواه بأن يكون باكورة الطلب ؛ زاده ذلك إقبالاً على العلم، وحرصاً عليه، وصبراً في تحصيله، وثقة بصواب خطواته، واطمئناناً على صحة منهجه. فلا يزيده بعد ذلك طول الطريق إلا جلداً، ولا وعورته إلا جداً، ولا صعوبته إلا مثابرةً، ولا تعب جسده فيه إلا راحة نفسه، ولا اغترابه من أجله إلا أنساً به، ولا قلة ذات يده إلا فرحاً بالاستكثار منه. حتى يبلغ المنى، ويحصد الجنى.
لذلك حرصت أن لا تخلو هذه الورقات من إلماحات عن شرف علم الحديث وبيان فضل المحدثين؛ وهذا هو العنوان الأول بعد هذا التمهيد.
وبعد أن تعرف طالب العلم على ما سبق، ينبغي عليه أن يستنصح أهل العلم الذي رأى أن يبدأ به، ويطلب منهم أن يوقفوه على خصائص ذلك العلم التي تميزه عن غيره من العلوم، وأن يقرأ بعض ما ألف في التعريف بذلك العلم وفي بيان مميزاته التي تختص به. حيث إن لكل علم ملامح كبرى تفارقه عن غيره من العلوم، وقسمات خاصة به كالتي تباين بين الأشخاص المختلفين. وهذه الملامح والقسمات هي في الحقيقة سر كل علم، وكاشف لغز كل فن، ومفتاح كنوز دقائق العلوم. وتظهر آثار العلم بهذه الملامح (أو عدم العلم بها) على كل مسألة جزئية منه، لأن بصماتها لا تخلوا منها جميع جزئياته.
وتعرف أهمية الابتداء بإدراك خصائص علم ما، وضرورة فهم مزاياه من أول الإقبال عليه ؛ من جهتين اثنتين:
الأولى: أن تلك المزايا والخصائص تمكن طالب العلم من أن يقدر إن كان باستطاعته استيعاب ذلك العلم وأن يبرع فيه، أولا يستطيع ؛ على حسب مواهبه الفطرية وميوله العلمية. وذلك فيما إذا وازن طالب العلم – بصدق وموضوعية – بين تلك المميزات وقدرته على التعلم. فكم من طالب علم تعثر في حياته العلمية بسبب عدم قيامه بهذه الموازنة، وكم من طالب علم لو حاول إدراك تلك المميزات للعلوم لوضع قدمه في أول الطريق الصحيح لعلم منها، ثم برع وأبدع فيه بعد ذلك.(12/68)
الثانية: أن تلك الخصائص والمميزات الكبرى لأي علم من العلوم تستلزم أسلوباً خاصاً في طلبه؛ ولكل خصيصة منها منهج معين في التحصيل بمواجهتها. فإدراك طالب ذلك العلم، يجعله واعياً للأسلوب الصحيح في طلب ذلك العلم، عارفاً بعقبات علمه وبوسائل تجاوزها بسرعة ؛ فهو بهذا الوعي والمعرفة محيط بالغاية التي يريد، حتى كأنه بلغها (وإن لم يبلغها)، لشدة وضوح طريقها أمامه، ولعدم خوفه من حواجز تحول بينه وبينها.
وهذا ما جعلني أثني (بعد ذكر شرف علم الحديث وشرف أهله) بأربع مميزات لعلم الحديث، هي في ظني أهم خصائصه، وأوضح ملامحه، تستوجب تجاهها طريقة خاصة في الطلب ومنهجاً معيناً في تعلم علم الحديث.
ثم ختمت هذه الورقات بذكر خطة دراسية منهجية مختصرة للحديث النبوي الشريف ولعلومه، حاولت خلالها وضع مستويات دراسية مرتبة على نظرية التدرج في طلب العلم، من البداية بالمجملات إلى الوصول إلى المفصلات الموسعات من كتب العلم.
ومن خلال هذه العناصر أحسب أني قد ساهمت في الإجابة على سؤال يقول: كيف أصبح محدثاً عارفاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وإليك الإجابة (بعون الله تعالى).
شرف علم الحديث وشرف حملته:
لا يشك مسلم من المسلمين أن القرآن الكريم وعلومه أشرف العلوم على الإطلاق، وأنه أنفع العلوم وأجلها وأعظمها بلا استثناء.
وأهم علوم القرآن الكريم وأعظمها، وما من أجله أنزل، هو تدبر آياته، وفهم معانيه ؛ لأن الغاية العظمى من إنزال القرآن هي العمل به، والاعتبار بمواعظه، والاستضاءة بحكمه ؛ وذلك لا يحصل أبداً قبل فهم معانيه وتدبر آياته ؛ وإلا فكيف يعمل بالقرآن من لم يفهم القرآن ؟!
ولا يتم فهم كلام الله تعالى، ولا يمكن أن ندرك معاني كتاب الله المجيد، وإلا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلومها، لأن السنة هي الشرح النظري والعملي للقرآن الكريم.
ومن هنا ندخل إلى أعظم ما يبين مكانه السنة وعلومها، وإلى منزلتها بين العلوم على الإطلاق ؛ وهو أنه لا سبيل إلى فهم القرآن الكريم، وإلى معرفة دين الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى سواه، إلا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وعلومها!!
أو بعبارة أخرى: بما أن القرآن الكريم أشرف العلوم، وأشرف علومه فهم معانيه لا يكون إلا بالسنة ؛ فالسنة إذا أشرف علوم القرآن، أو قل: أشرف العلوم!!
قال الله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) [النحل:44]، فمنطوق هذه الآية الكريمة يخبر أن إنزال القرآن الكريم كان من أجل بيان النبي صلى الله عليه وسلم له ؛ بسنته القولية والفعلية والتقريرية!! وهذا المنطوق غريب جداً لمن تأمله، لأنه يخالف المتبادر إلى الذهن، من أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت من أجل أن تبين القرآن الكريم، أي أن القرآن هو الغاية التي من أجلها جاءت السنة، أما الآية فقد قالت بضد ذلك، حيث جعلت السنة وبيانها غاية من أجلها انزل القرآن!!!
وهذا من إعجاز القرآن في الإشادة بمكانة السنة من القرآن، وفي التأكيد على عدم استغناء القرآن عنها، بل وعلى بطلان مثل ذلك الاستغناء.. إن زعم!!
ولهذه المنزلة العليا للسنة، ولعلاقتها القوية الوشائج والصلات بالقرآن الكريم، كان يقول غير واحد من السلف، منهم مكحول الشامي (ت 118 هـ): (القرآن أحوج للسنة من السنة للقرآن) ([1]). وذلك لأن إجمال القرآن يحتاج إلى تفصيل السنة، ومتشابه القرآن تفسره السنة ؛ في حين أن السنة – غالباً – مفصلة مبينة واضحة.
ولهذا يصح أن يقال عمن يتعلم السنة: إنه يتعلم القرآن، ولمن يقرأ السنة: إنه يقرأ تفسير القرآن!!
وقد كان ذلك واضحاً تمام الوضوح عند السلف، ولهذا لما قيل لمطرف بن عبد الله بن الشخير (ت 95 هـ): (لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال مطرف: والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا ) ([2]).
ويجب التنبه إلى أن تفسير السنة للقرآن ليس هو وحده التفسير الصريح لمعانيه من النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم آية ثم يشرحها شرحاً مباشراً. نعم هذا من تفسير السنة للقرآن، لكن الخضم الأعظم منه هو جميع سنة النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية والتقريرية وسيرته ومغازيه وحياته. ولهذا لما سئلت عائشة – رضي الله عنها – عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، أرشدت السائل إلى النظر في القرآن، عندما قالت: (كان خلقه القرآن) ([3]) وعلى هذا يحق لمن سأل عن القرآن أن يحال إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما أحالت عائشة السائل عن السنة إلى القرآن!
وهذا أكبر ما يبين مكانة السنة، وعظم أهميتها، وأولويتها على غيرها من العلوم.(12/69)
ولقد بين الله عز وجل مكانة السنة وشرفها في القرآن العظيم، في آيات كثيرات؛ منها آيات كثيرة في الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالفته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. كقوله تعالى: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) [آل عمران: 132[، وكقوله عز وجل: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) [النساء: 80]، وكقوله سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) [النساء:65]، وكقوله عز شأنه: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) [آل عمران: 31]، وكقوله عز من قائل: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور: 63]، وكقوله عز حكمه: (وما ءاتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [الحشر:7]، وكقوله لا رب سواه: (لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [الأحزاب:21]، في غيرها من آيات مباركات كثيرات.
ففي هذه الآيات حث على تعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بتعلم أصولها ومصطلحها ، من العلوم التي يميز بها صحيح السنة من سقيمها. لأن الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والترغيب في الاقتداء به لا يمكن امتثاله (بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم) إلا بالنقل والإسناد اللذين اجتمعت فيهما شروط القبول، وشروط القبول (تحققها أو عدم تحققها) في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتوصل إلى إدراكه إلا بالعلوم التي تخدم ذلك، وهي علوم الحديث: أصوله ومصطلحه. إذن فالأمر الإلهي بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به متضمن أمراً إلهياً بتعلم علم الحديث، لأنه لا سبيل إلى امتثال الأمر الأول إلا بعد امتثال الأمر الثاني، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وإذا كان فهم القرآن الكريم، وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والعلم بأحكام هذا الدين (دين الإسلام) وشرائعه وآدابه = لا يكون إلا بعلوم الحديث ؛ علمت ما هي مكانة هذه العلوم!! وفي أي قمة من مراتب العلوم تكون!! ثم علمت شرف أهل الحديث!! وعظيم فضلهم وكبير أثرهم في الأمة!!!
وقد جاءت السنة نفسها ببيان فضل أهل الحديث وشرفهم، في أحاديث كثيرة وآثار ذوات عدد؛ حتى صنف الخطيب البغدادي ( ت 463هـ) كتاباً في ذلك بعنوان (شرف أصحاب الحديث).
ومن هذه الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى تقوم الساعة) ([4]).
قال عبد الله بن المبارك (ت 181 هـ)، ويزيد بن هارون (ت 206هـ)، وعلي ابن المديني (ت234 هـ)، وأحمد بن حنبل (ت 241هـ)، والبخاري (ت 256 هـ)؛ قال هؤلاء الأئمة كلهم في بيان الطائفة المنصورة: (هم أصحاب الحديث) ([5]). بل عبارة الإمام أحمد، وقبله يزيد بن هارون: (إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم).
وأي طائفة أحق بأن يكونوا هم تلك الطائفة الظاهرة المنصورة، من الذين حفظوا الدين، ونقلوا الملة، ونشروا السنة، وقمعوا البدعة ؛ وهم أصحاب حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وحراسه، أهدى الناس بالسنة، وأتبعهم للأسوة الحسنة، بقية الأصحاب، ومرآة الرسول صلى الله عليه وسلم!! فلولا هم لما كان هناك فقيه ولا مفسر، ولا عالم ولا فاضل!! بل لولاهم لما كان هناك مسلم موحد!!!
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة) ([6])، وذكر أهل العلم أن أسعد الناس بهذا الحديث هم المحدثون!
قال ابن حبان (ت 354هـ) بعد إخراجه هذا الحديث في صحيحه: (في هذا الخبر دليل على أن أولى الناس برسوله صلى الله عليه وسلم في القيامة أصحاب الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه صلى الله عليه وسلم منهم) ([7]).
وقال أبو نعيم الأصبهاني (ت 430هـ): (وهذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها، لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخاً وذكراً) ([8]).
ومن تردد في هذا الذي ذكراه (عليهما رحمة الله)، فليوازن بين صفحة أو صفحات من صحيح البخاري مثلاً وصفحة أو صفحات من أي كتاب في أحد العلوم الفاضلة (مما سوى الحديث)، كالتفسير والفقه وأصوله والعقيدة، لتظهر مصداقية قول ذينك الإمامين (عليهما رحمة الله)، ليعرف حقاً أن أهل الحديث هم أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة!!
و (الجزاء من جنس العمل)، فكما كان أهل الحديث أهل حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وأولى الناس به صلى الله عليه وسلم فيها ؛ كانوا أيضاً أولى الناس به يوم القيامة!!
وياله من شرف ومكانة وفضل!! لا يدانيه شيء أبداً!!!
ولله در القائل:
دين النبي محمد أخبار
نعم المطية للفتى الآثار
لا تخدعن عن الحديث وأهله
فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما غلط الفتى سبل الهدى(12/70)
والشمس بازغة لها أنوار ([9])
ورحم الله القائل:
دين الرسول وشرعه أخباره
وأجل علم يقتنى آثاره
من كان مشتعلاً بها وبنشرها
بين البرية لا عفت آثاره
ثم إن مكانة السنة تزداد أهمية فوق ما سبق كله، وتشتد حاجة الأمة لها زيادة على ما تقدم، عند ظهور الفتن وكثرة البدع والمحدثات.
ولذلك لما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ووعظهم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب وذرفت لها العيون ؛ قال في وصيته تلك عليه الصلاة والسلام:
(فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدبين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ([10]).
ويقول أحد أتباع التابعين، وهو يحيى بن يمان (ت 189هـ): (ما كان طلب الحديث خيراً منه اليوم. قيل له: يا أبا عبد الله، إنهم يطلبونه وليس لهم نية ؟ قال: طلبهم إياه نية) ([11]).
فينبه هذا الإمام (رحمه الله) على ازدياد فضل طلب الحديث في زمانه، عن الأزمان التي سبقته ؛ وهو من أتباع التابعين!! وفي القرون الفاضلة!! فكيف بزماننا!! وقد عمت الفتن، وكثرت، وتتابعت، واستحكمت الأهواء والبدع وطمت، واحلولكت ليالي الأمة.. وإلى الله الملتجأ وهو المستعان!
وأما قوله (رحمه الله) لمن قال له عن أهل الحديث: (إنهم يطلبونه وليس لهم نية، فقال: طلبهم إياه نية)، فهو ينبه إلى فقه دقيق، إذ يجيب ذاك الذي اتهم طلبة الحديث بقلة الإخلاص في طلبهم، بأن مجرد طلبهم للحديث عمل فاضل يؤجرون عليه بإذن الله تعالى. لأن الأعمال الفاضلة، وخاصة التي يتعدى نفعها نفس العامل، إذا لم يكن الدافع للقيام بها نية سيئة، كالرياء والسمعة ومطامع الدنيا، فإن صاحبها مأجور بالعمل نفسه إذا كان الدافع للقيام به محبة العمل والتعلق به (وهو عند أهل الحديث شهوة الحديث ومحبته)، مثاب وإن غفل العامل عن الإخلاص لله تعالى وابتغاء ثوابه!! وذلك لأن العمل ذاته فاضل مصلح، لا يخلو من أن ينتفع به غيره، وتتعدى فائدته إلى من سواه.
أو لعله يقصد أن طلب الحديث يوصل إلى حسن النية ويلجئ صاحبة إلى الإخلاص، كما كان يقول غير واحد من السلف: (طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله) ([12]).
وأي المعنيين قبلت – وكلاهما مقبول – فهو وجه آخر لشرف أهل الحديث!!
والنصوص في هذا المعنى كثيرة، أكتفي منها بما سبق.
أهم مميزات علم الحديث وأوضح خصائصه:
تقدم في (التمهيد) أن لكل علم خصائص، وأن للعلم بهذه الخصائص فائدتين، ذكرناهما هناك. ويهمنا هنا إحدى الفائدتين، وهي: أن العلم بخصائص علم ما يوقفنا على الأسلوب الصحيح في تحصيله، وعلى العوائق الحائلة دون بلوغ غايتنا منه، وعلى وسائل تجاوزها ؛ لأن كل ميزة لذلك العلم ينبه إدراكها إلى سبيل احتوائها، في حين أن عدم إدراكها أكبر عقبة (أو يكاد يكون كذلك) دون فهم ذلك العلم والوصول إلى مرادنا منه.
وقد تنبهت إلى أربع خصائص لعلم الحديث، أحسبها أهم خصائصه، فأحببت لفت نظر طلاب العلم إليها، ليبتدئوا طلب علم الحديث بالأسلوب والمنهج الصحيح اللائق بهذا العلم، ولكي لا تتعثر خطاهم ويضيعوا أزماناً (لا تقدر بثمن) قبل إدراك ذلك المنهج الصحيح.
وإليك هذه المميزات الأربعة، تحت عناوين أربعة فيما يلي ؛ متبعاً كل ميزة منها بالمنهج الذي تستلزمه في الطلب، وبأسلوب التحصيل الصحيح في مواجهتها، وما هي وسائل احتوائها دون أن تصبح عقبة كأداء في طريق علم الحديث.
الميزة الأولى:
من أهم مميزات علم الحديث أنه علم شديد المأخذ، صعب المرتقى، دقيق المسالك، بعيد الغور. ولذلك فليس من السهل فهمه، ولا من اليسير تعلمه، ولا يقدر على فقهه كل أحد، ولا يستطيعه كثير أناس.
ولهذا كان الإمام الزهري (ت124 هـ) يقول: (الحديث ذكر، يحبه ذكور الرجال، ويكرهه مؤنثوهم) ([13]). ومعنى هذا أن الحديث يحتاج إلى عقل فحل في عزم وحزمه وإصراره وقوته، ولا ينفع معه العقل الضعيف المتردد المتحير الملول ؛ وهذا غير الذكاء وسرعة الفهم، فربما كان العقل ذكياً لكنه ليس ذكراً!!
ولذلك فقد قل من ينجب في علم الحديث ويتميز، يوم أن كان طالبو الحديث ألوفاً! ويوم كانت ألوفهم من الطراز الأول من طلبة العلم!!
يقول شعيب بن حرب (ت197 هـ): (كنا نطلب الحديث أربعة آلاف، فما أنجب منا إلا أربعة) ([14]).
ولما كثر من يطلب الحديث في زمن الأعمش، قيل له: (يا أبا محمد، ما ترى ؟! ما أكثرهم!! قال:لا تنظروا إلى كثرتهم،، ثلثهم يموتون، وثلثهم يلحقون بالأعمال (يعنى الوظائف الحكومية)، وثلثهم من كل مائة يفلح واحد) ([15]).(12/71)
ولهذا العمق في علم الحديث نهى نقاد الحديث عن شرح كثر من علل الروايات إلا عند أهل الحديث، لما يخشى من شرح ذلك على غير أهل الحديث أن يكون سبباً في أن يفتتنوا أو يفتنوا!! من باب: (حدثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله) ([16])، وباب: (إنك لست محدثاً قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة) ([17])!!
يقول الإمام أبو داود السجستاني (ت 275هـ) في (رسالته إلى أهل مكة): (وربما أتوقف عن مثل هذه (يعني: إبراز العلل)، لأنه ضرر على العامة لهم كل ما كان من هذا الباب فيما مضى من عيوب الحديث، لأن علم العامة يقصر عن ذلك ([18]).
ويقول الخطيب البغدادي (ت 463هـ): (أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصرف ونقد الدنانير والدراهم، فإنه لا تعرف جودة الدينار والدرهم بلون ولا مس، ولا طراوة ولا يبس، ولا نقش، ولا صفة تعود إلى صغر أو كبر، ولا إلى ضيق أو سعة ؛ وإنما يعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف البهرج الزائف والخالص والمغشوش. وكذلك تمييز الحديث، فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب، بعد طول الممارسة له، والاعتناء به) ([19]).
وقلبهما يقول عبد الرحمن بن مهدي (ت 198هـ): (معرفة الحديث إلهام) ([20])، ويقول أيضاً: (إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة) ([21]). ولما أنكر ابن مهدي حديثاً رواه رجل، غضب للرجل جماعة، وقالوا لابن مهدي: (من أين قلت هذا في صاحبنا؟!) فلم يبين لهم العلة الحديثية التي جعلته ينكر على ذلك الرجل، وإنما قال لهم: (أرأيت لو أن رجلاً أتى بدينار إلى صيرفي، فقال: انتقد لي هذا، فقال الصيرفي: هو بهرج، يقول له: من أين قلت لي إنه بهرج ؟ (فأجاب ابن مهدي على لسان الصيرفي): الزم عملي هذا عشرين سنة حتى تعلم منه ما أعلم) ([22]).
ويؤكد أيضاً أحمد بن صالح المصري (ت 248هـ) أن علم الحديث لا يفهمه إلا أهله، عندما قال: (معرفة الحديث بمنزلة معرفة الذهب، إنما يبصره أهله) ([23]).
وبذلك يقرر هؤلاء العلماء وغيرهم من أئمة السنة أن علم الحديث علم تخصصي، لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى إلى صرف الهمة كلها له، ووقف الجهد جميعه عليه، وقصر الحياة على تعلمه وتحصيله ؛ وما ذلك إلا لأنه علم شديد العمق بعيد الغور، كما سبق.
ومع ذلك:
لا يؤيسنك من مجد تباعده
فإن للمجد تدريجاً وترتيباً
إن القناة التي شاهدت رفعتها
تسمو فتنبت أنبوباً فأنبوبا
وقال آخر
اصبر على مضض الإدلاج بالسحر
وبالرواح على الحاجات والبكر
لا تعجزن ولا يضجرك مطلبها
فالنجح يتلف بين العجز والضجر
إني رأيت – وفي الأيام تجربة -
للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر يطالبه
واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
ومن رحمة الله تعالى ولطفه بعباده أن قرن بصعوبة علم الحديث وشدته لذة وشهوة ومتعة عارمة، تملك فؤاد طالبه، وتجعله ينسى الدنيا بما فيها، وتتركه بين رياض السنة جذلان هيمان. إنها (شهوة الحديث)، تلك الشهوة التي صنعت المستحيلات، وتضاءلت أمامها كل العقبات. ولولا هذه الشهوة لمات علم الحديث قبل أن يولد، ولتفتت همم الرجال على سفوح جباله، ولساحت العزائم العظام في صحاريه، ولغرقت عقول العباقرة في لجج بحاره. لقد بلغت هذه الشهوة الحديثية إلى درجة أن خاف بعض الأئمة على أنفسهم من أن تتجاوز بهم إلى طرف مذموم من الغلو في التعمق، إلى درجة التقصير في حقوق الخالق أو المخلوقين أو حق النفس، حيث إنها شهوة تفوق وله العاشقين (وهي أطهر)، وقد فعلت بأصحابها من عجائب الأفاعيل، ما قيدته حقائق التاريخ ؛ فلئن هام العاشقون على وجوههم في الصحاري، فلقد كانت الصحارى بعض ما قطعه المحدثون في طلب الحديث، ولئن تعرض الولهون لغيرة أهل المحبوبة من أجل نظرة عابرة منها، فلقد ركب المحدثون الأهوال وعاشوا مع الأخطار من أجل كتابة حديث بإسناد عال كانوا قد كتبوه نازلاً، ولئن تغرب المدنفون وراء مرابع الأحباب، فلقد هجر المحدثون الأهل والأولاد والأوطان إلى غير رجعة، ولئن كان (مجنون ليلى) وأضرابه بالعشرات، فإن أهل الحديث بعشرات الألوف!!
إنها شهوة الحديث: التي حفظ الله تعالى بها الدين، وحمى بها السنة!!
يقول سفيان الثوري (ت 161هـ): (فتنة الحديث أشد من فتنة الذهب والفضة)([24]).
فأنعم بهذه الفتنة التي يحتقر معها الدينار والدرهم!!!
ولصعوبة علم الحديث قل أهله العارفون به كما سبق!
يقول الإمام البخاري (ت 256هـ): (أفضل المسلمين رجل أحيى سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أميتت ؛ فاصبروا يا أصحاب السنن (رحمكم الله)، فإنكم أقل الناس).(12/72)
فقال الخطيب عقبه: (قول البخاري: إن أصحاب السنن أقل الناس عنى به الحفاظ للحديث، العالمين بطرقه، المميزين لصحيحه من سقيمه، وقد صدق (رحمه الله) في قوله ؛ لأنك إذا اعتبرت لم تجد بلداً من بلدان الإسلام يخلو من فقيه أو متفقه يرجع أهل مصره إليه، ويعولون فتاواهم عليه، وتجد الأمصار الكثيرة خالية من صاحب حديث عارف به، مجتهد فيه، وما ذاك إلا لصعوبة علمه وعزته، وقلة من ينجب فيه من سامعيه وكتبته. وقد كان العلم في وقت البخاري غضاً طرياً، والارتسام به محبوباً شهياً، والدواعي إليه أكبر، والرغبة فيه أكثر، وقال هذا القول الذي حكيناه عنه!!! فكيف نقول في هذا الزمان ؟!! مع عدم الطالب، و قلة الراغب!! وكأن الشاعر وصف قلة المتخصصين من أهل زماننا في قوله:
وقد كنا نعدهم قليلاً فقد صاروا أقل من القليل([25])
وأقول: رحم الله الخطيب! فقد قامت المناحة على أهل الحديث من قرون!!! وما عادوا قليلاً ولا أقل من القليل ، بل هم عدم من دهور، تكاد – والله - آثارهم تنمحي، وأخبارهم تنسى: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [يوسف: 21].
لكننا ننتزع من كلمة الخطيب السابقة الروح التي قد تبعث موتى أهل الحديث، وتنشرهم من القبور ؛ إنه التخصص الدقيق العميق في علم الحديث. إذ إن صعوبة علم الحديث وشدة مأخذه، لا يواجهها إلا التخصص، ولا يجاوزنا عقبتها إلا جمع الهمة كلها في تحصيله والتفرغ الكامل له.
وقبل الحديث عن حاجة علم الحديث إلى التخصص فيه، وأنه علم يستعصي على من قرن به غيره، ولا يقبل له عند طالبه ضرة، كالليل والنهار والدنيا والآخرة ؛ قبل ذلك أتكلم عن أهمية التخصص في جميع العلوم، وبيان أن التخصص منهج ضروري لا حياة ولا بقاء للعلوم إلا به.
وقد نبه العلماء قديماً على أهمية التخصص في العلوم، فقال الخليل ابن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ): (إذا أردت أن تكون عالماً فاقصد لفن من العلم، وإذا أردت أن تكون أديباً فخذ من كل شيء أحسنه) ([26]).
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ): (ما ناظرني رجل قط وكان مفنناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجل ذو فن واحد إلا غلبني في علمه ذلك) ([27]).
إن هذه العبارات وأمثالها من الأئمة الدالة على فضل المتخصص في علم واحد على الجامع لأطراف العلوم (أو على رأي الخليل بن أحمد: الدالة على فضل العالم على الأديب المتفنن)، جاءت لتؤكد أن كل علم من العلوم بحر من البحور، لا يعرفه ويصل إلى كنوزه وخفاياه إلا من غاص أعماقه، وقصر حياته على الغوص فيه. أما من اكتفى بالسباحة على ظهر كل بحر من بحور العلم، فإنه إنما عرف ظواهر تلك البحور، وما عرف من كنوزها شيئاً.
وأخص بالذكر أهل عصرنا، فإن العلوم قد ازدادت تشعباً، وعظم كل علم عما كان، بمؤلفات أهله فيه على امتداد العصور السابقة، وبزيادة اختلافهم وأدلة كل صاحب قول منهم ؛ ومع ذلك فقد ضعفت الهمم، ونقصت القدرات عما علمناه من أئمتنا السالفين ؛ وذلك بين واضح لمن عرف سيرهم وأخبارهم ووازن بينهما وبين حالنا؛ أولئك كانوا بما تعلموا وعلموا وألفوا وجاهدوا وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كأن أعمارهم ليست بين الستين والسبعين وإنما بين مائة وستين ومائة وسبعين!! بل والله أكثر!!! أولئك كانت حياتهم كرامة، و وجهدهم معجزة خارقة للعادات!!! فأين نحن من أن نحوي علومهم ؟! وأنى لنا أن نستوعب علم ما خلفوه لنا ؟! ومع ذلك فقد تكلم هؤلاء أنفسهم عن فضل التخصص في العلم، فما أجهلنا إن حسبنا أننا بغير التخصص سنفهم علماً من العلوم!!!
ولقد سبرت بعض أحوال المتعلمين، فوجدت أكثرهم علماً وإنصافاً وتواضعاً، وأدقهم نظراً وفهماً، وأحسنهم تأليفاً وإبداعاً: هم أصحاب التخصصات. في حين وجدت أقلهم علماً وإنصافاً، وأكثرهم كبراً وتعالياً وتعالماً، وأبعدهم عن الفهم والتدقيق وعن الإبداع والإحسان في التأليف: المتفننين أصحاب العلوم، أو سمهم بالمثقفين ؛ إلا من رحم ربك.
ومن فضل صاحب التخصص الفضل الظاهر، الذي يقرني عليه المنصف، أن صاحب التخصص لا يثرب على المتفنن، بل يراه أكثر أهلية منه في أمور كإلقاء المحاضرات والدعوة ومواجهة العامة، ويعتبره بذلك على ثغرة من ثغرات الإسلام، ويرى أن الأمة في حاجة إلى أمثاله. وأما أصحاب الفنون، فعلى الضد من ذلك، فهم أكثر الناس تثريباً وعيباً على المتخصصين، ولا يرون لهم فضلاً عليهم ولا في العلم الذي تخصصوا فيه، وينازعونهم مسائلة (وهم بها جهلاء)، ويشنعون عليهم لعدم معرفتهم ببعض ما لم يتخصصوا فيه.
ولك بعد هذا أن تحكم، أي الفريقين أدخل الله في قوله تعالى (إن الله يحب المقسطين) ([28]).(12/73)
ولله ما يلاقيه أصحاب التخصصات من إخوانهم المتفننين!! من عدم فهم الأخيرين لتخصصاتهم، مع كلامهم فيها ومنازعتهم أهلها، بل قد يصل الأمر إلى استغلال أصحاب الفنون علاقتهم بالعامة والغوغاء، وانبهار هؤلاء بهم، فيتطاولون على أصحاب التخصصات وعلى علومهم، بما لا يؤلم العالم شيء مثله، وهو الكلام بجهل، وتشويه العلوم.
ومن فضل صاحب التخصص إذا وفقه الله تعالى، أنه من أكثر الناس لقالة (لا أدري)، إذا سئل عن غير تخصصه. ولهذه القالة بركة لا يعرفها إلا قليل، فهي باب التواضع الكبير، وباب للعلم أكبر. وأما صاحب الفنون، فهو عن (لا أدري) أبعد ؛ لأنه يضرب في كل علم بسهم، وبكثير جوابه على أسئلة العامة وأنصاف المتعلمين، التي هي – في الغالب – سؤالات عن الواضحات وعن ظواهر العلوم ؛ فينسى مع طول المدة (لا أدري)، ولا يعتاد لسانه عليها، ولا تنقهر نفسه لها ؛ لذلك فهو عن بركاتها ليس بقريب!!
ثم إن للعلم دقائق لا يعرف المتفننون عنها شيئاً، أما المتخصصون فقد خبروها، وقادتهم إلى دقائق الدقائق. فهم فقهاء العلوم حقاً، وأطباء الفنون صدقاً.
يقول الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني تلميذ الشافعي (ت 260هـ): (سمعت الشافعي يقول: من تعلم علماً فليدقق، لكيلا يضيع دقيق العلم) ([29]).
كذا نصائح الأئمة، نور على نور!!
وأما الشافعي فقد كان آمناً من ضياع جليل العلم وعظمه، خائفاً من ضياع دقيقة. أما نحن الآن فنقول: (من تعلم علماً فليدقق، لكيلا يضيع جليل العلم ) ؛ فدققوا يا بني إخوتي ما شئتم من التدقيق، فنحن مع تدقيقكم هذا لعلى جليل العلم وجلون!!!
وهنا أنبه على أن مطالبتنا بالتخصص لا يعني أن نطالب بذلك على حساب فروض الأعيان من العلوم، كتصحيح العقيدة وعلم التوحيد الجملي، وما يحتاج إليه من فقه العبادات، وما شابهها من الفروض العينية من العلوم ؛ فهذا ما لا يجوز على مسلم جهله، فضلاً عن طالب العلم ؛ بل نحن نطالب طالب العلم بما فوق ذلك، وهو أن لا يكون جاهلاً بنفع كل علم نافع (ولا أقول أن يكون عالماً بكل علم نافع، فهذا ضد ما أحث عليه ) ؛ لأن الجهل بنفع علم ذي علم فائدة دنيوية أو أخروية يدعو إلى معاداة ذلك العلم، على قاعدة: من جهل شيئاً عاداه ؛ ويقبح بطالب العلم أن يعادي علماً نافعاً، مهما قل نفعه في رأيه، فإنه لا ينقص على أن يكون فرضاً كفائياً.
وما أجمل وصية خالد بن يحيى بن برمك (ت 165هـ) لابنه، عندما قال له: (يا بني، خذ من كل علم بحظ، فإنك إن لم تفعل جهلت، وإن جهلت شيئاً من العلم عاديته، وعزيز علي أن تعادي شيئاً من العلم) ([30]).
وأخص من العلوم مما يقبح بطالب العلم جهله العلوم الإسلامية جميعاً، كعلم الفقه وأصوله والتفسير وأصوله والعقيدة وعلوم الآلة من نحو وصرف وبلاغة وأدب، مما ينبغي على طالب علم الحديث المتخصص أن يحصل شيئاً منها. وضابط تحصيله لهذه العلوم (حتى لا يناقض ذلك مطالبتي له بالتخصص) أن يجعل مقصوده من طلبه لهذه العلوم تكميل استفادته لتخصصه وعميق فهمه له ؛ حيث إن العلوم الإسلامية بينها ترابط كبير، لا يمكن من أراد التخصص في علم منها أن يكون جاهلاً تمام الجهل بما سواه. بل ربما قادته مسألة دقيقة في علم الحديث (مثلاً) إلى التدقيق في مسألة من مسائل أصول الفقه أو غيره، حتى يخرج بنتيجة في مسألته الحديثية. وليس ذلك بغريب على من عرف العلوم الإسلامية، وقوة ما بينها من أواصر القربى العلمية.
ولأزيد الأمر إيضاحاً أقول: كيف يتسنى لطالب الحديث أن يعرف الصواب في إحدى مشاهير مسائله ؟ وهي مسألة الرواية عن أهل البدع وحكمها، إذا لم يكن عارفاً بالسنة والبدعة، وبصنوف البدع وأقسام المبتدعة، وبالغالي منهم ومن بدعته غليظة ومن يكفر ببدعته ممن هو بخلاف ذلك ؛ وهذا كله باب من أبواب العقيدة عظيم.
وكيف يمكن لطالب الحديث أن يميز بين الروايات المختلفة، مثل زيادات الثقات: مقبولها ومردودها، والشاذة منها والمنكرة، والناسخة والمنسوخة، والراجحة والمرجوحة، إذا لم يكن عنده أصول الفقه والقدرة على الاستنباط والفهم للنصوص ما يتيح له الحكم في ذلك كله ؟!
المهم أن يأخذ من العلوم التي لم يتخصص فيها، بقدر ما يخدم العلم الذي تخصص فيه، ولا يزيد على ذلك، وإلا لم يصبح متخصصاً، وإنما يكون متفنناً.
وطريقة تحصيله لتلك العلوم التي لا ينوي التخصص في واحد منها، مما لا يخرجه عن حد التخصص إلى حد التفنن، هي أن يدرس مختصراً من مختصرات تلك العلوم، تمكنه من مراجعة مطولات تلك الفنون، فيما إذ أحوجه علمه الذي تخصص فيه إلى ذلك، كما سبق التمثيل له. وعليه أيضاً أن لا يقطع صلته بعلماء تلك العلوم المتخصصين فيها، وأن يصوب فهمه من علومهم عليهم، وأن لا يستبد بشيء من علمهم دون الرجوع إليهم.(12/74)
وأما التخصص في علم الحديث، فقد سبق أنه من أحوج العلوم إلى التخصص فيه، لشدة عمقه وسعة بحور وامتداد آفاقه. مع ذلك فعندي في مشروعية التخصص فيه (ولو على حساب الفقه!) سنة ثابتة وحديث صحيح مشهور! وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع منا مقالة فحفظها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ([31]).
و (نضر) بتخفيف الضاد وتشديدها: من النضارة، وهي الحسن والرونق والبهاء. فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو لراوي الحديث بالحسن والبهاء مطلقاً، في الدنيا والآخرة. وقيل إن المعنى: أبلغه الله تعالى نضارة الجنة.
وراوي الحديث الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالنضارة: هو رواية باللفظ، ولو كان لا يفهم كل معاني الحديث (ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) ولو كان لا فهم له في الحديث أبداً (رب حامل فقه لا فقه له)!!
وهذا يدل على مشروعية رواية الحديث دون فقه، بل يدل على استحباب ذلك؛ ويدل على أن رواي الحديث دون علمه بفقهه محمود غير مذموم، وأنه مستحق بفعله هذا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له.
وقد تعقب الرامهرمزي (ت 360هـ) هذا الحديث في كتابه (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) بقوله: (ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بين ناقل السنة وواعيها، ودل على فضل الواعي بقوله: (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقه). وبوجوب الفضل لأحدهما يثبت الفضل للآخر ([32]) ؛ ومثال ذلك أن تمثل بين مالك بن أنس وعبيد الله العمري، وبين الشافعي وعبد الرحمن بن مهدي، وبين أبي ثور وابن أبي شيبة ([33])، فإن الحق يقودك إلى أن تقضي لكل واحد منهم بالفضل.
وهذا طريق الإنصاف لمن سلكه، وعلم الحق لمن أمه ولم يتعده) ([34]).
ورحم الله السلف! فقد كانوا أسبق إلى كل خير وعلم وإنصاف ؛ ولهذا لما روى مطر بن طهمان الوراق (ت 125هـ فيما يقال) حديثاً، وسئل عن معناه، قال: (لا أدري، إنما أنا زاملة)، فقال له السائل – وكان عاقلاً منصفاً – (جزاك الله خيراً، فإن عليك من كل: حلو وحامض) ([35]).
وانظر إلى إجلال السلف لرواة الحديث، في العبارة التالية: يقول محمد بن المنكدر (ت 130هـ): (ما كنا ندعو الراوية إلا رواية الشعر، وما كنا نقول للذي يروي أحاديث الحكمة إلا: عالم) ([36]).
ومما سبق إليه السلف من العلم والخير والحق، التنبيه إلى أن علم الحديث علم لا يقبل الشركة ولا توزيع الهمة على غيره معه.
يقول الربيع بن سليمان المرادي (ت 270هـ) تلميذ الشافعي: (مر الشافعي بيوسف بن عمرو بن يزيد (وكان من كبار فقهاء المالكية: (ت 250هـ)، وهو يذكر شيئاً من الحديث، فقال: يا يوسف، تريد أن تحفظ الحديث وتحفظ الفقه ؟!! هيهات!!!"([37]).
وقد قدم الخطيب هذه الكلام من الشافعي، وهو يصف الذي يبرع في علم الحديث بقوله: "أن يعاني علم الحديث دونما سواه لأنه علم لا يعلق إلا بمن وقف نفسه عليه، ولم يضم غيره من العلوم إليه" ([38]).
ثم أخرج الخطيب عقب ذلك العبارتين التاليتين:
يقول أبو يوسف القاضي (ت182هـ): "العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك وأنت إذا أعطيته كلك من إعطائه البعض على غرر" ([39]).
ويقول أبو أحمد نصر بن أحمد العياضي الفقيه السمرقندي: "لا ينال هذا العلم إلا من عطل دكانه، وخرب بستانه، وهجر إخوانه، ومات أقرب أهله إليه فلم يشهد جنازته"([40]).فإن كانت هاتان العبارتان حقاً في العلوم جميعها، فهي في علم الحديث أولى أن تقال وأحق. وهذا هو ما قصده الخطيب، عندما ساقها في ذلك السياق.
وللتخصص في كل العلوم معناه، وفي علم الحديث له معناه الخاص به ؛ فهو تخصص لا يقبل الانقطاع إلى غيره، مهما طال زمن التفرغ في تحصيله، ومهما ظن طالبه أنه تملا منه وتضلع. لأنه خبرة دقيقة وحاسة لطيفة، لا تدوم إلا مع بقاء الالتصاق بالعلم. وسرعان ما تفسد تلك الخبرة، وتتعطل تلك الحاسة، إذا انقطع الطالب عن العلم فترة يسيرة.
يقول في بيان ذلك عبدالرحمن بن مهدي (ت 198هـ): "إنما مثل صاحب الحديث بمنزلة السمسار، إذا غاب عن السوق خمسة أيام تغير بصرة ([41]).
وبلسان أهل عصرنا: إنما مثل صاحب الحديث بمنزلة تاجر العملات، لا يستطيع أن يستفيد ويربح، إلا إذا كان متابعاً لأسواق العملات، دون انقطاع ؛ فإذا انقطع يوماً واحداً، أصبح كالجاهل بهذا السوق تماماً، وكأنه لم يكن عليماً به يوماً من الأيام! لأنه لا يستطيع أن يشتري أو يبيع، لعدم علمه باختلاف أسعار العملات الذي يتبدل كل ساعة.
ولذلك لم يجعل الإمام أحمد (ت241هـ) لطلب الحديث زمنا ينتهي عنده، ولم يوقت له فترة يجعلها حده ؛ عندما سئل: "إلى متى يكتب الرجل الحديث ؟ قال: حتى يموت ([42]).
فإن قيل: قد جاءت عبارات كثيرة في كتب العلم، تدل على ذم من لم يجمع مع الحديث فقهاً، أو على ذم إفناء العمر في جمع طرق الأحاديث وتتبع الأسانيد.
فمن الأول، قول القائل:
زوامل للأسفار لا علم عندهم(12/75)
بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
بأحماله أو راح ما في الغرائر
ومن الثاني: قصة حمزة بن محمد الكناني الحافظ (ت357هـ)، قال: "خرجت حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق، أو من نحو مائتي طريق، فداخلني من ذلك الفرح غير قليل، وأعجبت بذلك. قال: فرأيت ليلة من الليالي يحيى بن معين في المنام، فقلت له: يا أبا زكريا، خرجت حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم من مائتي طريق! قال: فسكت عني ساعة، ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت (ألهكم التكاثر) ([43]) " ([44]).
فما هو معنى تلك العبارات ؟ مع ما ندعو إليه من التخصص في علم الحديث.
فأقول: أما ما جاء في ذم من لم يجمع مع الحديث فقهاً، فلا يعارض كلام من كان من الناس بقوله النبي صلى الله عليه وسلم الذي سبق ذكره، مما يدل على مشروعية بل استحباب ما عابه ذلك العائب.
ثم إن الذي صدر منه ذلك الذم أحد رجلين: إما أنه من أهل العلم والفضل، وحينها يحمل كلامه على ذم من قصر فيما لا يجوز التقصير فيه من الفقه بالفروض العينية ونحوها، مما تقدم ذكره. وإما أن هذا الذام من أهل الرأي وأصحاب البدع، الذين يعادون السنة وأهلها، وينفرون من علومها ؛ وهؤلاء لا وزن لمدحهم وذمهم، بل ربما كان ذمهم مرجحاً كفة المذموم على الممدوح منهم!!
وأما ما ورد من عيب إفناء العمر في تتبع طرق الأحاديث وجمع الأسانيد، فليس الأمر على إطلاقه.
فهذا يحيى بن معين الذي رآه حمزة الكناني يذم فعله في ذلك، يقول يحيى بن معين هذا: "لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه" ([45]).
ويقول الإمام أحمد: "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً" ([46]).
وقال علي بن المديني: "الباب إذا لم تجمع طرقه، لم يتبين خطؤه" ([47]).
إذن ما هو الأمر المعيب في تتبع الطرق وجمع الأسانيد ؟
أجاب عن ذلك الخطيب البغدادي في كتبه، وحصر سبب عيب ذلك في أمرين:
الأول: جمع الأحاديث وقطع الأعمار في كتابتها، صحيحها وضعيفها وموضوعها، دون تمييز الصحيح بمزيد اعتناء، ولا معرفة الضعيف بعلته، ولا التنبيه على المكذوب والباطل ؛ فهو جمع وتصنيف على الإهمال والإغفال، يضر أكثر مما ينفع.
يقول الخطيب في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع): "ينبغي للمنتخب أن يقصد تخير الأسانيد العالية، والطرق الواضحة، والأحاديث الصحيحة، والروايات المستقيمة. ولا يذهب وقته في الترهات، من تتبع الأباطيل والموضوعات، وتطلب الغرائب والمنكرات … (ثم قال) والغرائب التي كره العلماء الاشتغال بها، وقطع الأوقات في طلبها، إنما هي ما حكم أهل المعرفة ببطلانه، لكون رواته ممن يضع الحديث، أو يدعي السماع. أما ما استغرب لتفرد رواية به، وهو من أهل الصدق والأمانة، فذلك يلزم كتبه، ويجب سماعه وحفظه" ([48]).
وقال الخطيب أيضاً: "ولو لم يكن في الاقتصار على سماع الحديث وتخليده الصحف، دون التمييز بمعرفة صحيحة من فاسده، والوقوف على اختلاف وجوهه، والتصرف في أنواع علومه، إلا تلقيب المعتزلة القدرية من سلك تلك الطريقة بالحشوية ؛ لوجب على الطالب الأنفة لنفسه، ودفع ذلك عنه وعن أبناء جنسه" ([49]).
الثاني: يقول في بيانه الخطيب في (شرف أصحاب الحديث): "إنما كره مالك وابن إدريس وغيرهما الإكثار من طلب الأسانيد الغريبة والطرق المستنكرة، كأسانيد: (حديث الطائر، وطرق حديث المغفر، وغسل الجمعة، وقبض العلم، وإن أهل الدرجات، ومن كذب علي، ولا نكاح إلا بولي.. وغير ذلك، مما يتتبع أصحاب الحديث طرقه، ويعنون بجمعة ؛ والصحيح من طرقه أقلها. وأكثر من يجمع ذلك: الأحداث منهم، فيتحفظونها ويذاكرون بها. ولعل أحدهم لا يعرف من الصحاح حديثاً وتراه يذكر من الطرق الغريبة والأسانيد العجيبة التي أكثرها موضوع وجلها مصنوع، ما لا ينتفع به، وقد أذهب من عمره جزءاً في طلبه. وهذه العلة هي التي اقتطعت أكثر من في عصرنا من طلبه الحديث عن التفقه به، واستنباط ما فيه من الأحكام. وقد فعل متفقهة زماننا كفعلهم، وسلكوا في ذلك سبيلهم، ورغبوا عن سماع السنن من المحدثين، وشغلوا أنفسهم بتصانيف المتكلمين. فكلا الطائفتين ضيع ما يعنيه، وأقبل على مالا فائدة فيه" ([50]).
فبين الخطيب أن سبب كراهة مالك وغيره لتتبع الطرق وجمع الأسانيد من طلبة الحديث، لا لأنه تتبع وجمع وحسب، ولكنه جمع لطرق أحاديث صحيحة أصلاً، وليس هناك أي فائدة زائدة من تتبع أسانيدها الأخرى التي قد يكون أغلبها ضعيفاً أو باطلاً. ومثال ذلك في عصرنا: ذاك الذي سود صفحات طويلات في تخريج حديث واحد، متوسعاً غاية التوسع في ذكر مصادر العزو، من مسانيد ومعاجم ومشيخات وأجزاء وتواريخ، مع أن الحديث صححه الشيخان من قبل، ولعله وافقهما على تصحيحه أئمة آخرون، ولا مخالف لهم في تصحيحه ؛ فيخرج أخونا هذا، دون أي فائدة زائدة على ما كان قد بدأ به، عندما عزا الحديث للصحيحين ، وهو أن الحديث صحيح!!(12/76)
ثم إنه لا تتحقق كراهية ذلك الجمع للأسانيد إلا بشرط، وهو إذا ما كان الجامع لها من أحداث طلبة العلم وصغارهم، ممن لم يصلوا إلى درجة معرفة قدر جيد من صحيح السنة، فتنقطع أعمارهم في جمع تلك الأسانيد، ولعل أحدهم لا يعرف حديثاً صحيحاً (كما يقول الخطيب)، فذهب عمره فيما لا ينتفع به. فمثل هذا لا تخصص في الحديث، ولا تعلم الفقه ؛ ولذلك عاب عليهم الخطيب انشغالهم عن الفقه بما هم فيه، فالفقه أجل وأشرف بكثير مما هم فيه.
ولذلك قال علي بن المديني: (إذا رأيت طالب الحديث أول ما يكتب الحديث يجمع: حديث الغسل، وحديث من كذب علي ؛ فاكتب على قفاه: لا يفلح " ([51]).
أما إذا كان الجامع لطرق الحديث (ولو كان أصل الحديث صحيحاً بأقل تلك الطرق أو بواحد منها) من الأئمة الكبار في السنة، الذين هم أولاً أئمة في الاطلاع على صحيح السنة والثابت منها، وفي تمييز المقبول من المردود، وهم ثانياً لم يقطعوا أعمارهم في جمع تلك الأسانيد، بدليل إمامتهم واطلاعهم العظيم على السنة ؛ فهؤلاء لو جمعوا أسانيد حديث صحيح بأحد تلك الأسانيد، أي لو قاموا بمثل ما عبناه على الأحداث الصغار في العلم، لما عبناهم بذلك، بل نفرح بجهدهم هذا، ونعتبره من النفائس والأعلاق؛ وذلك لأن جمعهم الأسانيد لم يكن على حساب كمال علمهم بالسنة، ولم يشغلهم عما ينتفعون به من الأحاديث الصحيحة وتمييزها عن السقيمة. ولذلك فإن الأحاديث التي مثل بها الخطيب مما يعاب على الأحداث جمعه، لا يكاد يوجد حديث منها إلا قام بجمع طرقه حفاظ كبار وأئمة أعلام ممن يقتدي بهم.
فحديث الطير للإمام الذهبي فيه مصنف.
وحديث غسل الجمعة جمع طرقه الحافظ ابن حجر، كما نقله الزبيدي في (لقط اللآلي المتناثرة).
وحديث (من كذب علي) جمع طرقه الطبراني وابن الجوزي.
وحديث (لا نكاح إلا بولي) جمع طرقه شرف الدين الدمياطي.
بل إن الخطيب نفسه ذكر جل هذه الأحاديث، في سياق ما ينصح بجمعه، اقتداء بالمحدثين الذين جمعوا تلك الأحاديث ([52]). ومن قبله ذكرها الحاكم في كتابه (معرفة علوم الحديث)، في نوع خاص بها ([53]).
وخلاصة ما سبق، فيما يلام عليه طالب الحديث وما لا يلام عليه من التدقيق في العلم، هو أنه يلام في قضاء العمر: في جمع الأباطيل والمناكير، وعدم تمييزها عن الصحاح المشاهير ؛ وفي تتبع أسانيد حديث صحيح بأحد تلك الطرق، ولا فائدة في تتبع الأسانيد الأخرى، إلا انقضاء الحياة دون معرفة قدر كبير من صحيح السنة وتعلم علوم الحديث.
أما اللوم على التدقيق في العلم مطلقاً، فهو من أعظم الصواد عن العلم، ومن أكبر الدواعي إلى الجهل ؛ وإلا فمتى يصل طالب العلم إلى مصاف العلماء ؟ إذا لم يدقق التدقيق الذي بحسب مرتبته من العلم، والذي هو من باب الترقي في التعلم والتدرج فيه ؛ من هو فهم رؤوس المسائل، إلى فهم فروع المسائل، إلى التفقه في العلم وأدلته وأصوله، إلى الاجتهاد فيه والاستنباط. وقد سبقت عبارة الإمام الشافعي، التي يقول فيها: (من تعلم علماً فليدقق، لكيلا يضيع دقيق العلم).
وإنما أطلت هذه الإطالة في الحث على التخصص، وفي علم الحديث خاصة، لكثرة من يعيب ذلك!! وفي هؤلاء العائبين من نحسن به الظن، وغالبهم من إخواننا المتفننين، كما سبق!!
وأطلت هذه الإطالة أيضاً، لمزيد احتياج علم الحديث إلى التخصص الدقيق حقيقة، وإلى التعمق فيه ؛ وخاصة في هذه الأعصار ؛ فأين هم نقاده وصيارفته ؟! وأين هم أطباء علله ؟!!
الميزة الثانية:
أنه علم مع كثرة أجزائه وتشعب أطرافه، وإلا أنه علم مترابط بقوة، متداخل الأصول والقواعد، فتجد كل جزئية منه تنبني وتتصل بأغلب أو بكثير من أصول وفروع العلم كله. وهذه الميزة في الحقيقة هي صورة من صور الميزة الأولى، فهي صورة من صور صعوبة علم الحديث وشدة مأخذه. فهي لذلك تواجه أيضاً بالتخصص، كما ذكرناه سابقاً.
لكنها تستلزم اتباع أسلوب معين في التخصص، واستخدام طريقة خاصة في التعلم.
فإن تشعب أطراف العلم وكثرتها، مع قوة ترابط ما بينها، وتداخلها بأصول العلم وقواعده ؛ لا يواجه ذلك ويتجاوز هذه العقبة إلا الاستحضار الواسع في الذهن لتلك الأطراف والأصول الكثيرة المتشعبة، وهذا مالا يكون إلا بالحفظ والفهم.
ولأهمية هذا الاستحضار الذهني لمسائل هذا العلم وجزئياته، حرص علماء الحديث على أن ينبهوا إلى أهمية الحفظ وضرورته في علم الحديث، ووضعوا مناهج للحفظ، وبينوا الأسباب التي يستعين بها طالب الحديث في الحفظ.(12/77)
ولذلك تميز المحدثون بالحفظ دون علماء الفنون الأخرى جميعاً ؛ ويقول الخطيب في التدليل لذلك: (الوصف بالحفظ على الإطلاق ينصرف إلى أهل الحديث خاصة، وهو سمة لهم لا تتعداهم، ولا يوصف به أحد سواهم ؛ لأن الراوي يقول: حدثنا فلان الحافظ، فيحسن منه إطلاق ذلك، إذ كان مستعملاً عندهم يوصف به علماء أهل النقل ونقاده. ولا يقول القارئ: لقنني فلان الحافظ، ولا يقول الفقيه: درسني فلان الحافظ، ولا يقول النحوي: علمني فلان الحافظ. فهي أعلى صفات المحدثين، وأسمى درجات الناقلين" ([54]).
وحث المحدثون على الحفظ، حتى قال عبد الرزاق الصنعاني (ت 211هـ): "كل علم لا يدخل مع صاحبه الحمام (يعني يكون محفوظاً في الصدر)، فلا تعده علماً"([55]).
وأنشد قائلهم:
ليس بعلم ما حوى القمطر
ما العلم إلا ما حواه الصدر
فذاك فيه شرف وفخر
وزينة جليلة وقدر
فمن الأسباب التي يستعان بها في حفظ الحديث:
الأول حسن النية:
فإنها مفتاح كل خير، وسبب التوفيق والتيسير والبركة في العلم.
وأورد الخطيب في هذا الباب أثر ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: (إنما يحفظ الرجل على قدر نيته) ([56]).
وقال معمر بن راشد (ت 154هـ): "كان يقال: إن الرجل ليطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم، حتى يكون لله عز وجل" ([57]).
الثاني: اجتناب ارتكاب المحرمات ومواقعة المحظورات:
قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: "إني لأحسب الرجل ينسى العلم، بالخطيئة يعلمها" ([58]) .
وقال رجل للإمام مالك: "يا أبا عبد الله، هل يصلح لهذا الحفظ شيء ؟ قال: إن كان يصلح له شيء، فترك المعاصي" ([59]).
وفي الأبيات المشهورة:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال بأن حفظ العلم نور
ونور الله لا يؤتاه عاصي
الثالث: العمل بالحديث الذي يرويه ويحفظه:
قال سفيان الثوري: (العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل) ([60]).
وقال جماعة من السلف، منهم الشعبي ووكيع: (كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به) ([61]).
والسبب الذي من أجله كان العلم بالحديث مثبتا الحفظ، يظهر جلياً في أن العمل بالحديث يجعل معاني الحديث واقعاً عملياً، والمحسوسات أثبت في الذهن من المعنويات. وأهم من ذلك أن العمل بالعلم سبب لتوفيق الله تعالى إلى العلم والزيادة منه، وكما قال تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله ) ([62]).
الرابع: اغتنام الأوقات المناسبة في اليوم للحفظ:
وهذا أمر يختلف فيه الأشخاص، باختلاف أحوالهم وظروف طلبهم للمعاش وغير ذلك. غير أن الذي يذكره أهل التجربة، هو أن أفضل الأوقات للحفظ: الليل عموماً، والفجر ، ويخصون من الليل آخره وهو وقت السحر، بشرط أن يكون طالب العلم قد نام من أول الليل، وأخذ حاجته من النوم.
ومن جميل الوصايا في ذلك، ما ذكر من أن المنذر قال للنعمان ابنه "يا بني، أحب لك النظر في الأدب بالليل، فإن القلب بالنهار طائر، وبالليل ساكن، وكلما أوعيت فيه شيئاً علقه" ([63]).
فتعقب الخطيب البغدادي هذه الوصية بقوله "إنما اختاروا المطالعة بالليل لخلو القلب، فإن خلوه يسرع إليه الحفظ، ولهذا (لما) قيل لحماد بن زيد: ما أعون الأشياء على الحفظ ؟ قال: قلة الغم. (قال الخطيب( وليس تكون قلة الغم إلا مع خلو السر وفراغ القلب، والليل أقرب الأوقات إلى ذلك" ([64]) .
وقال إسماعيل بن أبي أويس: "إذا هممت أن تحفظ شيئاً، فنم، ثم قم عند السحر، فأسرج، وانظر فيه، فإنك لا تنساه – بعد إن شاء الله") [65]( .
الخامس: اغتنام فترة الصبا والشباب:
واشتهرت كلمة الحسن البصري التي يقول فيها: "طلب الحديث في الصغر كالنقش في الحجر" ([66])، وذاد بعضهم ما معناه: والعلم في الكبر كالنقش في النهر ([67]).
ولذلك كان السلف يبكرون بأولادهم إلى مجالس الحديث، حتى قال عبد الله بن داود الخريبي (ت 213هـ): "ينبغي للرجل أن يكره ولده على سماع الحديث" ([68]).
وقال علقمة بن قيس النخعي (ت62هـ)، في بيان قوة حافظة الشاب ورسوخ حفظه: "ما حفظت وأنا شاب، فكأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة" ([69]).
السادس: اختيار الأماكن المناسبة للتحفظ:
وصفة المكان المناسب: أن يكون مريحاً، لا يشق على النفس المكث به. وأن يكون هادئاً، بعيداً عن الأصوات العالية. وأن يكون خالياً من الملهيات وما يلفت الأنظار ؛ فلا يجلس في حديقة، ولا في ممر الناس وأسواقهم . بل يختار مقصورة أو حجرة في منزله، يتحفظ فيها ([70]).
السابع: الجهر بقراءة ما يراد حفظه:
ولذلك حكمة، بينها والد الزبير بن بكار القرشي (ت 256هـ) عندما رأى ابنه يتحفظ سرا، فقال له: " إنما لك من روايتك هذه (أي: تحفظك سراً) ما أدى بصرك إلى قلبك. فإذا أردت الرواية (أي: الحفظ)، فانظر إليها، واجهر بها ؛ فإنه يكون لك ما أدى بصرك إلى قلبك، وما أدى سمعك إلى قلبك" ([71]).(12/78)
(وهذا تعبير رائع صحيح، وهذا ما يقول فيه علماء التربية وعلم النفس: كلما كثرت الحواس المشاركة في تلقي موضوع أو تعلمه، كان حفظه أسرع وأيسر) ([72]).
الثامن: إحكام الحفظ بكثرة تكريره:.
يقول ابن الجوزي في (الحث على حفظ العلم ): "الطريق إلى إحكامه كثرة الإعادة. والناس يتفاوتون في ذلك، فمنهم من يثبت معه المحفوظ مع قلة التكرار، ومنهم من لا يحفظ إلا بعد التكرار الكثير. وكان أبو إسحاق الشيرازي (ت476هـ) يعيد الدرس مائة مرة، وكان إلكيا الهراسي (504هـ) يعيد سبعين مرة. وقال لنا الحسن بن أبي بكر النيسابوري الفقيه: لا يحصل الحفظ إلي حتى يعاد خمسين مرة. وحكى لنا الحسن أن فقيها أعاد الدرس في بيته مراراً كثيرة، فقالت له عجوز في بيته: قد – والله – حفظته أنا! فقال: أعيديه، فأعادته ؛ فلما كان بعد أيام، قال: يا عجوز، أعيدي ذلك الدرس، فقالت: ما أحفظه، قال: إني أكرر عند الحفظ لئلا يصيبني ما أصابك"([73]).
التاسع: تعهد المحفوظ، بإعادة النظر فيه وتكريره، في أوقات مختلفة:
إذ الحافظة مهما كانت قوية لابد أن تسهو، فالنسيان جبلة الإنسان. ولا يحافظ على ما في الصدر من العلم، إلا مراجعته من حين لآخر، وعدم الاتكال على الحفظ الأول.
قيل للأصمعي: "كيف حفظت ونسي أصحابك ؟! قال: درست وتركوا" ([74]).
وقال علقمة النخعي: " أطيلوا كر الحديث لا يدرس" ([75])، أي: ليكلا يبلى وينسى.
وعلى طالب العلم أن يجعل له جدولاً معيناً لمراجعة محفوظة ؛ فمثلاً: يجعل في نهاية كل أسبوع يوماً لمراجعة ما حفظة في ذلك الأسبوع، وفي نهاية كل شهر يوماً أو يومين لمراجعة محفوظه خلال الشهر كله، وفي نهاية السنة أسبوعاً أو أسبوعين لمراجعة محفوظه خلال السنة جميعها …. وهكذا. العاشر: المذاكرة:
والمذاكرة اصطلاح يستخدمه المحدثون، يعنون بها مطارحات علمية ومساجلات حديثية، يعرض فيها الجلساء من حفاظ الحديث وطلبته لذكر فوائد الأحاديث وغرائب الأسانيد وخفي التعليلات، يسأل بعضهم بعضاً عن ذلك، ويفيد الواحد منهم الآخر ما غاب عنه. وقد كانت المذاكرة هذه من أبرز سمات المحدثين في عصوره الأولى (مثل الرحلة في طلب الحديث)، ولها آدابها وشروطها المنصوص عليها وفوائدها، وأخبارها المروية فيها ([76]).
وللمذاكرة مع الأقران وغيرهم – على المعنى السابق – فائدة عظيمة في تثبيت الحفظ، من جهة أنه تعهد للمحفوظ بتكريره ومراجعته خلال المذاكرة، وتذكير لما نسي منه، ودون إملال أو إضجار، بل في جو من النشاط والتنافس العلمي البناء.
ولذلك قال عبدالله بن بريدة: " قال لي علي بن أب طالب – رضي الله عنه -: تزاوروا، وتذاكروا هذا الحديث، فإنكم أن لم تفعلوا يدرس علمكم" ([77])، أي: يبلى ويخلق.
وقال أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – "تحدثوا، فإن الحديث يهيج الحديث"([78]).
وقال جماعة من السلف عبارة أصبحت شعاراً للمذاكرة، وهي قولهم: "إحياء الحديث مذاكرته" ([79]).
ومن فوائد المذاكرة أيضاً: أنها سبب كبير وداع عظيم للتنافس المحمود بين طلبة العلم. والتنافس في الخير هو الأمل الجاهد لبلوغ الغايات العظام، ولولاه لما سعى للعلياء ماجد، ولما سما للرفعة طامح.
ولشدة التنافس أثناء المذاكرة بين المحدثين كانت من لذائذ علم الحديث ومن متعه الجليلة ؛ حتى قال الوزير ابن العميد: " ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوة ألذ من الرئاسة والوزارة التي أنا فيها، حتى شاهدت مذاكرة سليمان بن أحمد الطبراني وأبي بكر الجعابي بحضرتي، (ثم ذكر تلك المذاكرة، التي غلب فيها الطبراني أبا بكر الجعابي، ثم قال: "فوددت في مكاني أن الوزارة والرئاسة ليتها لم تكن لي وكنت الطبراني، وفرحت مثل الفرح الذي فرح به الطبراني " ([80]).
وقال علي بن المديني: "ستة كادت تذهب عقولهم عند المذاكرة: يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع، وابن عيينة، وأبو داود الطيالسي، وعبد الرزاق ؛ من شدة شهوتهم له. وتذاكر وكيع وعبد الرحمن ليلة في المسجد الحرام، فلم يزالا حتى أذن المؤذن أذان الصبح " ([81]).
وقال عبد الله بن المبارك:
ما لذتي إلا رواية مسندا
ت قيدت بفصاحة الألفاظ
ومجالس فيها تحل سكينة
ومذاكرات معاشر الحفاظ
نالوا الفضيلة والكرامة والنهى
من ربهم برعاية وحفاظ
لاظوا برب العرش لما أيقنوا
أن الجنان لعصبة لواظ
ومن فوائد المذاكرة أيضاً ومن آدابها: إفادة طلبة العلم بعضهم بعضا، وفي ذلك استعجال لأجر وثواب التعليم، قبل بلوغ الدرجة التي يحق فيها لطالب العلم جلوس مجالس المعلمين. وما أدرى طالب العلم ؟ لعله يموت قبل أن يصل إلى أن تتحلق حوله الطلبة!!.
يقول عبدالله بن المبارك: "إن أول منفعة الحديث: أن يفيد بعضكم بعضاً" ([82]).
ويقول الإمام مالك: "بركة الحديث: إفادة بعضهم بعضاً" ([83]).
ويقول سفيان الثوري: "يا معشر الشباب، تعجلوا بركة هذا العلم، فإنكم لا تدرون، لعلكم لا تبلغون ما تؤملون منه، ليفد بعضكم بعضاً" ([84]).(12/79)
هذه هي أهم وسائل حفظ العلم، وأظهر أسباب تثبيته وعدم نسيانه.
ولكن مما ينبغي التنبيه عليه هنا، هو أن للحفظ طريقتين، لا يعجز عن إحداهما جميع الناس. ولكل طريقة منهما مميزاتها وعيوبها ؛ فيحسن أن نذكرهما، بما لهما من محاسن وعيوب. الطريقة الأولى (وهي أشهر الطريقتين):
وهي أنفع للصغار والشباب ومن أوتي موهبة الحفظ: وهي بأن يقرر الطالب على نفسه لكل يوم جزءاً يسيراً من العلم، كأن يكون حديثاً أو حديثين أو أكثر، ويستحسن أن يكون قدراً يسيراً، فإن القليل يثبت والكثير لا يحصل ([85]) ؛ فيتحفظ هذا المقرر يومياً، حتى يغيبه في صدره ؛ ويستمر على ذلك فترة طويلة، هي سنوات طلبه للعلم ؛ مع تعهد المحفوظ دائماً، على المنهج الذي ذكرناه سابقاً في التعهد.
ولهذه الطريقة مميزات وعيوب:
فمن مميزاتها: أنها طريقة منهجية منضبطة، يمكن للطالب مع التزامها والمداومة عليها حفظ كتب برمتها، وتغيب مصنفات كاملة.
ومن مميزاتها أيضاً: أنها أسرع حفظاً من الطريقة التالية، إذ قد لا يجلس الطالب للتحفظ إلا ربع ساعة أو نصفها.
ومن عيوبها: أنها أسرع في التفلت من الطريقة التالية، وأنها أحوج ما تكون للتعهد للمحفوظ والمراجعة له دائماً، وعدم الانقطاع عنه من فترة لأخرى.
ومن عيوبها: أن الذي يلتزم بها الغالب أضيق في الاطلاع من صاحب الطريقة التالية، لأن الطالب معها مقيد بمقرر معين.
وأما الطريقة الثانية للحفظ:
وهي أنفع لكبار السن، ولمن لم يؤت موهبة الحفظ: وتتلخص في إدمان مجالسة كتب السنة، وإدامة القراءة فيها، والجلد في ذلك والصبر عليه، مع الإكثار من النسخ والكتابة، وتعويد اليد على ذلك.
ولذلك لما قيل للإمام البخاري: ما البلاذر ؟ وهو دواء كانوا يظنون قديماً أنه يقوي الذاكرة وينشط الذهن على الحفظ، فأجاب الإمام البخاري، صارفاً لهم إلى البلاذر حقاً، حيث قال: "هو إدامة النظر في الكتب" ([86]).
وقال عبد الله بن المبارك: "من أحب أن يستفيد، فلينظر في كتبه" ([87]).
وقال الحافظ أبو مسعود أحمد بن الفرات (ت 258هـ): "لم نزل نسمع شيوخنا يذكرون أشياء في الحفظ، فأجمعوا أنه ليس شيء أبلغ فيه من كثرة النظر" ([88]).
وأما الكتابة وأثرها في الحفظ، فقد سبق أن ذكرنا أن المحفوظ كلما اشترك فيه أكثر من حاسة، كلما كان ذلك أقوى له وراسخ. فإذا نظر القارئ، وجهر بالقراءة، ثم كتب ؛ فإنه – على حد تعبير والد الزبير ابن بكار – يكون له ما أدى بصره إلى قلبه، وما أدى سمعة إلى قلبه، وما أدت يده إلى قلبه ؛ فلا ينسى بإذن الله تعالى، لأنه اشترك في تحفظه ثلاث حواس.
وقد قال الحسن بن علي – رضي الله عنهما – لبنيه وبني أخيه:
"تعلموا العلم، فإنكم صغار قوم، يوشك أن تكونوا كبارهم غداً، فمن لم يحفظ منكم فليكتب" ([89]).
وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: " ما سمعت شيئاً إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته إلا نفعني " ([90]).
ولهذه الطريقة في الحفظ مميزات وعيوب:
فمن مميزاتها: أن صاحبها بطيء النسيان لمحفوظه، لأن طريقة حفظه تتضمن التعهد معها، بل هو إنما حفظ بالتعهد الكبير!!
ومن مميزاتها: أن صاحبها أوسع استحضاراً من صاحب الطريقة السابقة، لأنه أوسع اطلاعاً.
ومن عيوبها: أن صاحبها لا يستطيع الجزم بأنه يحفظ كتاباً ما، خاصة المطولات. وأيضاً لا يستطيع في كثير من الأحيان أن يؤدي ما حفظ باللفظ، وإنما يؤديه بالمعنى ؛ وللرواية بالمعنى شروط، وتحوم حولها أخطار.
ومن عيوبها: أنها تستلزم وقتاً طويلاً للحفظ، وجلداً وصبراً، وانقطاعاً كاملاً ؛ إذا أراد صاحبها أن ينافس صاحب الطريقة الأولى.
وأما من جمع بين طريقتي الحفظ هاتين فهو الحافظ الكامل، الذي جمع بين محاسن الحفظ، ونجا من عيوبه كلها.
الميزة الثالثة:
أن علم الحديث علم لا تضبط جميع جزئياته قواعد مطردة دائماً، ولا توزن مسائله بمقاييس رياضية ؛ وإنما قواعده وأصوله أغلبية. بل في كثير من مسائل علم الحديث يصرح المحققون من أهل العلم أنه ليس لها قاعدة معينة، وإنما يرجع في كل جزئية منها إلى ملابساتها وقرائنها، ثم يكون الحكم عليها بناء على حالتها الخاصة تلك. وذلك في مثل مسألة (ريادة الثقة)، و (التفرد بأصل)، و(الاعتضاد والتقوي بالمتابعات والشواهد)، وما إلى ذلك من أعظم مسائل علم الحديث.(12/80)
وليس عدم شمول قواعد علم الحديث لجميع جزئياته، ولا عدم وجود قواعد أصلاً لبعض مسائله، بسبب تقصير في تقنين هذا العلم وفي تأصيله من علماء الأمة ؛ بل سببه هو بلوغهم به أقصى غايات التقعيد السليم والتأصيل الصحيح!! وذلك أن علم الحديث مادته الخام هي البشر ونقولهم وأخبارهم، وللبشر باختلاف مواهبهم الخلقية، وبتباين دوافعهم وعقائدهم وسلوكياتهم، وباضطراب أحوالهم من وقت لآخر، وبما يطرأ عليهم من عوامل تغيير نفسية وخارجية ؛ بذلك كله لا يمكن أن يكون لنقول هؤلاء وأخبارهم ضوابط حسابية وموازين رياضية، بل لابد من التعامل مع تلك المادة المتباينة الأجزاء، الكثيرة التغيرات في كل جزء منها، بما يتناسب وذلك ؛ وهذا هو ما فعله أئمة الحديث في عصور تكوين علمهم …. رضي الله عنهم وأرضاهم!!
المهم أن تعلم أن هذه إحدى أعظم مميزات علم الحديث.
وهذه الميزة تعتي: أن تعلم قواعد علم الحديث ودراسة مصطلحه ليس سوى الخطوة الأولى في طلب علم الحديث، مهما تعمق الدارس في تحصيل تلك القواعد والأصول. وما جنى على علم الحديث شيء في العصر الحديث مثل الغفلة عن هذه الحقيقة، وذلك بالتعامل مع الروايات الحديثية بتلك القواعد معاملة من معه قوالب يصب فيها مادته الخام ومعاملة من معه ختوم جاهزة يطبع بها كل مسألة جزئية، دون أن يتنبه إلى أن لكل قاعدة شذوذات، بل يختلق القواعد لما ليس له قاعدة، لعدم استطاعته إلا التعامل مع القوالب الجاهزة!!
وهذه الميزة تعني أيضاً: أن علم الحديث علم حي لا يعيش وينمو في صدر رجل إلا بالممارسة له والتطبيق العملي لقواعده. لأن شذوذات القواعد (وهي كثيرة وإنما سميت شذوذات لأنها بخلاف القاعدة المنصوص عليها)، والمسائل التي لا قواعد لها، لا يحسن الوقوف عليها، ولا يعرف المآخذ والأسس التي تبنى عليها أحكامها، ولا يلحظ الملابسات والقرائن الخاصة بكل مسألة جزئية منها ؛ إلا من عاش علم الحديث تطبيقاً عملياً وممارسة عميقة فترة طويلة من عمره.
وعلى هذا فعلم الحديث يحتاج كل الاحتياج لممارسة طويلة، وتطبيق عملي عميق، ليمكن طالب الحديث بعد مرور زمن طويل من ذلك أن يتنبه لشذوذات القواعد وملابساتها، وأن يقف بنفسه على مآخذ الأحكام في المسائل التي لا قواعد لها وإنما يرجع فيها للقرائن الخاصة بكل مسألة.
يقول الخطيب البغدادي، منبها على أهمية الممارسة العملية في علم الحديث: "قل ما يتمهر في علم الحديث، ويقف على غوامضه، ويستنير الخفي من فوائده، إلا من جمع بين متفرقه، وألف متشتته، وضم بعضه إلى بعض، وانشغل بتصنيف أبوابه، وترتيب أصنافه. فإن ذلك الفعل مما يقوي النفس، ويثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويبسط اللسان، ويجيد البيان، ويكشف المشتبه، ويوضح الملتبس، ويكسب أيضاً جميل الذكر، وتخليده إلى آخر الدهر ". ثم أسند الخطيب إلى عبد الله بن المبارك، أنه قال: "صنفت من ألف جزء جزءاً، ومن نظر في الدفاتر فلم يفلح، فلا أفلح هو أبداً" ([91]).
وهيئة هذه الممارسة التي نطالب بها طالب علم الحديث، هي: أن يقوم الطالب بما يشبه التصنيف والتأليف، إما بتخريج أحاديث كتاب ما أو أحاديث باب فقهي معين، أو بالترجمة لرواة كتاب لم يخدم رواته بالترجمة، أو بالعناية بالرواة المختلف فيهم، أو بجمع أقوال الأئمة وتطبيقاتهم حول قاعدة من علم الحديث أو حول أحد مصطلحاته.. ونحو ذلك من الموضوعات الكثيرة جداً. والأفضل أن ينوع في طبيعة بحوثه، حتى يستفيد فائدة أعم وأشمل.
وبالطبع لا يكون غرضه من هذه البحوث هو تأليف كتاب يخرجه للناس، خاصة في مرحلة تكوينه العلمي، وإنما يكون غرضه من ذلك التعلم والتمرن، للفوائد التي ذكرها الخطيب في كلامه السابق عن الممارسة العملية في علم الحديث.
ولا يمنع ذلك من أن يبتدىء طالب الحديث مشروعاً علمياً كبيراً، من صغر سنه وبدايات طلبه، يجمع له ويرتب ويناقش ويستنبط ويستدل، ويقضي في ذلك عمراً من عمره، وبشرط أن لا يخرج مشروعه هذا إلا بعد بلوغه من العلم ما يكون قد وصل به إلى درجة الإفادة، كأن يشهد له شيوخه وأقرانه باستحقاقه أن يدلي بجهده في تأليف كتاب.
بل إني لأشدد في النصح لطلبة العلم بابتداء مشاريع من هذا القبيل، ولا يستخفوا بأنفسهم ؛ فقد كان الإمام الزهري يقول للفتيان والشباب: "لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان، فاستشارهم، يبتغي حدة عقولهم" ([92]).
ولك في سيرة العلماء قدوة:
فقد بدأ الإمام البخاري تصنيفه للتاريخ الكبير وله من العمر ثمانية عشر عاماً، وبقي في تصنيفه وتحسينه غالب حياته. أما (صحيحه) فمكث في تصنيفه ستة عشر عاماً.
وابتدأ ابن عساكر تصنيف (تاريخ دمشق) بمجلداته الثمانين من صباه، واستمر في جمعه إلى أن شاخ.
وأفنى الطبراني عمره المديد (فقد عمر مائة سنة) في معجمه الأوسط.(12/81)
فعليك يا طالب العلم أن تختار مشروعاً علمياً حديثياً نافعاً، واستشر العلماء والمأمونين في اختيارك، وابدأ في الجمع له والتأليف من فترة مبكرة، ولا تفوت العمر. ثم أنت خلال هذا الجمع تمارس علم الحديث عملياً، وتطبقه واقعياً ؛ فتستفيد فائدتين، بل فوائد، وتعلي همتك، وتقوي عزمك، وتبذل جهدك في طلبك العلم، وتطرد الملل والسأم وقلة الصبر، بما يتجدد لك في بحثك من فوائد، تنظر قطف ثمرتها في مستقبل حياتك العلمية إن شاء الله تعالى.
الميزة الرابعة:
أنه علم مترامي الأطراف، لا ساحل لبحوره، ولا قاع لأعماقة. هذا وصف حقيقي مطابق لواقع حال علم الحديث، وليس كلاماً أدبياً مجازياً. وتحقيق ذلك عندك وتأكيده لديك يظهر: بتذكرك لعظيم تشعب أسانيد الأحاديث وكثرتها، ولتناثر تراجم رواة وتعديلهم التي في غير مظنتها، ولتباعد ما بين تعليلات الأئمة للحديث الواحد في مصادر هذا العلم ؛ مما لا يجمع ذلك كتاب.. بل مكتبة، ولا يحويه مكان واحد.
ولهذه الميزة فإن طالب الحديث في حاجة ماسة إلى مكتبة عامرة بالكتب، مكتبة ضخمة بمعنى الكلمة، تكون بين يديه وقتما يشاء، مكتبة تنمو وتزيد كل يوم بالجديد من المطبوعات والمقدور عليه من المخطوطات، ولا تقف عن النمو ما دام صاحبها حي العلم والروح. حيث إن تلك الميز لا يحل إشكالها، ولا يمكن مواجهتها، إلا بالمكتبة الجامعة لكتب السنة، والمقربة لأطراف هذا العلم المترامية، المعينة على استيعاب جل أو كثير من جزئياته المتفرقة المتشعبة.
ولذلك فعلى طالب العلم أن يتحلى بالبذل والسخاء في اقتناء الكتب، وأن يقدم شراء الكتاب على طعامه وملبسه وملذاته، وأن يحرص كل الحرص على أن لا يفوت كتاباً صغر أو كبر في علم الحديث، في أي فن من فنونه.
ومن نصائح ذي النون المصري (ت 245هـ) في ذلك: "ثلاثة من أعلام الخير في المتعلم: تعظيم العلماء بحسن التواضع لهم، والعمى عن عيوب الناس بالنظر في عيب نفسه، وبذل المال في طلب العلم إيثاراً له على متاع الدنيا" ([93]).
ولذلك قال غير واحد من أهل العلم، منهم شعبة بن الحجاج: "من طلب الحديث أفلس" ([94])، وقال الفضل بن موسى السيناني: "طلب الحديث حرفة المفاليس"([95])، ولما سأل سفيان بن عيينة رجلاً عن حرفته فأجابه الرجل بأنها طلب الحديث، فقال سفيان: "بشر أهلك بالإفلاس" ([96])، وقال شعبة: "إذا رأيت المحبرة في بيت إنسان فارحمه، وإن كان في كمك شيء فأطعمه" ([97])، ولما أثنت امرأة على رجل بخير، وقالت في ثنائها: "لا يتخذ ضرة، ولا يشتري جارية"، أجابتها زوج ذلك الرجل بقولها: "والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر" ([98]).
أما طالب العلم (بزعمه) الذي يقول يغنيني كتاب في السنة وعلومها عن كتاب في ذلك، فليس بطالب علم! ولا يريد أن يكون طالب علم. فإني لا أقول إنه لا يغني كتاب عن كتاب فقط، بل أكاد أقول: لا تغني طبعة عن طبعة أخرى له!!!
وأما طالب العلم الذي بقول: لا أشتري كتاباً حتى أقرأ وأدرس الكتاب الذي عندي، فلا يفلح في العلم أبداً! فإن شراء الكتب وحده عبادة يؤجر عليها فاعلها، لوجوه، منها أنها مما لا ينقطع العمل به بعد الموت، تبقى ينتفع بها من بعده.
ثم إن تكوين المكتبة العامرة يشبه طلب العلم من جهتين:
الأولى: كما أن طلب العلم لا يكون جملة، في أيام وليالي، كذلك تكوين المكتبة، لا يمكن أن يتم إلا من خلال متابعة للجديد من الكتب في عالم المطبوعات ؛ حيث إن الكتب في السنة وعلومها كثيرة جداً، قلة من الأغنياء – ممن يعرف قيمة الكتب – من يستطيع شراء الموجود منها دفعة واحدة. وهناك كتب نادرة، وكتب سرعان ما تنفد من الأسواق، فمن لم يبادر بشرائها فاتته، وسيندم حين لا ينفع الندم، وسيندم إن كان فيه بقية من طالب علم.
الثانية: أن طلب العلم الصادق يلجيء طالب العلم إلى دراسة مسائل ما كان يظن قبل ذلك أنه سيحتاج دراستها، وكذلك تكوين المكتبة ؛ فإن شراءك الكتاب ومعرفتك لما فيه يدلك على كتاب آخر، ربما لم تسمع به، وربما سمعت به ولم تظن أنك محتاج إليه ؛ فالحاجة للكتب تنمو مع نمو طلبك للعلم. وكم من كتاب ما كنت أظن أني سأنظر إليه، أصبح بعد في حجري لا أستغني عنه ما دمت أبحث في العلم. فمن كان يجمع الكتب من بدايات طلبه للعلم، سيحمد ذلك عندما يعرف قيمة ما جمع. وأما من كان لا يشتري حتى يقرأ ما جمع فإن انصلح شأنه، فسيندم على سوء سياسته تلك بعد حين، ولات حين مندم.(12/82)
ولو تصفحت تراجم كبار الأئمة، والعلماء المبرزين، لوجدت أن القاسم المشترك بينهم هو حب الكتب والشغف بها، وأنهم من أصحاب المكتبات العظيمة. وأما رحلتهم مع الكتاب وقصتهم معه، فهي قصص تملؤها العاطفة والتفاني والبذل واحتقار الدنيا وملذاتها: فكم من عالم رضي بالجوع دهراً ليقتني الكتب، وكم من عالم آخر باع ثوبه الذي على جسده أو داره التي يسكنها ليمتلك كتاباً، وكم من عالم رضي ببكاء أهله وأولاده عرياً وحرماناً ولم يرض بيع كتاب له، وكم من إمام بكى وغلب حزنه صبره لما فاته كتاب.. وكم وكم!! ([99])
ومن عجائب ذلك قصة الحافظ أبي العلاء الحسن بن احمد بن سهل الهمذاني العطار (ت 569هـ)، وكان قد جمع كتباً كثيرة، ورحل إلى البلدان من أجل ذلك، وعمل داراً للكتب وخزانة، ووقف جميع كتبه فيها لطلبة العلم!
ومن غرائب ما حصل له في جمعه للكتب: أنه كان مرة ببغداد، ونودي بالمزاد على كتب لابن الجواليقي بمبلغ كبير، فاشتراها أبو العلاء العطار، على أن يوفي الثمن بعد أسبوع، ولم يكن لديه ثمنها. فخرج إلى طريق همذان، فرحل، إلى أن وصلها – فأمر بأن ينادى على داره بالبيع!!! فلما بلغت السعر الذي اشترى به الكتب، قال للمنادي: بيعوا، فقال له المنادي: تبلغ أكثر من ذلك، فلم ينتظر خشية أن ينتهي أمد وفاء ثمن الكتب، فباع داره، ثم ركب إلى بغداد، فوفى الثمن، ولم يشعر أحد بحاله إلا بعد مدة!!!
ولما توفي هذا الإمام رؤي في المنام وهو في مدينة جميع جدرانها مبنية بالكتب، وحوله كتب لا تحصى، وهو مشتغل بمطالعتها!! فقيل له: ما هذه الكتب ؟! قال: سألت ربي أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا، فأعطاني!!
فعلى طلبة الحديث أن يبدؤوا في تكوين مكتبة من بداية طلبهم، شيئاً فشيئاً ؛ فإنهم إن استمروا في الطلب فسيجدون غب ما جمعوا خيراً وفائدة واستغناء وسعادة!
منهج القراءة والتعلم لكتب الحديث والمصطلح:
بعد ذكر المميزات السابقة لعلم الحديث، وما تستلزمه كل ميزة منها من أسلوب معين تواجه به في الطلب والتحصيل ؛ بقي وضع تصور عام لمنهج القراءة والتعلم في كتب الحديث وعلومه:
ولن أكون في هذا المنهج بعيداً عن الواقع، فأطالب جيل اليوم بما كان يلزم به السلف طلاب العلم في زمانهم ؛ كما سئل الإمام أحمد "عن الرجل يكون معه مائة ألف حديث، يقال إنه صاحب حديث ؟ قال: لا، قيل: عنده مائتا ألف حديث، يقال له صاحب حديث ؟ قال: لا، قيل له: ثلاثمائة ألف حديث ؟ فقال بيده يمنة ويسرة" ([100]). وقال أبو بكر ابن أبي شيبة: "من لم يكتب عشرين ألف حديث إملاء لم يعد صاحب حديث" ([101]).
بل لن أزن طلاب اليوم بعرف أهل العلم في القرن الثامن الهجري!! فقد قال تاج الدين السبكي (ت 771هـ): "إنما المحدث من عرف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل، وحفظ من ذلك جملة مستكثرة من المتون، وحفظ البعض من الأسانيد، وسمع الكتب الستة ومسند أحمد وسنن البيهقي ومعجم الطبراني، وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية، هذا أقل درجاته ؛ فإذا سمع ما ذكرناه، وكتب الطباق، ودار على الشيوخ، وتكلم في العلل والأسانيد، كان في أول درجات المحدثين، ثم يزيد الله من شاء ما شاء" ([102]).
فهذا كله بحسب عرفهم!! لكن (لكل زمان دولة ورجال). فلن أخاطب إلا أهل زماني، بضعف هممهم، وكثرة الصوارف لهم عن طلب العلم.. وفي الله الخلف وهو المستعان!
فأول ما يلزم طالب الحديث: هو إدمان النظر في الصحيحين (صحيح البخاري وصحيح مسلم)، بل ينبغي أن يضع الطالب لنفسه مقداراً معيناً من الصحيحين يقرؤه كل يوم، ليختم الصحيحين قراءة في كل سنة مرة في أقل تقدير، ويستمر على ذلك أربع سنوات مثلاً، خلال دراسته الجامعية أو الثانوية ؛ فلا يتخرج إلا وقد قرأ الصحيحين عدة مرات، ليكون مستحضراً غالب متون الصحيحين.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى بقية الكتب التي اشترطت الصحة، كصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن حبان، وموطأ مالك، ومنتقى ابن الجارود.
ويتمم هذه بسنن أبي داود والنسائي، وجامع الترمذي، وسنن الدارمي، وسنن الدارقطني، والسنن الكبرى للبيهقي.
فيقرأ الطالب هذه الكتب، بعناية وتدقيق، ويكثر من القراءة فيها، وخاصة التي اشترطت الصحة، وعلى رأسها الصحيحان.
فإن كان طالب العلم هذا ممن أوتي موهبة الحفظ، فليجمع عزمه على ما يستطيعه من هذه الكتب. ويمكنه أن يبدأ بحفظ (الأربعين النووية) وما ألحقه ابن رجب بها لتمام خمسين حديثاً، ثم ينتقل إلى (عمدة الأحكام) لعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، ثم إلى (بلوغ المرام) لابن حجر، أو (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان) لمحمد فؤاد عبد الباقي، ثم إلى الصحيحين ؛ ثم ما شاء مما يوفقه الله تعالى إليه من الكتب. وأنصحه أن ألا يضيف إلى محفوظه إلا ما حكم عليه بالصحة والقبول من إمام معتبر، إلا بعد أن يستوعب ذلك.(12/83)
ويمكن طالب الحديث أن يكمل قراءته لكتب السنة بقراءة شروح مختصرة لكتب الحديث، مثل (أعلام الحديث) في شرح صحيح البخاري للخطابي، وشرح النووي لصحيح مسلم، وشرح الطيبي لمشكاة المصابيح، وفيض القدير للمناوي. وأسهل من ذلك كله، أن يضع الطالب بجواره أثناء قراءته لكتب السنة كتاب (النهاية في غريب الحديث والأثر) لابن الأثير، لأنه كتاب يعنى بتفسير الكلمات الغريبة لغوياً الواردة في الأحاديث والآثار ؛ ليستطيع من خلال ذلك أن يفهم المعنى العام للحديث، وأن لا يروي ما لا يدري. فإن أراد التوسع: فعليه بمثل (التمهيد) لابن عبد البر، و(طرح التثريب) للعراقي، و(فتح الباري) لابن حجر.
أما بالنسبة لكتب علوم الحديث والمصطلح: فإن كان الطالب صغير السن (في مثل المرحلة الدراسية المتوسطة) فيبدأ بالبيقونية أو (نخبة الفكر) لابن حجر، مع شرح ميسر لها؛ وإن كان في المرحلة الثانوية أو بداية الجامعة فيبدأ بـ (نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر) لابن حجر، أو (الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير) لأحمد محمد شاكر، أو (الغاية شرح الهداية) للسخاوي. ثم ينتقل إلى كتاب ابن الصلاح في علوم الحديث، ويضم إليه شروحه كـ (التقييد والإيضاح) للعراقي و(النكت على كتاب ابن الصلاح) لابن حجر، ويتلو ذلك كتاب (الموقظة) للذهبي. ثم ينتقل إلى الكتب الموسعة في علوم الحديث، مثل (تدريب الراوي) للسيوطي، و(فتح المغيث) للسخاوي، و(توضيح الأفكار) للصنعاني. ثم يدرس بعمق كتاب (الكفاية) للخطيب، و(معرفة علوم الحديث) للحاكم، و(شرح علل الترمذى) لابن رجب، ومقدمة (التمهيد) لابن عبدالبر، ومقدمة (الإرشاد) للخليلي. ثم ينتهي بالتفقه في كلام الشافعي في (الرسالة)، ومسلم في مقدمة (الصحيح)، وأبي داود في (رسالته إلى أهل مكة)، ونحوها.
وبعد تعلمه لـ (نزهة النظر) أو ما ذكرناه في درجتها، وأثناء قراءته لكتاب ابن صلاح، عليه أن يكثر مطالعة كتب التخريج، مثل (نصب الراية) للزيلعي، و(البدر المنير) لابن الملقن، و(التلخيص الحبير) لابن حجر، و(تنقيح التحقيق) لابن عبد الهادي، والسلسلتين و(إرواء الغليل) للألباني. ويحاول خلال هذه القراءة أن يوازن بين ما عرفه من كتب المصطلح وما يقرؤه في كتب التخريج تلك، ليرى نظرياً طريقة التطبيق العملي لتلك القواعد ومعاني المصطلحات.
وإذا ما توسع في قراءة كتب التخريج السابقة، ويدرس كتاباً من الكتب الحديثة في أصول التخريج، مثل (أصول التخريج ودراسة الأسانيد) للدكتور محمود الطحان. ثم يدرس كتاباً أو أكثر في علم الجرح والتعديل، مثل (الرفع والتكميل) للكنوي، وأحسن منه (شفاء العليل) لأبي الحسن المصري. ويدرس أيضاً كتاباً من الكتب التي تعرف بمصادر السنة، كـ(الرسالة المستطرفة )للكتاني، و(بحوث في تاريخ السنة النبوية) للدكتور أكرم ضياء العمري.
ثم يبدأ بالتخريج ودراسة الأسانيد بنفسه، وكلما بكر في ذلك (ولو من أوائل طلبه) كان ذلك أعظم فائدة وأكبر عائدة ؛ لأن ذلك يجعله يطبق القواعد فلا ينساها، ويتعرف على مصادر السنة ومناهجها، ويتمرن في ساحات هذا العلم. والغرض من هذا التخريج – كما سبق – هو الممارسة للتعلم، لا للتأليف ؛ وقد تقدم الحديث عن أهمية هذه الممارسة في علم الحديث.
وأثناء قيامه بالتخريج، عليه أيضاً أن يخص علم الجرح والتعديل التطبيقي بمزيد عناية كذلك ؛ وذلك بقراءة كتبه الكبار، مثل: (تهذيب التهذيب) لابن حجر، و(ميزان الاعتدال) للذهبي ؛ وكتبه الأصول، مثل: (الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم، و(الضعفاء) للعقيلي، و(المجروحين) لابن حبان، و(الكامل) لابن عدي، وكتبه التي هي أصول الأصول، مثل: تواريخ يحيى بن معين وسؤالاته هو والإمام أحمد، (التاريخ الكبير) للبخاري، ونحوها. وهو خلال قراءته هذه يحاول أن يوازن بين استخدام الأئمة لألفاظ الجرح والتعديل وما ذكر عن مراتب هذه الألفاظ في كتب المصطلح. وإن مر به أحد الرواة الذين كثر الاختلاف فيهم، فعليه أن يطيل في دراسته، فإن هؤلاء الرواة مادة خصبة للدراسة والاستفادة.
وما يزال الطالب في الترقي العلمي في قراءة كتب علوم الحديث، فلا يدع منها شاردة ولا واردة، وفي التوسع في التخريج، وفي تمحيص علم الجرح والتعديل ؛ حتى يصل إلى منزلة يصبح قادراً فيها على دراسة كتب العلل، مثل: (العلل) لابن المديني، والترمذي، وابن أبي حاتم، وأجلها (علل الأحاديث) للدارقطني. فيقرأ الطالب هذه الكتب قراءة تدقيق شديد، وتفقه عميق ؛ ليدري بعضاً من أساليب الأئمة في عرض علل الأحاديث، وطرائق اكتشاف تلك العلل، وقواعد الحكم على الأحاديث.
فإذا وصل طالب الحديث إلى هذه المرحلة، فلابد أن رأسه قد أمتلأ بالمشاريع العلمية والبحوث الحديثية، التي تزيده تعمقاً في علم الحديث. فليبدأ (على بركة الله) مشوار العلم الطويل، منتفعاً ونافعاً مستفيداً مفيداً.(12/84)
فإن بلغ طالب الحديث هذه الرتبة، وأسبغ الله عليه نعم توفيقه وتسديده، ومد عليه عمره في عافية، وطالت ممارسته لهذا العلم ؛ فيا بشرى العالم الإسلامي، فقد ولد له محدث!!
وأنبه – أخيراً – أن هذه المنهج التعليمي إنما نطرحه للطالب الذي لم يجد من يوجهه. أما من وجد عالماً ربانيا يعتني به توجيهاً وتعليماً، فعليه أن يقبل عليه بكليته، وأن يلزم عتبة داره ؛ فهو على خير عظيم، وعلى معارج العلم يترقى، ما دام جاثياً في حلقة ذلك العالم.
والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وكتب
الشريف حاتم بن عارف بن ناصر العبدلي العوني
----------------------------
([1]) جامع بيان العلم وفضله: لابن عبد البر. بتحقيق أبي الأشبال الزهيري. دار ابن الجوزي: الدمام، الطبعة الأولى (1414 هـ)= (رقم 2352، وانظر رقم 2351 – 2354).
([2]) بيان جامع العلم وفضله لابن عبد البر (رقم 2349).
([3]) أخرجه مسلم في صحيحه.
([4]) حديث صحيح متفق عليه، صح عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم.
([5]) انظر: شرف أصحاب الحديث، للخطيب. تحقيق محمد سعيد خطيب أو غلي، الطبعة الأولى، نشر دار إحياء السنة النبوية (رقم 46 – 51).
([6]) أخرجه الترمذي وحسنه (رقم 484)، وابن حبان في صحيحه (رقم 911) ؛ وحسنه وصححه غير ما واحد من الأئمة، كما تراه في تخريج الإحسان، والمعجم الكبير للطبراني (10/21 رقم 9800)
([7]) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (رقم 911)
([8]) شرف أصحاب الحديث للخطيب (35).
([9]) شرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم 163).
[10]) حديث أخرجه أصحاب السنن، وصححه الترمذي وغيره. وهو من أصول الدين، ومن قواعد السنة.
([11]) الجامع للخطيب (رقم779).
([12]) انظر الجامع الخطيب (رقم 780-782)، والمدخل إلى السنن للبيهقي (رقم520 – 522)، والموقظة للذهبي (65).
([13]) انظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (64)، والمحدث الفاصل للرامهرمزي (179 رقم 31 – 32)، والمجروحين لابن حبان (1/62)، والكامل لابن عدي (1/58 –59)، والمدخل إلى الإكليل للحاكم (27)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (3/365)، وشرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم150، 151)، ومسألة العلو والنزول لابن طاهر (رقم 9)، وترجمة الزهري من تاريخ دمشق – الترجمة المطبوعة المفردة – (150)
([14]) الجامع للخطيب (رقم93).
([15]) الجامع للخطيب (رقم 96)
([16]) أثر صحيح عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: أخرجه البخاري (رقم 127)، والبيهقي في المدخل إلى السنن (رقم 610)، والخطيب في الجامع (رقم 1355).
([17]) أثر صحيح عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: أخرجه مسلم في مقدمة صحيحة (1/11)، والبيهقي في المدخل إلى السنن (رقم 611) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (رقم 888)، والخطيب في الجامع (رقم 1358).
([18]) رسالة أبي داود إلى أهل مكة (31-32)
([19]) الجامع للخطيب (رقم 1835).
([20]) علل الحديث لابن أبي حاتم (1/9)، و معرفة علوم الحديث للحاكم (113)، والجامع للخطيب (رقم 1837).
([21]) علل الحديث لابن أبي حاتم (1/9)
([22]) الجامع للخطيب (رقم 1838).
([23]) الجامع للخطيب (رقم 1839)
([24]) شرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم 277).
([25]) الجامع للخطيب (1/168 رقم 91).
([26]) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 850)
([27]) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 852).
([28]) المائدة (42)، والحجرات (9)، والممتحنة (8)
([29]) الأنساب المتفقة لابن طاهر المقدسي (3).
([30]) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 853).
([31]) حديث صحيح مشهور، أخرجه أصحاب السنن، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما . وروي من حديث نحو ثلاثين صحابياً. ولأبي عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم بن حكيم المديني (ت333هـ) جزء حديثي عنون به. وللشيخ عبد المحسن العباد (دراسة حديث (نضر الله أمرأ سمع مقالتي) رواية ودراية).
([32]) ما أحسن قوله: (وبوجوب الفضل لأحدهما يثبت الفضل للآخر)! فإنك إن ذكرت فضل الفقيه، قلنا لك: وهل تفقه الفقيه إلا بما رواه له المحدث وميز له صحيحه من سقيمه ؟! وإن ذكرت فضل المحدث، قلنا لك: وهل يكون للرواية فائدة إلا بفقهها للعمل بما فيها ؟!
([33]) هذه الأمثلة الثلاثة، ذكر في كل واحد منها قرينين ، الأول منهما إمام في الفقه والثاني =إمام في الحديث ؛ فمن ينتقص أحد الإمامين ؟!! أمن يستطيع ذلك ؟!!!
([34]) المحدث الفاصل للرامهرمزي (169 – 170).
([35]) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 1944)، والجامع لأخلاق الراوي للخطيب (رقم 1371).
([36]) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 1533).
([37]) الجامع للخطيب (2/251 رقم 1569).
([38]) الجامع للخطيب (رقم 1569).
([39]) الجامع للخطيب (رقم 1570).
([40]) الجامع للخطيب (رقم 1571).
([41]) الجامع للخطيب (رقم 1909).(12/85)
([42]) شرف أصحاب الحديث (رقم 145).
([43]) التكاثر (1).
([44]) جامع بيان العلم لابن عبدالبر (رقم 1988).
([45]) التاريخ لابن معين (رقم 4330)، والجامع للخطيب (رقم 1699).
([46]) الجامع للخطيب (رقم 1700).
([47]) الجامع للخطيب (رقم 1701).
([48]) الجامع للخطيب (126 – 227 رقم 1523، 1528).
([49]) الجامع للخطيب (رقم 1599).
([50]) شرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم 304).
([51]) الجامع للخطيب (رقم 1986)
([52]) الجامع للخطيب (رقم 1983).
([53]) معرفة علوم الحديث للحاكم (250 – 254).
([54]) الجامع للخطيب (رقم 1564).
([55]) الجامع للخطيب (رقم 1818).
([56]) الجامع للخطيب (رقم 1843).
([57]) الجامع لمعمر – بذيل مصنف عبد الرزاق – (11/256)، والمدخل إلى السنن للبيهقي (رقم 519).
([58]) أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن (رقم 487)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (رقم 1195)، والخطيب في الجامع (رقم 1850)، وانظر تخريجه في المصدرين الأولين.
([59]) الجامع للخطيب (رقم 1846).
([60]) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 1274).
([61]) انظر جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 1284، 1286)، والجامع للخطيب (رقم 1851، 1852).
([62]) البقرة (282).
([63]) الجامع للخطيب (رقم 1872).
([64]) الجامع للخطيب (رقم 1872).
([65]) الجامع للخطيب (رقم 1873).
([66]) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 482)، والمدخل إلى السنن للبيهقي (رقم 640).
([67]) انظر: المدخل إلى السنن للبيهقي (رقم 641)، وجامع بيان العلم لابن عبدالبر (رقم 481).
([68]) شرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم 137-139).
([69]) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 483)، والجامع للخطيب (رقم683).
([70]) الحث على حفظ العلم لابن الجوزي (50).
([71]) الجامع للخطيب (رقم 1874).
([72]) تعليق للدكتور محمد عجاج الخطيب على المصدر السابق.
([73]) الحث على حفظ العلم لابن الجوزي (48-49).
([74]) الجامع للخطيب (رقم 1879)، وجامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 641).
([75]) الجامع للخطيب (رقم 1875).
([76]) انظر: معرفة علوم الحديث للحاكم (140-146)، والجامع للخطيب (2/404-421).
([77]) جامع بيان العلم لابن عبدالبر (رقم 623، 687)، وشرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم 202-203).
([78]) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 626)، وشرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم 207-208)، والجامع للخطيب (رقم 1882-1883).
([79]) انظر: جامع بيان العلم لابن عبدالبر (رقم 627، 631، 639)، وشرف أصحاب الحديث للخطيب (رقم 212، 214، 215)، والجامع للخطيب (رقم 1884-1885).
([80]) الجامع للخطيب (رقم 1900).
([81]) الجامع للخطيب (رقم 1899)، بتصرف يسير.
([82]) الجامع للخطيب (رقم 885).
([83]) المدخل إلى السنن للبيهقي (رقم 1493)، ولابن معين عبارة نحوها في الجامع للخطيب (رقم 1494).
([84]) الجامع للخطيب (رقم 1492).
([85]) انظر: الحث على حفظ العلم لابن الجوزي (50).
([86]) جامع بيان العلم لابن عبدالبر (رقم2414).
([87]) الجامع للخطيب (رقم1813).
([88]) الجامع للخطيب (رقم1873).
([89]) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم484)، والمدخل إلى السنن للبيهقي (رقم 632،772).
([90]) جامع بيان العلم لابن عبدالبر (رقم 447).
([91]) الجامع للخطيب (رقم 1913، 1914).
([92]) جامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر (رقم 505، 506).
([93]) المدخل إلى السنن للبيهقي (رقم 685).
([94]) جامع بيان العلم لابن عبدالبر (رقم 597)، والجامع للخطيب (رقم 54، 55، 56).
([95]) الجامع للخطيب (رقم 58).
([96]) الجامع للخطيب (رقم 57).
([97]) الجامع للخطيب (رقم 60).
([98]) الجامع للخطيب (رقم 61).
([99]) وفي كتاب (صفحات من صبر العلماء) لعبدالفتاح أبو غدة أمثلة وافرة من ذلك.
([100]) الجامع للخطيب (رقم 2)
([101]) الجامع للخطيب (رقم 3)، وأدب الإملاء والاستملاء للسمعاني (رقم 28).
([102) معيد النعم ومبيد النقم للسبكي (82-83).
===========================
نصرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (*)
الكاتب: محمد صالح المنجد
بيان بشأن تهجم الصحيفتين النرويجية والدنمركية على نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أحمعين.
أما بعد:(12/86)
فإن من أعظم ما يفتخر به المسلم إيمانه ومحبته لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومع أن المسلم يؤمن بالأنبياء جميعاً - عليهم الصلاة والسلام -، ولا يفرق بين أحد منهم؛ إلا أنه يعتبر النبي محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاتمهم، وأفضلهم، وسيدهم، فهو الذي يُفتح به باب الجنة، وهو الطريق إلى هذه الأمة فلا يؤذن لأحد بدخول الجنة بعد بعثته؛ إلا أن يكون من المؤمنين به - عليه الصلاة والسلام - ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ))]التوبة128[
ومما زادني شرفاً وتيهاً *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيّرت أحمد لي نبيا
أيها المسلمون:
ترى ماذا نقول أمام ما نشرته صحيفة ( جلاندز بوستن ) الدانماركية يوم الثلاثاء 26/8/1426هـ (12) رسماً كاريكاتيرياً ساخر، بمن يا ترى؟! بأعظم رجل وطأت قدماه الثرى، بإمام النبيين، وقائد الغر المحجلين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
صور آثمةٌ وقحةٌ وقاحة الكفر وأهله، أظهروا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إحدى هذه الرسومات عليه عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأسه!! وكأنهم يريدون أن يقولوا إنه - مجرم حرب - (( ألا ساء ما يزرون )).
ثم في هذه الأيام وفي يوم عيد الأضحى بالتحديد – إمعاناً في العداء - تأتي جريدة ( ما جزينت ) النرويجية لتنكأ الجراج وتشن الغارة من جديد ، فتعيد نشر الرسوم ألوقحة التي نُشرت في المجلة الدنمركية قبل! (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ )[ الذاريات53] [1]
بالله ماذا يبقى في الحياة من لذة يوم ينال من مقام محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم لا ينتصر له ولا يذاد عن حياضه . ماذا نقول تجاه هذا العداء السافر ، والتهكم المكشوف .. هل نغمض أعيننا ، ونصم آذاننا ، ونطبق أفواهنا .. وفي القلب عرق ينبض . والذي كرم محمداً وأعلى مكانته لبطن الأرض أحب إلينا من ظاهرها إن عجزنا أن ننطق بالحق وندافع عن رسول الحق . ألا جفت أقلام وشُلت سواعد امتنعت عن تسطير أحرفٍ تذود بها عن حوضه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتدافع عن حرمته .
فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم فداء
مكانة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
أي عبارة تحيط ببعض نواحي تلك العظمة النبوية، وأي كلمة تتسع لأقطار هذه العظمة التي شملت كل قطر، وأحاطت بكل عصر، وكُتب لها الخلود أبد الدهر، وأي خطبة تكشف لك عن أسرارها وإن كُتب بحروف من النور، وكان مداده أشعة الشمس.
إنها العظمة الماثلة في كل قلب، المستقرة في كل نفس، يستشعرها القريب والبعيد، ويعترف بها العدو والصديق، وتهتف بها أعواد المنابر، وتهتز لها ذوائب المنائر.
ألم تر أن الله خلَّد ذكره *** إذ قال في الخمس المؤذن: أشهد
وشقّ له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
إنه النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث الكمال الخُلقي بالذروة التي لا تُنال، والسمو الذي لا يُسامى، أوفر الناس عقلاً، وأسداهم رأيًا، وأصحهم فكرةً، أسخى القوم يدًا، وأنداهم راحة، وأجودهم نفسًا أجود بالخير من الريح المرسلة، يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يبيت على الطوى وقد وُهب المئين، وجاد بالآلاف، لا يحبس شيئًا وينادي صاحبه: "أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً".
أرحب الناس صدرًا، وأوسعهم حلمًا، يحلم على من جهل عليه، ولا يزيده جهل الجاهلين إلا أخذًا بالعفو وأمرًا بالمعروف، يمسك بغرة النصر وينادي أسراه في كرم وإباء: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
أعظم الناس تواضعًا، يُخالط الفقير والمسكين، ويُجالس الشيخ والأرملة، وتذهب به الجارية إلى أقصى سكك المدينة فيذهب معها ويقضي حاجتها، ولا يتميز عن أصحابه بمظهر من مظاهر العظمة ولا برسم من رسوم الظهور.
ألين الناس عريكةً وأسهلهم طبعًا، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مُحرمًا، وهو مع هذا أحزمهم عند الواجب وأشدهم مع الحق، لا يغضب لنفسه، فإذا انتُهِكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، وكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من شدة الغضب.
أشجع الناس قلبًا وأقواهم إرادةً، يتلقى الناس بثبات وصبر، يخوض الغمار ويُنادي بأعلى صوته:
"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب".
وهو من شجاعة القلب بالمنزلة التي تجعل أصحابه إذا اشتد البأس يتقون برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن قوة الإرادة بالمنزلة التي لا ينثني معها عن واجب، ولا يلين في حق، ولا يتردد ولا يضعف أمام شدة.
أعف الناس لسانًا، وأوضحهم بيانًا ، يسوق الألفاظ مُفصلة كالدر مشرقة كالنور، طاهر كالفضيلة في أسمى مراتب العفة وصدق اللهجة.(12/87)
أعدلهم في الحكومة وأعظمهم إنصافًا في الخصومة يَقِيدُ من نفسه ويقضي لخصمه، يقيم الحدود على أقرب الناس، ويقسم بالذي نفسه بيده: " لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ".
أسمى الخليقة روحًا، وأعلاها نفسًا، وأزكاها وأعرفها بالله ، وأشدها صلابة وقيامًا بحقه، وأقومها بفروض العبادة ولوازم الطاعة، مع تناسق غريب في أداء الواجبات ، واستيعاب عجيب لقضاء الحقوق ، يُؤتي كل ذي حق حقه، فلربه حقه، ولصاحبه حقه، ولزوجه حقها، ولدعوته حقها، أزهد الناس في المادة وأبعدهم عن التعلق بعرض هذه الدنيا، يطعم ما يقدم إليه فلا يرد موجوداً ولا يتكلف مفقودا ، ينام على الحصير والأدم المحشو بالليف.
قضى زهرة شبابه مع امرأة من قريش تكبره بخمس عشرة سنة، قد تزوجت من قبله وقضت زهرة شبابها مع غيره ، ولم يتزوج معها أحدًا وما تزوج بعدها لمتعة، وما كان في أزواجه الطاهرات بكرًا غير عائشة التي أعرس بها وسنها تسع سنين، يسرب إليها الولائد يلعبن معها بالدمي وعرائس القطن والنسيج.
أرفق الناس بالضعفاء وأعظمهم رحمة بالمساكين والبائسين، شملت رحمته وعطفه الإنسان والحيوان، ويحذر أصحابه، فيقول لهم: "إن امرأة دخلت النار بسبب هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".
لو لم يكن للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الفضل إلا أنه الواسطة في حمل هداية السماء إلى الأرض، وإيصال هذا القرآن الكريم إلى العالم لكان فضلاً لا يستقل العالم بشكره، ولا تقوم الإنسانية بكفائه، ولا يُوفى الناس حامله بعض جزائه.
ذلك قبس من نور النبوة، وشعاع من مشكاة الخلق المحمدي الطاهر، وإن في القول بعد لسعة وفي المقام تفصيلاً.
وسل التاريخ ينبئك هل مر به عظيم أعظم من النبي محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فقد عُصم من النقائص، وعلا عن الهفوات، وجلّ مقامه عن أن تلصق به هفوة.
خُلقتَ مُبرءًا من كل عيب *** كأنك قد خُلقت كما تشاء
من أقوال الغربيين في النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إن المنصفين من المشاهير المعاصرين عندما اطلعوا على سيرة رسول الله محمد لم يملكوا إلا الاعتراف له بالفضل والنبل والسيادة، وهذا طرفٌ من أقوال بعضهم :
1- يقول مايكل هارت في كتابه "الخالدون مئة" ص13، وقد جعل على رأس المئة سيدَنا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يقول:
"لقد اخترت محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول هذه القائمة ... لأن محمدا عليه السلام هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحا مطلقا على المستوى الديني والدنيوي ، وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات وأصبح قائدا سياسيا وعسكريا ودينيا، وبعد 13 سنة من وفاته، فإن أثر محمد عليه السلام ما يزال قويا متجددا".
وقال ص 18: "ولما كان الرسول صلي الله عليه وسلم قوة جبارة لا يستهان بها فيمكن أن يقال أيضا إنه أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ".
2- برناردشو الإنكليزي ، له مؤلف أسماه (محمد)، وقد أحرقته السلطة البريطانية ، يقول :
"إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، وإنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوفّق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها".
3- ويقول آن بيزيت :
"من المستحيل لأي شخص يدرس حياة وشخصية نبي العرب العظيم ويعرف كيف عاش هذا النبي وكيف علم الناس، إلا أن يشعر بتبجيل هذا النبي الجليل، أحد رسل الله العظماء...
هل تقصد أن تخبرني أن رجلاً في عنفوان شبابه لم يتعد الرابعة والعشرين من عمره بعد أن تزوج من امرأة أكبر منه بكثير وظل وفياً لها طيلة 26 عاماً ثم عندما بلغ الخمسين من عمره - السن التي تخبو فيها شهوات الجسد - تزوج لإشباع رغباته وشهواته؟! ليس هكذا يكون الحكم على حياة الأشخاص."
4- تولستوي (الأديب العالمي) :
"يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة".
5- شبرك النمساوي :
"إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، إذا توصلنا إلى قمّته".
6- الدكتور زويمر الكندي ،مستشرق كندي :(12/88)
"إن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضاً بأنه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجريئاً مغواراً، ومفكراً عظيماً، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء".
7- الفيلسوف إدوار مونته الفرنسي :
"عُرِف محمد بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق".
8- الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل الحائز على جائزة نوبل يقول في كتابه الأبطال :
" لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب ، وأن محمداً خدّاع مزوِّر.
وقد رأيناه طول حياته راسخ المبدأ ، صادق العزم بعيداً ، كريماً بَرًّا ، رؤوفاً ، تقياً ، فاضلاً ، حراً ، رجلاً ، شديد الجد ، مخلصاً ، وهو مع ذلك سهل الجانب ، ليِّن العريكة ، جم البشر والطلاقة ، حميد العشرة ، حلو الإيناس ، بل ربما مازح وداعب.
كان عادلاً ، صادق النية ، ذكي اللب ، شهم الفؤاد ، لوذعياً ، كأنما بين جنبيه مصابيح كل ليل بهيم ، ممتلئاً نوراً ، رجلاً عظيماً بفطرته ، لم تثقفه مدرسة ، ولا هذبه معلم ، وهو غني عن ذلك".
و بعد أن أفاض كارليل في إنصاف النبي محمد ختم حديثه بهذه الكلمات : "هكذا تكون العظمة، هكذا تكون البطولة، هكذا تكون العبقرية".
9- ويقول جوتة الأديب الألماني :
"إننا أهل أوربة بجميع مفاهيمنا ، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد ، وسوف لا يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان ، فوجدته في النبي محمد … وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد".
10- وقال شاتليه الفرنسي :
"إن رسالة محمد هي أفضل الرسالات التي جاء بها الأنبياء قبله".
11- يقول وليم المؤرخ الإنجليزي الكبير في كتابه ((حياة محمد)) :
" لقد امتاز محمد عليه السلام بوضوح كلامه ويسر دينه و قد أتم في الأعمال ما يدهش العقول و لم يعهد التاريخ مصلحا أيقظ النفوس أحيا الأخلاق و أرفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل نبي الإسلام محمد".
12- قالت الدكتورة زيجرد هونكة الألمانية :
" أن محمد و الإسلام شمس الله على الغرب".
فإن كان ذلك كذلك فإن من واجب العالم كله – ولا محيص لهم عن ذلك – أن يجعل عظمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخلق جميعًا فوق كل عظمة، وفضله فوق كل فضل، وتقديره أكبر من كل تقدير، ولو لم يكن له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مؤيدات نبوته وأدلة رسالته إلا سيرته المطهرة وتشريعه الخالد لكانا كافيين، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
صدق نبوة النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
من كلام شيخ الإسلام:
ومعلوم أن مدعى الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم ، ولهذا قال أحد أكابر ثقيف للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بلغهم الرسالة ودعاهم إلى الإسلام والله لا أقول لك كلمة واحدة إن كنت صادقا فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك وإن كنت كاذبا فأنت أحقر من أن أرد عليك ، فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلق وأرذلهم .
وما أحسن قول حسان - رضي الله عنه - :
لَو لَم تَكُن فيهِ آياتٌ مُبَيَّنَةٌ *** كانَت بَديهَتُهُ تُنبيكَ بِالخَبَرِ
وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز .
وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز ، فإن الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور ، ويأمرهم بأمور، ولا بد أن يفعل أمورا .
والكذاب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة. والصادق يظهر في نفس ما يأمر به وما يخبر عنه ويفعله ما يظهر به صدقه من وجوه كثيرة .
ولهذا قال تعالى : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(223)}.
والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب ولا يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب،ولهذا لما أنزل الوحي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول مرة ، ونزلت عليه الآيات من أول سورة العلق ، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ !!(12/89)
قَالَ لِخَدِيجَةَ أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ قَالَتْ خَدِيجَةُ كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ !!
فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ ، فقال وَرَقَةُ :
هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى !!
فاشتملت هذه الواقعة على نوعين من طرق الاستدلال على صحة نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعظيم قدره عند ربه ، وأنه ليس ممن يخزيه الله تعالى :
النوع الأول : الاستدلال بأحواله وأخلاقه وأعماله ، وبهذا استدلت خديجة رضي الله عنها .
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الصدق من نفسه أكثر مما يعلمه غيره منه ، وإنما خاف في أول الأمر أن يكون قد عرض له عارض سوء ، فذكرت خديجة ما ينفي هذا ؛ وهو ما كان مجبولا عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والأعمال ؛ وهو الصدق المستلزم للعدل، والإحسان إلى الخلق ، ومن جمع فيه الصدق والعدل والإحسان لم يكن مما يخزيه الله ، وصلة الرحم وقرى الضيف وحمل الكل وإعطاء المعدوم ، والإعانة على نوائب الحق هي من أعظم أنواع البر والإحسان ، وقد علم من سنة الله أن من جبله الله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإنه لا يخزيه .
وبهذه الطريقة - أيضا - استدل هرقل ملك الروم ، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لما كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام ، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى غزة ، فطلبهم وسألهم عن أحوال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فطلب هرقل أبا سفيان ، فَقَالَ : أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ !!
ثم سأله : كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ فقال : قُلْتُ : هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ .... ، إلى آخر الأسئلة التي سأل أبا سفيان عنها .
ثم قال هرقل لترجمانه ، بعد انتهاء ما عنده من الأسئلة ، وسماع جواب أبي سفيان عنها :
قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا .
وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ .
وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا ، قُلْتُ : فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ .
وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا ؛ فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ .
وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ . وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ .
وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ .
وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ .
وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ ؛ فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ !!
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ولهذا أخبرت الأنبياء المتقدمون أن المتنبىء الكذاب لا يدوم إلا مدة ، يسيرة وهذه من بعض حجج ملوك النصارى الذين يقال إنهم من ولد قيصر هذا أو غيرهم ، حيث رأى رجلا يسب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، من رؤس النصارى ، ويرميه بالكذب فجمع علماء النصارى وسألهم عن المتنبىء الكذاب : كم تبقى نبوته ؟(12/90)
فأخبروه بما عندهم من النقل عن الأنبياء أن الكذاب المفتري لا يبقى إلا كذا وكذا سنة ، لمدة قريبة إما ثلاثين سنة أو نحوها !!
فقال لهم : هذا دين محمد له أكثر من خمسمائة سنة ، أو ستمائة سنة [ يعني : في أيام هذا الملك ] ، وهو ظاهر مقبول متبوع ، فكيف يكون هذا كذابا ؟؟
ثم ضرب عنق ذلك الرجل !!
والنوع الثاني : الاستدلال بالنظر في رسالته وما جاء به ، ومقارنتها بما جاء به الرسل من قبله : وبهذا استدل ورقة بن نوفل على صحة نبوته لما سمع ما جاء به ؛ فالنبوة في الآدميين هي من عهد آدم عليه السلام .
وقد علم ما كانت عليه الرسل من الأقوال والأحوال على وجه العموم ؛ فالمدعي للرسالة ، إذا أتى بما يظهر به مخالفته للرسل علم أنه ليس منهم ، وإذا أتى بما هو من خصائص الرسل علم أنه منهم ، لا سيما إذا علم أنه لا بد من رسول منتظر .
ولهذا قال الله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146)الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ(147) .
وبهذه الطريقة ـ أيضا ـ استدل النجاشي على صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وآمن به بعد ذلك ، فإنه لما سألهم عما يخبر به ، واستقرأهم القرآن فقرؤه عليه ، قال : ( إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة ) .
[ انظر : شرح العقيدة الأصفهانية ، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ] .
الدفاع عن النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إن من واجب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا أن نحبه ونجله ونبجله ونعظمه ونتبع سنته في الظاهر والباطن،وأن نذب عنه كيد الكائدين ومكر الماكرين .
وفي هذا العصر المليء بالفتن والشرور على الأمة الإسلامية؛ فإننا نجد حملة ضارية سيئة من عدد من الرهبان والقسس وضعاف النفوس وضعاف العقول على شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام.
فيا لله كيف تنبري فرقة أومنظمة أوأفراد بالقدح أو الحط من قدر هذا النبي الخالد.
كذبتم وايم الله يبزى محمد *** ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله *** ونذهل عن أبنائنا والحلائل
إن الهجوم الإعلامي على الإسلام ذو جذور قديمة قدم الإسلام ، وهو أحد الأساليب التي اتخذها الكفار للصد عن سبيل الله تعالى ، بدأ من كفار قريش وحتى عصرنا الحاضر ، وهذا الهجوم له ألوان كثيرة ولكنها في أغلبها كانت محصورة في نطاق الشبهات والمغالطات والطعون ، لكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، انتقل الهجوم إلى لون جديد قذر لم يُعهد من قبل وهو التعرض لشخص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والنيل من عرضه وذاته الكريمة ، وقد اتسم هذا الهجوم بالبذاءة والسخرية والاستهزاء ، مما يدل دلالة واضحة أن هذا التهجم له منظمات وله استراتيجيات خاصة ، تتركز على استخدام وسائل الإعلام بل ويقومون به أناس متخصصون مدعومون من بعض قساوسة النصارى لا كلهم..
قال جيري فالويل: «أنا أعتقد أن محمداً كان إرهابياً»، «في اعتقادي.. المسيح وضع مثالاً للحب، كما فعل موسى، وأنا أعتقد أن محمداً وضع مثالاً عكسياً»، «إنه كان لصاً وقاطع طريق».
وقال بات روبرتسون: «كان مجرد متطرف ذو عيون متوحشة تتحرك عبثاً من الجنون».
وقال جيري فاينز: «شاذ يميل للأطفال، ويتملكه الشيطان».
وقال جيمي سوجارت: «إنه شاذ جنسياً»، «ضال انحرف عن طريق الصواب».
هذا غير تصويره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صراحة في الرسوم الكاريكاتورية في مواقف ساخرة وضيعة.
وهكذا انتقل الهجوم على الإسلام من طرح الشبهات إلى إلقاء القاذورات، ولم يجد المهاجمون في الإسلام ولا في شخص خاتم الأنبياء ما يرضي رغبتهم في التشويه، ووجدوا أن الشبهات والطعن الفكري من الأمور التي يسهل تفنيدها وكشف زيفها أمام قوة الحق في الإسلام، فلجؤوا إلى التشويه الإعلامي، وخاصة أنهم يملكون نواصيه في الغرب.
هذه القضية تثير غيرة كل مسلم، وتدفعه إلى التساؤل عن أسباب هذه الهجمة، والأغراض الكامنة وراءها، ومدى تأثيرها.
العوامل الدافعة للنيل من شخصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
- سرعة انتشار الإسلام، والتي تثير غيرة كل المعادين للدين، سواء أكانوا من النصارى أو اليهود، أو من العلمانيين والملحدين.
- حسد القيادات وخصوصاً الدينية، فإن كثيراً من هؤلاء يغيظهم شخص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل حتى المنافقين في العالم الإسلامي، لما يرون من لمعان اسم النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل الأرجاء وكثرة أتباعه وتوقير المسلمين الشديد لنبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا ما يثير حسدهم.(12/91)
- عامل الخوف، ليس الخوف من انتشار الإسلام في الغرب فحسب بل الخوف من عودة المسلمين في العالم الإسلامي إلى التمسك بدينهم، وهم الآن يستغلون ضعف المسلمين في كثير من الجوانب، مثل الجانب الاقتصادي والإعلامي، ويريدون أن يطفئوا هذا النور قبل أن ينتشر في العالم.
حكم من سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أجمع العلماء على أن من سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المسلمين فهو كافر مرتد يجب قتله .
وهذا الإجماع قد حكاه غير واحد من أهل العلم كالإمام إسحاق بن راهويه وابن المنذر والقاضي عياض والخطابي وغيرهم . الصارم المسلول 2/13-16 .
وقد دل على هذا الحكم الكتاب والسنة :
أما الكتاب؛ فقول الله تعالى : ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) التوبة / 66 .
فهذه الآية نص في أن الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله كفر ، فالسب بطريق الأولى ، وقد دلت الآية أيضاً على أن من تنقص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد كفر ، جاداً أو هازلاً .
وأما السنة؛ فروى أبو داود (4362) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَهُودِيَّةً كَانَتْ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَعُ فِيهِ ، فَخَنَقَهَا رَجُلٌ حَتَّى مَاتَتْ ، فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهَا .
قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (2/126) : وهذا الحديث جيد ، وله شاهد من حديث ابن عباس وسيأتي اهـ .
وهذا الحديث نص في جواز قتلها لأجل شتم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى أبو داود (4361) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَشْتُمُهُ، فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ [سيف قصير] فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ . فَقَامَ الْأَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةَ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَلا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ). صححه الألباني في صحيح أبي داود (3655) .
والظاهر من هذه المرأة أنها كانت كافرة ولم تكن مسلمة، فإن المسلمة لا يمكن أن تقدم على هذا الأمر الشنيع، ولأنها لو كانت مسلمة لكانت مرتدةً بذلك، وحينئذٍ لا يجوز لسيدها أن يمسكها ويكتفي بمجرد نهيها عن ذلك.
وروى النسائي (4071) عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : أَغْلَظَ رَجُلٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، فَقُلْتُ : أَقْتُلُهُ ؟ فَانْتَهَرَنِي، وَقَالَ : لَيْسَ هَذَا لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . صحيح النسائي (3795)
فعُلِم من هذا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان له أن يقتل من سبه ومن أغلظ له ، وهو بعمومه يشمل المسلم والكافر .
إذا تاب من سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهل تقبل توبته أم لا ؟
اتفق العلماء على أنه إذا تاب توبة نصوحاً، وندم على ما فعل، أن هذه التوبة تنفعه يوم القيامة، فيغفر الله تعالى له.
واختلفوا في قبول توبته في الدنيا، وسقوط القتل عنه.
فذهب مالك وأحمد إلى أنها لا تقبل، فيقتل ولو تاب.واستدلوا على ذلك بالسنة والنظر الصحيح :(12/92)
أما السنة فروى أبو داود (2683) عَنْ سَعْدٍ بن أبي وقاص قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَسَمَّاهُمْ وَابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ : وَأَمَّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ( يفطن لصواب الحكم ) يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ ؟ فَقَالُوا : مَا نَدْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ، أَلا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ ؟ قَالَ: إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ . صححه الألباني في صحيح أبي داود (2334) .
وهذا نص في أن مثل هذا المرتد الطاعن لا يجب قبول توبته ، بل يجوز قتله وإن جاء تائباً .
وكان عبد الله بن سعد من كتبة الوحي فارتد وزعم أنه يزيد في الوحي ما يشاء ، وهذا كذب وافتراء على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من أنواع السب. ثم أسلم وحسن إسلامه ، فرضي الله عنه . (الصارم المسلول 115).
ذكر العظيم آبادي في شرح الحديث :
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَعْنَى الرَّشِيد هَهُنَا الْفِطْنَة، لِصَوَابِ الْحُكْم فِي قَتْله اِنْتَهَى .
وَفِيهِ أَنَّ التَّوْبَة عَنْ الْكُفْر فِي حَيَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مَوْقُوفَة عَلَى رِضَاهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الَّذِي اِرْتَدَّ وَآذَاهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا آمَنَ سَقَطَ قَتْله قَالَهُ السِّنْدِيُّ ا هـ. من عون المعبود.
وأما النظر الصحيح :
فقالوا : إن سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعلق به حقان؛ حق لله، وحق لآدمي . فأما حق الله فظاهر، وهو القدح في رسالته وكتابه ودينه. وأما حق الآدمي فظاهر أيضا فإنه أدخل المَعَرَّة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا السب، وأناله بذلك غضاضة وعاراً. والعقوبة إذا تعلق بها حق الله وحق الآدمي لم تسقط بالتوبة، كعقوبة قاطع الطريق، فإنه إذا قَتَل تحتم قتله وصلبه، ثم لو تاب قبل القدرة عليه سقط حق الله من تحتم القتل والصلب، ولم يسقط حق الآدمي من القصاص، فكذلك هنا، إذا تاب الساب فقد سقط بتوبته حق الله تعالى، وبقي حق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يسقط بالتوبة
فإن قيل : ألا يمكن أن نعفو عنه ، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد عفا في حياته عن كثير ممن سبوه ولم يقتلهم ؟.
فالجواب :كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تارة يختار العفو عمن سبه، وربما أمر بقتله إذا رأى المصلحة في ذلك، والآن قد تَعَذَّر عفوُه بموته، فبقي قتل الساب حقاًّ محضاً لله ولرسوله وللمؤمنين لم يعف عنه مستحقه، فيجب إقامته . الصارم المسلول 2/438 .
وخلاصة القول :
أن سب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أعظم المحرمات، وهو كفر وردة عن الإسلام بإجماع العلماء، سواء فعل ذلك جاداًّ أم هازلاً. وأن فاعله يقتل ولو تاب، مسلما كان أم كافراً. ثم إن كان قد تاب توبة نصوحاً، وندم على ما فعل، فإن هذه التوبة تنفعه يوم القيامة، فيغفر الله له .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، كتاب نفيس في هذه المسألة وهو (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ينبغي لكل مؤمن قراءته ، لاسيما في هذه الأزمان التي تجرأ فيها كثير من المنافقين والملحدين على سب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما رأوا تهاون المسلمين، وقلة غيرتهم على دينهم ونبيهم، وعدم تطبيق العقوبة الشرعية التي تردع هؤلاء وأمثالهم عن ارتكاب هذا الكفر الصراح. نسأل الله تعالى أن يعز أهل طاعته ، ويذل أهل معصيته .
عاقبة من سب رسول الله في الدنيا :
إن الله عز وجل يغار على دينه، ويغار على نبيه، ومن غيرته تعالى أنه ينتقم ممن آذى رسوله، لأن من آذى رسوله فقد آذى الله، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً) (الأحزاب:57).(12/93)
والله تعالى قد تولى الدفاع عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا)، وأعلن عصمته له من الناس (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ) وأخبر أنه سيكفيه المستهزئين (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) سواء كانوا من قريش أو من غيرهم .
قال الشنقيطي رحمه الله: وذكر - الله - في مواضع أخرى أنه كفاه غيرهم كقوله في أهل الكتاب (فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ..) وقال (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) .
وقال ابن سعدي رحمه الله: " وقد فعل تعالى ، فما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة ".أهـ
أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل وابن مردويه بسند حسن والضياء في المختارة، عن ابن عباس في قوله (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال: المستهزئون، الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عبطل السهمي والعاص بن وائل، فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أرني إياهم، فأراه كل واحد منهم، وجبريل يشير إلى كل واحد منهم في موضع من جسده ويقول : كَفَيْتُكَهُ، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما صنعت شيئا !. فأما الوليد، فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً فأصاب أكحله فقطعها. وأما الأسود بن المطلب، فنزل تحت سمرة فجعل يقول: يابنيّ، ألا تدفعون عني؟ قد هلكت وطُعنت بالشوك في عينيّ فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً فلم يزل كذلك حتى عتمت عيناه . وأما الأسود بن عبد يغوث، فخرج في رأسه قروح فمات منها . وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منه . وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل من أخمص قدمه شوكة فقتلته ( الدر المنثور 5/101) .
قصة الرجل الذي كان يكتب لرسول الله :
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ:" مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ"، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الْأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ) رواه البخاري ومسلم.
الصغيران اللذان قتلا أبا جهل الذي يسب رسول الله :
عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ (بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ قُلْتُ نَعَمْ مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي قَالَ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ قُلْتُ أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ أَيُّكُمَا قَتَلَهُ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَا قَتَلْتُهُ فَقَالَ هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا قَالَا لَا فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ كِلَاكُمَا قَتَلَهُ سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ) رواه البخاري .
كانوا يستبشرون بهزيمة من سب رسول الله :(12/94)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله : " وإنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه ، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد ، ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول ، أهل الفقه والخبرة، عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة ، ويكون فيهم ملحمة عظيمة ، قالوا : حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه ، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه . وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل الغرب – يعني المغرب - حالهم مع النصارى كذلك.أهـ ( الصارم المسلول ص 116-117)
استنصار بعض النصارى بكتاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
وبالمقابل فقد علم بعض ملوك النصارى أن إكرام كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقي فيه الملك ما شاء الله . ذكر السهيليُ أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيماً له ، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة ، ثم كان عند سِبطه ، فحدثني بعضُ أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب ، فلما رآه استعبر ، وسأل أن يمكِّنه من تقبيله فامتنع .
ثم ذكر ابن حجر عن سيف الدين فليح المنصوري أن ملك الفرنج أطلعه على صندوق مُصفَّح بذهب ، فأخرج منه مقلمة ذهب ، فأخرج منها كتاباً قد زالت أكثر حروفه ، وقد التصقت عليه خِرقَة حرير ، فقال : هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر ، ما زلنا نتوارثه إلى الآن ، وأوصانا آباؤُنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا ، فنحن نحفظه غاية الحفظ ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا " أهـ .
قصة الشيخ محمد شاكر مع خطيب الجمعة الذي سب رسول الله :
ذكر الشيخ أحمد شاكر أن والده الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقاً كفّر أحد خطباء مصر ، وكان فصيحاً متكلماً مقتدراً وأراد هذا الخطيب أن يمدح أحد أمراء مصر عندما أكرم طه حسين ، فقال في خطبته : جاءه الأعمى فما عبس بوجهه وما تولى ! .
وهو يريد بذلك التعريض برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث أن القرآن ذكر قصته مع الأعمى فقال تعالى :} عَبَسَ وَتَوَلَّى(1)أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى(2){.
فبعد الخطبة أعلن الشيخ محمد شاكر الناس : صلاتهم باطلة، وأمرهم أن يعيدوا صلاتهم لأن الخطيب كفر بهذه الكلمة التي تعتبر شتم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعريضاً لا تصريحاً .
هذا ولم يكن الشيخ محمد شاكر رحمه الله ممن يطلقون الأحكام جزافاً ولم يكن يفعل ذلك لمطلب دنيوي أو لمرضاة ذي سلطان ، إذ لم تكن حالة الأزهر في زمانه مثل ما هي عليه في زماننا هذا .
عاقبة هذا المجرم :
ولكن الله لم يدع لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الآخرة .
قال الشيخ أحمد شاكر : ( ولكن الله لم يدعْ لهذا المجرم جرمه في الدنيا ، قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسمُ بالله لقد رأيته بعيني رأسي - بعد بضع سنين وبعد أن كان عالياً منتفخاً ، مستعزّاً بمَن لاذ بهم من العظماء والكبراء - رأيته مهيناً ذليلاً ، خادماً على باب مسجد من مساجد القاهرة ، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار ، حتى لقد خجلت أن يراني ، وأنا أعرفه وهو يعرفني ، لا شفقة عليه ، فما كان موضعاً للشفقة ، ولا شماتة فيه ؛ فالرجل النبيل يسمو على الشماتة ، ولكن لما رأيت من عبرة وعظة ) .
قصة الذي أراد الشهادة العليا ، وسب رسول الله :
ذهب أحدهم لنيل شهادة عليا من خارج بلاده ، فلما أتم دراسته وكانت تتعلق بسيرة النبي المصطفى صل الله عليه وسلم طلب منه أستاذه من النصارى أن يسجل في رسالته ما فيه انتقاص للنبي صل الله عليه وسلم وتعريض به ثمناً لتلك الشهادة .
فتردد الرجل بين القبول والرفض ولكنه فضل اختيار الدنيا على الآخرة ، وأجابهم إلي ما أرادوا طمعاً في نيل تلك الشهادة الملوثة .
فلما عاد إلى بلده فوجئ بهلاك جميع أولاده وأهله في حادث مفاجئ ، ولعذاب الآخرة اشد وأبقى .
واجبنا في نصرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إن الله عز وجل يقول : ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(لأعراف: من الآية157) فواجب علينا أيها الأحبة ! أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .(12/95)
هناك وسائل فردية يستطيع الفرد القيام بتحقيقها في حياته العلمية والعملية ، ومن أهم تلك الوسائل العامة التي نبين فيها بجلاء نصرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يلي :
- الاحتجاج على الصعيد الرسمي على اختلاف مستوياته، واستنكار هذا التهجم بقوة، وإننا نعجب أن الشجب والاستنكار الذي نحن أهله دائماً لم يستعمل هذه المرة، ونعجب أخرى أن يستنكر هذه الإساءة وزير خارجية بريطانيا، سابقاً بذلك آخرين كانوا أحق بها وأهلها.
- الاحتجاج على مستوى الهيئات الشرعية الرسمية كوزارات الأوقاف، ودور الفتيا، والجامعات الإسلامية.
- الاحتجاج على مستوى الهيئات والمنظمات الشعبية الإسلامية وهي كثيرة.
- إعلان الاستنكار من الشخصيات العلمية والثقافية والفكرية والقيادات الشرعية، وإعلان هذا النكير من عتبات المنابر وأعلاها ذروة منبري الحرمين الشريفين.
- المواجهة على مستوى المراكز الإسلامية الموجودة في الغرب بالرد على هذه الحملة واستنكارها.
- المواجهة على المستوى الفردي، وذلك بإرسال الرسائل الإلكترونية المتضمنة الاحتجاج والرد والاستنكار إلى كل المنظمات والجامعات والأفراد المؤثرين في الغرب، ولو نفر المسلمون بإرسال ملايين الرسائل الرصينة القوية إلى المنظمات والأفراد فإن هذا سيكون له أثره اللافت قطعاً .
- استئجار ساعات لبرامج في المحطات الإذاعية والتلفزيونية تدافع عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وتذب عن جنابه، ويستضاف فيها ذوو القدرة والرسوخ، والدراية بمخاطبة العقلية الغربية بإقناع، وهم بحمد الله كثر.
- كتابة المقالات القوية الرصينة لتنشر في المجلات والصحف -ولو كمادّة إعلانية- ونشرها على مواقع الإنترنت باللغات المتنوعة .
- إنتاج شريط فيديو عن طريق إحدى وكالات الإنتاج الإعلامي يعرض بشكل مشوق وبطريقة فنية ملخصاً تاريخياً للسيرة، وعرضاً للشمائل والأخلاق النبوية، ومناقشة لأهم الشبه المثارة حول سيرة المصطفى – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك بإخراج إعلامي متقن ومقنع.
- طباعة الكتب والمطويات التي تعرف بشخصية النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويراعى في صياغتها معالجة الإشكالات الموجودة في الفكر الغربي.
- عقد اللقاءات، وإلقاء الكلمات في الجامعات والمنتديات والملتقيات العامة في أمريكا لمواجهة هذه الحملة .
- إصدار البيانات الاستنكارية من كل القطاعات المهنية والثقافية التي تستنكر وتحتج على هذه الإساءة والفحش في الإيذاء.
- إيجاد رد صريح من قبل العلماء الربانيين والتعليق عليه وتبيين الموقف الشرعي في قضية التعدي على الرسل والأنبياء والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مع إقامة مجموعة تنفيذية من العلماء المتخصصين وطلبة العلم للإجابة عن هذه الافتراءات خلال مواقع الانترنت وغيرها ، ووالله لو قام العلماء في كل مكان في السعودية وفي مصر وفي الجزائر وفي المغرب العربي والعالم الإسلامي جميعا ، ووجهوا لعامة الناس وخاصة في الغرب خطر هذه القضية وأن هذه الشائعات لا يرضاه أصلا أنبياؤهم كعيسى وموسى فضلا أن تكون في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
- إقامة معارض دولية متنقلة ودائمة في المطارات وفي الأسواق وفي الأماكن العامة بالتنسيق مع الجهات المسئولة حتى نبرز شيئا من شخصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته وأخلاقه وشمائله ، وأيضا نبرء ذممنا أمام الله جل وعلا وأمام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
- إيجاد مؤلفات تحمل بين جنباتها حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسهولته وسماحته في الحياة بجميع اللغات ، حتى يوضح للعالم حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جهة ، ومن جهة يرد على أولئك الذين تسلطوا على شخصيته وشرفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
- تبادل الأفكار المجدية في هذه القضية، وإضافة أفكار جديدة والتواصي بها، وسيجد كل محب لرسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – معظم لجنابه مجالاً لإظهار حبه وغيرته وتعظيمه ، فهذا يأتي بفكرة، وذاك يكتب مقالة وآخر يترجم، وآخر يرسل، وآخر يمول في نفير عام لنصرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
- إعداد برامج للتعريف بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بحيث تتبنى كل مؤسسة أو جهة دينية مثلا برنامجا ويتم نشره في المجتمعات وخاصة الغربية التي تسممت أفكارهم بهذا الغزو الخبيث ضد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، سواء كان ذلك عبر المجلات الإسلامية الهادفة والجرائد اليومية أو عبر القنوات الفضائية ، أو حتى إيجاد برنامج متكاملة يتم إعدادها في أقراص كمبيوترية تبين شخصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشمائله حتى يتم استعمالها بسهولة .(12/96)
- لو تم إصدار مجلة شهرية خاصة بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبرز مواقف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أعدائه وكيف تعامل معهم على حسب فئاتهم لكان أجمل وأشمل وأفود خاصة ونحن نرى العالم الإسلامي يعج بكثير من المجلات الإسلامية فلو خُصص للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والدفاع عنه شيئا لكان واجبا علينا فعل ذلك .
- إنشاء مؤتمرات عالمية إسلامية توضح فيه سماحة الإسلام ويسر دين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن ما يوجه ضد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو من قبيل الكذب والافتراء ، ولو أعلنت كل دولة إسلامية إيجاد مؤتمر إسلامي يعارض فيه ما وجه لنبيهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن هذا بحد ذاته رسالة للعالم مفادها أن شخصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شخصية فاصلة لا يمكن تجاوزها والعبث بها.
- إقامة مؤتمرات في أمريكا وأوروبا تعالج هذه القضية وتعرض للعالم نصاعة السيرة المشرفة وعظمة الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
- المطالبة بصياغة نموذج لرسالة استنكار وشجب باللغتين العربية والإنجليزية، تكون جاهزة للإرسال ومدعمة بعنوان سفارات الدانمارك والنرويج في شتى دول العالم الإسلامي، على أن تتضمن هذه الرسالة المطالب الآتية :
- المطالبة بسن القوانين التي من شأنها تفعيل احترام المؤسسات الدنمركية والنرويجية لكل ما يمس ديننا الحنيف.
- إيقاف الجريدة.
- إلزام الجريدة بالاعتذار للعالم الإسلامي ونشره على صفحات صحف تنتمي إلى العالم الإسلامي والأوروبي.
على مستوى العاملين في الشبكة العنكبوتية وأصحاب المواقع:
- إنشاء قاعدة بيانات على الشبكة العالمية الانترنت عن السيرة النبوية ، بجميع اللغات وقد تم إيجاد مثل هذه البرامج عبر الانترنت من قبل اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولجنة مناصرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لكن برنامج أو برنامجين لا يكفي ، بل لا بد من تكاتف الأمور حتى يسير هذا العمل أقوى بكثير .
- تكوين مجموعات تتولى إبراز محاسن هذا الدين ونظرة الإسلام لجميع الأنبياء بنفس الدرجة من المحبة وغيره من الموضوعات ذات العلاقة.
- إنشاء مواقع أو منتديات أو تخصيص نوافذ في المواقع القائمة تهتم بسيرة المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبرز رسالته العالمية.
- المشاركة في حوارات هادئة مع غير المسلمين ودعوتةم لدراسة شخصية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والدين الذي جاء به.
- تضمين أو تذييل الرسائل الإلكترونية التي ترسل إلى القوائم البريدية الخاصة ببعض الأحاديث والمواعظ النبوية.
- إعداد نشره إلكترونية - من حين إلى آخر- عن شخصية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعوته وخاصة في المناسبات والأحداث الطارئة.
- الإعلان في محركات البحث المشهورة عن بعض الكتب أو المحاضرات التي تتحدث عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
موقف في نصرة النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
قصة الشيخ محمد عبده مع حاخام يهودي وقسيس نصراني
جلس الثلاثة في حضرة الخديوي في قصر عابدين في مصر..
فقال لهم الخديوي مصر أنتم الثلاثة تمثلون الأديان الثلاثة وأريد أن يثبت كل واحد منكم أنه وأتباعه هم الذين سيدخلون الجنة..
قال حاخام اليهود: ليتكلم البطريارك أولا ً، وقال البطريارك: ليتكلم الإمام أولاً يعني الشيخ محمد عبده.
فقال الخديوي تكلم يا إمام..
فقال الإمام محمد عبده: يا خديوي..
إذا كان اليهود سيدخلون الجنة لكونهم آمنوا بموسى فنحن داخلوها لأننا آمنا بموسى
وإذا كان النصارى سيدخلون الجنة لكونهم آمنوا بعيسى فنحن داخلوها لأننا آمنا بعيسى
وإذا كنا داخليها فلن يدخلها هؤلاء ولا أولئك لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلي الله عليه وسلم فإيماننا إيمان شامل كامل.
قصيدة للشيخ جمال الدين الصرصري في مدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
محمد المبعوث للناس رحمةً *** يشيِّد ما أوهى الضلال ويصلح
لئن سبَّحت صُمُّ الجبال مجيبةً *** لداود أو لان الحديد المصفح
فإن الصخور الصمَّ لانت بكفه *** وإن الحصا في كفه ليُسَبِّح
وإن كان موسى أنبع الماء بالعصا *** فمن كفه قد أصبح الماء يَطفح
وإن كانت الريح الرُّخاءُ مطيعةً *** سليمان لا تألو تروح وتسرح
فإن الصبا كانت لنصر نبينا *** ورعبُ على شهر به الخصم يكلح
وإن أوتي الملكَ العظيم وسخِّرت *** له الجن تسعى في رضاه وتكدح
فإن مفاتيح الكنوز بأسرها *** أتته فرَدَّ الزاهد المترجِّح
وإن كان إبراهيم أُعطي خُلةً *** وموسى بتكليم على الطور يُمنح
فهذا حبيب بل خليل مكلَّم *** وخصِّص بالرؤيا وبالحق أشرح
وخصص بالحوض الرَّواء وباللِّوا *** ويشفع للعاصين والنار تَلْفح
وبالمقعد الأعلى المقرَّب ناله *** عطاءً لعينيه أَقرُّ وأفرح(12/97)
وبالرتبة العليا الوسيلة دونها *** مراتب أرباب المواهب تَلمح
ولَهْوَ إلى الجنات أولُ داخلٍ *** له بابها قبل الخلائق يُفْتَتح
------------------------------------
[1] تفسير القرطبي 54/17 قال : والطغيان : مجاوزة الحد في الكفر .
(*) خطبة الشيخ محمد صالح المنجد إمام وخطيب جامع عمر بن عبد العزيز بحي العقربية بالخبر المشرف العام على مجموعة مواقع الإسلام
المصدر : الإسلام سؤال وجواب
http://www.islam-qa.com/topics/nos صلى الله عليه وسلم at_alnab صلى الله عليه وسلم /nos صلى الله عليه وسلم at_alnab صلى الله عليه وسلم .shtml
============================
نفحة عبير من سيرة البشير النذير
د. يحيى إبراهيم اليحيى
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن استن بسنته واهتدى بهديه واقتفى أثره وسار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصورة العملية التطبيقية لهذا الدين، وجميع الطرق الموصلة إلى الله تعالى ثم إلى الجنة موصودة ومغلقة إلا طريقه صلى الله عليه وسلم، ويمتنع أن تعرف دين الإسلام ويصح لك إسلامك بدون معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف كان هديه وعمله وأمره ونهيه ومنهجه وسنته؟.
لقد سالم وحارب، وأقام وسافر، وباع واشترى، وأخذ وأعطى، وما عاش صلى الله عليه وسلم وحده، ولا غاب عن الناس يوماً واحداً، ولا سافر وحده.
وقد لاقى صنوف الأذى، وقاسى أشد أنواع الظلم، وكانت العاقبة والنصر له.
بعث على فترة من الرسل، وضلال من البشر، وانحراف في الفطر، وواجه ركاماً هائلاً من الضلال والانحراف والبعد عن الله، والإغراق في الوثنية. فاستطاع بعون الله أن يخرجهم من الظلام إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى ومن الشقاء إلى السعادة، فأحبوه وفَدَوْهُ بأنفسهم وأهليهم وأموالهم، واقتدوا به في كل صغيرة وكبيرة، وجعلوه نبراساً لهم يستضيئون بنوره، ويهتدون بهديه فأصبحوا أئمة الهدى وقادة البشرية.
هل تطلبون من المختار معجزة *** يكفيه شعب من الأجداث أحياه
من وحد العرب حتى كان وا *** ترهم إذا رأى ولد الموتور أخاه
وما أصيب المسلمون إلا بسبب الإخلال بجانب الاقتداء به، والأخذ بهديه، واتباع سنته، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
حتى اكتفى بعض المسلمين من سيرته بقراءتها في المنتديات والاحتفالات، ولا يتجاوز ذلك إلى موضع الاهتداء والتطبيق...
وبعضهم بقراءتها للبركة، أو للاطلاع على أحداثها ووقائعها، أو حفظ غزواته وأيامه وبعوثه وسراياه.
وهذا راجع إما لجهل بأصل مبدأ الاتباع والاهتداء والاقتداء، وعدم الإدراك بأن هذا من لوازم المحبة له صلى الله عليه وسلم، وإما لعدم إدراك مواضع الاقتداء من سيرته صلى الله عليه وسلم؛ نظراً لضعف الملكة في الاستنباط، أو لقلة العلم والاطلاع على كتب أهل العلم.
إن سيرته صلى الله عليه وسلم رسمت المنهج الصحيح الآمن في دعوة الناس، وهداية البشر، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة. وما فشلت كثير من المناهج الدعوية المعاصرة في إصلاح البشر إلاّ بسبب الإخلال بهديه والتقصير في معرفة سنته، ونقص في دراسة منهجه صلى الله عليه وسلم في هداية البشر وإصلاحهم.
لذا رأيت كتابة هذه التعليقة من سيرته صلى الله عليه وسلم كنموذج مقترح لكتابة السيرة النبوية؛ لكي تكون لبنة في بناء المنهج الدعوي القائم على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله تعالى أن ينفع بها كاتبها وقارئها ومستمعها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآمل من كل أخ عنده اقتراح أو ملاحظة أو تنبيه أن يكتب لي بملاحظاته وأكون له من الشاكرين http://www.taiba.o صلى الله عليه وسلم g/ .
إبراهيم عليه السلام وبناء الكعبة:
وبعد: أخي الكريم إنه حري بك وأنت تتجه كل يوم في صلاتك إلى هذا البيت المحرم أن تتعرف على تاريخه، ولا أظنك إلا من النهمين الحريصين على تعلم ذلك؛ وبخاصة أن هذا البيت خير مكان على الأرض منه شع نور الإسلام، وبعث فيه خير الأنام سيدنا وقائدنا ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
إن قصة بناء الكعبة قصة عظيمة، تتضح فيها عظمته وأهميته، فقد احتاج أبو الأنبياء وخليل الرحمن أن يضع أسرته هناك حيث لا أنيس ولا جليس من أجل هذا البيت.(12/98)
قال البخاري في صحيحه: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بهاجر وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَتْ إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ رَبِّ {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} حَتَّى بَلَغَ {يَشْكُرُونَ}.
وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأرْضِ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإنسانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم "فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا".
فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ صَهٍ تُرِيدُ نَفْسَهَا ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ - أَوْ قَالَ - لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا".
قَالَ فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلامُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ.
وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأرْضِ كَالرَّابِيَةِ تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ.
فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا قَالَ وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ فَقَالُوا أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ فَقَالَتْ نَعَمْ وَلَكِنْ لا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ قَالُوا نَعَمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الأنْسَ" فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ وَشَبَّ الْغُلامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ.(12/99)
وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ نَحْنُ بِشَرٍّ نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ فَشَكَتْ إِلَيْهِ قَالَ فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ.
فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ قَالَتْ نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ قَالَ فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ قَالَتْ نَعَمْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلامَ وَيَقُولُ غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ قَالَ ذَاكِ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى.
فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا قَالَ كَيْفَ أَنْتُمْ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ مَا طَعَامُكُمْ قَالَتِ اللَّحْمُ قَالَ فَمَا شَرَابُكُمْ قَالَتِ الْمَاءُ قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ)).
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ" قَالَ فَهُمَا لا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلا لَمْ يُوَافِقَاهُ قَالَ فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلامَ وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ قَالَتْ نَعَمْ أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ قَالَ فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ قَالَتْ نَعَمْ هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ قَالَ ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ.
ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ ثُمَّ قَالَ يَا إِسْمَاعِيلُ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ قَالَ فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ قَالَ وَتُعِينُنِي قَالَ وَأُعِينُكَ قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا قَالَ فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ وَهُمَا يَقُولانِ {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قَالَ فَجَعَلا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولانِ {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
أخي الحبيب: إنّ في هذه القصة فوائد عظيمة منها:
1- التسليم المطلق لله تعالى، فإبراهيم يدع امرأته وطفلها في أرض موحشة غريبة قفراء لا ماء فيها ولا شجر استجابةً وطاعةً لله تعالى، مع ما عرف عنه من الشفقة والرحمة، ولكن التسليم لأمر الله تعالى فوق كل شئ.
2- امتحان الأنبياء بأولادهم وهل يقدمونهم فداءً لطاعة ربهم أم لا.
3- أن البلاء والمحن التي تنزل بالمسلم لا تعني أن الله تعالى تخلى عنه، أو أراد تعذيبه بل إنه ربه أرحم به من نفسه، ولكن النفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث، وتصلح من نفس المبتلى وقلبه، ويستعلي به على الشح بالنفس والمال، ويخرج أفضل ما عنده من مزايا وطاقات، ولهذا كان أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وهذا خليل الله وأبو الأنبياء عليهم السلام تتوالى عليه المحن والفتن فيخرج منها نقياً تقياً، صابراً محتسباً، مسلماً أمره لله جل وعلا، حتى أصبح أمةً بنفسه{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}.
4- تربية إبراهيم أسرته على الطاعة والتسليم الكامل لأمر الله عز وجل.
5- قوة إيمان هاجر وعظم توكلها وثقتها بربها عز وجل "إذن لا يضيعنا".(12/100)
6- التوجه إلى الله وحده بالدعاء والتضرع في كل حال، فإبراهيم عليه السلام لما نفذ أمر ربه بوضع أسرته في ذلك الموقع الموحش، توجه إلى الله بالدعاء لهم بالأنس والرزق والبركة، ومن توكل على الله كفاه، ومن ركن إليه آواه، ومن سأله وتضرع إليه أعطاه.
7- إن الله سبحانه وتعالى لا يضيع من توكل عليه وحده وسلم الأمر إليه، مهما ادلهمت الخطوب واشتدت الكروب، فإنه لا يأس من روح الله ورحمته. فهذه أم إسماعيل لما انتهى طعامها وماؤها أرسل الله إليها غوثاً من عنده، وأجرى لها الماء بأمره جل وعلا.
8- من أقبل على الله تعالى والتزم أمره وتوجه إليه بالعبادة دون سواه، رفع الله ذكره في العالمين، انظر رحمك الله كيف بقيت ذكرى أم إسماعيل في السعي إلى يومنا هذا.
9- من كان همه الدنيا والتمتع فيها فلا يصلح أن يجاور نبياً من أنبياء الله تعالى أهل العبادة والصلاح والعمل والهمة العلية، ولهذا أمر إبراهيم عليه السلام ابنه إسماعيل أن يطلق تلك المرأة التي شكت إليه شدة العيش.
الحكمة من بناء البيت:
وأنت تدرك معي أخي الكريم السر الذي من أجله بني هذا البيت، إنه من أجل توحيد الله ونبذ الشرك، كما قال تعالى:
{وَإِذْ بَوّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِيَ لِلطّآئِفِينَ والقائمينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ، وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىَ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ}
قال ابن كثير في تفسيره:
هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش، في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت، أي أرشده إليه وسلمه له وأذن له في بنائه، {أن لا تشرك بي شيئاً} أي ابنه على اسمي وحدي {وطهر بيتي} قال قتادة ومجاهد: من الشرك {للطائفين والقائمين والركع السجود} أي اجعله خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له، فالطائف به معروف، وهو أخص العبادات عند البيت، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها {والقائمين} أي في الصلاة، ولهذا قال: {والركع السجود} فقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت، فالطواف عنده والصلاة إليه.
وقال القرطبي في تفسيره:
{أَن لاّ تُشْرِكْ} هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور. وقرأ عكرمة {أن لا يُشْرِك} بالياء، بمعنى لئلا يشرك. وفي الآية طعن على من أشرك من قُطّان البيت أي هذا كان الشرط على أبيكم فمَن بعده وأنتم، فلم تَفُوا بل أشركتم.
وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج. والجمهور على أن ذلك لإبراهيم وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء.
وقيل: المعنى نزّه بيتي عن أن يعبد فيه صنم. وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. والقائمون هم المصلون. وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود.
فللتوحيد بني هذا البيت ومن أجل التوحيد عمر، ولأهل التوحيد وحدهم شيد، ومن أجلهم طهر البيت من الشرك والبدع والخرافات، وهؤلاء الطائفون والركع السجود هم الذين من أجلهم أقيم هذا البيت لا لأولئك الذين يشركون بالله تعالى، ويتوجهون بالعبادة إلى سواه.
وينبغي على المسلم أن لا يتكل على عمله مهما كان صحيحاً صواباً، فإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يأمرهما الله جل وعلا ببناء بيته المحرم من أجل توحيده، فيقومان بذلك خير قيام ومع ذلك لم يتكلا على عملهما بل يسألان الله تعالى دائماً قبول العمل {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فليس صواب العمل كافٍ في القبول، بل لا بد أن يصاحبه الإخلاص لله تعالى الخالص من شوائب الشرك، وحظوظ النفس.
وكان عليه الصلاة والسلام وهو الموحد أبو الموحدين يخشى من الشرك فيقول: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} فهل أحد بعد إبراهيم عليه السلام لا يخاف على نفسه من الوقوع في الشرك!! لهذا ينبغي على كل مسلم أن يكون دائماً يقظاً منتبهاً لنفسه من هذا الذنب العظيم، فإن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
ذرية إسماعيل:
وبارك الله في ذرية إسماعيل فتناموا وصاروا قبائل، وانتشروا في الجزيرة العربية، وصاروا يسمون العرب المستعربة، وقد بقوا على دين أبيهم إبراهيم عليه السلام مدة من الزمن، ثم بدأ النقص عندهم، ودخلت عليهم البدع من المجاورين لهم شيئاً فشيئاً، حتى دخلت عليهم عبادة الأصنام وكان أول من أدخل الشرك إلى العرب عمرو بن لحي الخزاعي.(12/101)
روى البخاري عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ فَلا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ".
وفي المسند أيضاً عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجرّ أمعاءه في النار".
انحراف العرب عن الحنيفية:
ترك العرب دين أبيهم إسماعيل، وابتعدوا عن الحنيفية دين أبيهم إبراهيم، وانتشرت بينهم عبادة الأصنام والأوثان، وعددوا فيها إلى حد يثير السخرية؛ حيث كان الواحد منهم في سفره يجمع أربعة أحجار ثلاثةً لقدره وواحداً يعبده، وإن لم يجد حلب الشاة على كوم من تراب ثم عبده.
روى البخاري عن أبي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ يَقُولُ: كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الأخَرَ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا مُنَصِّلُ الأسِنَّةِ فَلا نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلا سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلا نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ وَسَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ يَقُولُ كُنْتُ يَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُلامًا أَرْعَى الإبلَ عَلَى أَهْلِي فَلَمَّا سَمِعْنَا بِخُرُوجِهِ فَرَرْنَا إِلَى النَّارِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.
وقد عبد قبائل من العرب الشمس والقمر، والملائكة والجن، والكواكب، وبعضهم عبد أضرحة من ينسب إليهم الصلاح. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{أفرأيتم اللات والعزى} قال: كان رجلاً صالحاً يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره.
مقاصد العرب في عبادة الأوثان:
وكانت العرب تقصد بعبادة الأصنام عبادة الله والتقرب إليه عن طريقها، أو بواسطتها، وهم على طرق مختلفة؛ فبعضهم يقول: ليس لنا أهلية لعبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته، فاتخذناها لتقربنا إلى الله، وفرقة قالت: إن للملائكة عند الله جاهاً ومنزلةً فاتخذنا أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله، وبعضهم جعلوا الأصنام قبلة في عبادة الله مثل الكعبة قبلة في عبادته، وفرقة أخرى اعتقدت أن على كل صنم شيطاناً موكلاً بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حاجته بأمر الله، ومنهم من يقصدون بذلك شفاعتهم عند الله، واتخاذهم زلفى إليه سبحانه. قال تعالى: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وقال تعالى عنهم: {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله}.
هل كانت العرب تعتقد في أصنامها النفع أو الضر؟
روى الترمذي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي: "يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ إِلَهًا؟ قَالَ أَبِي: سَبْعَةً سِتَّةً فِي الأرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ قَالَ: "فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ قَالَ: "يَا حُصَيْنُ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعَانِكَ قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ حُصَيْنٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِيَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي فَقَالَ: " قُلِ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي". قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ.
بل كانوا عند الشدائد ينسون آلهتهم ويتخلون عنها كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}.
بقايا شريعة إبراهيم عند العرب:
وقد بقيت في العرب بقايا من سنن إبراهيم وشريعته ومن ذلك: خصال الفطرة التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام،كالاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان.
وكانوا يغتسلون للجنابة، ويغسلون موتاهم ويكفنونهم، وكانوا يصومون يوم عاشوراء، ويطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة، ويمسحون الحجر ويلبون إلا أنهم يشركون في تلبيتهم يقولون: ((لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك))، ويقفون المواقف كلها، ويعظمون الأشهر الحرم.(12/102)
وكانوا يحرمون نكاح المحارم، وعملوا بالقسامة، واجتنب بعضهم الخمر في الجاهلية وكانوا يغلظون على النساء أشد التغليظ في شرب الخمر.
وهم على اعترافهم بالله وبعظمته وبتدبيره للأمور، وأنه الرازق الخالق المحيي المميت، وأن جميع الخلق تحت قهره وتصرفه، إلا أنهم اتخذوا من دون الله وسائط يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}.
فهم بذلك يشهدون أن الله هو الخالق الرازق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات ومن فيهن والأرضين ومن فيها عبيده وتحت تصرفه وقهره، ومع ذلك يشركون به ويدعون معه غيره، بل كانت الكعبة - وهي بيت الله المعظم - عندهم يحيط به ثلاث مائة وستون صنماً.
تلك الحياة الجاهلية بكل صورها وفي جميع أماكنها وبقاعها، قد صورها المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث العظيم الذي رواه عنه عياض بن حمار المجاشعي حيث قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا. كل مال نحلته عبداً، حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب...".
فالحديث يشير إلى انحراف الناس عن الشريعة ونبذها وراءهم ظهرياً، واختراع أنظمة وقوانين من عند أنفسهم، فحرموا الحلال وأحلوا الحرام ((كل مال نحلته عبداً، حلال.. وحرمت عليهم ما أحللت لهم)) وهذا رد على ما شرعوه من السوائب والوصيلة والحام والبحيرة، مما يدعونه لآلهتهم، وقد شرع الله أن كل مال رزقه عبداً من عباده فهو حلال له.
كما يوضح الانحراف عن التوحيد والردة الكاملة عن الدين، أنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.. وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، كما يشير إلى الفساد العظيم الذي غطى وجه الأرض مما استحق الناس مقت الله لهم جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب.
وأصبحت البشرية بحاجة ماسة إلى منقذ لها من الضلالة إلى الهدى ومن ظلمة الشرك إلى نور التوحيد والإيمان، ومن الشقاء إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
الاصطفاء:
في هذا الجو القاتم والزمان المدلهم بالشرك بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم *** إلا على صنم قد هام في صنم
مسيطر الفرس يبغي في رعيته *** وقيصر الروم من كبر أصم عمي
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".
وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ".
وروى أحمد عن عبد الله بن مسعود، قال: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيئ.
نسبه الشريف:
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وعدنان من نسل إسماعيل عليه السلام.
ولادته ونشأته صلى الله عليه وسلم
ولد يوم الاثنين كما ورد ذلك في صحيح مسلم لما سئل عن صيام يوم الاثنين قال: " ذاك يوم ولدت فيه". في عام الفيل وهو أرجح الأقوال.(12/103)
وتتفق رواية مسلم مع ابن إسحاق في كون والده مات وهو حمل في بطن أمه. وفي الصحيحين أن ثويبة مولاة أبي لهم قامت بإرضاعه صلى الله عليه وسلم. كما أرضعته مولاته أم أيمن وقد أعتقها عليه الصلاة والسلام بعد ما كبر.
أما رضاعه من حليمة السعدية في بني سعد فهذا مما استفاض واشتهر، وقد ورد استرضاعه في بني سعد بسند جيد من طريق ابن إسحاق. تقول حليمة السعدية مرضعته لما أخذته من أمه: (فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب معه أخوه حتى روي، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا أنها لحافل، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رياً وشبعاً فبتنا بخير ليلة (إلى أن قالت) ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به معنا شباعاً لبناً، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولايجدها في ضرع.. فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير).
فأنزل الله عليهم البركة في أنفسهم وأموالهم بسبب قيامهم بأمر صفيّه وحبيبه صلى الله عليه وسلم.
تهيئته لحمل الرسالة:
ثم كانت تلك الحادثة العظيمة في بني سعد في شق صدره ونزع حظ الشيطان منه تهيئةً له لتحمل الرسالة:
روى ابن إسحاق بسند جيد أن الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه فقال: "نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليهما السلام، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا في بهم لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض معهما طست من ذهب مملوء ثلجاً، فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا أنقياه رداه كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه. زنه بعشرة من أمته. فوزنني بعشرة فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته. فوزنني بمائة فوزنتهم. ثم قال: زنه بألف من أمته. فوزنني بألف فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فلو وزنته بأمته لوزنهم".
وروى مسلم عن أنس بن مالك: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب واستخرج منه علقة سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمداً قد قتل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره).
كفالته بعد وفاة والدته:
وقد ماتت أمه وعمره ست سنوات، فكفله جده عبد المطلب ثم مات بعد سنتين فأوصى به إلى عمه أبي طالب فكفله عمه وحنّ عليه ورعاه.
وقد شب مع عمه أبي طالب تحت رعاية الله وحفظه له من أمور الجاهلية وعادتها السيئة. (فكان أفضل قومه مروءةً، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطةً، وأحسنهم جواراً، وأعظهم حلماً وأمانةً، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رؤي ملاحياً ولا ممارياً أحداً، حتى سمّاه قومه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة).
إرهاصات وعلامات نبوته:
وقعت عدة أحداث كانت بمثابة إرهاصات وعلامات ودلالات على نبوته صلى الله عليه وسلم ومنها:
1- تسليم الحجر.
فعن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث. إني لأعرفه الآن".
2- الرؤيا الصادقة.
أما الرؤيا الصادقة فكما روت عائشة رضي الله عنها أن أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
3- العزلة والتحنّث.
لقد حبب إليه الخلوة فكان يخرج إلى غار حراء فيتحنّث فيه وهو التعبّدُ اللياليَ ذواتِ العدد. كما في الصحيحين.
وفي التعبّد درس للمسلم والداعية ليستعين بعبادة الله تعالى على مقاومة نزعات النفس، وشهواتها، ومغريات الحياة وأعراضها، ويتحمل مشاقّ الدعوة ومشاكلها وشدائدها، ويصبر على تربية الناس وتوجيههم وما يصدر عنهم من إعراض أو مشاقّة للداعية.
الوحي وتبليغ الرسالة:
ما كان النبي صلى الله عليه وسلم في تعبده وتحنثه ينتظر النبوة أو يترقبها، بل لم تكن تخطر على باله كما ذكر الله تعالى في كتابه حيث قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وقال سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ}.(12/104)
بعث صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون سنةً كما في الصحيحين عن ابن عباس أنه قال: (أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنةً، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنةً، ثم أمر بالهجرة فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين، ثم توفي صلى الله عليه وسلم).
وكان ذلك في شهر رمضان المبارك كما في رواية البخاري في كتاب بدء الوحي. وقد جاور في الغار تلك السنة شهراً كاملاً كما ورد في صحيح مسلم.
أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها في ذكر بدء الوحي قالت: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم (وفي رواية أخرى "الصادقة")، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح).
ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنّث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد - قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها. حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.
فجاءه الملك فقال: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني. فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: " زملوني زملوني". فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة - وأخبرها الخبر – " لقد خشيت على نفسي".
فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة. وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب. وكان شيخاً كبيراً قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي).
وَقِفْ أخي مع كلمة: (وفجأه الوحي) لتعلم كيف تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في حال عزلته وتحنّثه وخلوته فيدخل عليه شخص غريب بصورة عجيبة ثم يضمه إليه ويقول إقرأ. لاشك أنه بقي خائفاً وهو علامة على ثباته صلى الله عليه وسلم. وهكذا من تحمل هذا الدين ينبغي له أن يصبر ويعلم أنه لم يصل إليه إلا بعد تعب ونصب قاسى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصنافاً من العنت والتعب.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدةً، وكان يأتيه في اليوم الشاتي فيتفصّد جبينه عرقاً، وقد كادت رِجْل زيد بن حارثة أن ترتض لما نزل الوحي ورأسه على رجله.
وفي مسلم عن عبادة بن الصامت: (كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه وغمض عينيه).
تبليغ الرسالة:
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة وتبليغ ما أنزل إليه فبدأ بدعوة من يثق به سراً عن سماع المشركين، ومكث على هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين مسراً بالدعوة منذ أرسله الله حتى بادأ قومه بالدعوة، يدعو سراً من يثق به من بني قومه، حيث لم يأمره الله تعالى بالجهر بالدعوة والصدع بها.
وكان المسلمون جميعاً يكتمون إسلامهم ويخفونه عن أقوامهم وأهليهم. روى البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم للمقداد: "إذا كان رجل ممن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل".
ولسرية الدعوة حكم عظيمة وفيها دروس وعظات ومنها:
1- التخفيف على الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يواجه العدوّ وحده من أول يوم مع فقدان الناصر.
2- استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة أن يستقطب أتباعاً وأنصاراً للدعوة تمكن من تربيتهم والعناية بهم فكانوا خير عون وسند له بعد الجهر بالدعوة، وهم الذين قامت عليهم الدعوة إلى الإسلام، فكانوا هم البنية الأساسية والقاعدة الصلبة والعمود الفقري للدعوة إلى دين الله عز وجل.
3- إن الإسرار بالدعوة أمر مرحلي واستثنائي لظروف وملابسات خاصة هي ظروف بداية الدعوة.(12/105)
وعلى هذا فإن الإسرار بالدعوة كلها بعد النبي صلى الله عليه وسلم مخالف للأصل الثابت المستقر، فلا يجوز اللجوء إليه إلا عند الضرورة، أما الإسرار بما سوى ذلك من الوسائل والخطط والتفصيلات فهو أمر مصلحي خاضع للنظر والاجتهاد إذ لا يترتب عليه كتمان للدين، ولا سكوت عن حق، ولا يتعلق به بيان وإبلاغ.
ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعد أن صدع بالدعوة وأنذر الناس وأعلن النبوة ظلّ يخفي أشياء كثيرة لا تؤثر على مهمة البلاغ والبيان، كعدد أتباعه، وأين يجتمع بهم؟ وما هي الخطط التي يتخذونها إزاء الكيد الجاهلي، ومن أمثلة ذلك قصة الهجرة، وقصة أبي ذر وعمرو بن عبسة.
السابقون إلى الإسلام:
إن من النتائج الطبيعية لحداثة الدعوة وسرّيتها أن يكون أتباعها أفراداً معدودين.
ولا ريب أن أول من تابع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وعلي بن أبي طالب الذي كان تحت رعاية النبي صلى الله عليه وسلم وكفالته وكان صغيراً لا يتجاوز العاشرة من عمره، وأبو بكر صديق النبي صلى الله عليه وسلم وجليسه وكان رأساً مقدماً ومكرماً لدى قريش إليه المرجع في أنسابها، وكان تاجراً صاحب مال محبباً متألفاً.
قال ابن إسحاق في وصف أبي بكر: (وكان رجلاً مؤلفاً لقومه محبباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر، وكان رجلاً تاجراً ذا خلق حسن ومعروف، وكان رجال قومه يأوون إليه ويألفونه لعلمه وتجارته وحسن مجالسته..).
وقد استثمر أبو بكر ثقة الناس به ومجالستهم له ومحبّتهم لمجلسه بدعوة من يثق به إلى الإسلام، فأسلم على يديه في الأيام الأولى طليعة أهل الإسلام وهم: الزبير بن العوّام، وعثمان بن عفّان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الرحمن بن عوف. وهؤلاء من العشرة المبشرين بالجنة على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولاشك أن أهل بيته كانوا من أوائل من دخل في الإسلام، للحديث المخرج في البخاري في قصة الهجرة عن عائشة قالت: (لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين).
وذكر أن ممن أسلم على يد أبي بكر: مصعب بن عمير، وعيّاش بن أبي ربيعة، والأرقم بن أبي الأرقم بن عبد مناف بن أسد، وعثمان بن مظعون الجمحي.
الدروس والعبر:
1- بيان أثر مجالسة الأخيار وصحبتهم وبركتها على من جالسهم فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه اكتسب هذه المكانة من إيواء الرسول صلى الله عليه وسلم له دون سائر إخوانه، وأبو بكر من صحبته وصداقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- أثر الأخلاق الحسنة في تأليف الناس، وخير الناس من يألف ويؤلف، أما الجفاء والغلظة فكثيراً ما تكون عائقاً في طريق الدعوة.
3- لاشك أن أصحاب الجاه والمال لهم أثر كبير في كسب أنصار للدعوة.
4- إن قيام أبي بكر بالدعوة إلى الله تعالى يوضح صورةً من صور التفاعل بهذا الدين والاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم صورة المؤمن الذي لا يقرّ له قرار، ولا يهدأ له بال، حتى يحقق في واقع الحياة ما تشبّع به وآمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعةً عاطفيةً مؤقتةً سرعان ما تخمد وتذبل وتزول.
5- يلاحظ أن الإسلام انتشر في جميع عشائر قريش فلم يعتمد على القبلية التي كانت إذ ذاك محور الحياة عند العرب، فلم يكن نصيب بني هاشم أكثر من غيرهم في الإسلام.
6- دخول مختلف القبائل في الإسلام وعدم اقتصاره على بني هاشم في بداية الدعوة حققت مصلحةً عظمى في عدم اعتباره عملاً يحقق مصالح العشيرة التي ينتمي إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلي من قدرها على حساب الآخرين.
7- أعان هذا أيضاً على انتشار الإسلام في جميع العشائر والقبائل دون أي تحفظات أو اتهامات شخصية للداعي أو الدعوة.
8- لقد كان الذين أسلموا في الطليعة الأولى ظلّوا دائماً في الطليعة في الحرب والسلم والسياسة والحكم أئمةً في العلم والفقه والفتيا والسابقين في سائر الأمور، فلم يكن عملهم فترة حماس وخبت وفترت وزالت، وإنما هي إيمان عميق يحرك العواطف والنفوس والعقول للعمل لهذا الدين. فلم تعرف تلك الطليعة راحةً ولا ترفاً ولا نوماً ولا كسلاً منذ أسلمت حتى لقيت الله تعالى رضي الله عنهم أجمعين.
9- لقد كانت هذه الطليعة غريبةً في ذلك المجتمع الجاهلي الذي يعجّ بالفوضى والفساد والانحلال، ولكن غربتهم ليست كالغربة المتعارف عليها من شعور الغريب بالضعف والذلّ والانكسار والرضى بالدون، والخضوع والضعة، لقد ربّى الإسلام فيهم روح العزّة والكرامة والاستعلاء والفوقية على الكافرين، ثم شعور بوجوب غزو هذا المجتمع الجاهلي وتقويض أركانه، يصاحب ذلك همة وثقة تامّة بنصر هذا الدين والتمكين له في الأرض، فكانوا يتسابقون للمشاركة في رفع راية الإسلام، ويهمّ الواحد منهم أن يكتب الله على يديه التمكين لهذا الدين.
الجهر بالدعوة:(12/106)
إن الدعوة لم تنزل لتكون سرّيةً يخاطب فيها الفرد بعد الآخر، وإنما جاءت نِذارةً للعالمين وبشارةً للخلق أجمعين؛ لإخراج من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، لقد أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعد محصور في مكة وقريش تكيد له وتعاديه أنزل عليه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وإذا كان الأمر كذلك فإن الدعوة الإسلامية ليست خاصةً بقريش ولا بالعرب، وإنما هي رحمة من الله لجميع الخلق، فلا بد من الجهر بها، وإعلانها للناس، والسعي لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة.
وهذا يعني بداهةً أن من أبرز خصائص دعوة الإسلام: الإعلان، والصدع، والبلاغ، والنذارة، والبشارة، ويتحمّل أتباعها ما يترتّب على ذلك من الإيذاء والقتل وغيره.
لقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات يدعو إلى الله تعالى سراً ثم أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين فأنذرهم، ثم أمره بالصدع بالدعوة فصدع بها.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: (( لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف يا صباحاه، فقالوا: من هذا. فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جرّبنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب عظيم. قال أبو لهب: تباًّ لك ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام. فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} )). وفي تفسير سورة الشعراء من البخاري: ((قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا )). وعن أبي هريرة قال: " فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} قال: ((يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا. يا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاً )).
الدروس والعبر:
1- بداية الأقربين بالدعوة حتى لا يكونوا حجةً للأبعدين، والحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم، وهم أولى بالبر والخير بالنسبة للداعي من غيرهم لما في ذلك من صلة الرحم.
2- دعوة الأقربين بيان للناس عدم محاباة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، وبيان صدق ما جاء به إليهم حيث خصّ بما جاء به أقاربه وأهل بيته قبل غيرهم من الناس.
3- إعلان الرسول صلى الله عليه وسلم المنهج الإسلامي من أول يوم في منازل الناس وأن جزاءهم عند الله ونصيبهم في الإسلام يكون بقدر طاعتهم، فالأنساب والبقاع لا تزكي أحداً. فأبو لهب هو الشخص الوحيد من قريش الذي ذكر باسمه في القرآن في معرض المقت والوعيد فلماذا؟ لقد اجتمع لأبي لهب عدة مزايا، فشهر بجمال الوجه، ورزق الثروة، وكان له الشرف والجاه، كما كانت له القرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعلّ اختصاصه بذكر الاسم لبيان أن أياًّ من هذه المزايا لا تغني عن صاحبه من مقت الله وعذابه إذا خالف أمره.
4- إذا كان سيد العالمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك لسيدة نساء أهل الجنة فاطمة رضي الله عنها شيئاً فكيف بغيرها.
5- لا شك أن النتيجة القريبة المباشرة للجهر بالدعوة هي الصدّ والإعراض والتكذيب والإيذاء والسخرية، والرسول صلى الله عليه وسلم قد وطّن نفسه على ذلك كلّه ويعرف تلك النتيجة مسبقاً، ولكن ليست هذه هي كل النتيجة، فما بعدها هو المطلوب والمقصود.
6- إن الجهر بالدعوة ينقلها من مكان مغلق إلى الهواء الطلق والميدان الرحب، وممن سيساهم في نقل الدعوة هم أعداؤها عن طريق التحذير منها، والناس ليسوا كلّهم تقليديّين إمعات يتبعون ما تقوله قريش، وهناك أمثلة من إسلام بعض القبائل بسبب ما سمعوه من سبٍّ للرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته فحمله على الاطلاع على الأمر من قرب فدخلوا فيه.
7- قد تفقد الدعوة في بدايتها وسائل الإعلام المطلوبة للتبليغ ولكن أعداءها قد يقومون بجزء من ذلك نيابةً عنها وذلك بما تثيره على الدعوة من كيد وشبهات.
مقاومة قريش للدعوة:(12/107)
لا شك أن إعلان الدعوة إلى التوحيد في أوساط قريش قد أزعج قريشاً ورأوا فيها معتقداً يهدد معتقداتهم الموروثة التي عشعشت في عقولهم، ويهدّد مصالحهم العامة التي بنيت على تلك المعتقدات الباطلة واستفادوا منها مركزاً بين القبائل العربية. فانتصب المشركون لعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم ومقاومة دعوته وإلحاق الأذى به وبأصحابه، وكان أصحابه وهم في الجاهلية يأنفون الذل ويأبون الضيم، ويتفاخرون بالأخذ بالثأر حتى كانوا يثأرون لقتل جمل كما في حرب البسوس، أو إذلال فرس كما في حرب داحس والغبراء، ولما جاء الإسلام رفع من مكانتهم وزاد في عزّتهم، ولكن جاءهم ما لم يكونوا يعرفونه أو يألفونه من الضيم والظلم والإذلال، فيرون بِلالاً يجرّ في الشوارع، وياسر وسمية يقتلان علناً، وأفضل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلحق به أشد أنواع الأذى فيبصق في وجهه الشريف، ويوضع على ظهره وهو ساجد فرث الجزور وسلاها ودمها، ويضربونه حتى يغمى عليه وتسيل الدماء من جسده الشريف، ويستهزئون به، ويصفونه بالجنون والكهانة.
اتهموه بالجنون كما قال سبحانه: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}. واتهموه بالسحر والكذب قال سبحانه: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}. فأراد الصحابة الانتقام والأخذ بالثأر ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم - على الرغم من شدة ما يواجهونه من الأذى والضرر - أمرهم بضبط النفس والتحلي بالصبر، وعدم الرد بالقوة، أو مقابلة العدوان بالعدوان حتى اشتكوا إليه فقالوا: كما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا رسول الله: ((إنا كنا في عزّ ونحن مشركون، فلما آمنّا صرنا أذلّة، فقال: "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا" فلما حولنا الله إلى المدينة أمرنا بالقتال، فكفوا، فأنزل الله عز وجل {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}الآية.
وكانت أولى آيات القتال الإذن به وفي هذا دلالة على المطالبة به والحرص عليه لشدّة ما صبروا قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.
وفيه دلالة على أن الصبر على الدعوة أشدّ من القتال والجهاد في سبيل الله تعالى بدلالة أن القتال جاء فرجاً مما يعانونه من الصبر على أعدائهم.
وأخرج الحاكم عن خبّاب قال: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع تحت شجرة، واضع يده تحت رأسه، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله على هؤلاء القوم الذين قد خشينا أن يردّونا عن ديننا، فصرف عني وجهه ثلاث مرات، كل ذلك أقول له فيصرف وجهه عني، فجلس في الثالثة، فقال: "أيها الناس، اتقوا الله واصبروا فو الله إن كان الرجل من المؤمنين قبلكم ليوضع المنشار على رأسه فيشقّ باثنين، وما يرتدّ عن دينه، اتقوا الله فإن الله فاتح لكم وصانع".
فهنا يطلب خباب من رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء عليهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالصبر مع أن خبّاباً قد عُذِّبَ وأوذي أشد الأذى حتى كان يطرح على الجمر فما يطفئه إلا شحم ظهره رضي الله عنه.
وروى البخاري عن خباب بن الأرت قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة - وقد لقينا من المشركين شدة - فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمرّ وجهه فقال: "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه. وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله - زاد بيان - والذئب على غنمه".
وكانوا يؤمرون بالاستعانة على تحمّل الأذى والتعذيب بالصلاة التي هي عنوان الصلة الدائمة بالله تعالى، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً}.
فقام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريباً من سنة، فنزل التخفيف.(12/108)
وقد كانت بغية الشيطان في المواجهة والتصعيد، يشهد لذلك قصّة الزبير بن العوّام رضي الله عنه كما رواها عروة بن الزبير قال: (إنّ أوّل رجل سلّ سيفه في الله الزبير بن العوام، نفخة نفخها الشيطان:(أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم) فخرج الزبير يشقّ الناس بسيفه والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، قال: مالك يا زبير؟ قال: أخبرت أنك أخذت، قال فصلى عليه ودعا له ولسيفه) وفي رواية أخرى (فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل).
وأصبح أهل مكة كل يوم في ازدياد في حرب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأمر أصحابه بالهجرة إلى أرض الحبشة ليسلموا من أذى قريش وقال لهم: (إن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد).
واشتدت قريش في أذاها للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى حصروهم في شعب من شعاب مكة ثلاث سنوات لا يبيعونهم ولا يشترون منهم، حتى أكلوا ورق الشجر من شدة الحاجة.
عام الحزن:
وبعد فك الحصار توفي عمه أبو طالب الذي كان يذبّ عنه ويحوطه ويحامي عليه، ثم توفّيت زوجته خديجة رضي الله عنها التي كانت تسري عنه همومه وتهون عليه أتعابه، فسُمِّيَ ذلك العام عام حزن، وخلصت قريش وسفهاؤها إلى أذى للنبي صلى الله عليه وسلم بما كانت لا تصنعه في حياة عمّه.
الإسراء والمعراج:
ثم كانت حادثة الإسراء والمعراج كما رواها مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ قَالَ فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَالَ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأنْبِيَاءُ قَالَ ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ: جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ - ثم عرج به إلى السموات فلقي فيها الأنبياء، ولقي موسى في السماء السادسة قال - ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا قَالَ: جِبْرِيلُ قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلالِ قَالَ فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلاةً قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلام حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاةً وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ".(12/109)
ومن هنا تعلم أهمية الصلاة فقد فرضت من بين أركان الإسلام في السّماء السّابعة فأصبحت الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين وأصبحت قُرَّة عين النبي صلى الله عليه وسلم. روي عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ".
فكان يصلي ويطيل القيام حتى انتفخت قدماه الشريفتان كما روى مسلم في صحيحه عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صلى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ: أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا).
وكان يسمع لصدره وهو في الصلاة أزيز من البكاء، كما روى أبوداود والترمذي وابن ماجة عنْ ثَابِتٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنَ الْبُكَاءِ صلى الله عليه وسلم).
ولما حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً بالإسراء والمعراج كذّبوه واستهزؤوا به وانطلقوا إلى أبي بكر الصديق ظانّين أنه سيشكّ في صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: إن صاحبك يخبر أنه أتى بيت المقدس وصعد إلى السماء في ليلة واحدة! فقال الصديق: لإن كان قاله فقد صدق.
العرض على القبائل:
قال ابن كثير: (والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمرّ يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك رادّ، ولا يصدّه عن ذلك صادّ، يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم، ومواقف الحجّ، يدعو من لقيه من حرّ وعبد وضعيف وقويّ، وغنيّ وفقير، جميع الخلق عنده في ذلك شرع سواء..).
وكان أتباع رسول الله نُزّاعاً من القبائل وكانوا غرباء، لا قبيلة تحميهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتاد للدعوة موطّناً تحتمي به، وكان يأمر من اتّبعه من القبائل خارج مكة أن يبقوا في قبائلهم ويستخفوا حتى يظهر.
عن سالم بن أبي الجعد عن جابر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموقف، فقال: ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلّغ كلام ربي).
روى عبد الله بن ذكوان عن ربيعة بن عباد الديلي قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بَصَرَ عيني بسوق ذي المجاز يقول: "يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا"، ويدخل في فجاجها، والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت يقول: "أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"، إلا أنّ وراءه رجلاً أحول، وضيء الوجه، ذا غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، فقلت: من هذا؟ قالوا: محمد بن عبد الله، وهو يذكر النّبوّة، قلت: من هذا الذي يكذّبه؟ قالوا: عمه أبو لهب. قلت: إنك كنت يومئذ صغيراً؟ قال: لا، والله إني يومئذ لأعقل).
وعن طارق بن شدّاد رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّتين، رأيته بسوق ذي المجاز، وأنا في بياعة لي، فمرّ وعليه حلة حمراء، وهو ينادي بأعلى صوته: "أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا"، ورجل يتبعه بالحجارة، وقد أدمى كعبيه وعرقوبيه، وهو يقول: يا أيها الناس، لا تطيعوا هذا، فإنه كذّاب، فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا غلام من بني عبد المطلب، فقلت: من هذا الذي يرميه بالحجارة، فقيل: عمه عبد العزى، أبو لهب).
وعن شيخ من بني مالك بن كنانة قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها يقول: "أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" قال: وأبو جهل يحثي عليه التراب، ويقول: أيها الناس، لا يَغُرَّنَّكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم، وتتركوا اللات والعزى، قال: وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
الدروس والعبر:
1- هذه القصص تكشف عن مدى الجهد والكيد الذي بذلته قريش في محاربة الدعوة وصاحبها على المستوى الفردي والجماعي.
2- حمل الرسالة في مجتمع ضالٍّ معناه أن المصلح سينكر أشياء تعارف عليها الناس فعليه بتوطين نفسه على تحمل المعارضة والمحاربة والإيذاء.
3- لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم مع بعض القبائل لم يدخلها الإسلام لكن على أقل تقدير أثار التساؤل عندهم، والتشكيك فيما هم عليه من معتقدات. واستثمرهم كأداة إعلامية لأقوامهم وديارهم، حيث أنهم سيتحدثون بما وجدوه في سفرتهم هذه وسيذكرون من لقوا ومن لقيهم وما هي الأحاديث التي دارت معهم.
4- لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يفرط في فرصة من الفرص أو مجال من المجالات في تبليغ دعوته كما كان يفعل في المواسم والأسواق.
5- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عن مأوى ومحضن للدعوة تحتمي به حتى تكون حرة طليقة.(12/110)
6- استخدام قريش في الصد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطر وسيلة إعلامية آن ذاك وهو عمه أبو لهب في زمن يعتبر للقبيلة وزنها في الدفاع عن أصحابها على حد القائل:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشد
وفي زمن تقوم الحرب الطاحنة بسبب إهانة جمل امرأة من القبيلة فكيف برجل منها. وما أشقّ ذلك على نفس الرسول صلى الله عليه وسلم المكلّف بالتبليغ عن ربّه، والذي يدعو الناس بالكلمة الطيبة وهو وحيد غريب، فينبري أقرب الناس إليه يطارده أمام الناس الناظرين إليه، يرميه بالحجارة فيدمي عقبيه، ويحثو التراب على رأسه ووجهه، ويكيل له التهم وهو المعروف بينهم بالأمانة والصدق والوفاء.
7- ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم بنصر الله له جعلته لا ييأس ولا يملّ، ويدأب في الدعوة وعرضها على القبائل والأفراد في جميع المواسم وعلى كل المستويات.
8- صبر الرسول صلى الله عليه وسلم على مشاقّ الدعوة وعوائقها وتبعتها فلم يضعفه موقف سخرية، ولم يحبط همّته استهزاء مستهزئ.
9- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل ما يعرض على القبائل كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) لأنها أساس الإسلام.
بيعة العقبة:
قال جابر بن عبد الله: (مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي المواسم بمنى يقول: "من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟ حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر - كذا قال - فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمشي بين رحالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدّقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام.
وبعثنا الله إليه فائتمرنا واجتمعنا وقلنا: حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكّة ويخاف فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدنا بيعة العقبة. فقال له عمه العبّاس: يا ابن أخي لا أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك؟ إني ذو معرفة بأهل يثرب.
فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فلما نظر العباس في وجوهنا قال: هؤلاء قوم لا نعرفهم، هؤلاء أحداث!
فقلنا: يا رسول الله، على ما نبايعك؟
قال:"تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، وأزواجكم، وأبناءكم، ولكم الجنّة".
فقمنا نبايعه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو أصغر السبعين - إلا أنه قال: رويداً يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافّة، وقتل خياركم وأن يعضكم السيف. فإن أنتم قوم تصبرون عليها إذا مسّتكم، وعلى قتل خياركم، ومفارقة العرب كافَّةً، فخذوه وأجركم على الله، وإن أنتم تخافون من أنفسكم خيفةً فذروه فهو عذر عند الله عزّ وجلّ! فقالوا: يا سعد، أمط عنا يدك، فو الله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها، قال: فقمنا إليه رجلاً رجلاً، فأخذ علينا، ليعطينا بذلك الجنّة).
بعض الدروس والعبر والفوائد:
1- تتبّع الرسول صلى الله عليه وسلم للناس في منازلهم وأسواقهم عشر سنين يكشف لنا مدى الجهد والتعب الذي بذله الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته ومدى صبره ومواصلته للعمل وعدم اليأس من صلاح الناس وهدايتهم.
2- حجم الدعاية الإعلامية التي شنّتها قريش ضدّ الرسول صلى الله عليه وسلم بين قبائل العرب حتى جعل الناس يحذّرون أفرادهم منه.
3- أن الحملة الدعائية مهْما كان حجمها والجهود التي بذلت فيها ومهْما كان اتّساعها فإنها تبقى محدودة ولن تستقطب جميع الناس حيث يبقى من لا تؤثر فيه تلك الدعايات ممن هو خارج عن إطار الإمّعات.
4- لا يستوحش من الحق لقلة السالكين وهذا الدين سيمكّن في الأرض ولو بعد حين، فقد بقي النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنةً يطارد بمكة ويحذّر منه، فلم يتطرّق إلى نفسه اليأس من الانتصار، وجاء نصر الله مسوقاً إليه من أهل المدينة، فالاضطهاد والملاحقة لا تثني الداعي عن دعوته، ولا تمنع من استجابة الناس له.
5- التفكير في إخراج الدعوة من الحصار الذي يضربه عليها أعداؤها وفكّ الخناق عنها، فلقد كان ذلك هو شغل الأنصار الشاغل وهمّهم الذي ينامون عليه ويصحون معه، مع الشعور بالمسؤولية وإن لم يطلب منهم ذلك، حيث أن حجْر الداعية ومنعه والحظر عليه مضرة بالمدعوين أكثر من الداعي. لذا قالوا: (حتى متى نترك رسول الله..).
الهجرة إلى المدينة:(12/111)
وبعد بيعة العقبة بدأت طلائع المهاجرين تتوجّه إلى المدينة أخرج البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قد أريت دار هجرتكم رأيت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة..".
أخرج البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال البخاري عن عائشة: (وتجهّز أبو بكر قِبَل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي". فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السدر - وهو الخبط - أربعة أشهر).
وهنا تعرف أخي الكريم منزلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحباً له من بين جميع أصحابه.
وظلّ رسول الله ينتظر أمر ربّه بالهجرة إلى المدينة، وقريش جاهدة في حربه والكيد له حتى ائتمروا في دار الندوة على أن يأخذوا من كل قبيلة فتًى جلداً فيعطونه سيفاً حاداً فيقتلون به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتفرّق دمه بين القبائل.
قال ابن إسحاق: (( ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا داراً، وأصابوا منهم منعةً، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم. فاجتمعوا له في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها - يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خافوه.
فقريش تخطّط للإيقاع بالدعوة، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخطط للنجاة بها إلى بر الأمان.
روى البخاري عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: (لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً).(12/112)
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: (فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلا أَمْرٌ قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ:" أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:" فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بِالثَّمَنِ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ فَكَمَنَا فِيهِ ثَلاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلامُ وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاثِ وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِياً خِرِّيتًا وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاثٍ وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ).(12/113)
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عبد الرحمنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ:(جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَارًا قَافِلِينَ مِنَ الشام فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمِ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ. فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلاحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِظَهْرِ الْحَرَّةِ فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَامِتًا فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْغُلامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالا: لا بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:
ذَا الْحِمَالُ لا حِمَالَ خَيْبَرْ *** هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الآخرة *** فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي).
بعض الدروس والفوائد والعظات من الهجرة:
1- تقدم إسلام آل أبي بكر (( لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين )).
2- اهتمام أبي بكر بأهل بيته وإصلاحهم والبدء بهم قبل غيرهم.
3- منزلة أبي بكر من النبي صلى الله عليه وسلم وصلته الوثيقة به، ومعايشته لأمر الدعوة منذ بزوغ فجرها، فقد كان عليه الصلاة والسلام يزوره كلّ يوم مرّتين.
4- إن تفكير أبي بكر في الخروج من مكّة مهاجراً لوحده مع منزلته وأهميته للدعوة وصلته الوثيقة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ليكشف عن مدى الأذى والشدّة التي تلحقها قريش بالمسلمين. هذا مع أن أبا بكر من الأشراف ومن الذين يجدون منعةً في قومهم فكيف بالضعفاء والعبيد!!
5- أن أمن الدين هو الأصل عند المسلم فإن وجد عليه خطراً دفع بلده وماله وأهله حمايةً لدينه، ولهذا خرج أبو بكر مهاجراً وحده تاركاً كل شيء خلف ظهره يطلب الأمان لدينه ودعوته.(12/114)
6- بلد المسلم ووطنه هو الذي يتمكن فيه من إظهار دينه ودعوته فيه، ولهذا خرج أبو بكر على الرغم من أفضليّة بلده على سائر البلدان. وعلى المسلم أن لا يركن إلى الذلّ والهوان بل يعمل تفكيره في الخروج من الحصار المضروب على دينه ودعوته، ويبحث عن موطن موافق أو مسالم لها. حتى يتمكّن من تحقيق عبوديّته لله تعالى.
7- لقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة ولم يختر صاحباً له في الهجرة غير أبي بكر وفي هذا دلالة على عظم الصلة وقوّة الرابطة بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم.(على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي).
8- لقد تجهّز أبو بكر للهجرة إلى المدينة، ولكن بعد ما عرّض له الرسول صلى الله عليه وسلم بالصحبة جلس وتحمّل الأذى والعنت والتعب من قريش طاعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبةً في مصاحبته. (فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه).
9- مبادرة أبي بكر في الترتيب لأمر الهجرة، وبذل المال في خدمة دعوته بدون طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قام مباشرةً بعد تعريض الرسول صلى الله عليه وسلم له بالصحبة بتعليف راحلتين كانتا عنده ; إذ مثل هذا من بدهيّات الهجرة فلا تحتاج إلى أمر يتلقّاه من الرسول صلى الله عليه وسلم وفي هذا بيان بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يربّيهم تربية العبيد تربية الخنوع وإلغاء العقل مع المتبوع.
10- مقابلة التخطيط بالتخطيط، والتنظيم بالتنظيم، والترتيب بالترتيب، فقريش تخطّط وترتّب للإيقاع بالدعوة، بينما الرسول صلى الله عليه وسلم يخطّط ويرتّب للنجاة بها، وهذا يوضح أن الاستسرار فيما يخدم الإسلام بما لا يتعلّق به بلاغ ولا بيان ولا يترتّب على إسراره كتمان للدين أو سكوت عن حق من سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتعارض التخطيط وأخذ الحيطة مع التوكّل على الله تعالى لأن الأخذ بالأسباب جزء من العبادة.
11- وإن من أعظم مظاهر التضحية في هذه الهجرة أن يغادر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون هذا البلد الأمين الحبيب إلى قلوبهم - بل وإلى قلوب جميع المسلمين - مغادرةً يعلمون أن لا استقرار لهم فيه بعدها، وهذا من أشقّ الأمور على النفس، ولكن رجال العقيدة يرخصون في سبيلها كل غالٍ.
ولقد عبّر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى - معنى صعوبة مغادرة مكّة وفراقها فراقاً لا سكنى بعده - في العديد من المواقف المؤثّرة.
عن عبد الله بن عدي بن حمراء الزهري قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً على الحَزْورة فقال: والله والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت).
12- تربية أبي بكر لأسرته على الأمانة وإحاطة الإسلام وحفظه وبذل ما يملكون في سبيل ذلك، وكان واثقاً أتمّ الثقة بتربيته فقال للرسول صلى الله عليه وسلم لمّا أمره بإخراج من عنده: (أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ)، (إنما هم أهلك يا رسول الله).
13- الرغبة في مصاحبة أهل الخير مهما ترتّب على ذلك من أخطار. قال أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم: (الصحبة يا رسول الله).
14- منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم عند أبي بكر أوصلته إلى البكاء من الفرح لمّا أخبره بمصاحبته في الهجرة.
15- الرغبة في المساهمة في طريق الخير وعدم الاعتماد على الآخرين في ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم أبى أن يركب راحلة ليست له حتى اشتراها من أبي بكر بالثمن، حتى تكون هجرته بماله ونفسه رغبةً في استكمال فضل الهجرة والجهاد على أتمّ أحوالهما.
16- أسرة أبي بكر تشارك بمجموعها في إنجاح خطّة الهجرة النبوية.
17- الاستفادة من خبرات وطاقات المجتمع وتوظيفها في المجالات المناسبة، فعبد الله بن أبي بكر للأخبار، وعامر للشراب، وأسماء وعائشة لتجهيز الطعام وهكذا.
18- الاستفادة من خبرات المشركين إذا أمن حالهم، ولم يكن لهم شوكة في التأثير على القرار، وعرفوا واشتهروا بما يراد منهم، ولم يكن أحد من المسلمين يسدّ هذه الوظيفة، وكانت عاداتهم وتقاليدهم تفرض عليهم الأمانة في أداء تلك المهمّة.
19- اتّخاذ الأسباب والاحتياطات التامّة، ثمّ التوكّل على الله تعالى والثقة المطلقة به والاطمئنان لنصره، وعدم الاتّكال على الأسباب ذاتها. قال أبو بكر: (يا رسول الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا). قال: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
20- إن نصر الله فوق كلّ نصر وقدرة الله فوق كلّ قدرة، وأمر الله فوق كل أمر، وتأييده يتحدّى كلّ قدرات البشر وطاقاتهم، فهذه قريش صاحبة السلطة وتحت يدها السلاح والرجال والأموال ومع ذلك لم تستطع أن تهتدي إليهم في الغار.
21- نجاح خطة وترتيبات الهجرة النبوية، فعلى الرغم من حرص قريش وتعميمها على القبائل وبذل الأموال في سبيل ذلك إلا أنه لم يدركهم منهم أحد غير سراقة.(12/115)
22- لقد كان أبو بكر قلقاً على حياة رسول الله من أن يصيبها أذى ولذلك يكثر الالتفات، أمّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان واثقاً من نصر ربّه له، مطمئناً إلى ذلك لم يعبأ بالخطر مع قربه منه، ولم يستحق منه مجرّد الالتفات، قال أبو بكر: (هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله). فقال: (لا تحزن إن الله معنا).
أسس بناء المجتمع في المدينة:
قام المجتمع المدني على عدّة دعائم، أهمّها ما يأتي:
أولاً: المسجد.
فكان أوّل عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بناء المسجد كما في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (..بَنَاهُ مَسْجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:
هَذَا الْحِمَالُ لا حِمَالَ خَيْبَرْ *** هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخرة *** فَارْحَمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
وهذا يدل على أهمّيّة المسجد ومكانته في الإسلام، وأصبح المسلمون كلّما بنوا مدينةً أو مصراً أول ما يبدأون بالمسجد ثم يبنون بيوتهم حوله كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين بنى الكوفة والبصرة.
والمسجد له مكانة عظمى ودور كبير في حياة الأمّة المسلمة فاستخدم المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأكثر من غرض منها:
1- إقامة الصلاة فيه، وكان الصحابة يحرصون أشدّ الحرص على الصلاة مع الجماعة، حتى إنّ الرجل منهم لا يستطيع المشي فيهادى بين رجلين حتى يأتون به المسجد، وكانوا يعتبرون المتخلف عن المسجد منافقاً معلوم النفاق.
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ).
وروى مسلم أيضا عن ابن مسعود قال: (لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنِ الصَّلاةِ إِلا مُنَافِقٌ قَدْ عُلِمَ نِفَاقُهُ أَوْ مَرِيضٌ إِنْ كَانَ الْمَرِيضُ لَيَمْشِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ حَتَّى يَأْتِيَ الصَّلاةَ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَنَا سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى الصَّلاةَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُؤَذَّنُ فِيهِ). ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعذر أحداً بالتخلف عن المسجد.
فروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَأَجِبْ). فمع كونه صلى الله عليه وسلم رحيم بأمته يشقّ عليه ما يشقّ عليهم رؤوف فيهم لم يرخّص لهذا الأعمى في التخلف عن الصلاة في المسجد. وقد ورد في بعض روايات الحديث أنه كبير وبعيد الدار عن المسجد.
بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم هَمَّ بتحريق أناس لم يشهدوا الصلاة في المسجد كما في صحيح البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ صَلاةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لاتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يَؤُمُّ النَّاسَ ثُمَّ آخُذَ شُعَلاً مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لا يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ بَعْدُ).(12/116)
وقد رتّب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة في المسجد فضلاً كبيراً وأجراً عظيماً كما في الصحيحين عن أبي هريرة: (أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ لا يَنْهَزُهُ إِلا الصَّلاةُ لا يُرِيدُ إِلا الصَّلاةَ فَلَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي الصَّلاةِ مَا كَانَتِ الصَّلاةُ هِيَ تَحْبِسُهُ وَالْمَلائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ يَقُولُونَ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ).
2- مدرسة وجامعة للتعليم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الناس ويجلسون إليه في المسجد فيتعلمون منه أصول الدين وفروعه، وكان الواحد منهم إذا شغله شاغل عن حضور المسجد ذلك اليوم أوصى غيره يأتيه بما يتعلّمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وربما استفيد من المسجد في الأمور التالية:
1- إيواء الضعفاء والفقراء والعزّاب.
2- إنشاد الشعر في نصر الدعوة.
3- مكان لاعتقال الأسرى حتى يشاهدوا المسلمين فيتأثروا بهم.
4- مكان لعلاج المرضى (مثل خيمة رفيدة لمعالجة سعد بن معاذ).
5- استقبال الرسل والسفراء.
6- عقد ألوية الجهاد.
7 - لقاء المسلمين بأميرهم وقائدهم.
ولما اهتمّ المسلمون بشكل المساجد وزخرفتها فرغوها من محتواها ومقاصدها، وأصبحت مكاناً لأداء الصلاة ثم يقفل حتى عن حلق العلم والتعليم.
وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)
وفي الحديث الآخر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتباهى الناس في المساجد).
وعن ابن عباس مرفوعاً: (ما أمرت بتشييد المساجد ثم قال ابن عباس: (تزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى).
ثانيا: المؤاخاة.
لمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وقد تركوا ديارهم وأموالهم وهربوا إلى الله بأبدانهم، تنافس الأنصار - رضي الله عنهم - في إيواء إخوانهم المهاجرين حتى أصبح إسكانهم بالقرعة فهذه امرأة من الأنصار ممن بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحكي لنا قصة في ذلك: روى البخاري عن أم العلاء قَالَتْ: (طَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى تُوُفِّيَ..).
بل طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقسّم بينهم وبين إخوانهم من المهاجرين نخيلهم فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ: (اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ النَّخْلَ قَالَ: لا قَالَ: يَكْفُونَنَا الْمَئُونَةَ وَيُشْرِكُونَنَا فِي التَّمْرِ قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا).
وروى الإمام أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَعْقِلُوا مَعَاقِلَهُمْ وَأَنْ يَفْدُوا عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِصْلاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ).
ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار فكانت هذه الآصرة أقوى من آصرة القبيلة والنسب حتّى وصل بهم الحال إلى التوارث بينهم كما روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا: ({وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قَالَ: وَرَثَةً {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نَسَخَتْ ثُمَّ قَالَ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} إِلا النَّصْرَ وَالرِّفَادَةَ وَالنَّصِيحَةَ وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ وَيُوصِي لَهُ).
وقد ضرب الأنصار أروع المثل في إكرام إخوانهم المهاجرين بل في إيثارهم على أنفسهم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.(12/117)
ولما فتحت البحرين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعوّض الأنصار بعض ما صرفوه على إخوانهم المهاجرين، يقول أنس بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: (دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْأَنْصَارَ إِلَى أَنْ يُقْطِعَ لَهُمُ الْبَحْرَيْنِ فَقَالُوا: لا إِلا أَنْ تُقْطِعَ لِإِخْوَانِنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَهَا قَالَ: إِمَّا لا فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي فَإِنَّهُ سَيُصِيبُكُمْ بَعْدِي أَثَرَةٌ) رواه البخاري.
ويحسن أن نسوق نموذجاً واحداً من نماذج المؤاخاة الرائعة:
روى البخاري عن إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ عبدُ الرحمنِ بْنُ عَوْفٍ: (لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ: إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالاً فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا قَالَ: فَقَالَ لَهُ عبدُ الرحمنِ: لا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ هَلْ مِنْ سُوقٍ فِيهِ تِجَارَةٌ قَالَ: سُوقُ قَيْنُقَاعٍ قَالَ: فَغَدَا إِلَيْهِ عبد الرحمنِ فَأَتَى بِأَقِطٍ وَسَمْنٍ قَالَ: ثُمَّ تَابَعَ الْغُدُوَّ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ عبد الرحمنِ عَلَيْهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَزَوَّجْتَ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَمَنْ قَالَ: امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: كَمْ سُقْتَ قَالَ: زِنَةَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ).
وقد ذابت العنصرية والقبلية في الأخوّة الإيمانية، وأصبح التفاضل على أساس {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
ولقد أكّد النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضع أهمّيّة الأخوة بين المسلمين ووجوب الترابط بينهم، ونهى عن الشحناء والبغضاء، والشقاق والخلاف والفرقة:
فشبّههم مرّةً بالبنيان في قوّة ترابطه وتماسكه.
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" شبك بين أصابعه )).
وشبّههم بالجسد الواحد في دقّة الإحساس وسرعة المواساة.
روى البخاري ومسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".
ورغّب بالقيام بحاجة المسلم ومساعدته ونصحه وإعانته في جميع أحواله:
روى مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ..".
بل إنه ساواه بالنفس في محبّة الخير وكره الشر:
روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
وحذّر من جميع الخصال التي توجب الفرقة والبغضاء والتباعد بين المسلمين:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا". رواه البخاري.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا تَبَاغَضُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ". رواه مسلم.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تَحَاسَدُوا وَلا تَنَاجَشُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَدَابَرُوا وَلا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ وَلا يَخْذُلُهُ وَلا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ". رواه مسلم.(12/118)
وأصبحت الآيات القرآنية تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم محذّرةً من الفرقة والخلاف والشقاق وآمرةً بالاجتماع والإتلاف والترابط على حبل الله المتين وصراطه المستقيم.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}.
ثالثا: المعاهدة مع اليهود.
سكن اليهود المدينة لانتظار مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يجدون صفته وصفة بلده ومكان مبعثه في التوراة، وكانت اليهود تذكر ذلك كثيراً للأوس والخزرج سكّان المدينة، وتقول: إن نبياً مبعوث الآن قد أظلّ زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
ولهذا لمّا التقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوفد الخزرج عند العقبة فكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: (يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي الذي توعّدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه)، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدّقوه وقبلوا منه لمّا عرض عليهم الإسلام.
ولكن اليهود حسدوا العرب أن بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذّبوه وعادوه، مع معرفتهم التامّة بصدقه، ووضوح علامات النبوّة التي يجدونها في التوراة عليه. كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ}.
فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أقرّ اليهود على منازلهم وعلى ممتلكاتهم وعلى دينهم وأعمالهم، مع معرفتهم التامّة به وأنه النبيّ الذي يجدونه عندهم، ومعرفته بهم وأنهم أهل خيانة ومكر وكذب، وإظهارهم عداوته وبغضه.
وقد تبيّن ذلك جلياً عند أوّل مقدمه المدينة كما في قصّة عالمهم وإمامهم وحبرهم عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
يقول عبد الله بن سلام: (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ فَجَاءَتِ الْيَهُودُ وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَيْتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ؟ قَالُوا أَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا وَأَخْيرُنَا وَابْنُ أَخْيَرِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ! قَالُوا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالُوا شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَوَقَعُوا فِيهِ).
ومع ذلك فقد أبرم معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدةً جاء فيها: ( أنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم نفسه وأثم، فأنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد، وأنه يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم ولا آثم..).
فهذا الصحيفة التزم اليهود فيها بدفع قسط من المال في الحروب دفاعاً عن المدينة، وأن المجرم ينال جزاءه من أيّ فريق كان، وأن اليهود لا يخرجون من المدينة إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتبرت المعاهدة أن المدينة حرم والحرم لا يحل انتهاكه، والمرجع الوحيد عند التحاكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعت الصحيفة من إجارة قريش أو نصرها.(12/119)
وعلى الرغم من هذه المعاهدة ووضوح بنودها، وتحقيقها حياةً آمنةً مطمئنّةً لليهود في المدينة، إلا أن اليهود ما انفكّوا عن الكيد للإسلام وأهله، ومحاولة طرح الشبه للتشكيك في نبوّة الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغلون بعض الحوادث للتلبيس على الناس كما في صرف القبلة وغيرها، كما يلقون الأسئلة المتعنتة على الرسول أمام الملأ ومع ذلك كان يحلم عليهم. وهذا يعتبر نوعاً من فصول المقاومة للرسول صلى الله عليه وسلم.
كما قاموا بتدبير المؤامرات والكيد للمسلمين في كل فرصة ينتهزونها، فمرّةً يثيرون العداوة بين المسلمين ويذكرونهم بثاراتهم الماضية حتى كاد الأوس والخزرج أن يقتتلوا، وتارةً يهددون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جمعهم في سوق بني قينقاع ورأى ما بهم من الشرّ والنوايا الفاسدة في نقض المعاهدة - بعد ما شرقوا بانتصار المسلمين في بدر - فوعظهم وذكرهم فقالوا له: (يَا مُحَمَّدُ لا يَغُرَّنَّكَ مِنْ نَفْسِكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا أَغْمَارًا لا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ وَأَنَّكَ لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا).
ودعوا على النبي صلى الله عليه وسلم بالموت كلّما لقوه في وجهه. تقول عَائِشَةَ: (اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ قَالَتْ: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا قَالَ: قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ).
وقام رجل منهم يقال له لبيد بن الأعصم بعمل السحر للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا من شأن اليهود كلّما أعياهم أمر لجأوا إلى السحر والشعوذة والاستعانة بالشياطين. فليس عندهم حجة يجادلون عنها، ولا رأي صحيح يناظرون عليه.
فانتصار المسلمين في بدر أفقد اليهود صوابهم فنقلوا الحرب والمقاومة من الكلام إلى ميدان الحرب الدامية:
فتحرّشوا بامرأة مسلمة في سوقهم وكشفوا عن سوأتها.
ثم كان منهم التحريض لقريش على غزو المدينة، وقامت بنو النضير بتنظيم عملية اغتيال للنبي صلى الله عليه وسلم، وجنّدوا شعراءهم للتشبيب بنساء المسلمين والتغزّل بهنّ.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سلكوا طريق القوّة في مقاومتهم للمسلمين واستنصار الأعداء عليهم والتهديد السافر للمسلمين فأجلا من نقض العهد منهم كبني قينقاع وبني النضير بموجب المعاهدة بينهم.
فالتقى جمع من أحبارهم بزعماء قريش وشهدوا لهم أنهم أهدى سبيلاً من محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}.
ثم حزبوا الأحزاب على رسول الله وقاموا بنفير عام وتجميع لجميع قوّات القبائل لغزو المدينة في السنة الخامسة، ولما حوصرت المدينة كان الواجب طبقاً للمعاهدة أن ينضمّ يهود بني قريظة إلى جانب المسلمين للدفاع عن المدينة، ولكنّ الذي حدث هو العكس فقد غدروا بالمسلمين وحاولوا ضرب جيشهم من الخلف في أحرج الظروف، وفي تلك الساعات الرهيبة الحاسمة التي كان فيها مصير كل الكيان الإسلامي في خطر في جميع التقديرات العسكرية، فأصبح المسلمون بين فكي كماشة.
وأعلن اليهود مؤازرتهم للغزاة المعتدين بقصد إبادة المسلمين جميعاً ووأد الإسلام. ومع ذلك فقد أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفداً يفاوضهم ويذكّرهم بالعهد والعقد، فناكروهم وسبّوهم وأغلظوا القول عليهم وسبّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامهم.
وقد قام يهود بني قريظة بهذه الخيانة العظمى. بالرغم من أن هؤلاء اليهود باعتراف زعيمهم كعب بن أسد لم يروا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا الصدق والوفاء، قاموا بتلك الخيانة وهم في حالة ارتباط مع المسلمين بموجب عهد وميثاق بأن يقاتلوا كل من حارب المدينة.
فيهود بني قريظة بالإضافة إلى ارتكابهم جريمة الخيانة العظمى يعتبرون غزاةً مُحَارِبِينَ حيث أصبحوا جزءاً لا يتجزّأ من الجيش الغازي.
فلماذا اندحر الأحزاب وانسحب الجناح الوثنيّ يجرّ أذيال الخيبة، بقي على المسلمين الجناح اليهودي من هذه الجيوش. الذي احتمى بالحصون فلمّا وصلت مقدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حصونهم سبّوهم وشتموهم وشتموا رسول الله. فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا اشتدّ الحصار عليهم انهارت قواهم عن المقاومة، فنزلوا على حكم حليفهم من الأوس وهو سعد بن معاذ ومع ذلك وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فحكم فيهم سعد بقتل المقاتلة وسبي النساء والذريّة.(12/120)
لقد تجمّعت فلول اليهود عند إخوانهم يهود خيبر، وقاموا بتنظيم قوّات مشتركة لغزو المدينة والقضاء على أهلها.
لقد كشفت الأحداث أن اليهود خلال أربع سنوات ما قبلوا تلك المعاهدة إلا مكراً وخداعاً، وأنهم اتّخذوا تلك المعاهدة مع المسلمين ستاراً ينفّذون من خلالها مخطّطاتهم. وأنهم كلّما سنحت لهم فرصة خالفوا تلك المعاهدة وشرعوا في تسديد ضرباتهم ضدّ الإسلام والمسلمين.
زواجه صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها:
وبعد بناء المسجد تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة ابنة الصدّيق رضي الله عنهما وهي البكر الوحيدة من بين نسائه وأحبّ نسائه إليه.
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة لهذه الأمّة في حياته الخاصّة والعامّة، وكان الذين ينقلون لنا حياته العامّة آلاف من أصحابه، فكان لزاماً من توفّر عدد من النساء لنقل حياته الخاصّة، إذ أن المرأة الواحدة ربما تنسى، أو أن ترى أن هذا الأمر غير مهمٍّ، أو أن الذي يروي عنها ينسى.
فتزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع نسوة، وكانت تلك النسوة متباينات في جميع أحوالهنّ حتى يتمّ الاقتداء به صلى الله عليه وسلم فمنهنّ صاحبة الأولاد، ومنهنّ الكبيرة، ومنهنّ القريبة في النسب، ومنهنّ البعيدة. مع اختلافهنّ في الطبائع والنفسيات، وفي هذا درس عظيم للأمّة في التعامل مع النساء على اختلاف حالاتهنّ وطبائعهنّ.
وقد نقلن كلهنّ حياته الخاصّة وأصبح المسلم يعرف من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته أكثر مما يعرف عن أبيه المعايش له.
طبيعة بيت النبوة:
كان بيت النبوّة يمثّل البساطة في جمالها وعلوها والزهد في قمّته والاكتفاء بالقليل وعدم التكلّف مع القدرة والإمكان على الدنيا لو أرادها صلى الله عليه وسلم.
فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تصف عيش النبي صلى الله عليه وسلم قائلة: (مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ).(رواه البخاري.).
روى البخاري عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: (ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلالِ ثَلاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم نَارٌ فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ قَالَتْ: الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ).
وصف لنا خادمه أنس بن مالك عيش النبي وما فيه من القلّة فيقول: (إِنَّهُ مَشَى إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِخُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ وَلَقَدْ رَهَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِرْعًا لَهُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ يَهُودِيٍّ وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيرًا لِأَهْلِهِ وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا أَمْسَى عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم صَاعُ بُرٍّ وَلا صَاعُ حَبٍّ وَإِنَّ عِنْدَهُ لَتِسْعَ نِسْوَةٍ). (رواه البخاري.).
بل إنه ليخرجه الجوع من بيته أحياناً كما يروي لنا مسلم عن أبي هريرة قال: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ قَالا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلاً مِنَ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلاً فَقَالَ لَهَا رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ فُلانٌ قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ إِذْ جَاءَ الأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ).(12/121)
وأما فراشه وأثاثه فتقول عنه عائشة: (كَانَ فِرَاشُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَدَمٍ وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ). (رواه البخاري.).
وصف لنا عمر فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأثاثه فقال: (دَخَلْتُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَسَلَّمْتُ... ثُمَّ رَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ فَوَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ ثَلاثَةٍ فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: "أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي..) (رواه البخاري.).
هذا مع كرمه وجوده وسخائه حتى كان أجود بالخير من الريح المرسلة، ولو كان عنده خزائن الأرض لجاد بها في ليلة يقول أبوذر: (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ عِشَاءً اسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ فَقَالَ:" يَا أَبَا ذَرٍّ مَا أُحِبُّ أَنَّ أُحُدًا لِي ذَهَبًا يَأْتِي عَلَيَّ لَيْلَةٌ أَوْ ثَلاثٌ عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ إِلا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَرَانَا بِيَدِهِ) (رواه البخاري.).
الدعوة بعد الاستقرار في المدينة:
لقد بدأت مرحلة جديدة في الدعوة حين استقرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقويت شوكة الإسلام، فواجه قريشاً في معركة بدر وهزمهم فقتل سبعين من علية قريش وسادتهم الذين كادوا له ووقفوا ضدّ الدعوة وصاحبها، ثم كانت معركة أحد فانتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش فيها في أول المعركة ولمّا خالف الرُّماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هُزِمُوا وانتصرت قريش، ثم كانت معركة الخندق فهزم الله الأحزاب بالملائكة والريح، ثم تتابعت الغزوات والسرايا فكانت الحديبية ثم خيبر إلى أن جاء فتح مكة فدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً لربه قد طأطأ رأسه وشنق لناقته الزمام مع أنه كان معه عشرة آلاف مقاتل، واستسلمت قريش وعفا عنهم صلى الله عليه وسلم.
ووجد حول الكعبة ثلاث مئة وستين صنماً فكسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً ولم يبق واحداً منها لتأليف قريش إذ لا تأليف بالشرك، مع أنه ترك الكعبة على بنائهم المبتدع على غير قواعد إبراهيم عليه السلام تأليفاً لهم، وأعلن شعار التوحيد على باب الكعبة ومن هنا قطعت شجرة الشرك وأبيدت الأصنام ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
توجيهه وتربيته وتعليمه لأصحابه:
وعلى الرغم من انشغال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد ومجالدة الشرك وأهله، إلا أنه كان دائماً مع أصحابه مخالطاً ومعايشاً ومُرَبِّياً وموجِّهًا، ومعلِّماً لهم على اختلاف أحوالهم وأعمارهم، ولا يترك موطناً من مواطن الزلل أو جانباً من جوانب الخطأ إلا وأصلحه وبينه، ولا موطناً من مواطن الخير إلا حثّهم عليه ورغبهم فيه.
فكان يؤاكل أصحابه فربما حضر الطعام معه الأعرابي حديث عهد بالإسلام، أو الغلام والجارية ممن لا يعرف آداب الطعام والشراب فيأخذ صلى الله عليه وسلم بأيديهم ويعلّمهم ويربِّيهم.
روى أحمد عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ بِطَعَامٍ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُطْرَدُ فَذَهَبَ يَتَنَاوَلُ فَأَخَذَ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ وَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُطْرَدُ فَأَهْوَتْ فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا أَعْيَيْتُمُوهُ جَاءَ بِالْأَعْرَابِيِّ وَالْجَارِيَةِ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، بِسْمِ اللَّهِ كُلُوا).
وروى البخاري ومسلم عن عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: (كُنْتُ غُلامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا غُلامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ").
وكان يبرز للناس كلِّهم ويبايع الوفود بنفسه ولا ينيب عنه أحداً من أصحابه، ولا يكتفي برئيس الوفد بل يبايعهم واحداً واحداً، وأحياناً يجيء الرهط من الناس ليبايعوه على الإسلام فيرى في أحدهم مظهراً من مظاهر الشرك من بقايا الجاهلية فيأبى أن يبايعه حتى يزيله.(12/122)
روى الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَهْطٌ فَبَايَعَ تِسْعَةً وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايَعْتَ تِسْعَةً وَتَرَكْتَ هَذَا قَالَ: "إِنَّ عَلَيْهِ تَمِيمَةً فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَقَطَعَهَا فَبَايَعَهُ وَقَالَ: مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ").
وقد أخذ بهذا المنهج صحابته الكرام رضي الله عنهم. فقد روى أحمد عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: (كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ فَانْتَهَى إِلَى الْبَابِ تَنَحْنَحَ وَبَزَقَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَهْجُمَ مِنَّا عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ قَالَتْ: وَإِنَّهُ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَتَنَحْنَحَ قَالَتْ: وَعِنْدِي عَجُوزٌ تَرْقِينِي مِنَ الْحُمْرَةِ فَأَدْخَلْتُهَا تَحْتَ السَّرِيرِ فَدَخَلَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي فَرَأَى فِي عُنُقِي خَيْطًا قَالَ: مَا هَذَا الْخَيْطُ قَالَتْ: قُلْتُ خَيْطٌ أُرْقِيَ لِي فِيهِ قَالَتْ: فَأَخَذَهُ فَقَطَعَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آلَ عَبْدِ اللَّهِ لأَغْنِيَاءُ عَنِ الشِّرْكِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ تَقُولُ هَذَا وَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ فَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِيهَا وَكَانَ إِذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ فَإِذَا رَقَيْتِهَا كَفَّ عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا".
وكان صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه ويلاعب أطفالهم
روى مسلم عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ: كَانَ فَطِيمًا قَالَ: فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَآهُ قَالَ: "أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟" قَالَ: فَكَانَ يَلْعَبُ بِهِ).
أما خدمه ومواليه فلم يكن يكلّفهم من العمل ما لا يطيقون، ولم يبكتهم يوماً ما أو ينهرهم فضلاً من أن يضربهم، بل إنهم لم يسمعوا منه مجرّد التأفّف عليهم.
ففي صحيح مسلم قَالَ أَنَسٌ: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَذْهَبُ وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ: "يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ قَالَ: قُلْتُ نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ هَلا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا).
وربما قام صلى الله عليه وسلم بالتعليم وهو على حمار مردفاً لأحد أصحابه وذلك بتكرار النداء وفي هذا إثارة انتباه السامع.
يقول معاذ بن جبل: (كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. ثم سار ساعةً، فقال: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعةً فقال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ: لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا". رواه البخاري ومسلم.(12/123)
وقد اختار صلى الله عليه وسلم معاذاً لينوب عنه في دعوة أهل اليمن ورسم له منهج الدعوة وبماذا يبدأ به الناس فقال له: " إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ". رواه البخاري ومسلم.
وكان صحابته يرجعون إليه في كل شيء حتى في مخالفات الأطفال، فيتعامل معها صلى الله عليه وسلم بأسلوب تربوي عظيم بما يتناسب مع سنّ الصغير ومرحلة الطفولة.
روى أبو داود عن أَبِي رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ قَالَ: (كُنْتُ غُلامًا أَرْمِي نَخْلَ الْأَنْصَارِ فَأُتِيَ بِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا غُلامُ لِمَ تَرْمِي النَّخْلَ قَالَ: آكُلُ قَالَ: فَلا تَرْمِ النَّخْلَ وَكُلْ مِمَّا يَسْقُطُ فِي أَسْفَلِهَا ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَشْبِعْ بَطْنَهُ". وفي رواية للترمذي قال: "أشبعك الله وأرواك".
يصف الصحابة رضوان الله عليهم مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في جميع حياتهم حضرها وسفرها، وتفقده لأحوالهم الخاصّة والعامّة، فيقول أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: إِنَّا وَاللَّهِ قَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَكَانَ يَعُودُ مَرْضَانَا وَيَتْبَعُ جَنَائِزَنَا وَيَغْزُو مَعَنَا وَيُوَاسِينَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ). رواه أحمد.
وقد اختار صلى الله عليه وسلم من أساليب التعليم أحسنها وأفضلها، وأوقعها في نفس المخاطب وأقربها إلى فهمه وعقله، وأشدّ تثبيتًا في نفسه، وأكثرها إيضاحاً: فتارةً يؤكّد لهم التعليم بالقسم، وتارةً بالتكرار، وأخرى بالنداء، وأحياناً بإبهام الشيء لحمل السامع على استكشافه والسؤال عنه كما في حديث أبي هريرة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ".رواه البخاري ومسلم.
وأحياناً يعلّمهم بأسلوب الشرح والبيان والتوضيح، وترتيب النتائج على مقدماتها كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ". رواه النسائي.
وأحياناً يأتي تعليمه بالمناسبات العارضة كما في قصّة الرجل الذي حلف بغير الله، كما روى سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ:لاَ وَالْكَعْبَةِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لاَ يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ". قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وروى الإمام أحمد عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ: (سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلاً يَقُولُ: وَالْكَعْبَةِ فَقَالَ: لاَ تَحْلِفْ بِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ وَأَشْرَكَ".
وأحياناً يأتيه الأعرابي الجافي فيغلظ للرسول الله صلى الله عليه وسلم القول، وربما يستطيل بيده على طبيعة الأعراب من العنف والجفاء، فيبتسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجيبه إلى طلبه بحسن خلق وسموّ معاملة.
روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: (كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ).(12/124)
وفي رواية لمسلم: (ثُمَّ جَبَذَهُ إِلَيْهِ جَبْذَةً رَجَعَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ الْأَعْرَابِيِّ). وَفِي حَدِيثِ هَمَّامٍ: (فَجَاذَبَهُ حَتَّى انْشَقَّ الْبُرْدُ وَحَتَّى بَقِيَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).
ولكنّه، لما رأى رجلاً لبس سواراً من نحاس يقي به مرضاً يأخذ في العضد، غضب عليه وزجره ونهره.
فعن عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبْصَرَ عَلَى عَضُدِ رَجُلٍ حَلْقَةً، أُرَاهُ قَالَ مِنْ صُفْرٍ فَقَالَ: وَيْحَكَ مَا هَذِهِ؟ قَالَ: مِنَ الْوَاهِنَةِ قَالَ: أَمَا إِنَّهَا لا تَزِيدُكَ إِلا وَهْنًا انْبِذْهَا عَنْكَ فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا". رواه أحمد وابن ماجة..
فهناك لم يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، أمّا هنا ولمّا رأى مظهراً من مظاهر الشرك غضب لله عز وجل، حيث أنه صلى الله عليه وسلم بعث بتكميل أديان الخلق بنبذ الوثنيّات والتعلّق بالمخلوقين، وعلى تكميل عقولهم بنبذ الخرافات والخزعبلات، والجدّ في الأمور النافعة المرقّية للعقول، المزكّية للنفوس، المُصْلِحَة للأحوال كلها دينها ودنياها. (القول السديد ص 37).
وربما لحقه الأطفال فأركبهم معه على بغلته.
فعن إِيَاسٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:(لَقَدْ قُدْتُ بِنَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاءَ حَتَّى أَدْخَلْتُهُمْ حُجْرَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا قُدَّامَهُ وَهَذَا خَلْفَهُ رواه مسلم.
بل ربما نزل وترك الخطبة من المنبر وحمل الأطفال ثم أتمّ خطبته
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ قَال: (سَمِعْتُ أَبِي بُرَيْدَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُنَا إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} فَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا)رواه الترمذي وحسنه.
وإذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكر انتدب له رجلاً من صاحبته؛ ليقوم بإزالته، فقد روى لنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه بمهمّة وهي تسوية القبور بالأرض وعدم رفعها، وطمس التماثيل والصور.
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: (قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم أَنْ لا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلا طَمَسْتَهُ وَلا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهُ)، وفي رواية َقَالَ: (وَلا صُورَةً إِلا طَمَسْتَهَا).
ولم يكن رسول الله يخصّ أحداً من أقاربه بعلم دون الناس.
ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: (سُئِلَ عَلِيٌّ أَخَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً إِلَّا مَا كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا قَالَ: فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبٌ فِيهَا لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا).
وكان يرسل البنيات الصغيرات لِيَلْعَبْنَ مع عائشة رضي الله عنها.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي) رواه البخاري.
وكان صلى الله عليه وسلم لا ينفكّ عن التعليم والتوجيه في حال الصحة والمرض فقد كان بعض نسائه يقصصن عليه بعض القصص وهو في مرضه، لعلّ ذلك من أجل تسليته(12/125)
ففي البخاري ومسلم عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: "أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ".
فعلى الرغم من مرضه صلى الله عليه وسلم استدرك على نسائه وبيّن ضلال أولئك النصارى حيث اتخذوا المساجد على قبور الصالحين وصوّروا صوراً فيها.
وقد تعامل مع أخطاء الأعراب الجفاة بالحكمة والتأني مع الحلم والصبر عليهم والصفح عنهم، وحسن توجيههم وإرشادهم وتربيتهم، مع غاية الرحمة والرأفة بهم. فعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: (بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا تُزْرِمُوهُ (أي لاتقطعوا عليه بولته) دَعُوهُ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ" أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ). رواه البخاري ومسلم.
وكان لطيفاً رحيماً رقيقاً في معاملته لأصحابه وفي تعامله مع أخطائهم.
يصف لنا ذلك معاوية بن الحكم السلمي فيقول - كما في صحيح مسلم - عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: (بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلا ضَرَبَنِي وَلا شَتَمَنِي قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ" أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلامِ وَإِنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأْتُونَ الْكُهَّانَ قَالَ: "فَلا تَأْتِهِمْ قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ قَالَ: ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلا يَصُدَّنَّهُمْ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ: فَلا يَصُدَّنَّكُمْ، قَالَ: قُلْتُ وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ قَالَ: كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ قَالَ: وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُعْتِقُهَا قَالَ: ائْتِنِي بِهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ قَالَ: مَنْ أَنَا قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ".
وقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيه عن إتيان الكهان في موطن آخر فقالَ: "مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم". رواه أحمد عن أبي هريرة.
وقد بلغ من رأفته ورحمته أن يصعد الصبيّ على ظهره وهو ساجد يصلي بالناس فيطيل السجود كراهة أن يعجّل الصبيّ.(12/126)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِحْدَى صَلاتَيِ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا قَالَ أَبِي: فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ". رواه النسائي.
روى النسائي عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ رَفَعَهَا).
بل إن رأفته ورحمته بالناس حملته على تخفيف الصلاة بسبب بكاء صبيّ مراعاةً لحال أمه.
عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأدْخُلُ فِي الصَّلاةِ وَإِنِّي أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي مِمَّا أَعْلَمُ لِوَجْدِ أُمِّهِ بِبُكَائِهِ". رواه ابن ماجه.
وفي السَّنَة التي مات بها ابن النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم
يقول الْمُغِيرَةُ ابْنُ شُعْبَةَ: (انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ".
فبدّد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع الأوهام والخرافات المنتشرة في الجاهلية.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يملك عينيه من شدّة الرحمة
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عبد الرحمنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلا نَقُولُ إِلا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ" رواه البخاري.
وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وفي السنة العاشرة حجّ صلى الله عليه وسلم بالناس وبعد رجوعه من الحجّ وفي شهر ربيع الأوّل بدأ به المرض بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم ثمّ اشتدّ وجعه حتى انتقل إلى جوار ربه جل وعلا في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة.
روى البخاري أَنَّ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ - يَشُكُّ عُمَرُ - فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ). قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْعُلْبَةُ مِنَ الْخَشَبِ وَالرَّكْوَةُ مِنَ الأَدَمِ.
حينما يحسّ الإنسان بقرب أجله يهتمّ بالوصية في أكثر الأشياء أهميّةً عنده والتي يتوقع أو يخاف إهمالها ممن بعده، وكذلك نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم الذي يشقّ عليه ما يشقّ على أمّته، والحريص على هدايتهم الرحيم الرءوف بهم كما وصفه ربه، اهتمّ في أيّامه الأخيرة من حياته بتكرار الوصيّة بأمور عظيمة.(12/127)
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوصيّة فعمل أصحابه بها فكان كل واحد منهم لا يبيت إلا ووصيته عند رأسه، وقد أوصى صلى الله عليه وسلم عند موته بوصايا عظيمة وأشياء مهمّة كان يخشاها صلى الله عليه وسلم على أمّته، وقد وقع ما كان يخشاه صلى الله عليه وسلم فقد تهاون الناس بوصيّته، وبما كان نهى عنه حتى انتشر ذلك بين الناس وأصبح بعض طلبة العلم لا ينكرونها بسبب كثرتها وفشوّها، فإليك أخي الكريم طائفة من وصاياه صلى الله عليه وسلم فأَرْعِ لها سمعك رعاك والله وحفظك وافتح لها قلبك فتح الله عليك أبواب الخير.
أولاً: نهى عن اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد على القبور، ونظراً لخطر هذا الأمر نبّه عليه صلى الله عليه وسلم وهو في حالة الموت، ولا يتمسّك شخص بأن قبره وقبر صاحبيه في المسجد فإن هذا ما فعله صلى الله عليه وسلم، ولا خلفاؤه الراشدون الذين قال صلى الله عليه وسلم عنهم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" ولا يلتفت إلى عمل الناس مع نهيه صلى الله عليه وسلم فهو الواجب طاعته واتباعه.
استمع أخي الكريم إلى أمّنا عائشة وهي تحدّثك عن نبيّك في حال وفاته فتقول: كما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا" قَالَتْ: وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا.
ولاحظ أخي الفاضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا الأمر في حال مرضه وأمام جمع الناس فيروي لنا الإمام مسلم عن جندب قَالَ: ( سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ: " إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ".
ثانياً: بيّن للناس منزلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأنه لا يوازيه أحد من صحابته في منزلته كائناً من كان، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (( خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ". رواه البخاري..
وروى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: (مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ قَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَعَادَتْ فَقَالَ: "مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ" فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
وروى البخاري عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ: (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنَ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ وَظَنَّ أَنَّ صلى الله عليه وسلم خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ).(12/128)
ثالثاً: أوصى بالصلاة، ولعظم شأن الصلاة تجد أخي الكريم حبيبك صلى الله عليه وسلم يأمرك بها حتى في حال غرغرة الروح، في الوقت الذي ينسى فيها الإنسان نفسه من شدّة سكرات الموت فإن نبيّنا صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة العظيمة الحرجة يؤكّد شأن الصلاة ومنزلتها وعظم شأنها.
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى مَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ)رواه ابن ماجة..
ولهذا رتّب على الصلاة ما لم يرتّب على غيرها فجعلت هي الفاصل بين الكفر والإسلام، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه..
وقال أيضا: " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه..
وقال عبد الله بن شقيق: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) رواه الترمذي.
ولكي تتصوّر أخي الكريم الحكمة من هذه الوصيّة تأمّل في حال المسلمين، كم نسبة الذين يصلّون منهم، وكم نسبة الذين يحافظون على الصلاة في وقتها من بين المصلين؟ وكم نسبة الذين يؤدّونها جماعة في المساجد من هؤلاء؟ وكم نسبة الذين يحافظون على آدابها وخشوعها!؟.
رابعاً: النهي عن الاختلاف والتشاجر بين المسلمين فقد أمر جريراً أن يستنصت الناس ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". رواه البخاري ومسلم..
ولتصوّر الحكمة من هذه الوصية تأمّل تاريخ المسلمين وحاضرهم وإلى أيّ مدى خالفوا هذه الوصيّة.
وصلى الله وسلم على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
======================
نَصْرُ المُخْتار ودَحْر الفُجَّار!
الكاتب: يوسف مسعود قطب حبيب
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
يسرني أن أبعث إليكم بهذه القصيدة (نصر المختار ودحر الفجار) بعد أن عدلت بعض أبياتها التي قد تُوِهمُ البعض بغير المعنى المراد مثل البيت الرابع، وقد كتبتها بعون الله تعالى وفضله للرد على من تطاول على مقام سيد الخلق صلى الله عليه وسلم راجيا نشرها، وسائلا الله تعالى لي ولكم التوفيق والقبول.
نَبِحتْ شِرَارُ الخَلْقِ تَقْذِفُ بِالتُّهَمْ لِتَعِيبَ مَنْ أَرْسَى المَبادِئَ والقِيَمْ
أيْنَ النُّباحُ وإن تَكاثَرَ أَهْلُهُ مِنْ نَيْلِ بَدْرٍ قَدْ سَما فَوْقَ القممْ
أو نََيْلِ نَجْمٍٍ ساطِعٍ يَهْدِي الوَرَى سَعِدَتْ بِه وَبِنُورِهِ كُلُّ الأُمَمْ
جَادَ الكَريمُ بِهِ بِأَعْظَمِ نِعْمَةٍ فَتَحَ القُلوبَ بهِ وأَحْيا مِنْ عَدَمْ
قَدْ تَمَّمَ الأَخْلاقَ بَعْدَ ضَياعها وَشَفَى العَلِيلَ مِن الوَساوِسِ والسَّقَمْ
بِالعَدْلِ وَالإِحْسانِ قامَتْ شِرْعَةٌ والفُحْشُ والبَغْيُ البَغيضُ قَد انْهَدَمْ
فَغَدا ظَلامُ الكَوْنِ صُبْحاً مُشْرِقا لَمّا اسْتَضاءَ بِنورِ أحْمَدَ وابْتَسَمْ
سَحّاءُ كَفُّ مُحَمَّدٍ بِعَطائِها كَالْغَيْثِ عِنْدَ عُمُومِهِ لا بَلْ أَعَمْ
مَن ذا يُطاوِلُ رَحْمَةً فِي قَلْبِهِ مَنْ ذا يُبارِي في السَّماحَةِ والكَرَمْ؟
فَلْتَسألِ الثِّقلينِ عَنْ أخلاقهِ بَلْ سائِلِ الطيرَ المُحَلِّقَ بِالقِمَمْ
مَنْ صاحَ بالأصحابِ رُدّوا فَرْخَهَ كَيْ يَسْعَدَ العُشُّ الحزينُ وَيَلْتَئِمْ
بَلْ سائِلِ الجَمَلَ الْبَهِيمَ إذِ اشْتَكَى لِمُحَمَّدٍ بِدمُوعِهِ مُرَّ الألَمْ
فَوَعَى الخِطابَ وقامَ يُعْلنُ غاضِبا لا يَرْحَمُ الرحمنُ إلا مَن رَحِمْ
وَعَفا عَنِ الخَصْمِ اللَّدودِ وَسَيْفُهُ بِيَمِينِهِ وَالخصْمُ قَدْ ألْقَى السَّلَمْ
هَلاّ رَأيتمْ مِثلَ عَفْوِِ محمدٍ عَنْ أهلِ مكةَ عَبرَ تاريخِ الأُمَمْ؟
**************
يا جاحِداً لِلْحَقِّ هل بدِيارِكُمْ لم يَبْقَ ذِكْرٌ لَلْعَدالةِ أو عَلَمْ؟
هلاّ أقَمْتَ لِما افْتَريْتَ دَليلَهُ إنَّ الدَّليلَ لِكُلِّ قَوْلٍ يُلْتَزَمْ
هَلْ يَقْتُلُ المُخْتارُ شَيْخاً فانِيا هَلْ يَقْبَلُ المُخْتارُ نَقْضاً لِلذِّمَمْ؟
هَلْ مَثَّلَ المختارُ أو قَتَلَ النِّسا هَلْ أَهْلَكَ المُخْتارُ شَعباً وانتقَمْ؟
فَهُوَ الطَّبِيبُ بِحَرْبِهِ وبِسَلْمِهِ يَجْتَثُّ أسْبابَ الشِّكَايَةِ والسّقَمْ
فِيُزيلُ أنظمةً تُجَرِّعُ شَعْبَها كَأْسَ المَذَلَّةِ والعِبادَةِ لِلصَّنَمْ
كَيْ ِيُشْرِقَ التّوْحِيدُ فِي أرْجائِها ولِيَشْكُرَ المَخْلوقُ مَنْ أسْدَى النِّعَمْ
هذا جهادُ نَبِيِّنَا وَمُرَادُهُ فاذْكُرْ مَقاصِدَ حَرْبِكُمْ كُلَّ الأُمَمْ
ولْتَسْألِ (الْبوسْنا) تُجِبْكَ نِساؤها الثَّكْلَى وَقَبْرٌ جامِعٌ وبحارُ دَمْ
بَلْ سائلِ (الشّيشانَ) مَنْ أَوْرَى بِها ناراً أحَطاتْ بِالسِّهولِ وبالقِمَمْ؟(12/129)
والمسجدُ الأقصى يَئنُّ بِجُرْحِه بَيْنَ الجماجمِ سائلاً أينَ القِيَمْ؟
مَنْ أجَّجَ الحَرْبَيْنِ فتكا بِالوَرَى أمُحَمَّدٌ أمْ هُمْ أساطِينُ الْعَجَمْ؟
فاسْأَل (هِيروشيما) أو اسألْ أُخْتَها لَمْ يَنْجُ مِنْ إنْسٍ ولا صَخْرٍ أصَمْ
فَهَلِ الِّدفاعُ عَنِ الحقوقِ جريمةٌ والظلْمُ والعُدوانُ حقٌّ يُحتَرَمْ؟!
**************
يا جاحِداً للحقِّ رُغْمَ وُضُوحِهِ أبِأرْضِكُمْ زمنُ العُقولِ قَدِ انصَرَمْ؟
هلاّ تُقارِنُ بَينَ هَدْيَ مُحمدٍ ونُصوصِ أسَفارِ الضَّلالَةِ عِندكمْ؟
هلاّ بَصَرْتُمْ نُورَهُ بَدَلَ العَمَى هلاّ سَمِعْتُمْ قولَهُ بَدَلَ الصَّمَمْ؟؟
هلاّ لآيات الكتاب عقلتم هِيَ لِلْفَلاحِ صِرَاطُهُ الْحَقُّ الأتَمْ
قدْ فاقَ كلَّ المعجزاتِ بِهَدْيِهِ وبِنَظْمِهِ وحقائقٍ تهْدِي الأُمَمْ
سَلِّمْ أوِ ائْتِ بِمِثْلِهِ أو بَعضِهِ واجْمَعْ شُهُودَكَ ما تَشاءُ مَعَ الْحَكَمْ
فإذا عَجزْتَ وإنَّ ذلِكَ واقِعٌ فَاحْذَرْ سَعيراً فِي مَآلِكَ تَضْطرِمْ
واحْذرْ قَوارِعَ بِالطُّغاةِ تتابَعَتْ مِنْ عِندِِ جَبَّارٍ قَوِيٍ مُنتَقِمْ
واسْألْ أبا لَهَبٍ بَلِ اسألْ زَوْجَهُ كَيفَ العذابُ بِمَنْ بَغَى وَبِمَنْ ظَلَمْ؟
واذْكُرْ أبا جهلٍ أو اذكرْ صَحبِهُ وَقَلِيبَ بَدْرٍ قَدْ طَوَى تِلكَ الرِّمَمْ
***************
لَمَّا وَهَى قَوْمِي لِحُبِّ لُعَاعَةٍ مِنْ طَيْفِ عَيْشٍ عَنْ قَريبٍ يَنْصَرِمْ
طَمِعَ الذِّئابُ بِعِرْضِنا فَاسْتَأْسَدُوا وَتَطاوَلَ القَزمُ الْحَقِيرُ عَلَى الْقِمَمْ
مَن لِي بسيفِ اللهِ فِي أصْحابِهِ مَن لِي بِسَعْدٍ أو بِسَيْفِ الْمُعْتَصِمْ
لِيَثُوبَ جَمْعُ الْمارِقينَ لِرُشْدِهِمْ وَتَلِوذَ أَفْواهُ السّفاهةِ بِالْبَكَمْ
وَتُقَبِّلُ الأيْدِي كَما قَدْ قَبَّلَتْ قَدَمَ الجُدُودِ زَمانَ عِزٍ مُنْصَرِمْ
ياأُمَّتِي هَيَّا انْهَضِي فَعَدُوُّنَا مُتَرَبِّصٌ وَعُيونُه لا لَمْ تَنَمْ
سِيرِي عَلَى هَدْيِ الرَّسولِ وَصَحْبِه مَن لازَمَ الهَدْيَ القَوِيمَ فَقَدْ غَنِمْ
وَخُذي عَلَى أيْدِي السَّفيهِ وَأعْلِني مَنْ سَبَّ أحمدَ يا طُغاةُ فقَدْ قُصِمْ
***************
فَابْعَثْ إِلهَ العالَمينَ لأُمَّتِي رَجُلا بِدِينِكَ قائِما يُعْلِي الْهِمَمْ
كَيْ يَجْمَعَ الصَّفَّ الشَّتِيتَ عَلَى الهُدَى ويُعِيدَ صَرْحا لِلْكَرامَةِ قَدْ هُدِمْ
وَاجْعَلْ صَلاتَكَ وَالسَّلامَ عَلى النَّبِي ما لاحَ صُبْحٌ أوْ تَشابَكِتِ الظُّلَمْ
وَكَذا عَلى الآلِ الكِرامِ وَصَحْبِهِ ما طارَ طَيْرٌ فَوْقَ غُصْنٍ أَوْ عَلَمْ
وابْعَثْهُ يَوْمَ العَرْضِ حَيْثُ وَعَدتَّهُ بِمَقامِهِ الْمَحْمودِ مِنْ كُلِّ الأُمَمْ
======================
نُحِبُّكَ يا رَسولَ الله
الكاتب: --
يا رحمة ً أ ُرسِلت للعالمين فدتك الروح و ما بالأرض وُجِد
بُعثتَ وشرعُ الغاب حُكْمُ المُضِلّين وسلطان الظلم في الغابة أسد
فحوّلت الظلم نورًا أنار المَشرقَين ولا غير التقوى فضلاً لأحد
بأبي أنت وأمي يا خير المرسَلين يامن قُرن اسمك بالواحد الأحد
تجاوز الحَدُّ فِعلُ الظالمين أَمِثلُ محمدًا على الأرض انولَد
جهلوا قدرَك أيُّها النور المُبين والعقلُ منهم بالجَورِ فسد
سقط القناعُ عن وجه الظالمين وما تخفي الصدورُ سوادهُ أشد
حسبوك هيناً على المسلمين وحُبُّكَ في القلوب دائمٌ أبد
والذي بعثك بالحق ماهُم سالمين ولن يغفر لهم من للهِ سجد
فهبُّوا لنَصرةِ محمدٍ يا مسلمين فالحق سيف على الظالمين أحد
إلاّ رسول الله يا جاهلين أي ورب البيت إلاّ حبيب الصمد
التوقيع: مُحِبّه لرسول الله
====================
هب اعتذروا فماذا بعدُ ؟
أ.د/ ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله الذي آذن من عادى نبيه بالحرب، وهو الذي يعصمه من الناس، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
إنه بعد مدة قليلة من عمر المقاطعة بدأت بوادر الثمرة تظهر، ولاحت في الآفاق مقدمات اعتذارات، وهذا يبين أهمية الصبر والثبات على هذه المشاريع حتى تؤتي أكلها، ولو خارت العزائم، وتركت المصابرة في المدافعة لما جنينا الثمرة، وصدق الله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [آل عمران:200]. ولاشك أن بوادر الاعتذار بوادر طيبة فإن إخلاء الأرض من سب النبي _صلى الله عليه وسلم_ مقصد مطلوب، وقد ذكر علماؤنا أن تطهير الأرض من إظهار سب رسول الله _صلى الله عليه و سلم_ واجب بحسب الإمكان؛ لأنه من تمام ظهور دين الله و علو كلمة الله، وهذا كما يجب تطهيرها من قطاع الطريق بحسب الإمكان بخلاف تطهيرها من أصل الكفر فإنه ليس بواجب ولهذا قالوا بجواز إقرار الكافر على دينه بعقد الذمة.(12/130)
وإذا كان الأمر كذلك فإن حصل الاعتذار الجلي البين المعلن فهو مكسب لأهل الإسلام مقدر، فإن اعتذار الدولة دليل إقرار بخطأ، وتراجع عنه، ولهذا قيمة مقدرة، ولهذا لا تزال بعض الدول تقطع علاقتها بدول أخرى لمجرد عدم اعتذارها لها عن حدث مضت عليه عقود.
ولكن علينا حتى لانخدع بكلام، وحتى يكون للاعتذار معنى معقول، وحتى نعلم أن المقاطعة أعادت الغافل إلى صوابه فنظر في المسألة تارة أخرى، وحتى نتيقن من أن اعتذاره لا لأجل عبادته الدرهم والدينار، بل لأجل استشعاره ذنبه، فنحن ما قاطعناهم ليعرفوا قيمة المال والريال ولكن ليعرفوا عظيم جرمهم. وحتى يتحقق هذا كله لابد أن تحاسب الدولة الصحفيين والصحيفة التي أساءت للنبي الكريم _صلى الله عليه وسلم_، وأن تشرع الأبواب للمحاكمة التي غلقت دونها الأبواب.
كما فعلت ببعض من أدانتهم بتهمة معاداة السامية، فقد أشار تقرير الحريات الدينية الأمريكي الأخير إلى هذه الحادثة وأشاد بها.
وإذا لم يكن هذا فلا كبير معنى للاعتذار، بل لا يعدو الاعتذار حينها كونه حيلة لقطع المقاطعة، واعتذار لأجل المال.
ومعلوم أنه لو اعتصم مجرم بقوم فآووه وحموه كانوا بذلك ظالمين مشاركين له، وهذا الموقف ينبغي أن تنأى الدولة الدنماركية عنه.
أما إن حوكم الصحفيون وأدينوا كما أدين غيرهم بتهمة معاداة السامية، فعندها يكون للاعتذار محل ولقطع المقاطعة وجه.
مع أنه لايُرضي المسلم ولايشفي صدره أقل من هلاك ذلك الجاني المتعدي على رسل الله _صلوات الله وسلامه عليهم_. فإن الأذى والأثر الذي خلفه الساب في النفوس لن يزول بيسر، ولو أن إنساناً صفع إنساناً تقدمت به السن فأثرت الصفعة فيه فأذهبت سمعه وبصره، فليس من العدل أن نقول ليصفعه الرجل الهرم الضعيف -الذي لايكاد يقدر على رفع يديه إلى وجهه- بكل ما أوتي من قوة وإن كانت لاتساوي شيئاً! ولايقول عاقل: إن هذا هو مقتضى العدل!
بل مقتضى العدل أن يُصفع بما يُذهب سمعه وبصره ويُبقي فيه الأثر الذي تركه في غيره.
لابد أن تحاسب الدولة الصحفيين والصحيفة التي أساءت للنبي الكريم _صلى الله عليه وسلم_، وأن تشرع الأبواب للمحاكمة التي غلقت دونها الأبواب. كما فعلت ببعض من أدانتهم بتهمة معادات السامية، فقد أشار تقرير الحريات الدينية الأمريكي الأخير إلى هذه الحادثة وأشاد بها.
وهكذا نقول فيمن سب الرسول _صلى الله عليه وسلم_ أو انتقصه، فإنه أحدث أذى، ونكأ جرحاً لايندمل، فكم من إنسان تهون عليه نفسه فلا يبالي إن زهقت على ألا يشاك رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بشوكة، وتاريخنا شاهد على هذا، وإذا كان الأمر كذلك فلا يقال: إن مقتضى العدل مجرد سب الساب بل ولا حبسه بل ولاضربه بل ولاقتله، ولكن يُتعلل بإنزال العقوبة الأعلى الواقعة ضمن حيز الإمكان وهذا من باب التسديد والمقاربة.
ولا سيما في حال الاستضعاف كما قال شيخ الإسلام: "فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله و رسوله، من الذين أوتوا الكتاب والمشركين"، وليس هذا إيجاب للرد بالصفح ولكنه بيان للرخصة.
بيد أن العجز عن بعض الواجب لا يسوغ ترك غيره، فعلى المسلمين في الدنمارك وغيرها أن يستفيدوا من الحدث الجلل في التعريف بالإسلام، فإنه إن صدقت الاستفتاءات التي نقلت عن أعداد من يؤيدون محاكمة الصحيفة ومن لا يؤيدون فإنها تشير إلى عظيم جهلهم بنبي الإسلام _عليه السلام_ وبدينه.
فالواجب على دعاة الإسلام ولاسيما في تلك البلاد كبير تجاه المصطفى _صلى الله عليه وسلم_، وتجاه التعريف بدينه، والدعوة إليه على بصيرة، وقد سمعنا ببوادر ذلك،وسعي بعضهم في الاستفادة من وسائل الإعلام المختلفة، لأجل الوصول إلى شرائح المجتمع المتعددة وذلك من الأهمية بمكان.
فالحدث على مرارته سانحة للفت الأنظار إلى الإسلام، ووضع الخطط البعيدة في الدعوة إليه والتعريف به.
كما أن الواجب على المسلمين تجاه إخوتهم كبير، وأقل القليل دعمهم بالمال والنصح والتوجيه وبذل الرأي والمشورة، ولو خصص أولئك التجار الذين كانت لهم مواقف مشهودة بمقاطعتهم من أساء نبيهم أرجو أن تسرهم يوم يسألهم ربهم عن المال الذي أعطاهم واستخلفهم فيه، أقول لو خصص أولئك شيئاً من أرباح بعض المنتجات من أجل التعريف بالإسلام في بلدانها المصدرة لها لكان خيراً لهم.
وإذا تحقق ما ذكر فعندها يمكن أن يقال: رب ضارة نافعة.
هذا والله أسأل أن يظهر دينه وكتابه وسنة نبيه، وأن يعز جنده، ويخذل عدوه، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا رسولنا وشفيعنا
أحمد القباع - الرياض
قال أبو الحسن علي بن أحمد المؤدب:
لقد هزلت حتى بدا من هزلها
كلاها وحتى سامها كل مفلس(12/131)
من الذي تجرأ وسولت له نفسه المريضة الحاقدة وشيطانه بالإساءة للرسول محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم في أحد الصحف الدنماركية والنرويجية وللإسلام عبر رسوم كاريكاتورية معبرين فيها عن حقد وكره للإسلام والمسلمين من خلال الإساءة لرسولهم وقائدهم وشفيعهم ومنهم الذين أساءوا له -صلى الله عليه وسلم- وأنا أعني هذا السؤال؟ من هم؟ من يكونوا؟ قد يكونوا أبناء أنابيب أو غيرها!! أي حرية التي تسيء لنبي ورسول آخر أمة وأكثر من مليار مسلم قال عنه تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم، وقالت عنه صلى عليه وسلم زوجته عائشة أم المؤمنين (كان خلقه القرآن) وقال عن نفسه صلى الله عليه وسلم (أدبني ربي فأحسن تأديبي) وقال عنه تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء، وسيد البشرية -صلى الله عليه وسلم- معجزاته يعلمها الجميع كأي رسول له معجزاته وآياته التي وهبها له الله جل جلاله..
ولو أردنا سوق أمثلة لتعاملاته صلى الله عليه وسلم مع أمته والتي اشتملت بمختلف مجالات الحياة ومعالم الرحمة الشاملة التي أرسل بها -صلى الله عليه وسلم- لاحتجنا إلى كتابة صفحات ولكن لعله يكفي الإشارة إلى كتابة السيرة النبوية لابن هشام للراغبين في معرفة جميع صفاته ونشأته وعموم سيرته صلى الله عليه وسلم ودعوته وتبليغه للرسالة وأداء الأمانة وأن يعم الإسلام بقاع الأرض أيضا كتاب الشمائل المحمدية، وما موقف حكومتنا الرشيدة أعزها الله بالإسلام وأعز الإسلام بها باستدعاء سفيرنا بالدنمارك إلا تأكيدا لهؤلاء وغيرهم قيام هذه الدولة في العناية بكل حقوق هذا الدين (الإسلام) وغيرة صادقة وحب للإسلام ورسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- من حماية ودعوة ونشر وخدمة الإسلام هو ديدنها تجاه جميع القضايا التي تمس الإسلام والمسلمين بشتى أنحاء العالم وجزى الله جميع التجار رجال الأعمال) الذين قاطعوا استيراد منتجات هذه الدول خيراً وبركة في الرزق واستخدام سلاح المقاطعة للتصدي لمثل هذه الإساءات وإجبار الحكومة الدنماركية وصحيفتها للاعتذار من جميع المسلمين وقبول دعاة للإسلام وإلقاء محاضرات عنه صلى الله عليه وسلم وعن الإسلام بنفس المدينة التي فيها الصحيفة ومدن الدنمارك والنرويج.
وفي حديث (والله لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من أي شيء نفسه وماله وولده).
اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد كم لاقى في حياته من الأذى في نشر الدعوة وهذا هو اليوم بعد مماته يؤذى برسوم من حاقدين على هذا الدين ورسوله.
قبل الختام قال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم) لعل ما حدث خيراً للإسلام بدخول الكثير من أبناء الدنمارك والنرويج وغيرها للإسلام عندما شاهدوا غضب المسلمين وغيرتهم على رسولهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم ولدينهم الذي أرسل به صلى الله عليه وسلم لكافة البشر والخلق بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (28) سورة سبأ، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات.
اللهم أنت تشهد أن رسولك أدى الأمانة، وبلغ الرسالة فاجزه عن أمته خير الجزاء.. اللهم اجعل هذه الأسطر شاهداً لنا لا شاهدا علينا.
==================
هذا محمد صلى الله عليه وسلم
الكاتب: د.سلمان بن فهد العودة
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه وسلم. ورد في صفته - صلى الله عليه وسلم - أنَّ مَنْ رآه هابَه، ومن عرفه أحبَّه. والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، فقد كان شخصاً عظيم النفس، عظيم الخُلُق، تامَّ الفطرة.
ورد في صفة رسالته أنها: رحمة للعالمين؛ كما في محكم التنزيل، وقال عليه السلام؛ كما في صحيح مسلم: (إِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً).
ومن قطعيّات المعاني أن الناس تجتمع على اللين، وتفترق على الشدة والقسوة{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}سورة آل عمران: 159).
ولعل من اليُمن والبُشرى أن يتنادى المسلمون في كل بقعة لنصرة محمد - صلى الله عليه وسلم, وتجديد سنّتِه.
قبل أيام شَرَعَت إحدى المؤسسات في إعداد موسوعة عالمية؛ للتعريف بشخصه الكريم عليه السلام، في آلاف الصفحات، وبأكثر من خمس عشرة لغة، وبوسائط متعددة، ورقيّة وإلكترونية، وستكون مزوّدةً بالرسوم والخرائط، ووسائل الإيضاح، والخدمات المعرفيّة المتاحة كافة.
وقد باشَرَت العديد من القنوات بثّها بعدة لغات؛ للتعريف بالإسلام, وقطع الطريق على العابثين، ممن لا تعنيهم الحقيقة العلمية فضلاً عن المهمّة الرساليّة، وبين يديّ فكرة جديدة سهلة؛ للتأليف في السيرة العطرة.(12/132)
إن كتب السيرة كثيرة, ومختلفة المقاصد والمناهج، بيد أن العصر الحاضر يحتاج إلى صياغة ملائمة للمسلمين، خصوصاً الشباب والفتيات الذين يُحبّون الرسول - صلى الله عليه وسلم - حباً عاطفياً؛ يحتاج إلى أن يتحول لاقتداء عملي، ومتابعة مسلكيّة ظاهرة وباطنة.
وغير المسلمين بحاجة إلى معرفة إيجابية؛ تجعلهم يؤمنون به، أو يحبونه ويحترمونه، وإن لم يؤمنوا به. وهذا وذاك ليس بالأمر العسير، ولكنه يحتاج إلى جهود مكثّفة ، وأفكار متآزرة.
وهيكليّة هذا العمل تتمثل - مبدئياً - بأربعة محاور:
* الأول: مدخل في التعريف بالقرآن، وقطعيّة ثبوته، والحقائق التاريخية والواقعية الدامغة على دقّة نقله. ويشمل هذا دراسة موجزة عن مخطوطات المصحف في العالم, ونماذج منها، والمصحف الإمام وأين هو؟ وبهذا تُقنع حتى من لا يؤمنون بالوحي بتاريخيّة المصحف، وقطعيّة نقله؛ ليسهل عليهم فهم دلالاته, ومعجزاته العلمية والتاريخية والتشريعية، وقراءة نبوءاته الصادقة.
* الثاني: الدلائل:وينتظم المعجزات، والآيات الدالة على صدقه - عليه السلام - من القرآن، وما يتعلق بذلك من صحاح السنة، مما يشاهده الخلق الآن ويعرفونه, ويقفون عليه, وليس فقط المعجزات المادية الخارقة التي شهدها جيل الرسالة.
ومن هذا الإعجاز: مخاطبات القرآن للرسول - صلى الله عليه وسلم - في التأييد, والمعاتبة، والأمر والنهي، والوعد الذي تحقق في حياته, أو بعد مماته، أو في العصر الحاضر له، أو لأمته, أو للعالمين.
وفي هذا ثلج اليقين، وقوة الإيمان؛ (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) (سورة المدثر:31).
* الثالث: القيم والأخلاق:وهي محلّ إجماع الخَلْق كافّة على محبّتها, والإشادة بها، وهي الأصول والكليات والمبادئ المتعلقة بالوحدانية، وأنه ليس له من الأمر شيء، فلم يكن داعياً لنفسه (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) (سورة الأحقاف:9).
ومبادئ العدل والمساواة, والحقوق العامة والخاصة، الرجل والمرأة والطفل، بل الحيوان والطير والوحش، ووراء ذلك البيئة والمرافق العامة وسواها.
ومبادئ العلاقة الطّيبة، والتواصل والتسامح، والصبر والإحسان، وقيم الحب والخير والجمال الظاهر والباطن، والنظافة في الثوب والبدن، والقلب والضمير (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (سورة المدثر:4-7).
وهذه أبواب عظيمة, إذا أُحسن عرضها، وسياق نماذجها وأدلتها وقصصها؛ لأنها تؤسس لجيل إسلامي عظيم في رعايته للحقوق، والتزامه بالأخلاق، وتفوّقه على نوازع النفس، ومؤثّرات البيئة، وضغوط الأوضاع، التي أفرزت تداخلاً بين حظ الشريعة وحظوظ النفس، ومرادات (الأنا)، التي حكمت بالشتات والولع بالتنازع.
ومن هذا تأصيل مبادئ التعامل، حين القوة والقدرة، وحين الاختلاف، وحين العسر واليسر.
إن السكينة التي تحلّت بها شخصيته المقدسة هي خير دواء لعنفوان النفوس الاندفاعية، التي قد تنتصر له، لكن بغير ما تقتضي شريعته وسنته.
* الرابع: الأحداث والوقائع الواردة في القرآن:
وما يتبعها مما جاء في صحاح السنن، مع الإعراض عن تفصيلاتها المطوّلة، والاقتصار على المهم منها، كالبعثة، والصّدع، والإسراء والمعراج، والهجرة، والدعوة، والبناء الاجتماعي، والحركة الاقتصادية، والمغازي، والحج، والوفاة.
ويتبع ذلك عرض موجز لأحوال البيت النبوي، وعلاقاته، وطبيعة علاقة المجتمع المدني بعضه ببعض.
خليقٌ بمثل هذا العمل إذا أُنجز أن يكون مادة صالحة لتدرّس في الجامعات، والمحاضن التربوية، وتُقرأ في المساجد والتجمّعات، وتُترجم إلى لغة كلّ قوم, بحسب ما يلائم عقلياتهم ومفاهيمهم وأذواقهم؛ لتكون الرسالة قد وصلت فعلاً، وبطريقة صحيحة.
لن يكتمل هذا العمل دون تعاون أخوي صادق من كل محبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بمشورة, أو معلومة, أو دلالة على مصدر، أو تنبيه على فكرة، فليكن لك -أخي الكريم- سهم في هذه الغنيمة، فهي الغنيمة الباردة، وهي الغنيمة الباقية.
صحيفة الجزيرة السعودية
=================
هذا هو نبينا.. فهل لديهم له مثيل؟
د. محمد أبو بكر حميد
رأى أصحابه فيه حياته قرآناً يمشي على الأرض، وعبروا عن حبهم له بالفعل لا بالكلام، فكان في خلقه لهم قدوة، وكانوا يتسابقون إلى اتباع خطواته، وكلهم إيمان وطيد بأن اتباع خطواته طريق يؤدي إلى سعادتي الدنيا والآخرة حيث يكسبون محبة الله لهم.(12/133)
بينما هم جلوس معه ذات مرة، وبينهم عمر بن الخطاب الذي حفظ ما قال لهم: دار بينهم حديث عن حب الله لعباده، وتاقت نفوسهم لمعرفة أقرب الطرق التي يحب بها الله عباده، فسأل أحدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس وأي الأعمال أحب إلى الله - عز وجل -؟ فقال: أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَيناً، أو تطرد عنه جوعا..، ولئن أمشي مع أخ لي في حاجة أحبّ إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً، ومن كفّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبّت الله قدمه يوم تُزل الأقدام) (رواه الطبراني في الكبير، والحديث في صحيح الجامع).
علموا أن أداء الفرائض وحدها لا يؤدي إلى ذلك الطريق الذي يعشقونه، ذلك لأنه ربط بين الصلاة وبين سلوك البعد عن الفواحش والمنكرات، حين قال لهم: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً) (رواه البراء عن ابن عباس).
وظل طوال حياته يكرر عليهم لا يكفي أن يكون المسلم خاشعاً في صلاته فقط، فعلمهم أن الخشوع الحقيقي المطلوب هو الخشوع في كل عمل يعمله المسلم خارج صلاته، أن يخاف الله في عباده قبل أن يخافه في صلاته.
ومن حرصهم سألوه بصدق عن أفضل السبل التي تجعل الله يتقبل عباداتهم بيسر، قال لهم ربكم، رب العزة والجلال يقول لكم: (إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل بها على خلقي، ولم يبت مصراً على معصيتي، وقطع نهاره في ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل، والأرملة ورحم المصاب، ذلك نوره كنور الشمس، أكلؤه بعزتي، واستحفظه بملائكتي، اجعل له من الظلمة نوراً، وفي الجهالة حلماً، ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة) (الترغيب والترهيب).
تعلموا منه الصلاة خلقاً وسلوكاً ومعاملة، فقد قال لهم مراراً: (الدين المعاملة) (كتاب تاريخ عجائب الآثار)، ولم يقل الدين العبادة، ذلك لأن العبادة جزء من الدين لأنها لا تستغرق إلا جزءاً من وقت المسلم، أما المعاملة فجعلها الدين كله لأنها الحياة كلها.
ومن أجل خدمة هذا الهدف الجليل النبيل ربط لهم أعظم إنسان متحضر على وجه الأرض، ربط لهم كل عباداتهم بالسلوك والمعاملة، فقال لهم: ( الصوم جُنَّة إذا كان أحدكم صائماً، فلا يرفث ولا يجهل، فإن أمرؤ قاتله، أو شاتمه، فليقل إني صائم، إني صائم) (رواه أبو داود).
علمهم أن رمضان مدرسة الثلاثين يوماً في التعود على ضبط النفس والسلوك، وإن الحج هو الامتحان النهائي الكبير، واسمعهم كلام الله الذي نزل من فوق سبع سموات يؤكد لهم أن الحج معاملة قبل أن يكون عبادة: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة: 197).
وما نسي أحد منهم قط وقفته بينهم وهو يعلن لهم الجائزة الكبرى التي يحلمون بها، ويعملون من أجلها، غفران ربهم.
لم تتسع لهم الدنيا من فرحتهم يوم قال: (من حج فلم يرفث ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه) (رواه مسلم)، وأكمل يبشر بالهدف الأكبر الذي يسعى إليه كل واحد منهم.. الجنة: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) (متفق عليه).
لم يترك في نفوسهم قلقاً ولا يأساً من رحمة الله وغفرانه، بل زرع فيهم الأمل، ودعاهم إلى التفاؤل، فمن فاته الحج أو لم يستطع إليه سبيلا فلا يزال طريق رحمة الله أمامه مفتوحاً: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) (متفق عليه).(12/134)
وحذرهم من الإفلاس، فظنوا أنه يقصد من قل ماله أو ضاع فاستفسروا فقال لهم: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار) (رواه مسلم)، فما كادوا يسمعون منه هذا حتى وجلت قلوبهم ووجمت وجوههم وخافوا على أنفسهم، وأدركوا أن الإفلاس الخلقي والسلوكي يأكل كل عبادات المسلم كما تأكل النار الحطب، فحرصوا على حسن الخلق فيما بينهم تراحماً وتعاضداً وتسامحاً حتى أنزل الله فيهم آيات محكمات ربط فيهن بين تراحمهم وسلوكهم وبين ركوعهم وسجودهم وبشرهم بغفرانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح: 29).
عاشوا معه يدرءون بالحسنة السيئة، ويرون أقواله في أفعاله، وظلوا يجاهدون أنفسهم للارتفاع إلى مستوى السلوك الحضاري الذي رسمه لهم، فالدين المعاملة، وقد تجلى لهم هذا المعنى في خلقه، وكلما سولت لهم أنفسهم، والنفس أمارة بالسوء، تذكروا كلماته: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) (رواه البخاري)، (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) (رواه الترمذي وابن ماجة)، (لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم)، (رواه البخاري في الأدب المفرد)، (رحم الله رجلاً سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) (رواه مسلم)، (المؤمن مرآة أخيه، والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه) (رواه البخاري في الأدب المفرد)، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (متفق عليه)، (تبسمك في وجه أخيك صدقة) (رواه الترمذي)، (إياك والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا) (متفق عليه)، ) من لا يشكر الناس لا يشكر الله) (رواه الترمذي)، (امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين) (رواه أحمد)، (بحسب أمرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) (رواه مسلم).
دعاهم إلى أن يستر بعضهم على بعض حتى لا تشيع الفاحشة، وقال جازماً في وعده: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) (رواه الترمذي)، وقال مهدداً متوعداً: (من كشف عن عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته) (رواه ابن ماجة) وأوضح لهم صراحةً أن تتبع عورات الناس وكشفها مفسدةً لأنهم إذا انكشفوا جاهروا بالمعاصي وسمعوه يقول لأحدهم موضحاً ومحذراً: (إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) (رواه البخاري).
وفي الوقت نفسه أعلن لهم عن جائزة من يستر على أخيه: (من رأى عورةً فسترها فكأنما استحيا موءودة في قبرها) (رواه أبو داود والنسائي).
وتلى عليهم قرآناً نزل من عند ربه يأمر بالستر ويفسر كشف عورات الناس إشاعة للفاحشة: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور: 19).
ولم يشدد على شيء كما شدد على ابتعادهم عن الغيبة والنميمة وسوء الظن، والتجسس على الناس، فقال: (لا تحسسوا ولا تجسسوا) (رواه البخاري) وقال: ( من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صُب في أذنه الآنك يوم القيامة) (رواه البخاري)، وخاف عليهم من أسوأ ما يمكن أن يقع فيه إنسان، وما أكثر ما يقع فيه الناس دون شعور بأنه من أسوأ الذنوب، فانزل ربه عليه قرآناً يصور مغبة النيل من الإعراض بأبشع الصور التي يتقزز منها الإنسان، وتلا عليهم قول ربهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (الحجرات: 12).(12/135)
أصبحت كلماته لهم نورهم يسعى بين أيديهم كلما أظلمت عليهم أنفسهم استضاءوا بها، واشتاقت أرواحهم للسمو بسلوكهم حتى يصبح عباده، وعرفوا أن ذلك لن يتحقق إلا إذا أصبحوا من {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (المؤمنون: 3)، {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (سورة الفرقان: 63)، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134).
وزلزلت بهم الأرض من هذه الآيات، كيف يكظمون الغيظ، ويسيطرون على الغضب، يستطيع المرء أن يقوم الليل أياما ولكنه قد لا يستطيع أن يكف غضبه لحظه، فاستنجدوا به، وسألوه الحلول، ماذا يفعلون إذا استبد بهم الغضب، فتبسم وقال: (إذا غضب أحدكم فليسكت) (رواه البخاري)، وأضاف (إذا غضب أحدكم فليغتسل) (كنز العمال)، وفي رواية (فليتوضأ) (رواه أبو داود).
وعندما تسابقوا إلى تلقي نصحه لهم، جاء أحدهم فقال له: أوصني يا رسول الله، فقال له: (لا تغضب)، وردد تلك الكلمة عدة مرات.
وبدوره سألهم فقال: (ما تعدون الصرعة فيكم؟ فقالوا: الذي لا يصرعه الرجال، فقال: ليس كذلك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب) (رواه مسلم).
فعرفوا أن هذه هي القوة الحقيقية، الإمساك بلجام النفس، والتحكم في الهوى، ولم يكن يترك مناسبة إلا ويذكرهم بذلك لمعرفته بصعوبته على النفس البشرية، فقال لهم ذات مرة:(من كظم غيظاً) - وهو يقدر على إنفاذه - ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً) (رواه ابن أبي الدنيا).
وحانت الفرصة ليعلمهم أن العبادات وحدها دون خلق المسلم لا تدخل صاحبها الجنة، فلما قال له أحدهم: (يا رسول الله إن فلانة تكثر من صلاتها، وصدقتها، وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها؟ قال له: هي في النار! قال الرجل: يا رسول الله وإن فلانة يذكر من قله صيامها، وقله صلاتها، وإنها تتصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي جيرانها؟ قال له: هي في الجنة! وسأله آخر يريد أن يستزيد ويستوثق: ما أكثر ما يدخل الجنة؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق، وسمعته زوجه عائشة يقول: إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) (رواه أبو داود).
====================
هذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم
وصفه رب العزه جل وعلا وقال في كتابه الكريم ( وإنك لعلى خلق عظيم) لم يكن مثله صلى الله عليه وسلم في الصبر والثبات واستقرار النفس والرحمه ورقة القلب والسمو والحلم والعفو عند المقدرة والصدق والجود والكرم كان يعطي عطاء من لايخاف الفقر وكان أشجع الناس وكان اشد الناس حياء وكان اعدل الناس واعفهم واصدقهم لهجه واعظمهم أمانة واعترف بذلك مجاوروه واعداؤه وكان يسمى قبل نبوته بالصادق الأمين كان اشد الناس تواضع وابعدهم عن التكبر كان يمنع عن القيام له وكان يزور المساكين ويجالس الفقراء ويجيب دعوة الملهوف ويجلس في اصحابه كواحد منهم كان اوفى الناس بالعهود واوصلهم بالرحم واعظمهم شفقه ورأفه ورحمة بالناس قد بعث للناس كافة أحسن الناس عشرة وأدب وابسط الناس خلق وابعد الناس عن سوء الخلق لم يكن فاحش ولا متفحش ولا لعان ولا طعان كان لايذم احد ولايعيره ولايطلب عورته ولايتكلم إلا فيما يرجو ثوابه إذا تكلم أطرق جلساءه وإذا سكت تكلموا كان زوجا عظيم وأب رحيم يفيض حبأ وحنان وكان من اثره ان القلوب فاضت بإجلاله والرجال تفانوا في حمايته وإكباره فيما لاتعرف الدنيا لرجل غيره
الذين عاشروه احبوه إلى حد الهيام ولم يبالوا ان تندق اعناقهم ولا يخدش له ظفر
فقد قال صلى الله عليه وسلم :
( لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه مايُحب لنفسه)
عانا النبي محمدصلى الله علية وسلم إلى الله لنوحده ونعبده وحده لاشريك له وامرنا بصدق الحديث وأداء الامانة وصلة الرحم وحسن الجوار فقال عليه أفضل الصلاة والسلام:
( مازال جبريل يوصيني بالجار , حتى ظننت انه سيورثه ) والكف عن المحارم والدماء و حث على مخاطبة الناس بالكلام الطيب
( الكلمة الطيبه صدقه ) ونهانا عن الفواحش وقول الزور وقذف المحصنات وامرنا بالصلاة والزكاة والصيام و حتى البهائم والحيوانات امرنا برحمتها وعدم إيذاءها والقسوة عليها
قال بأبي هو وامي صلى الله عليه وسلم
( مامن مسلم غرس غرساً فأكل منه إنسان أو دابه , إلا كان له صدقه )
--------------------
حار فكري
حارَ فكري.. لستُ أدري ما أقولْ
أيُّ طُهرٍ ضمَّه قلبُ الرسولْ
أيُّ نورٍ قد تجلَّى للعقولْ
أنتَ مشكاة الهدايةْ.. أنتَ نبراسُ الوصولْ
***
أيُّ مدحٍ كان كُفْواً للشمائلْ
يا رسولاً بشَّرَتْ فيه الرسائلْ!
أيُّ كونٍ نبويٍّ فيك ماثلْ!!
أنت نورٌ.. أنت طهرٌ.. أنت حَقٌّ هَدَّ باطلْ
***
قد تَبِعنا سُنةَ الهادي المطاعْ
فنجونا من عِثارٍ وضَياعْ
وشدَوْنا في سُوَيْعاتِ السَّماعْ
((طلعَ البدرُ علينا من ثنيّات الوداع))
===========(12/136)
هذا هو نبينا( موقفه صلى الله عليه وسلم مع حبر من اليهود)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال زيد بن سعنة : مامن علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت اليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه : يسبق حلمه جهله , ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.
قال زيد بن سعنة : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الحجرات - ومعه علي بن ابي طالب رضي الله عنه فأتاه رجل على راحلته فقال : يا رسول الله لي نفر في قرية بني فلان قد اسلموا , وكنت حدثتهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغدا. وقد اصابتهم سَنة وشدة وقحط من الغيث فأخشى يا رسول الله أن يخرجو من الاسلام طمعا كما دخلوا فيه طمعا، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيئ تغيثهم به فنظر إلى رجل بجانبه - أراه عليا- فقال : يارسول الله مابقي منه شيء قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه فقلت: يامحمد هل لك أن تبيعني تمرا معلوما في حائط بني فلان إلى أجل معلوم ، إلى أجل كذا وكذا . قال / أي الرسول صلى الله عليه وسلم / : لا تٌسم حائط بني فلان . قلت: نعم , فبايعني ، فأطلقت همياني/ وهو الكيس الذي تجعل فيه النفقة ويشد على الوسط/ فأعطيته ثمانين مثقالاَ من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، فأعطاه الرجل وقال / أي الرسول صلى الله عليه وسلم/ : ارجع إليهم وأغثهم.
قال زيد بن سعنة : فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في نفر من أصحابه في جنازة ، فلما صلى على الجنازة ودنا إلى الجدار ليجلس إليه أتيته ، فاخذته بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ ، وقلت له يامحمد ، ألا تقضيني حقي ؟ فوالله ، ما علمتم بني عبد المطلب إلا مطلاً ، ولقد كان لي بمخالطتكم علم . ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير ، ثم رماني ببصره فقال : ياعدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما اسمع؟ وتصنع به ما أرى ؟ فو الذي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي راسك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليّ في سكون وتؤده.فقال يا عمر ، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا أن تأمرني بحسن الأداء ، وتأمره بحسن الأخذ اذهب به ياعمر ، فأعطه حقه وزده عشرين صاعا من تمر مكان ما رعته.
قال زيد فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعا من تمر.
فقلت ماهذه الزيادة ياعمر ؟ قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعتك. قال زيد : قلت : وتعرفني ياعمر؟! قال : لا. فقلت : أنا زيد بن سعنة . قال الحبر؟ قلت الحبر.
قال فما دعاك إلى أن فعلت برسول الله ما فعلت ، وقلت له ما قلت ؟! قلت ياعمر لم يكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إلا اثنتين، لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله ، ولايزيده شدة الجهل إلا حلما .
وقد اخترتهما ، فأشهدك ياعمر أني قد رضيت بالله ربا ،وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا، وأشهدك : أن شطر مالي صدقةعلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قال عمر : أو على بعضهم فإنك لا تسعهم، قلت أو على بعضهم.
فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيد : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.( حياة الصحابة للكاندهلوي)
هكذا كان حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت أخلاقه .
أنظر كيف تعامل مع من مع حبر من اليهود. قال تعالى ( وإنك لعلى خلق عظيم)
نعم هذه أخلاق رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو حبيبنا محمد
=============
محمد صلى الله عليه وسلم رجل فوق التصور*
16/04/2005
أستطيع أن أقول بكل قوة إنه لا يوجد مسلم جديد واحد لا يحمل في نفسه العرفان بالجميل لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم- لما غمره به من حب وعون وهداية وإلهام فهو القدوة الطيبة التي أرسلها الله رحمة لنا وحبًا بنا حتى نقتفي أثره".
".. وأخيرا أخذت أدرس حياة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم- فأيقنت أن من أعظم الآثام أن نتنكر لذلك الرجل الرباني الذي أقام مملكة لله بين أقوام كانوا من قبل متحاربين لا يحكمهم قانون، يعبدون الوثن، ويقترفون كل الأفعال المشينة، فغير طرق تفكيرهم، لا بل بدل عاداتهم وأخلاقهم، وجمعهم تحت راية واحدة وقانون واحد ودين واحد وثقافة واحدة وحضارة واحدة وحكومة واحدة، وأصبحت تلك الأمة التي لم تنجب رجلاً عظيمًا واحدًا يستحق الذكر منذ عدة قرون، أصبحت تحت تأثيره وهديه تنجب ألوفًا من النفوس الكريمة التي انطلقت إلى أقصى أرجاء المعمورة تدعو إلى مبادئ الإسلام وأخلاقه ونظام الحياة الإسلامية وتعلم الناس أمور الدين الجديد.(12/137)
".. تحمل - صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عامًا كاملة من المتاعب في مكة دون انقطاع، وثماني سنوات في المدينة دون توقف، فتحمل ذلك كله، فلم يتزحزح شعرة عن موقفه، وكان صامدًا، رابط الجأش، صلبًا في أهدافه وموقفه. عرض عليه قومه أن ينصبوه ملكًا عليهم وأن يضعوا عند قدميه كل ثروات البلاد إذا كف عن الدعوة إلى دينه ونشر رسالته. فرفض هذه الإغراءات كلها فاختار بدلاً من ذلك أن يعاني من أجل دعوته. لماذا؟ لماذا لم يكترث أبدًا للثروات والجاه والملك والمجد والراحة والدعة والرخاء؟ لا بد أن يفكر المرء في ذلك بعمق شديد إذا أراد أن يصل إلى جواب عليه.
"هل بوسع المرء أن يتصور مثالاً للتضحية بالنفس وحب الغير والرأفة بالآخرين أسمى من هذا المثال حيث نجد رجلاً يقضي على سعادته الشخصية لصالح الآخرين، بينما يقوم هؤلاء القوم أنفسهم الذين يعمل على تحسين أحوالهم ويبذل أقصى جهده في سبيل ذلك يقومون برميه بالحجارة والإساءة إليه ونفيه وعدم إتاحة الفرصة له للحياة الهادئة حتى في منفاه، وأنه رغم كل ذلك يرفض أن يكف عن السعي لخيرهم؟ هل يمكن لأحد أن يتحمل كل هذا العناء والألم من أجل دعوة السعي لخيرهم؟ هل يمكن لأحد أن يتحمل كل هذا العناء والألم من أجل دعوة مزيفة؟ هل يستطيع أي انسان غير مخلص.. أن يبدي هذا الثبات والتصميم على مبدئه والتمسك به حتى آخر رمق دون أدنى وجل أو تعثر أمام الأخطار وصنوف التعذيب التي يمكن تصورها وقد قامت عليه البلاد بأكملها وحملت السلاح ضده؟.
"إن هذا الإيمان وهذا السعي الحثيث وهذا التصميم والعزم الذي قاد به محمد -صلى الله عليه وسلم- حركته حتى النصر النهائي، إنما هو برهان بليغ على صدقه المطلق في دعوته. إذ لو كانت في نفسه أدنى لمسة من شك أو اضطراب لما استطاع أبدًا أن يصمد أمام العاصفة التي استمرّ أوارها أكثر من عشرين عامًا كاملة. هل بعد هذا من برهان على صدق كامل في الهدف واستقامة في الخلق وسمو في النفس كل هذه العوامل تؤدي لا محالة إلى الاستنتاج الذي لا مفر منه وهو أن هذا الرجل هو رسول الله حقًا. هذا هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إذ كان آية في صفاته النادرة ونموذجًا كاملاً للفضيلة والخير، ورمزًا للصدق والإخلاص.. إن حياته وأفكاره وصدقه واستقامته، وتقواه وجوده، وعقيدته ومنجزاته، كل أولئك براهين فريدة على نبوته. فأي إنسان يدرس دون تحيّز حياته ورسالته سوف يشهد أنه حقًا رسول من عند الله، وأن القرآن الذي جاء به للناس هو كتاب الله حقًا. وكل مفكر منصف جاد يبحث عن الحقيقة لابدّ أن يصل إلى هذا الحكم.**
* الدكتور م. ج. دُرّاني D صلى الله عليه وسلم . M. H. Du صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ani سليل أسرة مسلمة منذ القدم، أصبح نصرانيًا في فترة مبكرة من حياته وتحت تأثير إحدى المدارس التبشيرية المسيحية، وقضى ردحًا من حياته في كنيسة إنكلترا، حيث عمل قسيسًا منذ عام 1939 وحتى عام 1963 حيث جاءه الإسلام "كما يأتي فصل الربيع"، فعاد إلى دين آبائه وأجداده.
**من كتاب رجال ونساء أسلموا.
==============
هذا النبي الذي سخروا منه
قالوا فيه ما قالوا، والناس أعداء ما جهلوا.. ألا فليعرفوه، ولينظروا في أخلاقه، وأوصافه، فشفاء الجهل العلم [1].
أعظم رجل في التاريخ: محمد عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ومن حسن تقدير الله لهذه الأمة أن جعله رسولها، فلها الفخر بهذا الشرف.. ومن المؤسف:
- أن من الناس من لا يستشعر عظمته.
- ومنهم من لا يكترث بحقوقه الواجبة على الأمة، من: محبة، واتباع، وأدب.
- وقد أهمل تعليم الصغار صفاته الخُلُقية والخَلْقية؛ فأطفالنا ينشئون وهم لا يعرفون عن نبيهم إلا: اسمه وشيئا من نسبه، وهجرته من مكة إلى المدينة. أما صفاته البدنية، وأخلاقه، ومقامه، وحقوقه، وجوانب سيرته فلا خبر لهم بها. وهذا تقصير منا..!!
نحن نحتاج إلى أن نتعرف على كل صغيرة وكبيرة في حياته، من لدن مولده إلى وفاته.. ينبغي أن ننظر إليه: مربيا، وقدوة، وقائدا، ورسولا، وسيدا ذا مقام رفيع، وقلب رحيم، ونفس زكية، وأدب جم، وصبر جميل. من حقه علينا أن ندرس كل جوانب حياته، ونعلم أطفالنا وأزواجنا وأهلينا: من هو رسول الله ؟.
وأداء لبعض هذا الحق، سنخصص هذا الحديث عن صفاته عليه السلام الخَلقية والخُلقية:
* * *
إنه محمد بن عبد الله ؛ ومحمد معناه: المحمود في كل صفاته.
أخرج البخاري في التاريخ الصغير عن أبي طالب:
وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
وقد كان اسمه أحمد كما جاءت تسميته في الكتب السابقة، قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام:
- {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}.
وتسميته محمدا وقعت في القرآن؛ سمي محمدا:
- لأن ربه حمده قبل أن يحمده الناس، وفي الآخرة يحمد ربه فيشفعه فيحمده الناس.
- ولأنه خص بسورة الحمد، وبلواء الحمد، وبالمقام المحمود.(12/138)
- وشرع له الحمد بعد الأكل، والشرب، والدعاء، وبعد القدوم من السفر.
وسميت أمته الحمادين، فجمعت له معاني الحمد وأنواعه...
* * *
وأما عن صفاته الخَلقية:
- فهو أبيض، ليس شديد البياض أمهقا، بل مشربا بحمرة، والعرب تسمي الأسمر سمرة خفيفة أبيضا مشرب بحمرة، قال أبو طالب:
وأبيضُ يستسقى الغمام بوجهه *** ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأرامل
- ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد.
- بعيد ما بين المنكبين.
- شديد سواد الشعر، ليس بالجعد القطط؛ وهو الشعر الذي يلتف على بعضه، ولا بالسبط؛ وهو الشعر المسترسل الناعم شديد النعومة، وإنما بين ذلك، يبلغ شحمة أذنيه، وقيل: "منكبيه".. يفرقها فرقتين من وسط الرأس، وفي شعر رأسه ولحيته شعيرات بيض لا تبلغ العشرون.
- مليح، وجهه مثل القمر في استدارته وجماله، ومثل الشمس في إشراقه، إذا سر يستنير ويتهلل وتنفرج أساريره.
- واسع الفم، والعرب تمدح بذلك وتذم بصغر الفم، جميل العينين قال جابر: "أشكل العينين" رواه مسلم قيل أشكل العينين: "أي طويل شق العينين"، وقيل: "حمرة في بياض العينين".
- يداه رحبتان كبيرتان واسعتان لينة الملمس كالحرير، يقول أنس: "ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم". متفق عليه
- قدماه غليظتان لينة الملمس، فكان يجمع في بدنه وأطرافه بين لين الملمس وقوة العظام.
- يداه باردتان، لهما رائحة المسك، يقول أبو جحيفة: "قام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بهما وجوههم، فأخذت بيده فوضعتهما على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك"رواه البخاري.
* وعن جابر بن سمرة: "مسح رسول الله خدي فوجدت ليده بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جؤنة عطار"مسلم كان عرقه أطيب من ريح المسك، قال أنس: " كأن عرقه اللؤلؤ " مسلم.
* ويقول وائل بن حجر: " لقد كنت أصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يمس جلدي جلده، فأتعرقه بعد في يدي وإنه لأطيب رائحة من المسك". الطبراني والبيقهي
- وجمعت أم سليم من عرق النبي صلى الله عليه وسلم فجعلته في طيبها.
- وعن أنس: " كان رسول الله صلى الله إذا مر في طريق من طرق المدينة وجد منه رائحة المسك فيقال: مر رسول الله ". أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح
- قال أنس: " ما شممت عنبرا قط، ولا مسكا، ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله" رواه مسلم
- ساقاه بيضاء، تبرقان لمعانا.
- إبطه أبيض، من تعاهده نفسه بالنظافة والتجمل.
- إذا مشى يسرع، كأنما ينحدر من أعلى، لا يستطيع أحد أن يلحق به.
* * *
أما عن صفاته الخُلقية:
- فقد كان أجود الناس، أجود بالخير من الريح المرسلة.
- ما عرض عليه أمران إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما.
- أشد حياء من العذراء في خدرها.
- ما عاب طعاما قط؛ إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
- إذا تكلم تكلم ثلاثا، بتمهل، لا يسرع ولا يسترسل، لو عد العاد حديثه لأحصاه.
- لا يحب النميمة ويقول لأصحابه: " لا يبلغني أحد عن أحد شيئا، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".
- أشجع الناس، وأحسنهم خلقا، قال أنس: "خدمت رسول الله عشر سنين، والله ما قال لي: أفا قط. ولا لشيء فعلته: لم فعلت كذا ؟، وهلا فعلت كذا؟". مسلم
- ما عاب شيئا قط.
- ما سئل شيئا فقال: "لا" . يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
- يحلم على الجاهل، ويصبر على الأذى.
- يتبسم في وجه محدثه، ويأخذ بيده، ولا ينزعها قبله.
- يقبل على من يحدثه، حتى يظن أنه أحب الناس إليه.
- يسلم على الأطفال ويداعبهم.
- يجيب دعوة: الحر، والعبد، والأمة، والمسكين، ويعود المرضى.
- ما التقم أحد أذنه، يريد كلامه، فينحّي رأسه قبله.
- يبدأ من لقيه بالسلام.
- خير الناس لأهله يصبر عليهم، ويغض الطرف عن أخطائهم، ويعينهم في أمور البيت، يخصف نعله، ويخيط ثوبه.
- يأتيه الصغير، فيأخذ بيده يريد أن يحدثه في أمر، فيذهب معه حيث شاء.
- يجالس الفقراء.
- يجلس حيث انتهى به المجلس.
- يكره أن يقوم له أحد، كما ينهى عن الغلو في مدحه.
- وقاره عجب، لا يضحك إلا تبسما، ولا يتكلم إلا عند الحاجة، بكلام يعد يحوي جوامع الكلم، حسن السمت.
- إذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه.
- لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا سخابا، بالأسواق، ولا لعانا، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح.
- لا يقابل أحدا بشيء يكرهه، وإنما يقول: (ما بال أقوام ).
- لا يغضب ولا ينتقم لنفسه، إلا إذا انتهكت حرمات الله تعالى، فينتقم لله.
- ما ضرب بيمينه قط إلا في سبيل الله.
- لا تأخذه النشوة والكبر عن النصر:
* دخل في فتح مكة إلى الحرم خاشعا مستكينا، ذقنه يكاد يمس ظهر راحلته من الذلة لله تعالى والشكر له.. لم يدخل متكبرا، متجبرا، مفتخرا، شامتا.
* وقف أمامه رجل وهو يطوف بالبيت، فأخذته رعدة، وهو يظنه كملك من ملوك الأرض، فقال له رسول الله: "هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة ".
- كان زاهدا في الدنيا:(12/139)
* يضطجع على الحصير، ويرضى باليسير، وسادته من أدم حشوها ليف.
* يمر الشهر وليس له طعام إلا التمر.. يتلوى من الجوع ما يجد ما يملأ بطنه، فما شبع ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى فارق الدنيا .
- كان رحيما بأمته، أعطاه الله دعوة مستجابة، فادخرها لأمته يوم القيامة شفاعة، قال:
* ( لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا ) [البخاري]؛ ولذا قال تعالى عنه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}
* * *
نحن اليوم في غاية الحاجة إلى تدارس سيرته، ولو مرة في الأسبوع :
نجلس في البيت مع الزوجة والأبناء.. نقرأ إحدى كتب السير المعتمدة مثل:
- تهذيب السيرة لابن هشام.
- البداية والنهاية لابن كثير.
- الشمائل المحمدية للترمذي.
- فقه السيرة للغزالي.
- السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري.
وغيرها.. لابد أن نحرص على مثل هذه الحلقات في بيوتنا، إن أردنا أن نتزكى ونربي أبناءنا وأزواجنا، فهذه من أحسن وسائل التربية، وهو السلاح الذي نواجه به الغثاء الذي يتصدر وسائل الإعلام:
- فبه نحفظ أبناءنا من الانسلاخ، والانسياق وراء زخارف: الكفر، والفسق، والشهوات.
- وبه نغرس في قلوبهم محبة رسول الله، والفخر به،
- والتعلق بسنته، وتقليده في العادات والعبادات.
فمن غير المعقول أن تكون سيرة هذا الرجل العظيم، الذي ما حفظ لنا القرآن والسنة والتاريخ سيرة إنسان، مثلما حفظ سيرته، بين أيدينا ثم نهمله وننصرف عنه!.
إن ذلك لغفلة معيبة..!!.
[مراجع: فتح الباري 6/544ـ 578، مسلم الفضائل، البداية والنهاية]
---------------------
[1] - المقصود بهم هنا: الصحف الدنمركية. التي نالت من مقام النبي صلى الله عليه وسلم شخصه بالرسومات، تنقصا، وسخرية
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
المصدر / طريق الإيمان
=================
صور من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته
الصورة الأولى :
جاء في صحيح البخاري في حديث الشفاعة العظمى عن أنس رضي الله عنه وفي الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم (فيأتوني، فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقول : ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعط، قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، فيحد لي حدا، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وسمعته أيضا يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - ثم أعود فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول : ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعط، قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال : ثم أشفع فيحد لي حدا، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وسمعته يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - ثم أعود الثالثة، فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت له ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول : ارفع محمد، وقل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال : فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، قال : ثم أشفع فيحد لي حدا، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وقد سمعته يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن) . أي وجب عليه الخلود . قال : ثم تلا هذه الآية : {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} . قال : وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم .
الصورة الثانية ..
جاء عند البخاري أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة العظمى أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم (فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول : أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال : يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال : والذي نفسي بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير، أو : كما بين مكة وبصرى).
الصورة الثالثة ..
( قرأ صلى الله عليه وسلم يوماً قول الله فى إبراهيم: ( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [ ابراهيم: 36 ]
وقرأ قول الله فى عيسى:( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[ المائدة: 118 ].(12/140)
فبكى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله إليه جبريل عليه السلام وقال: باجبريل سل محمد ما الذى يبكيك؟ - وهو أعلم-، فنزل جبريل وقال: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال أمتي.. أمتي يا جبريل، فصعد جبريل إلى الملك الجليل. وقال: يبكى على أمته والله أعلم، فقال لجبريل: انزل إلى محمد وقل له إنا سنرضيك فى أمتك ) رواه مسلم .
الصورة الرابعة
قول النبي صلى الله عليه وسلم (لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة ) رواه البخاري .
الصورة الخامسة
أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله : {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} . فقال الرجل : يا رسول الله، ألي هذا ؟ قال : لجميع أمتي كلهم ) رواه البخاري .
الصورة السادسة
قول النبي صلى الله عليه وسلم ( لولا أن أشق على أمتي، أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة ) رواه البخاري .
الصورة السابعة
روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قوله ( خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال : (عرضت علي الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فرجوت أن يكون أمتي، فقيل : هذا موسى وقومه، ثم قيل لي : انظر، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل لي : انظر هكذا وهكذا، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل : هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب) . فتفرق الناس ولم يبين لهم، فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أما نحن فولدنا في الشرك، ولكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون) . فقام عكاشة بن محصن فقال : أمنهم أنا يا رسول الله ؟ قال : (نعم) . فقام آخر فقال : أمنهم أنا ؟ فقال : (سبقك بها عكاشة) .
الصورة الثامنة ..
جاء في حديث الإسراء والمعراج الطويل ..قال النبي صلى الله عليه وسلم : ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام . قال ابن حزم وأنس بن مالك : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك، حتى مررت على موسى، فقال : ما فرض الله لك على أمتك ؟ قلت : فرض خمسين صلاة، قال : فارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعني فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت : وضع شطرها، فقال : راجع ربك، فإن أمتك لا تطيق، فراجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه، فقال ارجع إلى ربك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعته، فقال : هي خمس، وهي خمسون، لا يبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى، فقال : راجع ربك، فقلت : استحييت من ربي، ثم انطلق بي، حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها حبايل اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك .رواه البخاري .
الصورة التاسعة ..
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول "سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه" . قالت فقلت : يا رسول الله ! أراك تكثر من قول "سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه ؟ " فقال "خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي . فإذا رأيتها أكثرت من قول : سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه . فقد رأيتها . إذا جاء نصر الله والفتح . فتح مكة . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا . فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا" . رواه مسلم .
الصورة العاشرة ..
قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما تعدون الشهيد فيكم ؟ قالوا : يا رسول الله ! من قتل في سبيل الله فهو شهيد . قال : إن شهداء أمتي إذا لقليل، قالوا : فمن هم ؟ يا رسول الله ! قال : من قتل في سبيل الله فهو شهيد . ومن مات في سبيل الله فهو شهيد . ومن مات في الطاعون فهو شهيد . ومن مات في البطن فهو شهيد . قال ابن مقسم : أشهد على أبيك، في هذا الحديث ؛ أنه قال : والغريق شهيد . وفي رواية : قال عبيدالله بن مقسم : أشهد على أخيك أنه زاد في هذا الحديث : ومن غرق فهو شهيد . وفي رواية : زاد فيه : والغرق شهيد ) رواه مسلم .
الصورة الحادية عشرة ..
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم، عرف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر . فإذا مطرت، سر به، وذهب عنه ذلك . قالت عائشة : فسألته . فقال : "إني خشيت أن يكون عذابا سلطا على أمتي" . ويقول، إذا رأى المطر "رحمه" . ) رواه مسلم .
الصورة الثانية عشرة ..
عن عبدالله بن عمر ؛ قال : ( مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة . فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده . فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك . فقال حين خرج إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم . ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى ) رواه مسلم(12/141)
الصورة الثالثة عشرة ..
( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية . حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين . وصلينا معه . ودعا ربه طويلا . ثم انصرف إلينا . فقال صلى الله عليه وسلم "سألت ربي ثلاثا . فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة . سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها . وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها . وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" . وفي رواية : أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه . فمر بمسجد بني معاوية) . رواه مسلم .
الصورة الرابع عشرة ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار . قال فأتاه جبريل عليه السلام . فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف . فقال "أسأل الله معافاته ومغفرته . وإن أمتي لا تطيق ذلك" . ثم أتاه الثانية . فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين . فقال "أسأل الله معافاته ومغفرته . وإن أمتي لا تطيق ذلك" . ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف . فقال "أسأل الله معافاته ومغفرته . وإن أمتي لا تطيق ذلك" . ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف . فأيما حرف قرءوا عليه، فقد أصابوا .رواه مسلم . محمد السمان
خطيب جامع الجهيمي بالرياض
المصدر / هدى الإسلام
==============
حب نبيك كهؤلاء
من أجل أن يعلم المسلمون مكانة نبيهم صلى الله عليه وسلم ...........
ومن أجل أن يعلم المسلمون كيف يكون الحب الحقيقي لهذا الرسول العظيم ..........
كانت هذه المواقف......
أبو بكر رضي الله عنه واليك هذ المشاعر التي يصيغها قلب سيدنا أبو بكر في كلمات تقرأ، يقول سيدنا أبو بكر: كنا في الهجرة وأنا عطش عطش [ عطشان جدا، فجئت بمذقة لبن فناولتها للرسول صلى الله عليه وسلم، وقلت له:اشرب يا رسول الله، يقول أبو بكر: فشرب النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتويت!!
لا تكذّب عينيك!! فالكلمة صحيحة ومقصودة، فهكذا قالها أبو بكر الصديق .. هل ذقت جمال هذا الحب؟انه حب من نوع خاص..!!أين نحن من هذا الحب!؟واليك هذه ولا تتعجب، انه الحب.. حب النبي أكثر من النفس..
يوم فتح مكة أسلم أبو قحافة [ أبو سيدنا أبر بكر]، وكان اسلامه متأخرا جدا وكان قد عمي، فأخذه سيدنا أبو بكر وذهب به الى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن اسلامه ويبايع النبي صلى الله عليه وسلم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم' يا أبا بكر هلا تركت الشيخ في بيته، فذهبنا نحن اليه' فقال أبو بكر: لأنت أحق أن يؤتى اليك يا رسول الله.. وأسلم ابو قحافة.. فبكى سيدنا أبو بكر الصديق، فقالوا له: هذا يوم فرحة، فأبوك أسلم ونجا من النار فما الذي يبكيك؟تخيّل.. ماذا قال أبو بكر..؟قال: لأني كنت أحب أن الذي بايع النبي الآن ليس أبي ولكن أبو طالب، لأن ذلك كان سيسعد النبي أكثر
سبحان الله ، فرحته لفرح النبي أكبر من فرحته لأبيه أين نحن من هذا؟
عمر رضي الله عنه كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال: والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه'. فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي. فقال رسول الله: 'الآن يا عمر .
لن يشعر بهذه الكلمات من يقرأها فقط.. انها والله أحاسيس تحتاج لقلب يحب النبي صلى الله عليه وسلم ليتلقاها كما هي.. غضة طريّة
ثوبان رضي الله عنه غاب النبي صلى الله عليه وسلم طوال اليوم عن سيدنا ثوبان خادمه وحينما جاء قال له ثوبان: أوحشتني يا رسول الله وبكى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ' اهذا يبكيك ؟ ' قال ثوبان: لا يا رسول الله ولكن تذكرت مكانك في الجنة ومكاني فذكرت الوحشة فنزل قول الله تعالى {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [69] سورة النساء
سواد رضي الله عنه سواد بن عزيّة يوم غزوة أحد واقف في وسط الجيش فقال النبي صلى الله عليه وسلم للجيش:' استوو.. استقيموا'. فينظر النبي فيرى سوادا لم ينضبط فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' استو يا سواد' فقال سواد: نعم يا رسول الله ووقف ولكنه لم ينضبط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بسواكه ونغز سوادا في بطنه قال: ' استو يا سواد '، فقال سواد: أوجعتني يا رسول الله، وقد بعثك الله بالحق فأقدني!فكشف النبي عن بطنه الشريفة وقال:' اقتص يا سواد'. فانكب سواد على بطن النبي يقبلها.يقول: هذا ما أردت وقال: يا رسول الله أظن أن هذا اليوم يوم شهادة فأحببت أن يكون آخر العهد بك أن تمس جلدي جلدك.ما رأيك في هذا الحب؟(12/142)
وأخيرا لا تكن أقل من الجذع .... كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في مسجده قبل أن يقام المنبر بجوار جذع الشجرة حتى يراه الصحابة.. فيقف النبي صلى الله عليه وسلم يمسك الجذع، فلما بنوا له المنبر ترك الجذع وذهب إلى المنبر 'فسمعنا للجذع أنينا لفراق النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عن المنبر ويعود للجذع ويمسح عليه ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم:' ألا ترضى أن تدفن هاهنا وتكون معي في الجنة؟'. فسكن الجذع مفكرة الإسلام
كيف نحب النبي بطريقة صحيحة؟
إذا كانت الأمة الإسلامية قد انتفضت في كل أنحاء الأرض لترد على محاولات الإساءة الدنيئة لرسولنا الكريم بالرسوم الساخرة.. فإن هذا الغضب والرفض بكل أشكالهما المقبولة والمرفوضة فتح الباب للتساؤل المهم في هذه المرحلة: كيف نحب النبي بطريقة صحيحة؟
الداعية عمرو خالد يواصل في هذه الحلقة من "على خطى الحبيب" شرحه للطريقة الصحيحة التي يجب أن نحب بها النبي ونفتديه.
يقول عمرو خالد: هل تضحي بنفسك للذود عن رسول الله؟ هل تموت في سبيله؟ هل تقلد طلحة بن عبيد الله يوم غزوة أحد وهو يقول له: نحرى دون نحرك يا رسول الله.
أي تقطع رقبتي ولا يمسوك بشر، وفعلا تشل يده بفعل سهم اخترقها، بينما كان يصد هذا السهم الذي استهدف رسول الله.
حدث هذا لطلحة بينما نحن نجلس لنتفرج في الغرف المكيفة على ما يدبر للنيل من نبينا الكريم هكذا أحبه طلحة، وهكذا أنت تحبه.
أتريد أن تعرف الطريقة التي يجب أن تحب بها النبي؟.. النبي صلى الله عليه وسلم" يرشدك إلى هذه الطريقة من خلال حديثه الشريف: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وأهله وولده والناس أجمعين".
شرط الإيمان أن يكون النبي أحب إنسان لك في الدنيا.
تخيل عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" الذي عرف بخشونته وهو يمشي مع النبي الحنون ومعهما مجموعة من الصحابة، فإذا النبي يمد يده الكريمة ليمسك بيد عمر، فيشعر بعاطفة النبي وحنانه، ويتحرك جموده، ويصيح: والله إني أحبك يا رسول الله.
فيسأله النبي: أكثر من ولدك يا عمر؟ قال: نعم يا رسول الله. قال: أكثر من أهلك يا عمر؟ قال: نعم يا رسول الله، الأهل والمال والولد، فقال النبي: أكثر من نفسك. ليس مقبولا أن تحب النبي 99 %، لابد أن يكون حبك له 100%.
وعندما سمع عمر بن الخطاب رد النبي عليه، انتحى بنفسه جانبا – يروي ذلك عبد الله بن عمر – وراح يفكر بإمعان، ثم رجع وهو يصيح بأعلى صوته: والله لأنت أحب إلي من نفسي يا رسول الله، فنظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: الآن يا عمر الآن يا عمر، أي الآن اكتمل إيمانك يا عمر.
الاتباع دون حب.. لا يفيد
لابد أن يكون حبك لرسول الله هو أغلى حب في حياتك، فالآمة في ضياعها الحالي، والناس في ضياعهم، لا حل لها ولهم إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم إصلاح حال الأمة يتوقف على اتباع النبي والاتباع لن يأتي قسرا، إنما يأتي بالحب.. وأنت لن تسير على خطى الحبيب، إلا إذا كان الحب يملأ قلبك، فالحب يفجر في النفس أشياء كثيرة ليس بإمكان العقل أو الفكر أو الإرادة تفجيرها، الحب يخرج من النفس الاستعداد للتضحية والفداء والبذل، الحب يخرج معاني تحتاجها الأمة اليوم، ولو قلنا إننا سنتبع رسول الله دون حب. لن نتقدم خطوة.
خطوة البداية هي المفتاح لإنجاز مسيرة الأمة، هذا ما ركز عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحب هو الذي يحول المر إلى حلاوة، والتراب إلى ذهب! الحب يلين الحديد ويحيي الشيء الميت، الحب هو الذي جعل أم عمارة وعلي وعمارة يضحون بأنفسهم من أجل النبي صلى الله عليه وسلم.
قريش أرسلت عروة بن مسعود يوم الحديبية سفيرا لها إلى رسول الله للتفاوض معه، فلم يستطع عروة أن يخفي انبهاره بأصحاب النبي فعاد ليقول لقومه: " والله لقد دخلت على كسرى في ملكه ودخلت على قيصر ملك الروم في ملكه، ودخلت على النجاشي في ملكه، فما رأيت أحدا يحب أحدا، ولا أحدا يعظم أحدا. كحب أصحاب محمد محمدا".
ماذا أصاب الشباب؟
تخيل خبيب بن عدي حين أسره أبو سفيان وعلقته قريش في مكان بجوار مكة في منطقة التنعيم، وكانوا يستعدون لقتله، وقبل الإعدام يتوجه إليه أبو سفيان ويقول له: ماذا يا خبيب أنت ميت ميت، فأصدقني القول: أتحب أن يكون محمد مكانك الآن وأنت في أهلك منعما؟.. فيرد خبيب:
والله ما أحب أن يكون رسول الله في بيته تمسسه شوكة.. كان ردا صادقا من رجل سينفذ فيه حكم الإعدام، هذا هو الحب.(12/143)
تخيل امرأة مثل أم عمارة يوم غزوة أحد. يهجم عليها ابن قمأة ويضربها بالسيف على كتفها، لكي تفسح أمامه مكانا لكي يقتل النبي صلى الله عليه وسلم وهي لا تملك سلاحا وامرأة ضعيفة، يحاورها يمنة ويسرة وهي مصممة على اعتراضه. فيعصف به الغضب، ويضربها على كتفها بسيفه حتى يتفتت عظمها ويتساقط على الأرض نازفا دمها مثل النافورة، وتسقط على الأرض فيجيء ابنها لينقذها، فتقول له: دعني ألحق برسول الله لأنقذه، ويراها النبي ويقلب كفيه وهو يقول لها: من يطيق ما تطيقينه يا أم عمارة؟ فترد عليه بلسان المحب ودمها ينزف: أنا أطيقه وأطيقه وأتحمل، ولكن أسألك شيئا واحدا يا رسول الله: أسألك مرافقتك في الجنة، فينظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول لها: لست وحدك، أنت وأهلك رفقائي في الجنة، ويرفع يديه ويقول: اللهم ارض عن أهل هذا البيت واجعلهم رفقائي في الجنة.
أكبر مصيبة أصابت العالم الإسلامي في هذا الزمان، وأصيب بها شبابنا وبناتنا هي الفتور في حب رسول اله، لأن قلوبهم ضمت أحبابا آخرين غيره، قبلوا أن يعصوا الله ويبعثوا "ماساجات" وبلو توث ...و..و... وكل شاب يقول: أنا عايز أحب واحدة جميلة وموش مهم حب رسول الله، عايز أحب الفلوس أو الشهرة.
ترى هل تنوي أن يتحرك الحب في قلبك؟
نريد أن نشعل الحب في صدورنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعينك على هذا الحب أشياء كثيرة أولها: أن تدرس سيرته، فأهم أهداف دراسة السيرة محبة رسول الله.. ويعينك على محبته اقتناعك أنك في حاجة إليه في الآخرة يوم القيامة. أنت لن تخطو خطوة يوم القيامة إلا ستجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامك.
الوحيد الذي يشفع لنا
تخيل أننا يوم البعث وقد خرجنا من قبورنا، أول شيء سنحتاج إلى النبي فيه هو الشفاعة، يوم القيامة سنقف طويلا والحر شديد، والشمس تقترب من الرؤوس والناس مرهقة ومجهدة تتساءل: متى يتم حسابنا؟
وتبدأ البشرية تفكر: من يشفع لنا؟
فيهرولون إلى أدم، فيقول لهم: لست لها لست لها. اذهبوا إلى نوح، فيذهبون إلى نوح فيقول: لست لها لست لها، اذهبوا إلى إبراهيم، يذهبون إلى إبراهيم فيقول: لست لها أذهبوا إلى عيسى فيقول عيسى: لست لها لست لها اذهبوا إلى محمد.
أراد الله تعالى للبشرية أن تلف كل هذه اللفة ليزداد مقام محمد علوا وعظمة في قلوب الناس، فيذهبون إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن وصلوا إلى حالة من اليأس الشديد، يذهبون إليه – وهو رحمة للعالمين – كفار ومسلمون، عرب وأعاجم، من كل زمان ومكان، ويلتفون حول رسول الله، تخيل الموقف المهيب وهم يطلبون منه: اشفع لنا عند ربك يا محمد قبل أن يبدأ الحساب، فيقول لهم: أنا لها أنا لها.
ويراه الخلق وهو يخترق صفوف البشرية، وعيونهم متعلقة به، فيسجد الحبيب تحت عرش الرحمن ويحمد الله قائلا: أحمد الله بمحامد لم يحمده بها إنسان من قبل، وأثنى عليه ثناء لم يثن عليه به إنسان من قبل، فيقول الله تبارك وتعالى: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطي واشفع تشفع، فيقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: يا رب اشفع في أن يبدأ الحساب، فيبدأ الحساب كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقاء النبي يوم البعث
بدأ الحساب لكن العطش شديد والشمس قريبة من الرؤوس، وتفاجأ بشيء عظيم، تفاجأ بأن منبر الرسول الكريم منصوب عند الحوض، والحوض أبيض، ماؤه أبيض من الثلج وأحلى من العسل، من شرب منه شربه لا يعطش بعدها أبدا، الحوض فيه أكواب بعدد نجوم السماء والنبي يقف على منبره ليتعرف على أمته من أثر الوضوء، فينادي عليهم: أمتي أمتي، تعالى لتشربين. فتهرول إليه وأنت ترى ابتسامته، وجهه ينطق بالفرح بك، فترتمي في حضن النبي صلى الله عليه وسلم وتبكي من الفرحة.
هذه أول مرة ترى فيها رسول الله، وتتجه لتشرب، فيقول لك: لا حتى أسقيك من يدي، ويضع يده الكريمة في الماء، فتشرب أنت من يده شربه لا تظمأ بعدها أبدا، ثم يشفع لك عند الله ويقول: يا رب فلان سامحه يا رب، يا رب فلان كان يحبني فاغفر له واستره ولا تفضحه أمام أبيه وأمه وزوجه وأبنائه.
ترى هل بدأ الحب يتحرك في قلبك لرسول الله؟ كم مليون رجل في تاريخ البشرية اسمه محمد؟
لكن كم من بينهم من كلن يشعر بالحب لرسول الله؟ هل تتخيل فرحة النبي بلقاء الذين تسموا باسمه الكريم يوم القيامة؟ أنت لقيت النبي يوم القيامة عند الحوض، وستلتقيه عند الصراط، أينما ذهبت يوم القيامة سوف تلتقي رسول الله، وعند الصراط ستجد رسول الله واقفا يدعو لك وأنت تعبره رافعا يده الكريمة: يا رب سلم، يا رب سلم محمدا، يا رب سلم هدى، يا رب سلم أحمدا، أفلا يمتلئ قلبك بالحب له؟
أول من يدخل الجنة
وإذا عبرت الصراط تتجه إلى الناحية الأخرى حيث باب الجنة، وستجد الرسول في انتظارك عند باب الجنة، باب الجنة لا يزال مغلقا، نذهب للأنبياء مرة أخرى واحدا تلو الأخر، فيقولون لست لها، لست لها، حتى نصل إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول أنا لها أنا لها.(12/144)
يفتح لك باب الجنة ويأخذك من يدك لدخولها، يطرق باب الجنة فيكون أول البشر الذين يطرقون باب الجنة، فينادي خازن الجنة: من؟ فيرد عليه: محمد بن عبد الله فإذا بالملك من الداخل يقول: أمرني الله ألا أفتح إلا لك يا رسول الله.
ويفتح باب الجنة، وتدخل البشرية خلف محمد صلى الله عليه وسلم.
لهذا أطلقت اسم "على خطى الحبيب" على السيرة النبوية المعطرة. فأنت إذا مشيت على خطاه، ستدخل الجنة.. أنت بحاجة إلى رسول الله، لأنك ستذهب إليه ليشفع لأحبائك الذين دخلوا النار، فأنت ذنوبك كثيرة وستستحي أن تطلب من الله سبحانه أن يغفر لأهلك، وستذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم لكي يشفع لهم عند الله.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فأدخل الناس الجنة ثم أذهب تحت عرش الرحمن فأسجد وأدعو الله سبحانه أقول: أمتى أمتى، فيقول الله تبارك وتعالى اذهب يا محمد فاخرج من أمتك من النار ويحد لي حدا، فأذهب فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، ويذهب إليه قوم آخرون من المسلمين طلبا للشفاعة فيتجه صلى الله عليه وسلم ليسجد تحت عرش الرحمن فيقول: الله سبحانه: يا محمد اذهب فاخرج من أمتك من النار، ويحد لي حدا، فأذهب وأخرجهم.
كل الأنبياء يوم القيامة يقولون: نفسي نفسي، والوحيد الذي يقول أمتي أمتي هو محمد صلى الله عليه وسلم
فيذهب ليخرجهم من النار.
يعينك على حب النبي أنك تدرس سيرته، وترى حب الآخرين له، فيتعلق قلبك به.
حوار أجراه أ / عصام غازي مع الأستاذ عمرو خالد لمجلة كل الناس بتاريخ 1-7 مارس 2006
=============
كان خُلقه القرآن
سمية رمضان
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30) (البقرة).
وكان في علم الله خلق محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء والرسل، يصلحون ولا يفسدون، يحقنون الدماء ولا يسفكونها، من أطاعهم فقد فاز، ومن عصاهم فقد خسر خسراناً مبيناً. أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (الأنعام:90).
وقرن الله طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته سبحانه: من يطع الرسول فقد أطاع الله (النساء:80).
فقد توج سبحانه بعثة الأنبياء بخاتمهم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، وعلمه من العلم ما لم يكن يعلم وتعلمنا منه صلى الله عليه وسلم ما لم نكن نعلم.
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما 113 (النساء).
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون 151 (البقرة).
وقد أدى صلى الله عليه وسلم الأمانة وبلغ الرسالة وفاز برضا الرحمن، وأثنى عليه سبحانه قائلاً: وإنك لعلى" خلق عظيم (4) (القلم).
وأكرمه جل جلاله: إنا أعطيناك الكوثر (1) (الكوثر).
كان النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً يمشي على الأرض، مطبقاً لكتاب الله كنموذج بشري مثالي، وأمرنا الله باتباع خطواته إن أردنا الفلاح: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة (الأحزاب:21).
كان صلى الله عليه وسلم يستمع إلى الآيات فتملأ عليه كيانه وتصبح هوى فؤاده، ومبعث سروره، وقرة عينه، فيبادر إلى تنفيذها.. فعندما أوحى الله إليه: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا (الأعراف:158)، وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا (سبأ:28).
كانت حركته صلى الله عليه وسلم طاعة لأمر الله، فقد أعلنها جهرة، حيث ثبت في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"، وكان فعله في الواقع مطابقاً لقوله.
فكانت دعوته للجميع رجالاً ونساء وأطفالاً ولأهل مكة وللفرس والروم وكل أنحاء الدنيا.
وكان صلى الله عليه وسلم يرسلُ الرسائل للملوك ولم يخش سطوتهم ولا حشودهم، فلم تكن تأخذه في طاعة الله لومة لائم.
فقد أرسل إلى قيصر ملك الروم، وكسرى ملك الفرس، والنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس عظيم مصر، وملكي عُمان، وملكي اليمامة، وملك البحرين، وملك تخوم الشام.
أوحى الله تعالى إليه: قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على" كل شيء شهيد 47 (سبأ).
فكان صلى الله عليه وسلم يجسد قول الله عملياً، فلم يقبل الصدقة، وكان له خُمس الغنائم ولكنه مردود على المسلمين، وكان يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
وكان يؤلف القلوب ببذل المال بسخاء لم يعهده العرب، وهم من عُرِف بالكرم.
مات صلى الله عليه وسلم ولم يترك شيئاً من حُطام الدنيا، وكان يمكنه أن يملك الدنيا وما فيها.
كان جهاده لله ودعوته لله وصبره لله وماله لله.
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين 162 (الأنعام).
رأفة ورحمة للعالمين
وأوحى إليه قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين 107 (الأنبياء).(12/145)
كان صلى الله عليه وسلم يتمنى هداية قومه جميعاً، حتى إن رب العزة أشفق عليه فقال: فلعلك باخع نفسك على" آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا 6 (الكهف).
وعندما ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وقذفه الصبيان بالحجارة وأدموا قدمي سيد المرسلين نزل ملك الجبال بإذن ملك السموات والأرض وقال له: "إن أمرتني أطبقت عليهم الأخشبين" فتدفقت الرحمة التي أسبغها الله عليه، على لسانه الطاهر قائلاً: "لعل الله يأتي منهم بمن يوحد الله".
وفي غزوة أحد عندما أدمى قومه رأسه فبادر يدعو لهم، خوفاً عليهم من غضب الله، فقال: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"..
وأخرجه أهله من مكة وهي أحب أرض الله إلى قلبه، وحاربوه صلى الله عليه وسلم في ثلاث غزوات متتالية "بدر وأحد والخندق"، وقتلوا من أصحابه من قتلوا، غير من قتل وعُذِّب بمكة قبل الهجرة، فطبق صلى الله عليه وسلم القرآن خير تطبيق وظل قول الله معه أينما ذهب، وأينما سار، تحرك به وعمل بمقتضاه، فعفا عنهم جميعاً بعد فتح مكة، وقد أصبح هو السيد والآمر، قائلاً: "اذهبوا فأنتم الطلقاء": وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين 107 (الأنبياء:107).
خفض الجناح
فلم يكن هدفه القصاص والانتقام، ولكن العفو ووالرحمة، فأثنى عليه سبحانه يقوله: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم 128 (النحل)، هذا للعالمين، أما المؤمنون فقد شبهه سبحانه بالطائر الذي يخفض جناحه لهم حناناً ورحمة ورعاية لأغلى ما عنده.
واخفض جناحك للمؤمنين 88 (الحجر).
القانت العابد المستغفر: لقد كان صلى الله عليه وسلم حقاً الشق الحركي العملي التطبيقي النموذجي الناجح لكتاب الله العظيم، وقد أمره الله سبحانه ملك السموات والأرض في كتابه العظيم الخالد بقوله: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا 81 (الإسراء).
وشرفه سبحانه بهدم أصنام الكعبة.
وأمره سبحانه: ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى" أن يبعثك ربك مقاما محمودا 79 (الإسراء)، فكان تطبيقه العملي لأمر الرحمن قيام بالليل، فكان يقومه حتى تتورم قدماه فتشفق عليه السيدة عائشة، سائلة إياه: "ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر"؟ فيقول لها صلى الله عليه وسلم: "أفلا أكون عبداً شكوراً"؟، أي طائعاً منفذاً لقوله سبحانه: بل الله فاعبد وكن من الشاكرين 66 (الزمر). ولقوله تعالى: قم الليل إلا قليلا (2) (المزمل).
وعندما أُوحِي إليه قول الله: واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما 106 (النساء).
كان يُعد له صلى الله عليه وسلم في الجلسة الواحدة مائة استغفار، وكان صلى الله عليه وسلم يدعو بأدعية الاستغفار، ومن كثرتها أُطلق على أحدها "سيد الاستغفار"، ونصه:
"اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت.. أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ.. وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
ويحثنا صلى الله عليه وسلم على الاستغفار ويرغبنا فيه ويبين أنه المخرج والرزق، وسبب الرضا من صاحب الأمر سبحانه.
قال سبحانه: والله يعصمك من الناس (المائدة:67).
وأغدق عليه بنعمائه وأحاطه برعايته سبحانه وتعالى: أليس الله بكاف عبده (الزمر:36). ووعده قائلاً: إنا كفيناك المستهزئين 95 (الحجر).
فتحرر بذلك صلى الله عليه وسلم من الخوف على نفسه حتى وهو في الغار، والمشركون من حوله كان يهون على صاحبه الصديق أبي بكر ويبعث في نفسه الطمأنينة، حيث قال له بيقين المطمئن الواثق بالله: لا تحزن إن الله معنا (التوبة:40).
وذات مرة كان صلى الله عليه وسلم نائماً فرفع أحدهم عليه السيف قائلاً: "من يعصمك مني يا محمد"؟ فكان رده سريعاً قائلاً بثقة ويقين: "الله" فوقع السيف من يد الأعرابي.
وتحرر صلى الله عليه وسلم من الخوف على أولاده فهاجر وتركهم في معية الله، وقد ترك علي بن أبي طالب في فراشه وهو مطمئن، وطلق ابنا عمه أبي لهب ابنتيه الاثنتين فلم يهتز ولم يضعف.
وتحرر صلى الله عليه وسلم من الخوف من عدم وجود مسكن يأويه إليه حيث هاجر وترك مسكنه فأبدله الله بمسكن بجوار ثاني الحرمين.
وكان صلى الله عليه وسلم ينفذ الآيات ويستوعبها ويعلمها الكبار والصغار، فقد روى عنه ابن عباس قوله معلماً إياه وهو صبي، كيف يحفظه الله بحفظه هو لربه:
"احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"...
حب الله والدعوة إليه
وقال رب العزة: والذين آمنوا أشد حبا لله (البقرة:165).
فكان صلى الله عليه وسلم يحبه حباً ملك عليه وجدانه، وكان حريصاً على أن يدعو كافة الناس إليه ويعرفهم به ليحبه الجميع، وقد تجلى مدى حب رسول الله لربه في قوله تعالى: ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا (آل عمران:176).(12/146)
وكانت الدعوة إلى دين الله لها الاهتمام الأول والأكبر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فعندما دخل المدينة كان بناؤه لبيت الله قبل بنائه لبيته، وقبل الهجرة عندما عرضوا عليه المال والجاه على أن يترك دعوته كانت عباراته وكلماته المضيئة الثابتة بقوله: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
أحب الله بكل كيانه فأحبه الله ووضع له المحبة في الأرض حتى إنه يُروى أن الحجر والشجر كان يُلقي على رسول الله السلام، وكان السحاب يتسابق ليظله، وكل من آمن به كان يفديه بروحه، وكان صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من أنفسهم وانطبق عليهم قول المنعم صاحب الفضل والمنن:
النبي أولى" بالمؤمنين من أنفسهم (الأحزاب:6).
فهذه صحابية مات عنها الولد والأب والأخ في غزوة أحد، وكلما علمت بموت أحد منهم تسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما علمت أنه بخير كان لسانها يلهج بحمد الله وشكره.
لقاء الله
ويزداد حب الرسول لله تعالى حتى يصبح لقاء الله هو أسعد أوقاته فيروى عنه القول: ".. وجُعلت قرة عيني في الصلاة" وكان لقاء الله هو مصدر راحته وسكينة فؤاده فيروى عنه قوله لبلال: "أرحنا بها يا بلال".
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو الله بأدعية يُظهر محتواها مدى حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لله تعالى، فكانت أقواله وأفعاله تشهد له بذلك، ويروى من هذه الأقوال قوله: "اللهم أسلمت نفسي إليك".
هذه مقتطفات بسيطة تظهر تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وهكذا عرفناه وكان قدوة لأتباعه وهم مطمئنون فقد قال عنه ربه:
وإنك لتهدي إلى" صراط مستقيم 52 (الشورى).
وتعلمنا منه صلى الله عليه وسلم: الكثير والكثير.
فممن تعلمنا الوضوء؟
ومن علمنا الصلاة؟
ومن علمنا القرآن؟
ومن علمنا الدعاء؟
ومن علمنا السلام؟
ومن علمنا أن نتحاب في الله؟
ومن عرفنا بالله الحق؟
ومن علمنا الجهاد الحق؟
ومن علمنا الصبر؟
ومن دلنا على السعادة؟
ومن دلنا على أبواب الجنة؟
ومن سيشفع لنا؟
ومن سنلقاه على الحوض؟
من غيره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم؟
===================
هل الحرية مَعْبَر للعدوان على رسول الله?
نشرت جريدة عكاظ في 30/12/1426هـ:
هل الحرية مَعْبَر للعدوان على رسول الله?
د. عائض الردادي
(الحرية) كلمة أصبحت تساوي كلمة (العدوان) في زماننا, فكم من دم أريق عدواناً تحت شعار الحرية, وكم من وطن احتل تحت شعار الحرية, وكم من مقدّسات دنّست تحت شعار الحرية, فالحرية أصبحت معبر العدوان على الأديان والأوطان والأعراض.
الحرية ضد العبودية, ولكنها صارت هي العبودية فهي الرق الجديد لأحرار الشعوب والأوطان, تداس الكرامات بحوافرها, ويعتدى على المقدسات باسمها, ووصل بها الحال أن تهان قداسة الأنبياء باسمها, وأن تهان الكتب المقدسة باسمها, ووصل الأمر بالمعتدين باسم الحرية أن يبثوا كرههم وحقدهم على الآخرين عبر هذا الجسر من الحرية, وإن رَدّ عليهم مدافع وصموه بعدو الحرية, وإذا ما استمر العالم في هذا الاستهتار بمعتقدات الآخرين فسوف يشتعل ناراً بعد حين, ما لم يمسك العقلاء بأيدي الحاقدين الكارهين, وبأقلامهم الصدئة, وبوسائل إعلامهم الهادرة بالشر, ولن تكبِّل القوى المهيمنة الشعوب بالأغلال عن الدفاع عن عقائدها.
عندما شاهدتُ الصور المسيئة لسيد البشر صلى الله عليه وسلم وهي تزيد عن (25) صورة تألمت كيف يصل الاستهتار بالقيم إلى هذا الحد على أيدي هؤلاء السفهاء الذين لا يوجد لديهم سلاح سوى الحرية غير المسؤولة, وقرأت ترجمة مقال رئيس تحرير جريدة (اليولاندس دوستن) الدانمركية, فعرفت أننا في زمن انحدار القيم والأخلاق, والحقد الدفين على الإسلام وأهله فقد وصفهم (بالظلاميين القادمين بأفكار العصور الوسطى, الذين يعانون من جنون العظمة) ونسي -تاريخياً- أنه عندما كان هؤلاء يضيئون العالم كانت بلاده أدغالاً وأحراشاً لا تُعرف على خارطة العالم.
الحرية أن تدافع عن المظلوم أيّا كان, وفي أي بلاد كان, وأن تقول للمحتل أنت معتدٍ, وللسارق للحرية أنت سارق, والحرية أن تدافع عن المعتدى عليه فرداً أم شعباً, لا أن تتقوَّى بهيمنة المعتدي وتساعده في إهالة التراب على الشعوب وهي أحياء, وعلى الأديان وهي مقدسة, وعلى الأنبياء وهم موضع احترام من كل الشعوب.(12/147)
حمى الاعتداء على النبي صلى الله عليه وسلم بدأت على يد كاتب شيوعي ألّف كتاباً عن النبي صلى الله عليه وسلم, وهل يتوقع من ملحد أن يقول عن نبيّ غير الهراء المبني على حقد في صدره? وأرادت الصحيفة أن توسع الإساءة فدعت (40) رساماً كاريكاتورياً لرسم صور لسيد البشر غير أن (30) منهم عقلاء, ربأوا بأنفسهم عن عبث يغذيه حقد, وشارك (10) في هذا العمل القبيح الذي لا يليق ببلاد تدعي أنها تمثل حرية الإنسان في العالم, فالحضارة أفعال لا أقوال. أما الحرية العادلة فهي التي تقابل تلك الإساءة سواءً أكانت لمحمد صلى الله عليه وسلم أم لغيره من الأنبياء, بالمقاطعة لزبدة وجبن وحليب تلك البلاد, فلتذب الزبدة, وليتعفن الحليب, وليفسد الجبن, فمثل هؤلاء لا يجدي معهم سوى المقاطعة الاقتصادية, لأن عقولهم تتوقف عند الماديات, ولا ترتقي إلى المعقولات, فنحن المسلمين أنعم الله علينا بالعقل والتدبّر في الكون, واحترام الأديان حتى لو كانت وثنية, ونحن نؤمن بعالم متعدد الثقافات والأعراق والأديان, وليس عالمنا عالم زبدة وجبن وحليب يغذي الكره والحقد في أجسامنا.
لا أقلَّ من أن نقاطع, أفراداً ومنظمات وشعوباً, تلك المنتجات وغيرها, فنحن أحرار من أجل الخير والمحبة, لا من أجل الكره والحقد, لنذبّ عن رسول الله سيد البشر برغم أنوف من حادّ الله ورسوله, وليعرف صاحب المصنع والتاجر أن مصدر خسارته هو من كتب بحبر أسود حقداً أسود, فليرسل له الحليب الأبيض إن كان يعبّر عن حريته, فحرية الآخرين ليست رخيصة, لنردّد مع حسَّان رضي الله عنه:
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمدٍ منكم وقاء
للتواصل ص.ب 45209 الرياض 11512
فاكس: 2311053/01
ibn-jammal@hotmail.com
=======================
هل حب النبي أمر فطري أم أنه تربية روحية تحتاج إلى جهد من المسلم ؟.
إسلام أون لاين:
هل حب النبي أمر فطري؛ أم أنه تربية روحية تحتاج إلى جهد من المسلم ؟.
الاسم عبد الوهاب - الجزائر
الموضوع العقيدة
العنوان الدليل النافع لنصرة الحبيب الشافع
السؤال الأفاضل في شبكة إسلام أون لاين : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد :
عندي بعض الأسئلة التي أود أن تجيبوني عليها، وهي:
هل حب النبي أمر فطري؛ أم أنه تربية روحية تحتاج إلى جهد من المسلم ؟.
ما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه المسلم لنصرة نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم في ظل الهجمة الشرسة التي يشنها الإعلام الغربي ضد؟.
ما هي الوسائل العملية والخطوات التي يمكن تنفيذها، للذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
و جزاكم الله خيراً.
الرد
يقول فضيلة الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد، أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر:
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه ، ثم أما بعد :
فإن من سنن الله الثابتة، ومن فطرته في خلقه، أن الإنسان يحب الأشياء النبيلة العالية، ويكره الأشياء البغيضة السافلة.
والنبي محمد صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى، البشري، في كماله، وصفاته، وهو ذروة عليا في الأخلاق والشمائل، وقد مدحه الله تعالى فقال:"وإنك لعلى خلق عظيم"، وهذا النوع من البشر تحبه النفوس بفطرتها، وتميل إليه بطبيعتها، ولذلك فحبه من هذا الجانب هو فطرة إنسانية تجذب إليه نفوس كل عنصر صالح في البشر.
كما أن حب النبي صلى الله عليه وسلم، خلق تربوي، ينشأ عليه الناس، إذا طالعوا صفاته، وسمعوا شمائله، أو عياشوها ورأوها رأي العين، فهو من حيث الفطرة السليمة يُحَبُ ويُكَرمُ، وهو من حيث التربية والتعود يُحَبُ ويُكَرمُ.
وهناك جانب آخر أهم من هذا وذاك وهو الأمر الإلهي بحب النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه رحمة للعالمين، ولأنه بُعِثَ هادياً ومعلماً للناس، وصبر على الأذى والمتاعب، ليبلغ رسالة الله إلى الناس، فهو من هذا الجانب الديني الإلهي رمز للتضحية والفداء والإخلاص للناس جميعاً.
ويجب على المسلم أن يستحضر في نفسه عظمة الهداية الإسلامية للناس، وكيف وصلت إلينا عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم، عبر صبره الجميل، وبلاغه المبين، وجهاده الموصول، في سبيل الله عز وجل وهذا يدفع المسلم إلى حب النبي صلى الله عليه وسلم حباً جارفاً، وتفديته بالنفس والمال.
فحب النبي صلى الله عليه وسلم ناشئ في نفس المسلم عن النعمة الكبرى التي أوصلها الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، وقد قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم *** فطالما استعبد الإنسانَ إحسان
ولذلك نجد حب المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حباً جليلاً يقوم على الشعور بعظمة النعمة التي أسداها لنا الله سبحانه وتعالى على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، ومحبة الرسول تكون بالقلب وباللسان وبالأعمال.(12/148)
أما القلب فهو عملية فطرية، قائمة على الشعور بالنعمة العظيمة التي أهداها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما باللسان: فترجمتها كثرة الصلاة عليه، كما قال تعالى "يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"، أما بالإعمال: فيكون من خلال متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله والعمل بسنته، ومتابعته في الفضائل العليا التي كان يتمتع بها صلى الله عليه وسلم من الصدق والأمانة والصبر والمواساة والرحمة والمودة، وغير ذلك من ضروب النبل الأخلاقي النبوي الذي يبلغ ذروة الكمال.
الرسول صلى الله عليه وسلم، لم ببعث للناس، ولم يصبر على الأذى والمشقات، إلا ليعلمنا الحق الإلهي، من الصدق، والأمانة، وإتقان العمل، وتوحيد الله، وتعظيم القرآن، ومحبة المسلمين جميعًا، وتبليغ الدعوة للناس جميعًا، وغير ذلك من الفضائل العليا التي كانت من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.
أما عن الخطوات العملية التي يمكننا القيام بها لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا سؤال وجيه، ونستعين بالله ونجيب بأن :
التأسي به:
أول خطوة عملية هي إلزام النفس بالأسوة الحسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يعمل الإنسان كما كان يعمل، ولو اختلفت الدرجة؛ أي يصلى كما كان صلى الله عليه وسلم يصلي، ويصوم كما كان يصوم.
التعريف به:
أيضًا يشرح للناس، على قدر استطاعته العظمة الإلهية التي تمثلت في بعثته صلى الله عليه وسلم.
تربية النشء على حبه:
وأيضًا تربية الأبناء والأسرة جميعاً على هذه المعاني، وصدق الله حين يقول:"لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر".
دراسة سيرته:
ومن الوسائل العملية أيضًا قراءة السيرة النبوية قراءة جيدة، ويعلمها لأبنائه وأحفاده وزوجته، وغيرها، فقد كان الصحابة يحرصون على هذا غاية الحرص. يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لأبنائه وأحفاده بعد أن علمهم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بني احفظوها فهي شرفكم وشرف آبائكم).
الاعتزاز بسيرته:
كما ينبغي أن نعتز بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نعلم أنه كان على خلق عظيم؛ فلا نخجل من أي شيء يروى عنه بسند صحيح، بل نفاخر الدنيا بسيرته صلى الله عليه وسلم؛ فهو الأسوة الحسنة لنا، والرحمة المهداة للناس جميعاً، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه.
اتباع هديه :
ومن الوسائل العملية أيضا المتابعة والإتباع ، لقوله تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، فعلى الإنسان أن يتحرى العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
التخلق بخلقه:
ومن الوسائل العملية أيضا أن يتخلق المسلم بخلق النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة في أمور الدعوة والبلاغ فإن الأوروبيين من خلال إساءتهم للإسلام هو تقصيرنا في تبليغ الدين الإسلامي للناس وهم لذلك يجهلون ومن جهل شيء عاده.
الصفح عن الخصوم:
ومن الوسائل العملية أيضاً، الصفح عن الخصوم، إذا كان ذلك مما يساهم في فهمهم للإسلام. وقد كان الناس والأعراب يغلظون القول للنبي صلى الله عليه وسلم، في حياته، فكان يعاملهم بالرحمة والمودة والعفو ولكن بلا ضعف ولا تخاذل، كان اللين من صفاته العظيمة التي تحبب الناس فيه، وقد ذكاه الله في كتابه الكريم فقال جل شأنه : "فبما رحمة من الله لنت لهم .......".
التعريف برسالته:
ومن الوسائل العملية أيضاً، إرسال الرسائل عبر البريد الإليكتروني، والمقالات الصحفية، والقصص النبوية الصحيحة، إلى الناس حتى يفهموا عظمة الأخلاق النبوية المحمدية، وهذا خير دعاية للإسلام، لأن الأخلاق الحسنة تؤثر في الناس، ولو لم يردوا، وتكون قدوة عملية تقطع الجدل والخصام، وصدق الله تعالى حين يقول "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا".
هل هذا المجمع من علماء الأمة لا يملكون حق الاجتهاد والنظر في الأمور المتعلقة بالمصالح والمفاسد
الكاتب: حازم الغامدي(12/149)
أود في الأسطر التالية أن أعقب برأيي المتواضع إزاء ما كتبه أستاذي الدكتور الفاضل محمد علي الهرفي -الذي أعتزّ بقلمه- في الرسالةِ الغراء الأسبوع المنصرم، حيث أكد ما ذكره قبلاً من أن مؤتمر النصرة الذي انعقد بالمنامة كان مؤتمرَ مناصرةٍ لحكومة الدنمارك ولا شيء غير ذلك، وأن الشيخين (القرضاوي والعودة) وإن كانا أعلم منه بالفقه فإن قضية رفع المقاطعة قضية ليس لها علاقة بالفقه من قريب أو بعيد بل هي مسألة اجتهادية متعلقة بالمصالح والمفاسد، لكل إنسان حق في إبداء رأيه فيها، موضحاً ما لفتوى الشيخين من شقٍ لعصا الأمة التي لم تجتمع على شيءٍ كما اجتمعت على قضية المقاطعة، فإذا بالمقاطعة تُرفع عن شركة (آرلا) من قِبَل الأمانة العامة للمؤتمر لمجرد اعتذارها الذي ليس له أي قيمة أو منفعة للمسلمين أو لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وهكذا ستعتذر بقية الشركات لتنال حظها من الغنيمة وستظل المشكلة كما هي، مضيفاً أن المقاطعة وإن أضرت بمسلمي الدنمارك فليعلنوا هم رفعها دون سواهم، إلى آخر ما قال حفظه الله.
وبداية أظن أن الدكتور الهرفي وقد حضر المؤتمر لم يخفَ عليه أنَّ رأي رفع المقاطعة عن شركة (آرلا) لاعتذارها طرح في الجلسة الرابعة من جلسات المؤتمر وأدلى فيه العلماء المشاركون بدلوهم وأبدوا آراءهم وأصواتهم فكان رأي أكثرهم أن ترفع المقاطعة عن الشركة، لما في ذلك من إظهار لعدل الإسلام وسماحته، وتغييرٍ للصورة النمطية عن المسلمين في عقول الغربيين، وتمييزٍ بين المحسن والمسيء من الدنماركيين، فعدم رفع المقاطعة عن هذه الشركة بعد كل ما قدمته إنما هو زرع لليأس في قلوب القوم، حيث إنّ الحكومة الدنماركية قد تقول: إن المسلمين ما داموا غير قابلين لموقف شركة (آرلا) التي ركعت لهم بشكل مخزٍ -على حد تعبيرهم- فلا فائدة من الاعتذار لهم أصلاً. كما أن في ذلك مصلحة راجحة للمسلمين في الدنمارك والذين ينبغي أن يراعى وضعهم في مثل هذه الظروف، إلى آخر ما عبر عنه فضيلة الشيخ العلامة عبدالله بن بيه متع الله به وغيره من العلماء المشاركين، ومع ذلك لم يتعجل المؤتمر في اتخاذ قراره بل جاء في البيان الختامي للمؤتمر التوصية التالية: ((يثمِّن المؤتمر موقف شركة آرلا التي أعلنت استنكار وإدانة الرسوم ورفضت أي مبرر لتسويغها، ويرى المؤتمر أن هذه الخطوة هي البداية الصحيحة لفتح حوار بين أمانة المؤتمر والشركة لاتخاذ الخطوات المناسبة تجاه هذه المبادرة)). فلما أن تم الحوار قررت الأمانة العامة للمؤتمر إبداء رأيها برفع المقاطعة عن (آرلا)، هذا الرأي الذي مثل صوت كثير من العلماء المشاركين كما تعلم؛ ولم يكن مجرد اجتهاد من الشيخين وحدهما كما ظنّ من شاهد بيان رفع المقاطعة موقعاً باسميهما بصفتهما الرئيس والأمين العام للمؤتمر. فهل كل هذا الجمع من علماء الأمة لا يملكون حق الاجتهاد والنظر في الأمور المتعلقة بالمصالح والمفاسد؟!!
وليس بصحيح يا سعادة الدكتور أن اعتذار شركة (آرلا) لم يغن عنا شيئاً، فقد جرى حوار بين أمانة المؤتمر وشركة (آرلا) اُشترِط فيه على الشركة عدة شروط وافقت عليها الشركة وعلى إثرها تم رفع المقاطعة عنها، ومن أبرز هذه الشروط: الضغط الشديد على الحكومة الدنماركية بشتى الوسائل للاعتذار، دفع مبلغ مالي يساهم في مشاريع النصرة، التخطيط للقيام بمشاريع دعوية لنشر الدين الإسلامي والتعريف بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم. فما رأيك إن فعلت الشركات الدنماركيات الأخريات فعلها، وسارت على نهجها، ألا تتحقق لنا المصلحة التي نريد بطريق أخرى قد تكون أولى من الطريق التي سلكناها؟(12/150)
واسمحوا لي هنا أن أنقل طرفاً من كلمة الشيخ رائد حليحل أحد أكبر رموز الجالية الإسلامية في الدنمارك في كلمته التي ألقاها في مؤتمر النصرة، يقول: (إننا مسلمي الدنمارك لم نطالب بالمقاطعة ولن نحث عليها، ولم نطالب الناس بها، ولكنها وقعت ردة فعل من الشعوب الإسلامية، وإن دلّت على شيء فإنما تدل على أن قلوبهم قد غلت بسبب الإهانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن كان لا بد اليوم من موقف فإن إخوانكم من اللجنة التي أتت من الدنمارك تلتمس منكم أن تقدّروا الظرف الحالي الذي تعيشه هذه المرحلة في الدنمارك مسلمون وغيرهم، وإننا لا بد أن نثمِّن عالياً موقف -ليس فقط- شركة (آرلا)، إنما أي جهة من الدنمارك تتبرأ من عمل الصحيفة، فلا بد أن نرسل لها رسالة إيجابية لنبين لهم عدلنا نحن كمسلمين، وأننا لا يمكن أن نظلم أحداً، وأخيراً أقول لكم أيها الإخوة الأحباب: إن كان لكم شرف نصرة النبي صلى الله عليه وسلم والتمتع بهذه النصرة، فنحن لنا شرف التعرض لهذه الأذية لنصرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.)) فهل لإخوتنا في الدنمارك قولهم المعتبر والمحترم في القضية أم أننا نقاطع ونحن هنا في تمام راحتنا، ما ضرنا شيء إنْ عدلنا إلى زبدة المراعي، ليذوقوا هم هناك ردة فعل آرائنا، مع أنهم من أهم من ينبغي تقدير رأيهم في المسالة، أم أن تقدير رأيهم سيكون بأن نقول لهم: ارفعوا المقاطعة أنتم وذوقوا الصِبر بمفردكم فنبيّنا صلى الله عليه وسلم ليس لكم وحدكم بل هو نبينا أيضاً، وسنظل نحن على رأينا حتى لا نشق عصا الأمة، ولا يعنينا إن أصابكم أذى، أو مسكم سوء! وعموماً، فقارئ كلام الدكتور الهرفي حفظه الله يلحظ فيه أمرين، أولاهما: الإيهام. وثانيهما: التجريحُ وإسقاطُ الحرمةِ.
أمّا الإيهام فظاهر في عدةِ صورٍ:
منها: إيهامُهُ أن القرار إنّما كان قرار الشيخين وحدهما، تجدُ ذلك في المقال كله من أوله إلى آخره، وقد بينت فيما سبق أنّه كان قرار كثرةٍ كاثرةٍ من المشاركين في مؤتمر النصرة بالبحرين. ومنها: إيهامُهُ أنّ الشيخين إنّما أرادا بفعلهما رفع االمقاطعةِ بالكليّةِ، وهذا عجبٌ من العجبِ!! أنسي الفاضل الهرفيّ أنّ التوصية الثامنة للمؤتمر نصُّها: (يؤكد المؤتمر على المقاطعة الاقتصادية أسلوباً حضارياً في الاحتجاج، لما لها من دور فعال في النصرة)؟!! فهل هذا كلامُ من يريدُ إلغاء المقاطعةِ؟ أنسي الفاضل الهرفي أن المؤتمر أصدر وثيقةً مطولة مفصلة عن المقاطعة، تحدثت عن تعريفها، وأسبابها، وأبرزت الأدلة على شرعيتها، وردت على من ادّعى بدعيّتها، ورسمت لها كذلك ضوابطها. فهل هذا كله فعل من ينوي رفع المقاطعة ولا يراها؟
وصورةٌ أخرى من صور الإيهام، إذ قال الفاضل الهرفيّ: ( أمر آخر كنت أتمنى أن يلتفت إليه الشيخان الفاضلان وهو تشجيع الناس على استخدام المنتجات الإسلامية عامة والسعودية خاصة... الخ)، وكأنّ الدكتور الهرفيّ لم يقرأ التوصية التاسعة للمؤتمر: (يوصي المؤتمر دول العالم الإسلامي بتنويع مصادر وارداتها مع التأكيد على دعم الإنتاج المحلي والعمل على الاكتفاء الذاتي في الموارد الأساسية وتشجيع التكامل الاقتصادي بين الدول الإسلامية.)!!!
أليس هذا هو عين ما تمنّاه الفاضل الهرفيّ من الشيخين؟
وصورة رابعة من الإيهام في قوله: (علماؤنا الأجلاء قالوا ببطلان توصية ترك مقاطعة البضائع الدنماركية)!! وكأنّ هذا القول إجماعٌ.. ولا ندري ما يريد بعلمائنا.. فإن كان يريد علماء الأمة كلهم فهذا ينقضه بيان المؤتمر، وإن كان يريدُ علماء بلادنا المباركة فهذا يعوزُهُ الدليل .. فبيانُ ثلاثةٍ من فضلائنا الأعلام وتأييد عشراتٍ لهم لا يعني إجماعاً -وإن كنت أرجو من سعادة الدكتور أن يذكر لنا مجرد ثلاثين من هؤلاء العشرات
ثم لا تنس أن عدداً غير قليل ممن شارك في المؤتمر هو من علماء ودعاة هذه البلاد المباركة، ولا تنس أيضاً أن الله ما جعل العلم محصوراً في بلادٍ دون بلاد.(12/151)
وأمّا التجريحُ فلا أجدُ أبلغَ من إصرار الدكتور الهرفي -غفر الله له- على اتّهام الشيخين في نيّتِهما وأنّهما قررا ما قررا رغبةً (في القول أنّهما كلّ شيء في ديار المسلمين وأن غيرهما لا شيء)!! مقرراً أنه لا شيء أخف من اتهامه للشيخين في نواياهما! عجباً لك يا دكتور!! أهكذا يكون التعامل مع المسلمين!!! أعوذ بالله.. والله ما رأيت خصومةً أشد من هذه!! نعم وجدنا من يتهم الناس في نياتهم وأنهم مصلحيون نفعيون لا يقيمون لمصلحة الدين وزناً.. لكن ما وجدتُ قبل اليوم من يرى أنّ هذه التهمة الشنيعة هي (أخفّ) ما يمكن أن يوجّه لهذين العَلَمين ومَن وراءهما من العلماء والدعاة!! وماذا وراء هذه التهمة من سوء حتى تكون أخف ما يرمى به عالمٌ؟ والأعجبُ من شناعةِ هذا التجريحِ وَهَنُ الحجةِ التي قام عليها!! أكانت الحجةُ دليلاً قاطعاً من كتاب وسنة؟ أكانت الحجة مسألة إجماعٍ أجمع عليه علماء الأمة؟ أكانتِ الحجةُ اعترافاً صريحاً من الشيخين بأنّهما ما أرادا إلا ذلك؟ لا أبداً!! الحجة التي سوّغ بها الدكتور الهرفي لنفسه توجيه هذه التهمة الشنيعة هي (رؤيتُهُ الخاصة) للمصالح والمفاسد في هذه المسألة! هذه الرؤية التي من خلالها (ثبت!!! [هكذا !] أنّ مصلحة المسلمين العليا في وادٍ وهذا القرار في واد آخر)!.
صحيفة المدينة السعودية
=====================
هل يصح الاحتجاج بالحديث الضعيف
د. يوسف بن عبد الله الأحمد
أستاذ الفقه المساعد بجامعة الإمام . الرياض هل يصح الاحتجاج بالحديث الضعيف، وهل صحيح أن من أصول الاستدلال عند الإمام أحمد الاستدلال بالحديث الضعيف؟.
الجواب: الحديث الضعيف ليس بحجة في إثبات الأحكام الشرعية حتى في السنن والمستحبات باتفاق أهل العلم، وإنما قال بعض أهل العلم بأنه لا بأس من إيراد الحديث الضعيف في فضائل الأعمال وليس في إثبات الأحكام بثلاثة شروط:
الأول: ألا يكون الضعف شديداً.
الثاني: أن يكون العمل الذي ورد فيه الفضل قد ثبت بدليل صحيح.
الثالث: ألا يجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه المسألة يخطئ في فهمها كثير من طلبة العلم، ولعل اللبس في الفهم يزول بالتوضيح بالمثال، والمثال: حديث عائشة مرفوعاً: " من صلى بين المغرب والعشاء عشرين ركعة، بنى الله له بيتاً في الجنة " أخرجه البيهقي بسند ضعيف.
هذا الحديث في فضائل الأعمال، والفضل هنا قوله (بنى الله له بيتاً في الجنة) هذا الفضل لا يجوز إيراده لأن أصل العمل وهو صلاة عشرين ركعة بين المغرب والعشاء لم يثبت بدليل صحيح أو حسن، فلا يجوز حينئذ أن يورد حديث ضعيف في فضله. ولو فرضنا بأن العمل ثابت بدليل صحيح فإنه لا بأس عند بعض أهل العلم من ذكر الحديث الضعيف الوارد في فضله. وإن كان الأولى عدم ذكره بالكلية، وإنما أردت بذلك توضيح كلام أهل العلم في هذه المسألة.
ولشيخ الإسلام توضيح نافع كما في (مجموع الفتاوى 1/ 250-251) قال رحمه الله: " ولا يجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي ليست صحيحة ولا حسنة لكن أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى في فضائل الأعمال ما لم يعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب، وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي وروى في فضله حديث لا يعلم أنه كذب جاز أن يكون الثواب حقاً ولم يقل أحد من الأئمة إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحبًا بحديث ضعيف ومن قال هذا فقد خالف الإجماع، وهذا كما أنه لا يجوز أن يحرم شئ إلا بدليل شرعي، لكن إذا علم تحريمه وروى حديث في وعيد الفاعل له ولم يعلم أنه كذب جاز أن يرويه فيجوز أن يروى في الترغيب والترهيب ما لم يعلم أنه كذب لكن فيما علم أن الله رغب فيه أو رهب منه بدليل آخر غير هذا الحديث المجهول حاله ".
وللألباني رحمه كلام نافع في القاعدة الثانية عشر في مقدمة كتابه تمام المنة. ولفضيلة الشيخ عبد الكريم الخضير كتاب قيم بعنوان: الاحتجاج بالحديث الضعيف.
أما ما ينقل عن الإمام أحمد بأنه يحتج بالحديث الضعيف فغير مسلم، وإنما مراده بالحديث الضعيف والمرسل الذي يحتج به: الذي ارتقى إلى درجة الحسن. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (1/ 251-252 ): " ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه، ولكن كان في عرف أحمد بن حنبل ومَن قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين: صحيح وضعيف، والضعيف عندهم ينقسم إلى ضعيف متروك لا يحتج به، وإلى ضعيف حسن.. وأول من عرف أنه قسم الحديث ثلاثة أقسام صحيح وحسن وضعيف هو أبو عيسى الترمذي في جامعه، والحسن عنده ما تعددت طرقه ولم يكن في رواته متهم وليس بشاذ فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفاً ويحتج به ، ولهذا مثَّل أحمد الحديثَ الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري ونحوهما وهذا مبسوط في موضعه "اهـ .(12/152)
وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (1/31): " الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثراً يدفعه ولا قول صاحب، ولا إجماعاً على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس "اهـ.
وبهذا ينتهي الجواب. والحمد لله رب العالمين.
24/4/1427هـ
قاله وكتبه د. يوسف بن عبد الله الأحمد .
أستاذ الفقه المساعد بجامعة الإمام
ص. ب:156616 - الرمز البريدي : 11778 .
هاتف وناسوخ / 014307275
===================
هو الرحمة المهداة
الكاتب: شعر الدكتور جمال بن صالح الجارالله
مقامك من كل المقامات ارفع وسيفك من كل الصوارم أقطع
ووجهك نور والسجايا حميدة وقولك في كل الميادين أوقع
شمائلك المعروف والحلم والتقى وأخلاقك القرآن أصل وأفرع
محجتك البيضاء هدى ورحمة ومازاغ الاهالك...يتلعلع
لواؤك معقود على العزم والمضا وحوضك مورود فطوبى لمن دعوا
ويابؤس من ذيدوا عن الحوض يومها وقيل لهم بعداً فلا ثم موضع
------------------
أتيت وهذى الأرض بغي وظلمة فاشرق نور اذا طلعت يشعشع
وماقمر إلاك شع ضياؤه و مازال في ليل الملمات يسطع
تلألأ في كل النواحي فأشرقت به كل أرض بالهدى تتلفع
ونادى مناد في السماء مدوياً محمد من كل الخليقة أروع
هو الرحمة المهداة للناس كلهم ومافاز الا من لأحمد يتبع
" هو البحر من أي النواحي اتيته فلجته المعروف " والفضل أوسع
ترفع عن كل الدنايا ولم يزل وأصحابه عن كل غى ترفعوا
مقامك محمود تفردت سيداً ألست الذي يوم القيامة يشفع ؟
مقامك عال ياحبيبي وسيدي وتباً لمأفون أتانا يجعجع
--------------------
وكافيك رب البيت من كل مفترٍ تنكب درب الخير للشر ينزع
وشانيك بالخسران باء صنيعه وليس له إلا جهنم مرتع
-------------------
تفديك كل المؤمنين نفوسهم وأرواحهم دون انتقاصك تنزع
ففي نصرة الهادى سمٌّو وعزة ولو أجلب الباغون والناس أجمع
هنيئاً لكم يامن نصرتم نبيكم فسيروا على درب النبي وقاطعوا
وتباً لكل الخائنين نبيهم قلوبهم من حقدها تتقطع
-----------------
ألا يا أخي الكفر حاذر فإنه محمدنا الهادي شفيع مشفع
فما نلت منه غير أن قلوبنا إذا أوذي المختار تغلى وتفزع
وأبشر بما يخزيك ياشر معتد على خير معصوم فقد حان مصرع
ومانال أسباب المعالي أرذال وهل يعتلى بين الخلائق ضفدع ؟
-----------------
أيا خاتم الرسل الكرام تحية نرددها عبر الزمان ونصدع
عليك صلاة الله ياخير مرسل وياليتنا مع صفوة الخلق نجمع
تهون علينا أنفس ونفائس ولسنا لحق المرسلين نضيع
شعر الدكتور جمال بن صالح الجارالله
==========================
وانشق القمر
الكاتب: د. جمال الحسيني أبو فرحة
يقول تعالى: "اقتربت الساعة وانشق القمر. وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر" القمر: 2:1. وكثيرًا ما كانت هذه الآية محلا للطعن من غير المسلمين، والتأويل من بعض المسلمين؛ بحجة أن هذه المعجزة لو وقعت لسجلها تاريخ الأمم الأخرى.
وجواب ذلك: أن هذا هو ما حدث بالفعل؛ فقد سجلتها كتب بعض مؤرخي الهند، وأرخت بها لبناء بعض الأبنية؛ ففي المقالة الحادية عشرة من تاريخ فرشته أن أهل مليبار من إقليم الهند رأوه أيضًا.
وقد نقل ابن تيمية عن بعض المسافرين أنه ذكر أنه وجد في بلاد الهند بناءً قديمًا مكتوبًا عليه: ( بني ليلة انشق القمر ).
ثم إن انشقاق القمر لم يكن أحد من أمم أهل الأرض يترصده وينتظره، وكان في ليل، وفي زمان البرد، ولفترة وجيزة؛ فقلما يراه أحد.
ثم إنه قد يحول بين الرائي والقمر في بعض الأماكن سحاب كثيف؛ فلا يرى هذه المعجزة، هذا بالإضافة إلى اختلاف مطالع القمر؛ فهو لا يرى لكل أهل الدنيا مرة واحدة.
ومن ثمة فإنه من المتوقع ألا يكون رآه إلا عدد محدود من أهل الأرض متفرقين في بلدان شتى، ربما حمل معظم المؤرخين روايتهم على تخطئة الأبصار، أو على نوع من الخسوف.
أضف إلى ذلك أن وصفه تعالى لانشقاق القمر بأنه (آية) :" وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر "؛ يمنع أي محاولة لتأويل هذه المعجزة.
ثم إن نزول القرآن على العرب وتحديه لهم وفيه هذه القصة مع عدم اعتراض أحد منهم عليه ليؤكد حدوثها كما ذكرت الآية الكريمة.
أما في عصرنا الراهن فنجد في موقع وكالة ناسا الفضائية الأمريكية على شبكة (الإنترنت)http://antw صلى الله عليه وسلم p.gsfc.nasa.gov/apod/ap021029.html صورة لصدع طولي رهيب على سطح القمر يظهر بوضوح من الصورة في أعلى المقال يمتد لمئات الكيلومترات، عبارة عن حزام من الصخور المتحولة، وكاتب المقال يتساءل:
What could caus صلى الله عليه وسلم a long ind صلى الله عليه وسلم ntation on th صلى الله عليه وسلم Moon? .
أي ما الذي يمكن أن يحدث شقًا بهذا الطول في القمر؟(12/153)
والكيفية التي طرح بها السؤال تبين بجلاء حيرة العلماء في تفسير تكون هذا الشقٍ، وهو ما ينم عن حدث عظيم تعرض له القمر ترك هذا الأثر المحيّر، ولو كان سببه زلزالا عاديًا أو بركانًا لما استغلق على العلماء فهمه كل هذه المدة إذ أنه اكتشف منذ أكثر من 200 عام كما يذكر موقع وكالة ناسا.
والطريف في الأمر أن هؤلاء العلماء ليسوا مسلمين ولا علم لهم بنسبة هذه المعجزة لنبينا – صلى الله عليه وسلم - ؛ فصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: " ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد " سبإ :6 .
د. جمال الحسيني أبو فرحة
أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
وعضو المجمع العلمي لبحوث القرآن والسنة
gamalabufa صلى الله عليه وسلم ha@yahoo.com
=======================
وداع الرسول لأمته دروس، وصايا، وعبرٌ، وعظات
تأليف الفقير إلى الله تعالى
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فهذه الرسالة مختصرة في وداع النبي الكريم والرسول العظيم صلّى الله عليه وسلّم لأمته، بينت فيه باختصار: خلاصة نسب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وولادته، ووظيفته، واجتهاده وجهاده، وخير أعماله، ووداعه لأمته في عرفات، ومنى، والمدينة، ووداعه للأحياء والأموات، ووصاياه في تلك المواضع، ثم بداية مرضه، واشتداده، ووصاياه لأمته ووداعه لهم عند احتضاره، واختياره الرفيق الأعلى، وأنه مات شهيداً، ومصيبة المسلمين بموته، وميراثه، ثم حقوقه على أمته، وذكرت الدروس والفوائد والعبر والعظات المستنبطة في آخر كل مبحث من هذه المباحث.
والله أسأل أن يجعله عملاً مقبولاً نافعًا لي ولإخواني المسلمين؛ فإنه وليُّ ذلك والقادر عليه, وأن يعلمنا جميعًا ما ينفعنا, ويوفق جميع المسلمين إلى الاهتداء بهدي سيد المرسلين. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله وعلى آله و أصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
المؤلف
حرر في ليلة الخميس 21/3/1416هـ
المبحث الأول: خلاصة نسبه ووظيفته صلّى الله عليه وسلّم
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كِلاَب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مُضر بن نزار بن معدَ بن عدنان(1)، فهو عليه الصلاة والسلام من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام(2).
ولد صلّى الله عليه وسلّم عام الفيل بمكة في شهر ربيع الأول(3) يوم الاثنين(4) الموافق 571م(5)، وتوفي صلّى الله عليه وسلّم وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها: أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيّاً رسولاً، نُبِّئَ بإقرأ، وأرسل بالمدثر، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة، بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد، أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد، وبعد العشر عُرج به إلى السماء، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أُمِر بالهجرة إلى المدينة، فلما استقر بالمدينة(6) أُمِر ببقية شرائع الإسلام مثل: الزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والأذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، أخذ على هذا عشر سنين وبعدها توفي صلّى الله عليه وسلّم، ودينه باقٍ وهذا دينه، لا خير إلا دلَّ أمته عليه، ولا شر إلا حذَّرها منه، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين لا نبي بعده، وقد بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على الجن والإنس، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار(7).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر والعظات في هذا المبحث كثيرة منها:
إن النبي صلّى الله عليه وسلّم خيار من خيار من خيار، فهو أحسن الناس وخيرهم نسباً، وأرجح العالمين عقلاً، وأفضل الخلق منزلة في الدنيا والآخرة، وأرفع الناس ذكراً، وأكثر الأنبياء أتباعاً يوم القيامة.
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم 7/162.
(2) انظر نسب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى آدم: البداية والنهاية لابن كثير 2/195، وسيرة ابن هشام 1/1.
(3) هذا هو الصحيح المشهور أنه ولد صلّى الله عليه وسلّم عام الفيل في شهر ربيع الأول، وقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك، انظر: تهذيب السيرة للإمام النووي ص 20.(12/154)
(4) التحديد بيوم الاثنين ثابت؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم حينما سئل عن صومه: "فيه ولدت وفيه أُنزِل عليَّ" مسلم 2/820. أما تحديد تاريخ اليوم ففيه عدة أقول: فقيل في اليوم الثاني، وقيل لثماني، وقيل لعشر، وقيل: لسبعة عشر، وقيل في الثاني عشر، وقيل غير ذلك، وأشهر وأقرب الأقوال قولان: الأول: أنه ولد لثماني مضين من ربيع الأول، ورجحه ابن عبد البر عن أصحاب التأريخ: انظر: البداية والنهاية 2/260 وقال: "هو أثبت". القول الثاني: أنه ولد في الثاني عشر من ربيع الأول، قال ابن كثير في البداية والنهاية: "وهذا هو المشهور عند الجمهور" 2/260، وجزم به ابن إسحاق: انظر: سيرة ابن هشام 1/171.
(5) انظر: الرحيق المختوم ص 53.
(6) وصل إلى المدينة صلّى الله عليه وسلّم يوم الاثنين من شهر ربيع الأول وحدده بعضهم باليوم الثاني عشر من ربيع الأول، انظر: فتح الباري 7/224.
(7) انظر: الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص75، 76.
إن إقامة الاحتفالات بمولد النبي صلّى الله عليه وسلّم كل عام في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول بدعة منكرة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفعل ذلك في حياته، ولم يفعله الصحابة من بعده رضي الله عنهم، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، ومع ذلك فإن تحديد ميلاد النبي باليوم الثاني عشر من ربيع الأول لم يُجْزَم به، وإنما فيه خلاف وحتى ولو ثبت فالاحتفال به بدعة لما تقدم؛ ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد“(1). وفي رواية لمسلم: ”من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد“(2).
إن وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم هي الدعوة إلى التوحيد، وإنقاذ الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن ظلمات المعاصي والسيئات إلى نور الطاعات والأعمال الصالحات، ومن الجهل إلى المعرفة والعلم، فلا خير إلا دلَّ أمته عليه، ولا شر إلا حذَّرها منه صلّى الله عليه وسلّم.
المبحث الثاني: جهاده واجتهاده وأخلاقه
كان صلّى الله عليه وسلّم أسوة وقدوة وإماماً يُقتدى به؛ لقوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(3)؛ ولهذا كان صلّى الله عليه وسلّم يصلي حتى تفطَّرت قدماه وانتفخت وورمت فقيل له: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ”أفلا أكون عبداً شكوراً“(4). وكان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، وربما صلى ثلاث عشرة ركعة(5)، وكان يصلي الرواتب اثنتي عشرة ركعة(6) وربما صلاها عشر ركعات(7)، وكان يصلي الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله(8)، وكان يطيل صلاة الليل فربما صلى ما يقرب من خمسة أجزاء في الركعة الواحدة(9)، فكان ورده من الصلاة كل يوم وليلة أكثر من أربعين ركعة منها الفرائض سبع عشر ركعة(10).
وكان يصوم غير رمضان ثلاثة أيام من كل شهر(11) ويتحرَّى صيام الاثنين والخميس(12)، وكان يصوم شعبان إلا قليلاً، بل كان يصومه كله(13)، ورغَّب في صيام ست من شوال(14)، وكان صلّى الله عليه وسلّم يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم(15)، وما استكمل شهر غير رمضان إلا ما كان منه في شعبان، وكان يصوم يوم عاشوراء(16)، وروي عنه صوم تسع ذي الحجة(17)، وكان يواصل الصيام اليومين والثلاثة وينهى عن الوصال، وبيَّن أنه صلّى الله عليه وسلّم ليس كأمته؛ فإنه يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه(18)، وهذا على الصحيح: ما يجد من لذة العبادة والأنس والراحة وقرة العين بمناجاة الله تعالى؛ ولهذا قال: ”يا بلال أرحنا بالصلاة“(19)، وقال: ”وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة“(20).
وكان يكثر الصدقة، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة حينما يلقاه جبريل عليه الصلاة والسلام(21)؛ فكان يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة؛ ولهذا أعطى رجلاً غنماً بين جبلين فرجع الرجل إلى قومه وقال: يا قومي أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة(22)، فكان صلّى الله عليه وسلّم أكرم الناس، وأشجع الناس(23)، وأرحم الناس وأعظمهم تواضعاً، وعدلاً، وصبراً، ورفقاً، وأناة، وعفواً، وحلماً، وحياءً، وثباتاً على الحق.
__________
(1) البخاري برقم 2697، ومسلم 1718.
(2) انظر: رسالة التحذير من البدع لسماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز.
(3) سورة الأحزاب، الآية 21.
(4) البخاري برقم 1130، ومسلم برقم 2819.
(5) البخاري برقم 1147، ومسلم برقم 737.
(6) مسلم برقم 728.
(7) مسلم برقم 729، والبخاري برقم 1172.
(8) مسلم برقم 719.
(9) مسلم برقم 772.
(10) كتاب الصلاة لابن القيم ص 140.
(11) مسلم برقم 1160.
(12) الترمذي برقم 745، والنسائي 4/202 وغيرهما.
(13) البخاري رقم 1969 و1970، ومسلم برقم 1156 و1157.
(14) مسلم برقم 1164.
(15) البخاري برقم 1971، ومسلم 1156.
(16) البخاري برقم 2000 – 2007، ومسلم برقم 1125.(12/155)
(17) النسائي 4/205، وأبو داود برقم 2437، وأحمد 6/288، وانظر صحيح النسائي رقم 2236.
(18) البخاري برقم 1961 - 1964 ومسلم 1102 - 1103.
(19) أبو داود برقم 8549، وأحمد 5/393.
(20) النسائي 7/61، وأحمد 3/128، وانظر: صحيح النسائي 3/827.
(21) البخاري برقم 6، ومسلم رقم 2308.
(22) مسلم 4/1806.
(23) البخاري مع الفتح 10/455، ومسلم 4/1804.
وجاهد صلّى الله عليه وسلّم في جميع ميادين الجهاد: جهاد النفس وله أربع مراتب: جهادها على تعلم أمور الدين، والعمل به، والدعوة إليه على بصيرة، والصبر على مشاق الدعوة، وجهاد الشيطان وله مرتبتان: جهاده على دفع ما يلقي من الشبهات، ودفع ما يلقي من الشهوات، وجهاد الكفار وله أربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، واليد. وجهاد أصحاب الظلم وله ثلاث مراتب: باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب. فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، وأكمل الناس فيها محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه كمل مراتب الجهاد كله، فكانت ساعاته موقوفة على الجهاد: بقلبه، ولسانه، ويده، وماله؛ ولهذا كان أرفع العالمين ذكراً وأعظمهم عند الله قدراً(1). وقد دارت المعارك الحربية بينه وبين أعداء التوحيد، فكان عدد غزواته التي قادها بنفسه سبع وعشرون غزوة، وقاتل في تسع منها، أما المعارك التي أرسل جيشها ولم يقدها فيقال لها سرايا فقد بلغت ستة وخمسين سرية(2).
وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس معاملة، فإذا استسلف سلفًا قضى خيراً منه؛ ولهذا جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يتقاضاه بعيراً فأغلظ له في القول، فهم به أصحابه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً“ فقالوا: يا رسول الله: لا نجد إلا سنًّا هو خير من سنّه فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”أعطوه“ فقال الرجل: أوفيتني أوفاك الله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”إن خير عباد الله أحسنهم قضاءً“(3). واشترى من جابر بن عبد الله رضي الله عنه بعيراً، فلما جاء جابر بالبعير قال له صلّى الله عليه وسلّم: ”أتراني ماكستك“؟ قال: لا يا رسول الله، فقال: ”خذ الجمل والثمن“(4).
وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس خلقاً؛ لأن خلقه القرآن، لقول عائشة رضي الله عنهما: ”كان خلقه القرآن“(5)؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: ”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“(6).
وكان صلّى الله عليه وسلّم أزهد الناس في الدنيا، فقد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه اضطجع على الحصير فأثَّر في جنبه، فدخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولما استيقظ جعل يمسح جنبه فقال: رسول الله لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها“(7). وقال: ”لو كان لي مثلُ أُحُدٍ ذهباً ما يَسُرُّني أن لا يمر عليَّ ثلاثٌ وعندي منه شيء، إلا شيءٌ أرصُدُهُ لدين“(8).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض"(9). والمقصود أنهم لم يشبعوا ثلاثة أيام بلياليها متوالية، والظاهر أن سبب عدم شبعهم غالباً كان بسبب قلة الشيء عندهم على أنهم قد يجدون ولكن يؤثرون على أنفسهم(10)؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير"(11). وقالت: "ما أكل آل محمد صلّى الله عليه وسلّم أُكلتين في يوم إلا إحداهما تمر"(12). وقالت: "إنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أُوقدت في أبيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار. فقال عروة: ما كان يقيتكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء"(13). والمقصود بالهلال الثالث: وهو يُرى عند انقضاء الشهرين. وعن عائشة رضي الله عنهما قالت: ”كان فراشُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أدَم وحشوُهُ ليفٌ“(14). ومع هذا كان يقول صلّى الله عليه وسلّم: ”اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتاً“(15).
__________
(1) زاد المعاد 3/5، 10، 12.
(2) انظر: شرح النووي 12/95، وفتح الباري 7/279 - 281، و8/153.
(3) البخاري رقم 2305، ومسلم 1600.
(4) البخاري مع الفتح 3/67، ومسلم 3/1221.
(5) مسلم 1/513.
(6) البيهقي بلفظه 10/192، وأحمد 2/381، وانظر: الصحيحة للألباني رقم 45.
(7) الترمزي وغيره، وانظر: الأحاديث الصحيحة برقم 439، وصحيح الترمذي 2/280.
(8) البخاري برقم 2389، ومسلم برقم 991.
(9) البخاري مع الفتح 9/517 و549.
(10) انظر فتح الباري 9/517 و549 برقم 5374، ومن حديث عائشة رضي الله عنها برقم 5416.
(11) البخاري مع الفتح 9/549.
(12) البخاري مع الفتح 11/283.
(13) البخاري مع الفتح 11/283.
(14) البخاري برقم 6456.(12/156)
(15) البخاري برقم 6460، ومسلم برقم 1055 والقوت: هو ما يقوت البدن من غير إسراف وهو معنى الرواية الأخرى عند مسلم "كفافاً" ويكف عن الحاجة، وقال أهل اللغة: القوت: هو ما يسد رمق، وفي الكفاف سلامة من آفاق الغنى والفقر جميعاً والله أعلم. الفتح 11/293، وشرح النووي 7/152, والأبي 3/537.
وكان صلّى الله عليه وسلّم من أورع الناس؛ ولهذا قال: ”إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي أو في بيتي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها“(1). وأخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”ِكَخْ ِكَخْ ارمِ بها أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة“؟(2).
ومع هذه الأعمال المباركة العظيمة فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا، وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل“ وكان آلُ محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا عَمِلُوا عملاً أثبتوه(3). ”وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا صلى صلاة داوم عليها“(4). وقد تقالَّ عبادة النبي صلّى الله عليه وسلّم نفر من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: وأين نحن من النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال بعضهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال بعضهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال بعضهم: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً [وقال بعضهم: لا آكل اللحم] فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فجاء إليهم فقال: ”أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم الله أتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني“(5). والمراد بالسنة الهدي والطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره. ومع هذه الأعمال الجليلة فقد كان يقول عليه الصلاة والسلام: ”سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله“ قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ”ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل“. وفي رواية: ”سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيءٌ من الدُّلجة، والقَصْدَ القَصْدَ تبلغوا“(6). وكان يقول: ”يا مقلّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك“(7). ويقول: ”اللهم مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك“(8).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر والعظات في هذا المبحث كثيرة منها:
إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدوة كل مسلم صادق مع الله تعالى في كل الأمور؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(9).
__________
(1) مسلم 2/751.
(2) مسلم 2/751.
(3) البخاري مع الفتح 4/213، 11/294، ومسم 1/541 برقم 782، و2/811.
(4) البخاري مع الفتح 4/213، وانظر: صحيح البخاري حديث رقم 6461 – 6467.
(5) البخاري مع الفتح 9/104، ومسلم 2/1020 وما بين المعكوفين من رواية مسلم.
(6) البخاري برقم 6463، 6464، ومسلم 4/2170.
(7) الترمزي 5/238 وغيره، وانظر: صحيح الترمزي 3/171.
(8) مسلم 4/2045.
(9) سورة الأحزاب، الآية: 21.(12/157)
إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس خَلْقاً، وخُلُقاً، وألينهم كفّاً، وأطيبهم ريحاً، وأكملهم عقلاً، وأحسنهم عشرة، وأعلمهم بالله وأشدهم له خشية(1)، وأشجع الناس، وأكرم الناس، وأحسنهم قضاء، وأسمحهم معاملة، وأكثرهم اجتهاداً في طاعة ربه، وأصبرهم وأقواهم تحمّلاً، وأشدهم حياء، ولا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، ولكنه إذا انتُهِكت حرمات الله، فإنها ينتقم الله تعالى، وإذا غضب الله لم يقم لغضبه أحد، والقوي والضعيف، والقريب والبعيد، والشريف وغيره عنده في الحق سواء، وما عاب طعاماً قطاً إن اشتهاه أكله، وإن لم يشتهه تركه، ويأكل من الطعام المباح ما تيسر ولا يتكلف في ذلك، ويقبل الهدية ويكافئ عليها، ويخصف نعليه ويرقع ثوبه, ويخدم في مهنة أهله, ويحلِبُ شاته, ويخدِمُ نفسه، وكان أشد الناس تواضعاً، ويجيب الداعي: من غني أو فقير، أو دنيء أو شريف، وكان يحب المساكين ويشهد جنائزهم ويعود مرضاهم، ولا يحقر فقير لفقره, ولا يهاب مَلكاً لملكه, وكان يركب الفرس, والبعير, والحمار, والبغلة, ويردف خلفه, ولا يدع أحداً يمشي خلفه(2). وخاتمه فضة وفصه منه, يلبسه في خنصره الأيمن وربما يلبسه في الأيسر، وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وقد آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض، ولكنه اختار الآخرة، وكان يكثر الذكر، دائم الفكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ويحب الطيب ولا يرده، ويكره الروائح الكريهة، وكان أكثر الناس تبسماً، وضحك في أوقات حتى بدت نواجذه(3) ويمزح ولا يقول إلا حقّاً، ولا يجفو أحداً، ويقبل عذر المعتذر إليه، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقهن، ويتنفس في الشرب ثلاثاً خارج الإناء، ويتكلم بجوامع الكلام، وإذا تكلم تكلَّم بكلام بيِّنٍ فَصْلٍ، يحفظه من جلس إليه، ويعيد الكلام ثلاثاً إذا لم تفهم حتى تُفهم عنه، ولا يتكلم من غير حاجة، وقد جمع الله له مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، فكانت معاتبته تعريضاً، وكان يأمر بالرفق ويحثّ عليه، وينهي عن العنف، ويحث على العفو والصفح، والحلم، والأناة، وحسن الخلق ومكارم الأخلاق، وكان يحب التيمن في طهوره وتنعُّله، وترجُّله، وفي شأنه كله، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى، وإذا اضطجع اضطجع على جنبه الأيمن، ووضع كفه اليمنى تحته خده الأيمن، وإذا عرَّس(4) قُبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه، وكان مجلسه: مجلس علم، وحلم، وحياء، وأمانة , وصيانة, وصبر, وسكينة, ولا ترفع فيه الأصوات، ولا تنتهك فيه الحرمات، يتفاضلون في مجلسه بالتقوى، ويتواضعون، ويًوقِّرون الكبار، ويرحَمُون الصغار، ويؤثرون المحتاج، ويخرجون دعاة إلى الخير، وكان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، وكان يمشي مع الأرملة والمسكين، والعبد، حتى يقضي له حاجته. ومر على الصبيان يلعبون فسلَّم عليهم، وكان لا يصافح النساء غير المحارم. وكان يتألف أصحابه ويتفقدهم، ويكرم الكريم كل قوم، ويقبل بوجهه وحديثه على من يحادثه، حتى على أشرِّ القوم يتألفهم بذلك، ولم يكن فاحشاً ولا متفحشأ ولا صخَّاباً(5)، ولا يجزي بالسيئة السيئة بل يعفو ويصفح ويحلم, ولم يضرب خادماً ولا امرأة ولا شيئاً قط, إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى, وما خُيِّر بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً, فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه.
وقد جمع الله له كمال الأخلاق ومحاسن الشيم وآتاه من العلم والفضل وما فيه النجاة والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة ما لم يؤت أحداً من العالمين, وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب, ولا معلم له من البشر، واختاره الله على جميع الأولين والآخرين، وجعل دينه للجن والناس أجمعين إلى يوم الدين، فصلوات الله وسلامه عليه صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين؛ فإن خلقه كان من القرآن.
__________
(1) ولهذا قال عبد الله بن الشَّخِّير: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المِرجل من البكاء، أبو داود برقم 904، وصححه الألباني في مختصر الشمائل برقم 276, ومعنى: أزير المرجل: أي غليان القدر.
(2) أحمد 3/398، وابن ماجه برقم 246, والحاكم 4/481، وابن حبان موارد 2099 , وانظر: الأحاديث الصحيحة برقم 1557.
(3) النواجذ: الأنياب.
(4) التعريس: نزول مسافة آخر الليل نزلةً للنوم والاستراحة. انظر: النهاية في غريب الحديث 3/206.
(5) الصّخَّاب: الصخب والسخب: الضجة واضطراب الأصوات للخصام، فهو صلّى الله عليه وسلّم لم يكن صخَّاباً في الأسواق ولا في غيرها. النهاية 3/14.
فينبغي الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم والتأسي في جميع أعماله، وأقواله، وجده واجتهاده، وجهاده، وزهده، وورعه، وصدقه وإخلاصه، إلا في ما كان خاصّاً به، أو ما لا يُقدر على فعله؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا(1)“(2)؛ ولقوله: ”ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم“(3).(12/158)
المبحث الثالث: خير أعماله وخواتمها
كان صلّى الله عليه وسلّم إذا عمل عملاً أثبته وداوم عليه؛ ولهذا قال: ”إن أحب الأعمال إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه وإن قل“(4). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ”كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً، وكان يعرض عليه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قُبض فيه عرض القرآن مرتين“(5).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر القول قبل أن يموت: ”سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك“. قالت: قلت: يا رسول الله، ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها تقولها؟ قال: ”جُعلت لي علامةٌ في أمتي إذا رأيتها قلتها {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}(6). وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما لعمر عن هذه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إنها: أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه إياه, فقال: ما أعلم منها إلا ما تعلم“(7). وقيل: نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} يوم النحر والنبي صلّى الله عليه وسلّم في منى بحجة الوداع(8)، وقيل: نزلت أيام التشريق(9)، وعند الطبراني أنها لما نزلت هذه السورة أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدَّ ما كان اجتهاداً في أمر الآخرة(10)؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ”سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي“ يتأول القرآن(11). ومعنى ذلك أنه يفعل ما أمر به فيه وهو قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}(12).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستنبطة من هذا المبحث كثيرة، ومنها:
1 ـ الحث على المداومة على العمل الصالح، وأن قليلاً دائماً خير من كثير منقطع؛ لأن بدوام العمل الصالح القليل تدوم الطاعة والذكر، والمراقبة، والنية، والإخلاص, والإقبال على الخالق، والقليل الدائم يثمر؛ لأنه يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة(13).
2 ـ من أجهد نفسه في شيء من العبادات لا يطيق العمل به خُشِيَ عليه أن يمل فيفضي ذلك إلى تركه(14).
3 ـ الإنسان المسلم كلما تقدم في العمر اجتهد في العمل على حسب القدرة والطاقة، ليلقى الله على خير أحواله؛ ولأن الأعمال بالخواتيم، وخير الأعمال الصالحة خواتيمها(15).
المبحث الرابع: وداعه لأمته ووصاياه في حجة الوداع
1 ـ أذانه في الناس بالحج:
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) انظر: تهذيب السيرة النبوية للإمام النووي ص 56، ومختصر السيرة النبوية للحافظ عبد الغني المقدسي ص 77، وحقوق المصطفى للقاضي عياض 1/77 – 215، ومختصر الشمائل المحمدية للترمذي ص 112-188.
(3) البخاري برقم 7288، ومسلم برقم 2619.
(4) البخاري مع الفتح 9/43، برقم 4998، و 4/213، ومسلم 2/811 وتقدم تخريجه.
(5) البخاري برقم 4433، ومسلم 2450.
(6) مسلم 1/351.
(7) البخاري مع الفتح 8/130.
(8) انظر: الفتح 8/734، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوماً. فتح 8/734.
(9) انظر: المرجع السابق 8/130.
(10) انظر: فتح الباري 8/130.
(11) البخاري برقم 794، ومسلم برقم 484.
(12) انظر: شرح النووي 4/447.
(13) انظر: فتح الباري 1/103، وشرح النووي 6/318.
(14) انظر: فتح الباري 4/215.
(15) انظر: فتح الباري 4/285، و 9/46.
1 ـ بعد أن بلَّغ صلّى الله عليه وسلّم البلاغ المبين وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، أعلن في الناس وأذَّن فيهم وأعلمهم أنه حاج في السنة العاشرة – بعد أن مكث في المدينة تسع سنين كلها معمورة بالجهاد والدعوة والتعليم – وبعد هذا النداء العظيم الذي قصد به صلّى الله عليه وسلّم إبلاغ الناس فريضة الحج، ليتعلموا المناسك منه صلّى الله عليه وسلّم؛ وليشهدوا أقواله، وأفعاله، ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب، وتشيع دعوة الإسلام، وتبلغ الرسالة القريب والبعيد(1). قال جابر رضي الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذَّن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجٌّ، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعمل مثل عمله... وساق الحديث وفيه: حتى إذا استوت به ناقته على البيداء(2) نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك(3), ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله وما عمل به من شيء عملنا به... وساق الحديث وقال: حتى إذا أتى عرفة فوجد القبة قد ضُرِبت له بنمرة فنزل بها.
2 ـ وداعه ووصيته لأمته في عرفات:(12/159)
قال جابر رضي الله عنه: حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: ”إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع(4) ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دمٍ أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله(5) فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله(6) ولكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم(7) أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرِّح(8) ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله(9), وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون“؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت, ونصحت. فقال بإصبعه السبَّابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ”اللهم اشهد، اللهم اشهد“ ثلاث مرات(10). وقد كان في الموقف جمٌّ غفير لا يُحصي عددها إلا الله تعالى(11).
__________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 8/422 , وشرح الأبي 4/244.
(2) البيداء: اسم للمفازة والصحراء التي لا شيء فيها، وهي هنا موضع بذي الحليفة. فتح الملك المعبود 2/9.
(3) قيل كان عددهم تسعين ألفاً، وقيل مائة وثلاثين ألفاً. انظر: المرجع السابق 2/9، و 105.
(4) والمعنى أنه أبطل كل شيء من أمور الجاهلية وصار كالشيء الموضوع تحت القدمين فلا يعمل به في الإسلام، فجعله كالشيء الموضوع تحت القدم من حيث إهماله وعدم المبالاة به. انظر: شرح النووي 8/432، وشرح الأبي 4/255، وفتح الملك المعبود 2/18.
(5) والمعنى الزائد على رأس المال باطل أما رأس المال فلصاحبه بنص القرآن، انظر: شرح النووي 8/433.
(6) قيل: الكلمة هي: الأمر بالتسريح بالمعروف أو الإمساك بإحسان، وقيل: هي لا إله إلا الله، وقيل: الإيجاب والقبول، وقيل: هي قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ}، سورة النساء، الآية: 3. قال النووي 8/433، وشرح الأبي 4/256، وفتح الملك المعبود 2/19.
(7) والمعنى لا يأذن لأحد من الرجال أو النساء تكرهون أن يدخل منازلكم، وليس المراد من ذلك الزنا؛ لأنه حرام سواء كرهه الزوج أو لم يكرهوه؛ ولأن فيه الحد. شرح النووي 8/433، والأبي 4/257, وفتح الملك المعبود 2/20.
(8) غير المبرِّح: لا شديد ولا شاق، انظر: فتح الملك المعبود 2/19، وشرح النووي 8/434.
(9) والمعنى قد تركت فيكم أمراً لن تخطئوا إن تمسكتم به في الاعتقاد والعمل وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه، وسكت عن السنة؛ لأن القرآن هو الأصل في الدين، أو لأن القرآن أمر باتباع السنة كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}. سورة النساء، الآية: 59. وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}. سورة الحشر, الآية: 7. انظر: فتح الملك المعبود 2/20، وقد جاء عند الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الوصية ب "... كتاب الله وسنة نبيه.." وصححه الألباني في صحيحه الترغيب برقم 36.
(10) أخرجه مسلم برقم 1218.
(11) قيل: مائة وثلاثون ألفاً. انظر: فتح الملك المعبود 2/105.
وأُنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم عرفة يوم الجمعة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}(1) وهذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره, ولا إلى نبي غير نبيهم صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء, وبعثه إلى الجن والإنس فلا حلال إلا ما أحلَّه، ولا حرام إلا ما حرَّمه، ولا دين إلا ما شرعه, وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق, لا كذب فيه ولا خلف, {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}(2) أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي, فلما أكمل الله لهم الدين تمت عليهم النعمة(3).
وقد ذُكر أن عمر بكى عندما نزلت هذه الآية في يوم عرفة, فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا, فأما إذا أُكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص(4), وكأنه رضي الله عنه توقع موت النبي صلّى الله عليه وسلّم قريباً.
3 ـ وداعه ووصيته لأمنه عند الجمرات:
قال جابر رضي الله عنه: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: ”لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلِّي لا أحُجُّ بعد حجتي هذه“(5).(12/160)
وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت: حججت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة... فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قولاً كثيراً ثم سمعته يقول: ”إن أُمِّر عليكم عبد مجدَّع أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا“(6).
4 ـ وصيته ووداعه لأمته يوم النحر:
عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قعد على بعيره وأمسك إنسان بحطامه – أو بزمامه – وخطب الناس فقال: ”أتدرون أيُّ يوم هذا“؟ قالوا: الله ورسوله أعلم [فسكت] حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه, فقال: ”أليس بيوم النحر“؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: ”فأي شهر هذا“؟ قلنا: الله ورسوله أعلم [فسكت] حتى ظننا أنه سيسمه بغير اسمه, فقال: ”أليس بذي الحجة“؟ قلنا بلى يا رسول الله. قال: ”فأي بلد هذا“؟ قلنا الله ورسوله أعلم [فسكت] حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: ”أليست البلدة الحرام“؟ قلنا: بلى يا رسول الله , قال: ”فإن دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا, في شهركم هذا, في بلدكم هذا [وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم, فلا ترجعوا بعدي كفاراً [أو ضُلاَّلاً يضرب بعضكم رقاب بعض, ألا ليبلغ الشاهد [منكم] الغائب [فَرُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامع] ألا هل بلَّغت [ثم انكفأ(7) إلى كبشين أملحين فذبحهما..“(8) قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته فليبلغ الشاهد الغائب(9).
وسكوته صلّى الله عليه وسلّم بعد كل سؤال من هذه الأسئلة الثلاثة كان لاستحضار فهومهم, وليقبلوا عليه بكليتهم, وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه(10).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "وقف النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم النحر بين الجمرات... وقال: ”هذا يوم الحج الأكبر“ وطَفِق(11) النبي يقول: ”اللهم اشهد“ وودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع"(12).
وقد فتح الله أسماع جميع الحجاج بمنى حتى سمعوا خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم النحر, هذا من معجزاته أن بارك في أسماعهم وقوَّاها حتى سمعها القاضي الداني حتى كانوا يسمعون وهم في منازلهم(13). فعن عبد الرحمن بن معاذ التيمي رضي الله عنه قال: "خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن بمنى فَفُتِحت أسماعُنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا.."(14).
5 ـ وصيته صلّى الله عليه وسلّم لأمته في أوسط أيام التشريق:
__________
(1) سورة المائدة, الآية: 3, والحديث أخرجه البخاري برقم 45, ومسلم برقم 3016, 3017.
(2) سورة الأنعام, الآية: 115.
(3) تفسير ابن كثير 2/12.
(4) ذكره ابن كثير في تفسيره 2/12 وعزاه بإسناده إلى تفسير الطبري. وهذا يشهد له قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريبًا كما بدأ...“.
(5) مسلم برقم 1297.
(6) مسلم برقم 1298.
(7) انكفأ: أي انقلب. انظر: شرح النووي 11/183.
(8) البخاري 3/26 برقم 67, 105, 1741, 3197, 4406, 4662, 5550, 7078, 7447, ومسلم برقم 1679 والألفاظ من هذه المواضع.
(9) البخاري برقم 1739.
(10) انظر: فتح الباري 1/159.
(11) طفق: جعل وشرع بقول.
(12) البخاري برقم 1742.
(13) انظر: عون المعبود 5/436, وفتح الملك المعبود 2/106.
(14) أبو داود برقم 1957 وفي آخره قصة تدل على أنه يوم النحر, والحديث صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم 1724, 1/369.
وخطب صلّى الله عليه وسلّم الناس في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة وهو ثاني أيام التشريق ويقال له: يوم الرؤوس؛ لأن أهل مكة يسمونه بذلك؛ لأكلهم رؤوس الأضاحي فيه, وهو أوسط أيام التشريق(1), فعن أبي نجيح عن رجلين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم, وهما من بني بكر, قالا: رأينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب بين أوسط أيام التشريق, ونحن عند راحلته, وهي خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي خطب(2) بمنى(3), وعن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم وسْطَ أيام التشريق فقال: ”يا أيها الناس إن ربكم واحد, وإن أباكم واحد, ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود, ولا لأسود على أحمر على أحمر إلا بالتقوى, أبلغت“؟ قالوا: بلَّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم قال: ”أي يوم هذا“؟ قالوا: يوم حرام. ثم قال: ”أيُّ شهر هذا“؟ قالوا: شهر حرام. ثم قال: ”أي بلد هذا“؟ قالوا: بلد حرام. قال: ”فإن الله قد حرَّم بينكم دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, كحرمة يومكم هذا, في شهركم هذا, في بلدكم هذا، أبلغت“؟ قالوا بلَّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: ”ليبلغ الشاهد الغائب“(4).(12/161)
وهناك جمل من خطبه صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع في الأماكن المقدسة منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس في حجة الوداع فقال: ”إن الشيطان قد يئس أن يُعبد بأرضكم ولكن رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا, إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً, كتاب الله وسنة نبيه...“ الحديث(5). وحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو يخطب الناس على ناقته الجدعاء في حجة الوداع يقول: ”يا أيها الناس أطيعوا ربكم, وصلّوا خمسكم, وأدّوا زكاة أموالكم، وصوموا شهركم, وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم“(6).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستنبطة من هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ إن كل من قدم المدينة إجابة لأذان النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحج فقد حج مع النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لقول جابر رضي الله عنه: "فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعمل مثل عمله"(7).
2 ـ استحباب نزول الحاج إلى عرفات بعد زوال الشمس إن تيسر ذلك.
3 ـ استحباب خطبة الإمام بالحجاج بعرفات, يبين فيها للناس ما يحتاجون إليه، ويعتني ببيان التوحيد, وأصول الدين, ويحذر فيها من الشرك والبدع والمعاصي, ويوصي الناس بالعمل بالكتاب والسنة.
وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب في حجة الوداع ثلاث خطب: خطبة يوم عرفة, والخطبة الثانية يوم النحر في منى, والخطبة الثالثة في منى يوم الثاني عشر من ذي الحجة. ومذهب الشافعي أن الإمام يخطب يوم السابع من ذي الحجة كذلك(8), ويعلم الإمام الناس في كل خطبة ما يحتاجون إليه إلى الخطبة لأخرى.
4 ـ تأكيد غلظ تحريم الدماء, والأعراض, والأموال, والأبشار الجلدية.
5 ـ استخدام ضرب الأمثال وإلحاق النظير بالنظير؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا“.
6 ـ إبطال أفعال الجاهلية, وربا الجاهلية, وأنه لا قصاص في قتلى الجاهلية.
7 ـ إن الإمام ومن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يجب أن يبدأ بنفسه وأهله؛ لأنه أقرب لقبول قوله, وطيب نفس من قرب عهده بالإسلام.
__________
(1) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 5/432, وفتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود 2/100, وفتح الباري 3/574.
(2) ومعنى قوله: "وهي خطبته التي خطب بمنى" أي مثل الخطبة التي خطبها يوم النحر بمنى, فالخطبتان: في يوم النحر, وفي ثاني أيام التشريق اليوم الثاني عشر متحدتان في المعنى. انظر: عون المعبود 5/431، وفتح الملك المعبود 2/100.
(3) أبو داود برقم 1952 ويشهد له حديث سرَّاء بنت نبهان برقم 1953 وصحح حديث أبي نجيح الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/368 برقم 1720.
(4) أحمد بترتيب عبد الرحمن البناء 12/226 وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح 3/266. وانظر: حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه قال: كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أوسط أيام التشريق أذود عنه الناس... وذكر فيه جملاً تراجع ويراجع سند الحديث في مسند أحمد 5/72.
(5) ذكره المنذري في الترغيب وعزاه إلى الحاكم, وحسنه الألباني صحيح الترغيب 1/21 برقم 36 وله أصل في صحيح مسلم. انظر: حديث رقم 2812, وانظر: مسند أحمد 2/368 والأحاديث الصحيحة برقم 472.
(6) الحاكم 1/473 وصحيحه على شرط مسلم, ووافقه الذهبي.
(7) تقدم تخريجه من حديث جابر رضي الله عنه.
(8) انظر: فتح الملك المعبود في تكملة المنهل المورود 2/20.
8 ـ الموضوع من الربا هو الزائد على رأس المال, أما رأس المال فلصاحبه.
9 ـ مراعاة حق النساء, ومعاشرتهن بالمعروف, وقد جاءت أحاديث كثيرة بذلك جمعها النووي أو معظمها في رياض الصالحين.
10 ـ وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وجواز تأديبها إذا أتت بما يقتضي التأديب لكن بالشروط والضوابط التي جاءت بالكتاب والسنة، وأن لا يحصل منكر من أجل ذلك التأديب.
11 ـ الوصية بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
12 ـ قوله: ”لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه“ ففي ذلك لام الأمر, والمعنى خذوا مناسككم, وهكذا وقع في رواية غير مسلم, وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال، والأفعال، والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها, واحفظوها واعملوا بها، وعلموها الناس, وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج, فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”صلوا كما رأيتموني أصلي“(1).
ـ وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”لعلي لا أحج بعد حجتي هذه“ إشارة إلى توديعهم, وإعلامهم بقرب وفاته صلّى الله عليه وسلّم, وحثهم على الأخذ عنه, وانتهاز الفرصة وملازمته, وبهذا سميت حجة الوداع.(12/162)
14 ـ الحث على تبليغ العلم ونشره, وأن الفهم ليس شرطاً في الأداء, وأنه قد يأتي في الآخر من يكون أفهم ممن تقدم ولكن بقلة, وأن الأفضل أن يكون الخطيب على مكان مرتفع؛ ليكون أبلغ في سماع الناس ورؤيتهم له.
15 ـ استخدام السؤال ثم السكوت والتفسير يدل على التفخيم, والتقرير والتنبيه.
16 ـ الأمر بطاعة ولي الأمر مادام يقود الناس بكتاب الله تعالى, وإذا ظهرت منه بعض المعاصي والمنكرات, وُعِظَ وَذُكِّر بالله وخُوِّف به لكن بالحكمة والأسلوب الحسن.
17 ـ الوصية بطاعة الله, والصلاة, والزكاة, والصيام, وأنه لا فرق بين أصناف الناس إلا بالتقوى.
18 ـ معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم الظاهرة الدالة على صدقه, وذلك بسماع الناس لخطبته يوم النحر وهم في منازلهم(2) فقد فتح الله لأسماعهم كلهم لها.
19 ـ الضحية سنه مؤكدة على الصحيح من أقوال أهل العلم, وهي في حق الحاج وغير الحاج فلا يجزئ عنها الهدي, وإنما هي سنة مستقلة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن خطب الناس بمنى انقلب فذبح كبشين أملحين(3) وهذا غير الهدايا التي نحرها بيده وأشرك عليّاً في الهدي وأمره بنحر الباقي من البدن.
المبحث الخامس: توديعه للأحياء والأموات
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما كان ليلتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: ”السلام عليكم دار قول مؤمنين, وآتاكم ما توعدون, غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون, اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد“(4). وفي رواية أنه قال صلّى الله عليه وسلّم: ”فإن جبريل أتاني.. فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم“ قالت عائشة: يا رسول الله, كيف أقول لهم؟ قال: ”قولي: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون“(5).
وقد ذكر الإمام الأبي رحمه الله تعالى أن خروجه هذا كان في آخر عمره صلّى الله عليه وسلّم(6) وهذا والله أعلم يدل على توديعه للأموات كما فعل مع شهداء أحد؛ ولهذا والله أعلم كان يخرج في الليل ويقف في البقيع يدعو لهم كما قالت عائشة رضي الله عنها: ”ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات ثم انحرف...“(7).
__________
(1) البخاري برقم 7246.
(2) البخاري, ومسلم برقم 1679 وتقدم تخريجه.
(3) انظر: فتح الباري 3/574, 577, وشرح النووي 8/422 – 434 و9 /51-52 و11/182, وفتح الملك المعبود في تكملة المنهل المورود شرح سنن أبي داود 2/20 و2/54, 2/99-206.
(4) البقيع هو مدفن أهل المدينة, وسمي بقيع الغرقد, لغرقد كان فيه, وهو ما عظم من العوسج. انظر: شرح النووي 7/46, وشرح الأبي على مسلم 3/390.
(5) أخرجه مسلم برقم 974.
(6) انظر: شرح الأبي على صحيح مسلم 3/388, وفتح الباري 7/349.
(7) مسلم برقم 974.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج يوماً فصلى على قتلى أُحد صلاة الميت(1) بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع علي المنبر فقال: ”إني بين أيديكم فرط لكم, وأنا شهيد عليكم, وإن موعدكم الحوض, وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن مقامي هذا, وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض, أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي(2), ولكني أخاف عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها [وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم] قال عقبة: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [على المنبر]“(3).
فتوديعه صلّى الله عليه وسلّم للأحياء ظاهر؛ لأن سياق الأحاديث يشعر أن ذلك كان آخر حياته صلّى الله عليه وسلّم, وأما توديعه للأموات فباستغفاره لأهل البقيع ودعائه لأهل أحد, وانقطاعه بجسده عن زيارتهم(4).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستنبطة من هذا المبحث كثيرة, منها:
1 ـ حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على نفع أمته, والنصح لهم في الحياة, وبعد الممات؛ ولهذا صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنوات، وزار أهل البقيع ودعا لهم, وأوصى الأحياء ونصحهم, ووعظهم وأمرهم ونهاهم فما ترك خيراً إلا دلهم عليه, ولا شرًا إلا حذرهم منه.
2 ـ التحذير من فتنة زهرة الدنيا لمن فتحت عليه, فينبغي له أن يحذر سوء عاقبتها, ولا يطمئن إلى زخارفها, ولا ينافس غيره فيها, ويستخدم ما عنده منها في طاعة الله تعالى(5).
المبحث السادس: بداية مرضه صلّى الله عليه وسلّم وأمره لأبي بكر أن يصلي بالناس(12/163)
رجع صلّى الله عليه وسلّم من حجة الوداع في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقية الشهر, والمحرم, وصفراً, وجهز جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه, فبينما الناس على ذلك ابتدئ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشكواه في ليال بقين من صفر: قيل في الثاني والعشرين منه, وقيل: في التاسع والعشرين , وقيل: بل في أول شهر ربيع الأول, وقد صلى على شهداء أحد فدعا لهم كما تقدم, وذهب إلى أهل البقيع وسلم عليهم ودعا لهم مودعاً لهم, ثم رجع مرة من البقيع فوجد عائشة وهي تشتكي من صداع برأسها وهي تقول: وارأساه. فقال: ”بل أنا والله يا عائشة وارأساه“. قالت عائشة رضي الله عنها: ثم قال: ”وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك, وصليت عليك, ودفنتك“ قالت: قلت: والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك. قالت: ”فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم“(6) وتتام به وجعه حتى استعزبه(7) وهو في بيت ميمونة, فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي(8).
__________
(1) الأحاديث الصحيحة دلت أن شهداء المعركة لا يصلى عليهم, أما هذا الحديث فكأنه صلّى الله عليه وسلّم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعاً لهم بذلك, كما ودع أهل البقيع بالاستغفار لهم. انظر: فتح الباري 3/210 و7/349 ورجح ذلك العلامة ابن باز في تعليقه على فتح الباري 6/611.
(2) أي لا أخاف على مجموعكم؛ لأن الشرك قد وقع من بعض أمته بعده صلّى الله عليه وسلّم. فتح الباري 3/211.
(3) البخاري من الألفاظ في جميع المواضع, برقم 1344, 3596, 4042, 4085، 6426, 6590، ومسلم برقم 2296, وما بين المعكوفين من صحيح مسلم.
(4) الفتح 7/349.
(5) انظر: فتح الباري 11/245 .
(6) ابن هشام بسند ابن إسحاق, انظر: سيرة ابن هشام 4/320, وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/224, وفتح الباري 8/ 129 - 130, وأخرجه أحمد 6/144 و228 لابن ماجه, والبيهقي, وقال الألباني: إن ابن إسحاق قد صرح بالتحديث في رواية ابن هشام فثبت الحديث والحمد لله. أحكام الجنائز ص 50.
(7) استعزبه: اشتد عليه وغلبه على نفسه.
(8) انظر: سيرة ابن هشام 4/320 والبداية والنهاية لا بن كثير 5/223 - 231, وقيل: كان ذلك في التاسع والعشرين من شهر صفر يوم الأربعاء, فبقي في مرضه ثلاثة عشر يوماً وهذا قول الأكثر.
انظر: الفتح 8/129.
وأول ما اشتدَّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه في بيت ميمونة رضي الله عنها فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها(1), فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذنَّ له فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر(2) وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما دخل بين واشتد به وجعه قال: ”هَرِيقوا(3) عليَّ من سبع قرب(4) لم تُحْلَلْ أوكيتهن لعلي أعهد(5) إلى الناس, فأجلسناه في مِخضَب(6) لحفصة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم طفقنا(7) نصب عليه من تلك القرب, حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن, ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم“(8).
__________
(1) صحيح مسلم برقم 418, وانظر: فتح الباري 8/129.
(2) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما قال ابن عباس في آخر حديث البخاري رقم 687 ومسلم 418.
(3) وفي رواية: أهريقوا: أي أريقوا وصبوا. الفتح 1/303.
(4) هذا من باب التداوي؛ لأن لعدد السبع دخولاً في كثير من أمور الشريعة, وأصل الخلقة, وفي رواية لهذا الحديث عند الطبراني: ”... من آبار شتى“. الفتح 1/303 و8/141.
(5) أعهد: أي أوصي. الفتح 1/303.
(6) المخضب: هو إناء نحو المركن الذي يغسل فيه وتغسل فيه الثياب من أي جنس كان. النووي 4/379 والفتح 1/301 و303.
(7) طفقنا: أي شرعنا: يقال: طفق يفعل كذا إذا شرع في فعل واستمر فيه. الفتح 3/303.
(8) البخاري برقم 198 وذكر هنا له ستة عشر موضعاً, وقد جمع بين هذه المواضع الألباني في مختصر البخاري 1/170, ومسلم برقم 418.(12/164)
وعنها رضي الله عنها قالت: "ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ”أصلى الناس“؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! قال: ”ضعوا لي ماء في المخضب“ قالت: ففعلنا. فاغتسل فذهب لينوءَ(1) فأُغمي عليه, ثم أفاق فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”أصلى الناس“؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: ”ضعوا لي ماء في المخضب“ قالت: ففعلنا [فقعد] فاغتسل. ثم ذهب لينوء فأُغمي عليه. ثم أفاق فقال: ”أصلى الناس“؟ فقلنا: لا , هم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: ”ضعوا لي ماء في المخضب“ ففعلنا [فقعد] فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه, ثم أفاق فقال: ”أصلى الناس“؟ فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلّى الله عليه وسلّم لصلاة العشاء الآخرة, قالت: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي بكر؛ ليصلي بالناس, فأتاه الرسول(2) فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تصلي بالناس. فقال أبو بكر – وكان رجلاً رقيقاً – يا عمر! صلِّ بالناس. فقال له عمر: أنت أحقُّ بذلك. قالت: فصلَّى بهم أبو بكر تلك الأيام. ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد من نفسه خِفَّة فخرج بين رجلين – أحدهما العباس(3)– لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس, فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر, فأومأ إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يتأخر , وقال لهما: ”أجلساني إلى جنبه“ فأجلساه إلى جنب أبي بكر, فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم يأتم بصلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلّى الله عليه وسلّم قاعد“(4). وهذا صريح في أن هذه الصلاة هي صلاة الظهر(5). وقد كان صلّى الله عليه وسلّم حريصاً على أن يكون أبو بكر هو الإمام وردد الأمر بذلك مراراً, فمن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثَقُل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء بلال يؤذنه بالصلاة, فقال: ”مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس“ فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف(6) وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر؟ فقال: ”مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس“ قالت: فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر, فقالت له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إنكنَّ لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس“ فقالت حفصة لعائشة: [ما كنت لأصيب منك خيراً]. قالت عائشة: فأمروا أبا بكر يصلي بالناس فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نفسه خفة, فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر, فأومأ إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”قم مكانك“ فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جلس عن يسار أبي بكر, فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر“(7).
__________
(1) لينوء: أي لينهض بجهد. الفتح 2/174.
(2) أي الذي أرسله إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم ليصلي بالناس.
(3) والآخر علي رضي الله عنه كما تقدم.
(4) البخاري برقم 687 ومسلم برقم 418 وقد اخترت بعض الألفاظ من البخاري وبعضها من مسلم.
(5) وزعم بعضهم أنها الصبح, واستدل برواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس: ”وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القراءة من حيث بلغ أبو بكر, وهذا لفظ ابن ماجه وإسناده حسن؛ لكن في الاستدلال به نظر؛ لاحتمال أن يكون صلّى الله عليه وسلّم سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي انتهى إليها أبو بكر خاصة, وقد كان هو يسمع الآية أحياناً في الصلاة السرية كما في حديث أبي قيادة, ثم لو سلم لم يكن فيه دليل على أنها الصبح بل يحتمل أن تكون المغرب فقد ثبت في الصحيحين من حديث أم الفضل قالت: "سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفاً, ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله" البخاري برقم 763 و4429, ومسلم برقم 462 قال ابن حجر: لكن وجدت في النسائي أن هذه الصلاة التي ذكرتها أم الفضل كانت في بيته وقد صرح الشافعي أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يصلِّ بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة وهي هذه التي صلى فيها قاعداً وكان أبو بكر فيها أولاً إماماً ثم صار مأموماً يسمع الناس التكبير. انظر: الفتح 2/175.
(6) أسيف: شديد الحزن: والمراد أنه رقيق القلب إذا قرأ غلبه البكاء فلا يقدر على القراءة. فتح 2/152, 165, 203.
(7) البخاري برقم 713 , 2/204 ومسلم برقم 418, قول حفصة رضي الله عنها: ما كنت لأصيب منك خيراً. البخاري برقم 679.(12/165)
والسبب الذي جعل عائشة رضي الله عنها تراجع النبي صلّى الله عليه وسلّم في إمامة أبي بكر بالصلاة هو ما بيَّنَتْه في رواية أخرى قالت رضي الله عنها: ”لقد راجعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً, ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به, فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أبي بكر“(1)؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم لها ولحفصة: ”إنكن لأنتن صواحب يوسف“(2).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وتقديمه صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر معلوم بالضرورة من دين الإسلام وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة, وأقرؤهم لما ثبت في الصحيح: ”يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله..“(3) الحديث. نعم قد اجتمعت في أبي بكر هذه الصفات رضي الله عنه...(4).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ استحباب زيارة قبور الشهداء بأحد وقبور أهل البقيع والدعاء لهم بشرط عدم شد الرحال, وعدم إحداث البدع.
2 ـ جواز تغسل الرجل زوجته وتجهيزها والزوجة كذلك.
3 ـ جواز استئذان الرجل زوجاته أن يُمرِّض في بيت إحداهن كان الانتقال يشق عليه, وإذا لم يأذنَّ فحينئذ يقرع بينهن.
4 ـ جواز المرض والإغماء على الأنبياء بخلاف الجنون فإنه لا يجوز عليهم؛ لأنه نقص, والحملة من مرض الأنبياء؛ لتكثير أجرهم، ورفع درجاتهم, وتسلية الناس بهم؛ ولئلا يفتتن الناس بهم فيعبدونهم؛ لما يظهر على أيديهم من المعجزات والآيات البينات, وهم مع ذلك لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً إلا ما شاء الله.
5 ـ استحباب الغسل من الإغماء؛ لأنه ينشط ويزيل أو يخفف الحرارة.
6 ـ إذا تأخر الإمام تأخراً يسيراً ينتظر, فإذا شق الانتظار صلى أعلم الحاضرين.
7 ـ فضل أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة رضي الله عنهم, وتنبيهه وتنبيه الناس أنه أحق بالخلافة من غيره؛ لأن الصلاة بالناس للخليفة؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: ”رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا“.
8 ـ إذا عرض للإمام عارض أو شغل بأمر لا بد منه منعه من حضور الجماعة فإنه يستخلف من يصلي بهم ويكون أفضلهم.
9 ـ فضل عمر رضي الله منه؛ لأن أبا بكر وثق به, ولهذا أمره أن يصلي ولم يعدل إلى غيره.
10 ـ جواز الثناء والمدح في الوجه لمن أُمِنَ عليه الإعجاب والفتنة؛ لقول عمر رضي الله عنه: ”أنت أحق بذلك“.
11 ـ دفع الفضلاء الأمور العظيمة عن أنفسهم إذا كان هناك من يقول بها على وجه مقبول.
12 ـ يجوز للمستخلف في الصلاة ونحوها أن خلف غيره من الثقات لقول أبي بكر: ”صلِّ يا عمر“.
13 ـ الصلاة من أهم ما يسأل عنه.
14 ـ فضل عائشة رضي الله عنها على جميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم الموجودات ذلك الوقت وهن تسع إحداهن عائشة رضي الله عنهن.
15 ـ جواز مراجعة ولي الأمر على سبيل العرض والمشاورة والاستشارة بما يظهر أنه مصلحة, لكن بعبارة لطيفة تحمل الحكمة وحسن الأسلوب.
16 ـ جواز وقوف المأموم بجنب الإمام لحاجة أو مصلحة: كإسماع المأمومين التكبير في الجم الغفير الذين لا يسمعون الصوت, أو ضيق المكان, أو علة أخرى كصلاة المرأة بالنساء, أو المنفرد مع الإمام، أو إمام العراة.
17 ـ جواز رفع الصوت بالتكبير فينقل المبلغ للناس صوت الإمام إذا لم يسمع الناس تكبير الإمام.
18 ـ التنبيه على الحرص على حضور الصلاة مع الجماعة إلا عند العجز التام عن ذلك.
19 ـ الأعلم والأفضل أحق بالإمامة من العالم والفاضل.
20 ـ إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالساً صلي الناس جلوساً, وإذا صلى قائماً صلوا قياماً.
21 ـ البكاء في الصلاة من خشية الله لا حرج فيه لكن لا يتكلف ذلك ولا يطلبه, فإذا غلبه البكاء في الصلاة بدون اختياره فلا حرج(5).
المبحث السابع: خطبته العظيمة ووصيته للناس
__________
(1) البخاري برقم 198, و4445, ومسلم برقم 418 رواية 93.
(2) البخاري برقم 713, مسلم برقم 418 وتقدم تخريجه.
(3) مسلم برقم 673.
(4) البداية والنهاية 5/234 وروى البيهقي عن أنس رضي الله عنه أنه كان يقول: ”آخر صلاة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع القوم في ثوب واحد ملتحفاً به خلف أبي بكر“ قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية 5/234: ”وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح“ ورجح العلامة ابن باز حفظه الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يصلِّ خلف أحد من أمته إلا عبد الرحمن بن عوف. قلت: أما الصلاة التي صلاها مع أبي بكر فإنه هو الإمام كما تقدم والله أعلم.
(5) انظر: شرح النووي 4/379 – 386 , وشرح الأبي 2/301- 302, وفتح الباري 2/ 151, 152, 164 و166, 173, 203, 206.(12/166)
خطب عليه الصلاة والسلام أصحابه في يوم الخميس قبل أن يموت بخمسة أيام خطبة عظيمة بيَّن فيها فضل الصدِّيق من سائر الصحابة, مع ما قد كان نص عليه أن يؤم الصحابة أجمعين, ولعل خطبته هذه كانت عوضاً أراد يكتبه في الكتاب, وقد اغتسل عليه الصلاة والسلام بين يدي هذه الخطبة العظيمة, فصبوا عليه من سبع قرب لم تُحلل أوكيتهن, وهذا من باب الاستشفاء بعدد السبع كما وردت به الأحاديث(1) والمقصود أنه صلّى الله عليه وسلّم اغتسل ثم خرج وصلى بالناس ثم خطبهم. قال جندب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ”إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل(2)؛ فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً, كما اتخذ إبراهيم خليلاً, ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً, ألا وألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد, ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك“(3). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ”إن الله خيَّر عبداً بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عند الله“, فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: فديناك بآبائنا وأُمهاتنا, فعجبنا له, وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عبدٍ خيَّرَه الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا, فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو [العبد] المخيَّر, وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”[يا أبا بكر لا تبكي] إن من أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله(4) أبو بكر, ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر, ولكن أُخوَّةُ الإسلام, ومودته, لا يَبْقَينَّ في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر“(5).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب إلا باب أبي بكر من جملة الإشارات التي تدل على أنه هو الخليفة.
2 ـ فضل أبي بكر رضي الله عنه وأنه أعلم الصحابة رضي الله عنهم, ومن كان أرفع في الفهم استحق أن يطلق عليه أعلم, وأنه أحب الصحابة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
3 ـ الترغيب في اختيار ما في الآخرة على ما في الدنيا, وأن الرغبة في البقاء في الدنيا وقتاً من الزمن إنما هي للرغبة في رفع الدرجات في الآخرة وذلك بالازدياد من الحسنات لرفع الدرجات.
4 ـ شكر المحسن والتنويه بفضله وإحسانه والثناء عليه؛ لأن من لم يشكر الناس لا يشكر الله تعالى.
5 ـ التحذير من اتخاذ المساجد على القبور وإدخال القبور في المساجد أو وضع الصور فيها, ولعن من فعل ذلك, وأنه من شرار الخلق عند الله كائناً من كان(6).
6 ـ حب الصحابة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر من النفس والولد والوالد والناس أجمعين ولهذا يفدونه بآبائهم وأمهاتهم.
المبحث الثامن: اشتداد مرضه صلّى الله عليه وسلّم ووصيته في تلك الشدة
__________
(1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/228.
(2) الخُلَّة: الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خِلاله؛ أي في باطنه, وهي أعلى المحبة الخالصة, والخليل: الصديق الخالص؛ وإنما قال ذلك صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن خلته كانت مقصوره على حب الله تعالى فليس فيها لغيره متسع ولا شركة من محاب الدنيا والآخرة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/72, والمصباح المنبر 1/180, وشرح النووي 5/16, شرح الأبي 2/426.
(3) مسلم برقم 532.
(4) معناه: أكثرهم جوداً لنا بنفسه وماله, انظر: فتح الباري 1/559, وشرح النووي 15/160.
(5) البخاري برقم 466, 3654, 3904, ومسلم برقم 2382.
(6) انظر: فتح الباري 1/559, 7/14, 16, والنووي 15/16.(12/167)
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات(1) وينفث فلما اشتد [الذي توفي فيه] كنت أقرأ [وفي رواية أنفث] عليه بهن وأمسح بيده نفسه رجاء بركتها. قال ابن شهاب: ”ينفث على يديه ثم يمسح يهما وجهه“(2). وفي صحيح مسلم قالت: ”كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي“(3). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: اجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يغادر منهن امرأة فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: ”مرحباً بابنتي“ فأجلسها عن يمينه أو عن شماله, ثم إنه أسرَّ إليها حديثاً فبكت فاطمة. ثم إنه سارّها فضحكت أيضاً, فقلتُ لها ما يبكيك؟ فقالت: ما كنتُ لأفشي سرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حُزْنٍ، فقلت حين بكت أخصَّك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحديثه دوننا ثم تبكين؟ وسألتها عما قال: فقالت: ما كنت لأفشي سرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت: عزمتُ عليك بمالي من الحق لما حدثتيني ما قال لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالت: أما الآن فنعم: أما حين سارَّني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن كل عام مرة وإنه عارضه به في العام مرتين ولا أُراني(4) إلا قد حضر أجلي فاتقي الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك, قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت, فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: ”يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين, أو سيدة نساء هذه الأمة“؟ قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت"(5) وفي رواية: ”فأخبرني أني أول من يتبعه من أهله فضحكت“(6).
وسبب ضحكها رضي الله عنها أنها سيدة نساء المؤمنين, وأول من يلحق به من أهله, وسبب الكباء أنه أخبرها بموته صلّى الله عليه وسلّم, قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وروى النسائي في سبب الضحك الآمرين"(7) أي بشارتها بأنها سيد ة نساء هذه الأمة, وكونها أول من يلحق به من أهله. وقد اتفقوا على أن فاطمة رضي الله عنها أول من مات من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده حتى من أزواجه(8).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت أحداً أشدَّ عليه الوجع(9) من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم"(10).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يوعك(11) فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً, فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”أجل إني أُوعك كما رَجُلان منكم“ قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه [شوكة فما فوقها] إلا حط الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها“(12).
وعن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نُزِلَ(13) برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طفق(14) يطرح خميصة(15) له على وجهه فإذا اغتم(16) كشفها عن وجهه وهو كذلك يقول: ”لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد“ يُحذرُ ما صنعوا(17).
__________
(1) المراد بالمعوذات: قل هو الله أحد, وقل أعوذ برب الفلق, وقل أعوذ برب الناس. انظر: الفتح 8/131 و9/62.
(2) البخاري برقم 4439, 5016, 5735, 5751, ومسلم برقم 2192 وكان يفعل ذلك صلّى الله عليه وسلّم أيضاً إذا أوى إلى فراشه "فيقرأ بقل هو الله أحد, وبالمعوذتين جميعاً ثم يمسح يهما وجهه وما بلغت من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات" البخاري برقم 5748.
(3) مسلم برقم 2192.
(4) أي لا أظن.
(5) البخاري برقم 4433, 4434, ومسلم برقم 2450, واللفظ لمسلم.
(6) البخاري برقم 4433, 4434, ومسلم 2450.
(7) انظر: فتح الباري 8/138.
(8) انظر: فتح الباري 8/136.
(9) المراد بالوجع: المرض, والعرب تسمي كل مرض وجعاً. انظر: الفتح 10/111, وشرح النووي 16/363.
(10) البخاري برقم 5646, ومسلم 2570.
(11) يوعك: قيل الحمى, وقيل ألمها , وقيل إرعادها الموعوك وتحريكها إياه. الفتح 10/111.
(12) البخاري مع الفتح 10/111 برقم 5647, 5648, 5660, 5661, 5667, ومسلم 4/1991 برقم 2571 واللفظ له إلا ما بين المعكوفين.
(13) نُزِل: أي لما حضرت المنية والوفاة. انظر: شرح السنوسي على صحيح مسلم بهامش الأبي 2/425, وفتح الباري 1/532.
(14) طفق: أي شرح وجعل, انظر: شرح النووي 5/16, وشرح الأبي 2/425, حاشية السنوسي, وفتح الباري 1/532.
(15) خميصة: كساء له أعلام.
(16) اغتم: تسخن بالخميصة وأخذ بنفسه من شدة الحرارة.
(17) البخاري مع الفتح 8/140 برقم 4443، 4444, ومسلم برقم 531.(12/168)
وعن عائشة رضي الله عنها أنهم تذاكروا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه فذكرت أمُّ سلمة وأمُّ حبيبة كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصوير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة“(1).
وعن عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت: "قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي لم يقم منه: ”لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد“ قالت: فلولا ذلك لأبرزوا قبره, غير أني أخشى أن يُتخذ مسجداً"(2).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”لا تجعلوا بيوتكم قبوراً, ولا تجعلوا قبري عيداً, وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم“(3).
وعن أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل يتغشاه(4), فقالت فاطمة رضي الله عنها: واكرب أباه(5) فقال لها: ”ليس على أبيك كرب بعد اليوم“ فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه, يا لأبتاه من جنة الفردوس مأواه , يا أبتاه إلى جبريل ننعاه(6). فلما دُفن قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس! أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التراب“؟(7).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة ومنها:
1 ـ استحباب الرقية بالقرآن, وبالأذكار, وإنما جاءت الرقية بالمعوذات؛ لأنها جامعة للاستعاذة من كل المكروهات جملة وتفصيلاً, ففيها الاستعاذة من شر ما خلق الله عز وجل, فيدخل في ذلك كل شيء, ومن شر النفاثات في العقد, ومن شر السواحر, ومن شر الحاسدين, ومن شر الوسواس الخناس(8).
2 ـ عناية النبي صلّى الله عليه وسلّم ببنته فاطمة ومحبته لها؛ ولهذا قال: ”مرحباً بابنتي“ وقد جاءت الأخبار أنها كانت إذا دخلت عليه قام إليها وقبَّلها, وأجلسها في مجلسه, وإذا دخل عليها فعلت ذلك رضي الله عنها, فلما مرض دخلت عليه وأكتب عليه تقبله(9).
3 ـ يؤخذ من قصة فاطمة رضي الله عنها أنه ينبغي العناية بالبنات, والعطف عليهن, والإحسان إليهن, ورحمتهن, وتربيتهن التربية الإسلامية, اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم, وأن يختار لها الزوج الصالح المناسب.
4 ـ عناية الولد بالوالد كما فعلت فاطمة رضي الله عنها, فيجب على الولد أن يحسن إلى والديه, ويعتني ببرهما, ولا يعقهما, فيتعرض لعقوبة الله تعالى.
5 ـ معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم التي تدل على صدقه وأنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, ومن ذلك أنه أخبر أن فاطمة أول من يلحقه من أهله, فكانت أول من مات من أهله بالاتفاق.
6 ـ سرور أهل الإيمان بالانتقال إلى الآخرة, وإيثارهم حب الآخرة على الدنيا لحبهم للقاء الله تعالى, ولكنهم لا يتمنون الموت لضر نزل بهم؛ لرغبتهم في الإكثار من الأعمال الصالحة؛ لأن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث كما بين النبي عليه الصلاة والسلام.
7 ـ المريض إذا قرب أجله ينبغي له أن يوصي أهله بالصبر؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة: ”فاتقي الله واصبري“.
8 ـ فضل فاطمة رضي الله عنها وأنها سيدة نساء المؤمنين.
__________
(1) البخاري برقم 427 و434, 1341, 3878, ومسلم برقم 528.
(2) البخاري برقم 435, 1330، 1390, 3453, 4441, 4443, 5815, ومسلم برقم 529 ولفظ مسلم ”غير أنه خُشِيَ“, وعند البخاري برقم 1390 ”غير أنه خَشِيَ أو خُشِيَ“.
(3) أبو داود 2/218, وأحمد 2/367, وانظر صحيح أبي داود 1/383.
(4) يتعشاه: يغطيه ما اشتدّ به من مرض فيأخذ بنفسه ويغمه.
(5) لم ترفع صوتها رضي الله عنها بذلك, وإلا لنهاها صلّى الله عليه وسلّم. انظر: الفتح 8/149.
(6) ننعاه: نَعَى الميت إذا أذاع موته وأخبر به.
(7) البخاري برقم 4462.
(8) انظر: شرح النووي 14/433, والأبي 7/375.
(9) انظر: فتح الباري 8/135, 136.(12/169)
9 ـ المرض إذا احتسب المسلم ثوابه, فإنه يكفر الخطايا, ويرفع الدرجات, ويزاد به الحسنات, وذلك عام في الأسقام, والأمراض ومصائب الدنيا, وهمومها وإن قلت مشقتها, والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أشد الناس بلاء, ثم الأمثل فالأمثال؛ لأنهم مخصوصون بكمال الصبر والاحتساب، ومعرفة أن ذلك نعمة من الله تعالى ليتم لهم الخير ويضاعف لهم الأجر, ويظهر صبرهم ورضاهم, ويُلحق بالأنبياء الأمثال فالأمثل من أتباعهم؛ لقربهم منهم وإن كانت درجتهم أقل, السر في ذلك والله أعلم أن البلاء في مقابلة النعمة, فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد؛ ولهذا ضوعف حد الحر على حد العبد, وقال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}(1). والقوي يُحمَّل ما حمل, والضيبف يرفق به, إلا أنه كلما قويت المعرفة هان البلاء, ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء, وأعلى من ذلك من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه فيسلم ويرضى ولا يعترض(2).
10 ـ التحذير من بناء المساجد على القبور ومن إدخال القبور والصور في المساجد, ولعن من فعل ذلك, وأنه من شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة, وهذا من أعظم الوصايا التي أوصى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل موته بخمسة أيام(3).
المبحث التاسع: وصايا النبي صلّى الله عليه وسلّم عند موته
عن ابن عباس رضي عنهما قال: يوم الخميس وما يوم الخميس(4) اشتد برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: ”ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً“ فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي التنازع [فقال بعضهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله,] [فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده, ومنهم من يقوم غير ذلك, فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "[قوموا] وفي رواية: ”دعوني فالذي أنا فيه خير(5) مما تدعونني إليه] أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب, وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به“(6) وسكت عن الثالثة أو قال فأنسيتها"(7) قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وأوصاهم بثلاث" أي في تلك الحالة, وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتبه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن أمراً متحتماً؛ لأنه لو كان مما أُمر بتبليغه لم يتركه لوقوع اختلافهم ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه, ولبلَّغه لهم لفظاً كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك، وقد عاش بعد هذه المقالة أياماً وحفظوا عنه أشياء لفظاً فيحتمل أن يكون مجموعها ما أراد أن يكتبه والله أعلم(8).
والوصية الثالثة في هذا الحديث يحتمل أن تكون الوصية بالقرآن, أو الوصية بتنفيذ جيش أسامة رضي الله عنه. أو الوصية بالصلاة وما ملكت الأيمان, أو الوصية وما ملكت الأيمان، أو الوصية بأن لا يتخذ قبره صلّى الله عليه وسلّم وثناً يُعبد من دون الله, وقد ثبتت هذه الوصايا عنه صلّى الله عليه وسلّم(9).
وعن عبد الله بن أبي أوْفَى رضي الله عنه أنه سئل هل أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟... قال: ”أوصى بكتاب الله عز وجل“(10). والمراد بالوصية بكتاب الله: حفظه حسّاً ومعنى, فيكرم ويصان, ويتبع ما فيه: فيعمل بأوامره, ويجتنب نواهيه, ويداوم على تلاوته وتعلمه وتعليمه ونحو ذلك(11).
__________
(1) سورة الأحزاب، الآية: 30, وانظر: شرح النووي 16/238, 365, 366, 5/14, والأبي 8/326.
(2) انظر: فتح الباري 8/136, و10/112, و3/208.
(3) انظر: فتح الباري 8/136, و10/112, و3/208.
(4) يوم الخميس وما يوم الخميس؛ معناه: تفخيم أمره في الشدة والمكروه, والتعجب منه , وفي رواية في أواخر كتاب الجهاد عند البخاري: ”ثم بكى حتى خضب دمعه الحصى“. وفي رواية لمسلم: ”ثم جعلت تسيل دموعه حتى رأيتها على خديه...“ انظر: فتح الباري 8/132، وشرح النووي على صحيح مسلم.
(5) المعنى: دعوني من النزاع والاختلاف الذي شرعتم فيه فالذي أنا فيه من مراقبة الله تعالى والتأهب للقائه, والفكر في ذلك خير مما أنتم فيه, أو فالذي أعانيه من كرامة الله تعالى الذي أعدها لي بعد فراق الدنيا خير مما أنا فيه من الحياة.. وقبل غير ذلك. انظر: فتح الباري 8/134, وشرح النووي.
(6) وأجيزوا الوفد: أي أعطوهم, والجائزة العطية, وهذا أمر منه صلّى الله عليه وسلّم بإجازة الوفود وضيافتهم وإكرامهم تطييباً لنفوسهم وترغيباً لغيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم, وإعانة لهم على سفرهم. انظر: فتح الباري 7/135 وشرح النووي.
(7) البخاري برقم 4431, 4432, ومسلم برقم 1637.
(8) فتح الباري 8/134.
(9) المرجع السابق 8/135.
(10) مسلم برقم 1634, البخاري برقم 2740, 4460, 5022.
(11) الفتح 9/67.(12/170)
وأمر عليه الصلاة والسلام وأوصى بإنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه, وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى أنه كان تجهيز جيش أسامة يوم السبت قبل موت النبي صلّى الله عليه وسلّم بيومين, وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم, فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر, ودعا أسامة وقال: ”سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل, فقد وليتك هذا الجيش...“ فبدأ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه في اليوم الثالث فعقد لأسامة لواء بيده فأخذه أسامة, وكان ممن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار, ثم اشتد برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: ”أنفذوا جيش أسامة“ فجهزه أبو بكر بعد أن استخلف فسار عشرين ليلة إلى الجهة التي أمر بها, وقتل قاتل أبيه ورجع الجيش سالماً وقد غنموا..“(1).
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثاً وأمَّر عليهم أسامة بن زيد فطعن بعض الناس في إمارته فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل, وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة(2) وإن كان لمن أحبِّ الناس إليَّ, وإنَّ هذا لمن أحبّ الناس إليَّ بعده“(3). وقد كان عُمْرُ أسامة رضي الله عنه حين توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم ثمان عشر سنة(4).
وأوصي صلّى الله عليه وسلّم بالصلاة وما مكلت الأيمان, فعن أنس رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت: ”الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم“ حتى جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغرغر صدره ولا يكاد يفيض بها لسانه“(5).
وعن علي رضي الله عنه قال: كان آخر كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم“(6).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة ومنها:
1 ـ وجوب إخراج المشركين من جزيرة العرب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى بذلك عند موته, وقد أخرجهم عمر رضي الله عنه في بداية خلافته, أما أبو بكر فقد انشغل بحروب الردة.
2 ـ إكرام الوفود وإعطاؤهم ضيافتهم كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى بذلك.
3 ـ وجوب العناية بكتاب الله حسّاً ومعنى: فيكرم, ويصان, ويتبع ما فيه في فيعمل بأوامره ويجتنب نواهيه, ويداوم على تلاوته, وتعلمه وتعليمه ونحو ذلك؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى به في عدة مناسبات, فدل ذلك على أهميته أهمية بالغة مع سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
4 ـ أهمية الصلاة؛ لأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ ولهذا أوصى بها النبي صلّى الله عليه وسلّم عند موته أثناء الغرغرة.
5 ـ القيام بحقوق المماليك والخدم ومن كان تحت الولاية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى بذلك فقال: ”الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم“.
6 ـ فضل أسامة بن زيد حيث أمَّره النبي صلّى الله عليه وسلّم على جيش عظيم فيه الكثير من المهاجرين والأنصار, وأوصى بإنفاذ جيشه(7).
7 ـ فضل أبي بكر حيث أنفذ وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جيش أسامة فبعثه؛ لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(8).
المبحث العاشر: اختياره صلّى الله عليه وسلّم الرفيق الأعلى
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخيَّر بين الدنيا والآخرة, فسمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بُحَّةٌ(9) [شديدة] يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}(10) قالت فظننته خير حينئذ(11).
__________
(1) انظر: فتح الباري 8/152, وسيرة ابن هشام 4/328.
(2) خليقاً: حقيقاً بها. النووي 15/205.
(3) البخاري 7/86, برقم 3730, 4250, 4468, 4469, 6627, 7187, ومسلم برقم 2426.
(4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 15/205.
(5) أحمد بلفظه 3/117, وإسناده صحيح, ورواه ابن ماجه 2/900, وانظر صحيح ابن ماجه 2/109.
(6) أخرجه ابن ماجه 2/901, وأحمد برقم 585, وانظر: صحيح ابن ماجه 2/109.
(7) انظر: فتح الباري 8/134 - 135 و9/67.
(8) سورة النور، الآية: 63.
(9) البُحةُ: غِلظٌ في الصوت. انظر: شرح النووي 15/219.
(10) سورة النساء، الآية: 69.
(11) البخاري برقم 4436, 4437, 4463, 4586، 6348, 6509, ومسلم برقم 2444.(12/171)
وفي رواية عنها رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو صحيح يقول: ”إنه لم يقبض نبي قط حتى يُرى مقعده من الجنة ثم يخيَّر“ قالت: فلما نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم(1) ورأسه على فخذي غُشِيَ عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصرهُ إلى السقف ثم قال: ”اللهم في الرفيق الأعلى“ فقلت: إذاً لا يختارنا, وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح, قالت: فكان آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”اللهم مع الرفيق الأعلى“(2). وقالت رضي الله عنها: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو مسند إليَّ ظهره يقول: ”اللهم اغفر لي وارحمني, وألحقني بالرفيق الأعلى“(3) وكان صلّى الله عليه وسلّم متصل بربه وراغباً فيما عنده, ومحبّاً للقائه, ومحبّاً لما يحبه سبحانه, ومن ذلك السواك؛ لأنه مطهرة للفم مرضاة للرب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي في بيتي, وفي يومي, وبين سحري(4), ونحري(5)، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته, دخل عليَّ عبد الرحمن [بن أبي بكر] وبيده السواك وأنا مسندة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [إلى صدري](6) فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك, فقلت: آخذه لك؟ ”فأشار برأسه أن نعم“ فتناولته فاشتد عليه, وقلتُ أُليّنه لك؟ ”فأشار برأسه أن نعم“ فلينته [وفي رواية: فقصمته, ثم مضغته(7) [وفي رواية فقضمته ونفضته وطيبته(8) ثم دفعته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستنَّ به(9) فما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استن استناناً قَطْ أحسن منه](10) وبين يديه ركوة(11) أو علبة(12) فيها ماء, فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ”لا إله إلا الله إن للموت سكرات“ ثم نصب يده فجعل يقول: ”في الرفيق الأعلى“ حتى قبض ومالت يده"(13) صلّى الله عليه وسلّم.
وقالت عائشة رضي الله عنها: مات النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنه لبين حاقنتي(14) وذاقنتي(15), فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم(16).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ إن الرفيق الأعلى: هم الجماعة المذكورون في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}(17) فالصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم أن المراد بالرفيق الأعلى هم الأنبياء الساكنون أعلى عليين. ولفظة رفيق تطلق على الواحد والجمع؛ لقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}(18).
2 ـ إن النبي صلّى الله عليه وسلّم اختار الرفيق الأعلى حين خُيِّر حبّاً للقاء الله تعالى, ثم حبّاً للرفيق الأعلى، وهو الذي يقول صلّى الله عليه وسلّم: ”من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه“(19).
3 ـ فضل عائشة رضي الله عنها حيث نقلت العلم الكثير عنه صلّى الله عليه وسلّم, وقامت بخدمته حتى مات بين سحرها ونحرها؛ ولهذا قالت: ”إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي في بيتي وفي يومي, وبين سحري ونحري“.
4 ـ عناية النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسواك حتى وهو في أشد سكرات الموت, وهذا يدل على تأكد استحباب السواك؛ لأنه مطهرة للفم مرضاة للرب.
__________
(1) وفي البخاري ”فلما اشتكى وحضره القبض“ رقم 4437.
(2) البخاري برقم 4437, 4463 ومسلم 2444.
(3) البخاري برقم 4440, 5664.
(4) سحري: هو الصدر, وهو في الأصل: الرئة وما تعلق بها. الفتح 8/139, والنووي 15/218.
(5) ونحري: النحر هو موضع النحر. الفتح 8/139.
(6) في البخاري رقم 4438.
(7) في البخاري برقم 980.
(8) طيبته: بالماء, ويتحمل أن يكون تطييبه تأكيداً للينه, الفتح 8/139.
(9) أي استاك به وأمره على أسنانه.
(10) في البخاري برقم 4438.
(11) الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/260.
(12) شك بعض الرواة وهو عمر, انظر: الفتح 8/144.
(13) البخاري 2/377, برقم 890, وأخرجه البخاري في تسعة مواضع, انظر: 2/377, ومسلم برقم 2444.
(14) الحاقنة: ما سفل من الذقن وقيل غير ذلك, الفتح 8/139.
(15) والذاقنة: ما علا من الذقن وقيل غير ذلك, الفتح 8/139, والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة: هو ما بين السحر والنحر, والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها. الفتح 8/139.
(16) البخاري برقم 4446 , ومسلم برقم 2443.
(17) سورة النساء، الآية: 69.
(18) انظر: فتح الباري 8/138, وشرح النووي 15/219.
(19) البخاري برقم 6507, ومسلم برقم 2683.(12/172)
5 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في سكرات الموت: ”لا إله الله إن للموت سكرات“ وهو الذي قد حقق لا إله إلا الله, يدل على تأكُّدِ استحبابها والعناية بها والإكثار من قولها وخاصة في مرض الموت؛ لأن ”من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة“.
6 ـ حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على مرافقة الأنبياء ودعاؤه بذلك يدل على أن المسلم ينبغي له أن يسأل الله تعالى أن يجمعه بهؤلاء بعد الموت في جنات النعيم, اللهم اجعلنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
7 ـ شدة الموت وسكراته العظيمة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فما بالنا بغيره.
المبحث الحادي عشر: موت النبي صلّى الله عليه وسلّم شهيداً
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في مرضه الذي مات فيه: ”يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام(1) الذي أكلت بخيبر(2), فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَري(3) من ذلك السم“(4).
وقد عاش صلّى الله عليه وسلّم بعد أكله من الشاة المسمومة بخيبر ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي قُبض فيه(5) وقد ذُكِرَ أن المرأة التي أعطته الشاة المسمومة أسلمت حينما قالت: من أخبرك؛ فأخبر صلّى الله عليه وسلّم أن الشاة المسمومة أخبرته, وأسلمت وعفى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولاً ثم قتلها بعد ذلك قصاصاً ببشر بن البراءة بعد أن مات رضي الله عنه(6) وقد ثبت الحديث متصلاً أن سبب موته صلّى الله عليه وسلّم هو السم, فعن أبي سلمة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبل ولا يأكل الصدقة فأهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية سمَّتها, فأكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها وأكل القول فقال: ”ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة“ فمات بشر بن البراء معرور الأنصاري, فأرسل إلى اليهودية: ”ما حملك على الذي صنعت“؟ قالت: إن كنت نبيّاً لم يضرك الذي صنعت, وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك ”فأمر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقتلت“ ثم قال في وجعه الذي مات فيه: ”ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري“(7). وقالت أم بشر للنبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي مات فيه: ما يتهم بك يا رسول الله؟ فإني لا أتهم بابني إلا الشاة المسمومة التي أكل معك بخيبر. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”وأنا لا أنهم بنفسي إلا ذلك فهذا أوان انقطاع أبهري“(8).
وقد جزم ابن كثير رحمه الله تعالى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مات شهيداً(9), ونقل: ”وإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة“(10). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لئن أحلف تسعاً أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتل قتلاً أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل, وذلك؛ لأن الله اتخذه نبيّاً واتخذه شهيداً“(11).
__________
(1) ما أزال أجد ألم لطعام: أي أحس الألم في جوفي بسبب الطعام. الفتح 8/131.
(2) وذلك أنه عندما فتح خيبر أُهديت له صلّى الله عليه وسلّم شاة مشوية فيها سم, وكانت المرأة اليهودية سألت: أي عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل لها الذراع فأكثرت فيها من السم, فلما تناول الذراع لاك منها مضغة ولم يسغها, وأكل معه بشر بن البراء فأساع لقمته, ومات منها, وقال لأصحابه: أمسكوا عنها فإنها مسمومة, وقال لها: ما حملك على ذلك؟ فقالت: أردت إن كنت نبيّاً فيطلعك الله, وإن كنت كاذباً فأريح الناس منك... انظر: فتح الباري 7/197, والقصة في البخاري برقم 3169, و4249, 5777, والبداية والنهاية لابن كثير 4/208.
(3) الأبهر عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه. الفتح 8/131.
(4) البخاري مع الفتح 8/131 برقم 4428 وقد وصله الحاكم والإسماعيلي. انظر: الفتح 8/131.
(5) انظر: الفتح 8/131 فقد ساق آثاراً موصولة عند الحاكم وابن سعد. الفتح 8/131.
(6) انظر: التفصيل في ففتح الباري 7/497, والبداية والنهاية لابن كثير 4/208- 212.
(7) أبو داود برقم 4512, وقال الألباني: حسن صحيح. انظر: صحيح سنن أبي داود 3/855.
(8) أبو داود برقم 4513 وصحح إسناده الألباني. انظر: صحيح سنن أبي داود 3/855.
(9) انظر: البداية والنهاية 4/210 و211 و4/210 – 212 و5/223 – 244.
(10) انظر: المرجع السابق 4/211.
(11) ذكره ابن كثير وعزاه بإسناده إلى البيهقي. انظر: البداية والنهاية 5/227.(12/173)
وعن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كان يصلي بهم في وجع النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي توفي فيه حتى إذا كلن يوم الاثنين وهم صفوف [في صلاة الفجر] ففجأهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد كشف سِترَ حجرةِ عائشة رضي الله عنها [وهم في صفوف الصلاة] وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف(1) ثم تبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحك [وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً] [برؤية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] [فنكص(2) أبو بكر رضي الله عنه على عقبيه ليصل الصف, وظنَّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خارج إلى الصلاة] [فأشار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [بيده] أن أتموا صلاتكم [ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] [الحجرة] وأرخى الستر فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يومه ذلك.
وفي رواية: [وتوفي من آخر ذلك اليوم](3). وفي رواية: [لم يخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثاً](4). فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم, فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجاب فرفعه فلما وضح وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم حين وضح لنا, فأومأ النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى النبي صلّى الله عليه وسلّم الحجاب فلم يُقدر عليه حتى مات(5).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ موت النبي صلّى الله عليه وسلّم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى شهيداً؛ لأن الله اتخذه نبيّاً واتخذه شهيداً صلّى الله عليه وسلّم.
2 ـ عداوة اليهود للإسلام وأهله ظاهرة من قديم الزمان فهم أعداء الله ورسله.
3 ـ عدم انتقام النبي صلّى الله عليه وسلّم لنفسه, بل يعفو ويصفح؛ ولهذا لم يعاقب من سمَّت الشاة المصلية, ولكنها قُتِلتْ بعد ذلك قصاصاً ببشر بن البراء بعد أن مات بِصُنعها.
4 ـ معجزة من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم وهي أن لحم الشاة المصلية نطق وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه مسموم.
5 ـ فضل الله تعالى على عباده أنه لم يقبض نبيهم إلا بعد أن أكمل به الدين وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
6 ـ محبة الصحابة رضي الله عنهم لنبيهم صلّى الله عليه وسلّم حتى أنهم فرحوا فرحاً عظيماً عندما كشف الستر في صباح يوم الاثنين وهو ينظر إليهم وصلاتهم فأدخل الله بذلك السرور في قلبه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه ناصح لأمته يحب لهم الخير؛ ولهذا ابتسم وهو في شدة المرض فرحاً وسروراً بعملهم المبارك.
المبحث الثاني عشر: من يعبد الله فإن الله حي لا يموت
قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(6). {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}(7). {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}(8). {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}(9).
مات محمد بن عبد الله أفضل الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليه وسلّم وكان آخر كلمة تكلم بها عند الغرغرة كما قالت عائشة رضي الله عنها: أنه كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء, فجعل يدخل يده صلّى الله عليه وسلّم في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ”لا إله إلا الله إن للموت سكرات“ ثم نصب يده فجعل يقول: ”في الرفيق الأعلى“ حتى قبض ومالت يده(10). فكان آخر كلمة تكلم بها: ”اللهم في الرفيق الأعلى“(11).
__________
(1) كأن وجهه ورقة مصحف: عبارة وكناية عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته. شرح الأبي على صحيح مسلم 2/310.
(2) فنكص على عقبيه: أي رجع القهقرى فتأخر, لظنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج ليصلي بالناس, الفتح 2/165.
(3) وقد ذكر ابن إسحاق أنه صلّى الله عليه وسلّم مات حين اشتد الضحى, ويجمع بينهما بأن إطلاق الأخير بمعنى: ابتداء الدخول في أول النصف الثاني من النهار وذلك عند الزوال واشتداد الضحي يقع قبل الزوال ويستمر حتى يتحقق زوال الشمس, وقد جزم موسى بن عقبة عن ابن شهاب بأنه صلّى الله عليه وسلّم مات حين زاغت الشمس. الفتح 8/143 -144.
(4) ابتداء من صلاته بهم قاعد الخميس كما تقدم. انظر: فتح الباري 2/165, والبداية 5/235.
(5) البخاري برقم 608, 681, 754, 1205, 4448, ومسلم برقم 419 والألفاظ مقتبسة من جميع المواضع, وانظر: مختصر صحيح الإمام البخاري للألباني 1/174 برقم 374.
(6) سورة الزمر, الآية: 30.
(7) سورة الأنبياء, الآية: 34.
(8) سورة آل عمران, الآية: 185.
(9) سورة الرحمن, الآيتان: 26, 27.
(10) البخاري برقم 890 وما بعدها من المواضع, ومسلم 2444.(12/174)
(11) البخاري برقم 4437, 463, ومسلم 2444.
وعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات وأبو بكر بالسُّنح(1) فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قالت: وقال: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك, وليبعثنَّه الله فلقطع أيدي رجال وأرجلهم(2), فجاء أبو بكر رضي الله عنه [على فرسه من مسكنه بالسُّنْح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم(3) رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مغشَّى بثوب حِبرة(4) فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله(5) [ثم بكى] فقال: بأبي أنت وأمي [يا نبي الله] [طبت حيّاً وميتًا والذي نفسي بيده] [لا يجمع الله عليك موتتين](6) [أبداً] [أما الموتة التي كُتبت عليك قد مُتَّها] [ثم] [خرج وعمر رضي الله عنه يكلم الناس فقال: [أيها الحالف على رسلك] [اجلس] [فأبى فقال: اجلس فأبى] [فتشهد أبو بكر] [فلما تكلم أبو بكر جلس عمر] [ومال إليه الناس وتركوا عمر] [فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه] وقال: [أما بعد فمن كان منكم يعبد محمداً صلّى الله عليه وسلّم فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت, وقال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(7) وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(8) [فوا لله لكأن الناس لم يكونوا يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها [وأخبر سعيد بن المسيب] [أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت(9) حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد مات] [قال: ونشج الناس(10) يبكون, واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منَّا أمير ومنكم أمير(11), فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح, فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر , وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيَّأت كلاماً قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر. ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء, فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل منَّا أمير ومنكم أمير, فقال أبو بكر: لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء, هم أوسط العرب داراً وأعربهم أحساباً(12) فبايعوا عمر أو أبا عبيدة فقال عمر: بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس, فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة, فقال عمر: قتله الله(13).
__________
(1) السُّنح: العالية وهو مسكن زوجة أبي بكر رضي الله عنه وهو منازل بني الحارث من الخزرج بيته وبين المسجد النبوي ميل. الفتح 8/145 و7/19, 29.
(2) أي يبعثه في الدنيا ليقطع أيدي القائلين بموته. انظر: الفتح 7/29.
(3) أي قصد. الفتح 3/115.
(4) وفي رواية للبخاري: وهو مسجَّى ببرد حبرة. البخاري برقم 1241, ومعنى مغشى ومسجى أي مغطى, وبرد حبرة: نوع من برود اليمن مخططة غالية الثمن. الفتح 3/115.
(5) أي قبله بين عينيه كما ترجم له النسائي. انظر: الفتح 3/115, وانظر: ما نقله ابن حجر من الروايات في أنه قبل جبهته. الفتح 8/147.
(6) قوله: لا يجمع الله عليك موتتين: فيه أقوال: قيل هو على حقيقته وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال..؛ لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى.. وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها, وقيل أراد لا يموت موته أخرى في القبر كغيره إذ يحيا ليسئل ثم يموت, وهذا أحسن من الذي قبله؛ لأن حياته صلّى الله عليه وسلّم لا يعقبها موت بل يستمر حيّاً والأنبياء حياتهم برزخية لا تأكل أجسادهم الأرض, ولعل هذا هو الحكمة في تعريف الموتتين... أي المعروفتين المشهورتين الواقعتين لكل أحد غير الأنبياء. انظر: فتح الباري 3/114 و7/29.
(7) سورة الزمر، الآية: 30.
(8) سورة آل عمران, الآية: 144.
(9) عقِرت: دهشت وتحيرت, أما بضم العين فالمعنى هلكت. الفتح 8/146.
(10) نشج الناس: بكوا بغير انتحاب, والنشج ما يحصل للباكي من الغصة. انظر: الفتح 7/30.
(11) إنما قالت الأنصار رضي الله عنهم: منا أمير ومنكم أمير على ما عرفوه من عادة العرب أنه لا يتأمر على القبيلة إلا من يكون منها فلما سمعوا حديث الأئمة من قريش رجعوا إلى ذلك وأذعنوا. الفتح 7/32.
(12) أي قريش. انظر: الفتح 7/30.
(13) البخاري برقم 1141, 142, 3/113, و3667, 3668, 7/19 و4452, 4453, 4454, 8/145. وقد جمعت هذه الألفاظ من هذه المواضع لتكتمل القصة وأسأل لله أن يجعل ذلك صواباً.(12/175)
قالت عائشة رضي الله عنها: في شأن خطبة أبي بكر وعمر في يوم موت النبي صلّى الله عليه وسلّم: فما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها, فلقد خوَّف عمر الناس وإن فيهم لنفاقاً فردهم الله بذلك, ثم لقد بصَّر أبو بكر الناس الهُدى وعرَّفهم الحق الذي عليهم وخرجوا به يتلون {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(1). وخطب عمر ثم أبو بكر يوم الثلاثاء خطبة عظيمة مفيدة نفع الله بها والحمد لله.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر, وقام عمر فتكلم قبل أبي بكر, فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله, ثم قال: أيها الناس إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة(2) ما كانت وما وجدتها في كتاب الله, ولا كانت عهداً عهدها إليَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا – يقول: يكون آخرنا – وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله, فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له, وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, وثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه, فبايع الناس أبا بكر رضي الله عنه البيعة العامة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلم أبو بكر, فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: ”أما بعد, أيها الناس فإني وليت عليكم ولست بخيركم(3) فإن أحسنت فأعينوني, وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة, والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته(4) إن شاء الله, والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله, لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل, ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء, أطيعوني ما أطعت الله ورسوله, فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم, قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله“(5) ثم استمر الأمر لأبي بكر والحمد لله.
وقد بُعِثَ صلّى الله عليه وسلّم فبقي بمكة يدعو إلى التوحيد ثلاث عشرة سنة يُوحى إليه, ثم هاجر إلى المدينة وبقي بها عشر سنين, وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة صلى الله عليه وآله وسلم(6).
ورجح الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى أن آخر صلاة صلاها صلّى الله عليه وسلّم مع أصحابه رضي الله عنهم هي صلاة الظهر يوم الخميس, وقد انقطع عنهم عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة, والسبت, والأحد، وهذه ثلاثة أيام كوامل(7).
__________
(1) البخاري برقم 3669, 3671, والآية من سورة آل عمران, 144.
(2) هي خطبته التي خطب يوم الاثنين حينما قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يمت.
(3) وهذا من باب التواضع منه رضي الله عنه وإلا فهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم رضي الله عنه. البداية والنهاية 5/248.
(4) والمعنى: الضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له وأنصره وأعينه.
(5) البداية والنهاية 5/248 وساق سند بن إسحاق قال: حدثني الزهري, حدثني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر... الحديث. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح 5/248.
(6) انظر: البخاري مع الفتح 8/15 برقم 4466, وفتح الباري 8/151 مختصر الشمائل للترمذي للألباني ص192.
(7) انظر: البداية والنهاية لابن كثير, 5/235.
وبعد موته صلّى الله عليه وسلّم وخطبة أبي بكر رضي الله عنه دارت مشاورات – كما تقدم – وبايع الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في سقيفة بني ساعدة, وانشغل الصحابة ببيعة الصديق بقية يوم الاثنين, ويوم الثلاثاء, ثم شرعوا في تجهيز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(1) وغُسل من أعلى ثيابه, وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة, ثم صلى عليه الناس فرادى لم يؤمهم أحد, وهذا أمر مجمع عليه: صلى عليه الرجال, ثم الصبيان, ثم النساء, والعبيد والإماء, وتوفي يوم الاثنين على المشهور(2), ودفن ليلة الأربعاء, أُلحد لحداً صلّى الله عليه وسلّم ونصب عليه اللبن نصباً(3), ورُفع قبره من الأرض نحواً من شبر(4), وكان قبره صلّى الله عليه وسلّم مسنماً(5), وقد تواترت الأخبار أنه دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها شرقي مسجده صلّى الله عليه وسلّم في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة, ووسع المسجد النبوي الوليد بن عبد الملك عام 86هـ وقد كان نائبه بالمدينة عمر بن عبد العزيز فأمره بالتوسعة فوسعه حتى من ناحية الشرق فدخلت الحجرة النبوية فيه(6).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها:
1 ـ إن الأنبياء والرسل أحب الخلق إلى الله تعالى وقد ماتوا؛ لأنه لا يبقى على وجه الكون أحد من المخلوقات, وهذا يدل على أن الدنيا متاع زائل, ومتاع الغرور الذي لا يدوم, لا يبقى للإنسان من تعبه وماله إلا ما كان يبتغي به وجه الله تعالى, وما عدا ذلك يكون هباءً منثوراً.(12/176)
2 ـ حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون مع الرفيق الأعلى؛ ولهذا سأل الله تعالى ذلك مرات متعددة، وهذا يدل على عظم هذه المنازل لأنبيائه وأهل طاعته.
3 ـ استحباب تغطية الميت بعد تغميض عينيه, وشد لحييه؛ ولهذا سجِّي وغطي النبي صلّى الله عليه وسلّم بثوب حبرة.
4 ـ الدعاء للميت بعد موته؛ لأن الملائكة يؤمنون على ذلك؛ ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ”طبت حيّاً وميتاً“.
5 ـ إذا أصيب المسلم بمصيبة فليقل: ”إنا لله وإنا إليه راجعون, اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها“.
6 ـ جواز البكاء بالدمع والحزن بالقلب.
7 ـ النهي عن النياحة وشق الجيوب وحلق الشعر ونتفه والدعاء بدعوى الجاهلية وكل ذلك معلوم تحريمه بالأدلة الصحيحة.
8 ـ إن الرجل وإن كان عظيماً قد يفوته بعض الشيء ويكون الصواب مع غيره, وقد يخطئ سهواً ونسياناً.
9 ـ فضل أبي أبو بكر وعلمه وفقهه؛ ولهذا قال: ”من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت“.
10 ـ أدب عمر رضي الله عنه وأرضاه وحسن خلقه؛ ولهذا سكت عندما قام أبو بكر يخطب ولم يعارضه بل جلس يستمع مع الصحابة رضي الله عن الجميع.
11 ـ حكمة عمر العظيمة في فض النزاع في سقيفة بني ساعدة, وذلك أنه بادر فأخذ بيد أبي بكر فبايعه فانصب الناس وتتابعوا في مبايعة أبي بكر, وانفض النزاع والحمد لله تعالى.
12 ـ بلاغة أبي بكر فقد تكلم في السقيفة فأجاد وأفاد حتى قال عمر عنه: ”فتكلم أبلغ الناس“.
13 ـ قد نفع الله بخطبة عمر يوم موت البني صلّى الله عليه وسلّم قبل دخول أبي بكر فخاف المنافقون، ثم نفع الله بخطبة أبي بكر فعرف الناس الحق.
14 ـ ظهرت حكمة أبي بكر وحسن سياسته في خطبته يوم الثلاثاء بعد الوفاة النبوية, وبين أن الصدق أمانة والكذب خيانة, وأن الضعيف قوي عنده حتى يأخذ له الحق, والقوي ضعيف عنده حتى يأخذ منه الحق, وطالب الناس بالطاعة له إذا أطاع الله ورسوله, فإذا عصى الله ورسوله فلا طاعة لهم عليه.
15 ـ حكمة عمر رضي الله عنه وشجاعته العقلية والقلبية حيث خطب الناس قبل أبي بكر ورجع عن قوله بالأمس واعتذر, وشد من أزر أبي بكر، وبين أن أبا بكر صاحب رسول الله وأحب الناس إليه, وثاني اثنين إذ هما في الغار.
16 ـ استحباب بياض الكفن للميت, وأن يكون ثلاثة أثواب ليس فيها قمص ولا عمامة, وأن يلحد لحداً, وأن ينصب عليه اللبن نصباً, وأن يكون مسنماً بقدر شبر فقط.
المبحث الثالث عشر: مصيبة المسلمين بموته صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) انظر: المرجع السابق 5/245.
(2) توفي صلّى الله عليه وسلّم سنة إحدى عشرة للهجرة في ربيع الأول يوم الاثنين, أما تاريخ اليوم فقد اختلف فيه: فقيل لليلتين خلتا من ربيع الأول, وقيل لليلة خلت منه, وقيل غير ذلك, وقيل مرض في التاسع والعشرين من شهر صفر, وتوفي يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة , فكان مرضه ثلاثة عشر يوماً, وهذا قول الأكثر. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/255 – 256, وتهذيب السير للنووي ص 25, وفتح الباري 8/129-130.
(3) مسلم برقم 966.
(4) ابن حبان في صحيحه 14/602، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح.
(5) كما قال سفيان التمار في البخاري مع الفتح 30/255.
(6) انظر: البداية والنهاية 5/271-273، وفتح الباري 8/129-130.
من المعلوم يقيناً أن محبة النبي صلّى الله عليه وسلّم محبة كاملة من أعظم درجات الإيمان الصادق؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: ”لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده, ووالده, والناس أجمعين“(1). فإذا فقد الإنسان أهله, أو والده, أو ولده, لا شك أن هذه مصيبة عظيمة من مصائب الدنيا, فكيف إذا فقدهم كلَّهم جميعاً في وقت واحد؟
ولا شك أن مصيبة موت النبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم المصائب على المسلمين؛ ولهذا جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك, فعن عائشة رضي الله عنها قالت: فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باباً بينه وبين الناس, أو كشف ستراً فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر, فحمد الله على ما رآه من حسن حالهم, ورجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم, فقال: ”يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أُصيب بمصيبة فلْيتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحداً من أُمتي لن يُصاب بمصيبة أشدَّ عليه من مُصيبتي“(2).
وعن أنس رضي الله عنه قال: "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أضاء منها كل شيء(3), فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء, وما نفضنا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأيدي(4) وإنا لفي دفنه(5) حتى أنكرنا(6) قلوبنا"(7).(12/177)
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه – بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم – لعمر: انطلق بنا إلى أمِّ أيمن نزورها كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزورها، فلما انتهيا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ فما عند الله خير لرسوله صلّى الله عليه وسلّم. قالت: إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلّى الله عليه وسلّم, ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء, فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها(8).
وما أحسن ما قال القائل:
اصبر لكلِّ مصيبة وتجلد ... واعلم بأن المرء غير مخلَّد
فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستفاد هذا المبعث كثيرة, ومنها:
1 ـ موت النبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم مصيبة أصيب بها المسلمون.
2 ـ إنكار الصحابة قلوبهم بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لفراقهم نزول الوحي وانقطاعه من السماء.
3 ـ النبي صلّى الله عليه وسلّم أحب إلى المسلمين من النفس, والولد, والوالد, والناس أجمعين, وقد ظهر ذلك عند موته بين القريب والبعيد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم, بل وجميع المسلمين.
4 ـ محبة الصحابة للإقتداء والتأسي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كل شيء من أمور الدين حتى في زيارة النساء كبار السن, كما فعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
المبحث الرابع عشر: ميراثه صلّى الله عليه وسلّم
عن عمرو بن الحارث رضي الله عنه قال: "ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته: دِرْهماً, ولا ديناراً, ولا عبداً, ولا أمَةً, ولا شيئاً, إلا بغلته البيضاء [التي كان يركبها] وسلاحه, [وأرضاً بخيبر] جعلها [لابن السبيل] صدقة"(9). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ديناراً، ولا درهماً، ولا شاة، ولا بعيراً، ولا أوصى بشيء(10)"(11).
__________
(1) البخاري مع الفتح 1/58 برقم 5, ومسلم 1/67.
(2) أخرجه ابن ماجه برقم 1599, وغيره وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 1/267, والأحاديث الصحيحة برقم 1106, وانظر: البداية والنهاية 5/276.
(3) أضاء منها كل شيء: أشرق من المدينة كل شيء. انظر: تحفة الأحوذي 10/87.
(4) وما نفضنا: من النفض: وهو تحريك الشيء ليزول ما عليه من التراب والغبار ونحوهما. انظر تحفة الحوذي 10/88.
(5) وإنا لفي دفنه: أي مشغولون بدفنه بعد. انظر: تحفة الحوذي 10/88.
(6) حتى أنكرنا قلوبنا: يريد أنهم لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه من الصفاء والألفة لانقطاع مادة الوحي وفقدان ما كان يمدهم من الرسول صلّى الله عليه وسلّم من التأييد والتعليم, ولم يرد أنهم لم يجدوها على ما كانت عليه من التصديق؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم أكمل الناس إيماناً وتصديقاً. انظر: تحفة الحوذي 10/88.
(7) الترمذي وصححه 5/589, وأحمد 3/68, وابن ماجه برقم 1631, وقال ابن كثير في البداية والنهاية: إسناده صحيح على شرط الصحيحين 5/274, وانظر: صحيح ابن ماجه 1/273.
(8) مسلم برقم 2454, وابن ماجه برقم 1635, واللفظ من المصدرين. وانظر: شرحه في النووي 16/242.
(9) البخاري 5/356, برقم 2739, 2873, 2912, 3098، 4461, واللفظ من هذه المواضع.
(10) مسلم برقم 1635.
(11) أي لم يوص بثلث ماله ولا غيره إذ لم له مال, أما أمور الدين فقد تقدم أنه أوصى بكتاب الله وسنه نبيه, وأهل بيته, وإخراج المشركين من جزيرة العرب, وبإجازة الوفد, والصلاة وملك اليمين وغير ذلك. انظر: شرح النووي 11/97.
وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”لا نورث ما تركنا فهو صدقة“(1) وذلك لأنه لم يبعث صلّى الله عليه وسلّم جابياً للأموال وخازناً إنما بعث هادياً, ومبشراًًً، ونذيراً, وداعياً إلى الله بإذنه, وسراجاً منيراً, وهذا هو شأن أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: ”إن العلماء ورثة الأنبياء, إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر“(2).
وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم ذلك, فعن سليمان بن مهران: بينما ابن مسعود رضي الله عنه يوماً معه نفر من أصحابه إذ مرّ أعرابي فقال: على ما اجتمع هؤلاء؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه: "على ميراث محمد صلّى الله عليه وسلّم يقسّمونه"(3).
فميراث النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الكتاب والسنة والعلم والاهتداء بهديه صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا توفي صلّى الله عليه وسلّم ولم يترك درهماً, ولا ديناراً, ولا عبداً, ولا أمة, ولا بعيراً, ولا شاة, ولا شيئاً, إلا بغلته وأرضاً جعلها صدقة لابن السبيل.(12/178)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير"(4). وهذا يبين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتقلل من الدنيا, ويستغني عن الناس؛ ولهذا لم يسأل الصحابة أموالهم أو يقترض منهم؛ لأن الصحابة لا يقبلون رهنه وربما لا يقبضوا منه الثمن, فعدل إلى معاملة اليهودي؛ لئلا يضيِّق على أحد من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم(5). وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يصيبه الجوع وهو حي؛ ولهذا يمر ويمضي الشهر والشهران وما أوقدت في أبيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار, قال عروة لعائشة رضي الله عن الجميع: ما كان يقيتكم؟ قالت: "الأسودان: التمر والماء..."(6). ومع هذا كان يقول صلّى الله عليه وسلّم: ”مالي وللدنيا ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها“(7).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة, ومنها:
1 ـ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا لجمع الأموال وإنما بعثوا لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور؛ لهذا لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
2 ـ زهد النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا وحطامها الفاني؛ وإنما هو كالركب الذي استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
3 ـ استغناء النبي صلّى الله عليه وسلّم عن سؤال الناس فهو يقترض ويرهن حتى لا يكلف لي أصحابه؛ ولهذا مات ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعاً من شعير.
4 ـ شدة الحال وقلة ما في اليد عند النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا يمضي الشهر والشهران ولم توقد في أبياته نار, وإنما كان يقيتهم الأسودان.
فصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار, وأسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا من أتباعه المخلصين, وأن يحشرنا في زمرته يوم الدين.
المبحث الخامس عشر: حقوقه صلّى الله عليه وسلّم على أمته
للنبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم حقوق على أمته وهي كثيرة, منها: الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم قولاً وفعلاً وتصديقه في كل ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم, وجوب طاعته والحذر من معصيته صلّى الله عليه وسلّم، ووجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه, وإنزاله منزلته صلّى الله عليه وسلّم بلا غلو ولا تقصير, واتباعه واتخاذه قدوة وأسوة في جميع الأمور, ومحبته أكثر من النفس, الأهل والمال والولد والناس جميعاً, واحترامه وتوقيره ونصر دينه والذب عن سنته صلّى الله عليه وسلّم, والصلاة عليه؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه: خلق آدم, وفيه النفخة, وفيه الصعقة, فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليَّ“ فقال رجل: يا رسول الله! كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يعني بليت. قال: ”إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء“(8).
__________
(1) البخاري في عدة مواضع من حديث عائشة ومالك بن أوس, وأبي بكر رضي الله عنهم, برقم 3093, 3712, 4036, 4240, 5358, 6726, و6727, 7305. ومسلم برقم 757, و1758, 1759, و1761, واللفظ لعائشة عند مسلم.
(2) أبو داود 3/317, والترمذي 5/49, وابن ماجه 1/80, وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/43.
(3) أخرجه الخطيب البغدادي بسنده في شرف أصحاب الحديث ص 45.
(4) البخاري برقم 2068 وكرره بفوائده في عشرة مواضع , ومسلم برقم 1603 , وانظر: جميعها في مختصر البخاري للألباني 2/21.
(5) انظر: شرح النووي 11/43.
(6) انظر: البخاري مع الفتح 11/283.
(7) أحمد 6/154 وقال ابن كثير في البداية والنهاية 5/284, وإسناده جيد, وأخرجه الترمذي وغيره, وانظر: الأحاديث الصحيحة برقم 439, وصحيح الترمذي 2/280.
(8) أبو داود 1/275, وابن ماجه 1/524, والنسائي 3/91, وصححه الألباني في صحيح النسائي 1/197.
وإليك هذه الحقوق بالتفصيل والإيجاز كالتالي:
1 ـ الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه فيما أتى به قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(1), {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(2), {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(3), {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا}(4), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به“(5).(12/179)
والإيمان به صلّى الله عليه وسلّم هو تصديق نبوته, وأن الله أرسله للجن والإنس, وتصديقه في جميع ما جاء به وقاله, ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان, بأنه رسول الله, فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة باللسان ثم تطبيق ذلك العمل بما جاء به تمَّ الإيمان به صلّى الله عليه وسلّم(6).
2 ـ وجوب طاعته صلّى الله عليه وسلّم والحذر من معصيته, فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتى به, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ}(7), {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(8), {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}(9), {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(10), {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(11), {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا}(12), {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(13).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله“(14), وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”كل الناس يدخل الجنة إلا من أبى, قالوا يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى“(15).
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له, وجُعِلَ رزقي تحت ظلِّ رمحي, وجُعِلَ الذِّلُّ والصَّغارُ على من خالف أمري, ومن تشبه بقول فهو منهم“(16).
3 ـ اتباعه صلّى الله عليه وسلّم واتخاذه قدوة في جميع الأمور والاقتداء بهديه, قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(17), {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(18), وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(19) فيجب السير على هديه والتزام سنته والحذر من مخالفته, قال صلّى الله عليه وسلّم: ”فمن رغب عن سنتي فليس مني“(20).
__________
(1) سورة التغابن, الآية: 8.
(2) سورة الأعراف, الآية: 158.
(3) سورة الحديد, الآية: 28.
(4) سورة الفتح, الآية: 13.
(5) مسلم 1/52.
(6) انظر: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم للقاضي عياض 2/539.
(7) سورة الأنفال, الآية: 20.
(8) سورة الحشر, الآية: 7.
(9) سورة النور, الآية: 54.
(10) سورة النور, الآية: 63.
(11) سورة الأحزاب, الآية: 71.
(12) سورة الأحزاب, الآية: 36.
(13) سورة النساء, الآيتان: 13, 14.
(14) البخاري مع الفتح 13/111 برقم 7137.
(15) البخاري مع الفتح 13/249 برقم 7280.
(16) أحمد في المسند 1/92, والبخاري مع الفتح معلقاً 6/98, وحسنه العلامة ابن باز, وانظر: صحيح الجامع 3/8.
(17) سورة آل عمران, الآية: 31.
(18) سورة الأحزاب, الآية: 21.
(19) سورة الأعراف, الآية: 158.
(20) البخاري مع الفتح 9/104 برقم 5063.(12/180)
4 ـ محبته صلّى الله عليه وسلّم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين, قال الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(1), وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين“(2). وقد ثبت في الحديث أن من ثواب محبته الاجتماع معه في الجنة وذلك عندما سأله رجل عن الساعة فقال: ”ما أعددت لها“؟ قال يا رسول الله ما أعددت لها كبير صيام, ولا صلاة, ولا صدقة, ولكني أحب الله ورسوله. قال: ”فأنت مع من أحببت“(3). قال أنس فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”فإنك مع من أحببت“, فأنا أحب الله ورسوله, وأبا بكر, وعمر. فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم(4).
ولما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك“, فقال له عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”الآن يا عمر“(5), وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”المرء مع من أحب“(6).
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً, وبالإسلام ديناً, وبمحمد رسولاً“(7).
وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان اللهُ ورسولهُ أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار“(8).
ولاشك أن من وفَّقه الله تعالى لذلك ذاق طعم الإيمان ووجد حلاوته, فيستلذ الطاعة ويتحمل المشاقة في رضى الله عز وجل ورسوله صلّى الله عليه وسلّم, ولا يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه رضي به رسولاً, وأحبه، ومن أحبه من قلبه صدقاً أطاعه صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا قال القائل:
تعصي الإله وأنت تُظْهر حُبَّهُ ... هذا لعمري في القياسِ بديعُ
لو كان حُبَّكَ صادقاً لأطعته ... إن المُحبَّ لمن يُحِبُّ مُطيعُ(9)
وعلامات محبته صلّى الله عليه وسلّم تظهر في الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم, واتباع سنته, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, والتأدب بآدابه, في الشدة والرخاء, وفي العسر واليسر, ولا شك أن من أحب شيئاً آثره, وآثر موافقته, وإلا لم يكن صادقاً في حبه ويكون مدّعياً(10).
ولا شك أن من علامات محبته: النصيحة له؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”الدين النصيحة“ قلنا لمن؟ قال: ”لله, ولكتابه, ولرسوله, ولأئمة المسلمين وعامتهم“(11), والنصيحة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: التصديق بنبوته, وطاعته فيما أمر به, واجتناب ما نهى عنه, ومُؤازرته, ونصرته وحمايته حياً وميتاً, وإحياء سنته والعمل بها وتعلمها, وتعليمها والذب عنها, ونشرها, والتخلق بأخلاقه الكريمة, وآدابه الجميلة(12).
5 ـ احترامه وتوقيره ونصرته كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}(13), {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(14), {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا}(15).
وحرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موته, وتوقيره لازم كحال حياته وذلك عند ذكر حديثه, وسنته, وسماع اسمه وسيرته, وتعلم سنته, والدعوة إليها, ونصرتها(16).
__________
(1) سورة التوبة, الآية: 24.
(2) البخاري مع الفتح 1/58 برقم 15, مسلم 1/67.
(3) البخاري مع الفتح 10/557 و13/131, ومسلم 4/2032.
(4) مسلم 4/2032.
(5) البخاري مع الفتح 11/523.
(6) البخاري مع الفتح 10/557.
(7) مسلم في صحيحه 1/62.
(8) البخاري مع الفتح 1/72, ومسلم 1/66 وتقدم تخريجه ص66.
(9) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم 2/549 و2/563.
(10) انظر: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم 2/571 –582.
(11) مسلم 1/74.
(12) الشفاء بتعريف حقوق المصطفي صلّى الله عليه وسلّم للقاضي حياض 2/582 -584.
(13) سورة الفتح, الآية: 9.
(14) سورة الحجرات, الآية: 1.
(15) سورة النور, الآية: 63.
(16) الشفاء 2/595 و612.(12/181)
6 ـ الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(1), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”.. من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً“(2), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تجعلوا بيوتكم قبوراً, ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم“(3), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليّ“(4), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”ما جاس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه, ولم يصلّوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة, فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم“(5), وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام“(6), وقال جبريل عليه السلام للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ”رغم أنف عبد – أو بَعُد – ذُكِرتَ عنده فلم يصلّ عليك“ فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”آمين“(7), وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”ما من أحد يسلّم عليَّ إلا ردّ الله عليَّ روحي حتى أردّ عليه السلام“(8).
* وللصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم مواطن كثيرة ذكر منها الإمام ابن القيم رحمه لله تعالى واحداً وأربعين موطناً منها على سبيل المثال: الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم عند دخول المسجد, وعند الخروج منه, وبعد إجابة المؤذن, وعند الإقامة, وعند الدعاء, وفي التشهد في الصلاة، وفي صلاة الجنازة، وفي الصباح والمساء، وفي يوم الجمعة, وعند اجتماع القوم قبل تفرقهم, وفي الخطب: كخطبتي صلاة الجمعة, وعند كتابة اسمه, وفي أثناء صلاة العيدين بين التكبيرات, وآخر دعاء القنوت, وعلى الصفا والمروة, وعند الوقوف على قبره, وعند الهم والشدائد وطلب المغفرة, وعقب الذنب إذا أراد أن يكفر عنه, وغير ذلك من المواطن التي ذكرها رحمه الله في كتابه(9).
ولو لم يرد في فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا حديث أنس رضي الله عنه لكفى ”من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات(10). [كتب الله له بها عشرة حسنات](11) وحط عنه بها عشر سيئات, ورفعه بها عشر درجات“(12).
7 ـ وجوب التحاكم إليه والرضي بحكمه صلّى الله عليه وسلّم، قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(13), {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}(14) ويكون التحاكم إلى سنته وشريعته بعده صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(1) سورة الأحزاب, الآية: 56.
(2) أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما 1/288.
(3) أبو داود 2/218, وأحمد 2/367, وانظر: صحيح أبي داود 1/383.
(4) الترمذي 5/551, وغيره, وانظر: صحيح الترمذي 3/177.
(5) الترمذي, وانظر: صحيح الترمذي 3/140.
(6) النسائي 3/43, وصححه الألباني في صحيح النسائي 1/274.
(7) ابن خزينة 3/192, وأحمد 2/254, وصححه الأرنؤوط في الأفهام.
(8) أخرجه أبو داود 2/218 برقم 2041, وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 1/283.
(9) راجع كتاب جلاء الأفهام في الصلاة واللام على خير الأنام صلّى الله عليه وسلّم للإمام ابن القيم رحمه لله تعالى.
(10) السياق يقتضي "و".
(11) هذه الزيادة من حديث طلحة في مسند أحمد 4/29.
(12) أحمد 3/261, وابن حبان الرقم 2390 (موارد), والحاكم 1/551، وصححه الأرنؤوط في تحقيقه لجلاء الأفهام ص 65.
(13) سورة النساء الآية: 59.
(14) سورة النساء, الآية: 65.(12/182)
8 ـ إنزاله مكانته صلّى الله عليه وسلّم بلا غلو ولا تقصير فهو عبد لله ورسوله, وهو أفضل الأنبياء والمرسلين, وهو سيد الأولين والآخرين, وهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود, ولكنه مع ذلك بشر لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله كما قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}(1), وقال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(2), {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا، قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا}(3), وقد مات صلّى الله عليه وسلّم كغيره من الأنبياء ولكن دينه باقٍ إلى يوم القيام {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}(4), {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}(5), وبهذا يعلم أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}(6).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
المقدمة
المبحث الأول: خلاصة نسبه وولادته ووظيفته صلّى الله عليه وسلّم
- الدروس والعبر
المبحث الثاني: اجتهاده وجهاده صلّى الله عليه وسلّم وأخلاقه
كان صلّى الله عليه وسلّم أسوة لكل مسلم
صلاته صلّى الله عليه وسلّم
صومه صلّى الله عليه وسلّم
صدقته صلّى الله عليه وسلّم
جهاده صلّى الله عليه وسلّم
معاملته صلّى الله عليه وسلّم
خلقه صلّى الله عليه وسلّم
زهده صلّى الله عليه وسلّم
ورعه صلّى الله عليه وسلّم
توسطه صلّى الله عليه وسلّم
- الدروس والعبر
المبحث الثالث: خير أعماله خواتمها
- الدروس والعبر
المبحث الرابع: وداعه لأمته صلّى الله عليه وسلّم ووصاياه في حجة الوداع
أذانه في الناس بالحج
وداعه ووصاياه لأمته في عرفات
وداعه ووصاياه لأمته عند الجمرات
وداعه ووصيته لمته يوم النحر
وداعه ووصيته لأمته في أوسط أيام التشريق
- الدروس والعبر
المبحث الخامس: توديعه للأحياء والأموات
- الدروس العبر
المبحث السادس: بداية مرضه وأمره لأبي بكر أن يصلي بالناس
- الدروس والعبر
المبحث السابع: خطبته العظيمة ووصاياه للناس
- الدروس والعبر
المبحث الثامن: اشتداد مرضه ووداعه ووصيته في تلك الشدة
- الدروس العبر
المبحث التاسع: وصاياه صلّى الله عليه وسلّم عند وفاته
- الدروس العبر
المبحث العاشر: اختياره للرفيق الأعلى
- الدروس العبر
المبحث الحادي عشر: موته شهيداً صلّى الله عليه وسلّم
- الدروس والعبر
المبحث الثاني عشر: من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت
- الدروس والعبر
المبحث الثالث عشر: مصيبة المسلمين بموته صلّى الله عليه وسلّم
- الدروس العبر
المبحث الربع: ميراثه صلّى الله عليه وسلّم
- الدروس العبر
المبحث الخامس: حقوقه على أمته صلّى الله عليه وسلّم
الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم
وجوب طاعته صلّى الله عليه وسلّم والحذر من معصيته
اتباعه واتخاذه قدوة صلّى الله عليه وسلّم
محبته صلّى الله عليه وسلّم أكثر من الأهل والولد والوالد
احترامه وتوقيره ونصرته صلّى الله عليه وسلّم
الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم
وجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه صلّى الله عليه وسلّم
إنزاله مكانته بلا غلو ولا تقصير صلّى الله عليه وسلّم
الفهرس
__________
(1) سورة الأنعام, الآية: 50.
(2) سورة الأعراف, الآية: 188.
(3) سورة الجن, الآيتان: 21، 22.
(4) سورة الزمر, الآية: 30.
(5) سورة الأنبياء, الآيتان: 34, 35.
(6) سورة الأنعام, الآيتان: 162, 163.
===========================
وسائلُ الدِّفاعِ عن رَسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم
أ . د . مسفر بن غرم الله الدميني
من المعلوم أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمان، وبغضه كفر ونفاق، وقد قال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[لأعراف: من الآية158] وعَنْ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" متفق عليه.(12/183)
إن الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوجب علينا أموراً كثيرة منها: اتّباعه، والدعوة إلى سنته، ومحبته، والدفاع عنه في حياته، وبعد مماته، وقد أغضب المسلمين جميعاً ما أوردته جريدة (جلاندز بوستن) الدانمركية من رسومات لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، تصفه بالعنف والإرهاب، ومنها يظهر عداؤهم لهذا الدين وأهله، واحتقارهم للمسلمين أجمعين ، وقد قام كثير من العلماء وطلبة العلم والتجار والغيورين على دينهم ونبيهم وأمتهم كلٌ فيما يقدر عليه، ورأيت أن أدلي بدلوي في الذبّ عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم – بأبي هو وأمي – كيف لا وأهل الحديث هم أولى الناس به، وأقربهم صلة بكلامه وهديه، وأعلمهم بسيرته وشخصيته، لذا رأيت أن أضع يدي على أيديهم، وأضم جهدي إلى جهودهم، وأن أقوم ببيان ما يلزم عموم المسلمين في جميع أنحاء العالم دون تحديد للدفاع عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما ينبغي لهم فعله حيال هذا الأمر الجلل، وقد رأيت أن عملية الدفاع عنه ينبغي أن تسير في اتجاهين متوازيين:
أحدهما: متعلق بدولة الدنمرك؛ للحكومة والجريدة، وللشركات والمؤسسات.
والثاني: متعلق بالمسلمين من ولاة، وعلماء، ودعاة، وتجار، ووسائل إعلام، ولعموم الناس دون استثناء.
أما العمل المتعلق بدولة الدنمرك فيكون بأمور منها:
- إرسال الوفود إلى السفارات الدانمركية في جميع أنحاء العالم، ومقابلة السفير أو القنصل، أو أي مسؤول في السفارة، وإعلامه باستياء المسلمين واستنكارهم لهذا العمل، وتسليمه خطابات الاستنكار.
- إرسال برقيات وفاكسات وإيميلات الاستنكار إلى ديوان ملكتهم، وإلى وزارة الخارجية، والى السفارات الدنمركية، والى الجريدة التي نشرت الصور.
- إبلاغ شركاتهم بأن العالم الإسلامي كله سيقاطعها، كما سيقاطع منتجاتهم وصادراتهم بأنواعها...
- التعاون مع المسلمين في بلاد الدنمرك سواء الأصليين أو الوافدين والمهاجرين إليهم في أمور منها:
- البحث في أنظمتهم وقوانينهم لعل فيها ما يجرّم تلك الأفعال الشنيعة.
- رفع قضايا عليهم في محاكمهم، والاستعانة بالمحامين المتمكنين في بلدهم.
- الكتابة في صحفهم ببيان أثر تلك الصور، ومدى الاستياء والغضب الذي أحدثته في نفوس المسلمين، وأثره الكبير على شعبهم وشركاتهم واقتصادهم، وعلى مستقبل علاقاتهم مع العالم الإسلامي.
- إشعار مفكريهم وكتابهم وعقلائهم - وحتى رجل الشارع عندهم - أن تلك الصور والتهم التي وصفوا بها نبينا قد أغضبت عليهم أكثر من مليار مسلم، وأن هذا الغضب أمر طبعي؛ فلو كتب عن عيسى عليه السلام مثل ذلك فهل سيسكتون ويرضون؟ بل لو كتب عن ملكتهم أو رئيس وزرائهم مثل ذلك هل سيغضبون؟ أو يقولون إنها حرية شخصية!
- مقابلة رجال الدين عندهم - من رهبان وقسس وغيرهم - وإبلاغهم بخطورة هذه القضية وشناعتها، فلعل فيهم عقلاء، وأهل عدل وحق يدفع الله بهم مثل هذا الأمر.
- إقامة الندوات واللقاءات والمحاضرات للدفاع عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإبراز خصائصه ومزاياه، وتعريف الناس جميعاً بسيرته وبراءته مما نسبه إليه المبطلون.
أما العمل المتعلق بالمسلمين عموماً:
فقد رأيت أن يكون محور كلامي في الدفاع عنه هو "محبته" صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المقتضية لبذل المسلم ما في وسعه دفاعاً عن نبيه وحبيبه، سواء برد دعاوى الخصوم، أو شبه الأعداء، أو تحمل ما يستطيعه المرء منا من خسارة مال، أو ذهاب مصالح، أوترك مرغوبات أو محبوبات في سبيل إظهار محبتنا لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعوانا محبته واتّباعه تقتضي ذلك، وقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" متفق عليه، و بناءً على هذه المحبة أتوجه بكلامي هذا إلى كل مسلم في أرض الله الواسعة، ليس في السعودية أو في العالم العربي أو الإسلامي فحسب، بل في كل أصقاع المعمورة، وأخص به من كان والياً أو مسؤولاً أو تاجراً أو عاملاً أو مواطناً عادياً، كل بحسب موقعه، وعلى مبلغ وسعه وطاقته، وأبدأ أولاً بولاة الأمر في أنحاء العالم الإسلامي الذين أكرمهم الله بالولاية على المسلمين فأطلب إليهم أن يرسلوا برقيات الشجب والاستنكار - إلى حكومة الدنمرك – لهذه الرسومات الشنيعة، التي نشرتها جريدة (جلاندز بوستن) والتي تضمنت إهانة لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووصفاً له بما هو منه براء، وكذلك:
- طلب محاكمة من قام بذلك، وإنزال أشد العقوبات عليه، وأن تعتذر الصحيفة والحكومة للمسلمين عامة عما بدر منهم من إهانة لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و لأمة الإسلام قاطبة.(12/184)
- أن يبلغ ولاةُ أمر المسلمين سفاراتهم في الخارج بالاتصال بوزارة الخارجية الدانمركية وإبلاغها باستياء المسلمين من هذا الفعل الشنيع.
- حث الدول الإسلامية على قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدنمرك ما لم تعتذر تلك الصحيفة والدولة عن هذه الإساءة، وإلا على أقل تقدير يمكنهم سحب سفرائهم أو استدعاؤهم للمشاورة كما يقولون عادة.
- على جميع المنظمات والجمعيات والمجالس المختلفة في بلدان العالم الإسلامي أن تستنكر هذا الأمر علناً، وأن ترسل البرقيات والخطابات إلى المسؤولين في دولة الدنمرك.
- على العلماء أن يلقوا المحاضرات والدروس، ويعقدوا اللقاءات والمؤتمرات، ويبينوا للناس خطر التهاون بالرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الغضب لله ولرسوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مقتضيات الإيمان بالله ورسوله، وهو من النصح لله ولرسوله ولكتابه الذي قال فيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدين النصيحة".
- على وسائل الإعلام من صحف ومجلات، ومحطات فضائية متنوعة أن تقوم بواجبها في الدفاع عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأين استنكارها لهذا الحدث الأليم؟ وأين اللقاءات والمقابلات والبرامج التي تستنكر وتبين وتدافع عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
إنني أدعو كل المحطات الإذاعية والتلفازية، وكل الصحف والمجلات، والمواقع الإلكترونية أن تقوم بواجبها، وأن تظهر سخطها وغضبها على ما حصل من تلك الصحيفة، ماذا يكلفها هذا الأمر؟ إنهم إن فعلوا ذلك كانوا هم الرابحين في الدنيا، إن كانت الدنيا همهم، ففي طرح الموضوع شهرة ورواج لهم، و هم من الرابحين في الآخرة إن كان هدفهم الدفاع عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- وعلى عموم الناس أن يستنكروا هذا الأمر، ويخبروا به أولادهم وأهليهم، وأقرباءهم وذويهم، وأن تبدأ الحكومات والشعوب، والشركات والمؤسسات، والأفراد والجماعات كلهم جميعاً في مقاطعة كل المنتجات والشركات الدانمركية، فيمكننا أن نعيش من دونها، وكل ما أنتجوه مما هو في الأسواق له بديل أفضل منه، أو مثله أو أقل منه، وعلينا أن نستشعر أن مقاطعتنا لبضائعهم وشركاتهم وكل ما يفيدهم ما هو إلا حباً لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودفاعاً عنه وعن دينه وأمته.
ألا يهون علينا أن نترك بعض ما نشتهي حباً وإكراماً لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
هل لا بد أن نشرب حليب (النيدو) أو (أنكور) وليس غيره من أنواع الحليب؟
وهل لا بد أن نأكل زبدة (لورباك) وليس أي زبدة أخرى وطنية أو مستوردة؟
وهل حب هذه المنتجات أعظم عندنا من حب رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
لك أن توازن – أخي المسلم - بين حب هذه المرغوبات وبين حب رسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وبعدها تقيس إيمانك وتقواك ومحبتك لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فترى أيها أمكن في نفسك؟ وأيها أغلى وأعظم عندك؟
لقد راجعت أسماء كل الأطعمة والمنتجات المستوردة من دولة الدنمرك فوجدت لكل منها بديلاً عنه، بل بدائل كثيرة متنوعة، وربما كان أكثرها خيراً منها، ومع ذلك فلا بد أن نصبر عن شيء مما نشتهيه إكراماً لمن ندّعي أنه عندنا أحب إلينا من أنفسنا ومن أهلينا ومن الناس أجمعين.
أن المقاطعة لمنتجاتهم من الحرية التي قالتها محكمتهم في أن الصحيفة حرة في نشر ما تراه، وكذلك نحن أحرار أيضاً في مقاطعة ما نشاء من البضائع والمنتجات والشركات والأعمال ...فالحرية مكفولة للجميع، ولكن:
هل نحن أحرار في سب أنبيائهم وملوكهم ورؤسائهم؟
الجواب: لا
ليس لنا أن نسب أنبياءهم ورسلهم؛ لأن الله تعالى أوجب علينا الإيمان بأنبيائهم ومحبتهم، بل جعله من تمام الإيمان بالله تعالى، وذلك أن جبريل لما سأل رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان قال له: "الْإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ" وموسى وعيسى من رسل الله وأنبيائه.
وليس لنا أيضاً أن نسب ملوكهم وكبارهم لأن الله تعالى يقول: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:108].(12/185)
فنحن نربأ بهم أن يقولوا أو يقروا مثل هذا عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي جاء بالإسلام، والسلام، ولقد كان أرحم الخلق بالخلق، وقد وصفه الله بذلك فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]. وكان من خلقه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدم السب أو الشتم، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا لَعَّانًا وَلَا سَبَّابًا..."
وَكَانَ يَقُولُ: "إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا" فهل من حسن الخلق أن تسب وتشتم، أو أن تتهم غيرك بما ليس فيه؟
إن من حسن الخلق الذي أوصانا به نبينا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نحسن إلى من أساء إلينا، وأن نعفو عمن ظلمنا، ففي الحديث الصحيح عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله تعالى عنه أنه قال له: "صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ".
وإذا لم يكن لنا أن نسب أو أن نشتم من سبنا وشتمنا فليس لنا أيضاً أن نعتدي عليه، أو أن نظلمه أو نسلبه حقاً من حقوقه، بل أمرنا الله تعالى بالعدل والقسط حتى مع الأعداء، ونهانا عن الظلم والجور، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8].
فعلينا أن نلتزم بالحق والعدل، وأن لا يحملنا ظلم أولئك واعتداؤهم على نبينا أن نظلمهم أو أن نعتدي عليهم لا بالقول ولا بالفعل.
وأخيراً يمكننا أن نستثمر هذه القضية في صالح الإسلام والمسلمين، وذلك بالتعريف به، وإظهار محاسن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفته ورحمته بالخلق، والتأكيد على أن دين الإسلام دين الرحمة والمحبة والسلام، ليس إرهاباً ولا عنفاً ولا تطرفاً، بل دين وسط واعتدال، لا يجبر أحداً على الدخول فيه، ولا يُظلم في ظله أحد أو يُعتدى عليه، بل يحكم فيه بالعدل والقسط حتى مع الأعداء.
وبعد هذا كله علينا أن لا نيأس من جدوى مقاطعتنا لبضائعهم ومنتجاتهم، سواء استجابوا لمطالبنا، وقدموا الصحيفة لمحاكمة عادلة، تنصفنا منهم وتلزمهم بالاعتذار إلى المسلمين كافة، أو لم يفعلوا، فيكفينا أننا انتصرنا لرسولنا، وتبرّأنا منهم ومن عملهم، ورددنا كيدهم في نحورهم، وقمنا بما يمكننا عمله، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
هذا ما تيسر ذكره في هذا المقام، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
=====================
وقاحة أم حرية تعبير ؟؟
الكاتب: نبيه بن رشيد الصباغ
بسم الله و الحمد لله و لا اله إلا الله. الحمد لله حتى يرضى, و الحمد لله إذا رضي و الحمد لله بعد الرضى, و الصلاة و السلام على أكرم المرسلين, و رحمة الله للعالمين, سيدنا محمد ابن عبد الله , سيد ولد آدم و لا فخر, و خير من وطئت قدمه هذه الأرض و على آله و أصحابه و أزواجه و من تبعهم بإحسان الى يوم الدين.
تداولت الأوساط الإعلامية مؤخرا, خبرا مفاده أن إحدى المجلات الدانمركية المغمورة قد نشرت رسوماً إنتقادية لرسول الله صلى الله عليه و سلم و الغرض منها هو التهكم و السخرية من شخص هذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم إذ صورته هذه الرسومات بأنه رجل أشعث أغبر يأتزر بحزام من المتفجرات الناسفة و من خلفه إمرأتان منتقبتان, و هم إذ يتعمدون بذلك التهكم على شخص نبينا الكريم صلوات ربي عليه و التهكم على ديننا الحنيف متهمين هذا الدين الذي ارتضاه الله للبشر أجمعين بأنه دين إرهاب و ظلم للنساء في المعاملة لكونها تأتي خلف الرجل و للسخرية من النقاب الذي هو لباس المسلمات الذي صانهن و حفظهن من الأذى.
لعل من ينظر إلى هذا الحدث بتجرد, قد ينطلي عليه ما أصدرته الحكومة الدانمركية من إعلانات مفادها أن سبب نشر مثل هذه الرسومات, انما هو محاولة من الجريدة لزيادة نسبة مبيعاتها. و هذه التصريحات الصادرة عن الحكومة الدانمركية إنما هي محاولة بتراء لتجريد هذا التهكم من أي بعد عنصري أو ديني في محاولة لحصر اسباب النشر ضمن الدوافع الأقتصادية البحتة وة حرية التعبير الذي يضمنه قانون ذلك البلد. فنسأل هنا, أحرية التعبير في نظركم تسمح لكم بانتهاك حرمات الأخرين؟ أحرية التعبير تعطيكم الحق أن تتعدوا على مشاعر الأديان الأخرى؟؟ ألا تعلمون أن حرية الأصبع تتوقف عند عين الأخرين؟؟(12/186)
نحن نرى أن لهذا التهجم سبب أخر عدا تلك الأسباب الواهية التي سمعناها من الحكومة الدانمركية. السبب في نظرنا كما هو واضح للعيان إنما هو إستغضاب المسلمين و استفزازهم, و التصغير من شأنهم من خلال التصغير من شأن شخصية يحترمها و يكرمها و يتبعها كل مسلم على هذه الأرض ألا و هي شخصية رسولنا الكريم صلى الله عليه و سلم. أليس للمسلمين في نظركم أي حقوق انسانية يجب عليكم احترامها؟؟
قبل أن نحلل تبعيات هذا الحدث الجلل, و قبل أن نستعرض ردود الأفعال المتباينة عليه, لا بد لنا ان ننظر في مسببات هكذا حدث و هطذا تهجم. ما الذي خطر لهؤلاء الجهلة و ما الذي دفعهم ليتناولوا رسولنا الكريم صلى الله عليه و سلم بهذه الطريقة المهينة؟؟ و من أين جاءوا بهذا التجرؤ الوقح على شخصية رسولنا الكريم صلى الله عليه و سلم بالرغم من معرفتهم المسبقة بأن كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم و طوائفهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه و سلم بأنه رسول من عند الله فاتبعوه؟ أما نحن المسلمون, الذين يسر الله لنا أن نطلع على معتقدات هولاء المنصرين و كتبهم المقدسة, نرى أن هذا التجرؤ السافر ليس بجدبد عليهم, لما ورد في كتابهم المقدس من إهانات و تجرؤ على الأنبياء السابقين الذين نبجلهم و نحترمهم بدورنا لكوننا مسلمين نؤمن بكل الرسل. لهذا, فإن هؤلاء المرتزقة المأجورون لا يرون أي مانع أخلاقي من أن يتهكموا و يتطاولوا على أي نبي أرسله الله عز و علا إلى هذه البشرية , لا بل إن تطاولهم تعدى شخوص الأنبياء و الرسل و وصل الى درجة التعدي على الله و بلغت وقاحتهم أن ينسبوا الى الله صفات مهينة لجلاله. هؤلاء الجهلة الذين تجردوا من أي احترام لله عز و جل , فقد اتهموه بأنه رب يأمر احد انبيائه بالزنى كما جاء في كتابهم المقدس في سفر هوشع في الأصحاح الأول العدد الثاني : 1: 2(( اول ما كلم الرب هوشع قال الرب لهوشع اذهب خذ لنفسك امراة زنى و اولاد زنى لان الارض قد زنت زنى تاركة الرب )) . فهل يرضى أي عاقل بأن ينسب هذا الكلام الى خالق الأكوان و بارئها؟؟
أيقول عاقل مؤمن أن الله العليم عز و جل جاهل؟؟ هذا ما قالوه عن الله كما جاء على لسان رسولهم بولس, هذا الرسول الذي لا يعرف أحد منهم نسبه حتى يومنا هذا, فقد قال رسولهم هذا في رسالته الأولى الى أهل كورنثيوس في الأصحاح الأول العدد الخامس و العشرين , كورنثوس 1:25(( لأن جهالة الله احكم من الناس . وضعف الله اقوى من الناس )) .
نعم, هذا هو الكلام الذي يقدسه هؤلاء الكفرة الذين تجرؤوا على أكرم خلق الله صلى الله عليه و سلم. إلى أي مدى وصل كفرهم و إلى أي حد وصلت وقاحتهم؟؟ لا بل لم يتوقف هؤلاء المنصرون الكذبة عند هذا الحد, بل إنهم أهانوا الله عز شأنه بقولهم أن الله قد تصارع مع النبي يعقوب عليه السلام فغلبه يعقوب و أبى أن يطلقه حتى يغفر له!!!! هذا العبد الضعيف, يغلب الله كما يؤمنون و يعتقدون و كما جاء في التكوين ( الإصحاح 32-23 ) (( فبقى يعقوب وحده , وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر . ولما رأى أنه لا يقدر عليه - أي لايقدر على يعقوب - ضرب حُق فخذه - أي فخذ يعقوب - فأنخلع حُق فخذ يعقوب في مصارعته معه . وقال الرب : أطلقني , لأنه قد طلع الفجر , فقال يعقوب : لا أطلقك إن لم تباركني , فقال له -الرب - : ما اسمك ؟ فقال : يعقوب . فقال - الرب - : لايدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل لأنك جاهدت - أي صارعت - مع الله والناس فقدرت .. وقال يعقوب : أخبرني باسمك ؟ فقال الرب : لماذا تسأل عن أسمي ؟ وباركه هناك . فدعا يعقوب اسم المكان فينئيل قائلا : لأني نظرب الله وجها لوجه ونجيت نفسي )) . الرب عندهم أيضا ليس بقوي. أهانوه عندما قالوا عنه في سفر الخروج في الأصحاح الحادي و الثلاثين في العدد السابع عشر أن الله تعب و استراح. الخروج 31 :17 ((هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلاَمَةٌ إِلَى الأَبَدِ لأَنَّهُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ اسْتَرَاحَ وَتَنَفَّس)), بينما نؤمن نحن المسلمون أن الله قد خلق السموات و ألأرض و ما مسه من لغوب و هو أقل أنواع التعب كما نقرأ في سورة ق في قوله تعالى : ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ )) . أهكذا هو الله في نظركم أيها المنصرون؟؟(12/187)
إذا كان هؤلاء الكفرة قد سبوا الله و نسبوا إليه هذه الصفات المهينة التي لم نذكر لكم إلا القليل منها و ما خفي كان أعظم, فهل تردعهم أية أخلاق أو أي احترام من أن يتطاولوا على أنبياء الله و هم بشر؟؟ هل تدرون أيها الأعزاء العقلاء ماذا يقول كتاب النصارى و اليهود عن سيدنا نوح عليه السلام؟؟ أتعلمون أن نوحاً كان سكيراً و لعاناً في نظرهم؟؟ نعم. هذا ما نقرأه في سفر التكوين في الأصحاح التاسع و العدد الرابع و العشرين, تكوين ((9 : 24 فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير25 فقال ملعون كنعان عبد العبيد يكون لاخوته)). أهكذا يكون رجال الله الذين اختارهم لهداية البشرية و حمل كلامه الى الناس؟؟ هل تصدقون أن نبي الله لوط عليه السلام قد تم اغتصابه حسب زعمهم و كذبهم؟؟ نعم, لقد تم اغتصاب هذا النبي, و ممن؟؟ من ابنتيه التين سقتا ابيهما خمرا فسكر و زنتا معه كما جاء في سفر التكون في الأصحاح التاسع عشر, تكوين 19 : ((30 و صعد لوط من صوغر و سكن في الجبل و ابنتاه معه لانه خاف ان يسكن في صوغر فسكن في المغارة هو و ابنتاه 31 و قالت البكر للصغيرة ابونا قد شاخ و ليس في الارض رجل ليدخل علينا كعادة كل الارض 32 هلم نسقي ابانا خمرا و نضطجع معه فنحيي من ابينا نسلا 33 فسقتا اباهما خمرا في تلك الليلة و دخلت البكر و اضطجعت مع ابيها و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها 34 و حدث في الغد ان البكر قالت للصغيرة اني قد اضطجعت البارحة مع ابي نسقيه خمرا الليلة ايضا فادخلي اضطجعي معه فنحيي من ابينا نسلا 35 فسقتا اباهما خمرا في تلك الليلة ايضا و قامت الصغيرة و اضطجعت معه و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها 36 فحبلت ابنتا لوط من ابيهما )) أبعد هذا الكفر كفر أيها المنصرون؟؟
إن كل هذه التهم التي يطلقها هؤلاء المنصرون على أنبيائهم أنما تنبعث من خلفية جنسية شهوانية تدل على توجه هؤلاء الكفرة السفهاء. فمثلا إذا اراد الرب أن يعطي آية للناس فإنه يأمر نبيه أشعياء أن يمشي عاريا كاشفا لعورته لمدة ثلاثة سنوات كما نقرأ في سفر أشعياء الذي هو من الكتب المقدسة عندهم بل و يتفاخرون ان هذا هو كلام الله. فهل لله أن يأمر نبيا اصطفاه بأن يتعرى أمام الناس؟ سفر أشعياء 20 : (( 2 في ذلك الوقت تكلم الرب عن يد اشعياء بن اموص قائلا اذهب و حل المسح عن حقويك و اخلع حذاءك عن رجليك ففعل هكذا و مشى معرى و حافيا 3 فقال الرب كما مشى عبدي اشعياء معرى و حافيا ثلاث سنين اية و اعجوبة على مصر و على كوش 4 هكذا يسوق ملك اشور سبي مصر و جلاء كوش الفتيان و الشيوخ عراة و حفاة و مكشوفي الاستاه خزيا لمصر)). أهذا هو الله و هؤلاء هم الأنبياء عندهم؟؟ إذا فإنه ليس بغريب عليهم أن يتطاولوا على شخص رسولنا الكريم صلوات ربي عليه و على إخوانه من الأنبياء. أذكر في هذا المقام المثل المصري الشعبي الذي يقول: إذا جاء العيب من أهل العيب فلا يكون ذلك عيبا. هذا بالأضافة الى كذب هؤلاء المنصرين و اتخاذهم شتى الوسائل و المغريات لجذب الناس الى دينهم و معتقدهم, تارة بادعاء المحبة و المودة, و تارة ببذل المال بسخاء على ضحاياهم و لم يتورعوا عن اغراء من يعاديهم إما بالمال و إما بالنساء و ما خفي كان أعظم, و ذلك لأنهم يريدون أن يطفئوا نور الله فيرد الله عليهم بقوله: ((يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )) ( التوبة 32 ).
أما المشكلة في هذا الموضوع فليس السؤال لماذا تهجم هؤلاء الكفرة على رسولنا الكريم خاصة بعد أن اطلعنا على بعض ما ينسبونه لأنبيائهم, إنما السؤال الذي يطرح نفسه, يا من تدعون حبا لله و رسوله, ماذا ستفعلون و قد أهين رسولكم صلى الله عليه و سلم, و أهين الأنبياء جميعا, بل إن تطاولهم قد نال من الله جل و علا؟؟ أنقف مكتوفي الأيدي مرددين الشعارات و خطب الأستنكار أم نتحرك لنصرة ديننا و لنصرة رسولنا و كل الرسل الذين سبقوه صلوات ربي عليهم أجمعين؟؟ لا بد لنا من أخذ موقف و لا بد من أن نتحرك, و كما يقول الشاعر:
لا ينفع إن نحن بقينا *** ننتظر النصر ليأتينا
إن قمنا ننصر بارينا *** فسينصرنا الله
هذا هو الذي دعاني أن أكتب هذا الكلام, لأفضح معتقد هؤلاء الكفرة و لأبين للناس كيف ينظر هؤلاء الى الرسل و الأنبياء , حتى نظرتهم لله عز و جل, محاولا كشف نواياهم الخبيثة التي يرمون من خلالها الى استفزاز مشاعر المسلمين الذين يقرون لله القداسة, و يقرون لكل الأنبياء التنزيه عن أي تهمة قد يلصقها هؤلاء المنصرون بأي واحد منهم سواء كان نبينا الكريم أو أي نبي جاء قبله و ذلك لأننا نؤمن بان رسالة كل الأنبياء واحدة كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :((الأنبياء إخوة من علات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد )) ( صحيح مسلم 4362) .(12/188)
أخيرا و ليس آخرا, أدعوا الله العلي القدير أن يتقبل منا هذا العمل مخلصين له الدين و لو كره الكافرون, و أسأله عز شأنه أن يجعل كلامي هذا سببا لاستنهاض المسلمين للرد على كل من تسول له نفسه الدنيئة أن يتطاول على الله و رسله و أنبيائه. أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم و الصلاة و السلام على سيدنا محمد و على أخوانه الأنبياء جميعا.
الولايات المتحدة الأمريكية
=====================
وقفات مع الحدث الجلل
محمد بن عبيد الهاجري
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، الحمد لله الذي جعلنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام خير أمة أخرجت الناس تخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له امتن علينا بأن بعث إلينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أفضل الرسل ، وأخشى الناس وأتقاهم لربه ، أدى الرسالة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده ، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد :
لما علم المسلمون بهذا الحدث الجلل ( سخرية إحدى صحف الدنمارك بنبينا عليه الصلاة والسلام ) التهبت مشاعرهم بحب الرسول عليه الصلاة والسلام والايمان به ، وترسخت هذه العقيدة في قلوبهم ، فدين الله وكتابه ورسوله أعظم من كل شيء ومقدم على كل شيء " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين " وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" نعم لقد ترسخت عقيدة الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين ، والتبرء من الكفار ومعاداتهم في قلوب المسلمين ، كيف لا والمسلمون يرددون في كل يوم أكثر من عشرين مرة " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم – وهم اليهود – ولا الضالين – وهم النصارى " ولذا فيجب استغلال هذا الموقف وانتهاز الفرصة مع هذه المشاعر والعاطفة الجياشة عند المسلمين بالتأكيد على عقيدة الولاء والبراء وترسيخها في قلوب المؤمنين .
هذه هي الوقفة الأولى من هذا الحدث العظيم
الوقفة الثانية :
إن في الاستهزاء والسخرية بنبينا أفضل البشرية عليه الصلاة والسلام إهانة للمسلمين ، وما فعلوه أيضا من قبل إذ أهانوا المصحف ومزقوه وعذبوا السجناء والأسرى بغير تهمة ولا دعوى ، كل ذلك إهانة للمسلمين وأي إهانة ؟!
ولنعلم يقينا أنهم ينطلقون من منطلق عقدي ديني ، ليس الأمر مصالح سياسية أو مالية أو شخصية فقط ، بل هي حرب صليبية على الاسلام والمسلمين كما نطقت بذلك ألسنتهم ، بل وشهد عليهم بذلك الواقع.
نعم ؛ إن المسلمين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن من الاستخفاف بدينهم وكتابهم ورسولهم إلا لأجل أنهم ضيعوا دينه وتركوا تحكيم كتابه وسنة نبيه ، واستبدلوها بالقوانين الوضعية ، ولذلك تفرقوا بعدما كانوا أمة واحدة تهابهم الأعداء ، أصبحوا دويلات ضعيفة ، وقد ورد في سنن أبي داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال عليه الصلاة والسلام " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"
فلقد بين الحديث أن الناس إذا انشغلوا بالدنيا وتعاملوا بالربا وتركوا الجهاد في سبيل الله سلط الله عليهم ذلا لا ينزع عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم ، وهذا توصيف دقيق من النبي عليه الصلاة والسلام لحال المسلمين اليوم ، فلقد انشغلوا بالدنيا وتعاملوا بالربا وتركوا الجهاد في سبيل الله ، بل شوه إعلامهم صورة الجهاد في سبيل الله حتى أضحى من يتحدث عن الجهاد يتهم بالإرهاب ويوصم به ، مع أنك لو تصفحت كتاب الله لوجدت أن الله ذكر كلمة الجهاد أكثر من مائة مرة بل أكثر من ذلك .
الوقفة الثالثة : الكفر ملة واحدة
حيث تداعت الأمم والدول على إعانة دولة الدنمارك الكافرة لتشد من أزرها وتقف في صفها ، وتصريحاتهم قد امتلأت بها وسائل الأعلام ، وهذا إن دل فإنما يدل على أنهم على عقيدة واحدة ، وهي عقيدة اليهود والنصارى " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " عقيدتهم "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا "
نعم إنهم وجوه عديدة لعملة واحدة هي الحرب على الاسلام والمسلمين، وهم يتخذون في ذلك وسائل عديدة :
،،، جيوش جرارة تغزو بلاد المسلمين ، تدك بيوتهم ، تسرق أموالهم ، تقتل أطفالهم ، تغتصب نساءهم ، وما فلسطين وأفغانستان والعراق عنا ببعيد .(12/189)
،،، إعلام حاقد فاسد يقلب الحقائق ويكذب زورا ليظهر أن حضارتهم هي حضارة الحرية وأنهم دعاة السلام ، وغيرهم من المسلمين دعاة للباطل والظلام .
،،، جانب آخر يغزون به جيل هذه الأمة من شباب وشابات ، حيث أغروهم بالفساد والشهوة والجنس من خلال إعلام مسموع ومقري ومرئي ، فما هذه القنوات الفاضحة والمواقع الاباحية والمجلات الخليعة إلا وسيلة من وسائل حربهم على الاسلام والمسلمين ، وما انتشار الزنا والربا والغناء والفساد في مجتمعات المسلمين إلا نتاج عملهم الدؤوب على إفساد المسلمين .
الوقفة الرابعة :
انظر لليهود والنصارى كيف تآزروا وتعاونوا على باطلهم ، والمسلمون فيما يصيبهم من المصائب كل يغني على ليلاه ، إلا من رحم الله .
الوقفة الخامسة :
انقلاب الموازين عند هذه الحضارة الغربية حضارة اليهود والنصارى ، حيث يعتدون على المسلمين في بلادهم فيغزونها ، وفي أموالهم فيسرقونها ، وفي أعراضهم فينتهكونها ، وفي دينهم فيمزقون مصحفهم ويسبون نبيهم ، وهم في ذلك يدعون أنهم يحاربون الإرهاب ، وأنهم دعاة السلام وحقوق الانسان ، ومن يقف أمام سلامهم هذا فيدافع عن دينه وعرضه فهو الإرهابي
بحق ؟!! ولا يقل جرما عنه من يفضح كذبهم ويبين باطلهم وزيف إعلامهم !!
إن كلمة الإرهاب هم أول من روج لانتشارها ، حتى يبرروا بها غزوهم للعالم ، عفوا ! حتى يستروا بها جشعهم وطمعهم بل حقدهم وحسدهم " قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون " قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون .
لقد أرادوا الحرب على الإسلام فقالوا الحرب على الإرهاب ، نعم لقد أرادوا الحرب على الجهاد فقالوا الحرب على الإرهاب ، والسبب واضح فكلمة الجهاد محبوبة للمسلمين فاستبدلوها بالإرهاب تعمية على المسلمين وهذا ضمن خططهم الإعلامية الخبيثة ، هذا وإن من المؤسف له أن استخدمها بعض من هم من جلدتنا على نفس منوالهم ، ولو أردنا أن نتفحص هذه الكلمة وندقق النظر فيها لوجدنا أن الله يقول في كتابه " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " فذكر الله "ترهبون" مما يدل على أن إرهاب الأعداء مقصود شرعي ، فتبين أن كلمة الإرهاب كلمة ممدوحة إذا كانت موجهة للأعداء على خلاف ما روجت له حضارة اليهود والنصارى .
الوقفة السادسة :
إن من يطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يسبهم أو يطعن في أزواجه كما يحدث في هذه الأيام خاصة من شهر الله المحرم مما تفعله الرافضة ، هو في حقيقة أمره يطعن في نبينا عليه الصلاة والسلام وفي دينه ، أرأيت لو أن أحدا طعن في زوجتك أو سبها أوكأنما طعن فيك وسبك ، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه "
الوقفة السابعة :
ليس المطلوب فقط من المسلمين سحب السفراءأو طردهم ، أو مقاطعة منتجات الدنمارك ، أو قطع العلاقات الاقتصادية او السياسية معهم ، نعم إن ذلك أمر مطلوب ومهم ؛ لكن الأمر أكبر من ذلك لو كان للمسلمين من ينتصر لرسولهم عليه الصلاة والسلام بالقوة والجهاد في سبيله ، كما ورد في البخاري من حديث جابر رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام " من لكعب بن الأشرف ؟ فإنه قد آذى الله ورسوله " فانتدب له محمد بن مسلمة فقتله .
إن مما يطلب من المسلمين اليوم حكومات وشعوبا الرجوع إلى دين الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وتطبيق أحكامهما في جميع نواحي الحياة ، وعلى عموم المسلمين المطالبة بذلك .
ومما ينبغي ان يهتم به المسلمون أيضا تعلم دينهم وتعليمه ، ومعرفة سنة نبيهم والالتزام بها ، ومن ذلك معرفة نبينا عليه الصلاة والسلام وماله علينا من حقوق وواجبات .
ومما لابد أن يعلمه كل مسلم أن من استهزأ بالله او آياته أو كتابه أو دينه أو نبيه كفر بالله إن كان مسلما ، وإن كان كافرا له مع المسلمين عهد انتقض عهده ووجب قتله .
وأيضا ورد في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا على رعل وذكوان وعصية لما اشتد أذاهم على المسلمين ، فلا أقل من أن يرفع المسلم يديه داعيا ربه أن يهلك من سخر من ربنا أو ديننا أو كتابنا أو رسولنا .
ومما يطلب من المسلمين أيضا خاصة من أصحاب الأموال والمؤسسات والشركات أن يتكاتفوا ويتعاونوا على الاستغناء عن غير المسلمين في ما نحتاجه من لوازم الحياة ، وقد ظهرت بوادر ذلك لكنها نسبة ضئيلة جدا تحتاج لمثابرة وعزيمة واجتهاد .
وتجدر الإشارة إلى أنه ينبغي للمسلم أن يعتاد على اقتناء ما هو من صنع المسلمين ويفضله على غيره ما استطاع إلى ذلك سبيلا .
الوقفة الأخيرة :(12/190)
يجب توجيه هذا الشعور الغاضب عند المسلمين ودفعه ضد كل من يسب ديننا أو يصد عنه من هذه الدول الكافرة ، ألا ترى إلى هذه الحضارة الغربية بزعامة الدول القوية : أمريكا ومن لف لفها أنهم يعملون ليل نهار على الصد عن دين الله والطعن فيه وفي كتابه ورسوله مما هو من مثل سخرية الدنمارك ، بل هو أكثر من ذلك وأعظم ؟!!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداءك أعداء الدين ،اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين ،سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
كتبه / محمد بن عبيد الهاجري
شهر الله المحرم 1427 هـ
====================
وقفات مع المقاطعة
6/1/1427
د.خالد بن عثمان السبت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد:
فهذه وقفات مع هذا الحدث قصدت بها المذاكرة معكم معاشر الغُيُر على عِرْض رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، فأسأل الله أن ينفع بها.
الوقفة الأولى: إن ما رأيناه أو طرق أسماعنا من تحرك واسع تداعى الناس فيه إلى الذب عن نبينا الكريم _عليه الصلاة والسلام_ سواء كان ذلك بإلقاء الخطب أو المحاضرات، أو عقد الندوات، أو الدعوة إلى مقاطعة الدنمارك والنرويج تجارياً حتى ضحّى كثير من خيار التجار المسلمين ببعض ما بأيديهم نصرة لدينهم فنسأل الله أن يعوضهم خيراً، إلى غير ذلك من الجهود الطيبة يُعد من العمل الصالح الذي يدل على إيمان نابض، وغيرة شرعية على عرض صاحب الرسالة _عليه الصلاة والسلام_ يُحمدون عليها ويُثابون.
الوقفة الثانية: في مثل هذه الأحداث والتداعيات يحتاج الناس إلى مرجعية موثوقة يتلقون منها التوجيه لتحقق الأهداف وتنتفي المفاسد والمحاذير، ولا يصح بحال من الأحوال أن يكون كل أحد في مقام الموجه عبر رسائل ينشئها عبر الجوال أو غير ذلك من الوسائل فتحملهم الغيرة على ارتكاب بعض المحاذير والمخالفات الشرعية كما سنبين.
الوقفة الثالثة: يجب على المسلم التثبت والتريث فلا يُقدم على أمر حتى يتبينه، ويتوثق منه، وذلك أننا بحاجة إلى تمييز كثير مما يرد إلينا من رسائل أو ما يُنشر في الشبكة العنكبوتية أو ما نسمعه في المجالس، أو غير ذلك مما يتعلق بجوانب متعددة، فمن ذلك:
1 – التحقق من نسبة المنتَج إلى أولئك كي لا نقع في شيء من الظلم لأحد من المسلمين أو غيرهم، وهنا قد تدخل المنافسات بين الشركات ويبدأ تصفية الحسابات فنصيب قوماً بجهالة.
2 – قد يكون لهم شراكة في بعض المنتجات ثم زالت وتحول الأمر إلى غيرهم وهو أمر لا بد من معرفته لئلا نُلحق بأحد ضرراً من هذه الجهة.
3 – ربما كان التصنيع برمته في بلاد المسلمين إلا أن المصنع حصل على ترخيص من شركة هناك فمثل هذا تكون المقاطعة فيه عقاباً لصاحب المصنع وهذا غير مراد.
4 – الاندفاع غير المنضبط قد يحمل صاحبه على دعوة الناس إلى أمور لا يُقرون عليها كمن يدعو إلى توحيد الصيام والدعاء في يوم بعينه، أو يدعو إلى نشر رسالة مكذوبة يزعم مختلقها أنه رأى الرسول _صلى الله عليه وسلم_ ويذكر أموراً ويطالب بنشرها إلى عشرة أشخاص وأنه سيرى بعد أربعة أيام – إن فعل – أمراً يسره، وإن لم يفعل رأى أموراً تسوؤه.
وقد يدعو بعضهم إلى مظاهرة في البلاد التي لا تسمح بذلك، أو أذية للأشخاص الذين ينتسبون إلى ذلك البلد لمجرد انتسابهم إليها دون أن يكون لهم جرم، وهذا كله لا يسوغ، بل يؤدي إلى مفاسد أعظم كما لا يخفى.
5 – التحقق من صحة الأخبار التي تصل إلينا، ولا يسوغ أن ننشر شيئاً من ذلك إلا بعد التأكد من صحته.
6 – التوثق والتحري فيما قد يُنشر في بلاد أخرى من هذه الرسومات أو غيرها فنفرق بين من فعل ذلك على وجه الاستهزاء والمكابرة، وبين من فعله قاصداً بذلك نقل الخبر (مع عدم إقرار هذا الصنيع).
الوقفة الرابعة: ينبغي أن يكون لدينا أهداف واضحة ومطالبات محددة، فهذه المقاطعة إلى أي مدى ستنتهي؟ هل نكتفي باعتذار الرسام، أو الصحيفة، أو لا بد من اعتذار الحكومة، أو نطالب مع ذلك كله بمحاكمة الرسامين ورئيس التحرير، أو نطالب بتسليمهم لمحاكمتهم شرعاً وإقامة حكم الله فيهم؟
الوقفة الخامسة: لا ينبغي تخذيل الناس وتوهين عزائمهم تارة بدعوى عدم جدوى المقاطعة، وتارة بأن ذلك لم يقع حينما أهينت أوراق المصحف، إلى غير ذلك مما قد يُقال، لكن ينبغي أن يُعلم أن آثار المقاطعة ظهرت جلية على ألسنة القوم وفي اقتصادهم، وأما القول بأن هذا التحرك لم يقع عندما اعتُدي على القرآن الكريم فنقول: إن الضعف والتفريط في جانب لا يعني أن نفرط في الجوانب الأخرى، فإذا حصل تقصير في الانتصار للقرآن فليس معنى ذلك أن نخذل الناس عن الانتصار لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_.(12/191)
الوقفة السادسة: التحليل والتحريم إنما يكون من قِبَل الشارع، ولا يجوز أن نُلزم الناس بأمر لم يُلزمهم الله به، فلا يسوغ إطلاق عبارات نُحرم فيها بيع بضائع هؤلاء أو نوجب شرعاً مقاطعة منتجاتهم، ومعلوم أن البيع والشراء مع الكفار جائز شرعاً حتى الحربي منهم، لكن نقول: المقاطعة الاقتصادية في هذا العصر سلاح مؤثر ومن هنا نحث الناس على ذلك لكن لا نقول بوجوبه أو نؤثم من عاملهم.
الوقفة السابعة: الحذر الحذر من رد باطلهم بباطل مثله، وإنما ذكرت ذلك لما رأيت إحالة في أحد المنتديات على رابط يتضمن إساءة لعيسى _عليه السلام_، وهذا جُرم عظيم قد يفعله بعض من لا خلاق له من اليهود ونحوهم، وقد تصدر بعض هذه الحماقات من جهلة لا يراقبون الله في أقوالهم وأفعالهم كما ذكر شيخ الإسلام(1) عن بعضهم أنه ربما أعرض عن فضائل علي _رضي الله عنه_ وأهل البيت لما رأى غلو الرافضة فيهم وتنقصهم للشيخين _رضي الله عن الجميع_، ونقل عن بعض الجهلة أنه قال:
سُبُّوا علياً كما سبُّوا عتيقكم ... ...
كفرٌ بكفر، وإيمان بإيمان
كما ذكر أن بعض المسلمين يُعرض عن فضائل موسى وعيسى _عليهما السلام_ بسبب اليهود والنصارى حتى حُكي عن بعض الجهال أنهم ربما شتموا المسيح عليه السلام حين سمعوا النصارى يشتمون نبينا محمداً _صلى الله عليه وسلم_ في الحرب.
الوقفة الثامنة: إذا كان المطلوب هو مقاطعتهم لما يحصل من جراء ذلك من تأثير اقتصادي عليهم فإن هذا يتوجه إلى من يستورد منهم البضائع وقد لا يرتدع بعض هؤلاء إلا إذا رأى بضاعته التي استوردها كاسدة في الأسواق، لكن من عُلم منه الصدق بأنه عزم على عدم الاستيراد منهم مستقبلاً، أو أنه لا يشتري هذه البضائع من مستورديها في المستقبل، فهل نطالب مثل هؤلاء بإتلاف ما بحوزتهم من بضائع قد صُنعت في تلك البلاد؟ فهذا موضع ينبغي التفريق فيه بين هذه الأحوال، والله أعلم.
الوقفة التاسعة: علينا أن نوحد الجهد لتكون المقاطعة حالياً للدنمارك والنرويج، دون أن نشتت ذلك بالمطالبة بتوسيع نطاقها وإلا فإن ذلك سيؤدي إلى تلاشيها، ولكن يمكن بعد أن تتحقق أهدفا المقاطعة أن يُنظر في توجيهها لغيرهم.
الوقفة العاشرة: لا يجوز للمسلم في مثل هذه الأمور أن يكون جسراً ومعبراً لتلك الرسومات فيساعد على نشرها حينما يتحدث عن هذا الموضوع بعرضها على الناس فيسيء وهو لا يشعر.
الوقفة الحادية عشرة: ينبغي استغلال هذا الحدث في داخل المجتمعات الإسلامية، وخارجها، أما الداخل فبمطالبة الناس بالتمسك بسنة النبي _صلى الله عليه وسلم_ واتباعها، وبإحياء سيرته بينهم، وبيان حقوقه وما إلى ذلك، عبر دروس ومحاضرات وخطب وبرامج ومسابقات، إضافة إلى إحياء عقيدة الولاء والبراء، وبيان عداوة الكفار وبطلان ما يتشدقون به من التسامح واحترام الأديان... إلخ، وأما في المجتمعات الكافرة فبتعريفهم بمحاسن دين الإسلام، وشمائل نبي الهدى _صلى الله عليه وسلم_ وسيرته العطرة.
الوقفة الثانية عشرة: وافق وقوع هذه المقاطعة لدولة ليست قوية، كما أنها قليلة السكان، وما يستورد منها قليل أيضاً مقارنة ببعض الدول الشرقية أو الغربية، وهي فرصة مناسبة للجميع بأن يُظهروا تضامنهم ويُوحِّدوا وجهتهم، وبهذا يمكنهم أن يبعثوا رسالة واضحة للعالم أجمع أنهم لا يقبلون المساس بدينهم ومعتقداتهم ومقدساتهم، وأنهم أمة حية صاحبة رسالة تعيش وتموت من أجلها، وبهذا أيضاً يمكن أن نستعيد قدراً من الثقة لدى المسلمين بعد أن توالت عليهم الهزائم في مختلف الميادين فيحصل شيء من الشعور بالعزة الإيمانية، ومن هنا يمكن أن نشتت بعض الجهود الرامية إلى إغراق الأمة بالمشكلات، والشبهات والشهوات، لتكون أمة لاهية عابثة لا هدف لها في هذه الحياة.
______________
(1) الفتاوى 6/25 – 26.
=====================
وقفات مع انتفاضة الأمة
ياسر بن عبدالله السليم
? الوقفة الأولى: المسلمون - على مر العصور - لا يزالون يتعرضون لأنواع من البلايا على أيدي البغاة من الكفرة وأذنابهم، الذين يصبون جام حقدهم على الإسلام وأهله بقصد محو الإسلام من الوجود، وقد أرشد الله تعالى المسلمين في هذه الحالة إلى الصبر مع التزام التقوى بعدم مداهنة أولئك الحاقدين، وعدم الركون إليهم. فقال تعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}، آل عمران: 186.
قال الشيخ عبدالرحمن الدوسري - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية: «فمزج سبحانه بين الصبر والتقوى حتى لا يجر الصبر إلى ما يمس العقيدة من التساهل على حسابها».(12/192)
واعلم ان الصبر ليس صفة سلبية، تجلب الاستسلام والاستكانة، والتعلل بالقدر مع ترقب زوال المحن بدون عمل ومعالجة وجهاد كما يراه العجزة والجهال، الذين لا يعرفون حقيقة شرع الله ودينه؛ وإنما الصبر صفة إيجابية أساسها الثبات في مقاومة مثل هذه الهجمات والحملات القذرة، واتخاذ الوسائل الملائمة للكفاح، حتى تتحطم جميع قوى البغي والظلم والضلال والانحراف.
? الوقفة الثانية: يجب على مسلم عرف شماله من يمينه، أن يشمر في طلب معرفة دينه، ومنه معرفة حقوق نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام وهي كثيرة، منها: الإيمان الصادق به صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، وتصديقه في كل ما جاء به، ووجوب طاعته والحذر من معصيته، {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون}، الأنفال: 20.
كما يجب إنزاله منزلته التي أنزله الله بلا غلو ولا تقصير، واتخاذه قدوة وأسوة ونصر دينه، والذب عن سنته، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
? الوقفة الثالثة: يجب على كل مسلم يحب نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلم أن لمحبته علامات، تظهر في الاقتداء به، واتباع سنته وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه، فهو صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب اثنتي عشرة ركعة، وكان يصلي الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله، وكان يصوم - غير رمضان - ثلاثة أيام من كل شهر، وكان صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم، وكان يكثر الصدقة، وكان أحسن الناس خلقاً، وأحسنهم عشرة، وأشدهم خشية لله، وكان أجود الناس بالخير، وكان أكرم الناس، وأشجع الناس، وأرحم الناس، وأعظمهم تواضعاً وعدلاً وصبراً ورفقاً وعفواً وحلماً، وأشدهم حياء، وثباتاً على الحق، ولا ينتقم لنفسه ولا يغضب لها، ولكنه إذا انتهكت حرمات الله، فإنه ينتقم لله تعالى. وكان أزهد الناس في الدنيا، يخصف نعليه ويرقع ثوبه ويخدم أهله ويحلب شاته، وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تبسماً، ويمزح ولا يقول إلا حقاً، ولا يتكلم من غير حاجة، وكان يأمر بالرفق ويحث عليه، وينهي عن العنف، وكان مجلسه: مجلس علم وحلم وحياء وأمانة وسكينة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تنتهك فيه الحرمات. يوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويؤثر المحتاج، وكان يجلس على الأرض ويأكل عليها، ومر صلى الله عليه وسلم بصبيان يلعبون فسلم عليهم، وكان لا يصافح النساء غير المحارم، ولم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً، وما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.. ومع هذا كله، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: «سددوا وقاربوا واعلموا انه لن ينجوا أحد منكم بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل». وكان يكثر من أن يقول «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».
هذه قطرات قليلة موجزة من بحر حياته صلى الله عليه وسلم، هي لكل مسلم حريص على اقتفاء أثره، واتباع سنته، قال الإمام الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمة الله تعالى عليه -: «اتباع السنة فيه الخير والبركة والسعادة في الدنيا والآخرة» مجموع الفتاوى (11/177).
? الوقفة الرابعة: إن مما أبهج النفوس، وأسعد القلوب؛ انتفاضة الأمة لما حدث من تلك الصحف الدنماركية من استهزاء بسيد الخلق عليه الصلاة والسلام، فأعلن المسلمون بكل عزة وقوة رفضهم لفعلة أولئك، وحولوا ذلك الإعلان إلى فعل طبقوه على أرض الواقع، فرأينا الصحف امتلأت بالمقالات التي سطرها الغيورون، وصدح الخطباء من على المنابر يبينون قبح فعل أولئك ويوضحون المطلوب من المسلمين، وازدحم الفضاء برسائل الجوال التي تناقلها المحبون لمحمد صلى الله عليه وسلم، ورأينا رجال الأعمال وأصحاب المحلات يعلنون مقاطعة الدنمارك فخلت رفوف المحلات من منتجاتهم، وقام الناس بالامتناع عن شراء أي منتج منها، حتى الأطفال رفضوا شراء «الجبنة» التي يحبون، ليعلم أولئك ان المسلمين عند انتهاك ثوابتهم أو المساس بحرماتهم - أو محاولة ذلك فقط - يثبون وثبة ثابتة، ينزجر بها أولئك الحاقدون.
? الوقفة الخامسة: لا يفوتني أن أشكر حكومتنا المباركة - حرسها الله - حين فعلت المطلوب فعله حيال هذا الأمر، وهذا غير مستغرب من دولة تحكم بشرع الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك بايعها المواطنون المخلصون.
? الوقفة الأخيرة: نداء إلى وسائل الإعلام ورجاله القائمين عليه في بلادنا المباركة، فلقد أصبح لزاماً عليهم حماية الحق، وإقامة المثل العليا، ونشر سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن تكون غايتهم تهذيب البشرية، وألا يلبسوا الحق بالباطل، والخير بالشر، وأن يعملوا على نشر الإسلام والعقيدة الصحيحة كما جاءتنا عن طريق الوحي، وبلغنا بها رسولنا صلى الله عليه وسلم، وسلفه الصالح من بعده، وأن يسعوا جاهدين للانتصار للإسلام ولنبينا صلى الله عليه وسلم، بالحكمة والموعظة الحسنة.
=====================(12/193)
ولينصرن الله من ينصره"
الكاتب: د. باسم عبد الله عالِم*
بسم الله الرحمن الرحيم
الزاوية: صناعة الحياة
كنت ولازلت أتمثل حال الرجال والنساء القائمين على الثغور في أرض الرباط، بتلك اللحظات العصيبة التي واجه فيها سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صناديد الكفر المتكبرين على الحق، الذين جاءوا بقضهم وقضيضهم لاستئصال الدين وأهله في بدر. وهاهي البقعة الطاهرة التي ارتوت بدماء الشهداء تتجلى في مخيلتي، وكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم رافعاً يديه حتى انكشف بياض أبطيه الشريفين وهو يناجي ربه (اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا) وهاهو الصدّيق (رضي الله عنه) الذي عادل إيمانه إيمان الأمة منذ نشأتها حتى قيام الساعة، يقف خلف حبيبه محاولاً إعادة العباءة التي سقطت عنه وهو المشفق المحب مؤكدا له تطييبا وتطمينا بأن الله منجز وعده وبأن هذه العصابة لن تخذل بإذن الله تعالى. وإذا كان التمكين لا يكون إلا بعد التمحيص والابتلاء فإن ما حدث لهذه العصابة المباركة من المهاجرين السابقين قبل هجرتهم ليس إلا مقدمة ومتطلباً لنصرتهم وإخوانهم من الأنصار. ولعل سورة الحشر التي منّ فيها الله سبحانه وتعالى من خلالها على المسلمين بالنصر على اليهود وجلائهم عن (طيبة الطيبة) إذ يقول سبحانه وتعالى: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار*صدق الله العظيم*) ما هي إلا تتويجا لعنصريّ النصر الإلهي. فما جاءت هذه المنة الربانية سواء ثمثلت في نصرة الله لرسوله والمؤمنين في بدر أو تمثلت في إجلاء اليهود عن المدينة إلا بعد أن تحقق الابتلاء وتم التمحيص (العنصر الأول) الذي ميّز المؤمنين الصادقين، وتلا صدق الإيمان صدق العمل بموجبه من خلال نصرة النبي صلى الله عليه وسلم (العنصر الثاني). فيقول جل من قائل مبيناً مقدمات النصر والمنة الربانية في العنصرين الرئيسيين: (وللفقراء والمهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون *صدق الله العظيم*). ولاشك في أن المثال الذي ذهبت إليه لا يقتضي المساواة في مقام الأسبقية ولكنه يوضح سنة الله سبحانه وتعالى في المعركة الدائمة بين الخير والشر وبين الكفر والإيمان.
واليوم نشهد طلائع النصر وقد منّ الله عليها بأول مراحل التمكين بعد عناء وابتلاء وتمحيص قدّم فيه أبناء فلسطين الحبيبة أعظم التضحيات في سبيل الله وهم القائمون على الحق لا يضرهم من خذلهم. وإن كان الله سبحانه وتعالى قد اختار لأمته رجال فلسطين ونسائها ليتمثل فيهم حال المهاجرين وإخلاصهم وأسبقيتهم وتضحيتهم فإنني أتلفت حولي محاولاً تمييز الأنصار أهل النصرة من بين باقي جموع الأمة الإسلامية وهم من شرفهم الله ليكونوا العنصر المكمل لصناعة النصر بإذن الله تعالى. وقد ظهر لي بصيص أمل عندما قدم لي أخ كريم، جمعتني وإياه محبة لوجه الله سبحانه وتعالى، مسودة لرسالة تستنهض الأمة لنصرة أخواننا وأخواتنا في ارض الرباط. وقد والله استبشرت بذلك وغبطت أخي على ما سبقني به من مبادرة أرجو الله سبحانه وتعالى أن يبارك فيها حتى تؤتي أكلها وحتى يكتمل عنصريّ الابتلاء والمناصرة لنحقق متطلبات النصر الموعود بإذن الله سبحانه وتعالى، سواءً منّ الله علينا بمعاصرته ومشاهدته أو جعلنا ممن وطأ للأجيال القادمة اقتطاف الثمرة وجنيّ نتائج هذا العمل المبارك.
إنها النصرة بكل ما يحتاجه أخواننا وأخواتنا بفلسطين. وليس ثمة مجال ها هنا لتنميق العبارات واختيار الألفاظ تحسباً لغضبة الكفر أوصولة باطل، فالحق أحق أن يتبع وأحق أن يصدح به في هذه الحقبة الدقيقة من تاريخ أمتنا. إننا اليوم نشهد صناعة التاريخ والمستقبل ومطالبون بأن نسهم في ذلك ونبذل الغالي والنفيس في سبيل هذا الأمل المنشود. وليعلم القاصي والداني بأن إسهامه في سبيل نصرة إخوانه وأخواته في فلسطين ليس إلا من توفيق الله سبحانه وتعالى له، فهو تكليف كلّف الله به الأمة جمعاء ولكنه أيضاً تشريف للسابقين وأرباب الريادة وطلائع النصرة أولئك الذين أختارهم الله ليكونوا الرواحل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. أولئك الذين قدر الله لهم أن يكونوا المختارين الهداة المجتبين الذين يرشدون الأمة إلى مدارج النصرة ويرتقون بها في معارجها. إنها والله منّة وأي منّة لا يضاهيها بعد منّة الإسلام والإيمان إلا منّة الشهادة في سبيل الله.(12/194)
والنصرة مطلوبة بكل أشكالها، من كل فرد في الأمة بقدر ما أنعم الله به عليه أو عليها. وبقدر ما فتحت أبواب النصرة لشخص بقدر ما كان ذلك دليلاً على توفيق الله له وحبه لعبده ليرفع بذلك قدره ومكانته في الأرض وفي السماء. لقد حان الوقت لتكسر الأمة ممثلة في طلائعها وروادها حاجز الخوف وتسقط عنها ثوب المداهنة وتزيح من طريقها عقبات المداراة وتعالج معالجة نهائية مرض الوهن المتمثل في حب الدنيا وكراهية الموت. وإلى ذلك فإنني أهيب واستنهض قادة الأمة لينفروا خفافاً وثقالاً داعمين بوادر التمكين في فلسطين فيرسلوا المبعوثين، ويخاطبوا قادة العالم، ويوجهوا سفرائهم للعمل مجتمعين ومنفردين في سبيل تعضيد موقف الحكومة الجديدة في فلسطين سياسياً واقتصاديا،ً وذلك في جميع الأندية ومن على جميع المنابر الدولية. ولا يقتصر الأمر على القادة، إذ أن واجب كل مسلم ومسلمة وفي مقدمتهم أولئك الذين منّ الله عليهم بسعة الرزق ويسر المعيشة أن يبذلوا ما في وسعهم في سبيل نصرة إخوانهم وأخواتهم ودعمهم تمكينهم بشكل مباشر وغير مباشر. وقد آن الأوان لنا ولهم أن نقول للغرب ومن ورائه الولايات المتحدة الأمريكية بأن التهديد بحجز الأموال وتجميد الأرصدة لن يثنينا عن دعم من تعلقت بهم بعد الله آمالنا. وإن كانت الولايات المتحدة الأمريكية في ما سبق، قد آذت وهددت فذلك لأن الوهن قد أصابنا وليس من قلة أبداً. فإن هبّ الجميع حكاماً ومحكومين لهذه النصرة وبهذا الدعم عملاً بمقتضى سنة الله في كونه وعباده فسوف لن يكون للولايات المتحدة والغرب علينا سبيل. فوالله ما كان انتصارهم في السابق لقوتهم ولكنه كان لضعفنا وخنوعنا. ولا يقتصر الأمر على الموسرين وإن كانوا هم طليعة النصرة ورواحلها، ولكنه يندرج على الجميع. فعلماء المسلمين وفقهائهم مطالبون من على منابرهم ومن خلال جميع الوسائط الإعلامية الحديثة أن يوطدوا للأمر ويؤصلوا له فقهاً وشرعاً وأن يجيشوا الأمة لنصرة هذه العصابة المباركة في فلسطين ولدعمها دعماً مادياً كلٌ في مجاله وبحسب علمه وإمكانياته وقدرته. وكذلك دعماً معنوياً من خلال الصلاة والدعاء والقنوت لله رب العالمين كما فعل سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على صعيد أرض معركة بدر رافعاً يديه لله رب العالمين.
إنها نقطة فارقة نسأل الله فيها الإخلاص وننشد فيها بإخلاصنا لله سبحانه وتعالى وبصدق عملنا، العزة في الدنيا ورضى الله في الدارين. ويسرى ذلك على كل رجل وإمرأة وشاب وشابة وكبير وصغير ومقعد وقوي وفقير ومقتدر كل في مجاله وبحسب قدرته. فلا يقفنّ أحد موقف المتفرج ليؤتى من قبله على حين غفلة منه، ولا يرينّ أحدنا ثلمة في بناء التمكين تستهدف خذل إخواننا وأخواتنا في فلسطين دون أن يهرع ويهب لسدها وحمايتهم من أن يؤتوا من قبلها. وإنني إذ أكتب مقالتي هذه أوجه نداء حاراً صادقاً مخلصاً من شغاف القلب إلى الأمة جمعاء مستنهضاً إياها للقيام بواجبها.
والله من وراء القصد,
صلى الله عليه وسلم -mail: alim@alimlaw.com
نشرت بالعدد (15675) من جريدة المدينة، يوم الجمعة بتاريخ 24 صفر 1426ه الموافق 24 مارس 2005م، بصفحة الرأي.
* محامِ ومستشار قانوني
=========================
وماذا بعد أن تطاولوا على مُنقذ الإنسانية؟
عبدالعزيز بن عبدالله الخيّال
السلام على من اتبع دين الإسلام سبيلا للعبادة وأسلوباً للحياة والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، كما نحمد الله سبحانه وتعالى الذي هدانا إلى نور الإسلام الذي انتشلنا من عبادة الأوثان والإنسان والحيوان وجعل غيرنا على ملة الكفر والطغيان فساروا على درب الشيطان.
لا نستغرب أن يلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن فيرسما رسماً كاريكاتيرياً فيه إساءة لشخصية أفضل الأنبياء والرسل عليه الصلاة والسلام، ممن حافظ على الأمانة وبلغ الرسالة السماوية. فقال لعمه ابوطالب: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».
كنا بالأمس القريب نعتز بصداقتنا للدنمارك وشعبها، ولكن الصحيفة الدانمركية التي أساءت إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام قد كشفت عن الوجه القبيح للدنمارك ورئيس وزرائها وشعبها الذي يعادي الإسلام بسبب رفضه للاعتذار.
نحن كمسلمين لا نطالب باعتذار الإرهابيين، بل نطالب بتقديمهم للعدالة إن كان يوجد جزء من العدالة في الدنمارك.
إن الشعب السعودي لم يتألم فقط بل هناك مليار وثلاثمائة مليون مسلم بما فيهم مسلمو الدنمارك وأوروبا قد تم إساءتهم بهذا الأسلوب اللاأخلاقي في الإعلام الدنماركي.
لقد جسدت هذه الاساءة الحقد الصليبي - اليهودي ضد الإسلام والمسلمين الذي بدأ منذ التحالف بين الجانبين بتاريخ 13 ابريل 1986م عندما أعطى بابا الفاتيكان الراحل لاعداء المسيح وثيقة براءة من دم المسيح.(12/195)
لقد تم بذلك القضاء على فكرة الخلاص التي بني عليها المفكر اليهودي شاؤول (بولس) أفكاره من أجل تحطيم عقيدة الوحدانية التي هي جوهر عقيدة الرسالات السماوية، والتي دعا اليها كافة أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام بما فيهم النبي عيسى عليه السلام .
إن الحقد الصليبي - اليهودي ضد الإسلام والمسلمين يوازي الحقد اليهودي تجاه المسيح عليه السلام وضد المسيحية والمسيحيين والذي جرى حقنه ضمن تعاليم التلمود والتي دونّها قدماء اليهود.
وعندما يؤيد رئيس وزراء الدنمارك ما قامت به تلك الصحيفة الهابطة في أخلاقياتها، فإنما يدل ذلك على الحقد الدفين لملوك اوروبا والذي دعاهم إلى شن الحملات الصليبية تجاه الشرق بصفته مهبط الرسالات السماوية.
نقول لرئيس وزراء الدنمارك والسيئين من أبناء شعبه إذا كان هناك حرية في التعبير فعليكم أن تعبروا في تلك الصحيفة وغيرها عن قضية صلب المسيح التي وردت في أناجيلكم المسيحية ولا تفهمون كم تحمل من معاناة والتي واجهه نبي من أنبياء الله وهو عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، منذ طالب اليهود بصلبه قائلين: (أصلبه. أصلبه. دمه علينا وعلى ابنائنا).
إن كانت هناك حرية تعبير فعليكم أن تعبروا جيداً عن الكاهن اليهودي عزرا الذي قام بتأليف التوراة الحالية التي قال عنها المفكر اليهودي الهولندي باروش اسبينوزا عبارته الشهيرة: «بأن التوراة المتداولة ليست من الكتب المنزلة».
إذا كانت هناك حرية تعبير فعبروا عن مؤسس العقيدة المسيحية وهو بولس (اليهودي شاؤول سابقاً) والذي قال عنه الباحثان الغربيان (بيري، ويلز، بأن بولس هو المؤسس الحقيقي للدين المسيحي الذي تدين به اوروبا والغرب المسيحي.
إن كانت هناك حرية تعبير فناقشوا - أي الديانات السماوية هي الأقرب إلى السماء - وما قاله المفكر والمؤرخ الانجليزي أرنولد تويني في كتابه (المسيحية وأديان العالم) «إن المسيحية الغربية تجمع بين اللاهوت اليهودي والفلسفة الاغريقية».
إذا كان هناك حرية تعبير فعبروا عن زعيم ألمانيا الذي قرر توحيد أوروبا عسكرياً عام 1940م فضم إلى بلاده الدنمارك وبعض الدول الأوروبية التي تهتم بتربية الأبقار ولا تهتم بتربية الأفكار.
نحن شعب عرف خالقه سبحانه وتعالى فاتجهنا إلى عبادته. وتركنا عبادة الأوثان التي ما زلتم تحملونها على رقابكم.
إن المستفيد الوحيد من إشعال الفتن والحروب بين العالمين المسيحي والإسلامي هم يهود أوروبا والغرب، وإن لم تصدقوا ذلك فأقرأوا برتوكولات حكماء صهيون، لقد حُورب الإسلام في دول الغرب باضطهاد أبناء الإسلام والاساءة في وسائل الإعلام الغربية لشخصية الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، فهل هذا معناه الديمقراطية التي يتشدق بها الغرب وقياداته السياسية والعسكرية.
إن علماء الغرب ومفكريه وأساتذة الجامعات قد وجدوا الديمقراطية في الإسلام وتعاليمه وفي القرآن الكريم وقوانينه السماوية وفي سيرة الرسول وأخلاقه عليه أفضل الصلاة والسلام. فنشروا ذلك في مؤلفاتهم التي حببت أبناء الغرب في الإسلام، لقد قام هؤلاء العلماء والمفكرون وأساتذة الجامعات في أوروبا بدراسة الإسلام وما تحتويه الديانات السماوية الأخرى من تعاليم لمعرفة أي الديانات السماوية هي الأقرب للسماء؟ ثم درسوا سيرة الأنبياء موسى وعيسى ومحمد عليه الصلاة والسلام، وبعد ذلك درسوا التوراة والأناجيل والقرآن الكريم فماذا كانت نتيجة تلك الدراسة التي استغرقت عدة سنوات؟
- لقد وجدوا أن دين الإسلام هو الدين السماوي الوحيد الذي بقي سماوياً.
- كما وجدوا أن القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي بقي مقدساً.
- وبدراسة سيرة الأنبياء وجدوا أن سيرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام هي السيرة الوحيدة المحفوظة من ناحية تاريخ ولادته وطريقة نشأته وتجارته بين مكة وبلاد الشام وقصة زواجه من أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وزواجه من غيرها بعد وفاتها رضي الله عنها، واسماء زوجاته وابناؤه وأحفاده وأصحابه. كما وجدوا تواريخ غزواته وأحاديثه وأقواله وقصة نزول الوحي عليه ثم خطبة الوداع الشهيرة، التي قال فيها: بعد أن وضح لهم أسس العقيدة: «اللهم هل بلّغت اللهم فاشهد».
كما هو معروف أيضاً تسلسل نسبه أباً عن جد حتى النبي إسماعيل ابن النبي إبراهيم عليهما السلام. ومعنى ذلك انه من الجنس السامي الرفيع.
كما هو معروف أيضاً صفاته عليه الصلاة والسلام الجسمية والخلقية وكذلك طعامه فكان يأكل طعامه مع بلال القادم من الحبشة، ومع صهيب القادم من بلاد الروم ومع سلمان القادم من بلاد الفرس، إنه حقاً نبي عظيم كما وصفه تعالى في كتابه الكريم - سورة الحجر في قوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} صدق الله العظيم.(12/196)
لقد قام المؤلف الامريكي مايكل هارت فدرس العديد من شخصيات العالم منذ فجر التاريخ فوضع النبي محمد عليه الصلاة والسلام في أول القائمة يليه انشتاين ثم النبي عيسى عليه السلام وفي المرتبة السادسة عشرة وضع النبي موسى عليه السلام فقال في مقدمة كتابه: «إن اختياري محمد ليكون الاول في قائمة أهم رجال التاريخ قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الديني والدنيوي».
أما الفيلسوف الغربي برناردشو فماذا يقول عن الإسلام ونبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، حيث يقول: «إن الإسلام دين يستحق كل احترام وإجلال لانه أقوى دين على هضم المدنيات وهو خالد خلود الأبد وإني أرى كثيراً من بني قومي العلماء قد دخلوا هذا الدين السماوي على بينة من أمرهم ومستقبلاً سيجد هذا الدين مجاله الفسيح في كافة أوروبا»، لذلك كان مسلمو أوروبا ومنها الدنمارك هم من يمثل قوى الخير في دول الغرب.
ثم يقول: لقد درست سيرة محمد فوجدته بعيداً عن مخاصمة المسيح ويمكن بحق أن نعتبر محمداً «منقذ الإنسانية» وأعتقد أن رجلاً مثله لو حكم العالم بايثارة وخلقه لجلب للعالم السلام والسعادة.
وكذلك يقول المفكر والمؤرخ الانجليزي أرنولد تويني في أحد مؤلفاته: «أن الغرب قبل المسيحية وبعدها اتجه لاستعباد الدول وسلب ثرواتها ولكن الإسلام اتجه لتحرير الدول والإنسان».
فهل تعلّم أبناء الغرب وعلى رأسهم رئيس وزراء الدنمارك والمفسدون في الأرض الذين شنوا حربهم الصليبية في بداية القرن الواحد والعشرين على الإسلام، لذا نقول للعاملين في الصحيفة الدنماركية الهابطة في مستواها الأخلاقي كرئيس وزرائها الذي لم يفرّق بين تعاليم المسيح عليه السلام وتعاليم بولس ومعتقداته. ولم يفرقا بين أتباع المسيح عليه السلام الذي يؤمن بالوجدانية وبين أتباع الصليب الذين يؤمنون بعقيدة التثليث.
نقول للمتطرفين من أبناء الغرب ممن يسيئون إلى الإسلام ونبيه الكريم عليه الصلاة والسلام أن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تمنعنا من سب أنبياء الله، بل يلزمنا الدفاع عنهم. وتمنعنا من سب أو التعرض للأديان السماوية التي تؤمن بوجدانية الخالق سبحانه وتعالى. ولذلك نقول أن الإسلام هو دين للبشر فقط.
ولك الشكر يا حكومة بلادي باتخاذك هذا الموقف من أجل رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولك الشكر والتقدير أيتها الصحيفة الدنمركية التي وحدت صفوف المسلمين وجعلتينهم صفاً واحداً.
ولك الشكر يا صحيفة «الرياض» التي نشرت مقالتي باسم حرية التعبير والشكر الجزيل لجميع التجار السعوديين وغيرهم من العرب والمسلمين ممن قاطع بضائع الدنمارك والشكر الأخير لصاحب مكتب العقار في المملكة العربية السعودية الذي رفض تجديد العقود لمحلاته التي يملكها ويعرض مستأجروها المواد الغذائية الدنماركية.
ونقول لشعب الدنمارك وحكومته أن التعدي على الإسلام ونبيه الكريم عليه الصلاة والسلام سيبقى كعقدة ذنب في صفحة الدنمارك السوداء.
وختاماً نقول: هل جنون البقر انتقل إلى البشر
تعليقان
1
والله انهم ارهابيون
اضم صوتي لصوتك يااخ عبدالعزيز في انهم ارهابيون ارهابيون ارهابيون لأبعد درجه ونطالب بتقديمهم للعداله ومن يتستر عليهم او يأيدهم مثلهم وارجو ان تطالب بمحاكمتهم على اعلى مستويات فقد فجروا قلوب المسلمين جميعا وبانت خفاياهم وحقيقتهم التي يتسترون عليها فمن فعل ذلك لا يقل عن كل الارهابيين الذين سبقوهم بتفجير السيارات والمباني وازهقوا الارواح وحوربوا بالمثل وحربنا على هاؤلاء لابد أن لا تقف عند المقاطعه المحليه فقط ولكن على جميع المستويات. ولله دركم يا كتابنا ومفكرينا وصح لسانك ياابو عبدالله وصلى الله على نبي الهدى وعلى آله وصحبه وسلم محمد بن عبدالله افضل تسليم
سيف الرعد
07:47 صباحاً 2006/02/09
2
اللهم اجعله خير على الامه الاسلاميه
شكرآ لكاتب هذا الموضوع الأخ الكريم عبدالعزيز الخيال وأتنمى الاستمرارية فقلمك قوي ومبدع واوصلت رسالتك بأحترافيه وخبير اعلامي وبارك الله بكم وبكل من استخدم قلمه الحر في التصدي لهذا الارهاب الفكري من الاعلام الغربي متذرعين بحرية التعبير!
نعم هذا هو المقال الذي نجد فيه حرية التعبير بدون ان يكون هناك تحقير للبشر او ديناتهم او انبيائهم ورسلهم! ان احترام الاديان امر واجب ومقدس وان وجد راي او مقال يتعدي علي الاديان بالاحتقار او سفيه الكلام فانه يعتبر اعتداء وارهاب فكري يجب معاقبة صاحبه او الجهة التى تقف خلفه!
في زمان سيد البشر محمد بن عبدالله صلي الله عليه وسلم وعلى اله وصحبه اجمعين رضوان الله عليهم لم تكن البشرية تعرف القنابل والمتفجرات وانما هي من صنع اليهود والصليبيون ويقفون خلف صناعتها في الوقت الحاضر بقوة المافيا الارهابيه التى تسيطر على اقوي الحكومات الغربيه ومجالس شيوخها بامريكا واوروبا!(12/197)
المافيا الارهابيه لمصانع القنابل والمتفجرات والاسلحه الفتاكه يهمها ان يكون العالم على صفيح ساخن وذلك بشعل المؤثرات الاعلاميه السلبيه باسم حرية التعبير والتى تولد الحقد والكراهيه بين الشعوب والثقافات وتولد الحروب في اسيا وافريقيا وتجد الاساطيل الكبيرة الى تحمل وترسل الاسلحه وقطع غيارها الي افريقيا اكثر من الطائرات التى تحمل الاغاثة الغذائية والطبيه لفقراء ومرضي افريقيا!
وفي النهاية نقول ان العقل السليم يستطيع ان يفرق بين حرية الكلمة الهادفه "حرية التعبير" وبين سفيه الكلام المفسد "الارهاب الفكري"! ونتيجة لذلك سوف تتوجه عقول الناس لقراءة دين الاسلام وتعلمه بعد ان جذبهم مشاهد غضب الملايين من البشر في الشرق والغرب والشمال والجنوب على مقالة دنماركية تتهجم على نبي الاسلام وبإذن الله وقوته سوف تتغير عقولهم كما أنارت من قبل عقل النجم الشعبي العالمي كات استيفين "يوسف إسلام" حفظه الله الي دين الحق والعدل والانسانية وغيرهم من فلاسفة وعلماء العالم!
والحمد الله رب العالمين...
سلطان بن زيد
07:32 مساءً 2006/02/09
=====================
وماذا عن شتم الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
نشرت جريدة الوطن 25/12/1426هـ
وماذا عن شتم الرسول؟
*علاء عبدالحميد ناجي
يجتمع في رأسي كل يوم ألف صوت وألف رأي تناقش ما أرى وما أسمع من تضاد في المواقف والرؤى، أخرج معها حائرا هائما لا أستطيع أن أتبنى موقفا محددا أو رأيا واحدا في بعض القضايا التي تتطلب رأيا موضوعيا، لدرجة قد يبدو فيها كلامي أو كتابتي نوعا من الهلوسة.
فأنا أسمع وأرى تناقضات تجعل الحليم حيران، منها هذا الصخب الإعلامي العالمي بشأن تصريحات أحمدي نجاد حول إسرائيل بينما أتحسس ما يقابله بشأن تعدي الصحافة الدنماركية على الرسول (صلى الله عليه وسلم) فلا أجد إلا فقاعات صابون هنا وهناك تفقأها عبارة "حرية التعبير".
أتذكر القضية التي أقيمت في فرنسا ضد رئيس اتحاد الصحفيين العرب إبراهيم نافع للمحاكمة في باريس بسبب مقال للكاتب عادل حمودة نشر في صحيفة الأهرام ولم يعجب المنظمة الدولية لمناهضة العنصرية، فقامت برفع دعوى قضائية ضد نافع في المحاكم الفرنسية معتبرة أن المقال يحرض على الكراهية والعنصرية، ولكن هذه المنظمة لم تحرك ساكنا في قضية شتم الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي عين التحريض على الكراهية والعنصرية، إنه الكيل بمكيالين مرة أخرى!.
لم تكن الكاريكاتيرات التي نشرت في صحيفة جيلاند بوستن الدانماركية خطأ قي التقدير من قبل رئيس تحرير الصحيفة والقائمين عليها، بل هي عملية مدروسة مقصودة، إذ قال رئيس تحرير الصحيفة "إن نشر هذه الكاريكاتيرات قد تم لاختبار ما إذا كانت عمليات الثأر الإسلامية قد بدأت في الحد من حرية التعبير في الدانمارك"، أما رئيس وزراء الدنمارك آندرس راسموسن فقد قال: "إن حرية التعبير هي الأساس الأهم في الديمقراطية الدانماركية، والحكومة الدانماركية ليس لها أي سلطة في التأثير على الصحافة".
حسنا... فلنفترض أن هذا الكلام صحيح فإنني أود أن أطلب من رئيس وزراء الدانمارك ورئيس تحرير الصحيفة أن يتركا المجال والعنان لحرية التعبير بشأن الهولوكوست بأن يطلبا مسابقة كاريكاتيرية مشابهة بشأن المحرقة ولينظروا النتائج، وأن يعرضوا على التلفزيون الدانماركي فيلم "آلام المسيح" لبيل جيبسون (وهو الفيلم الذي يصور عملية صلب المسيح عليه السلام وفقا للاعتقاد المسيحي ويبيّن أن اليهود هم من فعل ذلك)، ولينظروا إذا ما كان الخوف من الثأر الإسرائيلي قد أثر على حرية التعبير في الدنمارك.
إن أقل ما يمكن أن يقال في هذه الكاريكاتيرات إنها مثيرة للكراهية والنعرة العنصرية، وهاتان الاثنتان أسوأ ما ينقض الديمقراطية التي يتشدق بها رئيس وزراء الدنمارك، والديمقراطية تستوجب أن نستمع للرأي والرأي الآخر، لا أن نسمح لاتجاه واحد ونرفض الرأي الآخر، كما رفض هو عندما لم يستقبل سفراء الدول الإسلامية.
أما مفهوم حرية التعبير الذي يستند إليه رئيس تحرير الصحيفة فإنه لا يشمل بأي حال حرية إخراج الأضغان والأحقاد على الملأ واستفزازهم ثم يرفض أن يعبروا هم عن رأيهم، إذا كان هذا هو مفهوم الديمقراطية وحرية التعبير فأقول من الآن مبروك يا أباحمزة المصري على البراءة لأن كل التهم الموجهة لك يمكن أن تدفعها بعبارة "الديمقراطية وحرية التعبير"... قلها وتخلص. (لا تعني هذه الفقرة أني أتفق مع منهج أبي حمزة المصري).(12/198)
سيكون مقالي هذا رقما في قائمة طويلة من الهراء والثرثرة على الورق ما لم يقترح مقترح عملي وموضوعي للتصدي لمثل هذه الحركات النازية التي بدأت تنتشر على مدى أوروبا بأسرها، مادامت الدنمارك دولة ديمقراطية وحق التقاضي فيها مكفول للجميع فلماذا لا يتم رفع قضية ضد الصحيفة وتكون المطالبة بالاعتذار أو التعويض من خلال القضاء لا الاستجداء، خصوصا وأن هناك أحداثا سابقة يمكن الاستناد إليها في هذا الباب مثل القضية المقامة ضد "كاي فيلهيلمسين" المعلق بالإذاعة الدنماركية والمتهم فيها بانتهاك قوانين مكافحة العنصرية بسبب إبدائه ملاحظات معادية للمسلمين، حيث طالب بالقيام "بإبادة جماعية للمسلمين في أوروبا".
والقضية المقامة ضد محطة إذاعة "هولجر" المحلية ذات الميول اليمينية المتطرفة والتي يتوقع أن تكون نتيجتها احتمال سحب ترخيصها بسبب قضية تتعلق ببث مواد عنصرية ضد المسلمين.
وما لم يكن هنالك قانون يمنع مقاضاة الصحيفة فلا أعتقد أنه يمكن للمحكمة أن ترفض الاستماع لمثل هذه القضية مادامت مستوفية الشروط الشكلية والموضوعية لرفعها، وحتى لو كان هنالك قانون بهذا الشكل فلابد من البحث عن البدائل القضائية الناجعة على مستوى أوروبا ولتُستخدم بعض السوابق المزرية مثل محاكمة الكاتب الفرنسي روجيه جارودي الذي حوكم لإنكاره المحرقة والمؤرخ البريطاني ديفيد أيرفينج الذي اعتقل في النمسا منتصف نوفمبر الماضي لذات السبب.
إن التحرك من خلال مفهوم "داوها بالتي كانت هي الداء"، هو أفضل آلية للأخذ بالحقوق في بلد مثل الدانمارك، والتي هي في آخر المطاف دولة قانون سواء عتبنا عليها أم لم نعتب بسبب هذا التجاوز الفظيع، فالتحرك الفردي والاستجداء الشخصي لن يجدي شيئا في مثل هذه الأحداث.
أما عن رفض رئيس وزراء الدانمارك مقابلة السفراء المسلمين والعرب بشأن هذا الموضوع فإنه من الممكن أن تصل له الرسالة من خلال سفرائه في تلك البلدان، حيث يمكن أن تستدعيهم وزارات الخارجية في العالم العربي والإسلامي وتبلغهم امتعاضها الرسمي لتبليغه لحكومتهم وبالتالي سيسمع باليسرى ما رفض أن يسمعه باليمنى.
قد تكون المطالبة بالاعتذار من خلال ممارسة ضغوطات دولية على مستوى الحكومات والدول مثل رفع مستوى الجمارك على البضائع الدانماركية أو وقف بعض الصادرات المهمة إليها، خصوصا وأن الدنمارك ـ على حد علمي ـ لا تصدر إلا بعض الأطعمة التي تعد من الكماليات لدينا في عالمنا العربي والإسلامي.
وعندها سيتأكد لرئيس الصحيفة أن الثأر الإسلامي الذي يعني ويحاول تحريكه لدى الأفراد ليسيء من خلاله للإسلام ليس موجودا على الإطلاق، وإنما الموجود هو دول وحكومات ترعى حق دينها ونبيها.
لابد أن نفهم أن الدنمارك والصحيفة إياها لن يعتذروا لأننا نشرنا معروضا بمليون توقيع يطالب بالاعتذار، ولن يتراجعوا لأننا تظاهرنا هنا وهناك، ولن يغيروا موقفهم على الإطلاق ما لم نعاملهم بالطريقة التي يفهمون، أما الصراخ والبكاء والعويل فلن يجدي شيئا بل سيكون تأكيدا للنتيجة التي يريدون وهي أنهم في ميدان لا مواجهة فيه.
قد يعتبر بعض العقلاء أن في مقالي شيئاً من الهلوسة والرؤية الأفلاطونية... لا مشكلة فإنها حرية التعبير.
· مستشار قانوني وكاتب سعودي
===================
ومن نفسي يا رسول الله
يسري صابر فنجر
نعم أفدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسي، ووالدي وولدي والناس أجمعين، وهذه ليست صيحتي ولكنها صيحة كل مسلم فيه روح وقلب ينبض ، وأذكر هنا خبرين :
الأول: ما رواه مسلم ( 1789) عن أنس بن مالك - رضي الله عته - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش( فأين المليار مسلم اليوم) فلما رهقوه ( أي كادوا يدركوه) قال- صلى الله عليه وسلم - " مَنْ يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة ؟ " فتقدم رجل من الأنصار ، فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضاً، فقال- صلى الله عليه وسلم - " مَنْ يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة ؟ " فتقدم رجل من الأنصار ، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أنصفنا أصحابنا ".
الثاني : يوم أحد أيضاً قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ رجلٌ ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟" فقال رجل من الأنصار: أنا ، فخرج يطوف في القتلى حتى وجد سعداً جريحاً مُثْبتاً لا يتحرك بآخر رمق، فقال: يا سعد إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن أنظر في الأحياء أنت أم من الأموات؟ قال: فإني في الأموات، فأبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام وقل: إن سعداً يقول: جزاك الله عني خير ما جزى نبياً عن أمته، وأبلغ قومك مني السلام، وقل لهم: إن سعداً يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى نبيكم وفيكم عين تطرف.(12/199)
فإلى الألف مليار مسلم سؤال: مَنْ يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رفيقه في الجنة؟!!!
وإلى الألف مليار مسلم وصية سعد - رضي الله عنه -: لا عذر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى نبيكم وفيكم عين تطرف !!!
فليوجه كل منكم سهامه ليدافع بها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وبلغوا صياحكم ودعمكم إلى كل الميادين.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مرجعاً ومصنفاً في الدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سماه (الصارم المسلول) قال في مقدمته: الحمد لله الهادي النصير فنعم النصير ونعم الهادي الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويبين له سبل الرشاد كما هدى الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق، وجمع لهم الهدى والسداد، والذي ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد كما وعده في كتابه، وهو الصادق الذي لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تقيم وجه صاحبها للدين حنيفة وتبرئه من الإلحاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل المرسلين وأكرم العباد أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره أهل الشرك والعناد ورفع له ذكره فلا يذكره إلا ذكر معه كما في الأذان والتشهد والخطب والمجامع والأعياد، وكبت محاده وأهلك مشاقه وكفاه المستهزئين به ذوي الأحقاد وبتر شانئه ولعن مؤذيه في الدنيا والآخرة وجعل هوانه بالمرصاد، واختصه على إخوانه المرسلين بخصائص تفوق التعداد فله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود ولواء الحمد الذي تحته كل حماد وعلى آله أفضل الصلوات وأعلاها وأكملها وأنماها كما يحب سبحانه أن يصلى عليه وكما أمر وكما ينبغي أن يصلى على سيد البشر والسلام على النبي ورحمة الله وبركاته أفضل تحية وأحسنها وأولاها وأبركها وأطيبها وأزكاها صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم التناد باقيين بعد ذلك أبداً رزقاً من الله ما له من نفاد أما بعد فإن الله تعالى هدانا بنبيه محمد وأخرجنا به من الظلمات إلى النور وأتانا ببركة رسالته ويمن سفارته خير الدنيا والآخرة وكان من ربه بالمنزلة العليا التي تقاصرت العقول والألسنة عن معرفتها ونعتها وصارت غايتها من ذلك بعد التناهي في العلم والبيان الرجوع إلى عيها وصمتها فاقتضاني لحادث حدث أدنى ماله من الحق علينا بل له ما أوجب الله من تعزيزه ونصره بكل طريق وإيثاره بالنفس والمال في كل موطن وحفظه وحمايته من كل مؤذي وإن كان الله قد أغنى رسوله عن نصر الخلق ولكن ليبلوا بعضكم ببعض وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ليحق الجزاء على الأعمال كما سبق في أم الكتاب أن أذكر ما شرع من العقوبة لمن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - من مسلم وكافر وتوابع ذلك ذكراً يتضمن الحكم والدليل ونقل ما حضرني في ذلك من الأقاويل وإرداف القول بحظه من التعليل وبيان ما يجب أن يكون عليه التعويل فأما ما يقدره الله عليه من العقوبات فلا يكاد يأتي عليه التفصيل وإنما المقصد هنا بيان الحكم الشرعي الذي يفتى به المفتي ويقضي به القاضي ويجب على كل واحد من الأئمة والأمة القيام بما أمكن منه والله هو الهادي إلى سواء السبيل .
وفي خاتمة الكتاب أوصى المحقق بجملة مقترحات منها:
أولاً: لقد ظهر في هذا الزمان أمور هي من قواسم الظهور من لعن الدين وسب رسول رب العالمين والمجاهرة بذلك على رؤوس الملأ أجمعين بلا رادع ولا وازع من خلق أو دين وما ذلك إلا لأسباب منها الجهل المزري الذي وقع فيه كثير من الناس في معرفة حكم ساب النبي-صلى الله عليه وسلم- وحده الشرعي ومنها عدم تنفيذ الحدود على الشاتمين والمرتدين حتى ظهر أولئك الزنادقة الذين جاهروا بالاستهزاء والسب على مرأى ومسمع من الناس أجمعين.
ثانياً: نظراً لجهل الكثير من المنتسبين إلى الإسلام بهذا الحكم والحد الشرعي فإننا نقترح أن تقوم الجهات المسؤولة بجعل هذا الكتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول كمرجع في المرحلة الجامعية أو يلخص ويكون ضمن المناهج في إحدى المراحل الدراسية لكي يدرك الطلاب هذا الأمر إدراكاً صحيحاً وينتشر بين الناس معرفة حكم الساب وحده الشرعي.
ثالثاً: حيث إن هذا الموضوع مهم جداً وأهميته لا تخفى على ذي مسكة في عقله في مشارق الأرض ومغاربها فيا حبذا لو يترجم هذا الكتاب وغيره من كتب شيخ الإسلام القيمة إلى اللغات الأخرى ليعم النفع بها بإذن الله تعالى فما أحوج الناس اليوم إلى إدراك حقيقة هذا الأمر الخطير.
رابعاً: أن من الواجب على القادرين من المسلمين أن يعنوا عناية جادة بأمر سب نبينا- صلى الله عليه وسلم - أو الاستهزاء بشئٍ من الدين وأن ينشروا بين الناس الوعي الصحيح والإدراك السليم لهذا الأمر الخطير بمختلف الوسائل الدعوية وأن تنشر مثل هذه المؤلفات القيمة لأئمتنا الكرام - رحمهم الله تعالى- بعد تحقيقها وتصحيحها بدقة كاملة حتى لا نسمع ولا نسمح بشئٍ فيه أذى الله ورسوله وعباده المؤمنين.(12/200)
خامساً: أن السب كفر في الظاهر والباطن سواء اعتقد فاعله أنه حرام أم كان مستحلاً له وأن شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقتل بكل حال عند الحنابلة سواء كان مسلماً أو كافراً ولا يستتاب ولا تقبل له توبة وأن سب الذمي للرسول - صلى الله عليه وسلم - ينقض العهد ويوجب القتل ولا تقبل له توبة والمشهور في مذهب الإمام مالك قتل الساب بدون استتابة وحكمه حكم الزنديق إذا كان مسلماً وإذا كان ذمياً فأسلم ففيه روايتان في الأولى لا يقتل وفي الثانية يقتل ومذهب جمهور الشافعية أن الساب كالمرتد إذا تاب سقط عنه القتل وذهب أبو بكر الفارسي إلى أنه لا يسقط عنه القتل بالتوبة وعند الصيدلاني إذا سب بالقذف ثم تاب سقط عنه القتل وجلد ثمانين للقذف وعند الأحناف إن الساب كالمرتد في سائر أحكام الردة.
سادساً: أن حقيقة السب هو الكلام الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف وهو ما يفهم عنه السب في عقول الناس.
سابعاً: أن الحكم في سب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالحكم في سب نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم ـ.
نسأل الله الصدق في القول والإخلاص في العمل، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام دائماً وأبداً على أشرف المرسلين.
ysmf@islamway.n صلى الله عليه وسلم t
=======================
===================
وهل أدينا حق حب النبي الكريم في قضية الإساءة؟
الكاتب: شفيع الرحمن ارسلا خان
ان حب النبي صلي الله عليه وسلم واجب علي كل مسلم ومسلمة علي الاطلاق -ومسؤولية المسلم في هذا الأمر عظيمة جداً التي لابد أن تؤدي قبل يوم الحساب بقول الله تعالي قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم .
وروى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: انه قال للرسول صلي الله عليه وسلم: لأنت يا رسول الله أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده حتي أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنك الآن أحب إليّ من نفسي، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: الآن يا عمر وذلك لأن الرسول صلي الله عليه وسلم هو الذي دلنا علي الخير وبيّن لنا طريق النجاة وسبيل السعادة وحذرنا من الشر والهلاك وبسببه اهتدينا.
وقضية الإساءة في شأن النبي صلي الله عليه وسلم تتطلب من المسلمين اظهار غيرتهم ويجب أن تتجلي هذه الغيرة في قلب كل من عنده حرارة الإيمان والمحبة. وقد رأي العالم مظاهر هذه الغيرة في مشارق الأرض ومغاربها من مقاطعة المنتجات الدنماركية والمظاهرات والمسيرات حتي استشهد كثير من المسلمين في هذه المظاهرات وأخص بالذكر منها مظاهرات باكستان التي ما زال المسلمون يقومون بها.
وقد ملأ الكتّاب من ناحية أخري الجرائد والمجلات بمقالاتهم وكتاباتهم في حب النبي صلي الله عليه وسلم وما زالت تهز موجات التظاهرات والمسيرات العالم كله.
يرى كل مسلم الدفاع عن النبي صلي الله عليه وسلم مسؤوليته من حيث الفرد والمجتمع ومن حيث الحكومة والشعب. (لكن السؤال هنا لماذا اجترأ الكفر علي ان يلعب بمشاعر المسلمين في شأن نبيهم وحبيبهم الذي فضلت بسببه هذه الأمة علي سائر الأمم.
والجواب بأن الكفر رأي ضعف المسلمين وتقاعسهم في اتباع سنن النبي صلي الله عليه وسلم في جميع أمور حياتهم حيث انهم لا يهتمون بالسنن في مأكلهم ومشربهم وتجارتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم وأشكالهم وسيرتهم بحيث نري المسلم حراً في كل شيء. فهذا هو السبب الحقيقي الذي ربما لم تتطرق اليه أقلام كثير من الكتاب.
فالحل هو ان نرجع الي الحب الحقيقي للنبي صلي الله عليه وسلم الذي هو جزء من ايمان كل مسلم. والذي لا يكتمل ايمان المسلم بدونه حيث قال النبي صلي الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتي أكون أحب اليه من والده وولده والناس أجمعين رواه البخاري ومسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي، قيل ومن يأبي يا رسول الله؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبي . فمحبة النبي صلي الله عليه وسلم واجب وهي تقتضي اتباعه كما يقول الشاعر:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه
هذا لعمرك في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
فمسؤولية المسلم ان يتبع هدي النبي صلي الله عليه وسلم في شكله وفي لباسه وفي تجارته وزراعته وفي أفراحه وأحزانه حتي في جميع أمور حياته. لكي يعتقد المسلم انه مقيد بحدود الشريعة والسنة. فعلي كل مسلم ان يظهر محبته للنبي بالعمل علي جميع سننه من ظاهرها وباطنها. ومن السنن الظاهرة أن يزين الرجل وجهه بسنة اللحية التي قد افتقدتها أغلبية الأمة من حياتهم مع أنها نور المسلم في وجهه وعلامته للايمان حيث قال النبي صلي الله عليه وسلم خالفوا المشركين وفروا اللحي واحفوا الشوارب .
وأما هؤلاء الحاقدون الظالمون الذين أساءوا الي النبي صلي الله عليه وسلم فإن الله ينتقم منهم ان شاء ويجعل موتهم عبرة للآخرين.(12/201)
ونحن نعرف ان ابرهة لما جاء لهدم الكعبة حتي وصل الي مني وأخذ جمال أهل مكة فجاء عبدالمطلب جد النبي صلي الله عليه وسلم لاسترداد الجمال فتعجب إبرهة وقال: كنت أتوقع منك بأن تطلب مني عدم هدم كعبتكم! وأنت تطلب مني فقط بأن أرد الجمال؟ فأجاب عبدالمطلب: إن للبيت رباً يحميه فحمي الله الكعبة من هؤلاء الظالمين وجعلهم عبرة لمن بعدهم ونقول لهم اليوم: إن لمحمد عليه السلام رباً يحميه ونسأل الله أن يجعل هؤلاء المعتدين عبرة للآخرين.
صحيفة الراية القطرية
===================
ويأبى الله إلا أن يتم نوره
ناهد بنت أنور التادفي / الرياض
هل نقول: إنها امتداد للحروب الصليبية الظالمة التي قامت على محاربة الإسلام وإلغاء معتقدات الآخر؟ كيف تفسر هذه الغرائب التي تأتينا في كل يوم وفي صور مختلفة ليس من ورائها غير النيل من الإسلام وإلغائه وتشويه صورته؟
لقد أُلقيت تهمة الإرهاب على الإسلام، والإسلام هو المتضرر الأكبر من جنون الإرهاب والإرهابيين، وقد دفع أثماناً باهظة من أرواح المسلمين وممتلكاتهم وثرواتهم في أكثر من دولة إسلامية، وليست المملكة العربية السعودية أو جمهورية مصر العربية أو الأردن وما جرى فيها ببعيد عن ذاكرة العالم.
كما تعلو أصوات بعض الغربيين المشبوهين والحاقدين، ونجدهم في كل وقت وفي كل مناسبة ومن وراء كل منبر إعلامي يمارسون ضغوطهم بكل الوسائل على الحكومات والمؤسسات والشعوب الإسلامية، ليس لذنب اقترفوه، بل لأنهم يعتنقون الإسلام ديناً ومنهج حياة. وهاهم يطالبون الأمة الإسلامية بتغيير مناهجها الدراسية والتعليمية وإلغاء سور من القرآن الكريم، وبخاصة تلك التي تتناول ظلم اليهود وقتلهم للأنبياء وتطرُّفهم، وتعرِّي مواقفهم المشبوهة عبر التاريخ، يدلُّنا الله سبحانه عليها كي نأخذ بأسباب الحذر والحيطة.
وكم من مرة تعرضت الجمعيات الخيرية الإسلامية الاجتماعية التي تنفق على الفقراء والمعوزين في تلك الدول إلى مداهمات واعتقالات ومحاكمات للقائمين عليها، واستيلاء على أموالها ومراكزها بتهم بالية وظالمة وبعيدة عن الفهم الحقيقي لرسالة الإسلام والنظام الاجتماعي العادل الذي أتت به تعاليمه الحنيفة.
إن ما يصلنا اليوم من دولة تدَّعي أنها تمثل النظام العالمي المتحضر والمنفتح على ثقافات الآخر، وتسمح لبعض من مواطنيها بتشويه صورة مثلى لنبي جاء بالحق دون علم ودون معرفة ودون تقدير للدور الأمثل الذي قام به الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته لخير الإنسانية، ثم تدَّعي أن ممارسات كهذه تنتمي إلى الحرية الشخصية وحرية إبداء الرأي، وينبري من مسؤوليها مَن يدافع عن مرتكبيها، ويرفض رئيس وزرائها استقبال شخصيات إسلامية للحوار في هذا الشأن، ويعلنون رفض حتى الاعتذار عما بدر من فرد أو أفراد من مواطنيهم. كل هذا يؤكد أنها ليست ظاهرة فردية عابرة، بل هي سلوك وسياسة للنيل من قيم الإسلام والمسلمين والرمز الخالد سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم.
نحن نؤمن بالحرية، لكننا نؤمن بأن حرية الفرد تنتهي عند حرية الآخر.. ونؤمن بحق الشعوب في اختيار انتماءاتهم الروحية، ونؤمن أنْ (لا إكراه في الدين)، وأن الناس جميعاً مخلوقات الله سبحانه شركاء على هذه الأرض وشركاء في الإنسانية، ونؤمن بأنه لا يصح إيمان المسلم إلا إذا آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}البقرة: 285).
فهل يدرك الآخرون هذه القيم؟
هل يعلم هذا الذي تجنَّى بالإساءة على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مَن هو هذا النبي؟
هل قرأ شيئاً من سيرته؟
هل تابع سلوكه مع قومه ومع غيرهم من أبناء الشعوب من غير المسلمين؟
هل يمكن أن يفهم كيف كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الآخر؟
إنه لأمر جلل يستحق من الأمة الإسلامية جمعاء وقفة دفاع مشرفة عن معتقداتنا وعن رسول المحبة والسلام والحق محمد عليه الصلاة والسلام.
ولا شك في أنها رائحة كريهة تفوح من وراء هذا الأمر، ومن وراء الغايات الخبيثة التي تختفي وراء هذا الأمر، فهي نار يشعلها أعداء المسلمين من يهود وممن يدور في فلكهم من المغررين والحاقدين والسفهاء.
{وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}البقرة: 120).(12/202)
إن الموقف النبيل السبَّاق الذي تقفه المملكة وشعب المملكة هو في دائرة حرص المملكة على سمعة الإسلام والمسلمين، والدفاع عن العقيدة السمحة التي ما تزال تعطي للعالم مشاعل نور وهداية، وهي بذلك كانت الطليعة في إعلان الغضب والمطالبة بتقديم الاعتذار الرسمي من الدولة المسيئة على ما كان منها بحق خير البرية، كما أن مقاطعة البضائع الدنماركية والنرويجية وسيلة من وسائل العقاب كي يسمع المنحرفون صوت المسلمين الناهضين للدفاع عن الإسلام، وننتظر من كل مسلم أن ينهض في هذا الوقت العصيب مدافعاً بكل ما يستطيع عن عقيدته ودينه وأصله.
إن الدولة (الدنمارك) التي يشرع برلمانها بالإعلان الفاضح الموافقة وقبول الممارسات الجنسية بكل ألوان الشذوذ، والذي يشرع زواج رجل من رجل وامرأة من امرأة، والذي أعلن صراحة وتشريعاً وقانوناً موافقته على زواج امرأة من كلب..! هذه الدولة ومهما بدر منها بعد هذه الأمثلة في حق الشرفاء.. قليل.
أما أنت يا سيدي يا رسول الله، سلام الله عليك، أنت المبرَّأ من كل عيب، وحبيب الله، كم تحملت من الأذى في سبيل نشر الدعوة، وكم جاهدت وصبرت حتى ثبتت رسالة الإسلام، بعد أن أدرك العقلاء أنها رسالة الحق ولخير الناس أجمعين، فعمَّت القلوب والأفئدة، وصارت للمؤمنين إماماً ومنهجاً، فكانت خاتمة الديانات، وكنت صلى الله عليك وسلم خاتم النبيين.
وسنكون الفداء لهذا الدين العظيم، والجند الأوفياء لرسالة الإسلام، والسياج الحامي لكل القيم الخيرة والنبيلة.. ونردد قول الله سبحانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاستغْلَظَ فَاستوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} الفتح: 29) صدق الله العظيم.
=================
يا أنصار النبي صلى الله عليه وسلم .. (( صفاً واحداً ))
الكاتب: عبدالله بن مرزوق القرشي
قرأت شيئاً مما كتب عن مؤتمر البحرين لنصرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم , ومع أني لا أتفق مع بعض الأطروحات التي تناولت المؤتمر , غير أني لا أودّ أن ذلك لم يحصل!. إنني أقدّر أن المؤتمر وما تلاه من مناقشات هو عبارة عن درس جديد يكتب هذه الآونة في ثقافتنا العملية . ومثل هذه الدروس لا يكتب لها البقاء والاستمرار والتأثير حتى تأخذ حقها من المداولة والنظر والتفاعل المشترك بين الآراء المختلفة . حتى إذا كتب هذا الدرس كان مكتوباً بمدادٍ من الحياة لا تذروه الرياح ولا تمحوه الليالي والأيام , ناصعاً يتوهج للأجيال الحاضرة والقادمة . والشرط المهم في مداولاتنا هذه التركيز على الرأيِ , والبحثِ عن الحقيقة التي ربما تكتمل بأجزاء من هذا الرأي وذاك. وهنا لا مكان للتعصب لأشخاصنا حيث إنا لا نعلق على حدث سابق بقدر ما نريد أن نشارك في صياغة درس للمستقبل . إن هذا التفاعل الكبير مع نصرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو حدث استثنائي وفرصة كبيرة لأن نستخلص ولو درساً واحداً لمسيرتنا الطويلة نحن -أمة الإسلام - .
أما بعد : فهذا تعليقي على ما جرى في المؤتمر وما تلاه أرتبه في النقاط التالية:(12/203)
أولاً : بعد أن أساءت الصحيفة لنفسها وأساءت لمشاعرنا في التعرض لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هبّت الأمة الإسلامية هبّةً فِطْرِيّةً صادقة , غيرةً ونصرةً لمن هداها من الظلمات إلى النور. ولا أُنْكِر أن ثمة مخلصين هم منْ بادروا بتعريف الأمة واستنهاضها , غير أن استجابة الأمة كانت أسرع وأكبر من أن نتذكر من هؤلاء الأشخاص , جزاهم الله عن نبيهم وأمتهم خير الجزاء . إننا - أمة الإسلام - أردناها نصرة لنبينا صلى الله عليه وسلم وحسب . ولا أستثني من ذلك أحداً . وهذا مبدأ ينبغي أن نلتزمه في حواراتنا حول هذا الموضوع . فلا يجوز التشكيك في النيات بأي حال من الأحوال , حتى لو أن بيننا أحداً أرادها لغير الله فلا يجوز أن نعامله على هذا الأساس إلا أن يكون بأيدينا دليل (( وليس قرينة )) على نيته السيئة. علينا بالظاهر والله يتولى السرائر . ذلك منهج نبينا الذي ننصره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم عامل الناس على ظواهرهم حتى المنافقين أجرى عليهم حكم الإسلام لماّ أظهروا إسلامهم وأبطنوا كفرهم . إن الاتهامات والتخوين والتشكيك نفق مظلم طويل ,من دخله أجهد نفسه دون أن يهتدي إلى نهاية صحيحة . وما زال هذا النفق هو مهرب المبطلين كلما أشرقت عليهم شمس الحقيقة كما قال كبيرهم فرعون حين ظهر الحق على يدي نبي الله موسى ]إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } . ومع وضوح هذا المبدأ (( عدم التشكيك في النيات وأخذ الناس على ظاهرهم )) إلا أن المرء يلمس من نفسه ومن بعض إخوانه بعض التفريط فيه إبّانَ الممارسات العملية . ولذلك كان التذكير بهذا المبدأ في فاتحة الحديث .
ثانياً : الخلاف في بعض وجوهه تنوّعٌ وثراء , ومشاركة ممتعة . ولا مانع هنا أن يوجد الصواب عند أحد الأتباع كما حدث هذا مع الحباب بن المنذر في غزوة بدر, وربما يجري الحق طيباً سائغاً على لسان امرأةٍ متوارية خلف خبائها كما حصل لأمنا أم سلمة رضي الله عنها في صلح الحديبية في حل أزمة تباطؤ الصحابة عن التحلل من عمرتهم . وربما لمع السداد في ذهن شابٍ حادّ الذهن . ولذلك كان عمر يستشير الشباب يبتغي حدة أذهانهم ,كما قاله الزهري . فلا غرابة إذن أن تتنوع الآراء- دون حجر على أحد - في معالجة أزمة الرسوم المسيئة , وما هي الطريقة الأحسن في التعامل مع هذا الحدث .
ثالثاً : ولكن في أي شيء يكون الخلاف ؟ وإلى متى يستمر الخلاف ؟ وإذا احتجنا إلى حسم الخلاف فمن له الحق في ذلك ؟ وهذه أسئلة كبيرة لا يمكن الإجابة عليها جميعاً. ولكن نأخذ من ذلك ما يهمنا في هذا الموقف ( موقف الرسوم والنصرة ) . ولا ريب أن هذا الموقف هو مما يحتمل تنوع الآراء واختلافها هذا من جهة . ومن جهة أخرى فإنه موقف عملي ينبغي أن نتفق فيه على رأي موحّد حتى نخرج بموقفٍ قوي واحد ]إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ } . ونَرجع إلى معينه الصافي سيرته العملية صلى الله عليه وسلم " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " . لنرى كيف كان يتعامل مع مثل هذه المواقف . وحري بنا أن نرجع دائماً لسيرته صلى الله عليه وسلم لاسيما ونحن نناقش نصرته فليكن أول ما ننصره به اتباع طريقته وهديه في مواقفه العملية . وأشير باختصار إلى غزوة أحد حين سمح النبي صلى الله عليه وسلم بتنوع الآراء في كيفية مواجهة جيش المشركين , وكان رأيه أن يقاتل في المدينة ورأي الشباب أن يخرجوا إلى أحد . فلما جاء وقت العمل حسم الخلاف لأحد الرأيين ( وكان في ذلك الموقف هو رأي القتال خارج المدينة ) . فلمّا ذهب إلى أحد ترك عبد الله بن أبيّ بن سلول الجيش بحجة أن رأيه كان خيراً من رأي الشباب وانهزم بثلث الجيش .. فهنا طريقتان طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتماع ولو على رأي مفضول , وطريقة عبد الله بن أبي بن سلول التفرق بحجة الحرص على الرأي الفاضل . فلينظر امرئ ما يختار لنفسه ! . إن الاجتماع على رأي مفضول خير من التفرق على رأي فاضل . ] وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [. إذن لا مانع من التنوع وتقليب الآراء والخلاف حتى يبدأ الموقف العملي , فإذا جاءت المواقف العملية فيجب أن نتنازل عن بقية الآراء ونجتمع على رأي واحد ونخرج للأمم الأخرى صفاً واحداً . ويبقى السؤال هنا : من يحدّّد هذا الرأي دون بقية الآراء الباقية ؟ من يحق له الاختيار ؟(12/204)
ونعود لمسألتنا في مؤتمر البحرين لنقول إن أكبر تجمع للعلماء – حسب اطلاعي – هو مؤتمر البحرين. حضر فيه جماعة من العلماء الأجلاء , ووفود من المراكز الإسلامية في الدنمارك , ونظمته مؤسسات وهيئات إسلامية معروفة بجهودها الإسلامية وجهودها في حملة النصرة لخاتم الأنبياء والمرسلين . فأرى من المناسب أن نتنازل عن آرائنا الأخرى لرأي هؤلاء العلماء الأجلاء , لاسيما أننا الآن في موقف عملي لا يحتمل المنازعة والتفرق . واستطراداً فإني أذكّر إخواني بأن ثمة نموذجان داخل واقعنا الإسلامي فيما يتعلق بالاختلاف والتفرق . فهناك نموذج ركّز على النظام وأهمل الدليل , فخرج بمواقف منظمة ومرتبة , لكنه أهمل النظر للدليل حتى أصبح سلطان النص يتراجع كثيراً أمام سلطان المراجع الدينية . وصورته الغالية تصل إلى ما وصف الله {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ } (31) سورة التوبة. وهناك نموذج آخر ركّز على سلطة الدليل واحترام النص , وأهمل التنظيم والخروج بمواقف مرتبة حتى غدا حال هذا النموذج فوضى عارمة لا يُعرف لذي قدرٍ قدره . وواجبنا حيال هذا الواقع أن نضع نموذجاً ثالثاً يحفظ لنا (( صفنا الواحد )) دون أن يحولنا إلى (( اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله )) .
رابعاً : وماذا عن قرار المؤتمر وبيان الشيخين الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ سلمان العودة ؟ وأقول : ابتداءَ فإني من الناحية العملية أرى موافقة المؤتمر وعدم التفرق والتنازع سواء كان هناك اقتناع بالطريقة التي أقرها المؤتمر أم لا؛ فاجتماعنا على رأي مفضول خير من تفرقنا على رأي فاضل. وإن كان ثمة تسامح فلا تثريب في المخالفة على ألا يكون إنكار لا يتناسب مع طبيعة المواقف العملية.
هذا من حيث المبدأ . أمّا رأيي الخاص – ومن أنا حتى يكون لي رأيٌ خاص في مقابل هؤلاء الأجلاء ؟! ولكن مجرد مشاركة نظرية – فربما كان الصواب مع أحد الأتباع أو أحد الشباب ! . فأرى أن رأي المؤتمر كان رأياً موفقا وسديداً . ذلك أن المقاطعة وسيلة وليست هدفاً . فأهدافنا في هذه الحملة - إن صح التعبير – كفُّ السفهاء عن النيل من مقدساتنا . وتبليغُ الناس رسالات الله وهداياته كما نراها نحن لا كما يراها خصومنا . ومن أجل تحقيق هذه الأهداف سنجد وسائل كثيرة من أهمها المقاطعة . ومن المهم أن نتعامل مع هذه الوسيلة بذكاء ووعي حتى نحصد منها أكبر مكاسب ممكنة. بالمقاطعة تستطيع أن تلفت انتباه الشعوب إليك لتقول لهم ما تشاء . بالمقاطعة تستطيع أن تعاقب الخصم المعاند . بالمقاطعة تستطيع أن تحقق مكاسب للإسلام في بلدان الغرب . إن المقاطعة ليست عاطفة بسيطة فحسب بل هي صناعة ومهارة , وفنٌ وذكاء . ولذلك فلا بد لهذه المقاطعة من إدارة تصرّف هذه الوسيلة وتقلّبها بما يحقق لنا مكاسب أكبر , تماماً كالدراهم تجعلها في يد تاجر ماهر يقلبها في أنواع التجارة في السوق ليردّها إليك أضعافاً مضاعفة . وهؤلاء العلماء والمؤسسات المنظمة هي أفضل الخيارات الممكنة لإدارة الموقف . إن أمانة المؤتمر حين رفعت المقاطعة عن شركة " آرلا " لجهودها التي اعتبَرَتْها كافية لاستثنائها من القائمة = قد جعلت الشركات تتنافس لمحاولة رفع المقاطعة عنها. والأمانة ستشترط على كل شركة ما تراه مناسباً لكسب الجولة بيننا وبين خصومنا . ومعنى هذا أن أمانة المؤتمر فكّت الحصار عن الجالية المسلمة في الدنمارك . وتحولت هذه التكتلات الاقتصادية العملاقة إلى طوق يحاصر الحكومة اليمينية , ومثل هذا القرار الحكيم الواعي غيّر قواعد اللعبة داخل الدنمارك . فأصبح إخواننا المسلمون مع الجماهير من الشعب والشركات الضخمة , أصبحوا ضد أقليّة تصر على الإساءة لنا . بعد أن كان إخواننا أقليّة محاصرة. وبهذا يظهر أن المؤتمر ليس ضد المقاطعة , بل هو مع المقاطعة ومع استثمار المقاطعة بصورة أكبر . وفي الجملة فإني أرى ما حصل تقدماً ظاهراً في تعاطي المسلمين مع قضاياهم .. عواطف " الجماهير " الصادقة , تلتقي بإدارة " الحكماء " الواعية! .
وعوداً إلى بداية الحديث فإن الدرس المستخلص هو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرره على أصحابه مع كل صلاة , حتى إن الإنسان مع كثرة قراءة النص وتأمله لكأنه يسمع صوته صلى الله عليه وسلم وهو يقول : (( سووا صفوفكم )) .
يارسول الله عذرا
الكاتب: الشاعر محمد محمود أحمد من مصر
يارسول الله عذراً .. قالت الدنمارك كفراً
قد أساؤا حين زادوا .. في رصيد الكفر ُفجراً
حاكها الأوباش ليلاً .. واستحلوا القدح جهراً
حاولوا النيل ولكن .. قد جنوا ذلاً وخسراً
كيف للنملة ترجو .. أن تطال النجم قدراً
هل يعيب الطهر قذف ٌ.. ممن استرضع خمراً
دولة نصفها شاذ ٌ .. ولقيط ٌ جاء عهراً
آه ٍ لو عرفوك حقاً .. لاستهاموا فيك دهراً
سيرة المختار نورٌ .. كيف لو يدرون سطراً
لو دروا من أنت يوماً .. لاستزادوا منك غمراً(12/205)
قطرة ٌمنك فيوض ٌ .. تستحق العمر شكراً
يارسول الله نحري .. دون نحرك .. أنت أحرى
أنت في الأضلاع حي ٌ .. لم تمت والناس تترى
حبك الوردي يسري .. في حنايا النفس نهراً
أنت لم تحتج دفاعي .. أنت فوق الناس ذكراً
سيد للمرسلينا .. رحمة جاءت وبشرى
قدوة للعالمينا .. لو خبت لم نجن خيراً
يارسول الله عذراً .. قومنا للصمت أسرى
ندد المغوار منهم .. وسواد الناس سكرى
أي شيءٍ قد دهاهم .. مالهم يحنون ظهراً
لم يعد للصمت معنىً .. قد رأيت الصمت وزرا
ملت الأسياف غمداً .. ترتجي الآساد ثأراً
إن حيينا بهوان .. كان جوف الأرض خيراً
يؤلم الأحرار سب ٌ .. لرسول الله ظُهراً
ويزيد الجرح أنّا .. نسكب الآلام شعراً
فمتى نقذف ناراً .. تدحر الأوغاد دحراً
ياجموع الكفر مهلاً .. إن بعد العسر يسراً
====================
يوميات الانترنت: دفاع شرس عن الرسوم
الكاتب: رامي رحيّم
بعيدا عن العواصم والمدن الإسلامية، في زوايا شبكة الانترنت اللامتناهية، تستمر معركة أزمة الرسوم بالتفاعل على نار حامية. لكن الصورة هنا مختلفة تماما عما رأيناه في الإعلام التقليدي، سواء في العالم الإسلامي أو في الإعلام الغربي.
فبالنسبة لعدد من كتاب اليوميات (Blogg صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم s) اليمينيين، فإن سلوك الإعلام الغربي والسياسيين في الغرب حول موضوع الرسوم اتسم بالجبن والتكاذب. ولا لبس بالنسبة لهؤلاء حول فحوى الأزمة: إنها معركة مصيرية حول حرية التعبير في ظل "جهاد" إسلامي مفتوح ضد القيم الغربية، وفي ظل استسلام غربي مكشوف.
فهم يهاجمون بكتاباتهم بشكل أساسي تيارين فكريين:
الأول في العالم الإسلامي، يرى أن الإسلام دين مسالم يتعرض لحرب شرسة من العالم الغربي.
والثاني في الغرب، يرى أن الرسوم تشكل تعديا مسيئا وغير مسؤول، ويحث على احترام المقدسات ورسم خط واضح بين الحرية والاساءة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن عدد مواقع اليوميات (بلوغز) هائل ومن شبه المستحيل القيام بمراجعة شاملة لها. ما يلي هو مجرد تغطية بسيطة لعدد صغير من المواقع اليمينية التي تمثل تيارا برز في الغرب بعد الأزمة.
لا بد أولا من نظرة خاطفة إلى ثقافة كتابة اليوميات.
لماذا البلوغز ؟
هذه الظاهرة الحديثة نسبيا تثير جدلا واسعا في الأوساط الإعلامية لسبب بسيط: إنها تتيح لأي كان أن ينشر كل ما يريد بالصورة والنص والصوت، وأن يجعله متوفرا على شبكة الانترنت لملايين الناس. إنها ظاهرة إعلامية بامتياز، لكنها تحرم الإعلام التقليدي من احتكاره لإعلام الجماهير.
هكذا إذا تمكن كاتب يوميات عراقي، على سبيل المثال، من أن يخطف الأضواء العالمية خلال اجتياح البلاد عام 2003 من خلال كتاباته البسيطة من صلب موقع الحدث.
وهكذا أيضا يتمكن آلاف كتاب اليوميات في إيران والصين من تناول قضايا سياسية واجتماعية محظورة في الإعلام المسيطر عليه في بلادهم، ما يؤدي إلى ملاحقة مستمرة من السلطات لهم بسبب قوة رسالتهم وانتشارها.
نحن إذا أمام وسيلة إعلامية مختلفة تماما عن أي شيء سبقها، ومن الطبيعي أن تفرز كتابا يتناولون المواضيع الساخنة بحرية أكبر من الإعلام التقليدي.
إذا، ماذا يقول كتاب اليوميات عن الرسوم وتداعياتها؟
"تحالف كتاب اليوميات الكفار"، "علينا أن نقف إلى جانب الدنمارك وألا نسمح لناشري عقيدة غير متسامحة أن يحرمونا من أحد أكثر المبادئ الغربية حيوية: حرية التعبير."، "أصحاب المواقع (على الانترنت) الذين ينشرون رسوم يلاندز-بوستن يتعرضون للتهديد في حال لم يزيلوها. لقد استسلم الإعلام الأمريكي التقليدي للتخويف، لذا لا تنتظروا مساعدة منهم في هذا المجال."، "تقع مسوؤلية دفع الموضوع قدما على البلوغز، وعلينا أن نقوم بما نتقنه: أن نظهر الحقيقة." هذا النص ورد على موقع "إل جي إف" اليميني الأمريكي. وتحت النص وصلة تؤدي إلى الرسوم.
ويتابع الكاتب في مكان آخر ليشدد أن الموضوع يلخص بالآتي: "...حرية التعبير، وما إذا كانت حريتنا بالتفكير والكتابة والرسم يجب أن تخضع للـ"حساسيات الدينية" لكل من يهددنا بالعنف."
على موقع "باور لاين" الأمريكي اليميني أيضا، نرى رسالة مشابهة:
"لا تسمحوا للإرهابيين بإسكاتنا. نحن أمريكيون ويمكننا أن نهزأ بالأنبياء إذا اخترنا ذلك. ادعموا حرية التعبير." وتحت النص وصلة أخرى، هذه المرة إلى موقع يتيح لزائره أن يحصل على قميص عليه أحد الرسوم.
وعلى موقع يطلق على نفسه اسم "دراسة في الثأر"، يقول الكاتب:
"هذا الموقع يهدى إلى أصدقائنا في الدنمارك، تضامنا معهم ومع كل الغربيين الذين يعون أهمية حرية التعبير عن أنفسهم كما يشاءون بغض النظر عن غلاظة هؤلاء الذين يودون تهديد أرواحنا وحرياتنا بسبب...بعض الرسوم." ويلجأ أصحاب هذه المواقع إلى السخرية في معظم الأحيان، وقد اختار بعضهم إطلاق إسم "تحالف كتاب اليوميات الكفار" على موقعهم.
بالصور أيضا(12/206)
ولا يكتفي كتاب اليوميات بالنصوص المكتوبة، بل يلجأون أيضا إلى الصور. وعلى موقع باور لاين صور لتظاهرة أطفال في باكستان مناهضة للرسوم، وتحت الصورة كلام يشرح المغزى منها: "تذكروا هذا حين يقول أحدهم أن سبب كره المسلمين لنا هو سياسات إدارة بوش."
أما الصورة الثانية، فتبرز أحد الأولاد في التظاهرة حاملا سكينا. ويعلق الكاتب: "يبدو أن الأفضل له أن يذهب إلى المدرسة عوضا عن التهديد بتمزيق الكفار طعنا." وفي صورة ثالثة، تظهر إحدى المتظاهرات في باكستان مرتدية برقع وحاملة لافتة كتب عليها: "بارك الله بهتلر."
تيار فكري
وفي حين يبدو واضحا الشعور المعادي للإسلام بشكل عام لدى هؤلاء الكتاب، تبدو أيضا رغبتهم بالتشديد على أنهم أصحاب رسالة مبنية على فكر ما. فبموازاة لهجتهم الساخرة وهجومهم الكلامي العنيف والمهين أحيانا، يبرزون تحليلا سياسيا اجتماعيا لخلفيات الأزمة لدعم موقفهم. من هنا، يوجهون انتقاداتهم إلى الغرب، وتحديدا إلى ما يعتبرونه الفشل الذريع لتجربة "التعددية الثقافية" (multicultu صلى الله عليه وسلم alism) في أوروبا.
فحسب بعض الكتاب، فإن التعددية الثقافية قائمة نظريا على تشجيع المهاجرين على الحفاظ على تقاليدهم، في مقابل أن يتقبل هؤلاء القيم الأوروبية. لكن بالتطبيق، يتحول الأمر إلى شبه انفصال من جهة المهاجرين وإلى مقاومة فعالة للاندماج.
كما يرى الكتاب أن الأئمة المسلمين في الغرب "أتقنوا لعبة الليبرالية الغربية"، فيختبئون وراء فكرة حرية التعبير حين يلائمهم ذلك، ويحتجون عليها في أحيان أخرى، بانين ذلك على فكرة الحساسيات للثقافات المتعددة في البلاد. وفي مثل آخر على تشديدهم على أنهم أكثر من مجرد مجموعة معادية للإسلام، يقدم بعضهم شرحا للأسباب التي تدفعه إلى نشر الرسوم، مبنيا على رؤية لمكافحة الرقابة:
"من الضروري على كل صحيفة أن تعيد نشر الرسوم. هذا ليس مجرد تعبير رمزي عن الدعم، إنه إجراء عملي ضد الرقابة. فالرقابة، وخاصة العنيفة منها التي يهدد بها الأصوليون المسلمون، لا تفعل فعلها إلا في حال تمكنت من عزل الضحية، وجعله يشعر أنه وحده في دائرة الخطر."
ويتابع الكاتب:
"ليس العربي الأصولي في الشارع الذي يحمل لافتة تقول "اقطعوا رأس من يهين الإسلام" هو الذي يخيف الفنان أو الكاتب. ما يخيفه هو شعوره بأن حين يلاحقه من يود قطع رأسه سيكون وحده لأن الآخرين سيتصرفون بجبن وسيضعون رؤوسهم بالأرض."
أربعة تيارات رئيسية
يصعب التنبؤ بالمنحى الذي سيأخذه الجدل الذي خلفته أزمة الرسوم. لكن تدقيقا في أطراف الجدال المختلفة قد يساعد على توضيح الصورة. يمكن التمييز بشكل عام بين أربعة تيارات عامة في النزاع الفكري القائم:
بعض اليمين الإسلامي يرفع الصوت عاليا في العالم الإسلامي وفي الغرب في آن معا، قائلا:
الإسلام يتعرض لحرب من الغرب
الحل هو مقاومة المد الغربي في العالم الإسلامي والعمل من أجل إقامة حكم إسلامي عالمي. وقد روج لهذا الفكر عدد من الشخصيات الإسلامية في بريطانيا على سبيل المثال، بينهم أنجم شوداري الذي ظهر أكثر من مرة على برامج بي بي سي قائلا إن حكم الشريعة الإسلامية يمثل نظام حكم متفوق على الديمقراطية الغربية. يصعب تحديد مدى انتشار هذا التيار، لكن يمكن القول إنه في بريطانيا يمكن حصره بعدد قليل من الشخصيات التي تتحدث علنا بهذا المنطق، مع أن بعض الاستطلاعات تشير إلى ارتفاع نسبة المسلمين المؤيدين لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في بريطانيا.
تيار إسلامي توفيقي
من جهة أخرى، يسعى تيار من المسلمين إلى التوفيق بين الانتماء للإسلام والانتماء إلى المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها. ويرى هؤلاء: أن الإسلام يتعرض لعنصرية من جانب عدد كبير من الغربيين، بما في ذلك الإعلام. أن ذلك لا يمثل كل المجتمع الغربي. أنه يتعين إيجاد طريقة للتوفيق بين حرية التعبير واحترام المقدسات. أنه من الخطأ اللجوء إلى العنف في كل الحالات.
تيار غربي توفيقي
التيار في الغرب الذي عبر عنه معظم السياسيين الأوروبيين، بالإضافة إلى الإدارة الأمريكية ومعظم الإعلام التقليدي، يرى أن:
الإسلام دين مسالم بجوهره. بعض المتطرفين يسعون لاستغلال أوضاع سياسية متأججة في الشرق الأوسط لفرض صيغة عنيفة من الإسلام. يتعين إيجاد طريقة للتوفيق بين حرية التعبير واحترام المقدسات.
أما أقصى اليمين في الغرب، فهو الذي عبر عنه كتاب اليوميات، والذي بينهم من يرى أن الإسلام بجوهره لا يتقبل الاختلاف ويميل إلى استخدام العنف لفرض مقدساته على من لا يؤمن بها، وأن صيغة التعددية الثقافية فشلت فشلا ذريعا.
bbca صلى الله عليه وسلم abic.com
==================
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ
د. محمد بن سعد الشويعر(12/207)
مَنْ يقول من أهل الكتاب: إن الإسلام يعاديهم، فهو ناقص الفهم، إنه لا يعادي إلاّ ما عارض شرع الله الذي أنزله سبحانه: على موسى - عليه السلام - في التوراة أو ما يسمونه العهد القديم، وما بدّلوه بحسب ما تصف الألسن، افتراء على الله.
ولا يعادي ما أنزله الله على عيسى - عليه السلام - في الإنجيل، لكن الإنكار على ما أُدْخِل في الإنجيل، ممّا لم يأمر به الله سبحانه، ولذلك أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقاعدة عامة، مضمونها أن ما حدّث به أهل الكتاب فلا نصدّقه ولا نكذّبه: لا نصدقه مخافة أن يكون مما عدّل وبدّل، ولا نكذّبه كذلك، ولكن نعرضها على ما شرع الله ورسوله لنا، فما وافقه أخذنا به، وما ناقضه تركناه.
لأنّ شرع الله الذي شرع لعباده واحد، خاصّة فيما يتعلّق بتوحيد العقيدة مع الله، وأُبْقُوا على دينهم، حتى يطمئن من عرف دينه منهم حقيقة بمكانة دين الإسلام، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم -: أن من عرف الحقيقة منهم، فكان مصدقاً بنبيّه وكتابه، ثم لمّا عرف الإسلام: آمن به وبنبيّه - صلى الله عليه وسلم -، فإن له أجرين: أجر دينه الذي كان مؤمناً به، ثم لما عرف الحقّ من دين الإسلام، فاضت عيناه من الدّمع، لَمَا عَرَفَ من الحقّ فآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبرسالته واتّبعها، لأنّه يجد وصف ذلك في كتبهم.
يقول سبحانه في هذا: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(199)سورة آل عمران.
ويوم عاشوراء الذي أطلّ قمره، في العاشر من محرم حسب الشّهر العربي، يوم عظّمه أهل الكتاب فصاموه لأن موسى - عليه السلام - صامه، فكان له مكانة عند أهل الكتاب، وحتى عرب الجاهلية عرفوه أيضاً بتعظيمهم المحرم.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما قدم المدينة رأى اليهود، يصومون اليوم العاشر من شهر محرم، فسألهم عن السبب؟ فقالوا: هذا يوم نجّى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى - عليه السلام -، فنحن نصومه.. شكراً لله.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: (نحن أحقّ بموسى منكم)، فصامه وأمر بصيامه، وقال لما سئل عن صوم يوم عاشوراء؟ احتسب على الله أن يكفِّر السّنة التي قبله) أخرجه مسلم في الصيام - فضل صوم المحرم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
وقد أجمع العلماء، على سنيّة صيام عاشوراء، لكنه ليس بواجب، فهو سنّة مؤكّدة، قال عبد الرحمن ابن قاسم في حاشية الروض المربع: عاشوراء: اسم إسلامي لم يعرف في الجاهلية، وهو العاشر من محرم وأجمعوا على سنّية صيام عاشوراء، وأنه ليس بواجب، وعن أحمد وجب ثم نسخ، اختاره الموفّق والشارح - يعني نفسه - والشيخ وغيرهم، وفاقاً لأبي حنيفة، وبقي استحبابه إجماعاً، والأخبار فيه مستفيضة، أو متواترة (450:3
وسئل ابن عباس عن صيامه؟ فقال: ما صام رسول - صلى الله عليه وسلم - يوماً يطلب فضله على الأيام، الاّ هذا اليوم، ولا شهراً الاّ هذا الشهر يعني رمضان، مع ان رسول - صلى الله عليه وسلم -، حث على صيام شهر المحرم لفضله.
وروى مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لئن بقيت، أو لئن عشت إلى قابل، لأصومنّ التاسع يعني مع العاشر). ولذا قال العلماء: يكره إفراد العاشر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده خالفوا اليهود)... وفي رواية: (صوموا يوماً قبله، ويوماً بعده) ويقول بهذا من يشكّ في الشهر، أو من يستحسن صيام ثلاثة أيام متتابعة، ولذا من ترجيحات شيخنا عبد العزيز بن بكر، واستحسانه صيام هذه الثّلاثة. رحمه الله.
ومن هذا التفضيل بالصيام، أنه تعبير عن شكر نعمة الله: حيث انتصر الحق بنجاة موسى وقومه، واندحر الباطل، بغرق فرعون وقومه: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}(40)سورة القصص، ولكن أهل الكتاب ضيّعوا فضل هذا اليوم، وتمسّك به المسلمون.
ويوم الجمعة كان يوماً يعظمه أهل الكتاب أيضاً، كما في كتبهم، ولكنهم ضيّعوا هذا الفضل فقد رُوي في الموطأ وعند الترمذي وأبي داود والنسائي، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: خرجت إلى الطّور، فلقيت كعب الأحبار، فحدّثته عن التّوارة، وحدثنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: (خير يوم طلعت عليه الشمس) يوم الجمعة. فيه خلق آدم، وفيه أهبط وفيه تِيْبَ عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابّة إلاّ وهي مصيخة يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقاً من الساعة، إلاّ الجنّ والإنس، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي، يسأل لله شيئاً إلاّ أعطاه الله.. قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة.(12/208)
فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو هريرة: فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري، فحدثته، ثم لقيت عبد الله بن سلام، فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار، وما حدثت كعباً به عن يوم الجمعة، فقلت له، قال كعب: ذلك في كل سنة يوم، فقال عبد الله بن سلام: كذب كعب. فقلت: ثم قرأ كعب التوراة، فقال: هي في كل جمعة، فقال عبد الله بن سلام: صدق كعب.. إلى آخر الحديث.. وكعب وعبد الله، من أحبار اليهود الذين عرفوا اليهود فأسلموا.
وواقعة ثالثة، تتقارب في المغزى مع غيرها، ممّا تقوم به الحجة على أهل الكتاب، بعدم اتباعهم دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لما جاء في صحيح التوراة، وماجا في البشارة به في الإنجيل - عليه الصلاة والسلام -، ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن اليهود قالت له: إنكم تقرأون آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية؟ قالوا: {الْيَوْمَ أكملتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}(3)سورة المائدة. قال عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والساعة نزلت يوم الجمعة عشية عرفة.
وهذا يدل على أنهم يعرفون النبي محمداً، ودينه كما يعرفون أبناءهم.. ولذا جاء في حديث عاشوراء عنه - صلى الله عليه وسلم -: (صوموا يوماً قبله أو يوما بعده خالفوا اليهود) ومنه كره العلماء صومه منفرداً.
خبر غرق فرعون
جاء عند النويري في نهاية الأرب: لمّا رجع فرعون بجنوده، وقد أجرى لهم النيل بزعمهم، دخل عليه جبريل في صورة آدميّ حسن الهيئة، فقال له: من أنت؟ قال: عبيد من عبيد الملك، جئت مستعدياً على عبد من عبيدي، مكّنته من نعمتي، وأحسنت إليه كثيراً، فاستكبر وبغي وجحد في حقي، وتسمّى باسمي، وادّعى في جميع ما أنعمت عليه به، أنه له وأنه لا منعم عليه به.
قال فرعون: بئس ذلك من العبيد، قال جبريل: فما جزاؤه عندك؟ قال: يغرق في هذا البحر، فقال جبريل أسألك ان تكتب لي خطكّ بذلك. فكتب له فرعون خطاً، وأخذه جبريل، وجاء به إلى موسى، وأمره عن الله سبحانه، أن يرتحل بقومه عن مصر، فنادى موسى في بني إسرائيل، وأمرهم بالرحيل، فارتحلوا وهم يومئذ ستمائة ألف. وأهل التّوراة يقولون: لا يعد فيهم ابن خمسين سنة، ولا ابن عشرين سنة، ويقولون هو نصّ التوراة.
فلمّا سمع فرعون بارتحالهم، أمر باجتماع جنوده قال تعالى {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}(53)سورة الشعراء، فاجتمعوا وهم لا يحصون كثرة. قيل: إن هامان كان على مقدمة فرعون بألف ألف وستمائة ألف.
قال الكسائي: فساروا حتى قربوا من موسى ومن معه، فقالوا: يا موسى قد لحقَنا فرعونُ بجنوده، والبحر أمامنا والسيف وراءنا، قال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (62)سورة الشعراء، فأوحى الله أن اضرب بعصاك البحر، فضربه {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}(63)سورة الشعراء، وصار فيه اثنا عشر طريقاً، للأسباط الاثني عشر، فجعلوا يسيرون وموسى أمامهم، وهارون وراءهم.
وجعل الله بينهم فتحاً، ليرى بعضهم بعضا، وجاء فرعون ومن معه إلى البحر، ورأى تلك الطرق فيه، فقال لهامان: هذه تفرَّقت من هيبتي، وقصد الاقتحام فلم يطاوعه فرسه ونفر من العبور، فأتاه جبريل على رمكة في صورة آدمي، فدنا من فرعون، وقال: ما يمنعك من العبور؟ وتقدّم إلى جنبه فأشم فرس فرعون، رائحة الرّمكة، فتبعها ودخل فرعون وجنوده، وجبريل أمامهم وميكائيل يسوق الناس، حتى لم يبق من جنود فرعون أحد على الساحل.
فجاءه جبريل بخطّه، فلما رآه فرعون عرف انه هالك، وانضمّتْ الطّرق، وأغْرق الناس وفرعون ينظر إليهم، فقال: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسرائيل}(90)سورة يونس، فقال له جبريل: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(91)سورة يونس، ثم غرق فرعون وجميع من معه، وبنو إسرائيل ينظرون (208:13 - 209).
==================
أزمة الرسوم المسيئة للرسول الكريم
لقاء مع فضيلة الشيخ سلمان العودة على قناة الجزيرة – برنامج الشريعة والحياة
مقدم الحلقة: عبد الصمد ناصر
ضيف الحلقة: سلمان العودة/ المشرف العام على مؤسسة الإسلام اليوم
تاريخ الحلقة: 19/2/2006(12/209)
عبد الصمد ناصر: السلام عليكم ورحمة الله وأهلا بكم في برنامج الشريعة والحياة، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران الآية الرابعة والستين {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} صدق الله العظيم، في الثلاثين من سبتمبر/ أيلول 2005 نشرت صحيفة (jyllands post صلى الله عليه وسلم n) في الدانمارك اثني عشر رسما كاريكاتوريا بذيء يسيء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وشملت تعليقا لرئيس التحرير عبّر فيه عن دهشته واستنكاره إزاء القداسة التي يحيط بها المسلمون نبيهم صلى الله عليه وسلم غير أن هذا التاريخ ليس يتيماً ولا معزولا فالرسوم السلبية لشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليست جديدة فهناك رسوم قديمة ربما يعود بعضها إلى القرن الثامن عشر الميلادي وربما يمكن عزو بدايات ذلك إلى عهد الحروب الصليبية وما رسخته من صور نمطية عن هؤلاء الآخرين الأعداء وقد تكرر عبر الشهور الماضية تحديداً الهجوم على شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الإسلام بذريعة أنه دين كراهية ودين قتل من قبل صحفيين وإعلاميين وساسة وزعماء دينيين في الولايات المتحدة وأوروبا ومن هنا ذهب أحد علماء الأنثروبولوجيا إلى أن الإسلام تحت الحصار وهو حصار تفرضه رؤى سياسية واستراتيجية وإعلامية وأيديولوجيا عامة معادية للإسلام ومقابل ما ذكرناه ثمة كتابات تناقش وتنتقد مساواة الإسلام بالإرهاب مما يعني أن هناك جدل قوي حول علاقة الإسلام بالإرهاب لكن هذا الجدل يكاد يكون محصورا في الأوساط الفكرية أما الأوساط الشعبية والإعلامية بل والسياسية فتسودها صور نمطية سلبية عن الإسلام والمسلمين وعلاقتهما بالعنف، فما هي الدوافع الكامنة وراء الرسوم المسيئة والهجوم على الإسلام؟ وكيف يمكن التعامل مع ذلك؟ وكيف نقوِّم ما حصل من ردود أفعال؟ وما تأثير ذلك على علاقة المسلمين بأوروبا؟ وما هي العلاقة بين حرية التعبير والمقدسات الدينية؟ وكيف نتجاوز أزمة الرسوم؟ إذاً أزمة الرسوم وكيف نتجاوزها موضوع حلقة اليوم من برنامج الشريعة والحياة مع الداعية الإسلامي الشيخ سلمان العودة المشرف على مؤسسة الإسلام اليوم (Islam today) فضيلة الشيخ مرحبا بك.
سلمان العودة- المشرف العام على مؤسسة الإسلام اليوم: مرحبا أهلا وسهلا.
أسباب وتفسيرات الأزمة:
عبد الصمد ناصر: يا هلا وسهلا يعني فضيلة الشيخ كل يوم نرى أن هذا الغضب الإسلامي على هذه الرسوم البذيئة المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم مازال مستمرا والملاحظ أن رغم كل هذه الموجات الغاضبة الساخطة والاحتجاجات المتكررة في العالمين العربي والإسلامي تحديداً إلا أن العديد من الغربيين من مختلف التوجهات يبدون استغراباً ولا يبدو أحد منهم متفهم لماذا كل هذا الغضب والسخط في العالم الإسلامي كيف يمكن أن نفهم هذا؟(12/210)
سلمان العودة: نعم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله الذي خاطبه ربه عز وجل بقوله {إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ} {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ} {إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} وقد قرأت هذه السورة مساء هذا اليوم واستحضرت هذا المعنى وهذا الموضوع فأدركت أولا قوله سبحانه {إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ} وهذه بشارة من الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بل وللأمة كلها أن الخير الكثير المبارك وليس فقط نهر في الجنة بل كل ألوان الخير له ولدينه ولأمته فهي موجودة باقية ومهما كان الحصار والضغط والمواجهات فقد أثبت هذا الدين وهذا النبي صلى الله عليه وسلم وهذه القيم التي يحملها جدارتها بالحياة وخلودها وأنها تستعلي على كل التحديات ثم قوله سبحانه {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ} وهذا فيه نوع من ضبط العلاقة مع الله بالصلاة والعلاقة مع الخلق من خلال قوله {وانْحَرْ} ويقين يعرف المسلم هنا أن النحر ليس نحر البشر كما يريد الأعداء هو نحر البُدُن {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} هو الصدقة هو البذل هو العطاء هو الإحسان إلى الناس إذاً الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله هذا هو منهجه صلى الله عليه وسلم، ثم قال سبحانه {إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} وهذا فيه إشارة إن الذين يستهزؤون به صلى الله عليه وسلم ويسخرون به هم الذين كتب عليهم الزوال وكتب البقاء لدينه وهكذا نجد أنه لما نزلت هذه السورة كان أتباع النبي صلى الله عليه وسلم قليلا في مكة مستضعفون في الأرض مستضعفين في الأرض وكانوا يخافون على أنفسهم والله تعالى وعدهم بالكوثر والخلود وهكذا حدث والذين حاربوه كانوا أهل مال وجاه وولد {ذَرْنِي ومَنْ خَلَقْتُ وحِيداً} {وجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدوداً} {وبَنِينَ شُهُوداً} {ومَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} وانظر أن الكثيرين لا يعرفون حتى أسمائهم فالكل يتحدثون عن أبي جهل لكن لو سألتهم ما اسم أبي جهل لم يعرفوه وكذلك أبو لهب فهذا مصداق ما أخبر الله تعالى به ولعله من المستحسن في مثل هذه المواقف التي يشعر فيها المسلمون بالمضض والغضب أن يكون هناك نوع من إعادة قراءة مثل هذه المعاني وترطيب القلوب والنفوس بها لأن كثير من المسلمون جرحوا من المسلمين جُرحوا في أعز ما يملكون وهو محبتهم للرسول صلى الله عليه وعلى أهله وسلم، نعود إلى السؤال الذي تفضلت به في قضية الموقف الغربي قد أستطيع أن أقول إن الغرب يواجه نوع من العزلة الحضارية يعني هو يعيش حضارة ولكنه يعيش عزلة عن بقية العالم وهذا أمر مشكل جدا فربما أن الغرب يظن نفسه هو العالم ويعترف نظريا بالتأكيد بالآخرين الذين يختلفون معه ثقافيا ودينيا وحضاريا يعترف بهم نظريا لكن أعتقد أن الغرب في هذه المرحلة بحاجة إلى يعني تأكيد هذا الاعتراف بشكل عملي الغرب يعترف نظريا بوجود الآخر المختلف معه لكن لا أظن أنه يعترف عمليا بثقافة الآخر المختلف أو بحضارته أو بدينه بدليل أن الغرب يعتبر نفسه العالَم..
عبد الصمد ناصر [مقاطعاً]: مركز الكون..
سلمان العودة [متابعاً]: مركز الكون بالضبط يعني مثلما..
عبد الصمد ناصر: المركزية الغربية ما يسمى المركزية الغربية..
سلمان العودة: المركزية يعني الآن الغرب يقول العالم الفنان العالمي أو المبدع العالمي المنتَج العالمي بل حتى الحرب.. الحرب العالمية فكل ما ينتمي إلى الغرب فهو يأخذ صفة العالمية والكونية وحتى القيم والمعايير التي يتم الوزن بها هي يبدو تنطلق من طبيعة معينة شعور الغرب بالتفوق وشعوره بالقوة في هذه المرحلة ولذلك ربما يكون من المناسب أن أشير إلى أن أصل المشكلة يرجع في الواقع إلينا نحن تخلّف العالم الإسلامي تخلفا تقنيا حضاريا سياسيا مسؤول إلى حد كبير عن هذا الأمر وتلك الرسوم قبل قليل الأخ كان يسألنا يقول هل رأيتم الرسوم ما هو مضمونها فالرسوم منها ما يصف النبي صلى الله عليه وسلم بالتخلف منها مَا يصف النبي صلى الله عليه وسلم بالإرهاب كما أنت أشرت في مقدمة حديثك منها ما يصف النبي صلى الله عليه وسلم بالشهوانية منها ما يصف النبي صلى الله عليه وسلم بألوان من المعاني التي يحاولون أن يلصقوها بالمسلم القدرية والاستسلام إلى غير ذلك من المعاني إذاً الوضع الذي يعيشه المسلمون في تخلفهم هو مسؤول جزئيا من هذه الناحية ومسؤول من ناحية أخرى أيضا وهي أننا نجد أن اليهود مثلاً أفلحوا في استخراج قوانين عالمية تجرِّم التعرض للهولوكوست أو تصويره أو إنكار هذه القضية التاريخية..
عبد الصمد ناصر: حتى العدد حتى التقليل من العدد..(12/211)
سلمان العودة: أو التقليل من العدد وقد حوكم مفكرون مثل ما حصل لغارودي وغيره تحت طائلة هذه القضية بل يوجد في أميركا الآن ليس فقط قانون وإنما جهات تتابع كل ظاهرة يمكن أن توصف بهذا وتلاحقها عبر العالم كله الذي لا يساعد نفسه لا يمكن أن يساعده الآخرون ولذلك..
عبد الصمد ناصر: على كل حال هذا يدخل في إطار أو في محور كيف نخرج من هذه الأزمة وكيف نديرها تفسير الأهداف يعني المسلمون صُدموا بأن تنشر مثل هذه الرسوم ولم يفهموا المغزى والمعنى لها أو يجدوا لها تفسيرا لذلك اختلف التفسيرات من هذا وذاك وبين جهة وأخرى حتى بين بعض المسلمين أنفسهم هناك مَن يقول بأن الإسلام هو المستهدف كدين وقيم ومفاهيم وهناك من يقول بأن هناك حملة منظمة تستهدف جسّ النبض نبض الشارع الإسلامي وقياس مدى وجود الإسلام في حياة المسلمين هناك من يؤمن بنظرية المؤامرة بأن اللوبي الصهيوني يحاول إحداث شرخ بين العالمين العربي والإسلامي عفوا والمسيحي إلى غير ذلك من التفسيرات لكن إحدى المعلقات وهي تمثل طبعا تيارا فكريا معينا في الغرب في أوروبا تحديدا كتبت في صحيفة إنديبندنت البريطانية رأت أن الهدف الحقيقي للذين نشروا تلك الرسوم وبين قوسين وصفتهم بالفرسان التحرريين بأن هدفهم هو البرهنة على أن المسلمين لا يمكن أن يمثلوا جزء من أوروبا لأنهم حسب قولها كما وصفتهم أيضا رجعيون لحد يجعلهم يستهجنون رسم نبيهم وهو يحمل قنبلة في عمامته، السؤال هنا كيف يمكن تفسير هذه الأزمة في سياق علاقة أوروبا بالمسلمين أو لنقل في سياق الوجود الإسلامي في أوروبا وفي الغرب عموما؟
سلمان العودة: بغض النظر عن يعني تداعيات أو أسباب هذه الرسوم قد تكون هذه الرسوم شرارة معينة وفي كثير من الأحيان ليس المشكلة فقط بداية الفعل لكن تطورات الفعل بمعنى أنه هناك أطراف..
عبد الصمد ناصر: يجب أن نعرف الأسباب قبل أن نعالج الأمر..
سلمان العودة: هناك أطراف قد لا تصنع الفعل ولكنها تستغله أو تستخدمه بالتأكيد يوجد في كل دولة في العالم يوجد متطرفون يوجد يمينيون يوجد عنصريون ونحن نعرف أن هناك نماذج من الذين تجاوبوا مع هذه الرسوم سواء في إيطاليا أو في فرنسا أو في ألمانيا أو في أي مكان هناك عينات معينة عندهم أصلا نزاعات عنصرية بل هناك أحزاب يمينية تحارب من تسميهم بالمهاجرين وتسعى إلى حرمانهم من الحقوق العادية وبالنسبة للمسلمين في أوروبا المسلمون يعيشون يعني في كل بلد أوروبي وأحيانا يشكلون قوة يعني لا بأس بها..
عبد الصمد ناصر: قوة ناشئة الآن في أوروبا..
سلمان العودة: والملاحظ أنهم أن هناك يعني كثرة التوالد بين المسلمين خلاف للأجناس الأخرى وهذا قد يقلق أطراف معينة تشعر بأنه يجب عزل المسلمين عن الحياة الأوروبية ليس هذا فقط بل أقول حتى العالم الإسلامي هناك يعني محاولات كثيرة لتجاهل خيارات العالم الإسلامي يمكن من حقنا أن نتساءل أن أوروبا الآن مثلا تتحدث عن سياسيا وأميركا عن الديمقراطية لكن قبل أسبوع قرأت مقال لأحد كبار المسؤولين في ألمانيا يقول إنه يبدو أن الديمقراطية لا تصلح للعالم الإسلامي لماذا؟ لأنها سوف تأتي بقوى لا تناسبنا ولا نستطيع أن نتقبل بها إذاً هناك معايير..
عبد الصمد ناصر: المقصود قوى إسلامية..
سلمان العودة: قوى إسلامية..
عبد الصمد ناصر: ولكن مقابل هذا التيار هناك تيارا سياسيا آخر في الغرب يحاول التقرب من هذه القوى وفتح قنوات حوار معها الآن؟
سلمان العودة: نعم بدون شك كما قال ربنا سبحانه {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} الأمم كلها ليست سواء ألوان الطيف المختلفة تكون موجودة ولهذا ربما يكون من الأشياء المهمة في مثل هذه الأزمة أن على المسلمين الذين يرصدون القضية ألا يعمموا الأحكام هكذا تماما لأن معنى تعميم الأحكام أننا سوف نتوقف عن توجيه الحوار والخطاب والدعوة وهذا مطلب شرعي فيوجد في أوروبا ويوجد في أميركا ويوجد في أنحاء العالم بل في هذه الأزمة بالذات سمعنا أصوات وقفت إلى جانب المسلمين وسمعنا بل فيه مواقف رفضت هذه الممارسات رفضت إعادة الرسوم استهجنتها اعتبرتها إساءة وهذا دليل على أن المسلمين لما تحركوا وهبوا وجدت أصوات هناك تنصرهم لكن لما يكون المسلمون ساكتين حتى الذين يستنكرون هذه الرسوم لا يمكن أن يكونوا أحرص منكم على دينكم وأغير منكم على نبيكم عليه الصلاة والسلام..
عبد الصمد ناصر: ولكن قد يرد قائل بأن الذين أو هذه الأصوات المعتدلة كما تسمى ربما يحركها عاملا اقتصاديا عامل مصالح؟(12/212)
سلمان العودة: وليكن هو أولا يعني نحن بيننا وبينهم وسائل كثيرة جدا للتحاور وإيصال الرسالة لكن حتى قضية المصالح يعني لما ضغطنا من خلال المقاطعة على المنتجات الدانمركية في جميع بلاد العالم الإسلامي حتى وصلت مبيعاتها إلى الصفر وأغلقت مصانع في السعودية وفي أكثر من بلد إسلامي تضررت هنا أصبح للقضية معنى، أود أن أؤكد أنه لو اقتصرت القضية فقط على مجرد المظاهرات أو الاحتجاجات الغاضبة ربما لم تصل إليهم لأنه في كثير من الأحيان نواجه مشكلة أننا قد نخاطب أنفسنا لكن لا نخاطب العدو لا تصله الرسالة فالمقاطعة هي الأسلوب والسلاح الذي يفهمونه والذي بموجبه وصلت الرسالة وبدؤوا يدرسون الموضوع من جديد.
عبد الصمد ناصر: ربما استغرب الكثيرون يعني من المسلمين بشكل عام أن الكثير من الدول الأوروبية كررت هذه الفعلة الشنيئة وجعل البعض يفسر هذا الإلحاح الغربي على أنه صلف وعناد لفرض الثقافة الغربية القيم الغربية القائمة على تحطيم المقدس الديني كما يشيع له الكثير من المؤمنين بمشروع الحداثة الغربية، ما دقة هذا التفسير فضيلة الشيخ؟
سلمان العودة: قد يكون هذا التفسير دقيق بالنسبة للذين قاموا بهذا العمل في أوروبا جهات بدون شك متعصبة أصولية كما يسمونها المسيحية الأصولية عندها غلو وفي أميركا وهذه نطقت بذاتها..
عبد الصمد ناصر: حتى غير المتدينين منهم ساندوهم..
سلمان العودة: هذا صحيح يعني فيه فئات عديدة في كل بلد أوروبي هي انطلقت من منطلق تعزيز هذا الموقف الدانماركي واتهامها للمسلمين بأنهم لا يفهمون حرية التعبير ومحاولة فرض المفهوم الخاص والضيق بل ليس فقط أنه مفهوم خاص وضيق وإنما هو مفهوم بمعيارين لأن حرية التعبير التي ينادون بها ويقولون أن المسلمين لم يفهموها هذه الحرية ليست مطردة فهم لا يستطيعون أن ينشروا مثلا أي صور سلبية عن الهولوكوست ولا يستطيعون أن ينكروها بل ولا يستطيعون أن يتحدثوا..
عبد الصمد ناصر: حتى خصوصيات بعض الأفراد مثلا..
سلمان العودة: نعم بعض الأفراد الرمزيين أو حتى أنا وجدت إنه الاتحاد الأوروبي انتقد إحراق الأعلام في أكثر من بلد العالم ما هو إنما هو عبارة عن خرقة وقيمته معنوية أو رمزية الجريدة نفسها التي نشرت هذه الرسوم ذكرت صحيفة الغارديان الفرنسية..
عبد الصمد ناصر: البريطانية..
سلمان العودة: أنها رفضت نشر رسوم عن قيامة المسيح عام 2003 فأين كانت حرية التعبير عام 2003؟ وقالت وعلل رئيس التحرير عدم النشر حتى لا يسيء إلى بعض القراء طيب أين عدم الإساءة إلى القراء؟ هنا سؤال أو نقطة مهمة لو أن هذه الجريدة أو أي جريدة أخرى نشرت صور لشخص معين حي بلحمه ودمه بهذه الطريقة المشينة المزدوجة..
عبد الصمد ناصر: ستدعوهم أمام المحاكمة..
سلمان العودة: أليس من حقه أن يتابعهم أمام المحاكم؟
عبد الصمد ناصر: طبعا..
سلمان العودة: طيب ألا يمكن أن يصل إليهم فهم أو وعي من خلال هذا الصوت الذي وصل إليهم تحديدا أن المسلمين ربما يتساهل أو يقبل الواحد منهم أو يعفو أن يتم تناوله شخصيا بهذه الطريقة لكن الرسول صلى الله علي وسلم أحب إليهم من أولادهم وآبائهم وأمهاتهم ومن الناس أجمعين وهذا جزء من الدين {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم محبة دينية محبة فطرية نحن نطلب رضا ربنا سبحانه والفوز بالجنة من خلال محبة هذا النبي الكريم ونستشعر تضحيته صلى الله عليه وسلم وصبره في إيصال الرسالة {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} يعني هذا التناول أشد على أي مسلم مما لو كان التناول له شخصيا..
عبد الصمد ناصر: طيب حتى نغوص أكثر ونبحر أكثر في التفسير هل ترى أو تتفق مع مَن يقول بأن هذه الأزمة ليست فقط أزمة صراع أوروبي إسلامي إنما هي صراع بين رؤيتين إحداهما علمانية وضعية والأخرى متدينة تريد الحفاظ على المقدس؟
سلمان العودة: يعني أولا أريد أن أؤكد..
عبد الصمد ناصر: هل يوجد صراع بين العلمانية والتدين؟(12/213)
سلمان العودة: نعم الصراع بين أوروبا والشرق أو بين العلمانية التي لا تؤمن بمقدس أصلاً يعني نرجع إلى أن أصل المبدأ مبدأ هذه الرسوم هو يقوم على صورة صحيحة يعني هذه عبارة عن جهالة ولذلك تفسيرها من الصعب أن يتم بهذه الطريقة فلا يمكن أن نقول إن هذا صراع بين أوروبا وبين العالم الإسلامي لأن هذا صراع بين السفهاء الذين لا يقدّرون المصالح من جهة وبالتالي هنا يتوجب وهذا الذي ينبغي أن يؤكَّد يتوجب على أوروبا وعلى العقلاء في العالم كله أن يكون هناك موقف صارم وصريح في قضايا المستقبل نحن نجد أن هذه الرسوم أحدثت آثار بشرية وإنسانية ليست بالهينة فمن هنا ما الذي يؤمن أن يتم التكرار؟ لذلك كثير من المسلمين يتكلمون عن قضية الاعتذار المطالبة بالاعتذار، المطالبة بالاعتذار هنا هي قيمة رمزية من أجل ضمان ألا يتكرر الفعل يعني بمعنى إنه هذا الفعل خطأ وإذا كان خطأ معناه إنه لن يتكرر ومن يكرره سوف يكون تحت طائلة العقاب والمؤاخذة أما إذا ظلت القضايا..
عبد الصمد ناصر: الاعتذار كاف تعتقد؟
سلمان العودة: لا أنا أعتقد كما قلت الاعتذار هو عبارة عن شيء رمزي هناك مجموعة قضايا مجموعة إجراءات..
عبد الصمد ناصر: إذاً أن هناك خطوات يجب أن تتبع الاعتذار؟
سلمان العودة: نعم يمكن أن يتم الوصول إليها..
عبد الصمد ناصر: ما قولك في مَن يرى بأن الاعتذار كاف وربما آخر الأصوات التي رأت ذلك في المملكة العربية السعودية الشيخ أعتقد الأبيكان عضو مجلس الشورى قال بأن الاعتذار كاف؟
سلمان العودة: هو أولا ينبغي أن يعرف إنه لم يصدر اعتذار هناك..
عبد الصمد ناصر: صدر عن الصحيفة..
سلمان العودة: حتى عن الصحيفة على حد علمي أن هناك أسف نوع من الأسف الاعتذار الصحيفة لا زالت تتمنع عن كتابة الاعتذار، الاعتذار معناه أن الصحيفة أخطأت الصحيفة لا زالت تصر على أن هذا من حرية التعبير أنا أسأل حرية التعبير هي إحدى القيم الاجتماعية وهذه الحرية حرية مشروطة كأي قيمة أخرى الآن في الغرب أخي لو أن أحد الصحف تكلمت عن قضية من قضايا المقاومة الوطنية في العالم الإسلامي لاعْتُبِرَ هذا نوع من تمجيد الإرهاب وأوخذت الصحيفة أو القناة تحت طائلة العقاب في ظل قانون يسمى ملاحقة تمجيد الإرهاب وهذا أمر موجود ومعروف فهذه الحرية المطلقة ليست موجودة إلا في الخيال أما في الواقع فكل الحريات مضبوطة أقول هذه الصحيفة لم تعتذر لا زالت تعتبر أن ما فعلته هو جزء من حرياتها وأن المسلمين عليهم أن يعدلوا مفاهيمهم إنما الصحيفة أبدت الأسف وحتى المسؤولين هناك بل هناك نقطة مهمة جدا وأنا أود أن ينتبه لها كل المعنيين في القضية أن في الدانمارك هناك محاولة لإيجاد انشقاق داخل الجالية الإسلامية هناك أكثر من مائتين ألف أو مائة وثمانين ألف مسلم في الدانمارك هناك نوع من استبعاد أئمة المساجد وجمهور المسلمين واعتبار أنهم مسؤولون عن هذا الحدث وإيجاد نوع من العلاقة الخاصة مع مجموعات أخرى قد يكون لها رؤيتها نحن لا نتحدث عنها لكنني أقول يجب أن يكون هناك وعي عند العقلاء في الغرب بمعالجة القضية من خلال مخاطبة المسلمين جميعا وليس اللعب على تناقضات معينة قد توجد بين فئة وأخرى هذا معنى مهم جدا.
عبد الصمد ناصر: نعم يعني إحنا خصصنا هذا الجزء الأول لتوضيح التفسيرات التي تبدو وراء هذه الرسوم على كل حال سنخصص المحور الثاني للاستجابة الإسلامية وتجاوب المسلمين أو تفاعل المسلمين مع هذه الأزمة ولكن نستأذنك بعد هذا الفاصل فضيلة الشيخ نعود إليكم بعد هذا الفاصل فابقوا معنا.
الاستجابة الإسلامية للأزمة:
عبد الصمد ناصر: السلام عليكم ورحمة الله وأهلا بكم من جديد في الشريعة والحياة حلقة اليوم حول أزمة الرسوم وكيف نتجاوزها وضيفنا الشيخ سلمان العودة الداعية الإسلامي والمشرف على مؤسسة الإسلام اليوم (Islam today) فضيلة الشيخ تحدثنا في المحور الأول عن الأسباب نريد أن نخصص الجزء الثاني للاستجابة الإسلامية لهذه الأزمة والتفاعل معها هناك شخصيات منظمات إسلامية كثيرة بادرت الآن للدعوة إلى السيرة النبوية الشريفة عناية خاصة والعمل على التعريف بشخصية الرسول وحياته وإظهار صفاته وخلقه إلى أي مدى تعكس أزمة الرسوم هذه الرسوم المشينة جهل بالإسلام حتى تكون خطوتنا أو إجابتنا هي التعريف بالرسول صلى الله عليه وسلم؟(12/214)
سلمان العودة: والله هذا سؤال أنا اعتبر إنه مركزي الحقيقة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لخّص رسالته بقوله "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" لاحظ قضية الأخلاق كقيمة إنسانية في العلاقة بين الناس ونفّذ هذا صلى الله عليه وسلم الغرب يقولون الأخلاق تبين عند القوة هذا مثل إنجليزي طيب ننظر النبي صلى الله عليه وسلم لما قدر وقوي ماذا عمل؟ "اذهبوا فأنتم الطلقاء" العفو المسامحة يعني أنه يبني جسور للأعداء الهاربين لم يقم مجازر ولا محاكم تفتيش ولا معتقلات ولا محتشدات ولا سجون سرية ولا شيء من ذلك على رغم النصر العظيم الذي تكلل له صلى الله وسلم في آخر حياته {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ والْفَتْحُ (1) ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} فهذا جانب ما يتعلق بالقوة، أيضاً الجانب الثاني الأخلاق تبين عند الاختلاف يعني قدرة الإسلام على استيعاب المختلفين..
عبد الصمد ناصر [مقاطعاً]: القدرة عند الاختلاف..
سلمان العودة [متابعاً]: حتى القرآن نجد قول الله سبحانه وتعالى {ولا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} فالله سبحانه وتعالى نهانا عن سب مَن يعبدون من دون الله عز وجل معنى هذا طبعا غير البيان قضية البيان وإقامة الحجة والدعوة إلى التوحيد بينما تجد هذه الإساءات المتعمدة التي تستهدف المسلمين لأنها لا تقدِّر ولا تعرف نوع المشاعر التي يحملونها عن هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، كذلك الأخلاق تبين عند الاحتكاك يعني قد يجاملك الشخص من بعيد ويطلق لك تحية عابرة ولكن حينما تحتك به احتكاكا حياتي أو سياسي أو أي شيء آخر هنا تبين حقيقة الاختلاف ونحن نجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم المسلمين أيضاً العالَم الإسلامي عبر عصور طويلة ماذا أساء إلى أوروبا وبالمقابل ماذا لقي العالم الإسلامي من أوروبا؟ بدء من الاستعمار وبدأ من الحروب الصليبية كما أشرت أنت وثم عصور الاستعمار ثم الوقت الحاضر التي تجد أن العالم الأوروبي في كثير من الأحيان يصادر خيار المسلمين، يعني فيما ماذا يختارون؟ في كيف يفكرون؟ مَن يختارون؟ مَن يمثلهم؟
عبد الصمد ناصر:غزو اقتصادي وفكري وثقافي..
سلمان العودة: في الجوانب الاقتصادية والسياسية وغيرها فالواقع إن هناك جهل كبير في العالم الغربي وهذا يؤكد على نقطة مهمة جدا لعلي أسبق الحدث فيها وهي أن المسلمين من خلال المقاطعة عملوا شيء جميل جدا هو أسلوب حضاري أسلوب ليس فيه عدوان على أي أحد ممارسة حق في الاختيار ليس عن طريق الحكومات، الحكومات مرتبطة بنظام التجارة العالمي وبالتالي هذا خيار شعبي للبائع أو للمستهلك ومن خلال هذا الأسلوب أدرك الناس أو الكثير منهم في أوروبا أن ثمة خطأ معين وأن التعامل مع المسلمين يجب أن ينحوا منحى آخر هنا يجب أن ندرك أن المقاومة وسيلة وليست غاية الغاية هي إيصال الرسالة للآخرين من خلال عرض صورة النبي صلى الله عليه وسلم كما هي وعندي يقين قطعي بأن النبي صلى الله عليه وسلم لو عرضت شخصيته كما هي لا يملك أي إنسان منصف إلا أن يحبه صلى الله عليه وسلم إذا رأى أخلاقه الكريمة.
عبد الصمد ناصر: فضيلة الشيخ لو تسمح نُشرك بعض السادة المشاهدين لديهم مشاركات وفقط أنوِّه لضرورة الالتزام بدقيقة واحدة من فضلكم لو بدأت من تونس بمفيدة بن يغلن تفضلي مفيدة.. مفيدة من تونس.. طيب محمد أبو جهاد من مصر.
محمد أبو جهاد- مصر: السلام عليكم يا سيد عبد الصمد..
عبد الصمد ناصر: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
محمد أبو جهاد: ومرحبا بشيخنا الجليل..
سلمان العودة: مرحبا فيك محمد..
محمد أبو جهاد: نقطتين سريعتين الأولى أنا أُحَمِّل الأزهر الشريف مسؤولية هذه الأحداث التي تحدث في شتى بقاع أرض المسلمين لأن الأزهر الشريف لو تكرم مشكور وسعى إلى هذه الدول وأوضح لهم الخطأ الذي أوقعوا أنفسهم فيه تجاه المسلمين لكان خير لكل مسلمين الأرض كما تحرك سابقا إلى طالبان ليثنيهم عن ضرب معابد بوذا النقطة الثانية لو قاطعتني سيادتكم ستفهم بأنني مع هذه الصور والنقطة هي لماذا عندما يُسب الرسول من الداخل نطرب لهذا الكلام؟ وعندما يُسب من الخارج نثور وندمر بلادنا ونحرق السفارات؟ عندما يتغنى صبّاح فخري ويسب جميع الرسل في إحدى قصائده مكلل بالذهب يقول في هذه القصيدة يا سيدي الجليل لو صادف موسى دمع عيني لغرق لو صادف الخليل لوعة القلب احترق وخر موسى صعقاً لماذا نطرب لهذا الكلام وعندما يحدث إساءة للرسول من الخارج..
عبد الصمد ناصر: طيب الفكرة واضحة محمد أبو جهاد الفكرة واضحة المشارك الثاني محمد ظاهر من فرنسا.
محمد ظاهر- فرنسا: ألو.
عبد الصمد ناصر: تفضل أخ محمد.
محمد ظاهر: شكرا جزيلا أخ عبد الصمد وأحيك وأحيي الشيخ الجليل سلمان العودة.
سلمان العودة: بارك الله فيك يا أخ محمد.(12/215)
محمد ظاهر: بارك الله فيك نعم أنا في الحقيقة مستاء مما يجري الآن وهو ازدواج في المعايير بمعنى أن الولايات المتحدة الأميركية قد قامت بتدنيس القرآن الكريم والنيوزويك مجلة النيوزويك قد سنّدت ذلك من خلال الأشياء الموثقة ثم تراجعت هذه الصحيفة ولكن هناك سجناء في غوانتانامو قالوا بأن السجانين قاموا بتدنيس القرآن الكريم لماذا الدانمارك؟ الدانمارك لأنه بلد ضعيف نقوم بالمقاطعة ولا نعمل مقاطعة لأميركا أنا لا أدافع عن الدانمارك، الدانمارك.. يجب أن نقاطع الولايات المتحدة الأميركية لماذا؟ هل لأن أميركا لها علاقات مع دول في الخليج أنا أريد..
عبد الصمد ناصر: طيب محمد الفكرة واضحة لا أقاطعك ولكن لضيق الوقت الفكرة واضحة ازدواجية تعاملنا أيضا نحن مع الغير هذا ما تقصد فضيلة الشيخ لو لديك أي تعليق على محمد أبو جهاد الذي حمّل مؤسسة الأزهر المسؤولية وأيضا تحدث عن سب الرسول أحيانا بداخل الأراضي الإسلامية ولا يكون رد الفعل كما هو رد الفعل مع الغير؟
سلمان العودة: نعم بالنسبة يعني عندي وجهة نظر أنه الذي يحدث الآن من هبة المسلمين وغضبتهم وتضامنهم هو شيء جميل لنعطي أنفسنا فرصة أن نفرح بهذا الشيء ونشعر بأننا عملنا في هذه المرحلة وفي هذا الظرف إنجازا ما وهو أن رسالتنا وصلت بشكل جيد..
عبد الصمد ناصر: للآخرين..
سلمان العودة: إنجاز المسلم البسيط الذي ربما لا يكاد يجد قوت يومه لكن من خلال الروح الجماعية وصلت بشكل جيد وربما يكون من الخير في هذه المرحلة إلا نكثر من التلاوم فيما بيننا على بعض الأساليب أنا أحمل الأزهر الشريف مسؤولية وأحمل العلماء في كل مكان والدعاء..
عبد الصمد ناصر: يعني هذا ما قاله هو..
سلمان العودة: لا حتى أنا أقول يعني إن كل أحد مسؤول لكن في نفس الوقت قد يكون من الخير أنه في هذه المرحلة نحاول أن نرص الصفوف ونوحد الكلمة بعيداً عن لغة التلاوم التي قد تكون سبب في انشقاق الصف وضياع المجهود أما مسألة كون هناك من يسب الرسول صلى الله عليه وسلم في الواقع أنه سواء من الداخل في عند العرب أو في الغرب هناك كثيرون ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم بل لعله ليس مجهولاً أن هذه الصور أصلا رسمت لكتاب طبع في الدانمارك عن الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام والقرآن وهو كتاب مليء بالتشويه مع ذلك هذا الكتاب لم يظهر في الصورة، الناس عامة الناس يتأثرون بالأشياء السريعة المباشرة الرسوم تستفزك بمجرد ما تراها بدون حاجة إلى قراءة طويلة عريضة إلى آخره هذا أولاً ثانيا الرسوم لغة إعلامية جيدة يعني في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان المشركون يسبون النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ويصبر عليهم ويقول "إلا تعجبون مني ومن قريش كيف يصرف الله عني سبهم يسبون مذمما وأنا محمد" فهم يقولون مذمم يغيرون اسمه بينما لما يأتي شاعر تناول شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ينبري حسان بن ثابت أو كعب بن زهير أو غيرهم من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم ليرد على هؤلاء لأن الشعر كان هو لغة الإعلام ولذلك نفس القضية في سؤال الأخ محمد ظاهر من فرنسا..
عبد الصمد ناصر: محمد ظاهر حول ازدواجية التعامل مع.. نعم..
سلمان العودة: نفس الإشكال يعني السؤال أنه طيب لماذا نغضب لسب النبي صلى الله عليه وسلم؟
عبد الصمد ناصر: من الدانمارك لا نغضب.. نعم..
سلمان العودة: هناك ولا نغضب لسبه هنا لماذا نغضب لسب النبي صلى الله عليه وسلم ولا نغضب..
عبد الصمد ناصر: لتدنيس القرآن في غوانتانامو..
سلمان العودة: لتدنيس القرآن لماذا نقاطع الدانمارك ولا نقاطع..
عبد الصمد ناصر: أميركا..
سلمان العودة: أميركا لماذا؟ أنا أرجع أيضا وأطرح وأقول لماذا لا نعتبر أن هذه فرصة جميلة لإيضاح أن المسلمين قادرون على الإضرار بطريقة مدنية وسليمة بالذين يسيؤون إلى القرآن وإلى النبي عليه الصلاة والسلام؟
عبد الصمد ناصر: لو سمعنا تعليق مشاركة أخرى من تونس نعود إليها مفيدة بن يغلين تفضلي دقيقة واحدة مفيدة من فضلك..
مفيدة بن يغلين- تونس: نعم ألو السلام عليكم أستاذ عبد الصمد..
عبد الصمد ناصر: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
مفيدة بن يغلين: {وإلا تنصروه فقد نصره الله} صدق الله العظيم أزمة الرسوم وكيف نتجاوزها اسمح لي أستاذ عبد الصمد نحن لا نريد تجاوز الأزمة نحن نريد أن نحلحلها بشكل معرفي ومبدئي إذا كان هنتغنتون يتكلم عن صراع حضارات فإنني أعتقد أن هناك صراع جهالات أني لن أقول إن هذه الأزمة كشفت عن خلل بنيوي في العقل الغربي في علاقته بالمسلمين والإسلام عموما ولا أقول فقط إن هذه الأزمة تمثل اختبارا لم تبقى من مشاعر المسلمين ولا فقط اختبارا لما تبقى من جهاز المناعة عند المسلمين إنما عندي مقترحات مقتضبة لو سمحت في حلحلة هذه الأزمة أعتقد أن متابعة..
عبد الصمد ناصر: باختصار مفيدة..(12/216)
مفيدة بن يغلين: باختصار أعتقد أن متابعة المقاطعة مع محاولة ربط جسور الحوار مع الآخرين في محاولة للتعريف بذاتنا ومقدساتنا هذا أمر ضروري، المقاطعة يقول العديد من العلماء بالأمس وأول أمس أنها استوفت كل معاييرها أعتقد لا أنا عشت في الغرب ستة عشر سنة وأعرف أنه لا يفهموا إلا لغة المصالح لابد.. لا نريد اعتذارا لفظيا وأخلاقيا نريد اعتذارا معرفيا ومفاهيمي من جهة أخرى أريد أن أؤكد..
عبد الصمد ناصر: اعتذارا مفاهيميا..
مفيدة بن يغلين: مفاهيميا ومعرفيا وأريد أن يتجنب.. أن نقوم بعملية تسيير رحلات تعارف وحوار بين السياسيين والمفكرين ورجالات الاقتصاد ومن الخطأ أن نختزل المشكل في الدانمارك الأجدر أن نفهم الموضوع بشمولية وأن نبحث فقط في الدانمارك في أننا نسير أن نسيِّر رحلات إلى الاتحاد الأوروبي وشكرا..
عبد الصمد ناصر: فكرة واضحة مفيدة شكرا لك مفيدة بن يغلين كانت معنا من تونس تعليقك على هذه المقترحات فضيلة الشيخ؟
سلمان العودة: أؤكد فقط ما ذكرته قبل قليل أنه من المصلحة في هذه المرحلة أن يظل التركيز على المصدر الأول لهذه الإساءة وهي الدانمارك فإن توسيع الدائرة لا يعطي النتيجة المطلوبة فيما يبدو لي كما يقترح الأخ محمد ظاهر بل قد يترتب عليه أن تضيع هذه القضية لأن الناس لا يستطيعون أن يقاطعوا العالم كله نقاطع الاتحاد الأوروبي ثم نقاطع الغرب كله ثم نقاطع العالم لأننا نعتقد أنه ضدنا ماذا نملك نحن في النهاية؟ لا نملك إلا القليل..
عبد الصمد ناصر: لضيق الوقت..
سلمان العودة: كلام الأخت مفيدة يعني..
عبد الصمد ناصر: كلامها سليم..
سلمان العودة: كلام ممتاز ومسألة أنها تدعو إلى متابعة المقاطعة مع الحوار للتعريف..
عبد الصمد ناصر: مع ربط جسور الحوار كما قالت..
سلمان العودة: تقريبا هذا هو الذي أميل إليه أميل إلى أن يستمر المسلمون في المقاطعة ولكن يكون من خلال ذلك نوع من اللجان التي تنطلق من مؤتمرات وهناك أكثر من مؤتمر يحضّر لإقامتها في أكثر من بلد إسلامي تقوم بالتواصل تقوم بالحوار المقاطعة تهدف إلى نوع من إعطاء المجال والفرصة لكما ذكرت الأخت نوع من الاعتذار المعرفي..
عبد الصمد ناصر: أو المفاهيمي..
سلمان العودة: أو الحوار المعرفي الذي يوصل المفاهيم الصحيحة إلى كثير من الناس..
أبعاد حرية التعبير وكيفية تجاوز الأزمة:
عبد الصمد ناصر: لضيق الوقت فقط لأن لم يبقى إلا حوالي عشر دقائق نريد أن نقفز إلى المحور الثالث حرية التعبير والمقدسات الدينية لأن الذين دافعوا عن هذه الرسوم أو عن هذه الإساءة بصحيح العبارة الكبرى لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم تحججوا تذرعوا بحرية التعبير على اعتبار أنها مقدسة سؤالنا الذي يعني يشغل بال الجميع هنا هل حرية التعبير مقدس يعلو فوق كل مقدس كيف ترى فضيلة الشيخ العلاقة بين حرية التعبير والمقدسات والثوابت الدينية؟
سلمان العودة: حرية التدين أيضا هذه من الحريات المقدسة ودائما حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية..
عبد الصمد ناصر: حرية الآخرين..
سلمان العودة: الآخرين فالمسلمون جزء من نسيج أوروبا والعالم كله إضافة إلى كونهم أكثر من مليارين إنسان في العالم كله هذا جزء من دينهم وقيمهم ألا يتم استهداف نبيهم صلى الله عليه وسلم ولذلك ربما يكون من المطالب المهمة أيضا في الموضوع والتي يجب أن نصر عليها قضية أن يدرج قانون عالمي يمنع.. لا نقول مخالفة الأديان وإنما يمنع ازدراء الأديان فإن هذا الأسلوب المستهجن في السخرية والازدراء هو بعيد عن الموضوعية بعيد عن المعرفة ولذلك يجب أن يكون هناك نوع من الضبط الذي يوفق بين حرية التعبير التي هي حرية مطلوبة ومضمونة ومكفولة للإنسان وأيضا بين حرية التدين التي تمنع أن لا يعتدي الآخرون عليهم.
عبد الصمد ناصر: طيب هل يلتقي هذا أو هناك ربط بين هذه الوثيقة المطلوبة وحرية نقض الأديان؟
سلمان العودة: النقض يختلف عن الازدراء نحن قد يقول قائل إن القرآن الكريم فيه مثلا نصوص فيه آيات..
عبد الصمد ناصر: يلعن بعض..
سلمان العودة: كذلك بعض الكتب الأخرى التوراة أنظر ماذا تقول التوراة عن العالم وعن الأممين وقتلهم واستحلال دمائهم وازدرائهم وكذلك يوجد في الإنجيل نصوص معينة في الكتب في الثقافات بل في الكتب المدرسية المقررة نمطية العربي والمسلم في المناهج الغربية أو حتى في كثير من يعني البرامج الإعلامية هذا شيء معروف الممنوع الذي يجب أن يركز عليه هو قضية منع الازدراء السخرية التي تثير استفزاز ومشاعر يعني يستحيل معها أن يكون هناك علاقة سليمة بين شعوب العالم..(12/217)
عبد الصمد ناصر: تتسبب في الأذى النفسي والمعنوي.. بالتأكيد أنها تتسبب في الأذى النفسي والمعنوي والوجداني لمعتنقي هذه الديانة أو تلك يعني حينما نطالب بإصدار أو استصدار قرار من الأمم المتحدة مثلا يجرم أو يحمي المقدسات الدينية هذا على صعيد التعامل تعاملنا مع الآخر لكن على صعيد تعاملنا في إدارتنا لهذه الأزمة على صعيد الداخل داخل الأمة ما الذي يفرضه هذا التحدي الغربي علينا كمسلمين وهو تحدي غربي قديم جديد إذا شئنا أن نقول على الأمة من الداخل بحوارات داخلية مثلا بتغيير المناهج التعليمية وغير ذلك؟
سلمان العودة: جميل أولا يعني إذا كان المقصود..
عبد الصمد ناصر: تحسيس الناس بأهمية المسلم؟
سلمان العودة: في هذا الحدث بذاته يعني في هذا الموقف فأولا نؤكد على ما سبق من قضية أنه من المهم أن تستمر المقاطعة بحيث لا تكون المقاطعة عبارة عن ماء ذهب في الرمال وانتهى أو يتسلل الناس لوادي من المفترض أن تستمر إلى أن يكون هناك نوع من التوافق الرسمي والشعبي والعلمي على إزالتها أما أن يكون هناك نوع من الضعف أو الخلخلة أو التراجع فهذا قد يضعف من ثمرة هذه القضية نعم ليس هناك مقاطعة إلى ما لا نهاية يجب أن يكون لها حد لكن هذا الحد ينبغي أن يكون واضح يتواطأ عليه المؤمنون جميعا حتى يكون لهذه الحركة معنى لعل من المهم الإشارة إلى قضية يعني أنه خلال هذه الأحداث وقع أمور سلبية لابد من الإشارة إلى أن صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام الذي غضبنا من أجله لا يقبلها ولا يوافق عليها مسألة التدمير مسألة القتل مسألة هدم المعابد يعني بعض الأساليب التي ربما هي أساليب عشوائية أساليب ربما توصل رسالة مغلوطة نحن نريد أن يكون تعامل المسلمين مع الحدث تعامل حضاري راقي يثبت فعلا أنهم على مستوى المسؤولية والحدث في هذا الموضوع وأن غضبهم ليس غضبا قوميا وإنما هو غضب رباني منضبط يعني.
عبد الصمد ناصر: لو بقينا في الإطار نفسه هذا على الصعيد يعني على صعيد التعامل الداخلي داخل الأمة على عاتق مَن تقع مسؤولية مجابهة مثل هذه التحديات هل هي مسؤولية الأنظمة مسؤولية النخب مسؤولية المجتمع مسؤولية الفرد مسؤولية مَن ومن له القدرة فعلا على النهوض بمثل هذا التحدي فضيلة الشيخ؟
سلمان العودة: هو الحقيقة العمل في أصله عمل شعبي وربما هذا من أهم أسباب نجاحه والإعجاب الكبير الذي حصل له أنه كان عبارة عن غضبة إسلامية..
عبد الصمد ناصر: هبة شعبية..
سلمان العودة: شعبية في الغالب رأيت أنه في الغرب كثيرا ما يحاولون أن يقولوا أن هذه الغضبة الشعبية تم تسييسها من قبل أطراف معينة أقول أولا هذا الكلام ليس دقيقا لكن لنفترض أنه صحيح ليأخذ الآخرون من هذا الأمر أن أي إثارة للاستفزاز في أي مكان في العالم..
عبد الصمد ناصر: توحد القيادات مع شعوبها..
سلمان العودة: توحد الصف والرأي بل وربما تكون تصنع مناخ يستثمره أطراف معينة قد لا تكون مرضية عند أي طرف من الأطراف ولهذا من المهم جدا أن ندرك أن هذه الغضبة شعبية مع ذلك هناك حقيقة نوع من التجاوب الرسمي في مثلاً مسألة سحب السفراء إرسال رسائل إلى تلك الدول خطابات منظمة المؤتمر الإسلامي الجامعة العربية رابطة العالم الإسلامي عدد من المؤسسات العلمية والسياسية كان لها دور مؤيد ومؤازر لهذه القضية..
عبد الصمد ناصر: ما رأيك في مَن يقول بأنه يجب علينا مادمنا نحن الآن ربما في مواجهة تيار فكري ما يبتغي تحطيم المقدس الديني نحن الآن أمام مَن يتحدانا كمسلمين ويتحدى مقدساتنا ويهيننا بها أليس حريا بنا كمسلمين يتساءل بعضهم البحث عن إقامة تحالفات ولو تحالفات يعني محدودة تكون محسوبة وحذرة إذا شئت أن تقول فضيلة الشيخ مع كثير من القوى التي لا تزال ترى بضرورة حماية وتعزيز المقدس مقابل هذه العمليات المتواصلة الآن يعني حتى لو كانت من غير الديانات السماوية..
سلمان العودة: أو من غير المسلمين..
عبد الصمد ناصر: نعم من غير المسلمين والديانات الأخرى كذلك..
سلمان العودة: أنا أعتقد أن هذا الكلام صحيح يعني أحد الطلاب كان يدرس في إحدى الجامعات مقرر إنجليزي فوجد أن في هذا المقرر إساءة للعرب وذهب إلى العميد وقال له إن هذا المقرر فيه إساءة لي فاستغرب وقال له أول طالب يأتيني ليقول لي هذا الكلام زملائك عبر عشرين سنة كانوا يدرسون ولم ينتقدوا ولم يحتجوا بينما لو حصل احتجاج أنا مضطر أن أغير هذا المقرر بسبب أولاً قناعتي وبسبب أنني حريص على أن يأتي الطلاب حتى آخذ منهم الرسوم فأنا أدرسهم في مقابل إذاً هذه هي فكرة المقاطعة أو فكرة التواصل ومن يجب أن يكون هناك تواصل كما قلت في الغرب في أميركا في أي مكان مع أولئك الذين..
عبد الصمد ناصر: في آسيا أيضا..
سلمان العودة: يوافقون على هذا المبدأ..
عبد الصمد ناصر: طيب في ثواني معدودات لأنه لم يبقى من الوقت كثير أقل من ثلاثين ثانية كيف نتجاوز هذه الأزمة فضيلة الشيخ هذه الأزمة كيف نتجاوزها؟(12/218)
سلمان العودة: هذه أولا يجب أن نشيد يعني لا نعتبر أنها أزمة بالمعنى السلبي للأزمة هي فيها جانب إيجابي كبير..
عبد الصمد ناصر: صحوة إسلامية أيضا..
سلمان العودة: هي أعطتنا دليل على أننا نعمل وأننا لنا آثر ولنا صوت يمكن أن نوصله إلى أطراف كثيرة جدا ومن هنا ينبغي أنه نطرح كيف نحافظ على هذه المكاسب لأن لا تضيع أدراج الرياح أعتقد أنه يجب أن يكون هناك نوع من السيطرة على هذا الموضوع من خلال جهات علمية وشرعية معتبرة مؤتمرات تشكل لجان تخاطب المسلمين وتتواصل مع غير المسلمين في هذا السبيل.
عبد الصمد ناصر: بارك الله فيك فضيلة الشيخ الداعية الإسلامي الشيخ سلمان العودة المشرف العام على مؤسسة الإسلام اليوم (Islam today) بارك الله فيك وشكرا لكم مشاهدينا الكرام وفي الختام تحيات المخرج منصور الطلافيح والمعد معتز الخطيب ولنا لقاء آخر في الأسبوع القادم بحول الله.
=======================
أزمة الرسوم لماذا ؟؟ وكيف نستثمرها ؟؟
الدكتور جهاد عبد العليم الفرا
رئيس المجلس الإسلامي الدانمركي
الرئيس
جهاد عبد العليم الفرا
Fo صلى الله عليه وسلم mand J صلى الله عليه وسلم had Al-Fa صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم a
N? صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم vang صلى الله عليه وسلم n 5
2610 صلى الله عليه وسلم ?dov صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم
tlf : +45 44 92 69 16
fax: +45 44 24 69 16
jf@dis صلى الله عليه وسلم .com ...
نائب الرئيس
محمد أسامة زين العابدين
N?st صلى الله عليه وسلم fo صلى الله عليه وسلم mand
Mohamad Osama Zyn Alabidin
Cyp صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم nsv صلى الله عليه وسلم j 2, 1.th
2300 K?b صلى الله عليه وسلم nhavn S
+45 32 55 12 19
+45 61 80 67 20
mz@dis صلى الله عليه وسلم .com ...
مسؤول الدعوة والتعريف بالإسلام
فارح سهل يوسف Ansva صلى الله عليه وسلم lig fo صلى الله عليه وسلم fo صلى الله عليه وسلم midling & p صلى الله عليه وسلم ?s صلى الله عليه وسلم ntation om islam
Fa صلى الله عليه وسلم ax Sahal yusof
V صلى الله عليه وسلم st صلى الله عليه وسلم golv1, 2mf
2200 Tingbj صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم g
+45 38 60 80 02
+45 26 90 43 56
fsy@dis صلى الله عليه وسلم .com
مسؤول التربية
أسامة محمد عطية ...
Oplysningskontu صلى الله عليه وسلم ch صلى الله عليه وسلم f Usama Attia
No صلى الله عليه وسلم d f صلى الله عليه وسلم ontv صلى الله عليه وسلم j 76
2730 H صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم l صلى الله عليه وسلم v
+45 30 25 41 11
uma@ dis صلى الله عليه وسلم .com ...
مسؤول الشباب والطلاب
علي بن رجب Ungdoms & stud صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم nd صلى الله عليه وسلم s v صلى الله عليه وسلم jl صلى الله عليه وسلم d صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم
Ali B صلى الله عليه وسلم n صلى الله عليه وسلم ajab
صلى الله عليه وسلم undh?j All صلى الله عليه وسلم 48, 3.th
8270 H?bj صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم g
+45 86 25 0043
+45 28 55 89 75
ab صلى الله عليه وسلم @dis صلى الله عليه وسلم .com ...
مسؤولة العمل النسائي
فايزة داود معلا Ansva صلى الله عليه وسلم lig fo صلى الله عليه وسلم kvind صلى الله عليه وسلم lig صلى الله عليه وسلم aktivit صلى الله عليه وسلم t صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم Fayz صلى الله عليه وسلم h Malla
Bi صلى الله عليه وسلم k صلى الله عليه وسلم pa صلى الله عليه وسلم k صلى الله عليه وسلم n 70, 7.th
5240 Od صلى الله عليه وسلم ns صلى الله عليه وسلم N?
Tlf/Fax : +45 66 10 33 46
fm@dis صلى الله عليه وسلم .com
مسؤول المال وشؤون الأعضاء
أحمد عبده
?konomisk og m صلى الله عليه وسلم dl صلى الله عليه وسلم mm صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم n صلى الله عليه وسلم s ansva صلى الله عليه وسلم lig
Ahmad Abdou
P صلى الله عليه وسلم t صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم Bangsv صلى الله عليه وسلم j184, 1.th
2000 F صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم d صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم iksb صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم g
+45 38 79 16 83
+45 61 68 16 83
aha@dis صلى الله عليه وسلم .com ...
المؤتمر العالمي لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم
البحرين 22ـ23 صفر 1427هـ الموافق 22ـ23 مارس 2006م
أزمة الرسوم لماذا ؟؟ وكيف نستثمرها ؟؟
الدكتور جهاد عبد العليم الفرا
رئيس المجلس الإسلامي الدانمركي
· المقدمة :(12/219)
الحمد لله حمد الشاكرين ، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك ، نحمدك ونثني عليك الخير كله ، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين ، سيد الخلق وإمام الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
سماحة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المؤتمر:
أصحاب الفضيلة والسماحة السادة العلماء:
أيها الإخوة والأخوات الحضور:
السلام عليكم ورحمة لله وبركاته ، أما بعد :
فإننا نحمد الله سبحانه وتعالى ، أن جعل هذه الأمة المسلمة أمة حية خيرة ، تنبض قلوبها بحب الله جل جلاله،وتعشق أرواحها حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام ،تفديه بالأرواح والمهج ، وتذود عنه بالغالي والرخيص ، وسخر لها علماء مخلصين عاملين ربانيين ، ينيرون دروبها ويوجهون عقولها وضمائرها .
أيها السادة الحضور:
إذا سألنا أنفسنا عن تلك الرسوم القبيحة والتي نشرتها صحيفة اليولاندس بوستن الدانمركية بتاريخ 30 / 09 /2005 فأشعلت بذلك الغضب الإسلامي في أنحاء الأرض ، واستفزت أصحاب الضمائر الحية ، في كل مكان مستهجنة هذا العمل القبيح ، ومنددة بهذا الإعتداء الواضح الفاضح ، على أعظم إنسان عرفته البشرية ، وافضل مخلوق وطئت قدماه هذه الأرض ،يحبه مليار ونصف مسلم ، ويعجب به مثلهم من المنصفين من غيرهم . إذا سألنا أنفسنا لماذا هذه الرسوم ؟؟ ولماذا بهذا القبح ؟؟ ولماذا في الدانمرك ؟؟؟هذا البلد الجميل القابع في برد الشمال والذي لم يسمع عنه المسلمون الكثير قبل هذه الأزمة ؟؟؟ فماذا يكون جوابنا ؟؟؟ وماذا يكون ردنا ؟؟؟ وكيف نعالج هذه القضية في الدانمرك أولا ثم في غيرها من الدول ثانيا ؟؟ أنكتفي بالقول أنهم أناس يكرهوننا ويكرهون ديننا ؟؟ وحاقدون على عقيدتنا وديننا أم أن القضية أعمق من ذلك بكثير وتحتاج إلى تحليل دقيق وكشف حقيقي ؟؟؟
· لمحة عن الدانمرك
إسمحوا لي أيها السادة أن أقدم لكم في البداية لمحة عن الدانمرك هذا البلد الصغير الذي لاتتجاوز مساحته43.093.14 كممربع أرضه منبسطة لاتوجد فيها جبال ، ويقع محاطا بالمياه بشكل كامل تقريبا – مابين بحر البلطيق شرقا وبحر الشمال غربا . تتكون الدانمرك من شبه جزيرة يولاند – والتي تقع في الامتداد الشمالي لألمانيا- ( وأكبر مدنها : أورغوس ، وأولبورغ ، وإسبيرغ ) و 406 جزر أخرى أكبرها : شيلاند – حيث تقع العاصمةكوبنهاجن،وفيون(وأكبرمدنها :أودينسة ) ولولاند ، وبورنهولم .
إتحاد فيدرالي :
تضم مملكة الدانمارك جزيرة غرينلاند ومجموعة جزر الفارو إلى أن كلاهما يتمتع بحكم ذاتي .
جزء من دول الشمال :
الدنمارك واحدة من الدول الإسكندنافية والتي تضم إضافة لها : السويد، والنرويج، وفنلندا، وإيسلندا . وتربطها علاقات ثيقة مع دول البلطيق إستونيا، و ليتوانيا، ولاتفيا .
السكان :
يبلغ عدد سكان الدانمارك 5,2 مليون نسمة ، عدد المسلمين منهم 200000 نسمة بنسبة 3% ينحدر معظمهم من تركيا والباكستان والمغرب والعراق وإيران والصومال والبوسنة والهرسك وفلسطين .
نظام الحكم :
ملكي دستوري برلماني ديموقراطي ، الملكة مارغريت الثانية تملك ولاتحكم ، وتتمتع العائلة المالكة بشعبية كبيرة في المجتمع الدانمركي . وهناك فصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية .
اللغة السائدة :
اللغة السائدة في الدانمارك هي اللغة الدانمركية ، ويتقن معظم المواطنين اللغة الإنكليزية .
· تاريخ الوجود الإسلامي في الدانمرك:
ترجع بدايات الوجود الإسلامي في الدانمرك إلى الستينيات من القرن الماضي وتمثل في قدوم غير منظم لعمال مسلمين من تركيا والباكستان والمغرب العربي عموما بهدف الإقامة المؤقتة طلبا للرزق فلم يستقدموا في البداية عوائلهم لكنهم سرعان مااستقر بهم الحال وبدؤوا يستقدمون أهلهم ، ثم تتابع تدفق المهاجرين المسلمين أثناء الحرب العراقية الإيرانية ، ثم الحرب اللبنانية ،فالأفغانية ،فالصومالية ، فالبوسنة والهرسك ،فالبلقان عموما ، وفي كل مرة تحدث حربا في بلد ما يكون للدانمارك حصة لابأس بها من اللاجئين . هؤلاء اللاجئون من المسلمين قل بينهم الأكاديميين والمثقفين والمتعلمين وغالبيتهم العظمى ماكانت تعرف من الإسلام إلا إسمه ومن القرآن إلا رسمه .
· أسباب تتعلق بالمسلمين:(12/220)
سوادالمسلمين في الدانمرك ممن يعلمون القليل عن دينهم ، ويجهلون روحه ورسالته ،ولم يتمثلوا أخلاقه وتعاليمه بل ومنهم من يحارب الإسلام ويعتبره ـ على الطريقة الغربية ـ سبب تخلف المسلمين ، ومن المؤسف المؤلم أن تجد معظم رواد السجون من المسلمين ، إجرام وإتجار بالمخدرات ونهب وسلب وتلاعب على الدولة وتحايل على القانون ، ومشاكل اجتماعية وأمراض أسرية نشأت عن نقل الأسرة المسلمة من وسطها الإسلامي إلى وسط غير إسلامي ، إضافة إلى التفرق والخلاف بسبب العرقية أو المذهبية أو المنهجية ،وقسم كبير من المسلمين يعيش على المساعدات الإجتماعية التي تقدمها له الدولة منذ سنوات طويلة ، كل هذا يعطي صورة مضطربة ، مهزوزة ، وغير متزنة ، وفي كثير من الأحيان سيئة عن المسلمين وما يحملونه من دين .
ولايفوتني هنا أن أنوه بالدور الرائد الذي تقوم به المؤسسات والمساجد والمراكز الإسلامية في إصلاح الفرد والأسرة والمجتمع المسلم في الدانمرك إلا أن ضعف إمكانياتها ومحدودية طاقاتها يعيقها عن بلوغ المأمول منها.
· أسباب تتعلق بالإعلام :
دأب الإعلام الدانمركي ـ شأنه في ذلك شأن الإعلام الغربي عموما ـ منذ حوادث الحادي عشر من سبتمبر على ربط الإسلام بالإرهاب والمسلمين بالإرهابيين بشكل مباشر وغير مباشر ، وغذت هذه الحملة الإعلامية حوادث مدريد ثم تبعتها حوادث لندن ، حتى وصل التوجس بالصحف الدانمركية أن يكتبوا ( نييورك ـ مدريد ـ لندن فمتى كوبنهاجن ؟؟) . وهذا ما أدى إلى أن يكون التعامل مع ممثلي المسلمين في كثير من الأحيان منحصرا في البوابة الأمنية .
هذا الإعلام مدعوم من الحكومة وإن لم يكن موجها منها فعلى سبيل المثال لا الحصر تلقت جريدة اليولاندس بوستن دعما من الحكومة مقداره : 10,2 مليون كرون مابين عامي 1994 ـ 2004 .
· أسباب تتعلق بأجندات الأحزاب السياسية :
الخريطة السياسية الدانمركية تتمثل في التآلف الحاكم : الحزب الليبرالي ويتزعمه رئيس الوزراء أنس فو راسموسين ، والحزب المحافظ ويتزعمه بينت بيندسن ويدعمه في البرلمان حزب الشعب الدانمركي بزعامة بيا كييرسغو . أما المعارضة فتتمثل في الحزب الإشتراكي الديموقراطي بزعامة هيلي تونينغ شميت ، والحزب الإشتراكي ، والحزب الليبرالي اليساري ، والقائمة الموحدة ( يساريون قدامى ) وغيرها من الأحزاب الصغيرة .
أما التآلف الحاكم فهو تآلف في عمومه يميني، أقصى اليمين فيه حزب الشعب الدانمركي ،الذي يقتات على التحدث عن المسلمين وسلبياتهم في المجتمع الدانمركي، وقدتقدمت شعبيته مؤخرا
يليه الحزب المحافظ ، فالليبرالي .منذ مجيئه إلى الحكم سن هذا التآلف حزمة قوانين كان لها أثر سلبي على المسلمين في الدانمرك .
أما المعارضة فنستطيع أن نقول أنها في مراحل إعادة بناء هياكلها الإدارية ونظمها السياسية بعد تراجع شعبيتها أمام أحزاب الحكومة .
والمؤشر الذي تسير خلفه معظم هذه الأحزاب حكومية كانت أم معارضة هي إستطلاعات الرأي ومزاج الناخب الدانمركي .
· الشعب الدانمركي :
شعب مسالم يميل إلى الهدوء ، إنساني يدعم القضايا الإنسانية ، لايميل إلى التدين ، معتز بحريته وبوطنيته ، متأثر إلى حد كبير بما تنشره وسائل إعلامه ، يميل بشكل عام إلى العزلة .ويطالع كثيرا لكن معظم مطالعاته عن أخبار الفن والفنانين والموضة والزينة ،وأخبار العائلة المالكة . قسم منه يحب المسلمين وقسم يبغضهم والغالبية ليس لها موقف محدد منهم إنما تتخذه بناء على الأحداث وأحيانا بمزاجية خاصة . ،لايعرف الكثير عن الإسلام. إلا أنه شعب عاطفي يتأثر بما يحصل للآخرين من كوارث طبيعية ويدعمهم وآخرها دعم الباكستان إثر الزلازل التي وقعت بها بحوالي 115 مليون كرون .
ضمن هذا الواقع يطلب من 30 رساما كاريكاتوريا أن يقدموا رسما عن النبي صلى الله عليه وسلم كيف يتصورونه فأصدروا تلك الرسوم القبيحة ونشرتها جريدة اليولاندس بوستن فأطلقت بذلك شرارة الغضب والاحتجاج بين المسلمين في الدانمرك والتي سرعان مالنتقلت أوارها إلى العالم الإسلامي الكبير ذودا عن الحبيب المصطفى ودفاعا عن خير الأنام .
· كيف نستثمر أزمة الرسوم :
1. التركيز على أن الرسوم لاتندرج بشكل مطلق تحت بند حرية التعبير، وإنما تندرج تحت إطار العنصرية و إهانة الأديان ، وأن الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام أول من كفل حرية التعبير ضمن أخلاقيات عالية موجودة حتى في الدانمرك وإلا فلماذا سنت قوانين العنصرية وإهانة الأديان في الدانمرك .
266b:(12/221)
D صلى الله عليه وسلم n, d صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم off صلى الله عليه وسلم ntligt صلى الله عليه وسلم ll صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم m صلى الله عليه وسلم d fo صلى الله عليه وسلم s?t til udb صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم d صلى الله عليه وسلم ls صلى الله عليه وسلم i صلى الله عليه وسلم n vid صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم k صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ds f صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ms?tt صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم udtal صلى الله عليه وسلم ls صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ll صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم and صلى الله عليه وسلم n m صلى الله عليه وسلم dd صلى الله عليه وسلم l صلى الله عليه وسلم ls صلى الله عليه وسلم , v صلى الله عليه وسلم d hvilk صلى الله عليه وسلم n صلى الله عليه وسلم n g صلى الله عليه وسلم upp صلى الله عليه وسلم af p صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم son صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم t صلى الله عليه وسلم u صلى الله عليه وسلم s, fo صلى الله عليه وسلم h?n صلى الله عليه وسلم s صلى الله عليه وسلم ll صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم n صلى الله عليه وسلم dv? صلى الله عليه وسلم dig صلى الله عليه وسلم s p? g صلى الله عليه وسلم und af sin صلى الله عليه وسلم ac صلى الله عليه وسلم , hudfa صلى الله عليه وسلم v صلى الله عليه وسلم , national صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ll صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم tnisk صلى الله عليه وسلم op صلى الله عليه وسلم ind صلى الله عليه وسلم ls صلى الله عليه وسلم , t صلى الله عليه وسلم o صلى الله عليه وسلم ll صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم s صلى الله عليه وسلم ksu صلى الله عليه وسلم ll صلى الله عليه وسلم o صلى الله عليه وسلم i صلى الله عليه وسلم nt صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ing, st صلى الله عليه وسلم aff صلى الله عليه وسلم s m صلى الله عليه وسلم d b?d صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ll صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم f?ngs صلى الله عليه وسلم l indtil 2 ? صلى الله عليه وسلم .
( نص قانون العنصرية الدانمركي رقم 266 )
كل من ينشر أويصرح أويوزع ما من شأنه تهديد أوسب أوإهانة مجموعة من الناس بسبب انتماءهم العرقي أو الديني أو الوطني أو الديني أو توجههم الجنسي يعاقب بغرامة مالية أو بالسجن لمدة تصل إلى سنتين .
2. الإسلام كدين غير معترف به في الدانمرك ، إنما هناك اعتراف أوترخيص لمؤسسات إسلامية، وهذا من شأنه أن يجرئ على الإنتقاص منه وإهانة رموزه حيث تنص المادة 140 من قانون العقوبات :
140:
D صلى الله عليه وسلم n, d صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم off صلى الله عليه وسلم ntlig d صلى الله عليه وسلم iv صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم spot m صلى الله عليه وسلم d صلى الله عليه وسلم ll صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم fo صلى الله عليه وسلم h?n صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم nog صلى الله عليه وسلم t h صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم i land صلى الله عليه وسلم t lovligt b صلى الله عليه وسلم st? صلى الله عليه وسلم nd صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ligionssamfunds t صلى الله عليه وسلم osl? صلى الله عليه وسلم domm صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ll صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم gudsdy صلى الله عليه وسلم k صلى الله عليه وسلم ls صلى الله عليه وسلم , st صلى الله عليه وسلم aff صلى الله عليه وسلم s m صلى الله عليه وسلم d b?d صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ll صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم f?ngs صلى الله عليه وسلم l indtil 4 m?n صلى الله عليه وسلم d صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم .
وتعني إهانة أو سب دين معترف به في البلد أو رموزه يعاقب عليه القانون بغرامة مالية ، أو سجن يصل إلى أربع أشهر .ولذلك لابد من الإعتراف بالإسلام كدين في الدانمرك.
3. لابد من إيصال رسالة مفادها أن المؤتمر يدين ويندد بحرق السفارات والأعلام الدانمركية واعتبار ذلك مرفوضا إسلاميا لأن المسلمين لايردون على الإساءة بالإساءة .(12/222)
4. الإشادة بكل الأساليب الحضارية التي اتبعت في الاحتجاج على هذه الإساءة والتي تمت ضمن الأطر القانونية وحبذا لو خصصت الدانمرك بذلك حيث أشار المتحدث باسم الشؤون الخارجية في حزب الشعب الدانمركي (سورن إسبرسن)( يميني متطرف ) إلى ذلك فقال: "منذ أن حصلت الأزمة على إثر نشر الرسومات تعامل الكثير من المسلمين في الدانمرك بطريقة مثالية مع القضية. لقد شاركوا في الحوار وتظاهروا بالطريقة التي تحق لهم ولحسن الحظ رأينا حوادث العنف تحصل خارج حدودنا".
5. العمل على إنشاء هيئة عليا تمثل المسلمين بكافة أطيافهم ، والسعي لتهيئة المناخ السياسي الذي يكفل تعامل الدولة مع هذه الهيئة في كل مايتصل بقضايا المسلمين .ومما لا شك فيه أن هذا الأمر يتعلق بالمسلمين في الدانمرك لكنهم لا يستطيعون القيام به مالم تتوفر الإرادة السياسية لذلك من جانب الدولة على غرار ماحصل في بلجيكا وفرنسا .
6. العمل على إنشاء مسجد جامع كبير بمئذنة وقبة يعكس نوعا من الإنسجام بين فن العمارة الإسلامية وفن العمارة الدانمركية ، ويكون مزودا بكل الوسائل التي من شأنها تعزيز التواصل الحضاري بين المسلمين وغيرهم في المجتمع الدانمركي .
7. دعم ترجمة دقيقة وموثقة للقرآن الكريم إلى اللغة الدانمركية ، ودعم حركة ترجمة وتأليف الكتب التي تعرف بالإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام .
8. التركيز على احترام الشعب الدانمركي وخصوصياته وعلى أن الأزمة ليست بين الشعوب الإسلامية والشعب الدانمركي ، إنما بين الشعوب الإسلامية وجريدة اليولاندس بوستن التي أساءت استخدام أجواء الحرية التي يتمتع وينعم بها الشعب الدانمركي والحكومة الدانمركية التي أساءت التعامل مع الأزمة بالرغم من الوقت الكافي الذي كان لديها للتعامل مع القضية بعقلانية وحكمة . ,ان المسلمين لايريدون بحال من الأحوال إستغلال الفرصة لفرض ثقافتهم على الدانمركيين كما يصور لهم البعض.
9. إنتاج برامج تلفزيونية ، وأفلام وثائقية ، تتحدث عن الإسلام وعن نبيه عليه الصلاة والسلام .
هذا وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
======================
أزمة الرسومات والجذع الذي بأعيننا
د . علي جمعة
تعلمنا من دين الإسلام أنه دعوة عالمية ، قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [ سبأ : 28]، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء :107]، ومعنى هذا أننا أمة دعوة ، ومقتضى الدعوة تبليغها بصورة لافتة للنظر ، وعرضها على الناس ، بشروط قد حددها الله سبحانه وتعالى؛ أول هذه الشروط هو : حرية العقيدة وعدم الإكراه عليها ، قال تعالى : {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف : 29]، وقال تعالى : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [الكافرون : 6]، وقال تعالى : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } [البقرة : 256]، وقال تعالى : {لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22]، وقال تعالى : {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } {القصص : 56] ، وقال تعالى : {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ } [الشورى : 48].
ومن شروط الدعوة أن تكون بالحكمة قال تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [ النحل : 125]، ومن شروطها أن تكون على بصيرة ، قال تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [يوسف : 108] ، ومن شروطها أن تكون شفافة ، قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } [ البقرة : 159] .
فجعل كتم البينات والهدى من الكبائر التي تؤدي إلى الفساد في الدين ، وإلى الأذية والضرر في الخلق؛ ولذلك استوجبت لعنة الله؛ دلالة على أنها من الذنوب الكبائر ، ولعنة اللاعنين الذين يتأذون بذلك في الحياة الدنيا . ولكن من رحمة الله سبحانه وتعالى أن فتح باب الرجوع والعودة للإصلاح فقال بعدها : {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة : 160].
واجبات لا بد منها:(12/223)
1 - تكشف أزمة الدنمرك عن أننا قد قصرنا في عرض ديننا بصورة لافتة للنظر ، وهذا يستلزم منا مجهودًا علميًّا ودعويًّا يتجاوز ما نحن عليه الآن بصورة جذرية ، ولقد نشأت في جامعة الأزهر -والحمد الله رب العالمين- كلية اللغات والترجمة ، وخرّجت كثيرا من الأجيال، ولكننا نحتاج إلى المزيد من هذا التوجه بإرسال البعثات من الأزهر الشريف للدراسة في الغرب، وتقبل بعثات الآخرين إلينا، وهو ما شرعت فيه جامعة الأزهر بالفعل .
2 - تفعيل دور الخريجين من هذه الكليات للعمل بالمراكز الإسلامية بالخارج ، مع إتاحة الفرصة لهم للمعيشة في هذه البلاد بصورة مستمرة؛ لأن اللغة كالكائن الحي لا تنمو إلا بطول المراس والمعاشرة ، والاطلاع على دقائق العقلية وكيفية الخطاب ، ولا بد من أوضاع مستقرة لهؤلاء الأئمة يمثلون فيها بحالهم قبل أقوالهم الإسلام ، وكثيرا ما نرسل هؤلاء الأئمة ثم نسحبهم بعد أربع سنوات أو خمس، وهي أزمان لا تكفي للتفاعل والأداء الحسن الذي نرجوه .
3- لا بد من إنشاء مرصد تكون مهمته الرصد والتحليل لكل ما يكتب وينشر ويذاع عن الإسلام في الخارج باللغات المختلفة ، ومناقشته وتجهيز البيان الواضح بإزاء تلك القضايا، وعدم ترك الأمور تتراكم حتى تصل إلى حد الانفجار ؛ فقد يكون إنشاء قناة فضائية تتكلم بالإنجليزية خاصة أمرًا في غاية الأهمية ، وهو ما لم يتم حتى الآن بصورة تتناسب مع العصر الذي نعيش فيه .
4- نريد بصورة مستمرة عمل مؤتمرات الحوار التي يدعى فيها رجال الصحافة والإعلام في كل مكان ، وتتم المناقشات حول المصطلحات والصور الذهنية التي تتعسف مع الإسلام والمسلمين فيما يسمي بـ"الإسلام فوبيا" الذي يعني الخوف من الإسلام .
5- عمل مناهج متخصصة ودراسات عليا لدراسة الخلاف الحضاري بين الشرق والغرب ، وطرحها للحوار مع جميع المؤسسات الفكرية والإعلامية والجامعية والثقافية وعدم حصر ذلك في النطاق الأكاديمي .
6- تفعيل الاتفاقات القائمة بين جامعة الأزهر وسائر الجامعات والمؤسسات العالمية، وهي كثيرة والحمد الله ، ولكن تحتاج إلى مزيد من العمل والجهد .
7- إنشاء مراكز للترجمة والنشر من العربية وإليها؛ للاطلاع على خلاصات التراث الإسلامي ومكونات العقل المسلم، وعلى كيفية الاستفادة من التراث الإنساني والتواصل بيننا وبين العصر ، خاصة في مجال البحث العلمي ، وبيان أخلاقيات هذا البحث ونظر الإسلام إليه ، وكيفية نقل التكنولوجيا اختراعا وإبداعا ، وليس استهلاكا وتقليدا مع الحفاظ في نفس الوقت على الهوية، وهي أمور تحتاج إلى مزيد من التفكير ، وإلى مزيد من تطوير القوانين ، وإلى مزيد من المشاركة الفعالة .
أمنيات وآمال:
هل نرى في يوم من الأيام مجلة تصدر بالإنجليزية يكون لها توزيع عالمي ، تشرح للناس من هم المسلمون في تاريخهم وفي واقعهم وفي أفكارهم وفي عقائدهم؟
أتعرف كم يتكلف هذا البرنامج من أموال؟ أتعرف كم يحتاج من فرق عمل ذات كفاءة عالية في تخصصات مختلفة؟ أتعرف أن الانشغال بهذا البرنامج بدلا من كثير من اللغو الذي نحياه ، ومن التوجهات الفكرية والصورة الذهنية لكثير من المسلمين عن الإسلام نفسه يحتاج منا إلى تحولات جذرية وتغيرات في طريقة التفكير وفي المسائل المطروحة التي تشغل الذهن المسلم، والتي اختزل الدين فيها؟ أتدرك الآن مع هذه النقاط البسيطة أن جذع النخلة في أعيننا، أم أنه قد صدق فينا قول الإمام الشافعي :
نعيبُ زماننا والعيبُ فينا *** وما لزمانِنا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ *** ولو نطقَ الزمانُ لنا هجانا
وليس الذئبُ يأكل لحمَ ذئبٍ *** ويأكلُ بعضُنا بعضًا عيانا
أم أننا قد دخلنا في نطاق قول المتنبي :
أغايةُ الدينِ أن تحفُّوا شواربَكم*** يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ.
فمثل هذه الأزمات تحتاج إلى إدارة واعية، يمكن أن نلخصها في كلمات ، ثم نفصل القول فيها فيما بعد: إدراك الواقع على ما هو عليه ، والحكمة في معالجة الأمور ، واعتبار المقاصد والمآلات ، والاستفادة من الأزمة لما بعدها ، والعمل على عدم تكرارها ، وكسب أرض جديدة منها حتى تكون المحنة منحة .
أما لهذه الهجمة من رادع ؟!
عبد الله بن راضي المعيدي الشمري
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف النبيين محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.
(منذ 30 سبتمبر الماضي والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتعرض إلى هجوم حاد وحملة حاقدة في الصحافة الدانمركية، والتي بدأت عندما أراد مؤلف كتب أطفال دانماركي أن يضع على غلاف كتابه صورة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورفض رسام الكاريكاتير المكلف بإعداد الغلاف رسم هذه الصورة، فقرر المؤلف إقامة مسابقة لرسم الرسول، حيث تقدم لها (12) رسام كاريكاتير أرسلوا (12) صورة مسيئة لرسولنا الكريم.(12/224)
ولم تفوّت صحيفة (بيو لاندز بوستن) اليمينية المتطرفة والتابعة للحزب الحاكم هذه الفرصة، في التقاط هذه الصور ونشرها استهانة بمشاعر أكثر من مليار و(300) مليون مسلم، بالرغم من أن مسلمي الدانمارك والبالغ عددهم (200) ألف، ( الإسلام هو الديانة الثانية في الدانمارك بعد المسيحية البروتستانتية ) حاولوا الاحتجاج على القرار، وذلك عن طريق رفع مذكرة إلى الحكومة الدانماركية، إلا أن الجواب كان هو الرفض، وإصرار الحكومة على دعم حملة الهجوم تحت مسمى ''حرية التعبير''.
بل كان الموقف الحكومي الدانماركي أكثر شراسة برفض المدعي العام تلبية طلب الجالية الإسلامية برفع دعوى قضائية ضد الصحيفة بتهمة انتهاك مشاعر أكثر من مليار مسلم في العالم، وقال المدعي العام الدنماركي: إن القانون الذي يُستخدم لتوجيه تهم بسبب انتهاك حرمة الأديان لا يمكن استخدامه ضد الصحيفة.
إن حالة العداء للإسلام والمسلمين في الدانمرك تجاوزت كل الخطوط؛ فهناك تعبئة عامة ضد الإسلام، على كافة المستويات بدءاً من التصريح الذي نقل على لسان ملكة الدانمرك (مارجريت الثانية) والذي قالت فيه: "إن الإسلام يمثل تهديداً على المستويين العالمي والمحلي"، وحثت حكومتها إلى "عدم إظهار التسامح تجاه الأقلية المسلمة"، انتهاءً بمواقع الإنترنت التي يطلقها دانمركيون أفراداً ومؤسسات خاصة، تحذر من السائقين المسلمين، لأنهم "إرهابيون وقتلة" مروراً بالحملة العامة في الصحف ومحطة التلفاز العامة التي أعلنت الحرب ضد الإسلام والمسلمين.
ومن هنا رأيت أن اكتب في هذا الجانب المهم مذكرا النفس والإخوان بعظم حقه مستعينا الله تعالى فأقول:
إن من أعظم النعم التي أنعم الله علينا هي أن بعث لنا محمداّ صلى الله عليه وسلم نبيناً ورسولاًُ: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم}. وقال تعالى: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيم}.
قال العلامة ابن سعدي رحمه الله تعالى:" هذه المنة التي امتن الله بها على عباده هي اكبر النعم بل اجلها وهي الإمتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الضلالة وعصمهم به من التهلكة " ا.هـ
نعم أيه الأحبة لقد بعث الله محمداَ صلى الله عليه وسلم إلى الخليقة بعد أن كانت تعيش في جاهلية جهلاء.. قويهم يأكل ضعيفهم قد وقع بأسهم بينهم.. وهم يعيشون ضلال وعمى جميعهم إلا بقايا من أهل الكتاب..
فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ففتح الله به أعُينا عمياً.. وآذان صماً.. وقلوباً غلفاً.. فهدى به من العمى.. وبصر به من الضلالة..
فلا إله إلا الله ما أعظم هذه النعمة وأجلها لمن تدبرها وعرف قدرها...
ولقد أوجب الله تعالى على المؤمنين محبته وتعظيمه.. ولقد أمر الله تعالى بتعظيمه رسول الله وتوقيره.. وتعظيم سنته وحديثه فقال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}.
ومن مظاهر التعظيم لرسول الله في الإسلام...
أنه خصّه في المخاطبة بما يليق به، فقال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} [النور:63]، فنهى أن يقولوا: يا محمد، أو يا أحمد، أو يا أبا القاسم، ولكن يقولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، وكيف لا يخاطبونه بذلك والله (سبحانه وتعالى) أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحداً من الأنبياء، فلم يَدْعُه باسمه في القرآن قط...
ومن ذلك: أنه حرّم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذَن، وحرم رفع الصوت فوق صوته، وأن يُجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل...
ومن ذلك: أن الله رفع له ذكره، فلا يُذكر الله (سبحانه) إلا ذكر معه، وأوجب ذكره في الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام، وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام، وفي الصلاة التي هي عماد الدين...)
و إن تعظيم نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من صلب إيمان المسلم.. فهو خليل الله المصطفى من خلقه.. وخاتم الأنبياء الذي بانتهاء رسالته انقطع وحي السماء.. والموصوف من ربه ـ جلا وعلا ـ بعظم خلقه.. وأحد خمسة من أولي العزم من الرسل. هذا التعظيم تحتمه سيرته الشريفة ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما تمليه حقيقة شهادة أن (محمداً رسول الله)...
ولم يغفل المسلمون ـ منذ جيل الصحابة الكرام ـ عن قدر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن محبته وتعظيمه.. فنرى في سيرة هؤلاء الصحابة وتابعيهم وعلماء الأمة وعوامها من بعدهم أفضل نماذج لهذا التعظيم..
ومن نافلة القول هنا أن يقال أن معنى التعظيم المشروع لرسول الله هو تعظيمه بما يحبه هو صلى الله عليه وسلم وعدم رفعة فوق منزلته النبوية وانه عبد لا يعبد ورسول لا يكذب فلا يرفع إلى مقام الربوبية أو الإلوهية..
وقد ضرب السلف الصالح أروع الأمثلة بتعظيم وإجلال رسول الله..(12/225)
ومن ذلك: ما رواه الدارمي في سننه عن عبد الله بن المبارك قال: (كنت عند مالك وهو يحدثنا حديث رسول الله فلدغته عقرب ست عشرة مرة، ومالك يتغير لونه ويصفر، ولا يقطع حديث رسول الله، فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس، قلت: يا أبا عبد الله، لقد رأيت منك عجباً! فقال: (نعم إنما صبرت إجلالاً لحديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ)
وقال الشافعي (رحمه الله تعالى): (يكره للرجل أن يقول: قال رسول الله، ولكن يقول: رسول الله؛ تعظيماً لرسول الله).
وممن يجب تعظيمهم وإجلالهم ـ وهو من إجلاله عليه الصلاة والسلام ـ إجلال صحابة رسول الله، فيتعين احترامهم وتوقيرهم، وتقديرهم حق قدرهم، والقيام بحقوقهم (رضي الله عنهم).
ويلحظ اليوم وجود هجمة شرسة على جناب نبي الأمة يقوده الإعلام الغربي وإني لأتعجب ولا ينقضي عجبي من الإعلام الإسلامي أين هو من مثل هذا الهجوم على نبينا وكأن شيئًا لم يحدث ؟! وأين هو الإعلام الذي انشغل بالبرامج التافهة والفاضحة ونجومها المزعومين! فضلاً عن متابعة نجوم هليوود والفيديو كليب! فيا أمة الإسلام، ويا إخوة العقيدة، ويا أبناء الرسالة الخالدة، هذا نبيكم وهذا فضله، ووصفه فهل ترضون بإهنته؟!! فالواجب على الأمة بكل أفراده وطاقاتها أن تهب هبة الدفاع عن الحبيب صلى الله عليه واله وسلم والواجب أن يعيش معنا دائماً وأبداً في مشاعرنا، وآمالنا، وطموحاتنا.. يعيش معنا، قدوة وأسوة، وإماماً، ومعلماً، وأباً، وقائداً، ومرشداً.يعيش معنا في ضمائرنا عظيماً، وفي قلوبنا رحيماً، وفي أبصارنا إماماً، وفي آذاننا مبشراً ونذيراً {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.
نسينا في ودادك كل غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتك ويكفي لنا شرفٌ نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلّى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
* من مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم:
1) فأول علامات المحبة: الإتباع والاعتصام بالكتاب والسنة..
وحيث كان ادّعاء حب الله من أسهل ما يكون على النفس جعل الله دلالته النبي صلى الله عليه وسلم كما في الآية السابقة {قل إن كنتم تحبون الله...}
تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمري في القياس بديع
لو كنت صادقا في حبه لأطعمته *** أن المحب لمن يحب مطيع
قال الحسن: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية: {قل أن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}.
وثمرة الإتباع محبة الله للمتبع... وشان عظيم أن تًحِب وأعظم منه أن تحب..
2) الحذر من رد شيء من السنة:
قال احمد بن حنبل:" من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة " قال الله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
قال ابن كثير رحمه الله:" أي: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته فتوزن الأقوال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان " ا.هـ [ تفسير ابن كثير:2/307]..
ومن مظاهر رد السنة السخرية والاستهزاء بالسنة النبوية ومعارضتها بالعقول والآراء والرغبات والعادات كالسخرية والاستهزاء باللحية ورفع الرجل ثوبة فوق الكعبين وحجاب المرأة والسواك والصلاة إلى سترة وغير ذلك. فتسمع من يصف تلك الأعمال بأوصاف رديئة أو يتهكم بمن التزم بها فلم يجد هؤلاء مايملؤون به فراغهم إلا الضحك والاستهزاء بمن عمل بالسنة وحافظ عليها فيجعلونه محلا لسخريتهم هازلي لاعبين فيصدق في مثلهم قوله صلى الله عليه وسلم: ((وان العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم)).
ويغفل كثير من الناس عن أمر خطير وهو أن الاستهزاء بالدين كفر سواء كان على سبيل اللعب والهزل والمزاح أو على سبيل الجد فهو كفر مخرج من الملة.
قال ابن قدامة: من سب الله تعالى كفر سواء كان مازحا أو جادا وكذلك من استهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه.اهـ
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: ((كل بيمينك)) قال: لا استطيع. قال: ((لا استطعت ما منعه إلا الكبر)) قال: فما رفعها إلى فيه.
قال التيمي: فليتق المرء الاستخفاف بالسنن ومواضع التوقيف فانظر كيف وصل إليه شؤم فعله.
وعن أبي يحيى الساجي قال: كنا نمشي في أزقة البصرة إلى باب بعض المحدثين فأسرعنا المشي ومعنا رجل ماجن متهم في دينه فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها (كالمستهزئ) فلم يزل من موضعه حتى جفت رجلاه وسقط.!!
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
======================
أمة المليار.. هل تنتصر لرسولها صلى الله عليه وسلم ؟!
د.مسفر بن علي القحطاني(12/226)
رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية
بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
تعجبت وتألمت أن تكون ردود الفعل تجاه السخرية من النبي صلى الله عليه وسلم جرّاء الفعل الشنيع الذي قامت به صحيفة( جيلا ندز بوسطن) الدنماركية بمثل هذا الضعف والخوف والهوان...
وتوقعت أن مؤسساتنا الرسمية و الأهلية وممثلياتنا الإسلامية في الغرب ستتولى تلقين هذه الصحيفة درسا لا تنساه في احترام مقدسات الأمم والشعوب الأخرى , ولكن المفاجأة المركّبة أن الحراك كان ساكنا وخائرا في فاعليته وكأن الكل ينتظر من الأخر أن يقوم بالمدافعة عنه والمبادأة بما يرفع حرج التساؤل الشعبي عن دوره ,مع العلم أن الكاريكاتير الساخر قد نشر في تلك الصحيفة في 26شعبان 1426هـ الموافق30 سبتمبر 2005م أي قبل أربعة أشهر تقريبا ؟!!. و تراكمت المفاجأة أو اللطمة الأخرى على جبين أمتنا الدامي أن تتجرأ مجلة نرويجية تدعى (ماغازينت) وتعيد الدوس بكل تبجح على أعظم مقدساتنا بالإهانة والتحطيم لمشاعرنا الباردة وتنشر تهكمها بالنبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد الأضحى الماضي دون أي اعتبار لجموعنا ودولنا و حقوقنا المغتالة؟!!..
أتسال بعد هذه الصدمات ونحن أمة ردود الأفعال: أين الغيورين وأصحاب العواطف الملتهبة والتصريحات الإعلامية بالدفاع عن حرمات المسلمين ؟؟ أين من يدعي حب المصطفى عليه الصلاة والسلام ويزايد على ذلك متهما الكل بالتهوين من قدره ؟؟ أين المبادرات الايجابية و التحرك الفاعل والتضحية المالية بالدفاع عن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام ؟؟. ألا يحرك في قلوبنا دفاع كل امة عن معتقداتها واعتزازهم بها مهما كانت ضئيلة أو هينة في أعيننا ؛كما فعل البوذيون عند هدم تماثيل باميان ,وما يفعله اليهود فيمن ينكر الهولوكوست (محرقة النازيين لليهود), أو الهندوس في أي إهانة تمس تاريخهم الملفق أو أبقارهم المقدسة, بل دفاع الشواذ والسقطة عن حقوقهم حتى المعنوية منها !!.
أكتب هذا المقال متأخرا لاعتقادي أن المؤسسات الرسمية والأهلية سوف تتولى الردّ والمدافعة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم أكن أتصور أبدا أن نحتاج إلى كتابة مثل هذا المقال أو غيره لاعتقادي أن المقام هو للمبادرات الرسمية الجماعية الفاعلة وليس للخطب أو المكاتبات أوالتقارير الصحفية الاستهلاكية.. لذلك سأبين في هذا المقام بعض المبادرات الواجبة التي ينبغي أن نساهم بها عمليا ممن يرجى تحركه و تُأمّل نهضته لنصرة نبيه عليه الصلاة والسلام, أذكر بعضها على سبيل المثال:
1ـ قيام منظمة المؤتمر الإسلامي برفع دعوى قضائية على الصحيفة الدنماركية والمجلة النرويجية خلال الأيام القادمة وتكليف جهة متابعة تعطي تقاريرها الدورية عن نتائج المرافعة, مع عدم الاكتفاء بالاعتذار الرسمي بل ومعاقبة القائمين على تلك الصحف والمجلات.
2ـ تشكيل وفد رسمي من ممثلي مؤسسات المجتمع المدني من علماء ومفكرين وإعلاميين ورجال أعمال للالتقاء بالمسئولين في الدولتين أو في سفاراتهم في دولنا العربية والإسلامية, وتفعيل هذا الحق من خلال مقابلات ومكاتبات احتجاجية للهيئات الرسمية التابعة لهيئة الأمم المتحدة التي كفلت بحق التعظيم للمقدسات الإنسانية من خلال إعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التعصب أو التمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد والذي وقعت عليه الدول الأعضاء في 1981 م.
3ـ قيام ممثلين عن رابطة العالم الإسلامي واتحاد علماء المسلمين ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بزيارة لممثلي الديانة المسيحية في الفاتيكان للاحتجاج على هذه التصرفات التي تهدم ما توصلت إليه لجان الحوار بين الأديان خلال العقدين الماضيين.
4ـ الاحتجاج الرسمي من قبل أصحاب الوكالات التجارية للصادرات الدنماركية والنرويجية في البلدان العربية بالتهديد بقطع العلاقة معهم حتى يتم الاعتذار الرسمي ومعاقبة القائمين على تلك الصحف , مع التأكيد أن تقاعس شركاتنا التجارية عن أداء هذا الواجب والحراك السريع سيجعل تلك المنتجات في قائمة المقاطعة التجارية لها ونشر أسماء الشركات الوكيلة في القنوات الإعلامية المتنوعة لمنع التعامل معها أو الشراء منها.
5ـ مطالبة الكتّاب والصحفيين والإعلاميين بل وكل غيور على دينه ومعتقده بالقيام بدور النصرة للنبي عليه الصلاة والسلام ومحاولة إثارة الرأي العام الغربي لهذا الانتهاك الحقوقي والتدنيس العلني للمعتقدات الدينية , وتفعيل النقابات المهنية لأداء دورهم في القضية بالاحتجاج المباشر على الصحيفة الدنماركية وهذا هو عنوانها المباشر في مملكة الدنمارك:صحيفة (Jyllands ـ Post صلى الله عليه وسلم n ).
الهاتف والفاكس: ( +45 87 38 38 38 ) و ( +45 33 30 30 30 ). البريد الإلكتروني. ( jp@jp.dk ).(12/227)
6ـ تشكيل مكتب لمتابعة تفعيل هذه المبادرات يُنشأ في اللجنة الإسلامية للقانون الدولي الإنساني التابع للجنة الإسلامية للهلال الدولي إحدى المؤسسات المختصة لمنظمة المؤتمر الإسلامي, أو من خلال التنسيق مع الأمين العام لمنظمة الأسيسكو الدكتور عبد العزيز التويجري الذي ساهم بدور كبير في تفعيل الدعوى على الصحيفة الدنماركية والكتابة والمقابلة لعدد من المسئولين في الحكومة الدنماركية.
ومع الاعتذار الشديد والاستغفار العميق لعجزنا عن القيام بواجب النصرة لمقام نبي الرحمة والهدى عليه الصلاة والسلام فهذه المبادرات هي أقل ما يمكن القيام به تعظيما لحقه عليه الصلاة والسلام من أمته التي تجاوزت المليار مسلم في كل أنحاء الدنيا ؟!!. أما مؤسساتنا الدينية الرسمية والأهلية ومراكزنا وهيئاتنا الإسلامية التي كثرت إلى حد الغثائية فعليها أن تعيد تحديد أهدافها التي تأسست من أجلها وتفعيل دورها المنتظر واللائق بها والمشابه لمثلها عند أصحاب الديانات السماوية والنحل الأرضية. والتاريخ الذي يسطّر هذه المواقف لن يغفر لنا هذا التخاذل؛ ولو فعل , فهل سيغفر ربنا هذا التهاون والتنازل ؟؟!
===============
أنصر نبيك يا مسلم
20 / 12 / 1426هـ
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد،،
فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم }، { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}، قرن أسمه باسمه في الآذان وجعل شأنه عالياً، وتفضل عليه بالوحي والرسالة، واصطفاه من بين خلقه ليكون خاتم النبيين، وكان فضل الله عليك عظيماً، وجعل له لواء الحمد والمقام المحمود، هذا نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل الأنبياء، إمامهم يوم القيامة وقائد الغر المحجلين يوم الدين، ويوم يرجع الأنبياء إليه للشفاعة ليقضى بين الخلائق، فيقوموا هؤلاء الكفرة اليوم بشن الغارات على شخص محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، ليبوأ بالإثم في البداية والمسلسل طويل من قبلهم.
صحيفة دنمركية بالرسومات الساخرة التي تستهزئ بأعظم رجل وطئت قدماه الثرى، صورة آثمة وقحة وقاحة الكفر وأهله، ليكون في ذلك الرسم عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأس رجل كأنهم بل صرحوا أنه إرهابي، وهذا من شدة ما أرهبهم، ثم تأتي جريدة أخرى نرويجية لتنكأ الجراح وتشن الغارة من جديد، لتعيد نشر الرسوم الوقحة التي نشرت من قبل، { أتواصوا به بل هم قوم طاغون }، فيا لله ماذا بقي في الحياة من لذة عندما ينال من مقام محمد صلى الله عليه وسلم ثم لا ينتصر له؟، وماذا نقول تجاه هذا العداء السافر والتهكم المكشوف؟، هل نغمض أعيننا؟، أو نصم أذاننا؟، أو نطبق أفواهنا وفي القلب عرق ينبض؟، والذي كرم محمد وأعلى مكانته صلى الله عليه وسلم لبطن الأرض أحب إلينا من ظاهرها إن عجزنا أن ننطق بالحق وندافع عن نبينا صلى الله عليه وسلم، آلا جفت أقلام وشلت سواعد قد امتنعت عن تسطير الأحرف، والنطق بالكلمات للذود عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم .
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم فداء
وهكذا يا عباد الله، يسفر هؤلاء أعداء الدين من أهل الكتاب وغيرهم عن وجوههم القبيحة مرات كثيرة، بصور مختلفة وتعاد الصورة مرة أخرى والتاريخ يعيده الله عزوجل، { إنا أعطيناك الكوثر فصلي لربك وأنحر إن شانئك هو الأبتر }، الشانئ العدو المبغض الساب الشاتم هذا منقطع الذكر، قليل الأثر، هذا هو الذي لا عقب له ولا يبقى له نسل ولا حسن ذكر، أما أنت يا محمد صلى الله عليه وسلم فتبقى ذريتك، وصيتك الحسن بين العباد، وآثار فضلك إلى يوم القيامة، ولك في الآخرة نهر الكوثر والخير الكثير .
عباد الله لما قام قريش يسبونه عليه الصلاة والسلام وقامت تلك المرأة تقول
مذمماً عصينا ودينه أبينا
قال عليه الصلاة والسلام: " ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد ". رواه البخاري ومسلم .
وهكذا،، دافع الله عن نبيه عليه الصلاة والسلام وذكره بالمقام العظيم في كتابه، وأنزل هذه الصورة وغيرها من الآيات للدفاع عن محمد عليه الصلاة والسلام، { ن والقلم وما يسطرون* ما أنت بنعمة ربك بمجنون* وإن لك لأجراً غير ممنون* وإنك لعلى خلق عظيم } ، { ألم نشرح لك صدرك* ووضعنا عنك وزرك* الذي أنقض ظهرك * ورفعنا لك ذكرك }، وهكذا رفع ذكره، وخفض شانئه وشأنهم.(12/228)
تقوم الرسومات الكاريكاتورية الساخرة اليوم بالاستهزاء بنبينا عليه الصلاة والسلام في رسمها ورمزها ولكن ليس نبينا بالصورة التي رسومها ولا بالخلق الذي وصفوه، فوجهه عليه الصلاة والسلام هو الضياء والطهر والقداسة والبهاء، أعظم استنارةً وضياءاً من القمر ليلة البدر، يفيض سماحة وبشراً وسروراً، طلعته آسرة تأخذ بالألباب، وكل من رآه عرف صدقه في وجهه، ومنهم من ارتعدت فرائسه وهو ينظر إليه، ومنهم من بكى إجلالاً له وإعجاباً، وما كان عليه الصلاة والسلام عابساً ولا مكشراً، إنه صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءًا من العذراء في خدرها، إذا سر استنار وجه كأنه قطعة قمر، أهدب الأشفار، أكحل العينين كأنه سبيكة فضة، مليح الوجه، يقول أنس رضي الله عنهما: " ما مسست حريراً ألين من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، كان عليه الصلاة والسلام يعرف بريح الطيب إذا أقبل، كان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خلقاً، وأكرمهم، وأتقاهم، كان عليه الصلاة والسلام لا يستكبر أن يمشي مع المساكين، تأخذ الجارية الصغيرة بيده فينطلق لقضاء حاجتها، كان يزور الأمصار ويسلم على صبيانهم، ويأتي ضعفائهم ويزورهم ويعود المرضى، ويشهد الجنائز، كان عليه الصلاة والسلام يجلس على الأرض ويأكل على الأرض، ويعتقل الشاة فيحلبها كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويفليه ويحلب شاته، ويخدم نفسه، كان يبيت الليالي طاوياً لا يجد عشاءاً، وكان لا يجد ما يملئ بطنه من الدقل وهو التمر الرديء، وكان يعصب الحجر على بطنه من الجوع مرات، يقبل الهدية ولا يأخذ الصدقة، كان أشجع الناس إذا أحمر البأس اتقوا به في القتال، تمر به الهرة فيسقي لها الإناء لتشرب منه، كان عليه الصلاة والسلام عفواً يغفر ويصفح حتى عفا عن ذلك المشرك الذي أخترط سيفه ورفعه عليه صلتاً، قال: من يمنعك مني؟، قال: الله، فشلت يد المشرك وسقط السيف من يديه، كان سخياً كريماً أجود الناس، كان عليه الصلاة والسلام عظيماً في أخلاقه وآدابه وخلقته.
ألم ترى أن الله خلد ذكره إذ قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من أسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
أوفر الناس عقلاً، وأسدهم رأياً، وأصحهم فكرة، وأسخاهم يداً، وأنداهم راحة، وأجودهم نفساً، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، يجود ويقول: " أنفق يا بلال ولا تخشى من ذي العرش إقلالا "، أرحب الناس صدراً، وأوسعهم حلماً، لا يزيده جهل الجاهلين عليه إلا عفواً، أعظم الناس تواضعاً لا يتميز عن أصحابه بمظهر، ألين الناس عريكة، وأسهلهم طبعاً، ما خير بين أمرين إلا أختار أيسرهما، لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، ولا يستطيع أن يقف أحد في طريقه، كأنما يفقأ في وجه حب الرمان تعظيماً لحرمات الله وغضباً لها، أشجع الناس قلباً، وأقواهم إرادة، يخوض الغمار قائلاً: " أنا النبي لا كذب أنا أبن عبد المطلب "، أعف الناس لساناً، وأوضحهم بياناً، يسوق الألفاظ مفصلة كالدرر مشرقة، كالنور هو طاهر كالفضيلة، إنه صاحب العفة يقيم الحدود، ويقسم بالعدل بين الناس، هو أسمح الخليقة روحاً، وأعلاها نفساً، وأزكاها وأعرفها بالله، أشد الناس في أمر الله، أخشى الناس لله، يؤتي كل ذي حق حقه، قضى زهرة شبابه مع امرأة من قريش تكبره بخمس عشرة سنة، قد تزوجت من قبل وما تزوج بعدها لاستمتاع مجرد، بل كان في زواجه عليه الصلاة والسلام مصالح عظيمة، أرفق الناس بالضعفاء، وأعظمهم رحمة بالمساكين، شملت رحمته حتى البهيمة، فهو ينهى أن يحد شفرته أي الجزار بحضرة الشاة وهي تلحظ إليه، وأن تذبح شاة في حضرة أخرى وهكذا،، أخبر أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، إنه أمين الله على وحيه ومصطفاه من خلقه، أختاره الله وبعثه رحمة للعالمين، وحمل هداية رب السماء إلى أهل الأرض، نور النبوة مشكاتها وشعاعها ينطلق من لسانه.
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
عباد الله، لقد أنصف بعض الكفار نبينا عليه الصلاة والسلام لما قرءوا سيرته من عظم أخلاقه، ومن عظم هذه الحياة التي تركت وراءه مسطرة، فرضوان الله عن أصحاب ما فوتوا صغيرة ولا كبيرة إلا ونقلوها من شأنه عليه الصلاة والسلام، ولا يوجد رجل في العالم لا في القديم، ولا في الحديث، لا من المسلمين، ولا من الكفار، سيرته منقولة بهذه الدقة، فهل رأيت في العالم من نقيت صفته وسيرته وأحداث حياته كمحمد عليه الصلاة والسلام؟، ولذلك يقول:(12/229)
• مايكل هارت في الخالدين المائة وقد جعل على رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: لقد أخترت محمداً صلى الله عليه وسلم في أول هذه القائمة، لأنه هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً مطلقاً على مستوى الديني والدنيوي، قد دعا إلى الإسلام وأصبح قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً وبعد ثلاث عشرة سنة من وفاته، فإن أثر محمد عليه السلام ما يزال قوياً متجدداً، وقال: ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم قوة جبارة لا يستهان بها، فيمكن أن يقال أيضاً: إنه أعظم زعيم سياسي عرفه التاريخ.
• أما برناردشو الإنكليزي وله مؤلف أسمه محمد قد أحرقته سلطات بلاده يقول فيه: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد صلى الله عليه وسلم، وإن رجال الدين في القرون الوسطى ونتيجة للجهل أو التعصب، قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية، لكنني أطلعت على أمر هذا الرجل فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوا للمسيحية بل يجب أن يسمى منقذ البشرية، وفي رأيي أنه لو تولى أمر العالم اليوم لوفق في حل مشكلاتنا بما يأمن السعادة والسلام التي يرنوا إليها البشر.
• ويقول آن بيزيت: من المستحيل لأي شخص يدرس حياة وشخصية نبي العرب العظيم، ويعرف كيف عاش، وكيف علم الناس، إلا أن يشعر بتبجيل هذا النبي الجليل، أحد رسل الله العظماء، هل تقصد أن تخبرني أن رجلاً في عنفوان شبابه لم يتعد الرابعة والعشرين من عمره بعد أن تزوج من امرأة أكبر منه بكثير وظل وفياً لها طيلة ستة وعشرين عاماً، ثم عندما بلغ الخمسين من عمره السن التي تخبوا فيها شهوات الجسد، تزوج لإشباع رغباته وشهواته؟، ليس هكذا يكون الحكم على حياة الأشخاص.
• أما تولستوي ( الأديب العالمي ): فيقول يكفي محمداً فخراً أنه خلص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم، وإن شريعة محمد ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة.
• أما شبرك النمساوي فيقول: إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ أنه رغم أميته استطاع قبل بضعت عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن أوروبيين أسعد ما نكون إذا توصلنا إلى قمته.
• وهكذا يصفه إدوار مونته الفرنسي: عرف محمد صلى الله عليه وسلم بخلوص النية، والملاطفة، وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق.
• وقال الإنجليزي توماس كارليل الحائز على جائزة نوبل في كتابه الأبطال: لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث في هذا العصر، أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب، وأن محمد خداع مزور، وقد رأيناه طول حياته راسخ المبدأ، صادق العزم، كريماً براً رءوفاً، تقياً، فاضلاً، حراً، رجلاً شديد الجد، مخلصاً، وهو مع ذلك سهل الجانب، لين العريكة، جم البشر والطلاقة، حميد العشرة، حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب، كان عادلاً، صادق النية، ذكي اللب، شهم الفؤاد كأنما ما بين جنبيه مصابيح كل ليل بهيم ممتلئاً نوراً، رجلاً عظيماً بفطرته لم تثقفه مدرسة ولا هذبه معلم، وهو غني عن ذلك.
• أما جوتة الألماني فيقول: إننا أهل أوروبا بجميع مفاهيمنا لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وسوف لا يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان فوجدته في النبي محمد، وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلوا كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد.
وهكذا،، وهكذا تتوالى الشهادات من الأعداء ومن مخالفه عليه الصلاة والسلام في الدين، ومهما كان من الملاحظات على بعضها، لأن الذين أطلقوها من غير المسلمين وبضعهم يجهل حقيقة الوحي، ولا يقر بختم النبوة ولا بأن دين محمد صلى الله عليه وسلم يجب الدخول فيه، فإن هذه الشهادات كافية في أن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام قد أخضعت أقلام أولئك الكتاب، وأنهم لما أطلعوا على شيء من حياته ذلوا ولم يملكوا أنفسهم من تسطير هذه الكلمات، فيأتي هؤلاء اليوم من الكفرة الذين لا يعترفون حتى بما سطره أدبائهم، وبعض كتابهم، ومنصفيهم، لا يرونه شيئاً ليقوموا بالاعتداء على شخص محمد صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، إنا نبينا عليه الصلاة والسلام صادق، ولما رآه أحد أكابر ثقيف قال له: لا أقول لك كلمة واحدة، إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك؟، وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أرد عليك؟.
لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تنبيك بالخبر(12/230)
كل من رآه عرف من وجه أنه صادق، وما من أحد أدعى النبوة من الكذابين إلا وظهر عليه من الجهل، والكذب، والفجور، واستحواذ الشياطين ما فضحه، وما من أحد أدعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من العلم، والصدق، والبر، وأنواع الخيرات ما يميزه، وهكذا قال تعالى: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون }، إن خديجة رضي الله عنها وهي زوجته، قالت له لما رجع خائفاً من الغار: كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
لما عرف ورقة ابن نوفل ماذا حصل لنبينا في الغار، وسمع أول ما نزل عليه، قال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، لقد عرفه بحير الراهب بصفته وهو صغير،، وهكذا أعترف له عبد الله بن سالم بما في التوراة، وهكذا عرفته الجن لما سمعوا كلامه، أرسل الله إليه نفر من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا أنصتوا، فلما قضي ولو إلى قومهم منذرين، قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى،، وهكذا عرفه ملك الروم هرقل لما سأل أبا سفيان أسئلة فأجابه عنها، ثم قال له هرقل: " سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قالها هذا القول قبله، لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس أتبعه أم ضعفائهم؟ فذكرت أن ضعفائهم أتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟، فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك الأمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطتاً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبد الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ( هرقل كان عنده علم من الكتاب ) ، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقائه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه ". ولكن منع حب الرئاسة بعد ذلك هرقل من الدخول في الدين، وكان يجب عليه أن يترك ملكه وبلده ويأتي مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويعلن الدخول في دينه كما فعل النجاشي، وأمره النبي عليه الصلاة والسلام بالبقاء في بلده للمصالح العظيمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( ولهذا أخبرت الأنبياء المتقدمون أن المتنبأ الكذاب لا يدوم إلا مدة يسيرة وهذه من بعض حجج ملوك النصارى الذين يقال إنهم من ولد قيصر هذا أو من غيرهم، حيث رأى رجلاً يسب النبي صلى الله عليه وسلم من رؤوس النصارى ويرميه بالكذب، فجمع علماء النصارى وسألهم عن المتنبأ الكذاب، كم تبقى نبوته؟ فأخبروه بما عندهم من النقل عن الأنبياء أن الكذاب المفتري لا يبقى إلا كذا وكذا سنة، لا يبقى إلا شيئاً يسيراً ثم يضمحل، ذكره لمدة قريبة من ثلاثين سنة ونحو ذلك، فقال لهم: هذا دين محمد له أكثر من خمسمائة أو ست مائة سنة في ذلك الوقت الذي حدثت فيه القصة، وهو ظاهر مقبول متبوع فكيف يكون هذا كذاباً؟ ثم ضرب عنق النصراني من أصحابه ورعيته ).
عباد الله، كل من نظر في دين هذا النبي الكريم، كل من نظر في الوحي الذي جاء به هذا الرسول العظيم، يعرف صدقه، { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم }، إي والله يعرفون محمد صلى الله عليه وسلم بوصفه كما يعرفون أبناءهم، { يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون* الحق من ربك فلا تكنن من الممترين }، وهكذا لما سمع النجاشي صدر سورة مريم سمع بعض ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من جعفر بن أبي طالب وغيره من الصحابة، قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.(12/231)
أيها المسلمون، نبينا عندنا في مقام عظيم، وفي نفوسنا له منزلة كبيرة، ونحن نعلم أن من سبه عليه الصلاة والسلام إن كان مسلماً فإنه يصحب مرتداً بهذا السب، ولا تمنع توبته من قتله على القول الراجح، لأن حق الله يسقط بالتوبة، أما حق محمد بن عبد الله فكيف يتم التنازل عنه؟، وصاحب الحق قد مات، ولذلك يبقى الأمر في إقامة الحد عليه بالموت، وإذا صدق في التوبة تنفع عند الله هذا قول عدد من أهل العلم، كما نصر ذلك شيخ الإسلام وبينه في كتابه العظيم الصارم المسلول على شاتم الرسول، وأما من الكفار فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد جرد كتائب لقتل هؤلاء، كما فعل ببعض اليهود الذين وقعوا فيه وسبوه وشتموه في شعرهم، وجعلوا بعض الغينات المغنيات عندهم يغنيين بشتمه عليه الصلاة والسلام، فأرسل إليهم من اغتالهم على فرشهم وفي عقر دارهم، ولما فتح مكة أهدر دم عبد الله بن خطل المشرك الذي كان يسبه ولما قبض عليه متعلقاً بأستار الكعبة، وجعل يتوسل يقول: يا محمد من للصبية؟ فقال: النار، وقتل عنق ذلك المشرك عند الكعبة، تلك حرمة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فقد آن لنفوس المؤمنين أن تنطلق بنصرة نبيها، وأن تدفع أولئك الشانئين.
اللهم أنصر سنة محمد بن عبد الله في العالمين، اللهم زد ذكره رفعة وأعلي، وزد في دينه علوا، اللهم إنا نسألك أن تكبت عدوه، وأن تنشر سنته في العالمين، وأن تعلي دينه فوق سائر أهل الأرض يا أرحم الراحمين، اللهم أرنا فيمن سبه مصيراً أسود، اللهم أنتقم لنبيك، اللهم أنتقم لنبيك، اللهم أنتقم لنبيك، إنك عزيز ذو انتقام.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فأستغفره،، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله قيوم السماوات والأرضين، الحمد لله رافع السماء بلا عمد، الحمد لله استغنى عن والدة والولد، الحمد لله لم يكن له كفواً أحد، الحمد لله الذي ليس له صاحبة ولم يتخذ ولداً وخلق كل شيء، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، البشير والنذير، والسراج المنير، وحامل لواء الحمد، والشافع المشفع يوم الدين، أول الناس قياماً من القبور، وأول الناس يسير إلى ساحة البعث والعرض والنشور، وأول الناس وروداً على حوضه، وأول الناس عبوراً للصراط، وأول الناس دخولاً الجنة، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، اللهم أعلي شأنه اللهم أرفع درجته، اللهم أجعلنا من أهل شفاعته، أشهد أنه رسول الله حقاً، والداعي إلى سبيله صدقاً، بلغ الرسالة، تركنا على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، بلغ الأمانة، وأدى الرسالة، ونصح الأمة، علمنا فأحسن تعليمنا، وأدبنا فأحسن تأديبنا عليه الصلاة والسلام، اللهم أرضي عن أصحابه وعن آله وذريته الطيبين الطاهرين، وعن خلفائه الميامين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله، لعله جس نبض، ويريد هؤلاء اليهود والنصارى أن يعلموا، ماذا في الأمة من حس؟، وماذا بقي فيها من غيرة؟، وكذلك فإن عداوتهم لأهل الإسلام ولنبيه باقية إلى قيام الساعة حتى ينزل عيسى عليه السلام فيقضي عليهم، ولاشك أن من عداوتهم أن يسبوا نبينا ونحن نتوقع هذا منهم، وأن يهاجموه في وسائل إعلامهم، وأن يسيروا سيرة كفار قريش الذين كانوا يشوهون سمعة نبينا في محافل الحجاج ولكن الله لهم بالمرصاد، فنصر الله نبيه عليهم وهكذا ينصر الله نبيه في هذا الزمان وفي كل زمان، وكل من تعرض لذاته الكريمة ووقع فيه كما وقع هؤلاء بعض الدنمركيين والنرويجيين ومن لف لفهم، وتعرضوا لنبينا الكريم بالبذاءة والسخرية والاستهزاء، ويرفضون الاعتذار، ويقولون: ( حرية الرأي حرية الكفر ) فإذا سبت ملكتهم، وسب نظامهم ودولتهم، فماذا عساهم يقولون؟، يسنون القوانين في عقوبة من سب نظامهم ودولتهم وملكتهم، ولكن عندما تأتي القضية إلى نبينا الذي يجب على ملكتهم ورؤسائهم الإيمان به، تصبح المسألة تصبح القضية حرية رأي، حرية الكفر، حرية الهجوم على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، هكذا إذن فعل هؤلاء وقبلهم من النصارى في أمريكا وغيرها،، كما قال جري فالويل: أنا أعتقد أن محمداً كان إرهابياً، وفي اعتقاد المسيح وضع مثال الحب كما فعل موسى، وأنا أعتقد أن محمداً وضع مثالاً عكسياً، ويتهمه وحاش عليه الصلاة والسلام بأنه كان لصاً وقاطع طريق.
أما بات روبت سون الحاقد الآخر في الولايات المتحدة يقول عن نبينا عليه الصلاة والسلام: كان مجرد متطرف ذو عيون متوحشة تتحرك عبثاً من الجنون.
وصاحبه جري فاينز يقول: عن النبي عليه الصلاة والسلام إنه يتملكه الشيطان.(12/232)
وجمس واركد يتهمه بالشذوذ هكذا،، أيها الأخوة المسلسل معروف من هؤلاء اليهود والنصارى بأقلام ورسومات في وسائل إعلامهم، لقد أغاظهم محمد عليه الصلاة والسلام، لقد أغاظهم انتشار دينه، لقد أغاظتهم شريعة الجهاد التي جاء بها عليه الصلاة والسلام، لقد أغاظتهم قوة الإسلام، لقد أغاظتهم هذه الشريعة التي ليس عندهم مثلها، أغاظهم سرعة انتشار الإسلام، أغاظهم أن الإسلام أول دين في العالم في سرعة الانتشار، لقد أغاظهم هذا التوقير والاحترام الذي يحظى نبينا عليه الصلاة والسلام بيننا مع تقصير كثير من المسلمين.
عباد الله، من سخر بالنبي عليه الصلاة والسلام ما حكمه؟، { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم }.
روى أبو داوود عن علي رضي الله عنه أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها.
قال شيخ الإسلام: ( وهذا الحديث جيد وله شاهد من حديث ابن عباس وفي قصة الأعمى المعروفة المشهورة الذي كانت له أم ولد ترعاه له منها أبنان كاللؤلؤتين فوضع ذلك الرمح القصير في بطنها وأتكأ عليها حتى ماتت لأنها كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه )، ولما أغلظ رجل لأبي بكر الصديق، قال أبو برز الأسلمي للصديق: أقتله؟ فانتهرني، يقول أبو برزه، وقال: ليس هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون، يا عباد الله، إن سب النبي عليه الصلاة والسلام من أعظم المحرمات، وكفر وردة عن الإسلام، بإجماع العلماء سواء فعل ذلك القائل جاداً أم هازلاً، وفاعله يقتل ولو تاب، كما تقدم مسلماً كان أو كافراً، وإن عقوبة من سب النبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا أن الله يذيقه من العذاب المهين، فالله يدافع عن الذين آمنوا، والنبي عليه الصلاة والسلام رأس المؤمنين، وقال: { والله يعصمك من الناس }، وقال: { إن كفيناك المستهزءين }، وقال: { فسيكفيكهم الله }، وقال: { أليس الله بكاف عبده }، قال الشيخ السعدي - رحمه الله - : ( وقد فعل تعالى فما تظاهر أحد يعني أعلم بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتله ).
أيها المسلمون، لقد جاءت الروايات مبينة لهذا،، فأخرج الطبراني في الأوسط، والبيهقي، وأبو النعيم في الدلائل، وابن المردويه بسند حسن، عن ابن عباس في قوله إن كفيناك المستهزئين، قال: ( المستهزئون الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن عبطة السهمي، والعاصم بن وائل، فآتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أريني إياهم فأراه كل واحد منهم، وجبريل يشير إلى كل واحد منهم في موضع من جسده ويقول: كفيتك هو، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ما صنعت شيئاً، فأما الوليد فمر برجل بن خزاعة وهو يريش نبلاً فأصاب أكحله فقطعها، أنقطع عرق فأدى إلى هلاكه، وأما الأسود ابن المطلب فنزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بني ألا تدفعون عني؟ قد هلكت وطعنت بالشوك في عيني، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً، فلم يزل كذلك حتى عتمت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منه، وأما العاص فركب إلى الطائف فربط على شبرقة فدخل من أخمص قدميه شوكة فقتلته ".
وهكذا،، بعض أعداء النبي عليه الصلاة والسلام كان مع أبيه في سفر، فنزلوا منزلاً وهم على الشرك، فقال أبوه: إني أخاف من أصحاب محمد على ولدي، إني أخاف من السباع، أجعلوا حوله الأمتعة وناموا حوله، فجاء أسد وهم نيام فشمهم حتى وصل إليه فافترسه.
عباد الله، قد روى أنس رضي الله عنه أن رجلاً نصرانياً أسلم، وقرأ البقرة وآل عمران فكان يكتب للنبي عليه الصلاة والسلام يعني يكتب الوحي، فعاد نصرانياً أرتد، وكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، أدعى أن هذا القرآن منه، فآماته الله فدفنوه، أي: ( النصارى الذين عندهم بالشام الذين لجأ إليهم )، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقال: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا فأصبح وقد لفظته الأرض لليوم الثاني، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه، فحفروا له وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، يعني: هذا الاستخراج من الأرض، ليس فعل بشر فألقوه ). الحديث رواه البخاري ومسلم.
عندما تكون الأمة في عافية والدين في قوة في نفوس المسلمين، ترى النموذج العظيم من ذلك الفتيين الصغيرين بينهما عبد الرحمن بن عوف، كل منهما يسأل عن أبي جهل أين هو؟، أين هو؟، ما هذا الحماس؟، ولماذا السؤال؟، إني أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لأن رأيته لا يفارق سوادي سواده، حتى يموت الأعجل منا.(12/233)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وإن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه، ومظهر لدينه ولكذب الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد مثل هؤلاء الكفرة اليوم في بلادهم في حراسة، فيقول المسلمون: لا نستطيع الوصول إليهم وليسوا تحت سلطاننا لإقامة الحد عليهم، قال شيخ الإسلام: وإن الله منتقم لرسوله ممن طعن عليه وسبه، إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد )، ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة، عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون، والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر، يعني: الروم النصارى في زماننا، قالوا: كنا نحن نحصر الحصن الشهر، أو أكثر من الشهر، وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحه وتيسر، ولم يكد يتأخر إلا يوم أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة ويكون فيه ملحمة عظيمة.
قال قادة الفتح المسلمين: القادة العسكريون لأهل الإسلام شهادات من أرض المعركة، ومن الجبهات حتى إنا كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوه فيه.
وهكذا يقول شيخ الإسلام: حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل الغرب، يعني: المغرب، حالهم مع النصارى كذلك.
عباد الله، لقد وضع هرقل الكتاب الذي جاءه في قصبة من ذهب تعظيماً له، ولم يزل أولاده يتوارثون حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سبطه، يقول بعض مؤرخي الإسلام السهلي: حدثني بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعد، أحد قواد المسلمين أجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب فلما رآه، المسلم أستعبر، دمعت عيناه وبكى، وسأله أن يمكنه من تقبيله، فأمتنع الملك الكافر أن يمكنه من تقبيل الخطاب، وذكر أبن حجر عن سيف الدين فليح المنصوري، أن ملك الفرنج أطلعه على صندوق مصفح بذهب، فأخرج منه مقلمة من ذهب، فأخرج منها كتاباً قد زالت أكثر حروفه، وقد التصقت عليه خرقة حرير، قال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ، ونعظمه، ونكتمه عن النصارى، ليدوم الملك فينا.
أيها المسلمون، في التاريخ عبر وآيات في الحاضر والماضي، ذكر الشيخ أحمد شاكر رحمه الله المصري عن والده محمد شاكر، وكيل الأزهر سابقاً، وكان هنالك خطيباً مفوه متكلم، فصيح، يمدح أحد الأمراء، عندما أكرم طاه حسين، فقال ذلك الخطيب في خطبته لما جاء طاه حسين أعمى البصر والبصيرة، الذي قال: يجب القبول الحضارة الغربية بحلوها، ومرها، وإتباع سنن الكفرة في كل شيء، الذي طعن في القرآن وفي العربية، لما جاء طاه حسين إلى ذلك الكبير من الكبراء قام الخطيب يمدح ذلك الكبير فقال:
جاءه الأعمى فما عبس بوجه وما تولى
وماذا يعني هذا الكلام، غمز، إساءة للنبي عليه الصلاة والسلام، لأن الله قال عن قصته عليه الصلاة والسلام مع أبن أم مكتوم: { عبس وتولى أن جاءه الأعمى }، وعاتب نبينا عليه الصلاة والسلام مع أن موقفه ذلك كان بسبب أن أم مكتوم قد أشغله عن دعوة كبراء قريش، وأراد الله أن يعلم نبيه الاهتمام بابن أم مكتوم حتى ولو على حساب كبراء قريش.
عباد الله، هذه اللمزة، في هذه الكلمة، خطيرة جداً، فلما صلى الخطيب هذا بالناس قام الشيخ محمد شاكر رحمه الله، وقال للناس: الصلاة خلفه باطلة، وأمرهم أن يعيدوا الصلاة، لأن الخطيب كفر بتلك الكلمة التي تعتبر تجريحاً وتعريضاً بالنبي عليه الصلاة والسلام، وما عاقبة هذا المجرم؟، قال الشيخ أحمد شاكر: ولم يدع الله لهذا المجرم جرمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسم بالله: لقد رأيته بعيني رأسي بعد بعض سنين، وبعد أن كان عالياً منتفخاً مستعزاً بمن لاذا بهم، رأيته مهيناً ذليلاً خادماً على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين ليحفظها في ذلة وصغار، حتى لقد خجلت أن يراني وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقة عليه فما كان موضعاً للشفقة ولا شماتة فيه ولكن لما رأيت من العبرة والعظة.
ذهب أحدهم لنيل شهادة من شهادات العليا خارج البلاد، فلما أتم دراسته وهي تتعلق بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام، طلب منه أستاذه من النصارى أن يسجل في رسالته ما فيه انتقاص من النبي عليه الصلاة والسلام وتعريض، فتردد الرجل بين القبول والرفض وأختار الدنيا في النهاية على الآخرة، وأجابهم إلى ما أراده طمعاً في الشهادة الملوثة، فلما عاد إلى بلده فوجئ بهلاك جميع أولاده وأهله في حادث مفاجئ، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى.
يا عباد الله، الله عزوجل قال لنا: { فالذين أمنوا به وعزروه }، أي: قاموا في نصرته عليه الصلاة والسلام،(12/234)
{ ونصروه وأتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون }، فوجب القيام بنصرة نبي الإسلام بجميع الوسائل الممكنة في هذا الزمان، ومن ذلك الاحتجاج بكافة الوسائل من الساسة والعامة، والكبار والصغار، بجميع الوسائل والاحتجاج على مستوى الهيئات الشرعية، ودور الفتية والجامعات الإسلامية، وكذلك المنظمات الإسلامية، وإعلان الإسنتكار من الشخصيات العلمية، والقدوات الثقافية، والقيادات الشرعية، وإعلان هذا النكير على المنابر وغيرها.
ورابعاً المواجهة على مستوى المراكز الإسلامية الموجودة في الغرب والشرق، في الرد على هذه الحملة واستنكارها.
وخامساً المواجهة على المستوى الفردي بإرسال الرسائل الإلكترونية المتضمنة للاحتجاج، والرد والاستنكار إلى المنظمات والجامعات والأفراد المؤثرين في الغرب، ولو نفر من المسلمين فرقة احتسبت بإرسال هذه الرسائل الكثيرة جداً إلى تلك المنظمات والجهات والأفراد سيكون لها أثر لافت.
وسادسا استأجر ساعات البرامج في المحطات الإذاعية والتلفزيونية للذب عن نبي الإسلام، وأن يتكلم القاصي والداني من المسلمين ممن يستطيع في اتصالاتهم على البرامج الفضائية المباشرة، لبيان غيرة المسلمين على نبيهم وقيامهم بذلك.
وسابعاً كتابة المقالات القوية الرصينة التي تنشر في المجلات والصحف، وأن تترجم بلغات مختلفة وترسل إلى تلك الوسائل السيارة، وكذلك إنتاج الكتب وغيرها، بل الأفلام التي تبين عظمة دين الإسلام وليس فيها محاذير شرعية، كما فعله بعضهم من تمثيل شخصية النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، كلا بل إنتاج الأفلام المؤثرة التي تبين نور الإسلام وعظمة هذا الدين، الذي جاء به نبي الإسلام.
وتاسعاً عقد اللقاءات وإلقاء الكلمات في المنتديات والملتقيات العامة.
وعاشراً إصدار البيانات الاستنكارية من الجهات المختلفة، وغشيان المنتديات الإلكترونية، والغرف الإلكترونية، وبث هذا الاستنكار.
والحادي عشر إقامة المعارض الدولية المتنقلة، والثابتة في الأماكن المختلفة، لبيان شأن نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، وسيرة هذا النبي الكريم وكذلك تبادل الحوارات، وفتح الحوارات مع كل من يمكن الوصل إليه، وحشد الجهود وإعداد البرامج للتعريف، وإصدار المجلات والمطالبة بصياغة نموذج رسالة استنكار باللغات المختلفة جاهزة للإرسال، ومراسلة السفارات المعنية بها، وكذلك الكتابة للجريدة التي نشرت هذه الرسوم ومطالبة هذه الجريدة وغيرها ممن نشر بالاعتذار للعالم الإسلامي جميعاً عما نشره من الإساءات.
عباد الله، ينبغي أن تتكون في المسلمين مجموعات، وقواعد بيانات، ومواقع، ينبغي أن تكون هنالك مجاميع تنشر، وتدافع، وتذب عن محمد صلى الله عليه وسلم.
محمد المبعوث للناس رحمةً ... ... يشيِّد ما أوهى الضلال ويصلح
لئن سبَّحت صُمُّ الجبال مجيبةً ... ... لداود أو لان الحديد المصفح
فإن الصخور الصمَّ لانت بكفه ... ... وإن الحصا في كفه ليُسَبِّح
وإن كان موسى أنبع الماء بالعصا ... ... فمن كفه قد أصبح الماء يَطفح
وإن كانت الريح الرُّخاءُ مطيعةً ... ... سليمان لا تألو تروح وتسرح
فإن الصبا كانت لنصر نبينا ... ... ورعبُ على شهر به الخصم يكلح
وإن أوتي الملكَ العظيم وسخِّرت ... ... له الجن تسعى في رضاه وتكدح
فإن مفاتيح الكنوز بأسرها ... ... أتته فرَدَّ الزاهد المترجِّح
وخص بالحوض الرَّواء وباللِّوا ... ... ويشفع للعاصين والنار تَلْفح
وبالمقعد الأعلى المقرَّب ناله ... ... عطاءً لعينيه أَقرُّ وأفرح
وبالرتبة العليا الوسيلة دونها ... ... مراتب أرباب المواهب تَلمح
ولَهْوَ إلى الجنات أولُ داخلٍ ... ... له بابها قبل الخلائق يُفْتَتح
عباد الله، تبادل العناوين والتعريف بكيفية الكتابة والاستنكار أقل ما نقوم به وتعريف الكفار الذين يعيشون بيننا بنبينا عليه الصلاة والسلام، وسيرته فهو الذي جاء الوحي عن طريقه.
اللهم أعز دينه، وأعلي شأنه، وأعلي ذكره، اللهم أجعلنا من أتباعه حقاً، ومن أهل سنته صدقاً، اللهم أرزقنا شفاعته يوم الدين، اللهم أجعلنا القائمين بحق نبينا يا عظيم، اللهم إنا نسألك وأنت العظيم القوي الجبار أن تهلك هؤلاء الذين وقعوا في نبينا، أرينا فيهم آية، اللهم إنا نسألك أن تسلط عليهم جنداً من عندك، اللهم أرنا فيهم هلاكاً وبيلة وخذهم أخذاً شديداً، وأجعلهم عبرة للمعتبرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
==================
أنصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم
د. عبد الحي يوسف(12/235)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله ومن شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيل ربه حق الجهاد ولم يترك شيئاً مما أُمر به حتى بلغه فتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً وهدى الناس من الضلالة ونجاهم من الجهالة وبصرهم من العمى وأخرجهم من الظلمات إلى النور وهداهم بإذن ربه إلى صراط مستقيم اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله ـ تعالى ـ وخير الهدي هدي محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وما قل وكفى خيرٌ مما كثر وألهى وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
أما بعد أيها المسلون عباد الله:
1ـ سنة الله ـ تعالى ـ هي الغضب لأنبيائه والانتقام ممن آذاهم وانتقصهم، اقرؤوا القرآن أيها المسلمون وانظروا ما صنع ربنا بقوم نوح الذين قالوا لنبيهم ـ عليه السلام ـ {ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} وما صنع بقوم عاد الذين قالوا لنبيهم ـ عليه السلام ـ {ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون} وما صنع بثمود الذين قالوا لنبيهم ـ عليه السلام ـ {إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين} وما فعل بقوم لوط الذين تهددوا نبيهم فقالوا {أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} وما صنع بفرعون اللئيم الذي قال لموسى {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين} هؤلاء أوغاد البشر الذين كذبوا أنبياء الله وعادوا رسله يقول ـ سبحانه وتعالى ـ فيهم {فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}
2ـ إن محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو أكرم البشر على الله وأعظمهم جاهاً ومقاماً عنده هو سيد الرسل وإمام الأنبياء إذا وفدوا وخطيبهم إذا اجتمعوا، وقد زكى الله عقله فقال: {ما ضل صاحبكم وما غوى} وزكى لسانه فقال {وما ينطق عن الهوى} وزكى كلامه فقال {إن هو إلا وحي يوحى} وزكى جليسه فقال {علمه شديد القوى} وزكى فؤاده فقال {ما كذب الفؤاد ما رأى} وزكى بصره فقال {ما زاغ البصر وما طغى} وزكى خلقه فقال {وإنك لعلى خلق عظيم} وزكى نسبه فقال {الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين} وزكاه كله فقال {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} وغضب الله على من شتم نبيه محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو انتقصه أو ألحق به عيباً أعظم من غضبه على من انتقص غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
3ـ والتاريخ خير شاهد. فماذا صنع الله بأبي جهل فرعون هذه الأمة الذي أراد أن يخدش رأس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو ساجد عند الكعبة؟ وماذا صنع الله بعتبة بن أبي لهب الذي بصق في وجه رسول الله؟ وماذا صنع الله بعقبة بن أبي معيط الذي وطئ على رقبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو ساجد حتى كانت عيناه تندران؟ وما صنع بصناديد الكفر من أمثال عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف والعاص بن وائل وأبي لهب بن عبد المطلب وعبد الله بن سلول وحيي بن أخطب وبلعام بن عازوراء وكعب بن أسد ولبيد بن الأعصم وزينب بنت سلام بن مشكم وغيرهم كثير ممن ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة؟(12/236)
4ـ ما نشر في الجريدة التي سموها الوفاق وهي جريدة النفاق والشقاق من الزندقة وإشاعة قالة السوء عن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطعن المسلمين في دينهم بطعن رسولهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما لم يخطر على بال المشركين من أمثال أبي جهل والأخنس بن شريق وغيرهم وذلك بتاريخ الخميس 12/ ربيع أول/ 1426 حيث تضمنت تلك المقالة رمياً لأم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالزنا، ففيه بالحرف الواحد: (من كل ما تقدم يجب أن يكون الحمل بمحمد جاء بعد أربع سنوات من الحمل بحمزة أي بعد موت أبي محمد بأعوام وسنوات، أو أن محمداً مكث في بطن أمه أربع سنوات حسب بعض التقديرات) وقال في موضع آخر: (إن المولود بعد سنوات من موت عبد الله لا يمكن أن يكون ابن عبد الله إلا إذا كان محمد قد مكث في بطن أمه أربع سنوات) وقال في موضع ثالث: (آمنة تعترف أن الحمل بمحمد قد سبقه حمل آخر مرة أو مرات) وفي المقال كذلك اعتداء على أبي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونسبة الفاحشة إليه بأرذل عبارة وأقبح أسلوب حيث ورد فيه بالحرف الواحد: (أي أب ذلك الأب الذي واعد الزانية رغم أنه متزوج بآمنة منذ أيام قلائل) وقال في موضع آخر: (أي شرف ينسب لذلك الرجل المتزوج من أيام قلائل ثم يواعد عاهرة، ويقول: حتى أغتسل؟ هل العفة مفروضة على النساء والتحلل منها وسام على صدور الرجال؟ وفي ذات المقال نفي لنسب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي ثبت عند المسلمين بالتواتر ففيه بالحرف الواحد: بقوله (إن محمداً من كندة وليس من بني هاشم واعترف محمد بذلك وقالوا أيضاً: إن محمداً لا أصل له) وفي الصفحة نفسها مقال بعنوان جذور محمد عرض فيه الكاتب ترهات وأباطيل كان يتكلم بها المشركون الأولون من جنس قولهم {إنما يعلمه بشر} وقولهم {أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} ففيه بالحرف الواحد: نرى الكهانة والعرافة كانت تضرب في جذور محمد والهواتف التي تلقي السجع على الكهان تشبه القرآن. وفي موضع آخر يطعن في القرآن والوحي فيقول لعنه الله: لقد دخل محمد الكعبة عشرات المرات قبل سن الأربعين ورأى صور الأنبياء والملائكة وصور عيسى وأمه، وككل البشر سأل عما يقع عليه بصره وتلقى إجابات من أفواه زوار الكعبة، وككل قصص الأفواه يختلط فيها الحقيقة بالخيال. نعم كانت جدران الكعبة واحدة من أهم المدارس التي تعلم فيها محمد والكثيرون من أهل مكة وجزيرة العرب حجاج الكعبة، وسنرى أشعارهم كيف جاءت بالكثير من أخبار الأنبياء والتي تطابقت مع القرآن وسبقته بكثير. وتضمنت المقالة كذلك رمياً للصحابي الجليل عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ حيث قال بالحرف الواحد: وهذا ما سنراه عندما تنازع أربعة وهم: العاص وأبو لهب وأمية بن خلف وأبو سفيان بن حرب على بنوة عمرو بن العاص رغم معرفتهم بأن أمه عاهرة وتناوبوا عليها الأربعة في وقت واحد.
5ـ أيها المسلمون: ما هو حكم الإسلام فيمن سب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ يقول القاضي عياض المالكي ـ رحمه الله تعالى ـ: من سبَّ النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو عابه أو ألحق به نقصاً في نسبه أو نفسه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرَّض به أو شبَّهه بشيء على طريق السب والازدراء عليه أو النقص لشأنه أو الغض منه والعيب له فهو ساب تلويحاً كان أو تصريحاً، وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنى مضرة له أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام أو بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه أو عصمته بشيء من العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه ـ قتل. قال: هذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا. وقال ابن قدامة الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه المغني: قذف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقذف أمه، ردة عن الإسلام، وخروج عن الملة، وكذلك سبُّه بغير القذف.(12/237)
6ـ أيها المسلمون عباد الله: قد يقول قائل: إن الصحيفة ناقلة لا منشئة حيث نقلت ذلك المقال وأتبعته في أيام تالية ببعض الردود فَلِمَ يحاسبُ القائمون عليها؟ والجواب: هل مهمة المسلم ـ إن كان مسلماً ـ أن يتتبع القاذورات التي قيلت في حق نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيؤذي بها أتباعه وأحبابه في يوم مولده؟ وبعدما كانت نسياً منسياً لا يعلم بها إلا القليل ينشرها على الناس في جريدة تدخل إلى بيوت كثير من المسلمين، ثم يقول: أنا نشرتها لأرد عليها. ثم ما أدراك أيها الناشر يا من طمس الله بصرك وبصيرتك أن قارئ تلك الترهات سيقرأ ردك؟ وما أدراك أن ردك سيكون مزيلاً لتلك الشبهات أو ماحياً لتلك الأباطيل؟ وما موقف الواحد منكم أيها المسلمون لو أن الجريدة نفسها نشرت كلاماً يشبه هذا عنه وعن أمه وأبيه وبعض أصحابه ولم تعقبه بتعليق يدل على كذبه في ذات العدد؟ أكان يرضى ذلك لنفسه وأبيه وأمه؟ والله إن صنيع هذا المسكين أخبث من صنيع من يفتح باراً يبيع فيه الخمر للناس ثم يقول: أنا سأبيِّن للناس أضرارها وأوزارها وأرد على من يستحلونها ويروجونها!! وأخبث من صنيع من يعرض أشرطة للفاحشة ثم يقول: أنا سأحذر الناس منها. والله إنها لزندقة
7ـ ثم هل هذه هي المرة الأولى التي يقع فيها صاحب هذه الصحيفة الرخيصة الوضيعة في مثل هذه الزندقة؟ لا والله، لقد ظهر مرضه للناس من قديم ولكن لم يجد من يغضب لله ولدينه فيضرب على يده ويوقف سفاهاته. ألم ينشر قبل سنوات كلاماً قبيحاً عن السيد الجليل عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ مما أغضب عامة المسلمين في هذه البلاد؟ ألم ينشر في العام الذي مضى كلاماً لبعض سفلة الأطباء يحرِّض فيه على الفحشاء والمنكر ويخدش الحياء العام وترتب على ذلك إيقاف جريدته عن الصدور أياماً بتوصية من أهل العلم في مجمع الفقه الإسلامي؟ ألم تتابع مقالاته في ذكر أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسوء كوصف معاوية ـ رضي الله عنه ـ بابن آكلة الأكباد؟ ألم يسخِّر صحيفته للدفاع عن بعض مرضى القلوب ممن اتهموا الشيخين أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ بالكفر واتهموا عائشة ـ رضي الله عنها ـ بمعاداة أهل البيت؟
8ـ أيها المسلمون: والله إن الأمر جد خطير وله ما بعده، وأقول كما قال مالك ـ رحمه الله ـ: ماذا يبقى للأمة بعد سب نبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ وإنني أوجه خطاباً لحكومتنا فأقول لهم: يا ولاة الأمر، يا من بوأكم الله ـ تعالى ـ هذه المكانة لتحرسوا الدين وتحموا القيم وتدفعوا عن جناب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل سوء وضير، يا من رفعتم شعار الإسلام، إن الأمة لتنتظر منكم موقفاً يرضي رب العالمين وسيد المرسلين، ويرد للناس بعض ما ثلم من دينهم، إن الأمة لترجو منكم أن تجعلوا من هذا السفيه عبرة للمعتبرين وآية للمتوسمين؛ حتى تطمئن قلوب تخفق بحب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، يا أيها المسئول: يا رئيس الجمهورية، ويا نائبه الأول، ويا من دونهما من الوزراء والكبراء من أهل الإسلام: أين غيرتكم على عرض محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ؟ أين غضبكم لله ورسوله؟ أين حميتكم للدين؟ أين حبكم للنبي الأمين؟ إن هذا الكلام نشر في يوم المولد وما زالت هذه الجريدة إلى يومنا هذا تطبع وتوزع!! والله إن هذا لشيء عجيب!! أكان هذا يحدث لو كان الكلام المنشور يتناول بعضكم أو يسيء إلى سياساتكم وقراراتكم؟ أو كنتم تغضون الطرف لو وجهت هذه الإساءات إلى قادة بعض الدول ممن تحرصون على متانة العلاقة معهم؟ والله ورسوله أحق أن ترضوه إن كنتم مؤمنين. أيها المسئولون: هل هان عرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليكم؟ معاذ الله فما زال الظن بكم حسناً، فأرجو ألا تخيبوا ظن المسلمين فيكم. ولن يرضى المسلمون المؤمنون ممن آذاهم هذا الكلام فأقض مضاجعهم وأدمع عيونهم وأحرق قلوبهم، لن يرضوا إلا بأن يقام حكم الله بما يقرره القضاء ولن يرضوا بأقل من إيقاف هذه الصحيفة عن النشر نهائياً بعدما تواتر شرها وعظم ضررها وساء أثرها، وعلم الناس طراً أنها ما كانت إلا لزرع الفتنة وسوق الشر والتماس العيب للبرآء.
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله النبي الأمين بعثه الله بالهدى واليقين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين وآل كلٍِ وصحب كلٍ أجمعين وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين أما بعد أيها المسلمون فاتقوا الله حق تقاته وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون(12/238)
9ـ أيها المسلمون: إنني أطمئنكم بأن جماعة من أهل العلم بل من كبار أهل العلم سناً وقدراً في هذه البلاد قد عمدوا إلى السبيل الأرشد؛ فوجهوا عريضة اتهام أمام النيابة إلى هذه الصحيفة والقائم عليها وبالأمس القريب ألقي القبض عليه، وسيشرع في محاكمته إن شاء الله وقد تطوع بعض القانونيين الأفاضل الأماجد بتمثيل الاتهام حسبة لله وحباً لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهذه أيها المسلمون قضية كل مسلم كبيراً كان أو صغيراً ذكراً كان أو أنثى، فليذكِّر بعضنا بعضاً بالله. وإننا لنحمد الله على أن قانوننا الجنائي ينص صراحة على منع الردة ومعاقبة من يقع فيها، بل معاقبة من يسيء إلى المعتقدات جميعا، ونحمد الله أننا في بلد ما زال فيه أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ويغضبون لحرمات الله أن تنتهك ولا يرضون أن ينقص الدين وهم أحياء. فشدوا من أزرهم وكونوا معهم يكن الله معكم. وإياك إياك عبد الله وأعيذك بالله أن تقول: هذا أمر لا يعنيني وذاك شأن لا يخصني، إن بعض الناس لو سلمت له مآكله لا يبالي بما يصيب الدين وأهله فهو والعياذ بالله كمن قيل فيه:
أبني:
إن من الناس بهيمة *** في صورة الشخص السميع المبصر
فطن بكل مصيبة في ماله *** وإذا أصيب بدينه لم يشعر
{قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره إن الله لا يهدي القوم الفاسقين}
10ـ اللهم إنا نسألك أن ترينا عجائب قدرتك فيمن آذى نبيك ـ صلى الله عليه وسلم ـ، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر واقبضه قبضة مهيمن متكبر وأنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
======================
أو تدري لماذا؟!
طالبات قسم القراءات - جامعة أم القرى
هذا ضياء الشمس هذا الضحى ** من يمنع البلبل أن يصدحا؟!
هذه الشمس وقد أشرقت ** فمن يطرد الفجر وقد لوحا؟!
من الذي أمسك الليل بأذياله؟ ** وقد طوى أذياله وانتحى!
ألا يا أخا الإسلام:
ترى الجراح تتعاقب في امتنا تلو الجراح..يتناحر فينا الورى بمبضع الجراح..فلله درك إن كنت من الوضاءين في ظلمات الغافلات ..السباقين إلى آفاق الإخلاص للمبادئ الراسيات..الصادقين في حبهم لمن أحبوا.. الذائدين عن حمى دينهم ونبيهم إن أوذوا وطعنوا .. وأما إن كنت ممن ترجل عن الطريق .. واكتفيت تعد الغادين والرائحين ..
فخطابنا إليك عاجل .. وأنت أنت من نخاطب ..
فيا أخا في الله :
صخب الهول إذ تجرأ الأنذال .. ملحدون للغواة مقلدون .. مخذولون - تبت يداهم – غدوا في ثلب نبيك يفترون . فوا لهفا !! أرضيت بدنياك عن قمع ضلالة.. سعت من حقير من بني الأسفلين ؟!
أتسعد بنوم أو تلهو بما يلهيك عن ردع المعتدين ؟!
لا تقل : ما أنا؟! لا تقل: في القوم أخيار يعملون!
فالسدود العظيمة ما هي إلا لبنات قد رصت.. ولو أن لبنة ظلت تندب ضالة حجمها .. حتى تهاوت عن مكانها .. تحسب أنها في السد لا شيء ..لهلك القوم غرقا .. إذ نقب في السد نقبا ..فتسلل منه الماء حتى حطمه تحطيما! فبادرهم .. وجد العزم, فو الله لو قدرت لنبيك حق قدره : لأعملت طاقتك كلها للذود عن حمى المصطفى العدنان .. لو تلك هي طبيعة الإيمان .. أن تشعر دائما وأبدا أنك فرد من جماعة , وجزء من كل , وأن ما يصيب الجماعة يصيبك , وما يفيدها يفيدك , وأن النعيم لا معنى له مع شقاء الأمة وبؤسها . وأن التخلف عن الجماعة نقص في الإيمان , وخلل في الدين , وإثم لا بد من التوبة والإنابة.
وتأمل قصة الثلاثة الذين خلفوا عن الجهاد ..إيثارا للراحة على التعب , والظل على الحر , والإقامة على السفر..مع أنهم مؤمنون صادقون – (رضي الله عنهم ) – لتدرك أن الصادق في إيمانه لا يتخلف عن أي عمل يقتضيه الواجب .. فان تخلف .. ضاقت عليه الأرض بما رحبت , وضاقت عليه نفسه !
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} التوبة (120-121) .
أيا أخا في الله :
إن المرء فينا لا يكتمل إيمانه حتى يكون الله ورسوله – عليه الصلاة والسلام – أحب إليه من نفسه ووالده والناس أجمعين .. أو تدري لماذا ؟!(12/239)
لأن نبيك – عليه الصلاة والسلام – ابر سعيا وأعظم هدى واجل قدرا .. اجتث الشرك الوبيل .. وصان الحياة من لوثة وعثار .. حتى حاز الرضا بتفرد ماله مثيل ..
نبيك – عليه الصلاة والسلام – من جمع المحاسن خلقة وخلقا .. فهو المرسل من اله السماكين ( شاهدا ومبشرا ونذيرا , وحرزا للامين , وهو عبد الله ورسوله , سماه المتوكل , ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق , ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح , وما قبضه الله حتى أقام به الملة العوجاء , وفتح به أعينا عميا , وآذانا صما وقلوبا غلفا. من تواضعه – فدته نفوسنا عليه الصلاة والسلام – انه يكون في مهنة أهله ويزور الأنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم , ويأتي ضعفاء المسلمين ويعود مرضاهم , ويشهد جنائزهم , ويكثر الذكر ويقل اللغو , وكان مع ذلك قائدا محنكا .. توقره الأرض وترقبه الجوزاء .. إماما خطيبا , يطيل الصلاة ويقصر الخطبة , تهفو إليه المنابر , وتهتز إن خطب عليها ..
أيا أخًا في الله :
نبيك - عليه الصلاة والسلام – (رجل ظاهر الوضاءة , أبلج الوجه , لم تعبه نحلة , ولم تزر به صقلة .. وسيم قسيم , في عينيه دعج , وفي أشفا ره وطف , وفي صوته صهل , وفي عنقه سطع , وفي لحيته كثاثة , أزج أقرن . إن صمت فعليه الوقار , وإن تكلم سما وعلا البهاء , أجمل الناس وأبهاهم من بعيد , وأجلاهم وأحسنهم من قريب , حلو المنطق .. فصل لا نزر ولا هذر .. كان نظمه خرزات يتحدرن, ربعة لا بأس من طول , ولا تقتحمه عين من قصر , غصن بين غصنين .. فهو أنضر الثلاثة منظرا , وأحسنهم قدرًا. له رفقاء – رضي الله عنهم – يحفون به إن قال : أنصتوا, وان أمر : تبادروا لأمره , محشود محفود , لا عابس ولا مفند). عليه صلاة الله وسلامه .. ما طار طير أو ترنم شاديًا.
وبعد أخا الإسلام:
تلك الشمائل الزاكية .. عليك بها , فإنما هي قناديل على الدرب تضئ لك الدجى .. وما من محب وكان لحبيبه مقتديا ..
ولئن كنت ناصرا نبيك –عليه الصلاة والسلام – فانصره في نفسك أولا .. بان تقف نهجه .. وتبث سنته .. وان هذه لهي آية صدقك .. وبرهان محبتك ..
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} ( الأحزاب 21)
ثم عليك أن تذل الأحقاد الأنكد , وتعرض بنفسك وملك عن كل امرئ .. حقت خسارته لسوء المقصد . وسر مع قافلة الأخيار .. وأمحقت الضلال.
ومهما ترى الدنيا استحالت وحلاً .. فتذكر أن الحرب يظل بيننا وبينهم سجالا..
وأن الباطل إن انتصر يوما ..فإنه لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أبدا .. ثم يكون الفصل في الجولة الآخرة .. لعباد الله مسجلا.
فليثبت خطؤك على سبيل المصطفى – عليه الصلاة والسلام – لتلقاه في الأخرى أعز محجلا..
======================
إلاَّ رسولُ اللهِ.. فلا نامتْ أعينُ الجُبناءِ
الحمدُ للهِ الذي أرسلَ رسولَهُ بالهدى ودينِ الحقِ لِيُظْهرهُ على الدِّين كُلِّهِ ولو كَرهَ المشركونَ ، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهد أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، وأمينُهُ على وحيهِ ، وخيرتهِ منْ خلقهِ ، بلَّغ الرِّسالةَ ، وأدَّى الأمانةَ ، ونَصَحَ الأُمَّةَ ،وجاهدَ في اللهِ حَقَّ الجهادِ حتى أتاهُ اليقينُ ، صَلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وأصحابهِ الأطهارِ ، الأئمةِ الأبرارِ ، وعلى منْ تَبِعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين أمَّا بعدُ :
أيُّها المسلمونَ :كُلُّ أُمَّةٍ تُفاخِرُ بعظمائِها ومُقَدَّمِيها ، وتُحْيِي ذِكْراهم ، وتَنْشُرُ مَآثِرَهُم ، وتتناقلُ أقوالَهُم وحكمهم ، وتُعْلِي قَدْرَهُم –ولها الحَقُّ في ذلك – إنْ كانتْ تَبْحَثُ عنْ العِزِّ والرِّفعةِ أمامَ الأُمَمِ الأُخْرى .
ونحنُ أُمَّةُ الإسلامِ أكْرَمنا اللهُ ومنَّ علينا بأعظمِ رجلٍ عرفتهُ البشريةُ ، وسَطَّرَ التَّاريخُ سيرتَهُ ، أَزْكَى وأطْهرُ مخلوقٍ على وجْهِ الأرضِ ، خيرُ منْ وَطِئَ الثَّرَى ، الصَّادقُ الأمينُ ، الرَّؤوفُ الرَّحيمُ، صلَّى اللهُ عليك يا رسولَ اللهِ عددَ أنفاسِ المخلوقاتِ ، وعددَ ورقِ الأشجارِ ، وعددَ قَطْرِ الأَنْهارِ ، وعددَ ما أشرقَ عليهِ النَّهارُ .
أُمَّةُ محمدٍ - صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ : هنيئاً لكم العِزَّ والشَّرفَ والوِسامَ الذي تَحْمِلُونَهُ (إنَّكُم اتباعُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم) اتباعُ هذا النَِّبيِّ العظيمِ والرَّسولِ الكريمِ وخاتَمِ النَّبِيينَ وإمامِ المرسلينَ وسيدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ ، صاحبِ النُّورِ والهدايةِ لكُلِّ البشريةِ .
وَأبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمامُ بوجههِ ثِمالُ الْيَتامَى عِصْمةٌ لِلأرَامِلِ(12/240)
صاحبُ القلبِ العظيمِ ، يَعْطِفُ على الأرملةِ والمسكينِ ، ويُواسِي الفقيرَ والكَسيرَ ، وأحسنُ منْ وصفَهُ شريكةُ حياتهِ سيدةُ نساءِ أهلِ الجنةِ خديجةُ بنتُ خويلد (كلا وَاللّهِ لا يُخْزيكَ اللّهُ أبَداً،إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحَمِ، وَتَصْدُقُ الْحَديثَ، وَتُؤَدِّي الأمانَةَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ عَلى نَوَائِبِ الْحَقِّ).
وكانَ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ يُعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر َ، كانَ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ المرسلةِ:
تراهُ إذا ما جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً *** كأنَّك تُعطيهِ الَّذي أنتَ سائِلُهُ
تَعَوَّدَ بَسْطَ الكَفَّ حتى لَوَ نَّهُ *** ثَنَاها لِقَبْضٍ لَمْ تُطِعْهُ أنامِلُهُ
ولوْ لَمْ يَكُنْ في كَفِّهِ غيرَ روحِهِ *** لجَادَ بِهَا فلْيَتَّقِ اللهَ سائِلُهُ
صاحبُ البلاغةِ والبيانِ ، أُوتِي جوامعَ الكَلِمِ ، وكلامُهُ يأخذُ بالألبابِ ، وبيانُهُ يُلَيِّنُ الصُّمَّ الصِّلابَ، حَكَمَ بينَ النَّاسِ بالعدلِ وجاءَ بالشَّريعةِ والدِّين القائمِ على العدلِ فَنعِمَتْ البشريةُ بعدلهِ ورحمتهِ: مسلمِهِا وكافرِهِا بَرِّها وفاجرِهِا ، لجأَ إليهِ أعداؤُهُ ، وشَهِدَ بعدلهِ خصماؤُهُ ،كانَ شعارُهُ الصِّدقَ والأمانةَ وطَبَّقها بفعلهِ، وعُرِفَ بِها حتَّى قبلَ تبليغِ الرِّسالةِ ، ولمَّا بلغَ الرِّسالةَ لم يكنْ لهُ مطمعٌ منْ مطامعِ الدُّنيا الفانيةِ ، فسَما بنفسِهِ الشريفةِ عن المنافساتِ الأرضيةِ الوضيعة: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [سورة ص: 86].
لا طريقَ إلى الجنة إلا من طريقهِ ومنْ خلالِ العملِ بسنتهِ ، فإليهِ يتحاكمُ المتحاكمونَ ويَصْدُرُ عنْ رأيهِ المتخاصمونَ ، (منْ عملَ عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ) أي مردودٌ على صاحبهِ غيرُ مقبولٍ .
أُمَّةُ الإسلامِ: محمد صلى الله عليه وسلم : أَحبَّهُ كُلُّ شَيْءٍ في الوجودِ : الإنسِ والجِنِّ والحيوانِ والجمادِ ، أمَّا الإنسُ فقدْ سَطَّرَ لنا التَّاريخُ البطولاتِ العجيبةِ في تسارعِ أصحابهِ رضوانُ اللهِ عليهم في الدِّفاعِ عنهُ ، بكُلِّ ما يستطيعونَ وقد فَدَوْهُ بآبائهِم وأمهاتِهم وأبنائِهم وأموالِهم وضَّحُوا بكُلِّ غالٍ نفيسٍ حتى وصلَ بِهم الحالُ أنَّهم لا يَتمنَّوْنَ أنْ يُصابَ بأيِّ كَدَرٍ ولا أذى ،ولَمَّا أُسِرَ أحدُ أصحابهِ منْ قِبلِ المشركينَ قالُوا لهُ : (أَتُحِبُّ أنَّ محمداً في مكانِكَ وأنَّكَ في أهلكَ ؟ فقالَ : واللهِ ما أُحِبُّ أنَّ محمداً الآنَ في مكانهَ الَّذي هُوَ فيهِ تُصيبهُ شوكةٌ تُؤذيه وأنَّي جالسٌ في أهلي ) قالها وهو يُعْرَضُ على الموتِ وماتَ شهيداً رَضِيَ اللهُ عنهُ ، ويومَ أُحُدٍ يقومُ أحدُ أصحابهِ ويجعلُ جسدهُ تُرْسَاً يَقِي بهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم منْ سهامِ المشركينَ فدخلتْ السِّهامُ في ظهرهِ وهُوَ يقولُ نَحْري دونَ نحركَ يارسولَ اللهِ، وَصَدْري دونَ صدركَ ، وقُتِلَ بينَ يديهِ دِفاعاً عنهُ صلى الله عليه وسلم اثنا عشَرَ بطلاً منْ أبطالِ الأنصارِ رضيَ اللهُ عنهُمْ وأرضَاهُمْ ، والسِّيرةُ مليئةٌ بأخبارِ مُحِبِّيهِ منْ أصحابهِ الذينَ طَبَّقُوا أقْوالهُم بِفِعَالهِم ، وأمَّا الجِنُّ فقد ذَكَرَ بعضُ أهلِ السِّيرِ أنَّ الجِنَّ كانتْ تقتلُ منْ يَسُبُّ الرَّسولَ منْ كُفَّارِ الِجنِّ ، وأمَّا الحيوانُ فهذا( جملٌ يلجأُ إلى النَِّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَشْكُو مالِكَهُ، وعيناهُ تدمعانِ، فمسحَ عليهِ صلى الله عليه وسلم فَسَكَنَ وانتصرَ لهُ من مالِكِهِ الَّذي آذاه) ، وأمَّا الجمادُ فقد كانَ النَِّبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ إلى جِذْعِ نخلةٍ قبلَ أنْ يتخذَ مِنبراً ولما اتخذَ المنبرَ وتركَ الجِذْعَ حَنَّ هذا الجذعُ وبكى وأَصْدرَ صوتاً كصوتِ الصَّبي الصَّغيرِ فوضعَ النَِّبيُّ يدهُ عليه فسَكَنَ ، وفي روايةٍ أنَّهُ ضَمَّهُ إليهِ .
أُمَّةُ الإسلامِ :إنَّ الأقلامَ تعجزُ أنْ تُوفِيَ محمداً صلى الله عليه وسلم حقهُ منَ البيانِ والثَّناءِ والاحترامِ والتَّوقيرِ والإكرامِ ،وإنَّ البيانَ ليعجزُ عنْ إشباعِ السَّامعِ بكُلِّ جوانبِ العظمةِ والرِّفعةِ والعِزَّةِ في حياتهِ صلى الله عليه وسلم .(12/241)
أُمَّةُ الإسلامِ : سَمِعْنا وَسَمِعَ غيرُنا عنْ كلامٍ تَفَّوهِ بهِ حقيرٌ منَ الحُقراءِ على جنابِ ومقامِ سَيِّدِنَا وحبِيبِنَا،وقُرِّةِ عُيونِنا مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فبكتِ القلوبُ وحزنتْ قبلَ دمعِ العيونِ ، وفارَ الدَّمعُ عضباُ وغيْضاً ونصرةً لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وجُرِّدتِ الأقلامُ وكُتبتِ المقالاتُ ، وتحدثتِ الأُمَّةُ وصاحتْ بأعلى صوتِها كُلُّنا لكَ فِداءٌ يا رسولَ اللهَ ولا نامتْ أعينُ الجبناءِ وشُلَّتْ يمينُ منْ يستهزأُ بكَ أو يُؤْذِيكَ ، لنا مع هذا الحدثِ وهو استهزاءُ بعضِ الكُفَّارِ في دولةِ الدنمارك عبرَ رسومٍ كاريكاتيريةِ برسولِ الإسلامِ وأفضلِ الأنامِ ، ولنا مع هذا الحدثِ الأليمِ والجُرم العظيمِ ، والذنبِ الكبيرِ وقفاتٌ ووقفاتٌ :
الوقفةُ الأولى : وجوبُ نُصرةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم والدِّفاعِ عنهُ على كُلِّ مسلمٍ يشهدُ أنَّ لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ بقدرِ استطاعتهِ ، وأنَّ التَّخاذلَ والجُبنَ عنْ نصرتهِ طمعاً في دنيا أو خوفاً منْ مخلوقٍ فهو إثمٌ وذنبٌ عظيمٌ ، وكُلُّ إنسانٍ بحسبِ قدرتهِ وطاقتهِ ، وما يجبُ على العالِمِ غيرُ ما يجبُ على العامِيِّ ، وعلى الحاكمِ والمسؤولِ والأميرِ والوزيرِ ما لا يجبُ على غيرهِم ، وعلى منْ يتكلمُ لغةَ القومِ ويستطيعُ إبلاغَ الاستنكارِ يجبُ عليهم ما لا يجبُ على غيرِهم ، عملاً بقول المولى جلَّ شأنهُ : {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح9]، ويقول سبحانه : {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف157]،يقولُ شيخُ الإسلامِ :"التعزيرُ: هو اسمٌ جامعٌ لنصرهِ وتأييدهِ ومَنْعُهُ منْ كُلِّ ما يؤذِيهِ، والتوقيرُ : اسمٌ جامعٌ لكُلِّ ما فيهِ سكينةٌ وطمأنينةٌ منْ الإجلالِ والإكرامِ ، وأنْ يُعاملَ منَ التَّشريفِ والتَّكريمِ والتَّعظيمِ بِما يَصونهُ عنْ كُلِّ ما يُخْرِجُهُ عنْ حَدِّ الوقارِ " أ.هـ، وأمَّا سَابُّهُ ومُؤْذِيهُ والمُستهزئ بهِ فهو في أحطِّ منزلةٍ وأخَسِّ مرتبةٍ ، فإنْ كانَ مسلماً فإنَّهُ يُصِبحُ مُرتداً بإجماعِ أهلِ العلمِ ، ويُقتلُ كذلكَ بالإجماعِ ولا يُعلمُ لهُ مُخالفٌ بينَ علماءِ المسلمينَ ، وإنَّ كانَ معاهَداً أو ذِمِّياً أو مستأمناً فإنَّ عهدهُ مُنتقِضٌ ويستحقُ أنْ تُضربَ عُنُقُهُ بالسَّيفِ انتصاراً لرسولِ الإسلامِ ونَبِيِّ الأنامِ ، كيفَ لا وربُّنا جلَّ في عُلاه يقولُ : {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} [الأحزاب57]،
{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة : 61]، واللهُ يقولُ: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة12 ]: واللهُ سبحانهُ قد تكفَّلَ بصيانةِ عرضِ النّّبِيِّ والانتقامِ لهُ فقالَ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر : 94 و 95].
وفي" الصحيحين" عنْ أبي هريرة قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم، يشتمون مُذَمَّمَاً، ويلعنون مُذَمَّمَاً، وأنا مُحَمَّدٌ!". واللهُ سبحانهُ بيَّنَ أنَّ مُبْغِضَ النَِّبيِّ صلى الله عليه وسلم هو الأقطعُ الخاسرُ الذَّليلُ، فقالَ جلَّ شأنهُ {إنَّ شانِئَكَ هُوَ الأبترُ}، ومنْ أوجهِ الكفايةِ أنَّ يُكْرِمَ اللهُ ويُنْعِمَ على بعضِ عبادهِ بالذَّوْدِ والدِّفاعِ عنْ نبيهِ بكُلِّ ما يستطيعُ وهي مرتبةٌ عظيمةٌ وشرفٌ كبيرٌ لكُلِّ منْ تصدِّى للدِّفاع عنْ النَِّبيِّ صلى الله عليه وسلم فاللهُمَّ شَرِّفْنَا بالدِّفاعِ عنْ نبيكَ الكريمِ صلى الله عليه وسلم(12/242)
واعلموا رحمكم اللهُ أنَّ الأمرَ المُستقِرَّ في عهدهِ وعهدِ صحابتهِ هو قتلُ السَّابِّ للهِ ولرسولهِ وأنَّهُ لا تُقبلُ توبتهُ ، فالنَِّبيُّ قتلَ ابنَ خطلٍ وكانَ مُتعلِّقاً بأستارِ الكعبةِ ولم يقبلْ فيهِ الشَّفاعةَ ، وأقرَّ الذي قتلَ جاريتهُ التي كانتْ تَسُبُّ النَِِّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، وغيرِها منَ الوقائعِ والحوادثِ التي لا يَتَّسِعُ المقامُ لذِكْرها .يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية [الصارم2/394]:"إنَّ اللهَ فرضَ علينا تعزيرَ رسولهِ وتوقيرهِ ، وتعزيرهُ: نَصْرهُ ومَنُعُهُ ، وتوقيرهُ : إجلالهُ وتعظيمهُ ، وذلكَ يُوجِبُ صَوْنَ عرضهِ بكُلِّ طريقٍ ، بل ذلكَ أولى درجاتِ التعزيرِ والتوقيرِ ، فلا يجوزُ أن نُصالِحَ أهلَ الذِّمةِ على أنْ يُسْمِعونا شَتْمَ نبينا ويُظْهِروا ذلكَ ، فإنَّ تمكيِنَهُم منُ ذلكَ تركٌ للتعزيرِ والتَّوقيرِ "أهـ ، وقالَ أيضاً : "إنَّ نصرَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فرضٌ علينا ، لأنَّهُ منَ التَّعزيرِ المفروضِ ، ولأنَّهُ منْ أعظمِ الجهادِ في سبيلِ اللهِ ، ولذلكَ قالَ سبحانَهُ : {مالكم إذا قيلَ لكم انفروا في سبيلِ الله اثَّاقلتم إلى الأرض} إلى قوله {إلا تنصروه فقد نصره الله} ... ومنْ أعظمِ النَّصرِ حمايةُ عرضهِ مِمن يُؤذِيه ..".اهـ بتصرف.
الوقفةُ الثَّانيةُ : خُطورةُ السُّكوتِ على المنتقصِ لرسولِ الإسلامِ :
اعلموا رحمكُم اللهُ أنَّ السُّكوتَ عنْ سَبِّ الرَّسولِ وانتقاصِه هو سببٌ لضياعِ الدِّينِ وسببٌ لسقوطهِ منْ أعينِ المسلمينَ وغيرِ المسلمينَ، يقولُ شيخُ الإسلامِ : "أمَّا انتهاكُ عِرْضِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فإنَّهُ منافٍ لدِّينِ اللهِ بالكليةِ ، فإنَّ العرضَ متى انتُهكَ، سقطَ الاحترامُ والتعظيمُ ، فسقطَ ماجاءَ بهِ منَ الرِّسالةِ ، فبطَلَ الدِّينُ ، فقيامُ المِدْحَةِ والثَّناءِ عليهِ والتَّعظيمِ والتوقيرِ لهُ قيامُ الدِّين كُلِّهِ ، وسقوطُ ذلكَ سقوطٌ الدِّينِ كُلِّهِ ، وإذا كانَ ذلكَ كذلكَ وجبَ علينا أنْ نَنْتَصِرَ لهُ مِمنْ انتهكَ عرضهُ والانتصارُ له بالقتلِ لأنَّ انتهاكَ عرضهِ انتهاكٌ لدِّينِ اللهِ"أ.هـ ، وهنا قد يقولُ قائلٌ : نحنُ لانملكُ قتلهُ ، نقولُ هذا اذا كانَ في ديارِ المسلمينَ وتحتَ حكمِهِ وجبَ على ولي الأمرِ،وعلى الحاكمِ المسلمِ أنْ يُنفِّذَ فيهِ حُكمَ اللهِ وليس لكُلِّ أحدٍ.
الوقفة الثالثة :أسبابُ الجرأةِ على سبِّ نبينا ودينِنا ومقدساتِنا :
أيُّها المسلمونَ : إنَّ المتأمِّلَ في هذهِ الحادثةِ وما سَبقَهَا منْ حوادِثَ منْ تَعَدِّي بعضِ الملاحدةِ على مقامِ النَِّبيِّ صلى الله عليه وسلم أو إهانةِ المصحفِ من قبلِ القواتِ الأمريكيةِ كما حصلَ في أبي غريب وغونتناموا وغيرها، يجدُ لهذا أسباباً، منْ أهمها:
أولاً: ضَعْفِنا وهزِيمتنا أمامَ أعداءِنا في عرضِ حقيقةِ الإسلامِ والشَّهادتينِ: إن الذين يصورون دين الإسلام ديناً ضعيفاً مهزوماً لا يدافع عن حرماته ولا عن شعائره ومقدساته ، إلى الذين صوروا الجهاد الشرعي لأعداء الله إرهاباً وسفكاً للدماء هاهي النتيجة نجنيها ويتجرأ علينا كل حقير وصغير ، وحتى الدنمارك التي لا تعرف إلا بإنتاج حليب الأطفال وأدوات التجميل يتجرأ على نبي الإٍسلام أشجع رجل عرفه التاريخ ، ولعلي أجري مقارنة بسيطة بين دعوة أمريكا العالم للانخراط في النظام العالمي الجديد ، إن أمريكا لم تعط الشعوب والدول حريتها بل فرضته بقوة الحديد والنار فأنشأت حلف الأطلسي ليكون ذراعها العسكري لتأديب من يخرج عن نظامهم الجديد وقد اعتدت على خصوصيات الدول واحتلت دول وقتلت مئات الآلاف دون رحمة، وأما الإسلام الذي جاء برسالته العادلة والرحيمة لما جاء بالنور والهداية لكل العالمين وجعل الجهاد وسيلة ليس لإجبار الناس على الدخول في وإنما لقمع كل معاند يريد ان يحول بين الناس والإسلام، فالإسلام إذا جاء بجيوشه الفاتحة فإنه يدعوهم للإسلام فإن أبوا يدعوهم ليدفعوا الجزية مقابلة حمايتهم وحقن دمائهم والدفاع عنهم ويعيشوا تحت حكم الإسلام، لقد دخل الناس عبر العصور في دين الله أفواجا اقتناعا بعدل الإسلام ورحمته وكانت أكثر الأقاليم تسلم نفسها للمسلمين لما يرون من حسن أخلاقهم وكريم شمائلهم وسمو تعاملهم ، لم يعرف الإسلام في تاريخ المجازر الهمجية والوحشية كما هي معروفة في تاريخ أمريكا والغرب .(12/243)
وثمة أمر آخر وهو الولاء والبراء : لما يتنصل البعض من هذه العقيدة العظيمة التي ترفع معنوية المسلم وتجعله يشعر برفعته واعتزازه ويأتي من أبناء المسلمين من ينكرها أو يمسخها وهي قضية من أصرح القضايا التي تحدث عنها القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة51]، إن عقيدة بغض الكفار والبراءة منهم فرضت لأن الله يأمرنا بأن نبغض كل من يبغض الله ورسوله ودينه ونعادي كل من يعادي الله ورسوله ودينه فهي حقيقة العبودية والمحبة الصادقة لله ولرسوله ودينه ، وهي حاجز نفسي رباني يجعل المسلم اقدر الناس على التعامل مع غير المسلمين من الكفار والملحدين مع الحفاظ على دينه وعقيدته فالإسلام لم يحرم العدل والإحسان في المعاملة لغير المسلم الذي لم يحاربنا او يعتدي علينا وعلى مقدساتنا {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة8]
ثانيا : من أسباب تجرأ الأعداء علينا :التَّحَلُّلُ والتَّفَسُّخُ والتَّنَصُّلُ منْ أحكامِ الشَّرعِ وعدمُ الاعتزازِ والفخرِ بالانتسابِ لهذهِ الأُمَّة وللنَّبِيِّ الكربمِ صلى الله عليه وسلم سواء من كان في مجال السياسة أو في مجال الإعلام أو من يعيش مع الغرب في بلاد الغرب كمقيمين أو زوار.
ثالثا ً: الصَّمْتُ المُطْبِقُ منْ قِبلِ إعلامِ المسلمينَ وواجهتِهِم ولسانِهِم والمتحدِّثِ النَّاطقِ في العالمِ معَ كُلِّ الهجماتِ المتكررةِ على الإسلامِ وَنَبِيِّ الإسلامِ وقرآنِنا، بل -وللأسفِ- فإن وسائل الإعلام تَشُنُّ حرباً على دينِ الإسلامِ بأموال المسلمينَ... ألم تُمَجَّدْ في إعلامُنَا رواياتُ الرَّذيلةِ التي يُسْتَهْزَأ فيها بدينِ اللهِ وبرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟!
ألم تُمَجَّدْ في إعلامُنَا رواياتُ التَّمردِ على الشَّرعِ وعلى هديِ القرآنِ وسمتِ المسلمينَ .
فكيفَ والحالةُ هذه يُكِنُّ الأعداءُ لنا الاحترامَ .
الوقفة الرَّابعةُ :- أينَ الَّذينَ ملئوا الدُّنيا ضجيجاً بزعمِ محبةِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ وهمْ أَصْحابُ التَّوجهاتِ البدعِيَّةِ التي حَرَّفتْ دينَ الإسلامِ وجعلتْهُ دروشةً وضَعْفاً وَخُرافةً؛ فَطَعَنَتْ الإسلامَ في خَاصِرتهِ، حيثُ سَوَّغَتْ الفسادَ في الأرضِ،وَحَرَّفتْ معنى مَحَبةِ النَّبِيِّ الكريمِ،وجَعَلَتْهُ في موالِدَ واحتفالاتٍ وخرافاتٍ،وَفَرَّغتْها من معناها الحِِيِّ الَّذي يجعَلُ حياةَ المسلمِ كُلَّها مثلَ حياةِ النَّبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، ونقول لهم كما قلتم (علموا أبناءكم حب الرسول ) ونحن نقول (علموا أبناء كيف يدافعون عن الرسول).
- أينَ الَّذينَ مَلئُوا الدُّنيا ضَجيجَاً بمحبةِ آلِ البيتِ عليهم السَّلامَ،فها هو ذا صاحبُ البيتِ،وإمامُ أهلِ البيتِ (محمَّدُ بنُ عبد اللهِ) صًلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ يُسَبُّ،وَيُنْتَهَكُ عِرضُهُ .
أين أنتم دولاً وشعوباً عُلماءَ وعامَّةً، أين نُصرتُكُمْ للحبيب-صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-إلى اللهِ المُشْتكى!!
- أين الَّذينَ كانوا يدعوننا للتسامحِ ونَبْذِ الكراهيةِ والحقدِ منْ أصحابِ الحواراتِ اللَّطيفةِ،والأقلامِ النَّاعمةِ،000،ها هم أولاءِ أعداؤكم شَمَّرُوا عنْ سواعدهم ورَمَوْكُمْ عنْ قوسٍ واحدةٍ،يقول أحد ساسة أمريكا :" :( من المؤلم أن نظهر أنفسنا عقلانيين بشكل كامل وباردي الرأس)، (ما ينبغي أن يكون جزءً من الشخصية القومية التي نظهرها ،هو أن الولايات المتحدة يمكن أن تصبح غير عقلانية ، وانتقامية ، إذا ما هوجمت مصالحها الحيوية ).ويقول نيكسون بعبارة واضحة: "يجب أن يعرف أعداؤنا أن الجنون مسنا، ولا يمكن التنبؤ بما سنفعله، بقوة تدمير فائقة للعادة تحت إمرتنا، وهكذا سوف يركعون لإرادتنا خائفين"اهـ.
الوقفة الخامسةُ : أعظمُ الأسلحةِ ضدَ أعداءِنَا الانتصارُ على شَهواتِنَا وَحُظُوظِنا: ولايقل أحدنا ماذا سوف أؤثر ، فأنت تريد أن تبرئ ذمتك وأن تنال شرف الدفاع عن نبيك ، وقد أثبت التاريخ عظم تأثير المقاطعة على العدو أثناء الحروب والعداوة بين أي شعبين.(12/244)
الوقفة السَّادسةُ : تحية إلى كل الشرفاء الذين غاروا على نبيهم وبذلوا كل ما يستطيعون أبرأوا ذمتهم إلى العلماء والأمراء والساسة والوزراء والتجار والمثقفين والإعلاميين ونقول لهم أبشروا بموعود الله لكم بالخير في العاجل والآجل ، وتذكروا أن المرء يحشر مع من أحب اللهم احشرنا مع نبيك الكريم في الفردوس الأعلى واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً ، اللهم عليك بمن اعتدى على نبيك أفراد وشعوباً اللهم اخزهم ومكن المسلمين من رقابهم وتنفيذ حكمك العادل فيهم ، اللهم لا ترفع لهم راية واجعلهم لمن خلفهم آية ، اللهم اجعل دولتهم دولاً اللهم مزقهم شر ممزق اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك
=======================
إنهم يسبون مذمماً وهو محمد
بسم الله نبدأ، وعلى هدي نبيه صلى الله عليه وسلم نسير..
ابتلاء تلو ابتلاء..
وتتوالى الابتلاءات تترى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم..
اجتياح للديار، وسفك للدماء، وهتك للأعراض، وعبث بالعقائد..
وعمّت البلوى وطمّت بالإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم..
لمّا سبّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول « إنهم يشتمون مذمماً وأنا محمّد ». وبنفس المنطق نقول لمن يسيئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تسبون مذمماً وهو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي تضافرت وتواترت الأخبار من الكتب السماوية والمقالات الإنسانية لعقلاء الغرب والشرق قديماً وحديثاً على أنه بلغ الكمال الإنساني في الصفات.
قال القرآن عنه مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29].
وجاء على لسان عيسى عليه السلام في الإنجيل "أنطلق فإن لم أنطلق لم يأتكم المنحمنا, ذلك الي يوبخ العالم على خطيئته"
والمنحمنا توافق في اللاتينية كثير الحمد، والتي توافق من الأسماء العربية محمد أو أحمد, وذلك مصداقاً لقول الله تعالى على لسان عيسى وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]. ويقول الإنجيل عن يحيى عليه السلام "وانطلق يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهود توبوا فقد اقترب ملكوت السماء"، أي قانون السماء, فهذه بشارة باقتراب قانون سماوي جديد ولم يأتِ قانون من السماء بعد يحيى -الذي واكب حياة المسيح عليهما السلام- إلا القرآن الكريم الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
كما أقرّ عقلاء النصارى والمسلمين بكمال صفاته الإنسانية صلى الله عليه وسلم, فهذا قائد من أعظم قادتهم عبر التاريخ وعالم من أعلامهم وحكمائهم يقر بذلك, فيما روى البخاري من حديث قصة هرقل القائد الرومي الكبير والعالم النصراني الشهير وأبو سفيان بن حرب:
"حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِي قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِي؟
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا .
فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ.
ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَي كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ.
ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟
قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ.
قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟
قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟
قُلْتُ: لَا.
قالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟
فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ.
قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟
قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ.(12/245)
قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟
قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟
قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟
قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِى مُدَّةٍ لَا نَدْرِى مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا.
قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّى كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟
قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟
قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ.
قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟
قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ. وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ.
فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ: بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَي هَاتَيْنِ. وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ.
ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].(12/246)
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا. فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الْأَصْفَرِ. فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ -صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ - سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ، أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاطورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِى النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِى النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ، أُتِى هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِى الْعِلْمِ. وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْى هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ نَبِي. فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّ ومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِي؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَى. وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِي.
صحيح البخاري.
وجاء من أقوال حكماء العالم في العصر الحديث ما أفردت قليله فيما يلي وقد نقلته من جمع الكتور خالد الشايع في محاضرة قيمة:
1- يقول ( مهاتما غاندي ) في حديث لجريدة "ينج إنديا": "أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر.. لقد أصبحت مقتنعاً كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول، مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته. هذه الصفات هي التي مهدت الطريق، وتخطت المصاعب وليس السيف. بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي أسِفاً لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة".
2- يقول البروفيسور ( راما كريشنا راو ) في كتابه (محمد النبيّ) : "لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها. ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة.
فهناك محمد النبيّ، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا ".
3- يقول المستشرق الكندي الدكتور ( زويمر ) في كتابه (الشرق وعاداته) : إن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضاً بأنه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجريئاً مغواراً، ومفكراً عظيماً، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء".(12/247)
4- يقول المستشرق الألماني ( برتلي سانت هيلر ) في كتابه (الشرقيون وعقائدهم) : "كان محمد رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبيُّ بين ظهرانيها، فكان النبي داعياً إلى ديانة الإله الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه، وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية، وهما: العدالة والرحمة".
5- ويقول الانجليزي ( برناردشو ) في كتابه (محمد)، والذي أحرقته السلطة البريطانية: "إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والإجلال ، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالداً خلود الأبد، وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا).
إنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمَّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوفّق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها".
6- ويقول ( سنرستن الآسوجي ) أستاذ اللغات السامية، في كتابه (تاريخ حياة محمد): "إننا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا، فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مصراً على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ".
7- ويقول المستشرق الأمريكي ( سنكس ) في كتابه (ديانة العرب): "ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة".
8- ويقول (مايكل هارت) في كتابه (مائة رجل في التاريخ): "إن اختياري محمداً، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.
منقول من موقع طريق الإسلام
=======================
إهانة نبي الإسلام تجدد السؤال من يكره من؟
فهمي هويدي
إن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: لماذا لا تعلن حكومات الدول الإسلامية استهجانها واستنكارها لموقف حكومة الدنمارك بشكل صريح وحازم، أسوة بموقف منظمة المؤتمر الإسلامي التي دعت إلى مقاطعة المؤتمر الدنماركي عن الشرق الأوسط، ذلك أن مثل ذلك الطعن الجارح إذا وجه إلى أي رئيس دولة في منطقتنا لقامت الدنيا ولم تقعد.
صدمة الرسوم الدنماركية الفاحشة التي أهانت نبي الإسلام وسخرت منه وحطت من شأن كل ما يمثله، ينبغي ألا تمر من دون أن نتوقف عند وقائعها ونستخلص دروسها، لأنها تشكل نموذجاً للكيفية التي تتعامل بها بعض الحكومات والنخب في الغرب مع الإسلام، وللكيفية التي ترد بها الأطراف الإسلامية على الإهانات التي توجه إلى عقيدتهم ونبيهم.
خلاصة الوقائع على النحو التالي: في الثلاثين من شهر سبتمبر (أيلول) الماضي نشرت صحيفة «يولاندز بوسطن»، وهي من أوسع الصحف اليومية انتشاراً في الدنمارك، 12 رسماً كاريكاتورياً للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، أقل ما توصف بها أنها بذيئة ومنحطة إلى أبعد الحدود، ومع الرسوم نشرت الصحيفة تعليقاً لرئيس تحريرها عبر فيه عن دهشته واستنكاره إزاء القداسة التي يحيط بها المسلمون نبيهم، الأمر الذي اعتبره ضرباً من «الهراء الكامن وراء جنون العظمة»، ودعا الرجل في تعليقه إلى ممارسة الجرأة في كسر ذلك «التابو»، عن طريق فضح ما اسماه «التاريخ المظلم» لنبي الإسلام، وتقديمه إلى الرأي العام في صورته الحقيقية (التي عبرت عنها الرسوم المنشورة).
كان لنشر الصور الكاريكاتورية وقع الصاعقة على المسلمين الذين يعيشون في الدنمارك (180 ألف نسمة، يمثلون حوالي 3% من السكان البالغ عددهم 5.4 مليون شخص)، كما كان له نفس الصدى في أوساط ممثلي الدول الإسلامية في كوبنهاجن، فعقد 11 دبلوماسياً منهم اجتماعاً بحثوا فيه الأمر، وقرروا مطالبة الصحيفة بالاعتذار للمسلمين عن إهانة نبيهم، ولكن رئيس تحريرها رفض الاعتذار، فطلبوا مقابلة رئيس الوزراء الدنماركي لإبلاغه باحتجاجهم على نشر الصور، فرفض مقابلتهم بدوره، وأبلغهم من مكتبه بأن الأمر يتعلق بحرية التعبير التي لا تتدخل فيها الحكومة، وقيل لهم إن بوسعهم اللجوء إلى القضاء إذا أرادوا.(12/248)
حين علم بالأمر الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور اكمل الدين احسان أوغلو، فإنه وجه خطابات إلى رئيس وزراء الدنمارك والمسئولين في الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي دعاهم فيها إلى التدخل لوقف حملة الكراهية ضد المسلمين، واتخاذ موقف حازم إزاء الإهانات التي توجه ضد نبيهم، وكان محور الردود التي تلقاها ـ خصوصاً من رئيس الوزراء الدنماركي ـ أن قضية حرية التعبير تمثل ركناً أساسياً في الديمقراطية الدنماركية، الأمر الذي اعتبر رفضاً لاتخاذ موقف إزاء الحملة، في الوقت ذاته تحرك سفراء الدول الإسلامية في جنيف، وقدموا شكوى إلى مفوضية حقوق الإنسان في العاصمة السويسرية، اعتبروا فيها موقف الصحيفة الدنماركية محرضاً على العنصرية والكراهية للمسلمين، فقررت المفوضية تحري الأمر وإعداد تقارير عن الموضوع يفترض أن ينتهي إعدادها يوم 24 من الشهر الحالي.
أدرجت المسألة ضمن جدول أعمال القمة الإسلامية التي عقدت في مكة في السابع من شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وبناء على ذلك عبرت إحدى توصيات المؤتمر عن القلق إزاء الحملات الإعلامية المسيئة إلى الإسلام ونبي المسلمين، وأشارت إلى مسؤولية جميع الحكومات عن ضمان احترام الديانات المختلفة، وعدم جواز التذرع بحرية التعبير للإساءة إلى الأديان والمقدسات.
بعد ثلاثة أشهر من التجاهل والصمت، وفي أعقاب التفجيرات التي حدثت في لندن، علق على قضية الرسوم الكاريكاتورية المفوض العدلي بالاتحاد الأوروبي فرانكو فراتيني، قائلاً إن نشرها لم يكن تصرفاً حكيماً، باعتبار أنه من شأن ذلك أن يشيع الكراهية ويشجع على التطرف في أوروبا.
بينما الرسائل يتم تبادلها بين الأطراف المختلفة، انتقد 22 سفيراً دنماركياً، أغلبهم عملوا في البلاد العربية موقف حكومة بلادهم من المسألة، وقام وفد من مسلمي الدنمارك يمثلون 21 مركزاً إسلامياً ومنظمة بزيارة إلى القاهرة، التقوا خلالها شيخ الأزهر والأمين العام لجامعة الدول العربية، وانتقد وزراء خارجية الدول العربية سلبية الحكومة الدنماركية إزاء الإهانة التي لحقت بنبي الإسلام، ووجد الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي أنه لا مفر من اتخاذ موقف عملي يوصل رسالة الاحتجاج والغضب إلى حكومة الدنمارك، التي تعاملت مع الحدث بقدر لافت للنظر من عدم الاكتراث واللامبالاة، ولذلك قرر إعلان مقاطعة المنظمة لمشروع دنماركي، يتمثل في إقامة معرض كبير تحت عنوان «انطباعات عن الشرق الأوسط» تغطي حكومة كوبنهاجن جزءاً من تكاليفه، ويفترض أن تسهم الدول العربية (الخليجية) في تغطية بقية النفقات، وبعث الدكتور اكمل الدين أوغلو رسالة بهذا المعنى إلى الجهة المعنية في كوبنهاجن، أبلغها فيها بأن منظمة المؤتمر الإسلامي طلبت من كل الأعضاء مقاطعة المشروع، احتجاجاً على موقف بلادهم الرسمي من إهانة نبي الإسلام.
أخيراً، في أعقاب كل تلك التطورات، تطرق رئيس وزراء الدنمارك إلى الموضوع في بيان رأس السنة الميلادية، الذي بثه التلفزيون قال فيه إن حكومته تدين أي تعبير أو تصرف يسيء إلى مشاعر أية جماعة من الناس، استناداً إلى خلفياتهم الدينية أو العرقية، وبهذه الإشارة المخففة، تصور الرسميون في كوبنهاجن أنه تمت تسوية الأمر، في الوقت الذي بدا فيه لكل ذي حس سليم أن الجرح أكبر وأعمق بكثير من أن يداوى بكلمات عامة وخجولة من ذلك القبيل.
من ناحية أخرى، كانت بعض المنظمات الإسلامية في الدنمارك قد رفعت قضية ضد الصحيفة التي تبنت الإساءة البذيئة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن المدعي العام رفض القضية معتبراً أن نشر الرسوم الكاريكاتورية تم في إطار حرية التعبير التي يحميها القانون، وفي حين اختص رئيس تحرير صحيفة «يولاندز بوسطن» بالقرار، فإن صدوره شجع صحيفة مسيحية محافظة أخرى في الترويج «مجازينت» على إعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية الاثني عشر، ومن ثم الترويج لحملة السخرية البذيئة من نبي المسلمين ودينهم.
ولا يزال الملف مفتوحاً، حيث قدم مسلمو الدنمارك طعناً في قرار المدعي العام، وثمة مشاورات حول الموضوع ما زالت جارية بين ممثلي الدول الإسلامية في جنيف ولدى منظمة اليونيسكو، وليس معروفاً بعد كيف سيكون موقف ممثلي تلك الدول من المسألة.
إن ما يثير دهشتنا واستياءنا ليس فقط أن يتطاول شخص أو منبر إعلامي على نبي الإسلام ومقدسات المسلمين، فالمتعصبون والموتورون والحاقدون والمغرضون، موجودون في كل مجتمع، وهم كثر في الغرب، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بالشأن الإسلامي، ومن أسف أن أصوات هؤلاء طغت على أصوات العقلاء والمنصفين من مثقفي الغرب، لكن ما يثير الدهشة والاستياء أيضاً وبدرجة أكبر هو مسلك الحكومة والقضاء في الدنمارك، حيث يفترض أن تتنزه مواقفهما عن الهوى والغرض، وأن يكون تعبيرهما أكثر التزاماً بمعايير الإنصاف وبمقتضيات المصلحة العامة.(12/249)
فليس صحيحاً أن السخرية والطعن في نبي الإسلام ورموز المسلمين يعد من قبيل ممارسة حرية التعبير، لأن الذي تعلمناه في دراسة القانون أنه لا توجد حرية مطلقة إلا فيما يخص حرية الاعتقاد والتفكير، أما التعبير فهو سلوك اجتماعي يرد عليه التنظيم في أي مجتمع متحضر، وعند فقهاء القانون في النظام الأنجليسكسوني وفي النظم اللاتينية، فضلاً عن الشريعة الإسلامية، فإن حرية التعبير يسبغ عليها القانون حمايته طالما ظلت تخدم أية قضية اجتماعية، ولا تشكل عدواناً على الآخرين، وللمحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة أحكام متواترة بهذا المعنى، والعبارة المتكررة في تلك الأحكام تنص على أن حماية حرية التعبير تظل مكفولة طالما تضمنت حداً أدنى من المردود الاجتماعي النافع، ونصها بالإنجليزية كما يلي:
A minimum of social صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم d صلى الله عليه وسلم aming valu صلى الله عليه وسلم
إن كل القوانين تجرم سب الأشخاص والقذف في حقهم، حيث لا يمكن أن يعد ذلك نوعاً من حرية التعبير، لأن السب في هذه الحالة يعد عدواناً على شخص آخر، ومن ثم فأولى بالتجريم سب نبي الإسلام الذي يؤمن بنبوته ورسالته ربع سكان الكرة الأرضية، وحين حدثت في الأمر الدكتور أحمد كمال أبو المجد وهو خبير قانوني دولي، أيد ما ذكرت وأضاف أنه حتى إذا سلمنا بأنه لا توجد نصوص في التشريعات الدنماركية تعاقب على سلوك الصحيفة المشين، فإن هناك التزاماً أخلاقياً وسياسياً يفرض على المسئولين في الدولة إدانة ذلك المسلك، انطلاقاً من الحرص على حماية المعتقدات الدينية ودفاعاً عن فكرة التعددية الثقافية.
إضافة الدكتور أبو المجد بأن عدم اتخاذ موقف صريح وحازم من جانب حكومة الدنمارك إزاء الطعن في نبي الإسلام يفتح الباب لشرور كثيرة، من بينها فتح الأبواب واسعة لإشعال حروب ثقافية لا مصلحة لأحد فيها، الأمر الذي يهيئ المناخ لإحلال القطيعة بين الشعوب والثقافات محل التواصل، والصراع محل التعاون، وليس معقولاً أن يكون ذلك ما تسعى إليه حكومة الدنمارك.
إن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: لماذا لا تعلن حكومات الدول الإسلامية استهجانها واستنكارها لموقف حكومة الدنمارك بشكل صريح وحازم، أسوة بموقف منظمة المؤتمر الإسلامي التي دعت إلى مقاطعة المؤتمر الدنماركي عن الشرق الأوسط، ذلك أن مثل ذلك الطعن الجارح إذا وجه إلى أي رئيس دولة في منطقتنا لقامت الدنيا ولم تقعد، ولسحب السفير وتهددت العلاقات الدبلوماسية فضلاً عن المصالح الاقتصادية للقطيعة، فهل نستكثر على نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام أن نغضب لشخصه ولكرامته بما هو دون ذلك بكثير؟ وألا يخشى إذا استمر الصمت الرسمي في العالمين العربي والإسلامي، أن يخرج علينا من يطرح العنف بديلاً عن المعالجة الدبلوماسية الرصينة، فيفتي مثلا بإهدار دماء محرر الصحيفة الدنماركية ورساميها، وتكون هذه شرارة فتنة جديدة لا يعلم إلا الله مداها؟
أخيراً فإن الواقعة تجدد سؤالاً آخر طالما طرحناه حينما كان يفتح باب الحديث عن عداء المسلمين المزعوم للغرب، هو: من حقاً يكره من؟
===========================
================
ائذن لي يا رسول الله
الشيخ محمد حسين يعقوب
قال الله عز وجل وعلا سبحانه
( َولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(40)الحج
عذرًا ومعذرة يا رسول الله
اللهم إننا نبرأ إليك مما فعل أولئك الكفار...
ونعتذر إليك من تقصيرنا وتقصير أهل ملتنا في نصرة نبيك صلى الله عليه وسلم
اللهم اغفر لنا وارحمنا و لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا أنت ولينا.. وأنت خير الراحمين
لماذا يشتمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
إنه السؤال الذي لابد أن نجيب عنه بوضوح وصراحة وتجرد لكي نعرف كيف نرد على هذه الشتائم.. وما هو رد الفعل المطلوب..
إن السبب الحقيقي الواقعي لفعل هؤلاء الكفار إنهم لا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وبذلك ترجع المسألة إلى تقصيرنا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم..
إنهم لا يعرفونه..
إننا لم نستطع أن نوصل دعوتنا إليهم..
إننا لم نحدثهم عن ديننا وعن نبينا صلى الله عليه وسلم..
إنهم سمعوا عنا ولم يسمعوا منا..
ولذلك تجرءوا وأساءوا بل وكفروا..
ولو عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لآمنوا به أو على الأقل عظموه ووقروه وأحبوه كما فعل من عرفه منهم.
ولعل السبب الآخر أنهم أيضا لا يعرفون قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين، ولم يتوقعوا أن يحدث رد فعل كهذا من كل المسلمين بلا استثناء، لأنهم يرون تنكر العلمانيين من المسلمين والمستغربين منهم للدين جملة، فظنوا أن هذا هو الموقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(12/250)
أيضا ولو عرفوا قدر تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين جميعا برهم وفاجرهم لأخافهم مجرد عدد هؤلاء ولانزجروا عن مجرد التفكير في الإساءة إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذًا يعود السبب إلي أمرين لا ثالث لهما:
1. ما نحن فيه من التقصير في حق ديننا والدعوة إليه
2. ما نحن فيه من مهانة وتخاذل وإنكباب على الدنيا
هذان الأمران صورا للكفار أن ديننا لا قيمة له وأن أمتنا لا قيمة لها فتجرءوا و إذا عرف السبب بطل العجب..
ويبقى السؤال الآخر.. ما الحل؟... ما العلاج؟... وما المخرج؟... وما هو التصرف اللائق؟... وما هو رد الفعل المناسب بعد ما رأينا وسمعنا عن مظاهرات واحتجاجات ولغو في المطالبة بالاعتذار وبرفض هؤلاء المجرمين مجرد الاعتذار
أيها الأخوة أنا أحبكم في الله
ما هو دورنا الآن؟.. وما هي مطالبنا؟ وماذا نفعل؟
ودعوني في البداية أضرب لكم مثالا يوضح حال المسلمين
ما مثلنا ومثل قومنا إلا كمثل:
رجل فتي قوي.. سقط في حادث.. فإذا بالناس بغوغائية وفوضوية يلتفون حوله:
هذا يصرخ: اسقوه ماءًا اسقوه ماءًا..
وهذا يحرك رأسه بعنف: ما اسمك؟ ما عنوانك؟..
وهذا يئس من نجاته فجعل يلقنه: قل لا إله الا الله ّ قل لا إله إلا الله!..
وهؤلاء المتفرجون بالعشرات يحشرون رؤسهم يكتمون أنفاسه لئلا يفوتهم مشهد خروج روحه!!
بالله هل تظن أن ينجو هذا المصاب..؟! ماذا لو استدعوا له طبيبًا حاذقًا بحالات الطواريء
هذا مثل أمتنا.. " والطبيب الله "
( ليس باللخبطة ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وإنما هو منهج كيف ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم..فليكن شعارنا بـ "ائذن لي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم)
أصيبت الأمة بالإهانة؟؟ فإذا بغبار الإعلام يشوش على القضية.. ويصرف غضب الأمة في مصارف التيه:
لاعب كرة كتب على فانلة اللعب( فداك روحي يا رسول الله)صلى الله عليه وسلم
مظاهرات!! اختلاطّ!! ارتفعت أصوات النساء اللائي يغرن على جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم !!
ولعلهم ألفوا الأغنيات للغانيات( فداك روحي يا رسول الله)
هل هذا هو الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أعدائه؟!...
لا إخوتي في الله وأنا أحبكم في الله..
وإنما الواجب إذًا أن ننظر إلى هذا الغضب نظرة عقدية كيف أفاقت الأمة عليه في هذه الساعة، فنستغل ساعات الإفاقة لعلاج جسد الأمة المنهك بالأمراض
هذه الأمة اليوم تفيء إلى ربها، وتعود من بعد طول غياب في ظلمات الجاهلية وشرورها،
1. فلابد ابتداء وبسرعة وأثناء هذا الغليان في قلوب المسلمين من تعريف العالم أجمع برسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع الطرق والوسائل المتاحة من كتب وأشرطة واسطوانات وإذاعة وتلفزيون وجرائد ومجلات ونت وعلى جميع المستويات، ويشارك فيه كل مسلم بكل ما يستطيع ويكون هذا هو التطبيق العملي لمعني: فداك روحي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2. إقامة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة: لابد أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعًا حيًا في ضمائرنا وفي حياتنا وفي واقعنا.. لابد أن يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتنا وفي أعمالنا وبين أكابرنا وأصاغرنا، ولا يختفي ذكره أبدا من أي مجلس من مجالسنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( ما جلس قوم مجلسا لا يذكرون الله فيه ولا يصلون على نبيهم إلا كان عليهم ترة يوم القيامة)
3. المطالبة والإلحاح بالمطالبة والإصرار على المطالبة بإصدار قانون عالمي من الأمم المتحدة بتحريم المساس بدين الإسلام سواء المساس بشعائر الإسلام أو نبي الإسلام أو أي شيء من مقدسات الإسلام ولابد من الحصول على هذا القانون
4. وهذا هو الأهم أن نعيد النظر مليا في حال الأمة وهذه فرصتنا لتعديل المسار و إصلاح الاتجاه.
لابد من استغلال فرصة هذه الصحوة المفاجئة لتوجيه المنهج..
تعالوا نلقي نظرة سريعة على الأمة ونذكر العلاج على المدى الطويل..منهجا يجب أن يتبناه كل مسلم يبدأ به في نفسه من حيث كونه مسلما؟؟ ثم يبينه ويعلمه ويعين عليه غيره ليكون هذا المنهج حيا في مدارك الأمة واقعا معاشًا كي يعيد لأمة ريادتها وعزها ومجدها طلبا لرضا ربنا سبحانه وتعالى
تعود الأمة اليوم مرة أخرى لتستروح نسمات الإيمان، وقد آن لها أن تقف مرة أخرى بعد عشرات من السنين على طريق الأصالة والتوحيد.
بدأت الأمة ينبض قلبها بدم جديد، فبدأت تعود إليها حياتها متجددة، بعد أن ظن أعداؤها أنهم قد قضوا عليها بالسم الزعاف، وما دروا أنهم قد قتلوا الحياة واغتالوا الوجود يوم أن أوقفوا ريادتها وأنهكوا حياتها.
وهاهم أعداء الأمة اليوم يصرخون فقط لمجرد المقاطعة.. فمن ينجيهم من عذاب أليم هنالك إن قامت للإسلام أمة؟!!
بدأت الأمة تعود إلى ذاتها التي ضيعتها، وإلى رسالتها التي هانت عليها،
ها هي أمة تعود إلى روحها.. إلى قرآنها.. إلى سنة نبيها.. إلى شريعتها.. إلى دستور حياتها.(12/251)
ولكن طريق العودة أيها الأحبة طويل طويل..ولابد أن تفهم الأمة كل الأمة أن الطريق طويل، وأنها ليست صحوة مؤقتة مفاجئة.. ثم تعود إلى نومها الذي هو موتها وإنما هي صحوة الحياة لكي تقود هذه الأمة الحياة ولكن السبيل إلى إصلاح ما فسد طريق طويل
طويل أولاً في وقته وزمنه، فهو طريق التأسيس المنهجي وليس الإصلاح والترقيع العفوي {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ..}.
وطويل ثانيًا في تضحياته ومشقاته، فلن يترك الباطل الحق في يسر وسهولة، ولن يرفع أعداء الله راياتهم البيضاء إلا بعد معارك طوال.( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)
لكني أبشرك ليطمئن قلبك
يقول ربنا:{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ..}، فهنا أمران من عداد التضحيات والمشقات:
الأول: أنه ينبغي على رجال الأمة أن يحملوا الأمانة كما أبلغهم الله إياها، ويبلغوها العباد كما أراد الله لا كما تهوى الأنفس وتزينه الشياطين، وهذه تضحية ومشقة أولى.
الثاني: يفهم من قوله تعالى {واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:8] أن البلاء واقع بمجرد إبلاغ الحق إلى الخلق، وهذه تضحية ومشقة ثانية، يقول ربنا: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ومِنَ الَذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً..}
وعلى هذا الطريق - طريق العودة - لابد أن يقف رجال يحملون عقيدة الأئمة وسلف الأمة:
1. وعلى هذه العقيدة يأتلفون ويجتمعون، ومن دونها يفارقون،
2. يتربون على عظائم الأمور ومكارم الأخلاق،
3. صفوفهم منتظمة، حريصون على الوحدة والائتلاف وليس الفرقة والخلاف
4. هممهم عالية،
5. صُبَّر على المحن، وبعداء عن الفتن،
6. عقولهم متزنة،
7. جنوبهم لينة،
8. أخطاؤهم معدودة،
9. إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون،
10. دامعة أعينهم، حزينة قلوبهم، يبكون يوماً قصيًرا لغد طويل،
11. لا يحزنون على ما فاتهم من الدنيا، ولا يفرحون بما أتاهم منها، {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}
12. أنفاسهم طويلة مثل طول طريقهم..
13. وآراءهم حكيمة على مثل ما يواجهون..
14. واعون لواقعهم الذي يحيونه فهم له مستبينون لا يخدعهم معسول قول جاهلية عصرهم عن حقيقة كيدها وعنادها وتنكرها لطريق الله، واجتيالها للعباد - كل العباد - عن مصدر عزهم وسعادتهم ألا وهو دينهم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!!
فهم ممتثلون قوله تعالى: {وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} وهؤلاء هم الرجال المنتظرون.
هم الصف الأول، هم النخبة الموجهة، هم الصفوة المنتقاة، هم حراس الأمة وقادتها وعقولها.
· رجال هم عين الأمة وضميرها،
· رجال يذودون عن الأمة، ويدافعون عنها، ويدفعون الأعداء،
· رجال يوجهون الأمة، وبهم تسترشد الأمة طريقها،
· رجال تلوذ بهم الأمة - بعد الله - في مدلهمات الأمور وجسام المواجهات،
· رجال تناط بهم أمانة حمل هذا الدين العظيم، وإبلاغه للناس والتمكين به في الأرض {وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}،
· رجال تحتاجهم الأمة في كل ظروف تاريخها الطويل، وحاجتها إليهم اليوم أشد، إنهم رجال المواقف...
غير أن المنهجية الأصولية التي تلتزم بها هذه الأمة ورجالها تقتضي أن نعرض صفحة من علمها المدون يقتضيه السياق:
أولا: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ والرَّسُولِ...} اتفق أهل السنة على أن العلماء من أولى الأمر وطاعتهم معطوفة على طاعة الله ورسوله، وبداهة فإن هؤلاء العلماء في زماننا هم الذين يطيعون الله ورسوله، ويتقون الله مع قيامهم بالحق لا يخشون في الله لومة لائم، ولا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، ولذا لا يُجَوِز أهل السنة لعلمائهم أن يغيروا دين الله فيأمرون بما شاؤا وينهون عما شاؤا.
مما تقدم وجب على الأمة طاعة علمائها.
ثانيًا: إننا نحيا عصر التخصص العلمي الدقيق، ولهذا كان علينا أن نصبغ الحركة الإسلامية بصبغة التخصصية،(12/252)
· فهذا يتخصص بتاريخ الأمة الإسلامية على مر القرون يعلم حركته، ويدرك تطوراته ومراحله، ويفهم مده وجزره، لكي ينقل لنا بفهم واع و فكر ثاقب ما هي عوامل التمكين والنهوض وصناعة الأمم وإحياء القيم على مدى العصور.. وأيضا ما هي أسباب العثرات والانتكاسات والانعطافات الخطيرة في حياة الأمم أيضا فإن التاريخ يعيد نفسه ولابد من أخذ العظة والعبرة ممن سبقونا
· وآخر يتخصص بعلم الرجال الذين تصدوا القيادة والتوجيه والتأثير في هذه الأمة في القرون الأخيرة - مثلاً - فيعلم نشأتهم وتربيتهم ومنطلقاتهم وأفكارهم ومخططاتهم وأهدافهم التي سعوا لتحقيقها ولتنفيذها في هذه الأمة، فيفيدنا كيف نصنع رجالا أمثال هؤلاء الأكابر تحتاجهم الأمة ويعود بهم مجدها وريادتها
· وثالث يتخصص بعلم التفسير الشرعي يفهم أصوله ويعلم مدلولات النصوص ومراميها وأسباب نزولها والمحكم منها والمتشابه والخاص والعام والمطلق والمقيد إلى آخر ذلك.. فيفيدنا هذا أيضا كيف كانت حياة الأمة الأولى بالقرآن
قال تعالى( لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون)
يفيدنا هذا كيف نحرك الجبال التي تعوق نهضة الأمة اليوم..(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى بَل لِّلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً)
فيعلمنا من القرآن ألا نيأس من هدى الناس جميعا ويحي الأمة بكتاب الله
· ورابع يتخصص في الفقه وأصوله ومصادر التشريع وكيفية استنباط الأحكام وعلم الفتوى والأمة اليوم في أمس الحاجة إلى الفقيه الأصولي التقي النقي العالم بالآخرة الزاهد في الدنيا ليظهر لنا الأمور على حقيقتها بعد أن كثر تلاعب أصحاب الأهواء بالفتاوى والأحكام التي على هوى الحكام
· وخامس يتخصص بعلم الاقتصاد وهو طاغوت العصر..
· سادس بعلم الدعوة والتأثير والتربية... وما أحوج الناس إلى الداعية صاحب البصيرة النافذة الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ولا يجريء الناس على حدود الله ولا ينفر عن طريق الله ولا يتهاون في حدود الله
إلى آخر تلك التخصصات وهذه العلوم والفنون التي تحتاجها الأمة متمثلة في رجال أكفاء، يوجهون ويصنعون حضارتها.
إن ميزات الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أنه قد ربى جيلاً كاملاً قادرًا على أن يتبوأ مكانة في الصدارة لهذه الأمة، وحينما رحل الرسول الكريم إلى ربه لم تنهزم الأمة ولم تندثر بل علت وانتشرت وغزت الأرض لتكون كلمة الله هي العليا.
وهانحن نقول مشددين عليها:
أعطني رجالاً أصنع لك أمة..
هذا و إلا يا خسارة الغضب..
الأخسرين أعمالا..( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)
لا نريد اعتذارا فقط؛ إن حد مس جناب النبي صلى الله عليه وسلم ضربة بالسيف
القضية لن تنتهي باعتذارهم.. و لا بإغلاق الإعلام ملف القضية.. إنه كفر و إيمان: كما أن قضيتنا مع اليهود ليست فقط المسجد الأقصى
إلا تنصروه فقد نصره الله: و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم
إخو تاه..
· لا تطفؤا الغضب: لا عذر لكم إن خُلِص إلى رسول الله صلى عليه و سلم و فيكم عين تطرف..
· عودوا إلى المنهج وحولوا الغضب العارم إلى عمل منهجي طويل النفس دائم الأثر يعود على الأمة في النهاية بالتمكين ولو بعد حين
اللهم بلغت اللهم فاشهد
وصلى الله وبارك على النبي محمد صلى الله عليه وسلم
أحبكم في الله
محمد بن حسين يعقوب
======================
استمرار واستثمار الانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم
د. علي بن عمر بادحدح
ما من شك أن النصرة الإسلامية لخير البرية صلى الله عليه وسلم التي عمّت جميع بلاد المسلمين بل وبلاد العالم كله لم يسبق لها مثيل، وفيها كثير من الدلالات الإيمانية والمنطلقات الحضارية والإيجابية العملية التي حققت ثمرات كثيرة وفوائد كبيرة، ويستثنى من ذلك التصرفات المندفعة الخاطئة المشتملة على عنف وتخريب.
شواهد الاستمرار:
والسؤال الكبير المطروح هو:
هل سيكون هذا الانتصار الكبير سحابة صيف ثم تنقشع، وشعلة حماس ثم تنطفئ؟
والحقيقة أن المؤشرات بل المبشرات الأولية تدل على غير ذلك وتحمل في طياتها معالم استمرارية جيدة، تظهر في شواهد ومظاهر متعددة، ومنها:
1- الإعلان عن عدم التوقف عن المناصرة الإيمانية والحضارية والمقاطعة الاقتصادية للمنتجات الدانمركية بالاعتذارات مهما كانت واضحة أو رسمية، وأن الاعتذارات لا تكفي ولا تشفي، وهذا الموقف يحظى بأغلبية كبيرة جداً.(12/253)
2- الانتقال والتوجه إلى المطالبة القانونية بتجريم الإساءة إلى الإسلام ومقدساته ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وإخوانه من الرسل والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، والإصرار على ذلك كأحد أهداف الانتصار، ومن المعلوم أن هذه معركة كبيرة لن تتم بسهولة، ولا يُتوقع أن تنتهي في وقت قصير، والظاهر أنها ستكشف المزيد من المفارقات في الازدواجية الحضارية والسياسية لدى الغرب، الذي لديه محرمات تُجرِّمها القوانين وتخرجها من دائرة حرية التعبير كمعاداة السامية والتعرض للمحرقة اليهودية وغير ذلك، بينما تجعل التطاول على القرآن، والإساءة إلى رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم ضرباً من حرية التعبير، ومن شواهد ذلك ما نشرته الجارديان البريطانية من أن المجلة الدانمركية ذاتها رفضت نشر رسوم مسيئة لعيسى عليه السلام عام 2003م وعللت ذلك بأنه سيزعج مشاعر كثير من الناس، وأظهر من ذلك وأبلغ تصريح الأديب الألماني الحاصل على جائزة نوبل"غونتر غراس"حيث قال: "إن جميع محرري الصحيفة كانوا على معرفة مسبقة بتحريم العالم الإسلامي لرسم الله أو رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وتجاهلوا تحذير خبير دانمركي في الشؤون الإسلامية، وأصروا على نشر الرسوم المستفزة لأنهم يمينيون متطرفون ومعادون للأجانب"، ثم الإعلان الصريح الواضح من رئيس تحرير المجلة سيئة الذكر بأن مجلته لن تنشر أي رسوم عن المحرقة اليهودية.
3- إعادة نشر الرسوم المسيئة في صحف ومجلات أوروبية في معظم الدول الأوروبية الكبرى، انتصاراً للدانمرك، أو تخفيفاً عنها من وطأة المقاطعة الاقتصادية، أو تأكيداً ودعماً لحرية التعبير كما يزعمون، وأياً كان السبب فإن ذلك جعل القضية تأخذ أبعاداً عقدية وفكرية وحضارية أوسع وأعمق، مما جعل أخذ الأمر على أنه مجرد حرية تعبير، أو إساءة رئيس تحرير، أو خطأ مجلة أمراً غير وارد مطلقاً، وإنما هو إساءة متعمدة من فئات متطرفة حاقدة، وهي وإن كانت لا تُمثل كل الشعوب لكنها لتيارات لها نفوذها الإعلامي وحضورها السياسي والاجتماعي.
4- التحول الإيجابي من الاستنكار وطرق التعبير عنه، إلى الأعمال والمبادرات الفكرية والدعوية في شأن التعريف بالرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم خاصة، والدين الإسلامي عامة، والتنادي إلى توضيح المنهج الإسلامي في حرية التعبير وحدودها، وحقوق الإنسان وضوابطها، وكل ذلك ضمن الاعتراف بتقصير المسلمين في هذه الجوانب، والدعوة إلى العمل الدائب والمشروعات المستمرة استدراكاً للنقص، وإقامة للحجة، وإشاعة للدعوة، ودحضاً للشبهة،، وتلك أمور بدأت ولن تتوقف بإذن الله.
5- بوادر ومظاهر الوعي الجيد لدى المسلمين حيث أدركوا حقيقة الأعمال التي تهدف إلى إضعاف أو إيقاف نصرتهم، سواء في ذلك الاعتذارات المبطنة المخادعة من المجلة ورئيس تحريرها، أو الإعلانات الرسمية التي نشرتها السفارات الدانمركية في عدد من الدول الإسلامية، أو تعمد نشر الرسوم في دول مختلفة لتشتيت المقاطعة، وكل ذلك كان موضع الفهم والاستيعاب الفكري، والذكاء والإتقان العملي.
وقفة مهمة:
قبل أن أمضي في المقال أقف هنا لأبين أننا – معشر المسلمين – لا نسعى إلى إشعال صراع بين الحضارات، ولا نعمل على إثارة العنصريات، ولا نهدف إلى تأجيج العداوات، ومبادئ ديننا وحقائق تاريخنا وشواهد واقعنا تدل على ذلك وتؤكده، ولكننا في الحقيقة نمارس حقنا المشروع في الدفاع عن معتقداتنا ومقدساتنا، ونستدرك تقصيرنا في القيام بخدمة ديننا، والتعريف بنبينا صلى الله عليه وسلم، ونعلن رسالتنا الحضارية في الميادين الإنسانية.
وفي الوقت نفسه فنحن نراجع ذواتنا لنجدد في أمتنا تميزها العقدي، وسموها الخلقي، ورقيها الحضاري ونثبتها عليه؛ لتكون لنا هويتنا الثقافية الحضارية التي لا تضعف و لا تذوب في الحضارات الأخرى الطاغية بقوة إعلامها واقتصادها وهيمنتها العسكرية والسياسية؛ وحتى نكون في عصر العولمة الجارفة رقماً صعباً يحسب له ألف حساب؛ وتصبح أمتنا قادرة على دخول المعترك بأصالة تؤثّر و لا تتأثر، وتتقدم ولا تتقزم، وتتجدد ولا تتبدد.
ومن نافلة القول بيان أن في الغرب تيارات يمينية ذات توجهات عنصرية وممارسات متطرفة، وهي تستبطن أحقاد الحروب الصليبية، وتتبنى الأفكار الصهيونية، وتلك التيارات لها نفوذ سياسي وتأثير إعلامي، وهؤلاء لا بد من مواجهتهم والوقوف في وجههم بما يدفع شرهم ويفضح أمرهم، ويبطل كيدهم الذي يدفع نحو تسميم العلاقات وصراع الحضارات، ولا ينفع هنا التغاضي والسكوت فضلاً عن المداهنة والمجاملة.
متطلبات الاستمرار والاستثمار:
والآن أشرع في هدف المقالة وهو محاولة الوصول إلى وضع إطار عام للوسائل والمعالم التي تكفل الاستمرار في الانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم وذلك من الناحية النظرية والعملية:
أولاً: الجوانب الممنوعة:(12/254)
أبدأ بهذه الجوانب السلبية لأهمية منعها، والتحذير منها، لأنه يترتب عليها أضرار على مسيرة الانتصار، بل ربما أدَّت إلى إيقافها، بل قد تصل إلى إيجاد ما يُضادها ويحاربها، ومن هنا فإن الاستمرار يقتضي ما يلي:
1- الامتناع عن جميع أعمال العنف والحرق والتخريب والإتلاف بأي صورة كانت لأنها تسبب إخلالاً بأمن البلاد، وإحراجاً لحكوماتها، وإضرارا بممتلكاتها، وتشويها لسمعتها وحضارتها، فضلاً عما تُخلّفه من إصابات وخسائر في الأرواح، وكل ذلك في مجمله - على النحو الذي وقع في سوريا ولبنان وأفغانستان – غير مقبول شرعاً ولا مصلحةً، فالتسبب في قتل مسلم جرم خطير وخطيئة كبرى، وإشاعة الاضطراب الأمني مفسدة جسيمة،وقد أكد على منع ذلك العلماء المعروفون وضمنوه بياناتهم.
2- الامتناع عن الترويج لأي معلومة إلا بعد التثبت من صحتها والتعريف بمصدرها، والله جل وعلا يقول: { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا }، وذلك منعاً للضرر الذي يلحق بغير المعنيين، أو يثير البلبلة والخلاف بين المسلمين، ومن أمثلة ذلك إدراج أسماء منتجات ليست دانمركية على أنها دانمركية، والإصرار على ذلك بعد بيان الحقائق وتقديم الدلائل.
3- الامتناع عن المبالغات غير المشروعة، والمجازفات الممجوجة، فمرة يُذكر أن راسم الكاريكاتير وُجدَ ميتاً محترقاً، وأخرى يُقال كذا وكذا،وهنا أقول إن عظمة النبي صلى الله عليه وسلم ليست بحاجة إلى زيادات وإضافات وحسبنا ما ورد في القرآن والسنة من وجوه عظمته ودلائل معجزاته،، فلا قبول للخروج عن الثابت المشروع، ولا نفع في الابتداع غير المشروع.
4- الامتناع عن استخدام الألفاظ البذيئة والسب والشتم فذلك ليس من أخلاق المسلمين، وينبغي الامتناع عن العدوان على الآخرين بما ليس فيهم، فالظلم ليس من شيم المؤمنين {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}، بل لا بد من اجتناب كل ما من شأنه أن يُفضي – بغلبة الظن – إلى الإساءة إلى الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم فالله تعالى يقول: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً من غير علم}، وفي تفسير الآية قال ابن كثير:"يقول الله تعالى ناهياً لرسوله صلى الله عليه وسلم عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو" [ تفسير ابن كثير ص:711 ]، "وهذه الآية الكريمة - من آيات الأحكام – أخذ العلماء منها أصل سد الذرائع، لأن سَبَّ الأصنام بالنسبة إلى ذاته جائز مطلوب، ولكن لما كان هذا الأمر المحمود الطيب- وهو سب الأصنام وتقبيحها – قد يؤدي إلى أمر آخر لا يجوز وهو سَبُّ الله، مُنع هذا الشيء الطيب سداً للذريعة " [ العذب النمير للشنقيطي 2/529 ]، وزاد القرطبي الأمر إيضاحاً بقوله:" قال العلماء حُكْمُها - أي الآية - باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في مَنَعَة وخِيفَ أن يُسبَّ الإسلامُ أو النبيُّ صلى الله عليه وسلم أو الله عز وجل، فلا يحلُّ لمسلم أن يَسبَّ صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية...وفي هذه الآية ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع " [ تفسير القرطبي 1/1221]، والقوم اليوم - في مجملهم - لا يُعظمون ديناً ولا يُقيمون حرمة لنبي، والمسلم منضبط بأحكام الشرع لا بمشاعر النفس وعواطفها.
ثانياً: الجوانب المطلوبة:
أ – الناحية المنهجية الفكرية:
1- الاجتهاد في الإخلاص لله عز وجل وابتغاء مرضاته، والحذر من المباهاة في النصرة، والمزايدة المصحوبة بالعجب أو الغرور، بل كل نصرة وعمل قليل في حق وواجب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
2- البدء بالنفس، والربط بين العلم والعمل، والتلازم بين القول والفعل، فلا ينبغي أن ندعو الناس لنصرة رسولنا صلى الله عليه وسلم ونحن لا نتمسك بهدْيه، ولا نتَّبع سنته، ولا نُعظم قدره.
3- اعتماد مبدأ الرجوع إلى العلماء وذوي الرأي والحكمة لاستشارتهم والصدور عن رأيهم، سيما في الأعمال المُشكلة التي تحتاج إلى علم وبصيرة، وكذا الأعمال الكبيرة التي تحتاج إلى خبرة بالواقع ومعرفة بالعاملين في الميدان.
4- العمل بمبدأ التعاون والتكامل، والبعد عن التفرد والتعارض؛ حتى لا تتكرر الجهود مع إمكانية جمعها وإخراجها بصورة عظيمة تزيد نفعها وانتشارها؛ ولكي لا تُستنفد الإمكانيات مع وجود صورة أمثل وأفضل لاستثمارها.(12/255)
5- التوعية والتربية على أساس الربط بالأصول والكليات دون حصر الأمر في الفروع والشكليات، فالمقاطعة – مثلاً - مبدؤها تعظيم الدين وحرماته، وأساسها وجوب الدفاع عن كل ما يسيئ للإسلام والمسلمين، وإطارها العام إضعاف المعتدي وعدم التسبب في إعانته على عدوانه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، معنوية أو مادية، وحين تكون توعيتنا لمجتمعنا وتربيتنا لأبنائنا على هذا النحو فستكون مقاطعة الدانمرك مجرد نموذج ومثال في سياق أشمل وأكمل.
6- غرس معاني العزة والقدرة في نفوس المسلمين والتنويه بإمكانية تأثيرهم على واقع مجتمعاتهم وحكوماتهم، وبيان العوامل المؤدية إلى ذلك وإشاعتها والحث على العمل بها والاستفادة منها.
7- إحياء المعاني والمفاهيم الإيمانية كوجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتقديمها على ما سواها، وأهمية التضحية فداء للدين، والربط بالسيرة وصاحبها عليه الصلاة والسلام ومثال ذلك ما وردفي عناوين إحدى الصحف بالخط الكبير: "المسلمون يجددون بيعة الرضوان"، وينبغي أن نرسخ في النفوس والعقول أن الانتصار للرسول صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمسلم دين واعتقاد، وعمل والتزام، ودعوة وتعريف، ومنهج حياة، وليس مجرد رد فعل.
ب- الناحية العملية:
1- الدعوة إلى اجتماع عاجل لعدد من علماء المسلمين وقياداتهم الدعوية ومؤسساتهم ذات السمعة والمصداقية التي لها كلمة مسموعة ومكانة مرموقة عند الشعوب الإسلامية، لتدارس الحدث وتداعياته، وتوجيه وترشيد المسيرة، وتبني المشروعات والأعمال النافعة والتعاون على إنجاحها، واستثمار إمكانيات الجمهور في المسارات الصحيحة، والمجالات المفيدة، وتوضيح الأساليب الحضارية والفكرية المطلوبة، وإعلان المنع والتحذير من التجاوزات والممارسات المشتملة على العنف، وتقديم المطالب التي تحقق المصالح بصورة مناسبة، ليبقى الانتصار حضارياً ومستمراً وإيجابيا ومتنامياً غير منحرف إلى ما لا ينفع، وما لا تُحمد عقباه، ًولعل هذا الأمر يرى النور قريباً بإذن الله.
2- تطوير منهجية المقاطعة واستثمار أهدافها وتوجيه مسارها وذلك من خلال غرس أهمية الاكتفاء الذاتي ودعم المنتجات المحلية والصناعات الوطنية، والانتقال إلى التكامل الاقتصادي مع الدول العربية والإسلامية لتعظيم القدرة الاقتصادية للمسلمين، ولتبادل الخبرات والتجارب بينهم، وللتحرر من الهيمنة والضغوط الاقتصادية التي تُمارس ضد الدول والشعوب الإسلامية، ويحتاج ذلك إلى تدارس وتباحث بين المختصين الاقتصاديين والتجار والصناع والغرف التجارية، وكذا القيام بالدراسات والبحوث اللازمة، والعمل على تحريك وتقوية دور المؤسسات الإقتصادية كالغرف التجارية والمنظمات والمجالس التجارية التابعة لجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي.
3- العمل على تقوية المقاطعة الاقتصادية وتقديمها كأسلوب سلمي معبر ومؤثر وذلك من خلال ما يلي:
* إيجاد المرجعية الموثوقة المنضبطة للمقاطعة لمعرفة المنتجات والشركات وبلاد مَنْشَئِها عن بينة ووفق معلومات ووثائق صحيحة.
* التركيز في المقاطعة لا التشتت، فالمقاطعة إزاء هذه الجريمة للدانمرك ومنتجاتها فهي البادئة والمعاندة، ولا ينبغي توسيع الدائرة بشكل كبير ولدول عديدة، فهذا تشتيت للجهد والقوة، وعدم ملاءمة للإمكانية والقدرة.
* تقديم الأدلة الشرعية والدراسات الاقتصادية التي توضح جدوى المقاطعة وإمكانية تطبيقها وآثارها الإيجابية على الاقتصاد المحلي والإقليمي والإسلامي؛ لتكون المقاطعة عن قناعة وبصيرة لا مجرد عاطفة قد تخبو أو تنطفئ جذوتها.
4- العمل على فتح أبواب المشاركة في خدمة الإسلام ونصرة النبي صلى الله عليه وسلم لكل المسلمين على اختلاف بلادهم وتخصصاتهم وإمكانياتهم وعدم الاقتصار على دور العلماء أو الدعاة أو الشباب وحدهم، وذلك من خلال تبني فكرة " أنصار الرسول" بحيث يتشكل تحتها مجموعات عمل مثل: « رجال حول الرسول » « نساء حول الرسول » « أطفال حول الرسول » « تجار حول الرسول » " محامون حول الرسول » وهكذا، مع إتاحة الفرصة لكل أحدٍ ليُقَدّم أي شيء مهما كان قليلاً، ويكون ذلك من خلال التحديد للعمل المطلوب، التوجيه لطريقة تنفيذه،، وجمع الجهود والأعمال في نسق واحد لإخراج مشروعات كبيرة.
5- العمل على العناية بتوظيف الإعلام في خدمة الإسلام وإبراز محاسنه والتعريف بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ونشر شمائله، ووضع خطة إعلامية مشفوعة بآليات ومشروعات محددة؛ لتسخير الوسائل الإعلامية في المجال الإيجابي، ومناقشة الصور النمطية الخاطئة عن الإسلام بأسلوب علمي منهجي ولغة حضارية راقية، بحيث تُعد البرامج المختلفة، والإعلانات المتميزة، ومواقع الانترنت، والمقالات الصحفية باللغات المختلفة، لتعكس الحقيقة وتدحض ما يُخالفها، على أن يكون ذلك بشكل مستمر؛ أخذاً بمبدأ المبادرة لا المدافعة، والتعريف لا التعنيف.(12/256)
6- التوعية القانونية للمجتمعات الإسلامية عموماً والجاليات الإسلامية خصوصاً؛ لمعرفة الحقوق والواجبات، وتحديد المطالبات، والعلم بما يلزم لها من الإمكانيات، وعدم الوقوع تحت وطأة المخالفات والتجاوزات، والعمل على استثمار وتوحيد جهود القانونيين والمؤسسات القانونية والحقوقية مع الجهود الرسمية الحكومية للوصول إلى ما يحقق حماية حقوق المسلمين واحترام الأديان والرسل والمقدسات بإصدار القوانين والتشريعات العالمية في ذلك.
7- العمل على التركيز على عظمة ومكانة وفضل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وحقوقه على أمته، والتعريف الشامل بسيرته العطرة في مجتمعات المسلمين من خلال جميع الوسائل الممكنة، كمناهج التعليم، ووسائل الإعلام، والتربية الأسرية، والأنشطة الاجتماعية، والبرامج الثقافية وغيرها.
8- العمل على تحقيق التحلي بأخلاقه وشمائله صلى الله عليه وسلم، وتأسيس مراكز متخصصة وعقد مؤتمرات دورية لإحياء وتجديد الانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم وإبراز جوانب العظمة في شخصيته، ومجالات القدوة لأمته، ليكون حياً في واقع الأمة كإمام عادل، وسياسي محنك، وقائد شجاع، وقاض عادل، وتاجر أمين، ومعلم قدير، ومرب فاضل، وصديق وفي، وزوج كريم، وأب رحيم.
9- مقاطعة كل ما يدعو ويؤدي إلى البعد عن هديه وسنته، أو يخالفها ويروّج لما يُعارضها، أو يُنقص من قدره وعظمته، كالقنوات الفضائية التي تُقدّم المواد الهابطة المشتملة على عرض العورات وإثارة الغرائز والترويج للمحرمات، فالانتصار للرسول صلى الله عليه وسلم يقتضي مقاطعتها لما فيها الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة والترويج لما يُخالف ما جاء به من دينه العظيم وما اشتمل عليه خلقه القويم.
10- العمل على الإفادة والتواصل والتعاون مع المنصفين من غير المسلمين لمعرفة الوسائل الناجعة ولغة الخطاب المناسبة لعقلية مجتمعاتهم وصولاً إلى تصحيح الصورة النمطية المشوهة عن الإسلام ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وتيسير عرض وفهم حقائق ومحاسن الإسلام.
11- عقد الندوات والمؤتمرات والمحاورات والمناظرات للتعريف بالإسلام، وذلك من خلال زيارة علماء ومفكري المسلمين إلى بلاد الغرب، ودعوة بعض الرموز الدينية والثقافية والإعلامية الغربية إلى بعض الدول الإسلامية.
د. علي بن عمر بادحدح
المشرف العام على صفحة الانتصار للنبي المختار
=====================
الأصول الفكرية لعلاقة الغرب مع نبي الإسلام
د. باسم خفاجي
يمثل نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم مشكلة تاريخية مزمنة حتى الآن في أدبيات الفكر الغربي. ويظهر من حين لآخر هجوم فكري وإعلامي عنيف على شخص النبي عليه الصلاة والسلام. يعتبر البعض أن هذا الهجوم حالة شاذة من قبل أفراد بأعيانهم، ويحاول طرف آخر أن يلقي باللائمة على نظريات المؤامرة، ويدعو ثالث إلى أن نتغير نحن حتى لا يهاجم رموزنا الآخرون. يرى الكاتب – من خلال الأدلة التاريخية والفكرية - أن الموقف الغربي من النبي عليه الصلاة والسلام لم يتغير بالمجمل، وأنه كان دائماً يغلب عليه صبغة العداء والاستهزاء، وإن اختلفت صور التعبير عن هذا الموقف بين فئات المجتمع الغربي المختلفة. يقدم الباحث مجموعة من العناصر الفكرية التي ساهمت عبر التاريخ الغربي في صناعة صورة ذهنية سلبية وقاتمة عن النبي الكريم. كما يهدف البحث إلى التعريف بأهم القواسم الفكرية المشتركة للموقف الغربي من نبي الإسلام، وأسباب هذا الموقف الفكري، وكيف يمكن مقاومة هذا الموقف عملياً للدفاع عن رموز الأمة الإسلامية. يختتم البحث بمجموعة من الخطوات والأفكار العملية التي تهدف في مجملها إلى أمرين: الأول هو: تصحيح الصورة الذهنية لدى المنصفين من مفكري الغرب عن نبي الأمة، والثاني هو: وقف التشويه المتعمد لهذه الصورة من قبل البعض الآخر من المفكرين والإعلاميين والسياسيين الغربيين المعاصرين.
مقدمة
شهدت الفترة الماضية ارتفاع نبرة المواجهة مرة أخرى بين العالم الإسلامي من ناحية، وبين أوربا من ناحية أخرى في ما يتعلق بالهجوم على شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ورغم أن هذا الهجوم تكرر كثيراً خلال الإعوام الماضية، وبصور متعددة، إلا إن العالم العربي والإسلامي لا يزال مصراً على التعامل مع كل حالة من تلك الحالات التي يهاجم فيها خير البشر، وكأنها حالة منعزلة وفردية، ويجب أن تعامل في هذا السياق. ويغيب عن الكثير من أبناء الأمة أن الموقف الفكري الغربي من النبي صلوات ربي وسلامه عليه كان – في مجمله عبر التاريخ - موقفاً عدائياً، وإن اختلفت صور التعبير عن هذا العداء.
قصور في الفهم(12/257)
يلقي البعض اللوم على الأمة الإسلامية لتخاذلها وضعفها من ناحية، أو لتكرار حوادث العنف التي تتبناها بعض فصائل الأمة تجاه الغرب. يرى البعض – مؤخراً - أن ما يسمى بالإرهاب الإسلامي هو سبب هجوم الغرب على الإسلام وعلى نبي الإسلام. ونسأل هؤلاء .. وهل كان الغرب يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، أو حتى يسكت عن إيذاء شخصه الكريم وإهانته عندما كانت الأمة الإسلامية في حالة وفاق وسلام تام مع دول الغرب؟ إن الغرب لم يتوقف عن الهجوم على رسول الإسلام – فكرياً وعقدياً - طوال القرون الماضية، وهو موقف عام لم يشذ عنه إلا القليل من المفكرين والمتدينيين.
يرى البعض الآخر أن الهجوم على الإسلام أو على نبيه الكريم ليس إلا حالات فردية لمن يبتغون الشهرة، أو من يحملون أحقاداً على الإسلام. ويقوم هؤلاء بسرد بعض النقولات التاريخية أو المعاصرة لمفكرين غربيين يمدحون شخص النبي، ويعتبرون أو وجود هؤلاء يقدح في فكرة وجود عداء فكري عام في الغرب تجاه الإسلام أو شخص الرسول الكريم. والحقيقة أن الاستشهاد ببعض الأقوال – مع حذف السياق التاريخي لها – يمكن أن يكون مقنعاً بوجود إعجاب من بعض المفكرين الغربيين بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم.
لابد ان نلاحظ هنا أن معظم الاقتباسات الإيجابية من المفكرين الغربيين حول نبي الأمة إنما تصف مواقف النبي وعبقريته الإدارية والعسكرية والقيادية، ونجاحه في إقامة الحضارة الإسلامية، ولكنها لا تقدم هذا النبي الكريم بصفته مرسل من رب العالمين، أو يحمل رسالة سماوية يدين بها اليوم أكثر من مليار نسمة. إن معظم الثناء على الرسول في الفكر الغربي إنما هو ثناء على رمز سياسي أو اجتماعي .. وليس قبولاً أو إقراراً بأحقية الإسلام ونبيه الكريم في التنافس الحضاري الإنساني.
يقع البعض من أبناء الأمة من الدعاة والمصلحين في لبس بشأن ذلك، وهم يدافعون عن الغرب بوصفه معتدلاً أو متعدد الرؤى فيما يتعلق بني الإسلام صلوات الله وسلامه عليه. ما يغيب عن هذه الرؤية، ويعيبها أيضاً .. هو إدراك أن الفكر الغربي يتحرك وفق مجموعة من المسلمات الأساسية التي تخالف بقوة الدعوة المحمدية في المبادئ والمسلمات، وبالتالي فإن الأصل في العلاقة الفكرية بين الغرب وبين الإسلام لم يكن يوماً ما التوافق وإنما كانت العلاقة دائماً من النواحي الفكرية تميل إلى المواجهة وعدم الاتفاق.
من المهم أيضاً في هذا المقام ان نفصل بين أمرين: الأول هو العلاقات بين الشعوب، والتي كانت في كثير من الأحيان تميل إلى السلام والوئام، وكذلك العلاقات السياسية التي تتبدل وتتغير وفق المصالح. أما الأمر الثاني فهو الرؤى الفكرية تجاه النبي، والتي لم تتغير كثيراً في الغرب منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وحتى التاريخ المعاصر، وكانت في مجملها رؤى ومواقف معادية وصدامية.
إن الأحكام الفكرية لابد وأن تنطلق من الرؤى المشتركة والمستمرة عبر فترات زمنية طويلة، ولا تقاس على ما شذ من الأقوال أو الأفكار. والغرب عبر تاريخه الطويل من المواجهة الفكرية والدينية مع العالم الإسلامي كان دائماً يميل إلى الطعن في شخص النبي، وهو ما لم يتغير عبر قرون طويلة من العلاقة مع الغرب، ولذلك أسباب سيأتي بيانها في هذا المقال.
هل الغرب كيان فكري واحد؟
نرى قبل الحديث عن الموقف الفكري الغربي من النبي صلى الله عليه وسلم أن نؤكد إدراكنا أن الغرب ليس كياناً واحداً فيما يتعلق بالسياسات وطبائع الشعوب، ومواقف دول الغرب السياسية من العالم العربي والإسلامي. كما أن الغرب ليس كياناً واحداً أيضاً فيما يتعلق باهتماماته الدينية ومدى اقترابه أو ابتعاده عن دعوة ورسالة نبي الله عيسى عليه السلام أو الأديان بوجه عام. فليس كل الغرب متديناً وليس كل الغرب علمانياً أيضاً، وهناك فوارق كبيرة بين المدارس والمذاهب الدينية المختلفة داخل المسيحية في الغرب.
لكن رغم كل هذا التباين والاختلاف في السياسات والطبائع والتوجهات، إلا أن الغرب يكاد يكون كياناً واحداً عندما يتعلق الأمر بالجوانب الفكرية المتعلقة بعلاقاته مع الحضارات الأخرى والديانات التي تختلف عن ديانات الغرب. فرغم تعدد المدارس الفلسفية والفكرية في الغرب، إلا أن هناك قدر مشترك وواضح من المفاهيم الفكرية الأساسية عندما يتعلق الأمر بالرؤى المقابلة حول مستقبل البشرية وهدف الإنسان من الحياة على الأرض. لذلك فإن من الممكن أن يتم الحديث عن الغرب بوصفه كياناً واحداً عندما يتعلق الأمر بالحياة الفكرية الغربية في مقابل الحضارات الأخرى.
وسوف تتعامل هذه الدراسة مع الغرب ككيان فكري واحد من ناحية المنطلقات الأساسية للحضارة الغربية، والمبادئ التي قامت هذه الحضارة عليها، وعلاقة ذلك بموقف الغرب من النبي صلى الله عليه وسلم.
مشكلات الفكر الغربي مع نبي الإسلام(12/258)
لكي ننجح في فهم علاقة الغرب فكرياً بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، فلابد أن نبتعد قليلاً عن المواقف، وندرس المبادئ. إن المواقف ليست إلا تعبيرات واقعية عن الأفكار الكامنة في الشخصية الغربية، والتي تكونت عبر قرون طويلة من التأثير الفكري الذي كون قناعات راسخة لا تتزعزع داخل الشخصية الغربية فيما يتعلق بعلاقتها بالخالق، وعلاقتها بالكون والطبيعة والآخرين من البشر. وهذه القناعات تتصادم بشدة مع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك نشأ العداء وليس من المتوقع أن يقل أو ينتهي في القريب. وهذه مجموعة من الأسباب الفكرية التي ساهمت في تكون علاقة العداء على المستوى الفكري.
مركزية الله أم مركزية الإنسان
إن المشكلة الرئيسة في علاقة الغرب فكرياً بالعالم الإسلامي، وعداء الغرب للنبي صلى الله عليه وسلم، هو مركزية الله تعالى في الكون لدى المسلمين، والتي تتجسد في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي دين الإسلام وفي واقع الأمة الإسلامية بصرف النظر عن درجة تدين والتزام أفراد هذه الأمة.
إن الغرب في المقابل ينطلق فكرياً – وبكل فئات مجتمعاته وكل مفكريه – من فكرة مركزية الإنسان في الكون، وأن الفرد هو مركز الاهتمام الرئيس، وأن تطلعات الفرد وحقوقه وحرياته تقدم على أي أمر آخر، وحتى أمور العبادة وعلاقة الفرد بالإله.
إن الغرب يرى أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قدم مفهوماً يمكن أن يهدم الفكر الغربي من أساسه .. وهو مركزية الله تعالى في حياة البشرية مقابل نظريات الغرب التي تقوم على مركزية الإنسان. لذلك اختار الغرب أن يجعل عداء الإسلام ضمن منظومة قيمه الرئيسة لأنه بذلك يتمكن من إبقاء الفرد مركزاً للكون في مواجهة دعوة محمداً صلى الله عليه وسلم التي حافظت على مكانة الخالق جل وعلا ومركزيتها في حياة البشر.
وحول ذلك تحدثت المؤلفة البريطانية كارين أرمسترونج – صاحبة كتاب "محمد" قائلة: "علينا أن نتذكر أن الاتجاه العدائي ضد الإسلام في الغرب هو جزء من منظومة القيم الغربية، التي بدأت في التشكل مع عصر النهضة والحملات الصليبية وهي بداية استعادة الغرب لذاته الخاصة مرة أخرى. فالقرن الحادي عشر كان بداية لأوروبا الجديدة وكانت الحملات الصليبية بمثابة أول رد فعل جماعي تقوم به أوروبا الجديدة."[i]
========================
بين محمد والمسيح
تمحور الفكر الغربي حول شخصية المسيح عليه السلام. وتحولت شخصية المسيح بعد تحريف الدين المسيحي إلى تجسيد للفكر الغربي حول مركزية الفرد في الكون. فقد تحول الإله في نظر المتدينين إلى شخص .. إله في صورة فرد .. دفع دمه ثمناً مقدماً لجميع خطاياهم القادمة. وعندما سيطر الفكر النفعي على الشخصية الغربية، أصبح التعلق بشخص المسيح يمثل قمة النفعية لمن اختاروا التدين، فهو قد قام بدفع فاتورة خطاياهم حتى قبل أن يقعوا فيها، وأبقى لهم الحياة لكي يمارسوا فيها ما شاءوا من أفعال طالما أن محبة المسيح – كفرد وكإله – تسيطر على مشاعرهم. أما من تركوا الدين المسيحي بأكمله، وأصبحوا لادينيين أو ملحدين، فقد كان المسيح – بعد تحريف الدين – أيضاً مركزياً في مواقفهم الفكرية .. فهو فرد، وبالتالي لا يمكن أن يختلف عن غيره من البشر، وبالتالي فليس هناك إله – بزعمهم. كما أن المسيح بصورته التي قامت الكنيسة الغربية بتصويرها رحيم منعزل عن حياة الناس .. يقبل بكل معايير الحياة الإنسانية، ولا يدعو إلا إلى الحرية والمساواة .. وهي أهم قيم العلمانية ولا تصادم من تركوا الدين، وبالتالي فلا حاجة إلى مصادمة المسيح.
أما العلاقة مع محمد فهي علاقة تصادمية مع كل من التيار الديني والعلماني في الغرب على المستوى الفكري. فمحمد – صلى الله عليه وسلم – حرص على أن يكون فرداً .. إنساناً بكل معاني الإنسانية، ورفض أن يكون إله في صورة إنسان، وبالتالي فهو يناقض فهم المتدينين من الغرب للإله الذي عرفوه، وبالتالي تكونت الكراهية والضيق من كل ما يمثله محمداًً صلى الله عليه وسلم .. فهو ليس على شاكلة المسيح .. في نظرهم. وهو يناقض أيضاً مشاعر ورغبات غير المتدينين، لأنه يطلب من البشر – كما أمره خالقه – بالكثير من العبادات والأعمال والالتزامات، ويقدم حرية المجتمع على حرية الفرد، ويضحي بالمساواة من أجل العدالة ومن أجل صلاح المجتمع. كل ذلك ساهم في تكوين صورة سلبية وقاسية عن نبي الإسلام.(12/259)
إن المتدينين في الغرب – كما في الشرق أيضاً - يعشقون فكرة المعجزة لأنها خلاص من مواجهة واقع يطحن أحلامهم .. لذلك انتشر في التدين الغربي قصص المعجزات والخوارق وكرامات القديسين، وأصبح ذلك مكوناً رئيسيا من مكونات التدين المسيحي الغربي. أما محمداً صلى الله عليه وسلم فقد جسد إمكانية انتصار الإنسان دون حاجة إلى المعجزات .. لقد كانت حياة الرسول – في نظرهم – خالية من المعجزات، والحياة الغربية قاسية، والتدين فيها يسمح للفرد أن يحلم بالمعجزة للفرار من الواقع، ونبي الإسلام لا يعد بالمعجزات، وإنما بحياة مليئة بالجهد والجد والمعاناة من أجل آخرة يمكن فيها الاستمتاع بالجنة.
لقد نجح من حرفوا دين المسيح أن يقنعوا أنصار المسيح في الفكر الغربي، أن لهم أن يجمعوا بين كل متع الدنيا – فقد دفع ثمن ذلك المسيح – وأن يجمعوا معها أيضاً النجاة في الآخرة لأنهم أحبوا المسيح. وهكذا يتفرغ المتدين للحياة دون الحاجة الحقيقية للعمل فإن محبة المسيح كافية للجنة. أما محمداً فإن دينه ودعوته تطلب من الإنسان الكثير، ولا تعد بالمقابل إلا بأمل في رحمة الله. كيف إذن لمن يعتنق الفكر النفعي أن يحب محمداً؟
ويروي الكاتب العربي هشام جعيط في تحليله للشخصية الأوربية كيف أنها نظرت للعالم الإسلامي ولدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "يسير تاريخ الإسلام لا وفق ديناميكيته الخاصة، بل كانعكاس شاحب ومعكوس لتاريخ الغرب. لنأخذ مثلا على ذلك: شخصية محمد. نلاحظ أنه ضمن كل تحليل لهذه الشخصية تنساب عملية مقارنة مع المسيح. إذا كان محمد غير صادق فذلك لأن المسيح كان صادقا؛ وإذا كان متعدد الزوجات وشهوانيا، فلأن المسيح كان عفيفا؛ وإذا كان محمد محاربا وسياسيا فذلك استنادا إلى يسوع مسالم، مغلوب ومعذب"[ii].
تجذر فكرة النبوة الكاذبة
قامت الكنيسة الغربية تحديداً منذ بداية الإسلام بالطعن في صدق نبوة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا يزال هذا الموقف هو السمت المشترك لمعظم المفكرين المتدينين الغربيين، رغم أن بعضهم قد تنازل ووصف النبي ببعض الصفات الإيجابية كقائد سياسي، أو مصلح إنساني، أو إنسان طموح، ولكن ليس كنبي يوحى إليه. وأخطأ كثير منا في فهم دلالة العبارات، والتي تطير بها وكالات الأنباء العربية والإسلامية، وكأنها تمثل تحولاً فكرياً في نظرة الغرب للنبي. فكم تغنينا بعبارة أن "العظماء مائة وأعظمهم محمد" وغيرها من العبارات التي يكثر تقديمها في هذا السياق.
كما تسببت هذه الرؤية في كذب نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في تكوين فكرة مسيحية استقرت في أذهان الكثير من المفكرين الدينيين في الغرب. هذه الرؤية تتصور أن هذه النبوة الكاذبة في ظنهم قد أوقفت تطور الإنسانية باتجاه المسيحية. يقول أحدهم: "لقد أمكن لمحمد أن يكون إمبراطورية سياسية ودينية على حساب موسى والمسيح".[iii]
ويلحظ أحد المفكرين أن فكرة أن النبي لم يكن نبيا حقيقيا صادقا قد تجذرت دون أن يصدها أي ريب أو شك أو حتى محاولة للتفهم الحقيقي للرسالة الإسلامية عند مفكرين عديدين من القرون الوسطى، أمثال ريمون مارتن، وريطولدو، ومارك دي تولاد، وروجيه بيكون. وتحولت دعوة الإسلام في نظر هؤلاء إلى رسالة ناسوتية أملتها مشاريع المصالح السوداء الدنيوية والشخصية. أما القرآن فليس سوى مجموعة من الخرافات مستعارة من التوراة وبشكل مشوه في نظر هؤلاء.
ولذلك يبقى الإسلام في نظر الغالبية العظمى من مفكري الغرب ديناً زائفاً مهما بلغت نجاحاته، ومهما ادعى أنه أفضل من الدين المسيحي الذي تركه معظم الشعب الأوربي عملياً، ولكنه لا يزال يحرك معتقداته الفكرية في التعامل مع الآخرين بقوة.
هوس فكري
إن كل تساؤل وانشغال كبير بالآخر إنما يعكس في طياته هوساً بهذا الآخر. وقد قدم الإسلام منذ ظهوره ذلك "الآخر" الذي عرفت أوربا نفسها وطموحاتها من خلال مقابلته والمصادمات معه. فرغم أن الإسلام في بداية انتشاره لم يول الغرب أي اهتمام – لتخلف الغرب حينها- إلا أن الإسلام وشخصية النبي محمد بوصفها تجسيداً للكمال الإنساني لدى أنصار الإسلام قد أصبحا محور الهجوم المستمر لمفكري الغرب لتأكيد فكرة أن الغرب أفضل من الشرق. حقاً أن أوربا قد تخلت عن الفكرة المسيحية، ولكنها لا تستطيع أن تتحرر مطلقاً من أثر الفكر المسيحي على شعوبها. وهذا الفكر المسيحي الغربي قد توحد عبر القرون الماضية حول فكرة معاداة الإسلام، وتقديم نموذج شخصية المسيح عليه السلام – بعد تحريفها- في مواجهة شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ما يفسر الهوس الغربي بالهجوم على النبي.(12/260)
أما بالنسبة للاتجاه غير المتدين – كما يذكر أحد المفكرين العرب- الذي يؤثر أكثر فأكثر في الحقيقة الاجتماعية الأوربية بمرور الزمن. فمنذ أن تحررت الفكرة العلمانية من الضغط المسيحي على التأمل العقلاني وعلى الممارسة السياسية، انفتحت نظرة جديدة للكون. هذه النظرة الجديدة مكنت من رؤية الإسلام بعمق، كجزء متمم وهام من الحياة الإنسانية، ولكنه أيضاً خصم سياسي وعسكري عنيد تمثل في ذلك الوقت في الإمبراطورية العثمانية.
لذلك استمر العداء رغم اختلاف القوى المحركة له، واستمر الهوس بالعالم الإسلامي. وظهرت الانتقائية الفكرية الغربية التي ترى أن الإمبريالية ليست إلا مهمة حضارية للارتقاء بشعوب الأرض، وأن مقاومتها من قبل المسلمين الذين يتمثلون شخصية نبيهم ليسوا إلا برابرة يجب القضاء عليهم من أجل استمرار المهمة الحضارية نحو هدفها في تنقية الجنس البشري من كل أنواع البرابرة، وعلى رأسهم أنصار محمداً.
مرآة داكنة لواقع الغرب
يرى البعض في الغرب في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم نموذجاً متكاملاً لنوع من الكمال الإنساني الذي لا يمكن للغرب بأفكاره ونظرياته وممارساته أن يصل لها. وعند هذا الفريق من الغربيين، يصبح القضاء على هذا النموذج هماً حقيقياً بذاته. فكأن حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تمثل ذلك الضمير الذي يوخز الغرب في جنباته، وكأنه مرآة داكنة توضح لهم بالدليل الواقعي مدى التردي الذي وصل إليه حال الشخصية الغربية نتيجة لابتعادها عن النموذج المحمدي.
قد يعترض بعض المفكرين العرب بل والمسلمين على تصوير واقع الشخصية الغربية بهذا الشكل المأساوي، ولكن الحقيقة أن هناك فراغ روحي ضخم في الغرب بالعموم، ويظهر ذلك من ارتفاع معدلات الجريمة والإدمان والانتحار وانتشار الرذائل، بل وتصديرها إلى كل أنحاء العالم. وفي المقابل تظهر الشخصية المسلمة التي يمثلها النبي صلى الله عليه وسلم كمقابل حاد في مواجهته لتلك الشخصية الغربية. ومنها هنا نجد الهجوم الشديد والمتكرر على شخص النبي صلى الله عليه وسلم.
مشروع مواز للغرب
إن أحد مشكلات عداء الغرب التاريخي للنبي صلى الله عليه وسلم، هو أنه جاء بنظام سياسي وفكري متكامل ينازع الغرب في المسلمات الأساسية، وكذلك في طرق التنظيم والإدارة وسياسة المجتمعات، وأخيراً في نمط العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع، وبين المجتمعات المختلفة. إنه ببساطة نظام متكامل مواز للنظام الغربي، ولا يلتقي معه، وإنما يقدم بديلاً قوياً وخطيراً له.
وكما يذكر أحد المفكرين العرب فإن "الخوف من قوة الإسلام المحركة يأخذ في اللحظات التراجييدية شكل الدفاع والصراع والمشاجرة، أحد أكثر الأشكال الانفعالية في التاريخ. لقد أبرز مفهوم الإسلام السياسي كتهديد متواتر، ومفهوم الدين السياسي كبنية تاريخية في أصول الإسلام. يقول غولديهر: إن الإسلام قد جعل الدين دنيوياً لقد أراد أن يبني حكماً لهذا العالم بوسائل هذا العالم."[iv]
لذلك هاجم المفكرون الغربيون بشدة المشروع الحضاري الإسلامي، واعتبروه خطراً كبيراً يهدد سيادة الفكر الغربي وانتصار الحضارة الغربية، ونهاية التاريخ. ولم يبدأ هذا الأمر مع أحداث سبتمبر، أو مع نشوء فكرة صدام الحضارات أو نظرية نهاية التاريخ، وإنما سبق ذلك بقرون عديدة، واستمر يغذي الشخصية الغربية بمبررات العداء للعالم الإسلامي ولشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وأنظر إلى أحدهم عندما يقول منذ أكثر من قرنين من الزمان: "يجب القول إن من بين كل الذين تجرءوا على سن القوانين للشعوب، لم يكن واحد منهم أجهل من محمد. و بين كل الإبداعات الخرقاء للفكر الإنساني، لم يكن هناك أتعس من كتابه. وما يحدث في آسيا منذ ألف ومائتي سنة يمكن أن يكون البرهان، لأننا لو أردنا الانتقال من موضوع خاص إلى ملاحظات عامة، لكان من السهل البرهان أن الاضطرابات في الدول، وجهل الشعوب في هذه المنطقة من العالم إنما هو تأثير مباشر، إلى حد ما، للقرآن ولأخلاقه."[v]
إحياء فكرة المواجهة
يرى الكثير من المفكرين الغربيين أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو من تسبب في إحياء روح المقاومة والمواجهة في حياة العرب والمسلمين، وأن الدين الإسلامي هو المحرك الرئيس لجميع أفكار المقاومة الموجودة في أفكار وتصرفات الشعوب الإسلامية. والمقاومة هنا – ليست فقط فكرة مقاومة العدوان – وإنما كل أشكال الانتصار على النفس وعلى الآخر.
يرى المفكرون الغربيون أن رسالة محمد، وأفكار محمد، ودعوة محمد تقديم الرصيد الفكري والنفسي والعقدي لجهد المسلم في الانتصار على نفسه وعدم التسليم لشهوات الحياة ومتع الدنيا التي يتفنن الغرب في محاولة تقديمها للأمة. كما أن المقاومة تمتد لتمنع الكثير من محاولات الهيمنة الفكرية والثقافية على الحياة الإسلامية والعربية من قبل الغرب.(12/261)
والعجيب أن هذه القوة في الإسلام قد فسرها بعض مفكري القرون الوسطى أنها تدل على زيف الإسلام. يقول لنا دانيال: "إن استعمال القوة، كان تقريبا معتبرا بالإجماع كخاصية كبيرة وأساسية للدين الإسلامي، وبالتالي فهو دلالة بديهية على ضلال الإسلام."[vi]
ورغم كل ذلك تظهر المقاومة في شكل تضحيات إنسانية ضخمة لا يقدمها شعب آخر أو أمة أخرى في سبيل الحفاظ على أرضها ومقدساتها، والرغبة في الدفاع عن أراضيها، وهو ما يصادم الفكر الغربي الذي يعلي من شأن الحياة الدنيا. إن الأعمال الاستشهادية وكل صور المقاومة الأخرى – حتى وإن لم تكن موفقة أو شرعية - تشكل إشكالاً فكرياً عميقاً يصادم الفكر الغربي بقوة، ويقدح في مسلماته الأساسية، ويلقي مفكرو الغرب باللائمة على محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك.
إن الفكر الغربي المعاصر غير قادر على تقديم أي تفسير مادي أو عقلاني للمقاومة الفلسطينية أو للعمليات الاستشهادية أو المسلحة في العراق، أو إصرار الشعوب العربية التي تظهر أنها ضعيفة ومتخلفة على رفض النموذج الغربي للحياة بإصرار يتزايد مع الوقت دون تفسير مقنع إلا بإلقاء اللوم والحقد على محمد – صلوات الله وسلامه عليه. إن النجاحات المتتالية لمشروع المقاومة تستنفر في الغالب موجات جديدة من الهجوم على شخص النبي، وهو ما يفهم على المستوى الفكري – ولا يقبل بأي حال من الأحوال أو يبرر.
الخلاصة
إن عداء الغرب للنبي محمداً هو عداء مفهوم من المنطلقات الفكرية، وإن كان غير مقبول على الإطلاق تحت أي مبرر أو تفسير. كان هدف هذه الدراسة هو توضيح أهم المعالم الفكرية لمشكلة الغرب مع نبي الإسلام. فرسول الله صلوات الله وسلامه عليه قد جسد صورة مخالفة تماماً للإنسان عن الصورة التي ارتبط بها المسيحيون عن المسيح كما يصورونه. أنه جسد إمكانية انتصار الإنسان دون الحاجة لمعجزات .. بينما الفكر المسيحي المعاصر في الغرب يرى أهمية المعجزة للهروب من مواجهة الكثير من مصاعب الحياة في الغرب.
إن محمداً قد أحيا فكرة القوة وعدم الخوف من المواجهة، وهي فكرة خطيرة في نظر أصحاب مشروعات الهيمنة والسيطرة على واقع الأمة الإسلامية وثرواتها ومستقبلها. أن محمداً قد حارب من أجل أن ينتصر الإنسان على ذاته .. لا أن يخضع لها، وهذا الأمر يحارب ويصادم تحويل كل شيء في الكون إلى سلعة، وتحويل كل فرد إلى مستهلك.
لقد قدم رسول الله نموذجاً متكاملاً لحياة موازية للغرب .. لا تلتقي معه اضطرارا .. ولا تتنازل له خوفاً. والأهم من كل ذلك أنه محبوب بشدة من المسلمين .. معروف لكل العالم .. نجح بكل المعايير الغربية .. ولكنه رفض كل مفاهيم الغرب .. هو نموذج يجب القضاء عليه .. ويبدو أن ذلك غير ممكن لأن إرادة الخالق أقوى من عبث المخلوقين.
[i] كاتبة بريطانية تدين الغرب وتتهمه بالتجني على الإسلام، القاهرة: جمال شاهين، الشرق الأوسط، الأربعاء 18 ذو الحجة 1426 هـ 18 يناير 2006 العدد 9913
[ii] "أوروبا والإسلام"، "صدام الثقافة والحداثة"، هشام جعيط، دار الطليعة، 2001، ص40.
[iii]
[iv] "أوروبا والإسلام"، "صدام الثقافة والحداثة"، هشام جعيط، دار الطليعة، 2001، ص85.
[v] Voyag صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم n Sy صلى الله عليه وسلم i صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم t صلى الله عليه وسلم n صلى الله عليه وسلم gypt صلى الله عليه وسلم P صلى الله عليه وسلم ndant l صلى الله عليه وسلم s ann صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم s 1783 – 1785، Pa صلى الله عليه وسلم is، 1787، PP. 301 – 310.
[vi] No صلى الله عليه وسلم man Dani صلى الله عليه وسلم l, Islam and th صلى الله عليه وسلم w صلى الله عليه وسلم st, Th صلى الله عليه وسلم making of an Imag صلى الله عليه وسلم , صلى الله عليه وسلم dinbu صلى الله عليه وسلم gh, 1960, P.146
=================
الاستهزاء بالنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ودينه من أعظم موارد الإرهاب
أضيفت بتاريخ: 29-12-1426 هـ القراء: 2143 إنَّ الحمد لله، نحمده و نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد، فقد تناقلت بعض وكالات الأنباء و العديد من المواقع عبر شبكة الانترنت ما اقترفته الصحيفة الدنمركية:" جيلاندز بوستن " Jyllands-Post صلى الله عليه وسلم n بنشرها(12) رسماً كاريكاتيرياً ساخراً يوم الثلاثاء 26 شعبان 1426هـ الموافق (29 S صلى الله عليه وسلم pt صلى الله عليه وسلم mb صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم 2005 ) تصوِّر فيه رسول الإسلام محمداً صلى الله عليه وسلم في أشكالٍ مختلفةٍ، وفي أحد الرسوم يظهر مرتدياً عمامة تشبه قنبلةً ملفوفةً حول رأسه !!.(12/262)
وقد أعادت صحيفة ( Magazin صلى الله عليه وسلم t ) النرويجية في 10 يناير ما قامت به الصحيفة الدانماركية ، ونشرت 12 رسماً ساخراً للرسول محمد – صلى الله عليه وسلم بدعوى حرية التعبير !!.
و تواصلت الجريدة في غيِّها عندما طلبت من الرسَّامين التقدم بمثل تلك الرسوم لنشرها على صفحاتها مما زاد الأمر قبحاً وشراً.
وأرى لزاماَ عليَّ وعلى كل مسلمٍ أن يقف أمام هذا الهجوم على دين الإسلام ورسول الله نبي الهدى والرحمة - صلوات ربي وسلامه عليه - كلٌّ حسب طاقته ومسؤوليته، ولي مع هذا الحدث الأليم الوقفات التالية :
الوقفة الأولى:
ينبغي أنْ يعلم هؤلاء أنَّ للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم مكانةٌ عظيمةٌ في دين الإسلام، وأنَّ وجوب محبته في آياتٍ كثيرةٍ في القرآن الكريم، ومنها قول الله تعالى :( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (آل عمران:31).
ومنها قوله تعالى : ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )(التوبة:24).
وإنَّ من أعظمِ مظاهرِ المحبَّةِ للنبي صلى الله عليه وسلم وأبرزِ دلالاتِ صدقِها أنها تستلزمُ الذَّبَّ عن سُنَّته، لأنها وحيٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
كما أنّ التَّصَدِّي للمغرِضينَ والمستهزئين والمنافقينَ والمنهزِمِينَ الذين يترصَّدون للسنة النبوية الشريفةِ ويسخرون منه صلى الله عليه وسلم من أعظم الواجبات في دين الإسلام .
وإن من تمام النصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث تميم الداري رضي الله عنه الذي يرويه الإمام مسلمٌ في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الدينُ النصيحةُ" ، قلنا: لمن يا رسول الله ؟ قال: " لله ولكتابهِ ولرسولِهِ ولأئمة المسلمين وعامَّتِهم "- الإيمان بنبوَّة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ونصرته حياً وميتاً، فمن كان في حياته كان واجباً عليه أن ينصرَه، ومن لم يدرِكْهُ وجب عليه أن ينصرَه، وذلك بالإيمان به صلى الله عليه وسلم وباتباع سنَّته وإطاعةِ أوامرِه واجتناب نواهيه.
ومن لوازمِ النصحِ له صلى الله عليه وسلم العملُ على نشرِ الشريعة الإسلامية والدعوة إليها وتحكيمها ، والتمسُّكِ بآدابها وبما أمرت به ووجهت إليه من تعاليم هذين الوحيين كتابَ الله تعالى وسنَّةَ نبيه صلى الله عليه وسلم، والتحذير من كل ما يسيء إليه وإلى دينه.
ولذا فإنَّ نصر السنة والذب عن النبي صلى الله عليه وسلم من تعظيم شعائر الله تعالى، و لقد سطَّر أئمتنا الكثير في بيان خطر الاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم في مؤلفاتهم، وانظر من تلك الكتب الكتاب العظيم لشيخ الإسلام ابن تيمية "الصارم المسلول على شاتم الرسول ".
الوقفة الثانية :
أما هذه السخريات والرسومات التي أساءت فيها الجريدتان السابقتان فهي جمعت بين أنواع من الشرور، إذ جمعت بين الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبين الافتراءٍ والكذبٍ عليه صلى الله عليه وسلم، إضافةً إلى احتقار مشاعر المسلمين وأحاسيسهم في تلك الديار بل وفي كل أقطار الدنيا، إذ نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم أطهر البشرية جمعاء وأزكاها.
و إن هذه السخرية وهذه الرسوم لا تمثل رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم بأي حال، لا رسماً ولا دلالةً، إذ إنها لا تعبر عن معالم وجهه المنيرة، والذي يفيض سماحةً وبشراً وسروراً.كما أنها لا تعبر عن سمته وخلقه صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الثالثة:
أين أنتم من الدعاوى البراقة التي تنادي بحقوق الإنسان ؟
أليس من حقوق الإنسان عدم السخرية و الاستهزاء بما يعتقده ؟
أم أن المسلمين في أنحاء العالم عندكم ليسوا من بني الإنسان ؟
و بالتالي لا تشملهم الحقوق !
بل انظروا لأنفسكم كيف تعاملون الحيوان ؟!!
ثم قارنوا بتعاملكم أين أنتم من مراعاة مشاعر المسلمين واحترام معتقداتهم ؟
الوقفة الرابعة:
إن موقف هاتين الجريدتين المخزي أكبر دعم للإرهاب الدولي المنظم الذي عقدت لمحاربته مؤتمراتٌ ولقاءاتٌ ، مع الاختلاف في تحديد مفهومه لأنَّ المسلم قد لا يستطيع ضبط نفسه مع هذا التحدي السافر للإسلام وأهله وعندئذٍ نتساءل:
أليس بالجدير بأن يدرج من يسلك هذا السبيل ويسخر بدين الإسلام ونبيه ويشجِّع على ذلك الإرهاب بأن تتخذ ضده القرارات الدولية لأنه مغذٍ للإرهاب ؟
ثم ما دامت الشعارات الدولية تنادي بتجفيف موارد الإرهاب، أليس من مهامها تجفيف كلَّ موارده بأنواعها وأشكالها ؟(12/263)
ولا شك ولا ريب أن هذا المورد من أشد موارده، وهو أخطر بكثير من الموارد المالية،لأنها من أعظم الدوافع له .
الوقفة الخامسة :
إنَّ ادعاء صحيفة (Jyllands-Post صلى الله عليه وسلم n ) حرية التعبير في نشرها لتلك الرسوم الساخرة عن محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ادعاءٌ غير مسلَّمٍ ولا مقنعٍ ؛ لأن منظمات العالم تؤكد على احترام الرسل ، وعلى احترام الشرائع السماوية ، واحترام الآخرين وعدم الطعن فيهم بلا بيِّنة. ولذا فإنَّ الحرية المزعومة فيها انتهاكٌ لدين الإسلام ، وسخريةٌ برسول الله وإخلالٌ بحقوق الآخرين.
ولهذا فقد استُنكِرَ هذا العمل الشنيع الذي يعدُّ استخفافاً بدين الإسلام الذي يدين به ملايين المسلمين في أنحاء العالم ؛ فقام المسلمون من دولٍ ومجالس ووزراء و هيئاتٍ و جمعياتٍ عدةٍ و أفراد باستنكار هذه الحملة الظالمة.
ختاماً :
إننا معشر المسلمين نوجه دعوةً إلى هؤلاء المستهزئين برسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، وإلى غيرهم من غير المسلمين لأن يمتِّعوا أعينهم وفكرهم بالاطلاع على الحقائق من خُلُقِهِ وصفاته، من خلال الكتب في شمائل النبي وصفاته مما كتبه أهل الإسلام، مما هو مسطورٌ في كتب السنة والسيرة، وإن أبيتم فاقرؤوا ما كتبه عددٌ من أهل الإنصاف عن نبيِّ الرحمة والهدى صلى الله عليه وسلم من عقلاء البشر ومثقفيهم، حتى من أهل الملل الأخرى ممن شهدوا له بمكارم الأخلاق والفضائل الجمَّة.
وليعلم المستهزئون وأمثالهم أنَّ الله عز وجل متكفلٌ بحفظ دينه وحامٍ لحمى رسالته، ولن تضير نبيه صلى الله عليه وسلم سخرية الساخرين واستهزاء المستهزئين، فقد كفاه الله ذلك كله، كما قال سبحانه: ( إنا كفيناك المستهزئين ).
وقد قال الشيخ العلًّامة ابن سعدي رحمه الله في تفسيرها:" وهذا وعدٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يضرّه المستهزئون، وأنْ يكفيهم الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة، وقد فعل الله تعالى، فإنَّه ما تظاهر أحدٌ بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا أهلكه الله وقتله شر قتلةٍ " .
والله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يُعلي دينه ، وأن يرد كيد الكائدين للمسلمين ودينهم في نحورهم ، وأن يقيهم من كل شرٍ.
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على نيينا محمدٍ وعلى آله وصحبه
بقلم د. عاصم بن عبدالله القريوتي
====================
الانتصار لسيد الورى النبي صلى الله عليه وسلم
في 20|12|1426
كانت هذه خطبة مباركة مميزة ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور /محمد بن عبد الله الخضيري إمام جامع الملك خالد بحي المنتزه ببريدة ..
د/ محمد الخضيري
إن الحمد لله نحمده..
أيها المسلمون : حقيقة الإيمان لا تتم إلا بالشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا رسول الله فالشهادة لله بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة وتمام ذلك يكون بطاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهى وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع وواجب الأمة محبة المصطفى واتباعه وتعزيره وتوقيره.
قال تعالى: (( لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً )) [الفتح : 9] ويقول صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين). رواه مسلم.
وعن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك).
فقال له عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم (الآن يا عمر) رواه البخاري . فحب النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته ونشر سنته وتعطير المجالس وإمتاع الأسماع بسيرته وشمائله ونصرته والذب عن عرضه والدفاع عنه توحيد وإيمان . ولئن كان ذلك واجبا على الدوام وسائر الأحوال فوجوبه أوكد وأعظم حين تتعرض الذات الكريمة للأذى والسخرية والاستهزاء
أيها المسلمون : لقد نشرت صحيفة ( جلاندز بوستن ) الدنمركية يوم الثلاثاء 26/8/1426هـ (12) اثني عشر رسماً كاريكاتيرياً ساخر .. بمن يا ترى ؟! هل كان ذلك بمسؤول كبير .. بجنرال .. برئيس دولة ... بل كان ذلك بأعظم رجل وطأت قدماه الثرى , بإمام النبيين وقائد الغر المحجلين صلى الله عليه وسلم . صور آثمةٌ وقحةٌ وقاحة الكفر وأهلة , أظهروا النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى هذه الرسومات عليه عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأسه !! وكأنهم يريدون أن يقولوا إنه – مجرم حرب - ( ألا ساء ما يزرون )
ثم في تلك الأيام الماضية وفي يوم عيد الأضحى بالتحديد – إمعاناً في العداء - تأتي جريدة(12/264)
( ما جزينت ) النرويجية لتنكأ الجراج وتشن الغارة من جديد , فتعيد نشر الرسوم الوقحة التي نُشرت في المجلة الدنمركية قبل! (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) [الذاريات: 53].
أيها المسلمون : ومع كل الجنايات التي تتوالى على المسلمين، والبغي والعدوان بألوان وصنوف شتى فما زال المسلمون يواصلون الاحتمال والصبر ولو على مضض، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينال فلا نغضب له، ويساء إليه فلا ننصره، ويتعدى عليه فلا ندافع عنه، فها هي تتوالى بذاءات وإهانات للمسلمين في جناب المصطفى – صلى الله عليه وسلم –
الدنمارك دولة نصرانية صليبية كبقية دول أوربا وأمريكا الشمالية تدين بعقيدة التثليث الباطلة الفاشلة ، الفاسدة الكاسدة !
ومن الطبيعي أن تظل كغيرها عدوة لكل ما يمت للإسلام بصلة وإن تسابق المسلمون إلى اقتناء منتجاتها من الأجبان والأبقار !
هذه (الدنمارك) ظلت منذ عدة أشهر تسخر عبر صحفها ووسائل إعلامها من رسولنا الكريم ، ونبينا العظيم صلى الله عليه وسلم .
لا لشي إلا لأن بعض أبناء شعبها بدأوا يفكرون جدياً بالتخلي عن نصرانيتهم واعتناق الإسلام كغيرهم من شعوب العالم الذين أبهرتهم أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من تداعيات لا تخفى على أحد !!
فهي تريد بخبث ثني شعبها عن اختيار الدين الحقّ عبر حركة تشويه متعمد لشخص الرسول الكريم ورمز الإسلام الخالد عليه الصلاة والسلام !!
إنّ ما تقوم به الدنمارك وتؤيدها عليه النرويج وتسكت عنه بقية دول العالم النصراني يؤكد أنّ الحرب القائمة بين الإسلام والنصرانية في أفغانستان ، والشيشان ، والعراق حرب دينية عقدية وإن تبرقعت بغطاء مكافحة الإرهاب, أو تلفعت بمرط محاربة الدكتاتوريات في العالم !
أمة الإسلام ..هكذا يفعل النصارى الحاقدون مع نبينا صلى الله عليه وسلم ..وبعضنا ينادي بألا نقول للكافر ..يا كافر ..بل نقول له الآخر ..احتراماً لمشاعره ..ومراعاة لنفسيته !! فهل احترم هؤلاء نبينا ؟!! وهل قدروا مشاعر أمة المليار مسلم!! وهل راعوا نفسيات المسلمين !!
أيها المسلمون: هذه ليست أوّل مرة ينال فيها من مقام النبوة، أو يساء فيها إلى الجناب الكريم فقد صدر مثل ذلك من مستشرقين وصحفيين وفنانين وغيرهم كثيرين، ولكن جانب الفظاعة أن يصدر من إعلام أكثر من دولة أوربية تدعي احترامها وتمسكها بالقوانين الدولية والتي تنص على وجوب احترام الأديان . ثم هي ممارسات ظلت بشكل متكرر ودون أي اعتذار مع حجم المطالبات الفردية والشعبية ومن الأقليات والمراكز الإسلامية هناك ومن عدد من المنظمات والقيادات في بعض الدول الإسلامية
وهكذا يفعل النصارى الحاقدون مع رسولنا صلى الله عليه وسلم..
وبعضنا ينادي ألا نبغضهم ..ولا نظهر العداوة لهم !! وربنا يقول لنا : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ)) (الممتحنة:1).
وهكذا يفعل عباد الصليب بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ..وبعضنا يطالب بحذف الولاء والبراء من مناهجنا الدراسية..وننزعه من قلوبنا..لأننا في عصر الصفح والتسامح بين الأديان !!
بالله ماذا يبقى في الحياة من لذة يوم ينال من مقام محمد صلى الله عليه وسلم ثم لا ينتصر له ولا يذاد عن حياضه . ماذا نقول تجاه هذا العداء السافر , والتهكم المكشوف .. هل نغمض أعيننا , ونصم آذاننا , ونطبق أفواهنا .. لا وربي .. لا يكون ذلك ما دام في القلب عرق ينبض . والذي كرم محمداً وأعلى مكانته لبطن الأرض أحب إلينا من ظاهرها إن عجزنا أن ننطق بالحق وندافع عن رسول الحق . ألا جفت أقلام وشُلت سواعد جبنت عن تسطير أحرفٍ تذود بها عن حوضه صلى الله عليه وسلم وتدافع عن حرمته .
فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم فداء
إن هؤلاء يتكلمون عن النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي علّم البشرية تعظيم أنبياء الله وتوقير رسله:ففي ما أنزل عليه (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) [البقرة : 285] وأن الإيمان برسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – لا يصح ولا يقبل إلا مع الإيمان برسالة عيسى – عليه السلام- ومن سبقه من المرسلين.- وعندما كان اليهود يصفون المسيح بأقبح الأوصاف كان محمد – صلى الله عليه وسلم- يعلم البشرية: (إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) [آل عمران: 45]، (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ) [المائدة : 75].(12/265)
- وعندما كان اليهود يصفون المحصنة العذراء بأفحش الصفات كان محمد – صلى الله عليه وسلم- يعلّم البشرية: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) [التحريم ] وأين كلام ذلك الإعلام الجائر عن القتل وسفك الدماء هناك؟ أم هو الذعر المخرس من معاداة السامية، والمقاييس الانتقائية الجبانة، والتعصب الأعمى المقيت؟
- أين الكلام عن القتل الذي مارسته الكنيسة ضد المسلمين واليهود في الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش؟
-أين الكلام عن القتل وسفك دماء المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ في هيروشيما ونجازاكي وفيتنام والشيشان والأفغان والعراق وغيرها؟
-أين الكلام عن سفك الدماء الذي يمارسه اليهود ضد الأطفال والصبايا في فلسطين؟
-إن هؤلاء يصنعون الإرهاب ويقذفون بالنار إلى صهاريج الوقود ، فالنيل من جناب النبوة استفزاز واستنفار لكل مسلم، ودونه أبداً مهج النفوس، وفداه الأمهات والآباء، وإن جمرة الغضب التي يوقدها هؤلاء في قلب كل مسلم لا يمكن التنبؤ بالحريق الذي ستشعله ولا كيف ولا أين . وسيدفع هؤلاء برعونتهم هذه البشرية إلى أتون سعير متواصل من الصراعات والثارات .
عباد الله : ونحن إذ ندافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحمي بذلك ديننا وعقيدتنا , ونؤكد شيئاً من حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ..
إن مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيع برفعة الله له , لن ينال الشانئ منه شيئاً
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح : 4] قال مجاهد: لا أذكر إلا ذكرت معي , أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله . نعم لقد رفع الله ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم رغم أنوف الحاقدين والجاحدين , فهاهم المسلمون يصوتون باسمه على مآذنهم في كل مكان .
وشق له من اسمه كي يجله فذو العرش محمود وهذا محمد
والله تعالى قد تولى الدفاع عن نبيه صلى الله عليه وسلم (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج : 38], وأعلن عصمته له من الناس ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة : 67] وأخبر أنه سيكفيه المستهزئين (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : 95] سواء كانوا من قريش أو من غيرهم .
قال ابن سعدي رحمه الله: " وقد فعل تعالى , فما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة .أهـ أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل وابن مردويه بسند حسن والضياء في المختارة , عن ابن عباس في قوله ( إنا كفيناك المستهزئين ) قال: المستهزئون , الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عبطل السهمي والعاص بن وائل , فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرني إياهم , فأراه كل واحد منهم , وجبريل يشير إلى كل واحد منهم في موضع من جسده ويقول : كَفَيْتُكَهُ , والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما صنعت شيئا ! . فأما الوليد , فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً فأصاب أكحله فقطعها . وأما الأسود بن المطلب , فنزل تحت سمرة فجعل يقول: يابنيّ , ألا تدفعون عني؟ قد هلكت وطُعنت بالشوك في عينيّ فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً فلم يزل كذلك حتى عتمت عيناه . وأما الأسود بن عبد يغوث , فخرج في رأسه قروح فمات منها . وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منه . وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل من أخمص قدمه شوكة فقتلته .( الدر المنثور 5/101).
أيها المسلمون : لقد أعظمت قريش الفرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فرمته بالسحر تارة وبالكذب تارة وبالجنون أخرى , والله يتولى صرف ذلك كله عنه لفظاً ومعنىً , ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا ترون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم , يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً , وأنا محمد " , وهكذا هذه الرسومات التي نشرت على هذه الصفحات السوداء , هي قطعاً لا تمثل شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هي صور أملاها عليهم خيالهم الفاسد واعتمدها الشيطان ورسمها لهم سامريهم الأفاك! . أما محمد صلى الله عليه وسلم فوجهه يشع بالضياء والنور والبسمة والسرور ,لم يستطع أصحابه رضي الله عنهم أن يملئوا أعينهم منه إجلالاً له - وقد عاصروه - فكيف بمن لم يجمعه به زمان ولم يربطه به خلق ولا إيمان ؟!(12/266)
لقد جاء خبر الصدق من الملك الحق المبين (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر : 3] ليبقى كل شانئٍ للنبي صلى الله عليه وسلم وكل معارض لدينه هو الأبتر المقطوع المنبوذ. أين أبو جهل هل بقي ذكره أم التصق به وصف الجهل في حياته وبعد مماته؟! وأين أبو لهب لقد مات ومات ذكره فليس يعرف إلا باللهب؟! و(سيصلى ناراً ذات لهب) وأين ملوك الأكاسرة والقياصرة .. أين ماركس ولينين وستالين وهتلر وكمال أتاتورك جبابرة الأرض وجلادي الشعوب... لقد طمرتهم الأرض ونُسيت رسومهم, ولحقتهم اللعنات, وباءوا بثقل التبعات. لقد مزق كسرى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسخر من رسوله, فدعاء عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمزق الله ملكه, فمزق وقتل على يد أقرب الناس إليه – ابنه – وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس قال: "كان رجل نصراني, فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران , وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم , فعاد نصرانياً , فكان يقول : لا يدري محمد إلا ما كتبت له , فأماته الله , فدفنوه , فأصبح وقد لفظته الأرض , فقالوا : هذا فِعْل محمدٍ وأصحابه , نبشوا عن صاحبنا فألقوه , فحفروا في الأرض ما استطاعوا , فأصبح قد لفظته , فعلموا أنه ليس من الناس , فألقوه " . علَّق شيخ الإسلام ابن تيمية على الحديث فقال: فهذا الملعون الذي قد افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدري إلا ما كتب له , قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مراراً , وهذا أمر خارج عن العادة ’ يدل كل أحد على أن هذا كان عقوبة لما قاله , وأنه كان كاذباً ..الخ ويقول أيضا رحمه الله : " وإنَّ الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسَبَّه ، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد ، ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول ، أهل الفقه والخبرة، عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك،ثم يفتح المكان عنوة ، ويكون فيهم ملحمة عظيمة ، قالوا : حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه ، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه . وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل الغرب – يعني المغرب - حالهم مع النصارى كذلك.أهـ ( الصارم المسلول ص 116-117).
وبالمقابل فقد علم بعض ملوك النصارى أن إكرام كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي فيه الملك ما شاء الله . ذكر ابن حجر في فتح الباري ج1 ص44 عن السهيليُ أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيماً له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سِبطه ، فحدثني بعضُ أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب ، فلما رآه استعبر، وسأل أن يمكِّنه من تقبيله فامتنع.
ثم ذكر ابن حجر عن سيف الدين فليح المنصوري أن ملك الفرنج أطلعه على صندوق مُصفَّح بذهب ، فأخرج منه مقلمة ذهب ، فأخرج منها كتاباً قد زالت أكثر حروفه ، وقد التصقت عليه خِرقَة حرير ، فقال : هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر ، ما زلنا نتوارثه إلى الآن ، وأوصانا آباؤُنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا ، فنحن نحفظه غاية الحفظ ، ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا " اهـ.
عباد الله: إن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم لا تكاد تحصى كثرةً فهو منّة الله على هذه الأمة (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران : 164] امتدحه ربه ورفع منزلته فهو أول من تنشق عنه الأرض, وأول من يدخل الجنة , وله المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون , والحوض المورود واللواء المعقود.. إلى غير ذلك من الفضائل والخصائص التي اختص بها عن غيره , وهي مدونة في كتب الدلائل والشمائل والخصائص والفضائل , لقد شهد بفضل نبينا صلى الله عليه وسلم القاصي والداني والصديق والعدو , وأنَّى لأحد أن يكتم فضائله صلى الله عليه وسلم وهي كالقمر في ضيائها , وكالشمس في إشراقها وهو صلى الله عليه وسلم كا الشمس للدنيا وكالعافية للبدن.(12/267)
يقول الشيخ جمال الدين الصرصري والذي قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية ج6 ص299: الصرصري المادح , الماهر , ذو المحبة الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم , يشبه في عصره بحسان بن ثابت رضي الله عنه وقد قتله التتار حينما دخلوا بغداد سنة 656هـ. يقول:
محمد المبعوث للناس رحمةً *** يشيِّد ما أوهى الضلال ويصلح
لئن سبَّحت صُمُّ الجبال مجيبةً *** لداود أو لان الحديد المصفح
فإن الصخور الصمَّ لانت بكفه *** وإن الحصا في كفه ليُسَبِّح
وإن كان موسى أنبع الماء بالعصا *** فمن كفه قد أصبح الماء يَطفح
وإن كانت الريح الرُّخاءُ مطيعةً *** سليمان لا تألو تروح وتسرح
فإن الصبا كانت لنصر نبينا *** ورعبُ على شهر به الخصم يكلح
وإن أوتي الملكَ العظيم وسخِّرت *** له الجن تسعى في رضاه وتكدح
فإن مفاتيح الكنوز بأسرها *** أتته فرَدَّ الزاهد المترجِّح
وإن كان إبراهيم أُعطي خُلةً *** وموسى بتكليم على الطور يُمنح
فهذا حبيب بل خليل مكلَّم *** وخصِّص بالرؤيا وبالحق أشرح
وخصص بالحوض الرَّواء وباللِّوا *** ويشفع للعاصين والنار تَلْفح
وبالمقعد الأعلى المقرَّب ناله *** عطاءً لعينيه أَقرُّ وأفرح
وبالرتبة العليا الوسيلة دونها *** مراتب أرباب المواهب تَلمح
ولَهْوَ إلى الجنات أولُ داخلٍ *** له بابها قبل الخلائق يُفْتَح
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم)ٌ [التوبة 8]
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه..
أيها المسلمون: ويتساءل الجميع ما واجبنا وما هو دورنا المطلوب
إن على كل مؤمن يحب الله ورسول صلى الله عليه وسلم ويغار لدينه أن ينتصر لرسوله وأن يقدم كل ما في وسعه لرد هذه الهجمة الشرسة .وعلى الدول الإسلامية أن تهب لنصرة نبيها وأن تستنكر ذلك أشد الاستنكار وأن تطالب مطالبة جادة برد الاعتبار ومعاقبة تلك الشرذمة الأفاكة رعاية لحق من أهم حقوقها. وعلى المؤسسات أن تقوم بدورها من خلال كتابة بينات تستنكر فيه هذا الفعل المشين وتطالب بمحاكمة هذه المجلات , رداً لاعتبار أكثر من مليار وأربعمائة مليون مسلم ! , ثم على المؤسسات والصحف والمجلات والمواقع الإسلامية وأهل الفكر والقلم أن يكتبوا ردودا على هذه الافتراءات,وأن تسطر على صفحاتها- بقلم يسيل عطراً- شمائل النبي صلى الله عليه وسلم وأن تبين الدور العظيم الذي قام به صلى الله عليه وسلم لإنقاذ البشرية وأنه أُرسل( رحمة للعالمين ) وهداية للناس أجمعين . وعلى أهل المال والثراء أن يبذلوا مما أعطاهم الله لدعم تلك المواقف وإنشاء مواقع إلكترونية خاصة بشمائل هذا النبي الكريم وربط الأجيال بهديه وسنته والدفاع عنه وكذا تمويل طباعة الكتب المتحدثة عنه وعن سيرته وتسهيل توزيعها وكذلك السعي لإنشاء قنوات إسلامية متخصصة بالرحمة المهداة وسيرته وسننه وشمائله وعلى المعلمين والتربويين وأهل العلم والفكر أن يستثمروا هذا الحدث بربط الجيل والأمة بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وإشاعة ثقافة السنة والسيرة في كل مجال ومناسبة.
ويا مسلمون ويا أرباب التجارة والمال أوقفوا كل التعاملات التجارية مع الدنمارك، حتى يتم الاعتذار علنياً ورسمياً من تلك الصحيفة، وتذكروا أن المال زائل ، لكن المآثر باقية مشكورة في الدنيا والآخرة، وأعظمها حب رسول الله صلى الله عليه وسلم والانتصار له، ولكم أسوة في الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، في موقفه الحازم من أبيه، عندما آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه أجبر أباه على الاعتذار من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا منعه من دخول المدينة ، في الحادثة التي سجلها القرآن الكريم :
((يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) (المنافقون : 8) .
وثبت أنَّ المنافق عبد الله بن أُبيِّ بن سلول تكلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام قبيح ، حيث قال : " والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ..فعلم ولده عبد الله بذلك فقال لوالده: والله لا تفلت حتى تقر أنك أنت الذليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز!!
فهل يستجيب رجال الأعمال ..لهذا الواجب في الغيرة لنبيهم صلى الله عليه وسلم ؟
وهل يكفُّون عن التعامل التجاري والاستيراد مع الدنمارك حتى يتم تقديم الاعتذار الرسمي، واشتراط عدم تكرار هذه الجريمة.
وأنتم أيها المسلمون.. أتعجزون عن مقاطعة منتجاتهم.. غيرة لنبيكم صلى الله عليه وسلم؟! حتى يعلم أولئك الأوغاد أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنصاراً؛ لا يرضون أن يدنس جنابه.. أو أن يمس بسوء عرضه.. ودون ذلك حزُّ الرءوس.(12/268)