لقد أشعلت الرسومات فتيل الغضب لأنها جاءت كتعبير عن مصطلح الحساسية، فينما يحق لكل مواطن دنمركي مسلم أو غير مسلم أن يغضب لحرق العلم في غزة وبيروت ودمشق، لا يحق للمسلم أن يبدى اعتراضه حول أمر يمس جوهر إيمانه ولا أن يفصح عن ألمه لما يعتبره إهانة لنبيه، ويبدو أنه قد أخطأ بتصوره أن حقوقه محفوظة في بلاد الديموقراطية.
ثالثاً: عندما بادرت وزارة الخارجية باستضافة الداعية الأمريكي حمزة يوسف لم تكن تدري أنها قد حققت أهم أهداف لجنة النصرة وهو الانفتاح على العالم الإسلامي فقد سبق لمسلمي الدنمرك تقديم مقترحات فكرية وثقافية إلى جامعات الدنمرك يشارك فيها أساتذة الجامعات المسلمون، فهل قصد وزارة الخارجية بزيارة حمزة يوسف إجراء جراحة سريعة وسطحية لتجميل وجه الدنمرك؟ أم أنها تقصد إجراء جراحة عميقة حقيقية لاستئصال غدد الحساسية تجاه الإسلام والمسلمين التي تضخمت وتورمت؟
وآن لنا أن نسأل من هم الدنمركيون الجدد ذوو الخلفية الإسلامية؟ لدينا أيضاً أربعة مصطلحات، هل هم:
(1) ضيوف وسائحون أم(2) غزاة ومقتحمون أم(3) شركاء [في شئون التجارة والصناعة] أم(4) مواطنون.
فإذا كانت إجابتنا هي الأخيرة أي أنهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، فلماذا تعالج وزارة الخارجية الخطأ بخطأ آخر؟ ولماذا تتهرب من التعامل مع المواطنين المسلمين وتفضل التحاور مع المسلمين السائحين؟ نحن نطرح الأسئلة ونترك الإجابة ليتحمل كل عاقل ومنصف في هذا البلد مسئولية المشاركة في صياغتها، لأننا أمام مشكلة لا يليق أن ندعها تتضخم إلى أزمة ثم تستفحل إلى كارثة والعياذ بالله، وليس هدف الجالية تحويل الدنمرك إلى مجتمع متعدد الثقافات محاكاة لنموذج الولايات المتحدة الأمريكية، بل أقصى ما تطمح إليه أن تتعامل مع ثقافة دنمركية موحدة تكون الديمقراطية فيها ذات مكيال واحد وليست ذات مكيالين.
ليس لنا أن نرى المشكلة - بعين التفاؤل والإيجابية- إلا كحادثة مرور فيها دخان وغبار وسينقشع الدخان ويترسب الغبار وعندما تهدأ النفوس وتخمد الانفعالات من مفاجأة الصدمة ستظهر الصورة واضحة من عدسات الأقمار الصناعية:
(1) إن الدنمرك هي دولة جزء من هذا العالم.
و(2) إن الشعب الدنمركي لا يجب أن يوصف إلا بأنه شعب طيب متسامح.
و(3) أن الإسلام هو جزء من تاريخ البشرية ومن واقع العالم ومن تراث الحضارات الراقية لا يصح تجاهله.
و(4) أن الدنمركيون الجدد هم مواطنون صالحون جنسيتهم دنمركية وعقيدتهم إسلامية لا أكثر ولا أقل.
اللجنة الأوروبية لنصرة خير البرية
=================================
صرخةٌ دوَّت فضجَت منها مسامعي ...
وأفجعتْ قلبي .. ففزعتُ من نومي وتلاشت كلُ الأحلام ِِ..
وأخذتُ أُقلَبُ رأسي.. وأنظرُ من ذا الذي بصراخِهِِ أفجعني والناسُ نيام ..
إنه يصيح ويبكي كالأيتام ِِ ..
أطرقتُ أنصتُ لنحيبهِ ..من أينَ مصدرُه يا ترى ؟!
فإذا بصرخةٍ أُخرى تهز ُ تلك َ الأدراج ِ .. وتُرجِفُ في بيتي كلَ الأركان ِ ..
فبادرتُ إليها مسرعاً .. وفتحتُها .. فإذا بدفاتري وأوراقي مضطربة وكأن بها زلزالٌ .. بل بُركان ..
بعضُها فوقَ بعضِ .. من تحتِها حبرٌٌ يسيلُ سيلانَ دموع ِِ الأحزان ِِ ...
وإذا بصوت ِ الأنين ِ يزيد ُ ..!؟
فَهُلِع قلبي .. وَذُهِل عقلي .. وأرتجفَ جسمي .. ما الذي يجري ..!؟
أيعقل ُ تحت َ الورق ِ مصدرُ البكاء ِ ..!؟
كيف َ ذلك وكل َ ما في أدراجي جماد في جماد .!!
تمالكتُ نفسي .. وكتمت ُ أنفاسي .. ورفعت ُ أوراقي ...فزاد َ البكاء ُ ...!
فيالله ... يا الله .. يا الله .. أيعقل ُ !! إنه قلمي هو البكّاء ُ ..؟
يا الله هذا الجماد ُ ما أبكاهُ ..؟
وهذا الحبر ُ ما أجراهُ..؟
فرفعتُه وضممتُه بين كفي أواسيه وأرعاه ؟
وحبره يسيلُ على يدي .. وقطراتٌ من حبرِه تتساقطُ على أوراقي...؟
فلمَّا هدأ
سألتُه :
يا قلمي قل لي بالذي خلق القلم ما الذي أبكاكَ..؟
يا قلمي ما الذي بعث فيك الأحزانُ ؟
يا قلمي ما الذي حرك فيك الأشجانُ ؟
قال القلم :
ضمَني بيدك .. فقد أعياني الصمت ُ فيك..
ضمني وأسكبْ الحبر َ على الورق ِ ...
ودعْ الحروف َ تخط ُ الآهات ِ التي فيني ..
ودعْ كلماتي تنطقُ بما يُبكيني ...
ودع عباراتي تبوح بما يكويني ..
قد هالني أمره .. وأفزعني حسه .. وأحزنني دمعه ..
فأدنيت ُ مني الورق .. وأمسكت بقلمي الذي من هول ما فيه أحترق ..
فقلت له متعجباً :
عجباً لك يا جمادُ ..! كيف لك أن تُحِسَّ كما يحسُّ العباد ُ ..!؟
فقال :
آآه ثم آآه وكيف َ لا أُحسُّ .. وكيف َ لا أبكي .. وكيفَ لا أحزن .. وكيفَ لا أغاااارُ يا أمة َ المليارِ
لا تَعْجبْ مني وإن كنت ُ جماداً..!
فأنا أبكي حبيباًَ تحركت من أجله الأرضُ .. والأشجارُ .. والدوابُ..
أبكي حبيباً من أجله بكى جذعُ منبرهِ حنيناً لفراقِه وما سكت َ وما استكان َ حتى ضمَّه واعتنقًه ..أوليسَ جماداً !؟
أبكي حبيباً في كفِهِ الطاهرِ سبَّحَ الحصى ..أوليسَ جماداً !؟(11/100)
أبكي حبيباً أمامَه نطقَ الذراع ُ خوفاًَ عليه وقال إني مسمومٌ فلا تأكلني..أوليس الطعامُ جماداً !؟
أبكي حبيباً من أجله نطقَ الحجرُ والشجرُ يُلقونَ عليه السلام َ...أوليسوا جمادا !؟
هل يكفي هذا ؟ أم أزيدُ يا كاتبي .. لتعرفَ من لأجلِهِ تحركَ إحساسي .. ونطقتْ من أجلِه كلماتي ...
وصرخت ُ أنثرُ أحباري .. يا أيها الراقدُ في المنام ِ..؟
فقلت له :
وكيف لا أعرفُهُ وأنا من هديِهِ أرتوي ..
ومن سنتِه أقتفي ..
ومن سيرتِه أستقي ..
إنه الحبيب ُ .. إنه المختارُ .. إنه المصطفى ... إنه محمد عليه أفضل ُ صلاةٍ وأتم ُ تسليم ٍ ...
رسولُنا الذي زوى الله له الأرضَ حتى رأى مشرقَها ومغربَها بعضَها فوق بعضٍ...
هو قدوتُنا وأسوتُنا ومعلمُنا ومرشدُنا وقائدُنا وأستاذُنا لقد أبكيتني يا قلمُ ..وزدتني شوقاً إليه..
فإذا به ينظر إلي بحرقةٍ
فسألته :
هل من خطبٍ جديدٍ؟
فعادَ يكتبُ ويقول:
أوما سمعتَ يا كاتبي عن الذين منه يسخرون .!؟
أوما سمعتَ عن الذين من دينه يستهزؤون..!؟
أوما علمتَ عن الذين بأقبح ِ الأوصاف ِ له يرسمون ..؟
قاطعته وقلت :
بلى بلى يا قلمي
قرأت ُ وسمعت ُ عن البقر ِ ..! عفواً عن رعاة ِ البقر ِ وهم أضلُُ من البقر ِ..!؟
فقال لي متهجماً :
أوماااااااااااااااااااا تغارررررررر يا واحداً من المليار ... وتثأر لحبيبك من هؤلاءِ الكفار..؟
أوما سمعتَ أن شيخاً يقول ُ بأنه رأى الحبيب َ المصطفى في المنام ِ غضبانٌ على من سكت َ وما غارَ وما ثارَ ؟
وأنه تبسم لمن ناصرَه وآزرَه..؟
طأطأت ُ رأسي حينها...وسالت من عينيَّ دمعاتٌ ...
وخرجت من نفسي آهات ٌ وزفراتٌ ...
ونظرتُ إليه بِطرْف ِ عيني ثم نطقت ُ
أقول..:
آآآهِ يا قلمي ...ثم آآه...على تلك الأقلام ِ...
إني والله ِ لأشدُّ غضباً من هؤلاء ِ الأقزام ِ...
ولكن أنت يا قلمي المُلام ...
أوما سمعتَ عن الذين سبُوا الإلهَ قبلَ رسولِنا ... ونالوا من شرعِنا في ما مضى من الأيام ِ..؟
أو ما قرأتَ حروفَهم .. أوما سمِعت َ كلامهم.. أوما رأيت نعيقَهم .. عبرَ وسائل ِ الإعلام ِ.؟
سخِروا من الباري
واستهزؤوا برسولِنا الهادي
وضحكوا من ديني الغالي
ومزقوا قرأني
حتى قال أحدهم ..(( الله والشيطان وجهان لعملة واحدة )) ...
أين أنت من بني علمان ؟ ... أين أنت ممن يلبس ُ لباسَ الإسلامِ وهم فيهم يطعنون ليلَ نهار..؟
أين أنت من أؤلئك الذين
بكفرِ صحابة ِ رسولنا يُصرَحون
وبالشرك يصدعون ..
وبالسخرية والاستهزاء من السنة ِ يصدحون ..؟
وفي أمهات ِ المؤمنين يطعنون ؟
فجأة نظرتُ إليه بحدةٍ
وقلتُ:
ما بك يا قلم اِكتب .. تكلم .. لمَ السكوت ُيا صاحبَ الغيرة ؟
فقال :
ماذا عساي أن أقول .. لقد أفحمتني .. وأحييت في قلبي الجراح ..
وأصابني اليأس من تكالب الأعداء من كل ِ حدبٍ وصوب ٍ
قاطعته مرتلاً وبصوت الواثق
وقلت :
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } (110) سورة يوسف
وقلت له لا تيأسْ يا قلم ما دام فينا أميرٌ يستدعي
وعالم ٌ يفتي ..
وداعية ٌيوجه ..
وخطيب ٌ ينادي ..
وشاعر ٌ ينظم ..
وتاجرٌ يقاطع ..
ومنشدٌ يشدو..
وامرأة ٌ تربي ..
وإعلام ُ مجدٍ للمجد ِ يرنو ويرقى..
ولا تحزن فالخير في أمتنا باقٍ وإن غَفَل َ الكثيرُ .. وقام لنصرته القليل ُ ..
فضمني يا قلمي بقوة ٍ .. وشُدَّ من أزري كما شددت ُ عليك كفي ...
واكتب للناس ِ أجمعين إننا للعزة ِقادمون .. وللنصر ِ متهيئون ..
وأبشَرك يا قلمي .. أنا ومن معي من الدعاة ِ لن نسكت َ على رعاة ِ الأبقار
لن ننسى ما يخططه بنو علمان والمنافقون الفجار
ولن تستكين نبضات قلوبنا حتى نرى ذلة الكفار ...
وستطلق نبضات قلوبنا التي هتفت بحب الله ورسوله حملة شعارها
...(( المليار مع محمد ))...
من موقع نبض الوفاء
ضد َحملة ِ المليون التي أطلقوها ... لتشويه صورة أشرف الخلق محمد صلى الله وعليه وسلم
وبذلوا لها الغالي والنفيس ليصدوا عن سبيل الله
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (36) سورة الأنفال
فكما حشدوا مليون منصّر ٍ لتشويه صورةِ رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم
سنحشد بإذن الله مليارَ داعية ٍ .. يتبعون ملة محمدٍ .. ويتخلقون بخلق ِ محمد ٍ ..
ويعيشون حياة َ محمد ٍ..
ويجاهدون جهاد َ محمد ٍ ... ويأخذون سنةَ محمد ٍ... ويتشبهون بشكل ِ محمد ٍ .. وينصرون محمداً..
وما حادثة ُ الدنمارك إلا واحدةً مما يخططون له .. ولكنها أيقظت العملاقَ في نفوسِنا ..
ولعلها تكون ُ بداية َ الانطلاقة ِ ...
فاملأ الحبر يا قلمُ ... وأستعد للتصدي لكل ناعق ٍ ... وكن للخير سابقاً ...
وللشر ساحقا ..(11/101)
لعلك تكون ُ سبباً في رضى الرحمن ِ .. فيدخلني الجنان ..
كتبه أخوكم المحب / أبو زيد
مدير عام نبض الوفاء
29\12\1426هـ ...
==========================
صفة مزاح النبي صلى الله عليه وسلم
إن الإسلام دين واقعى لا يحلق فى أجواء الخيال والمثالية الواهمة، ولكنه يقف مع الإنسان على أرض الحقيقة والواقع .. ولا يعامل الناس كأنهم ملائكة، ولكنه يعاملهم كبشر يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق.
لذلك لم يفرض الإسلام على الناس أن يكون كل كلامهم ذكراً، وكل سماعهم قراناً، وكل فراغهم فى المسجد، وإنما اعترف بهم وبفطرتهم وغرائزهم التى خلقهم الله عليها، وقد خلقهم – سبحانه – يفرحون ويمرحون ويضحكون ويلعبون، ولقد كانت حياة النبى صلى الله عليه وسلم مثالاً رائعاً للحياة الإنسانية المتكاملة، فهو فى خلوته يصلى ويطيل الخشوع والبكاء، ويقوم حتى تتورم قدماه، وهو فى الحق لا يبالى بأحد فى جنب الله، ولكنه مع الحياة والناس بشر سوى، يحب الطيبات ويبش ويبتسم ويداعب ويمزح ولا يقول إلا حقاً
ولذا فلا عجب أنه صلى الله عليه وسلم كان يتفكه حيناً ويطرف للفكاهة والمزاح – الذى لا يحمل إثماً – أحياناً، فلم يكن النبى صلى الله عليه وسلم فى حياته جافاً ولا قاسياً ولا فظاً ولا غليظاً، وإننا عند استعراض سيرته وحياته صلى الله عليه وسلم نجدها قد تخللها نوع من الدعابة والمزاح.
كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول فى مزاحه إلا الحق، ووردت لنا أحاديث كثيرة فى ذلك منها:
1- ما جاء عن أبى هريرة – رضى الله عنه – قال: قالوا (أى الصحابة): "يا رسول الله إنك تداعبنا ! قال صلى الله عليه وسلم: لا أقول إلا حقاً"، وفى رواية: "إنى وإن داعبتكم فلا أقول إلا حقاً".
وفى رواية ابن عمر – رضى الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنى لأمزح ولا أقول إلا حقاً".
ويطيب لنا أن نذكر بعض آراء علماء المسلمين فى هذه المسألة: فنجد أن الإمام الغزالى – رحمة الله – قد تكلم فى هذه المسألة، وهى صفة مزاحه صلى الله عليه وسلم ويشرحها بقوله: "فإن قلت: قد نقل المزاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكيف ينهى عنه؟ فأقول: إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقاً، ولا تؤذى قلباً، ولا تفرط فيه، وتقتصر أحياناً على الندور فلا حرج عليك، ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة يواظب عليه ويفرط فيه، ثم يتمسك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينبغى أن يغفل عن هذا ...".
وقال الإمام ابن حجر الهيثمى: "إن المداعبة لا تنافى الكمال؛ بل هى من توابعه ومتمماته إذا كانت جارية على القانون الشرعى، بأن تكون على وفق الصدق والحق، ويقصد – بها – تأليف قلوب الضعفاء وجبرهم، وإدخال السرور عليهم والرفق بهم، ومزاحه صلى الله عليه وسلم سالم من جميع هذه الأمور، يقع على جهة الندرة لمصلحة تامة، من مؤانسة بعض أصحابه، فهو بهذا القصد سنة، وما قيل: إن الأظهر أنه مباح لا غير فضعيف، إذ الأصل من أفعاله صلى الله عليه وسلم وجوب أو ندب للتأسى به فيها إلا لدليل يمنع من ذلك ولا دليل هنا يمنع منه، فتعين الندب كما هو مقتضى كلام الفقهاء والأصوليين".
وكان صلى الله عليه وسلم يعرف بذلك ويقر به ويبيح المزاح بحضرته صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أنه كان عائشة – رضى الله عنها – تمزح، والنبى صلى الله عليه وسلم جالس ولا ينكر ما تقوله، بل كان يوافقها.
فعن ابن أبى مليكة قال: "مزحت عائشة – رضى الله عنها – عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت أمها: يا رسول الله! بعض دعابات هذا الحى من كنانة"، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: بل بعض مزاحنا هذا الحى".
صور من مزاح النبى صلى الله عليه وسلم
1- مزاحه صلى الله عليه وسلم بالأفعال:
كان النبى صلى الله عليه وسلم يمازح صحابته بأفعاله وأقواله، فمن نماذج مزاحه بأفعاله:
مزاح النبى صلى الله عليه وسلم وزاهر بن حرام – رضى الله عنه -:
تحكى كتب السنة لنا ما دار بين النبى صلى الله عليه وسلم وزاهر بن حرام، وكان من الصحابة الذين يبعثون الهدايا للنبى صلى الله عليه وسلم، ولندع أنساً – رضى الله عنه – يروى لنا هذه الدعابة:(11/102)
عن أنس – رضى الله عنه - : "أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام وكان يهدى للنبى صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يحبه وكان دميماً فأتاه النبى صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: أرسلنى من هذا؟ فالتفت، فعرف النبى صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبى صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبى صلى الله عليه وسلم يقول: من يشترى العبد؟ فقال: يا رسول الله إذاً والله تجدنى كاسداً، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لكن عند الله لست بكاسد أنت غال، وفى رواية: أنت عند الله رابح".
مع عائشة – رضى الله عنها - :
كان صلى الله عليه وسلم يقطع ملل الحياة الزوجية ببعض المزاح لترفيه عن أهله، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يسابق بعض زوجاته:
فعن عائشة – رضى الله عنها - : "أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر، وهى جارية، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال: تعالى أسابقك، فسابقته، فسبقته على رجلى، فلما كان بعد، خرجت معه فى سفر، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال: تعالى أسابقك، ونسيت الذى كان وقد حملت اللحم، فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله، وأنا على هذه الحال؟ فقال: لتفعلن، فسابقته فسبقنى، فقال: هذه بتلك السبقة".
مع الأطفال:
حتى الأطفال كان صلى الله عليه وسلم يمازحهم ويشاركهم لعبهم:
فروى عن عبد الله بن الحارث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف عبدالله وعبيد الله وكثير بن العباس ثم يقول: "من سبق إلى فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم".
مع رجل من الأنصار:
كان الأنصار – رضى الله عنهم – يتمازحون ويتضاحكون، ويحكى لنا أسيد بن حضير ما حدث بين النبى صلى الله عليه وسلم ورجل منهم:
صلى الله عليه وسلم
سلمان بن فهد العودة
لم يكتب لأحدٍ من البشر من الأثر والخلود والعظمة ما كتب لصاحب النسب الشريف - صلى الله عليه وسلم- .
ولقد دونت في سيرته الكتب ، ودبجت في مديحه القصائد، وعمرت بذكره المجالس ، وبقيت عظمته قمة سامقة لاتطالها الظنون .
تقلبت به صروف الحياة من قوة وضعف ، وغنى وفقر ، وكثرة وقلة ، ونصر وهزيمة ، وظعن وإقامة ، وجوع وشبع ، وحزن وسرور ، فكان قدوة في ذلك كله، وحقق عبودية الموقف لربه كما ينبغي له .
ظل في مكة ثلاث عشرة سنة ، وما آمن معه إلا قليل ، فما تذمّر ولا ضجر ، وجاءه أصحابه يشتكون إليه ويسألونه الدعاء والاستنصار فحلف على نصر الدين وتمام الأمر ، وأنكر عليهم أنهم يستعجلون ، فكان الأمر كما وعد ، علماً من أعلام نبوته ، ونصراً لأمر الله ، لا للأشخاص .
وكان من نصره أن تأتيه وفود العرب من كل ناحية مبايعة على الإسلام والطاعة فما تغير ولا تكبّر ، ولا انتصر لنفسه من قوم حاربوه وآذوه وعاندوا دينه .
كما كان يقول أبو سفيان بن الحارث :
لعمرك إني يوم أحمل راية ... ...
لتغلب خيل اللات خيل محمدِ
لكالمدلج الحيران أظلم ليله ... ...
فهذا أواني حين أهدى وأهتدي
هداني هادٍ غير نفسي ودلني ... ...
على الله من طردته كل مطرد
وما حملت من ناقة فوق ظهرها ... ...
أبر وأوفى ذمة من محمد
فاستل العداوات ، ومحا السخائم ، وألّف القلوب ، وأعاد اللُّحمة ، وعرف عدوُّه قبل صديقه أنها النبوة ، وأنه لم يكن صاحب طموح شخصي ولا باني مجد ذاتي ، وإن كان الطموح والمجد لبعض جنوده .
تعجب من عفويته وقلة تكلفه في سائر أمره ، واحتفاظ شخصيته بهدوئها وطبيعتها وتوازنها مهما تقلبت عليها الأحوال، واختلفت عليها الطرائق .
قل إنسان إلا وله طبعه الخاص الذي يبين في بعض الحال ويستتر في بعض ، ويترتب عليه استرواح لقوم دون آخرين ، ويحكم العديد من مواقفه وتصرفاته حاشاه -صلى الله عليه وسلم- .
فهو يُقْبِل بوجهه على كل جليس ، ويخاطب كل قوم بلغتهم ، ويحدثهم بما يعرفون ، ويعاملهم بغاية اللطف والرحمة والإشفاق ، إلا أن يكونوا محاربين حملوا السلاح في وجه الحق ، وأجلبوا لإطفاء نوره وحجب ضيائه .
كل طعام تيسر من الحلال فهو طعامه ، وكل فراش أتيح فهو وطاؤه ، وكل فرد أقبل فهو جليسه .
ما تكلف مفقوداً ، ولا رد موجوداً ، ولا عاب طعاماً ، ولا تجنب شيئاً قط لطيبه ، لا طعاماً ولا شراباً ولا فراشاً ولا كساءً، بل كان يحب الطيب، ولكن لا يتكلفه .
سيرته صفحة مكشوفة يعرفها محبوه وشانئوه ، ولقد نقل لنا الرواة دقيق وصف بدنه ، وقسمات وجهه ، وصفة شعره ، وكم شيبة في رأسه ولحيته ، وطريقة حديثه ، وحركة يده ، كما نقلوا تفصيل شأنه في مأكله ، ومشربه ، ومركبه ، وسفره ، وإقامته ، وعبادته ، ورضاه ، وغضبه ، حتى دخلوا في ذكر حاله مع أزواجه أمهات المؤمنين في المعاشرة ، والغسل ، والقسم ، والنفقة ، والمداعبة ، والمغاضبة ، والجد، والمزاح ، وفصلوا في خصوصيات الحياة وضروراتها .(11/103)
ولعمر الله إن القارئ لسيرته اليوم ليعرف من تفصيل أمره ما لا يعرفه الناس عن متبوعيهم من الأحياء ، ومالا يعرفه الصديق عن صديقه ، ولا الزوج عن زوجه ، ولا كان أهل الكتاب يعرفونه شيئاً يقاربه أو يدانيه عن أنبيائهم وهم أحياء ؛ وذلك لتكون سيرته موضع القدوة والأسوة في كل الأحوال ، ولكل الناس.
فالرئيس والمدير والعالم والتاجر والزوج والأب والمعلم والغني والفقير ...
كلهم يجدون في سيرته الهداية التامة على تنوع أحوالهم وتفاوت طرائقهم .
والفرد الواحد لا يخرج عن محل القدوة به -صلى الله عليه وسلم- مهما تقلبت به الحال ، ومهما ركب من الأطوار، فهو القدوة والأسوة في ذلك كله.
وإنك لتقرأ سيرة علم من الأعلام فتندهش من جوانب العظمة في شخصيته فإذا تأملت صلاحيتها للأسوة علمت أنها تصلح لهذا العلم في صفته وطبعه وتكوينه ، ولكنها قد لا تصلح لغيره .
ولقد يرى الإنسان في أحوال السالفين من الجلد على العبادة ، أو على العلم ، أو على الزهد ما يشعر أنه أبعد ما يكون عن تحقيقه حتى يقول لنفسه :
لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم ... ...
ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ
فإذا قرأ سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحس بقرب التناول وسهولة المأخذ ، وواقعية الاتباع .
حتى لقد وقع من بعض أصحابه ما وقع فقال لهم : " أنا أخشاكم لله ، وأتقاكم له، وأعلمكم بما أتقي".
وقال :" اكلفوا من العمل ما تطيقون " .
وقال : " إن هذا الدين يسر ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ، والقصدَ القصدَ تبلغوا ".
ولهذا كان خير ما يربى عليه السالكون مدارسة سيرته وهديه وتقليب النظر فيها وإدمان مطالعتها واستحضار معناها وسرها ، وأخذها بكليتها دون اجتزاء أو اعتساف .
إن الله -عز وتعالى- لم يجعل لأحد وراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المنصب الشريف : منصب القدوة والأسوة ؛ لأنه جمع هدى السابقين الذين أمر أن يقتدي بهم " فبهداهم اقتده " إلى ما خصه الله -تعالى- وخيَّره به من صفات الكمال ونعوت الجمال ، ولهذا قال -سبحانه- : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ".
إن حياته -صلى الله عليه وسلم- وحياة خلفائه الراشدين هي المذكرة التفسيرية والترجمة العلمية لنصوص الشريعة .
ومن الخير أن تظل هذه السيرة بواقعيتها وصدقها محفوظة من تزيد الرواة ، ومبالغات النقلة التي ربما حولتها إلى ملحمة أسطورية تعتمد على الخوارق والمعجزات ، وبهذا يتخفف الناس من مقاربتها واتباعها ليكتفوا بقراءتها مع هزِّ الرؤوس وسكب الدموع وقشعريرة البدن .
إن الآيات التي تأتي مع الأنبياء حق ، لكنها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ، والقاعدة هي الجريان مع السنن الكونية كما هي .
وكثيرون من المسلمين ، وربما من خاصتهم يستهويهم التأسي بالأحوال العملية الظاهرة في السلوك والعبادة وغيرها ، فيقتدون به -صلى الله عليه وسلم- في صلاته " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحجّه " خذوا عني مناسككم " وسنن اللباس والدخول والخروج …
وهذا جزء من الاتباع المشروع ، بيد أنه ليس كله ، ولا أهم ما فيه ، فإن اتباع الهدي النبوي في المعاملة مع الله تعالى ، والتجرد والإخلاص ، ومراقبة النفس ، وتحقيق المعاني المشروعة من الحب والخوف والرجاء أولى بالعناية وأحق بالرعاية ، وإن كان ميدان التنافس في هذا ضعيفاً ؛ لأن الناس يتنافسون –عادة- فيما يكون مكسبة للحمد والثناء من الأمور الظاهرة التي يراها الناس ، ولا يجدون الشيء ذاته في الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلا الله ، وربما تحرى امرؤ صفة نبوية في عبادة أو عمل واعتنى بها وتكلف تمثلها فوق المشروع ، دون أن يكلف نفسه عناء التأمل في سر هذه الصفة وحكمتها وأثرها في النفس .
وهذه المسائل ، حتى التعبدية منها ؛ ما شرعت إلا لمنافع الناس ومصالحهم العاجلة والآجلة ، وليست قيمتها في ذاتها فحسب ، بل في الأثر الذي ينتج عنها فيراه صاحبه ويراه الآخرون .
وإنه لخليق بكل مسلم أن يجعل له ورداً من سيرة المصطفى -عليه السلام- ، إن كان ناشئاً فمثل ( بطل الأبطال ) لعزام، وإن كان شاباً فمثل ( الشمائل المحمدية ) لابن كثير أو الترمذي ، و ( الفصول ) لابن كثير ، أو ( مختصر السيرة ) أو ( الرحيق المختوم ) أو ( تهذيب سيرة ابن هشام ) وإن كان شيخاً فمثل ( سيرة ابن هشام ) أو ( ابن كثير ) وإن كان متضلعاً بالمطولات فمثل ( سبل الهدى والرشاد ) وكتاب ( نضرة النعيم ) .
رزقنا الله حب نبيه وحسن اتباعه ظاهراً وباطناً وحشرنا في زمرته مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
===============================
صمت القبور على أفعال الفاتيكان!
د. محمد يحيى(11/104)
في هدوء شديد، وبدون أن تجرؤ أجهزة الإعلام العربية على نشر أي تلميح عنه ولو من بعيد؛ نشر الفاتيكان بيانًا موجهًا إلى السيدات أو النساء الكاثوليكيات يحذرهن من الزواج بالمسلمين لأنهن بذلك يعرضن أنفسهن لخطورة انتهاك حقوقهن الإنسانية والاضطهاد، لاسيما إذا انتقلن للعيش مع أزواجهن في البلاد الإسلامية، ولم ينس البيان أن يدعو المسلمين إلى إدخال مبادئ المساواة بين الرجال والنساء.. جاء هذا الخبر منذ أسابيع في محطة (الجزيرة) الفضائية ولم تجرؤ الصحف العربية على نشره كما قلنا. الفاتيكان محق فيما يفعله من تجهم على المسلمين وعلى سلوكياتهم لأنه يعرف مسبقًا أن أحدًا لن يجرؤ على الرد عليه وأن الرؤساء المعنيين للمؤسسات العربية الإسلامية هنا وهناك سوف تكمم أفواههم عن الرد على الفاتيكان المعظم، هذا إذا أرادوا أصلاً أن يردوا ولم يكونوا يميلون إلى رأي الفاتيكان الذي أصبحت له عندهم قدسية طاغية ومرجعية عليا، والفاتيكان يعلم أن هؤلاء مشغولون الآن بالحديث حول الحوار مع الآخر وليس بالدفاع عن دينهم وعقيدتهم، والفاتيكان محقٌّ كذلك في طلب الامتناع عن زواج الكاثوليكيات من المسلمين؛ لأن الفاتيكان يعيش الآن في حالة عدم الاستقرار ووضع صعب يتحتم معه الهجوم والخروج بأي قضية مظهرية للفت الأنظار وكسب الدعاية، والفاتيكان تسهم في طول الدنيا وعرضها بالتستر على فضائح جنسية تقوم بها قطاعات من كهنته وفي مناصب عليا بالتحرش والاعتداء على الأطفال، والفاتيكان مطارد ومتهم في دول الكتلة الشرقية السابقة بأنه يحاول نشر المذهب الكاثوليكي وسط أهل تلك البلاد الذين يفترض أنهم يدينون بالمذهب الأرثوذكسي.. فالفاتيكان يريد تحسين وضعه في أوروبا بركوب موجة العداء للإسلام ونبيه –صلى الله عليه وسلم-؛ ليكسب وضعًا جيدًا مع الحكومات الغربية، ويضمن بذلك وضع النص في الدستور الأوروبي الموحد على أن المسيحية هي الهوية الثقافية والتراث الإنساني للشعوب الأوروبية، ولكن إذا كان الفاتيكان يسعى إلى كل هذه المكاسب وأبرزها تحويل الأنظار عن فضائح كهنته الجنسية؛ فلماذا يكون ذلك على حساب الكذب على الإسلام وتشويه صورة نبي الإسلام؟ وإذا كان الفاتيكان يفعل ما يحلو له؛ فإن اللوم يجب أن يوجه إلى أولئك الذين ملأوا الدنيا بما يسمونه الحوار الديني مع الفاتيكان بالذات، وأقاموا لذلك الهيئات والإدارات والمكاتب وجعلوها هي الحاكمة على المؤسسة الدينية، وجعلوا من رؤساء هذه المكاتب من الأفندية الغامضين سلطات تفوق سلطة رؤساء هذه المؤسسات في المشايخ (السابقين).
لقد سكت هؤلاء سكوت القبور على بيان الفاتيكان ومعهم حق؛ فلم تصدر لهم الأوامر بذلك، بل الأوامر تصدر فقط بإصدار بيانات السب والشتم للمسلمين (المتطرفين طبعًا) وبيانات المديح والتفخيم في فلان وعلان وعلى رأسهم الفاتيكان المعظم، ويكف هؤلاء عارًا أن رأسهم الأعلى بابا روما أصدر بيانات يشجب فيها منع الحجاب في فرنسا بينما بارك بعضهم هذه الخطوة العظيمة وأضافوا إلى ما قاله وزير داخلية فرنسا بأن يغادرالمسلمون فرنسا إذا لم يعجبهم قرار منع الحجاب!
ويبقى أن الفاتيكان غير محق في دعوة المسلمين إلى تحقيق المساواة بين الرجال والنساء؛ فهناك مساواة بالفعل بينهم في العالم الإسلامي في الظلم والقهر وتكميم الأفواه والاستعباد!
========================
طبت حياً وميتاً
نايف بن محمد اليحيى (*)
لما أشرق نور نبوة حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - في هذا الكون، أضاء بأنواره وحقيقته معالم الحياة، وأزال بصفائه ونقائه ظلمات الشرك وخرافات الجهل والضلال، وطمست بيناته الساطعة وبراهينه الصادقة كل لون من ألوان الانحراف العقدي أو التخلف البشري، فمبعثُه عليه الصلاة والسلام نور ورحمة للبشرية أضاءها حِساً قبل أن يُضيئها معنى.. فعند ولادته ووضع أمه له رأت نوراً خرج منها فأضاء مدائن بصرى والشام حتى أبصره أهل تلك المدن،،
إن الرسول لنور يستضاء بهِ
وصارم من سيوف الله مسلولُ
بل إن الجمادات والحيوانات استبشرت وسعدت بنبوته.. فهذا حجر يسلم عليه، وذا طعام يسبح بين يديه، وذاك جذع يحن إليه، وتلك ناقة تشكو صاحبها لقسوته، وذاك ذئب يبشر بنبوته، وتلكم إبل تتسابق لينحرها بيده، وكل هذه الأمثلة وردت ونقلت في أحاديث صحيحة.(11/105)
ولذا كان لزاماً على أهل الإيمان أن يعلموا أن حب الله ليس دعوى باللسان، ولا هياماً بالوجدان، إلا أن يصاحبه الاتباع لرسول الله، والسير على هداه، وتحقيق منهجه في الحياة.. وإن الإيمان ليس فقط كلمات تقال، ولا عبارات تردد، ولا مشاعر تجيش، ولا شعائر تقام، ولكنه طاعة لله والرسول، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول.ولذا يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله - تعليقاً على قوله سبحانه:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}(31) سورة آل عمران: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله. كما ثبت في الصحيح (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
وكما قال بعض الحكماء: ليس الشأن أن تحب وإنما الشأن أن تحب، وقال الحسن: زعم قوم محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية.
وقال ابن القيم - رحمه الله - في كتابه زاد المعاد: (ومن تأمل في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام.. علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس مجرد المعرفة فقط.. ولا المعرفة والإقرار فقط.. بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً.
(*) بريدة
نشرت جريدة الجزيرة في 11/1/1427هـ
المجرم الذي يسخر من الرسول الكريم
عبدالكريم بن عبدالله المشيقح (*)
من ضروب الغباء والسخافة حينما يحاول الأقزام أن يجرحوا مشاعر المسلمين من منطلق عداوتهم. نشرت صحيفة (جلاند ربوستن) الدنمركية يوم 26-8 عام 1426هـ عددا من الرسومات ذات الصور الكاريكاتيرية الساخرة لسيد الأولين والآخرين وخاتم النبيين وإمامهم وقدوتهم وخيرة الله من خلقه محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
رسم الكاتب المجرم في إحدى هذه الصور شلت يداه ما معناه أن محمدا مجرم حرب.
ظنا منه قبحه الله وأخزاه أن عمله سوف يهدد بالنقصان من مقام ومكانة الرسول الكريم صاحب المقام المحمود والحوض المورود.
وبعد ذلك في يوم عيد الأضحى المبارك تكالبت أعوانه من النصارى في تعميق جذور العداوة الساخرة من الإسلام ومن جميع المسلمين وقد أدلت بدلوها جريدة (ماجزينت النرويجية) لتساهم في جريمة نشر الصور. قال الله تعالى في سورة البقرة {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}ولعل من الدواعي لشن هذه الغارة الصحفية الرعناء في سب أشرف عباد الله وأحبهم إليه وهذه الدنمارك منذ عدة أشهر كما علمنا تسلط عبر صحفها ووسائل إعلامها حملة شرسة بسبب أن بعض أبناء شعبها أقبلوا جديا على اعتناق الدين الإسلامي كغيرهم من شعوب العالم، وبذلك أغواهم الشيطان رسول لهم محاولة التطاول على الرسول الكريم المعصوم وتشويه سيرته ورسالته ودعوته التي جعلها الله رحمة للعالمين، ويظنون خطأ أنهم سوف يوقفون هذا الزحف الإسلامي المجيد، ولكن بإذن الله سيدخل الناس في دين الله طائعين مختارين على رغم أنوفهم والسحب لا يضرها نبح الكلاب.
ولقد لمسنا والحمد لله فيضا من تذمر الشعوب الإسلامية التي أثار غضبها ما نشرته هاتان الصحيفتان؛ لذلك السبب اتخذت الدول الإسلامية مجموعة من الإجراءات الإيجابية المشكورة وهي المقاطعة التجارية والسياسية والعمالة وغير ذلك.
وقد سارع لاتخاذها صاحب المبادرات البناءة المعروفة خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله ووفقه وأدام عزه.
وبناء عليه قدمت الدولتان الدنمركية والنرويجية اعتذارهما بعد الضغط عليهما بالمقاطعة ونحن نقول إن الاعتذار لا يكفي أبدا لا يكفي. نحن نطالب باستمرار المقاطعة التي تعتبر العقوبة الرادعة ولو استطعنا أكثر من ذلك لفعلنا.
فقد ذكر العلامة أحمد بن تيمية رحمه الله في كتابه (الصارم المسلول) على شاتم الرسول ذكر أنه يجب قتله مسلما كان أو كافرا؛ لأن محبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم واجبة علينا فهو أحب من أنفسنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين.
(*) بريدة
عدوان على الذاكرة... الخط الأول في الدفاع عن الهوية
نشرت جريدة الوطن في 9/1/1427هـ
=======================
عدوان على الذاكرة... الخط الأول في الدفاع عن الهوية
يوسف مكي*
في حديث سابق أشرت إلى أن الحرب التي تتعرض لها الأمة حاليا لا تستهدف احتلال الأرض ونهب الثروة فقط، بل إلى التعدي على الذاكرة، لسبب بدهي ومنطقي هو أن الذاكرة هي خط الدفاع الأول عن الهوية.(11/106)
لماذا نعتبر الذاكرة الخط الأول في الدفاع عن الهوية؟. الجواب بداهة يكمن في رؤيتنا لها باعتبارها الحاضن لما تختزنه الأمة في وجدانها من مواريث تراكمت وترسخت عبر عقب تاريخية ممتدة. هذه المواريث هي التي تشكل الهوية. وحين نشير إلى المواريث فإن المقصود بها مجموع الخصائص الدينية والتاريخية واللغوية والنفسية التي تؤدي إلى الفصل بشكل حاسم بين جماعة من الناس وأخرى، والتي تشكل مجتمعة شخصية الأمة. وتنتج هذه الخصائص عن عاملين رئيسيين: الأول، داخلي يتمثل في تقاليد ومواريث. والثاني، يعكس تفاعل الأمة مع وضع عالمي فوار متغير، مفرزا موجات ثقافية متعددة ونماذج حضارية مختلفة، ينتج عنها ردود أفعال ذاتية تفرض التعامل بخصوصية مع تلك التقاليد، مانحة إياها هوية جديدة.
وإذن فالذاكرة، في جانب مهم منها هي وعي الذات. وهذا الوعي شرط أساسي وضروري للصمود والتماهي مع إرادة البقاء، وهو أيضا شرط لا مفر منه للتهيؤ للمستقبل. ولا نبالغ إذا قلنا إن الأمة العربية في مواجهتها للمحتل، قد استندت كثيرا على ذاكرتها، واستمدت منها المنعة والقوة لتحقيق النصر، من خلال استنهاضها لإرثها ومخزونها الحضاري وكان الإسلام هو أهم أركان ذلك المخزون.
ومع أن وجود العربية سابق للإسلام، إلا أن العرب لم يؤسسوا كيانا مركزيا قبله. وقد شهد صدر الدعوة الإسلامية قفزات حضارية بالنسبة للعرب. وكان الإسلام أول من أدخل فكرة الأمة لديهم، تربطها العقيدة، ووضع الرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام أسسها وتنظيمها،،. بقي مفهوم الأمة راسخا، واستمر محور الفكر والتعامل في دار الإسلام، ولكن قوة الأمة سياسيا لم تتحقق إلا في فترة قوة العرب.
كانت العلاقة بين العرب والإسلام قوية وعصية على الانفصام، وقد شاء العلي القدير أن تكون كذلك باستمرار، عبر حقب التاريخ. لقد نزل القرآن الكريم باللسان العربي المبين، وحمل العرب راية الإسلام في المراحل الأولى لبزوغ فجره، واقترنت أمجاده وانتصاراته بهم. ووضعت أصول الشريعة والفقه بثقافتهم ولغتهم، وكان جل علمائه ومفكريه في صبح تأسيسه منهم. وقد أعطى ذلك دورا مركزيا ومميزا في مسيرة الإسلام عبر العصور. وبالمثل، توحد العرب بالإسلام، لأول مرة في تاريخهم، وبه كونوا أول دولة ضمتهم جميعا، هي دولة الخلافة، استمرت فترة تجاوزت القرنين، قبل أن يبرز فيها تأثير الأجناس غير العربية.
هكذا أصبحت العلاقة عضوية بين الدين الإسلامي الحنيف وبين أبناء هذه الأمة، لدرجة جعلت من الصعب على المرء الفصل بين العدوان على الدين والعدوان على الأمة. وكان المحتلون يدركون بقوة هذه الحقيقة. ولذلك كانوا لا يفصلون بين العدوان على الأرض والعرض وبين العدوان على المقدسات الإسلامية.
رأينا على سبيل المثال، الاستعمار الفرنسي في الجزائر يقوم بالسطو على الأرض والممتلكات، ويمارس امتهانا للعقيدة الإسلامية، ويمنع السكان من التحدث بالعربية، محرضا على الابتعاد عن الطقوس والعبادات الدينية. وكان يعتبر ذلك جزءا من وسائل تخريب الثقافة القومية للشعب الجزائري، وتدمير مقوماته. فكان لابد والحال هذه أن يكون اتجاه المقاومة الوطنية ورد الفعل ضد عدوان المستعمر تداخل المعاني والمضامين الدينية مع معاني ومضامين الكفاح الوطني من أجل الاستقلال.
وحين وصل الجنرال اللينبي أثناء الحرب العالمية الأولى، واحتل فلسطين، لم تغب عن ذاكرته الحروب الصليبية، رغم أن الثورة العربية كانت حليفة لبلاده. وعند وصوله إلى قبر البطل المجاهد صلاح الدين الأيوبي، بطل موقعة حطين، قال مخاطبا له "ها نحن عدنا يا صلاح الدين".
وضمن هذا التحليل، يمكننا فهم لماذا تدمر بيوت الله عند أي غزو استعماري صليبي. فهذه المساجد هي جزء من قوة الشعب المؤمن، وجزء من موروثه الحضاري، وعنصر هام من عناصر مقاومته للبغي والعدوان. ومن هنا نفهم لماذا حرص مجرم الحرب، أرييل شارون على تدنيس المسجد الأقصى، ولماذا تعرض أولى القبلتين وثالث الحرمين، لعدة محاولات تخريبية منذ احتلال القدس في حرب يونيو عام 1967. إن شارون يريد أن يركع الفلسطينيين ويقهر إرادتهم، من خلال التعرض لمعتقداتهم. ويأتي التعرض لأماكن العبادة، في الغالب متزامنا مع اعتداءات أخرى على العرض والأرض والكرامة، ظنا من الغزاة أنهم بذلك سيتمكنون من إضعاف مقاومة الشعب المحتل لهم.
في واقعنا العربي، شهدنا من جهة قوة مقاومة الشعب المحتل للغزاة، والتمكن من انتزاع الاستقلال والنصر في معظم البلدان العربية. لكن ذلك، للأسف، لم يعزز بفعل مماثل بعد الحصول على الاستقلال. لقد غاب عن النظام العربي الرسمي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا أي متصور استراتيجي للتعامل مع الصراع العربي- الصهيوني، وانعدم معها أيضا أي تخطيط عملي وعلمي لصناعة المستقبل.(11/107)
عجز النظام العربي عن التعامل بجدية مع قرار تقسيم فلسطين عام 1947م، وعجز عن تحقيق التضامن في مواجهة الأحلاف والمشاريع الأجنبية المشبوهة. وعجز عن الرد على عدوان الصهاينة في عام 1967م، ووقف العرب جميعا متفرجين وهم يسمعون استغاثات أطفال فلسطين، ويسمعون أدق التفاصيل عن مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان. ووقفوا صامتين أيضا أمام تدمير أمريكي منهجي لبغداد عاصمة العباسيين وقتل الأطفال في ملجأ العامرية. وعجزوا عن إسناد أطفال الحجارة في انتفاضتهم الباسلة بفلسطين، وشاركوا بالصمت العاجز في احتلال العراق.. وعجزوا وعجزوا رغم وعود سخية قدموها بالجهاد وبالدفاع عن الأرض والثوابت والتمسك بالمعاهدات والمواثيق.. ووضح للجميع أن تلك الوعود قد انتهكت جميعا قبل أن يجف الحبر المسكوب في صياغتها.
وبدلا من تحقيق الحد الأدنى من التضامن العربي، من أجل البناء والتنمية ومواجهة العدوان استمرت عقلية داحس والغبراء هي السائدة فيما بينهم. ولأنهم ما زالوا يعيشون روح القبيلة تمسكوا، تجاه بعضهم، بوصية كليب لأخيه المهلهل "لا تصالح"، وبقوا محافظين عليها، وحين عزموا على الدخول في العصر الجديد تباروا إلى تمزيق نسخ من تلك الوصية ولكن ليس مع بعضهم البعض، بل في كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلوا.
كان الشعب في كل مرة تواجه الأمة فيها تحديا مصيريا، يهب إلى الشوارع، بأشكال عفوية، معبرا عن سخطه وغضبه في دورات ما تلبث أن تنقطع، شأنها في ذلك شأن العواصف والأعاصير في الكون، قانونها الطبيعي أن تأتي بشكل دراماتيكي ومفاجئ، ثم ما تلبث أن تسكن وتهمد، ليعود بعدها الناس إلى حياتهم المعتادة... يتركون الشوارع حاملين معهم يافطاتهم وقتلاهم وجرحاهم، ولا يبقى بعد ذلك من أثر لتلك الانطلاقات العفوية إلا ما تدونه الأسفار والمراجع والكتب.
الآن يحدث من جديد عدوان خطير على ذاكرة الأمة من خلال التعرض لشخصية نبي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم. فبعد أن نشرت إحدى الصحف الدنماركية رسوما كاريكاتورية في سبتمبر الماضي تتعرض للنبي صلى الله عليه وسلم، قامت الجاليات الإسلامية بحث الحكومة لاتخاذ موقف يراعي مشاعر المسلمين، لكن رئيس الوزراء الدنماركي رفض ذلك مؤكدا على أن تلك الجريمة تأتي في سياق حرية الرأي التي تكفلها أنظمة المجتمع في ذلك البلد. والغريب أن عددا من الدول الأوروبية قد سارع للتعاطف مع تلك الجريمة, وأصبح التحدي واضحا حين قامت أعداد من المجلات والصحف الأوروبية في النمسا وفرنسا بإعادة نشر تلك الرسومات. وبدأت المعركة تتخذ أبعادا سياسية كبيرة إثر تصريح الرئيس الأمريكي، جورج بوش أن حكومته تقف، في هذه القضية، إلى جانب حلفائها الأوروبيين بكل قوة، وأنها لن تتردد عن نصرتهم.
حتى الآن لم يسمع المواطن العربي أي رد فعل واضح من المسؤولين العرب، على الاستهجان الأوروبي والأمريكي بالمقدسات والمعتقدات الإسلامية. فهل تمكن المعتدون من اغتيال الذاكرة ومصادرة الهوية.. وإذا ما تحقق ذلك، لا سمح الله، فما ذا يتبقى لنا كي ندافع عنه؟!
*كاتب أكاديمي سعودي متخصص في السياسة المقارنة
============================
عذراً ... بأبي أنت وأمي يا رسول الله
الكاتب: --
الحمد لله القائل في محكم التنزيل :"لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون"
أيها المسلمون:
أما وصل أسماعكم ردود حكام المسلمين المزلزلةَ على هذه الإساءات؟ أما سمعتم قولَ شيخِ الأزهر الذي فاق في ردهِ المخيفِ كلَّ التصورات؟!
فهؤلاء حكام السعودية حماة البيت العتيق، يدعون لمقاطعة المنتجات الدنماركية، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل طلبوا السفير الدنمركي وأبلغوه الاستنكار والشديد اللهجة،وحاكم مصر يحذر الغرب ناصحاً لهم من الدخول في منطقة خطرة، أما شيخ الأزهر فيقول بعد أن التقى السفير
الدنمركي :" إن الإساءة إلى الأموات بصفة عامة تتنافى مع المبادئ الإنسانية الكريمة، سواء كانت هذه الإساءة إلى الأموات من الأنبياء أو الصالحين أو السياسيين وغيرهم ممن فارقوا الحياة" وأضاف أنه يرفض الإساءة إلى الرسول _صلى الله عليه وسلم_ ؛لأنه فارق الحياة، مؤكداً أن
الأمم العاقلة الرشيدة تحترم الذين انتهت آجالهم وماتوا!
فالرسول صلى الله عليه وسلم في نظره كغيره من الناس، والمشكلة في كونه ميتاً!
فلا نقول إلا سحقا وبعداً لمن ارتضى لنفسه الذلة والمهانة، ورضي بأن يكون للكافر عميلاً وناصحاً أميناً، أو عالم سلطان باع دينه بدنيا غيره.
فأين كان هؤلاء عندما مزقت أمريكا المصحف؟
أين كانوا عندنا اغتصبت أمريكا النساء ؟
أين كانوا عندما تطاولوا على الإسلام وعلى الله عز وجل؟
فهل طلبوا السفير الأمريكي وقاطعوا المنتجات الأمريكية ؟!
وهل جرؤوا على طلب سفير بريطانيا أو فرنسا؟
وهل سيقاطعون كل هذه الدول التي اعتدت على الإسلام والمسلمين؟(11/108)
أم أن المسألة لعبة يلعبونها لا أكثر، فيريدون أن يبينوا للمسلمين حرصهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو بريء منهم ومما يصنعون.
وهل لنا أن ننسى مواقفهم الهزيلة أمام الغرب الكافر؟
كلا والله ... كلا والله و عذراً إليك رسول الله... عذراً إليك بأبي أنت وأمي، فالحكام سكرى في ظلماتهم يعمهون، متسلطون علينا أقزام عملاء لأعدائنا فكيف تراهم يتحركون!
فلو كان للإسلام دولة وكيان يا رسول الله ... لما كان ما كان.
ففرنسا المتبجحة على المسلمين بمنع الحجاب وبحريتها العفنة اليوم، أرادت عرض مسرحية تسيء إليك يا خير خلق الله، فما كان من خليفة المسلمين العثماني إلا أن هددها باجتياحها إن عرضت المسرحية ومنعها بالقوة، قوة جيش الخلافة، فخنعت واستكانت لتهديد خليفة المسلمين في أواخر عهد الدولة العثمانية، عندما كانت تسمى بالرجل المريض. وهل كان هذا سيحدث لو أنهم وجدوا صبيان المسلمين كما كانوا أيام عمر الفاورق رضي الله عنه يا رسول الله ؟!
وإن كنا كذلك فهل تكفي مقاطعة البضائع الدنمركية والفرنسية؟
وهل تكفي مقاطعة البضائع الأمريكية والبريطانية والألمانية والسويسرية؟
هل هذا كافٍ لمعاقبة من فعل هذا برسول الله؟
فوالله لا يشفي الغليل إلا قطع رؤوس من سولت لهم أنفسُهُم الاعتداء على الإسلام أو القرآن أو خير الأنام.
وهذا لا يكون إلا بإعلان الحرب الفعلية على هؤلاء ولا يكون ذلك إلا بالعمل الجاد المخلص لإقامة كيان المسلمين الذي يمثلهم ويذب عن أعراضهم ويحمي حماهم فلا يدوس الحمى أحدٌ بعد ذلك أبداً.
فهذه الدول المحاربة فعلاً للإسلام والمسلمين يجب قطع العلاقات معها وإعلان الحرب عليها حتى ننسيهم وساوس الرأسمالية والحرية الشيطانية، حتى يدركوا حينها من يتحدون ولمن يسيئون، وعلى من ينفثون سمومهم ويتجرؤون.
فإلى العمل مع العاملين لإقامة الخلافة التي فيها عزكم وعز هذا الدين أيها المسلمون.
أيشتم " أحمد " يوماً وأنتم على قيد الحياة بكم دماءُ
ويسخر حاقد منكم...وفيكم رجال للمنية... ..لا نساءُ
وأنتم ألف مليون....أبوكم يهان فلا يغاث ولا يجاءُ
بجيش لايهاب غمار حرب تدين له البسيطة والفضاء
ألا اهتزت لذاك الخطب أرض وخضبت الاكف له الدماء
وهلاّ غضبة ..لله.. عظمى تساوى الموت فيها والبقاءُ
فلا طابت لحر.. ذات يوم حياة بعده........ فيها يساءُ
لعرضِ محمد ولنا... مقام على أرض.. تظللها السماءُ
أيحزن" أحمد" كلا وربي لأجل " محمد" طاب الفناءُ
"فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض "محمد" منهم فداءُ"
وإني داع لكم فأمنوا يرحمكم الله .
اللهم إنتقم ممن أساء لنبيك، اللهم انتقم ممن أساء لنبيك، اللهم انتقم ممن أساء لنبيك، الله اخذل من خذله وانصر من نصره وقو من يريد الثأر له بقوة من عندك.
اللهم إنا نسألك بجلالك وعظمتك أن تستخدمنا في طاعتك وأن تجعل لنا سهماً في إقامة دولتك، وأن تهراق دماؤنا في سبيل إعلاء دينك.
اللهم استخلفنا في أرضك، ومكنن لنا ديننا الذي ارتضيت لنا واجعلنا من الذين إن مكنتهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وجاهدوا في الله حق جهاده.
اللهم يا أرحم الراحمين، اجمع على الحق كلمة المسلمين، وألف بين قلوب عبادك المؤمنين.. اللهم أصلح ذات بينهم، وانزع الغل والحسد والبغضاء من قلوبهم... اللهم واحقن دماءهم وآمن روعاتهم ومكنا من الثأر ممن ظلمهم وبغى عليهم. اللهم عليك بأعدائك أعداء الإسلام من الانجليز واليهود والأمريكان، ومن لف لفهم، اللهم عليك بهم وبمن حالفهم وناصرهممن حكام العرب والمسلمين.
اللهم وحد بلاد المسلمين في دولة واحدة، وراياتهم في راية واحدة، واجعل جيشهم واحداً وحاكمهم واحداً يطبق فينا شرعك وتمن عليه بنصرك.
اللهم إنا مغلوبون فانتصر لنا يا أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
================================
عذراً.. يا رسول الله
د. محمد بن عثمان الركبان
لم تشهد البشرية أكرم منه، ولا عرفت الإنسان أعظم منه..
فهو هداية الله للبشرية، ونعمته على الإنسانية، ومنته على الأمة الإسلامية: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
أخرجنا من الظلمات إلى النور، ومن الغواية إلى الهداية، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
لم يدع خيراً إلا دلنا عليه ولا شراً إلا حذرنا منه، ولا أمراً يهم الأمة في حاضر أمرها ومستقبلها إلا كان له صلى الله عليه وسلم خبراً عنه.
تركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وذريته وأزواجه وآل بيته، وحشرنا تحت لوائه يوم القيامة، وأدخلنا في شفاعته، وجمعنا به في الجنة.(11/109)
لم يكن حزنه لدنياه، ولا لضيق عيشة، ولا لقلة ذات يده، فقد بسطت له الدنيا، وأعطي مفاتيحها، واختار أن يجوع يوماً ويشبع يوماً؛ لكن حزنه وتكدره وضيق صدره لاعراضنا عن رسالته، وحيادنا عن منهجه، وبعدنا عن سنته، وحرصنا منه علينا، وطمعاً في هدايتنا، ورغبة في منفعتنا.. قال سبحانه وتعالى عنه: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} وقال عنه سبحانه: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} - أي مهلكها - وقال عنه سبحانه: {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين، إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون}.
فاللهم صل وسلم عليه، وأرفع في عليين منزلته، وآته الوسيلة والدرجة الرفيعة من الجنة، والمقام المحمود الذي وعدته.
كان لكل نبي دعوة مستجابة، دعا بها على أمته، وأهلك الله بها قومه، لعصيانهم وفجورهم وبعدهم عن منهج ربهم وأذيتهم له، لكن نبينا عليه الصلاة والسلام الرؤوف بأمته، الحليم على قومه، الصبور على أذيته، ادخر تلك الدعوة المستجابة ليوم القيامة.. يوم تشتد الكروب، وتعظم الخطوب، ويطول على الناس الموقف، ويأذن الجبار جل جلاله له بالشفاعة العظمى في موقف القيامة لفصل الخطاب، فيكون أول همه، ومنتهى اهتمامه.. مصير أمته، لم يذكر نجاة نفسه، ولا ذريته وأهل بيته، وإنما «أمتي، أمتي».
فصلوات ربي عليك يا رسول الله ما ذكرك الذاكرون، وما غفل عن ذكرك الغافلون، وما تعدى على جنابك المعتدون.
إن منزلتك في نفوسنا عظيمة، وقدرك في قلوبنا كبير، نفديك بأرواحنا ودماؤنا وأموالنا وأهلينا. فنحورنا دون نحرك يا رسول الله، ودمائنا نقدمها رخيصة للذب عنك يا نبي الله.
لقد وصلت الأمة في هذا الزمان إلى ضحضاح من المهانة تطاول فيه الأدنى على الأعلى، وتجرأ فيه السفيه على العقلاء، وتحدث فيه من لا يفقه فيما لا علم له به ولا قدر له على الثبات عليه.
لم يسلم من جراءتهم مقام الربوبية، ومنزلة الألوهية، فنسبوا لله تعالى الصاحبة والولد، ونعتوه سبحانه بأرذل الأوصاف وأقل المنازل، أوصاف وكلام تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً.
وها هم اليوم أقزام العالم، وأراذل البشرية يتطاولون على مقام النبوة، وحوزة الرسالة، ويطعنون في شخص المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم المنزه عن كل نقيصة في حدود بشريته وخلق الله تعالى له.
صحيح أن تطاول الأقزام على الكبار لا يقلل من شأنهم، وتعدي الحقيرين على مقام العظام لا ينال من شرفهم، لكنه ابتلاء الله تعالى للأمة لمعرفة منزلة نبيهم عندهم، وامتحان من الله تعالى للمؤمنين في الدفاع عن دينهم.
إنه ما كان لتلك الشرذمة أن تنال من مكانة سيدنا، ومقام إمامنا، ومنزلة قدوتنا، عليه الصلاة والسلام إلا حين قصرنا في تعظيمه وإنزاله قدره، وتكاسلنا عن اتباع منهجه، واستحيينا من امتثال سنته، وما كان لهم أن يصلوا إلى هذا الحد من الجراءة لو لا سباق معرفتهم بضعف اتباعه، وخور المدافعين عنه. فلو كان الاعتداء على ملك أو رئيس أو قائد لدولة لقامت قائمة أهل تلك الديار، وثارت ثائرتهم، وحق لهم ذلك، لكن رسولنا أولى أن تسفك من أجله الدماء، وتقطع من أجله العلاقات، وتقاطع من أجله المنتجات، فمحبته عليه الصلاة والسلام ليست حصراً على الملتحين، ولا حجراً على الملتزمين، بل هي واجبة على كل من شهد له بالرسالة، وآمن بدين الإسلام، وأحب الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}.
فيا عقلاء العالم.. أوقفوا هذه المهازل، قبل أن تنتج ردود أفعال لا يحمد عقباها، وتحدث حوادث يبكي العالم من لأوائها، وكوارث تضج البشرية من مداها.
ويا قادة العالم الإسلامي، ويا علماءه، ويا تجار المسلمين، ويا كل مسلم.. اليست المبادرة للدفاع عن سيد الأولين والآخرين من أولى أولوياتنا؟ أليست المحبة له ونصرته والذب عنه من أعظم الموازين عندنا؟ فالله الله في القيام بواجب النصرة كما ينبغي، بالحكمة والبصيرة، فهو الذي علمنا: {قل هذه سبيلي أدعو الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}، والله الله بالتمسك بسنته، وتطبيق شرعه، والرجوع لمنهجه.. وليكن نتاج كيدهم مزيداً من المحبة والاتباع له، وحرصاً على الرجوع إليه، وتعظيماً لشأنه وأمره بيننا.
وعذراً يا رسول الله.. عذراً من تكاسل المتكاسلين، وغفلة الغافلين، وتبعية المنافقين، وضعف أمتك، وقلة حيلتها، وهوانها على الناس، وحرصها على دنياها، وايثارها لأنفسها، وعجزها عن القيام لحماية جنابك وقتال أعدائك.. والله حسبنا ونعم الوكيل.
? عضو هيئة التدريس بكلية الطب - جامعة الملك سعود
3 تعليقات
1
أي دنيا تحيا(11/110)
شكري الجزيل لله الذي أكرمنا بأناس لهم قدرة القلم ليكتبوا ويدافعوا ويجاهدوا به فمرحبا بمن دافع وجاهد وهذا أقل ما يجب.وحبذ لو كل واحد له قدرة ونعمة الترجمة بأي لغة يترجم كل موضوع وينشره عبر النت والمنتديات لتصل الى أعداء رسولنا وكل عام وأمة رسول الله بخير
مريم عبد الكريم بخاري
05:48 صباحاً 2006/01/30
2
اللهم صلي على حبيبي محمد وسلم
اللهم اهلك من صور حبيبنا المصطفى محمد وشل يديه وعينيه اللهم حارب اليهود والكفار انك قدير عزيز وانصر نبيك والاسلام يارب واحفظ امة محمد عليه افضل الصلاة والتسليم فالرسول منزه عما يفعله تلك المجرموون فلا حول ولا قوة الا بالله العلي العضيم
meme
07:08 صباحاً 2006/01/30
3
بورك في أخي الكريم
وأعظمه من شرف أسأل أن يشفعه فيك وفي والديك.
آمل أن تستمر في العطاء فهذه الموهبة نعمة من الله. ومن حق المنعم الشكر {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم} لأزيدنكم} وأعظم الشكر استعمال هذه الموهبة وهذا القلب وهذا الأسلوب الرائع في نشر الإسلام وعظمة الإسلام.. وتعاليم الإسلام، ونشر سيرة الحيب صلى الله عليه وسلم، في الصحف السعودية، والأجنبية وفي منتديات الانترنت الغربية بتقل مقالات ينشرها موقع الشيخ محمد صالح المنجد لمنتدياتهم ف[لئن يهيد الله بك رجلا واحداً خيرٌ لك من حمر النعم] كما آمل الذب عن عرضه بالتي هي أحسن, فألله الله في هذا الثغر العظيم
عبدالعزيز بن علي العسكر
08:07 صباحاً 2006/01/30
عرض نبينا ينتهك ؟!!.
الكاتب: د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
حملت إلينا الأنباء خبرا سيئا..؟!!.
خبرا في صورة ..
عرض نبينا، وسيدنا، وقدوتنا، وإمامنا، وحبيبنا فيها: ينتقص، وينتهك ؟؟!!.
صحف دنماركية تعبث بمقامه..!!
ومقامه مقام الخلة؛ فهو أحب الخلق إلى الله تعالى ..فيا ويلهم من الله تعالى، حيث قال:
- (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب).
وأكبر الأولياء وسيدهم: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم..فالله تعالى قد آذنهم بالحرب:
- {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.
المسلمون نوَّم ..؟!!.
لو مال تلف، أو بيت تهدم، أو وطن سلب..
لسمعت صياحا ووَلْوَلَة، وإقساما: لنثأرن قاتله الله ما أكفره..!!.
فأين هم أهل الصولة والزمجرة ؟!!.
أين هم لم نسمع لهم حسا، ولم نر قلما يدفع ظالما ما أفجره ؟!.
إلا قليلا، احتسبوا، وغضبوا..
فكتبوا، واستنكروا..
وعن الأمة عذابا، كاد يحيق بها، دفعوا..
فالذب عنه فريضة، ولا يحل للأمة ترك الفريضة.
ومن موجبات العقوبة، الاجتماع على ترك الفريضة.
* * *
من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته: نصرته.
وهو واجب على جميع المسلمين: ذكورا وإناثا، علماء وولاة أمر وعوام، قولا وفعلا، كل بحسب قدرته واستطاعته، أدناها بالقلب، ثم باللسان، ثم باليد، لقوله صلى الله عليه وسلم:
- (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
وأي منكر أعظم من العدوان على مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.
فهو فرض على الكفاية، إذا قام به بعض المسلمين سقط على الآخرين، مع وجوب إنكار القلب في حال، سواء تعين الذب والنصرة أو لم يتعين على آحاد المؤمنين، لأن الإنكار القلبي علامة الإيمان.
* * *
والدليل على وجوب نصرته، قوله تعالى:
- {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }. فعلق الفلاح بالنصرة، فمن لم ينصره فليس من المفلحين.
- { َإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ..}، فنصرة المؤمنين واجبة، والنبي أوجب.
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }. ونصرة النبي من نصرة الله تعالى.
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، فهذا في حق المؤمنين، وفي النبي أعظم.
* * *
ووقت النصرة: وجود الظلم والعدوان على مقام النبي صلى الله عليه وسلم، في ذاته، أو أخلاقه، أو دينه.
فمتى وجد هذا النوع من الظلم والعدوان: وجب على المؤمنين الذب عنه صلى الله عليه وسلم.
ولا يحل لهم أن يسكتوا أو يخضعوا ويرضوا..!!.
فإن فعلوا كذلك دل على خلل في إيمانهم، وضعف في ولائهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يرضى بالطعن في النبي صلى الله عليه وسلم إلا منافق أو كافر، أما المؤمن فيغضب ويتمعر وجهه لأدنى من ذلك، لأذى يلقاه عوام المسلمين، لما بينه وبينهم من أخوة الإيمان، فأي عدوان على رأس المؤمنين وقائدهم ومقدمهم فهو عليه أشد وأنكى ؟.
بل حاله كحال خبيب بن عدي لما أخرجه أهل مكة من الحرم ليقتلوه فقال له أبو سفيان:
" أنشدك الله يا خبيب! أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك يضرب عنقه، وأنك في أهلك"؟.(11/111)
فقال خبيب: "والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة، وإني جالس في أهلي".
فقال أبوسفيان: " ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا".
* * *
وسبب وجوب نصرة النبي صلى الله عليه وسلم أمران:
- الأول: منّته على أمته.
إذ هداهم الله تعالى به، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ولولا فضل الله عليهم به، لكان الناس في ضلالة وعمى، ولأصابهم من عذاب الآخرة..
وإذا كان الإنسان يحفظ جميلا صنعه إنسان إليه: بتفرج كربة، أو وقاية من فتنة، أو محنة، أو منع مصيبة. يبقى عمره لا ينسى جميله.. يترصد، ويترقب متى يقدر على المكافأة والمجازاة بالمثل، وهذا كله في أمور الدنيا، بل في بعضها، وجزء منها، فكيف بمن كان له الجميل على الناس في:
- فتح أبواب السعادة لهم في الدنيا والآخرة.
- وتفريج كرباتهم وهمومهم بالإيمان.
- وبيان مواطن الرحمة والخير والقرب من الله تعالى،.
- وإزالة ما بينهم من العداوة والشحناء والتباغض، وزرع الألفة بين قلوبهم، وعطف بعضهم على بعض.
- وإرشادهم إلى أحسن الدساتير والقوانين التي بها يسيرون شئونهم الدنيوية.
- وإقرار العدل، ونفي الظلم ومنع أسبابه.
- وزادهم أن كان سببا في نيلهم عظيم الثواب وجزيل الأجر في الآخرة، فما مؤمن يدخل الجنة، لينعم فيها النعيم الذي لا ينتهي، إلا وللنبي صلى الله عليه وسلم منة عليه في ذلك.
فهل أحد من البشر أعظم منه منّة على العالمين؟!!.
ولذا قال تعالى ممتنا على عباده بهذا النبي:
- { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }.
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي؟، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟، قال: بلى، الله ورسوله أمن).
- الثاني: أن الطعن في صاحب الشريعة طعن في الشريعة ذاتها:
والذب عن الشريعة واجب على كل مسلم بما يستطيع.
فهذا الذي يطعن في النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليطعن فيه لولا الشريعة التي حملها وبلغها من عند الله تعالى، فلو كان شخصا كسائر الناس لم يتوجه إليه بالطعن، فما طعن فيه إلا كاره وباغض لهذا الدين، فنصرته إذن من نصرة الله تعالى ونصرة دينه، ليس نصرة لذاته، قال تعالى:
- {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
* * *
الحاجة إلى نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت:
الحاجة متجددة، لتجدد الطعونات، فانتقاص النبي صلى الله عليه وسلم أمر قديم قدم الإسلام، اضطلع به فريقان هما: الكافرون، والمنافقون.
اتفقا على العداوة والطعن؛ لأن دعوة الإسلام تقضي على أحلامهم وطموحهم في العلو في الأرض بغير الحق، والإفساد واتباع الهوى وعبادة الذات والمصالح الشخصية، فالإسلام يريد أن تكون الكلمة العليا في الأرض لله تعالى، والناس سواسية، لا يفضلون إلا بالتقوى، مهما تباينت أجناسهم وألوانهم ومراتبهم، والكل يجب أن يخضع لحكم الله تعالى، لا فرق بين شريف أو وضيع.
وهذه الأمور لا تعجب ذلك الفريقين، فلذا يعادون الإسلام، والرسول الذي جاء به وبلغه.
فأما الكافرون فعداوتهم ظاهرة، وعداوة المنافقين مبطنة، تظهر في مواقف: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}.
الكافرون قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: شاعر، مجنون، كاهن، ساحر، يعلمه بشر، قال تعالى:
- {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}.
- { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ }.
- { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ }.
أما المنافقون فقالوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح القول، كقول مقدمهم عبد الله بن أبي بن سلول، كما جاء في القرآن الكريم، سورة المنافقون:
- {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ }.(11/112)
هذان الصنفان موجودان في كل زمان، وأهدافهم هي الأهداف نفسها، ودوافعهم هي الدوافع نفسها، فكلما شعروا بخطر الإسلام على طموحاتهم في العلو والفساد أظهروا الطعن والسب والشتم بالشريعة وصاحبها.
فالعدو الكافر المحارب اليوم يمثله الصهاينة أو الأصولية الإنجيلية، التي تقود العالم إلى خططها المهلكة، فهي التي خططت لقيام دولة إسرائيل في فلسطين، بزعم أن المسيح عيسى عليه السلام لن يعود إلا بعد اجتماع اليهود في فلسطين، وقيام دولة إسرائيل، وبناء هيكل سليمان، ولذا هم ماضون في هذه المهمة، وهم الذين يريدون حكم العالم، تحت دعوى العولمة، وحرب الإرهاب والخارجين عن القانون الدولي..!.
وليس ثمة أحد يقف في طريقهم في تنفيذ كل ذلك الخطط الإجرامية، إلا حملة الإسلام وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هنا سبب حنقهم وطعنهم في هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، بقصد تشويه صورة الإسلام؛ لإضعافه والتنفير منه، فهم يرددون اليوم ما قاله أجدادهم المستشرقون من قبل من أنه:
- سفاك للدماء، إرهابي، لم ينتشر دينه إلا بالقتل والسيف.. شهواني، همه النساء..لا يعترف بالآخر..
وغير ذلك، وغير مستغرب أن يقولوا ذلك وأكثر من ذلك، فقد كفروا وباعوا أنفسهم للشيطان.
* * *
وسائل النصرة:
وفي هذا الحال واجب على الأمة أن يهبوا لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ودينه، كل بحسب قدرته واستطاعته، ووسائل النصرة تكون من طريقين:
- الأول: بعرض سيرته صلى الله عليه وسلم.
- الثاني: بدفع الشبهات والطعونات حوله.
الأول: عرض سيرته صلى الله عليه وسلم.
وذلك من خلال كل الوسائل المتاحة، بالمقالة، والمطوية، والنشرة، والكتاب الصغير، والكبير، والبرامج المرئية والمسموعة، ومن خلال المدارس، والمساجد، والبيوت، والمحافل.
وعلى وسائل الإعلام الإسلامية: أن تعنى بهذه القضية، فتعطيها قدرا يتلاءم مع كونها إسلامية، ولا يليق بها أن تهمل حقوق النبي صلى الله عليه وسلم، ونصرته في وقت ينتقص فيه من مقامه..!!.
وأضعف الإيمان أن تخصص له صلى الله عليه وسلم من البرامج وقتا كسائر البرامج الأخرى، حتى يقف الصغير والكبير على تفاصيل سيرته وسنته صلى الله عليه وسلم، فهذا الرجل أعظم رجل في التاريخ، وهو منا، ونحن منه، وقد فزنا به، وشرفنا بالنسبة إليه، فلا يليق بنا أن نجهل تاريخه وسيرته، فلا نعرف منها إلا القليل، ثم يجب التركيز حين عرض سيرته على الجانب الأهم، وهو حقيقة دعوته:
1- أنها جاءت رحمة للبشرية: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
2- أنها جاءت للسلام والأمن: { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}.
3- أنها جاءت لإسعاد البشرية، لا لشقائها، كما يروج لذلك الكافرون والمنافقون: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.
4- جاءت لإخراج الناس من ظلمات البغي والظلم إلى نور العدل والإحسان: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }، وكما قال ربعي ابن عامر لرستم قائد الفرس، لما سأله عن سبب مجيئهم: "إن الله ابتعثنا لإخراج العباد، من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإسلام لتحصيل كل خير، ولمنع كل شر.
ويدل على صدق هذا: دخول الناس في الإسلام أفواجا، وكثير منهم بدون قتال، بل بالدعوة وحدها، فلولا صدق تلك المبادئ لم ينتشر الإسلام، ولم يدخل الناس فيه أفواجا، بل لو صح ادعاء أعداء الإسلام لما بقي للإسلام قائمة، ولرفضه حتى أهله، لكن الأمر عكس ذلك، فكل يوم يدخل الناس في هذا الدين عن رضى.
* * *
الثاني: دفع الشبهات والطعونات حول النبي صلى الله عليه سلم.
كافة ما يثار حوله صلى الله عليه وسلم هي قديمة، وكل السباب والشتائم والطعونات قد أجيب عنها إجابات شافية، لما طرحها المستشرقون.
والمطلوب إعادة صياغتها بأساليب ملائمة ميسرة، لحفظ عوام المسلمين من الانجراف خلف تلك الشبهات.
ثم إن مما ينبغي التنبه له في هذا المقام:
أن بعض ما يطرحه هؤلاء الطاعنون قاصدين تشويه صورة الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم، هي في عرف وحكم الشريعة: حق، وصدق، وعدل.؟.
كقولهم عن الإسلام:
- أنه دين لا يصحح الأديان الأخرى، ويتعالى عليها، فلا يعترف بالمساواة بينها وبين الإسلام.
وهذا عندهم من الطعونات، وهو عند المسلمين من الحقائق، ومما دله عليه كلام ربهم سبحانه وتعالى:
- {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ }.
- {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }.
- {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }.(11/113)
- وقال صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ).
نعم من أصول الإسلام، أنه يعلو ولا يعلى عليه..
فهو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، ولم يرتض لهم غيره..
وهو الذي يقبله ولا يقبل غيره، حتى لو كانت اليهودية والنصرانية،..
فهو شامل خاتم باق إلى قيام الساعة..
فلو كان ثمة شريعة من الشرائع السابقة صحيحة باقية دون تحريف إلى اليوم لكان الإسلام أحسن منها، وعلى أتباعها تركها واتباع الإسلام، لأنه الناسخ لجميع الشرائع السابقة..
فكيف الحال إذا كانت محرفة مبدلة، قد تبرأ الله منها، وحكم بضلال أتباعها؟.
فالإسلام هو الدين الصحيح، ولا دين صحيح غيره، فاليهودية محرفة والنصرانية كذلك، دع عنك ما سواهما، والإسلام خاتم لجميع ما سبق، للناس كافة، فلا دين غيره يقبل الله به.
وعلى المسلمين أن يعلموا هذا ويتمسكوا به، وليس لهم خيار غيره، إن أرادوا البقاء مسلمين.
فإذا جاءهم من يجعل هذا الخاصية للإسلام طعنا وذما، فهذا دينه هو..!!.
وليس لنا أن ندفع تهمة، بإلغاء أصل من أصول الإسلام، كما يفعل البعض، حينما يزعم أن النصرانية واليهودية والإسلام في مرتبة سواء، لا فرق بينها، يريد أن يذب عن الإسلام، فهذا من أبطل الباطل، فالدفاع عن الحق لا يكون بإحقاق الباطل، بل بإبطاله، ودفاعنا عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون بتقرير الدين كما جاء به، دون تحريف، لا بتحريف ما جاء به، فذلك ليس دفاعا، بل خدمة تقدم للطاعنين فيه، وليس شيء أفرح لقلوبهم: من أن يقر لهم المسلمون بصحة دينهم الباطل بخبر الله تعالى.
==========================
على من يقع اللوم؟
الكاتب: خليل علي حيدر
عُقدت بين السادس والثامن من مارس 2006 في الكويت، ندوة لتشجيع الاعتدال والتعددية والتسامح الديني، بعنوان "نحن والآخر"، تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. دعت الوزارة فعاليات دينية وفكرية متعددة، محلية وخليجية وعربية وخارجية للمشاركة، وكان أبرز ضيوف الندوة فضيلة شيخ الأزهر الشريف، د. محمد الطنطاوي. لقد تحدثت عن أعمال هذه الندوة في مكان آخر، وأود هنا أن أشير إلى بعض النقاط المهمة المثارة في أي حوار في ندواتنا عن "الآخر"، مما لم تعد تتحمل التأجيل.
إن أول ما نلاحظه في هذا المقام تضارب كتب الأحزاب الإسلامية، وهي التي-للأسف- أشد تأثيراً في الشارع والعامة، في وضع "أهل الكتاب". فمن مؤلفي هذه الكتب من يتحدث عنهم بحرص ولين، ويقول إن لهم "منزلة خاصة"، كما يفعل د. القرضاوي في بعض مؤلفاته، ومنهم من يعتبرهم أعداء ويخاطبهم ككفار. فلا توجد في الواقع رؤية إسلامية واحدة لهذا "الآخر" الذي تنعقد الندوات لكسب ثقته! إذ تتفاوت الدعوات بن داع من تيار "الإخوان المسلمين" إلى اعتبارهم مواطنين من الدرجة الأولى كالمسلمين، في مصر مثلاً، ودعاة من نفس الحزب في الكويت مثلاً، إلى إغلاق الكنائس وربما إخراج النصارى من دول الخليج والجزيرة.
والمشاهد والمسموع أن عدداً لا يستهان به، حتى من رجال الدين المعتدلين، يستخدمون مصطلح "كفار" للإشارة إلى المسيحيين واليهود، مما يثير هنا ملاحظة ثانية: هل الحوار مع الآخر "حوار سياسي"، في الحقوق والواجبات الوطنية بين أطراف ينبغي أن تكون متساوية، أم أن مرجعية هذا الحوار "دينية"، بين مسلمين على حق وآخرين من النصارى على ضلال؟
وإذا كانت النظرة لا تزال بهذا الضيق والاضطراب والتضاد نحو أتباع "الأديان السماوية"، فكيف نستطيع نقل الحوار إلى أتباع الديانات الآسيوية مثلاً، كالبوذية والكونفوشية والهندوسية، وبخاصة إن صعد نجما الهند والصين، ووجدنا أنفسنا مضطرين إلى التفاهم الثقافي والديني معهما؟(11/114)
ومما يضعف المجهودات في هذا المجال أن التيار العاقل و"المتسامح" و"الوسطي"، مقارنة بالمتطرفين الآخرين، لا بمقاييس إعلان حقوق الإنسان، غير قادر على أن يوجه جمهور العالم الإسلامي داخل العالم الإسلامي أو في أوروبا. فالأفكار المتشددة والرؤى المتطرفة لا تزال واسعة الرواج في ثقافة "الإسلام السياسي" في آسيا وشمال أفريقيا وأوروبا، كما أن استمرار الإرهاب في العراق و"الإعجاب" بابن لادن ونجاح تجنيد الشباب في العمليات الانتحارية المعادية، ليسا سوى بعض ملامح "نجاح" قوى التشدد. ومن المؤسف أن الجماعات الإسلامية التي تصف نفسها بالاعتدال، لا تزال مترددة في التصدي بحزم للتيار التكفيري مثلاً والسلفية الجهادية عموماً، وجماعة "طالبان" وتنظيم "القاعدة" والإرهاب الدموي في العراق على وجه الخصوص. بل كثيراً ما نرى الكتاب الإسلاميين، بعد أن يقولوا كلمة أو كلمتين في ذم المتطرفين وابن لادن والزرقاوي، يكرسون معظم كلامهم للهجوم على العلمانيين والليبراليين وسياسة الولايات المتحدة والتحلل الأخلاقي والكثير من الأشياء الأخرى، التي تشفع في نهاية المقال لأهل التطرف تطرفهم، ولأهل الإرهاب إرهابهم، إلى أن تُحل مشاكل الفقر في العالم الإسلامي، أو تنتهي ظاهرة البطالة في مصر والجزائر وباكستان وبنغلادش، أو تتغير السياسة الأميركية في العالم!
وهذا للأسف الشديد جوهر كتابات "المثقفين" العرب، ومواعظ "الإسلاميين"، وملتقى خيوط "الإسلام السياسي"، و"التيار القومي" في تحالفهما الجديد غير المقدس!
وكثيراً ما يجتمع هؤلاء خلال الندوات في الولولة على الهوية العربية- الإسلامية للأمة، وفي التحذير من فرض النموذج الحضاري الغربي على العرب والمسلمين، ولكن إلى أي حد بذل هذان التياران مساعيهما في مجال إيجاد نموذج عصري إسلامي عربي ناجح؟ ولماذا تؤدي مثل هذه المحاولة دائماً إلى عزل الأقليات غير المسلمة وغير العربية وربما غير "السنية"؟ بل أساساً، هل هناك نموذج حضاري غير صناعي غير رأسمالي ناجح؟
ونحن نتحدث دائماً عن الانتقال من "الإسلام المتشدد" أو "الإسلام السياسي" إلى "الإسلام الحضاري"، ولكن هل نحن مجمعون على ماهية هذا الإسلام؟ ألم يعادِ الفقهاء مثلاً الفلسفة والفنون والانفتاح الاجتماعي والنشاط النسائي العلني، بل حتى تعليم الإناث، والسماح بالطباعة؟ وعارضوا تعليم اللغات الأجنبية والنظريات العلمية ودخول التكنولوجيا؟ ألم يعادِ الفقهاء مفكري المسلمين ويحرقوا كتب ابن رشد وقادوا حملة شاملة، ولا يزالون، لتصفية أي فهم غير ديني سلفي للحياة والمجتمع؟ فماذا هو هذا "الإسلام الحضاري" الذي نريده، وما تعريفه؟ وما تضاريسه؟
وإذا كنا نريد "عقلنة" الإسلاميين المتشددين في بلادنا، أما من دور مهم يلعبه المسلمون الأوروبيون والأميركان والأستراليون والكنديون في هذا المجال؟
وأين دور المسلمين الذين يعيشون هناك، في ظل حرية العقيدة وفي ظل الديمقراطية والحداثة والحقوق المتساوية للمرأة والرجل، من أن يلعبوا دوراً رئيسياً في انتشال العالم العربي والإسلامي؟ ولماذا لا يفتح أحد من قادة وزعماء ومفكري النشاط الإسلامي في أوروبا وأميركا فمه إلا بالتهجم على الغرب والبكاء من شدة الاضطهاد والصياح واغوثاه.. واغوثاه؟!
أين دور هؤلاء في مجال توعية العالم الإسلامي بمجالات نجاح "حضارة الآخر" والحريات التي يعطيها هذا الآخر لـ"الآخر المسلم والبوذي والهندوسي"، وبمزايا العقلانية والتسامح؟
ولماذا لا تزال تجمعات المسلمين في أوروبا وكندا وأستراليا وغيرها تفرخ الإرهابيين وتبعث بالمقاتلين الأشداء إلى قرى العراق أو تجندهم لتفجير قطارات لندن ومدريد وباريس؟
ثم إن من أخطر مشاكل الإسلاميين في مجال أزمتنا بين "الأنا والآخر".. ازدواجية الخطاب!
فلكل مقام عندهم مقال!
يقولون في العالم الإسلامي شيئاً، وفي أوروبا وأميركا شيئاً آخر.
ويقولون بين المسلمين وأتباع تياراتهم شيئاً وبين المسيحيين وبخاصة المتسامحين منهم شيئاً آخر. يدافعون عن الليبرالية والعلمانية وحرية بناء مراكز العبادة وإنشاء الجمعيات والبنوك وإصدار الصحف الإسلامية بكل حماس وقوة.. في أوروبا وأميركا. وفي بلدان العرب والمسلمين والمشرق يتحولون إلى محذرين من انحلال الغرب ومخاطر عزل السياسة عن الدين ومن المرأة ومن أعداء المسلمين، بل ومطالبين بـ"تطبيق الشريعة"!
ومن الغريب حقاً أن يكون الدور السلبي والمشين للمتطرفين من "الجهاديين" والمتشددين عموماً السبب الرئيس في معاداة الكثير من الغربيين للإسلام والمسلمين، بينما تهاجم كل الندوات والمقالات في بلداننا الغربيين وأجهزة الإعلام الأجنبية والتأثير الصليبي والصهيوني!(11/115)
لقد أمضيت شخصياً سنوات ممتدة أتابع كتب وكتيبات بل ومقالات الإسلاميين، من إخوان وسلف وجهاد وتحرير وسنة وشيعة، ولم تمر عليّ حتى الآن أي دراسة "إسلامية" عن دور الإسلاميين المتشددين وغلاة السلفيين في تشويه صورة الإسلام في أوروبا وأميركا، بينما ظهرت عندنا أطنان من مثل هذه الكتب والأدبيات، عن دور الأوروبيين والنصارى والكفار واليهود والصهاينة والصليبيين واليمين الأوروبي والمسيحية الجديدة في أميركا... إلخ. ليس هذا فحسب، بل إن الأسوأ، أن الإسلاميين خاصة وعامة المسلمين عموماً يتهمون الغربيين بأنهم "لا يفهمون الإسلام"! تصوروا يا إخوتي، كل هذه الدراسات والترجمات، والبحوث والمقالات، والمتابعة الإعلامية والتقارير الدورية، والاحتكاك اليومي ومعايشة المسلمين في أوروبا وأميركا وكل مكان، والإنترنت والفضائيات.. والناس هناك إلى الآن لا تفهم الإسلام! من شوّه وجه الدين وغيّر ملامحه؟ هل الإسلام إذن منهج ديني منفصل.. أم لغز من الألغاز؟
الخطباء والمحاضرون في مثل هذه الندوات عن "نحن والآخر"، يقولون إن المسلمين أنفسهم كذلك لا يفهمون "الإسلام الصحيح" و"الشريعة الحقة"!
على من يقع اللوم؟
صحيفة الإتحاد الإماراتية
====================
عودة الى قضايا اسلامية
العسكر لـ «الرياض»:
كتّاب غربيون يوضحون حقيقة الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم والدانماركيون يسيئون
كتب - مندوب «الرياض»:
قال الأستاذ عبدالعزيز بن علي العسكر: نشرت صحيفة (جلاندز بوستن) الدنماركية اثني عشر رسماً ساخراً.. السخرية بمن يا ترى؟!
إنهم يسخرون بأعظم رجل وطأت قدماه الثرى، بإمام النبيين وقائد الغر المحجلين صلى الله عليه وسلم، صور آثمة أظهرت ألا ثمة عدالة عند تلك الصحيفة ومسؤوليها، وكشفت لنا جهل الغربيين المساكين بالإسلام - والله مساكين) تصوروا أن الإسلام هو التفجير والتدمير وقتل الأبرياء.. أظهروا الحبيب صلى الله عليه وسلم في إحدى هذه الرسومات عليه عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأسه!! وكأنهم يريدون أن يقولوا إنه مجرم حرب (ألا ساء ما يزرون)!؟ ومع أسفنا وألمنا.. فإننا لا نلومهم بقدر ما نلوم أنفسنا فنحن - دعاة وكتّاباً - قصرنا في توضيح الصورة الحقيقية للإسلام، وقصرنا في نشر سيرة الحبيب العطرة. فداه نفسي وأولادي وأمي وأبي ومن ولدهما ومن ولدا..
وإمعاناً في غيها طلبت الصحيفة الدنماركية من الرسامين التقدم بمثل تلك الرسوم لنشرها على صفحاتها. ثم في هذه الأيام وفي يوم عيد الأضحى بالتحديد - إمعاناً في العداء - تأتي جريدة (ماجزينت) النرويجية لتنكأ الجراح وتشن الغارة من جديد، فتعيد نشر الرسوم الوقحة التي نُشرت في الصحيفة الدنماركية قبل! {أتواصوا به بل هم قوم طاغون}؟
إن المنتظر منكم، ومن أمثالكم الشيء الكثير الكثير.. ومنه على سبيل المثال وإلا فلديكم أفكار أكثر وأفضل، مما اقترحه:
? إن كنا حريصين فيما مضى على تعلم السنة، فيلزمنا من الآن فصاعداً أن نكون عاملين بها، متمسكين بها، عاملين بما نعلم منها، فالعمل بالعلم يورث العلم، أما العلم بلا عمل فسريعاً ما يضمحل، كما علينا أن ننشر السنة الشريفة على كافة الأصعدة والمستويات، حتى تكون لنا وللأجيال القادمة كالهواء الذي نتنفسه! صلى الله عليه وسلم على الحبيب. ونحث أبناءنا وقراءنا على التأسي بالحبيب في كل شؤونهم.
? ينبغي أن يتحلى كل مسلم منا باليقظة والوعي لما يتعرض له الإسلام والمسلمون من تهديدات ومخاطر، وأن لا نستجيب لاستفزازات المتعصبين، ولتكن مواقفنا محسوبة، مع حسن تقدير العواقب.
? ينبغي علينا جميعاً التآزر والتعاون مع العلماء وولاة الأمر في التصدي لهذه الحملات المغرضة الجائرة، وأن يبذل كل منا جهده في إيصال تألم المسلمين في بلد التوحيد ودولة التوحيد وقبلة المسلمين لما ينال أعز وأشرف الخلق كلهم، فداه نفسي وأولادي ووالدي ووالده وأمي ووالدها وما ولد. فنبين للمسؤولين حزن المسلمين عموماً والسعوديين خصوصاً الشديد لذلك.
? أمنية لو يستثمر كُتاب صحفنا المحلية هذه الفرصة الذهبية - بذلك نستطيع أن نحول المحن إلى منح! والمصائب إلى فرص.. فالغرب يتطلع لمعرفة المزيد (الصحيح) عن الإسلام. ومن ذلك:
أولاً: يقول (مهاتما غاندي) في حديث لجريدة «ينج إنديا»: «أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر.. لقد أصبحت مقتنعاً كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول، مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته. هذه الصفات هي التي مهدت الطريق، وتخطت المصاعب وليس السيف. بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي آسفاً لعدم وجود المزيد للتعرف على حياته العظيمة. أ-ه»(11/116)
ثانياً: ويقول المستشرق الكندي الدكتور (زويمر) في كتابه «الشرق وعاداته»: «إن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضاً بأنه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجريئاً مغواراً، ومفكراً عظيماً، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الإدعاء. أ.ه»
ثالثاً: يقول الانجليزي (برنارد شو) في كتابه «محمد»، والذي أحرقته السلطة البريطانية: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد. هذا النبي الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والاجلال. فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالداً خلود الأبد، وإني أرى كثيرا من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة - يعني أوروبا - إن رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجة للجهل أو التعصب، قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدواً للمسيحية!
لكنني اطلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته اعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنه لم يكن عدواً للمسيحية، بل يجب أن يسمى منقذ البشرية. وفي رأيي أنه لو تولى أمر العالم اليوم، لوفق في حل مشكلاتنا، بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها. أ.ه.
رابعاً: يقول (سنرستن الآسوجي) أستاذ اللغات السامية، في كتابه «تاريخ حياة محمد»: إننا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا.
فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مصراً على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ. أ-ه.
خامساً: يقول الأديب العالمي (ليف تولستوي) الذي يعد أدبه من أمتع ما كتب في التراث الإنساني قاطبة عن النفس البشرية: يكفي محمداً فخراً أنه خلص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم، وأن شريعة محمد، ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة.
سادساً: يقول المستشرق الأمريكي (سنكس) في كتابه «ديانة العرب»: ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة.
هذا غيض من فيض.. فهذه وتلك.. وغيرها الكثير الكثير.. شهادات حق بأقلام بعض علماء الغرب ومثقفيه المنصفين. وإنني على ثقة أنكم ستنشرون هذه الشهادات للغربيين الذين ضللوا عن الحقيقة..
=======================
فتوى فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي عن المقاطعة الاقتصادية
بيان في فضل الجهاد في سبيل الله وأن المقاطعة الاقتصادية ركن من أركان الجهاد
لفضيلة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر بن سعدي - رحمه الله
فضل الجهاد في سبيل الله أخبر الله في كتابه أن الجهاد سبب الفلاح وطريق العز والرفعة والنجاح ، وأنه أفضل التجارات الرابحة ، وأن أهله أرفع الخلق درجات في الدنيا والآخرة .. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بالجهاد تتم النعم الباطنة والظاهرة . وهو ذروة سنام الدين وأحب الأعمال إلى رب العالمين، وأن الروحة والغدوة واليوم والليلة في الجهاد ومصابرة الأعداء خير من الدنيا وما عليها ، وأنه خير من استيعاب الليل والنهار بالصيام والقيام وأنواع التعبد ، وأن المجاهد المصابر إذا مات وَجَبَتْ له الجنة وأجري له عمله الذي كان يعمله في الدنيا إلى يوم القيامة ، وأمن من فتن القبر وعذابه ، وأن ذنوبه صغارها وكبارها يغفرها الله ما عدا ديون العباد ، وأن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، وما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار .
ومن مات لم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق .. أي ومن غزا في سبيل الله أو استعد للغزو عند الحاجة إليه فقد كمل إيمانه وبرئ من النفاق .(11/117)
وفضائل الجهاد لا تعد ولا تحصى ، وثمراته العاجلة والآجلة لا تحد ولا تستقصى، وكيف لا يكون الجهاد في سبيل الله يحتوي على هذه الفضائل الجليلة وفيه عز الدنيا وسعادتها وفيه سعادة الآخرة وكرامتها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . كيف لا يكون بهذه المثابة وفيه عز الإسلام والمسلمين ، وفيه إقامة شعائر وشرائع الدين ، وفيه قمع الطاغين والمعتدين .. فالمجاهد قد استعد وتصدى أن يكون من أنصار الله الذابين عن دين الله ، والمجاهد قد سلك كل سبيل يوصله إلى الله ، والمجاهد قد شارك المصلين في صلاتهم والمتعبدين في عباداتهم والعاملين في كل خير في أعمالهم لأنه لا سبيل لقيام هذه الأمور إلا بالجهاد والذب عن الأوطان والأديان ، فلولا المجاهدون لهدمت مواضع العبادات ، ولولا دفع الله بهم لتصدع شمل الدين واستولت الأعداء من الكافرين الطاغين .. فالجهاد سور الدين وحصنه ، وبه يتم قيامه وأمنه، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز .
فيا أنصار الدين .. ويا حماة المسلمين .. ويا خيرة المجاهدين ..
هذه أيامكم قد حضرت ، وهذه أمم الكفر والطغيان قد تجمعت على حربكم وتحزبت ، فقد أتوكم في عقر داركم .. غرضهم القضاء التام على دينكم وأقطاركم ، فانفروا لجهادهم خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون ..
{يا أيها الذين هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } .
ألم تروا كيف جعل الله الجهاد أربح التجارات، وطريقا إلى المساكن الطيبة في جنات النعيم ، ووعدهم بالنصر منه وفتح قريب ، والله تعالى لا يخلف الميعاد .
{يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }
قوموا بالجهاد مخلصين لله قاصدين أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى .. حافظوا على الوحدة الدينية ، والأخوة الإيمانية ، والحماية العربية .. ولتكن كلمتكم واحدة وأغراضكم متحدة ومقاصدكم متفقة وسعيكم نحوها واحد ، فإن الاجتماع أساس القوة المعنوية ، ومتى اجتمع المسلمون واتفقوا وصابروا أعداءهم وثبتوا على جهادهم ولم يتفرقوا وعملوا الأسباب النافعة واستعانوا بربهم .. متى كانوا على هذا الوصف فليبشروا بالعز والرفعة والكرامة .
{يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } .
{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون * ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم إن الله مع الصابرين } .
إخواني :
اعلموا أن الجهاد يتطور بتطور الأحوال ، وكل سعي وكل عمل فيه صلاح المسلمين وفيه نفعهم وفيه عزهم فهو من الجهاد ، وكل سعي وعمل فيه دفع لضرر على المسلمين وإيقاع الضرر بالأعداء الكافرين فهو من الجهاد، وكل مساعدة للمجاهدين ماليا فإنها من الجهاد .. فمن جهز غازيا فقد غزى، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزى، وإن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة : صانعه يحتسب فيه الأجر ، والذي يساعد به المجاهدين ، والذي يباشر به الجهاد .
ومن أعظم الجهاد وأنفعه السعي في تسهيل اقتصاديات المسلمين والتوسعة عليهم في غذائياتهم الضرورية والكمالية ، وتوسيع مكاسبهم وتجاراتهم وأعمالهم وعمالهم ، كما أن من أنفع الجهاد وأعظمه مقاطعة الأعداء في الصادرات والواردات فلا يسمح لوارداتهم وتجاراتهم ، ولا تفتح لها أسواق المسلمين ولا يمكنون من جلبها على بلاد المسلمين .. بل يستغني المسلمون بما عندهم من منتوج بلادهم، ويوردون ما يحتاجونه من البلاد المسالمة . وكذلك لا تصدر لهم منتوجات بلاد المسلمين ولا بضائعهم وخصوصا ما فيه تقوية للأعداء : كالبترول ، فإنه يتعين منع تصديره إليهم .. وكيف يصدر لهم من بلاد المسلمين ما به يستعينون على قتالهم ؟؟! فإن تصديره إلى المعتدين ضرر كبير ، ومنعه من أكبر الجهاد ونفعه عظيم .
فجهاد الأعداء بالمقاطعة التامة لهم من أعظم الجهاد في هذه الأوقات ، ولملوك المسلمين ورؤسائهم – ولله الحمد – من هذا الحظ الأوفر والنصيب الأكمل ، وقد نفع الله بهذه المقاطعة لهم نفعا كبيرا .. وأضرت الأعداء وأجحفت باقتصادياتهم ، وصاروا من هذه الجهة محصورين مضطرين إلى إعطاء المسلمين كثيرا من الحقوق التي لولا هذه المقاطعة لمنعوها ، وحفظ الله بذلك ما حفظ من عز المسلمين وكرامتهم .(11/118)
ومن أعظم الخيانات وأبلغ المعاداة للمسلمين تهريب أولي الجشع والطمع الذين لا يهمهم الدين ولا عز المسلمين ولا تقوية الأعداء نقود البلاد أو بضائعها أو منتوجاتها إلى بلاد الأعداء ..! وهذا من أكبر الجنايات وأفظع الخيانات ، وصاحب هذا العمل ليس له عند الله نصيب ولا خلاق .
فواجب الولاة الضرب على أيدي هؤلاء الخونة ، والتنكيل بهم ، فإنهم ساعدوا أعداء الإسلام مساعدة ظاهرة ، وسعوا في ضرار المسلمين ونفع أعدائهم الكافرين .. فهؤلاء مفسدون في الأرض يستحقون أن ينزل بهم أعظم العقوبات .
والمقصود أن مقاطعة الأعداء بالاقتصاديات والتجارات والأعمال وغيرها ركن عظيم من أركان الجهاد وله النفع الأكبر وهو جهاد سلمي وجهاد حربي .
وفق الله المسلمين لكل خير وجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم وجعلهم إخوانا متحابين ومتناصرين ، وأيدهم بعونه وتوفيقه ، وساعدهم بمدده وتسديده إنه جواد كريم رؤوف رحيم ..
و صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
قال ذلك وكتبه :
عبدالرحمن بن ناصر بن سعدي - رحمه الله .
المصدر :
http://www.islamgold.com/view.php?gid=10&rid=123
=======================
فخر لهذه الأمة وقفتها الشريفة
عادل بن عبدالرحمن المعاودة / النائب الثاني لرئيس مجلس النواب بمملكة البحرين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(24) سورة التوبة، فلا شيء يجب أن يكون أحب للإنسان المسلم بعد الله سبحانه وتعالى من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وقد قال - بأبي هو وأمي -: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أولهن أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما..) فيجب أن ننسى الوقت وننسى الأعمال وننسى التجارة وننسى المخذلين الذين يحاولون أن يخذلوا المؤمنين، المحاولون أن يخذلوا الأمة في هذه النازلة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقلبها إلى خير لهذه الأمة. الإيمان لا يتم عند الإنسان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين). ونحن هنا لسنا لندافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الله عز وجل هو الذي يدافع عنه، حماه في حياته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويحميه بعد مماته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولا يصله إيذاء المؤذين. الله قال له: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (67) سورة المائدة. وقال سبحانه: {نَّإ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ(3) سورة الكوثر. هو الذليل، هو المخذول الذي يبغض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أما من يتطاول على الجناب الشريف فنقول له:
هجوت محمدا فأجبت عنهُ
وعند الله في ذاك الجزاءُ
أتهجوه ولست له بكفءٍ
فشركما لخيركما فداءُ
هجوت مباركا برا حنيفا
رسول الله شيمته الوفاءُ
فإن أبي ووالدتي وعرضي
لعرض محمد منكم وقاءُ(11/119)
الأمة قالت بصوت واحد - والحمد لله - من المشرق إلى المغرب: فداك يا رسول الله، فداك يا نبي الله، فداك يا خليل الله. ولتخرس الألسن المنحطة المتخاذلة التي تأبى على الأمة حتى أن تعبر عن حبها ووفائها، وتعامل الأمة بنواياها وبخستها وبدناءتها التي لا تتعدى لعاعة الدنيا. إننا ما امتطينا صهوة هذا المكان إلا لندافع عن دين نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وليس طمعا في الدنيا، فإذا مس الجناب الشريف فوالله لن يهدأ لنا بال ولن يقر لنا قرار حتى ننتقم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونوقف الناس عند حدهم. أما هؤلاء المخذلون الذين يريدون أن يخذلوا الأمة نقول لهم: لا. يجب أن تعرف الأمة أن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع الحد على من سبه حتى لو تاب وأناب وعاد إلى الله عز وجل . قال العلماء إن سب النبي أو أي نبي من أنبياء الله عز وجل حده القتل وإن تاب، حتى لا يمس جناب الأنبياء. أيريدون أن نسكت؟! لا والله لن نسكت؛ لأنهم قد تجاوزوا الحد. وقد أظهرت الأمة، لنعبر عما في نفوسنا وعما في نفوس المسلمين، إلا رسول الله، تسب الحكومات، يسب الأمراء، يسب الملوك، يسب الناس، القاصي والداني إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإنه لفخر لهذه الأمة أن تقف هذه الوقفة الشريفة، وأما من انتقص من عقد هذه الجلسة فهو المخذول، فهو الأبتر كما قال الله سبحانه وتعالى ، إذا لم يقف هذا المجلس ليدافع عن رسول الله وعن عرض رسول الله فلا خير فيه، لا خير فينا إن لم ندافع، إن لم نستغل هذه المنابر وهذا المنبر. اليوم ننعقد ليس لنخاطب أهل البحرين فهم أغير منا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن لنتكلم بأمانة بأصواتهم التي أعطونا إياها لننقلها بإجماع نواب الشعب إلى العالم كله، هذه هي البحرين، هذا هو شعب البحرين. إننا نطالب كشعب كامل وكبلد كامل أن تحفظ كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم على حكام المسلمين، ويجب أن نوجه خطابا من المجلس إلى الحكام، يجب أن يشرع قانون في الأمم المتحدة، كيف أن اليهود يشرع لهم قانون و(بوش) وقع على هذا القانون في 2004م للمعاداة ضد السامية، الذي يتكلم عن السامية ومن يكذب الخرافة، خرافة المحرقة، فإنه يتعرض إلى العقاب والتجريم. الكذب يجب أن نصدقه، كيف استطاع الحثالة أحفاد القردة والخنازير أن يصدروا هذا القانون، وأمة المليار لا تستطيع أن تصدر قانونا يحمي جناب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والقرآن؟! ولذلك من مطالبنا اليوم كممثلين للشعب إلى حكامنا وإلى حكام المسلمين أن يعملوا على سن قانون يمنع ويجرم التعدي والتطاول على رسول الله وعلى القرآن وعلى دين الإسلام، ولا يكون اليهود أفضل منا، وحاشانا أن يكون اليهود أفضل منا. ثم إننا لا نستخف بموقف الناس في المقاطعة وفي غيره، وليس هذا مجاله لكن المجال نقول: إن الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم، وهو رحمة للعالمين، ولكن إذا جاء سبه فقد قتل كعب بين الأشرف رأس اليهود في مكانه لأنه كان يسب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وغارت الأوس على الخزرج أنهم قتلوا مبغض النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوا سلام بن أبي الحقيق في داره بين أهله، لماذا؟ لأنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كان الظهور للإسلام لما جاز إلا قتل هؤلاء حدا؛ انتقاما، لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن ونحن في هذا الضعف - ولكننا لسا ضعفاء بالله عز وجل - يجب أن تقف الأمة وقفة واحدة.
======================
فداك أبي وأمي يا رسول الله
كان من المفترض أن أكمل حديثي عن '' نشوز المرأة (3) '' ولكن رأيتُ الكلامَ فيما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة عن بعض الصحف الدنماركية والنرويجية من استهزاء بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم أولى وأحق ، ولست في مقام نقل ردود الأفعال التي صاحبتِ الحدثَ ، أو التحدث عن الحكم الشرعي في المسألة فحكمها ظاهر سواء كان الاستهزاء من مسلم أو كافر ويُرجع فيه إلى أفضل مُؤَلَّف '' الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم '' لشيخ الإسلام ابن تيمية للراغب في تفاصيلها .(11/120)
وبما أن عمودي مخصص لـ '' شقائق الرجال '' فأسطري هذه موجهة إليهن ، فلا بد لهن من دورٍ تجاه هذه المحنة وأن فيها منحاً '' لَا تَحْسَبُوهُ شَرٌّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ '' ، وفداء النبي صلى الله عليه وسلم يستوي فيه الذكر والأنثى . هذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ضربت مثالاً رائعاً في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم بلسانها عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : دَخَلَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : '' السَّامُ عَلَيْكُمْ '' ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ : '' وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ '' ... الحديث . فالمرأةُ المسلمةُ مطالبةٌ بنصرة النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها ، في مدرستها ، في عملها ، في أواسط أخواتها المسلمات ... تسطيعُ أن تستخدمَ أحد اللسانين ... الجارحة أو القلم ، وكلّ واحد منهما له تأثيره ولا شك . ولنأخذ بعض الخطوات العملية في تفعيل دور المرأة للذب عن سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم :
1 - المرأة مطالبة بالتحدث في أواسط النساء عن حقد الكفار على هذا الدين وأهله ، وأنهم لن يرضوا عنا أبداً مهما تنازلنا لهم ، وحثهن على الانتصار للنبي صلى الله عليه وسلم إما بالكتابة في الصحف أو المجلات أو المواقع على الشبكة لمن لها قلم مؤثر منهن ، أو بالاتصال على أصحاب القرار ، وإظهار الغضب والاستنكار .
2 - المرأةُ تستغلُ هذا الحدث الجلل في بيتها بالتعريف بمكانة النبي صلى الله عليه وسلم في حياتنا ، وأننا نفديه بكلِّ وأعز ما نملك .
3 - تفعيل دور المقاطعة لبضائع البلاد التي نالت من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه أقل القليل في حقّ الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن الحرب الاقتصادية لتلك البلاد هي التي ستجعلها تركع وتعتذر ، فهم عبدة الدرهم والدينار ، والمقاطعة الاقتصادية سلاح قوي وفعال ... فالزوجة والأخت والأم والبنت تحث أهل بيتها على عدم الشراء أو إدخال بضائع البلاد التي سخرت من نبينا صلى الله عليه وسلم ، وهناك شركات بديلة .
4 - الكاتبةُ المسلمةُ في الجريدةِ أو المجلةِ أو الشبكةِ ( النت ) مطالبةٌ أن تُسَخِر قلمها في الذب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومما يثلج الصدر أنه ظهرت في الأيام الماضية بعض المقالات الرائعة في الصحف بأقلام نسوية تذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكراً لهن ولأقلامهن وجزاهن الله خيراً . والأدوار كثيرة ، ولكني أتيتُ على أهمها .
عبد الله بن محمد زُقَيْل
=====================
فداك نفسي وأمي بل فداك أبي
وجدت هذه القصيدة في موقع الجزيرة- نت
قصيدة للشاعرعبد الله باشراحيل ردا على الصحيفة الدانماركية
تلقت الجزيرة نت قصيدة للشاعر السعودي الدكتور عبد الله محمد باشراحيل يرد فيها على ما قامت به الصحيفة الدانماركية من نشر للرسوم المسيئة إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم التي أثارت غضب المسلمين في جميع أنحاء العالم.
وقد تناول الشاعر المعروف صاحب جائزة باشراحيل للإبداع الثقافي في القصيدة جانبا مضيئا من شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم مدافعا عن الرسالة الخالدة التي جاء بها.
وهذه هي القصيدة:
فداك نفسي وأمي بل فداك أبي يا سيد الناس فوق الناس أنت نبي
أشرقت في حلكة الأيام وانتشرت سحائب النور أنداء لكل أبي
وطاف حولك ريان الهدى ألقا بالوحي يصدع من قراننا العربي
لم تنثن وعقول الجهل سادرة تذود عن شرعة الإسلام كل غبي
فكنت أعظم ما في الخلق منزلة وقد تجاوزت فوق الشأو والرتب
يا صاحب الخلق الأسنى مواهبه يا أيها الطاهر المزدان بالأدب
مانال مجدك إنسان ولا بلغت سمو قدرك أقدار من النجب
ولن تطاولك الأغيار في شرف فأنت أشرف بالإيمان والنسب
لأنت يا سيدي دين لأمتنا ودينك الحق يجلو ظلمة الريب
وأنت بالحب شمس في ضمائرنا أضأت أفئدة في ليلها الكئب
ذمُّ الدميم دليل أن شرعتنا حقيقة الحق رغم الكيد والرهب
هذا (محمد) نور الحق مشعله ما ضرَّهُ من رمى بالزيف والكذب
هو الذي ما غشى الدنيا إلى ترف ولو أراد لقلنا للقلوب ..... هِبِي
لكنه جاء بالدين الذي ارتفعت به المحامد وازدادت من القرَب
تطاول القزم والإسلام يحقره وكعبة الله نادت كل منتسب
من طغمة الكفر أوغاد تناوئنا وسوف نلهبها من وقدة الغضب
يا ألف مليون نفس في مواطننا الدين قد ناله وغد لألف أب
ذودوا عن الصادق المصدوق وانتصروا على الطغام فلا عهد لمحترب
سيألمون بما قالوا وما زعموا ويصطلون من الأهوال واللهب
يا سيد الناس كل الناس راضية أرضاك ربك بالرضوان والغلب
لأنت في دارة الدنيا نسائمها وأنت في العين بين الجفن والهدب
صلى عليك حبيبَ الله خالقنا يا أحمد المصطفى الهادي إلى الأرب
========================
فداك أبي وأمي يا أعز الناس - [ كيف تنصر نبيك فعلا ؟](11/121)
سفالة وانحطاط وكراهية طاغية
هذا هو العنوان الأمثل لما يحدث الآن تجاه المسلمين ...
نحن في هذا اللقاء لن نقوم بالرد على هذه الجريدة الدانمركية, فهي أقل من ذلك كما أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أرفع من ذلك ولكن سنلقي الضوء على الأسباب التي أدت بنا إلى هذا المستوى من الذلة والمهانة المستوى الذي جعل أعداءنا يرسمون النبي صلى الله عليه وسلم وفي عمامته قنبلة وكأنه إرهابي المستوى الذي جعلهم يرسمون مسلما يسجد وكلب يفعل به الفاحشة والعياذ بالله وكأن السجود يفعله المسلمون لهذا السبب الوضيع.
من هذه الأسباب أيها الأحبة :
1- الضعف الشديد الذي عليه المسلمون الآن :
وهذا الضعف بسبب بعدنا عن كتاب الله عز وجل وعن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وانغماسنا في الدنيا والشهوات والملذات فأغلب المسلمون الآن إلا من رحم الله يجعلون الدين في المرتبة الثانية بعد العمل والزوجة والأولاد فتجد الأب يثور ويغضب إذا حصل ولده على درجات منخفضة في أحد المواد, وعندما يعلم أن ابنه لم يصلي العصر على سبيل المثال كل ما يفعله هو أن يوبخه قليلا.
2- عدم احترام المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم بالصورة الكافية:
فإذا كنا نحن المسلمين لا نحترم سنة النبي صلى الله عليه وسلم فكيف سيحترمها أعداء الإسلام .....
وهذه حقيقة مؤلمة أيها الأحبة .....
الكثير من المسلمين لا يحترمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم فمفهوم السنة الآن معناه الترك وليس الفعل فعندما يقال للشخص أن هذا الأمر سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم يكون رد فعله الفوري أنه إذا لم يفعله لن يكون عليه إثم وبالتالي لن يفعله وعندما يخرج من بين المسلمين أنفسهم من ينكر السنة النبوية ويدعي أن كل الأحاديث التي عندنا إما ضعيفة أو موضوعة ويبدأ في الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم عندها أيها الحبيب ماذا تتوقع من أعداء الدين الذين يتربصون به ؟؟؟؟
والسؤال الآن ما الذي يجب علينا فعله الآن تجاه النبي صلى الله عليه وسلم ؟؟؟
أولا : مقاطعة جميع البضائع الدانمركية
ثانيا : إرسال الاحتجاجات على هذه الرسوم إلى من نستطيع
وقد قامت المفكرة بتسهيل هذا الأمر على المسلمين فكل ما عليك هو أن تتبع هذا الرابط وتدخل بياناتك ونحن سنتولى إرسال الاحتجاج إلى أكثر من 25 هيئة دانمركية.
أخيرا أيها الأحبة الحل الجذري لهذه المشكلة ومثيلاتها
هو العودة إلى كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإعادة بناء النموذج الإسلامي الصحيح الواقعي الذي يعيد لهذه الأمة مجدها وللوصول إلى هذا النموذج المثالي الواقعي للمجتمع المسلم, والذي هو الخطوة الأولى والأساسية في سبيل إقامة دولة الإسلام الكاملة, لابد من العمل على إصلاح ثلاثة منظومات, يشكل الخلل الذي وقع فيها معالم الانحراف الذي وقع في أمة الإسلام:
أولاً:إحياء منظومة الإيمانيات:
فالأمة في حاجة ماسة إلى إعادة بناء الصلة مع الله عز وجل من جديد بإحياء الإيمان في القلوب وتجديد ما اندرس من معالمه في نفوس المسلمين. {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [110] سورة آل عمران
ثانيًا: إصلاح منظومة القيم والأخلاقيات:
فما أبعد المسلمين اليوم عن أخلاقيات الإسلام وقيمه الرفيعة التي كانت تجعل الناس يدخلون في دين الله أفواجًا لمجرد رؤيتها في سلوك المسلمين؛ [[إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق]][[1]].
ثالثًا: إصلاح منظومة الإنتاج والفاعلية:
فإن النموذج الإنساني السائد في أمتنا اليوم هو نموذج العاجز الكسلان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه صباحًا ومساءً, [[وأعوذ بك من العجز والكسل]][[2]].
فنجد المسلم غالبًا ما يكون فاشلاً في حياته قليل الإنتاج عاجزًا عن صناعة الحياة، ومثل هذا النموذج لا يستطيع أن يبني أمة كلفها الله عز وجل بقيادة البشرية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [143] سورة البقرة
إننا نريد صناعة المؤمن الفعال الذي يستطيع أن يصنع الحضارة, ويبني التقدم على أكتاف دولة الإسلام الكاملة, التي تنتشل الأمة بأسرها من حضيض التخلف والجهل, إلى ذروة الحضارة والعلم, تمامًا كما كانت أول مرة, يوم كانت مستمسكة بشرع الله تعالى تمام الاستمساك فإذا نجحنا في إصلاح هذه المنظومات الثلاث:
[ الإيمان ــ القيم ــ الفاعلية ]
فتلك هي الخطوة الإستراتيجية الأولى والحقيقية, نحو إقامة دولة الإسلام الكاملة, التي تلتزم التزامًا كاملاً بالإسلام كعقيدة, وشريعة, ومنهج حياة وتلك هي النصرة الحقيقية للنبي صلى الله عليه وسلم نصرة تستمر ليوم الدين
----------------
[[1]] وفي رواية: [[مكارم الأخلاق]]، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة [1/112]، الحديث رقم 45.
[[2]] صححه الألباني في صحيح سنن أبي داوود [2/90]، الحديث رقم 1540.-
حب نبيك كهؤلاء
: من أجل أن يعلم المسلمون مكانة نبيهم صلى الله عليه وسلم ...........(11/122)
ومن أجل أن يعلم المسلمون كيف يكون الحب الحقيقي لهذا الرسول العظيم ..........
كانت هذه المواقف......
أبو بكر رضي الله عنه
واليك هذ المشاعر التي يصيغها قلب سيدنا أبو بكر في كلمات تقرأ، يقول سيدنا أبو بكر: كنا في الهجرة وأنا عطش عطش [ عطشان جدا ، فجئت بمذقة لبن فناولتها للرسول صلى الله عليه وسلم، وقلت له:اشرب يا رسول الله، يقول أبو بكر: فشرب النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتويت!!
لا تكذّب عينيك!! فالكلمة صحيحة ومقصودة، فهكذا قالها أبو بكر الصديق .. هل ذقت جمال هذا الحب؟انه حب من نوع خاص..!!أين نحن من هذا الحب!؟واليك هذه ولا تتعجب، انه الحب.. حب النبي أكثر من النفس..
يوم فتح مكة أسلم أبو قحافة [ أبو سيدنا أبر بكر]، وكان اسلامه متأخرا جدا وكان قد عمي، فأخذه سيدنا أبو بكر وذهب به الى النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن اسلامه ويبايع النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم' يا أبا بكر هلا تركت الشيخ في بيته، فذهبنا نحن اليه' فقال أبو بكر: لأنت أحق أن يؤتى اليك يا رسول الله.. وأسلم ابو قحافة.. فبكى سيدنا أبو بكر الصديق، فقالوا له: هذا يوم فرحة، فأبوك أسلم ونجا من النار فما الذي يبكيك؟تخيّل.. ماذا قال أبو بكر..؟قال: لأني كنت أحب أن الذي بايع النبي الآن ليس أبي ولكن أبو طالب، لأن ذلك كان سيسعد النبي أكثر
سبحان الله ، فرحته لفرح النبي أكبر من فرحته لأبيه أين نحن من هذا؟
عمر رضي الله عنه
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال: و الله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه'. فقال عمر: فأنت الآن و الله أحب إلي من نفسي. فقال رسول الله : 'الآن يا عمر' .
لن يشعر بهذه الكلمات من يقرأها فقط.. انها والله أحاسيس تحتاج لقلب يحب النبي صلى الله عليه وسلم ليتلقاها كما هي.. غضة طريّة
ثوبان رضي الله عنه
غاب النبي صلى الله عليه وسلم طوال اليوم عن سيدنا ثوبان خادمه وحينما جاء قال له ثوبان: أوحشتني يا رسول الله وبكى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ' اهذا يبكيك ؟ ' قال ثوبان: لا يا رسول الله ولكن تذكرت مكانك في الجنة ومكاني فذكرت الوحشة فنزل قول الله تعالى {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [69] سورة النساء
سواد رضي الله عنه
سواد بن عزيّة يوم غزوة أحد واقف في وسط الجيش فقال النبي صلى الله عليه وسلم للجيش:' استوو.. استقيموا'. فينظر النبي فيرى سوادا لم ينضبط فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' استو يا سواد' فقال سواد: نعم يا رسول الله ووقف ولكنه لم ينضبط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بسواكه ونغز سوادا في بطنه قال: ' استو يا سواد '، فقال سواد: أوجعتني يا رسول الله، وقد بعثك الله بالحق فأقدني!فكشف النبي عن بطنه الشريفة وقال:' اقتص يا سواد'. فانكب سواد على بطن النبي يقبلها.يقول: هذا ما أردت وقال: يا رسول الله أظن أن هذا اليوم يوم شهادة فأحببت أن يكون آخر العهد بك أن تمس جلدي جلدك.ما رأيك في هذا الحب؟
وأخيرا لا تكن أقل من الجذع ....
كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في مسجده قبل أن يقام المنبر بجوار جذع الشجرة حتى يراه الصحابة.. فيقف النبي صلى الله عليه وسلم يمسك الجذع، فلما بنوا له المنبر ترك الجذع وذهب إلى المنبر 'فسمعنا للجذع أنينا لفراق النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عن المنبر ويعود للجذع ويمسح عليه ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم:' ألا ترضى أن تدفن هاهنا وتكون معي في الجنة؟'. فسكن الجذع..
للواجب العملي طالع المقالة التالية: فداك أبي وأمي يا أعز الناس - [ كيف تنصر نبيك فعلا؟]
===================
فدتك نفسي يا رسول الله ...
18/12/1426
محمد جلال القصاص
سبُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس حدثاً عابراً قامت به صحيفة سيئة الأخلاق نفست به عن حقدها في عدد من أعدادها، وليس هو همُّ حفنة من أراذل الكفار مُلئت قلوبهم غيظاً وحنقاً على شخص الحبيب - صلى الله عليه وسلم - فقاموا يمثلون وينكتون ويسخرون، بل لو كان الأمر كذلك لكان مما يسعه الصدر - على عِظَمه - إذ إن مجاراة السفهاء أمر يترفع عنه العقلاء...ولكن.. الأمر أعمق من هذا كله .
هذه الأمور ليست إلا كما يقول الله عز وجل: "... قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ" (آل عمران: من الآية 118). وهاأنذا أنادي العقلاء، فهل يسمعون؟... وهل يجيبون؟ ... وليت أولي العزم من العقلاء مَن يلبون؟(11/123)
من قبل كان النصارى في حملاتهم (التبشيرية) يتكلمون عن النصرانية... يبترون ويكذبون ويبدون قليلاً ويخفون كثيراً كي يُظهروا دينهم في صورة يتقبلها الآخر. واتخذوا مما يسمى بحوار الأديان - هذا الحوار الذي يجرى مع رجال لبسوا الجبة والعمامة فظهروا وكأنهم علماء - وسيلة ليقولوا لمن يخاطبوهم من ضعاف المسلمين في أدغال أفريقيا وجنوب شرق آسيا إن الإسلام يعترف بنا ولا يتنكر لنا فكله خير - بزعمهم -.
وكانت حملتهم على الإسلام حملة على شعائره... يتكلمون عن التعدد وعن الطلاق وعن الحدود وعن الجهاد وعن الميراث وعن ناسخ القرآن ومنسوخة، ثم في الفترة الأخيرة وخاصة بعد انتشار الفضائيات ودخولها كل البيوت تقريباً، وكذا بعد ظهور تقنية الإنترنت عموما والبالتوك خصوصا، أخذ القوم منحى آخر وهو التركيز على شخص الحبيب - صلى الله عليه وسلم -، قاموا ينقضون الإسلام بتشويه صورة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ودَعْك من كلام الأراذل، هناك طرحٌ يُلْبِسُه دعاة الكفر ثوب العلمية ويدَّعون أنه الحقيقة التي لا مراء فيها يخاطبون بهذا الهراء قومهم ومن يتوجهون إليهم بالتنصير... هذا توجه عام داخل حملات التنصير اليوم، والأمر بيِّن لمن له أدنى متابعة لما يتكلم به القوم، وما حدث في الصحيفة الأوربية هو طفح لما يُخاطب به القوم في الكنائس وغرف البالتوك عن نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم -.
فهم يحاضرون ويؤلفون عن (أخلاق نبي الإسلام)، يتكلمون عن زواجه بتسع من النساء - وقد اجتمع عند سليمان - عليه السلام - تسعمائة من النساء وهذا في كتابهم -، وعن زواجه من عائشة ومن زينب ومن صفية - رضي الله عنهن-، وعن غزواته - صلى الله عليه وسلم -؛ وبطريقة البتر للنصوص واعتماد الضعيف والشاذ والمنكر من الحديث يخرجون بكلامهم الذي يشوهون به صورة الحبيب - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه في الأخير يبدو للمستمع أن هذا كلام (ابن كثير)، و(الطبري)، و(ابن سعد) علماء الإسلام، فيظن المخاطبون أنها الحقيقة التي يخفيها (علماء) الإسلام.
دعاة النصرانية يغرفون من وعاء الشيعة حين يتكلمون عن أمهات المؤمنين وعن صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - بل وفي كلامهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحياناً، ويغرفون من وعاء (القرآنيون) الذين يتركون السنة تشكيكاً في ثبوتها أو في عصمة الحبيب - صلى الله عليه وسلم-.
والمطلوب هو قراءة جيدة لما يحدث، والتصدي له على أرض الواقع. لا نريد ثورة كلامية، وغضبة لا يفهم منها (الآخر) إلا أنها نفرة المتعصب، نريد قطع الطريق على هؤلاء وإحباط كيدهم، وإنقاذ الناس من الكفر بربهم.
مطلوب خطاب أكاديمي يجفف منابع المنصرين، أعني ما يقوله القرآنيون والشيعة، وما يفتريه النصارى بالبتر للنص واعتماد المكذوب والشاذ والضعيف من الحديث، ومعنيٌّ بهذا طلبة درجات التخصص العليا في الكليات الشرعية، وإن أخذ الأمر وقتاً، ولكنه سيثمر بإذن الله يوماً ما.
ومطلوب خطاب لعامة الناس يبين لهم كيف كان نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بعيداً كل البعد عما يقولوه النصارى، وأن ما يقال محض كذب، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كل الكمال وجملة الجمال - صلى الله عليه وسلم -.
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت ... ...
مثل النبي رسول الأمة الهادي ...
وأيضا لا ينفك عن هذا أبداً بيان عقيدة النصارى... ما يعتقدونه في ربهم وما يعتقدونه في أنبيائهم وما يعتقدونه في أحبارهم ورهبانهم...من يعبد النصارى؟ وهل النصرانية دين يتبع؟!!
لِمَ نسكت عنهم وهم يرموننا بكل ما في جعبتهم؟!
أسياسة؟... أم جبن وخور؟... أم غفلة؟!
إن مما ابتلي به مسلمو اليوم هو التآلف مع النوازل بعد قليل من نزولها، فقط نثور قليلاً ثم نسكت ولا نتكلم وكأن شيئاً لم يحدث، وهذا الأمر فهمه عدونا، فلم يعد يبالي بجعجعتنا التي لا تتجاوز الكلام، وهو يستفيد من هذا الكلام، فليتنا نكون على قدر المسؤولية ونبدأ في تصعيد مستمر وتبصير للناس بحقيقة من يتكلمون عن النبي - صلى الله عليه وسلم-، وحقيقة دينهم، وحقيقة ديننا ونبينا - صلى الله عليه وسلم-.
فهل من مجيب؟!
فديتك نفسي يا رسول الله... فديتك نفسي يا رسول الله.. فديتك نفسي يا رسول الله.
=======================
فضل اتباع السنة
بقلم محمد عمر بازمول
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
] يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ[ [آل عمران:102].(11/124)
] يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوْا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوْا اللَّهَ الَّذِيْ تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْباً[ [النساء:1]
] يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماًً[ [ الأحزاب:70،71].
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد e وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أمّا بعد:
فهذه محاضرة بعنوان فضل اتباع السنة أدرتها على العناصر التالية: -
-تعريف السنة .
-أقسام السنة وأنواعها .
-ثمرات إتباع السنة وهي التالية :-
1. أنها سبيل النجاة من الاختلاف .
2. أنها سبيل الفكاك من الافتراق .
3. أنها سبيل الهداية من الضلال .
4. أن النسبة إليها فيها شرف النسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
5. أننا باتباعها ننفك من سبل الشيطان .
6. أننا باتباعها يرفع المسلمون عن أنفسهم سمة الذل والهوان .
7. أن فيها تشخيص الداء والدواء .
8. أن فيها تحصيل الشرع جميعه .
9. أن بها يكون تمام صالح ومكارم الأخلاق .
10. أن بها ينجو المسلم من العذاب الأليم من النيران .
11. أن بها ينال المسلم دخول الجنة .
12. أن بها يكون إحياء السنة .
ذاك هو مجمل هذه المحاضرة وإليكم البيان .
العنصر الأول في المحاضرة وهو تعريف السنة :
السنة في اللغة: السيرة والطريقة, تقول فلان على سنة فلان أي: على طريقة فلان أي على سيرة فلان هذا هو المعنى في اللغة .
السنة في الشرع: إتباع ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر وترك ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم فهي تشمل في الشرع كل ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور واجبة وأمور مستحبة وترك الأمور المحرمة وترك الأمور المكروهة . ثم بعد ذلك أصبح للسنة اصطلاح عند العلماء :-
فالسنة عند المحدثين :- ما أضيف للرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية .
فأما ما أضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من قول يعني حديث فيه قول للرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى…)) . الحديث, هذه سنة قولية.
وأمّا الفعل فهو السنة الفعلية: أن ينقل إلينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعل كذا وكان يترك كذا مثل قول أنس رضي الله عنه كان رسول الله يحب الدباء هذا أمر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً من السنة الفعلية ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أفعال في الصلاة أو أفعال في الزكاة أو أفعال في الصوم أو أفعال في الحج هذه كلها تدخل تحت السنة الفعلية .
وأمّا التقرير فهذه السنة التقريرية:وهي أن يحدث الفعل أمام الرسول صلى الله عليه وسلم أو في زمنه والوحي ينزل ويقر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ويقر الوحي ذلك فلا ينكر ولا يغير فتكون بذلك تقرير شرعي للفعل! ودلالة السنة التقريرية بمجردها على الاستحباب ضعيفة!
وأما الصفة الخُلُقية : فهي ما نقل إلينا من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم كيف كانت وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن".
وأما الصفة الخلقية فما ينقل لنا عن هيئته صلى الله عليه وسلم كما يأتي في بعض الأحاديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربعة لا بالطويل ولا بالقصير إذا وقف بين الطوال طالهم وكان صلى الله عليه وسلم أبيض الوجه وجهه كأنه فلقة القمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ... إلى أخر ما يذكر في صفات خلقه صلى الله عليه وسلم!
إذاً السنة عند المحدثين ما أضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية .
والسنة عند الأصوليين والفقهاء :
ما أضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.
لأن الفقيه والأصولي إنما ينظر في السنة من جهة أنها دليل شرعي وبالتالي لا يكتسب عنده سمة الدليل إلا هذه الأمور الثلاثة وهي : القول و الفعل والتقرير.
والفقهاء حينما يذكرون السنة ويريدون بها هذا المعنى ينبهون أن لهم اصطلاحاً آخر يطلقون فيه كلمة السنة بمعنى المستحب والمندوب ويجعلونها مرتبة من مراتب الحكم الشرعي التكليفي فيقولون : الأحكام الشرعية: خمسة الواجب والمحرم والمكروه والمباح والمستحب .
وهذا المستحب يعبرون عنه بالمندوب ويعبرون عنه بالسنة .(11/125)
وشاع عند بعض الناس أن السنة هي فقط المستحب الذي ثمرته أنه يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه والواقع أن هذا الاصطلاح اصطلاح حادث جرى عليه أهل الأصول وأهل الفقه في بيان مرتبة من مراتب الحكم الشرعي التكليفي لكن لا يصح لنا أن نفسر كلمة سنة إذا جاءت في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أو في كلام الصحابة أو في كلام التابعين أو الأئمة الكبار بمعنى المستحب فالسنة عندهم أعم من ذلك تشمل المستحب والواجب بل تشمل ما يكفر مخالفه، ولذلك أئمة السلف والأئمة الكبار في القرون الثلاثة الفاضلة الذين ألفوا وصنفوا لهم كتب اسمها كتب السنة تشتمل على أمور الاعتقاد والتي يكفر مخالفها ككتاب السنة لابن أبي عاصم وكتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل وكتاب السنة للمروزي وغيرهم .
إذاً ينبغي ألا يهجم المرء على تفسير كلمة السنة إذا وردت في كلام الصحابة أو في كلام الأئمة التابعين أو الأئمة الكبار بأنها بمعنى المستحب فقط لأن هذا اصطلاح حادث لا ينبغي أن يفسر عليه كلام أولئك القوم.
إذا اتضح هذا ننتقل إلى العنصر التالي :
ما هي أقسام السنة:
السنة عند النظر تنقسم إلى قسمين :
سنة صريحة: إضافتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم صريحة وظاهرة .
يأتيك في الحديث قال رسول الله فعل رسول الله كان رسول الله كذا أو حصل كذا مع رسول الله فالإضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تأتي صريحة فهذه سنة صريحة .
السنة الضمنية: وهي سنة تغيب عن أذهان بعض الناس. و هي التي لا يأتي فيها صريحاً ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم لكن حكمها حكم السنة المرفوعة الصريحة. ...
ما هي هذه السنة :
أقوال الصحابة التي لا مجال للرأي والاجتهاد فيها لأنها ما دامت لا مجال للرأي والاجتهاد فيها فمن أين مصدرها ومن أين أخذوها ؟ أخذوها من الرسول صلى الله عليه وسلم .
- قول الصحابي الذي لا مخالف له فيه هذا أيضاً حكمه حكم السنة المرفوعة، وبعض أهل العلم يقول هذا إجماع سكوتي إذ أن الصحابي حينما يقول القول ويسكت عن الإنكار الصحابة الآخرون فإن هذا دليلٌ أن قول هذا الصحابي سنة إما أنه سنة صريحة بهذه الموافقة أو أنه حصل على درجة الحجة بموافقة الصحابة فصار حكمه حكم الإجماع السكوتي .
- قول الصحابي في أسباب النزول، في أسباب نزول القرآن الكريم هذا أيضاً حكمه حكم السنة المرفوعة إذا كانت الصيغة التي عبر فيها عن سبب النزول صيغة صريحة كقوله حدث كذا فأنزل الله كذا فإن هذا صريح في أن هذه الواقعة حصلت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم .
- قول الصحابي في تفسير مرويه فإن الصحابي حينما سمع الحديث من الرسول صلى الله عليه وسلم علم بالقرائن التي حفت هذا الحديث فتفسيره لما يرويه عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقدم على كلام غيره بل لعل الأصل فيه أن يكون هذا الفهم أو المعنى الذي فسر فيه الحديث يغلب على الظن أنه استفاده من الرسول صلى الله عليه وسلم .
هذه أنواع تندرج تحت السنة الضمنية تغيب عن أذهان بعض الناس ولكن أهل الحديث من أكثر الناس تنبهاً لها لذلك تراهم إذا ألفوا الأجزاء الحديثية يوردون الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة لأنها لا تخلوا من أن تتضمن الدلالة أو الإشارة إلى سنة من السنن. ولهذا على طالب العلم أن يشمر عن ساعده للاعتناء بالوارد عن الصحابة في مسائل العلم، وهذا الجانب يقع فيه قصور من جهات:
الأولى: أن الغالب عدم الاعتناء ببيان الصحيح من الضعيف من الآثار. الثاني: عدم تحرير قول الصحابي في المسألة.
الثالث: الهجوم على نسبة القول إلى الصحابي، قبل تحرير إن كان آخر القولين له أوْ لا.
بعد ما عرفنا تعريف السنة وأقسام السنة نذكر لكم الآن فضل إتباع السنة والثمرات التي يجنيها المسلم إذا أتبع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم .
فأقول كمقدمة لهذه الثمرات :
الحديث عن فضل اتباع السنة النبوية هو الحديث عن الإسلام بتشريعاته وحكمه البالغة وآدابه إذ السنة هي الدين كله قال تعالى ] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ. كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أُولَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ. إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ [[آل عمران :85-88] .
فالدين هو الإسلام والإسلام هو السنة فالدين هو السنة وفي هذه المحاضرة سأحاول أن ألقي الضوء على أهم ثمرات إتباع السنة والدخول فيها جعلنا الله وإياكم من أهلها فأقول مستعيناً بالله :
من أهم ثمرات ونتائج إتباع السنة ما يلي:
الثمرة الأولى(11/126)
أن في اتباع السنة أخذ بالعصمة من الوقوع في الاختلاف
المذموم والمبعد عن الدين
الاختلاف المذموم الذي هو سمة الضعف ولا يسلم المرء منه إلا بطاعة الله وطاعة الرسول قال تعالى:] وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوَاْ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ[ [الأنفال :46]. ففي إتباع السنة والأخذ بها طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وذلك سبيل النجاة من الاختلاف المذموم.
أخرج الترمذي في سننه في كتاب العلم باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع وأبو داود في كتاب السنة من سننه باب ما جاء في لزوم السنة عن العرباض بن سارية قال "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدٌ حبشي فإنه من يعش منكم يرى اختلافاً كثيراً وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ".
وفي لفظ ابن ماجه قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم ما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشياً فإنما المؤمنون كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد".
هذه الوصية من الرسول صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم لا يخرج عنها شيء وهي أصل عظيم من أصول الدين. وذلك أن حياة الناس تحوطها العلاقات؛ فهي إمّا علاقة للعبد مع ربه. وإما علاقة للعبد مع مجتمعه. وإمّا علاقة مع نفسه.
وبيّن الحديث أمر العلاقة مع الله في قوله صلى الله عليه وسلم: " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّه".
وأمر العلاقة مع المجتمع في قوله: "وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ".
وأمر العلاقة مع النفس بينه في الوصية بالتقوى والتمسك بالسنة. تدلنا هذه
الوصية على فضل وثمرة من ثمرات اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الحديث حديث أبي نجيح العرباض بن سارية فيه إخبار عن أمر سيكون ، ما هو هذا الأمر؟!
أخبر أنه سيكون اختلاف كثير بين المسلمين عما كان عليه الحال في زمنه صلى الله عليه وسلم : "ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً "!
ما النجاة ما الفكاك كيف الخلاص ؟
قال: " فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " .
إذاً أول ثمرة وأول فضل لاتباع السنة أنك تعصم نفسك به على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه، تعصم نفسك عن الاختلاف المذموم ، تعصم نفسك عن الدخول في أمور الاختلاف والفرقة التي ذمها الإسلام بأن تتمسك بالسنة وهذا معيار من الرسول صلى الله عليه وسلم نعلمه ونلقنه للناس نقول لهم إذا جاءكم أمر من الأمور والتبست عليكم الأمور وما عرفتم هل هذا الأمر يجوز أو لا يجوز؛ فانظروا هل كان عليه حال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه هذا ضابط علمنا إياه صلى الله عليه وسلم فقال: "ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ...".
وقوله في الحديث: (فعليه بسنتي) أي فليلزم سنتي (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي فالإضافة إليهم إما لعملهم بها أو لاستنباطهم واختيارهم إياها وقد كانت طريقتهم هي نفس طريقته، فإنهم أشد الناس حرصا عليها وعملا بها في كل شيء. وعلى كل حال كانوا يتوقون مخالفته في أصغر الأمور فضلا عن أكبرها. وكانوا إذا أعوزهم الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عملوا بما يظهر لهم من الرأي بعد الفحص والبحث والتشاور والتدبر، وهذا الرأي منهم أولى من رأي غيرهم عند عدم الدليل .
قال أبو حاتم ابن حبان رحمه الله: "في قوله صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي" عند ذكره الاختلاف الذي يكون في أمته بيان واضح أن من واظب على السنن قال بها ولم يعرج على غيرها من الآراء من الفرق الناجية في القيامة جعلنا الله منهم بمنه .
ثم بوّب في ذكر الإخبار عما يجب على المرء من لزوم سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم وحفظه نفسه عن كل من يأباها من أهل البدع وإن حسنوا ذلك في عينه وزينوه"اهـ(1).
الثمرة الثانية
أن في اتباع السنة ولزومها النجاة من الفرقة التي توعد أهلها بالنار(11/127)
هناك الاختلاف وقد لا يصل إلى حد الفرقة لكن قد يصل الاختلاف إلى حد فتكون هناك فرق وجماعات وانتماءات ذمها الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج ابن ماجة عن أنس ابن مالك قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة " .
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمر قال صلى الله عليه وسلم : "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا واحدة إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال : ما أنا عليه وأصحابي " .
وعن معاوية بن أبي سفيان قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة ثنتان وسبعين في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة "(1) .
ففي هذا الحديث بيان أن في لزوم سنته صلى الله عليه وسلم السلامة من الفرقة المذمومة التي توعد أهلها بالنار .
هناك في الثمرة الأولى ذكر الاختلاف وقد يحدث الاختلاف ولا يصل إلى فرقة فاتباعك للسنة يسلمك من الاختلاف .
هنا في الثمرة الثانية ذكر فرق وهذا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم فيه إعجاز وتصديق لنبوته صلى الله عليه وسلم إذ الأمر حصل كما قال عليه الصلاة والسلام وحصلت فرق، هناك الخوارج وهناك المعتزلة وهناك المرجئة وهناك الجهمية وهناك الرافضة فرق كثيرة حصلت ، أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الفرق ستبلغ إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ما هي ؟ هي التي تكون ما عليه أنا وأصحابي .
إذاً هذا فيه تعظيم لأمر إتباع السنة أليس كذلك؟
فيه بيان لثمرة من ثمرات إتباع السنة أليس كذلك؟
نقول بلى : فيه تعظيم لاتباع السنة وحث للمسلمين أن يتبعوا السنة فعليهم إذا أرادوا النجاة أن يكونوا على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهذه ثمرة من ثمرات إتباع السنة .
ومن المهم هنا التنبيه على أن قوله صلى الله عليه وسلم: " كلها في النار إلا واحدة " من باب نصوص الوعيد، فالفرق المتوعدة بالنار، في قوله صلى الله عليه وسلم: " كلها في النار إلا واحدة " هذا عذابها إن شاء الله عذبها وإن شاء غفر لها، كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء:48]،[مجموع الفتاوى (7/217-218)].
قال الآجري محمد بن الحسين (ت360هـ) رحمه الله : " فالمؤمن العاقل يجتهد أن يكون من هذه الملة الناجية باتباعه لكتاب الله عزوجل وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم وسنن أصحابه رحمةُ الله عليهم ، وسنن التابعين بعدهم بإحسان، وقول أئمة المسلمين ممن لا يستوحش من ذكرهم مثل سفيان الثوري والأوزاعي ومالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد القاسم بن سلام ومن كان على طريقهم من الشيوخ فما أنكروه أنكرناه وما قبلوه وقالوا به قبلناه وقلنا به، ونبذنا ما سوى ذلك"اهـ [كتاب الأربعين حديثاً للآجري، تحقيق أخينا الفاضل بدر البدر، أضواء السلف، 1420هـ].
الثمرة الثالثة
أن في لزوم السنة تحصيل الهداية والسلامة من الضلال
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يرد عليَّ الحوض" (1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال : " يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه " (2) .
وعن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال رسول الله صلىالله عليه وسلم: " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم" (3).
وعن أبي أمامه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ضل قومٌ بعد هدىً كانوا عليه إلا أتوا الجدل ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
] مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ[" (1).
والكتاب والسنة قد هُدِي من تمسك بهما.
هذه الأحاديث تفيد أن في اتباع السنة النبوية سلامة من الضلال: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض". إذاً هذا الحديث فيه بشارة لمن اتبع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتمسك بها وأنها ستكون داعية وهادية في عرصات يوم القيامة إلى الحوض المورود حوض النبي صلى الله عليه وسلم وهذه ثمرة عظيمة من ثمرات التمسك والاتباع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم .(11/128)
قال ابن تيمية رحمه الله: "كان أئمة المسلمين مثل مالك وحماد بن زيد والثوري ونحوهم إنما تكلموا بما جاءت به الرسالة وفيه الهدى والشفاء فمن لم يكن له علم بطريق المسلمين يعتاض عنه بما عند هؤلاء وهذا سبب ظهور البدع في كل أمة وهو خفاء سنن المرسلين فيهم وبذلك يقع الهلاك، ولهذا كانوا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة".
قال مالك رحمه الله: "السنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك".
وهذا حق فإن سفينة نوح إنما ركبها من صدق المرسلين واتبعهم وأن من لم يركبها فقد كذب المرسلين . واتباع السنة هو اتباع الرسالة التي جاءت من عند الله فتابعها بمنزلة من ركب مع نوح السفينة باطنا وظاهرا والمتخلف عن اتباع الرسالة بمنزلة المتخلف عن اتباع نوح عليه السلام وركوب السفينة معه.
وهكذا إذا تدبر المؤمن سائر مقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم التي فيها ضلال وكفر وجد القرآن والسنة كاشفان لأحوالهم مبينان لحقهم مميزان بين حق ذلك وباطله والصحابة كانوا أعلم الخلق بذلك كما كانوا أقوم الخلق بجهاد الكفار والمنافقين كما قال فيهم عبدالله بن مسعود: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم"(1)اهـ.
الثمرة الرابعة
أن في السنة دخولاً تحت اسم النبي صلى الله عليه وسلم
وفي تركها خروجًا عن اسم الرسول صلى الله عليه وسلم
الرسول عليه الصلاة والسلام يقول : "من رغب عن سنتي فليس مني" وله قصة أخرج الشيخان واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبداً وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله واتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
وترك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم هو رغبة عنه، تركها بعد علمها هو رغبة عنه والرغبة عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم على درجتين : قد تكون في درجة المعصية وقد تكون في درجة الكفر والعياذ بالله .
إذا تركتها إعراضاً عنها وإنكاراً لها وانتقاصاً لها فأنت انتقصت الدين وانتقاص الدين نوع من الكفر والإعراض عن الدين نوع من أنواع الكفر والعياذ بالله.
أما إذا تركت السنة تهاوناً وكسلاً لا عن اعتقاد القصور فيها واعتقاد النقص فيها، فأنت بحسب هذه السنة التي تركتها إن تركت واجباً فأنت عليك إثم الواجب وإن تركت مستحباً فأنت قد فاتك فضل المستحب وإذا أدمنت وداومت على ترك المستحب فإن أهل العلم في المذاهب الأربعة يسقطون عدالتك ويفسقونك بترك السنة بمعنى الإدمان على تركها. من ذلك ما ورد عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: أنه سئل عمن يترك صلاة الوتر وصلاة الوتر عنده مستحبة ليست بواجبة فقال: لما سئل عمن ترك أو أدمن ترك صلاة الوتر لا يصلي الوتر قال : ذاك رجل فاسق ترد شهادته. وهو يترك سنة ولذلك نحن ننبه الناس نقول : لا تفهموا من قول العلماء إن السنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها هذا المعنى الذي تصلون به إلى التهاون بالسنة نقول : لا ، العلماء ما أرادوا هذا إنما أرادوا بيان السنة والواجب والمحرم والمكروه، أرادوا ما تصح به العبادة وما تفسد به العبادة، أرادوا بيان أدنى الأحوال التي يصل بها الإنسان إلى حد العدالة عموماً لا على الدوام وهم يفرقون مع قولهم إن السنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها يفرقون بين من أدمن على ترك السنن وبين من كان يتركها أحياناً ولذلك الإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الحق قالوا: ما بلغنا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملنا به ولو مرة واحدة.
لماذا يصفون هذا؟ لماذا يقولون هذا ؟
حتى يعدوا من أصحاب هذه السنة ، يعدوا من أصحاب هذا الحديث لذلك من ثمرات العمل بالسنة وفضل العمل بالسنة أن من يعمل بها يعد من أهلها .
الثمرة الخامسة
أن في فضل السنة واتباعها الفكاك من سبل الشيطان(11/129)
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :" خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً فقال : هذا سبيل الله ثم خط خطوطاً عن شماله وعن يمينه ثم خط خطوطاً صغيرة عن شمال هذا الخط وعن يمينه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا سبيلي أشار إلى الخط الطويل وقال : هذا سبيلي وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه ثم تلا { وَأَنّ هََذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ } ". فمن اتبع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم اتبع الصراط المستقيم وسلم من سبل الشياطين ، وخط الرسول صلى الله عليه وسلم الذي صنعه ومثله بالمثال ليقربه إلى أذهان الناس فخط خطاً وخط على جانبه خطوطاً تصويراً لحقيقة هذه السنة، فالسنة طريق طويل ليست طريقاً قصيراً ولذلك الذين يتعجلون نتائج الدعوة يتعجلون نتائج اتباع السنة وتطبيق السنة يقولون: يا أخي نحن لنا مدة على طلب الحديث ونطبق الحديث والعمل بالسنة ولكن ما يوجد أثر لهذا؛ المجتمعات ماتغيرت!!
فأقول لك: يا أخي لا ضير في ذلك أما ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مثل لسنته وصراطه مثله صراطاً طويلاً ولما مثل السبل الأخرى مثلها سبل قصيرة على جانبيه فلا تغتر ولا تظنن أن اتباعك لتلك السبل التي هي على خلاف السنة يوصلك إلى النتيجة! فبعض الناس قد يظن أنه بهذا الأسلوب الذي يخالف سنة الرسول يصل مباشرة إلى مقصود الدعوة!
فنقول: هذه كلها اغواءات من الشيطان يغويك يفتح لك الأبواب ويغرر بك يوهمك أن هذا السبيل نتيجته سريعة طريقه قصير أما طريق السنة يا أخي فإنه طريق طويل محفوف بالمكاره، ولكنه صراط مستقيم يؤدي بسالكه إلى الجنة، وينجو به من النيران!
هذا سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم إن أردته ألزمه وهو طريق طويل عليك إن تصبر وعليك أن تتابع السبيل ولذلك كان من الوصايا العامة لجميع المؤمنين ما ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله { وَالْعَصْرِ . إِنّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ .إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصّبْر}
لابد من الصبر في أمر الدعوة!
وسبيل الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة ومنهج الأنبياء في الدعوة ليس بمنهج سريع تستعجل فيه ثمرته، ليس بمنهج بين يوم وليلة بين سنة وسنتين، بل هو سبيل طويل، وصراط مستقيم، أمّا سبيل الشياطين فإنها كلها قصيرة يغرر بك بقصرها فتتوهم أنها تؤدي إلى النتيجة سريعاً!
فسبيل السنة سبيل طويل عليك أن تتبعه وأن تسلكه وأن تتواصى فيه مع إخوانك بالحق وأن تتواصى فيه مع إخوانك بالصبر .
إذاً في اتباعك للسنة أمان لك وفكاك لك من سبل الشياطين .
قال ناصر الدين أحمد بن محمد المعروف بابن المنير (ت683هـ) رحمه الله: "من الحقوق الواجبة نشرها (يعني: السنة) على الناس قاطبة يحملها الآخذ إلى الغالب، ويبلغها الشاهد إلى الغائب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أدّاها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع" فوظيفة الحامل الجاهل في هذه الأمانة أن يؤديها إلى أهلها بالوفاء والتسليم ووظيفة الحامل الحاذق أيضاً أن يؤديها إلى من عساه أحذق منه في الفهم والتفهيم.
وليحذر أن يحجب عن المزيد باعتقاد أنه ذلك العظيم ففوق كل ذي علم عليم، ومهما ظن أنه ليس وراء قدره مرمى ، فقد حرم بركة قوله عزوجل: {وقل ربي زدني علماً} [طه:114] وقد كان العلماء الربانيون من هذه الأمة على ما وهبوه من القوة في غاية الجزع والهلع يتدرعون العجز الذي يأباه اليوم لكع بن لكع، حتى كان مالك رحمه الله وهو الذي لا يقري أحد كما يقري أهون ما عليه أن يقول فيما لا يدري أنه لا يدري، ويشير بها إلى الأفاضل والأماثل ويقول: جنة العالم لا أدري فإذا أخطأها أصيبت منه المقاتل"اهـ.(1)
قال ابن تيمية رحمه الله: "وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة كما كان الزهري يقول: كان علماؤنا يقولون الاعتصام بالسنة هو النجاة.
وقال مالك: السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ؛ وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج هو الصراط المستقيم الذي يوصل العباد إلى الله والرسول هو الدليل الهادي الخريت في هذا الصراط كما قال تعالى: { إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً .وَدَاعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مّنِيراً }.
وقال تعالى: { وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مُسْتَقيم .صِرَاطِ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السَّموَات وَمَا فِي الأرْضِ أَلاَ إِلَى اللّهِ تَصِيرُ الاُمُورُ}.
وقال تعالى: { وَأَنّ هََذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ }.(11/130)
وقال عبدالله بن مسعود: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: { وَأَنّ هََذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتّبِعُوهُ وَلاَ تَتّبِعُوا السّبُلَ فَتَفَرّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ }[الأنعام :153].
وإذا تأمل العاقل الذي يرجو لقاء الله هذا المثال وتأمل سائر الطوائف من الخوارج ثم المعتزلة ثم الجهمية والرافضة ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم(1) وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث ويدعى أن سبيله هو الصواب وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم الذي لا يتكلم عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" [ مجموع الفتاوى (4/56ـ57)].
الثمرة السادسة
في اتباع السنة تحصل الشرع والدين
وذلك أن الدين معناه أن لا تعبد إلا الله ولا تعبد الله إلا بما شرع ولا طريق لنا في معرفة الشرع بغير القرآن العظيم والسنة النبوية، ولهذا كانت العبادات توقيفية ولا غرو قالت عائشة رضي الله عنها: " كان خلقه القرآن " وسنته صلى الله عليه وسلم شاملة لكل الدين . فهي المبينة للقرآن العظيم قال الله تبارك وتعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنِّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وقال تعالى: { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64].
توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد أو أنقص فقد أساء وظلم" .
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"!
وهو الذي قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وهو الذي قال: " أفشوا السلام بينكم وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا جنة ربكم بسلام " .
وقال ابن تيمية رحمه الله : " ولهذا قال الفقهاء العبادات مبناها على التوقيف كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قبل الحجر الأسود وقال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله r يقبلك لما قبلتك .
والله سبحانه وتعالى أمرنا باتباع الرسول وطاعته وموالاته ومحبته وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما وضمن لنا بطاعته ومحبته محبة الله وكرامته فقال تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وقال تعالى { وإن تطيعوه تهتدوا } وقال تعالى { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم } .
وأمثال ذلك في القرآن كثير ولا ينبغي لأحد أن يخرج في هذا عما وضحت به السنة وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة وكان عليه سلف الأمة وما علمه قال به وما لم يعلمه أمسك عنه ولا يقفُ ما ليس به علم ولا يقول على الله ما لم يعلم فإن الله تبارك وتعالى قد حرم ذلك كله انتهى كلامه رحمه الله " .
فمن ثمرا ت اتباع السنة أنك باتباعها تحصل الدين جميعه .
إن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول عبده ورسوله تتضمن أمرين:
أن لا نعبد إلا الله وأن لا نعبده إلا بما شرع .
إن هذين الأمرين هما اللذان يقوم عليهما الدين .
أما نقول ذلك ؟ إذاً الإتباع أن لا نعبد الله إلا بما شرع، وتحقيق هذا الأصل لا يكون إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو معنى الجزء الثاني من الشهادة وأشهد أن محمداً رسول الله فلا طريق لك إلى معرفة عبادة الله إلا عن طريق اتباع رسول الله واتباع الرسول يكون بأخذ سنته صلى الله عليه وسلم ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد". يعني تتقرب إلى الله بأمر انظر هذا الأمر هل هو من الأمور التي تقرب بها الرسول عليه الصلاة والسلام أم لا . فإذا وجدتها من ذلك فهي مقبولة إن شاء الله إذا توفرت شروط القبول وإذا لم يكن الأمر كذلك فهو مردود عليك ولذلك حكم أهل العلم إن الذين يتقربون إلى الله بأمور محدثة يعني ببدع لا تقبل منهم عبادتهم لماذا ؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" إذاً في اتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وتقفيها أخذ بالدين كله. والرسول عليه الصلاة والسلام علمنا كيف نتوضأ وكيف نصلي وعلمنا الآداب والأخلاق وكان يعلمنا لما دخل المدينة قال: "أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام" ويعلمنا يقول : "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" علمنا الصيام وعلمنا الزكاة وعلمنا أمور الدين . فاتباعك لسنة الرسول أخذ بأمور الدين جميعها.(11/131)
قال ابن عبد البر (ت463هـ):"هذا حديث مدني صحيح ويدخل في هذا المعنى الصلاح والخير كله والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه صلى الله عليه وسلم.
وقد قال العلماء إن أجمع آية للبر والفضل ومكارم الأخلاق قوله عز وجل: {إِنَ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ} [النحل:90].
وروينا عن عائشة ذكره ابن وهب وغيره أنها قالت: "مكارم الأخلاق صدق الحديث وصدق الناس وإعطاء السائل والمكافأة وحفظ الأمانة وصلة الرحم والتدمم للصاحب وقرى الضيف والحياء رأسها".
قالت: "وقد تكون مكارم الأخلاق في الرجل ولا تكون في ابنه وتكون في ابنه ولا تكون فيه وقد تكون في العبد ولا تكون في سيده يقسمها الله لمن أحب"اهـ [التمهيد (24/334)].
قلت: وسنة الرسول هي الدين كما تقدم، وهي المبينة لما في القرآن العظيم، وقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
وقد قال ابن تيمية: "ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قبل الحجر الاسود وقال: "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك" والله سبحانه أمرنا باتباع الرسول وطاعته وموالاته ومحبته وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما وضمن لنا بطاعته ومحبته محبة الله وكرامته فقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}، وقال تعالى : {وإن تطيعوه تهتدوا}، وقال تعالى: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم}، وأمثال ذلك في القرآن كثير.
ولا ينبغي لأحد أن يخرج فى هذا عما مضت به السنة وجاءت به الشريعة ودل عليه الكتاب والسنة وكان عليه سلف الأمة وما علمه قال به وما لم يعلمه أمسك عنه ولا يقفو ما ليس له به علم ولا يقول على الله ما لم يعلم فان الله تعالى قد حرم ذلك كله"اهـ[قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص270ـ271].
الثمرة السابعة
أن في اتباعك لها رفع لسمة الذل والهوان عن الأمة
وذلك لأن السنة هي الدين وترك الدين سبب للذل والهوان.
أخرج أحمد في المسند وأبو داود في سننه عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" والعودة إلى السنة عودة إلى الدين .
وفي حديث جبريل الطويل الذي هو أم السنة بعد أن ذكر أركان الإيمان والإسلام والإحسان قال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم"!
الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بأمر سيكون وأخبر بالنتيجة وذلك على سبيل الخلاص قال : "إذا تبايعتم بالعينة" والعينة نوع من أنواع البيوع تباع فيها السلعة ويبقى عينها عند بائعها ويشتريها البائع ممن اشتراها منه، كأن يذهب إنسان إلى صاحب سيارات وهو محتاج فلوس فيقول لصاحب السيارات: بعني هذه السيارة بالتقسيط بعشرين ألف، فيبيعه بعشرين ألف، وصاحب السيارة عارف أنه ما يريد السيارة يريد الفلوس فيقول له: أنا اشتري منك هذه السيارة نقداً بخمسة عشر ألفاً فيصير في الحقيقة أنه أخذ خمسة عشر ألفاً حاله بعشرين ألف مؤجلة ألم يحصل هذا .
هذا هو بيع العينة، سمي عينة لأن عين السلعة المباعة لم تنتقل من حرز مالكها.
والرسول عليه الصلاة والسلام عنون ببيع العينة من باب الإشارة إلى تفشي أنواع البيوع المحرمة لأنه لا يوجد عندنا في المعاملات في البيع والشراء إلا بيع وربا فعنوان البيوع المحرمة الربا ومنه بيع العينة.
قال : "إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر" كانوا في السابق ولايزال إلى الآن في بعض البلاد المحراث يجره بقر وثور فيأتي المزارع يمشي خلف البقر ويمسك المحراث ويغرزه في الأرض حتى يقلبها فالرسول صلى الله عليه وسلم عبر عن الركون إلى الدنيا والأرض باتباع أذناب البقر يعني تصيروا أهل زرع وأهل دنيا وأهل مال فتجلسوا في الأرض وتتركوا الجهاد . قال : "إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد " تضمن ثلاثة أمور:
• 1ـ إذا تبايعتم بالعينة! قلنا: هذا عنوان البيوع المحرمة الربوية .
• 2ـ واتبعتم أذناب البقر! معناه الركون إلى الدنيا .
• 3ـ وتركتم الجهاد
ما هي نتيجة هذه الأمور إذا وجدت في مجتمع من المجتمعات: "سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم " .
إذاً اتباع السنة عودة إلى الدين والعودة إلى الدين سبب في رفع الذل عنا.
إذاً اتباع السنة سبب في رفع الذل عن أمة المسلمين.(11/132)
أخذ سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والسير عليها والتمشي بها والحرص والتمسك بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم سبب لرفع الذل عن المسلمين وهذا ثمرة من ثمرات اتباع السنة أخبرنا بها الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث .
في حديث جبريل الطويل ذكر الإيمان والإسلام والإحسان وقال: "هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم"؛ إذاً الذل لا يرفع إلا بالعودة إلى الدين والدين هو معرفة أركان الإيمان والإسلام والإحسان أليس كذلك؟!.
فمن أراد أن يعود إلى الدين فعليه أن يتعلم أحكام هذه المذكورات في حديث جبريل. فهل بعد هذا يلام أهل الحديث أنهم يشتغلون بتعليم الناس أحكام الطهارة وأحكام الصوم وأحكام الزكاة وأحكام الإيمان والإيمان بالله وبالملائكة والكتب ويتركوا الكلام في الأشياء التي لا فائدة فيها؟!
يتحدث أهل الحديث في هذه الأمور يعلمون الناس الدين، هل يقال عنهم بعد ذلك أنتم علماء حيض ونفاس ولستم بعلماء واقع ولستم بعلماء دعوة؟
العالم الذي يعلم الناس هذه الأمور يعلم الناس الدين يعلمهم السبيل الذي يخرجون به عن الذل والهوان يعلمهم السبيل الذي أرشدهم الرسول صلى الله عليه وسلم إليه . إذا أرادوا الخلاص والنجاة في الآخرة!
فمن ترك تعلم هذه الأمور وجعل كلامه كله عن العلمانية وعن الشيوعية وعن الدول الكبرى وعن كذا، وترك تعليم نفسه ما يحتاجه من أمر دينه، بله تعليم الناس هذه الأشياء، هل علم الدين؟ هل تحقق فيه الرجوع إلى الدين، الذي أراده صلى الله عليه وسلم في قوله: "حتى ترجعوا إلى دينكم" وفي حديث جبريل ذكر الإيمان وأركانه والإسلام وأركانه والإحسان: "وقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم"؟
فهل نتعلم الدين بدون أن نتعلم كيف نصلي ؟!
هل نتعلم الدين من غير أن نتعلم الطهارة التي هي مفتاح الصلاة؟!
هل نتعلم الدين من غير أن نعلم نساءنا وبناتنا وحريمنا أحكام الحيض وأحكام النفاس وهي أمور تمر عليهم دائماً؟
هل نكون تعلمنا الدين بغير ذلك؟
هل نتعلم الدين ونحن لا نعرف نعبد الله على الطريقة التي تقول: إن صلاتي أنا كما صلاها الرسول صلى الله عليه وسلم، حجي أنا كما حج الرسول صلى الله عليه وسلم، صومي أنا كما صام الرسول صلى الله عليه وسلم؟
هل عرفنا الدين؟!
إذاً من ثمرات اتباع السنة ومن فضل اتباع السنة أن فيها رفع سمة الذل والهوان عن المسلمين .
سر يا أخي على الجادة اتبع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أحرص على أن تقيم عبادة الله وتحققها وثق أنك إذا ما مشيت على هذا فصلحت نفسك وأصلحت أهلك وأسرتك وصلاح النفس صلاح الأسرة .
وصلاح الأسرة صلاح المجتمع .
وصلاح المجتمع صلاح المدينة .
وصلاح المدينة صلاح الدولة .
وصلاح الدولة صلاح الأمة .
وصلاح الأمة صلاح الكون جميعه بإذن الله؛ فأحرص وأبدا بنفسك ثم أدناك فأدناك.
الثمرة الثامنة
أن فيها وصف الداء الذي اعترى الأمة الإسلامية ووصف الدواء
أخرج أحمد وأبو داود عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذٍ قال : بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاءٍ كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة لكم و ليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن قال : حب الدنيا وكراهية الموت " .
الرسول صلى الله عليه وسلم وصف داءنا وحالنا : "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما يتداعى الأكلة على قصعتها ".
أما حصل هذا؟! والله حصل تداعت دول الاستعمار على البلاد الإسلامية التي حباها الله سبحانه وتعالى بالخيرات رزقها الله بالخيرات أنهار وزراعة وبترول وأمور مختلفة تداعوا عليها كما يتداعى الأكلة على قصعتها!
"قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟" هل نحن قليل حتى تجيء دول وتتكاثر علينا؟!
"قال: لا بل كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل". فما السبب في ضعفنا ؟
"قال: ولينزعن الله من صدورهم المهابة لكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن قالوا يا رسول الله ما الوهن قال حب الدنيا وكراهية الموت" .
إذاً في السنة وصف الداء ووصف الدواء تريد تعالج نفسك تريد تمشي في طريقك تريد تحقق الخير لك؛ احرص على اتباع السنة وعالج نفسك من أمر حب الدنيا وكراهية الموت تنظر في السنة تجد فيها حديثاً يقول: " أكثروا من زيارة القبور فإنها تذكركم بالأخرة " تنظر في السنة تجد فيها حديثاً يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"، تذكرك بالآخرة بالموت كل ما قرأت واطلعت في السنة وطبقتها، يضعف في نفسك حب الدنيا وخوف الموت شيئاً فشيئاً!
تسمع في السنة عن الدنيا: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالم أو متعلم" .
تقرأ في القرآن العظيم: ] زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام ...إلى آخره[
وتستمر في تعلم القرآن والسنة فتتوضح لك الحقائق وتتكشف لك الدنيا!(11/133)
فتقوم وقد عرفت ما هي الدنيا! عرفت ما هي الأمور التي حولك! فسلمت من الوهن وسلامتك من الوهن خروج لك من حالة الغثائية .
الثمرة التاسعة
أن في سنته صلى الله عليه وسلم تحصيل تمام الأخلاق وجميلها ومكارمها
أخرج أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِح الْأَخْلَاقِ "(1).
قال ابن عبدالبر (ت463هـ):"هذا حديث مدني صحيح ويدخل في هذا المعنى الصلاح والخير كله والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه صلى الله عليه وسلم.
وقد قال العلماء إن أجمع آية للبر والفضل ومكارم الأخلاق قوله عز وجل: {إِنَ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ} [النحل:90].
وروينا عن عائشة ذكره ابن وهب وغيره أنها قالت: "مكارم الأخلاق صدق الحديث وصدق الناس وإعطاء السائل والمكافأة وحفظ الأمانة وصلة الرحم والتدمم للصاحب وقرى الضيف والحياء رأسها".
قالت: "وقد تكون مكارم الأخلاق في الرجل ولا تكون في ابنه وتكون في ابنه ولا تكون فيه وقد تكون في العبد ولا تكون في سيده يقسمها الله لمن أحب"اهـ (1).
قلت: وسنة الرسول هي الدين كما تقدم، وهي المبينة لما في القرآن العظيم، وقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
الثمرة العاشرة
أن في لزوم السنة النجاة من الفتنة والعذاب الأليم
قال الله تبارك وتعالى {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
كل من خالف السنة! كل من خالف أمر الرسول! عليه أن يحذر {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }تصيبهم فتنة فيدخل الكفر في قلوبهم أو النفاق في قلوبهم أو يدخلوا في البدع فيلحقهم بذلك عذاب أليم!
فمن فضل اتباع سنة الرسول أنها تحفظك من الفتنة .
جاء رجل إلى الإمام مالك قال: يا إمام أريد العمرة! قال: اعتمر! قال: أريد أن أحرم لها من المدينة من المسجد! قال: يا بني اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة واعتمارك من المسجد خلاف السنة وإني أخشى عليك الفتنة إذا أنت فعلت هذا ثم تلا { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصبهم عذاب أليم }.
الثمرة الحادية عشر
أن في اتباع السنة ولزومها تحقيق الإيمان وحصول السعادة في
الدارين والسلامة من النيران
قال تعالى: { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى }، فمن اتبع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولزمها فإنه لم يعرض عن الدين ولا عن ذكر الله بل أقبل فهذا لا يكون حاله كمن أعرض وقد قال تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } وقال تعالى { وإن تطيعوه تهتدوا } وقال تعالى { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم } .
وبالمقابل جاءت آيات في حال من يعصي الله ورسوله قال تبارك وتعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعدى حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين}، بل نفى الإيمان عمن لم يحقق الاتباع له صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون لك حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}، وقال تبارك وتعالى: {ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً}، وقال تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً}.
إذاً اتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام تحقيق للإيمان: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}.
الثمرة الثانية عشر
من ثمرات اتباع السنة أن في اتباعك للسنة وعملك بها إحياءً لها
وإحياؤك لها إظهاراً لها ودعوة للناس إليها، فمن عمل بالسنة، نتيجة عملك بها أجر وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعى إلى ضلالة كان له من الإثم مثل آثام من تبعه ولا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً".(11/134)
وأخرج مسلم أيضاً عن جرير بن عبد الله قال جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة فابطئوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه قال : ثم أن رجلاً من الأنصار جاء بصرة من ورق ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : " من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة وعمل بها بعده كتب له مثل وزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً "
إذاً من عمل بالسنة وأظهرها دعى الناس إليها بمجرد أنه أظهرها. فإذا عمل إنسان بهذه السنة كان لمن أظهرها أولاً أجر من عمل بها إلى يوم القيامة!
قد يقول قائل: يا شيخ الرسول صلى الله عليه وسلم قال من سن سنة حسنة يعني إنسان يعمل عمل ولو ما جاء في الشرع ولو ما جاء عن الرسول!
أقول لك: لا ،ليس هذا معنى الحديث لأن أهل العلم يقولون إنما يعرف التحسين والتقبيح للأشياء من الشرع فمن أين لك هذا العمل حسن إذا لم يأت من الشرع فمصدرنا أن هذا حسن أو قبيح هو الشرع، يصير معنى الحديث: "من سن سنة حسنة " أي: من أحيا سنة من الشرع ولذلك الحديث ورد في الصدقة أن رجلاً جاء وقدم صدقة فجاء الناس بعده وتصدقوا.
دخل رجل المسجد ولقي فقيراً فخرَّج من ماله شيئاً وأعطاه! فلما رأوه الناس بادروا اقتداء به إلى إعطاء هذا الفقير ومساعدته! كل من عمل إقتداءً به يكون له أجر.فهل الصدقة وإخراجها من السنة التي ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أم سنة محدثة؟ إنها سنة ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم .
ليس في الحديث أن الإنسان يعمل سنة من عند نفسه، لأن حسن السنن إنما يعرف من الشرع وليكن على ذكر منكم قوله صلى الله عليه وسلم " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " .
قال ابن حبان رحمه الله :" إن في لزوم سنته صلى الله عليه وسلم تمام السلامة وجماع الكرامة لا تطفئ سرجها ولا تدحض حججها من لزمها عصم ومن خالفها يذم إذ هي الحصن الحصين والركن الركين الي بان فضله ومتن حبله من تمسك به ساد ومن رام خلافه باد فالمتعلقون به أهل السعادة في الأجل والمغيوطون بين الأنام في العامل" .انتهى كلامه .
وبهذا تتم هذه المحاضرة والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات . وسبحانك اللهم أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك وصلى الله على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
_
(1) صحيح ابن حبان (1 / 180)
(2) حديث صحيح، لغيره. وأشار بعضهم إلى احتمال تواتره.
أخرجه أحمد في المسند (4/102)، و أبو داود في كتاب السنة، باب شرح السنة، حديث رقم (4597)، والآجري في الشريعة (الطبعة المحققة) (1/132، تحت رقم 31).وصحح إسناده محقق جامع الأصول (10/32)، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم (204)، وذكر جملة من الأحاديث تشهد له. وانظر نظم المتناثر ص32-34.
فائدة : قال ابن تيمية رحمة الله عليه، في مجموع الفتاوى (3/346-347)، في معرض كلام له على حديث الافتراق: "وأمّا تعيين هذه الفرق فقد صنف الناس فيهم مصنفات، وذكروهم في كتب المقالات، لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لا بد له من دليل؛ فإن الله حرّم القول بلا علم عموماً، وحرّم القول عليه بلا علم خصوصاً، فقال تعالى: {قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً، وأن تقولوا على الله ما لاتعلمون} [الأعراف:33]، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولاتتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسؤ والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لاتعلمون} [البقرة:169]، وقال تعالى: {ولاتقف ما ليس لك به علم} [الإسراء:36]. وأيضاً فكثير من الناس يخبر عن هذه الفرق بحكم الظن والهوى، فيجعل طائفته والمنتسبة إلى متبوعه الموالية له هم أهل السنة والجماعة، ويجعل من خالفها أهل البدع، وهذا ضلال مبين. فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي {لاينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن جعل شخصاً من الأشخاص غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحبه ووافقه كان من أهل السنة والجماعة، ومن خالفه كان من أهل البدعة والفرقة - كما يوجد ذلك في الطوائف من اتباع أئمة في الكلام في الدين وغير ذلك - كان من أهل البدع والضلال والتفرق"اهـ
(2) أخرجه الحاكم والدار قطني والبيهقي
(3) أخرجه البيهقي .(11/135)
(4) أخرجه ابن عبد البر في التمهيد مسنداً.
(5) أخرجه ابن عبد البر أيضاً في التمهيد وأخرجه الترمذي
(6) مجموع الفتاوى (4/137).
(7) المتواري على تراجم أبواب البخاري ص34ـ35.
(8) وكذا فرق الاختلاف إلى يومنا هذا .
(9) المسند (الرسالة) 14/513 .
(10) التمهيد24/334 .
==========================
فلا تلوموهم ولوموا أنفسكم
عبد العزيز بن محمد الروضان/ بريدة
عادة عندما أريد أن أكتب مقالاً أي مقالٍ فإني لا أكتب عنه حتى يكون العقل بيده زمام القلم بمعنى أصح لا أكتب مقالاً حتى تعود العاطفة إلى رشدها كي لا ينجرف قلمي إلى مهاوٍ سحيقة.
فإن امتطاء صهوة العاطفة هو بمعنى ارتكاب الخطأ في كل لحظة ولا شك. وإني هنا أريد أن أدلي بدلوي حول تلك الانتهاكات التي طالت ذات الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو فوق كل نقد.. ولكن العالم الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا تعاملوا مع ذلك الخطأ بعاطفة طوحت بهم بعيداً عن المسلك الصواب فلم تحرز تلك الأقلام والألسن قدم سبق في معالجة تلك القضية وإنما هي ردود أفعال لا ترفع رأساً ولا ترد ضالاً، وكل العرب والمسلمين حينما يريدون أن يصنعوا حلولاً لمشاكلهم فإنهم يسلكون مثل هذا المسلك في اتخاذ قراراتهم ولا يجعلون العقل هو المهيمن.
لا أشك لحظة واحدة ولا أقل من ذلك أن تلك الصحيفة قد ارتكبت خطأً جسيماً في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يوجد عُرف أو قانون يسوغ لتلك الصحيفة هذا المسلك بل هي مخطئة حتى النخاع.. فالحرية مهما كانت مساحتها لا تكون على حساب حرية الشخص الآخر.. فحرية الشخص تقف عندما تبدأ حرية الشخص الآخر. وما أود أن أنفذ إليه هو: إن الذي جعل غير المسلمين يتطاولون على الدين الإسلامي ورموزه هو تقصير بالدرجة الأولى من المسلمين أنفسهم، فالإسلام لم يقدم للغرب ولا للشرق بصورته الحقيقية! و إلا لو قُدم الدين الإسلامي بصورة متينة لأجله الغرب وقدره الشرق، ولكن مما يؤسف له أن الدين الإسلامي لم يسوّق للعالم تسويقاً يليق بجلاله. وإني حينما أتوجه باللوم على رجال الدين وعلمائه بصفة خاصة لأني أرى مهمتهم حيال هذا الدين تقتصر على حفظ النصوص ليس..إلا فماهم إلا حمالة نصوص فهم من هذا المنطلق مقصرون بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
إذا كانت هذه هي المهمة المنوطة بهم ولا تتجاوز غير ذلك فجزاكم الله خيراً اجلسوا في بلدانكم وأشرطة الكاسيت تقوم بمهمتكم. إن الدين الإسلامي بحاجة ماسة وملحة لأشخاص يلجون في فنائه بعمق ويفهمون معانيه ومضامينه النيرة. إن الغرب اليوم يأتي إليهم الدين الإسلامي مسوقاً عبر اجتهادات تفسيرية ساذجة مسطحة لم تقدم للإسلام شيئاً بل إن تلك الجهود من قِبل هؤلاء أساءت إلى مقاصده الجليلة. وإن ما وصل إلى أروقة الغرب عبر هؤلاء الأشخاص ما هي إلا تعاليم مهلهلة الثياب عرجاء من هذا وذاك احتقر الغرب هذا الدين وطوحوا به بعيداً، لأنهم رأوه عبر تلك التعاليم الآنفة الذكر لا يرفع رأسا.
إن العالم الإسلامي اليوم يعيش أزمة فكرية نحو بغية ماهية هذا الدين؟ وما هي مقاصده السامية؟ وما هي أحكامه السامقة. فالغرب حيال هذه الأزمة من باب أولى وإن السبب الجوهري في هذه النظرة القاصرة حيال الدين الإسلامي وتعاليمه متأتياً من المسلمين أنفسهم.
إن الشخص الغربي إذا نظر إلينا ونحن ندعو إلى الإسلام عبر وسائل لم يوقع عليها الدين الإسلامي فلا شك أنه سوف يحجم عن الإقبال على موائده.. إن الدين الإسلامي ينظر الغرب إليه على أنه أسد ضار في مفازة وهذا كله بسبب تقديم الإسلام على أنه دين لا يعرف الرحمة ولا الشفقة وإنما يعرف الغلظة ومصادرة الغير واستقصائه. إن الدين الإسلامي هو غير ذلك.. هو دين الحريات على مختلف مناشطها، ولكن ان بعض أهل الدين الإسلامي مع الأسف الشديد يرون أن اعتناق هذا الدين لابد أن يأتي عبر القهر إذا تعذر القبول الميسر.
وهذا التصور منبثق من أن الجهاد في صدر الإسلام ما أتى إلا لنشر الإسلام عبره ويستدلون على ذلك بغزوات الرسول وسراياه وما بعدها من فتوحات إسلامية.
إن هذا الفهم الخاطئ فهم خر عليه السقف من فوقه..
فالدين الإسلامي ترك مساحة كبيرة من الحرية لمن يريد أن يعتنقه. وإن الدعوة إلى الإسلام عبر وسائل شرعية كمقارعة الحجة بالحجة والمجادلة الحسنة والفكر النير هي كفيلة بدخول الناس إلى حظيرة هذا الدين..
لا المسايفة هي الكفيلة بذلك، وبالمناسبة فإني سوف أذكر شيئاً في حواشي هذا الموضوع ذكره هنا يكفيني مؤونة مقال آخر وهو أن جميع سرايا وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ما هي إلا قتال اضطرار لا قتال اختيار..(11/136)
ولو استقرأنا التاريخ الإسلامي بنظرة فاحصة لوجدنا الأمر كذلك لأن الاعتداء المسبق في نظر الدين الإسلامي مرفوض لأن الله تعالى يقول في الوحي الطاهر {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} (190) سورة البقرة، إن فهمي هذا لغزوات الرسول على أنها ظروف تضطرهم إلى ذلك سوف يحمر عيوناً ويضيّق صدوراً. لأن بعض الناس له فهم آخر حيال هذه القضية..
وأنا أقول لهم على رسلكم يا قوم إن تصوركم هذا وفهمكم خاطئ وحذلقة وتجديف في الإسلام. لأن الله تعالى يعطي الإنسان مطلق الحرية في اعتناق الأديان السماوية والنصوص كثيرة يضيق بها المكان والزمان. ولكن سوف اتي بنصوص شرعية لابد من ذكرها:
* النص الأول قوله تعالى{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب.
من هذه الآية يتبين لنا جلياً أن الله أعطى الإنسان الحرية ومطلق الاختيار.
* النص الثاني قوله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ............... }الآية (256) سورة البقرة.
* ويقول الله تعالى حيال هذا الموضوع {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (99) سورة يونس.
إذاً الله تعالى في هذه النصوص الكريمة المتعاضدة أعطى الإنسان حرية الاختيار وأن الإنسان يعتنق الدين عبر الاختيار لا عبر القهر. وبالمناسبة هناك نص شرعي وهو حديث شريف أقض مضجعي لسنين طويلة ومازلت، وهذا النص خرجاه البخاري ومسلم في صحيحهما وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. الحديث.
إني هنا أرى أن هذا الحديث فيه معارضة جلية واضحة لتلك الآيات الآنفة الذكر، فهذا الحديث يعارض منطوقها ومفهومها وإني هنا أضع هذا التساؤل على طاولة الفقهاء لأني لا أحب الخوض في ذلك الموضوع أكثر من ذلك فقد يقول عني الناس صمت دهراً ونطق كفراً.. وعودة على بدءٍ إن تعاليم الدين الإسلامي تصلح أن تكون منهاج حياة زماناً ومكاناً فلن يجد البشر أحسن من هذه التعاليم متانة وسمواً ودعوني أصارحكم القول. إن علماء الدين الإسلامي اليوم لم ينفذوا إلى هذه التعاليم السامية حتى الآن على عكس ما هو موجود في صدر الإسلام الأول، حيث كان السلف الصالح يحسنون الاستنباط، فما من نازلة إلا ويجدون حكمها في الدين الإسلامي دون أن تتصبب جباههم عرقاً، ولكننا اليوم نعيش في هاجرة فكرية وهذا كله بسبب أننا نحوم حول النصوص الشرعية ولم نلج في فنائها.
إن الدين الإسلامي مؤطر ومؤصل لو طُبق كما يريده الله ورسوله لما عاش العالم الإسلامي أزمات اجتماعية واقتصادية..... إلخ.
وهذا الكلام لا أتوجه به إلى العالم الإسلامي فقط بل إلى العالم بأسره، فالدين الإسلامي هو الحل الناجع والوصفة الشافية من كل مرض عضال.. إن الدين الإسلامي هو أحد الديانات السماوية الثلاث المعاصرة فالديانة اليهودية كانت تتسم بطابع التشديد الذي استهوته اليهود فشددوا فشدد الله عليهم في الأوامر والنواهي، والديانة المسيحية التي تتسم بطابع التيسير المفرط فتمرد اليهود والنصارى عن ديانتهم ولم يبق من هذه الديانات إلا اسمها فأتى الله بالدين الإسلامي الذي كان يتسم بطابع الوسطية كي يعلمنا الله تعالى أن البشرية لا يصلح معها الشدة كما لا يصلح معها التيسير المفرط، وإن الذي يناسب البشرية جمعاء هو الوسطية. إذا كانت الأديان في حالة تطور وترقي حتى نضج البشر وعلموا بالتجربة ما يناسبهم. فالدين الإسلامي هو ذلك الدين الذي تصلح به الغرائز البشرية المعتدلة السوية، إلا أنه مع الأسف الشديد لم ترتق البشرية إلى مصاف هذه الديانة، لذا فإننا اليوم بحاجة إلى علماء ذوي أفكار خلاقة يسمون بالعالم إلى درجات العلا من النضج الفكري والفطنة الوثابة.
إذاً لو قدم الدين الإسلامي من قِبل أهله تقديماً يليق بجلاله لإنقاذ العالم له بسلك من حرير، فإني أرى أن هناك طوقاً من المسؤولية في عنق علماء الدين الإسلامي.
وأخيراً أراني في هذا المقال تتجاذبني الأفكار يمنة ويسرة وأكاد لا أرى معالم ما يسطره قلمي فإني أرى أن استدرار الأفكار قد تُعصى علي وأن أمواج هذا الموضوع قد هزت ريشة قلمي فأرجو من الله تعالى أن يكون ما سطرته أرضية تنطلق منها أقلام هي أطول من قلمي وأرض أرسى من أرضي.
=======================
فليسقط من سبّ سيد البشر
نشرت جريدة الرياض في 30/12/1426هـ
فليسقط من (سبّ) سيد البشر
احمد خليفة - موسكو(11/137)
قل لهؤلاء العاجزين هكذا هو منطق الضعفاء، يكفي محمداً صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى: {وانك لعلى خلق عظيم} قل حتى لمن لا يؤمن بالقرآن انه كلام الله، قل لهم حقيقة بسيطة هي: من تجرأ حتى الآن من بين البشر ان ينسب لنفسه او لغيره القرآن؟ فإن من آمن بهذه الحقيقة البسيطة في طرحها، العظيمة في معناها، او لم يؤمن يكفي نبي الله، ثناء الله عليه ومدحه.
قل لهؤلاء المنهزمين اسألوا علماءكم ومستشرقيكم الذين صنفوه اول اعظم مائة في تاريخ البشرية هل فقدوا صوابهم حين صنفوه؟ ام هو منطق الحق البائن الذي لا حياد عنه ولا فرار. قل لهؤلاء المنكسرين يكفي نبي الله انه ما سب يوماً او شتم. قل لهم حتى انه لم يسب اعداءه وهم يشتمونه، يعيبونه، يكذبونه، يقاطعونه، يجوعونه، ينفونه، يقاتلونه، وها أنتم حثالة التاريخ تسيئون لمن لم يسئ لكم يوماً. وبفعلكم هذا فقد خالفتم قواعد الأدب والاخلاق المتعارف عليها بين البشر.
قل لهؤلاء الجهلاء انكم جاهلون - جاهلون وانكم لا تعلمون - لاتعلمون ان الله قد تولى الرد على الذين اساءوا اليه على مدى التاريخ. قل لهم انه رد على الذي قال ابتر ب: {إن شانئك هو الابتر} وعلى الذي تب ب: {تبت يدا ابي لهب وتب} وعلى الذي قال اعجمي ب{لسان الذي يلحدون اليه اعجمي وهذا لسان عربي مبين} وعلى الذي قال شاعر ب{وماهو بقول شاعر قليلاً ما تذكرون} وكثير، كثير من المتساقطين، مثل الفراش يتساقط على النار فتحرقه، قل لهم بشراكم بالسقوط.. سقوطكم في نظر كل شريف يحترم العظماء ويقدرهم.. سقوطكم في نظر الشاهدين بالحق والقائمين عليه.. سقوطكم في نظر ملياري مسلم.. سقوطكم في ملا الناس وفوق ذلك سقوطكم في الملا الاعلى. وقل لهم انتظروا رد الله عليكم كما رد على ابي لهب وغيره من المتساقطين، انتظروا انا معكم من المنتظرين.
قل لذاك المسؤول الذي قال اننا نؤمن بحرية الرأي. قل له انك لا تدرك حرية الرأي. ولاتفهم معنى الديموقراطية، قل له ان مفهوم الحرية ومغزى الديموقراطية هو النقد البناء وقرع الحجة بالحجة، ومداولة الرأي بالرأي، وليس هو الاساءة للعظماء امثال محمد صلى الله عليه وسلم.
قل لهؤلاء المتخاذلين ان محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه هؤلاء الذين منهم تسخرون، قل لهم هم الذين علموكم معنى التحرر، ومفهوم البحث والتجريب والعلوم والفلك والجغرافيا والجبر والقانون والكيمياء، اسألوا المخطوطات الموجودة في اسبانيا وفي مكتباتكم وجامعاتكم وحتى في ادراجكم او بالأحرى تلك التي سرقتموها وزعمتهم لانفسكم حق التأليف، أسألوها تقل لكم، اسألوها تجبكم، اسألوها تخبركم - من محمد وصحبه وجنده وتابعيه؟ اسألوها تجدون ابن النفيس، تجدون جابر بن حيان، تجدون ابن سينا، تجدون الفارابي، تجدون الكندي، تجدون الغزالي، تجدون ابن الهيثم، تجدون الادريسي، تجدون الخوارزمي، تجدون ابو بكر الرازي، تجدون ابو القاسم الزهراوي، تجدون ابن البيطار، هؤلاء هم حزب محمد وهؤلاء جند محمد، هؤلاء هم الذين منهم تسخرون وترسمونهم كاراكاتيريا ورؤوسهم قنابل يطوفون بالبيت.
قل لهذا المسؤول الذي يزعم انه ديموقراطي: كان واجباً عليك ان تنتصر لو للحظة مع ضميرك وتقف ضد جنود (ماسون) الذين يملون عليك خبثهم وانت واجم مطيع.. قل له قد خبت وخسرت.. قل له انتصرت نعم ولكن بفوزك بكراهية الناس وانت تبيح ان يمثل كاراكاتيريا بمحمد صلى الله عليه وسلم وهوفي مبدئه صلى الله عليه وسلم ينهى اصلاً عن التصوير والتمثيل، وهذه دعوة لكل شريف، لكل كريم، لكل غيور محب لمحمد صلى الله عليه وسلم، محب لدينه، لعقيدته، لإسلامه السمح الذي يحترم الآخرين، محب لنبيه الذي ما سب يوماً او شتم.. هذه دعوة ان يقاطع هؤلاء المتهافتين ان لانبيعهم نفطنا ولانشتري منهم بضائعهم ولا منتجاتهم فإن كانوا ينتجون الجبن واللبن، فالدول غيرهم كثيرة والدول الإسلامية اولى ان يشترى منها، فإن تشتري ممن يحسن اليك احب - ورب محمد، ممن يسيء اليك. وان كانوا ينتجون الالكترونيات والاجهزة التقنية فغيرها يكفينا امثال الصين واليابان. او مالنا لانضع نحن ونستغني عن المتهتكين.
واختم قولي بأن محمداً صلى الله عليه وسلم عنوان الخير وعلمه شئتم ام ابيتم. وان محمداً صلى الله عليه وسلم اعظم الناس على الاطلاق، وجيله اعظم الجيل، على الاطلاق وهو صلى الله عليه وسلم اعظم قائد، واجل صاحب، واعدل حاكم، وارحم انسان، واوفى الناس ذمة وعهداً، واصدقهم حديثاً، واوفاهم امانة، وانقاهم عريكة، واشرفهم مكانة، والينهم جانباً، وألف الناس للناس، واعدل الناس في الحكم على الناس. ويكفيه وصف الله له {وانك لعلى خلق عظيم}. فليسقط.. فليسقط.. فليسقط كل من يسب محمد نبي الله صلى الله عليه وسلم. والسوء كل السوء لمن يسيء لمحمد صلى الله عليه وسلم.
تعليقان
1
محمدرسول الله(11/138)
موضوع جميل صادر من الأعماق ووصل للاعماق.فهنيئا لمن دافع عنك يا خليل الله ياسيدالبشر...محمد رسول الله ولو كره الكافرون الجاهلون الحقيرون الحاقدون ومن ضحك كثيرا بكي اخيرا العبرة بخواتيمها ولا تنسوا حبيبكم وتاريحة هجرته غدا وكل عام وا المسلمين والمسلمات بخير ياأمة رسول الله
مريم عبد الكريم بخاري
05:35 صباحاً 2006/01/30
2
هنيئا لك أخي أحمد أنك في موسكو
حبيب أحمد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكر الله لك دفاعك عن الحبيب صلى الله عليه وسلم، وما أعظمه من شرف أسأل أن يشفعه فيك وفي والديك. وأن يجعلك مباركا حيثما كنت..
آمل أن تستمر في العطاء فهذه الموهبة نعمة من الله. ومن حق المنعم الشكر {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم} لأزيدنكم} وأعظم الشكر استعمال هذه الموهبة وهذا القلب وهذا الأسلوب الرائع في نشر الإسلام وعظمة الإسلام.. وتعاليم الإسلام، ونشر سيرة الحيب صلى الله عليه وسلم، في الصحف السعودية، والأجنبية - وخصوصاً أن في موسكو.. وفالمسؤولية عليك أكبر ف[الدال على الخير كفاعله] كما صح عن الحبيب صلى الله عليه وسلم، وقال فداه أبي وأمي ونفسي، وأولادي[من دعا إلى هدى كان له من الأجور مثل أجور من تبعه] فالله في الدعوة إلى الله وإلى نشر السنة الصحيح الثابتة عن الحبيب صلى الله عليه وسلم في منتديات الانترنت الغربية بتقل مقالات ينشرها موقع الشيخ محمد صالح المنجد لمنتدياتهم ف[لئن يهيد الله بك رجلا واحداً خيرٌ لك من حمر النعم] كما آمل الذب عن عرضه بالتي هي أحسن, فألله الله في هذا الثغر العظيم
عبدالعزيز بن علي العسكر
08:12 صباحاً 2006/01/30
=========================
في خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم
كان خلقه القرآن
وصف الله لأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
الرسول صلى الله عليه وسلم يعتق من أرادوا قتله
دفع السيئة بالحسنة
لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا
كان أحسن الناس خلقًا
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بحسن الخلق
من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في المصافحة والمحادثة والمجالسة
خلقه صلى الله عليه وسلم مع الخدم
كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من سوء الأخلاق وينهى عن اللعن
ملاعبته ومفاكهته لأهله
خلقه صلى الله عليه وسلم مع أهله
ما انتقم لنفسه وما ضرب خادمًا ولا أمره
حلم النبي صلى الله عليه وسلم
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم
حياء النبي صلى الله عليه وسلم
تيسير النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه
حثه صلى الله عليه وسلم على صلة الأرحام
الوصية بالجار
وصف الله لأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
قال تعالى وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ عن عطاء رضي الله عنه قال قلت لعبد الله بن عمرو أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا - رواه البخاري
كان خلقه القرآن
عن عائشة رضي الله عنها قالت كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن - رواه أحمد ومسلم وأبو داود، وزاد مسلم يغضب لغضبه ويرضى لرضاه
دفع السيئة بالحسنة
لما أراد الله هدي زيد بن سعية، قال زيد لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم إلا اثنتين يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا
قال زيد فقلت يا محمد، هل لك أن تبيعني ثمرًا_ معلومًا لي _ فباعني فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب، فلما حل الأجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه وهو في جنازة مع أصحابه ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت له يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب إلا مطلاً
ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه ثم رماني ببصره فقال يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتصنع به ما أرى؟ فلولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، وقال أنا وهو كنا أحوج إلى غير ذلك منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزد عشرين صاعًا من تمر مكان ما روعته
فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعًا، وقال لي ما دعاك إلى أن فعلت ما فعلت وقلت ما قلت؟(11/139)
قلت يا عمر لم يكن من علامات النبوة شيء إلا عرفته في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، وقد خبرتهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا، وأشهدك أن شطر مالي صدقة على أمة محمد
ثم توفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبرًا - رواه الطبراني في (الكبير) ورجاله ثقات، ورواه أيضًا ابن حبان والحاكم والبيهقي ورواه أبو نعيم في الدلائل
الرسول صلى الله عليه وسلم يعتق من أرادوا قتله
عن أنس رضي الله عنه قال إن ثمانين نزلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح، يريدون أن يقتلوه، فأخذوا فأعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً سورة الفتح آية 24- رواه مسلم والترمذي وأبو داود
كان أحسن الناس خلقًا
عن أنس رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا - الحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي
وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت ما رأيت أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم - رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن
لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا
عن عبد الله بن عمرو قال لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا - رواه البخاري
من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في المصافحة والمحادثة والمجالسة
عن أنس رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده، ولا يصرف وجهه من وجهه حتى يكون الرجل هو يصرفه، ولم ير مقدمًا ركبتيه بين يدي جليس له - رواه أبو داود والترمذي بلفظه
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك - رواه الطبراني والترمذي
وروى مسلم وما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم قط فقال لا
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بحسن الخلق
عن عائشة رضي الله عنها قالت كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم كما أحسنت خلقي فأحسن خلقي - رواه أحمد ورواته ثقات
وقال صلى الله عليه وسلم إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا - رواه البخاري
وروي عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه قال بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسط إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة متى عهدتني فحاشًا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس- أو ودعه الناس- اتقاء شره - رواه البخاري
كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من سوء الأخلاق وينهى عن اللعن
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق - رواه أبو داود والنسائي
وقال صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لصديق أن يكون لعانًا - رواه مسلم
وقال صلى الله عليه وسلم لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة - رواه مسلم
وعندما قيل له ادع على المشركين قال صلى الله عليه وسلم إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة - رواه مسلم
أما من لعنه الرسول صلى الله عليه وسلم أو سبه أو دعا عليه، وليس هو أهلاً لذلك، كان ذلك له زكاة وأجرًا ورحمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شارط ربه على ذلك كما في الحديث اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرًا رواه مسلم
خلقه صلى الله عليه وسلم مع الخدم
عن أنس رضي الله عنه قال خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال أف قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا - رواه الشيخان وأبو داود والترمذي
وعنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم من احسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت له والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به صلى الله عليه وسلم ، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال يا أنس أذهبت حيث أمرتك؟
قلت نعم، أنا أذهب يا رسول الله - فذهبت رواه مسلم وأبو داود
خلقه صلى الله عليه وسلم مع أهله
قال صلى الله عليه وسلم خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي، وما أكرم النساء إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم - رواه ابن عساكر عن علي، والترمذي عن عائشة، وابن ماجة عن ابن عباس(11/140)
ومن دلائل شدة احترامه وحبه لزوجته خديجة رضي الله عنها، إن كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها (صديقاتها)، وذلك بعد مماتها وقد أقرت عائشة رضي الله عنها بأنها كانت تغير من هذا المسلك منه - رواه البخاري
وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان صلى الله عليه وسلم إذا خلا بنسائه ألين الناس وأكرم الناس ضحاكًا بسامًا - رواه ابن عساكر بسند ضعيف
وروى مسلم أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا شربت من الإناء، أخذه صلى الله عليه وسلم فوضع فمه على موضع فمها وشرب، وإذا تعرقت عرقًا وهو العظم الذي عليه اللحم أخذه فوضع فمه على موضع فمها
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم وضع ركبته لتضع عليها زوجه صفية رضي الله عنها رجلها حتى تركب على بعيرها - رواه البخاري
وأوصى صلى الله عليه وسلم بالمرأة الزوجة، فقال استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرًا - رواه الشيخان
وقال صلى الله عليه وسلم بم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها وفي رواية جلد العبد - رواه البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم أخرجه أحمد بإسناد حسن، والترمذي وقال حديث حسن صحيح
وقال صلى الله عليه وسلم إن من أعظم الأمور أجرًا النفقة على الأهل - رواه مسلم
ملاعبته ومفاكهته لأهله
عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس اقدموا فتقدموا، ثم قال لي تعالي حتى أسابقك فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس تقدموا فتقدموا، ثم قال لي تعالي أسابقك فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول هذا بتلك - رواه أحمد
حلم النبي صلى الله عليه وسلم
كان مما يحبه صلى الله عليه وسلم من الصفات صفتا الحلم والأناة وقد قال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة - أخرجه مسلم
وعن أنس رضي الله عنه قال كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عنق النبي، وقد أثر بها حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك،فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس معنا في المسجد يحدثنا، فإذا قام قمن قيامًا حتى نراه قد دخل بعض بيوت أزواجه، فحدثنا يومًا فقمنا حين قام، فنظرنا إلى أعرابي قد أدركه، فجبذه بردائه فحمر رقبته، وكان رداؤه خشنًا، فالتفت إليه، فقال له الأعرابي احملني على بعيري هذين، فإنك لا تحملني من مالك ولا مال أبيك
فقال صلى الله عليه وسلم لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا أحملك حتى تقيدني من جذبتك التي جبذتني، وبعد ذلك يقول له الأعرابي والله لا أقيد لها فذكر الحديث، ثم دعا رجلاً فقال له احمل له على بعيريه هذين، على بعير شعيرًا، وعلى الآخر تمرًا، ثم التفت إلينا فقال انصرفوا على بركة الله - رواه أبو داود والنسائي
ما انتقم لنفسه وما ضرب خادمًا ولا أمره
عن عائشة رضي الله عنها قالت ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه وما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم
وفي رواية ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله - رواه مالك والشيخان وأبو داود
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم
من أقواله صلى الله عليه وسلم في الثناء على التواضع وذم الاستكبار
ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضاعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر رواه البخاري
... -
ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله رواه مسلم وظاهر الحديث يعني الرفعة في الدنيا والآخرة
... -
عن أنس رضي الله عنه قال إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله فتنطلق به حيث شاءت - رواه البخاري
وعنه أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت يا رسول الله، إن لي إليك حاجة فقال يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها - رواه مسلم
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله - رواه البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت - رواه البخاري(11/141)
وعن ابن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي له حاجته - رواه النسائي والحاكم وقال على شرطهما وأقره الذهبي، ورواه الترمذي في العلل عنه، وذكر أنه سأل عنه البخاري فقال هو حديث تفرد به الحسين بن واقد
وعن انس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم - رواه البخاري واللفظ له ومسلم
وعن سهل بن حنيف قال كان صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم - رواه أبو يعلى والطبراني والحاكم يسند ضعيف
وذكر المحب الطبري أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر وأمر أصحابه بإصلاح شاة، فقال رجل يا رسول الله، علي ذبحها
وقال آخر يا رسول الله، علي سلخها
وقال آخر يا رسول الله، علي طبخها
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي جمع الحطب
فقالوا يا رسول الله، نكفيك العمل
فقال صلى الله عليه وسلم قد علمت أنكم تكفونني، ولكن أكره أن أتميز عليكم
وعن أبي أمامة الباهلي قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئًا على عصا، فقمنا إليه، فقال لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضًا - رواه أبو داود أبن ماجة وإسناده حسن
من مظاهر تواضعه صلى الله عليه و سلم
أولاً : كان صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله
عن الأسود قال سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قال كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة - رواه مسلم والترمذي
وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم - رواه أحمد
ثانياً : كان صلى الله عليه وسلم يركب الحمار
عن انس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يعود المريض ويشهد الجنازة ويأتي دعوة المملوك ويركب الحمار، ولقد رأيته يومًا على حمار خطامه ليف - رواه أبو داود والطيالسي ونحوه عند الترمذي وابن ماجة
وعن حمزة بن عبد الله بن عتبة قال كان صلى الله عليه وسلم يركب الحمار عريانًا ليس عليه شيء - رواه ابن سعد مرسلاً بسند ضعيف
ثالثاً : كان صلى الله عليه وسلم يجيب الدعوة ولو إلى خبز الشعير
عن انس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب - رواه الترمذي في الشمائل
الإهالة السنخة أي الدهن الجامد المتغير الريح من طوال المكث
رابعاً : كان صلى الله عليه وسلم لا يدفع عنه الناس
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان صلى الله عليه وسلم لا يدفع عنه الناس ولا يضربوا عنه - رواه الطبراني في الكبير وحسنه السيوطي وذلك لشدة تواضعه صلى الله عليه وسلم وبرأته من الكبر والتعاظم
وعن الحسن قال والله ما كانت تغلق دونه الأبواب، ولا تقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح عليه بها، ولكنه كان باروزًا، من أراد أن يلقى نبي الله لقيه
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم
قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ وقال تعالى فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه إنما أنا رحمة مهداه - رواه ابن سعد في الطبقات، والحكم في النوادر عن أبي صالح مرسلاً، والحاكم عن أبي هريرة وقال على شرطهما وأقره الذهبي وقال صلى الله عليه وسلم إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذابًا - رواه البخاري في التاريخ عن أبي هريرة
نماذج من رحمته صلى الله عليه وسلم
أولاً : رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال
عن عائشة رضي الله عنها قالت كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم ويدعو لهم رواه الشيخان وأبو داود
يبرك عليهم أي يدعو لهم ويمسح عليهم
يحنكهم التحنيك أن يمضغ التمر أو نحوه ثم يدلك به حنك الصغير
وعن أنس رضي الله عنه قال ما رأيت أحدًا أرحم بالعيال من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث رواه الأربعة
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ ولده إبراهيم فقبله وشمه - رواه البخاري
وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الجنة لمن يموت وله ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، بفضل رحمته إياه - رواه البخاري
الحنث أي الإثم، والمعنى أنهم ماتوا قبل أن يبلغوا
وكانت تفيض عيناه لموتهم، وقد سأله مرة سعد بن عبادة يا رسول الله ما هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء - رواه البخاري
وخرج على الصحابة رضي الله عنهم وأمامة بنت الربيع، ابنة زينب، على عاتقه، فصلى، فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها - رواه البخاري(11/142)
وقبل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال من لا يرحم لا يرحم رواه البخاري
وجاءه أعرابي فقال تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة - رواه البخاري
ثانياً : رحمته صلى الله عليه وسلم بالإناث
شبه الرسول صلى الله عليه وسلم النساء بالقوارير، إشارة إلى ما فيهن من الصفاء والنعومة والرقة، وإلى ضعفهن وقلة تحملهن؛ ولذا فإنهن يحتجن إلى الرفق وله توجيهات كثيرة ومواقف عملية في هذا المجال، ومن أبرز الأمثلة على ذلك
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وكانت معه نساء منهن أم سليم، وغلام أسود يقال له أنجشة يحدو، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا أنجشة رويدك، سوقًا بالقوارير رواه البخاري ...
وقد عثرت ناقته ذات مرة، ومعه عليها زوجته صفية، فطرحا على الأرض، فلحق بهما أبو طلحة رضي الله عنه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم عليك بالمرأة رواه البخاري ...
وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه رواه مسلم ...
وقال صلى الله عليه وسلم من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن، كن له سترًا من النار رواه الشيخان ...
وقال صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقة إعالتك ابنتك الفقيرة التي رفضها زوجها، وليس لها غيرك رواه البخاري وابن ماجة ...
=============================
في عيشه صلى الله عليه وسلم في المأكل والمشرب و الحياة
ضيق عيشه صلى الله عليه وسلم كان باختياره
ضيق عيشه صلى الله عليه وسلم
صفة مأكله ومشربه صلى الله عليه وسلم
عدم ذكره عيب الطعام واستحباب مدحه
فراش النبي صلى الله عليه وسلم
لباس النبي صلى الله عليه وسلم
خوف النبي صلى الله عليه وسلم
عظمة النبي صلى الله عليه وسلم في القلوب
جماع النبي صلى الله عليه وسلم
اكتحال النبي صلى الله عليه وسلم
ضحك النبي صلى الله عليه وسلم
نوم النبي صلى الله عليه وسلم
مزاح النبي صلى الله عليه وسلم
سرور النبي صلى الله عليه وسلم
كلام النبي صلى الله عليه وسلم
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم
قوة النبي صلى الله عليه وسلم
شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم
الحذر من الغضب
مشية النبي صلى الله عليه وسلم
ضيق عيشه صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من طعام ثلاثة أيام تباعًا حتى قبض وفي رواية: والذي نفس أبي هريرة بيده ما شبع نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعًا من خبز حنطة حتى فارق الدنيا - رواه الشيخان
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويًا هو وأهله، لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز شعير - رواه أحمد والترمذي وابن ماجة
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم - رواه الشيخان
وفي رواية لمسلم: قالت: لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين
وفي رواية للترمذي عن عائشة: والله ما شبع من خبز ولحم مرتين في اليوم
وفي رواية للبيهقي قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية ولو شئنا لشبعنا ولكنه كان يؤثر على نفسه.
وعن أنس رضي الله عنه قال: إن فاطمة رضي الله عنها ناولت النبي صلى الله عليه وسلم كسرة من خبز شعير
فقال لها: هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام - رواه أحمد والطبراني، وزاد: فقال: ما هذه؟
فقالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة - ورواتها ثقات
وعنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : ولقد أتت علي ثلاثون من يوم وليلة، وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال - رواه أحمد الترمذي وابن حبان، وقال الترمذي: حسن صحيح
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام سخن فأكل، فلما فرغ قال: الحمد لله، ما دخل بطني طعام سخن منذ كذا وكذا - رواه ابن ماجة بإسناد حسن، والبيهقي بإسناد صحيح
وعن أنس رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجتمع عنده غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف - أخرجه الترمذي في الشمائل
ومعنى على ضفف: أي عندما ينزل عليه الضيوف، فيشبع حينئذ لضرورة الإيناس والمجاملة
وعن النعمان بن بشير قال: ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا، فقال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي، ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه - رواه مسلم
الدقل: التمر الرديء
وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: والله يا ابن أخي، إنا كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار(11/143)
قلت يا خالة: فما كان عيشكم؟
قالت: الأسودان، التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه
وعن أبي طلحة قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا ثيابنا عن حجر على بطوننا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين - رواه الترمذي
ضيق عيشه صلى الله عليه وسلم كان باختياره
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا، وفي رواية: كفافًا - رواه الشيخان والترمذي وابن ماجة
الكفاف: ما لا يفضل عن الشيء ويكون بقدر الحاجة
القوت: ما يسد به الريق سمي قوتًا لحصول القوة به
وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكني أشبع يومًا وأجوع يومًا، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك - رواه أحمد والترمذي بسند ضعيف
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل عليه السلام على الصفا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفة من دقيق ولا كف من سويق، فلك يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدة من السماء أفزعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمر الله القيامة أن تقوم؟
قال: لا، ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حين سمع كلامك
فأتاه إسرافيل فقال: إن الله سمع ما ذكرت فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرني أن أعرض عليك أن أسير معك جبال تهامة زمردًا وياقوتًا وذهبًا وفضة، فإن شئت نبيًا ملكًا، وإن شئت نبيًا عبدًا
فأومأ إليه جبريل أن تواضع، فقال: بل نبيًا عبدًا . . ثلاثًا - رواه الطبراني بإسناد حسن والبيهقي وغيرهما
عدم ذكره عيب الطعام واستحباب مدحه
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه - رواه البخاري
وعن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله إدامًا، فقالوا: ما عندنا إلا خل، فدعا به، فجعل يأكل ويقول: نعم الأدم الخل، نعم الأدم الخل - رواه مسلم
صفة مأكله ومشربه صلى الله عليه وسلم
كان صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاثة ثم يلعقها
روى الترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل بأصابعه الثلاث، وكان يلعق أصابعه إذا فرغ ثلاثًا روى مسلم: أنه كان يلعقها قبل أن يمسحها
وقال كعب بن عجرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث، بالإبهام والتي تليها والوسطى، وأكل صلى الله عليه وسلم أيضًا بخمسة
كان صلى الله عليه وسلم لا يأكل متكئًا
روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا آكل متكئًا
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: إني آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد - رواه ابن عدي والديلمي وابن أبي شيبة بإسناد ضعيف
كان صلى الله عليه وسلم يشرب ثلاثًا
روى السبعة: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا شرب تنفس ثلاثًا، ويقول: هو أهنأ وأمرأ وأبرأ
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدنى الإناء إلى فيه سمى الله تعالى، فإذا أخره حمد الله، يفعل ذلك ثلاثًا - رواه الطبراني
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا شرب تنفس مرتين - رواه الترمذي وابن ماجة بسند ضعيف
قال المناوي: أي تنفس في أثناء الشرب مرتين، فيكون قد شرب ثلاث مرات، وسكت عن التنفس الأخير لكونه من ضرورة الواقع، فلا تعارض بينه وبين ما قبله من الثلاث
كان صلى الله عليه وسلم يشرب قاعدًا
روى مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب قاعدًا، وكان ذلك عادته صلى الله عليه وسلم
وروى مسلم أيضًا: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائمًا
وعن علي رضي الله عنه: أنه شرب قائمًا، وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كما رأيتموني فعلت - رواه البخاري وأبو داود والنسائي
فشربه صلى الله عليه وسلم كان لبيان الجواز
لباس النبي صلى الله عليه وسلم
كان صلى الله عليه وسلم يلبس من الثياب ما وجد من إزار أو رداء أو قميص أو جبة أو غيرها
عن عائشة رضي الله عنها: أنها أخرجت إزارًا مما يصنع باليمن وكساء من هذه اللبدة، فقالت: في هذا قبض النبي صلى الله عليه وسلم - أخرجه الشيخان
وعن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية - أخرجه الشيخان
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس قميصًا قصير اليدين والطول - أخرجه ابن ماجة بسند ضعيف
وعنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس قميصًا فوق الكعبين مستوي الكمين بأطراف أصابعه - أخرجه ابن ماجة وابن عساكر والحاكم وابن حبان وصححاه(11/144)
وقال دحية الكلبي: أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة من الشام - أخرجه أبو الشيخ وابن حبان
وقال المغيرة بن شعبة: لبس النبي صلى الله عليه وسلم جبة رومية ضيقة الكمين - أخرجه الشيخان
وقال عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: أخرجت إلينا أسماء جبة طيالسة كسروانية، لها لينة ديباج، وفرجاها مكفوفان بالديباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها - أخرجه مسلم والنسائي وابن سعد
وعن سهل بن سعد قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وله جبة صوف في الحياكة - أخرجه أبو داود والطيالسي
وقال أنس رضي الله عنه: أهدى ملك الروم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقة من سندس فلبسها
قال أنس: فكأني أنظر إلى يديه تذبذان من طولهما، فجعل القوم يقولون: يا رسول الله أنزلت عليك من السماء؟
فقال: وما تعجبون منها؟! والذي نفسي بيده إن منديلاً من مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها
ثم بعث بها إلى جعفر بن أبي طالب فلبسها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أعطكها لتلبسها
قال: فما أصنع بها؟
قال: ابعث بها إلى أخيك النجاشي - أخرجه ابن سعد وأحمد وأبو داود مختصرًا
وعن ابن داود: أن قيصرًا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة من سندس، فاستشار أبا بكر وعمر، فقالا: يا رسول الله، نرى أن تلبسها، يكبت الله بها عدوك ويسر المسلمون، فلبسها وصعد المنبر فخطب، وكان جميلاً يتلألأ وجهه فيها، ثم نزل فخلعها، فلما قدم عليه جعفر وهبها له - أخرجه قانع بن قانع
وإنما لبس النبي صلى الله عليه وسلم المستقة أو الجبة من سندس قبل تحريم الحرير، ثم نزعها بعد التحريم
وفي رواية لمسلم والنسائي أن النبي قال حين نزعه: نهاني عنه جبريل
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم جعفر بإهداء المستقة لملك الحبشة لينتفع بها بطريق حلال بأن يكسوها النساء
ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس المستقة بعد تحريم الحرير؛ لكونها مكفوفة بالسندس، وليس جميعها حريرًا خالصًا لأن نفس الفروة لا تكون سندسًا، ومع ذلك ترك لبسها بعد ورعًا
ولبس النبي صلى الله عليه وسلم الحبرة، وهي كعنبه نوع من البرود اليمنية، وكانت من أحب الثياب إليه، ولبس القباء والفروج، وهو القباء الذي شق من خلفه
وقال الواقدي: كان رداؤه وبرده طول ستة أذرع في ثلاثة وشبر، وإزاره من نسج عمان طول أربعة أذرع وشبر في عرض ذراعين وشبر، ولبس حلة حمراء. والحلة: إزار ورداء، ولا تكون الحلة إلا اسمًا للثوبين معًا
وغلط من ظن أنها كانت حمراء بحتة لا يخالطها غيرها؛ إنما الحلة الحمراء بردان يمنيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود كسائر البرود اليمنية، وهي معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من الخطوط الحمر، فالأحمر البحت منهي عنه أشد النهي
ولبس صلى الله عليه وسلم الخميصة المعلمة والساذجة، ولبس ثوبًا أسود، ولبس الفروة المكفوفة بالسندس
وكان صلى الله عليه وسلم يلبس العمامة وتحتها قلنسوة، وكان يلبسها بلا قلنسوة، وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه، وكان يتلحى بالعمامة تحت الحنك
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي كان إذا استجد ثوبًا سماه باسمه عمامة أو قميصًا أو رداء ثم يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له - أخرجه أحمد والحاكم والثلاثة وحسنه الترمذي، وصححه النووي
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوبًا أو غيره بدأ بيمناه، وإذا لبس شيئًا من الثياب بدأ بالأيمن، وإذا نزع بدأ بالأيسر
وقال أنس رضي الله عنه: كان صلى الله عليه وسلم إذا ارتدى أو ترجل أو انتعل بدأ بيمينه وإذا خلع بدأ بيساره - أخرجه أبو الشيخ وابن حبان وسنده ضعيف
فراش النبي صلى الله عليه وسلم
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم على حصير قد أثر في جنبه فبكيت
فقال: ما يبكيك؟
قلت: كسرى وقيصر على الخز والديباج، وأنت نائم على هذا الحصير
فقال صلى الله عليه وسلم: ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها - رواه أحمد، وابن ماجة بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب بلفظ آخر والترمذي وقال: حسن صحيح، والحاكم والطبراني، وقال الحاكم على شرط البخاري وأقره الذهبي، وقال الهيثمي: ورجال أحمد رجال صحيح غير هلال بن حيان وهو ثقة
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إنما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه أدمًا حشوه ليف
وفي رواية: كان وساد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتكئ عليه من أدم حشوه ليف - رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة(11/145)
وعن حفصة رضي الله عنها قالت: كان فراشه صلى الله عليه وسلم مسحًا يثنيه ثنيتين فينام عليه، فلما كان ذات ليلة قلت: لو ثنيته أربع ثنيات لكلن أوطأ، فثنيناه بأربع ثنيات فلما أصبح قال: ما فرشتموه الليلة؟
قلنا: هو فراشك إلا أنا ثنيناه بأربع ثنيات، قلنا هو أوطأ لك
قال: ردوه لحاله الأولى؛ فإنه منعني وطاؤه صلاتي الليلة - رواه الترمذي
عظمة النبي صلى الله عليه وسلم في القلوب
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ملأت عيني منه قط حياء منه وتعظيمًا له، ولو قيل لي صفه لما قدرت - رواه مسلم
ولما رأته صلى الله عليه وسلم قيلة بنت مخرمة في المسجد وهو قاعد القرفصاء أرعدت من الفرق، أي الخوف - رواه أبو داود
وجاء رجل إليه صلى الله عليه وسلم فقام بين يديه، فأخذته رعدة شديدة ومهابة فقال له: هون عليك فإني لست بملك ولا جبار، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة، فنطق الرجل بحاجته
خوف النبي صلى الله عليه وسلم
روى البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية
وروى أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا
وعن عبد الله بن الشخير قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء - رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، والنسائي بسند حسن، والترمذي وصححه، وابن حبان وابن خزيمة
اكتحال النبي صلى الله
فيا عمي البصائر والعيونا
الكاتب: أبو ملك الأنصاري
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته. من العراق نطق صوت الحق للرد على من تهجم على شخص سيد الخلق (محمد) صلى الله عليه وسلم ما لمعت شمس في الأفق وما لم تلمع وتشقق....... أما بعد فأنا شاب من العراق أحمل إليكم هذه الكلمات متأسفا على تأخير الرد ولكن الله أذن بذلك وأقول لاقاني أحد أحبه الحبيب محمد وحملني إليكم كلام وبه أوجز كلامي ولزامي وختامي وإن شاء الله يصل إلى كل الأرض والى كل من تعاون على بثه على العالم أجمع وثوابكم على الله والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته
==============================
فيا عميى البصائر والعيونا
فيا عمي البصائر والعيونا على شخص الرسول أتعتدونا
فهل لكم بصائر مبصرات وهل لكم عيونا ناظرينا
وهل لكم بما للخلق سمعا وهل لكم آذانا سامعينا
فهلا عندكم إدراك وعي وهل لكم عقول العاقيلينا
شعاع الشمس في الآفاق يضوي فلا يحجبه ثوب المعتمينا
فلا تبصر عيون العمي نورا ولو سطع الضياء على الجبينا
أينقص من له قد شق بـ لرفعته أقر المشركونا
ومن أن الجماد له دليلا فجذع النخل حن له حنينا
لقد جار البعير ولاذ فيه ولاذ الضبي فيـ،،ـه مستعينا
وكلمه الذراع السم فيه فأخبره بغدر الغادرينا
وضرع الشاة در له بلبن بهجرته إلى نحو المدينا
فلا عتب على قوم أضلوا وظلوا في الضلالة غارقينـ،ــا
عسى القهار يزلزل أرض قوم علينا بالوقاحة يعتدونا
تجرأتم وطاولتم وعبتم نبي الله إمام المرسلينا
أينقص من عليه الرب أثنا وخصه رحمة للعالمينا
لقد زاح الضلالة في هداه وأرشدنا إلى الإسلام دينا
ودلانا إلى الرحمن داع وأهدانا طريقا مستبينا
بوحي من اله الكون يهدى عليه تنزل جبريل الأمينا
تنزل في كتاب الله يقرى فقال اقرأ كتاب الحق فينا
كتاب الله قرآن ووحي من القيوم يتلى كل حينا
به حكم وأحكام وعدل خطابا فصل في أزل السنينا
وقول ما به زلل وزيغ خليل الله أشار له أبينا
وتوراة ابن عمران أشارت وإنجيل وزبور شاهدينا
تجلى قول ربي في علاه تنزه عن مقال الشاهدينا
وأهدي في الختام صلاة ربي على خير الورى الهادي الأمينا
على من جاهه في الحشر يرجى لكل الخلق في القيامة يوم دينا
وأصحاب وأصهار وآل وأتباع وتابع تابعينا
نظمت هذه القصيدة في يوم الجمعة 27 / 1 / 2006
الناظم عبد المحسن ذنون آل رجب الرفاعي
العراق / الأنبار / قضاء عنه
أخوكم بالله
أبو ملك الانصاري
=========================
قاطعوهم.. يرتدعوا صاغرين
مصطفى محمد كتوعة
يموج العالم الإسلامي بالغضب العارم من البذاءة والتطاول الذي نشرته إحدى الصحف الدنماركية، وأعادت نشره صحيفة نرويجية، وقد سارعت المملكة باستدعاء السفير السعودي في الدانمارك احتجاجا على هذه الجريمة التي أقدمت عليها تلك الصحيفة بتعليقاتها القبيحة ورسوماتها الوقحة التي زعم صاحبها أنها تمثل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد طالب سماحة المفتي العام في بيانه حكومة الدنمارك بمحاسبة الصحيفة وإلزامها بالاعتذار عن جريمتها النكراء، وتوقيع الجزاء الرادع على من شارك في إثارة هذا الموضوع. مستنكرا سماحته هذا البهتان العظيم الموجه لنبي الإسلام وخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.(11/146)
لقد بلغ السيل الزبى، وطفح الكيل مما يتعرض له الإسلام الحنيف من تطاول وإساءات الحاقدين في العالم الغربي من الذين يتخذون العنصرية الدينية والهوس الممجوج ضد المسلمين والدين السمح وقد شعر كل مسلم في العالم بالصدمة البالغة من تلك البذاءات التي أقدمت عليها تلك الصحف تحت مسمى حرية الرأي، وهي في حقيقتها جريمة رأي يجب أن يعاقب عليها فاعلها وناشرها، والأمة الإسلامية اليوم وقد أساءها ويسيؤها هذا التطرف البغيض في الكراهية ضدها هي اليوم أمام اختبار صعب يدعوها لوقفة جادة وحازمة ضد هؤلاء الموتورين.
إن قمة مكة المكرمة التي جمعت زعماء العالم الإسلامي لم تكن ببعيد عن هذه القضية، فقد طالبت بوقف أي حملات إساءة للإسلام أو للرسول الكريم ومحاسبة من يفعل ذلك، وها هي أمام مسؤولياتها بضرورة اتخاذ ما يلزم تجاه تلك الجرائم النكراء، وعلى الشعوب الإسلامية، بل على كل مسلم أن يؤكد غضبه، وأقل ما يمكن فعله هنا هو المقاطعة الاقتصادية لمنتجات تلكما الدولتين طالما رفض المسؤولون فيها الاعتذار ومحاسبة فاعلي وناشري تلك الوقاحات ضد نبي الرحمة المهداة وسيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- وأشرفهم، فهؤلاء لا يعرفون إلا لغة المال والمصالح، وطالما كان المسلم فردا أو اسرة وعلى كل المستويات واعيا بأهمية المقاطعة الاقتصادية لسارع هؤلاء إلى الاعتذار وردع كل من تسول له نفسه المساس بالإسلام العظيم الذي لا يكتمل أساسا في يقين الفرد وإيمانه إلا بالإيمان بالله ورسله وكتبه وتوقير جميع الأنبياء.
فإذا كان المسلم لا يحق له ولا يجرؤ على المساس بأي نبي من أنبياء الله، فعلى الأمة أن تبلغ رسالتها القوية إلى هؤلاء العابثين بالكلمة تحت زعم حرية الرأي، وذلك عندما ينال الضرر الاقتصادي بلادهم واقتصادهم، لذا فكل مسلم يملك القرار، وعليه أن يثبت صدق موقفه بعدم شراء منتجات تلك الدول وهي معروفة وتملأ أسواقنا، وإذا حدث هذا ستصل الرسالة للحاقدين قوية ليكونوا عبرة لأمثالهم، ويدركوا أن هذه الأمة لم تمت وإن ضعفت، وأن غيرتها على دينها والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم لم ولن تضعف أو تهن مهما تكالب الحقد الأعمى والمتآمرون على هذا الدين العظيم، ونحن مؤمنون بأن الله ناصر دينه وكتابه الكريم ورسالة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال سبحانه: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا}.
وفي لحظة كهذه على شعب المملكة العربية السعودية خاصة وشعوب الأمة الإسلامية عامة أن يكونوا على مستوى المسؤولية والثقة التامة بأن قرار الفرد المسلم والأسرة إنما يؤثر بالغ التأثير في تلك الدول، ولا يجب أن يستهين المسلم بدوره في قرار المقاطعة، فالشعوب بإمكانها أن تفعل الكثير في مساندة أي موقف رسمي تجاه تلك الإساءات، ولكن يظل على الدول الإسلامية وعلى منظمة المؤتمر الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي وكافة الجهود المنظمة اتخاذ مواقف مؤثرة وإجراءات قانونية حتى يتم محاسبة هؤلاء الموتورين الخبثاء الذين تجرأوا على خاتم الأنبياء ورسول البشرية صلى الله عليه وسلم والإعلام الإسلامي مطالب اليوم بإيصال رسالة هذه الأمة إلى تلك الدول ولكن دولة يعشعش فيها الحقد الأعمى ضد الإسلام والمسلمين، وإذا بلغتهم الرسالة قوية، فإنهم سيعتذرون صاغرين ويدركون أن لدى أمة الإسلام خطوطا حمراء إذا تعلق الأمر بالدين وبالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهنا تكون كل الأمة فداء لدينها ونبيها صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يجب أن يفهمه من سال لعابهم على التطاول ظنا منهم في ضعف الأمة سبيلا لأغراضهم الدنيئة وساء ما فعلوا..
والله نسأل أن يرد كيد الكائدين في نحورهم.
وأن يعز الإسلام والمسلمين.
وأن يذل أعداء الدين.
حكمة:
قال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}.
========================
قوائم المقاطعة ضوابط وأحكام
تاريخ الإجابة 05/02/2006
موضوع الفتوى الجهاد
بلد الفتوى - مصر
نص السؤال هل أعددتم دراسة حول الأشياء التي تؤثر مقاطعتها بصورة فعالة في اقتصاد العدو، وهل هناك قائمة تم درجها بعناية تحوي المنتجات التي يتم مقاطعتها؛ لأن القوائم الموجودة يوجد بها تضارب ويبدو أنها لم تتم عن دراسة؟ وجزاكم الله خيرا.
اسم المفتي الأستاذ الدكتور حسين شحاته
نص الإجابة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:(11/147)
المقاطعة هي الامتناع عن دعم اقتصاد العدو ، لصالح الاقتصاد الإسلامي ، وقد طبقه الرسول – صلى الله عليه وسلم – ويجب أن تكون هذه القوائم منضبطة صحيحة ، ويجب أن نتأكد من مصدر المعلومات حتى لا نصيب قوما بجهالة ، ويمكن ذلك من خلال الغرف التجارية، ومن مصلحة الشركات، وهيئة سوق المال، ولجان المقاطعة كما في جامعة الدول العربية والنقابات المهنية ولجنة المقاطعة بجامعة الأزهر .
يقول الأستاذ الدكتور حسين شحاته الأستاذ بجامعة الأزهر :
المقاطعة تعني الامتناع عن دعم اقتصاد الأعداء، أي إضعاف اقتصاد الأعداء، وتقوية اقتصاد الأمة الإسلامية، وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج المقاطعة عندما أرسل عليًا إلى أبي بكر الصديق ليخبره بأن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه بأن المشركين نجس، فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وقد حزن تجار المسلمين من هذا الأمر الإلهي خشية الفقر والعوز والخسارة، فرد الله عليهم بقوله: "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله"، وكان هذا نموذجا قرآنيا لوجوب مقاطعة المشركين والكافرين والمعتدين والظالمين. فالمقاطعة ليست بدعة، وليست أمرا مستحدثا، ولكن هي سنة من سنن الله عز وجل، وسلاح يوجه ضد الأعداء.
ويجب على المسلم أن يدرس السلع والخدمات التي ينتجها العدو، وتعرض في الأسواق ويمتنع عن شرائها، و يجب عليه التيقن من أنها سلعة مقدمة من دولة معتدية ظالمة، وهذا في زماننا ميسر، حيث لكل سلعة دولة للمنشأ، أين صنعت هذه السلعة، وإن كان يحدث في بعض الأحيان تحايل، ولكن نسبته قليلة، ويوجد في الدول العربية والإسلامية مراكز معلومات نستطيع أن نعرف منها الدولة التي تنتج السلعة أو تقدم الخدمة، وأسماء المساهمين في الشركات وجنسياتهم، ومعلومات كثيرة عنهم.
من ذلك نستطيع أن نعرف هل هذه السلعة تقاطع أم لا، وفي مصر على سبيل المثال تمكنا من معرفة السلع والخدمات التي تأتي من العدو الصهيوني، ومن أمريكا التي تدعمه، من خلال الغرف التجارية، ومن مصلحة الشركات، وهيئة سوق المال، وجهات أخرى كثيرة.
ولقد قامت لجان المقاطعة الاقتصادية في جامعة الدول العربية، وفي الدول العربية والإسلامية، وفي النقابات المهنية، وفي الجامعات، ومراكز البحوث بإعداد قوائم تتضمن السلع والخدمات الواجب مقاطعتها؛ لأنها تنتمي إلى دولة أمريكا وإسرائيل. وتراجع هذه القوائم عدة مرات من أهل الاختصاص والخبرة.
ومع ذلك يجب أن يكون هناك تنسيق وتعاون وتنظيم بين جميع لجان المقاطعة الاقتصادية على مستوى القطر العربي والإسلامي، وعلى مستوى جامعة الدول العربية، وعلى مستوى منظمة المؤتمر الإسلامي، حتى تكون قوائم المقاطعة دقيقة، وسليمة، وموضع ثقة، وأن يعاد النظر فيها على فترات للتيقن من سلامتها.
ويجب ألا تكون قوائم المقاطعة عشوائية، حتى لا نصيب قومًا بجهالة، بل يجب أن تكون هادفة، ومخططة، ومنظمة، وموجهة، حتى تكون أكثر فعالية، تحقق أكبر خسارة ممكنة لاقتصاد العدو، وتخفيف الخسائر من على الوطن، سواء كان عربيا أو إسلاميًا.
ونحن في جامعة الأزهر يوجد بها لجنة مقاطعة تتعاون مع لجنة المقاطعة في جامعة الدول العربية، ومع لجان المقاطعة في الجامعات المصرية، وفي النقابات المهنية، وفي المؤسسات الخيرية، بحيث تراجع قوائم المقاطعة حتى تكون موضع ثقة من الجميع.
والمقاطعة لا يُنظر إليها بما تحققه من خسائر مادية للعدو، ولكن يُنظر إليها على أنها موقف مع النفس، وموقف مع الله، وموقف لمؤازرة إخواننا، فقيمتها المعنوية لا تُقوّم بمال.
والله أعلم.
=========================
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم
(1)
محمد قطب
مقدمة الطبعة الشرعية الخامسة
تصدر هذه الطبعة (عام 1398 ه) ونحن على مقربة من نهاية القرن الرابع عشر الهجري وبداية القرن الخامس عشر..
وما أحوجنا - في هذه الفترة الدقيقة من حياتنا - أن نراجع مسيرتنا خلال تلك القرون، على ضوء الكتاب والسنة، اللذين أخرجا من قبل " خير أمة أخرجت للناس " واللذين هما معيار خيرية هذه الأمة. فعلى قدر استقامتها عليهما تتحقق خيريتها، وعلى قدر انحرافها عنهما تظل تنحدر حتى تصير إلى ذلك الغثاء الذي تحدث عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يرى تلك الفترة العصيبة بنور الوحي: " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا! إنكم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل.. "
واليوم تقوم - على هدي الكتاب والسنة كذلك - حركات بعث إسلامي في كل أرجاء العالم الإسلامي، يرجى أن تنقذ هذا الغثاء من وهدته، وتعيده (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).
فما أحوجنا أن نتعرف على كتاب ربنا الكريم، وما أحوجنا كذلك أن نقبس "قبسات من الرسول" صلى الله عليه وسلم نقوّم بها ما أعوج في حياتنا من خطوات..(11/148)
وما زلت أرجو أن يصدر مزيد من الكتب والدراسات التي يتناول فيها الكتاب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأحاديثه بالطريقة التي تقربها لهذا الجيل، وتقرب هذا الجيل كذلك من الإسلام.
والله الموفق إلى ما فيه الخير.
محمد قطب.
مقدمة الكتاب
لا أحسب أحداُ من البشر نال من الحب والإعجاب ما ناله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن أتباعه المؤمنين لا يمنعهم من تقديسه شيء إلا نهي الله لهم أن يتوجهوا بالعبادة والتقديس لأحد سواه. ومع ذلك فإن درجة الحب التي يتوجهون بها إلى الرسول r تكاد تفلت أحياناُ في قلوب بعض المسلمين فلا يمسكها هذا النهي إلا بجهد جهيد! وإن بعضهم لتصيبه حالات من الوجد في حب الرسول حتى لينسى نفسه، وتختلج مشاعره وقسمات وجهه، وتنهمر عيناه بالدموع، ثم لا يفيق من قريب! حتى بين " أجف " المسلمين قلباُ، وأغلظهم مشاعر (إن صح أنهم مسلمون مع ذلك!)، لن تجد منهم من لا يتوجه للرسول صلى الله عليه وسلم بالحب والتعظيم، ولو كان يعبد الله على حرف، ولا يقيم كثيراُ من قواعد الدين!
أما غير أتباعه فقد هاجمه كثير منهم، ومع ذلك فإن أغلبية عظيمة من هؤلاء لم تملك نفسها من الإعجاب بشخصه، بصرف النظر عن دينه، فقالوا عنه إنه رجل عظيم، وقالوا إنه يملك الصفات التي تحبب إليه الناس.
نعم.. لا أحسب أحداً من البشر نال من الحب والإعجاب ما ناله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك فإني أحسب أن كثيراً من المسلمين، وخاصة في هذه الأعصر الحديثة، لا يقدرون الرسول حق قدره، حتى وهم يتوجهون إليه بالحب، بل حتى وهم ينحرفون بهذا الحب إلى لون من التقديس!
ذلك أنه حب سلبي لا صدى له في واقع الحياة!
وإن صورة الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوب هؤلاء المسلمين لتعاني عزلة وجدانية عميقة.
إنه هنالك في أعمق أعماقهم. إنه روح نورانية شفيفة، إنه سنَى مشرق، إنه ومضات من النور الرائق والشعاع المتألق. إنه روح سارية في حنايا القلب وفي أنحاء الكون.. ومع ذلك فهو ليس حقيقة واقعة!
إنه حقيقة " صوفية " منعزلة في الوجدان، واصلة إلى آخر أعماقه، ولكنه ليس صورة حية متحركة في واقع الحياة، شاخصة بلحمها ودمها، وأفكارها ومشاعرها، وتنظيماتها وتوجيهاتها، وهدمها وبنائها، ومادياتها وروحانياتها سواء!
ولا شك أن لهذه العزلة أسباباً تاريخية...
ففي عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم منعزلاً في وجدان المسلمين.
كان المسلمون قريبي العهد به، ما زالوا يعيشون مع ذكراه الحية في نفوسهم، وصوره الشاخصة في مخيلتهم، في غدوه ورواحه، وحربه وسلمه، وعبادته وعمله. صورة متكاملة تشمل الحياة كلها في أعماق الضمير وفي واقع المجتمع على السواء.
ولكن قرب العهد لم يكن وحده السبب في إحساس المسلمين به حياً في نفوسهم، متكاملاً في مشاعرهم. وإنما كان إلى جانب ذلك سبب على أعظم جانب من الأهمية، هو امتداد تعاليم الرسول ومنهجه التربوي في تصرفات أبي بكر وعمر وطريقة سياستهما لأمور المسلمين.
لقد أحس المسلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي بتعاليمه ومنهجه، حتى وإن غابت ذاته الرفيعة عنهم في عالم الحس.
وما عالم الحس من واقع النفس؟
إن الأشياء لا تقاس بوجودها أو عدم وجودها في عالم الحس. وإنما تقاس بمقدار ما توجد في عالم النفس، وبالمساحة التي تشغلها من المشاعر والأفكار والسلوك.
ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان " موجوداً " في نفوس المسلمين على عهد أبي بكر وعمر، وعلى مدار الأجيال التي لم تره بعد ذلك، أضعاف أضعاف ما كان موجوداً في نفس أبي جهل أو غيره من المشركين، ممن رأوه رأي العين، وجالدهم وجالدوه، ولكنهم لم يؤمنوا به، ولم يقووا على حبه فأبغضوه.
وعلى هذا الأساس وحده نقيس وجود الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس المؤمنين وغير المؤمنين.
وعلى عهد الشيخين كانت الحياة كلها محكومة بتعاليم الإسلام وروحه، وكان الشيخان على قمة البشرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، يتطلع الناس إليهما في تصرفاتهما، وسلوكهما، ومشاعرهما، وأفكارهما فيدركون القبس الخالد الذي يقبسان منه، ويرون الرسول صلى الله عليه وسلم رأي الواقع في قلبيهما الكبيرين، فيعيشون في ظلهما مع الرسول فوق ما يعيشون معه في ذكرياتهم الخاصة، ووجداناتهم التي كانت بدورها قد شحنت بتلك القبسات المشرقة من قبسات الرسول.
وجاء عثمان رضي الله عنه فسار في أول عهده على هدي الشيخين ما استطاع، ولكن رويداً رويداً أخذ نفوذ مروان بن الحكم ومنهجه يغلبان على الحكم، وعثمان رضي الله عنه تثقله السن. وبدأ المسلمون يحسون بافتراق الطريق. وبدأت الصورة المتكاملة للرسول صلى الله عليه وسلم تنحسر شيئاً فشيئاً إلى داخل النفوس، بعد أن كانت ملء النفوس وملء الحياة معاً وعلى نسق واحد.(11/149)
وكلما انفرجت الشقة بين الواقع المشهود وبين تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته، زادت صورته انحساراً في نفوس المسلمين، حتى ينتهي الأمر إلى أن تصبح " مثالاً " متألقاً في أعماق الوجدان، لا صورة حية في العيان، مثالاً منعزلاً عن واقع الحياة، لا يحكمها ولا يرسم منهجها، ولا يتجه الشعور إليه لتسيير دفتها!
ولكن أجيالاً متطاولة مضت قبل أن تتم العزلة في صورتها العنيفة التي تقوم اليوم في قلوب المسلمين.
كان الحكم في البلاد الإسلامية - رغم بعده التدريجي عن روح الإسلام - يقوم باسم الإسلام!
وكان المجتمع إسلامياً رغم فساد الحكام!
نعم. لقد ظل المجتمع في الريف والمدن البعيدة عن العواصم إسلامياً قرابة ألف سنة، لا يتأثر بفساد الحكم، ولا تصل إليه العدوى من العاصمة المنحلة التي فيها القصور الماجنة، وصور الحياة الدنسة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحكم في العاصمة، ولا يرسم سياسة المال، ولكنه كان يُحكِم الروابط بين قلوب المسلمين في الريف والمدن البعيدة، فتقوم بينها محبة الإسلام وتكافل الإسلام وتراحم الإسلام، في الوقت الذي كانت " البيئة الزراعية " المماثلة في أوربا تقوم على علاقة السادة والعبيد: سادة لهم الأمر كله والملك كله، وعبيد ليس لهم من الأمر شيء سوى العبودية المطلقة والانعدام الذليل.
في تلك الأثناء كانت بقية من صورته صلى الله عليه وسلم لم تنعزل بعد في وجدان المسلمين. ورغم أن المذاهب " الصوفية " كانت نشيطة في المجتمع الإسلامي كله في ذلك الوقت، والصوفية تجنح إلى العزلة عن الحياة والبعد عن مجالدتها، إلا أن هذه المذاهب قد أدت دوراً تاريخياً في منع المجتمع الإسلامي من التفكك، والإبقاء عليه مترابطاً " بأخوة " الصوفية كما أنها في غير قليل من الأحيان كانت تدخل معترك السياسة ولو من وراء ستار..
أما العزلة الكاملة الموحشة المرهوبة، فقد تمت وأحكمت حلقاتها حين بَعُدَ الحكم والمجتمع كلاهما عن الإسلام: اسمه وروحه، وصار الغرب هو الذي يحكم السياسة والمجتمع: باسمه الصريح حيناً، وعلى يد صنائعه النافرين من الإسلام حيناً آخر. وصار المجتمع الإسلامي صورة متحللة فاسدة من الأفكار الغريبة عن الحياة. لا هي إسلامية كما كانت، ولا هي نسيج واحد متميز، ولا تملك حتى القوة المادية التي يملكها الغرب، وإنما هي مسخ مشوه لا وحدة له ولا كيان.
عندئذ لم يعد الرسول صلى الله عليه وسلم " موجوداً " أصلاً في واقع الحياة. لم يعد كياناً حياً شاخصاً بلحمه ودمه، وأفكاره ومشاعره، وتنظيماته وتوجيهاته، ومادياته وروحانياته.. وانحصر وجوده في مشاعر الناس السلبية، في أعمق أعماقها.. في حالات الوجد والهيام.. أصبح صورة.. مجرد صورة مثالية. لا يمسكها إلا الحب العنيف أن تكون أسطورة محلقة في الخيال!
يا حسرة على العباد!
كيف جاز لهم أن يصنعوا ذلك؟ كيف جاز لهم أن يبددوا أكبر طاقة بشرية كونية في هذا الوجود، فينحسروا بها في عزلة عن الحياة؟! وهل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يصنع معه هذا الصنيع؟ الرسول الذي كان طاقة حية متحركة فعالة هادمة بناءة لا تكف لحظة عن النشاط؟ الرجل الذي كان كله حياة في واقع الأرض، يصبح معزولاً عن واقع الأرض؟! وممن! من أتباعه ومحبيه!
لو عاش صلى الله عليه وسلم في صومعته..
لو كان " فيلسوفاً " ممن ينشئون الأفكار ويعجزون عن التنفيذ..
لو كان ممن يحدثون عن " الأحلام " الجميلة و " المثل " الرفيعة ولا يبين لهم في واقع الأرض كيف تكون الطريق.
لو أنه كان " شاعراً " أو " كاهناً "...
لو أنه كان شيئاً من هذا كله لجاز للناس أن يعزلوه في وجدانهم، فيمنحوه الحب "النظري " والإعجاب المجرد، ثم.. لا يلتفتوا إليه وهم يواجهون عالم الواقع ويضربون في مناكب الأرض.
أما وهو الذي بين لهم كيف يضربون في مناكب الأرض.. أما وهو الذي أمسك المعول بيده فهدم الباطل أمام أعينهم وبنى بدله صرح الحق.. أما وهو الذي حارب معهم وأقام السلم.. وشيد بناء الدولة لهم لبنة لبنة حتى قام شاهقاً لا يطاوله بناء على الأرض.. وأكل معهم وشرب، وصحبهم وصحبوه، وعاش أمامهم كل لحظة من لحظات الحياة، وكل وجدان من وجداناتها وكل سلوك، ورأوه " يتصرف " في كل شأن من الشئون كبيرها وصغيرها، ليكون تصرفه سنة تحتذى، ويكون فيه أسوة حسنة للناس..
أما وهو هذا كله فأي جرم في تبديد هذه الطاقة البشرية الكونية الكبرى، وحصرها في داخل الوجدان؟!
وهل جاء محمد صلى الله عليه وسلم لينعزل في الوجدان، والدين الذي جاء به هو الدين الذي يأبى الانعزال في الوجدان؟!(11/150)
إن أبرز سمة في هذا الدين أنه دين الظاهر والباطن على حد سواء. لا يرضى أن يكون الظاهر نظيفاً والباطن غير نظيف، فيصبح رئاء الناس. ولا يرضى أن يكون الباطن نظيفا ولا صدى له في الظاهر فيفقد مهمته ومعناه. إنه الدين الذي يجعل العمل عبادة.. ورسوله صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي ظل حياته كلها يتعبد بالعمل.. العمل المثمر النافع الظاهر للعيان.
فكيف جاز بعد هذا كله أن يتحول في قلوب المسلمين إلى مثال منعزل، ولو كان أرفع مثال على الأرض وأنبل مثال؟!
* * *
ولقد كان إحساسي بالرسول الكريم دائماً هو إحساسي بالواقع المجسم، لا بالخيال المحلق في الفضاء.
وكانت تهز وجداني هزاً عنيفا هذه الصورة المعروفة في كتب السيرة كلما قرأتها: " كان يمشي وكأنه يتقلع من الأرض... " وترتسم في خيالي صورة رائعة، حية شاخصة، ممتلئة بالحيوية، متوفزة النشاط.. عظيمة في هذا كله عظمة لا تحد. وانظر إلى الصورة التي تجسمت في خيالي فأرى النور الرائق الصافي يشع من أعماق روحه صلى الله عليه وسلم، وينفذ إلى أعماق نفسي، ويغلبني الوجدان وأنا أنظر إلى هذه الروح الصافية العميقة الشفافة المشعة، ومع ذلك فلا تلبث صورته أن تتحرك.. وأراه صلى الله عليه وسلم يمشي وكأنه يتقلع من الأرض. أراه.. بمقدار ما تطيق روحي أن تصل إليه.. متحركاً يضرب في مناكب الأرض، ويشق طريقه في قوة وثبات وتمكن، ويقيم البناء كله لبنة لبنة.. وأراه في مواقفه النفسية الدقيقة العميقة، فأكاد ألمس النفس الجياشة المتحركة الدافقة. وأراه في لحظات تعبده، والنور يتألق من روحه ومن طلعته، فأحس كأن هذا النور يتحرك.. يتحرك ممتداً حتى يشمل الفضاء.
الحركة الحية المتوفزة هي في نفسي صورة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن ثم لا أحس بها منعزلة في الوجدان..
ثم أرى العزلة التي تعانيها صورته في وجدان المسلمين، فأعجب للناس كيف يحبونه كل هذا الحب، ثم لا يتدبرون حياته للقدوة والأسوة كما قال لهم ربهم في كتابه المبين؟!
* * *
وليس هذا كتاباً في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم!
وإنما هو جهد متواضع كل همي منه أن أحاول إخراج صورة الرسول من عزلتها الموحشة في قلوب المسلمين.
هدفي أن أقول للناس تدبروا بعض أقوال الرسول r ، وانظروا كيف كانت كل كلمة يقولها منهج تربية ومنهج سلوك ومنهج تفكير ومنهج حياة..
إنها مختارات متفرقة من الأحاديث، أو " قبسات من الرسول " كما أسميتها، كل منها يصلح أن يكون أحد " مفاهيم " الإسلام، مفاهيمه الواقعية الضاربة في مناكب الأرض، المتلبسة بصميم الحياة.
وليست هذه المختارات استقصاء لكل المفاهيم، ولا استقصاء لكل ما قيل في أي من هذه المفاهيم. وإنما هي مجرد مختارات كتبتها كما خطرت ببالي، وحسبي منها أن تفتح الطريق.
اللهم وفقني.. وأوزعني أن اشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ.. إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير..
قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم فليغرسها
"إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجر"[1].
ولعل آخر ما كان يدور في ذهن السامعين أن يقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث!
ولعلهم توقعوا أن يقول لهم الرسول الذي جاء ليذكر الناس بالآخرة، ويحثهم على العمل لها، ويدعوهم إلى تنظيف ضمائرهم وسلوكهم من أجل اليوم الأكبر: يوم الحساب الذي تدان فيه النفوس.. لعلهم توقعوا أن يقول لهم: فليسرع كل منكم فليستغفر ربه عما قدمت يداه، وليتوجه لله بدعوة خالصة أن يميته على الإيمان ويقبل توبته ويبعثه على الهدى.. ولعلهم توقعوا أن يقول لهم: أسرعوا فانفضوا أيديكم من تراب الأرض.. وتطهروا. اتركوا كل أمور الدنيا وتوجهوا بقلوبكم إلى الآخرة. انقطعوا عن كل ما يربطكم بالأرض. اذكروا الله وحده. توجهوا إليه خالصين من كل رغبة في الحياة، حتى إذا ذهبتم إلى ربكم، ذهبتم وقد خلصت نفوسكم إليه، فيقبل أوبتكم ويظلكم بظله، حيث لا ظل إلا ظله.
ولو قال لهم ذلك فهل من عجب فيه؟!
أليس الطبيعي وقد تيقن الناس من القيامة أن ينصرفوا للحظة المرهوبة؟
أليس الطبيعي والهول المهول على الأبواب أن ينسلخ الناس من كل وشيجة تربطهم بالأرض، ويتطلعوا في رهبة الخائف وذهول المرتجف إلى قيام اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد؟!
فإذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تقفوا مذهولين مرجوفين مرعوبين، ولكن توجهوا إلى الله أن ينقذكم من هذا الكرب العظيم، أخلصوا له الدعاء فهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه. (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون). هلموا تطهروا، وصلوا إلى الله خاشعين..(11/151)
إذا قال لهم الرسول ذلك وضع البلسم الشافي على الأرواح المكلومة. وقد وضع يده الحانية يربت بها على النفوس المهتزة المزلزلة الراجفة فتطمئن. وقد فتح الكوة التي يطل منها على القلوب المكفهرة المذعورة بصيص الأمل والأمن والرجاء..
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئاً من ذلك كله الذي توقعه السامعون.
بل قال لهم أغرب ما يمكن أن يخطر على قلب بشر!
قال لهم: "إن كان بيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن يغرسها قبل أن تقوم الساعة فليغرسها.. فله بذلك أجر"!
يا ألله! يغرسها؟! وما هي؟ فسيلة النخل التي لا تثمر إلا بعد سنين؟ والقيامة في طريقها إلى أن تقوم؟ وعن يقين؟!
يا الله! لن يقول هذا إلا نبي الإسلام خاتم النبيين!
الإسلام وحده هو الذي يمكن أن يوجه القلوب هذا التوجيه، ونبي الإسلام وحده هو الذي يمكن أن يهتدي هذا الهدي، ويهدي به الآخرين!
وهذا تاريخ الأرض كلها.. ليس فيه مثل هذه القبسة من قبسات الرسول!
* * *
وهي كلمة بسيطة لا غموض فيها، ولا صنعة، ولا " تفنن ". كلمة - رغم غرابتها لأول وهلة، وبدهها للفكر على غرة - تخرج بسيطة كبساطة الفطرة، عميقة كعمق الفطرة، شاملة واسعة فسيحة، تضم بين دفتيها منهج حياة.. منهج الحياة الإسلامية.
كم من معنى تستخلصه النفس من الكلمات البسيطة العميقة في آن.
أول ما يخطر على البال هو هذه العجيبة التي يتميز بها الإسلام: أن طريق الآخرة هو طريق الدنيا بلا اختلاف ولا افتراق!
إنهما ليسا طريقين منفصلين: أحدهما للدنيا والآخر للآخرة!!
وإنما هو طريق واحد يشمل هذه وتلك، ويربط ما بين هذه وتلك.
ليس هناك طريق للآخرة اسمه العبادة. وطريق للدنيا اسمه العمل!
وإنما هو طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة. وهو طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل. كلاهما شيء واحد في نظر الإسلام. وكلاهما يسير جنباً إلى جنب في هذا الطريق الواحد الذي لا طريق سواه!
العمل إلى آخر لحظة من لحظات العمر. إلى آخر خطوة من خطوات الحياة! يغرسها والقيامة تقوم تقوم هذه اللحظة. عن يقين!
وتوكيد قيمة العمل، وإبرازه والحض عليه، فكرة واضحة شديدة الوضوح في مفهوم الإسلام. ولكن الذي يلفت النظر هنا ليس تقدير قيمة العمل فحسب، وإنما هو إبرازه على أنه الطريق إلى الآخرة الذي لا طريق سواه.
وقد مرت على البشرية فترات طويلة في الماضي والحاضر، كانت تحس فيها بالفرقة بين الطريقين. كانت تعتقد أن العمل للآخرة يقتضي الانقطاع عن الدنيا، والعمل للدنيا يزحم وقت الآخرة!
وكانت هذه الفرقة بين الدنيا والآخرة عميقة الجذور في نفس البشرية، لا تقف عند هذا المظهر وحده، وإنما تتعداه إلى مفاهيم أخرى تتصل بالكيان البشري في مجموعه.
فالدنيا والآخرة مفترقتان.
والجسم والروح مفترقان.
والمادي يفترق عن " اللامادي ".
والفيزيقا - بلغة الفلاسفة - تفترق عن الميتافيزيقا.
والحياة العملية تفترق عن الحياة المثالية أو عن مفاهيم الأخلاق. إلى آخر هذه التفرقات التي تنبع كلها من نقطة واحدة، هي التفرقة بين الدنيا والآخرة، أو بين الأرض والسماء. وحين تعيش البشرية على هذه الفكرة المفرقة الموزعة، تعيش ولا جرم في صراع دائم محير مضلل. تعيش موزعة النفس منهوبة المشاعر. لا تحس بوحدة تجمع كيانها، أو رابط يربط أشتاتها. فلا تعرف الراحة ولا تعرف السلام.
والفرقة بين الأهداف المتعارضة شقوة قديمة وقعت فيها البشرية وما تزال واقعة.
وقد كانت تؤدي في القديم إلى عزلة بعض الناس وتنسكهم، وتكالب آخرين على الحياة يجعلونها همهم الأوحد، ينتهبون ما فيها من متعة قبل وقت الفوات، فتملكهم شهواتهم ولا يملكون نفسهم منها، وتقتلهم في نهاية الأمر.. يستوي أن توردهم موارد الحتف، أو تشقيهم بالتعلق الدائم الذي لا يهنأ ولا يستقر.
وما تزال هذه الفرقة تؤدي إلى نتائجها تلك في العالم الحديث. ولكنها تزيد في " مدنيتنا " الحاضرة حتى تبلغ مبلغ الجنون! وحالات الهستريا، وضغط الدم واضطراب الأعصاب، والجنون الكامل، والانتحار.. تتزايد في ظل الحضارة الحديثة إلى درجة خطرة تؤذن بتدمير الطاقة البشرية وتفتيتها، وهي صدى لتلك الفرقة التي توزع النفس الواحدة في وجهات شتى ثم لا تربط بينها برباط [2].
والكيان النفسي بحكم فطرته التي فطره الله عليها.. وحدة.
وحدة تشمل الجسم والعقل والروح. تشمل " المادة " و " اللامادة " تشمل شهوات الجسد ورغبات النفس وتأملات العقل وسبحات الروح. تشمل نزوات الحس الغليظة وتأملات الفكر الطليقة ورفرفات الروح الطائرة.
ولا شك أن جزئيات هذا الكيان متعارضة، وأن كلاً منها جانح في اتجاه..
ذلك إذا تركت وشأنها، ينبت كل نابت منها على هواه!(11/152)
ولكن العجيبة في هذا الكيان البشري، عجيبة الفطرة التي فطره الله عليها، أن هذا الشتات النافر المنتثر، يمكن أن يجتمع، يمكن أن يتوحد، يمكن أن يترابط، ثم يصبح - من عجب - في وحدته تلك وترابطه، أكبر قوة على الأرض! ذلك حين تقبس الذرة الفانية من حقيقة الأزل الخالدة، فتشتعل وتتوهج، وتصبح طليقة، كالنور.. تمتزج فيها المادة واللامادة فهما سواء!
والطريق الأكبر لتوحيد هذا الشتات النافر المنتثر، وربطه كله في كيان، هو توحيد الدنيا والآخرة في طريق!
عندئذ لا تتوزع الحياة عملاً وعبادة منفصلين. ولا تتوزع النفس جسماً وروحاً منفصلين. ولا تتوزع الأهداف عملية ونظرية، أو واقعية ومثالية لا تلتقيان!
حين يلتقي طريق الدنيا بطريق الآخرة، وينطبقان فهما شيء واحد، يحدث مثل هذا في داخل النفس، فتقترب الأهداف المتعارضة. ويلتقي الشتات المتناثر، ثم ينطبق الجميع فهو شيء واحد. وتلتقي النفس المفردة - بكيانها الموحد - تلتقي بكيان الحياة الأكبر، وقد توحدت أهدافه وارتبط شتاته، فتتلاقى معه، وتستريح إليه، وتنسجم في إطاره، وتسبح في فضائه كما يسبح الكوكب المفرد في فضاء الكون لا يصطدم بغيره من الأفلاك، وإنما يربطها جميعاً قانون واحد شامل فسيح.
والإسلام يصنع هذه العجيبة!
ويصنعها في سهولة ويسر!
يصنعها بتوحيد الدنيا والآخرة في نظام.
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [3].
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [4].
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم الترجمة الكاملة الصادقة للحقيقة الإسلامية. ومن ثم كانت الدنيا والآخرة في نفسه طريقاً واحداً ونهجاً واحداً و " حسبة " واحدة.
أي عمل من أعماله صلى الله عليه وسلم لم يكن مقصوداً به وجه الله والآخرة؟
وأي لحظة كف صلى الله عليه وسلم عن العمل في الدنيا، والعمل لإصلاح الأرض؟
حتى الصلاة.. ألم يكن صلوات الله وسلامه عليه يستعين فيها الله أن يمكنه من أداء رسالته على الوجه الأكمل، ورسالته هي هداية الناس في الأرض، ليعرفوا الله واليوم الآخر؟!
حلقة واحدة لا تنقطع: العمل والعبادة، والدنيا والآخرة، والأرض والمساء!
والرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة الحسنة، وهو واضع المنهاج العملي لتحقيق الإسلام في عالم الواقع. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعتزل الناس ليتطهر لربه في معزل. فعباداته يقضيها أمامهم ومعهم وهم في صحبة منه. فإذا كان يخلو إلى ربه في جنح الليل يتعبد، فكل نفس بشرية تهفو إلى الخلوة حيناً من الوقت، وكل نفس تملك أن تصفو في هذه الخلوة فوق ما تصفو في حضرة الآخرين. ولكن المهم أنه في أعمق خلواته وأصفاها لا ينسى أنه رسول الله، المكلف بأداء رسالة الله.
والرسول يحارب في سبيل الله. ويسالم في سبيل الله. ويدعو الناس إلى سبيل الله. ويأكل باسم الله. ويتزوج على سنة الله. ويهدم ويبني، ويحطم وينشئ، ويهاجر ويتوطن.. كل ذلك في سبيل الله، واليوم الآخر، يوم يلقى الله. فكل عمله إذن عبادة يتوجه بها إلى الله. والطريق أمامه طريق واحد.. هو الطريق إلى الله...
وهو يسير في هذا الطريق الأوحد الذي لا طريق غيره، يسير قدماً لا يتلفت ولا يتحول.. ولا يكف عن المسير..
إلى آخر لحظة من حياته صلى الله عليه وسلم كان يسير في الطريق.
كان يعمل في الدنيا وهو يبغي الآخرة، ويعمل للآخرة بالعمل في الأرض.
حتى حين نزلت الآية: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً) وأحس عمر رضي الله عنه أنها النهاية فدمعت عيناه.. حتى في مرض الموت.. حتى في اللحظة الأخيرة لم يزايله انشغاله بأمور الدنيا.. بأمور الناس.. بإصلاح الأرض.. بهداية البشرية.. برسم المنهج الذي يسيرون عليه.. بتوطيد أركان الدين وتوثيق عراه..
وكان يقول والوجع يشتد عليه صلى الله عليه وسلم: " إيتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً.. ".
كانت في يده الفسيلة وكان يغرسها..
ولم يدع يديه منها صلى الله عليه وسلم حتى فاضت روحه الكريمة الطاهرة إلى مولاه..
* * *
وإن في ذلك لدرساً يقتدي فيه المسلمون بنبيهم، ويهدون به البشرية الضالة إلى سواء السبيل.
يتعلمون أن يربطوا طريق الدنيا بطريق الآخرة.
يتعلمون أن الدين ليس عزلة عن الحياة، وإنما هو صميم الحياة. ليس عزلة عن تيار الحياة الصاخب المضطرب فلا يركبون فيه مركبهم مع الراكبين.
وأنهم لا يرضون ربهم ولا يخدمون دينهم إذا أحسوا أنه ينبغي عليهم أن ينسوا الله والدين إذا دخلوا معترك الحياة وعملوا لإصلاح الأرض.(11/153)
لن يرضوا الله ولن يخدموا الدين إذا دخلوا المدرسة أو الجامعة أو المعمل أو المصنع أو المتجر وفي حسابهم أنهم الآن يعملون للأرض ويعملون للدنيا، وأنهم في لحظة أخرى حين يفرغون من عمل الأرض سيعودون - إذا عادوا - إلى الله، فيعبدونه ويتوجهون إليه!
كلا! ليس ذلك من الإسلام!
إنما الإسلام أن يأكلوا باسم الله، ويتزوجوا باسم الله، ويتعلموا باسم الله وفي سبيل الله، ويعملوا وينتجوا ويتقووا ويستعدوا.. في سبيل الله. لا تشغلهم الدنيا عن الآخرة، ولا الآخرة عن الدنيا، لأنهما طريق واحد لا يفترقان.
وحين يتعلم المسلمون ذلك: حين يتعلمون أنهم إذا درسوا الطاقة الذرية واستخدامها في السلم والحرب يمكن أن يكونوا متصلين بالله وفي سبيل الله. حين يتعلمون أنهم وهم يدرسون النظم السياسية والاقتصادية والإصلاح الاجتماعي، أو يطبقونها على الناس وهم يسوسون أمورهم، يمكن أن يكونوا متصلين بالله وفي سبيل الله. حين يتعلمون أنهم وهم في خلوتهم مع أزواجهم يحققون هدف الحياة الأكبر، يمكن أن يذكروا اسم الله ويكونوا في سبيل الله..
حين يتعلمون أن عملاً واحداً من أعمال الأرض الكثيرة المتفرقة لا يمكن أن يخرج عن الطريق إلى الآخرة إذا أقدم عليه الإنسان وهو مسلم مؤمن بالله متوجه إلى الله..
بل حين يتعلمون أنه لا يمكنهم أن يخدموا الآخرة إلا بإصلاح الدنيا، ولا يصلوا للآخرة إلا عن طريق الأرض، وأن عليهم أن يظلوا إلى آخر لحظة من حياتهم يعمرون الأرض ويغرسون فسائلها، وإلا فلن يصلوا إلى رضوان الله..
حين ذلك يكونون مسلمين حقاً..
وحين ذلك يكونون قدوة للأمم كلها على سطح الأرض، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتهم.
(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
عندئذ يكون لديهم ما يعلمونه للعالم كله، وللغرب المفتون خاصة. الغرب الذي أصابه الجنون فقام بحربين متواليتين في ربع قرن، وهو اليوم يستعد لتدمير الأرض!
يستطيعون أن يقولوا للناس في كل الأرض: لقد ألغيتم " الله " من حسابكم لأنكم ظننتم أنه يعوّقكم عن تعمير الأرض، وعن تعلم العلم، وعن استغلال طاقة الأرض، وعن الاستمتاع بالحياة!
ولكنه في الواقع ليس كذلك!
إنه يدعو إلى كل هذا الذي تهفون إليه: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) وإنما يريد فقط أن توحدوا طريقكم، فلا تجعلوا طريقاً للدنيا وطريقاً للآخرة منفصلتين، وإنما طريق واحدة للدنيا والآخرة، هي الطريق إلى الله.
* * *
وليس هذا هو الدرس الوحيد الذي نتعلمه من هذا الحديث العجيب.
فلا يأس مع الحياة!
والعمل في الأرض لا ينبغي أن ينقطع لحظة واحدة بسبب اليأس من النتيجة!
فحتى حين تكون القيامة بعد لحظة، حين تنقطع الحياة الدنيا كلها، حين لا تكون هناك ثمرة من العمل.. حتى عندئذ لا يكف الناس عن العمل وعن التطلع للمستقبل، ومن كان في يده فسيلة فليغرسها!
إنها دفعة عجيبة للعمل والاستمرار فيه والإصرار عليه!
لا شيء على الإطلاق يمكن أن يمنع من العمل!
كل المعوقات.. كل الميئسات.. كل " المستحيلات ".. كلها لا وزن لها ولا حساب.. ولا تمنع عن العمل.
وبمثل هذه الروح الجبارة تعمر الأرض حقاً وتشيد فيها المدنيات والحضارات.
كل ما في الأمر أن الإسلام وهو يدعو لتعمير الأرض، والعمل في سبيلها، لا ينحرف بالأفكار والمشاعر عن طريق الله وطريق الآخرة، لأنه لا يفصل بين الدنيا والآخرة، ولا بين الحياة العملية و" الأخلاق ". إنه لا يقول - كما يقول الغرب المنحرف - فلأعمر الأرض، ولا يعنيني أن ترتفع أخلاق الناس أو تهبط، فللعمل مقاييس وللأخلاق مقاييس! لا تهمني أخلاق الرجل ما دام " إنتاجه " يعجبني! فهذه النظرة المبتسرة الهابطة لا تلبث أن تدمر في لحظة ما بنته في أجيال. وأن تحيل العمار كله إلى خراب! بل إن هذه النظرة المبتسرة الهابطة لتوزع النفوس والأفكار بين الخير والشر، وبين الواقع والمثال، فتكون النتيجة القريبة هي الأمراض العصبية والجنون والانتحار، وذلك وحده تدمير للنفوس وتبديد للطاقة، ولو لم يحدث الدمار الشامل والخراب الرهيب.
وقد كان المسلمون وهم يؤمنون بدينهم ويعملون به يبنون أروع حضارات الأرض وينشئون أرفع مفاهيمها.. ولا ينحرفون عن طريق الله.
كانت طاقة " العمل " تدفعهم للإنشاء والتعمير، والفتح والانسياح في الأرض، فبلغوا في لمحة خاطفة من الزمن ما لم يبلغه غيرهم في قرون، وأقاموا في كل مكان مثلاً للعدالة الإنسانية كانت - وما تزال - غريبة على البشرية، ينظرون إليها كما ينظرون للأحلام والأساطير.(11/154)
حين أعاد أبو عبيدة الجزية لأهل الشام يوم علم باحتشاد جيش الروم وخشي ألا يقدر على حمايتهم، وقال لهم: " إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع. وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك. وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم ".
حين صنع ذلك كان يقوم بإحدى المعجزات التي أنشأها الإسلام على وجه الأرض. يعمل. ويجتهد في عمله إلى أقصى الغاية، ويضرب في مناكب الأرض. ويحارب ويغزو. ولا ينسى الله لحظة واحدة في ذلك كله ولا يفترق طريقه في الدنيا عن طريقه إلى الآخرة، لأنه يعمل ذلك كله في سبيل الله.
وحين تم النصر لصلاح الدين في الحروب الصليبية وأمكنه الله من أعداء دينه الذين غدروا من قبل بعهد الله، وذبحوا المسلمين داخل البيت المقدس، واعتدوا بغلظة ووحشية على كل حرمات البشرية.. لم يثأر لنفسه، ولم يمثل بهم، ولم يعمل في رقابهم السيف - وهو مأذون بذلك من كل شرائع السماء والأرض معاملةً بالمثل - بل صفح وعفا، وارتفع على نفسه وعلى النفس " البشرية " كلها..
حين ذلك كان يقوم بمعجزة أخرى من معجزات الإسلام.. يعمل ويعمل.. ولا ينسى الله، ولا يفترق طريقه في الأرض عن طريقه إلى الآخرة.
وبذلك كان الإسلام فذاً في التاريخ..
وكان البناء الذي بناه الإسلام فريداً بالرغم مما أصابه من ضربات من الداخل ومن الخارج على السواء.
لقد كان المسلمون يقتدون برسولهم وهو يحثهم على العمل لتعمير الأرض، وغرس ما في أيديهم من فسائل تثمر حين يشاء لها الله، وإنما عليهم فقط أن يغرسوها، ويمضوا إلى غيرها يغرسون في مكان جديد! ويقتدون به فيغرسون به ما يغرسون من نبتات الخير في كل مكان، وهم يتجهون إلى الله وحده وإلى الآخرة. لا تدفعهم مطامع الأرض المنبتة عن طريق الله، ولا شهوات النفس المنبتة عن تقوى الله.
وبذلك تميزوا وسادوا، وكانوا النور المشرق في ظلمات الأرض، والقدوة في كل سوك وكل عمل وكل علم وكل نظام. وأوربا في ظلمة الجاهلية تأكلها الفرقة والحروب والتأخر والانحطاط.. حتى قبست قبسات من الإسلام في الحروب الصليبية، فأفاقت من غفوتها وبدأت " تنهض ".. ولكن على غير طريق الله وطريق الآخرة.. ومن ثم لا تقوم إلا كمن يتخبطه الشيطان من المس.. تنطلق كالمجنون والهوة في آخر الطريق.
وإن أمام المسلمين الكسالى اليوم قدوة في رسول الله تنفعهم إذا فتحوا لها بصائرهم وتدبروا معانيها. إن عليهم أن يعملوا دائماً ولا يكلّوا.. يعملوا جهد طاقتهم، وفوق الطاقة ليعوضوا القعود الطويل. يعملوا في كل ميدان من ميادين العمل: في ميدان العلم وميدان الصناعة وميدان التجارة وميدان الاقتصاد وميدان السياسة وميدان الفن وميدان الفكر..
يعملوا ولا يقولوا: ما قيمة العمل؟ وماذا يمكن أن نصل إليه؟
يغرسوا الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة. فإنما عليهم أن يعملوا، وعلى الله تمام النجاح!
* * *
والدعاة خاصة لهم في هذا الحديث درس أي درس!
فالدعاة هم أشد الناس تعرضاً لنوبات اليأس، وأشدهم حاجة إلى الثبات!
قد ييأس التاجر من الكسب، ولكن دفعة المال لا تلبث أن تدفعه مرة أخرى إلى السير في الطريق.
قد ييأس السياسي من النصر، ولكن تقلبات السياسة لا تلبث أن تفتح له منفذاً فيستغله لصالحه.
قد ييأس العالم من الوصول إلى النتيجة.. ولكن المثابرة على البحث والتدقيق كفيلة أن توصله إلى النهاية.
كل ألوان البشر المحترفين حرفة معرضون لليأس، وهم في حاجة إلى التشجيع الدائم والحث الطويل، ولكنهم مع ذلك ليسوا كالدعاة في هذا الشأن، فأهدافهم غالباً ما تكون قريبة، وعوائقهم غالباً ما تكون قابلة للتذليل.
وليس كذلك المصلحون.
إنهم لا يتعاملون مع المادة ولكن مع " النفوس " والنفوس أعصى من المادة، وأقدر على المقاومة وعلى الزيغ والانحراف.
والسم الذي يأكل قلوب الدعاة هو انصراف الناس عن دعوتهم، وعدم الإيمان بما فيها من الحق، بل مقاومتها في كثير من الأحيان بقدر ما فيها من الحق، وعصيانها بقدر ما فيها من الصلاح!
عندئذ ييأس الدعاة.. ويتهاوون في الطريق.
إلا من قبست روحه قبسة من الأفق الأعلى المشرق الطليق. إلا من أطاقت روحه أن يغرس الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة عن يقين!
* * *
الدعاة أحوج الناس إلى هذا الدرس. أحوج الناس أن يتعلموا عن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه العجيب الذي تتضمنه تلك الكلمات القليلة البسيطة الخالية من الزخرف والتنسيق.
هم أحوج الناس أن يقبسوا من قبسات الرسول هذه اللمحة المضيئة الكاشفة الدافعة الموحية، فتنير في قلوبهم ظلمة اليأس، وتغرس في نفوسهم نبتة الأمل، كما تغرس الفسيلة في الأرض لتثمر بعد حين.
إنه يقول لهم: ليس عليكم ثمرة الجهد، ولكن عليكم الجهد وحده، ابذلوه ولا تتطلعوا إلى نتائجه!(11/155)
ابذلوه بإيمان كامل أن هذا واجبكم وهذه مهمتكم، وأن واجبكم ومهمتكم ينتهيان بكم هناك، عند غرس الفسيلة في الأرض، لا في التقاط الثمار!
وهو إذ يقول لهم ذلك لا يغرر بهم ولا يضحك عليهم! إنما يقول لهم الشيء الواحد الصواب!
فحين تسأل نفسك: متى تثمر الفسيلة وكيف تثمر، وحولها الرياح والأعاصير والشر من كل جانب؟
وحين يصل بك التفكير إلى أن تطرح الفسيلة جانباً وتنفض منها يديك.. حينئذ كيف تثمر؟ وأنَّى لها أن تعيش؟
أما قتلتها أنت حين أفلتّها من يديك؟
ولكنك حين تغرسها في الأرض وترفع يديك لله بالدعاء.. حينئذ تكون أودعتها مكانها الحق، وعهدت بها إلى الحق الذي يرعاها ويرعاك.
ولا يشغلك أن تسأل: متى تكون الثمار؟! ليس هذا من عملك أنت. لست مهيمناً على الأقدار. وليس لك علم الغيب. و لا في طوقك - لو علمته - أن تمسك نفسك من الدوار!
ومن تكون أنت في ملك الله الواسع الفسيح الذي لا حد له ولا انتهاء؟!
وإنما أنت أنت: مخلوق حي متحرك له كيان وله وزن وقوة ومكان في تاريخ الأرض، حين تقبس روحك قبسة من صانع الأرض وصانع الكون، وصانعك أنت من بين هذا الكون الكبير.
أفلا تدع له إذن مصيرك مطمئناً إليه؟ أو لا تدع له كذلك هذه الفسيلة التي غرستها يرعاها لك ويطلع لها الثمار؟! أو لا تكتفي بدورك المطلوب منك في الملكوت الهائل الفسيح، وتحمد الله أن لم يحمّلك سوى دورك هذا المحدود الميسور؟!
وحين تصنع ذلك تطلع الثمار!
لا عجب في ذلك ولا سحر!
وإنما أنت تؤدي دورك وتمضي، فيجيء غيرك فيعجب بك وما صنعت، فيحبك، فيذهب يتعهد فسيلتك التي غرست، فتنمو، وتطلع الثمار.
وقد تكون " سعيداً " بمقاييس الأرض، فترى الثمرة وأنت حي في عمرك المحدود.
وقد تمضي قبل أن ترى الثمار..
ولكن أين تمضي؟ هل تمضي لأحد غير الله، إلى جوار غير جوار الله؟
فماذا إذن عليك حين تصل إلى هناك، أن تكون قد رأيت الثمرة هنا، أو تراها وأنت هناك؟ كلا! إنهما في النهاية سيان.
وإنما ترضى وأنت في جوار ربك أنك غرست الفسيلة في الأرض ولم تدعها من يدك يقتلها اليأس والإهمال.
* * *
ليست إذن دعوة في الخيال حين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للناس: "إن كان في يد أحدكم فسيلة فليغرسها".
وإنما هي صميم دعوة الحق. الحق الواقع في الأرض، المشهود على مدار التاريخ.
والدعاة في كل الأرض أحوج الناس إليها حين تضيق بهم السبل ويصل إلى قلوبهم سم اليأس القتال.
وهم أولى الناس أن يتدبروا سيرة الرسول نفسه.
لقد كان يغرس الفسيلة وهو ما يدري ما يكون بعد لحظات!
قد تأتمر به قريش فتقتله.
قد يهلك جوعاً في الشعب هو ومن معه من المؤمنين.
قد يلحق به الكفار وهو في طريقه إلى الغار فلا يكون ثمة غد.. أو تكون القيامة بعد لحظة.. ومع ذلك يغرس الفسيلة، ويتعهدها بالرعاية حتى يؤذن الله بالثمار، وهو مطمئن دائماً إلى الله ما دام يؤدي الواجب المطلوب.
ذلك هو المثل الذي يحتاج الدعاة إلى أن يقتدوا به حين يدعون إلى الإصلاح.
من كان في يده فسيلة فليغرسها!
ولا يسأل نفسه: كيف تنمو وحولها الرياح والأعاصير والشر من كل جانب؟
لا يسأل نفسه، فليس ذلك شأنه..
فليدع ذلك لله
ولتطلب نفسه أنه أودعها مكانها الحق، وعهد بها إلى الحق الذي يرعاها ويرعاه.
ـــــــــــــــــــ
[1] ذكره علي بن العزيز في المنتخب بإسناد حسن عن أنس رضي الله عنه. " عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني، باب الحرث والزراعة ".
[2] جاء في إحصاء طبي أن عشرة في المائة من الأمريكيين مصابون بالصداع الدائم كمرض، أي أنه ليس الصداع الطارئ الذي تشفيه المسكنات، وإنما هو صداع دائم لا يشفى! ثم قال التقرير إن هذه النسبة آخذة في الارتفاع.
[3] سورة القصص [ 77 ].
[4] سورة الأعراف [ 32 ].
=====================
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(2 طلب العلم فريضة
" طلب العلم فريضة على كل مسلم " [5].
العلم.. هذا النور الذي يهدي الله به في مسالك الأرض، وينير لهم السبيل: " إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة" [6].
العلم.. تلك النافذة الضخمة المفتوحة على " المجهول " والشعاع النافذ إلى الظلمات.
العلم.. تلك الطاقة الهائلة التي يمد بها الإنسان حياته، ويوسع كيانه، فلا ينحصر في ذات نفسه، ولا ينحصر في واقعه الضيق القريب، ولا ينحصر في جيله الذي يعيش فيه. بل لا ينحصر في محيط الأرض. وإنما يشمل هذا كله ويزيد عليه، فينفذ إلى الماضي، ويحاول أن يفهم المستقبل على ضوء الحاضر، ويرقب الكون على اتساعه من خلال مناظيره ونظرياته.. وينطلق.. كما تنفلت " المادة " المحسوسة من نطاقها الضيق وتصبح شعاعاً يدور في الآفاق.. " الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء..
وبه يعرف الحلال من الحرام. وهو إمام العمل والعمل تابعه.. " [7].(11/156)
العلم.. تلك المنحة الربانية العجيبة التي منحها الله للإنسان، وكرّمه بها وفضّله. وهي إحدى معجزات الخلق. نمر بها غافلين لأننا تعودناها!
ولا نفتح أفواهنا من العجب، ولا تخفق قلوبنا من البهر إلا حين يقع العلم على سر هائل من أسرار الكون، أو يفتح باباً جديداً على المجهول.. مع أن المعجزة في الصغير والكبير سواء! كشأن " الحياة " تُعجز في الخلية المفردة كما تعجز في أعقاد الأحياء!
هذا العلم.. لقد كان الإسلام حرياً أن يحتفل به ويعظمه، وهو الذي يحتفل بطاقات الحياة كلها ويعظمها، وهو الذي يوجه القلوب لكل منحة منحها الله، وكل آية من آيات الله..
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حرياً أن يحث على العلم ويرفع منزلته، وهو الذي نزل عليه الوحي فعلمه: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) فذاق حلاوة العلم، وتفتحت له به الآفاق. ثم هو الذي يتلو من هذا الوحي:
(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)! [8].
ولكن التعبير الذي استخدمه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يحث على العلم، يظل عجيباً مع هذا كله، وتظل له دلالاته الخاصة وإيحاءاته الخاصة، وتوجيهاته التي لا تصدر إلا عن رسول، وصول بالله، واصل إلى حماه!
طلب العلم " فريضة "!
هذه الكلمة المفردة تشع وحدها أمواجاً من النور، وتفتح وحدها آفاقاً من الحياة.
فريضة.. فلننظر ما تعني الفريضة في قلوب المؤمنين.
إنها أولا ً: واجب مفروض على الإنسان أن يؤديه. لا يجوز أن تشغله عنه المشاغل. ولا أن تقعده العقبات.
وهي ثانياً: واجب يؤديه الإنسان إلى الله ويتعبد به إليه، ومن ثم فهو يؤديه بأمانة. ويؤديه بنظافة. ويؤديه بإخلاص.
وهي ثالثاً: عمل يقرب العبد إلى الرب، فكلما قام الإنسان بهذه الفريضة، أو بهذه العبادة، أحس أنه يقترب من الله. فيزداد به إيماناً وتعلقاً، ويزداد له خشية وحباً، ويزداد إحساساً بالرضا في رحابه، والشكر على عطاياه.
تلك بعض معاني " الفريضة " في القلب المؤمن. وتلك كانت معاني " العلم " في نفوس المسلمين!
* * *
لم يشعر المسلمون قط أن الدنيا تنفصل في إحساسهم عن الآخرة أو أن الدين ينفصل عن الحياة.
وبهذه الروح الشاملة الواصلة - التي وجههم لها الله ورباهم عليها رسوله - كانوا يأخذون شئون الحياة كلها، من عمل وعبادة، وأفكار ومشاعر، وشريعة ونظام..
وبهذه الروح الشاملة الواصلة ذاتها كانوا يأخذون العلم.. على أنه " فريضة " تصل الأرض بالسماء، وتصل العمل بالعقيدة، وتصل " المعرفة ".. بالله.
كان للعلم في " عقولهم " هذا المدلول الشامل.. فهو ليس علم الأرض وحدها. وليس علم السماء وحدها. وليس علم النظريات وحدها أو علم التطبيقات. ولكنه ذلك كله، مشمولاً بالعقيدة ومرتبطاً بالله.
ومن ثم امتدت " العلوم " في نظرهم حتى شملت المعرفة كلها. فمنها علوم الدين من فقه وشريعة وتوحيد وكلام. ومنها علوم اللغة. وعلوم الفلك والطبيعة والكيمياء والرياضيات.. إلى آخر ما كان معروفاً يومئذ من العلوم.
ولم يكن العرب - قبل الإسلام - أمة علم، ولم يكن تراثهم يحمل شيئاً ذا قيمة من المعرفة. إنما كان همهم الشعر والبراعة اللغوية.. ولكن الهزة الجبارة التي أحدثها الإسلام في نفوسهم، والطاقة العجيبة التي جمعها في كيانهم، وأطلقها - من بعد - في فجاج الأرض، قد حولتهم إلى قوة هائلة تضرب في كل ميدان. في ميدان العقيدة. وميدان الحرب. وميدان السياسة. وميدان المعرفة كذلك.
لقد أحسوا بالرغبة الشديدة في المعرفة تتأجج في كيانهم: المعرفة من كل لون. وفي كل ميدان. فشرقوا وغربوا يطلبون العلم، ويستحوذون على كل ما يجدون منه في الطريق. ويتفتحون لذلك كله، ويهضمونه ويمثلونه ويصبغونه بصبغتهم الإسلامية التي تربط الحياة كلها برباط العقيدة. ثم يضفون إليه جديداً قيماً يشهد لهم بالجد والعزيمة، كما يشهد بالبراعة والمقدرة، والقوة والنماء.
كانت المعرفة في وقتهم مزدهرة في اليونان من ناحية، وفي الهند وفارس من ناحية. كما كانت الصين كذلك زاخرة بالعلوم. وفي الحكمة القائلة: " أطلبوا العلم ولو في الصين " ما يشير إلى هذه الحقيقة، وكان توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن يبذلوا أقصى الطاقة في سبيل العلم، فنشطوا في سبيل ذلك لا يبالون الصعاب.(11/157)
وفي سرعة خاطفة ألم الإسلام بهذا كله، وتفقه المسلمون في معارف الأرض المعروفة في ذلك الحين، ثم أخذوا في البناء والإضافة، وظهر من بينهم حشد هائل من العباقرة في كل جانب. عبقريات في الفقه - والفقه يشمل الأسس النظرية للحياة كلها بما فيها من اقتصاد وسياسة وحرب وسلم وتنظيم اجتماعي - وعبقريات في العلوم النظرية وفي العلوم العملية: في الرياضة والفلك والطبيعة والكيمياء والطب، يحفظ منهم التاريخ أسماء خالدة، دفعت بالمعرفة البشرية خطوات جبارة إلى الأمام. وظل بعضهم - كالحسن بن الهيثم - أستاذاً في مادته وكشوفه العلمية حتى القرن التاسع عشر، يتتلمذ عليه الأوربيون.
ولكن المهم في ذلك كله هو " الروح " التي شملت العلم في العالم الإسلامي.. روح " الفريضة ".
كانت التعاليم التي استقوها من الله والرسول هي التي تظلل حياتهم وتسيطر على مشاعرهم. وكانت المعرفة في وجدانهم فريضة يؤدونها، بدافع الفريضة وفي صورة الفريضة.
كان للعلم في نفوس الناس قداسة كقداسة العقيدة. قداسة تشمل المعلم كما تشمل الطلاب. كلاهما يحس بالرهبة، ويحس بالتقوى، ويحس بالنظافة، ويحس بالراحة والفرحة في رحاب الله.
إنه واجب مقدس، يؤدى " من الداخل ". يؤدى من الأعماق.
الأستاذ يحصّل العلم لأنه فريضة. ويؤديه إلى الناس لأن أداءه فريضة كذلك.
والطلاب يسعون إلى طلبه، كما يسعون إلى المسجد للصلاة.
كلاهما مخلص وكلاهما نظيف.
والمحصول العلمي الذي خلفه أولئك المسلمون - سواء أعجبنا اليوم ونحن ننظر إليه بعقلية المعارف الحديثة أم لم " نتفضل " عليه بالإعجاب - محصول يشهد بالجهد الصادق العنيف الذي بذل فيه..
لم يكن واحد يؤلف ليكسب! يكسب الشهرة أو يكسب النقود! وإنما يؤلف لأنه بحث وجد واستنبط، فوصل إلى " شيء " فأذاعه على الناس.
و " الانقطاع " للعلم كان وحده دليلاً على هذا الصدق الذي لا تفسده الأغراض.
ولم يكن الصدق والإخلاص هما السمة الوحيدة في " علم " المسلمين. فذلك لا يستنفد كل معاني " الفريضة "!
وإنما كانت هناك مزيتان أخريان، تركتا طابعاً أصيلاً في الحياة الإسلامية ما يقرب من ألف عام.
المزية الأولى أن العلم - وهو " فريضة " - كان يقرب القلوب إلى الله.. ولا يبعدها عن هداه.
نعم.. لم تحدث في الإسلام تلك الفرقة البغيضة بين العلم والدين!
وكيف تحدث والعلم فريضة يتقرب بها الإنسان إلى الله؟ كيف يتقرب إليه بالبعد عنه والنفور منه؟!
كلا! إن العلم نور الله. موهبته المعجزة التي وهبها للإنسان. وهي أولى بالشكر لا بالكفران!
وكذلك أحس المسلمون. أحسوا أن في رقابهم، ديناً لله يؤدونه. فهو قد وهب لهم " الحكمة " و " المعرفة ". وهب لهم العقل الذي يفكر ويكتشف ويستنبط. وهب لهم القدرة على الاستفادة من التجربة. وهب لهم ذلك الشعاع العلوي الذي لم يكن ليوجد لولا أن الله نفخ في الإنسان من روحه.. فعليهم لقاء ذلك دين. هو الشكر. الشكر لله المنعم الوهاب.
ومن ثم كان العلم يزيدهم إيماناً. ويزيدهم تعلقاً بالله:
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [9].
تلك روح المؤمن الذي " يتعلم ". الذي يتفكر في خلق السماوات والأرض. ويصل من تفكره ذلك إلى قوانين ونظريات وحقائق وتطبيقات، تزيد " معلوماته " وتفيده في تعميره الأرض وهو يمشي في مناكبها ويأكل من رزق الله [10] فيدعوه ذلك كله إلى معرفة الله. ومعرفة " القصد " في خلق السماوات والأرض. القصد " الحق ": (مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) فيسبح الله. ويتقرب إليه. ويتوقى النار ويطلب تحقيق وعد الله بالنعيم: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [11].
ولم يحدث في التاريخ الإسلامي أن عالماً يبحث في الطب أو يبحث في الفلك أو يبحث في الطبيعة أو يبحث في الكيمياء.. وجد نفسه معزولاً عن العقيدة، أو وجد أن العقيدة تعطله عن البحث العلمي الدقيق! ولم تقم الحرب والخصومة في قلب مسلم بين العلم والعقيدة أو بين العلم والدين. وإنما عاش العلم في ظلال العقيدة يتقدم وينشط، ويصل إلى كشوف علمية هائلة، أقر بها المتعنتون أنفسهم من علماء أوروبا، دون أن يفترق الطريق لحظة أو يحدث الشقاق.
ذلك أن العلم كان " فريضة " إلى الله، تؤدى كما تؤدى الصلاة والصيام والزكاة!
* * *(11/158)
والمزية الثانية في علوم المسلمين - الناشئة كذلك من كون العلم فريضة - أنها لم تستخدم قط في الشر أو الإيذاء!
وكيف يستخدم العلم في الشر وهو فريضة وعبادة؟
" تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة " [12].
فأين ينبغ الشر في هذا الطريق الذي تحفه خشية الله، وعبادته، وتسبيحه، والتقرب إليه؟
ولقد يخطر على البال أن علوم المسلمين لم تستخدم في الشر لأنها كانت بدائية بسيطة لا تصلح للشر، إذا قيست بطاقة الذرة وعلوم " التدمير " في القرن العشرين!
والواقع ليس كذلك! فإن علوماً أدنى من علوم المسلمين وأبسط - في مصر الفرعونية وبابل - كانت تقدر على الشر وتستخدم فيه!
فقد استخدم الكهنة في مصر القديمة - وكانوا في الأغلب هم العلماء - استخدموا معارف الكيمياء والطب والنجوم في السحر، والاستحواذ على الأموال بالباطل، والتوصل إلى السلطان المطلق على القلوب والأرواح والأجسام والعقول، والتحكم في كل أمور الناس بالعبودية والإذلال.
وكانوا يستأثرون بهذا العلم لا يبيحونه للناس، إيثاراً لأنفسهم بالنفع، واستحواذاً على السلطان الكافر الذي يذلون به العبيد.. عبيد فرعون وعبيد الكهان، وهم " الشعب " كله بلا تفريق.
ولو أراد المسلمون أن يستخدموا العلم للشر فلم تكن لتمنعهم بساطة علومهم، ولا تعجزهم عن عمل السوء..
أقرب الشر أن يصرفوا به القلوب عن الله.
وأن يضحكوا به على السذج والجهلاء فينالوا المال المتدفق وينالوا السلطان.
وأن يحبسوه عن العامة..
وأن يتزلفوا به إلى الملوك والسلاطين..
وأن يلتووا به ليبرروا مظالم السلطان.
وهذا هو التاريخ.. صفحة رائقة مشرقة مضيئة.. تشهد أن العلم الإسلامي لم يسع للشر ولم يستخدم للشر. بل أراد دائماً وجه الله وتوجه إلى الخير. ووقف في مرات كثيرة أمام السلطان الجائر يطالبه بحق الله وحق الكادحين..
ذلك أنه كان فريضة إلى الله، يتقرب بها العلماء إلى حماه.
* * *
والآن نطوي تلك الصفحة المشرقة المضيئة لنطلع على صفحة أخرى.. صفحة الغرب.
أوربا هي وريثة الإمبراطورية الرومانية والثقافة الإغريقية. وما تزال حضارتها المادية وتياراتها الفكرية تستمد من هذين المنبعين، بشعور من الأوربيين أوبغير شعور.
وقد ورثت أوربا - فيما ورثته من تاريخها المبكر - طريقة إحساسها بالله واعتقادها في الدين.
وينبغي أن نعرف أن أوربا لم تكن نصرانية حقة في يوم من الأيام! على الرغم من انتشار المسيحية فيها، وتعصب الأوربيين لها في الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش. وعلى الرغم مما لا يزال يرد على بعض الألسنة الغربية حين تتحدث عن " الحضارة المسيحية "!
كلا! لم تكن تطبق الدين الحق في يوم من الأيام. وإنما كان قصارى المسيحية عندهم أن تلين لها قلوبهم في المعبد، وتتأثر أرواحهم بأنغامها السجية وسبحاتها الروحية المرفرفة، ولكنها لا تحكم الحياة العامة، ولا تحكم في أمر هذه الأرض. فإذا خرج الناس من صلاتهم في المعبد ارتدت عنهم روح الدين، وعادوا إلى الوثنية الرومانية الإغريقية القديمة، يستمدون منها أفكارهم ومشاعرهم، وتشريعاتهم وتنظيماتهم وكل حضارتهم المادية العريقة..!
وأياً ما كان الأمر فقد ظلت في لا شعور الأوربيين - تحت القشرة المسيحية الرقيقة - تلك النظرة الإغريقية إلى الله، تؤثر في وجدانهم نحوه، وتطبع إحساسهم الديني في الأعماق.
فكيف كانت الأسطورة الإغريقية تصور الله.. أو الآلهة؟
لن نستعرض هنا الأساطير كلها، ولا الصورة الزرية التي كانت تعرض بها الآلهة، فتصورهم - على أحسن تقدير - بشراً فائقي القوة، ولكن نفوسهم مشحونة بالنزوات الطائشة والانحرافات النزقة التي يتورع عنها البشر العاديون.. وإنما نستعرض أسطورة واحدة ذات دلالة في موضوع " العلم " هي برومثيوس سارق النار المقدسة!
هذه الأسطورة تصور العلاقة بين البشر والآلهة علاقة صراع دائم وضغينة وأحقاد. علاقة لا ترف فيها مشاعر الرحمة أو العطف أو المودة.. ولا يهدأ أوراها حتى يشتعل من جديد.
والمعركة قائمة على النار المقدسة: نار " المعرفة "! البشر يريدون أن يستولوا على هذه النار المقدسة، ليعرفوا أسرار الكون كلها، ويصبحوا آلهة! والآلهة تردهم عنها في وحشية وعنف، لتنفرد وحدها بالقوة، وتتفرد دونهم بالسلطان!
تلك إذن هي طبيعة العلاقة بين البشر والله! العلاقة التي اندست في أوهام الأوروبيين، وصارت تصرف أفكارهم ومشاعرهم بغير وعي. العجز وحده هو الذي يخضعهم لمشيئة الله! وهم غير راضين عن هذا العجز ولا ساكتين عنه. فهم في محاولة دائمة يطلبون " القوة " ويطلبون " المعرفة ". يحاولون دائماً أن يقهروا هذا العجز. أو يقهروا - بلغتهم - قوة الطبيعة. أو - بلغتهم اللاشعورية أيضاً - " ينتزعون " الأسرار! ينتزعونها من الإله الوثني القديم الذي كانوا يحاولون أن ينتزعوا منه ناره المقدسة!(11/159)
وبهذا الدافع الخفي المطبوع في أعماق النفس الغربية - في أعماق اللا شعور - يحس الغربيون أن كل خطوة يخطوها " العلم " ترفع الإنسان فوق نفسه درجة، وتنزل الإله من عليائه بنفس القدر!
وتظل " المعركة " هكذا دائرة: كل فتح جديد من فتوحات العلم يخفض الإله ويرفع الإنسان، حتى تأتي اللحظة المرقوبة التي يتحلب لها ريق الغرب ويتلهف إليها، اللحظة التي " يخلق " فيها الإنسان الحياة، ويصبح هو الله!
وليس هذا التعبير من عندنا نصور به أفكار القوم. فهو نص تعبيرهم، قاله جوليان هكسلي في كتابه " الإنسان في العالم الحديث ". كما قاله غيره من العلماء الأوروبيين وهم ينددون بفكرة الله وفكرة الدين!
* * *
هذا الدافع الخفي المطبوع في أعماق النفس الغربية كان خانساً لا شك تحت القشرة المسيحية التي ظلت تطبع النفوس الأوربية بضعة قرون. وما كادت القشرة تتفتت بفعل الصراع العنيف الذي قام بين الكنيسة ودارون، أو بين الدين بمفهومه الرسمي وبين العلم، حتى برز على السطح ما كان متوارياً من قبل، وصار " العلماء " يجهرون بالعداوة السافرة، ويتعمدون البعد عن الدين والعقيدة، وينشرون هذه الآراء الكافرة التي تقول إن الإنسان هو الذي خلق الله، وليس الله هو الذي خلق الإنسان!!
ومن أجل هذه الروح الوثنية في حقيقتها - ولو تدينت في ظاهرها - من أجل هذه الروح النافرة من العقيدة، المستكبرة على العبادة، نجد هذه المفارقة العجيبة بين الحسن بن الهيثم في الإسلام ودارون في أوربا. فبينما الحسن بن الهيثم وهو يكتب في البصريات - في موضوع علمي بحت جاف لا ترفرف حوله نداوة المشاعر ولا أنوار العقيدة - يبدأ حديثه باسم الله، ويحمده ويطلب منه التوفيق، نجد دارون - وهو يكتب عن " الحياة " و " الأحياء " و " التطور "، عن موضوع يشهد بمعجزة الخلق ويكشف عن يد الخالق المبدعة في كل خطوة، ويستجيش الوجدان بالخشوع والعبادة - نجده ينفر من ذكر الله، ويروح يستتر في " الطبيعة " التي يقول عنها " إنها تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها! " سبحان الله! وما الله إذن إن كانت هذه هي الطبيعة؟ وكيف تقسو القلوب حتى تمنع نفسها منعاً من ذكر الله بصريح لفظه وصفته في هذا المقام؟! ولا يكتفي بذلك - وهو واضح الدلالة - فتعمى بصيرته عن القصد والتدبير في خلق الخالق المدبر، فيروح يصف إلهه الجديد الذي يسجد له - الطبيعة - بأنه يخبط خبط عشواء! لغير شيء سوى أنه - وهو البشر المحدود الطاقة الضئيل العلم - لم يستطع أن يدرك كل أسرار الحياة!
وما نريد أن نظلمهم.. أولئك العلماء!
فربما كانت ظروفهم المحلية في أوربا هي التي كفرتهم من الدين! وربما كانت الوحشية البشعة التي كانت الكنيسة الأوربية تعامل بها العلماء من أمثال كوبرنيكوس وجاليليو، فتعذبهم وتحرقهم من أجل نظرياتهم العلمية التي تخالف المعلومات " المقدسة " التي تتشبث بها الكنيسة.. ربما كانت هذه الوحشية هي التي أوجدت الخصومة والبغضاء بين " العلماء " والدين!
ولكننا نتبع فقط حوادث التاريخ..
فمنذ حدثت هذه الفرقة العنيفة بين الدين والعلم في أوربا.. منذ سار كل منهما في طريق يخالف الآخر ويناصبه العداء.. شملت الغرب كله فلسفة مادية ملحدة كافرة، لا تؤمن بالله، ولا تحكّمه في أمر من أمور الحياة، وفي أمر العلم خاصة من بين كل أمور الحياة!
ومضت الموجة التي أطلقها دارون تأخذ آخر مداها.. فتجرف من طريق العلم كل التراث الإنساني الخالد من عقيدة وأخلاق وتقاليد..
وطلع إلى الوجود من بعد دارون فرويد وماركس يلوثان العقيدة ويصوران النفس الإنسانية صورة بشعة مليئة بالأقذار.. أقذار الجنس عند فرويد، وأحقاد الصراع الطبقي عند ماركس.
وطلع علماء كثيرون.. في الطبيعة والكيمياء والفلك والرياضة والطب.. يشتملون على عبقريات جبارة، ويفتحون آفاقاً جبارة في هذه العلوم.. ولكنهم - مع الأسف - يرفضون السير في طريق العقيدة ويتنكبون - عن عمد - هداية الله!
لقد وعت أوربا جانباً من الدرس، حين اختلطت بالمسلمين في الأندلس، ونقلت عنهم المعارف وطريقة الدراسة.
أخذت عنهم الجد والقصد والعزيمة.. والصبر والجلد والكفاح.
أخذت عنهم احترام العلم والتوفر على البحث والإخلاص في الدراسة.
ولكنها أبت أن تأخذ الله، وتأخذ العقيدة.
ولقد وقعت الشعلة المقدسة - شعلة المعرفة - من أيدي المسلمين حين شغلتهم الفتن واللذائذ عن المضي في الطريق.. فتلقفتها أوربا. وسارت بها قدماً.. خطوات جبارة في كل ميدان. حتى فجرت الذرة وأطلقت طاقتها في الفضاء..
ولكنها لم تكن تسير في طريق الله. لم تكن تأخذ العلم فريضة كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم. فريضة تؤدى إلى الله، ويتقرب بها الإنسان من حماه.
وإذا تخلى العلم عن الله فقد تلقفه الشيطان.. وسار به في طريق الشر، وأبعد في طريق الضلال.
أول الشر أن العلم - منحة الله إلى الإنسان - يصبح أداة الكفر، ويبعد الإنسان عن الله!(11/160)
والعلم - النور الذي يهدي الإنسان إلى الحق - يصبح ذريعة الناس إلى الباطل، في كل منحى من مناحي الحياة! في البحوث الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية والفكرية والروحية، وكل بحث من البحوث!
والعلم - الذي " يعرف به الحلال والحرام " - يصبح أداة الفسق والخروج على الأخلاق، بنظريات " علمية " تؤيد الفساد!
والعلم - طريق الإنسان إلى الخير البشري - يصبح أداة التحطيم لهذه البشرية، يهددها بالموت المرعب كأبشع ما شهده الإنسان.. وما تزال تجربته " الصغيرة " في هيروشيما ونجازاكي ماثلة في الأذهان!
ذلك لأنه لم يعد " فريضة ".. وإنما مطية من مطايا الشهوات!
* * *
والمسلمون اليوم في حاجة إلى حكمة رسولهم يتدبرونها، ويتشربونها إلى الأعماق.
في حاجة لأن يُرجعوا إلى العلم قداسته واحترامه. وقد صاروا يتلهون به في عبث فاضح لا يليق بالبشر العاديين فضلاً عن المسلمين.
إنهم يأخذونه في استخفاف العابث.. إن كانوا طلبة في المدارس والمعاهد، أو " أساتذة " يدرسون للطلاب! غايته الوظيفة أو الكسب أو الشهرة من أقرب طريق. ووسيلته الغش والخداع والتلفيق!
إنهم لا يعطونه من الجد والعناية والاحترام حتى ما تعطيه أوربا الكافرة ؛ وهم أولى من الأوربيين بالتقاليد العلمية العريقة التي سار عليها جدودهم حين كانوا يعيشون في ظل الإسلام، ويستمدون من روح الإسلام.
لذلك هم في حاجة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، يردهم إلى احترام العلم وتقديره، ويعيدهم لروح الجد والإخلاص.
وهم في حاجة إليه كذلك ليعيدوا السلام للقلب البشري الممزق بين الدين والعلم، والدين والحياة، الغارق من جراء ذلك في تيار الشر والضلال، وهم - وحدهم، حين يؤمنون بالله ويؤمنون بأنفسهم - الذين يستطيعون عقد السلام في ذلك القلب، بعقيدتهم الفريدة التي توحد طريق الدين وطريق العلم.. بل توحد السماء والأرض، وتصل العمل بالعبادة والدنيا بالآخرة: وتصل المعرفة بطريق الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[5] رواه ابن ماجه.
[6] رواه أحمد عن أنس بن مالك.
[7] من حديث رواه ابن عبد البر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
[8] سورة فاطر [ 28 ].
[9] سورة آل عمران [ 190 - 191 ].
[10] "... فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ " سورة الملك [ 15 ].
[11] سورة آل عمران [ 193 - 194 ].
[12] رواه ابن عبد البر عن معاذ: الترغيب والترهيب ج 1 ص 58 رقم 8.
===============
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(3) قبل أن تدعوا فلا أجيب
عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فعرفت في وجهه أن قد حضره شيء، فتوضأ وما كلم أحداً، فلصقت بالحجرة أستمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: " يا أيها الناس. إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم ". فما زاد عليهن حتى نزل. رواخ ابن ماجه وابن حبان في صحيحه [13].
* * *
يا الله! أو حقاً يدعو الناس فلا يستجيب الله لهم؟ الله الذي يقول: وسعت رحمتي كل شيء؟ الله الذي يقول: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)؟
هل يمكن أن يحدث ذلك؟
صدق الله. وصدق رسوله. وما يمكن أن يكون ذلك إلا حقاً!
وإنه لحق ترتجف له النفس فرقاً ويقشعر الوجدان رعباً.
وماذا يبقى للناس إذن؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمة الله؟ ولمن يلجئون في هذا الكون العريض كله وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب.. ويبقى الإنسان في العراء. العراء الكامل الذي لا يستره شيء، ولا يحميه شيء من لفحة الهاجرة وقسوة الزمهرير؟
ألا إنه الهول البشع الذي يتحامى الخيال ذاته أن يتخيله.. لأنه أفظع من أن يطيقه الخيال.
الخيط الذي يمسكه بالقدرة القاهرة القادرة قد انقطع.. فراح يهوي. يهوي إلى حيث لا يعلم أحد ولا يلاحقه خيال. يهوي في الظلمات. يتقلب على الدوام. يصطدم في كل شيء. يتحطم.. تتمزق أوصاله.. يتناثر في كل اتجاه.. وكل " جزء " من نفسه يذوق من الآلام ما لا يطيق: (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [14].
ذلك هو المخلوق البائس الذي يدعو الله فلا يجيبه، ويسأله فلا يعطيه، ويستنصره فلا ينصره.
فهل كتب الله ذلك الهول البشع على عباده - المسلمين - الذين يدعونه ويسألونه ويستنصرونه؟!
نعم.. حين يكفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ولو بأضعف الإيمان.
* * *
لقد اقتضت إرادة الله أن يكون الإنسان خليفة في الأرض.
واقتضت إرادته كذلك أن يكون الإنسان - الذي يستمد قوته من الله - هو القوة الفعالة في هذا الوجود.
(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [15].(11/161)
الإنسان هو الذي يعمل. والإنسان هو الذي ينتج. والإنسان هو الذي غير الواقع، والإنسان هو الذي ينشئ النظم ويقيم الأوضاع.
الإنسان هو القوة الإيجابية في الأرض، في ذات اللحظة التي يسلم كيانه كله لله. بل من هذا الإسلام الكامل لله، يستمد الإنسان طاقته الإيجابية كلها على الأرض! (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [16].
لقد اختار الله أن يكون الإنسان هو أداته العاملة في الأرض. (سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وعلى ذلك جرت سنته منذ خلق الأرض والإنسان.
والله سبحانه وتعالى ليس " مقيداً " بسنته على النحو الذي يتصوره العقل الغربي الجاحد الضيق المغلق البصيرة، وهو يتحدث عن " القوانين الطبيعية " وحتميتها التي لا يمكن أن تتغير.. ومن ثم ينكر المعجزات!
كلا! ليس الله مقيدا بسنته ولا محكوماً بها، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. والدليل أنه يصنع الخوارق والمعجزات حين يريد، وفق حكمته التي يعلمها وحده ولا يطلع عليها أحداً من خلقه.
ولكن مشيئته سبحانه هي التي اقتضت أن تسير الأمور على هذه السنة، حتى يعرف الناس النتائج حين يعرفون الأسباب، فيسيروا في الأرض على بصيرة، حتى وهم لا يعلمون الغيب المحجب عن الأبصار.
وكان ذلك رحمة بالناس وهدى لبصائرهم.
فعلى أساس هذه السنة الثابتة - التي شاءت إرادة الله الحرة القادرة أن تكون ثابتة - يستطيع الناس تفهم الكون من حولهم، والتعرف على أسراره، والتوفيق بين أنفسهم وبين الكون والحياة.
وكل " العلم " الذي علمه الناس منذ البدء حتى اليوم، وكل المخترعات التي اخترعوها، وكل الفوائد التي جنوها، والخدمات التي حصلوا عليها لم تكن لتوجد لولا ثبوت السنة واطرادها وعدم تخلفها.
وكذلك الحياة الإنسانية في محيطها الشامل.. فكل النظم القائمة على تجارب البشرية: النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية.. لم تكن لتقوم لولا ثبوت هذه السنة واطرادها. فهذا وحده هو الذي يجعل للتجربة قيمة، ويجعلها مجالاً للفائدة ومحلاً للاعتبار.
وإلا فما قيمة التجارب - علمية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية - إذا كانت كل تجربة منقطعة عن غيرها، قائمة بذاتها، لا تتصل بشيء ولا تنتهي إلى شيء؟ وكيف يتعلم الناس أن هذا ضار وهذا نافع، فيعرضوا عن الأول ويقبلوا على الأخير؟
هي رحمة الله إذن بالناس أن يجعل لهم سنة ثابتة، ويجعلها واضحة، ويجعلها محلاً للعبرة، ويوجه إليها الضمائر، ويوقظ لها القلوب: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [17].
* * *
وقد اقتضت هذه السنة - كما قلنا - أن يكون البشر هم أدوات العمل في الأرض وهم كذلك أدوات التغيير:
(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [18].
ولن يعجز الله سبحانه أن يغير ما بالقوم دون أن يغيروا ما بأنفسهم. فالسماوات والأرض ومن فيهن ملكه. وهو القاهر فوق عباده. وهو المتصرف وحده في الجميع بما يشاء وكيفما يشاء.
ولكنه هكذا شاء.. أن يكون الإنسان عنصراً إيجابياً في الحياة. وأن يكون التغيير - وهو إرادة الله - مرتبطاً بإرادة الإنسان، مقضياً عن طريقه، نافذاً من خلاله، ممتزجاً بكيانه كله من عمل وفكر وشعور.
والحمد لله من الإنسان أن جعل له كل هذه القيمة في الأرض.. وإلا فما هو في ذاته لولا هذا العطف الرباني عليه؟ لولا تلك النفخة الإلهية التي جعلت منه ما هو عليه. أليس هو من طين هذه الأرض، يستوي في ذلك مع الصرصار الحقير والوحش الكاسر والحيوان البهيم؟
ولكن لهذا التكريم تبعاته ومقتضياته..
تبعاته أن يكون الإنسان قوة إيجابية حقاً، وأن يعمل بمقتضى ذلك في واقع الحياة.
تبعاته أن يعمل، وأن يكافح، وأن يصارع، ولا يسلِّم، ولا ينخذل، ولا يستكين.
تبعاته أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويؤمن بالله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [19].
تبعاته إذا رأى المنكر أن يغيره.. بيده، فإن لم يستطع فبلسانه.. فإن لم يستطع فبقلبه.. وهو أضعف الإيمان.
* * *
وليس المعروف أو المنكر شيئاً محدوداً في هذه الأرض، أو ميداناً دون ميدان.
كل شأن من شئون الناس، كبر أو صغر، يمكن أن يجري بالمعروف ويمكن أن يجري بالمنكر. وتبعات الإنسان تستلزم ملاحقته لهذه الشئون كلها، والرقابة عليها، والتأكد من جريها بالمعروف وبعدها عن المنكر! وإلا.. فالنتيجة هي الفساد!(11/162)
تلك أيضاً هي سنة الله. فقد اقتضت سنته أن يراقب الناس شئون الأرض، ويدفع بعضهم بعضاً إلى الصلاح والرشد، وإلا فسدت الأرض: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [20].
وإنها لتبعة ثقيلة تنوء بحملها الأكتاف.. ولكنها كذلك هي السبيل الأوحد لانتظام الأمور، فحين يؤدي كل إنسان واجبه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - مع الإيمان بالله - لا يجرؤ الباطل أن يعيش، ولا يجرؤ المنكر أن يستأسد. ويظل الحق هو القوة الغالبة الفعالة التي تسيطر على الأمور.
أما حين ينام عن هذا الواجب المقدس فالشر يغري، والشر يهيج، والشر يسيطر على الحياة.
وقد جرت سنة الله بذلك في التاريخ..
أيما أمة حية متيقظة، ترقب شئونها بنفسها، وتحرص على أداء كل واجب، وتنفر من كل تقصير، فهي الأمة الناجحة، وهي التي تملك السلطان.
وأيما أمة تراخت وأهملت، وتركت الباطل يسيطر على شئون الناس فلم تنصره، فهي الأمة الفاشلة، وهي الأمة التي حل بها الدمار.
وقوة المجتمع وضعفه رهين بهذا وذاك.
فالمجتمع الذي يتناصح الناس فيه بالخير ويتناهون عن المنكر، هو المجتمع المترابط المتساند القوي، الذي يتقدم إلى الأمام حثيثاً، وينتقل من خير إلى خير، بحكم تضافر الطاقة وتوجهها إلى الإصلاح. والمجتمع الذي يأتي المنكر فيه كل إنسان على مزاجه، ويتركه الآخرون لما يفعل، هو المجتمع المفكك المنحل، الذي يمضي إلى الوراء حتماً، وينتقل من ضعف إلى ضعف، بحكم تبدد الطاقة وانصرافها إلى الشر.
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [21].
وكذلك لعن الغرب في التاريخ الحديث.
أما المسلمون الأوائل، الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس، والذين كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، فقد كانوا أمة قوية قاهرة غلابة. أمة متينة البناء وثيقة الأساس. أمة استطاعت أن تكافح كل قوى الشر وتعيش. تكافح الحكومات الظالمة من داخلها، والغزاة البرابرة من خارجها، من التتار مرة والصليبيين مرة.. وتصمد لهذا الشر كله وتتغلب عليه.
فلما كفوا.. لما تعبوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. لما عادوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.. جرت عليهم السنة الأبدية الخالدة التي بينها لهم الله وحذرهم منها.. فصاروا فتاتاً متهاوياً تلتقمه قوى الشر من الداخل والخارج على السواء.
ولقد يبدو لأول وهلة أن العالم الإسلامي قد ضعف وهان واستُعمر لأنه غرق في الجهالة والتأخر والانحطاط والجمود. ولأنه انقسم على بعضه فتنازعته الأحقاد. ولأن حكامه الطغاة كانوا مشغولين بلذائذهم عن أن يلتفتوا لإصلاح الشعب. ولأن المظالم الاجتماعية والاقتصادية قسمت الناس إلى طغمة ظالمة من الملاك تملك كل شيء، وعبيد من الشعب لا يملكون شيئاً غير الذل والفقر والهوان. ولأن القوة الحربية والإنتاجية للعالم الإسلامي تضاءلت وانحسرت بينما كانت أوربا تصعد في كل ميدان..
وإنه لكذلك حقاً وصدقاً.. ولكن ما ذاك؟ ما هو في حساب الحقائق إلا السكوت عن المنكر وعدم الأمر بالمعروف؟!
ألم يأمر الله بالعدل: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [22].
وعدم السكوت للظلم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [23]، ولكنهم تركوا حكامهم يظلمونهم واستكانوا لهم فلم يغيروا عليهم؟
ألم يأمر الله بإعداد العدة واستحضار القوة: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [24]، ولكنهم سكتوا عن الاستعداد وضعفوا واستكانوا، ولم يطالبوا بالجهاد في سبيل الله ولم يتجهوا إليه؟
ألم يكرم الله العلم: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [25]، وحض عليه رسوله: " طلب العلم فريضة " [26]، فلم يسعوا إلى العلم وغرقوا في الجهالة؟
ألم يأمر الله بألا يكون المال (دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [27]، فتركوه دولة بين الإقطاعيين ولم يثوروا عليهم إحقاقاً لكلمة الله في الأرض، وإحقاقاً للعدل الذي أمر به الله؟
ألم يأمر الله الرجال أن يعاشروا النساء بالمعروف (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [28]، فعاشروهن بالظلم وأجحفوا بحقوقهن، وتركوهن طعمة للجهل وانزواء الشخصية وضآلة الكيان - وهن صانعات الطفولة - فخرجت من بين أيديهم أجيال من البشر هابطة الأنفس محدودة الآفاق ضئيلة الإنسانية؟(11/163)
فأي معروف أمروا به وأي منكر نهوا عنه، وأي إيمان بالله؟
عندئذ جرت عليهم سنة الله.. وغضب عليهم الله.. فاستعبدوا وهم الأعلون لو كانوا مؤمنين: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [29].
* * *
تلك سنة الله.. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. أو يدعونه فلا يستجيب لهم، ويسألونه فلا يعطيهم، ويستنصرونه فلا ينصرهم..
لأنهم - شاءت حكمته ذلك - هم أدوات الله في الأرض. وعن طريقهم ينفذ الله أمره. كذلك اقتضت سنته: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) لا عجزاً من الله - سبحانه - عن التغيير بغير تلك الأدوات، أو بغير أدوات على الإطلاق، ولكن تكريماً لهذا الخليفة في الأرض، ومنحَه حرية التصرف وحرية السلوك.
وحين نفهم هذه السنة نفهم ذلك الحديث الذي نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإذا كانت الأدوات جاهزة للعمل، متوجهة إليه، متوفرة له.. فإن السنة تمضي، والعمل ينفذ، والإصلاح يتم.
وإذا كانت الأدوات معطلة أو فاسدة.. فإن السنة تمضي كذلك في طريقها. تمضي بالإبقاء على الفساد، والزيادة فيه، وعدم التغبير عليه، وعدم الإصلاح فيه.
وعندما يدعو الناس وهم قاعدون عن العمل، وحين يسألون وهم كسالى، وحين يستنصرون وهم لا يعدون عدة النصر.. فعند ذلك لا يستجيب الله لهم ولا يعطيهم ولا ينصرهم..
لأنهم لا يستحقون النصر..
وكيف يستحقون وهم قاعدون؟!
وكيف يثبتون عليه لو منحهم الله إياه؟!
هب أن الله غير سنته - سبحانه - فأنزل عليهم النصر وهم قاعدون. أَوَ يحفظونه؟ أيدوم لهم؟ وكيف يحفظونه وهم فاسدون مفسدون، متهالكون متهاوون، لا قدرة لهم ولا عزيمة ولا دراية بأمر من الأمور؟
من أجل ذلك لا ينصرهم. (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [30].
إن طريق النصر والاسستنصار واضحة. إن الله قد اختار أن يكون الإنسان هو أداته المنفذة في الأرض، حين يستقيم إلى الله، ويهتدي إليه، ويعمل من أجله، ويحبه ويخشاه.
فمن أراد النصر، من أراد أن يدعو الله فيجيبه، ويسأله فيعطيه فليكن حيث يريده الله، وحيث يُنْزِل عليه نصره وعطاءه فينفع النصر، وينفع العطاء.
وطريق الله واضحة. والنصر والعطاء من هذا الطريق وحده. فمن أراد النصر فليسر في الطريق وليمض قدماً. فإنه ملاق وعد الله الحق. ولا يخلف الله وعده. أما إن هجر الطريق الأوحد، وراح يتسكع في كل طريق غيره، فمن أين يصيبه النصر، وهو منصرف عنه وموليه الأدبار؟
* * *
ولقد وعت أوربا جانباً من سنة الله في الأرض - الجانب الذي نسيه المسلمون اليوم. ونسيت منها جانباً آخر - الجانب الذي وعاه المسلمون!
ولقد وعت أوربا أن الإنسان هو القوة الفعالة في الأرض. وأن الطاقة البشرية هي أداة الإصلاح. من أجل ذلك اتجهت همتهم لتجنيد هذه الطاقة، وتوجيهها إلى العمل المنتج في واقع الحياة.
ووصلوا في ذلك إلى درجة معجِبة من النشاط والتنظيم والدأب المنتج العجيب.
ذلك ما نسيه المسلمون اليوم وهم يتواكلون ويتقاعسون، وينتظرون وهم قاعدون.
ولكن أوربا نسيت الله!
نسيت أن تعمل في سبيله، وتعيش في سبيله، وتنتج في سبيله.
ومضت بطاقتها الإنتاجية الضخمة في سبيل الشيطان.
ومن ثم قام هذا الصراع الرهيب الذي يوشك أن يدمر وجه الأرض.
والمسلمون يعرفون الله.
ولكنهم يعرفونه في ظاهر قلوبهم ولا يحفظونه: " احفظ الله يحفظك [31] ".
يعرفونه ولا يأتمرون بأمره ولا ينتهون بنهيه ولا يعملون في سبيله، ويشركون به كثيراً من قوى الأرض المادية أو البشرية سواء. (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وما عبدوه حق عبادته. ومن ثم فهم لا يسيرون بعد على الطريق.
وقد اقتضت سنة الله أن من يعمل ويجتهد يصل إلى شيء.. وإن كانت سنته قد اقتضت كذلك أنه يضيع هذا الشيء في النهاية ما لم يسر في الطريق الذي رسمه الله. وهو ما يوشك أن يحدث في الغرب اليوم.
ولكن من لا يعمل لا يجد على الإطلاق.. ولو كان - نظرياً - يعرف الله ويدعوه ويسأله العطاء!
والمسلمون هم المكلفون أن يهدوا البشرية الضالة إلى الطريق: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [32]).
ولن يهدوا الناس حتى يهتدوا هم أولاً إلى الله ويسيروا على الطريق. والطريق معروف كما رسمه الله: " إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب..".
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[13] الترغيب والترهيب. ج 4 ص 12 رقم 29.
[14] سورة الحج [ 31 ].
[15] سورة الجاثية [ 13 ].
[16] انظر " السلبية والإيجابية " في فصل " خطوات متقابلة في النفس البشرية " من كتاب " منهج التربية الإسلامية ".
[17] سورة آل عمران [ 137 - 138 ].
[18] سورة الرعد [ 11 ].
[19] سورة آل عمران [ 110 ].
[20] سورة البقرة [ 251 ].(11/164)
[21] سورة المائدة [ 78 - 79 ].
[22] سورة النساء [ 58 ].
[23] سورة النساء [ 97 ].
[24] سورة الإنفال [ 60 ].
[25] سورة العلق [ 3 - 5 ].
[26] انظر الفصل السابق بهذا العنوان.
[27] سورة الحشر [ 7 ].
[28] سورة النساء [ 19 ].
[29] سورة آل عمران [ 139 ].
[30] سورة العنكبوت [ 40 ].
[31] حديث رواه الترمذي.
[32] سورة البقرة [ 143 ].
==========================
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(4) لا تفكروا في ذات الله
سبحانه، وهل يطيق بشر أن يفكر في ذاته؟
هل تطيق الذرة الهائمة التائهة الفانية المحدودة أن تحيط بحقيقة الأزل والأبد، التي لا آخر لها ولا حدود؟!
وإن اهتدت.. إن وصلت واتصلت بالله.. فما حاجتها إلى " التفكير " في ذات الله وهي واصلة إلى حماه؟!
وهل فرغ الإنسان من تدبر أسرار الكون، ليفكر في ذات الخالق سبحانه، ليس كمثله شيء؟
هل وصل في " علمه " إلى حقيقة جوهرية واحدة من حقائق الكون؟ أم إنه ما يزال في محيط " الظواهر " لا يجرؤ على الدخول في الأعماق؟
لقد دفعه الإقدام مرة فتقدم فحطم الذرة وكاد يصل إلى المجهول.. ولكنه فجأة تراجع.. من هول الانفجار!
لم يكن تفجر الذرة وانطلاق طاقتها الهائلة المروعة هو الذي أصابه بالذعر وأصابه بالذهول! وإنما كان " الكشف " الجديد الذي وصل إليه، فأعاده إلى حيث كان من أسرار الوجود.
لقد اكتشف أنه ليس ثمة " مادة "، وإنما هناك " طاقة "، وأن هذه الطاقة هي " المجهول " الذي بحث عنه ألوفاً من السنين أو ملايين، ثم عاد من حيث بدأ، لم يزد علماً إلا بظواهر الأشياء.
الأشياء الموجودة في الكون لا يعرف الإنسان " ذاتها ". لا يعرف جوهرها. وإنما يعرف من صفاتها ومظاهرها.
فأي قفزة في الفضاء مجنونة تلك التي تدفعه إلى أن يترك الأشياء المخلوقة المحدودة الصغيرة، التي يعجز عن معرفة ذاتها، فيحاول أن يحيط بالذات الإلهية، ويصل إلى " حقيقتها "؟!
خبل لايستقيم مع التفكير السليم.
فأبسط قواعد " المنطق " أنك إذا عجزت عن الصغير فأنت أعجز عن الكبير. وإذا عجزت عن أن تسير ميلاً فستهلكك مئات الأميال فضلاً عن الألوف والملايين.
والكون أمام الإنسان واسع هائل عريض..
فهل فرغ من أمره؟ هل وصل إلى آخر أبعاده؟ هل أحاط به علماً، بل تصوراً وخيالاً؟
فلنسمع هنا كلام العلم الرسمي فإنه وحده يبهر الخيال ويذهل الرءوس!
" إن أقرب نجم إلينا يبعد عن الشمس فوق الأربع من السنوات الضوئية. أي أن النور، وسرعته 186000 ميل في الثانية، يقطع المسافة من الشمس إلى أقرب نجم في نحو أربع سنوات. إنه على مسافة تبلغ نحواً من 000??? 000??? 000??? 000??? 26 ميل. إنك لو مثلت الشمس بنقطة أخرى تبعد عن النقطة الأولى بنحو 4 أميال " [34].
" المجرة قرص عظيم. وهي قرص مفرطح، كالرغيف... وقطر القرص نحو من 000??? 100 سنة ضوئية. والسنة الضوئية مسافة مقدارها 6 مليون مليون ميل. فقطر هذا القرص نحو من 600 ألف مليون مليون ميل. وارتفاعه نحو عشر ذلك " [35].
وهناك مجرات أخرى كثيرة في الكون غير المجرة التي تتبعها مجموعتنا الشمسية.
" هذه الدنييات، التي تشبه مجرتنا.. كم عددها؟ مائة؟ ألف؟ ألفان؟ لا. إنها مائة مليون من المجرات. مائة مليون جزيرة في فضاء هذا الكون الواسع وقد تزيد "!! [36].
هذا في " المحيط الخارجي " للكون. وهو مظهر واحد يعجز عن حمله الخيال وتعجز العقول.
فلننظر في الأرض وحدها. تلك الذرة الهائمة في الفضاء. هباءة منثورة في محيط الكون، لا تمسكها إلا القدرة القادرة الخالقة المبدعة.
كم جبلاً بها وكم نهراً وكم بحراً وكم بحيرة؟! كم كهفاً في جبالها وكم حفرة في أراضيها؟ كم نقطة من المطر تهبط إليها وكم ذرة من البخار تصعد منها آناء الليل وأطراف النهار؟
وكم بها من أنواح الحياة؟ الحياة النباتية والحيوانية والإنسانية؟
كم ألفاً من صنوف النبات على وجه الأرض؟ وأي دقائق تفرق بين نبات ونبات مختلف ألوانه " يسقى من ماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل "؟
وكم ألفاً من صنوف الحيوان والطير والحشرات في السهول والفيافي والقفار والوديان والغابات؟
وكم مليونا من البشر من مختلف الألوان واللغات والعقائد والأفكار؟
بل النبات الواحد والحيوان الواحد والإنسان الواحد.. كم فيه من معجزات الخلق؟
الزهرة الواحدة البديعة التناسق المعجزة التلوين. هل يفرغ الإنسان من تأملها؟
إن أمهر المصورين وأقدر الرسامين ليعجز عن الإحاطة " بالفن " الذي تمثله زهرة واحدة من تلك الزهور.
فإن ما فيها من تعداد الألوان، وتدرجها، وتناسقها، وما فيها من جاذبية للعين والحس، زائداً كله عن عنصر الضرورة الذي يستلزم أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث ولا زيادة.. إن هذا كله لآية تبهر النفوس.
و " التخصص " الذي يميز عضواً من عضو في كيان النبات الجذر والساق والأوراق والزهور.. وكلها من حبة واحدة تبدو للعين شيئاً واحداً لا تخصص فيه ولا تمييز!(11/165)
وعملية التمثيل الضوئي التي تحول " طاقة " الشمس إلى " مادة "!
وتوزع النبات على سطح الأرض بحسب توزيع الحرارة والبرودة والجفاف والرطوبة.. بل بحسب توزيع النور والظلام! فقد أثبت العلم أن " اختلاف الليل والنهار " بمعنى انتظام دورتهما التي يخلف فيها أحدهما الآخر، وبمعنى اختلاف طولهما كذلك.. هو الذي يوزع النبات على سطح الأرض! فلكل نبات زهرة. والزهرة تتكون في فترة الإظلام لا في فترة النهار! وكل زهرة تحتاج إلى فترة معينة من الظلام حتى تطلع! ومن ثم تتوزع أنواع النبات على أطوال الليل والنهار بحسب حاجة كل زهرة إلى الظلام! وإذا أخذت نباتاً يحتاج إلى ظلمة اثنتي عشرة ساعة لكي يزهر، وزرعته في مكان ليله لا يزيد عن عشر ساعات، فإنه قد ينبت، ولكنه لا يزهر، ومن ثم لا يصل إلى الإثمار!
والحيوان الواحد كم فيه من موافقات عجيبة ومعجزات؟!
الحواس وحدها معجزة. والجلد والشعر معجزة. والأنياب والأظافر معجزة. وجهاز الهضم والتنفس والإنسال كلها معجزات.
كل عضو مخصص لوظيفة. وهي كلها في الأصل بويضة واحدة أو حيوان منوي - في رأي العين - غير مميز الأجزاء.
والإنسان.. قمة الحياة على سطح الأرض وسيد المخلوقات فيها.. كم معجزة في خلقه؟
ودعك من خواصه " الحيوانية " كلها، وإن كان في كل منها ما يحير العقل ويذهل الفكر، من شدة الدقة وعجيب التناسق وعظمة القدرة التي تهيئ لكل خلق ما يصلح له وما يعينه على أداء وظيفته.
ودعك من أن هذه الخصائص التي يشترك فيها مع الحيوان قد ارتفعت في الإنسان وصارت أروع وأعجب وأدق وأكمل.
وانظر في خصائصه التي تفرد بها وتميز على كل الخلق. انظر إلى عقله وانظر إلى روحه. أي إعجاز. أي إعجاز!
ما العقل؟ كيف يفكر؟ كيف يصل إلى الحقائق؟ كيف يرتب بعضها على بعض ويستنبط بعضها من بعض؟
وما التفكير؟ كهرباء هو أم مادة؟ أم طاقة؟ وكيف تميزت عن الطاقات الأخرى كلها وتفردت عنها؟
وما الروح؟ ذلك المجهول؟
كيف يتسنى للإنسان الضعيف القوة، المحدود الطاقة، المحدود مدى الحواس، أن يتصل بالمجهول الأعظم ويقبس منه قبسات؟
كيف يحدث التليباثي (التخاطر من بعد) كما حدث لعمر بن الخطاب حين صاح يا سارية الجبل! وسمعه سارية على بعد ألوف الأميال؟
كيف يحدث الحلم التنبئي الذي يكشف جانباً من المجهول الذي لم يحدث بعد في محيط الحواس؟
بل كيف يحدث " المعلوم " من حب وكره، ونسيان وتذكر، وخصام وألفة، ونثر وشعر، وعمل وتفكير؟
* * *
بل نرجع إلى الوراء خطوة لنسأل:
ما تلك القوة العجيبة الكامنة في البذرة، فإذا هي تنمو، وإذا هي تخرج شطئاً ينفذ من باطن الأرض بقوة ليظهر على السطح، ثم يطول ويورق ويزهر ويثمر ثم يموت؟
وما تلك القوة العجيبة الكامنة في البويضة والحيوان المنوي، فإذا لقاؤهما المعجزة الكبرى التي تنشئ الحياة؟
بل ما تلك القوة الكامنة في الخلية الحية. الخلية المفردة الواحدة التي بدأت الحياة منها على سطح الأرض؟
بل ما تلك القوة العجيبة الكامنة في الخلية الجامدة أو التي تخال جامدة في " الذرة " المجسمة في المادة، أو المنطلقة في الإشعاع.
هل يعرف الإنسان ما تلك القوة أو يملك أن يصل إلى الأسرار؟
* * *
ذلك مبلغ الإنسان من " العلم " ومبلغه من " الحقيقة ".
ومع ذلك لا يعرف قدر نفسه، ويروح يشطح في الآفاق.
يريد أن يعرف " الحقيقة " الكبرى. يريد أن يحيط بذات الله. فهل يقدر؟
هب أن أحدا لم يمنعه ولم ينهه من التفكير.. فكيف يصل؟ بأية أداة وأية وسيلة؟
العقل؟
أو ليس العقل ذاته هو الذي قال للإنسان: إن المحدود لا يحيط بغير المحدود، والفاني لا يحيط بمكن لا يدركه الفناء.
فيم إذن تسخير العقل فيما يقول العقل ذاته إنه مستحيل؟
وهل وصل الناس إلى شيء حين سخروا عقولهم لذلك المبحث المستحيل؟
هل وصلت " الفلسفة " في جميع أطوارها وجميع محاولاتها إلى حقيقة واحدة مستقرة تكشف للناس عن المجهول؟ أم باءت كلها بالفشل الجازم والعجز المحتوم!
وهل هذه التخبطات التي كتبها الفلاسفة في شأن الله حقيقة بأن ينظر إليها عاقل ويوليها شيئاً من اهتمامه؟
وفيم هذا العناء كله؟! ما وراء النطح في الصخرة التي تحطم الرءوس؟!
أيريد أن " يصل " إلى الله؟ سبحان الله! فما له لا يصل عن الطريق المعبد المفتوح؟ ما له يلف ويدور، ويعود " كالمخووت " الذي ركبه الخبال!
يريد أن يصل إلى الله؟ أما يحس في أعماق نفسه السبيل؟ أما يترك العنان للفطرة وهي تصل به إلى هناك؟ أما يدع روحه تحلق وحدها، عارفة طريقها إلى النور الذي قبست منه وهي كائنة في علم الله منذ الآزال والآباد..؟
الطريق هو الإيمان!
والفطرة تعرف الطريق!
وما يحتاج الإنسان إلا إلى أن يدع فطرته على سجيتها. لا يكبلها بقيود مصطنعة من فلسفة منحرفة أو علم فطير. ولا يغشيها بركام الشهوات الغليظة والنزوات الهابطة التي تحجب شفافيتها وتمنع عنها النور.
وهي وحدها تهديه إلى الله.. لأن الله فطرها على الهدى إليه!(11/166)
وإن أراد عوناً للفطرة وهي في الطريق إلى الله.. فليكن ذلك العون الأكبر هو تدبر آيات الخلق، والبحث عن آيات القدرة في صفحة الكون الحافلة بالمعجزات.
فذلك هو الذي يطيقه. وذلك هو الذي يعينه على السبيل.
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [37].
وآيات الله في الكون عميقة الغور جداً، وهي في الوقت ذاته معروضة في وضوح ويسر لكل عين متفتحة وكل قلب طليق.
(وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) [38].
إن الكون كله آية الله. وفي كل شيء منه آية لمن أراد التذكر أو ألقى السمع وهو شهيد.
الليل والنهار. الشمس والقمر والأفلاك. السحاب والمطر. النبتة الحية الخارجة من الحبة الميتة (في ظاهر العين) والحطام الميت الذي ينتهي إليه النبات الحي. الأرض " الميتة " التي تخرج الحياة والحياة التي تفضي في الأحياء جميعاً إلى الموت. الإنسان الذي صوره الله فأحسن تصويره. الأرض التي بث فيها من كل دابة. التوافق بين الحياة والأحياء يبدو في الأشعة الكونية التي يرسلها الفضاء للأرض فلا تقوم بدونها الحياة، كما يبدو في النسب المضبوطة من البحر واليابس، والأكسجين والإيدروجين والنتروجين.. ومدى صلابة القشرة الأرضية، ومدى تأثر الأرض بالجاذبية، ومدى بعدها عن الشمس ومدى سرعتها أمامها.. إلى آخر هذه الموافقات.
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى تدبر آيات الله في الخلق. والقرآن الكريم يفصل هذه الآيات تفصيلاً، لا تكاد سورة واحدة تخلو من ذكر آية منها أو آيات..
(إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [39].
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [40].
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [41].(11/167)
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [42].
(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ) [43].
وهكذا, وهكذا لا تخلو سورة من إشارة عابرة أو مفصلة لآيات القدرة القادرة المبدعة المعجزة المدبرة المريدة.
والله هو فاطر هذه النفس البشرية العالم بدروبها ومنسرباتها، وبما يصلحها وما يصلح لها. وقد اقتضت حكمته أن تكون الفطرة ذاتها مهتدية إلى الله، بالطريقة الخفية التي هدى بها كل شيء إليه: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [44] دونما كد ولا جهد ولا عناء في الاهتداء إليه، كما يسير الكهرب في الذرة في مساره المرسوم، وتسير الذرة في مادتها في مسارها المرسوم، وتسير الأرض والكواكب والأفلاك في مسارها المرسوم، لا تحمل عناء السير، ولا تشق نفسها في استكناهه، وإنما تسلم نفسها لله العزيز العليم..
كما اقتضت حكمته - وقد خلق للإنسان عقلاً ميزه به من سائر الخلق الذي نعرفه - أن يكون دور العقل الواعي في الاهتداء إلى الله مساندة الفطرة الخفية المسارب، و " توعية " مسارها (أي جعله واعياً واضحاً مفهوماً)؛ ورسم لذلك منهجاً واضحاً وطريقاً مستقيماً.. هو تدبر آيات الله في الكون.
وحقاً إنه لكذلك.. فما يتدبر الإنسان هذه الآيات بوعي يقظ وقلب متفتح إلا هدته من فورها إلى الله، خالق الكون والحياة.
ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.. إن الله لم يكلف الناس أن يبحثوا في ذاته سبحانه. لم يكلفهم الجهد الذي يعلم - سبحانه - أنهم لن يقدروا عليه قط، وأن قصارى ما يحدث لهم حين يحاولون أن تنفجر طاقتهم وتتبدد، كما تنفجر طاقة الذرة التي انحرفت عن مسارها، فتتحطم وتحطم ما تلقاه في الطريق!
وحين نهى الرسول الكريم أتباعه عن أن يفكروا في ذات الله كيلا يهلكوا، لم يكن صلى الله عليه وسلم يحجر على تفكيرهم أو يضع عليهم القيود.
كلا! إنما كان يوفر جهدهم للنافع من الأعمال. كان يصون هذا الجهد أن يتبدد سدى، ويؤدي إلى الضلال. كان يريد للناس أن ينفقوا طاقتهم - بعد أن يقضوا حظهم من تدبر آيات الله في الكون والاهتداء إليه - في تعمير الأرض وزيادة " الإنتاج ". الإنتاج بمعناه الواسع الشامل العميق. الإنتاج الروحي والفكري والمادي. في ميدان العقيدة وميدان الجهاد وميدان العمل بمعناه الاصطلاحي المفهوم.
ولقد حدث ذلك بالفعل...(11/168)
حين صان المسلمون طاقتهم أن تتبدد وتنفجر وتتناثر في أودية الضلال.. كان لهم إنتاج ضخم، هو أكبر إنتاج في التاريخ حين يقاس بمقياس الزمن ومقياس الرقعة ومقياس القيم ومقياس الحضارة المادية ومقياس العلم.. وكل مقياس يصلح للقياس.
ففي فترة قصيرة لا مثيل لها في التاريخ امتد العالم الإسلامي من المحيط إلى المحيط، وامتدت معه مبادئ الإسلام الشاملة للسماء والأرض و العمل والعبادة والدنيا والآخرة. وقامت " نظم " للحكم والسياسة والمال والاقتصاد غير مسبوقة من قبل، تحمل في أطوائها العدالة الاجتماعية، وتنشئ مجتمعاً مترابطاً متكافلاً متحاباً متواداً ظل ألف سنة على ترابطه وتكافله حتى بعد أن فسدت الحكومات وابتعدت عن روح الدين. وامتص الإسلام كل ما وجده نافعاً من الحضارات المادية السابقة له والمعاصرة له، ثم أعطاها الحياة.. فانطلقت تعمل في تعمير الأرض وقد اصطبغت بصبغة الإسلام وتشربت روحه، فصارت تعمل في الأرض وهي تتجه إلى السماء. وتبنى الإسلام كل ما وجده من العلم لدى الإغريق والهنود - من طب وفلك ورياضة وطبيعة وكيمياء.. إلخ، ثم أضاف إليه إضافات شتى بحيويته وقوته الدافقة الدافعة إلى الأمام..
ولم يكن " الفكر " الإسلامي عاطلاً ولا محجوراً عليه. وإنما كان - فيما عدا القلة الشاذة التي انحرفت بتأثير الفلسفة الإغريقية بعض الانحراف (لا كله) - يتجه إلى خير الناس في الأرض، ويسعى إلى سعادتهم بكل وسائل السعي. ويرى أنه حين يبحث في العلوم - البحتة أو التطبيقية - وحين يتعمق في الفقه الذي يشمل سياسة الحكم وسياسة الاقتصاد وموقف الفرد وموقف الدولة وموقف المجتمع وعلاقات بعضهم ببعض في كل صغيرة وكبيرة من شئون الحياة اليومية والحياة العامة، كما يشمل العبادات بكل تفريعاتها، وحين يعمل في ميدان الجمال الفني في صوره التي كانت ميسرة لهم من رسم وزخرفة وعمارة وشعر ونثر.. إلخ يكون قد قام بواجبه الأمثل وحقق وجوده الكامل. وأنه ترجم التدبر في آيات الله إلى فكر نافع وعمل نافع وقيم حية متحركة في واقع الأرض، لا في الأبراج العاجية، ولا في عالم المثاليات.
وكان ناجحاً في رسالته التي استمدها من كتاب الله وسنة رسوله.
* * *
ولكننا نقلب صفحة أخرى لقوم لم ينتصحوا بنصيحة الله والرسول..
قوم في أوربا راحوا ينفقون طاقة علمائهم ومفكريهم في البحث في ذات الله وما أشبه ذلك من الأمور.
ونعرض لإنتاجهم الفكري في هذا الباب عرضاً " موضوعيًا " فنجد لا شيء!
ومن كان في شك من ذلك فليقرأ كل ما كتبته الفلسفة في هذا الموضوع، ثم ليسأل نفسه: هل زاد معرفة بالله عن هذا الطريق؟ هل " وضحت " له المعالم؟ هل " وصل " إلى شيء لم يكن يصل إليه وهو يتدبر آيات الله في الكون ويفتح بصيرته على القدرة المعجزة في كل اتجاه؟
أم العكس هو الصحيح؟ اختلطت في ذهنه الشيات والملامح، والتصورات والأفكار؟ وتاه في محيط من الجدل المتناقض الذي لا يركن إلى قرار؟!
صورة في ذهني تتمثل لعمل أولئك الفلاسفة! تلك مرآة لامعة يبصر فيها الإنسان وجهه بكل دقائقه، ولكن فيها قطعة " مغبشة " هنا أو قطعة مطموسة هناك، فيروح هذا " الفيلسوف " يحاول أن " يجلوها " فيمسح بأصابعه وجه المرآة، فإذا القذر من أصابعه قد غبش الصفحة كلها، وإذا الصورة التي كانت واضحة لم تعد تبين!
ودعك من القيمة الموضوعية لهذه الأفكار، وانظر كيف كانت النتيجة.. كيف كان عاقبة الذين أبوا أن ينتصحوا بأمر الله ويهتدوا بسنة رسوله.
لقد " حلق " المفكرون والفلاسفة في أبراجهم العاجية وتركوا الناس في الأرض.. تركوا الناس يأكلهم الظلم والإقطاع والجهل والجمود والتفكك. فهذه المظالم ترتكب كل يوم، والكادحون تُمتص دماؤهم وهم صاغرون مغلوبون على أمرهم.. بينما السادة المفكرون في جدل أخرق لا هو يهتدي إلى نتيجة، ولا هو ينزل إلى الأرض ليرى آلام الناس ويحاول أن يبحث لهم عن علاج..
وكفر الناس.. وحق لهم أن يكفروا..
كفروا بالفلسفة " المثالية " التي تحلق في عالم الخيال وعالم المثل، وتترك واقع الأرض المنتن ينغل فيه الدود..
وقاموا يحطمون هذه " المثالية " المتعفنة التي لا قلب لها ولا ضمير.
ومع المثالية الخاوية حطموا - مع الأسف - فكرة الله والعقيدة.
حطموها، لأن هذه المثالية كانت تدور حول فكرة الله، وتزعم أنها تصل إلى " جوهر " العقيدة.
وعلى أنقاض فكرة الله والعقيدة، وأنقاض الفلسفة المثالية الخاوية قامت فلسفة مادية جاحدة لا تعرف الله ولا تؤمن بالعقيدة.
وتشعبت تلك الفلسفة حتى شملت كل جوانب الحياة..
دارون، وماركس، وفرويد، والتجريبيون والسلوكيون.. التفسير المادي والتفسير الاقتصادي للتاريخ.. والوجودية والانحلالية واللادينية واللا خلقية واللا.. إنسانية!
ومضت أوربا في طريقها المجنون الذي لا ينتج إلا الدماء في نهاية الطريق.(11/169)
إن أوربا لم تتقدم في ميدان العلم والعمل إلى حين أخذت بشق من نصيحة الرسول الكريم، فانتبذت التفكير في ذات الله، ووجهت طاقتها لتعمير الأرض في واقع الحياة.. وخطت خطوات جبارة في هذا السبيل.
ولكنها - مع الأسف - لم تأخذ نصيحة الرسول كاملة، ولم تهتد بهديه السليم. لم تأخذ منها عبادة الله، والتوجه إلى الله.
ومن ثم انطلقت - بقوتها المادية الهائلة النامية المتزايدة - انطلقت تعبد الشيطان.
(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)!
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)!
وكانت النتيجة هي القوة المادية الهائلة التي تتمتع بها أوربا، والضلال المبين الذي تغرق فيه.
الرأسمالية هنا والشيوعية هناك..
كلاهما انحراف عن استقامة البشرية، وكلاهما قائم على أسس مادية خالصة لا تؤمن بالله الإيمان الحق. ولا تحكمه في أمر من أمور البشرية.
الحقيقة عندهم هي ما تستطيع الحواس أن تدركه. وكل ما لا تستطيع الحواس إدراكه فهو ساقط من الحساب.
وأمور العقيدة في عالم الغرب الرأسمالي أمور " تستعمل من الظاهر " وليس لها في واقع الحياة نصيب. لا في التوزيع الاقتصادي العادل الذي يرضي الله ورسوله، والذي لا يكون فيه المال " دولة بين الأغنياء منكم " ولا في الأخلاق التي ترفع الإنسان عن مقاذر الشهوة وحيوانية الغريزة.
وأمور العقيدة في الشرق الشيوعي مصادرة بأمر الدولة، حتى يكون الولاء كله " للدولة ". وحين رفع الحظر هناك عن الدين والعقيدة - لأسباب سياسية، للدعاية في الشرق الإسلامي خاصة - فقد رفع بعد أن صار الإلحاد يدرس رسمياً في المدارس، وتدعو له الكتب والصحافة والسينما والإذاعة وكل وسائل الدعاية، وصار الشباب الذي تربى في ظل المذهب محصناً ضد " جرثومة " الدين!
والنتيجة الأخيرة هي هذا الصراع المدمر الرهيب بين الشرق والغرب، وبين كل قوى الأرض.
حربان في ربع قرن.. والثالثة على الأبواب!
ما أحوج الناس إلى حكمة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.. (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عن ابن عباس رضي الله عنهما " تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله ".
[34] عن كتاب " مع الله في السماء " تأليف الدكتور أحمد زكي.
[35] عن كتاب " مع الله في السماء " تأليف الدكتور أحمد زكي.
[36] المرجع السابق.
[37] سورة آل عمران [ 190 - 191 ].
[38] سورة غافر [ 81 ].
[39] سورة الأنعام [ 95 - 99 ].
[40] سورة البقرة [ 164 ].
[41] سورة الأنعام [ 59 ].
[42] سورة الروم [ 20 - 27 ].
[43] سورة يس [ 33 - 44 ].
[44] سورة طه [ 50 ].
===========================
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(5) تعبد الله كأنك تراه
".. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " [45].
* * *
الإحسان.. أن تحسن الشيء فتجعله حسناً.
والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه!
كان السؤال قبل ذلك عن الإسلام، ثم عن الإيمان. الإسلام درجة والإيمان بعد ذلك درجة، وهذه هي درجة الإحسان. لكي يكون إسلامك حسناً وإيمانك كذلك.
تعبد الله كأنك تراه..
تعبير عجيب يحمل في بساطته حقيقة هائلة.
وأروع ما يروعني - وقد يكون هذا تأثراً - أنه يفاجئك وأنت تقلب وجهك في الآفاق، باحثاً عن الإجابة، يفاجئك بالقبلة التي ينبغي أن تتجه إليها! فإذا أنت - على غير توقّع منك - ترى النور..
النور الذي يبهر العين والقلب ويبهر الروح.
ترى الله...
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
* * *
القاعدة الكبرى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله: هي أن تعبد الله كأنك تراه.
يقيم عليها نظمه جميعاً، وتشريعاته وتوجيهاته جميعاً..
نظام السياسة. نظام الاقتصاد. نظام المجتمع. موقف الفرد من الدولة وموقف الدولة من الفرد. نظام الأسرة. معاملات الأفراد، معاملات الدول في السلم وفي الحرب.. كل شيء في هذه الحياة!
ولقد يخطر للإنسان - أول ما يخطر - أن هذه عبادة! أليست هي: أن " تعبد الله "؟!
بل قد يخطر للإنسان أنها العبادة القصوى، التي ينقطع فيها الإنسان عن كل شيء في الحياة، ليخلو إلى ربه، يخلو له بوجدانه وحسه وقلبه.. هنالك في عزلة عن الآخرين!
وإنها لعبادة حقاً، ما في ذلك شك، وإنها لأقصى العبادة كذلك.
ولكنها - وهي أقصى عبادة العبد للرب - لتعود من عزلتها وخلوتها، فتتسع وتتسع حتى تشمل كل محيط الإنسانية!
بل إنها - منذ لحظتها الأولى، وفي خلوتها - لهي النور الساطع الذي يضيء جنبات الحياة، في ذات اللحظة التي يضيء فيها جنبات النفوس.(11/170)
حقيقة واحدة ظاهرة وباطنة، تشمل الفرد وحده وتشمله في محيط الجماعة، فإذا هي شعور وسلوك، وعبادة وعمل في آن!!
الإسلام كله هذه الحقيقة.
الإسلام - وحده - هو الذي يجعل العبادة عملاً والعمل عبادة، والذي يربط النفس والجسم، والسماء والأرض، والدنيا والآخرة كلها في نظام.
* * *
تعبد الله كأنك تراه..
إنه عالم واسع يفيض بالحب، ويفيض بالتقوى، ويفيض بالأمل، ويفيض بالرهبة، ويفيض بالنور.
الإنسان في مواجهة مولاه. في مواجهة الذات العظمى الخالقة القاهرة المستعلية المشرفة على جميع الكائنات. والنور - نور السماوات والأرض - يغمره من كل جانب، وينفذ إلى أعماقه، فيضيء ثنايا قلبه، ويستقر فيه.
الإنسان في مواجهة مولاه... بنفسه جميعاً. بكل جوارحها وكل خلجاتها. بظاهرها وباطنها، بدقائقها ولطائفها، بأسرارها وما هو أخفى من الأسرار..
وكلها مكشوفة لله.. " فإن لم تكن تراه فإنه يراك "!
يا الله! إنها الرهبة والقشعريرة تملأ النفوس.
عين الله البصيرة النافذة إلى كل شيء في هذا الوجود، إلى كل نأمة وكل خاطرة وكل فكرة وكل شعور.. إنها تراك وترقبك. سواء كنت متيقظاً لهذه المراقبة أم غافلاً عنها. وسواء أعددت نفسك لها أم كنت من المعرضين.
وإنه لخير لك أن ترى الله كما يراك.. خير لك أن تتوجه إلى حيث ترقبك العين البصيرة النافذة. فتأمن المفاجأة!
إنها الرهبة في الحالين.. الرهبة في حضرة المولى العزيز العليم القوي الجبار.. ولكنها الرهبة والأمل هنا، والرهبة والذعر هناك!
الرهبة والأمل وأنت متوجه إلى الله، مخلص له قلبك، عامل على رضاه..
والرهبة والذعر حين تتوجه بعيداً عنه وهو من ورائك محيط! فخير لك إذن أن تعبد الله كأنك تراه!
وحين تتوجه إليه بنفسك جميعاً، ظاهرها وباطنها، وسرها ونجواها.. وحين تتوجه إليه وفي نفسك شعور التقوى الخاشعة والرهبة العميقة.. فلا شك أنك ستنظف نفسك وتحرص على نظافتها.
إن الله لا تخفى عليه خافية. فكيف تستتر منه وأنت مقبل عليه؟ كيف يمكن أن تعمل عملاً واحداً لا يراه؟
(وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [46] (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [47] (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [48] (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [49].
يا الله! حتى خائنة الأعين! الخائنة التي يظن الإنسان أنه وحده الذي يحسها ويعرفها، وألا أحد في الوجود كله يراها أو يفهمها؟
حتى الوسوسة التي لا يطلع عليها أحد، وصاحبها نفسه قد ينساق معها دون أن يتيقظ لها؟
حتى السر. بل ما هو أخفى من السر. الخطرات التائهة في مسارب النفس، لا تصل إلى ظاهر الفكر، ولا يتحرك بها اللسان للتعبير!
يا الله! إنه لا ستر إذن ولا استخفاء.
كل نفسك مكشوفة وأنت مقبل عليه. أفلا تنظف نفسك إذن قبل الاتجاه. ألا تزكيها؟
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
فأما إن كنت معرضا عنه غير متوجه إليه. إن كنت لا تنظف له نفسك ولا تزكيها. فلن يغير ذلك شيئا من الأمر!
إنه يراك! يراك بكل ما تصنع بنفسك من " تدسية " ومن سوء. يراك بخبائثك وأوضارك. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
يراك. فما الفائدة في التستر والاختفاء؟ بل ما الفائدة من الإعراض والانصراف؟ الملك غير ملك الله تذهب؟ و " بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ "؟! " أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ". أم حسبوا أنهم معجزون في الأرض؟ أم حسبوا أن يفلتوا من العقاب؟
كلا! ما شيء من ذلك بمستطاع. فخير لك أن تراه وهو يراك!
وإنه لا يكلفك من أمرك رهقاً!
(هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [50]. (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) [51]. (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ..) [52].
إن رحمة الله واسعة. وإنه ليعلم ضعف الإنسان وما ركب في طبيعته من حب الشهوات: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ..) [53]. ويعلم أن الجهد شاق والسفر طويل.
لذلك يقول: " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ "..
ويقول: " ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ". ادعوني لكل شيء! وادعوني - فيما تدعونني إليه - لأعينكم على تنظيف أنفسكم من وعثاء الطريق!
هل جربت أن تستعينه في هذا الأمر؟
صدق الله وصدق وعده الحق.
ما يتوجه له إنسان يستعينه على نظافة النفس وطهارة القلب، إلا استجاب له وأعانه على ما يريد!(11/171)
وما هو بسحر ساحر! ولكن هكذا يحدث حين يتجه القلب إلى الله ويخلص في دعواه. إنه يجد الأمر عليه هيناً، ويجد نفسه أكبر من المغريات وأقوى من المعوقات. ويحس - إحساساً ملموساً مجسماً - أن الله هو الذي يعينه وييسر له السبيل!
ومع ذلك كله فقد تضعف في الطريق وتخور قواك. فهل يلفظك من رحمته ويحل غضبه عليك؟
كلا! ما دمت لم تنكص على عقبيك ولم تتنكب الطريق.
إنه يغفر. يغفر الذنوب جميعا، وسعت رحمته كل شيء.
(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [54]
(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) [55].
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [56]
كلا! لن يلفظك من رحمته ما دمت باقياً على الطريق. وما عليك إلا أن تقوم من عثرتك وتنفض ثوبك وتتجه إليه من جديد...
* * *
وحين تتوجه إليه. حين ترقبه كأنك تراه. حين تنظف نفسك وتحرص على ألا تتلوث في الطريق. حين تحاسب نفسك على كل صغيرة وكبيرة خشية أن تكون قد حدت. حين تراجع كل عمل عملته وكل كلمة قلتها وكل خاطرة وسوست بها نفسك وكل حركة تحركتها جارحة من جوارحك..
حينئذ يستقيم الأمر كله في هذه الحياة.
أمر الحاكم والمحكوم. والفرد والمجتمع. والمرأة والرجل. والوالد والولد. والأمة والأمم على أوسع نطاق.
كيف يظلم الحاكم حين يرقب الله كأنه يراه؟ كيف تتجه نفسه إلى الشر والبطش والله يقول: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [57] (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [58] وكيف يضع في مكان العدل الذي يطلبه الله نزواته هو وهواه؟
والعدل بالنسبة للحاكم ميدان واسع فسيح، يشمل كل سياسة الحكم، وسياسة المال، وكل معاملاته " الرسمية " ومعاملاته " الشخصية ". وهو مأمور في كل منها أن يرقب الله، ويعبده كأنه يراه.
لا يمكن حينئذ أن يتعدى حدود الله أو يعتدي على حرمات الله.
فلا يمكن مثلاً أن يعلن الحرب أو يبرم السلم إلا في سبيل الله و في حدود ما بيَّن الله. والله يقول: (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). ويقول: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). ويقول: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).
ولا يركن إلى أعداء الله ولا يتخذ بطانة منهم فالله يقول: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً). ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).
وهكذا وهكذا حتى يشمل ذلك سلوكه كله، وتصرفاته كلها، منذ يتسلم الأمانة حتى يسلمها إلى الله أو إلى الناس. لا يفلت عمل واحد ولا فكرة ولا رغبة من رقابة الله ورقابة الضمير.
* * *
والمعبود كذلك حين يعبد الله كأنه يراه.
فعليه عمله يؤديه بالأمانة اللازمة والاجتهاد الواجب. لا يخدع ولا يغش ولا يتكاسل ولا يتشاغل. ولا " يسدد الخانات " دون إنتاج حقيقي. ولا يعمل على الضرر وهو عالم به. ولا يبغي الفتنة ولا الفساد في الأرض. ولا يستغل مال الدولة. ولا يطمع فيما ليس له.
ولا يقبل الظلم كذلك! فهو مكلف أن يذود الظلم عن نفسه وعن غيره، وإلا فما هو بمؤمن بالله، ولا هو يعبده كأنه يراه! (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً).
والزوج الذي يرعى الله في زوجته. والزوجة التي ترعى الله في زوجها. والوالد والولد. والجار والصديق. والجندي والقائد. والصغير والكبير...
إن المجتمع كله كله... لا شيء فيه البتة يخرج من هذه الكلمة الصغيرة التي تشمل كل شيء: تعبد الله كأنك تراه!
* * *(11/172)
وحين كان المسلمون الأوائل يعبدون الله كأنهم يرونه كانت تلك الأمة العجيبة الفريدة في التاريخ! (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).
كان الحاكم يقول: " اسمعوا وأطيعوا ما أطعت الله فيكم. فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ".
وكان يقول: " إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني "
وكان وهو يحارب كسرى وقيصر، ويواجه أكبر إمبراطوريتين في التاريخ، لا يضيق بالتقويم الذي طلبه من الناس بنفسه. فيقبل من رجل من المسلمين أن يقول له: لا سمع لك علينا اليوم ولا طاعة حتى تبين لنا كذا وكذا. فلا يغضب، بل يجيبه في الحال إلى طلبه ويبين له.
وكان يقول: لو أن بغلة بصنعاء عثرت لرأيتني مسئولاً عنها!
وكان يعمل على توطيد العدالة الاجتماعية في المجتمع حتى أمكنه - لأول مرة في التاريخ - أن يلغي الفقر من المجتمع، كما حدث أيام عمر بن عبد العزيز! وكان الجندي يقول: أليس بيني وبين الجنة إلا أن أقتل هذا الرجل أو يقتلني؟ ثم يقتحم المعركة ليصيب إحدى الحسنيين!
وكان القائد يُعزل في زهوة النصر فلا يضطغن ولا يتمرد ولا يترك ميدان القتال. وإنما يستمر يجاهد في سبيل الله جندياً لا إمارة له ولا سلطان.
وكان البائع يستحي من الله أن يكسب ما ليس له بحق، فيرد نقوداً أخذها صبيه دون علم منه من أحد المشترين. ويصر على ردها إليه حتى والمشتري يحلف بالله أنه دفعها راضياً وأن البضاعة في نظره تستحق. وكان الزوج يعاشر زوجته بالمعروف، والزوجة تصون عرض زوجها في غيبته. فيذهب إلى ميدان القتال ويغيب بالشهور وهو مطمئن إلى بيته وعرضه وماله. لا يقربها السوء!
وكان المجتمع نظيفاً...
لا تقوم علاقات الناس على الغش في البيع والشراء. لا يعهد الإنسان إلى العامل أو الصانع بالعمل وهو متوجس منه خيفة أن يغشه أو يدلس عليه أو يسرق الأمانة ويذهب إلى غير رجوع!
لا يتحدث الرجل إلى الرجل وهو يعلم أنه يكذب عليه ويخدعه. ويبادله في الوقت ذاته الكذب والخداع!
لا يكذب الوالد على أبنائه فيعلمهم الكذب بالقدوة السيئة. ولا يكذب الابن على الوالد، لأنه لا يتعامل معه، وإنما يتعامل مع الله!
ولا يسرق الشاب عرض امرأة متزوجة أو فتاة غريرة. ولا تخرج الفتاة متبرجة في سوق الفتنة تحاول أن توقع الشباب!
لم يكن الناس ملائكة! كانوا بشراً ما يزالون! ولكنهم بشر مستقيمو الفطرة لا عِوَج في نفوسهم ولا التواء. متحابون إلى الله. متعاونون على البر والتقوى لا متعاونون على الإثم والعدوان.
وكانت هناك جريمة.. فإن وجه الأرض لم يخل من الجريمة في وقت من الأوقات. ولكنها كانت الشذوذ الذي يثبت القاعدة. ولم تكن القاعدة هي الشذوذ!!
* * *
ومن ثم انطلقت هذه الأمة تنشئ تاريخاً لم يسبق في التاريخ!
ليس الفتح وحده هو الذي يلفت النظر، وإن كان حقيقاً بالتسجيل في سرعته الخاطفة التي لا مثيل لها من قبل ولا من بعد في التاريخ. ففي خمسين عاماً كان العالم الإسلامي الذي بدأ من لا شيء قد امتد من المحيط للمحيط. وكان كله - أو معظمه - قد اعتنق العقيدة الجديدة، وانقلب محارباً في سبيلها لا يهدأ حتى يراها قد بلغت إلى أفق جديد!
وإنما الذي يلفت النظر هو تلك القمم العالية التي بلغها في كل اتجاه. قمم العدالة الشامخة والعظمات النفسية والروحية التي تتكاثر وتتواكب في هذه الحقبة الصغيرة من التاريخ.
واتساع الجوانب وتعدد الآفاق. في الحرب والسلم. في السياسة والاجتماع. في الحضارات المختلفة التي استوعبها الإسلام، ومثلها تمثيلاً رائعاً فامتص ما فيها من خير، وألقى بالزبد إلى الفناء.
في الروابط القوية المتينة التي شملت العالم الإسلامي كله، وفاضت منه إلى غير المسلمين حتى وهم يكيدون للدين. وحتى وهم يحاربونه أبشع حرب وأدنسها في أيام الصليبيين.
هذه الروابط المتينة التي صنعت معجزة لم تتكرر في غير الإسلام. إذ فسدت الحكومة - مبكراً، على أيدي الأمويين والعباسيين - ولكن المجتمع ظل إسلامياً، متماسكاً، متكافلاً، تربطه روح الأخوة والمودة ما يقرب من ألف من السنين!!
* * *
ذلك كله كان أثر العبادة الحقة، التي تعبد الله كأنها تراه!
ولقد كان القدوة الكبرى في ذلك دون شك هو الرسول الأعظم، منشئ هذه الأمة ومربي قادتها وجنودها على هدي الله وهدي الإسلام.
كان صلى الله عليه وسلم يرى الله كل لحظة من لحظات حياته الطويلة العريضة الشاملة الفسيحة.
كان يراه وهو يتلقى الوحي عنه - سبحانه - فتطيقه نفسه وتستوعبه إلى الأعماق.
وكان يراه وهو ينطلق في مناكب الأرض يدعو الناس إلى هذا الوحي لكي يهتدوا به إلى الله.
وكان يراه وهو في بيته زوجاً وأبًا ورب أسرة.
ويراه وهو مع الناس وقريباً ومعلماً وهادياً إلى سواء السبيل.
ويراه وهو يقاتل في سبيل الله، وهو يعقد السلم ويرجع من جهاد إلى جهاد.
ولا نتحدث عن العبادة في الخلوة فهي في غير حاجة إلى حديث.(11/173)
يراه. ويعيش معه كل لحظات حياته، وكل مشاعر نفسه، وكل خلجاتها وكل سرها ونجواها.
ولا تضعف نفسه عن التلقي، ولا يضعف قلبه عن استيعاب النور الذي يغمره كلما رآه.
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين وسيد المرسلين
* * *
ثم كان أصحابه الذين صنعهم على عينيه، ورباهم تربية خبير عليم.
كانوا يرون الله بقدر ما تطيق نفوسهم وبقدر ما تصطبر على الأفق الأعلى المشرق المضيء الذي لا تحتمله النفوس، إلا أن تقبس قبسات من فيض الله الغامر، وقبسات من الرسول.
ثم كانت نفوس على مدار الزمن تتفرق أحياناً، وتجتمع أحياناً، تعيش على حب الله والعمل في سبيله، وعبادته كأنها تراه.
وما تزال هذه النفوس حيثما لقيها الإنسان، يحس في الحال بالفارق الحاسم بينها وبين الذين لا يعبدون الله، أو الذين يعبدونه على حرف فإن أصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابهم شر انقلبوا على أعقابهم.. خسروا الدنيا والآخرة.
تحس على الفور حين تلقى أحداً منهم أنك أمام " إنسان ". إنسان بهذا المعنى الذي كرمه خالقه وفضله على كثير ممن خلق. إنسان تأنس إليه وتستريح عنده، تستريح في تعاملك معه وفي علاقاتك. تستريح إلى الاستقامة النظيفة التي لا عوج فيها ولا التواء.
وتحبه..
لا تملك إلا أن تحبه ولو خالفك في أفكارك وأعمالك ومشاعرك واتجاهاتك.
تحبه لأن فيه قبسة من نور الله... وتحاول - إن استطعت - أن تقفو خطاه..
ومن ثم كان حرص الإسلام ونبي الإسلام، وهو يعلِّم الناس دينهم. أن يبين لهم الإحسان. ويصفه لهم في أخصر لفظ وأجمله. " تعبد الله كأنك تراه ". ويوقظ قلوبهم بوجدان التقوى وخشية الله: " فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
ومن ثم كذلك كان حرص الإسلام ونبي الإسلام، على ألا يقف الناس عند أول مراتب الإسلام ولا أول مراتب الإيمان. إنما يحاولون بلوغ الإحسان، ويحاولون على الدوام!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[45] رواه مسلم. من حديث طويل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: " بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه ووضع كفيه على فخديه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. ".
[46] سورة ق [ 16 ].
[47] سورة غافر [ 19 ].
[48] سورة طه [ 7 ].
[49] سورة الحاقة [ 18 ].
[50] سورة الحج [ 78 ].
[51] سورة البقرة [ 286 ].
[52] سورة التغابن [ 16 ].
[53] سورة آل عمران [ 14 ].
[54] سورة آل عمران [ 134 - 136 ].
[55] سورة الفرقان [ 70 ].
[56] سورة الزمر [ 53 ].
[57] سورة المائدة [ 8 ].
[58] سورة النساء [ 58 ].
[59] رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
==============================
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(6) وليرح ذبيحته
" إن الله كتب الإحسان على كل شيء ؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته " [59].
* * *
يا الله! يا رحمة نبيه..!
" وليرح ذبيحته ".. ومتى؟ وهو مقدم على ذبحها!!
ألا إنها رحمة أنبياء. ألا إنها روح الله.
إنه مرتقى للمشاعر البشرية يبلغ القمة التي ليس وراءها شيء. إلا ذلك النور الأعظم الذي ينير الكون كله وينفذ إلى قلوب الكائنات.
إنها الرحمة التي لا تقف عند الأناسى من الخلق، ولا يحكمها انحياز الإنسان لنفسه واعتداده بجنسه. وإنما تتعداها إلى المجال الواسع الفسيح الذي يشمل كل الأحياء في الكون.
ثم لا تقف عند هذا المدى - وهو في ذاته قمة عالية - وإنما ترتقي درجة أخرى!
فالرحمة بالأحياء درجة " مفهومة " على أي حال، سواء وفق إليها القلب البشري أم انحرف عنها وشذ.
مفهوم أن تقول لي: لا تقتل هذا العصفور. فإنه ضعيف مسكين. وهو جميل لطيف لا يستحق القتل.
ومفهوم أن تقول لي: لا تقتل هذه الفراشة الطائرة القافزة الرشيقة، فإنك لن تستفيد شيئاً من قتلها، وهي في رشاقتها اللطيفة جمال يحسن أن تمتع به حسك وروحك.
بل مفهوم أن تقول لي: لا تقتل هذه الزهرة الجميلة - حتى إن كانت لا تتألم للقتل - فهي على غصنها هكذا جميلة.. أجمل منها في يدك أو في عروة ثيابك.
كل ذلك مفهوم. والقلب البشري الطيب يمكن أن يوجه إليه في يسر، فيعتاده فيصبح من طباعه.(11/174)
ولكنها درجة - وراء هذا المفهوم - أعلى وأشف - أن أقول لك: هذه الذبيحة التي ستذبحها، والتي لن تكون حية بعد لحظات.. أحْسِنْ ذبحتها ولا تطل آلامها ولا " تمتها موتات " كما ذكر البخاري في حديث قريب من هذا الحديث [60].
وليرح ذبيحته!
إنها كلمة تهز الوجدان هزاً وهي تذبح. وهي تساق إلى العدم. إلى الفناء. إلى حيث لا توجد ولا تشعر.
ما القيمة " العملية " لإراحة الذبيحة هذه الثواني المعدودة التي تنتقل فيها من عالم الوجود إلى عالم الفناء؟ بل ما قيمة إراحتها وأنت مقبل على إيلامها أشد ألم يمكن أن تتعرض له وهو الذبح؟
في الظاهر.. لا شيء!
وفي الباطن.. كل شيء!
إن الذبيحة ميتة ميتة. أرحتها أم لم ترحها. وهي متألمة متألمة، سواء قطر قلبك رحمة بها أم كنت تذبحها مجرد القلب من المشاعر متلبد الوجدان. وهي لن تلقاك بعد اليوم فتشكو إليك عنفك معها، إن كنت ممن يفهمون عن هذه الخلائق، ويجاوبون ما يصدر عنها من الأحاسيس. ولن يضيرها كثيراً - وهي مسوقة إلى الفناء الكامل الوشيك - إنها ذاقت - قبل ذلك بلحظة - شيئا من الغلظة أو شيئاً من الجفاء!
إذن فما القيمة العملية بالنسبة للذبيحة.. لا شيء!
ولكن القيمة " العملية " لك أنت.. كل شيء!
وهل ثمة شيء أكبر من أن يكون لك قلب إنسان؟!
* * *
وكذلك الشأن في أمر القتل..
" فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ".
والمسلم - المخاطب بهذا القول من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقتل إلا بالحق: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) [61] (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً.. وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) [62] (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [63] " كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله " [64].
لا شبهة إذن في أن الشخص الذي يقتله المسلم مستحق للقتل. مستحق لأنه كافر، أو مرتد، أو قاتل، أو زان محصن، أو مفسد في الأرض، مثير للفتنة، خارج على السلطان القائم على شريعة الله.
ولا شبهة في أن هذا القتل يتم بإذن من الله. بل بأمر منه وتحريض: (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) [65]
ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بإحسان القتل!
ونعود إلى قصة الذبيحة فنراها تنطبق مرة أخرى على القتيل.
إن القتيل لن يستفيد شيئاً من أن تحسن قتلته. فهو مفارق الدنيا. والألم واقع به ما له عنه من محيص. فيستوي أن تحسن أو لا تحسن أو أن الفارق في الحقيقة ضئيل.
فما القيمة العملية من إحسان القتل بالنسبة للقتيل؟ لا شيء بطبيعة الحال!
ولكن القيمة الكبرى - مرة أخرى - هي لك أنت. هي أن يكون لك قلب إنسان!
* * *
ولكن حديث الرسول الكريم لا يقف عند هذين الأمرين: الذبحة والقتلة، وإنما يسوقهما فقط على سبيل المثال.
وبسبب هذين المثالين قد يغلب على الظن أن الرحمة وحدها هي المقصود من الحديث.
ولكن الأمر ليس كذلك. فالمقصود هو " الإحسان ". والرحمة صورة من صور الإحسان.
" إن الله كتب الإحسان على كل شيء " والإحسان - هنا، كما في الحديث السابق - هو الأداء الحسن. الأداء الكامل. الأداء المتقن. الأداء الجميل.
والمثالان المذكوران هما المشير الذي يبين الاتجاه. الاتجاه إلى " الإنسانية ".
إن الخلاصة المستفادة من المثالين: أن الإنسان لا ينبغي أن يندفع مع دوافعه الطبيعية ويترك لها العنان. إنما ينبغي وهو يأخذ في التنفيذ أن يهذب الوسائل وينظف الأداء، ليكون جديراً بتكريم الله له والخلافة في هذه الأرض.
ومن ثم فالحديث واسع شامل يشمل كل عمل وكل فكرة وكل شعور.
إنه بنص اللفظ يشمل " كل شيء ". هكذا على الاتساع. وهو يعبر عن فكرة إسلامية أصيلة، أو فكرتين تلتقيان عند هدف واحد.
أن الإسلام لا يكتفي بأداء الأعمال - كل الأعمال - على أية صورة، وإنما يتطلب " الإحسان " في الأداء.
وإنه لا يقنع من الناس أن يؤدوا ضروراتهم بلا زيادة، بحجة أنها ضرورة، وإنما يتطلب الإحسان في التنفيذ.
المعنى الأول واضح في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه " [66] وواضح كذلك في أمر الذبحة والقتلة.
فالمطلوب هو الإتقان الذي تصحبه مشاعر الإنسانية. ويصحبه الإحساس بالله في قرارة الضمير، والعمل من أجل خشيته ومن أجل مثوبته ورضاه. " تعبد الله كأنك تراه ".
والمعنى الثاني واضح في سيرة الرسول وأحاديثه الكثيرة التي تهدف إلى تهذيب النفس، خاصة وهي تؤدي ضروراتها الغليظة التي ليس عنها محيص.
ونضرب مثالين من أدق الأمثلة وأدلها على ما نريد: قضاء " الضرورة " وشئون الجنس.(11/175)
" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتناجى اثنان على غائطهما، ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه، فإن الله يمقت ذلك " رواه أبو داود وابن ماجه.
" عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق والظل " رواه أبو داود وابن ماجه
وعن أبي أيوب: " إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره. شرقوا أو غربوا " رواه البخاري.
" وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يستقبل القبلة ولم يستدبرها في الغائط كتب له حسنة ومُحي عنه سيئة " رواه الطبراني.
والأحاديث في هذا الموضوع كثيرة من أن تورد كلها. وهدفها كلها واحد. هو تهذيب القيام بهذه الضرورة، وإحاطتها بآداب معينة تلطف غلظتها وتخفف من معنى " الضرورة " فيها. إذ تجعلها سلوكاً وأدباً فيه " اختيار " وترفع.
وقد لا تبدو لنا اليوم - الدلالة الكاملة لهذه التوجيهات. إذ صار لقضاء الضرورة أدوات نظيفة ووسائل مهذبة. ومع ذلك فما زال في المدينة - وفي العاصمة ذاتها - قوم يقضون حاجاتهم على قارعة الطريق وأمام الناس. أما الريف...!
ولكن الدلالة النفسية لا ينبغي أن تفوتنا على أي حال. فالتهذيب فيها واضح. وواضح كذلك محاولة رفع " الإنسان " عن مستوى الحيوان، حتى وهو يقضي ضرورته التي يشترك فيها مع الحيوان.
أما الجنس فأمره أعجب وأوضح دلالة.
ليس في الأرض شريعة ولا نظام يعترف بالجنس نظيفاً كريماً كالإسلام.
يكفي أن نذكر فقط أن الإسلام وهو يأتي زوجه يذكر اسم الله الكريم. وليس في الإسلام أقدس من ذكر الله، ولا أنظف مما يقرأ اسم الله عليه.
والإباحة فيه - في حدوده الشرعية، أي الزواج - أوضح من أن تحتاج إلى دليل.
(نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [67]
" إن في بضع أحدكم لأجراً. قالوا يا رسول الله إن أحدنا ليأتي شهوته ثم يكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " [68].
وغيرها وغيرها كثير...
والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ من هذا المباح بقسط كامل لا شبهة فيه، واستمتع منه بكل ما يحل لمسلم أن يستمتع به في هذه الحياة.
ومع ذلك فلينظر كيف كان الأمر...
تروي السيرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يغطي وجه زوجته حين يضاجعها في الفراش.. وروى الخطيب من حديث أم سلمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغطي رأسه ويغض صوته ويقول لامرأته: "عليك بالسكينة".
* * *
الحياء والترفع إلى هذا الحد!
ليس الجنس شهوة الحيوان الجائع الذي لا يملك نفسه أن يندفع هائجًا إلى التنفيذ.
وليس غلظة الشبق التي تتلمظ على متاع لذيذ.
وليس نزوة الجسد الفائر التي تختنق في بخارها عاطفة القلب وإشراقة الروح.
ومع ذلك فإن دعوة الرسول للناس أن يهذبوا العمل الجنسي لم تكن دعوة إلى الزهادة أو إطفاء المتعة أو تبريد حرارتها.
كلا! على العكس من ذلك. لقد كان يدعوهم إلى المتاع ويحببهم فيه بل كان في الواقع يوسع مساحته في النفس، ويزيد من متعته، حين يرفعه من لهفة الجسد الخالصة إلى " عواطف " " ومشاعر " " ومودة ".
فقد كان ينهى عن المواقعة دون رسول يسبقها ويمهد لها من مداعبة وعواطف جياشة.
وليست هذه دعوة الذي يريد أن يحرم الناس من المتاع أو يفسده عليهم. بل دعوة من يريد تهذيبهم ورفعهم من مستوى الحيوان إلى مستوى الإنسان، مع " إحسان " تلذذهم بهذا المتاع، حتى يصبح متاعاً " جميلاً " تدخل فيه كل عناصر النفس، ويدخل فيه " الفن " بتعبيره الجميل.
والقرآن يصف الصلة بين الرجل والمرأة على أنها " سكن " و " مودة ": (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [69]. وهو تعبير جميل أخاذ يشمل كل صلات الجنس، ولكنه يشملها في مستواها الأرفع. في مستوى " الإنسان ".
* * *
ذلك هو الإحسان في شئون الجنس. وهو أمر واضح الدلالة على نظرة الإسلام لهذه الأمور.
الضرورة تُقضى. نعم. لا كبت ولا حجران. ولا استقذار للدوافع الفطرية في ذاتها. ولا الإحساس بالذنب عند الإتيان. ولكنه التنظيف رغم ذلك وتهذيب الوجدان.
والجنس - من كثرة ما أبدى في شأنه فرويد وأعاد - مظنة أن تكون الأديان تستقذره وتنفّر منه. والإسلام بخاصة لا يجنح لحظة واحدة لهذا الاستقذار. لكنه - وهو يحض على الإحسان في كل شيء - يحض كذلك عليه في شئون الجنس، حتى وإن كان يشترك في الضرورة مع الحيوان.
والدليل القاطع على أن هذه قاعدة عامة في الإسلام لا يختص بها الجنس وحده، وإنما تشمل كل تصرفات الإنسان وضروراته، الدليل على ذلك هو آداب الطعام.
فليس ثمت شك في أن الطعام طاهر نظيف مباح. بل مأمور به (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) [70].(11/176)
ومع ذلك فله آداب. آداب تهذب تناوله، وتكسر شراهته، وترتفع به عن محيط الحيوان إلى محيط الإنسان.
" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُتنفس في الإناء أو ينفخ فيه " رواه أو داود والترمذي.
" عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: أكلت ثريدة من خبز ولحم ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أتجشأ، فقال: "يا هذا كف عنا من جشائك! فإن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أكثرهم جوعاً يوم القيامة "! رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.
فهو الإحسان إذن. وليس المنع والحجران.
* * *
ونحن - في القرن العشرين - أحوج ما نكون إلى هذه الحكمة من الرسول صلى الله عليه وسلم.
إننا نعيش في قرن يؤمن بالإحسان في العمل بمعنى الإخلاص والإتقان. وإن كنا نحن مع الأسف - في العالم الإسلامي الذي تلقى عن نبيه هذا التوجيه - ما نزال بعيدين عن هذه الروح.
ونحن نعيش كذلك في قرن يؤمن بالتهذيب في كثير من أمور الدنيا: في تناول الطعام، وقضاء الضرورة، والوقوف في الصف أثناء شراء تذاكر السينما، والاعتذار المؤدب عن أقهل هفوة، وإزجاء الشكر على أبسط الخدمات.
ولكنه مع ذلك لا يؤمن بالتهذيب في شئون الجنس. ويقول عنه إنه نفاق!
ولا نقصد بالتهذيب ما كان يصنع الرسول في فراشه. فذلك مرتقى رفيع لا يطيقه الكثيرون.
ولا نقصد كذلك ما أوصاهم به في فراشهم من تحويل الجنس إلى مشاعر ومودة وأخذ وعطاء.. فذلك شأنهم غن أرادوا أن يستفيدوا بنصيحة الرسول فلأنفسهم الفائدة، وهم الذين سيزدادون متعة وهم يوسعون مساحة الجنس في نفوسهم، فلا تقف عند متعة الجسد، بل تصبح علاقة جسد وعلاقة قلب وعلاقة روح كلها في آن.
وإنما نقصد مستوى أدنى من ذلك وألصق بحياة الجماعة كلها لا بحياة الأفراد.
تلك هي " الفضيلة " بمعناها الاجتماعي. أن يكون الجنس في حدوده المشروعة ولا يكون نهباً مباحاً للأجساد الظامئة على قارعة الطريق..
ذلك هو الذي يسمونه نفاقاً في القرن العشرين!
ولماذا هو نفاق؟ لأن الجنس " ضرورة " بيولوجية، فلا شأن له بالأخلاق!
وي!؟ والطعام ليس ضرورة؟ والملبس ليس ضرورة؟
فلماذا تحتفلون كل هذا الاحتفال " بآداب " المائدة و " أصول " الملبس ولا تكتفون فيهما بقضاء الضرورات؟
* * *
ونحن نتحدث هنا عن " الإحسان " ولا نتحدث عن الأخلاق!
نريد أن نرتفع عن مستوى الضرورة. نريد أن نتذوق الآفاق العليا التي يرفعنا إليها الإسلام.
نريد أن نتذوق طعم " الإنسانية " فإنه والله طعم جميل حين تتوجه له النفس، وحين يؤمن الإنسان أنه إنسان!
الجمال فطرة " الطبيعة ". فطرة الحياة التي خلقها الله.
والحياة لا تكتفي بقضاء الضرورة، ولكنها تهدف دائماً إلى الإحسان في الأداء.
أرأيت هذه الزهرة الجميلة الفياحة الشذى المتناسقة الألوان؟
أتظن أن ذلك " ضرورة "؟
قالوا: لتجتذب إليها النحل فينتج منها العسل غذاء وشفاء للناس! وتساعد كذلك في تلقيح النبات!
فهل تظن ذلك؟ هل من " الضرورة " بالقياس إلى النحل أن يكون في الزهرة كل هذا الجمال؟
كلا والله! فالنحل خَلْق متواضع! وإنه ليحط على الزهرة الرائعة التناسق كما يحط على الزهرة العادية الجمال
فليس جمال الزهرة إذن ضرورة! وكل الأهداف " البيولوجية " يمكن أن تتم في أبسط زهرة كما تتم في أجمل الأزهار.
ورأيت هذه " الطبيعة "؟
رأيت حمرة الشفق المبدعة ورأيت جمال الصبح الوليد؟
رأيت روعة الجبال تبهر الأنفاس وتهز الوجدان؟
والبحر الممتد إلى غير نهاية منسرب الموج، تراه في الليل الساكن كأنما تعمره الأطياف.. أو الأشباح؟
والليلة القمراء.. هل " ذقتها "؟ و " ذقت " طعم السحر في ضوئها، وظلها، وأطيافها الساربة وحديثها المهموس؟
هل تظن ذلك ضرورة؟
وأين هي الضرورة في ذلك كله، والحياة ممكنة ومستطاعة بغير هذا الجمال؟
ورأيت هذا الوجه الرائع؟
هاتان العينان الحالمتان اللتان يطل منهما عالم عميق الأغوار.. تلك التقاطيع المنسقة.. هذا المعنى المعبر.. تلك " الروح " التي تطل من وراء القسمات؟
تظن ذلك ضرورة؟ وما الضرورة؟
أليست كل العمليات " البيولوجية " من طعام وشراب وتنفس تتم في أقبح وجه وأجمل وجه على السواء؟
بل.. نداء الجنس ذاته. ألا يتحقق في كل أنثى وكل ذكر بصرف النظر عن ذلك الجمال؟
كلا. إنه ليس " ضرورة ".. وإنما هو " جمال ".
هو " إحسان " في الأداء لا مجرد الأداء!
تلك فطرة الحياة كما خلقها الله.. فطرة " الطبيعة ".
والإسلام دين الفطرة..
يلتقي مع ناموس الحياة الأكبر. لأنه منزل من عند الله خالق الحياة، وخالق الفطرة التي يسير عليها الكون والحياة.
لذلك لا يكتفي الإسلام من الإنسان بمجرد أداء الضرورة. لأنه حينئذ يكون متخلفاً عن الحياة، ناشزاً عن فطرتها، متأخراً إلى الوراء.
وهو الحياة في أعلى آفاقها - يريد أن يكون الإنسان واصلاً إلى الحياة، منسجماً معها، مساوقاً لها، ملتقياً معها في كل اتجاه.(11/177)
لذلك يعمد إلى تهذيب النفوس. يدخل في أعماقها، ويسكن في أطوائها، ويوجهها من باطنها. يوجهها إلى الجمال. إلى الإحسان. الإحسان في كل شيء. الإحسان في الأعمال والإحسان في الأفكار والإحسان في المشاعر.
" إن الله كتب الإحسان على كل شيء "..
وحين تتجه النفس إلى الإحسان. حين تتهذب المشاعر وينظف السلوك. حين تخرج الضرورة عن قهرها القاهر فتصبح سلوكاً مهذباً " تختاره " النفوس، وتتفاضل في أدائه..
حينئذ يلتقي الإنسان مع الكون والحياة..
يلتقي معهما في نظرة واحدة شاملة رفيعة. اسمها الإحسان. أو اسمها الجمال.
والله جميل يحب الجمال.
ــــــــــــ
[60] " أتريد أن تميتها موتات؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟ ".
[61] سورة الإسراء [ 33 ].
[62] سورة الفرقان [ 63 - 68 ].
[63] سورة المائدة [ 32 ].
[64] رواه الشيخان.
[65] سورة النساء [ 84 ].
[66] رواه البيهقي.
[67] سورة البقرة [ 223 ].
[68] رواه مسلم.
[69] سورة الروم [ 21 ].
[70] سورة الأعراف [ 31 ].
==========================
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(7) وتبسمك في وجه أخيك صدقة
عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس". قيل: يا رسول الله من أين لنا صدقة نتصدق بها؟ فقال: "إن أبواب الخير لكثيرة: التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق وتسمع الأصم وتهدي الأعمى وتدل المستدل عن حاجته. وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف. فهذا كله صدقة منك على نفسك". رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي مختصراً. وزاد في رواية: "وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم من طريق الناس صدقة، وهديك الرجل في أرض الضالة لك صدقة " [71].
* * *
هذا الحديث العجيب لا يملك الإنسان أن يمر به دون أن يقف عنده لحظات يتدبر بعض معانيه.
وإن له لإيحاءات شتى، يدق بعضها ويلطف، حتى يصل إلى أعماق النفس، إلى قرار الوجدان، فيهزها هزاً، ويوقع على أوتار القلب لحناً صافياً مشرقاً جميلاً يأخذ بالألباب.
وسنختار هنا من المعاني الكثيرة التي يوحي بها الحديث معنيين رئيسيين: أولهما تفجير منابع الخير في النفس البشرية، وثانيهما: ربط المجتمع برباط الحب والمودة والإخاء. وقد نلم ببعض المعاني الأخرى في أثناء الحديث.
* * *
الصدقة في مفهومها التقليدي نقود وأشياء محسوسة يساعد بها الغني الفقير، ويمنحها القوي للضعيف. وهي بهذا المعنى ضيقة المفهوم جداً، وأثرها في حياة المجتمع محدود. ولو أنها ظلت قروناً طويلة مظهراً من مظاهر التكافل الاجتماعي، ورباطاً من روابط المجتمع، وأداة لتطهير الأغنياء من الشح، وإعانة الفقراء على الحياة..
وبصرف النظر عن هدف الإسلام الأصيل في أن يكتفي الناس بعملهم الخاص فلا يحتاجون للصدقات - ذلك الهدف الذي تحقق في عهد عمر بن عبد العزيز إذ يقول يحيى بن سعيد: " بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد بها فقيراً، ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس.. "
بصرف النظر عن هذا الهدف النهائي، فقد كانت الصدقات وسيلة احتياطية في المجتمع، طالما أن الفقر موجود، وإلى أن تتمكن الدولة - كما تمكنت في عهد عمر بن عبد العزيز - من إغناء الناس عن غير هذا الطريق.
ولكن الحديث النبوي يخرج بالصدقة من معناها التقليدي الضيق. من معناها الحسي، إلى معناها النفسي. وهنا تنفتح على عالم رحيب ليست له حدود.
كل خير صدقة.. وعلى كل امرئ صدقة..
هكذا في شمول واسع لا يترك شيئاً ولا يضيق عن شيء!
كل خير صدقة. أو ليس ذلك حقاً؟!
ومن أين تنبع الصدقة التقليدية بمعناها الحسي الضيق الحدود؟
أو ليست تنبع من معين الخير في النفس البشرية؟ بلى! إن هذا هو معينها الوحيد. وإلا فهي رياء كاذب، وهي دنس لا يصدر عن نفس نظيفة. وليس ذلك بطبيعة الحال هو المقصود.
فإذا كانت الصدقة تنبع من معين الخير، فإن حديث الرسول الكريم لا يزيد على أن يرجع مباشرة إلى هذا المعين، يستجيشه ويستدره، ليتفتح ويفيض، ويتدفق في كل اتجاه.
الخير هو معين الصدقة. فليكن كل خير صدقة! كل ما ينبجس من هذا المعين. كل ما يخرج من هذا النبع الطاهر النظيف، هادفاً إلى الخير محققاً له في واقع الحياة.
والصدقة ما هي؟ أليست " إعطاء "؟
بلى، إنها كذلك فليكن إذن كل إعطاء صدقة! حتى تبسمك في وجه أخيك.. صدقة!
إنه ذات المنبع ؛ وهي عملية نفسية واحدة في جميع الأحوال!(11/178)
إن " الحركة " النفسية التي تحدث في داخل النفس وأنت تهم بإعطاء القرش للرجل المحتاج، أو تعين عاجزاً على اجتياز الطريق، أو تساعد إنساناً على رفع حمل.. إنها هي ذاتها التي تحدث في نفسك وأنت ترفع حجراً من الطريق حتى لا يعثر فيه الناس، وهي ذاتها التي تدفع الابتسامة إلى وجهك حين ترى وجه أخيك..
إنك لو جسّمت مشاعر النفوس، فتخيلتها جسوماً متحركة.. لرأيت صورة واحدة في كل مرة: صورة " النفس " وهي تحرك يدها من الداخل حركة الإعطاء!
خذ! خذ هذا القرش. أو خذ هذه المعونة.. أو خذ هذا الشعور!
منبع واحد. وحركة واحدة في جميع الأحوال.
ودافع واحد..
فالذي يدفعك إلى إعطاء الصدقة للمحتاج هو شعور " إنساني ". وقد يكون من الصعب أن تحدد معنى لهذا اللفظ الدقيق. فهو في بساطته وشموله معجز كالإنسانية!
قد يكون شعورك واضحاً: هذا أخوك في الإنسانية. تحس بينك وبينه هذه الآصرة التي تربط أفراد الجنس الواحد، وتقرب بينهم، وتدعوهم إلى التعاون الوثيق.
وقد يكون شعورك مبهماً. وجدان غامض. خيوط خفية تنبع من قلبك حتى تصل إلى قلبه، فتربط بينهما برباط دقيق. أو هزات كالهزات المغناطيسية أو الكهربائية التي تنتشر في الجو، حتى " يلتقطها " المستقبل من بعيد.
هذا الشعور الإنساني - الواضح أو المبهم - الذي يدفعك إلى إعطاء الصدقة للمحتاج، أليس هو ذاته الذي يحنيك على الحجر فتلتقطه بعيداً عن أقدام المارة؟ أو ليس هو كذلك الذي يشيع البسمة في وجهك حين تلقى الناس؟!
هي عملية واحدة في داخل النفس.. ولكننا لا ندركها دائماً على حقيقتها.
والرسول الكريم يلفتنا في حديثه إليها. يلفتنا إلى هذه الحقيقة النفسية الواحدة التي تكمن وراء كل عمل من أعمال الخير. لنعرف أنه الخير في منبعه وإن تعددت صوره وزواياه.
ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم لا يريدنا أن " نعرف " فحسب!
فالمعرفة التي لا تنتهي إلى شيء ليست هدفاً من أهداف الإسلام ولا من أهداف الحياة العملية!
كل شيء ينبغي أن تكون له غاية. وغاية الغايات في الأرض أن يكون الخير هو المسيطر على حياة البشرية. فالخير هو كلمة الله. وكلمة الله هي العليا.
ومن هنا تلتقي الأرض والسماء، والدنيا والآخرة في رصيد الإسلام.
والرسول الكريم يريد أن " يعودنا " على الخير، لا أن " يعرفنا " إياه فحسب.
" وعلى كل امرئ صدقة.. ".
إنه يريد كلاً منا أن تتحرك نفسه بالخير. يريد أن يستثير تلك الحركة الداخلية التي تمد يدها بالعطاء. والحياة عادة. والعادة تعدى من نفس إلى نفس. بل تعدى من شعور إلى شعور في باطن النفس!
حين تتعود النفس أن تستيقظ، أن تنهض من سباتها وتتحرك، وتمد يدها من الداخل بعمل أو شعور. حين يحدث هذا مرة، فسوف يحدث مرة بعد مرة. وستتعدد صور الإعطاء حتى تشمل من النفس أوسع نطاق.. حتى تشمل في الواقع كل تصرف وكل شعور.
وتبدو حكمة الرسول في توسيع مدى الخير، وتعديد صوره وأشكاله، وتبسيطها كذلك حتى تصبح في متناول كل إنسان!
فلو كانت " الصدقة " أو الخير قاصراً على المحسوسات والأموال، فسيعجز عنها كثير من أفراد البشرية، وتبقى ينابيع ثرة في باطن النفوس، لا يستثمرها أحد، ولا يستنبط من معينها الغزير.
ولكن اليد الحكيمة الماهرة تعرف كيف تسيل الخير من هذه النفوس. لمسات رفيقة حانية من هنا ومن هناك تفتح المغلق وتبعث المكنون.
والرسول الكريم يلطف في معاملة البشرية كالأب الحنون يلطف مع أولاده، وهو يخطو معهم خطوة خطوة في الطريق. إنه ييسر لهم الأمر. ويوحي إليهم أنه في مقدورهم بلا تعب ولا مشقة. وحينئذ يصنعونه ولو كان فيه مشقة!!
تلك أفضل وسائل التربية وأحبها إلى النفوس.
وهي ليست ضحكاً على الناس ولا استدراجاً لهم! حاش لله!
إنها كلها حقيقة. فالخير نبع واحد داخل النفس. وكل صوره صورة واحدة.
ولقد نظن، لأول وهلة، أن بعض هذه " الصدقات " أهون من أن تكون صدقة. وأنها لا يجوز أن تدرج مع غيرها في سلك يشمل الجميع.
وقد يكون أقرب شيء إلى هذا الظن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وتبسمك في وجه أخيك صدقة. وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة".
ومع ذلك فجربها إذا أردت. أو تتبعها في محيط الناس..
إن تبسمك في وجه أخيك، الذي يبدو لك هيناً حتى ما يصح أن يوضع في الصدقات.. لهو أشق شيء على النفس التي لم تتعود الخير ولم تتجه إليه!
هناك أناس لا يتبسمون أبداً، ولا تنفرج أساريرهم وهم يلقون غيرهم من الناس!
إنهم شريرون أو في نفوسهم مرض. وينابيع الخير مغلقة في نفوسهم وعليها الأقفال.
وهناك ناس يبخلون عليك بقطرة من ماء! الماء الحقيقي لا على سبيل المجاز!
إن المسألة ليست البسمة ولا نقطة الماء. إنها الإعطاء. إنها الحركة التي تتم في داخل النفس. إنها فتح القفل المغلق. أو تحرك اليد النفسية وانبساطها إلى الأمام..(11/179)
عملية واحدة في جميع الحالات.. إما أن توجد، فتقدر النفس على الخير. تقدر على الإعطاء والمودة. وإما ألا توجد، فيستوي الهين والعظيم، وتغلق النفس عن جميع الصدقات.
* * *
والرسول المربي لا يريد أن يعرفنا بمنابع الخير فحسب، ولا أن يعودنا على الخير فحسب. ولكني ألمح من وراء تعديد الصدقات، وتبسيطها حتى تصبح في متناول الجميع، معنى آخر..
الإعطاء حركة إيجابية. ولذلك قيمة كبرى في تربية النفوس.
فالنفس التي تتعود الشعور بالإيجابية نفس حية متحركة فاعلة. بعكس النفس التي تتعود السلبية فهي نفس منكمشة منحسرة ضئيلة.
والرسول صلى الله عليه وسلم يريد للمسلم أن يكون قوة إيجابية فاعلة، ويكره له أن يكون قوة سلبية حسيرة.
والشعور والسلوك صنوان في عالم النفس، كلاهما يكمل الآخر ويزيد في قوته.
ومن هنا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يصف حتى الأعمال الصغيرة والهينة بأنها صدقة. بأنها إعطاء.
مرة أخرى كالأب مع أبنائه..
فأنت حين توحي لطفلك أن الدور الذي قام به في العمل دور هام ومثمر، وقد أدى إلى نتيجة، فإنك تشجعه على مزيد من العمل ومزيد من الإنتاج. أما إذا رحت تصغر من شأنه، وتشعره أن أعماله تافهة بالقياس إلى المطلوب منه، فإنك تشجعه على الانحسار داخل نفسه، والانصراف عن كل عمل يحتاج إلى مجهود.
والرسول يشجع الناس على الإحساس بإيجابيتهم، حتى في الأعمال التي قد تبدو صغيرة في ظاهرها، ليحسوا أن كيانهم يتحقق في عالم الواقع، في عالم السلوك. فيزيدهم ذلك إقبالاً على العمل في ميدان الخير، ويشجعهم على الصعود باستمرار.
وفي تسمية هذه الأعمال " بالصدقات " أمر آخر من وراء التعبير.
فالصدقات بمعناها الحسي الضيق، تقسم الناس آخذين في جانب ومعطين في جانب. وقد توحي إلى الآخذين الشعور بالضآلة والضعف، وتغري المعطين بالخيلاء والغرور.
وذلك تقسيم للمجتمع سيئ غاية السوء.
ولكن توسيع نطاق الصدقات حتى تشمل كل شيء وكل عمل متجه إلى الخير، يلغي التقسيم الأول، ويتيح لكل إنسان - بصرف النظر عن فقره وغناه - أن يكون معطياً واهباً للآخرين. ومن ثم يجعل الناس كلهم - بحركة واحدة - آخذين ومعطين على قدم المساواة، وشركاء في ميدان واسع فسيح!
وذلك ولا شك منهج بارع في تربية النفوس، فوق أنه يقرر مفهوماً آخر من مفاهيم الإسلام الأصيلة: أن القيم التي تحكم الحياة ليست هي القيم المادية وحدها. أو الاقتصادية وحدها. وإنما القيم الشعورية والوجدانية كذلك. بل هذه الأخيرة هي الأصل الذي تقوم عليه علاقات البشرية!
* * *
وقد افتتن الناس دائماً بالقيم المادية وحسبوها قوام الحياة. القدماء في ذلك والمحدثون سواء. وحين تنطمس بصائر الناس عن منابع الخير الحقيقية، وتنحسر نفوسهم عن حقيقة الكون الواسعة، فإنهم لا يرون إلا القيم المادية، ولا يدركون إلا ما تدركه الحواس. ولكن الإسلام حرص على توسيع الحياة وتجليتها في صورتها الحقيقية. لم يهمل عالم المادة، ولم يهمل ضرورات الحياة. بل أعطاهما عنايته الكاملة كما يتضح في التفصيلات الدقيقة التي يشملها الشرع، والإضافات الدائمة التي أضافها الفقه الإسلامي على مدى القرون ولكنه لم يقف عند هذه الأمور وحدها، لأن الحياة في واقعها لا تقف هناك. وإنما تتعداها إلى آفاق أوسع وأرحب، وإلى مستويات أكبر وأعلى.
والإسلام دين الحياة الكامل، ومن ثم يشمل الحياة كلها في جميع الآفاق وجميع المستويات، على نظافة في الأداء ونظافة في السلوك.
إنه كصاحب الأرض الخصبة لا يزرع منها جانباً ويهمل الجانب الآخر، أو يدعه تنبت فيه حشائش السموم. إنه يحس بالقيمة الكبرى لتلك الأرض الثمينة، ويحس بالخسارة التي تنشأ من تعطيلها أو إهمال بعضها، ومن أجل ذلك ينقب في كل مكان في النفس حتى يمكن أن تنبت فيه نبتة الخير، فيزرعها ويجني من زرعها الثمار.
وحين يحرص الإسلام على أن يظل ينبوع الخير في النفس الإنسانية ثرًّا يفيض بالخير ولا ينضب، فإنه يضمن أن تقوم بين البشر روابط أمتن بكثير وأوثق من تلك التي يمكن أن يقيمها الاقتصاد أو تقيمها العلاقات المادية. بل يضمن أن تكون رابطة حية وخيرة، لا يأكلها الحقد، ولا تسري إلى القلوب مع " تنظيماتها " الصلادة والجفاف.
* * *
وأي رابطة يمكن أن تربط القلوب أقوى من المودة والحب؟
(.... وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [72].
إنها هبة الله..
والنعم المادية أو الاقتصادية كذلك هبة الله.
ولكن الآية تضع كلاً في مكانه في ميزان القلوب وميزان الحياة!
لا يكفي المال وحده لتأليف القلوب. ولا تكفي التنظيمات الاقتصادية والأوضاع المادية.
لا بد أن يشملها ويغلفها ذلك الروح الشفيف المستمد من روح الله. ألا وهو الحب.
الحب الذي يطلق البسمة من القلب فينشرح لها الصدر وتنفرج القسمات.. فيلقى الإنسان أخاه بوجه طليق.(11/180)
ذلك الحب هو الذي يصنع المعجزات. هو الذي يؤلف القلوب. هو الذي يقيم البناء الذي لا يهدمه شيء ولا يصل إليه شيء.
" جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي يوماً يطلب منه شيئاً فأعطاه، ثم قال له: أحسنت إليك؟ قال: لا ولا أجملت! فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفوا. ثم دخل منزله فأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئاً. ثم قال. أحسنت إليك؟ قال نعم. فجزاك الله من أهل ومن عشيرة خيراً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك". قال: نعم، فلما كان الغداة جاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الأعرابي قال ما قال، فزدناه، فزعم أنه رضي. أكذلك؟ فقال الأعرابي: نعم. فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل له ناقة وشردت عليه، فتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها وأعلم. فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردها هوناً هوناً، حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحلها، واستوى عليها. وإني تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار"!
هذا الدرس العجيب من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من سلوكه العملي - يشرح لنا القيم التي أودعها أحاديثه المروية في هذا الاتجاه.
قد يكون المال الزائد هو الذي أرضى الأعرابي - في ظاهر الأمر - بعد ما كان ساخطاً على العطاء القليل.
ولنفرض جدلاً أنه كذلك.
ولكن فلننظر إلى الأمر من جانب النبي صلى الله عليه وسلم من جانب المعطي - أكان يزيد في عطاء الرجل لو لم يكن هذا المعين الفياض بالرحمة والمودة والحب؟
ولننظر إلى الأمر خاصة بعد أن قال الأعرابي قولته المنكرة الجاحدة.. أوَ قد كان غير هذا القلب الكبير وهذا الروح الشفيف يمكن أن يقبل القولة الجارحة ويرد عليها بعطاء جديد؟
إن الصدقة " المادية " الزائدة ليست هي حقيقة الموقف! إنها مجرد التعبير المادي المجسم للشعور السامق النبيل. إنها ترجمة للأصل وليست هي الأصل! إنها الصدى والقلب هو الحقيقة!
هذا القلب هو الذي يربيه الرسول الكريم هذه التربية المبدعة ليقيم عليه رباط البشرية.
وما نريد أن ندخل حقائق " العلم " في أمر روابط البشرية! ولكنا - برغمنا! لا نجد محيصاً من الإشارة إلى هذه الحقائق التي غيرت كل المفاهيم " المادية " التي سادت تفكير البشر في القرون الأخيرة. فقد أثبت العلم أنه ليست هناك " مادة "! إنما الحياة كلها " قوى " و " روابط "!
الذرة التي كان يظن من قبل أنها مادة راسية مستقرة ملموسة ظهر أنها كهارب! أنها طاقة كهربائية سالبة وموجبة. وأن الرباط الذي يشد بعضها إلى بعض هو الجاذبية..
وذلك هو كل بناء الكون!
لا جرم يكون كذلك هو بناء البشرية!
ليس " المادة ". وليس " الاقتصاد "! ليس شيئاً مما تقف عنده الحواس وتظنه الحقيقة! وإنما هو شيء أعمق وألطف وأدق..
الحب رباط البشرية. والقلوب هي طاقتها.
وكما تصطدم الطاقات في الذرة فتضطرب وتتناثر حين تفقد رباطها القوي يشدها بعضها إلى بعض، حين تفقد رباط الجاذبية، كذلك تصطدم القلوب في الحياة البشرية فتتنافر وتتناثر حين تفقد رباطها القوي الذي يشدها بعضها إلى بعض.. حين تفقد المحبة.
والإسلام دين الله.
الله الذي خلق الخلق وهو أعلم بمن خلق.
وهو دين الفطرة. الدين الذي يساير الفطرة أجمل مسايرة، ويصل من ذلك إلى أجمل النتائج.
والإسلام هو الذي يجعل رباط المحبة هو الرباط الأول والأوثق في حياة البشرية، ويقيم الوشائج كلها - من مادية واقتصادية واجتماعية وفكرية وروحية - على هذا الأساس المتين.
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ). (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) [73].
ورسول الإسلام - وهو الآية البشرية الكونية الكبرى - يدرك بفطرته الملتقية مع فطرة الكون الأعظم، وبما أدبه ربه فأحسن تأديبه، أن الرحمة والمودة والإخاء هي وحدها التي يمكن أن يقوم عليها البناء الحي القوي المتماسك، فيدعو إلى الحب: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " [74] ويجلو القلوب لتفيض بالحب، ويعلمها الوسيلة لكي تحِبَّ وتحَب: أن تلقى أخاك بوجه طليق!
وإن هذه الابتسامة على الوجه الطلق لتعمل عمل السحر!
جربها!
جرب أن تلقى الناس بوجه طلق وعلى فمك ابتسامة مشرقة. ولن تندم على التجربة قط!
إنها لتستطيع - وحدها - أن تفتح مغالق النفوس وتنفذ إلى الأعماق. تنفذ إلى القلب! إلى الطاقة المكنونة في الكيان البشري، فتربط بينها وبينك برباط الجاذبية!(11/181)
حينئذ تصير قطعة من الكون الأعظم، دائرة معه في فلكه الفسيح، لأنك تلتقي بفطرتك الصحيحة مع فطرته الحقة، فتلتقيان في الناموس الكبير!
وحينئذ ترى الله!
فهذا هو الطريق!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[71] الترغيب والترهيب ج 4 ص 396 رقم 7.
[72] سورة الأنفال [ 63 ].
[73] سورة آل عمران [ 103 ].
[74] رواه البخاري ومسلم.
======================
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(8) ما أسكر كثيره فقليله حرام
" ما أسكر كثيره فقليله حرام " [75].
لعل ظاهر اللفظ يوحي بأن الخمر وحدها هي المقصودة بالحديث.
ولكني ألمح أنه قاعدة تشريعية شاملة، تنطبق على الممنوع كله والحرام كله، وتنطبق على الخمر والربا، والسرقة والغصب، والغمز واللمز، والغيبة والنميمة، والكذب والنفاق.. وعلى الجريمة الخلقية خاصة!
وقليل الخمر لا يسكر. وقليل كل شيء لا ضرر فيه..
ما شربة خمر؟ ما كأس بين الحين والآخر؟ في الحفلات مثلاً والأفراح؟!
وما كذبة بين الحين والحين بيضاء أو غير بيضاء؟
وما القروش القليلة يختلسها من مبلغ ضخم لا يمكن أن تؤثر فيه؟
وما الضرر في قليل من النفاق تسير به الأمور و " تشحم " عجلة الحياة فلا يقع فيها احتكاك ولا صدام؟
وما نظرة عابرة إلى فتاة؟
أو ابتسامة؟
أو كلمات؟
أو شيء قليل من المداعبة لا يبلغ حد الجريمة.. قبلة أو ضمة أو ما أشبه؟
فلتكن الجريمة!
جريمة عابرة.. تتم في الظلام، خلسة، لا يعلم بها أحد، ولا تؤثر في خط سير الحياة.. هل تنهد الدنيا إذا حدث ذلك أو تنهار الأخلاق؟
كذلك تبدو الأمور للوهلة الأولى.. سهلة هينة لا تستلزم التشديد ولا توجب الاهتمام!
ومع ذلك فهي حكمة بالغة تلك التي نطق بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ودراية عميقة بالنفس البشرية، ونظر بعيد لا يقف عند الجزئية الصغيرة، ولا عند الفرد الواحد، ولا الجيل الواحد من الأجيال!
إنها النظرة الفاحصة الشاملة التي تأخذ في حسابها الفرد والمجتمع، والإنسان كله على امتداد حياته في تلك الأرض.
نظرة القلب المدرك البصير الذي ينفذ إلى صميم الإسلام فيستلهم روحه العميقة الدقيقة، وتنفتح له مغاليق الحكمة وغوامض الأسرار.
ومن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أجدر بأن يدرك روح الإسلام النقية الصافية، ويترجم عنها، وهو نبي الله وصفيه، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وشرح صدره.. شرح صدره للإسلام، وللحق الماثل في الكون الكبير، فكان هو النموذج الكامل للإسلام، والقمة البشرية؟!
* * *
الإدمان أول شيء يخطر على البال حين تذكر الخمر، ويذكر القليل فيها والكثير
والإدمان - كما تثبت التجربة العلمية - خطر ماثل أمام البشرية حين تبيح لنفسها الخمر، وحين تبيح لنفسها أي أداء من أدواء المجتمع الكثيرة المتعددة.
وهو في الخمر يرتكز على أساس عصبي - جسماني - وعلى أساس نفسي كذلك [76].
كل شراب - بل كل دواء - ذي تأثير معين على الأعصاب، منبه أو مسكن أو مثير أو ملطف، يفقد أثره على الأعصاب بعد قليل، لأنها تتحصن ضده وتتبلد عليه. ويحتاج الإنسان - لا محالة - إلى زيادة الجرعة أو تغيير " الصنف " لكي يحس له بمفعول.
هذا من الوجهة العصبية. أما من الوجهة النفسية فهناك العادة. والنفس تستريح لما تتعود عليه - كذلك فطرها الله لحكمة هو عالمها - وتشتاق لما تعتاده من الحركات والأفعال والأفكار والمشاعر، فيلتقي تأثر الأعصاب ومتعة النفس على الأمر الواحد في اللحظة الواحدة، فيتجاوبان، ويدفع كل منهما الآخر ويقويه!
وهذا أمر ينطبق على كل شيء! حتى لقمة الخبز وجرعة الماء، وضجعة السرير وجلسة المقعد، وحديث الإنسان إلى نفسه أو حديثه إلى الناس، ورؤية فلان أو صحبة مكان أو ألف شيء من الأشياء!
ولكن بعض هذه الأمور تداوي نفسها بنفسها فتكون بمنجاة من الإدمان - بمعنى الإسراف المضر - كما أن بعضها لا يصل إلى حد الخطر ولو وصل إلى الإدمان!
الطعام والشراب عادة يتعودها الجسم وتتعودها النفس، من حيث الكم والأنواع والمواعيد. ولكنها - في الحالة السوية - تجد الفرامل الضابطة في إحساس الشبع وامتلاء الفراغ المحدود.
ومع ذلك فقد تنحرف إلى شَرَهٍ نَهِمٍ مسعور!
ولكنها ضرورة! لا تقوم الحياة إلا بها في حالتها المعقولة السوية.
ومن ثم أبيح القول المعقول، وحرم الزائد عن المعقول: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [77] ولم يجعل التحريم بتشريع لأن ذلك مستحيل. وإنما ترك أمره للتوجيه والتهذيب وخشية الله وتقواه.
والنوم والراحة عادة من حيث المواعيد والمقدار والطريقة والوسيلة - مترفة أو غير مترفة - ولكنها - في الحالة السوية - تجد فراملها الضابطة في النشاط الذي تحدثه، والرغبة الذاتية في تصريف هذا النشاط.
ومع ذلك فقد تنحرف إلى كسل وتراخ وفتور.
ومن ثم أبيح القدر المعقول - إن لبدنك عليك حقاً - وحرم الترف والتكاسل والقعود.(11/182)
ورؤية الناس ومخالطتهم عادة. ولكن لها ضوابطها الذاتية التي تمنع الإسراف فيها - في الحالة السوية - وهي رغبة الإنسان في التقلب بين نزعته الفردية ونزعته الجماعية ليرضي هذه وتلك.
وإلف الأمكنة والأشياء عادة.. ولا ضرر في الإدمان عليها - ما دامت في ذاتها نظيفة - ومع ذلك فالملل، وهو عنصر بشري أصيل، يحد بطريقة طبيعية من الإدمان عليها والإسراف فيها..
ولكن الخمر وغيرها من الأدواء ليس كذلك!
حين يحدث الإدمان فليست له ضوابط. وكل شارب عرضة للإدمان. لأن الأعصاب ليست لها حصانة من تأثير السموم!
ومع ذلك فسنفترض أن أغلبية من الناس تستطيع أن تشرب دون أن تبلغ حد الإدمان - وهو قول غير صحيح في واقع الأمر - فمع ذلك ليس هذا بيت القصيد!
بيت القصيد هو الأجيال القادمة...
في مسألة الخمر بالذات، يقول الطب إن أبناء السكارى يولدون وفيهم استعداد موروث لشرب الخمر، ينتقل إليهم عن طريق النطفة قبل أن يملكوا لأنفسهم القياد! ومن ثم يصبحون في الكبر مدمنين!
ويقول علم النفس إن أبناء السكير يصابون باضطرابات نفسية وعصبية عنيفة تؤثر في مستقبل حياتهم. فالولد ينظر إلى شخصية والده على أنه المثل الأعلى الكامل الذي يتلبس به ويحاول أن يحتذيه. فإذا رأى في سلوكه خللاً فإن ذلك يحدث في داخل نفسه انقساماً بين شخصين كانا من قبل مؤتلفين بل متلابسين، هما شخصيته وشخصية والده. ومن ثم يحدث نزاع داخلي عنيف، ينتهي إما بانطواء الولد على نفسه واعتزاله الحياة الحية المتحركة، إما ببروزه في هيئة مجرم صغير، يحطم كل مقدس، ويلوث كل نظيف.
أما الفتاة فيصيبها صراع من نوع آخر ينتهي بها إلى كراهية الرجال جميعاً، والنفور في المستقبل من الزواج، وما يصاحب ذلك من عقد جنسية مختلفة، أو ينتهي إلى انحرافها الخلقي ووقوعها في مهاوي الرذيلة.
وسنفترض مرة أخرى أن ذلك كله لن يقع - وهو أمر غير صحيح!
سنفترض أن النطفة لم تنقل إلى الجنين عدوى الخمر وهو واغل في الظلمات الثلاث [78]. وسنفرض أن الوالد لم يطع أولاده على سوء منه، فلم يعلموا أنه يشرب الخمر ولم يحدث في نفسهم الاضطراب.
يبقى بعد ذلك كله شيء لم تستطع اتقاءه الأجيال!
ما موقف الأب الذي يعاقر الخمر حين يعلم أن أبناءه قد وقعوا فيما وقع هو فيه من قبل؟
أيزجرهم؟ أم يرخي لهم العنان؟
ولماذا يا ترى يزجرهم وهو - بينه وبين نفسه - لا يؤمن بأن هناك ضرراً في الأمر؟ بل إنه ليؤمن أن تجربته الشخصية خير شاهد على ما يقول! ها هو ذا يشرب. فماذا حدث له؟ لم يبلغ حد الإدمان. لم يفصل من عمله نتيجة التأخر في الصباح أو الإهمال وشرود البال. لم يؤثر الشرب في مركزه الاجتماعي. لم تتلف أعصابه ولم تفسد قدرته على التفكير. وإنها كلها كأس بين الحين والآخر.. في الحفلات وفي الأفراح!! فما الضير على الأولاد إذا ساروا في نفس الطريق، وعند كبرهم " يعقلون " وتسير الأمور...؟!
هنا موطن الخطر لا يدركه الشارب في أول جيل!
إنه ينسى! ينسى أنه هو شخصياً قد نشأ في بيئة محافظة تستنكر الخمر وتَنْفر منها وتنَفِّر منها، وأنه نشأ وفي عقله الباطن فرامل قوية - مستمدة من هذه البيئة المحافظة - هي التي حالت بينه - دون أن يشعر - وبين الإسراف والإدمان. في أعماق نفسه شخص معنوي أو شخص مجسم، يمسك له العصا ويحذره، وينهال عليه ضرباً إذا تجاوز الحدود - في صورة تقريع الضمير.
وصحيح أن هذا الشخص لم يبلغ من القوة في نفسه أن يمنعه البتة، ولم يستطع أن يقفل عليه الطريق ولكنه مع ذلك موجود لا شك في وجوده. وله الفضل كله في الوقوف به عند درجة معينة لا تصل إلى الإدمان البغيض.
أما الأبناء فأين هذا الشخص في نفوسهم؟ من غرسه في أخلادهم وهم صغار؟
أبوهم؟ أو المجتمع الذي يسرح فيه آباء كأبيهم؟
كلا! لقد وجدت القدوة السيئة وانتهى الأمر، ثم لم توجد الزواجر التي منعت الجيل الأول من الإسراف!
أو قد توجد، ولكنها أضعف من الزواجر في أول جيل..
ومن ثم يشرب الأبناء فيسرفون عن ذي قبل، لأن الشخص الذي في نفوسهم، والعصا التي في يده لينة لا تترك أثراً في الضمير.
وينشأ بعد ذلك جيل ثم أجيال.. ويختفي رويداً رويداً ذلك الشخص من الضمير. ويندفع الناس بلا حاجز، ويسرفون بلا حدود.
تلك قصة الخمر على مدار الأجيال..
جيل متقيظ في أول الأمر، عيونه على الجريمة.
ثم أفراد يتسللون خفية من وراء الستار...
فإذا ظلوا في استتارهم، لا يتبجحون بالإثم ولا يسمح لهم المجتمع بذلك، فثم أمل بقاء المجتمع - في عمومه - نظيفاً من الجريمة فترة طويلة من الزمان. أما إذا أَمِنوا زجر المجتمع، فخرجوا من خفيتهم، وقعدوا على قارعة الطريق، فهنا ينشأ أول جيل منحرف. وهو انحراف بسيط في أول الأمر لا ينذر بالخطر ولا يبدو فيه النكير. ولكن الانحراف البسيط يمتد، كما يمتد ذراعا الزاوية من نقطة الصفر - نقطة الابتداء - حتى تنفرج الشقة ويبعد الذراعان..
والهاوية المحتومة في نهاية الطريق!
* * *
وهي قصة كل جريمة من جرائم الأخلاق..(11/183)
قصة الكذب والخداع والنفاق والغش والتدليس.
قصة الغيبة والنميمة ونهش الأعراض وكشف العورات.
قصة الرشوة والظلم والفساد.
قصة القعود عن نصرة الحق والجهاد في سبيله.
قصة الترف والسرف والفجور والمجون.
وهي على الأخص قصة " التقاليد فيما يختص بالرجل والمرأة والاختلاط والجريمة...
يبدأ المجتمع " نظيفاً " متحفظاً لا يسمح بالاختلاط ولا يتهاون في الجريمة.
ولا نقصد " بالنظافة " أنه مجتمع من الملائكة الأطهار قد خلا من الجريمة. فهذا شيء لم يحدث في التاريخ!
ولكنا نقصدها بمثل المعنى الذي يستخدم في الشئون الصحية. فحين تقول الهيئات الطبية إن المدينة " نظيفة " تقصد أنها نظيفة من الأوبئة الخطرة، ولا تقصد أنها خالية من حالات فردية من هذه الأمراض.
في هذا المجتمع النظيف توجد حالات فردية غير نظيفة. ولكنها قليلة ومستترة وعدواها محدودة. وذلك نتيجة الحرص الدائم الذي يبذله المجتمع في عملية التنظيف.
ولكنه في وقت من الأوقات يتراخى...
عندئذ يأخذ الوباء في الانتشار التدريجي البطيء.
وفي حالة الأوبئة الجسمية ينتشر المرض بسرعة وبطريقة ملموسة مميتة.
ومن هنا يهب الناس للوقاية والكفاح في أسرع وقت ويتساندون ويتكاتفون لوقف الوباء.
ولكن الأوبئة النفسية ذات طبيعة أخرى.
فالنفس بطبيعتها استجابة من الجسم. والمناعة النفسية اللاشعورية - حين توجد - تستطيع أن تقاوم المرض أو على الأقل تخفف حدته القاتلة مدى أجيال.
ولذلك فالفساد الخلقي بطيء المفعول جداً. وقد تمر أجيال كاملة على مجتمع منحل الأخلاق قبل أن ينهار. بل إن الانحلال قد يستشري في جيل من الأجيال الأخيرة إلى حد يعييك فيه البحث عن جماعة واحدة فاضلة. ومع ذلك فقد لا تقع الكارثة في هذا الجيل بالذات. ومن ثم يغرى الناس بالظن أن كل النذر خرافة، وأنهم مستمتعون بكل ما يشتهون، ثم ناجون مما كانوا يحذرون!
ولكن سنة الله في النهاية تتحقق! لم تتخلف مرة واحدة في التاريخ!
لم يحدث أن استمتع الناس بشهواتهم الزائدة إلى غير حد، ثم استمروا إلى الأبد أقوياء متماسكين قادرين على الحياة!
وهذه صفحة التاريخ مفتوحة لمن يريد.
صفحة اليونان القديمة وروما القديمة وفارس القديمة، والعالم الإسلامي حين غرق في الشهوات، ثم صفحة الغرب في جاهليته المعاصرة.
تبدأ الجريمة بسيطة خفيفة لطيفة..
اختلاط بريء تحت لإشراف الآباء أو غيرهم من المشرفين..
ونزهات لطيفة أو نواد ظريفة، ولا بأس فيها من إتاحة شيء من الخلوة " البريئة " بين شاب وفتاة.
وما الذي يمكن أن يحدث في خلوة كهذه بريئة وعين الرقيب على بعد خطوات.. أو حجرات؟!
ابتسامة من هنا وكلمة إعجاب من هناك؟
وضمة خاطفة في غفلة من الرقيب؟ وقبلة طائرة تطفئ الغلة أو تشعل اللهيب؟
" يا سيدي "!
ثم يحدث ما يحدث في الخمر..
الإدمان..
الكأس الأولى تصبح بعد حين تافهة ضئيلة المفعول. لا بد من كأس ثانية.
والقبلة الأولى تغري دائماً بالمزيد، لا يمكن أن تتوقف، ليس ذلك من طبائع الأشياء.
ولكن الجيل الأول مع ذلك لا يسرف في الجريمة، ولا يصل إلى الإدمان المجنون.
هنالك الشخص الواقف في داخل النفس بالمرصاد، ومعه العصا ينذر ويحذر ويهدد بعظائم الأمور. وهنالك التقاليد التي تربط المجتمع ولا يسهل الخروج عليها دفعة واحدة. ومن ثم لا تحدث الجريمة كاملة في أول جيل، وإنما " يتبحبح " الناس قليلاً ويفكون القيود.
ويمضي المجتمع في طريقه منتشياً لا يحس بالخطر، ولا خطر - حتى الآن - هناك.
ويظن المجتمع - نظرياً - أنه قادر على ذلك إلى غير نهاية. قادر على أن يفك القيود ومع ذلك لا يقع في الجريمة أو لا يصل إلى الإسراف المعيب.
وهو مخلص في عقيدته تلك الضالة لأنه يقيس على نفسه ويغفل حقيقة الأمور.
يغفل الضوابط الخفية التي أنشأها في أعماق نفسه الجيل السابق المتحفظ. والتي لن يخلفها هو للجيل المقبل لأنه غير مؤمن بها، يظنها تشدداً بلا ضرورة ولا لزوم!
ينسى الرجل أنه قد رأى أمه متحفظة لا تختلط بالرجال، ورآها مكتسية لا يتعرى من جسمها شيء، ومن ثم تقاومه هذه الصورة على غير وعي منه وهو يدعو فتاة غريبة إلى الاختلاط به، ويدعوها إلى تعرية نفسها أو جسدها ليستمتع به.
نعم تقاومه حتى وهو مندفع الشهوة، فلا يسرف، ولا يتبجح بالإثم.
والفتاة التي رأت أمها متحشمة وزرعت في نفسها النفور من العري - النفسي والجسدي - تتحفظ كذلك - بوعي منها و بغير وعي - حتى وهي تهم بالانزلاق، فلا تسرف ولا تتبجح بالإثم.
ثم يتراجع هذا الجيل..
ويجيء جيل جديد تربية الأم التي ذاقت في شبابها " متعة " التحلل البسيط من القيود، والأب كذلك.
الأم والأب اللذان ذاقا شيئاً من المتعة ولم يسقطا السقوط الكامل - والأم خاصة - لن ينظرا إلى التقاليد " المتزمتة " بعين الاحترام.
علام التشدد؟ ألم ينفلتا هما من هذا التشدد ولم يحدث شيء؟ " فليتبحبح " الأولاد " قليلاً " ولا ضير!(11/184)
ومن ثم ينشأ الجيل الجديد وقد ضعف الشخص الواقف في داخل النفس بالمرصاد، ولانت العصا فلم تعد تترك أثراً في الضمير، وتفككت التقاليد فلم تعد تمنع المحظور.
ويتراجع هذا الجيل..
ويأتي جيل يرى أمة قد تعرت، من شيء من الثياب وشيء مماثل من الفضيلة (والجسم والنفس صنوان في هذه الأمور!)
الولد الذي يرى أمه عارية لا تثور في نفسه نخوة الرجولة والحرص على الأعراض، فقد زالت في نفسه حرمة الجسد، وصار نهباً يباح للعيون، وبعد ذلك لما هو أكثر من العيون.
والبنت التي ترى أمها عارية لا تؤمن بالقيد.
ويلتقي هؤلاء الأولاد والبنات، يلتقون على شهوة الجسد الفائرة، ويلتقون بلا ضابط ولا حدود، وتتم الدورة المحتومة، والهاوية في آخر الطريق.
* * *
والبشرية - حين تترك وشأنها - قليلاً ما تتذكر، وقليلاً ما تتدبر عبرة التاريخ!
كل جيل يدفعه الغرور من ناحية، والنشوة الفائرة من ناحية أخرى، فيظن أن تجربته جديدة لم تمر على أحد من قبل، وأنه ليس مقيداً بسنة التاريخ.
ما أسهل ما يقول لنفسه: إن الأمة الفلانية قد انهارت لكذا، أو الشخص الفلاني قد تحطم لكيت. أما أنا فلن أقع في غلطته ولن يحدث لي ما حدث هناك. لن يفلت مني الزمام. لن أدع شيئاً يغلبني. سأصحو قبل أن أبلغ الهاوية. أنا شيء آخر غير الناس من قبل.
ويجيء " العلم " في القرن العشرين فينفخ في الناس نفخة كاذبة. يخيِّل لهم أنهم خلق غير ما مر من الأجيال في التاريخ كله. خلق لا تنطبق عليه سنة ولا يخضع لسابقة. إنه عصر الذرة وعصر الصاروخ. عصر يكتب تاريخه بنفسه، ينشئه على مزاجه، يخلق جديداً كل يوم؛ يفتح آفاقاً لم تتفتح من قبل؛ " يقهر " الطبيعة ويسخرها بعد أن كانت هي التي تقهره وتسيره مرغماً في طريق لم يختره لنفسه ولا يد له في تكييفه!
كذلك ينفخ " العلم " في نفوس الناس. أو ينفخ فيهم شيطان الغرور:
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) [79].
ولقد أضل الشيطان هذا الجيل من البشرية كما لم يضل أحداً من البشر، لأنه أعرض بجانبه ونأى عن الله. وقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ)! (ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [80].
وهذا الجيل من البشرية يخيل له أن ناج من سنة الله التي خلت من قبل. وناج من حتمية النتائج حين توجد الأسباب. وناج من الهاوية التي تفغر فاها في نهاية الطريق!
هذا وهو يرى بعينيه أن العالم كله مهدد بالدمار والخراب الرهيب!
أي غفلة تصيب الناس حين ينأون عن طريق الله وحين يغترون ويستكبرون؟!
(.. قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ) [81].
* * *
نعم. حين تترك البشرية وشأنها فقليلاً ما تتذكر، وقليلاً ما تتدبر عبرة التاريخ.
إنهم لا يرون - ولا يريدون أن يصدقوا - أن هذا الطوفان الهائل من الفساد قد بدأ من نقطة الصفر! من النقطة التي ينفرج فيها ذراعا الزاوية، فرجة بسيطة للغاية في مبدأ الأمر، ثم تتسع الشقة كلما مضى الزمن وتتابعت الأجيال.
لا يرون - ولا يريدون أن يصدقوا - أن الكأس الأولى تتبعها الثانية. والقبلة الأولى تفتح الطريق للجريمة.
لا يرون - ولا يريدون أن يصدقوا - أن البشرية لم تقف يوماً عند القليل الذي لا يضر، ما دامت تبيحه على أنه أمر واقع، وأنه لا يضر! وإنما تجاوزته حتماً إلى الكثير الذي يغرق كالطوفان.
لا يرون - ولا يريدون أن يصدقوا - أن المجتمع - وهو النهر الذي يشرب منه الجميع - لا يمكن أن يظل بمنأى عن التلوث بينما الأقذار تلقى على الدوام فيه، ولا يمكن أن يظل الشاربون على سلامتهم وهم يشربون الأقذار.
ولكن الإسلام يصدق هذا لأنه يراه.
الإسلام كلمة الله في الأرض. والله هو الذي خلق الخلق وهو أدرى بما فطرهم عليه:
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [82].
وقد حرص الإسلام حرصاً شديداً على هذا الأمر، لأنه يرى - بالعين البصيرة النافذة - تسلسل البشرية وتعاقب الأجيال وتماثل النتيجة عند تماثل الأسباب.
يرى الزاوية التي تبدأ من نقطة الصفر. ثم تبعد الشقة بين ذراعيها بُعْدَ ما بين الأبيض والأسود، والحلال والحرام.(11/185)
يرى الكأس الأولى تتبعها الثانية، والقبلة الأولى تؤدي إلى الجريمة. ومن ثم يقف في يقظة دائمة لكل كأس عابرة وكل قبلة حرام. ولا يقبل في ذلك حجج المستهترين كلهم وما يتمسحون به من التعللات.
لا يقبل قول الذي يقول: اسمح لي بهذه واطمئن أنني لن أسرف فيها، ولن أتجاوزها إلى جديد!
لا يقبله لأنه ليس له رصيد من الواقع، وكله أوهام!
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يشرح بأعماله وأقواله الصورة المفصلة للإسلام، ويجلوها في عالم الواقع.. كان الرسول على ذكر دائم وبصيرة كاملة بهذا التسلسل الذي يربط أجيال البشرية، والوحدة التي تشملها أفراداً وجماعات، وأجيالاً إثر أجيال.
كان على بصيرة من انتقال العدوى من شخص إلى شخص ومن جيل إلى جيل. بل بانتقال العدوى في النفس الواحدة من فكرة إلى فكرة ومن شعور إلى شعور!
وكان الدائم التنبيه لهذا الأمر:
" الحلال بيّن، والحرام بيّن. وبينهما أمور متشابهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه! " [83].
" إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض " [84].
من أجل ذلك قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام".
وأخذ عنه المسلمون هذه القاعدة التشريعية الشاملة فقال فقهاؤهم إن وسيلة المحرم محرمة لأنها تؤدي إليه. فالفاحشة حرام، والنظرة إلى الأجنبية حرام لأنها تؤدي إلى الفاحشة.
وسرت هذه القاعدة في كل التشريع.. وسرت كذلك إلى صميم المجتمع. فكان كل فرد دائم اليقظة إلى الناس يحذر أن توجد الكأس الأولى التي تؤدي إلى الطوفان. " أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك "!
* * *
والإسلام يعلم أنه مهما صنع فلن يبطل الجريمة ولن يلغي الفاحشة من البشرية!
نعم. يعلم ذلك على اليقين. ولا يدفن رأسه كالنعامة في الرمل ويقول: ما دمت لا أراه فهو غير موجود!
ولكنه - مع ذلك - لا يعترف بالجريمة كأمر واقع، ولا يقبلها على هذا الوضع!
موقف بالضبط كموقف الطبيب المشرف على وقاية الناس من الأمراض.
إنه يعلم أنه مهما صنع فلن يمنع المرض من الوجود، ولن يصبح الناس كلهم محصنين!
ومع ذلك فلا ينهزم أمام المرض ولا يتركه يتفشى فيتحول إلى وباء.
مهمته الدائمة هي العراك مع الأمراض.
ويعلم علم اليقين أنه ستظل هناك حالات فردية لا تنفع فيها الوقاية، وقد لا ينفع كذلك العلاج.
ولكنه يصر على المقاومة، ولا يلجأ إلى الهزيمة، ويقول - وهو صادق - إن المدينة " نظيفة " ما دامت خالية من الوباء.
وكذلك يصنع الإسلام في وقاية البشرية.
يقف لكل جريمة مفردة ليحاول منعها من الانتشار، ولا يستهين بها مهما تكن من الضآلة في مبدأ الأمر. فجرثومة الكوليرا الواحدة المفردة تقتل في النهاية مئات الألوف ومئات الملايين. وجرثومة الفساد الواحدة تقتل شعباً بأكمله.
وهو يقف للجريمة بكل وسائل الوقوف.
يقف لها داخل الضمير. فالمناعة تنبت من داخل النفس.
ينظف هذا الضمير ويهذبه ويربطه بالله: " تعبد الله كأنك تراه ".
ويقف لها في المجتمع بإقامة التقاليد التي تجعل الفضيلة عادة وتجعل الجريمة منكرة مرهوبة.
ثم يقف لها بالتشريع الذي يعاقب على الجريمة.
وحين تقع الجريمة في هذا الجو، فهي كحالة المرض المفردة التي قد لا تنفع فيها الوقاية ولا ينفع فيها العلاج. ولكن الوقاية والعلاج يفلحان في منع انتشارها وتحولها في النهاية إلى وباء.
وقد أمر الله بمنع الفاحشة ووضع لذلك الحدود.
ثم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم يضع - الشرح المفصل للحدود حين قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ".
ولم يكن صلى الله عليه وسلم متشدداً، متزمتاً بلا ضرورة.
إنما كانت الحكمة الخالصة التي فتح لها قلبَه اللطيف الخبير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[75] رواه أبو داود.
[76] انظر فصل " النفس والجسم " من كتاب " في النفس والمجتمع ".
[77] سورة الأعراف [ 31 ].
[78] " يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ " سورة الزمر [ 6 ].
[79] سورة يس [ 60 - 62 ].
[80] سورة الزمر [ 49 ].
[81] سورة الزمر [ 49 - 51 ].
[82] سورة الملك [ 14 ].
[83] رواه البخاري.
[84] رواه أبو داود.
=======================
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(9)ادرءوا الحدود بالشبهات
" ادرءوا الحدود بالشبهات " [85].
" ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فمن كان له ملجأ فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة " [86].
* * *
" الشك يفسر في صالح المتهم ".
تلك هي القمة الإنسانية التي بلغتها أوربا بعد الإسلام بأكثر من ألف عام!(11/186)
ومع ذلك فهي لم تصل إليها في سهولة ويسر، ولم تصدر فيها عن مشاعر إنسانية خالصة، تحس بقيمة " الإنسان " في ذاته، وتقدر حرمته وكرامته وحقوقه، وتعطف عليه حتى وهو يخطئ في حق الجماعة، ويهبط عن المستوى اللائق بالإنسان.. وإنما جاء ذلك بعد صراع مستمر عنيف، جرت فيه أنهار من الدماء وطاحت فيه كثير من الرءوس!
كان الوضع الذي استقر في أوربا فترة طويلة من الزمان، يقسم الناس إلى سادة في جانب وعبيد في جانب. سادة من " الأشراف " يجري في عروقهم دم مقدس! من لون غير دماء البشر العاديين! سادة هم الذين يملكون ويحكمون ويشرعون. وعبيد لا يملكون شيئًا، ولا يشرعون شيئاً، وكان ما لهم هو الذل والهوان المقيم.
وحتى القانون الروماني المشهور بعدالته " المثالية! " والذي يعتبر الأصل الذي تستمد منه القوانين الأوربية الحديثة في كثير من المسائل، حتى هذا كان قانوناً " للرومان فقط "! الذين يملكون حقوق المواطن الروماني. وقليل ما هم! أما بقية الشعب في إيطاليا نفسها، ودع عنك المستعمرات والملحقات والبلاد المغلوبة، فلم تكن تستمتع بهذا العدل الروماني، ولم تكن لها حصانة من العسف والاضطهاد. والفرق الهائل بين عدد الأحرار وعدد العبيد يرينا إلى أي حد كانت القلة القليلة تستمتع على حساب الكثرة المغلوبة. فقد كان الأحرار في روما سنة 204 ق. م. 214 ألفاً، وكان العبيد 20 مليوناً من البشر في إيطاليا، غير بقية المستعمرات!
ووجدت في بقاع الأرض - في أوربا وفارس والهند وسواها - قوانين صريحة تفرق بين الشريف والعبد في طريقة المعاملة أمام القضاء. وتنص على اختلاف العقوبة على العمل الواحد. فالعبد السراق يقتل، والشريف السارق يكتفي برد ما لديه! والمعتدي على الشريف - إن كان شريفاً مثله - فالعين بالعين والسن بالسن. أما المعتدي على العبد فجزاؤه الغرامة! والغرامة لا تؤدى إليه إنما تؤدى للسيد الذي يملك العبد، تعويضاً له عن " إتلاف " بعض ممتلكاته! أما السيد ذاته فله على عبده حق القتل والإبادة والتعذيب! وحتى حين كانت القوانين تخجل من هذه الصراحة فالتطبيق كان يأخذ نفس الروح: فالشريف لا يؤخذ بالظنة، ولا يحاكم إلا حين تثبت عليه التهمة، ويحكم عليه بأخف العقاب. والعبد - أي الشعب.. يسام التنكيل لأقل شبهة، ويعذب بوحشية ليعترف، ثم يوقع عليه العقاب البشع الذي لا يتناسب مع الجرم ولا يتناسب مع " الإنسانية "!
ولكن استمرار الحال على هذه الصورة البشعة لم يكن من المستطاع، فلا بد أن يثور العبيد لكرامتهم مهما طال عليهم الأمد وطال منهم السكوت..
وقامت الثورات بالفعل مزلزلة مدمرة وأطاحت بالرءوس.. رءوس الملوك والملكات والأشراف والنبلاء.. وتقررت - نظريا على الأقل - بعض حقوق الإنسان. تقررت له حرماته وحقوقه وضماناته. وكان من هذه الضمانات: ضمانة الحياة فلا يموت جوعاً. وضمانة الحياة فلا يعتدى عليه بغير الحق. وضمانة العيش فلا يموت جوعاً. وضمانة الحريات: حرية القول والاجتماع والسفر واختيار العمل. وضمانة العدالة في القضاء فلا يؤخذ المتهم بالشبهة، ولا يؤثر عليه في التحقيق بالوعيد ولا بالوعد.. ويفسر الشك في صالح المتهم، فلا يحكم عليه بالعقوبة الكاملة إلا حين تثبت التهمة بالدليل القاطع الذي لا شبهة فيه.
ثم كانت الثورة الصناعية في إنجلترا، وتلتها الحركة الرأسمالية في بلاد أوربا..
وللشيوعية رأي في الرأسمالية: أنها استعباد من رءوس الأموال للكادحين، وامتصاص لجهدهم الذي يبذلون فيه العرق والدماء والدموع ليتحول إلى ثراء فاجر في يد الرأسماليين العتاة..
وإنها لكذلك..
ولكن التاريخ قد وعى - رغم ذلك - حركة هائلة من التحرر في فترة الرأسمالية، نقلت الشعب من مقام العبودية المطلقة والهوان الكامل، إلى وضع أقل ما يقال عنه إنه يحمل من الضمانات السياسية والاجتماعية والقانونية ما يعترف بكرامة الفرد ويرد اعتباره إليه..
إنه يحمل من الضمانات السياسية والاجتماعية والقانونية ما يعترف بكرامة الفرد ويرد اعتباره إليه..
ولم يكن ذلك تفضلاً من " السادة " الحكام والملاك والمشرعين. ولا كان إحساساً منهم بالخير الفياض في نفوسهم، والتقدير " الحر " لكرامة الإنسان كان صراعاً طويلاً عنيفاً اصطدمت فيه القوى من الجانبين كما حدث من قبل في صراع العبيد ضد الإقطاع.. وإن كانت لم تصحبه الثورات الدموية من الشعوب ضد الحكام، لأن الثورة الفرنسية كانت قد قررت لهم المبادئ ولم يبق سوى التنفيذ، ولأن العمال كانوا يملكون السلاح الذي يواجهون به الرأسمالية وهو سلاح الإضراب!
* * *
كلا! لم تصل أوربا إلى العدالة عن تقدير صادق للكرامة الإنسانية، وشعور صادق بقيمة الإنسان! وإنما كانت خطوة خطوة يتراجعها السادة الحاكمون ليكسبها الشعب الحاقد الغضبان!(11/187)
وحتى في العصر الحديث حين استقرت الأمور - بعض الشيء - وزال عنها شيء من شعور الحقد، وأصبحت العدالة من أمور الحياة العادية البديهية المقررة.. وصار القبض على شخص واحد في إنجلترا مثلاً بدون تهمة، أو اعتقاله يوماً بدون تحقيق، يثير البلاد كلها، ويقيمها ويقعدها، وتستجوب عنه الحكومة أمام الشعب.. حتى عندئذ لم يصطبغ القانون الأوربي أو الغربي عامة بالصبغة " الإنسانية ". فما تزال فيه السمة الرومانية البغيضة التي كانت تقصر العدالة من قبل على المواطن الروماني، وهي اليوم تقصرها على الرجل الأبيض، الذي يستمتع وحده بالحقوق الإنسانية ويحرم منها بقية بني الإنسان. والشواهد البشعة على ذلك في كل مكان على ظهر الأرض وطئه الرجل الأبيض وما زال مسيطراً عليه، في أفريقيا وآسيا وأمريكا.. وبين البيض والملونين في كل مكان!
أما الإسلام فلم يكن في حاجة إلى الثورة المزلزلة التي تهرق الدماء وتقطع الرءوس!
بل لم يكن في حاجة إلى مجرد المطالبة بالحقوق!
بل لقد كان هو الذي يمنح الناس الكرامة الإنسانية، ويحرضهم على التشبث بها، والمحافظة عليها، والكفاح من أجلها في وجوه الطغاة والظالمين!
يمنحها متفضلاً.. ككل حق منحه للناس قبل أن يطلبوه، ورباهم على اعتناقه في ظل العقيدة، كجزء من العقيدة، وطالبهم بإقامته - في ظل العقيدة - كفرض من الفروض!
ولا عجب في ذلك. فالإسلام كلمة الله. والله هو المانح، والمتفضل على البشر بكل نعمة من نعم الحياة!
وقد قضى الله أن يكون الحق والعدل قوام الحياة...
الحق الذي هو صنعة الله. والذي خلق الله به السماوات والأرض: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) [87] (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ) [88] (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [89]. الحق الذي هو صفة كل شيء صدر عن إرادة الله، والذي ينبغي للبشر خلفائه في الأرض - أن يحكموا به كذلك: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) [90] (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [91]. (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [92] (فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [93].
وقد اقتضى الحق والعدل أن يتساوى الناس كلهم أمام القانون، لأن الناس كلهم متساوون في صدورهم عن إرادة الله، وصدورهم عن نفس واحدة خلقها الله، ومتساوون أخيراً في مصيرهم إلى الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) [94] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [95] (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ) [96] " أنتم بنو آدم. وآدم من تراب " [97].
من هذه المساواة المطلقة في المنشأ والمصير قامت المساواة كاملة في الإسلام أمام الشريعة. لا فرق بين سيد وعبد، ولا بين شريف وحقير.
يقول الرسول الكريم: " إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". [98] فيضع بذلك حداً للمظالم التي كانت قائمة في الأرض - والتي ظلت قائمة في غير الإسلام - بعد ذلك بألف عام! ويضع حداً للخرافة البغيضة التي تفرق بين الناس في الخلقة، وتفرق بينهم بعد ذلك في الحقوق. ولم يكن ذلك القول خطبة حماسية جميلة لاسترضاء الشعوب، ولا مبدأ مثالياً جميلاً معلقاً في الفضاء. وإنما كان حقيقة واقعة شهدها التطبيق العملي في حياة المسلمين. فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقيد من نفسه، أي يدعو الناس للقصاص منه إذا كان أحدهم يظن أنه قد ظلمه أو اعتدى عليه!! وكان عمر يجلد ابن عمر لأنه شرب الخمر، وهو ابنه وهو شريف من قريش!
أما العبيد الأرقاء بالفعل، فقد عمل الإسلام على تحريرهم، وسلك إلى ذلك مسالك شتى. وإن كانت قد بقيت منه بقية في نطاق ضيق فذلك لأن الأمر كان يرتبط ارتباطاً أساسياً بأسرى الحرب، والمعاملة فيهم بالمثل، وكان الرق هو مصير أسرى الحرب في معظم الأحوال [99].
ولكن المهم - ونحن بصدد التطبيق القانوني - أن الإسلام - وهو يعترف بالرق كضرورة مؤقتة يعمل دائماً على الخلاص منها - لم يبح " للسادة " أن يميزوا أنفسهم على عبيدهم، ولم يبح لهم التصرف " الحر " في هؤلاء العبيد: " من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن أخصى عبده أخصيناه " [100].(11/188)
ولم يكن ذلك أيضاً كلمة تقال في الهواء، ولا مبداً مثالياً معلقاً في الفضاء. وإنما كان حقيقة واقعة شهدها التطبيق العملي في حياة المسلمين. فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقصاص من رجل جبّ عبده. وقصة عمر مع الشريف الذي لطم عبداً لأنه داس عفواً على ذيله أثناء الطواف في الحج معروفة، فقد أصر عمر على القصاص.. على أن يلطم العبد ذلك الشريف.. وظل الشريف يرجو ويشفع وعمر يصر.. حتى فر الرجل أخيراً وارتد عن الإسلام!
أما البلاد المفتوحة، فقصة القبطي الذي جاء يشكو ابن عمرو بن العاص لأنه ضرب ابنه بغير حق، فأمر عمر بأن يضرب القبطي ابنَ عمرو ويقتص منه.. هذه القصة وحدها تحمل الدليل!
* * *
تلك أولى مراحل العدالة في الإسلام! المساواة بين الناس كلهم أمام الشريعة..
ولكنها درجة واحدة وبعدها درجات..
فالإسلام لا يكتفي بأن تكون المعاملة للجميع واحدة.. ولكنه يعطي إلى جانب ذلك شريعة هي في ذاتها عادلة فلا يظلم ولا يحيف. فالشرع لا يعرف قول القائلين: المساواة في الظلم عدل! وإنما هو العدل، والمساواة في العدل!
وليس هنا مجال التفصيل في عدالة الشرع الإسلامي.. فقد عرضنا ذلك التفصيل في فصل " الجريمة والعقاب " في كتاب " الإنسان بين المادية والإسلام " ولكنا نقول هنا - بغاية ما نستطيع من إيجاز - إن الشرع الإسلامي يبلغ قمة العدالة حين ينظر إلى الفرد والمجتمع في آن واحد، ليتأكد من أن كلاً منهما يأخذ حظه من الحقوق، ويؤدي نصيبه من الواجبات. وأن أيا منهما لا يظلم لحساب الآخر، أو يفتات على أخيه.
فبينما كانت القوانين في الدول القديمة - وما زالت في الدول الجماعية في الوقت الحاضر - تشتط في عقاب المجرم، لأنه وهو فرد ضائع لا كيان له، يعتدي على الكيان المقدس، كيان الجماعة ؛ ويُتخذ ذلك ستاراً للتنكيل بكل فرد تحدثه نفسه بالخروج على السادة ذوي القداسة والسلطان..
وبينما تبالغ الدول الغربية الرأسمالية في إباحة الحرية للفرد، على أساس أنه هو الكائن المقدس ولا قداسة للجماعة ولا كيان، وينشأ من ذلك تخفيف العقوبة على المجرم وتلمس الأعذار له.. نجد الإسلام يمسك الميزان من منتصفه، فلا يميل في جانب الفرد ولا جانب الجماعة، لأنه لا يراهما فرداً وجماعة منفصلين، ولا يعتبرهما معسكرين متقابلين تقوم بينهما العداوة والبغضاء، ويرغب كل منهما في تحطيم الآخر والقضاء عليه.. بل ينظر إلى الفرد والجماعة على أنهما كلٌّ متجاوب موحد الغاية متعاون في الأداء.. فإذا شذ فإنه يُقوَّمُ لكي يرد إلى السبيل ؛ وسواء جاء الشذوذ من الفرد بمفرده أو جاء من الجماعة.. فكلاهما مخطئ وكلاهما ينبغي أن يرد إلى الصواب!
وهو إذ ينظر مرة بعين الجماعة، فيرى حقها في الطمأنينة على نفسها، والمحافظة على حقوقها، فيمنع العدوان عليها، ويعاقب المعتدين.. فإنه ينظر في ذات الوقت إلى الفرد، فيرى دوافعه إلى الجريمة، سواء كانت منبعثة من داخل النفس، من نزوة الغريزة، ودفعة الشهوات، أو من الظروف الخارجية، الاجتماعية والاقتصادية، فيقدر هذه الدوافع، وينظر إليها بعين الاعتبار.. ويعمل على إزالتها بكل طريقة ممكنة قبل أن يوقع العقوبة: بالتشريع الذي يكفل الضرورات مرة، والتشريع الذي يصون الحرمات مرة، والتربية التي تهذب النفس وتنظف مساربها، وتجعل روح الحب والتعاون والتكافل هي الروح السائدة في الجماعة.. أولاً وأخيراً بالعقيدة التي تربط القلب بالله، وتوجهه لخشيته والعمل على رضاه.. فإذا عجز ولي الأمر عن إزالة الدوافع لأي سبب من الأسباب، أو ساورته في ذلك شبهة، فعند ذلك يدرأ الحدود بالشبهات!!
أي عدالة يمكن أن تبلغ هذه العدالة؟!
" روي أن غلماناً لابن حاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فأتى بهم عمر، فأقروا، فأمر كثير بن الصلت بقطع أيديهم، فلما ولى رده. ثم قال: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه لحل له، لقطعت أيديهم. ثم وجه القول لابن حاطب بن أبي بلتعة فقال: وايمن والله إذ لم أفعل ذلك لأغرمنك غرامة توجعك! ثم قال: يا مزني، بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربعمائة. قال عمر لابن حاطب: اذهب فأعطه ثمانمائة "!
فهذه حادثة واضحة الدلالة على أن " المجرم " لا يؤخذ بذنبه حتى ينظر الحاكم أولاً في دوافع الجريمة، فيزنها بميزان الحق والعدل، ويبحث عن المسئول الحقيقي فيها، فيوقع العقوبة عليه. وقد كان المسئول في هذا الحادث هو " السيد " الذي يمثل الملاك! بينما أعفى " المجرم " من العقاب، لأنه اعتبره واقعاً تحت ضغط الضرورة التي تغلب الإنسان على نفسه وتدفعه إلى الانحراف. وهي كذلك تطبيق عملي لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود بالشبهات".(11/189)
وإن الدول " الحرة " التي تعطف اليوم على المجرم، وتتلمس له المعاذير، وتخف عنه العقوبة أو ترفعها عنه - بعد أن كانت تشتد عليه وتقسو - هذه الدول تصنع ذلك بروح أخرى غير روح الإسلام! فعلم النفس التحليلي، وغيره من الدراسات النفسية والاجتماعية، يبرر الجريمة اليوم على أساس سلبية الإنسان إزاء الدوافع الداخلية أو الخارجية، وانعدام " الإرادة " التي تقوم عليها " المسئولية ". ولكن الإسلام لا يهبط إلى هذا المستوى في نظرته إلى الإنسان. إنه لا يلغي كيانه الإيجابي الفاعل المريد. ولا يسقط عنه مسئوليته كإنسان. وإنما هو - مع ذلك - يعطف عليه في لحظة الضعف، ويدرأ عنه الحدود بالشبهات.. فهو في الواقع عطف مضاعف - بالنسبة للمستوى الرفيع الذي يطالب به الإنسان - وهو عطف أكرم ولا شك من ذلك الذي تمارسه الدول " الحرة " على كائن لا إرادة له في نظرها ولا كيان!
أما الدول الجماعية التي تكفل للناس حاجاتهم، وتجعل الدولة مسئولة عنها، وتغني الناس - فيما تقول - عن الجريمة، فإنها تأخذ ثمن ذلك دكتاتورية بشعة، وتحكماً في كل صغيرة وكبيرة، واستعباداً للدولة. بينما كان عمر - الذي طبق هذا المبدأ، مبدأ مسئولية الجماعة ومسئولية الدولة عن حاجة الأفراد [101] - هو الذي يقول: " إن أحسنت فأعينوني، وإن وجدتم في اعوجاجاً لقومناه بحد السيف! " فلا يغضب، بل يقول في هدوء وطمأنينة:
" الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بحد سيفه! ".
* * *
الشريعة عادلة في ذاتها، ومطبقة بالمساواة على الجميع.
ولكن هذا وذاك لا يستنفدان كل معاني العدالة في شريعة الإسلام.
ما زالت هناك " الضمانات " المختلفة للفرد الذي يوجه له الاتهام: ضمانة الصدق في الاتهام ذاته. وضمانة حسن التحري. وضمانة التحقيق وضمانة التنفيذ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [102].
فهذه الضمانة الأولى.. لا يؤخذ أحد بالظنة. ولا بد أن يوزن الاتهام ذاته ليرى مبلغه من الصدق ومبلغه من الجد، فللناس حرماتهم المصونة وكراماتهم التي لا يجوز أن تمس.. إلا بالحق.
(وَلا تَجَسَّسُوا) [103]
فهذه هي الضمانة الثانية.. لا تكون الجاسوسية من وسائل الإثبات!
وقد روي أن عمر مر ببيت رابته منه أصوات.. فتسور الجدار فوجد قوماً يشربون ويغنون فأراد أن يعاقبهم.. فقام له صاحب االدار فقال عمر: وما ذاك؟ قال: إن الله تعالى يقول: (وَلا تَجَسَّسُوا) وأنت تجسست علينا. ويقول: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) وأنت تسورت علينا! فلم يجد عمر أمامه إلا أن يستتيبه!
ثم ضمانات التحقيق.. وهنا يرتفع الإسلام إلى القمة التي لم تبلغها الإنسانية في غير الإسلام إلا منذ فترة قريبة، وبدافع الصراع الدموي الطويل الذي فصلناه من قبل، لا بدافع الإنسانية الطليقة التي تكرم " الإنسان " حتى في لحظة الهبوط!
إن المحقق ليست مهمته الإيقاع بالمجرم وتضييق الخناق عليه في التحقيق! ولا يجوز له أن يستخدم وسيلة من وسائل الإرهاب تنتهي بالاعتراف.
جاء في سنن أبي داود (ج 4 ص 191): " حدثنا عبد الوهاب بن بجدة.. أن قوماً من الكلاعيين سرق لهم متاع. فاتهموا أناساً من الحاكة، فأتوا النعمان بن بشير صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فحبسهم أياماً ثم خلى سبيلهم. فأتوا النعمان فقالوا: خليت سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان؟ فقال النعمان: ما شئتم! إن شئتم أن أضربهم.. فإن خرج متاعكم فذاك، وإلا أخذت من ظهوركم مثل ما أخذت من ظهورهم! فقالوا: هذا حكمك؟ فقال: هذا حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم " [104].
أما الذي يعترف بنفسه.. فالقمة التي وصل إليها الإسلام بشأنه عجب عاجب في التاريخ!
" حدثنا موسى بن إسماعيل.. أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بلص قد اعترف اعترافاً ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما إخالك سرقت؟! " قال: بلى! فأعاد عليه مرتين أو ثلاثاً، ثم أمر فأقيم عليه الحد " [105].
أما قصة ماعز بن مالك الذي اعترف على نفسه بالزنا فهي قصة مشهورة. فقد ظل يجيء إلى الرسول مرة بعد مرة يعترف لديه والرسول صلى الله عليه وسلم يرده، حتى اعترف أربع مرات، فعاد الرسول يسأله ويستوضحه وينفي له التهمة أو يفتح له طريق الخلاص! فيقول له: " لعلك قبّلت، أو غمزت، أو نظرت ".
وماعز يصر ويقول لا! فقال له: " أزنيت؟ " قال: نعم! قال: " فهل تدري ما الزنا؟ " [106]. فما أقام عليه الحد حتى اطمأن اطمئناناً كاملاً أنه يصر على الاعتراف ولا يريد أن يدرأ عن نفسه العذاب!
فإذا كان هذا هو جو التحقيق فلا مجال بطبيعة الحال لشيء من الوسائل البشعة التي تتخذ في غير الإسلام.(11/190)
أما التنفيذ بعد كل هذه الضمانات.. التنفيذ في مجرم تثبت عليه التهمة من غير إكراه، ووقعت عليه عقوبة في ذاتها عادلة، ووقعت لأنه لا شبهة في الجريمة تدفع عنه الحد.. التنفيذ بعد ذلك كله يحمل ضماناته!
حدثنا أبو كامل.. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه " [107].
وقال صلى الله عليه وسلم: " لا تعذبوا بعذاب الله " [108] (أي النار).
وقال صلى الله عليه وسلم: " فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة " [109].
ولكن هذا ليس كل ما هناك...
لقد بلغنا العدالة ولم نبلغ بعد قمة الإسلام!
إن المجرم إذا وقعت عليه العقوبة بعد هذا الاحتياط كله.. المجرم الذي لا شبهة في جريمته.. المجرم الذي لا عذر له في ارتكابها.. وإنما هي نزوة من نزوات النفس الشريرة، ودفعة من دفعات الهبوط..
ذلك المجرم لم يخرج بعد من دائرة الإنسانية، بل لم يخرج من دائرة الجماعة الإسلامية! إنه لا ينبذ ولا يضطهد.. ولا يعيّر بجريمته.. ولا يذّكر بها.. ولا يحول شيء قط بينه وبين أن يعود إلى الجماعة - في لحظته - تائباً منيباً إلى الله، فيقبل فيها وتفتح له القلوب.
" حدثنا قتيبة بن سعيد.. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب، فقال: " اضربوه ". قال أبو هريرة، فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه. فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقولوا هكذا. لا تعينوا عليه الشيطان " [110].
وفي حادث السارق الذي مر ذكره، والذي أمر الرسول بإقامة الحد عليه، قال له الرسول: " استغفر الله وتب إليه " فقال: استغفر الله وأتوب إليه، فقال: " اللهم تب عليه اللهم تب عليه " ثلاث مرات[111].
نعم إن الإسلام لا يحب أن يفقد نفساً واحدة يمكن أن تتوب إلى الله وتهتدي إليه. إنه لا يصر على لحظة الضعف التي تصيب فرداً من البشر، ولا يُعنِتُهُ من أجلها. وإنما يفتح له بابه لكي يعود.. يعود إلى الله ويعود إلى الجماعة، فينطلق فيما هي منطلقة من الخير، ويأخذ لنفسه من ذلك الخير بنصيب. ولا تقف الجريمة العابرة حاجزاً في حياته، ولا تسمم أحاسيسه وأفكاره، ولا توصد أمامه الأبواب فيصبح مجرماً مصراً على الإجرام بعد أن كان مجرماً بغير قصد. وذلك معنى قول الرسول الكريم: " لا تعينوا عليه الشيطان ".
ومع ذلك فإن تكريم الرسول الكريم للبشرية.. " للإنسان " الذي خلقه الله في أحسن تقويم.. حتى وهو يرتد في لحظة لأسفل سافلين.. تكريمه له ما دام لا يصر على الإثم ولا يمرد عليه، ولا يقف عند الأحياء الذين يرجوهم للجماعة، ويستبقيهم لخير يمكن أن يصنعوه في الأرض، أو ليتقي شراًّ يمكن أن يصدر عنهم - أي لأهداف " عملية " واقعية! - وإنما يتجاوز ذلك إلى آفاق أخرى، رفافة شفيفة، نسيجها الرحمة الخالصة، والتكريم الخالص.. لوجه الله!
جاء في قصة ماعز بن مالك: ".. فأمر به فرجم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب. فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجليه، فقال: " أين فلان وفلان؟ " فقالا: نحن ذان يا رسول الله. قال: " انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار ". فقالا: يا نبي الله، من يأكل من هذا؟ قال: " فما نلتما من عرض أخيكما آنفاً أشد من أكلٍ منه. والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها ".
يا الله.. ويا نبي الله.
ألا إنها آفاق ما بعدها آفاق.. ألا إنه النور الذي يشع من هذا القلب الكوني الذي يتصل بالله، ثم يفيض بالرحمة والهدى على عباد الله..
وذلك كله قبل أن يقول قولته علم الاجتماع وعلم الاقتصاد، وعلم النفس التحليلي وعلم الجريمة، قبل أن يتفلسف المتفلسفون في هذا الميدان بأكثر من ألف عام.
ــــــــــــــــ
[85] رواه عبد الله بن عباس (ورد في كتاب الكامل لابن عدي وفي مسند أبي حنيفة للحارثي).
[86] ذكره صاحب مصابيح السنة في الصحاح.
[87] سورة الزمر [ 5 ].
[88] سورة آل عمران [ 191 ].
[89] سورة المؤمنون [ 115 - 116 ].
[90] سورة النحل [ 90 ].
[91] سورة النساء [ 58 ].
[92] سورة المائدة [ 8 ].
[93] سورة الأنعام [ 152 ].
[94] سورة النساء [ 1 ].
[95] سورة الحجرات [ 13 ].
[96] سورة يس [ 32 ].
[97] مسلم وأبو داود.
[98] رواه الستة.
[99] انظر بالتفصيل فصل " الإسلام والرق " في كتاب " شبهات حول الإسلام ".
[100] الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي.
[101] مبدأ كفالة الدولة للأفراد ومسئوليتها عن جميع أمورهم مبدأ صريح في الإسلام، وقد كان عمر رضي الله عنه يقول: لو أن بغلة عثرت بصنعاء لكنت مسئولاً عنها لِمَ لَم أسوِّ لها الطريق! ويقول ابن حزم في صراحة إن (الجماعة) مسئولة عن كل فرد فيها، وإن للإنسان أن يقاتل من في يده طعامه أو شرابه (إذا منعه عنه) فإن قتل لأهله الدية، وإن قتل تدفع لا يقام عليه الحد!(11/191)
=========================
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(10)سفينة المجتمع
" مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً " [112].
* * *
صورة عجيبة تلك التي تتمثل في النفس من قراءة هذا الحديث.. صورة حية شاخصة موحية معبرة.
وإن هناك لجمالاً بديعاً في هذا التشبيه بالسفينة. فالحياة كلها هذه السفينة الماخرة في العباب، لا تكاد تسكن لحظة حتى تضطرب من جديد. ولن يكتب لها السلامة والاستواء فوق الموج المضطرب حتى يكون كل شخص فيها على حذر مما يفعل، ويقظة لما يريد.
والمجتمع كله هذه السفينة.. يركب على ظهرها البر والفاجر، والمتيقظ والغفلان، وهي تحملهم جميعاً لوجهتهم.. ولكنها - وهي محكومة بالموج المضطرب والرياح من جانب، وما يريده لها الربان من جانب - لتتأثر بكل حركة تقع فيها، فتهتز مرة ذات اليمين وتهتز مرة ذات الشمال، وقد تستقيم على الأفق أحياناً أو ترسب أحياناً إلى الأعماق..!
وإن كثيراً من الناس لينسى - في غمرته - هذه الحقيقة. ينسى سفينة المجتمع أو سفينة الحياة.
ينسى. فيخيل إليه أنه ثابت على البر، راكز راسخ لا يضطرب ولا يزول.
ومن أجل ذلك يفجر أو يطغى..
ولو تذكر من استكبر وطغى أنه ليس راكزاً على البر ؛ ليس دائماً في مكانه، ولا خالداً في سطوته، وإنما هي رحلة قصيرة على سفينة الحياة.. لو تذكر ذلك ما استكبر ولا طغى، ولا اغتر بقوته الزائلة عن الحقيقة الخالدة، ولعاد لمصدر القوة الحقيقية في هذا الكون، يستلهم منه الهدى، ويطلب منه الرشاد، ويسير على النهج الذي أمر به وارتضاه للناس.
ولو تذكر من يفجر وينحرف أنه ليس راكزاً على البر، وإنما هو منطلق على العباب.. وأن كل حركة يأتيها تتأثر بها السفينة فتهتز.. لو تذكر ذلك لما ترك نفسه لشهواته ولانحرافاته، ولعمل حساباً لكل خطوة يخطوها وكل حركة يتحركها حرصاً على نجاته هو ونجاة الآخرين..
ولكنها الغفلة السادرة التي تخيم على البشرية.. إلا من آمن واتقى وعرف ربه واهتدى إليه.
والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يدرك هذه الغفلة التي ترين على قلوب الناس، فيحذرهم منها، ويصورها لهم في صور شتى، من أعجبها أبلغها هذه الصورة التي يرسمها هذا الحديث، صورة السفينة الماخرة في العباب..
* * *
حين قال الإقطاعيون لأنفسهم: نملك الأرض وكل من عليها عبيد..
وحين قال الرأسماليون لأنفسهم: نملك المصانع والعمال فيها عبيد..
وحين قال الأباطرة المقدسون: نملك الملك والرعايا عبيد..
وحين قال غيرهم وغيرهم من الظالمين مثل قولتهم، لم تكن غير نتيجة واحدة في كل مرة، غرقت السفينة المخروقة، وغرق من عليها من سادة ومن عبيد!
وانظر في ثورات الأرض المزلزلة التي أطارت الرءوس وأجرت الدماء، وانظر إلى الحروب المدمرة التي تأكل الأخضر واليابس وتسمم الحياة، لم تكن غير نهاية طبيعية للخرق المخروق في السفينة، تتدفق عن طريقه المياه..
* * *
ويقوم شاب مفتون ينجرف في تيار الشهوات، يقول: من يحرِّجُ عليّ فيما أصنع؟ أفعل ما بدا لي، وليس لأحد عليَّ سلطان.
ويتركه الناس!
يتركونه يفسق ويفجر، وينشر الفاحشة في المجتمع.
يتركونه خوفاً وطمعاً إن كان من زمرة السادة الأثرياء. أو يتركونه استصغاراً لشأنه واستهتاراً بعواقب الأمور.
وقد يقول في نفسه يبرر فجوره: وهل يمكن أن أؤثر في المجتمع وأنا شخص واحد مفرد الكيان؟ هل أنا إلا قطرة في الخضم؟ فلتكن قطرة سم! فكيف تفسد الخضم؟! هل قبلة في الهواء، أو ضمة مختلسة في الظلام، أو ساعة ممتعة في خلوة، هل هذه يمكن أن تؤثر في المجتمع وتهدم الأخلاق؟!
وإنه لينسى.. والساكتون عليه ينسون..
إنه يتصور نفسه شخصاً واحداً في المجتمع - قطرة واحدة في الخضم - وينسى والناس ينسون أن كل واحد يقول ذلك وهو يلقى القطرة السامة في الخضم.. ولا بد أن تتجمع في النهاية السموم.
بل قد يتبجح الفتى زيادة فيحدث نفسه أو يحدث الناس: وهل أنا وحدي الذي سأصلح المجتمع الفاسد؟ لقد فسد وانتهى الأمر. فهب أنني امتنعت وحدي عن الجريمة واحتملت وحدي اضطراب النفس واحتراق الأعصاب.. فأي جدوى من ذلك وأي نتيجة؟ أحترق في النهاية وحدي ويستمتع الآخرون..!
وقد يكون ذلك حقاً!
ولكنه لم يكن كذلك حين فجر أول فاجر وتركه الناس! حين خرق أول مفتون مكانه في السفينة فلم يأخذوا على يديه. حين ظن أول خارج على المجتمع والأخلاق والتقاليد أنه لن يضر الناس شيئاً، وأنه يخرق مكانه وهو حر فيه..(11/192)
وحين يصبح حقاً ما يقوله الفتى.. حين يكون المجتمع فاسداً إلى المدى الذي لا يصلحه امتناع فرد، ولا تؤثر فيه نظافة ضمير.. حين ذلك تصدق سنة الله وتصدق كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم .. ينهار المجتمع كله، وتغرق السفينة الطافحة بالمياه.
* * *
وتقوم فتاة مستهترة، تتقصع في مشيتها، وتتكسر في حديثها، وتعري ما يحلو لها من جسدها، وتتعرض للشباب تثير فتنة الجنس ونوازع الحيوان.. تقول: من يحرج عليَّ فيما أصنع؟ أفعل ما بدا لي، وليس لأحد عليَّ سلطان.
ويتركها الناس!
وقد تقول لنفسها أو تقول للناس تبرر جريمتها: وأي شيء أصنع؟ هل أقتل نفسي كبتاً وأترهبن؟ أريد أن أنطلق. أريد أن أستمتع بالحياة. هذا حقي! كيف أناله؟ كيف أناله نظيفاً إذا أردت؟ أما ترون كل شيء حولي فسد واشتد به الفساد؟ فإن تطهرت فكيف أعيش؟ كيف أحصل على نصيبي المشروع من متعة القلب ومتعة الجسد ومتعة الحياة؟ وهل أنا التي أفسدت هؤلاء الشبان أم إنهم هم الفاسدون؟ إنهم حيوانات. إنهم ذئاب! إنهم هم يسعون إلى الصيد ويوقعون بكل غرة لا تعرف وسائل الذئاب. فلست بدعاً في المجتمع. ولن أصده أنا عن التيار!
وقد يكون في كلامها شيء من الحقيقة.
ولكنه لم يكن حقيقة يوم فجرت أول فتاة فتركها الناس. حين خرجت أول فتاة مستهترة عابثة تحطم التقاليد وتهزأ بالأخلاق.. يوم خرقت مكانها في السفينة وقالت هو مكاني ولن يضر غيري من الناس.
وحين يصبح ما تقول الفتاة حقاً.. حين يفسد المجتمع إلى المدى الذي تحس الفتاة النظيفة أنها لا تجد نصيبها المشروع من متعة الحياة.. حينئذ تتحقق سنة الله، ويؤذن المجتمع كله بالانهيار.
* * *
ويقوم كاتب يزين الفاحشة ويحسنها للناس، يقول: أنا حر فيما أكتب. أين حرية الرأي؟ أكتب ما بدا لي. وليس لأحد عليَّ سلطان.
ويتركه الناس.
يتركونه يعيث في الأرض فساداً، وينشر السموم في النفوس. يستهترون بأمره، أو يشغلون عنه في زحمة الحياة. ويهزون أكتافهم يقولون: هل نحن به مكلفون؟
ويستفيد ذلك الكاتب.. يستفيد شهرة وثراء، ونفوذاً في بعض الأوساط. ولا عجب في ذلك فتجار المخدرات وتجار الأعراض يصلون إلى الشهرة وإلى الثراء.
ويغري النجاح غيره من الكتاب فينغمسون في تيار الجريمة، ويقولون إنهم تقدميون. يقومون برسالة مقدسة، رسالة القضاء على التقاليد " البالية " والتحضير لمجتمع جديد.
وقد يتبجح كاتب أو صاحب صحيفة يبرر الجريمة لنفسه، أو يبررها للناس.. يقول: ماذا أصنع؟ لقد تسمم الجو كله وصار القراء لا يقبلون على الأدب " الأبيض " والكلام النظيف. لقد تعودوا على الصحف العارية والقصص العارية، والأفكار العارية. ولم يعد يؤثر فيهم غير هذا اللون من الإنتاج. هب أنني أصدرت صحيفة نظيفة فكيف تعيش؟ من يقرؤها؟ كيف تغطى نفقاتها؟ ألا يكون ذلك انتحاراً؟ أو غفلة؟ أو جنوناً لا يقدم عليه عاقل؟ وماذا يصنع كاتب واحد أو صحيفة واحدة في التيار المسموم؟ هل يصنع إلا أن يفشل ويثير بفشله شماتة الشامتين؟!
وقد يكون هذا حقاً!
ولكنه لم يكن كذلك حين خرج أول كاتب يدعو إلى الفاحشة وتركه الناس. يوم هزوا أكتافهم وقالوا: هل نحن به مكلفون؟
وحين تصل الأمور إلى هذا الحد.. يوم يصبح الكاتب النظيف لا يجد الجمهور الذي يقرؤه أو الصحيفة التي تنشر له.. يوم لا تستطيع الصحيفة النظيفة أن تعيش.. يومئذ تكون السفينة قد أثقلت بما فيها من الماء، واضطربت مما فيها من الخروق.. وتتحقق سنة الله في الأرض، ويؤذن المجتمع كله بالانهيار.
ويقوم والد ضعيف الشخصية تحكمه امرأته، أو يحكمه الترف والاسترخاء.. يترك أولاده يعيثون بلا رقابة، يقول: هم أولادي وأنا حر فيهم! أفعل ما بدا لي، وليس لأحد عليَّ سلطان.
ويتركه الناس.. يتركونه تملقاً، أو يتركونه استخفافاً، يقولون: هو في النهاية الخاسر، وما لنا عليه من سبيل.
ويستمتع الأولاد.. يستمتعون بالتحلل من الضوابط والانفلات من القيود.
ويستمتعون بلذة الهبوط!
وهي لا شك متعة للمزاج المنحرف والكيان المقلوب! فمن الثابت أن الكيان الناقص - حين لا يكمّل بالطريق الصالح، ولا يوجه التوجيه السليم - يجنح إلى التكملة من طريق هابط، ويحس " بالنضوج " " والتميز " " والمتعة " من هذا الطريق!
وهذه المتعة تغري غيرهم من الأولاد فينجرفون في الطريق.. يجدون اللذة المنشودة، والنضوج المنحرف، والتميز بين الأقران.. ويروحون يتمردون على أهليهم وينفلتون من القيود.
ويقول الولد لأبيه: أنت رجعي. أنت متأخر. أنت تتجاوز حدودك. من تظنني أمامك. لست طفلاً. أنا رجل مثلك. أنا أتحمل مسئولية نفسي. تريد أن تستعبدني بما تنفق عليَّ؟ كلا! إنك ملزم بالإنفاق. ولكنك لا تملك التدخل في شئوني. أنا أدرى بما يضر وما ينفع. أنا أعيش بعقلية جديدة متحررة متطورة. أنا أفهم ما يدور في المجتمع وأتطلع إلى المستقبل.. إلى الأمام.. فليس لك عليَّ سلطان!(11/193)
وتقول الفتاة لأبيها وأمها: أين تعيشون! إنكم تعيشون بعقلية الجيل الغابر.. المتأخر.. الرجعي.. أما أنا فأعيش بعقلية متحررة. ماذا تريدون مني؟ هل تظنون أنكم أنتم الرقباء عليَّ إن أردت أن أفسد؟ وأن وصايتكم عليَّ تحميني من السقوط؟ أنا القيّم على نفسي. وأنا الرقيبة على أخلاقي! وليست الأخلاق هي الملابس أو هي العزلة عن المجتمع! ما الذي سيحدث حين أكشف ذراعيّ أو ساقيّ؟ أو أكشف جزءاً من صدري؟ هل ستنقص مني قطعة؟ وماذا سيصنع لي الشبان حين ينظرون إليَّ أو يكلمونني في الطريق؟ هل ستخرب الأرض؟ إنكم تتصورون الأمور بعقلية جامدة لا تفهم " التطور " ولا تفهم الحياة! وعلى أي حال فذلك شأني وحدي. وليس لأحد عليَّ سلطان!
ويشكو الآباء! يشكون أن أبناءهم تمردوا عليهم، ولم يعد في مقدورهم أن يردوهم إلى السبيل! ويقولون إن المجتمع فاسد يفسد عليهم الأولاد!
وقد يكون ذلك حقاً!
ولكنه لم يكن كذلك يوم فسد أول جيل من الأبناء فتركوهم يفسدون!
وحين يحدث ذلك.. حين ينفلت الأولاد بلا ضابط، لا يحكمهم أهلوهم، ولا يحكمهم مدرسوهم في المدرسة، لأن الوالد قد أفسد على المدرس مهمة التوجيه.. حينذاك تتحقق السنة الماضية، وتغرق السفينة وكلها خروق!
* * *
ويقوم طالب يغش في الامتحان، يقول: أصنع ما بدا لي. وليس لأحد عليَّ سلطان.
ويتركه الناس.
يتركونه " إشفاقاً على مستقبله "! أو يتركونه استخفافاً بالجريمة.
وينجح الطالب، ويستمتع بهذا النجاح الميسر البسيط التكاليف..
ويغري النجاح غيره.. فيروحون يعبثون العام كله، يتسكعون في الطرقات، ويجرون كالكلاب الشاردة وراء الفتيات.. ثم يسهرون الأسبوع الأخير يحضِّرون " البرشام " من أجل الامتحان.
ويحس الآخرون من الشرفاء أنهم مظلومون! هم يسهرون العام كله في العمل، ثم لا يبلغون - بالجد والأمانة - ما يبلغه الغشاش بغشه، وقد ينجح وهم يرسبون! وقد يصل إلى " الوظيفة " وهم قاعدون!
لا جرم ينصرف أغلبهم عن النشاط العلمي الصادق، وينقلبون إلى مخادعين غشاشين!
ولا جرم تجد بعد ذلك الموظف الذي يذهب في الموعد وينصرف في الموعد - إن شدد عليه في الحضور والانصراف - ولا يعمل عملا طيلة وقت " الديوان "!
ولا جرم تجد المهندس الذي لا يوافق على " مواصفات " البناء أو " المواصفات الصحية " وأنت تؤديها على وجهها الأكمل، ثم يوافق على أقل منها كثيراً إن دسست في يده " المعلوم "!
ولا جرم تجد الطبيب الذي لا يعطيك العلاج الكامل الذي يشفيك من أول مرة، ويروح يطيل العلاج ويطلبك تمر عليه مرة بعد مرة ليزداد منك كسباً، وتكسب معه معامل الأدوية التي " يتعامل " معها أو يكسب الموردون!
كلهم غشاشون!
كلهم ذلك الطالب الأول الذي تركه الناس غافلين.
وحين يصبح الغش هو " العملة " السارية في المجتمع، فلا جرم يذهب المجتمع أسفل سافلين!
ويقوم موظف يرتشي.. يقول: من يحرِّج عليَّ فيما أصنع؟ أفعل ما بدا لي، وليس لأحد عليَّ سلطان.
ويتركه الناس!
يتركونه بدافع الحاجة إلى ما في يده من المصالح، أو بدافع الخوف إن كان من ذوي النفوذ.
ويستفيد ذلك المرتشي.. يستفيد ثروة سهلة المأخذ مضمونة الورود.
ويغري الثراء غيره من الموظفين، فيندفعون في تيار الشهوة ينهلون من هذا المنهل الدنس، ويلغون في دماء المحتاجين.
وتأخذ الموجة مداها.. حتى تصبح الأمور كلها بالرشوة، ومن غيرها توصد الأبواب في وجه أصحاب الحقوق.
وقد يتبجح موظف يبرر الجريمة لنفسه أو يبررها للناس، يقول: هل أنا وحدي الذي أرتشي؟ هل أنا وحدي الذي أشيع الفساد.. فهل تنتظم مصالح الناس كلها، وتفتح لهم الأبواب؟ كل ما يحدث أنني أحرم نفسي من المعين المتاح، وأظل فقيراً وأنا رب أسرة وصاحب عيال.
وقد يكون هذا حقاً..
ولكنه لم يكن كذلك حين بدأت الرشوة أول مرة وسكت عنها الناس، أو شجعوها وأغروا بها المرتشين.
وحين تصل الأمور إلى هذا الحد.. حين تصبح الرشوة هي الأصل والنظافة هي الشذوذ.. حينذاك تقع الهزة التي تزلزل المجتمع كله من القواعد، فلا يلبث أن يتهاوى إلى القرار..
* * *
صدق رسول الله. وصدقت حكمته:
"ما أسكر كثيره فقليله حرام"..
"مروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر قبل أن تدعو فلا أجيب"..
إن حديث السفينة يجمع ما في الحديثين السابقين، ولكنه يضيف إليهما معاني أخرى جديرة بالتدبر والتفكير..
وإن أول ما يستلفت النظر في الحديث أن الرسول الكريم لم يقسّم ركاب السفينة بحسب أماكنهم الظاهرية في المجتمع، علواً وسفلا، وثراء وفقراً، وبروزاً وتواضعاً.. لم يجعل " السادة " هم الأعلون و " الشعب " هو الأسفل. كلا. فما كانت هذه القيم هي التي تقسم الناس عند رسول ينطق بحكمة الله ويبلغ رسالة الله.(11/194)
إن الأعلى في تقدير الله ورسوله " هو القائم في حدود الله ". هو المنفذ لشريعة الله. هو المهتدي بهدي الله. أياًّ كان مكانه الظاهري في المجتمع. فالقوة الحقيقية لا تستمد من عرض الأرض، ولا من القيم الأرضية المنقطعة عن الله. إنما تستمد من الله. من الإيمان به والاعتزاز بهذا الإيمان. (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فالإيمان هو القوة الحقة، وهو مصدر " العلو " ومصدر التوجيه. وكل قيمة سواه زائفة لا تلبث أن تضيع.
أما " الواقع فيها " فهم العصاة المنحرفون في كل جانب من جوانب العصيان والانحراف، بصرف النظر عن مركزهم " الظاهري " في المجتمع. فهذا المركز لا يساوي شيئاً، ولا يقي من الله شيئاً حين يؤدي إلى الميل عن الطريق. بل إنه لا يساوي شيئاً في واقع الأرض، ولا يقي من النتيجة المحتومة حين يأذن الله بتحقيق السنة في أوانها المعلوم! فحين تغرق السفينة من شدة الفساد لا يقول السادة للشعب: اغرقوا أنتم وحدكم ونحن ناجون من الهلاك!
وحين يطلب الرسول من القائمين في حدود الله أن يأخذوا على يد الواقعين فيها لا يحدد مهمتهم بمراكزهم الظاهرية في المجتمع، وإنما بأماكنهم الحقة في سفينة المجتمع وسفينة الحياة، فما داموا مؤمنين فهم القوة الحقة. القوة الموجهة. القوة الآخذة على أيدي العابثين. وهذه مهمتهم، عليهم أن يعرفوها بصرف النظر عن ثرائهم أو فققرهم، ورئاستهم أو مرءوسيتهم.. فما بهذا توزن الأمور..
* * *
والأمر الثاني هو وحدة المصلحة في المجتمع، وإن بدت المصالح ظاهرة الخلاف!
إن كل الأمثلة التي أوردناها حول محور واحد، مستمد من معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء قوم لهم " مصالح قريبة " يستنفعون منها على حساب الآخرين. ولو تركهم المجتمع حقبة من الزمن فسوف يستفيدون حتماً من هذا السكون. يستفيدون توفير الجهد، وتوفير مغالبة الشهوات. ويأتيهم رزقهم قريباً سهلا ميسراً لا يتعبون فيه.
ولكن حقبة من الزمن تمضي - طويلة أو قصيرة - ثم يأخذ الفساد في الانتشار وتبدأ السفينة في نهاية المطاف.. تغرق وتأخذ معها الظالمين والمظلومين على السواء! ومن ثم فالمصالح النهائية واحدة. والأخطار النهائية واحدة.. ليست هناك مصلحة لفرد هي مصلحته وحده وشأنه بمفرده. كل مصلحة هي مصلحتهم جميعاً وكل ضرر يصيبهم جميعاً.. ولا يستطيع أحد أن يتخلى عن مسئوليته في هذا السبيل.
وهنا تبرز بعض الحيرة إزاء الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [113]. وهي حيرة وقع فيها المسلمون الأوائل أنفسهم فقام أبو بكر رضي الله عنه ينبههم إلى طريق الصواب.
قال: يأيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية.. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" (رواه أبو داود والترمذي).
نعم " عليكم أنفسكم " عليكم المجتمع الذي تعيشون فيه. وليس عليكم غيركم من المجتمعات أو الأفراد غير المسلمين. فهؤلاء لا يضرونكم متى اهتديتم وعملتم بما يريده الله. أما الأعمال التي يقوم بها المسلمون في المجتمع المسلم فليس حكمها كذلك. إنها مسألة حياة أو موت بالنسبة لهذا المجتمع. فإما أن يحس بوحدة المصلحة فيأخذ على يد الظالم - من أي نوع كان ظلمه ؛ لنفسه أو للآخرين - فينجو المجتمع كله، وإما أن يترك الأمر خوفاً وطمعاً أو استهتاراً وتهاوناً.. فتحدث الطامة التي تغرق الجميع.
* * *
ومن وحدة المصلحة ينشأ الترابط بين أفراد المجتمع ترابطاً لا يتخلخل ولا تنقطع عراه. إنهم ركاب سفينة واحدة، ناجية أو غارقة، فكيف يمكن أن ينفصل بعضهم عن بعض أو يتجاهل بعضهم وجود بعض؟
وإنه - وهو ترابط المصلحة الواحدة التي يلتقي عندها الجميع - لهو في الوقت ذاته ترابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله. ترابط التعاون على البر والتقوى وليس ترابط التعاون على الإثم والعدوان.
* * *
ترابط لا يقول فيه إنسان: ما شأني أنا بفلان، فليصنع ما يشاء ولن أتدخل في أمره!
ولا يقول فيه إنسان لآخر: ما شأنك بي! سأصنع ما أشاء ولا تتدخل في أمري!
كلا! إن أمور المجتمع لا يمكن أن تستقيم كذلك.. لا بد من يقظة كل فرد لأعمال أخيه، ولا بد من رده عن الخطأ والإسراف فيه.
وليس معنى ذلك أن يتحول المجتمع إلى منازعات ومشاحنات!
كلا! فليس هذا هو الطريق!
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [114] (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [115].
هذا هو الطريق..(11/195)
إن الترابط هو ترابط الحب. لا البغضاء.
وإن النصيحة لتصدر من هذا المنبع العذب. أنا أنصح أخي لأنني أحبه. لأنني أريد له الخير. لأنني أريد أن آخذ بحجزه أن يقع في النار! وهو يتقبل مني النصيحة على هذا الوضع.. لأنه يحبني ويثق في نظافة النصح والتوجيه.
أما " الأخذ على اليد " بما تحمله من معنى الزجر أو العنف فليست أول الطريق!
إنما هي النهاية حين تفشل الوسائل كلها ولا يتبقى غير هذا الطريق!
* * *
ورب قائل أن يقول - عن إخلاص نية - مقالة الفتى المستهتر أو الفتاة الهوجاء:
وهل أنا وحدي سأصلح المجتمع. هل أنا - حين أومن وأعمل صالحاً - سأنقذ السفينة الهاوية إلى القرار!
كلا!
فحين توجد في مجتمع يوشك أن يتحطم، في سفينة توشك على الهلاك، فلن تقفها وحدك عن النهاية المحتومة، ولن تنقذها وحدك من الهلاك.
نعم. ولكنك تنقذ نفسك!
فحتى حين تتحقق السنة التي لا تتخلف.. حتى حين ينفذ الوعد الحق وتتحطم السفينة.
حتى حينئذ.. فشتان بين غريق وغريق!
غريق في جهنم لأنه فاجر.
وغريق في الجنة لأنه شهيد.
فمن ذا الذي يبيع الآخرة بالدنيا، ويسعى إلى النار - وهو يغرق - في حين يملك - حتى وهو يغرق - أن يسعى إلى النعيم؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[102] سورة الحجرات [ 6 ].
[103] سورة الحجرات [ 12 ].
[104] رواه أبو داود.
[105] أبو داود.
[106] أبو داود من روايات متعددة.
[107] أبو داود.
[108] أبو داود.
[109] انظر فصل " وليرح ذبيحته ".
[110] أبود داود.
[111] أبو داود.
[112] رواه البخاري والترمذي.
[113] سورة المائدة [ 105 ].
[114] سورة فصلت [ 33 - 34 ].
[115] سورة النحل [ 125 ].
=================================
قَبَسَاتٌ مِنَ الرسول صلى الله عليه وسلم(11)أنتم أعلم بأمور دنياكم
قصة هذا الحديث معروفة..
فقد مر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة على قوم يؤبرون النخل - أي يلقحونه - فقال: " لو لم يفعلوا لصلح له " فامتنع القوم عن تلقيح النخل في ذلك العام ظناً منهم أن ذلك من أمر الوحي، فلم ينتج النخل إلا شيصاً (أي بلحاً غير ملقح، وهو مر لا يؤكل) فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة سأل عما حدث له فقالوا: " قلت كذا وكذا.. " قال: " أنتم أعلم بأمور دنياكم " عن عائشة وعن ثابت وعن أنس): وفي صحيح مسلم عن موسى بن طلحة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أظن يغني ذلك شيئاً ".. ثم قال: " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه. فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن. ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به ".
* * *
تلك قصة الحديث..
وهي واضحة الدلالة فيما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم للناس من أمور يتصرفون فيها بمعرفتهم، لأنهم أعلم بها وأخبر بدقائقها. إنها المسائل " العلمية الفنية التطبيقية " التي تتناولها خبرة الناس في الأرض، منقطعة عن كل عقيدة أو تنظيم سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي. وهي في الوقت ذاته تصلح للتطبيق مع كل عقيدة وكل تنظيم، لأنها ليست جزءاً من أي عقيدة أو أي تنظيم.. بل إنها حقائق علمية مجردة عن وجود الإنسان ذاته بكل عقائده وكل تنظيماته. كحقيقة اتحاد الأكسجين والإيدروجين لتكوين الماء، وحقيقة انصهار الحديد في درجة كذا مئوية. هي حقائق ليسن ناشئة عن وجود الإنسان. وإنما هي سابقة له، موجودة منذ وجدت هذه العناصر في الكون. وقصارى " تدخل " الإنسان فيها أن يكتشفها ويعرفها، ثم يستغلها لصالحه، ويطبقها في حياته العملية.
وقصة النخل لا تخرج عن كونها حقيقة علمية اكتشفها الإنسان فطبقها في حياته العملية: حقيقة التلقيح والإخصاب في عالم النبات. وهي عملية لا يتم بدونها تكون الثمرة ونضجها على النحو المعروف. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقطع فيها برأي - كما هو ظاهر من الحديث - وإنما قال: " إنما ظننت ظناً ". ولعل الشك الذي ساوره صلى الله عليه وسلم قد جاء من اعتقاده بأن الله لا بد أن يكون قد أودع فطرة الحياة ما تتم به عملياتها " البيولوجية " دون حاجة إلى تدخل الإنسان..! وطالما خطر في نفسي أنا هذا السؤال: من كان يلقح النخيل، وينقل فسائل النباتات التي لا تنمو بغير التنقيل، قبل أن يوجد الإنسان على ظهر الأرض، والنباتات كلها سابقة للإنسان في الخليقة؟! ولا شك أن علماء النبات لديهم لهذا السؤال جواب. ولكني أقول فقط: إنها خاطرة جديرة بأن تخطر على قلب إنسان!
هي إذن المسائل " التكنيكية " البحتة بتعبيرنا العلمي الحديث. المسائل التي يتحصل عليها المؤمنون والكفار سواء. ولا تؤثر بذاتها في عقيدة القلب أو اتجاه الشعور.(11/196)
ومع ذلك فإن فريقاً من الناس يريدون أن يفهموا منها غير ما قصده الرسول وحدده. يريدون أن يبسطوها حتى تشمل الحياة الدنيا كلها، بتشريعاتها وتطبيقاتها، باقتصادياتها واجتماعياتها، بسياساتها وتنظيماتها. فلا يدعون لدين الله ولرسول الله مهمة غير " تنظيف القلب البشري وهدايته " بالمعنى الروحي الخالص، الذي لا شأن له بواقع الحياة اليومي، ولا شأن له بتنظيم المجتمع وسياسة الأمور فيه. ثم يسندون هذا اللون من التفكير للرسول صلى الله عليه وسلم، ويجعلونه - هو - شاهداً عليه!!
وما أريد أن أبادر بسوء الظن! فقد يكون هذا الفريق من الناس مخلصاً في تفكيره مطمئناً إليه! وقد يكون ذلك بالنسبة إليه مهرباً " لا شعورياً " من ضغط المفاهيم الأوربية - الغربية أو الشرقية - عن الدين من جانب، و" العلوم " الاقتصادية والاجتماعية المنقطعة عن الدين من جانب آخر. مهرباً يلجأ إليه العاجزون المغلوبون، ليحتفظوا بعقيدتهم الشخصية في الله، ثم يكونوا بعد ذلك تقدميين أو تحرريين!!
ولكن قليلاً من النظر كان جديراً أن يردهم إلى التفكير الصائب والتقدير الصحيح، ويرفع عنهم هذه الذلة الفكرية التي يعانونها إزاء الغرب، فتلوي أفكارهم - بوعي أو بغير وعي - وتفسد مشاعرهم فينحرفون عن السبيل.
لو كان الإسلام رسالة " روحية " بالمعنى المفهوم لهذا اللفظ - المعنى الوجداني الخالص الذي لا شأن له بواقع الحياة اليومي - ففيم إذن كان هذا الحشد الهائل من التشريعات والتوجيهات في القرآن والحديث؟
وفيم إذن يقول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)! ثم يعقب في نفس الآية بالتهديد للمخالفين: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [116]؟!
فيم هذا كله إذا كانت المسألة هي " تنظيف القلب " ليس غير؟!
* * *
وإن تنظيف القلب البشري لمهمة ضخمة دون شك.. مهمة تحتاج إلى رسول!
وإنها - حين تنجح - لهي الضمان الأول لسلامة الحياة كلها واستقامتها ونظافتها. فإن أخفقت.. فلا ضمان!
والإسلام يوجه لهذا القلب أكبر عناية يمكن أن يوجهها إليه نظام أو دين. فهو يربطه دائمًا بالله، ويوجهه دائماً لخشيته وتقواه والعمل على رضاه. ثم هو يتتبع هذا القلب في كل نزعة من نزعاته، وكل ميل من ميوله.. في الأعمال الظاهرة والمشاعر المستترة.. في السر الذي يخفى على الناس ولا يخفى على الله، بل فيما هو أخفى من السر، من المشاعر الساربة في حنايا الضمير [117].. يتتبعه في كل ذلك، عملاً عملاً وخاطراً خاطراً وفكرة فكرة.. فينظفها بخشية الله، والحياء من رقابته الدائمة التي لا يغيب عنها شيء في الأرض ولا في السماء.. ويوجهه إلى صفحة الكون الواسعة، وما فيها من آيات القدرة المعجزة، ليمسح عنه الغلظة التي تحجر المشاعر، والغبش الذي يحجب عنه النور.. ويطلقه من إسار الشهوات والضرورات التي تثقله وتشده إلى الأرض، لينطلق خفيفًا صافيًا شفيفًا يسبح الله ويفرح بهداه..
نعم.. يبذل الإسلام ذلك الجهد الضخم كله " لتنظيف القلب ".
ولكن الإسلام دين الفطرة.. الدين الذي يعرف أسرار الفطرة فيقدم لها ما يلصح لها وما يصلحها. الدين الذي يعالج الفطرة على أحسن وجه وأنسب طريقة، ليخرج منها بأقصى ما تستطيع أن تمنحه من الخير. الدين الذي يتلبس بالفطرة فيملؤها كلها ولا يترك فراغاً واحداً لا ينفذ إليه. الدين الذي يأخذ الفطرة كما هي كلاًّ واحداً لا يتجزأ، كلاً يشمل الجسم والعقل والروح، فيعالجها العلاج الشامل الذي يأخذ في حسابه الجوانب كلها. ويأخذها مرتبطاً بعضها ببعض في نظام وثيق..
ومن ثم لا يأخذ شعور الإنسان ويترك سلوكه. لا يأخذ " مبادئه " ويترك " تطبيقه ". لا يأخذ آخرته ويدع دنياه.. وإنما يعمل حساب ذلك كله في توجيهاته وتشريعاته سواء.
* * *
الإسلام يتناول الحياة كلها، بكل ما تشتمل عليه من تنظيمات. ويرسم للبشر صورة كاملة لما ينبغي أن تكون عليه حياتهم في هذه الأرض.
إنه يتناول الإنسان من يقظته في الصباح الباكر حتى يسلم جنبه للنوم في آخر المساء. يعلمه ويلقنه ماذا يصنع وماذا يقول أول ما يفتح عينيه، ثم حين يقوم، ثم حين يقضي ضرورته، ثم حين يؤدي صلاته، ثم حين يضرب في مناكب الأرض باحثاً عن رزقه: زارعاً أو صانعاً أو عاملاً أو بائعاً أو شارياً.. ثم حين يتناول طعامه، ثم حين يستريح من القيلولة، ثم حين يعود في آخر اليوم، ثم حين يلقى زوجه وأطفاله، ثم حين يضع جنبه، ثم حين يأخذ في النوم.. بل إذا صحا كذلك في وسط النوم فزعاً أو غير مفزّع!
وكما تناول الإنسان فرداً في جميع أحواله، فقد تناوله كذلك وهو يعيش في المجتمع مع غيره من الأفراد. فعلم المجتمع ولقنه كيف تكون الصلات بين أفراده، وكيف تكون العلاقات. وكيف ينشئ تقاليده على المودة والإخاء والحب، والتكافل والتعاون. وكيف يشتري وكيف يبيع. وكيف يزرع وكيف يجني. وكيف يملك وكيف يوزع الثروة بين الأفراد.(11/197)
وكما تناول الفرد والمجتمع تناول كذلك " الدولة " ممثلة المجتمع. فأعطى ولي الأمر حقوقاً وأوجب عليه واجبات. وعلمه ولقنه كيف يحكم الناس، وكيف يقيم بينهم العدل، وكيف يوزع المال بينهم، بأي نسب وعلى أي الفئات ومن أي الموارد. وكيف يعلن الحرب وكيف يقيم السلم، وكيف يتعامل مع الدول والجماعات والأفراد..
الحياة كلها بجميع دقائقها وتفصيلاتها. الحياة المادية والفكرية والروحية. الحياة الفردية والاجتماعية. الحياة بكل ما تشمله من مفاهيم. وكانت تلك هي طريقة الإسلام الفذة في " تنظيف القلب "!
أوَ يعجب الناس من هذا القول؟! أيقولون ما للقلب والروح بواقع الأرض؟ بالاقتصاد والسياسة والاجتماع؟!
ويح الناس!
أليسوا هم الذين " اكتشفوا " في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أن " مشاعر " الناس مرتبطة بوضعهم الاقتصادي وبعلاقات الإنتاج؟!
فيم العجب إذن إن قيل لهم إن الإسلام وهو " ينظف القلب " يضع في حسابه إقامة نظام اقتصادي عادل، ونظام اجتماعي متوازن، ونظام سياسي راشد محكم الرباط؟
أم هم يُدِلّون على الله بعلمهم؟ ويحسبون أنهم وحدهم الذين أدركوا هذه الحقيقة، بينما الله الذي خلق الخلق وهو أدرى به، قد فاته إدراكها؟! سبحانه وتعالى عما يصفونه علواً كبيراً..
كلا! إن الإسلام قد تناول هذه الحقائق كلها قبل أن يصحو لها الناس. وبيَّن أن الحياة السليمة النظيفة المتكاملة لا يمكن أن تتم في داخل القلب معزولة عن واقع الحياة. لا يمكن أن تتم في الوجدان والمشاعر إن لم يكن لها رصيد مواز لها من العمل والسلوك. ومن ثم لم يجعل الدين " عقيدة " كامنة في الضمير. وإنما جعلها نظاماً قائماً على عقيدة، ومجتمعاً قائماً على هذا النظام.
صحيح أنه لم ينزل في ذلك إلى مهاوي المادية الهابطة والمذاهب الاقتصادية المنحرفة. لم يجعل المادة هي الأصل، والإنسان هو التابع الذليل الذي لا يملك نفسه إزاء التطورات الحتمية للاقتصاد والإنتاج.. وإنما جعل الإنسان هو الأصل. جعل القلب البشري هو المصدر الذي تصدر عنه الطاقة ويصدر عنه الإشعاع. ولكنه في الوقت ذاته لم يشأ أن يجعله معلقاً في البرج العاجي، يطلق شحنته الهائلة في الفضاء في قفزات الخيال وسبحات الروح. وإنما أراد لهذه الطاقة الضخمة أن تنتج في واقع الأرض، وأن تنشئ مجتمعها ونظامها بوحي من العقيدة وهدي من الله، فيتوازن بذلك الشعور والعمل، والوجدان والسلوك، ويتوازن بذلك " الإنسان ".
وكان هذا هو الأمر الطبيعي ما دام الإسلام " دين الفطرة ".
إن المشاعر المرفرفة والوجدان المشرق والأفكار الجميلة لا قيمة لها إذا لم تتحول إلى قوة بانية في عالم الواقع، إذا لم تتحول إلى حقيقة ظاهرة ملموسة يحس بها الناس.
والأعمال " العظيمة " والإنتاج الباهر والحركة الفاعلة لا قيمة لها إذا لم تستند إلى شعور عميق بالخير، وإحساس حي بروابط الأخوة الإنسانية والالتقاء إلى الله.
بل هما - بدون هذا التزاوج - ينقلبان إلى شر مدمر للبشرية:
الأولى تنقلب إلى زهادة وعزلة تتوقف بها الحياة.
والثانية تنقلب إلى طغيان كافر يدمر الحياة على وجه الأرض.
ولا بد منهما معاً لتستقيم الحياة، مرتبطين متمازجين، لا انفصال بينهما ولا افتراق!
تلك هي " الفطرة " البشرية.
والإسلام دين الفطرة وكلمة الله.
ومن ثم لم يكن بد - وهو " ينظف القلب البشري " - أن يجعل في حسابه الباطن والظاهر، والشعور والعمل، والوجدان والسلوك.
وهو بذلك واقعي إلى أقصى حدود الواقعية...
إنه يعنى أشد العناية بعالم الروح ونظافة الضمير. وإنه يثق في أن القلب البشري مصدر الطاقة ومصدر الإشعاع. ولكنه - مع ذلك - لا يفترض في الناس كلهم أنهم من أولي العزم! لا يفترض فيهم أنهم يستطيعون دائماً أن يعيشوا بقلوب نظيفة في مجتمع غير نظيف، أو يمارسوا العدالة في مجتمع غير عادل، أو يحرصوا على الفضائل في مجتمع يحرص على المنكرات.
ففي " الفطرة " البشرية ضعف يحتاج إلى سند ويحتاج إلى معونة: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً).
هناك ثقلة الضرورة ودفعة الشهوات.
وهي " واقع " لا مصلحة في تجاهله، ولا سبيل إلى نكرانه.
ولا بد من تنظيمه.. لا بد من تنظيمه ليستطيع الإنسان أن يفرغ من ضغطه على الأعصاب والمشاعر. وينطلق حيث يشاء، حيث يليق بخليفة الله أن يكون.
من أجل ذلك يحرص الإسلام على واقع المجتمع أن يكون نظيفاً ليعاون الفرد على نظافة الضمير. ولن تكون نظافة المجتمع إلا بنظام اقتصادي عادل، ونظام اجتماعي متوازن، ونظام سياسي راشد محكم الرباط بالعقيدة الصحيحة والإيمان الصحيح.
* * *
من صميم مهمة الدين إذن في تنظيف القلب كانت هذه التشريعات وهذه التوجيهات التي تتناول الأسرة والمجتمع، وسياسة الحكم، وسياسة المال. يستوي في ذلك التشريع الاقتصادي، والتشريع السياسي، والتشريع الجنائي، والتشريع المدني، والتشريع الدولي.. والتوجيهات العديدة المتعلقة بكل هذه الشئون.(11/198)
ولم يكن الإسلام - وهو جاد في تناول الإنسان والحياة البشرية بالتنظيم والتنظيف - ليغفل هذه الشئون الواقعية كلها، وينصرف إلى تهذيب الضمير في عالم المثل والأحلام. ولم يكن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ليتخلى عن مهمته الهائلة في ذلك الشأن، وينفض يديه منها، ويقول للناس: " أنتم أعلم بأمور دنياكم " أي تصرفوا أنتم في تشريعاتكم وتنظيماتكم، في سياسة المال وفي سياسة الحكم، في علاقات المجتمع، وفي القوانين التي تنظم الحياة..
كلا! لم يكن ليفعل ذلك. ولو فعل فما أدى إذن رسالة الله. والله هو الذي يقول له في مجال التكليف: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [118].
* * *
ولكن هذا الفريق من الناس الذي ذكرناه آنفًا، أو فريقاً غيره يقول: إن الحياة تتطور. فكيف إذن يمكن أن يشرع الله أو يشرع رسوله للأجيال التالية لعصر القرآن؟ إن ما كان يصلح منذ ألف وأربعمائة عام لا يصلح اليوم. وما كان حركة تقدمية ثورية في ذلك التاريخ يصبح اليوم أمراً رجعياً عتيقاً متجمداً لا يجاري التطور ولا يصلح للحياة.. ومن ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة ليفتح الباب للتطور، ولا يقف بالناس عند تشريعات وتنظيمات قد اقتضتها بيئة معينة وظروف معينة، وإنما يتركهم يشرعون وينظمون فيما هم أدرى به من الأمور.
" التطور ".. ويح الناس من التطور!
إنه هوس يصيب هذا القرن العشرين! هوس يخيِّل إليهم أن الحياة كلها بلا قواعد، والكون كله بلا ناموس!
لقد كانت فكرة التطور اكتشافاً جديداً بالنسبة لأوربا في تاريخها الحديث، بعد أن غرقت فترة طويلة في ظلام العصور الوسطى، لا تعلم شيئاً ولا تساير ركب الحياة. وفي القرن التاسع عشر امتلأت رءوس المفكرين والعلماء بفكرة التطور، في العلم والسياسة والاقتصاد والاجتماع، ثم تلقفتها الجماهير في نهاية القرن الفائت وفي خلال هذا القرن.. تلقفتها بما يشبه اللوثة.. تفسر بها كل شيء وتفسد بها كل شيء!
بينما العالم الإسلامي لم يكن غريباً عن فكرة التطور وآثاره في حياة الجماعة. فقد فطن إليها ابن خلدون في مقدمته وعالجها علاجاً " علمياً " وافياً يشهد له بالبراعة والتدقيق. ولقد فطن إليها عمر بن عبد العزيز في صدر الإسلام إذ يقول " يجدّ للناس من الأقضية بقدر ما يجد لهم من القضايا " وفطن إليها الفقه الإسلامي كله، وهو يضع التفريعات الدائمة في كل شئون الحياة النامية المتجددة جيلاً بعد جيل.
ولكن الفكر الإسلامي لم يخرج عن صوابه وهو يحس بالتطور ويساوق خطاه. فلم يفهم من التطور أن الحياة بلا قواعد، والكون بلا ناموس! لم يفهم منه أن ينفصل عن الأصول الثابتة وينطلق بلا دليل!
وجاء " العلم " في القرون الأخيرة يؤيد الفهم الإسلامي للتطور، ولا يؤيد اللوثة التي أصابت الجماهير في أوربا، وأشباه العلماء هناك، وانتقلت عن طريقهم إلى الشرق في عصرنا الأخير.
* * *
الحياة البشرية تتطور، والكون كله يتطور.. نعم! ولكن هذا لا ينفي وجود قواعد ثابتة في هذا الكون وفي الحياة البشرية.. أولها وأبسطها، وأقربها إلى البديهة، صدور الكون كله عن إرادة الله الخالق المدبر، وانتظام سننه ونواميسه انتظاماً دقيقاً معجزاً لا يخل ثانية ولا ثالثة، ولا قيد شعرة في هذا الفضاء الهائل الرهيب!
السدم تتطور إلى نجوم.. والنجوم تتطور وهو تدور، فتسخن وتبرد، وتتكور وتنبعج. وتسرع وتبطئ.. ولكن شيئاً واحداً من ذلك لا يحدث بلا قانون، وشيئاً واحداً من ذلك لا يحدث مخالفاً للناموس الناموس الذي يكشف العلم طرفاً منه كلما تيسرت له الوسائل وأتيحت له الأدوات.
ومجموعتنا الشمسية الصغيرة التي نحن جزء منها، تتبع نواميس الكون وهي تتطور، وتسير على النهج الذي أراده لها الله منذ الأزل، لا تنحرف عنه لحظة إلى يمين أو شمال.
والأرض التي نعيش عليها تحكمها - في تطورها - النواميس الأزلية التي تحكم الكون، فيسير كل شيء على سطحها كما أراده الله وفق قانونه الذي ارتضاه.
الأكسجين هو الأكسجين.. والإيدروجين هو الإيدروجين. في الأرض والشمس وجميع النجوم سواء. والماء قدر من الأكسجين وقدران من الإيدروجين (أيد2) لا تتغير هذه النسبة سواء ركب الماء في المعمل أم هطل من السماء.. والمطر هو المطر.. بخار يصعد من البحر، فينطلق إلى الجو، فيتكاثف، فيتركز ويثقل، فينزل إلى الأرض.. سواء حدث ذلك " طبيعياً " أم أنزل صناعياً من السماء.. لا يتغير قانون واحد من قوانينه، ولا يختل في مساره عن الناموس.(11/199)
والحياة على الأرض كذلك.. تطورت.. لا نعلم علم اليقين كيف، وإن كنا نحاول أن نصل إلى اليقين.. ولكنا نجد من أبحاث العلم ما يؤكد لنا تأكيداً قاطعاً أن الحياة لم تنشأ على الأرض مصادفة، ولم يكن استمرارها مئات الألوف من السنين كذلك بالمصادفة. وإنما هو نتيجة النظام المحدد المقرر الذي بنيت به المجموعة الشمسية وأخذت به مسارها في الفضاء. بحيث لو اختلت نسبة واحدة من النسب لانعدمت بذلك الحياة.. فهي إذن إرادة الخالق، وتدبيره الدقيق المعجز. ولولاه لم تقم حياة[119].
والإنسان بعد ذلك.. الإنسان الذي ملأه غرور العلم.. وأصابته لوثة التطور.. ذلك الإنسان يتطور. تتغير حياته يوماً بعد يوم، ويستحدث جديداً كل يوم. ولكنه مع ذلك خاضع للنواميس. النواميس التي تدخل التطور في حسابها، فإذا التطور ذاته جزء من القانون الثابت الذي يحكم الكون ويحكم الحياة!
* * *
يتطور الكون.. فهل تغيرت طبيعته؟ هل تغير تكوُّنه من طاقة أو مجموعة من الطاقات؟
كلا! لم يقل بذلك أحد من العلماء! وإنما تتغير " صوره " و" حالاته " ويظل جوهره ثابتاً على ما هو عليه.
ثم.. هل تغيرت الحقيقة السابقة على ذلك.. حقيقة الأزل والأبد وهي صدور الوجود عن إرادة الله؟
كلا! لا يقول بذلك أحد من العقلاء! فالكون في وجوده، كالكون في تطوره. كالكون في فنائه حين يقدر له الفناء، صادر عن إرادة الله، مرتبط دائماً بإرادة الله.
والإنسان كذلك يتطور.. فهل تتغير طبيعته؟ أم تتغير صوره وحالاته ويثبت الجوهر الذي فيه؟
هل تتغير الحقائق الأزلية في تكوينه:
أنه صدر عن إرادة رَبُّكَ: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [120].
وأن البشر جميعاً من نفس واحدة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [121].
وأن من هذه النفس - أي من جنسها - قد خلق " الزوج " الذي يكملها ويلتقي بها ويوائمها: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) [122] (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [123].
وأن من هذه النفس وزوجها انبث الخلق كلهم والقبائل والشعوب (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً) [124]. (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [125].
وأن الإنسان قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله. قبضى من طين الأرض تتمثل فيها عناصر الأرض المادية من حديد ونحاس وكلسيوم وفوسفور وأكسجين وإيدروجين، وتتمثل فيها شهوات الأرض ودوافع الأرض. ونفخة من روح الله تتمثل فيها روح الإنسان الشفيفة القادرة على السمو والرفعة، كما تتمثل فيها الإرادة الضابطة والقدرة على الاختيار: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [126] (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) [127] (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [128].
هل تتغير هذه الحقائق الأزلية مهما تغيرت " مظاهر " الحياة؟ أم تتغير المظاهر والأصل في ثبوته لا يزال؟
وهل الإنسان في ذلك إلا بضعة من الناموس الأكبر الذي يحكم الكون ويحكم الحياة؟ بضعة محكومة بذلك الناموس، خاضعة لإرادة الله؟.
كل ما في الأمر أن الله قد ميز هذا المخلوق وكرمه حين نفخ فيه من روحه؟ فجعله " واعياً " لعملية الثبوت وعملية التطور. وجعل له الإرادة التي يختار بها طريقه: مع الخط الواصل المهتدي إلى الله، أو مع الخط الضال المنقطع عن الله. وجعل هذا الازدواج في طبيعته هو الناموس الثابت بالنسبة لدوره في الحياة، الذي يترتب عليه الجزاء في أخراه: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
* * *
في الإنسان إذن عنصر ثابت لا يتغير مهما تغيرت ظروفه، ومهما تطورت حياته على الأرض. لأنه يتصل بحقائق أزلية لا يدركها التغيير.
وفيه إلى جانب ذلك عنصر متغير. أو قل: " صور " متغيرة من الجوهر الثابت، و " حالات " متطورة للكيان الدائم. ولكنها في تغيرها وتطورها لا تخرج بالإنسان عن كونه الإنسان. ولا تنفصل في لحظة واحدة عن كيانه الدائم، بحكم ترابط النفس الإنسانية وشمولها لكل ما يشتمل عليه الإنسان.
ومن هذا الثبوت وهذا التطور في فطرة البشر - وهي كذلك فطرة الكون - نشأت في حياة الإنسان قواعد ثابتة وبجانبها أحوال متغيرة، ولكنها في تغيرها - كما أسلفنا - لا تنفصل عن القواعد الثابتة في الحياة.
فقد ترتب على الحقائق الأزلية الخالدة حقائق أخرى، فصارت مثلها خالدة دائمة لا تتغير.(11/200)
ترتب عليها أن يحس الخلق - بفطرتهم ما دامت سليمة - يحسوا بعظمة الله بالقياس إلى ضآلتهم، فيعبدوه، ويستمدوا منه العون في الحياة.
وترتب عليها أن يحس الزوجان - اللذان خلقهما الله من نفس واحدة بحنين والتصاق بعضهما ببعض، وأن وجودهما لا يتكامل إلا متحدين متوادين متراحمين.
وترتب عليها أن يحس الناس - حين تصفو سريرتهم وتنظف نفوسهم - بالأخوة في الإنسانية، إذ هم جميعاً من نفس واحدة ذات رحم مع الجميع، فيتعاونوا ويتشاركوا في الخير..
تلك عناصر دائمة لأنها ترتكز على أسس دائمة.
وثمة عناصر أخرى تجدّ كل يوم، نتيجة تطور المعلومات البشرية، والتفاعل الدائم بين العقل والكون، يحاول أن يتعرف أسراره، ويستكنه كنهه، ويستخرج كنوزه، ويسخرها لمنفعته، فتقوم أوضاع جديدة، وينتقل الناس من بداوة إلى حضارة، ومن زرع إلى صناعة، ومن صناعة إلى...؟
والإسلام دين الفطرة يجاري البشرية في جانبيها جميعاً، بما يناسبهما جميعاً.
الجانب الأول يعطيه شرائع ثابتة. والجانب الآخر يعطيه أسساً ثابتة، ثم يترك له مجال التطور الدائم في إطار هذه الأسس الثابتة، متمشياً في ذلك مع فطرة الكون وفطرة الحياة.
الجانب الأول يعطيه العقيدة..
والعقيدة ليست ثابتة في الإسلام وحده، بل ثابتة في جميع الديانات منذ أرسل الله الرسل للناس يربونهم، ويعلمونهم حقيقة أزلية واحدة: أن الله واحد. وأن الخلق كله خلقه. وأن حق الألوهية على العباد أن يعبدوه ويخلصوا له الدين.
وتلك العقيدة الواحدة لا تتغير، لأن الأساس الذي تقوم عليه ثابت لا يتغير. وقد عني القرآن ببيان هذه الحقيقة، وخاصة في السور التي تستعرض رسالة الرسل الواحدة المكررة على مر الأزمان كسورة هود وسورة الأعراف.
وإلى جانب العقيدة يعطيه كذلك تشريعات الزواج والطلاق، والحدود. وتشريعات مدنية مختلفة.
الزواج والطلاق - أو العلاقة بين الرجل والمرأة عامة - عنصر ثابت له تشريع ثابت، لأنه يرتكز على أسس لا تتغير. هي الرجل من جهة والمرأة من جهة، والعلاقة الشديدة التي تجذب كلاً منهما للآخر وتشده إليه.
والحياة تتغير ظروفها: المجتمع يتغير. والاقتصاد يتغير. ونظم التعليم تتغير. والسياسة تتغير. ولكن ذلك لا يغير شيئاً من الحقيقة التي تحكمها الفطرة بوظائفها وعملياتها الحيوية، وغددها وكيماوياتها، وهي أن الرجل رجل والمرأة امرأة، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، ولا انفصال ولا استقلال! [129].
والحدود - أي العقوبات المفروضة على الجرائم - عنصر ثابت كذلك، لأنه يرتكز على شيء ثابت: هو علاقة الإنسان بأخيه الإنسان - أو علاقة الفرد بالمجتمع - وحرمة كل إنسان التي لا يجوز أن يعتدي عليها الآخرون.
والحياة تتغير ظروفها: ارتباطات العمل تتغير. وعلاقات الإنتاج تتغير. وعلاقات الإنسان " بالآلة " تتغير. والنظم السياسية تتغير. ولكن ذلك لا يغير شيئاً من الحقيقة الثابتة التي تحكمها وقائع التاريخ البشري. وهي أن الناس كلهم من نفس واحدة، وعلاقة الرحم تربط الجميع [130].
وكذلك بعض التشريعات المدنية لها صفة الثبوت كالبيع والإيجارة والرهن والدين والوكالة.. إلخ فكانت لها تشريعات ثابتة. ومما يلفت النظر في هذا الشأن أن التشريع الفرنسي الحديث في المسائل المدنية قد أخذ كثيراً عن فقه مالك، إذ كان أقرب الفقهاء - جغرافياً - إلى فرنسا بسسب انتشار مذهبه في الشمال الإفريقي! كما أن الفقه الأوربي كله قد أخذ عن الفقه الإسلامي حين أعطى المرأة أخيراً جداً حق الملك والتعامل والتصرف الحر في الشئون المدنية [131].
أما الجانب المتطور من الحياة البشرية، وهو في الوقت ذاته متصل بالجانب الثابت، فهو سياسة الحكم وسياسة المال، و " شكل " المجتمع أو شكل البيئة، من بدوية إلى زراعية إلى تجارية إلى صناعية... إلخ.
وتلك أمور كما قلنا تتطور بتطور العقل البشري وتفاعله مع الكون، ولكنها في تطورها لا تنفصل عن الأصل الثابت، ولا يمكن أن تنفصل، بحكم وحدة الإنسان وترابطه، واستحالة تجزئته وتقطيعه وفصل بعضه عن بعض.
وفي هذه الأمور كان الإسلام حكيماً غاية الحكمة، مساوقاً للفطرة، ملبياً لحاجاتها، فوضع الخطوط العريضة ولم يضع التفصيلات. أو وضع " الإطار " الذي يريد للبشرية أن تتطور في حدوده، وترك لكل جيل من الأجيال المتعاقبة أن يضع " الصورة " في داخل الإطار. الصورة التي تناسبه، وتتفق مع ظروفه المادية ومبلغ من العلم والإنتاج. بشرط واحد: هو أن تكون الصورة على قدر الإطار، لا أكبر منه فيتحطم، ولا أصغر منه فيبدو حولها الفراغ.
في سياسة الحكم وضع أساسين: العدل والشورى:
(وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [132]
(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [133].
ثم لم يحدد طريق الشورى. وهل يكون مجلس واحد أو مجلسان. وهل ينتخب المجلس أو يعين. وهل يكون التمثيل شخصياً أو مهنياً.. إلخ.. إلخ وترك ذلك للتجارب البشرية واجتهادها في التطبيق.(11/201)
وفي سياسة المال وضع مجموعة من الأسس ذات طابع واحد يجمعها في النهاية. هو ضرورة اشتراك الناس في الخير، بحيث لا يكون هناك محروم.
قرر القرآن أن المال في الأصل مال الله، وهو أعطاه للجماعة: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [134] (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [135].
وقرر أن الجماعة هي صاحبة الحق الأول فيه، وأن الفرد " موظف " فيه، يستحقه بحسن قيامه عليه، فإذا لم يحسن القيام عليه عاد حق التصرف فيه إلى الجماعة: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً) [136].
وقرر أن الله يكره حبسه في يد فئة قليلة من الناس تتداوله فيما بينها ويحرم منه مجموع الأمة (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [137]
وقرر فريضة الزكاة على الأموال حقاً معلوماً للفقراء، تأخذه لهم الدولة وتعطيه لهم من بيت المال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا..) [138]
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار " [139]
ويقول: لأن يمنح أحدكم أخاه (أرضه) خير له من أن يأخذ خرجاً معلوماً " [140]
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: " لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهليها. كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر " [141].
ثم لم يحدد طريقة اشتراك الناس في مال الله الذي أعطاه للجماعة وهل تكون بتأميم المرافق العامة. أم تكون بإشراك العمال في رأس المال، أم تكون بإعطائهم الأجور التي تكفل حاجاتهم الضرورية التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم على حديثه: " من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً أو ليست له زوجة فليتخذ زوجة، أو ليس له خادم فليتخذ خادماً، أو ليست له دابة فليتخذ دابة"[142].
لم يحدد صورة معينة من هذه الصور، وترك الأجيال المتعاقبة تفكر لنفسها في الصورة التي تناسبها، وتتلاءم مع إمكانياتها. ولم يضع - في سياسة المال أو سياسة الحكم - تفصيلات ثابتة جامدة، لكي لا تصطدم بالنمو المطرد في أحوال الجماعة، والتطور المستمر فيها. ولكنه مع ذلك لم يدع هذه الأمور تفلت من الأصول الثابتة. ولم يدعها للناس يتصرفون فيها بلا دليل، بحجة أنهم أعلم بأمور " دنياهم "! فقد كان هذا التصرف الحر - في أوربا، وفي خارج الإطار الإسلامي عامة - شناعة بشعة يندى لها جبين الإنسانية " المتطورة "! كان الإقطاع في أوربا ثم كانت الرأسمالية بكل ما فيها من مظالم غنية عن الوصف. وكلاهما حرام في نظر الإسلام، فهما يجعلان المال - سواء في صورة أرض أو رأس مال - دولة بين الأغنياء وحدهم، ويحرم منه بقية الناس. ثم كان الخلاص منهما هو الشيوعية - أي العبودية المطلقة للدولة، الدكتاتورية المطلقة على الأفراد!
والإسلام - كلمة الله لجميع البشر على الأرض ولجميع الأجيال - لم يكن ليترك الناس لمثل هذا " التطور " الذي يرسفون فيه في الأغلال، وإنما يأخذ بيدهم دائماً ويرشدهم، حتى وهو يترك لهم حرية النمو وحرية التكيف مع ما يجدّ من الأوضاع، لكيلا يشردوا عن الطريق، ولكي يحتفظوا بتحررهم الوجداني الدائم في جميع الأوضاع وجميع الأحوال.
* * *
تلك قصة التطور التي جُنّ بها الناس في القرن العشرين! تطور في أشكال الحياة الظاهرة، وثبات - مع ذلك - في الأصول.. فالإسلام لم يغفل ذلك التطور من حسابه. لم يقف في سبيله. وفي الوقت ذاته لم ينحسر عنه ويترك الناس بلا دليل. إنه يساوق التطور على الدوام ويحفظه من التعثر والانحراف. يحفظه برده إلى القواعد الثابتة في الحياة البشرية. إلى الله والعقيدة. والإطار الدائم الذي يرسم العلاقة التي ينبغي أن تكون بين أفراد الجنس الواحد، الذين انبثقوا من نفس واحدة، وما تزال تصل بينهم الأرحام.
وبذلك يكون الإسلام دين الفطرة.
وهو كذلك منهج الحياة [143].
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[116] سورة الحشر [ 7 ].
[117] " يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى " سورة طه [ 7 ] انظر فصل: " تعبد الله كأنك تراه ".
[118] سورة الجاثية [ 18 ].
[119] انظر بالتفصيل في هذا الشأن كتاب " العلم يدعو للإيمان " تأليف أ. كريسي موريسون وترجمة محمد صالح الفلكي وكتاب " مع الله في السماء " تأليف الدكتور أحمد زكي.
[120] سورة البقرة [ 30 ].
[121] سورة النساء [ 1 ].
[122] سورة النساء [ 1 ].
[123] سورة الروم [ 21 ].
[124] سورة النساء [ 1 ].
[125] سورة الحجرات [ 13 ].
[126] سورة المؤمنون [ 12 ].
[127] سورة الحجر [ 29 ].
[128] سورة الشمس [ 7 - 10 ].(11/202)
[129] في كتاب " شبهات حول الإسلام " في فصل: الإسلام والمرأة، بحث تفصيلي لعلاقة الرجل والمرأة وطبيعتها في الإسلام، وقد بينت هناك كيف عالج الإسلام الأمر في عدالة كاملة، وكيف أن " التطور " المزعوم لا يضيف شيئاً لهذه العدالة أما التطور بمعنى الفساد الخلقي أو بمعنى المساواة الآلية بين المرأة والرجل، فقد كانت له ظروف محلية في أوربا - شرحتها هناك - وليس " قيمة " حقيقية من القيم الإنسانية.
[130] في كتاب " الإنسان بين المادية والإسلام " بحث مفصل في نظرة الإسلام للفرد والمجتمع، والجريمة والعقاب. وفي هذا الكتاب فصل عنوانه " ادرءوا الحدود بالشبهات " يعرض المعاني الإنسانية الرفيعة في تشريع الحدود الإسلامي.
[131] تقول الشيوعية إن هذه العلاقات كلها لا وجود لها إلا حيث توجد الملكية الفردية. وحيث تلغى الملكية الفردية تزول هذه التشريعات. وهذا حق. ولكن الشيوعية ذاتها قد بدأت تبيح الملكية الفردية من جديد. والبقية تأتي!
[132] سورة النساء [ 58 ].
[133] سورة الشورى [ 38 ].
[134] سورة الحديد [ 7 ].
[135] سورة النور [ 33 ].
[136] سورة النساء [ 5 ].
[137] سورة الحشر [ 7 ].
[138] سورة التوبة [ 60 ].
[139] ذكره صاحب مصابيح السنة في الحسان.
[140] رواه البخاري.
[141] رواه البخاري.
[142] رواه أحمد وأبو داود.
[143] انظر - إن شئت - كتاب " التطور والثبات في حياة البشرية ".
===============================
{قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}
الكاتب: د. جمال الحسيني أبوفرحة
لقد تنوعت وتباينت أساليب التبشير بنبي الإسلام في أسفار أهل الكتاب وتطرقت إلى كثير من التفصيلات، وهو موضوع لا يجليه مقال ولا تكفيه دراسة، وإنما يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير.
وقد كان من جملة البشارات بالرسول - صلى الله عليه وسلم- في أسفار أهل الكتاب: الإشارة إلى مكان بعثته - صلى الله عليه وسلم-، ولغة قومه، وما سيكون عليه اسمهم بعد إيمانهم.
فبداية نفت أسفار أهل الكتاب أن يكون موضع بعثة النبي المنتظر بعد المسيح -عليه السلام- في مدينة "أورشليم"- أي: القدس الشريف- كما يتوقع اليهود دائمًا، كما نفت أن يكون في جبل "جرزّيم" كما يتوقع السامرة من اليهود، وأوضحت أنه سيكون في مكان جديد؛ فعندما قالت المرأة السامرية للمسيح -عليه السلام- كما يحكي إنجيل يوحنا: "يا سيد أرى أنك نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل [جبل جرزيم] وأنتم تقولون: إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه. قال لها يسوع[ أي المسيح]: يا امرأة صدقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون"؛ وهو ما يؤكد عليه سفر "إرميا" عندما يقول على لسان الرب لبني إسرائيل: "هأنذا أنساكم نسياناً وأرفضكم من أمام وجهي أنتم والمدينة التي أعطيتكم وآباءكم إياها وأجعل عليكم عارًا أبديًا وخزيًا أبديًا لا ينسى".
ثم تبدأ أسفار أهل الكتاب في وصف موضع نزول الرسالة الخاتمة المنتظرة، فيصفه سفر "الرؤيا" بأن به "مسكن الله مع الناس"، ولا شك أن الإشارة في ذلك إلى بيت الله الحرام واردة؛ وتصفه "الكتب الأسينية"- من مخطوطات قمران- بأن به "الهيكل - أي البناء الكبير- الذي سيبنى في نهاية الأزمنة كما هو مكتوب في وصية موسى"، ثم تصف ذلك الهيكل بأنه "البيت الذي لن يدخله الكافر أو النجس إلى الأبد"، والإشارة واضحة في ذلك إلى قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} التوبة: 28، ونفس هذا المعنى نجده في سفر إشعياء: "وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة لا يعبر فيها نجس بل هي لهم"، وهي صفات لم تعرف لمكان على وجه الأرض بقدر ما عرفت لمكة المكرمة، والمدينة المنورة.
ثم يزيد سفر إشعياء الأمر وضوحًا عندما يحدد مكان بعثته - صلى الله عليه وسلم- بقوله "وحي من جهة بلاد العرب"، وهذه هي ترجمة جمعية الكتاب المقدس في الشرق الأدنى، وتشهد لها الترجمة العالمية الجديدة الصادرة عن جمعية الكتاب المقدس العالمية New International Version حيث تقول: An Oracle Concerning Arabia أي: وحي، أو مبلغ الوحي، أو مكان مهبط الوحي متعلق ببلاد العرب.
ويؤكد سفر إشعياء على ذلك التحديد المكاني عندما يقول في معرض حديثه عن النبي المنتظر:"لتهتف الصحراء ومدنها وديار قيدار المأهولة، ليتغن بفرح أهل سالع، وليهتفوا من قمم الجبال، وليمجدوا الرب ويذيعوا حمده"؛ وقيدار هو الابن الثاني لإسماعيل عليه السلام وهو أب لأشهر القبائل العربية، وقد نزل الوحي على النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- في أهم مدن يسكنها أبناء قيدار: مكة والمدينة.(11/203)
أما قوله:" ليتغن بفرح أهل سالع ......الخ": فهو تعيين لمقام ذلك النبي المنتظر وأنه بالمدينة المنورة؛ فـ "سلع" اسم لجبل في مدخل المدينة المنورة، ولا شك أن أهل المدينة وقفوا عليه كثيرًا في انتظار وصول الرسول – صلى الله عليه وسلم- من هجرته، ولا شك أنه كذلك جبل ارتفعت أصوات الأنصار متغنية بفرح ممجدة لله تعالى حامدة له عند وصوله – صلى الله عليه وسلم- كما تقول البشارة عن أهل "سالع، أو سلع"؛ ولا فرق؛ فالعبرانيون لم تكن لديهم حروف تعادل الحروف المتحركة حتى القرن السادس الميلادي ولم يفرقوا بين كلمة كـ "سلع" وكلمة كـ "سالع" إلا بعد هذا التاريخ على يد علماء لغويين كثيرًا ما أخطئوا وكثيرًا ما اختلفوا؛ وخاصة مع عدم توافر الحفظ في الصدور لأي من نصوصهم المقدسة، ومن الطريف أن أغنية الأنصار التي استقبلوا بها النبي – صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة احتوت على حمد لله تعالى "وجب الشكر علينا ما دعا لله داع" تمامًا كما تنص البشارة.
أما سفر التثنية فيعين في أي بلاد العرب سيكون مهبط الوحي على النبي المنتظر – صلى الله عليه وسلم- وذلك عندما يجعل "فاران" موضع رسالة منتظرة، حين يقول: "هذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته؛ فقال: أقبل الرب من سيناء وأشرق عليهم من سعير وتألق في جبل فاران"، ومجيء الرب من سيناء يشير إلى رسالة موسى عليه السلام حيث ناداه الله وهو على أرضها؛ وإشراق الرب من سعير، يشير إلى رسالة عيسى عليه السلام؛ فجبل سعير يمتد جنوب البحر الميت شرق فلسطين حيث اعتزل المسيح عليه السلام فترة مع بني العيص أو الأسينيين؛ وأما تألق الرب من فاران فهو إشارة إلى رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم- الذي جاء من ذرية إسماعيل - عليه السلام- والذي يخبرنا سفر التكوين بأنه سكن هو وذريته بفاران عند البئر [بئر زمزم] التي منّ الله على هاجر وابنها بها إنقاذًا لهما من الموت؛ ومن هنا نفهم أن فاران هي مكة المكرمة التي بعث منها المصطفى – صلى الله عليه وسلم- ؛ ومن اللافت للنظر أن كلمة فاران باللغة العبرية تعني صيغة المبالغة من كلمة "حمد"؛ ومن ثمة فلا نعدو الحقيقة إن قلنا: إن اسم برية فاران والتي هي موضع رسالة منتظرة في التوراة يعني برية "محمد"– صلى الله عليه وسلم- .
فشبه موسى عليه السلام - حسبما يروي العهد القديم- مجيء التوراة بطلوع الفجر، ونزول الإنجيل بإشراق الشمس، ونزول الإسلام بتألق الشمس في كبد السماء وعلوها وذلك إيذانًا بأنه خاتم الأديان وأن ليس بعد كماله كمال.
ثم تتحدث أسفار أهل الكتاب بعد ذلك عن لغة النبي المنتظر ولغة قومه، فيصفهم سفر إشعياء بأنهم يتحدثون لغة أعجمية غريبة عن اليهود وذلك حين يقول: "سيخاطب الرب هذا الشعب بلسان غريب أعجمي"، أي غريب عن اليهود وأعجمي بالنسبة لهم، وهو ما لم يكن للمسيح عليه السلام وأتباعه؛ فقد كان المسيح عليه السلام رجلاً يهوديًا وكذا كان جلّ أتباعه في حياته، وإنما كان ذلك للنبي العربي محمد - صلى الله عليه وسلم-.
كما تحدثت أسفار أهل الكتاب عن ما سيكون عليه اسم المؤمنين بالنبي المنتظر، فوصفهم سفر إشعياء بأن سيكون لهم اسم آخر غير الذي كان لليهود، يقول سفر إشعياء على لسان الرب لبني إسرائيل "وتخلفون اسمكم لعنة على شفاه مختاري ويميتكم الرب ويطلق على عبيده اسمًا آخر"، وهو ما لم يكن للمسيحيين وكان للمسلمين؛ لأن هذا الاسم "مسيحيّون" لم يعرف إلا متأخرًا في أنطاكية - كما يصرح سفر أعمال الرسل من الكتاب المقدس- وكان المسيحيون يعتبرون في أول الأمر، وطيلة حياة المسيح عليه السلام على الأرض- فريقاً من اليهود، فالمسلمون هم الذين كان لهم اسم آخر غير ما كان لبني إسرائيل، وهذا الاسم الآخر يصرح به سفر إشعياء عندما يصف النبي المنتظر بأنه (رئيس الإسلام) أو السلام، فكل من السلام والإسلام بالعبرية: (شالوم)؛ فصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمين من قبل وفي هذا } الحج:78.
هذا قليل من كثير لا يتسع المقام إلا للتمثيل له، وهو ما جعل "باول شفارتزيناو" - أستاذ الثيولوجي البروتستانتية وعلوم الأديان بجامعة "دور تموند" بألمانيا- يصرح قائلاً: "إن الاعتراف بنبوة محمد الذي أطالب به موجود في جذور المسيحية"، كما جعل "كانون ماكس وارن" سكرتير جمعية التبشير الكنسية، في بحثه المقدم إلى المؤتمر التبشيري الثالث لطائفة الإنجيليين الذي عقد في كندا عام 1963م- يقول: "لقد تجلى الله بطرق مختلفة ومن الواجب أن تكون لدينا الشجاعة الكافية لنصر على القول بأن الله كان يتكلم في ذلك الغار الذي يقع في تلك التلال خارج مكة"، يقصد بذلك الوحي إلى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم- حين بدأ في غار حراء.
فصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} الشعراء: 197(11/204)
د. جمال الحسيني أبوفرحة
أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
gamalabufarha@yahoo.com
============================
وفي ظلال القرآن - (ج 4 / ص 374)
ومن اللمحات البارزة في التوجيه الرباني لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجهر في مواجهة الإعراض والتكذيب والتحدي وبطء الاستجابة ووعورة الطريق بالحق الذي معه كاملاً؛ وهو أنه لا إله إلا الله ، ولا رب إلا الله ، ولا معبود إلا الله ، وأن الله هو الواحد القهار ، وأن الناس مردودون إليه فإما إلى جنة وإما إلى نار . . وهي مجموعة الحقائق التي كان ينكرها المشركون ويتحدونه فيها . . وألا يتبع أهواءهم فيصانعها ويترضاها بكتمان شيء من هذا الحق أو تأجيل إعلانه! مع تهديده بما ينتظره من الله لو اتبع أهواءهم في شيء من هذا من بعد ما جاءه من العلم! . .
وهذه اللمحة البارزة تكشف لأصحاب الدعوة إلى الله عن طبيعة منهج هذه الدعوة التي لا يجوز لهم الاجتهاد فيها! وهي أن عليهم أن يجهروا بالحقائق الأساسية في هذا الدين ، وألا يخفوا منها شيئاً ، وألا يؤجلوا منها شيئاً . . وفي مقدمة هذه الحقائق : أنه لا ألوهية ولا ربوبية إلا لله . ومن ثم فلا دينونة ولا طاعة ولا خضوع ولا اتباع إلا لله . . فهذه الحقيقة الأساسية يجب أن تعلن أياً كانت المعارضة والتحدي؛ وأياً كان الإعراض من المكذبين والتولي؛ وأياً كانت وعورة الطريق وأخطارها كذلك . . وليس من « الحكمة والموعظة الحسنة » إخفاء جانب من هذه الحقيقة أو تأجليه ، لأن الطواغيت في الأرض يكرهونه أو يؤذون الذين يعلنونه! أو يعرضون بسببه عن هذا الدين ، أو يكيدون له وللدعاة إليه! فهذا كله لا يجوز أن يجعل الدعاة إلى هذا الدين يكتمون شيئاً من حقائقه الأساسية أو يؤجلونه؛ ولا أن يبدأوا مثلاً من الشعائر والأخلاق والسلوك والتهذيب الروحي ، متجنبين غضب طواغيت الأرض لو بدأوا من إعلان وحدانية الألوهية والربوبية ، ومن ثم توحيد الدينونة والطاعة والخضوع والاتباع لله وحده!
إن هذا لهو منهج الحركة بهذه العقيدة كما أراده الله سبحانه؛ ومنهج الدعوة إلى الله كما سار بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بتوجيه من ربه .
فليس لداع إلى الله أن يتنكب هذا الطريق؛ وليس له أن ينهج غير ذلك المنهج . . والله بعد ذلك متكفل بدينه ، وهو حسب الدعاة إلى هذا الدين وكافيهم شر الطواغيت!
والمنهج القرآني في الدعوة يجمع بين الحديث عن كتاب الله المتلوّ وهو هذا القرآن وبين كتاب الكون المفتوح؛ ويجعل الكون بجملته مصدر إيحاء للكينونة البشرية؛ بما فيه من دلائل شاهدة بسلطان الله وتقديره وتدبيره . كما يضم إلى هذين الكتابين سجل التاريخ البشري ، وما يحفظه من دلائل ناطقة بالسلطان والتقدير والتدبير أيضاً . ويواجه الكينونة البشرية بهذا كله ويأخذ عليها أقطارها جميعاً؛ وهو يخاطب حسها وقلبها وعقلها جميعاً!
إن حياة الناس لا تصلح إلا بأن يتولى قيادتها المبصرون أولو الألباب الذين يعلمون أن ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق . ومن ثم يوفون بعهد الله على الفطرة ، وبعهد الله على آدم وذريته ، أن يعبدوه وحده ، فيدينوا له وحده ، ولا يتلقوا عن غيره ، ولا يتبعوا إلا أمره ونهيه . ومن ثم يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، ويخشون ربهم فيخافون أن يقع منهم ما نهى عنه وما يغضبه؛ ويخافون سوء الحساب ، فيجعلون الآخرة في حسابهم في كل حركة؛ ويصبرون على الاستقامة على عهد الله ذاك بكل تكاليف الاستقامة؛ ويقيمون الصلاة؛ وينفقون مما رزقهم الله سراً وعلانية؛ ويدفعون السوء والفساد في الأرض بالصلاح والإحسان . .
إن حياة الناس في الأرض لا تصلح إلا بمثل هذه القيادة المبصرة؛ التي تسير على هدى الله وحده؛ والتي تصوغ الحياة كلها وفق منهجه وهديه . . إنها لا تصلح بالقيادات الضالة العمياء ، التي لا تعلم أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وحده؛ والتي تتبع من ثم مناهج أخرى غير منهج الله الذي ارتضاه للصالحين من عباده . . إنها لا تصلح بالإقطاع والرأسمالية ، كما أنها لا تصلح بالشيوعية والاشتراكية العلمية! . .
إنها كلها من مناهج العُمْي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الحق ، الذي لا يجوز العدول عنه ، ولا التعديل فيه . . إنها لا تصلح بالثيوقراطية كما أنها لا تصلح بالديكتاتورية أو الديمقراطية! فكلها سواء في كونها من مناهج العُمي ، الذين يقيمون من أنفسهم أرباباً من دون الله ، تضع هي مناهج الحكم ومناهج الحياة ، وتشرع للناس ما لم يأذن به الله؛ وتعبدهم لما تشرع ، فتجعل دينونتهم لغير الله .(11/205)
وآية هذا الذي نقوله استمداداً من النص القرآني هو هذا الفساد الطامي الذي يعم وجه الأرض اليوم في جاهلية القرن العشرين . وهو هذه الشقوة النكدة التي تعانيها البشرية في مشارق الأرض ومغاربها . . سواء في ذلك أوضاع الإقطاع والرأسمالية ، وأوضاع الشيوعية والاشتراكية العلمية! . . وسواء في ذلك أشكال الديكتاتورية في الحكم أو الديمقراطية! إنها كلها سواء فيما تلقاه البشرية من خلالها من فساد ومن تحلل ومن شقاء ومن قلق . . لأنها كلها سواء من صنع العُمي الذين لا يعلمون أن ما أنزل على محمد من ربه هو الحق وحده؛ ولا تلتزم من ثم بعهد الله وشرعه؛ ولا تستقيم في حياتها على منهجه وهديه .
إن المسلم يرفض بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق كل منهج للحياة غير منهج الله؛ وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي؛ وكل وضع كذلك سياسي؛ غير المنهج الوحيد ، والمذهب الوحيد ، والشرع الوحيد الذي سنه الله وارتضاه للصالحين من عباده .
ومجرد الاعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله ، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله؛ فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه .
إن هذا الاعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي ، فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في هذه الأرض للعُمي الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض . . فهذا الفساد في الأرض مرتبط كل الارتباط بقيادة العُمي! . .
ولقد شقيت البشرية في تاريخها كله؛ وهي تتخبط بين شتى المناهج وشتى الأوضاع وشتى الشرائع بقيادة أولئك العُمي ، الذين يلبسون أردية الفلاسفة والمفكرين والمشرعين والسياسيين على مدار القرون . فلم تسعد قط؛ ولم ترتفع « إنسانيتها » قط ، ولم تكن في مستوى الخلافة عن الله في الأرض قط ، إلا في ظلال المنهج الرباني في الفترات التي فاءت فيها إلى ذلك المنهج القويم .
==============================
كفر سابَّ الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم-
المجيب د.سعيد بن ناصر الغامدي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
التاريخ 29/2/1423
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيمن يقول: إن من سب الله –عز وجل- ورسوله الكريم ليس بكافر إلا إذا استحل ذلك، مع انتفاء شروط الموانع من العلم، والإكراه، والتأول، والخطأ، استدلالاً بما وقع لموسى –عليه السلام- لما ألقى الألواح، نرجو الجواب بشيء من التفصيل.
الجواب
سبّ الله –تعالى وتقدس- وسبّ رسوله –صلى الله عليه وسلم- من أكبر أنواع الكفر، بل هو أعظم من مجرد الردة عن الإسلام، ومن فعل ذلك وجب قتله، وهذا مذهب عامة أهل العلم، "إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً" [الأحزاب:57] وقد قال الإمام إسحاق بن راهوية –رحمه الله-: "أجمع المسلمون على أن من سبّ الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم-، أو دفع شيئاً مما أنزل الله –عز وجل-، أو قتل نبياً من أنبياء الله –عز وجل- أنه كافر بذلك، وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله".
وسبّ الله أو سبّ الرسول –صلى الله عليه وسلم- كفر ظاهر؛ لجريان السب على لسان صاحبه، وكفر باطن؛ لأنه يدل على استهانته بالله –عز وجل- وبرسوله –صلى الله عليه وسلم-، وانعدام خشيته من الله -عز وجل- وعدم تعظيم الله من قلبه، وذهاب توقير النبي –صلى الله عليه وسلم- من نفسه.
أما القول بأن السّاب لا يكفر إلا إذا استحل ذلك، ومع انتفاء الموانع من إكراه، وتأول، وخطأ، وحصول شرط العلم استدلالاً لما وقع لموسى –عليه السلام- لما ألقى الألواح فهذا القول يتضمن عدة أمور، الجواب عنها بعدة أوجه:
الأول: القول بأن السّاب لله –تعالى- ولرسوله –صلى الله عليه وسلم- لا يكفر إلا إذا استحل ذلك، هذا اشتراط غير صحيح، بل إن أقوال أهل العلم تنص على أن من قال أو فعل ما هو كفر صريح كفر بدون تقييد ذلك بالاستحلال، والاستحلال وصف آخر يوجب الكفر، فلو استحل السّب ولم يقله كفر، والله –تعالى- وصف المستهترين بالنبي –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بالكفر، فقال: "يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين" [التوبة:64-65-66].
وعندما جاء الذين نزلت فيهم هذه الآية يعتذرون إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يعذرهم، وكان يردد عليهم هذه الآية، ولو كان الاستحلال يصح أن يرفع به حكم الكفر عنهم لسألهم النبي –صلى الله عليه وسلم- :هل كنتم تستحلون هذا الاستهزاء أم لا؟
قال القاضي عياض –رحمه الله-: "لا خلاف أن ساب الله –تعالى- من المسلمين كافر حلال الدم".(11/206)
وقال ابن عبد البر –رحمه الله-: "ومن شتم الله –تبارك وتعالى-، أو شتم رسوله –صلى الله عليه وسلم-، أو شتم نبياً من أنبياء الله -صلوات الله عليهم- قُتِل إذا كان مظهراً للإسلام بلا استتابة".
الثاني: اشتراط وجود شروط الكفر وانتفاء موانعه فيمن سبّ الله –تعالى-، أو سب الرسول –صلى الله عليه وسلم-، وذكر السائل من الشروط العلم ومن الموانع الإكراه، والتأول، والخطأ، فأما (الإكراه) فلا شك أنه مانع من موانع إطلاق الكفر على السّاب، وذلك لقول الله –تعالى-: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم" (النحل106).
وفي مستدرك الحاكم وغيره عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه، قال: "أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي –صلى الله عليه وسلم- وذكر آلهتم بخير ثم تركوه، فلما أتى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: ما وراءك؟ قال: شرٌ يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالإيمان قال: "إن عادوا فعد" (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه).
فمن أكره على سبّ الله أو سبّ رسوله فهو معذور وليس بكافر.
الثالث: أما اشتراط العلم، فيراد بالعلم أمران:
1-أن يعلم أن هذا اللفظ فيه سبّ لله أو لرسوله.
2-أن يعلم أن السّب لله ولرسوله كفر وخروج من الملة.
فإن ادعى أنه لا يعلم أن هذا اللفظ فيه سبّ لله ورسوله فينظر في اللفظ الذي تلفظ به هل هو مما يعده الناس شتماً، أو سباً، أو تنقصاً، فإن كان كذلك فهو كافر بذلك؛ وإنما قيل هذا؛ لأن الكلمة الواحدة تكون في حال سب وفي حال ليست بسب، فعلم أن هذا يختلف باختلاف الأقوال والأحوال، إذا لم يأت للسب حد معروف في اللغة ولا في الشرع، فالمرجع فيه إلى عرف الناس، هذا ما ذكر شيخ الإسلام في (الصارم المسلول).
وإن ادعى أنه لا يعلم أن سبّ الله –تعالى- والرسول –صلى الله عليه وسلم- كفر مخرج من الملة فينظر في المكان الذي هو فيه، وحالة الشخص من التمكن من العلم وعدمه.
فإن كان الساب مسلماً ناشئاً في بلاد الإسلام فلا يعذر؛ لأن مسألة تعظيم الله وتوقير رسوله –صلى الله عليه وسلم- من المسائل العظيمة وليست من المسائل الخفية، والناشئ في بلاد المسلمين متمكن من العلم بهذه المسألة التي هي من الأصول الظاهرة، فلا عذر له بذلك، وهو كافر بهذا السب، سواء كان هازلاً أو لاعباً أو كاتباً للرواية أو الشعر أو غير ذلك.
الرابع: أما الاستدلال بقصة إلقاء موسى –عليه السلام- للألواح، فهو استدلال غير صحيح، وذلك لأمور:
1-أن السب لله –تعالى- ولرسوله –صلى الله عليه وسلم- من باب، وفعل موسى من باب آخر.
2-أن فعل موسى –عليه السلام- لا يتضمن سخرية ولا استهانة ولا استنقاصاً لله –تعالى-، بل الذي حمله على إلقاء الألواح هو شدة تعظيمه لله -تعالى-، وشدة عنايته بتوحيد الله، لما رأى قومه قد أشركوا وعبدوا العجل.
3-أن موسى –عليه السلام- كان في حالة غضب شديد وحزن بسبب عبادة قومه للعجل، وبقاء هارون –عليه السلام- عندهم وعدم لحاقه بموسى –عليه السلام-.
أما السّاب لله –تعالى- ولرسوله –صلى الله عليه وسلم- فيغلب على حاله السخرية والاستهزاء واللعب أو العمد والقصد، فإن كان في حالة من الغضب الشديد بحيث لا يدري ما يقول، وتكلم بكلام لا يستحضره ولا يعرفه فإن هذا الكلام لا حكم له، ولا يحكم على صاحبه بالردة؛ لأنه كلام حصل عن غير إرادة وقصد. نعوذ بالله من موجبات غضبه، ونسأله أن يختم لنا بالإيمان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
=============================
كيف ننصر الرسول عليه الصلاة والسلام
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
فلقد تأكد بما لا يدع مجالا للشك زيف ما يسمى بحوار الحضارات،وسقوط دعوى التسامح وحوار الأديان التي يرددها الغرب المسيحي،فمنذ الحروب الصليبية التي شنها الغرب المسيحي على المقدسات الإسلامية وهم يواصلون حملتهم الخبيثة على معتقداتنا وديننا الحنيف،فبعد نجاحهم في زرع هذا السرطان المسمى بدولة إسرائيل في جسد الأمة العربية والإسلامية من خلال وعد بلفور وتكالب قوى الشر شرقا وغربا في الاعتراف بها ومن دعوة إلى تدمير الكعبة الشريفة، وأخيرا وليس بآخر التهجم على أشرف الخلق وأفضلهم سيد ولد آدم سيدنا ونبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم.(11/207)
وهذه التصرفات والأفعال الخبيثة من قبلهم تعكس مدى الحقد الصليبي على الإسلام وكل ما يمت له بصلة وهو موقف جميع المنتسبين للغرب المسيحي شعوبا وحكومات أفرادا وجماعات، فمنذ صدور التهجم على المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم،في الصحف الدنماركية لم نسمع منهم أي تنديد أو استنكار أو عقوبات رادعة ضد من سولت له نفسه بذلك في حين نجد عندما عبر بعض الزعماء والمفكرين المسلمين عن رأيهم بحقيقة ما تعرض له اليهود من مزاعم تعذيب وحرق أو حديث عن خطورة المد اليهودي تنادى الغرب المسيحي بالاستنكار والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم يتراجع هؤلاء ويعتذروا علانية عما قالوا،وأيضا لم يكتفوا بذلك بل عملوا على احتضان كل مسلم مرتد يتطاول على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام مثل المدعو سليمان رشدي مؤلف كتاب''آيات شيطانية''.
وفي واقع الأمر فإن هذا العداء المستحكم من الغرب المسيحي ضد الإسلام وأهله ليس بالأمر المستغرب إنما المستغرب هو موقف المنبهرين بالغرب وبحضارته من أبناء المسلمين الذين استكانوا لهم وشربوا من فكرهم وتأثروا بهم وربطوا أنفسهم بتلك الحضارة الزائفة.
يقول الله عز وجل''لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو عشيرتهم''.
ويقول''قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم''.
ولذا وفي ضوء ما حصل من تهجم وسب وشتم للمصطفى عليه الصلاة والسلام فإن نصرته عليه الصلاة والسلام تكون من خلال الآتي:
- اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وأن يكون أحب إلينا من أنفسنا ووالدينا قولا وعملا.
- تعليم أبنائنا محبة رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن ذلك بيان ما تعرض له المصطفى عليه الصلاة والسلام من تهجم وأذى من قبل الغرب المسيحي ودعوتهم أي الأبناء إلى مقاطعة منتجات الغرب المحببة إلى نفوس أبنائنا.
- استخدام أهم سلاح نملكه وهو سلاح المقاطعة لكل ما هم منتج غربي بصفة عامة ومنتجات الدنمارك والنرويج على وجه الخصوص ومن هنا تبرز أهمية دور الغرف التجارية المحلية والعربية والإسلامية وضرورة التنسيق فيما بينها لتحقيق هذا الأمر.
- سحب جميع سفراء الدول الإسلامية من الدنمارك ويتم ذلك من خلال عمل جماعي تدعو إليه منظمة المؤتمر الإسلامي.
- لعل في هذه المصيبة فوائد لأمتنا الإسلامية ممثلة بضرورة التكاتف والتكتل في جميع المجالات فالغرب المسيحي لن يجرؤ على التطاول والتعرض للمسلمين أو لرموز الإسلام أو الدول الإسلامية طالما كانت الكلمة واحدة والصف واحد.
- تقوية العلاقة مع الصين فهي المارد القادم،ويلمس الزائر لهذه الدولة رغبتها الجادة في التعاون مع المسلمين وكرهها للغرب المسيحي ويأتي في المقدمة اليمين الصهيوني المتطرف.
فهل نحن فاعلون أرجو ذلك فالوضع لا يحتمل أي تبرير أو سكوت وإن لم نفعل فإن عقوبة الله ستحل علينا جميعا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
* وكيل جامعة أم القرى للدراسات العليا والبحث العلمي
كيف نوقف خطر أعضاء "نوادي الموت"؟
الكاتب: د.أحمد عبدالملك
خلال المعركة الحامية التي حدثت بيننا وبين الغرب -والدانمرك خصوصاً- إثر نشر الرسوم المسيئة لرسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام، وقعت حادثتان كبيرتان في المنطقة العربية، الأولى: تفجير المراقد المقدسة لدى إخواننا الشيعة في سامراء، والثانية: الهجوم على منشأة نفطية في شرق السعودية!
والحادثتان من صنع عربي وإسلامي، والذين يحاولون أن يقذفوا بجُرم التفجيرات في المراقد بسامراء على "الأجانب"، إنما يحاولون الإيغال في تبادل الاتهامات و"تحيير" الرأي العام، وتشتيته عن لُب القضية الأساسية في العراق، وهي النزاع السني-الشيعي حول تقاسم "كعكة" العراق، بعد تبدّل الأوضاع منذ دخول القوات الأميركية في ذاك البلد، وإسقاط نظام صدام حسين.
الحادثتان لم تأتيا من فراغ، ولم تكونا أبداً "ترفاً" عقائدياً! بل إنهما من النوع المُخطط له جيداً، والمؤمَن به جيداً، لذلك فلابد من الاعتراف بأن المجتمع العربي يعيش حالة جديدة من الصراع المحلي، لا دخل للاستعمار، أو القوى الأجنبية فيها. وهذا يتطلب رؤية تحليلية لواقع الإنسان العربي في منطقة الخليج، وهمومه وآماله. ولا نحتاج في هذا الوقت بالذات إلى مقالات تمجيد "بطولة" هذا الطرف أو ذاك، أو الإشارات العنيفة التي لا يمكن إلا أن تصبّ الزيت على النار التي وصلت إلى تحت أنوف بعض الذين اعتقدوا بأنهم آمنون!(11/208)
فنحن لم نكد نحصل على اعتذار من الجهات الدانمركية حول "الغوغائية" وسوء استخدام الحرية في قضية الكاريكاتير، وتطوّع علماؤنا الأفاضل بنشر مبادئ الدين الإسلامي وقيم الخير والتسامح والمحافظة على الأمن وحرية الديانات والمعتقدات، حتى ظهرت الحادثتان، لتقلبا الطاولة، وتناقضا كل ما قيل من رسائل لجذب التأييد العالمي للمسلمين والعرب في قضية الرسوم المسيئة لنا ولعقيدتنا.
بالنسبة للحادثة الأولى.. (تفجير المراقد في سامراء)، فإنها تحمل دلالات الكراهية والحقد الدفين بين الطرفين المتقاتلين حول المراقد المقدسة. وهو نزاع أسطوري قديم، لا يمكن إصلاحه أو إيجاد حل له، حيث لا يحاول أي فريق التخلي عن مواقفه ومبادئه تجاه الخلاف الأسطوري الذي مضى عليه ما يقارب 15 قرناً.
ولم يظهر هذا الخلاف بصورته الحالية إبّان حكم صدام حسين الديكتاتوري! وهي حالة مُبررة. أما لماذا يظهر اليوم، وقد يستمر طويلاً، فلأن بعض الاحتقانات في العراق لا تعود إلى حكم صدام فقط، ولا إلى الملكية، بل إلى عمق التاريخ! يظهر اليوم هذا النزاع الدموي، لسببين: الأول: الانتقام.. انتقام كلا طرفي النزاع من الآخر في مناخ تداعي أسوار الأمن. الثاني: زيادة أعضاء نوادي الموت.. واستعدادهم للقيام بأية عملية تساند وجهة نظرهم وإن كانت إبادة أرواحهم وأرواح الأبرياء حولهم.
أما لماذا تظهر الحادثة الثانية في شرق السعودية، بعد سنوات طويلة من الأمن والطمأنينة في ذلك البلد؟ فذلك راجع إلى التنسيق بين أعضاء نوادي الموت في أكثر من بلد من بلدان المنطقة. وهو أمر تساهم فيه الإنترنت بشكل كبير. أما السبب الثاني، فهو الرؤية السوداوية للأفراد اليائسين -الذين يناصبون الدولة العداء- لربما بهدف "إفشال" المشروع الإصلاحي في المنطقة، وزعزعة الأمن، وهو اتجاه يلتقي بما يقوم به أعضاء نوادي الموت في العراق، والهدف لا شيء!
فمن الناحية الاستراتيجية والدولية لن تقوم "دولة الخلافة"، لا في بغداد ولا في غيرها، لأن العالم اليوم محكوم بـ"نواميس" محددة وواضحة لا تسمح باهتزازات تعيد البشر إلى ثقافة "النكوص" أو تبعات "الخروج" التي ساندتها بعض الدول، ثم اكتشفت خطأ ما قامت به.
ومن الناحية الاجتماعية -وإن كانت هناك اختلافات حول ممارسة السلطة في بعض الدول- فإن معظم شعوب المنطقة لا يؤمنون بلغة العنف ولم يمارسوها سابقاً، ولا يريدون الرجوع إلى الوراء بعد أن حققوا نوعاً من مكتسبات التحضر. وأن ما يجري يُفشّل جهود الليبراليين -المؤمنين بتحضّر مجتمعاتهم- بعد أن "لانَتْ" بعض الأنظمة وخطت خطوات -لنقل عنها إنها مقبولة- تجاه الديمقراطية، وحرية الرأي، وإقامة مؤسسات المجتمع المدني.
ومن الناحية الاقتصادية، فإن تفجير منشآت نفطية هنا أو هناك، لن يلزم الحكومات بتوصيل أنابيب النقود إلى البيوت، أو فتح خزائن الدول لـ"يعبّ" منها هؤلاء، تحت دعاوى "عدالة توزيع الثروة". ونحن لسنا ضد مطلب عدالة توزيع الثروة، لكننا نختلف مع وسيلة المُطالبة! فالشعوب، لا يمكن -في ليلة واحدة- أن تحقق "المدينة الفاضلة"، حتى وإن كان جميع أفراد الشعب من الأفلاطونيين، وهم حتماً ليسوا كذلك! لكن استعجال بعض أعضاء نوادي الموت، وغوغائية البعض الآخر، هو الذي يُفشل جهود الليبراليين في إقناع الحكومات بالتغيير، وإنشاء مؤسسات المجتمع المدني، ودعم الحريات، وتبديل النظرة تجاه الآخر! بل ومحاسبة الحكومات إن كان أداؤها لا يناسب المرحلة الحالية.
إن تفجير المنشآت النفطية يؤثر أولاً على الاستقرار في المنطقة، ولذلك تبعات كثيرة، لعل أبسطها: طرح فكرة إحلال قوات دولية لحماية المنشآت النفطية، وهذا يُدخل المنطقة في (متواليات) احتقانية لن تختلف عن المشهد في العراق. إذ قد تنشط خلايا نوادي الموت وتمارس الانتقام ضد بعضها بعضا. كما أن مثل تلك التفجيرات تضعف مكانة المنطقة لدى المستثمرين الخارجيين، وبذلك تخسر المنطقة الكثير، ناهيك عن الخسارة المادية المباشرة في مداخيل النفط، لو طال التفجير آبار البترول.
ومن الناحية الإعلامية، خصوصاً الرأي العام العالمي، فلم تكد صورة صدام حسين تخفت بعد أن قام بتفجير آبار نفط الكويت خلال احتلال الأخيرة، وقبل انسحابه "الذليل" منها عام 1991، فإن الرأي العام العالمي سيزيد قتامة تلك الصورة، من أن النفط -وهو عصب حياة العالم- بيد من لا يتورع البعض عندهم عن حرقه واللعب به، دونما وازع من ضمير أو قانون. وهذا يزيد في الصورة النمطية للعرب في مخيال الرأي العام العالمي، وفنانيه وصحافييه، ولا نستبعد أن تظهر صور كاريكاتورية تُظهر العربي في مواقع مشينة، لن تستطيع الدول العربية الدفاع عنها لأنها ستكون وقتئذ صحيحة وماثلة، ولا يمكن أن تُصنّف ضمن قائمة معاداة العرب! لأن أعضاء نوادي الموت لا يهتمون لا بصورة العربي، ولا بسمعة المسلم. لكن الأمر يمثل خسارة للطرف العربي.(11/209)
نحن مع الذين يتوقعون احتمال أن تنتشر التفجيرات –لا سمح الله- إلى مواقع أخرى في الخليج، ونعتقد أن تشديد الحماية الأمنية ليس الطريقة الوحيدة في معالجة القضية. لابد للعالم العربي أن يبدأ تاريخاً، جديداً، ولابد أن ينسى أبناؤه بعض تاريخهم المزيّف!
صحيفة الإتحاد الإماراتية
==========================
كيف يستطيع المسلم أن ينمّي داخله محبة النبي صلى الله عليه وسلم
من موقع الإسلام سؤال وجواب:
السؤال:
كيف يستطيع المسلم أن ينمّي داخله محبة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أي شيء آخر في الدنيا ؟.
الجواب:
الحمد لله
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون قوتها تبعاً لإيمان المسلم فإن زاد إيمانه زادت محبته له ، فحبه صلى الله عليه وسلم طاعة وقربة ، وقد جعل الشرع محبة النبي صلى الله عليه وسلم من الواجبات .
عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " . رواه البخاري ( 15 ) ومسلم ( 44 ) .
ويمكن أن تتأتى محبة الرسول صلى الله عليه و سلم بمعرفة ما يلي :
أولاً : أنه مرسل من ربه اختاره واصطفاه على العالمين ليبلغ دين الله للناس وأن الله اختاره لحبه له ورضاه عنه ، ولولا أن الله رضي عنه لما اختاره ولا اصطفاه ، وعلينا أن نحب من أحب الله وأن نرضى بمن رضي الله عنه ، وأن نعلم أنه خليل الله والخلة مرتبةٌ عُليا وهي أعلى درجات المحبة .
عن جندب قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً " . رواه مسلم ( 532 ) .
ثانياًُ : أن نعلم منزلته التي اجتباه الله بها ، وأنه أفضل البشر صلى الله عليه وسلم .
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع " . رواه مسلم ( 2278 ) .
ثالثاً : أن نعلم أنه لقي المحن والمشقة من أجل أن يصلنا الدين وقد كان ذلك ـ والحمد لله ـ ويجب أن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوذي وضرب وشتم وسُبّ وتبرأ منه أقرب الناس إليه ورموه بالجنون والكذب والسحر وأنه قاتل الناس ليحمي الدين من أجل أن يصل إلينا فقاتلوه وأخرجوه من أهله وماله ودياره وحشدوا له الجيوش .
رابعاً : الاقتداء والتأسي بأصحابه في شدة محبتهم له ، فقد كانوا يحبونه أكثر من المال و الولد بل وأكثر من أنفسهم وإليك بعض النماذج :
عن أنس قال : " لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل " . رواه مسلم ( 2325 ) .
وعن أنس رضي الله عنه قال : " لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مُجَوّب به عليه بحَجَفَة له وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد القِد يكسر يومئذ قوسين أو ثلاثا وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول انشرها لأبي طلحة فأشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم فيقول أبو طلحة يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك. . .
رواه البخاري ( 3600 ) ومسلم ( 1811 ) .
( الحجفة ) هي الدرع ، ويقال لها : جوبة ، والمعنى أن أبا طلحة معه درع يحمي بها النبي صلى الله عليه وسلم .
( شديد القد ) القد هو وتر القوس ، والمعنى أنه شديد الرمي
خامساً : أن تُتبع سنته من قول أو عمل وأن تكون سنته منهجاً لك تتبعه في حياتك كلها وأن تقدم قوله على كل قول وتقدم أمره على كل أمر ثم تتبع عقيدة أصحابه الكرام ثم عقيدة من تبعهم من التابعين ثم عقيدة من تبع نهجهم إلى يومنا هذا من أهل السنة والجماعة غير متبع بدعة ولاسيما الروافض فإن قلوبهم غليظة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنهم يقدمون أئمتهم عليه ويحبونهم أكثر مما يحبونه .
نسأل الله أن يرزقنا محبة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يجعله أحب إلينا من أولادنا وآبائنا وأهلينا ونفوسنا .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
===========================
كيفية الاستفادة من كتب الحديث الستة
لفضيلة الشيخ:
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
(حفظه الله تعالى)
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية سابقاً
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فبلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدّين.
أما بعد:(11/210)
فهذه لمحات يسيرة في الاستفادة من كتب الحديث الستة وهي، صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وجامع الترمذي وسنن ابن ماجة.
فأقول: إن أعظم نعمة أنعم الله تعالى بها على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن بعث فيها رسوله الكريم محمداً عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ليُخرجهم به من الظلمات إلى النور، فقام بهذه المهمة خير قيام، وأدّى ما أرسله الله تعالى به على التمام والكمال، فما ترك خيراً إلاّ دلّ الأمة عليه ورغبها فيه، وما ترك شراً إلاّ حذّرها منه ونهاها عنه، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وكان التوفيق حليف صحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، إذ اختارهم الله تعالى لصحبته، وشرّف أبصارهم في الحياة الدنيا بالنّظر إلى طلعته، ومتّع أسماعهم بسماع حديثه الشريف من فمه الشريف صلوات الله وسلامه عليه، فتلقّوا عنه القرآن، وكل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وأدّوه إلى من بعدهم على التمام والكمال، فصاروا بذلك أسبق الناس إلى كل خير، وأفضل هذه الأمة التي هي خير الأمم. ثم بعد أن انقرض عصر الصحابة بدأ تدوين الحديث وجمعه بأسانيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتابع التأليف في تدوين السنة حتى جاءت المائة الثالثة التي ازدهر فيها التأليف، وكان من أهم المؤلفات التي أُلّفت في السنة على الإطلاق، صحيح الإمام أبي عبد الله محمد ابن إسماعيل البخاري رحمه الله، المولود سنة (194 هـ) والمتوفى سنة (256هـ)، وصحيح الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، المولود سنة (204هـ)- وهي السنة التي توفي فيها الإمام الشافعي رحمه الله- والمتوفى سنة (261هـ)، ثم سنن الأئمة الأربعة: أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى سنة (275هـ)، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفى سنة (303هـ)، وأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي المتوفى سنة(279هـ)، وأبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني المتوفى سنة (273هـ).
وأول هذه الكتب: صحيح الإمام أبي عبد الله البخاري رحمه الله، وهو أصحُّ الكتب المؤلفة في الحديث على الإطلاق، ويليه في الصحة صحيح الإمام مسلم رحمه الله، وهذان الكتابان لقيا عناية فائقة، وذلك لعناية مؤلفيهما بجمع كثير مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستوعبا كل صحيح، ولم يلتزما ذلك، بل يوجد خارج الصحيحين أحاديث كثيرة صحيحة، ولكن الذي في الصحيحين جملة كبيرة من الحديث الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم-رحمهما الله- هو أعلى درجة مما انفرد به أحدهما، وعلى ذلك فإن درجات الصحيح بالنسبة لما رواه البخاري ومسلم أو لم يروياه سبع درجات:
• الأولى: ما اتفق عليه البخاري ومسلم.
• والثانية: ما انفرد به البخاري.
• والثالثة: ما انفرد به مسلم.
• والرابعة: ما كان على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه.
• والخامسة: ما كان على شرط البخاري ولم يخرجه.
• والسادسة: ما كان على شرط مسلم ولم يخرجه.
• والسابعة: ما لم يكن في الصحيحين وليس على شرطهما وهو صحيح.
فهذه درجات سبع للحديث الصحيح، وأعلاها كما تقدم ما اتفق عليه البخاري ومسلم، وأحسن كتاب أُلّف في ذلك كتاب "اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان" للشيخ محمد فؤاد عبد الباقي المتوفى سنة (1388هـ) وقد رتبه وفقاً لترتيب الإمام مسلم، وما النص الذي يثبته فمن صحيح البخاري، حيث يختار أقرب لفظ في صحيح البخاري يوافق ما في صحيح مسلم فيثبته، وإنما أتى به على ترتيب مسلم، لأن الإمام مسلماً رحمه الله يجمع الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد في مكان واحد فيسردها، ويذكر حديثاً يعتبره أصلا ثم يأتي بالطرق الأخرى والأسانيد ويذكر الإضافات والنقص والفروق التي بينها وبين الحديث الذي اعتبره أصلا، فيثبت الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي لفظ الحديث عند البخاري في موضعه من صحيح مسلم ثم يقول: أخرجه البخاري في كتاب كذا، باب كذا، ويذكر رقم الكتاب ورقم الباب، وإنّما لم يثبته على ترتيب البخاري، لأن البخاري يقطع الأحاديث ويفرقها في أبواب متعددة للاستدلال بها على ما يترجم به من المسائل، لأنه أراد أن يكون كتابه كتاب رواية ودراية، وقد بلغ مجموع الأحاديث في كتاب "اللؤلؤ والمرجان" (1906) حديث.
ويقول العلماء عند العزو لما كان في الصحيحين: رواه البخاري ومسلم، أو أخرجه الشيخان، أو متفق عليه، وعبارة "متفق عليه" في الاصطلاح المراد بها اتفاق البخاري ومسلم، إلاّ عند مجد ابن تيميّة جدّ شيخ الإسلام ابن تيميّة صاحب "منتقى الأخبار" الذي شرحه الشوكاني في "نيل الأوطار" فإنه يريد "بمتفق عليه" بالإضافة إلى البخاري ومسلم، الإمام أحمد في المسند، فإذا قال: متفق عليه، فانه يعني الثلاثة.
1- صحيح البخاري:(11/211)
صحيح الإمام البخاري أصح كتب السنة، وموضوعه الأحاديث المسندة المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أراد البخاري أن يكون كتابه كتاب دراية، بالإضافة إلى كونه كتاب رواية، كتاب حديث وفقه، من أجل ذلك اتّبع طريقة تميّز بها عن الإمام مسلم في صحيحه وذلك بتقطيع الأحاديث وتفريقها وإيرادها تحت أبواب، من أجل الاستدلال بها على ما يترجم به، ومع تكرار الأحاديث في مواضع متعددة لا يخلي المقام من فائدة إسنادية أو متنية. وذلك أنه إذا أورد الحديث مكرراً يورده عن شيخ آخر، فيستفاد من ذلك تعدد طرق الحديث، والأحاديث التي كررها إسناداً ومتناً قليلة جداً تزيد على العشرين قليلاً، كما أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح (11/340) وكما في كتاب كشف الظنون (1/363). وقد ذكرت مواضع تلك الأحاديث في الفائدة (254) من كتابي "الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى".
وهذه الطريقة التي اتبعها البخاري في تفريقه الأحاديث على الأبواب ترتب عليها وجود بعض الأحاديث في غير مظنتها، فظن بعض العلماء خلو الكتاب منها كما حصل للحاكم رحمه الله في المستدرك حيث استدرك على البخاري أحاديث، وقال إنه لم يخرجها مع وجودها في صحيح البخاري، ومن أمثلة ذلك الحديث الذي رواه البخاري (2284) في كتاب الإجارة في النهي عن عسب الفحل، فقد استدركه الحاكم على البخاري فوهم، قال الحافظ في شرح الحديث: "وقد وهم في استدراكه، وهو في البخاري كما ترى، وكأنه لما لم يره في كتاب البيوع توهم أن البخاري لم يخرجه".
وأما فقه البخاري فهو واضح من تراجمه التي وصفها الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح بكونها حيرت الأفكار وأدهشت العقول والأبصار، وبكونها بعيدة المنال منيعة المثال، انفرد بتدقيقه فيها عن نظرائه، واشتهر بتحقيقه لها عن قرنائه. ومن أمثلة دقته في تراجمه قوله في كتاب الإجارة: "باب إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاثة أيام أو بعد شهر أو بعد سنة جاز وهما على شرطهما الذي اشترطاه إذا جاء الأجل" والمقصود من هذه الترجمة أن مدة الإجارة لا يشترط فيها أن تكون تالية لوقت إبرام العقد، وأورد تحت هذه الترجمة حديث عائشة رضي الله عنها (2264) في استئجار النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر رضي الله عنه رجل من بني الدِّيل هاديا خرِّيتا ودفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال.
ومن منهج البخاري في صحيحه أنه قد يروي الحديث في موضع واحد بإسنادين عن شيخين فيجعل المتن للشيخ الثاني منهما، أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح (1/436) وقال: "وقد ظهر بالاستقراء من صنيع البخاري أنه إذا أورد الحديث عن غير واحد فان اللفظ يكون للأخير، والله أعلم".
ومن منهج البخاري أيضا في صحيحه انه إذا مرت به لفظة غريبة توافق كلمة في القران أتى بتفسير تلك الكلمة التي من القران، فيكون بذلك جمع بين تفسير غريب القران والحديث، أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح في مواضع متعددة انظر على سبيل المثال (3/343، 324، 196). والحافظ ابن حجر-عليه رحمة الله- تمكن من معرفة اصطلاحات البخاري ومنهجه في صحيحه، وقد ذكرت في كتاب "الفوائد المنتقاة من فتح الباري وكتب أخرى" جملة كبيرة من الفوائد المتعلقة بذلك من الفائدة (226) إلى (284).
ولأهمية صحيح البخاري لقي عناية من العلماء في مختلف العصور، وكان على رأس الذين وفِّقوا للعناية بهذا الكتاب الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة (852هـ)، فقد شرحه شرحا نفيسا واسعا جمع فيه ما اقتبسه من غيره ممن تقدمه، وما وفقه لله لفهمه واستنباطه من ذلك الكتاب العظيم، وذلك في كتابه "فتح الباري" الذي يعتبر حداً فاصلا بين من سبقه ومن لحقه، فالذين تقدموه جمع ما عندهم، والذين تأخروا عنه صار كتابه مرجعاً لهم، وقد طبع كتاب "فتح الباري" في المطبعة السلفية في مصر، واشتملت الأجزاء الثلاثة الأولى منه على تعليقات نفيسة لشيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وقد أُثبت في هذه الطبعة ترقيم أحاديث الكتاب التي وضعها الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي. وطريقته في الترقيم أنه يثبت في أول موضع يرد فيه ذكر الحديث أرقامه في المواضع الأخرى التي تأتي بعد ذلك، وعند ورود الحديث في تلك المواضع لا يشير إلى الموضع الأول الذي ذكرت فيه الأرقام، ويمكن الاهتداء إلى الموضع الأول بالنظر في شرح الحافظ ابن حجر للحديث، فقد يشير فيه إلى المواضع المتقدمة، ويمكن ذلك أيضا بالرجوع إلى "فهارس البخاري" لرضوان محمد رضوان، فانه عندما يأتي للموضع التي تكرر فيها ذكر الحديث يقول: انظر كذا رقم كذا، مشيرا إلى الكتاب الذي ورد فيه ذكر الحديث أول مرة ورقمه.
وعدد كتب صحيح البخاري سبعة وتسعون كتابا، وعدد أحاديثه بالتكرار كما في ترقيم الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي (7563) حديث، وفي صحيح البخاري اثنان وعشرون حديثا ثلاثيا.
2- صحيح مسلم:(11/212)
وصحيح مسلم للإمام مسلم يلي صحيح البخاري في الصحة، وقد اعتنى مسلم –رحمه الله- بترتيبه، فقام بجمع الأحاديث المتعلقة بموضوع واحد فأثبتها في موضع واحد، ولم يكرر شيئا منها في مواضع أخرى إلا في أحاديث قليلة بالنسبة لحجم الكتاب، ولم يضع لكتابه أبوابا، وهو في حكم المبوب، لجمعه الأحاديث في الموضوع الواحد في موضع واحد.
ومما يميز به صحيح الإمام مسلم إثبات الأحاديث بأسانيدها ومتونها كما هي من غير تقطيع أو رواية بمعنى، مع المحافظة على ألفاظ الرواة، وبيان من يكون له اللفظ منهم، ومن عبر منهم بلفظ حدثنا، وبلفظ أخبرنا، وقد أثنى الحافظ ابن حجر في ترجمة الإمام مسلم في كتابه "تهذيب التهذيب" على حسن عنايته في وضع صحيحه، فقال: (( قلت: حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل، وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي، من غير تقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نهج على منواله خلق من النيسابوريين فلم يبلغوا شأنَه، وحفظت منهم أكثر من عشرين إماماً ممن صنف المستخرج على مسلم، فسبحان المعطي الوهاب)).
وقد قام الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله بالعناية بإخراج صحيح مسلم ووضع فهارس له متعددة مفصلة، وطبع الكتاب بعمله هذا في أربعة مجلدات أثبت فيها تراجم الأبواب التي وضعها الإمام النووي-رحمه الله- وهي ليست من عمل مسلم، كما قام بترقيم الأحاديث الأصلية فيه فبلغت (3033) حديث، وبلغ مجموع كتب صحيح مسلم أربعة وخمسين كتابا، ووضع الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي مجلداً خامساً مشتملاً على الفهارس المتنوعة المفصلة لصحيح مسلم رحمه الله، وأعلى الأسانيد في صحيح مسلم الرباعيات.
3- سنن أبي داود:
كتاب السنن لأبى داود كتاب ذو شأن عظيم، عني فيه مؤلفه بجمع أحاديث الأحكام وترتيبها وإيرادها تحت تراجم أبواب تدل على فقهه وتمكنه في الرواية والدراية، قال فيه أبو سليمان الخطابي في أول كتاب "معالم السنن": ((وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم وأمهات السنن وأحكام الفقه ما لا نعلم متقدماً سبقه إليه ولا متأخراً لحقه فيه)).
وللحافظ المنذري تهذيب لسنن أبي داود وللإمام ابن القيم تعليقات على هذا التهذيب، وقد وصف ابن القيم-رحمه الله- "سنن أبي داود" و "تهذيب المنذري" وما علقه عليه فقال: ((ولما كان كتاب السنن لأبى داود سليمان بن الأشعث السجستاني –رحمه الله- من الإسلام بالموضع الذي خصه الله به، بحيث صار حكماً بين أهل الإسلام، وفصلاً في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضى المحققون، فانه جمع شمل أحاديث الأحكام، ورتبها أحسن ترتيب، ونظمها أحسن نظام، مع انتقائها أحسن انتقاء، وإطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء، وكان الإمام العلامة الحافظ زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري –رحمه الله- قد أحسن في اختصاره وتهذيبه، وعزو أحاديثه وإيضاح علله وتقريبه، فأحسن حتى لم يكد يدع للإحسان موضعاً، وسبق حتى جاء من خلفه له تبعاً: جعلت كتابه من أفضل الزاد، واتخذته ذخيرة ليوم المعاد. فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل، وزدت عليه من الكرم على علل سكت عنها أو لم يكملها، والتعرض إلى تصحيح أحاديث لم يصححها، والكلام على متون مشكلة لم يفتح مقفلها، وزيادة أحاديث صالحة في الباب لم يشر إليها، وبسطت الكلام على مواضع جليلة، لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه)).
وكتاب سنن أبي داود مقدم على غيره من كتب السنن الأخرى، وقد بلغ مجموع كتبه خمسة وثلاثين كتاباً، وبلغ مجموع أحاديثه (5274) حديث. وأعلى الأسانيد في سنن أبي داود الرباعيات وهي التي يكون بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أربعة أشخاص. ولسنن أبي داود عدة شروح من أشهرها "عون المعبود" لأبى الطيب شمس الحق العظيم آبادي.
4- سنن النسائي:
صنف الإمام النسائي-رحمه الله- في السنن كتابين هما، السنن الكبرى، والصغرى التي اختصرها منها، ويقال لها المجتبى أي: المختارة من الكبرى، والسنن الصغرى هي التي لقيت عناية خاصة من العلماء، وهي التي اعتبرت أحد الكتب الحديثيه الستة، وهو كتاب عظيم القدر، كثير الأبواب، وتراجم أبوابه تدل على فقه مؤلفه، بل أن منها ما تظهر فيه دقة الإمام النسائي في الاستنباط، ومن أمثلة ذلك: قوله في أوائل كتاب الطهارة: " الرخصة في السواك بالعشي للصائم" وهي مسألة للعلماء فيها قولان:
أحدهما: منع الاستياك بعد الزوال قالوا: لأنه يذهب الخلوف الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».(11/213)
والقول الثاني: الجواز لدخوله تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» وقد أورد النسائي هذا الحديث تحت هذه الترجمة وهو أرجح القولين في المسالة لدلالة الحديث على ذلك، قال السندي في حاشيته على السنن منوِّهاً بدقة الإمام النسائي قال: ((ومنه يؤخذ ما ذكره المصنف من الترجمة، ولا يخفى أن هذا من المصنف استنباط دقيق وتيقظ عجيب، فلله دره ما أدق وأحد فهمه)).
وأعلى الأسانيد في سنن النسائي الرباعيات، وقد بلغ مجموع كتبه واحدا وخمسين كتاباً وبلغت أحاديثه (5774) حديث، وأحسن طبعات هذا الكتاب الطبعة التي حققها ورقمها ووضع فهارسها مكتب تحقيق التراث الإسلامي- دار المعرفة بيروت، فانه عند كل حديث يذكر رقمه، وأرقام مواضعه الأخرى عند النسائي، ويذكر تخريج بقية أصحاب الكتب الستة، وأرقام الحديث عندهم، ورقمه في تحفة الأشراف.
5- سنن الترمذي:
سنن الترمذي ويقال له الجامع، من أهم كتب الحديث وأكثرها فوائد، اعتنى فيه مؤلفه بجمع الأحاديث وترتيبها، وبيان فقهها، وذكر أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم في المسائل الفقهية، ومن لم يذكر أحاديثهم من الصحابة أشار إليها بقوله: وفي الباب عن فلان وفلان، واعتنى ببيان درجة الأحاديث من الصحة والحسن والضعف، وفيه أحاديث رباعية كثيرة، وفيه حديث ثلاثي واحد أخرجه الترمذي في كتاب الفتن ـ(2260) فقال: "حدثنا عمر بن شاكر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر». وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وفي إسناده عمر بن شاكر وهو ضعيف، لكن الحديث صحيح بالشواهد، انظر "السلسلة الصحيحة" رقم (957).
وعدد كتب جامع الترمذي خمسون كتاباً، وعدد أحاديثه (3956) حديث، وأحسن شروح جامع الترمذي كتاب "تحفة الأحوذي" للشيخ عبد الرحمن المباركفوري المتوفي (1353هـ).
6- سنن ابن ماجه:
سنن ابن ماجه سادس الكتب الستة على القول المشهور وهو أقلها درجة، قال الحافظ ابن حجر في ترجمة ابن ماجه في تهذيب التهذيب: ((كتابه في السنن جامع جيد كثير الأبواب والغرائب وفيه أحاديث ضعيفة جدا، حتى بلغني أن السري كان يقول: مهما انفرد بخبر فيه فهو ضعيف غالباً، وليس الأمر في ذلك على إطلاقه باستقرائي، وفي الجملة ففيه أحاديث كثيرة منكرة، والله المستعان)).
وإنما اعتبر سادس الكتب الستة لكثرة زوائده على الكتب الخمسة، وقيل سادسها الموطأ لعلو إسناده، وقيل السادس سنن الدار مي.
وأحسن طبعاته الطبعة التي أخرجت بعناية الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي التي رقم فيها الأحاديث فبلغت (4341) حديث، وبلغت كتبه سبعة وثلاثين كتاباً، وذكر الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي في كلام له في آخر السنن أن أحاديثه الزائدة على الكتب الخمسة بلغت (1339) حديث.
وفي سنن ابن ماجه خمسة أحاديث ثلاثيات الإسناد، كلها من طريق جبارة بن المغلس، عن كثير ابن سليم، عن أنس رضي الله عنه، ثلاثة منها في كتاب الأطعمة (3356) (3357)، (3310)، وفي كتاب الزهد واحد (4292)، وواحد في كتاب الطب (3479)، وجبارة وكثير انفرد ابن ماجه عن بقية أصحاب الكتب الستة بإخراج حديثهما، وقال عنها الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب أنهما ضعيفان، وهذه الأحاديث الخمسة من زوائد سنن ابن ماجة على الكتب الخمسة.
وقد ألف الشيخ أحمد ين أبي بكر البوصيري المتوفي سنة (840هـ) كتاب "مصباح الزجاجة" في زوائد ابن ماجة، وبلغت أحاديثه في بعض طبعاته (1552) حديث.
وهذه الكتب الستة لقيت من العلماء عناية في أطرافها ورجالها، وأحسن ما ألّف في أطرافها كتاب أبي الحجاج المزي "تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف" وقد رتبه على أسماء الصحابة رضي الله عنهم، وعند كل صحابي يذكر الأسانيد من الأئمة أصحاب الكتب الستة إلي التابعين، وهذا الكتاب العظيم يعتبر بالنسبة للأسانيد بمثابة نسخ أخرى لتلك الكتب الستة.
وأحسن ما ألف في رجالها بل في رجال مؤلفات أصحابها كتاب "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" لأبى الحجاج المزي، فإنه مشتمل على أسماء رجال الكتب الستة ورجال مؤلفات أخرى لأصحاب الكتب الستة مثل رجال الأدب المفرد، وجزء القراءة خلف الإمام، وخلق أفعال العباد للبخاري وغيرها.
وأما الكتاب المقتصر على رجال الكتب الستة فهو "كتاب الكاشف" للذهبي.
وقد اعتنى الحافظ أبو الحجاج المزي عند ترجمة كل راوٍ بذكر شيوخه وتلاميذه مرتبين على ترتيب حروف الهجاء، ثم يذكر ما قيل في صاحب الترجمة من جرح وتعديل، ويختم الترجمة بذكر أسماء الذين خرجوا أحاديثه من الأئمة الستة في كتبهم وفي أول الترجمة يثبت الرموز لهم.(11/214)
وقد هذب كتابه هذا الحافظ ابن حجر في كتابه "تهذيب التهذيب"، فيذكر عند كل ترجمة بعض شيوخ الراوي وتلاميذه وما ذكره المزي مما قيل فيه، ثم يختم الترجمة بذكر إضافات أخرى مبدوءة بقوله: ـ( قلت )، وعندما ينظر طالب العلم في ترجمة الراوي في تهذيب التهذيب وما اشتملت عليه من جرح وتعديل يتساءل! ما هي النتيجة التي انتهى إليها الحافظ ابن حجر في الحكم على الراوي؟ والجواب على هذا التساؤل موجود عند الحافظ ابن حجر في كتابه تقريب التهذيب، فيقول عنه ثقة أو صدوق أو ضعيف أو غير ذلك. وكتاب المزي تهذيب الكمال هذبه أيضاً الذهبي في كتابه "تذهيب تهذيب الكمال"، ولخصه الخزرجي في "خلاصة تذهيب تهذيب الكمال". والفرق بين ما في التقريب والخلاصة أن الحافظ ابن حجر في التقريب يثبت رأيه في الراوي ويذكر طبقته، وأما الخزرجي في الخلاصة فانه يذكر بعض شيوخ الراوي وبعض تلاميذه ويذكر بعض ما قيل في الحكم عليه جرحاً أو تعديلا، وعند ذكر الصحابي يذكر عدد الأحاديث التي له في الكتب الستة، وعدد ما اتفق عليه البخاري ومسلم منها، وعدد ما انفرد به كل واحد منهما عن الأخر.
وفي كتاب "تهذيب الكمال" للمزي وما تفرع عنه من الكتب ذكر رواة ليس لهم رواية عند أصحاب الكتب الستة، ذكروا لتمييزهم عن رواة مذكورين قبلهم لهم رواية عند أصحاب الكتاب الستة، والرمز لهم في هذه الكتب بكلمة (تمييز) عند الترجمة. فمثلاً: كثير بن أبي كثير جاء في هذه الترجمة خمسة رواة، الأول روى له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في التفسير، والثاني روى له البخاري في الأدب المفرد، والثلاثة الباقون ليس لهم رواية وإنما ذكروا لتمييزهم عن الاثنين قبلهم.
وقد جمع أبو نصر الكلاباذي رجال صحيح البخاري في مؤلف خاص، وجمع أبو بكر بن منجويه الأصبهاني رجال صحيح مسلم في مؤلف خاص، وجمع بين الكتابين الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي المعروف بابن القيسراني، واسم كتابه "الجمع بين رجال الصحيحين" وكلها مطبوعة، وكتاب ابن القيسراني مختصر، وطريقته فيه أنه عندما يذكر التراجم التي تحت اسم واحد كأحمد مثلاً: يذكر من اسمه أحمد عند البخاري ومسلم، ثم من اسمه أحمد عند البخاري ثم من اسمه أحمد عند مسلم، ومن أجل فوائده أن الراوي إذا كان قليل الرواية، فإنه يذكر مواضع أحاديثه في الصحيحين أو أحدهما، وذلك بذكر الكتاب الذي ورد فيه الحديث.
وقد ألف الشيخ يحيى بن أبي بكر العامري اليمني في الصحابة الذين لهم رواية في الصحيحين أو أحدهما كتاباً سماه "الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة"، وهو كتاب عظيم الفائدة.
ومن المناسب ذكره هنا أن للحافظ الذهبي كتابا اسمه "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" اشتمل على تراجم لرجال ورد ذكرهم في تهذيب الكمال وما تفرع عنه, وعلى تراجم لرجال غيرهم, وفيه ثقات ذكرهم لا لنقدهم وإنما للدفاع عنهم؛ مثل علي بن المديني, وعبد الرحمن بن أبي حاتم.
وللحافظ ابن حجر كتاب كبير سماه "لسان الميزان" بناه على كتاب الميزان للذهبي مع زيادات كثيره عليه, وقد قصره على تراجم رجال لا ذكر لهم في كتاب تهذيب الكمال وما تفرع عنه, وهو يعتبر إضافة رجال آخرين إلى رجال أصحاب الكتب الستة.
وقد جمع متون الكتب الستة وسادسها الموطأ أبو السعادات ابن الأثير في كتابه "جامع الأصول" , وهو مطبوع متداول، وقد هذب به كتاب رزين العبدري "التجريد والسنن", ويرمز عند كل حديث للذين خرجوه من الأئمة الستة و وفيه أحاديث زائدة على ما في الكتب الستة وهذه الزيادات لرزين , وعلامتها في جامع الأصول خلوها من الرموز أمامها. وابن الأثير رتب كتابه "جامع الأصول" على كتب مرتبة على حروف الهجاء, فيذكر في كل كتاب ما يتعلق بموضوعه.
وإذا أراد طالب العلم الوقوف على حديث في الكتب الستة وهو يعرف متنه فيمكنه ذلك بالبحث عنه في مظنته من الكتب التي اشتملت عليها الكتب الستة؛ فإذا كان الحديث يتعلق بالإيمان مثلا بحث عنه في كتاب الإيمان من الصحيحين والسنن, وإذا كان يعرف اسم الصحابي راوي الحديث رجع إلى " تحفة الأشراف " للحافظ المزي, فإنه يذكر أماكن وجود الحديث في الكتب الستة، أو رجع إلى كتاب "ذخائر المواريث في الدلالة على مواضيع الحديث" للشيخ عبد الغني النابلسي فإنه يذكر طرف الحديث, ويذكر من خرجه من أصحاب الكتب الستة بالإضافة إلى الإمام مالك في الموطأ, مع ذكر شيخ المؤلف فيه. ويمكن الاهتداء إلى موضع الكلمات في الحديث المعين فيرجع إلى كتاب "المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي" الذي بني على الكتب الستة والموطأ وسنن الدارمي ومسند الإمام أحمد, فيبحث عن الكلمة, فإذا الدلالة على موضعه منها, وذلك بذكر اسم الكتاب ورقم الباب, إلا في صحيح مسلم وموطأ الإمام مالك فإنه يكون بذكر اسم الكتاب ورقم الباب, وإلا في مسند الإمام أحمد فإن الإشارة فيه إلى الجزء والصفحة من الطبعة ذات الستة أجزاء.(11/215)
في الختام أسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه, وان يوفقنا لتحصيل العلم النافع والعمل به, إنه سبحانه وتعالى جواد كريم, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا أعتقد ذلك يا ولدي
نشرت جريدة الوطن في 25/12/1426هـ
============================
لا أعتقد ذلك يا ولدي
صالح الشيحي
قبل أربع سنوات أصدر محمود درويش وأدونيس وإدوارد سعيد وإلياس خوري، وعشرة آخرون، بيانا تعاطفوا فيه بشكل علني مع اليهود، عندما نادوا بمنع مؤتمر سيعقد في إحدى الدول العربية يتحدث عن أسطورة الهولوكوست.. وقامت حكومة ذلك البلد العربي بإلغاء المؤتمر.
المفارقة أن أغلب المؤتمرين الذين كانوا سيشاركون في ذلك المؤتمر، كانوا من الجنسية الأوروبية والأمريكية!
ـ الهولوكوست.. الأسطورة اليهودية.. لابد أن تقبل بها.. لابد أن تصدق أن 6 ملايين يهودي أبادهم "الفوهرر الألماني" جماعياً في غرف الغاز.. يجب أن تصدق.. وإن لم تفعل يجب أن تلتزم الصمت.. أما إن " ركبت رأسك " فستجد ذات المصير الذي وجده السيد "روجيه جارودي".
ـ أنت في النهاية تتحدث عن أهم الأسلحة التي يبتز بها الصهاينة العالم.. هكذا : لابد أن تسيطر عقدة الذنب على الغرب، ولابد أن يُقدّم تبعاً لذلك المزيد، المزيد، من الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري.. كما قدّم لهم ، من قبل ، فلسطين وطناً آمناً.
ـ اليوم وبعد أكثر من نصف قرن، لا أحد يجرؤ في الصحافة الغربية كلها، على التشكيك في الهولوكوست.. لا أحد يأمن العقاب.. لكنهم يستطيعون أن يسخروا مما سواها، حتى وإن وصل الأمر للسخرية من الرئيس، وما (مايكل مور) عنا ببعيد.
ـ وبعد، فلا أظن تلك الصحيفة الدانماركية التي أعلنت عن مسابقتها الكاريكاتورية لمن يستطيع تقديم رسم ساخر لنبينا (محمد) عليه أفضل الصلاة والسلام ـ لم تكن لتفعل لولا أنها أمنت العقاب.. تماماً كما أمنته تسليمة نسرين، ومن قبل الجميع: "سلمان رشدي"، هذا الذي يعيش اليوم حرا طليقا في شوارع نيويورك، وغيره الكثير..
ـ ستخرج أكثر من صحيفة، وأكثر من سلمان رشدي، طالما وقفت الحكومات الإسلامية موقف الطالب البليد، الذي لا يجيد حتى مسح السبورة.
ـ يسألني ابني ذو الثمانية أعوام : " لو كانت تلك الرسومات الـ 12 التي سخرت من نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ـ سخرت من 12 رئيسا عربيا هل ستكون ردة فعل الحكومات العربية كما هي الآن؟"
ـ لا أعتقد ذلك يا ولدي...
=============================
لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ...
6/2/1427
عبد المجيد بن ثنيان الثنيان
Maliks999@hotmail.com ...
لقد تكالب الأعداء من اليهود والنصارى والمنافقين على هذا الدين فهم "يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (الصف:8)، فهم يريدون إطفاءه بشتَّى الوسائل، ولو رجعنا إلى الوراء قليلاً ومنذ بزوغ شمس هذا الدين ودعوة نبينا _عليه الصلاة والسلام_ إلى عبادة الله ونبذ الشرك بدأ الأعداء يخرجون لصد الناس عن هذا الدين وسب نبيهم بل إنهم تآمروا على قتله ولكن الله قد حفظ نبيه _عليه الصلاة والسلام_ وعندما هاجر إلى المدينة بدأ اليهود والمنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول – عليه لعنة الله – الذي آذى محمد _صلى الله عليه وسلم_ في عرضه الشريف واتهم أم المؤمنين بالزنا – والعياذ بالله – وبدأ ينشر الخبر الكاذب عن الطاهرة عائشة رضي الله عنها.
وضاق صدره عليه الصلاة والسلام وتأخر نزول الوحي وذلك لحكمة يريدها الله _عز وجل_ فهو يريد أن يميِّز الخبيث من الطيب والمنافق من المؤمن، ونزل قول الله _عز وجل_: "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" (النور: من الآية11) ولهذا فإني أقول للمسلمين لا تحسبوا أن هذا الحدث " السخرية والاستهزاء بالنبي _صلى الله عليه وسلم_ " شراً لكم بل هو خير لكم، ولعلي أذكر بعض الفوائد الحسنة من هذه الحادثة التي ضاق منها مليار مسلم، وهذه الفوائد إنما هي تسلية وفرح لكل مسلم ومنها:
1- ظهور هذا الدين بصورة لم يحسب لها الأعداء أي حساب، فحين سخروا من نبي هذه الأمة؛ غضب مليار مسلم وبدأ عوام النصارى وغيرهم بقراءة سيرة هذا النبي والاطلاع على دينه.
2- بدأ الناس يكثرون من قراءة سيرته _عليه الصلاة والسلام_ والاطلاع على سننه وتطبيقها في مجال حياتهم.
3- كثرة طباعة الكتب التي تتحدث عن سيرته _عليه الصلاة والسلام_ حتى أنه طبع بلغات شتى – ولله الحمد–.
4- معرفة أن مسبة النبي _صلى الله عليه وسلم_ ليست كمسبة غيره، بل إن مسبته توجب قتل الساب.
5- فضح أهل البدع وذلك عند ظهور سننه _عليه الصلاة والسلام_ ومعرفتها، حيث إنه ما ظهرت بدعة إلا وخفيت سنه وعند ظهور سننه تخفت البدع – ولله الحمد–.(11/216)
6- عظم محبة النبي _صلى الله عليه وسلم_ في قلوب المسلمين، بل إن محبته مقدمة على محبة النفس والمال والولد روى البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" وفي الصحيح عن عبد الله بن هشام: كنا مع النبي وهو آخذ بيد عمر، فقال عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: "لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك" قال عمر: فإنه الآن لأنت أحب إلي من نفسي، فقال: "الآن يا عمر".
7- مقاطعة المسلمين للكفار، ولا ريب أنَّ هذا يضرُّهم اقتصادياً، وقد كان شيء من ذلك قد حدث في عصر النبوَّة، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما عندك يا ثمامة" فقال: عندي خير يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسل منه ما شئت فتركه حتى كان الغد، فقال "ما عندك يا ثمامة" فقال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان من الغد فقال: "ما عندك يا ثمامة" فقال: عندي ما قلت لك، فقال: أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب دين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد _صلى الله عليه وسلم_ ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي _صلى الله عليه وسلم_" رواه البخاري وفي رواية (أنه بلغ بقريش ما بلغ من الجهد فناشدوا رسول الله والرحم أن يأذن لثمامة ببيع الحنطة لقريش فأذن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ لثمامة).
وفي هذا الحديث دلالة على أنَّ الكفار يتضررون من المقاطعة لاقتصادهم ومنتجاتهم، ولقد قالها الدنماركيون عندما بدأ المسلمون بالمقاطعة الاقتصادية: (ما بنيناه في أربعين سنه خسرناه في أسبوع واحد)، ولا ريب أنَّ هذا مما يفرح المسلمين، وأمَّا المنافقون والعلمانيون فهم يقولون: (وماذا تفيد هذه المقاطعة إنها لا تجدي ولا تأتي بنتيجة) ولا شكَّ عندي أنَّ هؤلاء يريدون إحباط معنويات المسلمين، فجاهد هؤلاء ـ أخي ـ بمالك وقاطعهم لعل الخسارة تحل بهم عاجلاً غير آجل.
8- تحقيق الولاء والبراء وإحياء هذه الشعيرة التي قد أميتت (الولاء للمؤمنين والبراءة من الكفار) فلابد من البراءة من هؤلاء الكفار الذين يسبون نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_ وقبل ذلك رب العزة – جل جلاله – وأهانوا كتاب الله ودنسوه.
9 – يقول الله _تعالى_: "إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ" (الحجر:95)، وإنَّ من استهزأ بنبي من الأنبياء وخصوصاً نبي هذه الأمة وسيد ولد آدم _عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم_ فإن العقاب سوف يحل به لا محالة، انظر على سبيل المثال كسرى عندما مزق كتاب رسول الله واستهزأ به دعا عليه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أن يمزق ملكه فما لبث أن مزق الله ملكه، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في الصارم المسلول "أن رجلاً نصرانياً أسلم وقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي _صلى الله عليه وسلم_ فعاد نصرانياً، وكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبت له فأماته الله فدفنوه فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا له فأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا فأصبحوا وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه".(11/217)
وقال كذلك _رحمه الله_: "وقد ذكرنا ما جربه المسلمون من تعجيل الانتقام من الكفار إذا تعرضوا لسب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة، وهذا باب واسع لا يحاط به، ولم نقصد قصده هنا وإنما قصدنا بيان الحكم الشرعي، ونظير هذا ما حدثناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا، قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عرضه تعجلنا فتحه وتيسر ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوه فيه وهكذا حدثني بعض أصحابنا الثقات أن المسلمين من أهل المغرب حالهم مع النصارى كذلك ومن سنة الله أن يعذب أعداءه تارة بعذاب من عنده وتارة بأيدي عبادة المؤمنين".
10 – عداوة اليهود والنصارى للمسلمين، بل يزيد حنقهم إذا ارتفع الإسلام وظهر يقول الله _عز وجل_ عنهم: "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ" (آل عمران: من الآية118)، ويقول _جل وعلا_: "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" (آل عمران:186).
هذا وأسأل الله _عز وجل_ أن ينصر دينه وأن يعلي كلمته إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
==============================
لا تلومونا على حب النبي صلى الله عليه وسلم
د. خالد الطراولي**
19/02/2006
يعجب المرء من تطاول الألسنة على نبي الإسلام ونسج الأقلام المتطرفة لخيوطها حول الإسلام كدين وحضارة، باسم حرية الإبداع والرأي.
وعزاؤنا الوحيد أن من افترى واستهزأ كان غالبا في ضفة الجهلة بهذا الدين؛ ممن استرعى سرطان الكراهية والعداوة عقله وعاطفته، وران ذلك على قلبه فلم يعد يسمع ولا يرى.
ولم يقترب أحد بموضوعية وحلم واعتدال من هذا الرجل، وهم كثير في الضفة الأخرى، إلا أعطاه حقه أو قارب ذلك؛ فمنهم من جعله أحد كبار المصلحين، ومنهم من رأى فيه أحد الثائرين العظام، وقائمة المقسطين تطول.
عزاؤنا أنه من عدل وأنصف كان غالبا أقرب إلى ثقافة العقول من ثقافة البطون، كانوا أفرادا في مخابرهم أو جامعاتهم، همّهم نفع ذواتهم وأوطانهم والإنسانية جمعاء.
لسنا ضد النقد والاستفسار والدراسة، فهذه موائد الكرام التي ندعو إليها بكل حب وشره وثبات، غير أن المرفوض فكرا وذوقا هو السقوط في التعريض والتشويه الظاهر والمبطن الذي يستسقي ينبوعه من حسابات سياسية ضيقة، أو دينية وضيعة، أو جهل مدقع!.
الفاضل.. لا يحتاج دفاعا
وبعد، هل يحتاج رسول الله إلى الدفاع عنه؟ لست أدري لماذا اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أكتب هذه الجملة؟ وها أنا أسجلها! هل يحتاج إلى دليل وحجة ومحام، من كرس كل حياته إلى رسالة هداية لم يجعلها خاصة بقومه أو بقبيلته أو بجنسه؛ بل أرادها رحمة للعاقل ولغير العاقل، بَشَرا وحيوانا وجمادا {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}؟.
لم يفقه الكثير ممن حولنا هذه العلاقة الفريدة التي تربط هذه الأمة بصاحب قيادتها، لم يفهم ولم يستوعب أقوام من غير ضفتنا هذا اللقاء الحي والدائم وهذا الحب المتبادل والمسترسل بين جموع حاكمة ومحكومة، وبين هذا الأمي الغائب الحاضر في كل آونة وحين.
وحتى تنجلي الغشاوة، وتنقشع سحب قلة الزاد، يطيب لي مرافقة من اقتطع تذكرة هذه المصافحة بدون مين أو مواربة، ومن ركب دون إذن مسبق، في هذه الرحلة القصيرة، في مشاهد عابرة... حتى لا نلام مجددا على حب النبي!.
فمشاهد الحب والرحمة مع أمته لا تقاس ولا تنتهي. لم نغب يوما عن ذاكرته، ولا عن يومه وليله، حتى في أعز الأمكنة، وأفضل الأحوال التي ينسى فيها المرء ذاته. لما وقف أمام ربه يقول: لا أسألك عن فاطمة ولا عن الحسن ولا عن الحسين، أسألك عن أمتي.. أمتي!.
لا تلومونا على حب النبي.. فرفعة منزلته لم تقلل من تواضعه وبساطته، وقف أمامه ذات مرة أحد الأعراب، فاستشعر عظمته ووقاره وتواضعه، فارتجف واضطرب هيبة من الرسول الكريم، فهدّأ من روعه قائلا له: هوّن عليك، فما أنا بملك ولا سلطان، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد!.
زاهد.. عاش لغيره(11/218)
لا تلومونا على حب النبي.. كان معاشه لا يرتقي حتى ضعاف رعيته، وصفت زوجته عائشة حاله وهو يملك الحضر والمضر: "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم" (أخرجه الترمذي). "إنا كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نار".
لا تلومونا على حب النبي.. كان ينام على الحصير حتى ترك له بصمات على جنبيه. فعن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبي الله، لو اتخذت فراشا أوثر من هذا؟ فقال: ما لي وللدنيا؟! ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها (أورده الألباني في السلسلة الصحيحة).
لا تلومونا على حب النبي.. بعدما أخرجه قومه ودفعوا به إلى الصحراء وحرموه البلد والأهل والأحبة وذكريات صبي يتيم، ونظر إلى رمالها وشعابها وبنيانها وهو يودعها وداع مظلوم ومبتلى، نظرة حزن وحيرة، نظرة المواطن الذي حرم وطنه ظلما وعدوانا: إنك أحب أرض الله إليّ! ولولا قومك أخرجوني لما خرجت. وبعد سنين من الإبعاد والنفي واللجوء والمكائد والحروب عاد مظفرا ليقل لهم: ماذا تروني أني فاعل بكم.. لا تثريب عليكم اليوم.. اذهبوا فأنتم الطلقاء!.
لا تلومونا على حب النبي.. كان نبيا في وحيه، رسولا في تبليغ رسالته، وإنسانا في بيته ومع زوجه وأحفاده. كان يجعل ظهره مطية للحسن والحسين، حتى في أثناء الصلاة، فأطال على الناس ذات مرة السجود، فظنوا به الظنون. فلما فرغ سألوه عن سبب إطالته، فقال إن ابني ارتحلني (ركبني) فكرهت أن أعجله. ويسابق زوجه، فتسبقه مرة ويسبقها مرة؛ فيقول لها مداعبا: هذه بتلك.
لا تلومونا على حب النبي.. كان ملازما أمته وهمومها، يعيش فرحها ويعيش أزماتها. لما كان الناس يحفرون الخندق حول المدينة اتقاء من هجوم قريش وحلفائها، كان الرسول معهم بفأسه. وكان الناس في ضنك شديد، فالتقى عليهم الجوع والعطش والتعب والنصب لقلة ذات اليد ولدقة الموقف، فكان الناس يضعون حجرا على بطونهم حتى تلتصق بأجسادهم فلا توجعهم ولا تمزق أحشاءهم، واشتكى القوم من هول الموقف ومن الجوع المضني ورفعوا عن بطونهم ليُرُوا رسولهم الأحجار التي وضعوها.
ورفع النبي عن بطنه الشريفة فكان حجران! لا لوم، لا اعتذار، وإنما قدوة ونموذج، وصبر وتواضع وصحبة. وتوقف الزمن، وجثا التاريخ على ركبتيه يبحث عن رفيق!.
لا تلومونا على حب النبي... كان قوّاما صوّاما، يقوم ليله عابدا مسبحا متضرعا باكيا حتى تتفطر قدماه الشريفتان وتبتل لحيته، فتتعجب زوجه وتقول له وكلها شفقة عليه: " أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ".. وكأن لسان حالها يقول: فلماذا هذا الإبحار في القيام والذكر والتذلل؟ فيجيبها بكل براءة المحب العاشق لربه والصادق مع نفسه: "يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا؟".
هذه ومضات من حياة النبي، وأنا مقصر لا محالة. والقلم عاجز عن التعبير بما يعجّ في أعماقنا وذواتنا من حب واحترام واتباع لمحمد. ويبقى حب أمة لنبيها ملاذا حين العواصف، ودافعا حين الشدائد، ومغيثا حين الهزائم، وأملا حين اليأس والإحباط، وتواضعا حين الانتصار. ويبقى محمد.. فلا تلومونا على حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
===============================
لا تولوهم الأدبار
6/1/1427
محمد جلال القصاص
mgalkassas@hotmail.com
يوم الحديبية جلس سهيل بن عمرو وهو يفاوض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمقُ أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعينيه وعاد يحدث قومه: (أي قوم والله، لقد وفدت على الملوك... على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدَلَّك بها وجهه وجِلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له)
ولم يكن هذا حال الصحابة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل حين، ما كانوا يقتتلون على وضوءه ـ صلى الله عليه وسلم - ولا يترقبون نخامته - صلى الله عليه وسلم - كي يدلكوا بها وجوههم، بل في ذات اليوم حين وَقَّعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلح تباطئوا في التنفيذ.
ولكن كان إظهار المحبة أمام العدو مقصودا ليعلم كم هي الصفوف ملتفة خلف نبيها وكم هي لا تفرط في أي شيء يتعلق بنبيها حتى نخامته وماء وضوئه - صلى الله عليه وسلم -.(11/219)
وسمع محيصة بن مسعود قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه" فوثب على رجل من تجار يهود وقتله فجعل حويصة - أخوه - (يضربه ويقول: أي عدو الله أقتلته؟!، أما والله لربَّ شحم في بطنك من ماله. قال محيصة: فقلت: والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك،... قال: أ والله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال: نعم والله لو أمرني بضرب عنقك لضربتها، قال: والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب. فأسلم حويصة).
وكان هذا من بركة إظهار حبّ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وإن كلَّ من حمل لقبا أو دُعي له من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وسيف الله خالد بن الوليد، وعثمان بن عفان وغيرهم استحق هذا اللقب بوقفه في وقت شدة قلَّ من يقف فيها، فالصديق أظهر تصديقه حين تبجح المشركون وحارت عقول بعض المسلمين في خبر الذهاب إلى بيت المقدس وصعود السماء العلى ثم العودة في ذات الليلة، وعمر صدع بالحق في وقت الضعف والشدة، وخالد قاد الجيش إلى فتحٍ يوم مؤتة بعد أن قُتل القادة الثلاث وتكالبت الروم وأقبلت كالبحر اللجاج، و(ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم) قيلت يوم العسرة. وهو ينثر دنانير الذهب أكواما في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كي يجهز الجيش لقتال الروم.
بل "... لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " (الحديد: 10)
ويصور لي الخيال ما يحدث اليوم في الدنمارك كسَرِيِّةٍ من أراذل الكفار انفردت عن الصفوف وأقبلت تشن الغارة على أعز ما لدينا، وأحب حبيب إلى قلب كل مسلم.
وإن من الخطأ أن يظن إخواننا أن سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقصور على هؤلاء الأراذل من الناس، أو على هذه الفترة من الزمن فهو هَوَسٌ قديم حديث مستمر عند أهل الكفر جميعا منذ جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بالنور والهدى، والجديد في الأمر فقط هو هذا الأسلوب الوقح، وهذا الإصرار والعناد والاستخفاف بمليار مسلم.
إن كل من يتدبر حال الكفار يجد أن القوم ليسوا سواء، فهناك عوام من الناس - في الدنمارك وغير الدنمارك - لا يعرفون الإسلام على حقيقته، بيننا وبينهم ثلة من (الملأ) رسمت صورة مشوهة للإسلام في أعينهم جعلتهم يبغضون الإسلام وهم لا يعرفونه على حقيقته.
ومن يدري علّهم إن اتضحت لهم الحقائق يتأسوا بسحرة فرعون ويقولون قولتهم: "قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" (طه: 72)
فإظهار حب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعريف عوام الكفار - في الدنمارك وغير الدنمارك - بشخص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم-، والثبات في وجهة هذه الثلة المارقة الكاذبة التي تضل قومها وتفتري الكذب على الله ورسوله هو واجب المرحلة اليوم، ولا ينبغي أن يجلسنا الاعتذار دون تحقيقة.
هي معركة إعلامية واقتصادية، وقد حرم الله التولي يوم الزحف، والحرب على أرضنا - الفكرية - ولا شروط للجهاد إن نزل العدو بأرض المسلمين، فكلٌ مكلفٌ اليوم بالدفاع عن دينه، وكل مكلف اليوم بالدعوة للإسلام. والفرصة سانحة.
إن الاعتذار وحده لا يكفي فمقام نبينا - صلى الله عليه وسلم - أعز وأرفع من ذلك.
وإن أسمى أهدافنا التي ينبغي أن لا نكف الحديث عنها هو أن يسمع العالم بالحقيقة التي يخفيها من ضلوا وأضلوا من الأحبار والرهبان... حقيقة نبينا الخُلقية والخِلقيِّة، وحقيقة دين الله الإسلام، يجب أن تستنفر الهمم لذلك، والضد يظهر حسنه الضد، فلا مانع من التعريج على دين القوم وإظهار ما فيه من سبٍّ (للرب)، ولأنبياء الله، ومن كلام أشبه بحكايات المقاهي وأحاديث الصبية.
وأهمس في أذن كل من آلمه فراق المسلمين وتشتت كلمتهم أقول:
أمتنا بخير... ولم الشمل أمر يسير إن ملك الزمام أهله... بالأمس كانوا في منى بلباس واحد يدعون ربا واحدا، ويطوفون حول بيت واحد، واليوم ها هم أولاء صفا واحدا خلف نبيهم - صلى الله عليه وسلم-.
ووالله لو وجدوا مشاريع صادقة تحسن التعبير عن نفسها لأقبلوا في صعيد واحد على قلب رجل واحد، فما تفرقوا في الوديان إلا حين مل الحادي، وغشهم الدليل.
==========================
لماذا أساؤوا إلينا..؟
نشرت جريدة الوطن في 11/1/1427هـ
شتيوي الغيثي*(11/220)
لا تزال قضية الإساءة لنبي الإسلام ورمزه الديني الأول محمد صلى الله عليه وسلم هي القضية الأبرز في الحراك الدولي والحراك الشعبي منذ ظهور الرسومات الكاريكاتورية في الصحيفة الدنماركية (اليولاند بوسطن)، ومع الاعتذارات التي قدمتها كل من الحكومة الدنماركية والصحيفة التي نشرت هذه الرسومات، إلا أن الوضع الإسلامي لا يزال يغلي من الداخل، وما يزال الشعور الإسلامي على أشده، لإحساسه أن الاعتذار قد جاء متأخراً كثيراً، ولإحساسه أيضاً أن هذا الاعتذار كان مقتضباً وغير واضح المعالم مما يوحي باضطرار الحكومة ومعها الصحيفة إلى هذا الاعتذار دون توجه حقيقي من قبلهما يشفي غليل المشاعر الإسلامية التي أساؤوا إليها في رمزها الديني الأعظم.
ولقد نجحت نسبياً المقاطعة الشعبية الاقتصادية التي انتهجتها بعض الشعوب العربية والإسلامية كردٍ سلمي وردٍ حضاري تجاه إساءات الصحيفة وتجاه تواطؤ الحكومة الدنماركية، مما أعاد الاعتبار لنا كمسلمين بين أكثر الدول الأوروبية والغربية بشكل عام، وهذا في رأيي تطور عام في الذهنية العربية، كونها تنتهج السلمية في موازناتها الدولية وصراعاتها الدينية مع من تعتبرهم داخلين في منظومة الصراع الديني كما تحاول بعض الأيديولوجيات قول ذلك وفرضه كجدلية دينية في الحراك السياسي.
ولقد أكدتُ في المقال السابق على ضرورة عدم القيام بعمليات العنف تجاه الآخر بسبب أنه يضر بالقضية التي يحاول بعض المسؤولين وغير المسؤولين من المسلمين التعامل معها بحكمة واتزان حضاري، وبالاعتماد على القوانين الدولية في مثل هذه المواضيع، ويبدو أن ما كنا نخشاه وما حذرنا منه قد حصل في بعض الأطراف، ففي لبنان مثلاً قد تم اقتحام مبنى السفارة الدنماركية وإحراقها، بل.. وتم كسر أحد الصلبان فيها، وأخشى ما أخشاه أن يتفجر الوضع في لبنان فضلاً عن غيرها، مما يجعل حرباً طائفية تلوح في الأفق لو لم يتعقل اللبنانيون المسيحيون، وهنا يكون الطرف الإسلامي الغاضب قد خلق له الأعداء من الداخل والذي كان يتعايش معه تعايشاً يومياً فما بالك بالخارج والغرب المسيحي عامة، والذين نحن بحاجة إلى جلبهم إلى منطقة حقوقنا القانونية في القضية، وخصوصاً بعد أن صرح بعض رجالات الدين المسيحي هناك بحقنا فيها وتعاطفهم معنا، (والحق كما يقولون هو ما شهدت به الأعداء)، وأفعال العنف المتمثلة بإحراق مبنى السفارة قد تضر بالقضية إن لم تكن قد أضرت بالفعل إلا أن يكون العقل المسيحي في لبنان والعالم أكثر تفهماً، وعلى ذلك فكل المحاولات التي تنتهجها بعض الأطراف الإسلامية معتمدةً على أدبيات القوانين أو الأعراف الدولية في جلب الآخر الغربي خاصة إلى صف القضية الإسلامية قد تذهب مع الريح.
في العالم كله تتصاعد الأصوليات المتطرفة مستغلةً جميع الأوضاع لصالحها، جاعلةً من الحدث فرصةً لتصعيد أصوليتها ورفع صوتها النشاز، واستخدام جميع حروبها الأيديولوجية الفكرية مع الآخر الذي لا يتقاطع معها في الرؤية أو التوجه أو الدين، ولذلك فهي تسعى إلى إشعال فتيل التطرف والإرهاب الفكري والإقصاء الديني. ففي السويد مثلاً بدأ اليمين المتطرف بمحاولة إعادة رسوم كاريكاتورية جديدةً في مسابقةٍ مخصصةٍ لهذا الهدف لتعبث بصورة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الجميلة في أذهان غيرنا، وكإهانةٍ مقصودةٍ لجموع المسلمين، بكل ما تراه نظرتها المتطرفة، وبكل ما تملي عليها أيديولوجيتها الأصولية التي نحن متأكدون أن الكثير من مسيحيي العالم لا يشاركونها هذا التوجه، وهذه الأصوليات لا تعترف بكل القوانين الدولية في عدم الإساءة لأديان، واحترام مشاعر معتنقيها.
وفي عالمنا الإسلامي، كطرف آخر ومعنيٍّ في القضية، فإننا لا نستطيع التغافل عن كل ما تفعله الأصوليات الإسلامية المتطرفة هنا وهناك، حتى بعد قضية الإساءة، وكأنها فقط هي الممثلة الوحيدة للإسلام، فاستغلال هذا الحدث لتبرير تصرفاتهم الخرقاء تجاه كل ما هو غربي جعل الآخر المسيحي في دائرة الاتهام المطلق كونه مخالفا في المعتقد والديانة، وهذا واضح في بعض الرسائل التي يتداولها البعض أحيانا عشوائية أو غير عشوائية على الهاتف الجوال، وفي هذه الرسائل من مقومات الخطاب المضمر والهامشي وكل أدواته ما يجعلنا نقرها في هذا التحليل.(11/221)
لقد أساءت هذه الأصوليات الإرهابية للإسلام قبل أن تسيء إلى غيره باعتمادها كل آليات العنف المنظم وغير المنظم، وباعتمادها التكفير العقدي تجاه المسلم المخالف، وجز الأعناق لغير المسلمين أحياناً وذبحهم كالخراف بصمت وبدماءٍ باردةٍ، والأسوأ من ذلك، هذا الاعتماد الكبير على النص الديني بتأويله من قبلهم وتجييره لصالحهم للتدليل على صحة أعمالهم؛ وبما أنهم الصوت الأعلى في معركة الشد والإرخاء في العلاقة مع الآخر، وهي علاقة تبحث عن التأزم قبل التواصل، فقد أصبحت الصورة النمطية للإسلام في التصور الغربي هي ما يتعامل به الإرهاب من آليات تُلصق بالإسلام تعسفاً، وهنا تصبح القضية بالنسبة لبعض المتطرفين في الغرب صراع أيديولوجيات، تماما كما هو التفكير عند المتطرف الإسلامي في الجهة الأخرى، ولذلك سوف يسمح بعض المتطرفين الغربيين لأنفسهم بالتطاول على الرمز الإسلامي الأول محمد صلى الله عليه وسلم بأي طريقة كانت كما حصل في الرسومات الكاريكاتورية في الصحيفة الدنماركية، وهنا يكون البادئ أظلم بالنسبة لوجهة نظر المتطرف المسيحي الغربي.
والتأخر الحاصل من الأطراف الإسلامية المستنيرة بكل أطيافها الإسلامية والليبرالية، بسبب من خفوت صوتها العقلاني في التأثير على أكثر المواقع الإسلامية حساسية، يجعل من القضية خاسرة حضارياً قبل أن تخسر دينياً أو سياسياً، والذي نرجوه منها هو التسارع لتصحيح صورة الإسلام عند الآخر باللغة التي يفهمونها كلغة التعايش والتحاور السلمي، وبالثقافة التي يتداولونها كثقافة الصورة، وبالعقل الذي يحترمونه كالعقل العلمي والفلسفي، وإلا فإن الجهود ضائعة فيما ليس من صالحنا كمسلمين نبحث عن من يحترمنا من الأديان الأخرى.
الوسائل سهلة وميسرة لو اقتنع بها المسلمون، فما المانع لو استُخدِمتْ التقنية السينمائية مثلا لتصحيح صورة الإسلام تجاه الآخر كما استخدمها المخرج العالمي مصطفى العقاد رحمه الله في فيلمه العظيم (الرسالة)، أو كما حصل في الفيلم الأكثر من رائع (مملكة السماء)..؟! وهو بالمناسبة فيلم غربي ومصنوع بالطريقة الغربية الهوليودية، لكن المخرج كان منصفاً في تعامله مع المسلمين مع أنه يهودي الديانة.
نحن كمسلمين نحتاج أن تصبح قضيتنا عادلةً حضارياً كون العالم أجمع ينظر بعين الاحترام للطرف الأرقى حضارياً، كالاحترام الذي حظيت به الدولة الماليزية في العالم الغربي حالياً، ولا يمكن أن تصبح قضيتنا عادلةً من غير أن ينتهج المسلمون رؤيةً حضاريةً جديدةً في التعامل مع الذات الإسلامية قبل الآخر الغربي أو الشرقي.
*كاتب سعودي
لماذا الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الكاتب: حسونة حماد
إنَّ ما حدث مؤخرًا في الدنمارك وبعض الدول الغربية من نشرِ بعضِ صحف هذه الدول الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول- صلى الله عليه وسلم- تحت زعم حريةِ الرأي والتعبير ما هو إلا "موجةٌ في بحرِ مرضِ كراهيةِ الإسلام" إن صح التعبير.. ما هو إلا طلقةٌ في حربٍ طويلةٍ ومستمرةٍ ضد الإسلامِ.
هذه الموجة حوَّلت مرضَ كراهيةِ الإسلام إلى وباءٍ انتشر بين معظم الغربيين من غير المسلمين.
ولكنَّ السؤالَ هنا: لماذا يوجِّه الغرب الإساءةَ لشخص الرسول- صلى الله عليه وسلم؟ أو بمعنى آخر: لماذا الرسول صلى الله عليه وسلم بالذات؟!
(إخوان أون لاين) أرادت أن تُجيب عن هذا السؤال فيما يلي:
ولاء للقائد
يقول د. رشاد البيومي- أستاذ الجيولوجيا بكلية العلوم، وعضو مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين-: "إن الغرب وجَّه الإساءةَ للرسول- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ويوجهونها له دائمًا؛ لأنهم يستشعرون مدى ولاء المسلمين لقائدهم وقدسيته في نفوسهم، فهم عندما يريدون أن يسيئوا للمسلمين ويستفزوا مشاعرَهم لا يجدون سوى الرسول- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ولكنْ رُبَّ ضارةٍ نافعةٍ؛ فهم تخيلوا أن المسلمين أصبحوا هباءً منثورًا، وظنوا أنهم سيسيئون إلى مقدسات المسلمين دون أن يتحرك أحدٌ منهم لذلك، فكان الردُّ كما نراه الآن من انتفاضةٍ لكل الشعوب العربية والإسلامية، وإن كنت أتمنى أن يكون ذلك على مستوى الحكومات العربية والإسلامية أيضًا باتخاذ موقفٍ موحَّدٍ تجاه هذا الموضوع".
وأكد بيومي أن الغرب لن ينتهي عن ذلك إلا إذا أدرك المسلمون خطورتَه واتخذوا بعضَ الإجراءات الفعلية والعملية تجاه ذلك، مثل المقاطعة وتوضيح صورة الإسلام الحسنة في الغرب، إضافةً إلى وجود واقعٍ إسلامي صحيح في الدول الإسلامية من خلال تطبيق مبادئ وتعاليمِ الإسلام الصحيحةِ في أنفسنا وعلى أراضينا؛ حتى يقتديَ به غيرُنا من غير المسلمين.
ويرى أن استخدام الوقاحةِ تحت زعم حريةِ الرأي والتعبيرِ ما هو إلا نوعٌ من الهبوط من قِيمة الإنسانِ والعِلمِ وكلِّ شيءٍ.
هجومٌ على الإسلام(11/222)
ويرى د. أحمد عبد الرحمن- أستاذ علم الأخلاق- أن ذلك ليس هجومًا على شخص الرسول- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فقط؛ وإنما هو هجومٌ على الإسلام بصفة عامةٍ، ووجَّهوا الإساءة للرسول- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- بالذات؛ لأنه هو ممثلُ الإسلام، وهو الذي جاء بالرسالةِ وقاد المسلمين، ووسَّع رقعةَ الدولةِ الإسلاميةِ التي وصلت بعده إلى الأندلس في أقلَّ من قرنٍ هجري، وهذا دائمًا يترك أثرًا في نفوسهم تجاه الإسلام والمسلمين، ولذلك لا بد من وجود سياسات تربوية وفنية وعلمية وإعلامية تكشف ذلك وتوضحه للمسلمين؛ حتى ينتبهوا، وأكد أنه طالما ظل المصحف موجودًا في نفوس وقلوب المسلمين فلن يصِل هؤلاء إلى هدفهم وهو محوُ الإسلام من الوجود، وأكد أن هذا العدوان أنتج صحوةً عظيمةً للمسلمين، وأعتقد أنه لن تستطيع أية صحيفة في العالم أن تتجرَّأ أو تقومَ بمثل هذا العمل مرةً أخرى.
تشويه للرمز
ويقول د. طلعت عفيفي- أستاذ الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر وعميد كلية الدعوة سابقًا-: "إن الهجوم على النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-؛ لأنهم يعتبرونه الرمزَ الذي ينتسب إليه المسلمون، فإذا نجح هؤلاء في تشويهِ صورة الرسول- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فإنهم بذلك ينجحون في ضرب الإسلام ككل.
وأكد أن ما حدث لم يُقصد به الرسولُ- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فقط؛ ولكن قُصِد به دعوته- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.
ويرى أن الهجوم على الإسلام لن ينتهي؛ لأن التدافعَ بين الحق والباطل قائمٌ، وأن الغرب يأخذ بمقولةِ أن "عدوك هو عدو دينك".
وقال: إن رد الفعل الذي حدث من قِبَل المسلمين تجاه ذلك شيءٌ طيبٌ، ولكن يجب تفعيلُه أكثر من ذلك، واستخدام الوسائل الدبلوماسية للضغط على الغرب، وينبغي على قادة الدول العربية والإسلامية أن يكون لهم موقفٌ إيجابي رسمي يُرضِي شعوبَهم؛ حتى يتراجع الغرب عن إهانة المسلمين وسب مقدساتهم.
وأكد أن من أسباب الهجوم على الإسلام هو ضعفُ المسلمين، وحرصُهم على الدنيا، وعدم استعدادِهم للتضحيةِ، ويجب أن ينتبه المسلمون لقول الله تعالى: ?إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)? (الكهف)، ويظهروا عليكم.. أي ترتفع منزلتُهم فوق منزلةِ المسلمين، فإذا وصلوا إلى هذا الأمر فلا بد أن يدبروا للإسلام، علمًا بأن طبيعةَ الكفر هي الغلُّ والحقدُ والحيل والمكر.
حربٌ معلنة
ويقول د. منير جمعة- مدرس بآداب المنوفية-: "إن الغربَ من غيرِ المسلمين لديهم اعتقادٌ في أمور معينة، وهي أن القرآن من عند محمدٍ، وأن محمدًا ليس نبيًّا، ولكن مدعيًّا للنبوة، ولكي يصلوا إلى هذين النقطتين لا بد أن يشوِّهوا صورةَ الرسول- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- والقرآنَ الكريمَ، وتشويه صورة الإسلام بصفة عامة؛ لأنهم لاحظوا أن الإسلام أسرعُ الأديان انتشارًا في العالم، وهذا يُحدِث عندهم ذعرًا وخوفًا شديدًا جدًّا، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر ودخول الكثير من الغرب في الإسلام.
ومثل هذه الأمور تجعلهم يتصرفون على جميع المستويات، ويوزعون الأدوارَ عليهم باسم الحرية للعمل على الحدِّ من انتشار الإسلام.
واعتبر جمعةُ أن هذه حربٌ معلنة وليست خفيةً على أحد، وإن كان بعضها باردًا وبعضها ساخنًا، بعضها بالصواريخ وبعضها بالتشويش المتعمَّد، وما يحدث في جوانتانامو والعراق وأفغانستان وسوريا ولبنان.. إلخ أكبرُ دليلٍ على ذلك، وكله محاولة لتصريف الغيظ والحقد تجاه الإسلام المسلمين.
وأكد أن الإساءةَ للإسلامِ والمسلمين لا تنتهي مصداقًا لقوله تعالى: ?وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا? (البقرة: من الآية 217) وقوله تعالى: ?وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ? (الأنفال: من الآية 60). وترهبون.. أي تمنعوهم من التعدي على الإسلام والمسلمين، وليس للاعتداء عليهم؛ لأنَّ العدة في الإسلام تكون لردع الأعداء وليس الاعتداءَ عليهم، ولذلك يجب أن نربِّيَ جيلاً مسلمًّا فاهمًا لإسلامه فهمًا شاملاً، ولا يقتصر على ردود فعل مؤقتة فقط.
ونقول للغرب شكرًا على أنكم أيقظتم فينا شيئًا من حب الإسلام ومقدساته، ولو أن دعاةَ المسلمين أنفقوا أضعاف ما أنفقوه الآن على الدعوةِ ما كانوا يستطيعون إيقاظَ عُشرِ ما فعله الغربُ جرَّاء هذه الحملة الشرسة على الإسلام.
لماذا لا توجد أي صورة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في أي مكان في العالم ؟.
من موقع الإسلام سؤال وجواب: :
======================
لماذا لا توجد أي صورة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في أي مكان في العالم ؟.
الجواب:
الحمد لله(11/223)
جاءت الشريعة بسدِّ كلِّ باب يُوصِل إلى الشِّرك بالله ، ومن هذه الوسائل التصوير فقد جاءت الشريعة بتحريم الصورة ، ولعن من يفعل ذلك بل جاء الوعيد الشديد لمن فعل ذلك ، فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه البخاري( الصلاة/409) ، وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْتُ بِقِرَامٍ لِي عَلَى سَهْوَةٍ لِي فِيهَا تَمَاثِيلُ ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَتَكَهُ وَقَالَ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ قَالَتْ فَجَعَلْنَاهُ وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ ) رواه البخاري ( اللباس/5498 ) ، وعن عبد الله بن مسعود قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ ) رواه البخاري ( اللباس/5494 ) فكيف يأذن بعمل صورة له ، ولذلك لم يجرؤ أحد من الصحابة على رسم صورة له لأنهم يعلمون الحكم بالتحريم .
وحذر الله عز وجل من الغلو فقال : ( يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ) النساء /171 ، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من أيِّ فِعْلٍ يكون فيه غُلُوّ في حقه صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( لا تُطْرُونِي كما أَطْرَتِ النصارى ابن مريم ، إنّما أنا عَبْدٌ ، فقولوا عبد الله ورسوله ) ، رواه البخاري (أحاديث الأنبياء/3189) ، وقد بَوّبَ الإمام محمد بن عبد الوهاب باب : ما جاء أنّ سَبَب كُفْر بني آدم هو الغلو في الصالحين ... قال : " وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى : ( وقالوا لا تَذَرُنَّ آلهَتَكُمْ ولا تَذَرُنَّ وَدّاً ولا سُوَاعاً ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْراً ) نوح/23 ، قال : هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم . ففعلوا ولم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت " ، قال ابن القيم : " قال غير واحد من السلف : لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا لهم التماثيل ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم " فتح المجيد شرح كتاب التوحيد لعبد الرحمن بن حسن ص/219 .
ولذلك لا توجد صورة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه جاء بالتحذير منها لأنها أدت إلى الشرك .
ومقتضى شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن نؤمن به وبما جاء به ، ولو لم توجد له أي صورة ، والمؤمنون لا يحتاجون إلى صورة له حتى يتَّبعوه ، ثم إن وصفه الثابت في الروايات الصحيحة يغني عن صورته ومن أوصافه صلى الله عليه وسلم الواردة :
1- كان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس وجهاً
2- كان عريض ما بين المنكبين
3- ليس بالطويل ولا بالقصير
4- مستدير الوجه ووجهه مشرب بحمرة .
5- أدعج العين وهو : الشَّدِيدُ سَوَادِ الْعَيْنِ .
6- أَهْدَبُ الأَشْفَارِ : الطَّوِيلُ
7- وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ أَجْوَدُ النَّاسِ كَفَّا وَأَشْرَحُهُمْ صَدْرًا وَأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً وَأَلْيَنُهُمْ عَرِيكَةً وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ وَمَنْ خَالَطَهُ مَعْرِفَةً أَحَبَّهُ يَقُولُ نَاعِتُهُ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ مِثْلَهُ
يراجع سنن الترمذي ( المناقب/3571) وغيره من كتب السنة في وصفه عليه الصلاة والسلام .(11/224)
ولا شك أن المؤمنين يتمنون لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ ) رواه مسلم (الجنة وصفة نعيمها/5060) ولا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم واتباعه سبب للاجتماع به في الجنة ، ومن محبته عليه الصلاة والسلام رؤيته في المنام ، وتكون رؤيته على صفته الصحيحة فقد ثبت من حديث أبي هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ وَلا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي ) قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ رواه البخاري ( التعبير/6478) . والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد .
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد (www.islam-qa.com)
=======================
لماذا يجب علينا أن نحب رسولنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم؟
السؤال:
لماذا يجب علينا أن نحب ونطيع ونتبع ونحترم رسولنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم إلى أقصى درجة؟ ( أو أكثر من أي شخص آخر) .
الجواب:
الحمد لله
1- أوجب الله تعالى علينا طاعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) المائدة/92 .
2- وأخبر الله تعالى أن طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي طاعة لله تعالى ، قال الله تعالى : ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) النساء/80
3- وحذَّر الله عز وجل من التولي عن طاعته ، وأن هذا قد يصيب المسلم بالفتنة وهي فتنة الشرك ، قال الله عز وجل : ( لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النور/63 وأخبر الله تعالى أن مقام النبوة الذي أعطاه لنبيه صلى الله عليه وسلم يستوجب من المؤمنين احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره ، قال الله تعالى : ( إناأَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) الفتح/8-9
4- ولا يتم إيمان المسلم حتى يحبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، بل حتى يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين . عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) رواه البخاري ( 15 ) ومسلم ( 44 ) .
وعن عبد الله بن هشام قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب ، فقال له عمر: يا رسول الله ، لأنت أحب إلي من كل شيء ، إلا من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك ) فقال له عمر : فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الآن يا عمر ) رواه البخاري ( 6257 ) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وأما السبب في وجوب محبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيمه أكثر من أي شخص فلأن أعظم الخير في الدنيا والآخرة لا يحصل لنا إلا على يد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيمان به واتباعه ، وذلك أنه لا نجاة لأحد من عذاب الله ، ولا وصول له إلى رحمة الله إلا بواسطة الرسول ؛ بالإيمان به ومحبته وموالاته واتباعه ، وهو الذى ينجيه الله به من عذاب الدنيا والآخرة ، وهو الذى يوصله إلى خير الدنيا والآخرة . فأعظم النعم وأنفعها نعمة الإيمان ، ولا تحصل إلا به وهو أنصح وأنفع لكل أحد من نفسه وماله ؛ فإنه الذى يخرج الله به من الظلمات إلى النور ، لا طريق له إلا هو ، وأما نفسه وأهله فلا يغنون عنه من الله شيئا ..) اهـ مجموع الفتاوى 27/246(11/225)
وقال بعض أهل العلم : إِذَا تَأَمَّل العبدُ النَّفْع الْحَاصِل لَهُ مِنْ جِهَة الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَخْرَجَهُ الله به مِنْ ظُلُمَات الْكُفْر إِلَى نُور الْإِيمَان ، عَلِمَ أَنَّهُ سَبَب بَقَاء نَفْسه الْبَقَاء الأَبَدِيّ فِي النَّعِيم السَّرْمَدِيّ , وَعَلِمَ أَنَّ نَفْعه بِذَلِكَ أَعْظَم مِنْ جَمِيع وُجُوه الانْتِفَاعَات , فَاسْتَحَقَّ لِذَلِكَ أَنْ يَكُون حَظّه مِنْ مَحَبَّته أَوْفَر مِنْ غَيْره , وَلَكِنَّ النَّاس يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ اِسْتِحْضَار ذَلِكَ وَالْغَفْلَة عَنْهُ ، وكلّ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَانًا صَحِيحًا لا يَخْلُو عَنْ وِجْدَان شَيْء مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّة الرَّاجِحَة , غَيْر أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ . فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْتَبَة بِالْحَظِّ الأَوْفَى , وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ مِنْهَا بِالْحَظِّ الْأَدْنَى , كَمَنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا فِي الشَّهَوَات مَحْجُوبًا فِي الْغَفَلات فِي أَكْثَر الأَوْقَات , لَكِنَّ الْكَثِير مِنْهُمْ إِذَا ذُكِرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِشْتَاقَ إِلَى رُؤْيَته , بِحَيْثُ يُؤْثِرهَا عَلَى أَهْله وَوَلَده وَمَاله وَوَالِده ، غَيْر أَنَّ ذَلِكَ سَرِيع الزَّوَال بِتَوَالِي الْغَفَلَات , وَاَللَّه الْمُسْتَعَان . انظر فتح الباري 1/59 .
وإلى هذا المعنى يشير قول الله عز وجل : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) الأحزاب/6 .
قال ابن كثير رحمه الله :
( قد علم شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته ، ونصحه لهم ، فجعله أولى بهم من أنفسهم ، وحكمه فيهم مقدما على اختيارهم ) 6/380 .
وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله :
( يخبر تعالى المؤمنين خبرا يعرفون به حالة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومرتبته ؛ فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة ، فقال : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) : أقرب ما للإنسان ، وأولى ما له نفسه ، فالرسول أولى به من نفسه ، لأنه عليه الصلاة والسلام ، بذل لهم من النصح والشفقة والرأفة ، ما كان به أرحم الخلق وأرأفهم ، فرسول الله أعظم الخلق منة عليهم من كل أحد ، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من خير ، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر إلا على يديه وبسببه . فلذلك وجب عليه أنه إذا تعارض مراد النفس ، أو مراد أحد من الناس مع مراد الرسول أن يقدم مرا الرسول ، وأن لا يعارض قول الرسول بقول أحد كائنا من كان ، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ، ويقدموا محبته على محبة الخلق كلهم ، وألا يقولوا حتى يقول ، ولا يقدموا بين يديه ) . اهـ
وحاصل ما ذكره أهل العلم في بيان ذلك أن غضب الله والنار هما أعظم مرهوب للعبد ؛ ولا نجاة منها إلا على يد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ورضى الله والجنة هما أعظم مطلوبه ، ولا فوز بهما إلا على يد الرسول صلى الله عليه وسلم .
وإلى الأمر الأول يشير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي ) مسلم 2285 من حديث جابر ، ونحوه في البخاري 3427 من حديث أبي هريرة .
{ ( الفَراش ) َقَالَ الْخَلِيل : هُوَ الَّذِي يَطِيرُ كَالْبَعُوضِ
وَأَمَّا ( الْجَنَادِب ) فَجَمْع جُنْدُب , وَالْجَنَادِب هَذَا الصِّرَار الَّذِي يُشْبِهُ الْجَرَاد .
أَمَّا ( التَّقَحُّم ) فَهُوَ الإِقْدَامُ وَالْوُقُوعُ فِي الأُمُور الشَّاقَّة مِنْ غَيْر تَثَبُّت .
وَ ( الْحُجَز ) جَمْع حُجْزَة وَهِيَ مَعْقِد الإِزَار وَالسَّرَاوِيل .
وَمَقْصُود الْحَدِيث أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ تَسَاقُط الْجَاهِلِينَ وَالْمُخَالِفِينَ بِمَعَاصِيهِمْ وَشَهَوَاتهمْ فِي نَار الآخِرَة , وَحِرْصهمْ عَلَى الْوُقُوع فِي ذَلِكَ , مَعَ مَنْعه إِيَّاهُمْ , وَقَبْضه عَلَى مَوَاضِع الْمَنْع مِنْهُمْ , بِتَسَاقُطِ الْفِرَاش فِي نَار الدُّنْيَا , لِهَوَاهُ وَضَعْف تَمْيِيزه , وَكِلاهُمَا حَرِيصٌ عَلَى هَلَاكِ نَفْسه , سَاعٍ فِي ذَلِكَ لِجَهْلِهِ . ) } شرح مسلم ، للنووي
وأما الثاني فيشير إليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى ) البخاري 7280 من حديث أبي هريرة
والله الموفق .
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
===========================
لن نرضى بأقل من الاعتذار ومعاقبة المسيئين للرسول صلى الله عليه وسلم(11/226)
عبد السلام البلوي ـ الرياض
دعا المفتي العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء عبد العزيز آل الشيخ, المسؤولين في حكومة الدنمارك إلى محاسبة الصحيفة التي نشرت صوراً وقحة وتعليقات قبيحة مصاحبة لها زعم ناشروها أنها تمثل الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
كما طالب سماحته في بيان أصدره أمس بإلزام الصحيفة بالاعتذار عن جريمتها النكراء وتوقيع الجزاء الرادع على من شارك في إثارة هذا الموضوع , مؤكداً سماحته أن هذا أقل ما يطالب به المسلمون نظراً لما أثاره هذا الهجوم الوقح على نبي الاسلام عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم من ألم واستياء وأذى لجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ..وفيما يلي نص البيان: الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين, أما بعد : فقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على فترة الرسل, بشيراً ونذيراً , وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً , بعثه للناس كافة عربهم وعجمهم , أبيضهم وأسودهم , كما قال سبحانه '' يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم'' وقال تعالى( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) وقال( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً).
وأنزل عليه خير كتبه , القران الكريم , الذي هو معجزته الخالدة, كما قال تعالى ( قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان لبعض ظهيراً) وتعهد الله بحفظه من أن تمسه يد التغيير والتبديل , حيث يقول( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)ليبقى مشعلاً مضيئاً , تستهدي به البشرية في مسيرتها الدائمة , إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, قال سبحانه( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) وجعل أتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته موجباً لمحبته سبحانه , قال تعالى( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) .
وقرن طاعته بطاعته في الكثير من الآيات كقوله سبحانه( من يطع الرسول فقد أطاع الله) وقوله( ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) وقوله( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) وغيرها من الآيات .
و أوجب محبته على الخلق كما قال تعالى( قل إن كان اباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم - إلى قوله - أحب إليكم من الله ورسوله فتربصوا) وكما في الحديث الصحيح من قول عمر رضي الله عنه :
( رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي , فقال: لا يا عمر , حتى أكون أحب إليك من نفسك , قال : فأنت والله يا رسول الله أحب إلي من نفسي , قال : الآن يا عمر) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) متفق عليه .
وبمناسبة ما تناقلته وسائل الإعلام المختلفة عن إقدام بعض الحاقدين على الإسلام ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام على نشر صور وقحة, وتعليقات قبيحة مصاحبة لها في إحدى الصحف الصادرة في كوبنهاجن عاصمة الدانمارك زعم ناشروها أنها تمثل الرسول الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم, وهي صور وتعليقات لا توجد إلا في مخيلة مروجيها ممن أكل الحقد والكراهية للإسلام ونبي الإسلام قلوب دعاتها . ومعلوم أن أنبياء الله ورسله هم خير البشر, وهم الذين أختارهم الله لحمل رسالاته , وإبلاغها لعامة الخلق , فواجب الخلق تجاههم الإيمان بهم , ونصرتهم , وتعزيزهم , وتوقيرهم , وقبول ما جاءوا به من عند الله , قال تعالى( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ) . وقد أخبر سبحانه أن رسله منصورون بنصره فقال( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).(11/227)
وإننا إذ نستنكر هذا البهتان العظيم الموجه لنبي الإسلام وخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام لعلى يقين بأن الله سبحانه ناصر لنبيه, وخاذل لا عدائه, كما قال سبحانه(إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) وقال تعالى( والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) وقال سبحانه(إنا كفيناك المستهزئين)وقال ) إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهينا) وقال سبحانه( والله يعصمك من الناس ) وقال ( إن شائنك هو الأبتر) ووعده الله سبحانه حق, وقوله صدق . ومعلوم أن سب الرسول والاستهزاء به, انتهاك لحرمته, وتنقيص لقدره, وإيذاء لله ولرسوله ولعباده المؤمنين, وتشجيع للنفوس الكافرة والمنافقة على اصطلام أمر الإسلام, وطلب إذلال النفوس المؤمنة, وإزالة عز الدين , وإسفال كلمة الله , وأذاهم من أبلغ السعي فساداً .
وقد أخبرنا الله سبحانه أن أعداءه سيواصلون شرهم وأذاهم, وأمرنا بالصبر والمصابرة فقال تعالى (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قلبكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) ويجب على كل مسلم نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزيزه وتوقيره , كما قال تعالى(لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه) وتعزيزه : يشمل نصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه , والتوقير : اسم جامع لكل مافيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام, وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار. ونظراً لما أثاره هذا الهجوم الوقح على نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم , من ألم واستياء وأذى لجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها, فإنني أدعو المسئولين في حكومة الدانمارك بأن تحاسب الصحيفة التي نشرت هذه الرسوم, وتلزمها بالاعتذار عن جريمتها النكراء, وتوقع الجزاء الرادع على من شارك في إثارة هذا الموضوع , فهذا أقل ما يطالب به المسلمون . نسأل الله جلت قدرته أن يحفظ نبيه ورسوله من كيد الكائدين, وعدوان المعتدين, وظلم الظالمين , كما نسأله سبحانه أن ينصر دينه ,ويعلي كلمته , إنه على كل شيء قدير, وحسبنا الله ونعم الوكيل , ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
=========================
لن نموت إذا خلت موائدنا من خيرات البقرات الدنماركية(11/228)
حين تحترم نفسك يحترمك الناس.. وحين تحترم العقيدة التي تحملها يحترمك العالم، هذه ببساطة هي القوانين والأعراف التي يحتكم إليها كل البشر، من يتخلّ عن عقيدته ومبادئه يصبح في نظر العالم إنسانا بلا هوية، وبالتالي هو إنسان مسلوب الحق في الاعتراض على أي إهانة يتعرض لها، وحتى لو رفض الإهانة فلن يغير ذلك من الأمر شيئاً، حسنا هل يحترم المسلمون عقيدتهم بشكل جيد حين يسافرون إلى الغرب؟ وهل هم سفراء حقيقيون لمبادئهم وقيمهم الرفيعة والعالية حين يمثلون بلدانهم في المحافل الدولية؟ وقبل ذلك هل لهم مواقف معروفة في التصدي لمن يهين مقدساتهم أو رموزهم في الداخل والخارج؟، وحين تكون الإجابة على تلك الأسئلة مرضية ومقبولة فسنستطيع الانتصار على من أهان نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في الدنمارك وفي غيرها، لكن ما يحدث اليوم هو حمى رسائل جوال فقط، شعوب تعبر عن ردة فعل وقتية لا تصنع مواقف واضحة أو ثابتة، بعد أن فشلت أغلب حكومات الدول الإسلامية في تبني موقف حازم يلغي هذا العبث الذي طال وسيطول.. يستمر النكرات في التسلق على أكتاف هذا الدين ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، بحجة حرية الرأي والتعبير، وتتم حمايتهم والإغداق عليهم غربيا، وكل ما نملكه محاضرة ورسالة جوال، وتهديد ووعيد بمقاطعة الرز والزبدة، فعادة لا تتعدى مقاطعتنا التنفيس والمشاركة الوجدانية، وتذكروا هنا - إن كان لكم ذاكرة - مصاحف جوانتانامو التي رميت في المراحيض ودورات المياه، في المقابل تتواصل مسرحية (الهولوكوست) في السيطرة على عقل العالم برغم زيفها لأنها وجدت من يدعمها وينفخ فيها ليل نهار، بالمال والقلم والعقل، إنني أحسد اليهود حين يستطيعون تمرير كذبة وتحويلها إلى أسطورة، في حين أفشل أنا المسلم في تعريف العالم (فقط بالحقيقة) إن التخطيط السليم يوصلك للهدف، وهو ما فشلنا ونفشل فيه دائما كعرب ومسلمين، أسبوع كامل وأنا أتابع وسائل الإعلام الإسلامية ولم أجد أي عمل منظم أو موقف جماعي، وشعرت بالذل ولم أرفع رأسي إلا حين استدعت حكومة بلادي سفيرنا من كوبنهاجن، إنه موقف رائع ونحن نطالب بالمزيد، أما بقية الدول (فالنوم سلطان) أكثر من مليار من المسلمين يتألمون اليوم، وحكوماتهم تنام في العسل وتغمس في الزبدة الدنماركية، إنني مع المقاطعة بشرط أن تستمر وألا تكون (زوبعة في فنجان)، لنتعلم من اليهود في هذه المسألة على الأقل، ففي النهاية لن نموت إذا خلت المائدة من خيرات بقرات الدنمارك، وما دام لديهم حرية تعبير، فلدينا أيضا حرية في الشراء والاختيار، وتبعا لمواقفهم تجاهنا يجب أن تكون المعاملة والشراء والمشاركة الاقتصادية، عذرا يا حبيبي يا رسول الله: فأمتك اليوم مقطعة الأوصال والمواقف مشغولة، إلى أن يجيء الصباح ويستيقظ شهريار، وسيستيقظ لا محالة.
محمد علي البريدي - رجال ألمع
============================
لنتحاور مع أنفسنا.. ثم نتحاور مع الآخرين
الكاتب: عبد الباقي صلاي
الحرب على الإسلام وعلى المسلمين ليست وليدة الساعة، كما أنها ليست بالجديدة أو بالأمر الغريب المستهجن، فالتاريخ حافل بكل صنوف التآمر والاعتداء على الإسلام سواء ما تعلق منه بتشويه صورته، والطعن في تعاليمه السمحة، والحط من قيمة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بتمزيق أوصال الأمة المسلمة، باحتلال أراضيها عنوة تارة، وبكسر إجماعها ونقض غزلها عن طريق إحياء القديم من عصبيات الجاهلية الأولى تارة أخرى.
ولاتزال الشواهد كثيرة على أن الاستعمار الصليبي الحاقد، هو نفسه لم يغير نمط تفكيره التوسعي الظالم، ولم يغير من خططه واستراتيجيته قيد أنملة، في تعامله مع الإسلام وأمته الممتدة على طول خط طنجة - جاكرتا، وإن أخذ لنفسه صورة عصرية، مستعملاً لغة فيها الكثير من المفردات الجميلة المحببة للنفس، كحقوق الإنسان والديمقراطية وحرية التفكير وحرية التعبير وحرية تقرير المصير وحوار الحضارات وتقارب الأديان وتواصل الثقافات، وشتى المصطلحات المثخنة برنين العصرنة التي يحويها القاموس الاستعماري.
لكن رغم كل ما يتميز به هذا الاستعمار الصليبي الحاقد، ورغم معرفة هذه الأمة بكل تحركاته وأطماعه، فإنه لايزال يتغلغل للأسف الشديد في رقعتها الجغرافية، ولايزال محافظاً على موقعه الاستغلالي، مستحوذاً على نفس الامتيازات التي كان يمتلكها، عندما كان هو الآمر والناهي على معظم الأراضي العربية والإسلامية.(11/229)
ومن السذاجة بمكان أن نقول إن الاستعمار الصليبي قد رحل من غير رجعة، ولم يعد له وجود أو أثر على الأراضي العربية والإسلامية التي كانت تحت طائلته، وإن غيابه الفعلي الميداني يعني عدم حضوره في كل كبيرة وصغيرة من حياة العرب والمسلمين، ومن يريد أن يتأكد من ذلك فلينظر إلى حال العرب والمسلمين، ويستحكم عقله في كل ما يجري داخل الدول العربية من جمود وخنوع واعتماد شبه مطلق على سواعد نفس الاستعمار الصليبي، وما تجود به هذه السواعد من منتجات غذائىة، وأشياء أخرى تستعمل كلية في معاش هذه الشعوب العربية والإسلامية، وقد قالها صريحة ومن دون مواربة السفير الدنماركي في الجزائر، على خلفية مقاطعة المسلمين للمنتجات الدنماركية، ولو من باب المزاح - وهذا جزء يسير من مكنونهم الحقيقي تجاهنا - إن العرب والمسلمين إذا قاطعوا منتجاتنا فماذا سيأكلون؟ وقد كان السفير محقاً في ما يقول، بل منصفاً كونه نبّه العرب والمسلمين، وحاول إيقاظهم من سباتهم الطويل، وإن كانت لفظته مجرد زلة لسان، تعبر عن فكر رجل يدرك مغزى ومعاني ما ينطق به من كلمات.
وتحضرني مقولة قالها الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في محاضرة له، إن نفس الاستعمار الصليبي لو أخذ منا منتجاته، بالجملة والمفرق، لوجدنا أنفسنا نحن العرب والمسلمين جياعاً وعراة حفاة، لأننا ببساطة شديدة لا نزرع ما نأكل ولا ننتج ما نلبس.
هذه هي الحقيقة التي ينبغي التسليم بها، واحترام كل من يواجهنا بها، أو ينبهنا إليها، سواء كان صديقاً أو عدواً، كما يتوجب علينا أن نقر بأن الأمة العربية والإسلامية تعيش عالة على غيرها، ولاتزال مقيدة بأغلال الاتكالية، وأغلال فكرة تغليب الاستهلاك على الانتاج، وعدم التفكير في المستقبل، وإن كانت هي التي لاتزال تمد استعمار الأمس بكل متطلبات الانتاج والمواد الخام.
ولقد أتيحت للأمة الإسلامية على خلفية الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، الفرصة كي تراجع نفسها، وتعرف قيمتها، بأن تنظر إلى ما تحسنه، ولا تعتمد على ما يأتيها عبر بحارها وأجوائها، كما أتيحت لها الفرصة بأن تستجمع قواها المهدرة في ما لا فائدة منه، وتتقارب فكرياً ومفاهيمياً ما دامت العاطفة الإسلامية استطاعت أن توحد الجميع من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب.
المسلمون على تعدادهم الكبير قادرون اليوم أن يقلبوا الكفة لصالحهم، ويحققوا الخطوة المعجزة نحو المستقبل غير المقيد بما يجود به الاستعمار الصليبي من سلع تكاد تقترب من النفايات، وبتكنولوجيا تلبي فقط النهم الاستهلاكي.. وبما أن الإجماع حاصل على مقاطعة كل منتجات الدنمارك التي لم تقبل أن تتنازل عن كبريائها مثقال ذرة، كي تعترف بجريمتها النكراء، وتعتذر للمسلمين على ما بدر منها من تلك الرسوم المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فإن مواصلة حملة المقاطعة تصبح في حكم الفرض الشرعي، ولايجوز لأي كان أن يشق هذا الإجماع مهما كانت صفته، ومهما بلغ مقامه.
وقد كنا نأمل من الدكتور طارق سويدان، الذي كان أكثر حزماً في مؤتمر كوبنهاجن عندما طالب بحرية التعبير حول المحرقة اليهودية الهولوكوست ومعاداة السامية، ألا يستدرج للحوار مع الدنمارك قبل أن يكتمل الحوار مع بقية علماء الأمة القادرين على استنباط الحكم في مثل هذه المسائل الحساسة، ما دامت الجماهير المسلمة لاتزال تعيش حالة من الحراك والديناميكية، ولاتزال على أهبة الاستعداد لأن تقبل بأي توجيه يؤدب المستهترين من الدنماركيين ومن حالفهم على مسلكهم الوضيع، لأن هذا الحراك الجماهيري الإسلامي العريض في واقع الأمر والحال يعتبر ظاهرة صحية، يكشف واقع هذه الأمة المترامية الأطراف، بأنها أمة وإن كانت مريضة لكنها ليست أبداً أمة ميتة.
فالمسلمون أثبتوا من خلال مقاطعة المنتجات الدنماركية - والحقيقة ليست الدنمارك منذ خلت فقط على خط نار المواجهة العلنية، فلقد نسينا على سبيل المثال إسبانيا وألمانيا ونيوزلندا والنرويج، وهذه الدول معظمها لم تتعرض منتجاتها للمقاطعة كما تعرضت منتجات الدنمارك - إنهم يمتلكون القدرة الفعلية على خلخلة الموازين، وزعزعة اقتصاديات الدول مجتمعة بدلاً من دولة واحدة، وهذه تعتبر الخطوة الأولى في طريق الاعتماد على النفس.
وإذا ما سمحنا لأنفسنا وعاتبنا الذين زاروا الدنمارك، فذلك من باب الحرص على عدم تشتيت جهود الجماهير المسلمة العريضة التي عبرت بعفوية شديدة عما تشعر به، وتتحسسه من عاطفة دينية متقدة، وكذا الدخول في متاهات الجدل العقيم الذي لا يخدم أحداً من الأمة العربية والإسلامية في هذا الوقت الحساس والعصيب، ولكن يخدم الاستعمار الصليبي الحاقد، ومخططاته الجهنمية، لكي يبقى على نفس الإيقاع الاحتلالي الذي تعود عليه منذ عدة قرون.(11/230)
مؤتمر كوبنهاجن كان من الأحرى له ألا يكون، لسبب واحد ووحيد، كونه جاء في وسط قمة ردود فعل المسلمين على ما تسببته الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، اضافة الى ضبابية الرؤية حول مغزى الدنماركيين - الذين كانوا في موقفهم أعزاء، ورحماء في ما بينهم، لم يقبلوا حتى بالاعتذار ولو نفاقاً أو دبلوماسية - من هذا المؤتمر ولو أنه كان من الوهلة الأولى يهدف إلى زعزعة الصف الإسلامي، وتفريق الجهود الإسلامية من جديد، بعد أن استطاعت الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم من قبل رعاع الصحافة الدنماركية، أن تجمعها على قلب رجل واحد، وتحرك شيبها وشبابها، ونساءها، وأطفالها من المحيط إلى الخليج.
وليست هذه المرة الأولى الذي يحاول فيها الاستعمار صرف الأحداث عن مسارها الطبيعي عندما يشعر بالخطر يداهمه، ألم يدوسوا على المصحف الشريف بنعالهم، ألم يستبيحوا حرمات هذه الأمة ولايزالون في العراق وفلسطين، ألم ترفع بريطانيا العظمى، من شأن ومقام صاحب آيات شيطانية سلمان رشدي، وهو المخربش الذي لم يكن له اسم يذكر في سجل الكتاب الفاشلين فضلاً عن وجوده ضمن الكتاب المرموقين، كل هذه الأحداث تمكن الاستعمار من إخراجها عن مسارها، وبقيت بعد ذلك مجرد ذكرى مأساوية!!
الحوار الذي تمنينا أن يكون قبل مؤتمر كوبنهاجن، هو ذلك الحوار الذي يكون بين كل القوى العاملة في الحقل الإسلامي، التي تؤمن بأن التغيير الحقيقي ينطلق من مثل هذه الأحداث، كما يعبر على ذلك الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل «ربما كان الأولى أن نبدأ حواراً مع النفس نعرف فيه بالضبط من نحن، وأين نحن؟ وماذا نريد»؟
فكان أولى أن نتفق ومن غير تدخل طرف آخر، دنماركي أو غيره، على جملة منطلقات نأخذ بها في هذه المرحلة الحرجة التي تعيش فصولها الأمة العربية والإسلامية، لنعرف الخطوات الكفيلة اتخاذها في المستقبل، ومختلف الميكانزمات الملائمة لذلك، وحتى لايتكرر سيناريو الحمار الذي كان يضرب على بطنه فكان يقول إنني أسمع صوت طبل قريباً مني، ولما جاءته الضربة على أم رأسه نهّق وقال: لم أكن أعلم أن صوت الطبل انتقل إلى رأسي.
لأن الاستعمار الصليبي الحاقد هو نفسه لم يتغير، كما لايزال على حقده التاريخي الصليبي الدفين، ومن الصعب جداً معرفة خططه الماكرة بهذه البساطة التي يدعو لها بعض من تبوءوا منبر الدعاة، ولم أجد صراحة تعبيراً بليغاً قيل في الاستعمار كالذي قاله المفكر الجزائري مالك بن نبي «في الواقع عند الاستعمار معلومات عنا، أكثر بكثير مما عندنا، إنه يكيف بكل بساطة موسيقاه وفقاً لانفعالاتنا، ولعقدنا، ولنفسيتنا، إنه يعرف مثلاً أننا تجاهه لا نفعل، وإنما ننفعل، وهو عندما يكون قد دخل مرحلة التفكير في مشاكل الغد، في الحفر الموحلة، التي يريد أن يوقعنا فيها، نكون نحن لانزال نفكر في مشاكل الأمس، في التخلص، من الحفر الموحلة التي أوقعنا فيها فعلاً.
في ضوء كل ما سبق كان الأجدر ألا يمس الجدار الإسلامي بأي زعزعة سببه الخلاف والاختلاف، حتى لا يجد الطرف الآخر الفرصة مواتية لهدمه نهائىاً بعد ذلك، كما كان الأجدر بالذين زاروا كوبنهاجن حتى لو أحسنوا الكلام والدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يقبلوا حوار النفس والذات أولاً، قبل أن يطالبوا بالحوار مع الآخر، خاصة أن الآخر وجه استعماري معلومة مطامحه ومطامعه، حتى لو كان دولة الدنمارك التي لم يذكرها التاريخ بكثير من السوء، في علاقتها مع العرب والمسلمين.
والاستعمار ليس فقط من عرف بالوحشية، واستبعاد الشعوب، واستغلال خيراتها في الماضي، بل الاستعمار هو كل سياسة ماكرة تطبق على الشعوب عنوة، وتحرمهم من النهوض ليتملصوا من كل أشكال التواكل والتبعية، لكن هل يجرؤ هذا الاستعمار على التوسع والسيطرة لو لم تكن هذه الشعوب تسكنها وجدانياً القابلية للاستعمار بتعبير المفكر الجزائري مالك بن نبي؟؟؟
صحيفة الشرق القطرية
===========================
ليس فقط نبينا صلى الله عليه وسلم
الكاتب: السيد بن عبد الحميد العزازي
الحمد لله علي نعمة الإسلام وكفي بها نعمة . الحمد لله العلي القدير . والصلاة والسلام علي المبعوث رحمة للعالمين خير الخلق والمرسلين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
أعداء الإسلام من أهل الكتاب بعد أن أذهلهم القران ببيانه وأحكامه ، ولم يستطيعوا أن ينالوا منه شيئا راحوا يرمون بسهامهم المسمومة على الحبيب صلى الله عليه وسلم .
ويحار العقل حين يفكر في هذا الأسلوب الرخيص ، وهذه البذاءة التي لا تليق بعامة الناس فضلا عن الكتاب والمثقفين ناهيك عن رجال الدين و ( المبشرين ) . ومما يسلي المرء أن هذا دأب القوم مع كل أنبياء الله وليس مع الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده فما سلم منهم أحد من أنبياء الله .
لا تعجب ... ولا تعجل . نعم هذا دأبهم مع كل أنبياء الله .(11/231)
وها أنذا أعرض عليك أيها القارئ الكريم ما يقول القوم في أنبياء الله وكيف أن قلة أدبهم طالت الجميع لتعلم أن الخلل في هذه النفوس التي تعتنق دين النصرانية . . . لتعلموا أن المشكلة أخلاقية وليست مشكلة حق يراد بيانه ولا باطل يريد دحضه .
نسب اليهود و من بعدهم النصارى لأنبياء الله أعمالاً تقشعر منها الجلود و تشمئز منها النفوس ؛ بل لا نبالغ إن قلنا أن في سير الأنبياء عندهم ما يفوق فعلة قوم لوط و فرعون و ثمود ، فالأنبياء عندهم لا حرمة لهم و لا تنزيه عن فاحشة أو رذيلة . !
وهذا مدون في كتبهم بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل ولا ينكرها القوم بل ( يتعبدون ) الله بها .
ــ نبي الله هارون عندهم هو الذي صنع العجل وعبده مع بني إسرائيل ( سفر الخروج : 32: 1 )
ــ وعندهم أن خليل الله إبراهيم ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم ــ قَدَمَ امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال متاعاً بسببها . فقد نزعوا من أبي الأنبياء ـ عليه السلام ـ المروءة والغيرة على العرض . ثم ــ وتعجب . وحق لك ـــ يترفع فرعون عن مواقعه سارة بدافع المروءة والنخوة ويدعها لإبراهيم ويوبخه أن قدم زوجته له . (سفر التكوين 14:12))
ــ وعندهم أن نوحا عليه السلام ــ شرب الخمر وتعرى وضاجع بنتاه ( سفر التكوين : 9 : 20 وما بعدها ) .
ـــ ويفترون على نبي الله لوط ـ عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ـــ أن ابنتاه سقتاه الخمر فشرب حتى ذهب عقله ، ثم قام فزنى بإحداهما ليلة كاملة ، وفي الليلة الثانية تكررت الفعلة مع البنت الثانية . قطع الله لسانهم . ( راجع سفر التكوين الإصحاح التاسع من العدد 30 وما بعدها ) .
وإن تعجب فمن قول كبير الضالين في مصر ـــ شنودة ــ حين راح يبرر هذه الفعلة بقولة : ( أن إبنتي لوط قد فعلتا ذلك لتنجبا منه نسلاً مؤمناً ) .
أغفل عن الحكمة نبي الله لوط وفطن إليها شنودة ؟ !!
وهل ينتشر عضوا لمن سكر حتى الثمالة ؟!
أبدا .كله كذب .
ـ وعندهم أن نبي الله سليمان ـ عليه السلام ــ ولدُ زنى أنجبه داود حين زنى بزوجة أمير الجيش اوريا الحثي ، وأنه ــ سليمان عليه السلام ــ ارتد في أخر عمره و عبد الأصنام و بنى لهم المعابد ، وذلك حين غوته النساء . ( سفر الملوك 1:11) وراجع أيضا ( سفر صموئيل الثاني اصحاح 11 ) .
ــ وعندهم أن نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ــ سرق مواشي حميه و خرج بأهله خلسة دون أن يعلمه ( تكوين 17:31)
وكذا أن راوبين زنى بزوجة أبيه يعقوب و علم يعقوب بذلك الفعل القبيح و سكت عنه .
بل لم يسلم منهم المسيح ــ عليه السلام ــ فعندهم أن المسيح عيسي بن مريم ــ عليه السلام ــ :
ـــ من نسل الزني . وذلك طبقاً لما ورد فى إنجيل متى (1-10) ( أن عيسى بن سليمان بن داوود و جدهم الأكبر فارض الذي هو من الزنا من يهوذا بن يعقوب ) .
ــــ وأنه كان عاقا لأمه ... لم يناديها مرة بلفظ أمي في أي موضع من الأناجيل ، وكان يهينها و يعاملها باستحقار أمام الناس و يخاطبها قائلاً ( يا امرأة ) بذات الصيغة التي كان يخاطب بها المرأة الزانية أو (الكلبة) الكنعانية . إذ كان يناديها في وسط الحضور قائلاً : (( مالي ولك يا إمرأة ! )) يوحنا [ 2 : 4 ( .
ـــ و أن المسيح شهد بأن كل الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل لصوص (يوحنا7:10) .
ــ وأن المسيح كان يتعرى أمام تلاميذه و يتعامل معهم بشكل مثير للريبة فكان يتعرى .واسمع
(( قام عن العشاء وخلع ثيابه واخذ منشفة واتّزر بها. ثم صبّ ماء في مغسل وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان متزرا بها. ( يوحنا4:13 ) .
وعندهم أن المسيح كان سبابا شتَّاما ، فقد سبَّ معلمو الشريعة قائلاً لهم : (( يا أولاد الافاعي )) متى [ 3 : 7 ]
وسبهم في موضع آخر قائلاً لهم : (( أيها الجهال العميان )) متى [ 23 : 17 ]
_ وقد شتم تلاميذه ، إذ قال لبطرس كبير الحواريين : (( يا شيطان )) متى [ 16 : 23 ]
_ وشتم آخرين منهم بقوله : (( أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان ! )) لوقا [ 24 : 25 ]
مع انه هو نفسه الذي قال لهم قد اعطى لكم أن تفهموا اسرار ملكوت الله !! لوقا [ 8 : 10 ]
_ بل إن المسيح شتم أحد الذين استضافوه ليتغدى عنده ، شتمه في بيته جاء في إنجيل لوقا [ 11 : 39 ]ما نصه : ( سأله فريسي أن يتغذى عنده . فدخل يسوع واتكأ . وأما الفريسي فلما رأى ذلك تعجب أنه لم يغتسل أولاً قبل الغداء فقال له الرب : أنتم الآن أيها الفريسيون تنقون خارج الكأس وأما باطنكم فمملوء اختطافاً وخبثاً يا أغبياء ! ويل لكم أيها الفريسيون ! . . . فأجاب واحد من النامسيين وقال له : يا معلم ، حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضاً . فقال : وويل لكم أنتم أيها الناموسيون ! ))
و هذا قطعاً ليس من خلق الأنبياء . فما كان الرفق في شيء إلا زانه و ما رفع من شيء إلا شانه كما علمنا الحبيب صلى الله عليه وسلم .
هكذا يتكلم النصارى على أنبياء الله جميعهم . فلم يسلم منهم أحد .(11/232)
والسؤال من يقدس النصارى ؟
إنهم لا يعتقدون النزاهة والعصمة إلا في الأحبار والرهبان ، فسيرة ( كيرلس ) و ( بطرس ) و ( جرجس ) و ( شنودة ) عندهم أطهر من سيرة رُسل الله .
الباباوات لا يخطئون . . . معصومون . . . لهم ( القداسة ) . يغفرون ... ويحلون . . . ويحرمون . . . وصدق الله العظيم " (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة : 31 )
فالحمد لله على نعمة الإسلام ، والحمد لله الذي جعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي ما عرفت البشرية خيرا منه .
عدوك مذموم بكل لسان * * * ولو كان من أعدائك القمران
ولله سر في علاك وإنما * * * كلام العدا ضرب من الهزيان
===========================
مؤتمر الدانمارك.. فشل متوقع
الكاتب: د . نورة خالد السعد
فوجئتُ مثل العديدين غيري من عقد عمرو خالد منذ اسبوعين لمؤتمر صحفي غيّر فيه لغة حواره مع الشباب وتحدث عن الدانمارك المسالمة التي تتعرض لهذه المقاطعة ونادى بضرورة (الحوار) مع الدانماركيين وكان واضحاً في ذلك المؤتمر الارتجالية وعدم التنسيق مع بقية الاتحادات الإسلامية كي نوحد صفوفنا على الأقل في هذه القضية المصيرية.. ولوحظ ان معظم الشباب الذين حضروا اللقاء - لمن شاهده - عبر القنوات التي بثته أنهم في حيرة من لغة خطاب الداعية عمرو خالد الجديدة.. وحاوروه فيها!!.
ونشر منذ يومين عزمه على الذهاب للدانمارك للمشاركة في مؤتمر تستضيفه الحكومة الدنماركية التي رفضت ولا تزال ترفض الاعتذار ولا تزال تعلى من قدسية (حرية التعبير)!! وتمول هذا المؤتمر شركة لارا!! ووزارة الخارجية الدنماركية وسيشرف على تنظيمه المعهد الدانماركي للدراسات الدولية الذي يتبع جزئياً الحكومة الدانماركية!!.
وهكذا استطاعت زيارات خافيير سولانا أن تؤتي ثمارها لخرق وحدة جهودنا بصفتنا مسلمين وكان مفروضاً أن لا يتم عقد هذا المؤتمر وفق أجندة الدانمارك التي ترفض الاعتذار رسميا وترى في مظاهرات الاحتجاج على هذه الرسوم المسيئة تصرفا غير مبرر بل ويردد أولى أو هلر أولسن المنسق العام لهذا المؤتمر (أن هذا المؤتمر سيحاول نقل رسالة إلى العالم الإسلامي مفادها أن موجة الغضب العارمة حان الوقت لها لكي تتوقف)!!.
لاحظوا لغة الأمر!! بل ويرى في دعوة الشيخ يوسف القرضاوي يحفظه الله وهو رئيس اتحاد علماء المسلمين ومطالبته الحكومة الدانماركية والاتحاد الأوروبي بالاعتذار أولا على نشر هذه الرسوم.. يراها لا تمثل وجهات نظر المسلمين بقوله: (هناك 1,4 مليار مسلم في العالم والعديد من وجهات النظر تناولت أسلوب علاج الأزمة) ولم يذكر ما هي هذه الأساليب؟! اذا كانت رسالة هذا المؤتمر الذي استدرجوا عمرو خالد اليه للأسف (مفادها ان موجة الغضب العارمة حان الوقت لها كي تتوقف)!! فهل سيذهب عمرو خالد إلى الدانمارك للقيام بهذا الدور؟! وما يلفت النظر في هذا المؤتمر ان من ينظمه لم يوجه الدعوة إلى أي من القيادات الإسلامية داخل الدانمارك!! بل تم تجاهلهم ولم يتصل بهم ايضاً عمرو خالد!! فكما وضح الأستاذ تنوير أحمد المتحدث باسم جمعية (الشبكة الإسلامية) التي تضم العديد من الأكاديميين والطلاب المسلمين في الدانمارك انه لم تتم دعوتهم للمشاركة وأكد أن الحوار شيء جيد عندما يكون مفتوحاً للجميع وليس (انتقائياً) ومحدداً بفئة معينة!! وبالمثل لم تتم دعوة مجموعة (مسلمون في حوار) وجمعية (الشباب المسلم في الدانمارك) بل إن الأستاذ الجامعي يورن بيك سيمنسون وهو مؤلف للعديد من الكتب عن الإسلام والمسلمين في الدانمارك استغرب شخصياً من هذه الانتقائية بقوله: (ليس من الذكاء ان لا تدعى هذه المؤسسات للمؤتمر الذي يهدف أساساً لتجميل صورة الدانمارك السيئة في العالم الإسلامي).. وقال أيضاً: (اذا حضر عمرو خالد إلى هنا دون ان يلتقي قادة المسلمين فإنهم سيشعرون بأنهم مهمَّشون) رغم أنه هو شخصياً دعي الى هذا المؤتمر ولكنه استهجن هذه التصرفات من الجهة المنظمة لهذا المؤتمر الذي تتضح أهدافه؛ إلا لعمرو خالد الذي شق صف التوحد والجهود الإسلامية لمعالجة هذه القضية بشكل جذري قبل اللجوء الى الحوار فقط.. فكما قال الشيخ يوسف القرضاوي أطال الله في عمره: (ان علماء الامة ومشايخها من خلال منابرهم وخطبهم وأحاديثهم وبياناتهم أرادوا أن تعبر الأمة الإسلامية من أقصاها إلى اقصاها عن استنكارها لهذه الرسومات الكاريكاتيرية الدانماركية المسيئة لخاتم الأنبياء والمرسلين وقد كان هذا الاستنكار من جميع المسلمين حتى غير المتدينين من الأمة).. هذه القوة الروحية ينبغي استثمارها لصالح القضية وليس الخروج عنها كما فعل عمرو خالد وشاركه في ذلك د. طارق السويدان!!.(11/233)
وعودة إلى ما ذكره الشيخ يوسف القرضاوي ونشر في الشرق الأوسط يوم الجمعة 3/صفر حيث قال: (ان الحكومة الدانماركية ارسلت لي وفداً لبحث قضية تداعيات الرسوم ولكن رفضت مقابلة هذا الوفد لأنني لا أريد العمل على قطع الطريق على الأمة الإسلامية لصالح الدانمارك فنحن نريد أن نكون مع المؤسسات الإسلامية في التعبير عن استنكارنا لتلك الرسومات.
.. ان إصرار عمرو خالد على هذا المؤتمر بل وإضافة أسماء بعض المشايخ دون موافقتهم وأيضاً دون الرجوع إلى الاتحادات العالمية الإسلامية والتنسيق مع القيادات الإسلامية في الدانمارك التي تواجه بغضبة من قبل الحكومة الدانماركية لادعائها بأنهم سبب الأزمة لأنهم نقلوا هذه القضية إلى خارج الدانمارك!! بل هددتهم وزيرة الاندماج الدانماركية ربيكة فلس في بداية الشهر الماضي بان الحكومة ستقطع الحوار معهم وقد تنتزع الجنسية عنهم نظراً لما سببت جولتهم من إثارة مشاعر العداء للدانمارك من العالم الإسلامي!!. إصرار عمرو خالد سيضر به كداعية كان له موقع متميز في شريحة الشباب على الأقل، كما أنه يضع نفسه في موقف العلماء وهو داعية مجتهد فقط هداه الله.. خصوصاً أنهم نصحوه عندما اتصل بهم ليدعوهم إلى مؤتمر يخدم حكومة الدانمارك!!.
.. في المقابل هناك مؤتمر سيعقد إن شاء الله في البحرين بعد حوالي اسبوعين ينظمه اتحاد العلماء المسلمين برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي والندوة العالمية للشباب الإسلامي ومؤسسة الإسلام اليوم واللجنة العالمية لنصرة خاتم الانبياء والحملة العالمية لمقاومة العدوان من خلال لجنتها الاقتصادئة وأيضاً جمعية الأصالة في البحرين وستتم دعوة ماذة وخمسين من العلماء والمفكرين ورؤساء الجمعيات والاتحادات في اوروبا وامريكا والعالم العربي والإسلامي وهدفه الخروج برؤى وآليات مستمرة لنصرة خاتم الانبياء وتحديد الوسائل العملية وكما ذكر الدكتور خالد العجيمي المتحدث الرسمي باسم المؤتمر العالمي لنصرة النبي (صلى الله عليه وسلم) ان الحوار بمؤتمر البحرين سيكون جزءاً من منظومة كاملة من العلماء والمحامين والاقتصاديين والقانونيين لنصرة النبي (صلى الله عليه وسلم) عبر وسائل مختلفة من بينها حث الغرب على اصدار قوانين وتشريعات تجرّم الاساءة للأديان ورموزها كافة.. وذكر ان مؤتمر البحرين سيؤسس لحراك شعبي مؤصل ومدروس وعاقل ومستمر كنخب في كتلة واحدة من خلال مجموعات أو مؤسسات لامن خلال أفراد، ووضح ان الحوار مع الدانمارك والغرب لابد أن يكون عبر مرجعية تستند إلى شكل مؤسسي لا فردي وأن تستثمره المرجعية في حوار مع الجميع لا مع الدانمارك فقط.
.. هذا هو الموقف السليم وليس الارتجالي الذي انساق اليه عمرو خالد في تلبيته لدعوة حكومة الدانمارك!! التي هي الخصم!! والتي لا تزال إلى اللحظة تأنف من اي اعتذار!!.
بل يردد ممثلوها من سفراء اننا دول لا ننتج فكيف سنقاطع؟؟ فليت الأستاذ عمرو خالد يراجع خطواته ويعقلن قراراته كي يحافظ على مكانته في نفوس من كان متابعاً له ولا يخرج عن سياق المجموعة فكما قال الدكتور احمد ابولبن أشهر الدعاة المسلمين في الدانمارك: ان مؤتمر الدانمارك المزمع عقده يهدف إلى اصدار شهادة حسن سيرة وسلوك لها بينما تبقى حرية التعبير سيفا مشهوراً على كرامة سيد البشرية وربما يعاد استخدامه في أول فرصة بعد انتهاء الزيارة القصيرة لوفد الدعاة!!.
صحيفة الرياض السعودية
========================
ما هي أُسس الحوار مع الغرب؟!
حوار مع مَن، ولأي غاية، أو غرض إذا كان الأوروبيون يريدون فتح نقاش يطفئون به حرائق ما بعد الإساءة للرسول الأعظم؟..
الكل مع الغايات الشريفة إذا كانت طريقاً هادفاً لفتح كل الملفات في صراع الغرب مع العالم الإسلامي، وأولها ما جرى في التاريخ القديم والحديث واعتبار حرياتهم مقدمة، لكن أن ينجح رجل دين إسلامي في فوز انتخابي، أو يقف خطيب ينادي بالمقاومة المشروعة لمحتل، أو تنشر صحيفة، مستشهدةً بكتاب غربي، عن عدم صحة المحرقة، أو يخرج فيلم عربي أو إسلامي يسفّه ببعض الأفكار أو الانحيازللصهيونية، فإن ذلك يقع في خانة بث الكراهية .. فهل التعريض بنبي مقدس يأتي من باب الحرية، وليس من بث الكراهية؟..
التصعيد الراهن بين المسلمين والغرب لا يخدم الطرفين، لأنه من الغباء التضامن الإعلامي الغربي كحق يرونه مشروعاً، ويرفضون الاحتجاج الذي وصل إلى درجة العنف المرفوض عربياً، وإسلامياً، كإحراق السفارات أو الاعتداء على الأشخاص، أو رشق الكنائس، لأن ذلك يدخل في تصفية الحسابات التي لا نؤيدها أو نقرها..(11/234)
الحوار أمرضروري باسم قداسة الأديان، أو حوار الحضارات، أو التقاء المصالح والاعتراف بحريات شعوب العالم كلها، لكن أن يكون الحوار مجرد شكل ما يعالج قضية آنية، ولا يرتقي إلى تحديد أسباب الصراع المتنامي بجميع سماته وأشكاله، فإن ذلك لا يرتفع لسقف المعالجات الصحيحة وعلى رأسها السلام في المنطقة، ورفض مبدأ تحرير الشعوب بغزوها كما حدث في العراق، ولا إلهاب المشاعر كوسيلة قهر لإشاعة رد الفعل الأكبر، دون مراعاة الحسابات بالناقص ونتائجها، على الجميع..
لسنا مع القهر بأشكاله المتعددة الذي تمارسه معظم سلطات العالم الإسلامي، بنفس الوقت لا نقبل بوصاية في العراق، وحفلات موت تقيمها إسرائيل على الأرض الفلسطينية، ولا حروب تجويع تنال شعوباً إسلامية وعربية..
وإذا كان الحوار يريد التكافؤ في نسب الطرح وقبولها، فإن على أوروبا بالذات، أن تفهم أن جزءاً من أمنها مرتبط بالمنطقة، وأن اقتصادها لا يستطيع قطع علاقاته معها، وأن الدين الإسلامي، هو القوة فيها، وأن تباينات ثقافية واجتماعية لا تلتقي في كل الظروف بين الطرفين، وحتى أمريكا التي تجد نفسها منغمسة في شؤون المنطقة وفي سياسات الحرب، واعتبارها مركزاً لتعليم الشعوب كيف تدير حياتها، عليها أن تدرك أن الخلافات لا تحل بالقوة وقد شهدت فشلها في مواقع كثيرة، والحوار، لا غيره، هو الوسيط في حل مختلف التناقضات.
12 تعليق
1
لا شلت يمينك
لا استطيع أن أقول حيال ماقرأت وما طرح بكل شجاعة إلا ( لاشلت يمينك ) يامن خطت أناملك هذا وأسأل الله أن يطلع عليه العقلاء منهم وهذا بحد ذته مكسب.
أبو محمد
06:37 صباحاً 2006/02/08
2
وقاحات راسموسن.. إذا لم تستح فاصنع ما شئت..
أشكر جريدتنا على هذه الكلمات المنطقية الطيبة..
1) الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم من قِبل الصحيفة الدانمركية ليست سوى القشة التي قصمت ظهر البعير.. إن الإساءة للإسلام أصبحت في الغرب عموماً والدانمرك خصوصاً عبارة عن ثقافة مجتمع وترسخت في مذكرات ملكتهم وحال تربّع حكومة راسموسن المتطرفة على رئاسة الدانمرك.
2) الصحيفة الدانمركية تدّعي الإعتذار ثم يعلن رئيس تحريرها بأنه غير نادم وأن القضاء الدانمركي يسمح له بحرّية التعبير، ورئيس الدانمرك راسموسن يصرّ على ما يدعيه (نحترم الأديان ونسمح بحرية التعبير) وأي احترام للأديان هذا؟ إن راسموسن يسمح بالرأي الذي يشمل سب الإسلام والطعن في رسوله ولا يسمح بالرأي الذي يقلل -فقط- من أعداد ضحايا المحرقة النازية (هولوكست).
3) يدعو راسموسن الحكومة التركية الى التوسط بين العالم الإسلامي والغربي لحل هذه الأزمة!! رغم أنها بين المسلمين والدانمرك فقط ولكنه يريد توسيعها لكسر الطوق عنه؛ وبدلاً من أن يطفيء نار العداوة التي أشعلها نراه الآن يوقد نار ما يسمى صراع الحضارات.
4) تبجّح راسموسن بدعوة العالم الإسلامي الى تفهّم حرية التعبير لدى حكومته الديمقراطية؛ وها هو الآن يتواقح بما يدّعيه ب(دعوة المسلمين الى الاحترام المتبادل والحوار).. ومن حيث المبدأ نوافقه على طلبه ونحن نحترم النصارى دون التشدّق بالعبارات الرنّانة (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) الأنعام (قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم..) آل عمران، ولكن يجب أن يكون لدينا أرضية مشتركة للحوار؛ راسموسن لا يقصد الحوار للتفاهم وإنما يقصد دعوة المسلمين الى استماع تفاهاته نحو حق الإعلام الدانمركي في سب الإسلام -فقط-..
نحن نوافق على الحوار الذي يحقق التعايش السلمي ويطبق الإحترام الحقيقي للإسلام ذلك الحوار الذي يقوم على تصحيح الخطأ والإعتذار عنه وليس الحوار البجح الذي يبرّر الفحش وسب الإسلام.
5) يقول راسموسن بأن هناك متطرفين يسعون الى إزدياد الشُقة في هذا الخلاف.. أقول له صدقت وأنت كذوب لأنك على رأس هؤلاء المتطرفين المتزمتين.
ملاحظة: لا يوجد لدينا ما يسمى "رجل دين إسلامي" ولكن لدينا -ولله الحمد- علماء إسلام، كما أن فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية يعد تأييداً لطريق المقاومة المبنية على أسس شرعية.
ودمتم بخير،،،
4
الغرب يقتنع بمبدأ القوة
هذا إن تركوا هم مجالاً للحوار، رغم قناعتي أن الغرب لا ينفع معهم أسلوب الحوار فهم يقتنعون بمبدأ القوة ومبدأ القرش الكبير يلتهم الصغير بدليل لجوئهم إلى التكتلات ليس ذلك حباً في بعضهم ولكنه حفاظاً على أرواحهم وممتلكاتهم. من وجهة رأيي أرى أن الحوار البناء لحل المتناقضات يمكن أن يكون ذا أثر عند تساوي الطرفين المتحاورين من حيث القوة على أقل تقدير. أما أمريكا التي تتبنى سياسة فرق تسد فقد أشعلت الفتيل لأن مصلحتها أن يصتطدم الطرفان وأن لا يتحقق وجود دولة عظمى في أي مكان في العالم تشاطرها الهيمنة والسيادة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
فهد بن عبدالله الأحمدي
10:05 صباحاً 2006/02/08
5
الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل(11/235)
بارك الله فيكم مقال رائع وحكيم. الاحداث الاخيرة لحرق السفارات والاعتداء وتخريب الممتلكات والكنائس كشفت ارواق سياسية خبيثة لفتنة تعم العالم العربي والاسلامي باسم الدفاع عن الرسول الانسانية واللاعنف محمد(صلى الله عليه وسلم) وأقلها محاولة لتدمير لبنان ولثورة الارز. الاسلوب اللاعنف والحكيم الذي اتبعته حكومة خادم الحرمين الشريفين لدليل على الحكمة والتعقل ويجب ان يقتدى به.
د. هشام النشواتي
10:27 صباحاً 2006/02/08
6
نحن من يرفض الحوار
اي حوار نرجوه. ونحن ندق طبول الحرب بمجرد ان مريض نفسي او طالب للشهره نشر رسوم افضل وصف لها انها سامجة سخيفه.
الواقع ان تلك الثوره لنصر ةالنبي محمد عليه الصلاة والسلام.اصبحت وسيلة للضغط علينا او استفزازنا كمسلمين. لقد اظهرنا للعالم بكل بساطة نقطة ضعفنا. بل مددنا للعالم الاصبع الصغير في يدنا ليتم عسره في كل مناسبة من طرف من يريد ان يستفزنا كملسلمين.
وما نحن فاعلون ياسيدي عندما تتوالي علينا الاستفزازات وتتراكم السخافات. قل ماذ نفعل. هل نلطم وجوهنا ام نقاطع الدواء والغذاء والمركبه والكساء والكهرباء والهاتف. ام نقبع باكين مرجفين كما يريد لنا القرضاوي واحزابه الهالكه.
الصحافة العربيه جانبت التعقل. وعالجت الموضوع علي طريقة ما يطلبه المستمعون.او الجمهور غايز كده.
الصحافه والاعلام العربي اشهر نقطة ضعفنا وبؤسنا واجاد وصفنا باننا فريسة سهله لمن يريد استفزازنا.
الاعلام العربي الاسلامي وضعنا في حرب مع الهواء. وجعل عدونا البشريه كاملة. اي سفية مغمور في اقاصي الارض سوف لن يتردد بتكرار تلك السخافات ربما ليس بغضنا فينا بقدر ما هو حب للشهره والمال.
ان الاحتجاجات علي تلك السخافة البذيئه خرجت من مسارها المنطقي. بل تم القفز عليها من اطراف ذو مصالح معروفه.
ان تلك الحملة للمقاطعه لم تقتصر علي المقاطعه وهو اسلوب حضاري نؤيده. بل تم تحويرها الي ان المشكلة يجب ان تخرج من يد الحكومات لتكون في يد الرعاع والانتهازيين.
الصحافة العربيه مشكورة باركت تلك التوجهات التي نصت بشكل واضح ان ماتقوم به الحكومة السعوديه من سحب لسفيرها ومعالجة الامر من خلال القنوات الدبلوماسيه امر مرفوض وغير كافي. بل ان الاعتذار الذي نشرته الصحيفة غير مقبول. والاعتذار الغير مباشر من رئيس وزراء الدنمارك غير كافي حتي لو اعتذر بشكل مباشر.
الموضوع ليس دفاع عن النبي.بل اصبح قفزا علي واقع الحكومات وتهديدها مباشرة بالاخلال بالامن والحرائق.
الم نفهم حتي الان لماذا تم احراق السفارت في دمشق وبيروت. ومحاولة لاعمائنا يتم محاولة اخري في طهران ولكنها لم تنجح.
ان تلك الامور يتم معالجتها بالطرق الدبلوماسيه والظغوط الدوليه وليس بالرعاع. ولكنها رسالة لمن لايعلم باننا قادرون علي تحريك شارعكم واحراقكم في بلدكم اذا لم تكونوا معنا ؟؟؟
الشاوي
11:02 صباحاً 2006/02/08
7
هذا مايريد الغرب واذنابهم
أستطيع أن أقول وجهة نظري فيما جاء في كلمة الرياض الشاملة ذات الحس الإعلامي الملم بالعبة السياسية
فعلاً الغرب وأذناب الغرب أيضا يريدون ضبط النفس عندما
يقومون بهجمات منظمة تجاه العالم الإسلامي والعربي
وضبط النفس في قاموسهم أن يكون التوتر لايتجاوز تلك
الدول لأن من أهداف الهجمة الشرسة تحييد أصحاب النظرة
الثاقبة بزعمهم التي تطالب بعدم ردة الفعل وهي تعلم يقيناً
أن عدم ردة الفعل يكون ضرره أكثر من ردة الفعل والبعض
الآخر يرددون مايردده رئيس وزاء الدنمارك بقوله (إن المتشددين
يستغلون هذا الحدث وهذا فيه سخرية بالمدافعين عن سيد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم لأننا لو سلمنا فيما يقولون لقلنا أن من يقومون بالأعمال الإرهابية يشهدون أن لاإله
إلا الله وأن محمد رسول الله وعلينا أن لا نردد مايقولون لنثبت أننا لسنا منهم أو لو خرج أحد الإرهابيين ببيان حول الأحداث وقال أكثر مما قيل من دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم هل بعد ذلك نتوقف كي لانتهم بالإرهاب هؤلاء الذين يقيسون بهذه المقاسات عليهم أن يدركوا أن أزمة الرهائن عندما تم احتجازهم بطهران ايام الثورة الايرانية أبان حكم الرئيس كارتر ماذا حدث في امريكا من افرازات تلك الازمة استمرملاحقة اصحاب البشرة السمراء ويتم التهجم عليهم والضرب والبعض عندما يتم السؤال عن جنسيته ينتسب الى جنسية المكسيك خوفا وهلعا مما قد يصيبه نتيجة ردة الفعل فهذا درس لمن يعتقدون ان شعوب العالم ليس لديها ردود أفعال وهي سنة باقية ولكن بتفاوت وكلما كان الطرح الإعلامي يقف مع الحق ويدافع عن أمته كلما قتل أصحاب الهجمات المدسوسة من الغرب وأذنابهم وضيع عليهم الفرصة وأزال الإحتقان عن شعبه.
saas444@hotmail.com
طارق بن محمد
03:13 مساءً 2006/02/08
8
لا تتمنوا لقاء العدو ولكن إذا لقيتم فاثبتوا(11/236)
الداعون إلى التعقل والواقعية عليهم أن يحتفظوا بنصائحهم لأنفسهم. من استغضب و لم يغضب فهو حمار. نعم نحن ضعفاء ولا نستطيع محاربة الغرب ( مادياً ) لكن دعوا الغرب يعلم أننا يمكن أن نغضب يوماً حتى ولو جاملته قنواتنا الرسمية. دعونا نستمر في مقاطعة الدنمارك مشعلة العداوة و أول المستهزئين و نستفرد بها حتى تكره هي أصدقاءها و من يدعون نصرتها ز أفهموهم أننا لا نستطيع أن نبتسم في وجه من سب نبينا و لا يمكننا استعمال بضائعه. دعوهم يفهموا و لو مرة واحدة أننا أمة لها كرامة. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم صلاة دائمة مستمرة بدوامك يا من ليس كمثله شيئ و هو السميع البصير
السري القرشي
03:25 مساءً 2006/02/08
9
الغرب والاساء
الم يرون مثلا الشيعة يضرب نفسة حتى يدمي جسده وذلك من اجل عقيدته.
اللهم ضربة بالدم ولا لكلمة السم ,والاساءة للكريم فهي كلمة مسمومة
خليل بوقب
04:38 مساءً 2006/02/08
10
المسلمون.. قوة الغد المؤثرة.
على الرغم من بعض المغالاة، أظهر الشارع الإسلامي ومن وراءه بعض الحكومات العربية والإسلامية قدرة على الوقوف صفاً واحداً في قضية مشتركة. استخدام ورقة التمثيل الدبلوماسي من قبل الحكومات والمقاطعة الاقتصادية من قبل الشعوب والتظاهر السلمي كلها ردود افعال لا يمكن أن يعترض عليها أحد. جاءت ردة الفعل هذه لتزيد من ثقة المسلمين بأنفسهم وبقدرتهم على التاثير بمجريات الأحداث على نحو إيجابي في قضية حقة.
لكن هذا ليس سوى بداية في سعي مطلوب نحو تآلف وروابط أكثر تجمع بين الشعوب والدول الإسلامية وجعلهم مصدر قوة عالمية مؤثرة في عالم القرن الواحد والعشرين. بيد أن صورة المسلمين لدى وسائل الاعلام العالمية ليست في صالح قضاياهم العادلة وربما سبب ذلك يعود إلى فقر وجهل معظم المسلمين لذا يتعين على الحكومات الإسلامية التعاون أكثر فيما بينها لرفع المستوى التعليمي والمعيشي للمواطن المسلم، وهو حق له. ثم أن جموع المثقفين من المسلمين يجب أن يأخذوا دوراً فعالاً لهم في وسائل الإعلام العالمية لتغيير صورة الإسلام والإنسان المسلم التي انطبعت ولا تزال تنطبع في أذهان دول العالم والغرب خاصة.
المسلمون بحاجة إلى مراجعة فكرية ونفسية لمفهوم الإسلام لديهم وهذا الأمر ينطبق قبلاً على معظم علماء المسلمين الذين هم بحاجة إلى تفعيل العقل والفطرة بعيدأ عن المسلمات المكتسبة المتوارثة.
فهيم منذر
06:32 مساءً 2006/02/08
11
تمعنوا في تعليق الشاوي
لقد اعجبني ما طرحه الشاوي في تعليقه على الموضوع وان كنت لا اتفق معه في بعض طرحه حول التقليل من مدى تأثير المقاطعة الشعبية الإقتصادية لمنتجات دولة ما ولكنني اضيف على ما ذكره بأن تلك الأمور يتم معالجتها أيضا ومنع تكرار حدوثها بل وتسخير الأدوات لصالحنا مستقبلا بالآتي :
1) بالثقل الديبلوماسي والضغط الدولي من قبل الحكومات
2) بالوسائل الثقافية والمعرفية ومدى قوة نشر ثقافتنا لديهم
3) بوسائل الاعلام المختلفة الناطقة بلغتهم وفي عقر دارهم وباسلوبهم الذي سيكون ذو تاثير قوي للوصول الى عقولهم وأذهانهم وشدهم للتعرف على ثقافتنا وديننا
4) بالثقل الإقتصادي , ولا أعني بذلك المقاطعة الإقتصادية , وأركز على هذا الجانب لان المال في هذا الوقت اصبح هو المؤثر الأول والأكبر في لعبة الأمم , ولهذا كان من الأجدى قيام اصحاب البلايين من المسلمين والعرب ومنذ عقود بتسخير ثرواتهم في مشاريع إقتصادية وإعلامية كبرى في مجمل الدول الأوربية وأمريكا لجعلها رؤوس الأموال هذه ذات تأثير إقتصادي وسياسي في آن واحد ليتمكنوا من التحكم بتحريك خيوط الدمي في هذه الدول وفقا لمصالح دولهم وعالمهم الإسلامي , لا ان يشيحوا بوجوههم عندما يقوم غيرهم بتحرك هذه الدمى على غير أهوائهم او مبادئهم أو معتقدهم.
عجباً :- بضعة أشخاص يهود من أصحاب البلايين هم من يتحكمون بتحريك خيوط الدمى الإعلامية والسياسية في العالم الغربي والشرقي في القريب العاجل , مع أنني أجزم أن أصحاب البلايين في الخليج العربي لوحده هم أكثر عددا وأضخم رؤوساً للأموال.
لقد اسمعت لو ناديت حياً , ولكن لا حياة لمن تنادي
مدير الأزمة
07:59 مساءً 2006/02/08
12
الغضب والانفعال والشتم سلاح الضعفاء
قال صلى الله عليه وسلم" ليس الشديد بالصرعة, ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم قال: " لا تغضب لاتغضب لاتغضب",, ثم يخرج من بيننا من يخرج عن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, ويسن سننه وشرعه لمعالجة ومواجهة قضايا تخص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, بل ويستعلى بحماقته وجاهليته ورعونته وانفعالاته على سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
الغضب والانفعال والشتم اخلاق منهي عنها في الاسلام,
وهي بعيدة كل البعد عن الايمان وعن العلم والحلم,(11/237)
بل ان استخدام الاخلاق المنهي عنه كالغضب والكذب وأمثالها دليل جهل بالحق وضعف في الايمان وعجز عن حسن التفكير والتصرف وتكون نتائجهامدمرة علينا ومن الجانب الاخر فهو لا يعالج المشكلة ولا يساعد في ذلك بل يزيد الأمر سوء وتعقيدا.
وعن العزة والكرامة قال تعالى" إن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين"
ثم قال سبحانه وتعالى "ولكن المنافقين لا يعلمون" , فالكفار والمنافقين لا يعلمون ويجهلون معاني العزة والكرامة.
حارث الماجد
10:08 مساءً 2006/02/08
=======================
مائة وسيلة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
الكاتب: اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء
بتاريخ: 07/26/2003
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد: إن أول ركن من أركان الإسلام العظيمة: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وتحقيق الشطر من الشهادتين وهو شهادة أن محمداً رسول الله تتم من خلال الأمور التالية :
للحفظ:
أولاً : تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به ، وأوله : أنه رسول الله ومبعوثه إلى الجن والأنس كافة لتبليغ وحيه تعالى بالقرآن والسنة المتضمنين لدين الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى ديناً سواه .
ثانياً : طاعته والرضى بحكمه ، والتسليم له التسليم الكامل ، والانقياد لسنته والاقتداء بها ، ونبذ ما سواها .
ثالثاً : محبته صلى الله عليه وسلم فوق محبة الوالد والولد والنفس ،مما يترتب عليه تعظيمه ، وإجلاله ، وتوقيره ، ونصرته ، والدفاع عنه ، والتقيد بما جاء عنه .
فعلى كل مسلم ؛ أن يسعى لتحقيق هذا المعنى ، ليصح إيمانه ، وليحقق الشطر الثاني من كلمة التوحيد ، ولتقبل شهادته بأن محمداً رسول الله ، فإن المنافقين قالوا : { نشهد إنك لرسولُ الله والله يعلمُ إنك لرسولُهُ واللهُ يشهدُ إنَّ المنافقين لكاذبون} {المنافقون : }، فلن تنفعهم شهادتهم ، لأنهم لم يحققوا معناها .
وإليك بعض الأمور التي يمكننا من خلالها العمل بمقتضى تلك المحبة ، وواجب القيام بذلك الحق للنبي صلى الله عليه وسلم تجاه هذه الهجمة الشرسة عليه أن نفديه بأولادنا ووالدينا وأنفسنا وأموالنا ، كل على قدر إمكانياته ، فالكل يتحمل مسؤوليته ومن خلال موقعه:
على مستوى الفرد :
1- التفكير في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم القاطعة بأنه رسول رب العالمين ، وأصلها القرآن الكريم ، وما تضمنه من دلائل على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم .
2- تعلم الأدلة من القرآن والسنة والإجماع الدالة على وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، والأمر باتباعه ، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم .
3- العلم والمعرفة بحفظ الله لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم , وذلك من خلال الجهود العظيمة التي قام بها أهل العلم على مر العصور المختلفة , فبينوا صحيحها من سقيمها ، وجمعوها على أدق الأصول التي انفردت بها هذه الأمة عن غيرها من الأمم السالفة .
4- استشعار محبته صلى الله عليه وسلم في القلوب بتذكر كريم صفته الخَلقية والخُلقية ، وقراءة شمائله وسجاياه الشريفة ، وأنه قد اجتمع فيه الكمال البشري في صورته وفي أخلاقه صلى الله عليه وسلم .
5- استحضار عظيم فضله وإحسانه صلى الله عليه وسلم على كل واحد منا ، إذ أنه هو الذي بلغنا دين الله تعالى أحسن بلاغ وأتمه وأكمله ، فقد بلغ صلى الله عليه وسلم الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، ورسولاً عن قومه.
6- عزو كل خير دنيوي وأخروي نوفق إليه ونتنعم به إليه صلى الله عليه وسلم بعد فضل الله تعالى ومنته ، إذ كان هو صلى الله عليه وسلم سبيلنا وهادينا إليه ، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
7- استحضار أنه صلى الله عليه وسلم أرأف وأرحم وأحرص على أمته .قال تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } {الأحزاب : }.
8- التعرف على الآيات والأحاديث الدالة على عظيم منزلته صلى الله عليه وسلم عند ربه ، ورفع قدره عند خالقه ، ومحبة الله عز وجل له ، وتكريم الخالق سبحانه له غاية التكريم.
9- الالتزام بأمر الله تعالى لنا بحبه صلى الله عليه وسلم ، بل تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على النفس ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين) .
10- الالتزام بأمر الله تعالى لنا بالتأدب معه صلى الله عليه وسلم ومع سنته لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } {الحجرات : } وقوله تعالى { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم } {الحجرات : } وقال تعالى : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } {النور : }.(11/238)
11- الانقياد لأمر الله تعالى بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ومناصرته وحمايته من كل أذى يراد به ، أو نقص ينسب إليه ، كما قال تعالى : ( لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه) .
12- استحضار النية الصادقة واستدامتها لنصرته ، والذب عنه صلى الله عليه و سلم .
13- استحضار الثواب الجزيل في الآخرة لمن حقق محبة النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه الصحيح ، بأن يكون رفيق المصطفى صلى الله عليه وسلم في الجنة ، لقوله صلى الله عليه وسلم لمن قال إني أحب الله ورسوله : ( أنت مع من أحببت ).
14- الحرص على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكر ، وبعد الآذان ، وفي يوم الجمعة ، وفي كل وقت ، لعظيم الأجر المترتب على ذلك ، ولعظيم حقه صلى الله عليه وسلم علينا .
15- قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة ، مع الوقوف على حوادثها موقف المستفيد من حكمها وعبرها ، والاستفادة من الفوائد المستخلصة من كل حادث منها ، ومحاولة ربطها بحياتنا وواقعنا .
16- تعلم سنته صلى الله عليه وسلم ، بقراءة ما صححه أهل العلم من الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وسلم ، مع محاولة فهم تلك الأحاديث ، واستحضار ما تضمنته تلك التعاليم النبوية من الحكم الجليلة والأخلاق الرفيعة والتعبد الكامل لله تعالى ، والخضوع التام للخالق وحده .
17- اتباع سنته صلى الله عليه وسلم كلها ، مع تقديم الأوجب على غيره .
18- الحرص على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في المستحبات ، ولو أن نفعل ذلك المستحب مرة واحدة في عمرنا ، حرصاً على الاقتداء به في كل شيء .
19- الحذر والبعد عن الاستهزاء بشيء من سنته صلى الله عليه وسلم .
20- الفرح بظهور سنته صلى الله عليه وسلم بين الناس.
21- الحزن لاختفاء بعض سنته صلى الله عليه وسلم بين البعض من الناس .
22- بغض أي منتقد للنبي صلى الله عليه وسلم أو سنته .
23- محبة آل بيته صلى الله عليه وسلم من أزواجه وذريته ، والتقرب إلى الله تعالى بمحبتهم لقرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم ولإسلامهم ، ومن كان عاصياً منهم أن نحرص على هدايته لأن هدايته أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هداية غيره ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مهلاً يا عباس لإسلامك يوم أسلمت كان أحب لي من إسلام الخطاب ، ومالي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب) .
24- العمل بوصية النبي صلى الله عليه وسلم في آل بيته ، عندما قال : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) ثلاثاً .
25- محبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيرهم واعتقاد فضلهم على من جاء بعدهم في العلم والعمل والمكانة عند الله تعالى .
26- محبة العلماء وتقديرهم ، لمكانتهم وصلتهم بميراث النبوة فالعلماء هم ورثة الأنبياء ، فلهم حق المحبة والإجلال ، وهو من حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته .
على مستوى الأسرة والمجتمع :
1- تربية الأبناء على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم .
2- تربية الأبناء على الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله .
3- اقتناء الكتب عن سيرته صلى الله عليه وسلم.
4- اقتناء الأشرطة عن سيرته صلى الله عليه وسلم.
5- انتقاء الأفلام الكرتونية ذات المنهج الواضح في التربية.
6- تخصيص درس أو أكثر في الأسبوع عن السيرة تجتمع عليه الأسرة.
7- اقتداء الزوج في معاملة أهل بيته بالرسول صلى الله عليه وسلم.
8- تشجيع الأبناء على حفظ الأذكار النبوية وتطبيق ذلك.
9- تشجيع الأبناء على اقتطاع جزء من مصروفهم اليومي من أجل التطبيق العملي لبعض الأحاديث ، مثل : كفالة اليتيم , إطعام الطعام , مساعدة المحتاج.
10- تعويد الأبناء عل استخدام الأمثال النبوية في الحديث مثل المؤمن كيس فطن , لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين , يسروا ولا تعسروا .
11- وضع مسابقات أسرية عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم .
12- تعريف الأسرة المسلمة بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال تطبيق مشروع ( يوم في بيت الرسول ).
على مستوى قطاع التعليم والعاملين فيه :
1- زرع محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس الطلبة والطالبات من خلال إبراز حقه صلى الله عليه وسلم على أمته .
2- الإكثار من عقد المحاضرات التي تغطي جوانب من حياة الرسول شخصيته صلى الله عليه وسلم .
3- حث مسئولي قطاعات التعليم إلى إضافة مادة السيرة النبوية إلى مناهج التعليم والدراسات الإسلامية في التخصصات الإنسانية .
4- العمل على تمويل وضع كراسي لدراسات السيرة النبوية في الجامعات الغربية المشهورة.
5- تشجيع البحث العلمي في السيرة النبوية وحث الباحثيين على تصنيف كتب السنة بتصانيف عدة مثل المغازي والشمائل .
6- العمل على إقامة المعارض المدرسية والجامعية التي تعرف بالرسول صلى الله عليه وسلم مع مراعاة التمثيل الجغرافي لنشأة الإسلام .(11/239)
7- تخصيص أركان خاصة في المكتبات تحوي كل ماله علاقة بالرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته والإهتمام به وجعلها في مكان بارز.
8- العمل على إعداد أعمال موسوعية أكاديمية غنية في السيرة النبوية تصلح كأعمال مرجعية وترجمتها إلى اللغات العالمية.
9- إقامة مسابقة سنوية للطلبة والطالبات لأفضل بحث في السيرة النبوية وتخصيص جوائز قيمة لها.
10- إقامة مخيمات شبابية تتضمن أنشطة تزرع محبة الرسول صلى الله عليه وسلم والتعلق بسنته.
11- إقامة دورات تدريبية متخصصة لإعداد القادة بالإقتداء بالمصطفي صلى الله عليه وسلم.
على مستوى الأئمة و الدعاة وطلبة العلم :
1- بيان خصائص دعوته ورسالته صلى الله عليه وسلم وانه بعث بالحنيفية السمحة وأن الأصل في دعوته هو حرصه على هداية الناس كافة إلى إفراد العبادة لرب الناس.
2- العمل على دعوة الناس وهدايتهم إلى هذا الدين ؛ بجميع أجناسهم وقبائلهم.
3- بيان صفاته صلى الله عليه وسلم الخلقية والخُلقية قبل وبعد الرسالة .
4- بيان فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم وخصائص أمته بأسلوب ممتع .
5- بيان مواقفه صلى الله عليه وسلم مع أهله وجيرانه وأصحابة رضوان الله عليهم.
6- بيان كيفية تعامله صلى الله عليه وسلم مع أعدائه من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين.
7- بيان منهجه صلى الله عليه وسلم في حياته اليومية .
8- تخصيص الخطبة الثانية لبعض الجمع للتذكير بمشاهد من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فضلاً عن تخصيص خطب كاملة عنه من وقت إلى آخر.
9-التعليق على الآيات التي تتكلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم عند قراءتها في الصلاة ولمدة ثلاث إلى خمس دقائق .
10- إضافة حلقات لتحفيظ السنة النبوية إلى جوار حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المساجد.
11- تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى عامة الناس حول سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى التمسك بما صح عنه صلى الله عليه وسلم بأسلوب بسيط واضح.
12- ذكر فتاوى علماء الأمة التي تبين حكم من تعرض لرسول الأمة صلى الله عليه وسلم بشيء من الانتقاص ووجوب بغض من فعل ذلك والبراءة منه .
13- العمل على رد الناس إلى دينهم من خلال عرض مبسط لمواقف الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوية .
14- التحذير في الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة من الغلو فيه صلى الله عليه وسلم ، وبيان الآيات التي تنهي عن الغلو كقوله ( لا تغلو في دينكم ) . 15- والأحاديث الخاصة في ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ) ، وبيان أن المحبة الصادقة هي في اتباعه صلى الله عليه وسلم .
16- حث الناس على قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مصادرها الأصلية وتبيين ذلك لهم.
17- دحض وتفنيد الشبهات والأباطيل التي تثار حول الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته.
على مستوى المثقفين والمفكرين والإعلاميين والصحفيين :
1- إبراز شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وخصائص أمته من خلال نشر ذلك والتحدث عنه في المناسبات الإعلامية والثقافية.
2- عدم نشر أي موضوع ينتقص فيها من سنته صلى الله عليه وسلم .
3- التصدي للإعلام الغربي واليهودي المضاد والرد على ما يثيرونه من شبهات وأباطيل عن ديننا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
4- عقد اللقاءات الصحفية والإعلامية والثقافية مع المنصفين من غير المسلمين والتحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته.
5- نشر ما ذكره المنصفون من غير المسلمين بشأنه صلى الله عليه وسلم .
6- عقد الندوات والمنتديات الثقافية لإبراز منهجه وسيرته وبيان مناسبة منهجه صلى الله عليه وسلم لكل زمان وكان .
7- إعداد المسابقات الإعلامية عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتخصيص الجوائز القيمة لها.
8- كتابة المقالات والقصص والكتيبات التي تتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
9- الاقتراح على رؤساء تحرير الصحف والمجلات لتخصيص زاوية يبين فيها الآيات والأحاديث التي تدل على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم وأن محبته مقدمة 10- على الولد والوالد والناس أجمعين بل ومقدمة على النفس وأن هذه المحبة تقتضي تعظيمه وتوقيره وإتباعه وتقديم قوله على قول كل أحد من الخلق .
11- الاقتراح على مدراء القنوات الفضائية لإعداد برامج خاصة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وكيفية تعامله مع زوجاته وأبناءه وأصحابه وأعدائه وغير ذلك من صفاته الخلقية والخلقية.
12- حث مؤسسات الإنتاج الإعلامي على القيام بإنتاج أشرطة فيديو تعرض سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بطريقة احترافية شيقة.
13- حث المحطات التلفزيونية الأرضية والقنوات الفضائية على إنتاج وبث أفلام كرتونية للناشئة تحكي شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض القصص من السنة النبوية.
على مستوى المؤسسات الخيرية والدعوية :
1- إنشاء لجان أو أقسام تحمل لواء نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم.(11/240)
2- تخصيص أماكن في المعارض والمؤتمرات المحلية والدولية التي تشارك بها المؤسسات لعرض الكتب والأشرطة المرئية والمسموعة التي تبرز خصائص الرسالة المحمدية.
3- تخصيص أماكن دائمة لتوزيع الأشرطة والكتب والمطويات التي تتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
4- تخصيص جائزة قيمة بمعايير متفق عليها سلفاً لأفضل من خدم السنة والسيرة النبوية وإقامة حفل تكريم سنوي يدعى له كبار الشخصيات.
5- تبني طباعة كتب السيرة النبوية باللغات الأجنبية وتوزيعها على مراكز الإستشراق والمكتبات العامة والجامعية حول العالم .
6- إصدار مجلة أو نشرة دورية تهتم بالسيرة النبوية المطهرة وتعاليم الدين الإسلامي وتبرز صفات هذة الأمة ومحاسن هذا الدين الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
7- تخصيص صناديق تبرع لتمويل حملات نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتأليف في السيرة والترجمة وإنشاء المواقع على الشبكة العالمية .
على مستوى العاملين في الشبكة العنكبوتية وأصحاب المواقع :
1- تكوين مجموعات تتولى إبراز محاسن هذا الدين ونظرة الإسلام لجميع الأنبياء بنفس الدرجة من المحبة وغيره من الموضوعات ذات العلاقة.
2- إنشاء مواقع أو منتديات أو تخصيص نوافذ في المواقع القائمة تهتم بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وتبرز رسالته العالمية.
3- المشاركة في حوارات هادئة مع غير المسلمين ودعوتةم لدراسة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم والدين الذي جاء به.
4- تضمين أو تذييل الرسائل الإلكترونية التي ترسل إلى القوائم البريدية الخاصة ببعض الأحاديث والمواعظ النبوية.
5- إعداد نشره إلكترونية - من حين إلى آخر- عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته وخاصة في المناسبات والأحداث الطارئة.
6- الإعلان في محركات البحث المشهورة عن بعض الكتب أو المحاضرات التي تتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
على مستوى الأغنياء والحكومات الإسلامية :
1- دعم النشاطات الدعوية المتعلقة بالسيرة النبوية الشريفة .
2- طباعة الملصقات التي تحمل بعض الأحاديث والمواعظ النبوية .
3- المساهمة في إنشاء القنوات الفضائية والإذاعات والمجلات التي تتحدث عن الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم باللغات المختلفة وبالأخص اللغة الإنجليزية.
4- استئجار دقائق في القنوات أو الإذاعات الأجنبية لعرض أطروحات عن الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.
5- إنشاء مراكز متخصصة لبحوث ودراسات السيرة النبوية والترجمة إلى اللغات العالمية.
6- إنشاء متاحف ومكتبات متخصصة في بالسيرة والتراث النبوي الشريف .
7- إنشاء مواقع على الإنترنت متخصصة في السيرة والسنة النبوية الشريفة.
8- طباعة ونشر الكتب والأشرطة والبرامج الإعلامية التي تبرز محاسن الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وشمائله بعدة لغات وخاصة اللغة الإنجليزية.
9- المساهمة في دعم المسابقات الدعوية التي تهتم بالسيرة النبوية ورصد مبالغ تشجيعية لها.
10- الرقم نتركة لك لتكمله وتبعث به إلينا على عنوان اللجنة.
أخي المسلم أختي المسلمه .. إن الواجب علينا جميعاً - كلٌ حسب إستطاعته - أن ننصر نبينا وأمامنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك أعددنا هذة المذكرة ختى لا يبقى لأحد منا عذر ، فلنعمل جميعاً على نشرها وتوزيعها ، ودعوة الأهل وعموم الناس من خلال المجالس العائلية ، والمكالمات الهاتفية، ورسائل الجوال ، على نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم .
============================
ماذا فعلت للدفاع عن الإسلام ؟
الكاتب: نايف بن ممدوح ال سعود
بتاريخ: 01/21/2003
بقلم: نايف بن ممدوح ال سعود
هذا هو نبي الإسلام أيها الغربيون
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد الذي بعثه الله بالحق هدى ورحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين وجميع من آمن به واتبع سنته إلي يوم الدين وبعد:
لا يخفى على المطلع على تلك الحملة الشرسة التي تتعرض لها أمة الإسلام في هذه الأوقات الحرجة, والأوضاع الدولية الراهنة بصفة عامة, وأوضاع المسلمين المؤسفة فيما بينهم بصفة خاصة, من تفكك وتناحر وبعد عن التمسك بالشريعة الإسلامية والتحاكم إليها وبعد مخجل عنها وجهل لكثير من المسلمين بعقيدتهم, حتى صار الكثير منا – إلا من رحم ربي – فيه من الجهل بدينه ما يجعله يعجز عن الدفاع عن أغلي شئ في حياته: دين الله, ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم
وما حادثة إفك ذاك ( القس ) الأمريكي الكاذب ( جيري فولويل ) عنا ببعيد حيث قال في حديث له بث مساء الأحد 6 أكتوبر 2002م في برنامج 60 دقيقة, اتهم النبي صلى الله عليه وسلم الإرهاب, وقال ما نصه" أنا أعتقد أن محمدآ كان إرهابيآ, ولقد قرأت ما يكفي من المسلمين وغير المسلمين أنه كان رجل عنف, ورجل حروب"(11/241)
وما فاه ذاك القس الأفاك الأثيم ( بات روبرتسون ) في هجومه على النبي صلى الله عليه وسلم من خلال برنامج هانيني آند كولمز في قناة ( فوكس نيوز 9 الإخبارية قال:" كل ما عليك هو فقط إن تقراء ما كتبه محمد في القرآن: أنه يدعو قومه إلي قتل المشركين إنه رجل متعصب إلي أقصى درجة.. أنه كان لصآ وقاطع طريق. وأضاف إنما يدعو إليه هذا الرجل ( محمد ) في رأيي الشخصي ليس إلا خديعة وحيلة ضخمة. ويقول أيضآ إن 80% من القرآن نقل من النصوص النصرانية واليهودية ولقد ذكر موسي أكثر من 500 مرة في القرآن. وقال أيضآ: إن هذا القرآن ماهو إلا سرقة من المعتقدات اليهودية ... وثم استدار محمد بعد ذلك ليقتل اليهود والنصارى في المدينة. وقال: إنا أقصد .. أن هذا الرجل ( محمد ) كان قاتلآ سفاكآ للدماء"
وما ا فتراه الكاذب الثالث القس ( فرانكلين جراهم ) في تصريحاته الإعلامية التي ذكر فيها.." أن الإرهاب جزء من التيار العام للإسلام, وان القرآن يحض على العنف, وكرر خلال برنامج ( هانتي آند كولمز ) المذاع علي قناة ( فوكس نيوز ) الأمريكية في الخامس من أغسطس رفضه لإدانة تصريحات أدلي بها بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وصف الإسلام بأنه دين شرير, وفي كتاب جديد له بعنوان" الاسم" يحتوى على نصوص مسيئة للدين الإسلامي منها مايلي: في الصفحة 70 يذكر الكتاب" الإسلام.. اسس بواسطة فرد بشري, مقاتل يسمي محمد, وفي تعاليمه تر ى تكتيك نشر الإسلام من خلال التوسع العسكري ومن خلال العنف إذا كان ضروريآ, ومن الواضح إن هدف الإسلام النهائي هو السيطرة علي العالم". وفي الصفحة رقم 72 يذكر الكتاب:" يحتوي القرآن على قصص أخذت وحرفت عن العهدين القديم والجديد .. لم يكن للقرآن التأثير الواسع على الثقافتين الغربية والمتحضرة الذي كان للأنجيل. الأختلاف رقم واحد بين الإسلام والمسيحية أن آله الإسلام ليس آله الديانة المسيحية"
وما افتراه الكاذب الرابع القس 0 جيري فاينز ) على الرسول صلى الله عليه وسلم وأتهمه, ونعوذ بالله مما اتهمه به حيث قال:" إنه شاذ يميل للأطفال ويتملكه الشيطان, وتزوج من 12 زوجة آخرهن طفلة عمرها 9 سنوات. وأضاف فاينز أن الله الذي يؤمن به المسلمون ليس الرب الذي يؤمن به النصارى".(1)
فقد تجرأوا ونالوا من نبينا وسيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم وشتموه واستهزؤا به وطعنوا في نبوته ورسالته واتهموه بالكذب والافتراء, وعلى الرغم من ذلك لم نرا أو نسمع من المسلمين من حرك ساكنآ إلا القليل. أين أنتم أيها المسلمون.!؟ أين أنتم أيها المؤمنون.!؟ كيف يشتم نبينا صلى الله عليه وسلم ونهنأ بعدها ويغمض لنا جفن.!؟ وتهدأ نفس ويطيب عيش.!؟ كيف الحال لو كان ذاك المشتوم هو أبي أو أبوك أو أمي أو أمك أو عرضي أو عرضك أو وطني أو وطنك.!؟
أتوقع لكان الوضع - للأسف – مختلفآ تمامآ, وتعجب من تعصب الكثير من الناس وتحمقهم في تشجيع الفرق والأندية الرياضية الى حد أشبه بالجنون!
ومن تتبع أخبارهم في الصحف الرياضية ورأى سكرتهم في تشجيعهم لأنديتهم وتصريحاتهم في الدفاع والذب عنها, ليتمنى أن مثل هذا الجهد يكون في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم وعرضه ورسالته.
وكيف الحال يا ترى لو أن ذاك المشتوم هو احد ملآك صحيفة من الصحف أو قناة من القنوات الفضائية.!؟ إلا ترون أن جميع الإمكانيات والجهود ستجند للدفاع والذب عن مالك تلك الصحيفة أو القناة.!؟ فأين انتم أيها المسلمون.!؟
لا أريد من كلامي هذا التعسف أو الإساءة أو الإرهاب للمعاهدين الذين تربطهم بالمسلمين مواثيق وعهود يجب أن تحترم وتراعى من كلا الطرفين, ولكن المقصود أن يجند المسلمون في إرجاء الدنيا أنفسهم وأن يقفوا صفآ واحدآ ويدعوا اختلافاتهم ويعتصموا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهدى السلف الصالح وان توجه جهودهم وطاقاتهم ضد هذه الحرب الإعلامية السافرة القذرة التي تنال من عرض نبينا بأبي هو وأ مي صلى الله عليه وسلم .
فأين أنتم يا علماء المسلمين في إرجاء المعمورة كافة!؟ وأين أنتم أيها الدعاة والأدباء والكتاب والصحفيون!؟ وأين من يسمونهم بالمفكرين الإسلاميين.!؟ إذا لم تنطلق الألسن فما قيمتها, وإذا لم نستميت في الذب بأقلامنا عن عرض خير الأنام الأ فلتكسر الأقلام, ولا نلوم وقتها أعداء ديننا أكثر من لومنا أنفسنا( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شئ قدير ) ال عمران , فوالله لو أنشئت صحيفة أو قناة ولا تنشاء إلا من اجل الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم والذب عن عرضه ودينه والنور الذي جاء به, لم يكن ذلك في حقه كثيرآ بل أنه من اقل ما ينبغي علينا تجاهه.(11/242)
فأين انتم يا أصحاب القنوات الفضائية والصحف والمجلات.!؟ وأني على ضعفي وقلة كفاءتي وقدرتي العلمية شرعت بحمد الله بتأليف سفر على هؤلاء المفترين الكذبة ومن نحا نحوهم, وقد أسميته " هذا هو نبي الإسلام أيها الغربيون" وهو عبارة عن تعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم كما ورد في التوراة والإنجيل والقرآن, وماصح عن من طيب سيرته وطهارة عرضه الشريف وسريرته, ومواقف من كريم أخلاقه, وهو مدخل لدعوة النصارى واليهود وغيرهم إلي الإسلام, وذلك مما يجعل هؤلاء الكذبة المفترين يندمون على طعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم, مما فتح لي ولغيري من المسلمين بابآ إلي دعواتهم وقومهم غلي الإسلام. وملحق بذيل الكتاب رد مستقل على هؤلاء وأمثالهم ممن ألحقوا بالإسلام وبالنبي الأباطيل والأكاذيب واسميته" الصارم المسلول في الرد على القساوسة الكذبة شاتمي الرسول" واطمئن هؤلاء المنحرفين وغيرهم مما نح ا نحوهم من الذين يلصقون بالمسلمين تهمة الإرهاب بأن ردي سيكون- بأذن الله- بعيدآ عن ذلك و بل سيمتاز بالدقة والموضوعية العلمية والنقاش الهادئ الهادف الذي يخرجهم من الظلمات غلي النور, كما قال تعالى..( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثير مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من أتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلي النور بإذنه ويهديهم إلي صراط مستقيم) المائدة
وسيترجم هذا الرد – بإذن الله – إلي عدة لغات, فهذه المقالة ولله الحمد وما تبعها قد ترجمت أيضآ إلي الإنجليزية والفرنسية, رجاء أن يعم بها النفع ويقوى بها الدفع, خاصة باللغة التي نيل من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بها" الإنجليزية" وإني في ختام افتتاحية هذا الرد لأرجوا من علماء الإسلام في كل مكان والدعاة والأدباء والإعلاميين أن يواجهوا تلك الحملة الشرسة بلغة القوم التي يفهمونها وذلك بأن تترجم تلك الردود وأن يظهر من يجيد تلك اللغات من العلماء والدعاة في وسائل الإعلام المختلفة للذب عن عرض النبي صلى الله عليه وسلم, أقول بلغة القوم إذا مخاطبة الذات لا تدفع ضررآ ولا تنكأ عدونا, فالمسلمون خواصهم وعوامهم يعرفون نبيهم صلى الله عليه وسلم, والحاجة إنما هي في دفع الصائل المتطاول علي عرض النبي صلى الله عليه وسلم, وهذه وصايا أذكرها تأكيدا لأهميتها وتذكيرا بها:
1- قيام علماء العالم الإسلامي في كل مكان بالدور المطلوب منهم تجاه هذه الحملة الشرسة ضد الإسلام ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم, وقد قام بعض العلماء بجهود مباركة في ذلك ومازلنا بحاجة للمزيد من الجهود, وأن تكون المواجهة لهذه الفرية العظيمة بما يناسبها لأن دفع الأمور يكون وفق قدرها وحجمها ولم أر دفعآ يناسب هذا الجرم العظيم والخطب الجلل.
2- أستنفار الكتاب المسلمين والدعاة إلي الله في إرجاء المعمورة للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبهم ومحاضراتهم ومقالاتهم مع التأكيد على الجماهير مستمعيهم أن هذه الحملة إنما ترد وتدفع بالعلم والتعلم والحكمة والتعقل وبث الدعوة الإسلامية في صفوف أولئك المخدوعين لهذا الكاذب وغيره من خلال تبين محاسن الدين الإسلامي وكريم أخلاق وعظيم خصال نبيه صلى الله عليه وسلم بالحوار والمناقشة والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة على منهج القرآن خاصة مع المخادعين, كما قال الله تعالي( أدع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) 125
وقوله تعالى ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقالوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) 46 العنكبوت
وخاصة مع المستغفلين من الذين غشوهم وخدعوهم وغرروا بهم (هؤلاء الكذبة المضللين ) وأسلافهم
3- أن يقوم أرباب الفضائيات والصحف والإذاعات بإعداد حملة إعلامية متواصلة دفاعآ عن جناب النبي المصطفي صلى الله عليه وسلم, والدين الذي أرسل به والتعريف بالدين الإسلامي الصحيح الذي لا غلو فيه ولا جفاء مع التركيز والتأكيد على مسالة مهمة قد تهم الغرب وغيرهم أن لدى المسلمين الذين يقفون ضد إرهاب الآمنين والمعاهدين من المحبة والتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم ما تصنع من الرجل المسالم العاقل إرهابيآ ولا فخر.
فليحذر أولئك العابثون بأغلى ما يملكه المسلمون بعد توحيدهم لربهم ألا وهي محبتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم بل لا يثبت توحيدهم إلا بها , كيف لا وهي شق شهادة التوحيد ( واشهد أن محمدآ عبد الله ورسوله) كيف لا ولا يصح أيمان المؤمن إلا بذلك قال المرسل من عند ربه بالحق صلى الله عليه وسلم ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) متفق عليه
فحذارى يا ( جيرى فاينز ) ومن معك من المفترين أن تحرضوا مليار وثلاثمائة مليون مسلم وتحولوهم إلي الإرهاب كما تسمونه.(11/243)
( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم إلا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعض أرباب من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) 64 ال عمران
وابشر المؤمنين كما أبشر غير المؤمنين بما حدث به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأن الإسلام سينتشر وأن البقاء له بعز عزيز أو بذل ذليل كما قال صلى الله عليه وسلم( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا ترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزآ يعز الله به الإسلام وذلآ يذل به الكفر) رواه ابن حبان في صحيحه وصححه الألباني
وختامآ أشكر الله سبحانه بما من ويسر وأعانني وشرفني للدفاع عن عرض نبيه صلى الله عليه وسلم والتصدي لهؤلاء النكرات وأمثالهم سائلآ ربي جل وعلا أن ينصر كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وان يعز دينه واولياءه وان يخذل أعداء ملته وان يجعل عملي هذا خالصآ صال حآ متقبلآ نافعآ لمن شاء من عباده , وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيد ولد آدم المبعوث بالحق من رب العالمين .
ماذا فعلت للدفاع عن الإسلام؟
===========================
مثيرو الكراهية
الكاتب: د. علي الطراح
ليس فينا من العقلاء من يرى في نشر أفكار الدمار والتخريب وسيلة لإيصال رأيه. فكما لدينا حمقى لا يؤمنون بالحوار والعقل كأداة للتفاهم في حالة الاختلاف، فلدينا كذلك أعداد مضاعفة من العقلاء ممن يرفضون السلوك الأحمق ولا يرون فيه إلا أداة لغرس أفكار الكراهية بين الشعوب. الحمقى ليسوا فقط من أبناء جلدتنا وإنما نجدهم في جميع المعتقدات ومن الخطأ لوم المسلمين لتصرفات الجهلاء منهم، فالإسلام أكبر من ذلك وروحه لا تتلاقى مع ما في أذهان الحمقى.
إنني شخصيا وإن كنت لا ألتقي مع أطروحات البعض من الإخوة في الحركات السياسية الإسلامية، إلا أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال الموافقة على استباحة الدين الإسلامي وتعريضه للتجريح، فما بالك عندما يصل الأمر إلى الاستهزاء بنبي الله محمد بن عبدالله صلوات الله عليه وسلامه. فالموقف بكل تأكيد يختلف ويتطلب منا إظهار رفض لأي استغلال سياسي لمتطلبات الدفاع عن رسول الأمة، وإنه ليس من العقل أن نفتش في الدفاتر القديمة وأن نبحث في المواقف التي تفرقنا بقدر ما نحن ملزمون بمسؤولية أخلاقية في إظهار عدم الرضا عمن يسيء لدين الإسلام الذي يعتنقه مئات الملايين من البشر في أرجاء العالم.
لدينا الكثير من الوسائل الحضارية التي علينا أن نفكر في استخدامها للتعبير عن استيائنا مما نشر في الصحافة الأجنبية. فعلى سبيل المثال لو قام بعض من المسلمين بإرسال برقيات احتجاج للصحف التي أساءت إلى نبي الله محمد صلاة الله عليه وسلامه، لأدرك الكثيرون من القائمين على هذه الصحف أن لهذا الدين أنصاره في كل أركان العالم. قد تكون المقاطعة للبضائع الدانمركية مقبولة وجائزة، إلا أن ضمان الاستمرارية في ذلك الموقف أمر مشكوك فيه، حيث اعتدنا على اتخاذ القرارات السريعة والعاطفية مما يجعلنا عرضه للاهتزاز أمام الآخرين.
الدول الإسلامية تختلف في سياساتها وليس هناك انسجام في السياسات بينها مما عرضها ويعرضها للتفكك ولا أعتقد أنها تملك مقومات المخاطبة الحضارية في توصيل رسائلها للعالم. الأزمة التي نعاني منها تتجسد في تأسيس وسائل مخاطبة حضارية في كسب الرأي العام العالمي لصالح قضايانا. فالعجز فينا عن تدبير أمورنا مع العالم ولا يمكننا أن نصحح أفكار الآخرين إذا لم نبادر إلى فهم ميكانيكية التواصل مع الآخرين.
الإعلام الغربي وخصوصا صناعة السينما مازالت حبيسة النمطية التقليدية ضد العرب والمسلمين ومازالت تنتج البرامج والأفلام المحرضة ضد الشخصية العربية أو المسلمة. فالفيلم الأخير الذي بث في أميركا "سريانا" يعبر عن النمطية البغيضة التي مازالت تبثها وسائل الإعلام الغربية ضد المسلمين والعرب. "سريانا" مثله مثل غيره من الأفلام الكثيرة التي تظهر الشخصية العربية الإسلامية اللامبالية؛ الشخصية التي لا هم لها سوى تبذير الأموال والجري وراء النساء!
لا أرى أن اللوم يجب أن يوجه للعرب أو للمسلمين وحدهم بقدر ما يجب أن يوجه أيضا لباقي الأطراف في خلق عقلية التحريض والكراهية ضد الآخر. فكما لدينا شخصية بن لادن، الشخصية التي أساءت للإسلام وباعدت بيننا وبين الآخر، فكذلك للغرب أيضا شخصيات مريضة لا ترى العالم إلا من زاوية غربية متعصبة. العنصرية وعدم التسامح بدآ يستفحلان في أوروبا بعد انتهاء الحرب الباردة، وبدأت الأنظار تتجه للمهاجرين وخصوصا المسلمين منهم باعتبارهم قنابل موقوتة قد تنفجر في عقر أوروبا. فالمسلمون يتنامون في أوروبا ويتوقع أن يصل عددهم في العقدين القادمين إلى ما يقرب من 65 مليون نسمة مما يدعو الأوروبيين إلى التفكير جديا في كيفية إدماجهم وليس عزلهم وتهميشهم.(11/244)
صحيفة الإتحاد الإماراتية
محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السماوية العهد القديم
الكاتب: د. محمد بن عبد الله السحيم
بتاريخ: 08/05/2005
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عبده المصطفى .. أما بعد
فقد طلب مني الأخوة الفضلاء القائمون على موقع (شبكة مشكاة الإسلامية) أن أذكر لهم شيئاً مما كُتب عن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كتب أهل الكتاب فنقلت لهم بعض ما أوردته في كتابي: (مسلمو أهل الكتاب وأثرهم في الدفاع عن القضايا القرآنية) وهذه البشارات نقلتها من مسلمي أهل الكتاب بمعنى أنني لم أدون أي نص أو بشارة إلا ما شهد عليه مسلم من أهل الكتاب أنه وجد هذا النص في كتابه. وقد أشرت في نهاية كل بشارة إلى اسم المهتدي الذي نقلتها منه ورقم الصفحة من كتابه ثم طابقتها على الطبعات المحدثة من ما يسمى "بالكتاب المقدس" ونتيجته لأن بعض هؤلاء المهتدين ينقلون لنا من نسخ قديمة جداً كالطبري الذي كان معاصراً للمتوكل ولأن اليهود والنصارى يقومون بعمل تصحيح لكتابهم بين آونة وأخرى ويضيفون ويحذفون من العبارات ما يشاؤون فقد يجد الباحث صعوبة المقارنة بين النص الذي أورده المهتدي والنص الموجود في الطبعات الحديثة للكتاب المقدس المزعوم لكن العبرة بشهادة هؤلاء المهتدين ونقلهم لهذه النصوص.
وليعلم القارئ أن هذه البشارات موجودة في كتب كثيرة سواء في بعض دواوين السيرة أو في مصنفات الجدل مع أهل الكتاب مثل كتاب الجواب الصحيح لابن تيمية وهداية الحيارى لابن القيم .
وإظهار الحق لرحمة الله الهندي والفارق بين المخلوق والخالق لعبدالرحمن باجه جي أو كتاب أحمد السقا البشارة بنبي الإسلام وكذلك مصنفات المهتدين من أهل الكتاب مثل كتاب:
1. الدين والدولة لعلي بن ربّن الطبري.
2. تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب لعبد الله الترجمان.
3. النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية للمتطبب.
4. إفحام اليهود للمسئول بن يحيى المغربي.
5. مسالك النظر في نبوة سيد البشر لسعيد بن الحسن الاسكندراني.
6. محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس لعبد الأحد داود.
7. محمد نبي الحق لمجدي مرجان.
8. محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن لإبراهيم خليل أحمد.
وغيرها كثير. وقد جمعت جميع الأدلة والبشارات التي استدل بها هؤلاء وغيرهم وضمنتها كتابي السابق ذكره.
كما أن هناك من صنف مصنفات خاصة ببشارات أصحاب الأديان السابقة بهذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وكذا صنفت مصنفات خاصة تحمل بين دفتيها شهادات الكتاب المعاصرين المعتبرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ككتاب : إلى الدين الفطري الأبدي.. تأليف مبشر الطرازي الحسيني من علماء تركستان. وهو من منشورات مكتبة الخانجي – القاهرة.
=======================
محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السماوية العهد الجديد
الكاتب: د. محمد بن عبد الله السحيم
بتاريخ: 08/05/2005
بشارات العهد الجديد:
بشارات متى:
البشارة الأولى: قال متى في الإصحاح الثالث مخبراً عن يوحنا المعمدان – يحيى عليه السلام – أنه قال: (أنا أعمدكم بالماء – وذلك للتوبة وغفران الخطايا – ولكن هناك شخص قادم بعدي وهو أقوى مني، لدرجة أنني لا أستحق حل سيور حذائه، وسيعمدكم بالروح والنار). هذه البشارة أوردها كل من المهتدي عبد الأحد داود والنجار، وأضاف إليها النجار بعض العبارات التي تذكر صفة هذا القادم المنتظر، وهو قوله: (الذي رفشه بيده، وينقي بيدره، ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ) وأوضح هذه العبارات فقال: (قوله: الذي رفشه بيده. ونسخة الآباء العيسويين: (الذي بيده المذري). إشارة إلى ما قام من حروب وجهاد مع الكفار لنصرة دين الله وإعلاء كلمته. وقوله: (وينقي بيدره) بمعنى يطهر موطنه من الأصنام ومن عبدتها المشركين. وقوله: (ويجمع قمحه إلى المخزن) أي يجمع صحابته والمؤمنين به عند بيت الله الحرام. (أما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ). أي يقضي على عناصر الشر والفساد في العالم، ويناهض أهل الشرك والضلالة وعبادة الأصنام).
أما عبد الأحد داود فقد اكتفى بهذا النص الذي أوردته، وأشار على هذه الزيادة في ثنايا الشرح والتحليل. كما أنه أطال النفس في استنطاق هذه النبوة من جانبين: الجانب الأول: نفى فيه أن يكون النبي الذي تنبأ به يوحنا هو عيسى عليه السلام. وفي الجانب الثاني: أثبت أن هذا النبي المبشر هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد قدم في الجانب الأول البراهين التالية:
1. أن نفس كلمة "بعد" تستبعد عيسى بكل وضوح من أن يكون هو النبي المبشر به، لأن عيسى ويوحنا ولدا في سنة واحدة وعاصر أحدهما الآخر، وكلمة "بعد" هذه تدل على مستقبل غير معلوم بعده.
2. أن يوحنا قدم المسيح عليه السلام إلى قومه وطلب منهم طاعته واتباعه، إلا أنه أخبرهم بوضوح أن ثمة كوكباً آخر عظيماً هو الأخير الخاتم الممجد عند الله.(11/245)
3. لم يكن عيسى هو المقصود عند يوحنا، لأنه لو كان الأمر كذلك لتبع عيسى وخضع له، ولكنا نجده على العكس من ذلك إذ نجده يعظ ويعمد ويستقبل الأتباع في حياة المسيح عليهما السلام.
4. مع اعتقاد الكنائس النصرانية بأن المسيح إله أو ابن إله، إلا أن كونه معمداً على يد يوحنا المعمدان يثبت أن الأمر بالعكس تماما، فلو كان عيسى هو الشخص الذي تنبأ به يوحنا على أنه أقوى منه، وأنه سيعمد بالروح وبالنار – لما كان هناك ضرورة أو معنى لتعميده في النهر على يد يوحنا وهو الشخص الأقل منه .
5. تضاربت الأناجيل في موقف يوحنا من عيسى: فهو في أحدها يرسل التلاميذ يسألونه: هل أنت النبي الذي سيأتي أم ننتظر واحداً آخر؟ أما يوحنا كاتب الإنجيل فقد أثبت أن يوحنا لما رأى عيسى قال: انظروا حمل الله. ففي النص الأول: يتبين أن يوحنا لم يكن يعرف حقيقة المسيح، وفي النص: ذكر وصفاً مغايراً للنبي المبشر به.
6. لا يمكن أن يكون يوحنا هو سلف عيسى المبشر به بالمعنى الذي تفسر فيه الكنائس بعثته، لأن من مهام هذا الرسول المبشر به أنه يمهد الطريق، وأنه يأتي فجأة إلى هيكله ويقيم السلام. فإذا اعتبر أن هذه المهام قد أسندت إلى يوحنا – فنستطيع أن نؤكد أنه فشل في تحقيقها فشلاً ذريعاً، لأن كل الذي قام به يوحنا تجاه عيسى عليهما السلام أنه استقبله على نهر الأردن وعمده فيه – كما زعموا -.
أما البراهيم أو الأدلة التي قدمها هذا المهتدي على أن يوحنا قد بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم فهي:
1. يتأكد من هذه النبوة شيء واحد وهو أن النبي الذي تمت البشارة بقدومه معروف لدى كافة الرسل والأنبياء، وإلا لما اعترف شخص معصوم هذا الاعتراف المتواضع.
2. أن إنكار الرسالة المحمدية هو إنكار أساسي لكل الوحي الإلهي، وكافة الرسل الذين بشروا به، لأن جميع الأنبياء معاً لم ينجزوا العمل الهائل الذي أنجزه محمد صلى الله عليه وسلم وحده في فترة قصيرة لم تتجاوز ثلاثة وعشرين عاما.
3. اعتراف يوحنا بأن "محمداً" صلى الله عليه وسلم أعلى منه وأسمى قدراً، يتضح ذلك من قوله "هو أقوى مني" وبمقارنة ما كان عليه يوحنا بما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم ، نجد أن الواقع يشهد أن محمداً ص كان هو الأقوى الذي بشر به يوحنا، يتضح ذلك من خلال الصورة المأساوية التي ترسمها الأناجيل لنهاية يوحنا حيث يسجن ثم يقطع رأسه ويقدم على طبق، بينما نرى محمداً صلى الله عليه وسلم يدخل مكة دخول الفاتح العظيم، ويدمر الأصنام، ويطهر الكعبة، والكفار مستسلمون له ينتظرون حكمه فيهم.
4. أخبر يوحنا عن الغضب القادم أو العذاب القادم على اليهود والكفار المعاندين للرسل. وهذا العذاب الذي تنبأ عنه، منه ما تحقق بعد ثلاثين سنة في بني إسرائيل، ومنه ما أعلنه هو وأخوه المسيح عليهما السلام عن قدوم رسول الله الذي سوف ينتزع جميع الامتيازات من اليهود، ولم يتحقق هذا إلا على يد محمد صلى الله عليه وسلم الذي دمر حصونهم، وطردهم من ديارهم، ولقد أنذرهم يوحنا من هذا العذاب الآتي إذا لم يؤمنوا برسل الله الصادقين وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم – بقوله: (من الذي أخبركم أن تهربوا من الغضب الآتي).
5. أن هدف محمد صلى الله عليه وسلم هو: إقامة دين الإسلام على الأرض، فقد اختفت الأوثان والأصنام من أمامه، وانهارت الإمبراطوريات أمام سيفه، وأصبح المسلمون في ملته متساوين، وتكونت منهم الجماعة المؤمنة، وتحققت بينهم المساواة إذ لا كهنوت ولا طقوس، وليس هناك مسلم مرتفع، ولا مسلم منخفض، ولا توجد طبقية أو تمايز يقوم على العنصر والرتبة، فالإسلام هو الدين الوحيد الذي لا يعترف بأي كائن مهما عظم، ومهما كان مقدسا – كوسيط مطلق بين الله والبشر.
6. أن أتباع يوحنا كانوا يعرفون كل المعرفة أن عيسى عليه السلام لم يكن هو الشخص المقصود، وقد اعتنقوا الإسلام عندما جاء محمد صلى الله عليه وسلم.
البشارة الثانية: قال متى في الإصحاح الخامس مخبراً عن المسيح أنه قال: (الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض، ولا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل) قال المهتدي الهاشمي موضحاً هذه البشارة: (الكل هنا – كما سبقت إليه الإشارة هو القرآن الكريم الذي فيه نبأ السلف، وأخبار الخلف، فيه قصص من سبق من الأنبياء وابتلاؤهم على أيدي أقوامهم، فيه هدى للمتقين، ووعيد للكافرين، وتنظيم للحياتين الدنيا والآخرة، روح من رب العالمين نزل على قلب بشر لم يؤت من قبل فنون الكلام).
وفي هذا النص إشارة إلى وجوب العمل بالتوراة والإنجيل إلى غاية محدودة وهي مجيء الكل، فإذا جاء الكل – وهو القرآن الكريم – بطل العمل بها، وحان نسخهما، وأذن الله بزوالهما. والمراد بالزوال هنا زوال الحكم لا زوال الوجود.
ولعل مقصود عيسى عليه السلام من قوله "الأصغر" أي الأصغر سنا. هذا على فرض صحة نسبة هذا النص إلى عيسى عليه السلام.(11/246)
البشارة الثالثة: قال متى في الإصحاح الحادي عشر: (وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيلياء المزمع أن يأتي). قال المهتدي النجار بعد هذه النبوة: (أي إن أردتم أن تتبعوا فاتبعوا أحمد الذي سيبعث، وشدد عليهم في التمسك بهذه الوصية والمحافظة عليها فقال: "من له أذنان للسمع فليسمع". وهذه البشارة مماثلة وشاهدة ومصدقة لنبوة ملاخي، وقد سبق إيرادها في هذا البحث تحت عنوان: البشارة الثانية من بشارات ملاخي.
البشارة الرابعة: روى متى في الإصحاح السابع عشر ذلك الحوار الذي دار بين المسيح عليه السلام وتلامذته وهو: (قولهم: لماذا يقول الكتبة: إن إيلياء ينبغي أن يأتي أولا؟. فأجاب وقال لهم: إن إيلياء يأتي أولا، ويرد كل شيء) وأردف المهتدي النجار هذه البشارة بقوله: (ونجد المحرفين يشيرون بأن هذا الكلام على يوحنا – أي سيدي يحيى – مع أن سيدنا يحيى ليس له شرع ولا كتاب).
البشارة الخامسة: قال متى في الإصحاح العشرين مخبراً عن المسيح أنه قال: (أما قرأتم قط في الكتب: أن الحجر الذي رذله البناؤون، هذا صار رأساً للزاوية، من قبل الرب كانت هذه، وهي عجيبة في أعيننا، من أجل هذا أقول لكم: إن ملكوت الله تنزع منكم، وتعطي لآخرين، لأمة يصنعون ثمرتها، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن يسقط عليه يطحنه).
أجدني مضطراً أمام هذه البشارة إلى تقسيم الكلام عنها إلى قسمين حسب ما ورد عن هؤلاء المهتدين:
القسم الأول: يختص بالكلام عن الحجر الذي رفضه البناؤون، وهذا الحجر المشار إليه هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو الحجر المتمم للبناء الذي ابتدأه الأنبياء من آدم حتى المسيح، وبين المسيح عليه السلام ما خص به محمد صلى الله عليه وسلم ، من النصر والتأييد بقوله: (ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن يسقط عليه يطحنه). وإلى هذا ذهب كل من المهتدي الشيخ زيادة والنجار والهاشمي. بينما يرى المهتدي إبراهيم خليل: أن الحجر المشار إليه هو إسماعيل عليه السلام الذي رفضه قومه. ولكن الذي رفضه قومه، ورفضه اليهود والنصارى هو محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: (من قبل الرب): أي مرسل من قبل الله حقاً وصدقا.
قوله: (عجيب في أعيننا). هذا القول يطابق قول إشعياء: إن اسمه عجيب. أو أن تكون بمعنى عجيب، لأنه كريم في طبعه عربي غريب من غير بني إسرائيل.
وإن قيل إن المسيح عني نفسه بهذا المثل فيقال:
1. أنه قال: (في أعيننا) ولم يقل في أعينكم.
2. أن خاتمة البشارة وهي قوله: (من سقط على هذا الحجر يترضض). تفيد جليا أن هذه العبارة واردة في حق شخص آخر غير المسيح عليه السلام، لأن عيسى عليه السلام لم يرض غيره، ولم يسحق من سقط عليه.
3. لا يجوز عند علماء اللغة أن يعود اسم الإشارة على المتكلم وهو عيسى، إذاً فلابد أن يعود على شخص أشار إليه عيسى وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه البشارة تماثل قوله صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين).
وهذا القول منه صلى الله عليه وسلم معجزة وأي معجزة، فمن أخبره صلى الله عليه وسلم بوصفهم له بأنه حجر الزاوية ؟ وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتتلمذ على يد معلم أو راهب!! ولكنه الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والحق الذي لا يختلف في كل عصر ومصر، فلا عجب أن تماثلت أقوالهم، واتفقت أمثالهم، أليس الجميع يخرج من مشكاة واحدة ؟؟!!.
القسم الثاني: يختص بالكلام عن نزع ملكوت الله من بني إسرائيل، ووضعه في أمة أخرى:
والحديث عن ملكوت الله يتطلب الحديث عن حقيقته، وصفات أتباعه، وملكوت الله في تفسير الكنائس، وبيان أن النصرانية ليست ضمن ملكوت الله، وأن الملكوت نزع من بني إسرائيل وأعطي لأمة أخرى، وهذه الأمة هي الأمة الإسلامية.
بشارات يوحنا:
البشارة الأولى: لما ابتدأ يوحنا يعمد الناس في نهر الأردن، وكان ذلك في زمن المسيح عليه السلام، تصدى له اليهود – المكتوب عندهم في التوراة أن المسيح آت وسيأتي بعده نبي – وسألوه سؤالا كما جاء في الإصحاح الأول: (هل أنت المسيح ؟ هل أنت إيلياء ؟، هل أنت النبي؟ وعندما أجابهم بالنفي قالوا إذا لم تكن المسيح ولا إيلياء ولا ذلك النبي المنتظر، إذاً فلماذا تعمد ؟؟) قال المهتدي الهاشمي بعد هذه البشارة: (من سؤال اليهود ليوحنا نستطيع أن نستنتج أن هناك نبياً بشرت به كتبهم، حيث أن السؤال كان في عهد السيد المسيح، وأن إيلياء كان نبيا من أنبياء بني إسرائيل جاء بعد موسى وقبل المسيح). ويطرح المهتدي عبد الأحد داود عدة تساؤلات ملزمة حول هذا النص وهي:(11/247)
من يعني أولئك الأحبار اليهود واللاويون بقولهم: ذلك النبي؟ وإذا كنتم تدعون معرفتكم مقصد رجال الدين العبرانيين، فهل يعرف باباواتكم وبطارقتكم من هو ذلك النبي؟ وإذا كانوا لا يعرفون فما الفائدة الدنيوية من هذه الأناجيل المشكوك في صحتها؟ وإذا كان الأمر على العكس، وكنتم تعرفون من هو ذلك النبي فلماذا تبقون صامتين ؟؟!.
ويستنتج المهتدي الشيخ زيادة من هذه البشارة: أن اليهود منذ زمن موسى إلى زمن مجيء المسيح عليهما السلام كان يتداول بينهم – نقلا عن آبائهم وأجدادهم – أن الله يرسل نبيا. وهم بانتظار ثلاثة أفراد عظام هم: إيلياء والمسيح والنبي فحيث جاء إيلياء والمسيح لم يبق إلا "النبي" الذي ينتظرونه، وقد ورد في هذا النص بعد المسيح فتعين أن هذا النبي هو محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه قد جاء بعد المسيح عليهما الصلاة والسلام.
وهذه البشارة تفند ادعاء اليهود أن بشارة موسى عن نبي يقيمه الله لهم. دالة على يوشع بن نون، لأنه لو كان المقصود لما ظل اليهود إلى زمن المسيح يسألونه عن ذلك النبي. وتفند – أيضاً – ادعاء النصارى بأن بشارة موسى السابقة مقولة على المسيح عليهما السلام، لأن علماء اليهود قالوا ليوحنا: (إن كنت لست المسيح ولا إيلياء ولا النبي وهذا يدل على أن هذا النبي غير المسيح عليه السلام.
البشارة الثانية: قال يوحنا في الفصل الخامس عشر من إنجيله إن المسيح عليه السلام قال: (إن الفارقليط الذي يرسله أبي باسمي يعلمكم كل شيء) وقال – أيضا – في الفصل السادس عشر: (إن الفارقليط لن يجيئكم مالم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه شيئاً، لكنه يسوسكم بالحق كله، ويخبركم بالحوادث والغيوب) وقال – أيضا – : (إني سائل أبي أن يرسل إليكم فارقليطاً آخر يكون معكم إلى الأبد) ويرى المهتدي عبد الأحد داود أن النص الأخير لا يتضح المعنى المراد منه إلا بإعادة الكلمات المسروقة أو المحرفة فتكون الصيغة الصحيحة كالتالي: (وسوف أذهب إلى الأب، وسيرسل لكم رسولاً سيكون اسمه "البرقليطوس"، لكي يبقى معكم إلى الأبد) والكلمات التي أضافها هي ما تحتها خط.
هذه البشارة تكاد أن تكون محل إجماع من هؤلاء المهتدين، وسيكون الحديث عنها من جانبين:
الجانب الأول: بشارة المسيح عليه السلام بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال النقاط التالية:
1. أن هذا النبي الذي بشر به المسيح عليه السلام علّم الناس مالم يعلموه من قبل، ولم يكن في تلاميذ المسيح ومن بعدهم من علّم الناس شيئاً غير الذي كان علمهم المسيح.
2. تضمن النص أن هذا الشخص المبشر به لا يتكلم من تلقاء نفسه، وأنه يخبر بالحوادث والغيوب، ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقد تواتر عنه إخباره بالحوادث المقبلة والغيوب التي تحققت في حياته وبعد مماته. وتتفق هذه البشارة مع بشارة موسى عن هذا النبي المنتظر عندما أخبر أن الله قال: (وأجعل كلامي في فيه). وقد سبق الحديث عن هذه البشارة ضمن بشارات العهد القديم.
3. أن هذا النبي المنتظر بكت العالم على الخطيئة، ولا خطيئة أعظم من الشرك، ولم يقتصر عمل محمد صلى الله عليه وسلم على اقتلاع الشرك من جزيرة العرب، وبعث رسله وكتبه إلى ما جاوره من الدول والإمبراطوريات يدعوهم إلى عبادة الله وحده، بل لما لم تقبل دعوته استل سيفه مؤذنا بإعلان الحرب على الشرك مهما كان موقعه.
4. أن الشخص المبشر به يؤنب العالم. ولقد اعتقد اليهود أنهم صلبوا المسيح عليه السلام وقتلوه. واعتقد النصارى أن المسيح قد صلب وأنه الله أو ابن الله. ولم يزل العالم يعتقد هذا الاعتقاد حتى جاء محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وجلّى كل الحقيقة عن المسيح من أنه عبد الله ورسوله، وأنه لم يصلب ولم يقتل، بل رفع إلى السماء.
5. في هذا النص صرح المسيح عليه السلام أن الشخص المبشر به هو "روح الحقيقة" ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أظهر كل الحقيقة عن الله وعن وحدانيته ورسله وكتبه ودينه، وصحح كثيراً من الافتراءات والأكاذيب التي كانت مدونة ومعتقداً بها، فهو الذي وبخ النصارى على اعتقادهم في الثالوث، وادعائهم أن المسيح هو ابن الله، وكشف مفتريات اليهود والنصارى ضد أنبياء الله ورسله، وطهر ساحتهم من الدنس والعيب الذي ألحقه بهم اليهود.
6. ذكر المهتدي الترجمان في سبب إسلامه أن أحبار النصارى كان لهم مجلس يجتمعون فيه، ويتذاكرون فيه أنماطاً من المسائل، فاختلفوا يوماً حول النبي الذي يأتي بعد المسيح والمسمى في الإنجيل "البارقليط" وانفض المجلس في ذلك اليوم ولم يصلوا إلى حقيقة هذا اللفظ، وقد تخلف عنهم في ذلك اليوم أكبر علمائهم، فلما رجع الترجمان إليه أخبره الخبر، وطلب الترجمان من هذا العالم أن يبين له الحقيقة فأخبره: أن "البارقليط" هو اسم من أسماء نبي المسلمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.(11/248)
7. قال المهتدي الهاشمي: (إنه جاء في الإنجيل المكتوب باللغة القبطية الذي كتبه أحد البطاركة في سنة 506م ما معناه: الآتي بعدي يسمى: الفارقليط بندكراطور. أي الروح المنشق اسمه من اسم الحمد، سيبعث الحياة في أمه ليست لها من الحياة نصيب إلا الضلال في برية فاران كجحاش الأتن. وذكر أن هذا الإنجيل منزوع الغلاف، وذكر كاتبه في ديباجته أنه نقله من أصول الإنجيل الحقيقي.
8. استخرج هؤلاء المهتدون تطابق كلمة "البارقليط" مع اسم محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وبيان هذا التطابق كما يلي:
أ ) هذا الاسم "بارقليط" يوناني. وتفسيره باللغة العربية أحمد أو محمد أو محمود. وقال المهتدي عبد الأحد داود: ومن المدهش أن الاسم الفريد الذي لم يعط لأحد من قبل كان محجوزاً بصورة معجزة لأشهر رسل الله وأجدرهم بالثناء، ونحن لا نجد أبداً أي يوناني كان يحمل اسم "برقليطس" ولا أي عربي كان يحمل اسم أحمد.
ب) قال المهتدي عبد الأحد داود موضحاً هذا التطابق: (إن التنزيل القرآني القائل بأن عيسى ابن مريم أعلن لبني إسرائيل أنه كان "مبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" – واحد من أقوى البراهين على أن محمداً كان حقيقة نبياً، وأن القرآن تنزيل إلهي فعلاً، إذ لم يكن في وسعه أبداً أن يعرف أن كلمة البارقليط كانت تعني أحمد إلا من خلال الوحي والتنزيل الإلهي، وحجة القرآن قاطعة ونهائية، لأن الدلالة الحرفية للاسم اليوناني تعادل بالدقة ودون شك كلمتي "أحمد" و "محمد" صلى الله عليه وسلم.
ج ) أن اسم البارقليط لفظة يونانية يجتمع من معانيها في القواميس المعزي، والناصر، والمنذر، والداعي. وإذا ترجمت حرفاً بحرف إلى اللغة العربية صارت بمعنى "الداعي" وهو من أسمائه صلى الله عليه وسلم ، وقد وصف في القرآن الكريم بمثل ذلك في قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً. وداعياً إلى الله بإذنه) وقد فهم أوائل النصارى أن هذه اللفظة إنما تعني الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .
البشارة الثالثة: قال يوحنا في إنجيله الإصحاح السادس عشر مخبراً أن المسيح قال: (إن أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما أمتي جاء ذاك روح الحق فهو سيرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني). قال المهتدي النجار: (وهذه البشارة في معنى قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى). وقال المهتدي الهاشمي معلقاً على هذه البشارة: (والمسيح يبصر أمته بأن لديه أموراً كثيرة تفوق طاقة احتمالهم، وأنه سيأتي الوقت المناسب لمجيء الرسول الذي يعنيه بالروح الحق. فتكون العقول قد تفتحت، والقلوب قد ذهب عنها رينها، والنفوس قد ألهمت بعد فجورها تقواها، في هذه اللحظة – فقد – يكون الناس قد استعدت إفهامهم، واتسعت مداركهم، لاحتمال كل ما يلقى إليهم على لسان هذا النبي الذي لا يتكلم من نفسه، وإنما من وحي يوحى إليه من ربه بالقرآن).
ويذكر المسيح عليه السلام بعض أوصاف هذا الرسول الخاتم التي تساعد على تمييز شخصيته منها قوله: (ذاك يمجدني). فمن صفات هذا الرسول أنه يمجد المسيح، ولم يأت أحد بعد المسيح ويمنحه من التمجيد والثناء ما يستحقه، ويرفع عنه وعن أمه افتراءات اليهود، ويضعه في المنزلة التي وضعه الله فيها – وهي العبودية والرسالة – سوى محمد صلى الله عليه وسلم. ومن صفات هذا الرسول أنه سيرشد الخلق إلى أمور وحقائق لم يبلغها المسيح، وذلك في قوله: (ويخبركم بأمور آتية).
بشارة سفر أعمال الرسل:
قال المهتدي الطبري أنه جاء في كتاب فراكسيس قول رئيس الحواريين: (إنه قد حان أن يبتدأ من بيت الله) قال المهتدي الطبري: (وتفسير ذلك أن بيت الله الذي ذكره الحواري هو مكة، وفيها كان ابتداء الحكم الجديد لا من غيرها. فإن قال قائل: إنه عني به حكم اليهود. فقد كان أخبرهم المسيح أنه لا يترك في بيت المقدس حجر على حجر حتى ينسف ويبقى على الخراب إلى يوم القيامة، فقد وضح أن الحكم الجديد الذي ذكره الحواري هو دين الإسلام وحكمه).
بشارة بولس في رسالته إلى أهل غلاطية:
قال فولس في رسالته إلى أهل غلاطية: (إنه كان لإبراهيم ابنان أحدهما من أمة والآخر من حرة، وقد كان مولد ابنه الذي من الأمة كمولد سائر البشر، فأما مولد الذي من الحرة فإنه ولد بالعدة من الله.
فهما مثالان مشبهان بالفرضين والناموسين، فأما هاجر فإنها تشبه بجبل سينا الذي في بلاد أرابيا الذي هو نظير أوراشلم هذه، فأما أوراشلم التي في السماء فهي نظير امرأته الحرة) قال المهتدي الطبري: (فقد ثبت فولس في قوله هذا معاني جمة:
أولهما: أن إسماعيل وهاجر قد كانا استوطنا بلاد العرب، وهي التي سماها بلاد أرابيا.(11/249)
الثاني: أن جبل سيناء الذي بالشام يتصل ببلاد البوادي بقوله: إن هاجر تشبه بطور سينا الذي ببلاد أرابيا. وسينا هو الذي ذكرته التوارة في صدر هذه النبوات في قولها: (إن الرب جاء من سينا، وطلع لها من ساعير، وظهر من جبل فاران). فشهد فولس هذا بأن الذي قالت عنه التوراة: إنه جاء من سينا: هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي ظهر في بلاد أرابيا. وأين يكون من الإبانة والإيضاح أكثر من تسمية بلاد أرابيا التي عني بها بلاد العرب.
الثالث: أن بيت المقدس هو نظير مكة.
الرابع: أن هذا الناموس الثاني والفريضة الثانية وهي "الشريعة الإسلامية" سماوية لا شك فيها، فقد سماهما باسم واحد، ولم يفرق بينهما بمعنى من المعاني.
فأما تقديمه الحرة، وقوله: (ابن الأمة لم يولد بالعدة) فذلك منه بالعصبية والميل، وفيما استشهدت به من قوارع التوراة على إسماعيل ما فيه كفاية وبرهان على أنه – أيضاً – ولد ليس بعده واحدة بل بعدات كثيرة.
الخاتمة:
ليست هذه البشارات التي أوردتها هي كل ما في التوراة والإنجيل، وليست – أيضاً – هي كل ما استطاع هؤلاء المهتدون استنباطه منهما، لأنهم أوردوا أمثالاً وصوراً منها للتدليل على نبوته صلى الله عليه وسلم ، ويؤكد ذلك قول المهتدي الترجمان: (ولو ذكرت جميع ما في كتب الأنبياء المتقدمين من ذلك –أي البشارات- لطال الكتاب، وأنا أرجو أن أجمع لبشارات جميع الأنبياء به كتاباً مجرداً لذلك). وقال المهتدي النجار بعد ذكره لعدد من البشارات: (وهذا قليل من كثير).
وقد استخلص المهتدي إبراهيم خليل خلاصة هذه البشارات بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوجد أنها تؤكد جانبين هما:
1. أنه الرسول الخاتم ولا نبي بعده.
2. أنه رسول الله للعالمين كافة. وأيد هذين الجانبين أو الوصفين بعشرين سبباً استخرجها من نصوص العهد القديم والجديد.
وقال المهتدي الطبري بعد فراغه من الاستدلال بالبشارات: (ولقد صرح عدة منهم – أي من أنبياء بني إسرائيل – باسم النبي صلى الله عليه وسلم ، ووصفوه أيضاً وسيافيه ورماته، وسير المنايا وسباع الطير أمام عساكره ... فهذه – أي البشارات – كلها محققة لدينه، ومفخمة لشأنه، ومصدقة لما أدت دعاته عنه).
هذه البشارات التي استعرضت جانبا منها تبين اتفاق كثير منها في ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم ، وصفته، وصفة جهاده وجنوده، وبلده وأمته ولغته ... فماذا يعني هذا التوافق والتعاضد ؟ إن هذا التعاضد يعني أموراً كثيرة لعل من أبرزها ما يلي:
1. أن هذه الرسالات كلها من عند الله، وهذه التحريف الذي طرأ عليها وأثبته القرآن، ولا ننفيه عنها – لم يستطع أن يخفي المعنى الذي ورد أصلا في اللفظ المنزل.
2. أن كتب الله ورسله يصدق بعضها بعضاً، ويؤمن بعضها ببعض، فالسابق يبشر باللاحق، واللاحق يؤمن بالسابق، فإبراهيم آمن بمن سبقه من رسل، وسأل الله أن يبعث في ذريته رسولاً يزكيهم يعلمهم الكتاب والحكمة، وموسى آمن بإبراهيم وبمن سبقه وبشر بعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وعيسى آمن بمن سبقه وبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
3. أن ما ورد من الحق فلا يخرج عن الصدق، ولا يناقض بعضه بعضاً، وأن ما ورد من الباطل فلا يكون حقاً أبداً.
4. يتأكد من هذه النبوات شيء واحد، وهو أن هذا النبي الذي بشرت به الأنبياء معروف لديهم كافة.
5. أن ظهور الرسالة المحمدية والملة الإسلامية على يد خاتم الرسل يعتبر آية لنبوتهم، إذ تحقق صدق ما أخبروا به، وظهور ما بشروا به، ولو لم يظهر لبطلت النبوات فيه وفي إسماعيل عليهما السلام.
6. توافق هذه النبوات في حق محمد صلى الله عليه وسلم يدل على فضيلته وانفراده بهذا الشرف الرفيع بين سائر الأنبياء صلوات عليهم وسلامه.
7. توافق هذه النصوص مؤيد لما أخبر به صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة من أنه مذكور في الكتب المتقدمة.
8. نستنتج من هذا التوافق عناية الله بهذه الأمة، ورعايته لها، وحفظه لدينها، فمن حفظه لدينها حفظ هذه الأدلة الدالة عليه والمبشرة – لا لحاجة هذا الدين إليها، وإنما لإقامة الحجة على أهلها.
9. أن البشر على عتوهم وتمردهم لوحي الشيطان في محاولة طمس نور الله وإضلال عباده – لا يستطيعون أن يطفئوا نور الله، يقول الحق تبارك وتعالى بعد ذكره بشارة المسيح عليه السلام بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم : (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون).
10. رأينا في البشارات السابقة كيف أثبت هؤلاء المهتدون اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفته في التوراة والإنجيل، ورأينا كذلك كيف استبدلت هذه الأسماء وغيرت الأوصاف في الطبعات الحديثة، كفراً وحسداً وحقداً.
================================
محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السماوية القرآن والسنة
الكاتب: عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
بتاريخ: 08/05/2005
المقدمة(11/250)
الحمد لله الذي كرّم الإنسان بالإيمان ، ومَيّزه بالعقل ، ولم يَجعله كسائر المخلوقات ، تعيش بلا هدف ، أو تعيش لغيرها ، بل جَعَله مُفكِّراً ، يَسمو بِفكره ، ويُعمِل عقله .
ومن هنا قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [الإسراء:70] .
هذا التكريم الرباني هو في الأصل للأصل ، أي لِجنس النوع الإنساني ، إلا أن الإنسان بِنفسه يسمو بالإيمان ، أو يَنحطّ بانعدامه .
وقد جَعَل الله له اختياراً ، وأعطاه عقلاً ، وأوضح له السَّبيل ، وأبَان له الطريق (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:2 ، 3] .
وقال رب العزة سبحانه عن هذا الإنسان : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) [البلد:8-10] .
ومِن عدل الله وحِكمته أن أرسل الرُّسُل ، وأنْزَل الكُتب ، وأقام البيّنات ، ونَصَب الأدلّة على وحدانيته .
فأيّد رُسُله بالمعجزات والآيات الباهرات ، فلم يَبْق أمام أعداء الرُّسُل – بل وأعداء العَقْل – إلا المكابَرة والمعانَدة .
فإن إنكار الوحدانية لله دَفْع بِالصَّدْر ، وضَرب بالوجْه .
فإن النفوس شاهدة بأن الله ليس له شريك .
بل الوجود أجمع شاهد بذلك .
وقد ضرب الله الأمثلة على ذلك ، فمن ذلك قوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء:22] أي لو كان في الأرض والسماء آلهة مُتعددة لَفَسَدتِ السماوات والأرض ، فالعقل والمنطق يقول : إما أن يتغلّب إله على إله على آخر ، فيكون الغالِب هو المتفرِّد ، وإما أن يَذهب كل إلهٍ بما له من مُلك ومكان وخَلْق ، وهنا يَفسد أمر السماوات والأرض ، ولذا قال رب العزة سبحانه : (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون:91]
ومِن هنا فإننا ندعو كل إنسان مُنصف عاقل أن يتأمل في هذا المعنى ، وأن يَعلم أن دعوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لم تَخرج عن دعوات الأنبياء السابقين ، بل هي مُنتظمة في سِلكهم ، سائرة في طريقهم ، مُقتفية آثارهم ، ومن هنا قال رب العزة سبحانه : (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:9] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أولى الناس بابن مريم ، والأنبياء أولاد علات ، ليس بيني وبينه نبي . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة . قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : الأنبياء إخوة من علات ، وأمهاتهم شتى ، ودينهم واحد ، فليس بيننا نبي .
ودعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، حينما قال : (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة:129] .
هي بِشارة نبي الله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
قال الله تبارك وتعالى : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الصف:6] .
ونحن إذ نَضع بين يدي القارئ هذا الموضوع لنرجو الله وندعوه أن يَفتح به أعيناً عُمياً ، وآذانا صُمّا ، وقلوباً غُلْفا.
ونضع بين يدي القارئ أعظم إنسان في العالم [ محمد صلى الله عليه وسلم ] لِيَقف بنفسه على بعض البشارات التي وَرَدتْ في الكُتب المتقدمة من كُتُب أهل الكتابات ، والتي كانت سببا في إسلام الكثيرين من أهل الكتاب .
كما نضع بين يديه إشارات إلى البشارات من خلال واقع مُعاصِريه صلى الله عليه وسلم ، سواء ممن آمن به أو ممن لم يؤمن به ، وإن كان أضمر ذلك في نفسه ، وأقرّ به في قرارة نفسه .
كما نُشير إلى طريقة القرآن في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وأشرنا إلى الأدلّة العقلية التي تقتضي صِدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وأن دعوته ليست بِدعاً من الدعوات ، وهو لم يُخالِف الرُّسل والأنبياء في أصل الدعوة إلى وحدانية الله وإفراده بالعبودية .(11/251)
بل هذا أمر اتّفقت عليه الرسالات ، وتتابع عليه الأنبياء ، وأقر به الموحِّدون على مرّ الأزمان ، حتى كان ذلك الإقرار في فترات خَلتْ من الرُّسُل ، كتلك الفترة التي سَبَقتْ مَبعثه صلى الله عليه وسلم ، فقد وُجِد فيها من أفراد الناس من يُوحِّد الله ، ولا يأكل ما ذُبِح لغير الله ، وكان هؤلاء يُنكرون عِبادة غير الله .
وقد آن أن نترك القارئ مع محاور هذا الموضوع ، وهي كالتالي :
1- أعظم إنسان في العالم في القرآن والسنه.
2- أعظم إنسان في العالم في كتب أهل الكتاب.
--------------------
( أعظم إنسان في العالم في القرآن والسنة )
محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة
لقد قرر الله في كتابه الْمُبِين نبوة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم بِطُرق كثيرة مُتنوّعة ، " يُعرَف بها كمال صِدقه صلى الله عليه وسلم ، فأخْبَر أنه صدَّق المرسلين ، ودَعا إلى ما دَعوا إليه ، وأن جميع المحاسن التي في الأنبياء فهي في محمد صلى الله عليه وسلم ، وما نُزِّهوا عنه من النواقص والعيوب فمحمدٌ أولاهم وأحقّهم بهذا التنْزِيه ، وأن شريعته مُهيمنة على جميع الشرائع ، وكتابه مُهيمن على كل الكُتُب ، فجميع محاسن الأديان والكُتُب قد جَمعها هذا الكتاب وهذا الدِّين ، وفَاق عليها بِمحاسِن وأوصاف لو تُوجَد في غيره ، وقرّره نبوته بأنه أميّ لا يَكتب ولا يَقرأ ، ولا جَالَس أحدا من أهل العلم بالكُتُب السابقة ، بل لم يُفجأ الناس حتى جاءهم بهذا الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما أتوا ، ولا قَدَروا ، ولا هُوَ في استطاعتهم ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، وأنه مُحال مع هذا أن يكون من تلقاء نفسه ، أو مُتقوّل ، أو متوهّم فيما جاء به . وأعاد في القرآن وأبدى في هذا النوع ، وقرّر ذلك بأنه يُخبِر بقصص الأنبياء السابقين مُطوّلة على الوجه الواقع الذي لا يستريب فيه أحد ، ثم يُخبر تعالى أنه ليس له طريق ولا وصول إلى هذا إلا بما آتاه الله من الوحي ، كمثل قوله تعالى لما ذَكَر قصة موسى مُطوّلة : (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ، (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ) ، وكما في قوله : (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ، ولما ذَكَر قصة يوسف وإخوته مُطوّلة قال : (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) .
فهذه الأمور والإخْبَارات المفصّلة التي يُفصِّلها تفصيلا لم يتمكّن أهل الكتاب الذين في وقته ولا من بعدهم على تكذيبه فيها ولا مُعارَضته – من أكبر الأدلة على أنه رسول الله حقّاً .
وتارة يُقرِّر نبوته بِكمال حكمة الله وتمام قُدرته ، وأن تأييده لرسوله ، ونَصْرِه على أعدائه ، وتمكينه في الأرض موافق غاية الموافقة لِحكمة الله ، وان مَن قَدَح في رسالته فقد قَدَح في حِكْمَة الله وفي قُدْرَته .
وكذلك نَصْره وتأييده الباهر على الأمم الذين هم أقوى أهل الأرض من آيات رسالته ، وأدلة توحيده ، كما هو ظاهر للمتأمّلين .
وتارة يُقرِّر نبوته ورسالته بما حازَه من أوصاف الكمال ، وما هو عليه من الأخلاق الجميلة ، وأن كل خُلُق عال سامٍ فَلِرَسول الله صلى الله عليه وسلم منه أعلاه وأكمله ؛ فَمَن عظُمت صِفته وفاقَتْ نُعُوته جميع الْخَلْق التي أعلاها الصِّدق . أليس هذا أكبر الأدلة على أنه رسول رب العالمين ، والمصطفى المختار من الْخَلْق أجمعين ؟
وتارة يُقرِّرها بما هو موجود في كُتُب الأولين ، وبشارات الأنبياء والمرسلين ، إما باسمه الْعَلَم ، أو بأوصافه الجليلة ، وأوصاف أمّته ، وأوصاف دِينه .
وتارة يُقرِّر رسالته بما أخبَر به من الغيوب الماضية ، والغيوب المستقبَلة ، التي وَقَعتْ في زمانه ، والتي لا تزال تَقَع في كل وقت ، فلولا الوحي ما وصل إليه شيء من هذا ، ولا له ولا لِغيره طريق إلى العلم به .
وتارة يُقرِّرها بِحفظه إياه ، وعِصمته له من الْخَلْق ، مع تكالب الأعداء وضغطهم ، وجدّهم التام في الإيقاع به بكل ما في وسعهم ، والله يَعصِمه ، ويمنعه ، وينصره ! وما ذاك إلا لأنه رسوله حقاً ، وأمِينه على وحيه .
وتارة يُقرِّر رسالته بِذِكْر عظمة ما جاء به ، وهو القرآن الذي ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) وتحدّى أعداءه ومَنْ كَفَر به أن يأتوا بمثله ، أو بِعشر سور مثله ، أو بِسورة واحدة ، فعجزوا ، ونكصوا ، وباؤوا بالخيبة والفَشَل ! وهذا القرآن أكبر أدلّة رسالته ، وأجلّها ، وأعمّها .(11/252)
وتارة يُقرِّر رسالته بما أظهر على يديه من المعجزات ، وما أجرى له من الخوارق والكرامات الدالّة – كل واحد بِمفرَدِه منها ، فكيف إذا اجتمعت – على أنه رسول الله الصادق المصدوق ، الذي لا يَنطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يُوحى .
وتارة يُقرِّرها بِعظيم شفقته على الْخَلْق ، وحُنوّه الكامل على أمّته ، وانه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وانه لم يُوجد ، ولن يُوجَد أحد من الْخَلْق أعظم شفقة وبِراً وإحساناً إلى الخلق منه ، وآثار ذلك ظاهرة للناظرين .
فهذه الأمور والطُّرُق قد أكثر الله من ذِكرها في كتابه ، وقرّرها بِعبارات مُتنوّعة ، ومعاني مفصّلة ، وأساليب عجيبة ، وأمثلتها تَفوق العد والإحصاء " [ بطوله من القاعدة السابعة من : " القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن " للشيخ السعدي رحمه الله ] .
فهذه الأمور التي قرّرها الشيخ وبسطها هي من ألأدلة العقلية المتّفقة مع الأدلة النقلية ، فالله تبارك وتعالى خاطَب العقول ، ولذا نَعى على العرب أنهم لا يُعمِلون عقولهم في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفيما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فمن ذلك :
قوله تعالى : ( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [الأعراف:169] .
وقوله تعالى : ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [يونس:16] .
وقوله سبحانه وتعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [يوسف:2] .
وقوله عز وجل : ( لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [الأنبياء:10] .
إلى غير ذلك من الآيات التي خاطَبتْ عقول الناس ، أفلا ترون إلى هذا النبي الذي أُرسل إليكم ، لم يكن قبل اليوم يتلو من كتاب ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) [العنكبوت:48] ؟
كما أن هذا النبي الذي أُرسِل إليكم لبِث فيكم سنين عددا قبل بعثته ، فأنتم تعرفون خُلُقَه ، وتعرفون أمانته ، وهو ذو نسب فيكم ، بل هو من أشرافكم .
هذا خطاب للعقول السليمة أن تتفكّر وتتأمّل قبل أن تُكذِّب هذا الرسول الذي يأتيهم بأنباء الغيب ، والتي لم يَجِدوا لها مَدْفَع ، إلا أن يُدفَع في الصَّدْر ، ويُقال عن الشمس في رابعة النهار ليس دونها غيم : هذا ليل !
فمن ذلك أنه أخبر بنبأ غَلَبة الرُّوم – النصارى – فيما بعد ، وذلك في أَمَدٍ قريب :
( غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) [الروم:2-6] .
وقد وَقَع هذا خلال الزمن الذي جاء به الوحي ، والذي حُدِّد بـ (بِضْعِ سِنِينَ) من الثلاث إلى التسع سنوات .
ودارت الأيام ، ودَالَتْ الرّوم على فارس ، وانتصرتْ الروم من بعد غَلَبِهم .
هذه آيات باهرات ، ومعجزات ظاهرات ، لم يستطيعوا دَفعها ولا ردّها في حقيقة الأمر ، وإنما ردّوها ظلما وعُلوّاً ، كما قال تعالى عن آل فرعون مع موسى عليه الصلاة والسلام : ( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) [النمل:13، 14] .
ثم يُذكّرهم مع جحودهم ، بأن هذا النبي لو كان كاذباً لم يُمكّن له في الأرض ، ولا نَصَره الله على أعدائه ، فقال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) [الحاقة:40-46] .
وهذه أدلة عقلية تُخاطِب العقول إن كانت تَعِي !
كيف يُمكِّن الله لمن كَذَب عليه ؟
وكيف يَنصر الله من زَعم أن الله أرسله ؟
( أي : لو كان كاذبا على الله لَقَصَمه ولم يُمكِّن له ولم يَنصره )(11/253)
فإن سُنّة الله أنه يأخذ الظالم أخذ عزيز مُقتَدر ، وأنه يُملي للظالِم فإذا أخذه لم يُفلِتْه والله لا يُحب الظالمين ، ولا يُحب الكاذِبين ، ولا يُصلِح أعمال المفسِدِين ، قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:81] .
وقد نصر الله نبيَّه مُحمدا صلى الله عليه وسلم ، وأظهر صدقه ، وأيّده على أعدائه ، ونَصَره عليهم ، حتى طأطأت أمامه رؤوس الجبابرة ، وخضعت له صناديد قريش ، وبَلَغتْ دعوته المشارق والمغارِب ، واعترف بِصدقه القريب والبعيد ، والعدو الْمُحارِب .
وقد صدّقه أهل الكتاب ، وعرفوه بصفاته المذكورة في كُتبهم .
روى البخاري من طريق عطاء بن يسار قال : لَقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة . قال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صِفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحِرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سَمّيتُك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سَخّاب في الأسواق ، ولا يَدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يُقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ، ويفتح بها أعينا عُميا ، وآذانا صُما ، وقلوبا غُلفا .
ومِن هنا فإننا نُخاطِب العقول التي تَعِي أن تتأمل في حياة ذلك الرجل العظيم ، الذي شهِد بنبوته كل مُنصِف من أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام الذي كان يَهوديا فأسلَم لما رأى وجه النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئتُ في الناس لأنظر إليه ، فلما استثبتّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أن وجهه ليس بوجه كذّاب . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
وهو الذي قال الله في شأنه : ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) ولذا ذهب غير واحد من المفسِّرين إلى أن المقصود بالآية هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه .
فهو قد شهد شهادة الحق ، وأخبر أن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة .
وقصة إسلامه في صحيح البخاري .
وشهِد كذلك هرقل ( رئيس النصارى في زمانه ) بصدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
فإنه لما جاء كتاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى هرقل – عظيم الرُّوم – لم يَقُل : هذه رسالة خاصة بالعرب ، ولا بالأعراب ، كما لم يَقُل : هذا غير صادق ، وإنما قال لأبي سفيان – وكان أبو سفيان آنذاك مُشرِكاً – : فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشّمتُ لقاءه ، ولو كُنْتُ عنده لَغَسَلْتُ عن قَدَمِه . رواه البخاري ومسلم .
وآمن به ملِك الحبشة ( النجاشي ) ، وقال عن القرآن – وقد سَمِع آيات من سورة مريم – فبكى حتى أخضل لحيته ، وبَكَتْ أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تُلْيَ عليهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . رواه الإمام أحمد .
كما شهِد بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم غير واحد من اليهود ، مع أنهم لم يُؤمِنوا به إلا أنهم اعترفوا أنه هو الذي ذُكِر ووُصِف في التوراة .
يهود يشهدون بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم
شهِدت اليهود بصدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الله عز وجل : ( وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ) .
وعن أنس رضي الله عنه قال : كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له : أسلم . فنظر إلى أبيه وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، فأسْلَمَ ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار . رواه البخاري
فهذا اليهودي أمر ابنه أن يُطيع أبا القاسم ، مما يدلّ على أنه يعلم في قرارة نفسه بصدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم .(11/254)
وحدّث سلمة بن سلامة بن وقش - وكان من أصحاب بدر - قال : كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال : فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير فوقف على مجلس عبد الأشهل . قال سلمة : وأنا يومئذ أحْدَث من فيه سِناً على بردة مضطجعا فيها بفناء أهلي فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار ، فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أنّ بعثاً كائن بعد الموت ، فقالوا له : ويحك يا فلان ترى هذا كائناً أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ، يُجزون فيها بأعمالهم ؟ قال : نعم ، والذي يحلف به لودّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه ، وأن ينجو من تلك النار غدا . قالوا له : ويحك وما آية ذلك ؟ قال : نبي يُبعث من نحو هذه البلاد ، وأشار بيده نحو مكة واليمن . قالوا : ومتى تراه ؟ قال : فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سناً ، فقال : إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه . قال سلمة : فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا ، فآمنا به وكفر به بغياً وحسداً ، فقلنا : ويلك يا فلان ! ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال : بلى ، وليس به !
وحدّثت صفية – رضي الله عنها – فقالت : كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه . قالت : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حُيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين ، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس ، فأتيا كالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا . قالت : فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الغمّ . قالت : وسمعت عمي أبا .
ياسر وهو يقول لأبي حُيي بن أخطب : أهو هو ؟ قال : نعم والله ! قال : أتعرفه وتثبته ؟ قال : نعم . قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله ! رواه ابن إسحاق في السيرة فيما ذكره ابن هشام .
ها هم اليهود يشهدون بنبوة سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك جحدوا بها
( فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ) .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : لو آمن بي عشرة من اليهود ، لآمن بي اليهود . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : لو تابعني عشرة من اليهود ، لم يبق على ظهرها يهودي إلا أسلم
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
التواضع والبَسَاطَة في حياة سيّد السّادة
لقد تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يدَع لمتواضِع قولاً ، ولم يترك لِمُتَكَبِّر حجة .
فهو عليه الصلاة والسلام المؤيّد بالوحي ، وهو خليل الرحمن ، وهو من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم عُرِج به إلى السماوات العُلى ، وهو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم ، بل هو أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك كان يتواضع لله فَرَفَعه الله عز وجل .
كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي السوق ، ويُمازحُ أصحابه ، وكان رجل من أهل البادية اسمه زاهر ، كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية ، فيجهزَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن زاهراً باديتنا ونحن حاضرته ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ، وكان رجلا دميما ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ، فقال له : من هذا ؟ أرسلني ، والتفت ، فعرف النبيَّ صلى الله عليه وسلم فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول : من يشتري مني هذا العبد ؟ وجعل هو يلصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول : إذا تجدني كاسداً ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لكنك عند الله لست بكاسد . رواه الإمام أحمد وغيره وهو حديث صحيح .
ويُمازِح أصحابه ، وينام معهم
روى الإمام مسلم عن المقداد رضي الله عنه قال : أقبلت أنا وصاحبان لي ، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الْجَهْد ، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس أحد منهم يقبلنا ، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : احتلبوا هذا اللبن بيننا .
قال : فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه ، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه .
قال : فيجيء من الليل فيسلم تسليما لا يُوقظ نائما ويُسمع اليقظان .(11/255)
قال : ثم يأتي المسجد فيُصلي ، ثم يأتي شرابه فيشرب ، فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي ، فقال : محمد يأتي الأنصار فيتحفونه ، ويصيب عندهم ما به حاجة إلى هذه الجرعة ! فأتيتها فشربتها فلما أن وَغلت في بطني وعلمت أنه ليس إليها سبيل ، ندمني الشيطان ! فقال : ويحك ما صنعت ؟ أشربت شراب محمد ؟ فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك ، فتذهب دنياك وأخرتك ، وعَلَيّ شملة إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي ، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي ، وجعل لا يجيئني النوم ، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت .
قال : فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلّم كما كان يسلم ، ثم أتى المسجد فصلى ، ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئا ، فرفع رأسه إلى السماء ، فقلت : الآن يدعو عَلَيّ فأهلك ، فقال : اللهم أطعم من أطعمني وأسق من أسقاني .
قال : فعمدت إلى الشملة فشددتها عليّ ، وأخذت الشفرة فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هي حافلة وإذا هن حُفل كلهن ، فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه ، قال : فحلبت فيه حتى عَلَته رغوة ، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أشربتم شرابكم الليلة ؟
قال : قلت : يا رسول الله اشرب ، فشرِب ، ثم ناولني فقلت: يا رسول الله اشرب ، فشرِب ، ثم ناولني فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روى وأصبت دعوته ضَحِكْتُ حتى ألقيت إلى الأرض .
قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إحدى سوآتك يا مقداد !
فقلت : يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا ، وفعلت كذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما هذه إلا رحمة من الله ، أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها ؟
قال : فقلت : والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من الناس .
فأي تواضع تكتنفه عَظَمة هذا النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ؟
يُغضي حياءً ويُغضى من مَهَابتِه *** فلا يُكلّم إلا حين يبتسمُ
النبي صلى الله عليه وسلم يبيت مع أصحابه وهو قائد الأمة ، بل ويقتسمون اللبن بينهم بالسّوية !
واليوم نرى من ينتسب إلى العلم أو إلى المناصب الدنيوية لا يُكلِّمون الناس إلا من أطراف أنوفهم!
وربما لا يردّون السلام خشية أن تذهب الهيبة !
نبي الله يُسابِق أصحابه رضي الله عنهم
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابَقَ بين الخيل التي أُضمرت من الحفياء ، وأمدها ثنية الوداع ، وسابَقَ بين الخيل التي لم تُضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق .
وروى البخاري عن أنس قال : كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تُسمى العضباء وكانت لا تسبق ، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها ، فاشتدّ ذلك على المسلمين ، وقالوا : سُبِقَت العضباء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه .
سيّد ولد آدم يُدخل السرور على أهله ، فيُسابِق زوجته
قالت عائشة رضي الله عنها : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا خفيفة اللحم فنزلنا منزلا ، فقال لأصحابه : تقدموا ، ثم قال لي : تعالي حتى أسابقك ، فسابقني فسبقته ، ثم خرجت معه في سفر آخر ، وقد حملت اللحم ، فنزلنا منزلا ، فقال لأصحابه : تقدموا ، ثم قال لي : تعالي أسابقك ، فسابقني فسبقني ، فضرب بيده كتفي وقال : هذه بتلك . رواه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى ، وغيرهم ، وهو حديث صحيح .
نبي الله صلى الله عليه وسلم يُجيب الدعوة ولو كانت على يسير الطعام
روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ له , فَأَكَلَ مِنْهُ , ثُمَّ قَالَ : قُومُوا فَلأُصَلِّ لَكُمْ .
قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ , فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ , فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ , وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا . فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ انْصَرَفَ .
ويُجيب الدعوة ولو كانت من رجل فقير
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه . قال أنس : فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام ، فقرّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزا ومرقا فيه دباء وقديد ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة .
وعند الإمام أحمد : أن خياطا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام فأتاه بطعام وقد جعله بإهالة سنخة وقرع .
والإهالة : ما أذيب من الشحم ، وقيل : الإهالة الشحم والزيت ، وقيل كل دُهنٍ أُوتُدِمَ به . ذكره العيني .
والسَّنِخَة : أي المتغيرة الرِّيح . قاله ابن حجر .(11/256)
بل يُجيب الدعوة ولو كانت من يهودي أو يهودية !
فقد أجاب صلى الله عليه وسلم دعوة امرأة يهودية حينما دعته إلى الطعام .
روى الشيخان عن أنس أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك ، فقالت : أردت لأقتلك . قال : ما كان الله ليسلِّطك على ذاك.
وقال مُؤكِّدا على هذا المعنى :
لو دُعيت إلى ذراع أو كراع لأجبتُ ، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقَبِلْتُ . رواه البخاري .
سيد ولد آدم يجلس بين أصحابه فيأتي الرجل الغريب فلا يُميِّزه من بينهم حتى يسأل عنه !
فعن أبي هريرة قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه جاءهم رجل من أهل البادية فقال : أيكم ابن عبد المطلب ؟
قالوا : هذا الأمغر المرتفق .
قال حمزة – أحد رواة الحديث – : الأمغر الأبيض المشرب حمرة .
قال : إني سائلك فَمُشْتدّ عليك في المسألة .
قال : سل عمّا بدا لك .
قال : أنشدك بربِّ من قبلك ورب من بعدك آلله أرسلك ؟
قال : اللهم نعم .
قال : وأنشدك به آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات في كل يوم وليلة ؟
قال : اللهم نعم .
قال : وأنشدك به آلله أمرك أن تأخذ من أموال الأغنياء فتردّه على فقرائنا ؟
قال : اللهم نعم .
قال : وأنشدك به آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من اثني عشر شهرا ؟
قال : اللهم نعم .
قال : وأنشدك به آلله أمرك أن نَحُجّ هذا البيت من استطاع إليه سبيلا ؟
قال : اللهم نعم .
قال : فإني آمنت وصدّقت ، وأنا ضمام بن ثعلبة . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .
وعن أبي جري جابر بن سليم قال : رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئا إلا صدَرُوا عنه .
قلت : من هذا ؟
قالوا : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قلت : عليك السلام يا رسول الله مرتين .
قال : لا تقل عليك السلام ، فإن عليك السلام تحية الميت قل : السلام عليك .
قال : قلت : أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرّ فدعوته كشفه عنك ، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك ، وإذا كنت بأرض قفراء أو فلاة فَضَلّت راحلتك فدعوته ردّها عليك .
قلت : اعهد إليّ .
قال : لا تسبن أحدا .
قال : فما سببت بعده حُرّا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة .
قال : ولا تحقرن شيئا من المعروف ، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف ، وارفع إزارك إلى نصف الساق ، فإن أبيت فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة ، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه ، فإنما وبال ذلك عليه . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
من أجل ذلك لجأ أصحابه إلى تمييزه
فعن أبي ذر وأبي هريرة قالا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل ، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يَعرفه الغريب إذا أتاه . قال : فبنينا له دُكاناً من طين فجلس عليه ، وكنا نجلس بجنبتيه . رواه أبو داود والنسائي .
قال ابن الأثير : الدكان الدَّكة المبنية للجلوس عليها .
نبي الله صلى الله عليه وسلم يستمع لامرأة في عقلها شيء .
روى الإمام مسلم عن أنس أن امرأة كان في عقلها شيء ، فقالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة ، فقال : يا أم فلان ! انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك ، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها .
اسْتَمَعَ صلى الله عليه وسلم إلى ما تريد أن تقوله فلم يضع ذلك من قدره بل رفع الله منزلته صلى الله عليه وسلم.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهم حوائجهم
فعن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر الذكر ، ويُقلّ اللغو ، ويُطيل الصلاة ويقصر الخطبة ، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له حاجته . رواه النسائي .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في بستان ويُدلِّي رجليه مع أرجلهم في البئر
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط بالمدينة على قُفّ البئر مُدلِّياً رجليه ، فَدَقّ الباب أبو بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى : ائذن له وبشِّره بالجنة ، ففعل فدخل أبو بكر فَدَلَّى رجليه ، ثم دقّ الباب عمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائذن له وبشِّره بالجنة ، ففعل ، ثم دقّ عثمان الباب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائذن له وبشِّره بالجنة ، وسيلقى بلاء . رواه الإمام أحمد .
ارتعد منه رجل فقال له : هوِّن عليك ! فإني لست بملك إنما أنا بن امرأة تأكل القديد !
طأطأت أمامه رقاب أعدائه ، فطأطأ رأسه تواضعاً لله
دَخَل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً مُتواضعاً حتى إن ذقنه ليمس رَحْلَه .
كان عليه الصلاة والسلام يركب الحمار، ويُجيب دعوة المملوك، ويأكل على الأرض، ويعتقِل الشاة.(11/257)
وكان يُردِف بعض أصحابه خَلْفَه
فقد أردف ابن عمِّه ابن عباس رضي الله عنهما
وأردف معاذ بن جبل رضي الله عنه
وهذا لا يفعله أرباب المناصب ولا أصحاب الأموال !
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه ، ويخصف نعله
كان في بيته يكون في مهنة أهله ، يعني في خدمتهم
سُئلت عائشة رضي الله عنها : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة
وقيل لعائشة رضي الله عنها : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كما يصنع أحدكم : يخصف نعله ، ويرقع ثوبه . رواه الإمام أحمد .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير حتى أثّر في جنبه
قال عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء ، وتحت رأسه وسادة من أدَم حشوها ليف ، وإن عند رجليه قرظا مصبوبا ، وعند رأسه أُهُب معلقة ، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت ، فقال : ما يبكيك ؟ فقلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت رسول الله ! فقال : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ رواه البخاري ومسلم .
وسجد على الأرض من غير حائل بينه وبينها ، حتى سجد في ماء وطين من أثر المطر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ، وقد أُرِيت هذه الليلة ثم أنسيتها ، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر ، فمطرت السماء تلك الليلة ، وكان المسجد على عريش فَوَكَف المسجد فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين . رواه البخاري ومسلم .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّل الصبيان ويُلاعبهم
وكان يَمُرّ بهم فيُسلِّم عليهم
لو شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسير معه الجبال ذهبا لكان ، ذلك أنه خُيِّر بين أن يكون عبداً نبياً وبين أن يكون نبيّاً ملِكاً ، فاختار أن يكون نبيّاً عبدا .
قال المسيح عليه الصلاة والسلام : طوبى للمتواضعين في الدنيا ، هم أصحاب المنابر يوم القيامة . طوبى للمُصلِحين بين الناس في الدنيا ، هم الذين يرثون الفردوس يوم القيامة
===========================
محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل عليهم السلام
من موقع الإسلام سؤال وجواب:
السؤال:
أعتقد موقنا بأن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل عليهم السلام . فهل ورد في القرآن أو السنة ما يؤيد ذلك ؟ لقد ورد في آية قوله تعالى " لا نفرق بين أحد من رسله ..." وشكرا لك.
الجواب:
الحمد لله
أولا : قول الله تعالى : ( لا نُفَرِّق بَيْن أحدٍ من رُسُلِه ) البقرة/285 ، قال ابن كثير في تفسيرها :
المؤمنون يصدِّقون بجميع الأنبياء والرسل ، والكتب المُنَزَّلة من السماء ، على عباد الله المرسلين والأنبياء لا يُفَرِّقون بين أحدٍ منهم ، فَيُؤْمِنُون بِبَعْضٍ ويَكْفُرون ببعض ، بل الجميع عندهم صادقون بَارُّون راشدون مَهْدِيُّون هادون إلى سبيل الخير ، وإنْ كان بعضهم يَنْسَخ شريعة بعض ، حتى نُسِخَ الجميع بشرع محمدٍ خَاتَم الأنبياء والمرسَلِين ، الذي تَقُومُ الساعة على شريعَتِهِ . تفسير ابن كثير1/736
أما تفاضل الأنبياء بعضهم على بعض فإن الله عز وجل أخبرنا بذلك فقال : ( تِلْكَ الرُّسل فضَّلنا بعضهم على بعضٍ منهم من كَلَّم الله ورَفَعَ بعضهم دَرَجَاتٍ ) البقرة/253 ، فأخبرنا الله أن بعضهم فوق بعض درجات ولذلك كان المصطفى من الرسل هم ألو العزم قال تعالى : ( وإذ أخذنا من النَّبيينَ ميثاقَهُمْ ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً ) الأحزاب/7 .
ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم ويَدَلُّ لذلك أنه إمامهم ليلة المعراج ، ولا يقدم إلا الأفضل ومما يدل على أنه أفضلهم ما جاء عن أَبُي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ " رواه مسلم ( الفضائل/4223)(11/258)
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم يَوْم الْقِيَامَة , وَأَوَّل مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْر , وَأَوَّل شَافِع وَأَوَّل مُشَفَّع ) قَالَ الْهَرَوِيُّ : السَّيِّد هُوَ الَّذِي يَفُوقُ قَوْمه فِي الْخَيْر , وَقَالَ غَيْره : هُوَ الَّذِي يُفْزَعُ إِلَيْهِ فِي النَّوَائِب وَالشَّدَائِد , فَيَقُومُ بِأَمْرِهِمْ , وَيَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ مَكَارِههمْ , وَيَدْفَعُهَا عَنْهُمْ . وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَوْم الْقِيَامَة ) مَعَ أَنَّهُ سَيِّدهمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة , فَسَبَبُ التَّقْيِيد أَنَّ فِي يَوْم الْقِيَامَة يَظْهَرُ سُؤْدُده لِكُلِّ أَحَدٍ , وَلا يَبْقَى مُنَازِع , وَلا مُعَانِد , وَنَحْوه , بِخِلافِ الدُّنْيَا فَقَدْ نَازَعَهُ ذَلِكَ فِيهَا مُلُوكُ الْكُفَّار وَزُعَمَاء الْمُشْرِكِينَ . قَالَ الْعُلَمَاء : وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم ) لَمْ يَقُلْهُ فَخْرًا , بَلْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْفَخْر فِي غَيْر مُسْلِم فِي الْحَدِيث الْمَشْهُور : ( أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم وَلا فَخْرَ ) وَإِنَّمَا قَالَهُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا اِمْتِثَال قَوْله تَعَالَى : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ ) وَالثَّانِي أَنَّهُ مِنْ الْبَيَان الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغه إِلَى أُمَّته لِيَعْرِفُوهُ , وَيَعْتَقِدُوهُ , وَيَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ , وَيُوَقِّرُوهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا تَقْتَضِي مَرْتَبَتُهُ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّه تَعَالَى . وَهَذَا الْحَدِيث دَلِيل لِتَفْضِيلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ ; لأَنَّ مَذْهَب أَهْل السُّنَّة أَنَّ الآدَمِيِّينَ أي أهل الطاعة والتقى أفضل مِنْ الْمَلائِكَة , وَهُوَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَل الآدَمِيِّينَ وَغَيْرهمْ . وَأَمَّا الْحَدِيث الآخَر : " لا تُفَضِّلُوا بَيْن الأَنْبِيَاء " فَجَوَابه مِنْ خَمْسَة أَوْجُه : أَحَدهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ قَبْل أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّد وَلَد آدَم , فَلَمَّا عَلِمَ أَخْبَرَ بِهِ . وَالثَّانِي قَالَهُ أَدَبًا وَتَوَاضُعًا . وَالثَّالِث أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى تَنْقِيص الْمَفْضُول . وَالرَّابِع إِنَّمَا نَهْيٌ عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَة وَالْفِتْنَة كَمَا هُوَ الْمَشْهُور فِي سَبَب الْحَدِيث . وَالْخَامِس أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالتَّفْضِيلِ فِي نَفْس النُّبُوَّة , فَلا تَفَاضُلَ فِيهَا , وَإِنَّمَا التَّفَاضُل بِالْخَصَائِصِ وَفَضَائِل أُخْرَى وَلا بُدَّ مِنْ اِعْتِقَادِ التَّفْضِيل , فَقَدْ قَالَ اللَّه تَعَالَى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) وَاَللَّه أَعْلَم .أهـ
وخصائص النبي صلى الله عليه وسلم التي تؤكد أفضليته على باقي الرسل كثيرة نذكر بعضا منها مما جاء في الكتاب والسنة :
أن الله عز وجل خصَّ القرآن الكريم المُنَزَّل عليه بالحفظ دون غيره من الكتب ، قال تعالى : ( إنّا نحن نزَّلنا الذِّكر وإنّا له لحافظون ) الحجر/9 ، أما الكتب الأخرى فقد وَكَلَ الله أمْرَ حفظها إلى أهلها قال تعالى : ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يَحْكُم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربَّانِيُّون والأحبار بما اسْتُحْفِظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ) المائدة/44 .
أنه خاتم الأنبياء والمرسلين قال تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) الأحزاب/40 .
اختصاصه بأنه أرسل إلى الناس عامة قال تعالى : ( تَبَارَكَ الذي نَزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ) الفرقان/1 .
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم في الأخرة :
أنه صاحب المقام المحمود يوم القيامة قال تعالى : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يَبْعَثَكَ ربك مقاماً محموداً ) الإسراء/79 ، قال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل : ذلك المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم للشفاعة يوم القيامة للناس ، لِيُرِيحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم . تفسير ابن كثير5/103
أنه سيد الخلق يوم القيامة ، وتقدم ذكر الحديث فيه .(11/259)
أنه أول من يَجُوزُ الصِّراط بأمته يوم القيامة أخرج البخاري في ذلك حديث أبي هريرة الطويل ، وفيه ….." فأكون أول من يَجُوزُ من الرسل بأمته " (الأذان/764) . ومن الأدلة الواضحة على أنه أفضل الأنبياء أنهم كلهم لا يشفعون ، ويحيل الواحد منهم الناس على الآخر ، حتى يحيلهم عيسى على محمد صلى الله عليه وسلم ، فيقول : أنا ، ثمَّ يتقدم فيشفع للجميع ، فيحمده على ذلك الأولون والآخرون ، والأنبياء وسائر الخلق .
وخصائصه عليه الصلاة والسلام التي وردت الآيات والأحاديث الصحيحة أكثر من أن نذكرها في مقام مُوجَز ، فقد أُلِّفَتْ فيها الكتب .
انظر كتاب خصائص المصطفى صلى الله عيه وسلم بين الغلو والجفاء للصادق بن محمد 33-79
والخلاصة : أننا نفضل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم عن سائر الأنبياء والناس ، للأدلة الواردة في ذلك ، مع حفظنا لحقوق جميع الأنبياء والمرسلين والإيمان بهم وتوقيرهم . والله تعالى أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
الشيخ محمد صالح المنجد (www.islam-qa.com)
مدخل لفهم السيرة
د. يحيى إبراهيم اليحيى
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن استن بسنته واهتدى بهديه واقتفى أثره وسار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصورة العملية التطبيقية لهذا الدين، ويمتنع أن تعرف دين الإسلام ويصح لك إسلامك بدون معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف كان هديه وعمله وأمره ونهيه.
لقد سالم وحارب، وأقام وسافر، وباع واشترى، وأخذ وأعطى، وما عاش صلى الله عليه وسلم وحده، ولا غاب عن الناس يوماً واحداً، ولا سافر وحده.
وقد لاقى أنواع الأذى، وقاسى أشد أنواع الظلم، وكانت العاقبة والنصر له.
بعث على فترة من الرسل، وضلال من البشر، وانحراف في الفطر، وواجه ركاماً هائلاً من الضلال والانحراف والبعد عن الله، والإغراق في الوثنية. فاستطاع بعون الله أن يخرجهم من الظلام إلى النور ومن الضلال إلى الهدى ومن الشقاء إلى السعادة. فأحبوه وفدوه بأنفسهم وأهليهم وأموالهم، واقتدوا به في كل صغيرة وكبيرة وجعلوه نبراسًا لهم يستضيئون بنوره ويهتدون بهديه فأصبحوا أئمة الهدى وقادة البشرية.
هل تطلبون من المختار معجزة ... يكفيه شعب من الأجداث أحياه
من وحد العُرْب حتى كان واترهم ... إذا رأى ولد الموتور آخاه
وما أصيب المسلمون إلا بسبب الإخلال بجانب الاقتداء به صلى الله عليه وسلّم، والأخذ بهديه، واتباع سنته، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
حتى اكتفى بعض المسلمين من سيرته صلى الله عليه وسلّم بقراءتها في المنتديات والاحتفالات ولا يتجاوز ذلك إلى موضع الاهتداء والتطبيق.... وبعضهم بقراءتها للبركة أو للاطلاع على أحداثها ووقائعها أو حفظ غزواته وأيامه وبعوثه وسراياه.
وهذا راجع إما لجهل بأصل مبدأ الاتباع والاهتداء والاقتداء وعدم الإدراك بأن هذا من لوازم المحبة له صلى الله عليه وسلم، وإما لعدم إدراك مواضع الاقتداء من سيرته صلى الله عليه وسلم نظراً لضعف الملكة في الاستنباط أو لقلة العلم والاطلاع على كتب أهل العلم.
وهنا تأتي أهمية استخراج الدروس واستنباط الفوائد والعظات واستخلاص العبر من سيرته صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت عامة التآليف في السيرة في جمع الروايات ما بين مطيل ومختصر وناظم وناثر لها ومفصل ومجمل.
رأيت أن أجمع مختصراً في السيرة معتمداً على صحيح الروايات إلا رواية لم يبن عليها مسألة في العقيدة أو حكم شرعي فإني قد تساهلت في ذلك، مستنبطاً منها الدروس والعبر والفوائد والعظات، على هيئة سلسلة تحت عنوان (دروس وعبر من سيرة خير البشر) تصدر تباعاً إن شاء الله تعالى.
وهذا هو الكتاب الأول (مدخل لفهم السيرة)، وهو مهمّ لكل من أراد دراسة السيرة النبوية الشريفة، ليدرك من خلاله معاني السيرة وخصائصها وميزاتها، وحالة البشرية قبل البعثة من الضلال والانحراف، وعجزها عن إدراك مصالحها إلا برحمة الله لها بأن أرسل إليها رسولاً يخرجها من الظلمات إلى النور.
وبإدراكه حجم الانحراف الذي وصلت إليه البشرية يعرف ذلك الجهد الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم لإخراج الناس من ذلك التيه الذي عاشوا فيه قروناً طويلةً حتى استمرؤوا الذل والهوان، ولم يعودوا يفكرون في الخلاص ونبذ ذلك الركام الذي غطى على قلوبهم وطمس فطرهم.
ما هي السيرة؟
السَير الذهاب والاسم منه السِيرة، والسِيرة الضرب من السَير، والسِيرة السنة، والسِيرة الطريقة. يقال: سار بهم سِيرة حسنة، والسِيرة: الهيئة، وفي التنزيل: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُوْلَى} (طه: 21)، وسَيَّر سِيرة: حدَّث أحاديث الأوائل [1].(11/260)
السيرة قسم من الحديث النبوي باعتبارين: الأول: نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المشرع، الثاني: روايتها بالأسانيد، ولهذا أفرد علماء الحديث كتباً وأبواباً في مصنفاتهم في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه، وشمائله ودلائل نبوته.
والسيرة جزء من التاريخ باعتبار أحداثها ووقائعها إذ التاريخ هو: تعريف الوقت مطلقاً، يقال: أرخت الكتاب تأريخاً وورخته توريخاً.
قال في مفتاح السعادة: «موضوعه: أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء، والأولياء، والعلماء، والحكماء، والشعراء، والملوك والسلاطين وغيرهم» [2].
الغرض من دراسة السيرة:
® إن السيرة النبوية لا تدرس من أجل المتعة في التنقل بين أحداثها أو قصصها، ولا من أجل المعرفة التاريخية لحقبة زمنية من التاريخ مضت، ولا محبة وعشقاً في دراسة سير العظماء والأبطال، ذلك النوع من الدراسة السطحية إن أصبح مقصداً لغير المسلم من دراسة السيرة، فإن للمسلم مقاصد شتى من دراستها، ومنها:
أولاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو محل القدوة والأسوة، وهو المشرع الواجب طاعته واتباعه قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجٌو اللهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21)، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور: 54)، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله} (النساء: 80)، وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} (آل عمران: 31).
فهو التجسيد العملي والصورة التطيبقية للإسلام، وبدونها لا نعرف كيف نطيع الله تعالى ونعبده.
® فسيرته صلى الله عليه وسلم يستقي منها الدعاة أساليب الدعوة ومراحلها، ويتعرفون على ذلك الجهد الكبير الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وكيف التصرف أمام العقبات والصعوبات والموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن.
® ويستقي منها المربُّون طرق التربية ووسائلها.
® ويستقي منها القادة نظام القيادة ومنهجها.
® ويستقي منها الزهَّاد معنى الزهد ومقاصده.
® ويستقي منها التجَّار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها.
® ويستقي منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات وتقوى عزائمهم على السير على منهجه والثقة التامة بالله عز وجل بأن العاقبة للمتقين.
® ويستقي منها العلماء ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى، ويحصلون فيها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وغيرها وغيرها من المعارف والعلوم.
® وتستقي منها الأمة جميعاً الآداب والأخلاق والشمائل الحميدة.
ولهذا قال ابن كثير: «وهذا الفن مما ينبغي الاعتناء به، والاعتبار بأمره، والتهيؤ له، كما رواه محمد بن عمر الواقدي عن عبد الله بن عمر بن علي عن أبيه سمعت علي بن الحسين يقول: كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن. قال الواقدي: وسمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت عمي الزهري يقول: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا» [3].
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: «كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعدها علينا، ويقول: هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها» [4].
وقال علي بن الحسين: «كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن» [5].
® لقد خلف التاريخ عظماء وملوكاً وقُوَّاداً، وشعراء، وفلاسفة، فمن منهم ترك سيرة وأسوة يؤتسى بها في العالمين؟ لقد طوى التاريخ ذكرهم فلم يبق منه شيء وإن بقيت بعض أسمائهم.
® لقد أصبحت سير كثير من العظماء أضحوكة للبشر على مدار التاريخ كله.
فأين نمرود الذي قال لإبراهيم: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}؟! (البقرة: 258) وأين مقالة فرعون وشأنه الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: 24)، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}؟! (القصص: 38).
إن هؤلاء العظماء في زمانهم يسخر منهم اليوم الصغير والكبير والعالم والجاهل، فإن كانوا دلسوا على أقوامهم في زمنهم واستخفوا بهم فأطاعوهم؛ فقد افتضح أمرهم بعد هلاكهم، وأصبحوا محل السخرية على مدار الزمان.
® إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بإخراج الناس من ظلمات الشرك والأخلاق وفساد العبادة والعمل إلى نور التوحيد والإيمان والعمل الصالح: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} (الأحزاب:45-46) [6].
ثانياً: ندرس السيرة ليزداد إيماننا ويقيننا بصدقه، فالوقوف على معجزاته ودلائل نبوته مما يزيد في الإيمان واليقين في صدقه صلى الله عليه وسلم، فدراسة سيرته العطرة وما سطرته كتب السيرة من مواقف عظيمة، وحياة كاملة كريمة، تدل على كماله ورفعته وصدقه.(11/261)
ثالثاً: ولينغرس في قلوبنا حبه، فما حملته سيرته من أخلاق فاضلة، ومعاملة كريمة، وحرصه العظيم على هداية الناس وصلاحهم وجلب الخير لهم، وبذل نفسه وماله في سبيل إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة، وما كان من حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته في إبعادها عما يشق عليها ويعنتها، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْماً فَقَالَ: لَقَدْ صَنَعْتُ الْيَوْمَ شَيْئاً وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ، دَخَلْتُ الْبَيْتَ فَأَخْشَى أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أُفُقٍ مِنَ الآفَاقِ فَلا يَسْتَطِيعُ دُخُولَهُ فَيَرْجِعُ وَفِي نَفْسِهِ مِنْهُ شَيْءٌ»( [7]).
ولا أعظم من وصف الله جلَّ وعلا له في قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الأحزاب: 128)، وقال سبحانه وتعالى واصفاً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)، وأنه لم ينتقم لنفسه قط، ولا فرح أو حزن، أو ضحك أو غضب من أجل نفسه ومصالحه الشخصية قط، أو انتصر لنفسه مرة واحدة، بل كل ذلك كان من أجل الله تعالى.
رابعاً: لنعبد الله تعالى بذكره والصلاة والسلام عليه قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:56)، وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» [8].
ميزات السيرة النبوية وخصائصها:
أولاً: أنها معلومة ومسجلة ولم يخف منها شيء، فما ترك علماء الإسلام على مر التاريخ باباً من أبواب السيرة إلا وقد ألفوا فيه مؤلفاً مستقلاً، شمل ذلك دقائقها وجزئياتها حتى أصبح المسلم عند قراءته لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يعايشه ويشاهده تماماً لوضوحها وشمولها.
وسيأتي بيان ذلك في الحديث عن مصادر السيرة النبوية، ويكفي أن تعلم أن عدد ما ألف في السيرة النبوية في اللغة الأوردية -وهي لغة حديثة- ما يزيد على ألف كتاب، وعدد ما ألف في اللغات الأوربية في القرن نفسه ما يزيد على ألف وثلاثمائة كتاب، هذا في القرن الثالث عشر [9].
ثانياً: ما تميزت به من الصدق والأمانة في نقلها، فقد حظيت ضمن ما حظيه الحديث من التمحيص والتحقيق والمقارنة والتثبت من النقلة ومعرفة الصحيح منها من الضعيف، فأصبحت أصح سيرة نقلت إلينا عن نبي أو عظيم.
ثالثاً: أن رسالته صلى الله عليه وسلم عامة لجميع الخلق مع خلودها.
فسيرته قدوة وأسوة لكل البشر قد ساوت بين الملوك والسوقة، سيرة ينتفع بها صغار الناس وكبارهم، فهم في دين الله سواء قد رفع من شأن الجميع.
ولا شك أنه ما من خير وصلاح وسعادة في الدنيا والآخرة إلا وهو مستقى منها، وما من شر وفساد وشقاء وظلم وجور إلا بسبب الجهل بها والبعد عن الاقتداء بسيرة صاحبها صلى الله عليه وسلم.
لقد أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو بعد في مكة ومحاصر فيها- قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)، فهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة للبشرية جميعاً، رحمة لهم ومنقذهم من الشقاء والضلال والظلم والفساد والضياع والانحطاط، إلى السعادة والهداية والعدل والصلاح والرفعة والعلو والكرامة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (سبأ:28)، وقال جل وعلا: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً» [10].
® إن الإنسانية كلها تتطلع إلى مثل أعلى تقتدي به، ولن تجد سيرة -لعظيم أو نبي- معلومة كاملة شاملة غير سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
® إن أي دين لا يقوم على ركيزتين: حقوق الله، وحقوق البشر لا يمكن أن ينقذ البشرية ويقودها إلى الصلاح والنجاة والسعادة والكمال.
والديانات الآن على قسمين: منها ما ليس فيه ذكر لله البتة مثل البوذية والديانات الصينية، ومنها من تؤمن بوجود الله تعالى، لكن لا يعرف الإنسان فيها كيف يعتقد بربه؟ وبأي صفة يصفه؟ وبأي شكل تتجلى العقيدة في الله عز وجل؟
أما حقوق البشر فابحث في جميع الأديان هل تجد تفصيلاً للحياة الأسرية والعلاقات الاجتماعية، فضلاً عن الحياة السياسية والعلاقات الدولية، والشئون الاقتصادية، تفحص في سير جميع الأنبياء والعظماء هل تجد إجابة على هاتين الركيزتين، ومن المؤكد أنك لن تصل إلى نتيجة إلا في دين الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.(11/262)
اسأل البوذيين ماذا يعرفون عن بوذا وما أخلاقه؟ وما علاقاته مع أسرته فقط؟ فلن تجد جواباً.
واسأل النصارى عن عيسى عليه السلام، ماذا يعرفون عنه قبل النبوة؟ والتي يحددونها بثلاثين عاماً وبعد النبوة ثلاثة أعوام، وكيف العلاقة بينه وبين أمه، أو بينه وبين ربه الذي يزعمون بنوته له؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، فلن تجد عند جميع هؤلاء أي جواب، بل ستجد الدهشة بادية على وجوه جميع من تسأله من عالم [11].
رابعاً: كمالها بلا عيب أو نقص أو ضعف أو خلل، قلِّب بصرك وعقلك في ثنايا السيرة النبوية الشريفة هل ثمت شيء تنتقده، أو عيب تجده.
® إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقض وقته بين أحبابه وأصحابه، بل قضى أغلب عمره بين ألد أعدائه وهم المشركون، وفي آخر عمره كان يجاوره اليهود والمنافقون، فلم يستطيعوا أن يرموه بنقيصة في أخلاقه وشمائله وصدقه، على الرغم من حرصهم الشديد بالبحث والتنقيب عنها، فقد رماه أهل مكة بالألقاب السيئة وعيَّروه بالأسماء القبيحة، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يقدحوا في شيء من أخلاقه، أو يدنسوا عرضه الطاهر رغم إنفاقهم أموالهم وإزهاقهم أرواحهم في عدائه، قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام:33).
وقد أخرج البخاري عن ابن عباس في صعود النبي صلى الله عليه وسلم الصفا لتبليغ الناس حيث قال: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقاً» [12].
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «إن أول يوم عرفت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل: «يا أبا الحكم هلمَّ إلى الله ورسوله، إني أدعوك إلى الله» فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلغت؟ فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق ما تبعتك! فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عليَّ فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، قالوا: فينا الندوة، قلنا: نعم، قالوا: فينا اللواء، قلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، ثم أطعموا، وأطعمنا، حتى إذا تحاكّت الرُّكَب قالوا: منا نبي! فلا والله لا أفعل» [13].
وقصة الوليد بن المغيرة لما اجتمعت قريش في الموسم للاتفاق على كلمة واحدة يختلقونها في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي- دليل صريح على حرصهم على الوقيعة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبحث والتنقير عن أي نقيصة أو عيب ولكن أنى لهم ذلك، فراحوا يختلقون عليه من عند أنفسهم دون حياء.
® جل العظماء حالتهم مع الناس غير حالتهم مع أهلهم وفي بيوتهم، ولا يرضون لزوجاتهم أن تخبر عن أحوالهم، بل تعتبر حياتهم الخاصة سراً من الأسرار يعاقب على إفشائها، وكل الناس كذلك لا يرضون أبداً أن يطلع أحد على كثير من حياتهم الأسرية الخاصة.
ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو لم يرض فقط بل أمر أن ينقل عنه كل شيء، فبلغ عنه أزواجه كل ما رأوه منه، حتى إنها لتبلغ عنه ما كان تحت اللحاف فيما بينه وبينها، وعن غسلها معه من الجنابة، حتى إن الرجل ليعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرفه عن أبيه الملاصق له والساكن معه!
خامساً: شمولها لجميع نواحي الحياة مع الوضوح التام فيها.
لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم بين صحابته وتزوج بتسع نسوة، وأمر أن يبلغ الشاهد منهم الغائب، وقال: «بلغوا عني ولو آية» [14] وقال: «نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع» [15] وما سافر وحده قط، ولا اعتزل الناس في يوم من الأيام أبداً، وقد تضافر الصحابة على نقل كل شيء عنه، بل تفرغ عدد منهم للرواية والمتابعة له كأهل الصفة.
لقد وصفوه في قيامه وجلوسه، وكيف ينام، وهيئته في ضحكه وابتسامته، وكيف اغتساله ووضوؤه، وكيف يشرب ويأكل وما يعجبه من الطعام، ووصفوا جسده الطاهر كأنك تراه، حتى ذكروا عدد الشعرات البيض في رأسه ولحيته، ولمحة في كتاب من كتب السيرة والشمائل تجد العجب من هذا الشمول وهذه الدقة في الوصف والنقل( [16]).
سادساً: أنها بعمومها لم تتعد القدرة البشرية، أي أنها لم تتكئ على الخوارق، أو قامت فصولها على معجزة من المعجزات خارجة عن قدرات البشر.
بل إنه من السهل التعرف عليها وتطبيقها، والاقتداء بها، فليست مثالية التطبيق.
مصادر السيرة النبوية:
تعتمد مصادر السيرة النبوية على مصادر متنوعة منها أصلية ومنها تكميلية.(11/263)
فمن المصادر الأصلية: القرآن الكريم، والحديث الشريف، وكتب السيرة، والمغازي، والدلائل، والشمائل، والخصائص وكتب التاريخ الأخرى.
ومن التكميلية: كتب الفقه، وكتب الأدب، ودواوين الشعر، وكتب الأنساب، وتراجم الرجال، وكتب الجغرافيا.
المصادر الأصلية:
1- القرآن الكريم: ويتضمن بيان العقيدة والشريعة، وتوضيح الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمة المسلمة، كما ترد فيه الإشارة إلى المعارك والغزوات ومواقف الناس منها مثل موقف المنافقين، إضافة إلى بيان مواقف اليهود والمشركين من الدعوة، وتعتبر كتب التفسير موضحة وشارحة ومبينة للآيات القرآنية( [17]).
2- كتب الحديث: وهي من أهم المصادر في السيرة النبوية، حيث نقلت لنا بأصح الأسانيد كثيراً من حوادث السيرة ومغازي النبي صلى الله عليه وسلم، ووصفاً دقيقاً لحياته الشخصية وسيرته مع أصحابه، إضافة إلى بيان كثير من الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
3- كتب الدلائل: وتتناول المعجزات والدلائل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أقدم من كتب فيها الفريابي (ت212هـ) في كتابه «دلائل النبوة»، ثم المدائني (ت225هـ) في كتابه «آيات النبي صلى الله عليه وسلم...» الخ.
4- كتب الشمائل: وهي التي تبين أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته الخلقية والخلقية، وأقدم من ألف فيها أبو البختري وهب بن وهب الأسدي (ت200هـ) في مؤلفه «صفة النبي صلى الله عليه وسلم»، ومن أشهر كتب الشمائل «الشمائل المحمدية» للترمذي.
5- كتب السيرة: وقد اعتنى المسلمون بالسيرة النبوية في وقت مبكر مما يضفي عليها التكامل في التسجيل والثقة في الرواية والنقل، وقد اشتهر عدد من الصحابة باهتمامهم بالسيرة، منهم: ابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والبراء بن عازب رضي الله عنهم أجمعين.
وكتبت بعض أحداث السيرة على يد التابعين والصحابة متوافرون مقرون لهم بذلك ومن هؤلاء: أبان بن عثمان (ت101-105هـ) وعروة بن الزبير (ت94هـ)، والشعبي (ت103هـ).
وممن اهتم بالسيرة الزهري (ت124هـ) فقد تلقاها عن جمع من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن كبار التابعين.
ومن أوثق كتب المغازي كتاب موسى بن عقبة (ت140هـ)، وقد قال ابن معين «كتاب موسى ابن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب»، وقال الإمام الشافعي: «ليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة مع صغره وخلوه من أكثر ما يذكر في كتب غيره».
وممَّن ألف في السيرة أبو المعتمر سليمان بن طرخان التيمي (ت143هـ) وهو من العباد الثقات، وقد رواها عنه ابنه معتمر، وقد ذكر هذه السيرة أبو بكر بن خير الأشبيلي في «فهرسته» (ص:231)، ونقل عنها ابن سيد الناس، والسهيلي، وابن كثير، وابن حجر وغيرهم.
وممن علا صِيته واشتهر في السيرة النبوية حتى نسبت إليه: محمد بن إسحاق (ت151هـ) وهو من تلاميذ الزهري، وهو إمام هذا الشأن، وقد اختصرها ابن هشام (ت218هـ) وهي التي بقيت في أيدينا الآن، حيث حذف منها ما لا تعلق له في السيرة، وحذف منها تاريخ الأنبياء، وما لا يصح من الشعر، كما ذكر ذلك في مقدمته، ثم شرحها السهيلي (ت518هـ).
ومن كُتَّاب السيرة الواقدي (ت207هـ) وهو من أئمة هذا الشأن، فقد اهتم بالوقائع والمغازي وسأل عنها أبناء الأنصار، وحاول أن يقف على كثير منها، وهو مع سعة علمه وشهرته واطلاعه وتخصصه في السيرة إلا أنه متروك من حيث الرواية في الحديث.
ومن كتب السيرة: «عيون الأثر في فنون المغازي والسير» لابن سيد الناس (ت734هـ) و«السيرة النبوية» للذهبي (ت748هـ)، ومنها:«البداية والنهاية» لابن كثير (ت774هـ).
ومن مصادر السيرة: كتب فقه السيرة، وأقدم من كتب في فقه السيرة هو أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت430هـ) في كتابه «الهدي النبوي»، وجعفر بن محمد المستغفري (ت432هـ) في كتابه «الهدي النبوي»( [18])، و«زاد المعاد في هدي خير العباد» لابن قيم الجوزية (ت751هـ).
وكما اهتم العلماء في التأليف في السيرة جملة، فإن هناك من اهتم بالكتابة في جزئيات السيرة مثل: «تركة النبي صلى الله عليه وسلم والسبل التي وجهها فيها» لحماد بن إسحاق بن إسماعيل (ت267هـ)، بتحقيق الدكتور أكرم ضياء العمري، الطبعة الأولى (عام1404هـ)، و«المصباح المضيء في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي» لمحمد بن علي بن أحمد بن حديدة الأنصاري (ت783هـ)، الطبعة الأولى (عام1396هـ)، وكتاب «الفخر المتوالي فيمن انتسب للنبي صلى الله عليه وسلم من الخدم والموالي» لمحمد بن عبد الرحمن السخاوي (ت902هـ) بتحقيق مشهور حسن، الطبعة الأولى (عام1407هـ).
الموسوعات في السيرة:
وأقدم كتاب فيما أعلم هو «سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد» لمحمد بن يوسف الدمشقي الشامي (ت942هـ) انتخبها من 300 كتاب.(11/264)
ومن الكتب المعاصرة: كتاب «الجامع في السيرة النبوية» تأليف سميرة الزايد، وقد جمعت المؤلفة من كتب السيرة وكتب السنة وكتب التراجم، وقد جعلت لها منهجاً وهو اعتماد رواية ابن هشام وتخريج الروايات كلها عليها، إلا إذا لم تجد له في الموضوع رواية، ولم تهتم بالحكم على الأدلة وتتبع تخريجها.
النَّظم في السيرة: قام العلماء بنظم أحداث السيرة ووقائعها حتى يسهل على الطالب حفظها وممن اعتنى بنظم السيرة الحافظ عبد الرحيم العراقي (ت806هـ) وقد طبع الكتاب مع شرحه «العجالة السنية على ألفية السيرة النبوية» لعبد الرؤوف المناوي (ت1031هـ).
أوضح الناظم رحمه الله أن كتب السيرة النبوية احتوت ما كان إسناده معتبراً وما كان غير معتبر، وجرى في نظمه على طريقتهم في عدم اعتبار الإسناد؛ لكن إن وردت رواية صحيحة نبه عليها.
وقد نظم السيرة على الترتيب التاريخي، إلا أنه بعد ذكر الهجرة ووصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيمة أم معبد شرع في ذكر شمائله وخصائصه ثم رجع إلى ذكر مغازيه، وختمها بذكر أقاربه وأزواجه ومواليه وحراسه وخدمه.
وقد اعتمد في ألفيته على كتب السنة والسيرة.
تميز الكتاب بسهولة العبارة ووضوحها واشتمال النظم على أحداث السيرة جملة، مع إشارته إلى بعض الروايات الصحيحة أحياناً.
أما المصادر غير الأصلية أو التكميلية فتأتي بعد تلك المصادر في الأهمية ومنها: كتب الفقه وهي محل استنباط الأحكام من الكتاب والسنة، ولهذا تجد روايات وأحداثاً في كثير من أبوابها وبخاصة الكتب المتقدمة.
وكتب الرجال والتراجم: وبخاصة تراجم الصحابة مثل كتاب الاستيعاب لابن عبد البر، وأسد الغابة لابن الأثير، والإصابة لابن حجر، فإن هذه الكتب وغيرها غنية جدا بروايات السيرة وأحداثها وذكر مواقف الصحابة في المغازي والسرايا والبعوث.
وكتب الأدب لما تحتويه من وصف للحياة الاجتماعية والعلمية.
وكتب البلدان في وصفها للمدن والطرق وذكرها للمسافات والأبعاد، وقد تشير أحياناً إلى ما حدث فيها من أحداث... الخ.
ونخلص إلى أن التأليف في السيرة شمل الأنواع التالية:
1- كتب السيرة الشاملة. ...
2- كتب المغازي.
3- الدلائل والمعجزات. ... ...
4- الشمائل.
5- الخصائص. ... ...
6- البشارات.
7- الموسوعات في السيرة. ...
8- جزئيات السيرة.
8- فقه السيرة. ... ...
9- مختصرات في السيرة.
10- النظم في السيرة.
لمحات عن الجاهلية:
لكي تتعرف على الجهد الذي بذله النبي صلى الله عليه وسلم في هداية الناس، وعلى الشدة والمشقة التي لاقاها من معاصريه، وعلى نجاحه وقدرته في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وكيف وجه طاقات العرب بدلاً من العصبية الجاهلية إلى خدمة الإسلام الحنيف، ولكي تعرف حاجة البشرية إلى الإسلام، وفضل الإسلام على سائر أهل الأرض.
وأمر آخر وهو فقه النصوص الشرعية والحكمة من تشريع الأحكام والعلة في المنع أو الإباحة، والتدرج في الأحكام، والتأكيد على التوحيد.
لكي تتعرف على كل هذا لا بد لك من أن تلم بشيء مما كانت عليه البشرية إبان بعثته عليه السلام في حالتها الدينية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية.
وهذا موضوع طويل ومتشعب وله كتبه ومراجعه، ويكفي أن تعلم أن لفظ الجاهلية ورد في الكتب التسعة فقط قرابة خمسمائة مرة، ولكن نذكر لمحات من ذلك، وهي عبارة عن معالم من حياة تلك المرحلة وتاريخها:
تعريف الجاهلية:
نسبة إلى الجهل: نقيض العلم، واستجهله عده جاهلاً واستخف به، والجهل السفه والغضب والنزق، وفي معلقة عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي يتسافه أحد علينا أو يطيش أو يظلم( [19]).
والجاهلية قد تكون اسماً للحال وهو الغالب في الكتاب والسنة كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية»( [20]).
وقول عمر رضي الله عنه: «إني نذرت نذراً في الجاهلية»( [21]).
وقول عائشة رضي الله عنها: «كان النكاح في الجاهلية»( [22]).
فإن الجاهلية وإن كانت في الأصل صفة ولكن غلب عليها الاستعمال حتى صارت اسماً ومعناها قريب من معنى المصدر، وقد تكون الجاهلية اسماً لذي الحال فتقول: طائفة جاهلية، وشاعر جاهلي، نسبة إلى الجهل وهو عدم العلم أو عدم اتباع العلم.
فإن من لم يعلم الحق جاهل جهلاً بسيطاً، فإن اعتقد خلافه فهو جاهل جهلاً مركباً، فإن قال خلاف الحق عالماً بالحق أو غير عالم فهو جاهل أيضاً كما قال الله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان:63)، وكذلك من عمل بخلاف الحق فهو جاهل وإن علم أنه مخالف للحق كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} (النساء:17) قال الصحابة: «كل من عمل سوءاً فهو جاهل وإن علم أنه مخالف للحق».(11/265)
وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل، فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه أو ضعفه في القلب بمقاومة ما يعارضه، وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فتصير جهلاً بهذا الاعتبار، ومن هنا تعرف أن دخول الأعمال في مسمى الإيمان حقيقة لا مجاز.
فإذا تبين ذلك فالناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم في حال جاهلية جهلاً منسوباً إلى الجاهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل وإنما يفعله جاهل، وتلك كانت الجاهلية العامة، وأما بعد البعثة فمطلق الجاهلية قد يكون في مصر دون مصر، وقد تكون في شخص دون آخر، ولا تكون الجاهلية مطلقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ»( [23]).
الحالة الدينية قبيل البعثة:
كان الناس في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، فقد تعرضت الديانات السماوية لانتحال المبطلين وتحريف الغالين، وأصبحت فريسة للعابثين والمتلاعبين، استبدلت عقيدة التوحيد الصافية بالوثنية الغارقة، والاجتراء على الله تعالى والقول عليه بغير حق، والتطاول على الذات الإلاهية، وارتفع الفرق بين أهل الكتاب وبين أهل الأوثان والأصنام في عباداتهم وحياتهم فاختفى نور التوحيد وسط هذا الركام الهائل من الوثنية، والتغيير والتبديل في كلام الله عز وجل قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (التوبة:31)، وقال سبحانه في وصف حياتهم وتعديهم على حرمات الله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة:29)، وقال سبحانه في بيان تحريفهم لكلام الله واستبداله مقابل الدنيا: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} (التوبة:9)، ووصف الله شرك أهل الكتاب وكفرهم بقوله: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ} (التوبة:30).
وأما المجوسية فقد عرفت من القديم بعبادة النار وبناء المعابد عليها، لها يحجون، وعندها ينذرون، هي معبودهم من دون الله عز وجل، ثم آمنوا بإلهين أحدهما النور والآخر الظلمة.
وقل مثل ذلك في البوذية المنتشرة في الهند وآسيا الوسطى، والبرهمية دين الهند الأصلي.
لقد بلغت الوثنية في قرن البعثة أوجها حتى قيل إن عدد المعبودات والآلهة يصل إلى (330) مليون.
وأطبقت ظلمة الوثنية على الأرض من المحيط إلى المحيط.
روى الإمام أحمد عن الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ رضي الله عنه قال: «وَاللَّهِ لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فِي فَتْرَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِيناً أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ والْبَاطِلِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ»( [24]).
الحالة الاجتماعية والسياسية:
تبعاً للانحراف العقدي وتحريف الأديان ضلت البشرية في جميع حياتها وانتشر الظلم والفساد بين جميع طبقاتها على اختلاف حضاراتها وأديانها وبلدانها، وسأذكر نماذج ومقتطفات تصف ذلك الانحراف والفساد».
أولاً: الدولة الرومانية:
لقد ازدادت فيها الإتاوات والضرائب التي أثقلت كواهل الشعب، بينما تعيش الطبقة الحاكمة ومن يتابعها حياة الترف والتخمة الزائدة، وتضييع الأموال، والحرص على كل نوع من أنواع اللهو واللعب والطرب، وانشغلوا بالمسليات والألعاب عن مصالح البلاد والعباد، وفتحوا ميادين الرياضة العنيفة كمصارعات الرجال والسباع وغيرها.
وكانت ولاياتها مثل مصر والشام عبارة عن شعوب كادحة للطبقة المستعمرة، حياتها عرضة للاضطهاد والبؤس والشقاء، تسلب خيراتهم وتساء معاملتهم.
ثانياً: الفرس:
فإنه لما ظهر مزدك في القرن الخامس دعا إلى الإباحية في جميع نواحي الحياة وأن الناس شركاء في كل شيء، فظهر الفساد وهتكت الأعراض وانتشرت السرقة والسطو على الأموال والممتلكات، ونشأ جيل لا خلاق له ولا مروءة، اتخذ السطو وسيلة لجلب المال والتسلط على الناس، واستولوا على الأملاك والعقارات حتى أقفرت المزارع وخربت الدور وتشتت الناس.
وقد كان الملوك يعتبرون من نسل آخر مغاير لبني البشر، ففيهم يجري دم الآلهة، فكانوا يخاطبون الناس من علو وأنهم آلهة لهم يتصرفون فيهم كيف شاؤوا.(11/266)
وتعتبر موارد الدولة كلها ملكاً للأكاسرة إلا ما جاد بها كسرى للشعب تفضلاً منه وكرماً وإنعاماً، وقد تفننوا في اكتناز الأموال والتحف الثمينة، والمسابقة في مظاهر الغنى والعظمة إلى حد الخيال.
بينما عامة الناس يعيشون حياة الفقر والبؤس والجوع، حياة العبودية والكدح للآلهة، يتعبون في تحصيل ما يسد رمقهم، ويستر عوراتهم، جميع إنتاجهم تقضي عليها الضرائب والإتاوات، إضافة إلى أنهم وقود لكل حرب همجية طاحنة يثيرها الملك.
ثالثاً: الهند:
فهي أتعس بلد يعيش تفاوتاً فاحشاً بين طبقات المجتمع مدعماً بالدين والعقيدة، فقد قسم سكان الهند إلى أربع طبقات، هي:
1- طبقة الكهنة ورجال الدين وهم (البراهمة).
2- رجال الحرب والجندية وهم (شتري).
3- رجال الفلاحة والتجارة (ويش).
4- رجال الخدمة وهم (شودر) وهم أحط الطبقات وليس لهم إلا خدمة الطبقات الثلاث، وليس لهم أن يدخروا مالاً، أو يجالسوا برهمياً، أو يمسوه بأيديهم، أو يتعلموا الكتاب المقدس.
وقد أضفيت القداسة على الطبقة الأولى، وهو مغفور له ولو أباد الطبقات الثلاث.
وكانت الهند ممزقة تحكمها حكومات تعد بالمئات، وتسيطر الفوضى على جميع أركانها.
رابعاً: أوربا:
المتوغلة في الشمال والغرب فكانت تعيش حياة الهمجية، وترزح تحت ظلام الجهل والأمية والحروب الدامية، وكانت متخلفة عن طريق الحضارة والعلم والآداب، وكأنهم يعيشون في كوكب آخر لا شأن لهم بالعالم.
يزهدون في النظافة، تعشعش الهوام فوق رؤوسهم، أجسامهم قذرة، يغالي رهبانهم في تعذيب أجسامهم، يحتقرون المرأة ويبحثون عن أصلها هل هي من الحيوان أم من الإنسان.
وعموم تلك الشعوب قد ألفت حياة الذلة والخنوع، واعتادت على مجاراة الأوضاع ومسايرة الزمان، لا يهيجهم ظلم، ولا تستحوذ عليهم فكرة ودعوة يسترخصون بها حياتهم ويجازفون في سبيلها بأنفسهم.
قد ألفوا التهجين والتدجين ومصادرة الرأي والحريات، فلا يصلح لهم أن يعرفوا شيئاً، لأنهم ليسوا على مستوى المعرفة والإدراك عند حكامهم، فلا يستحق الشعب السؤال عن شيء فضلاً عن إبداء الرأي فيه.
وعلى العموم فكانت البشرية في القرن السادس الميلادي في أحط أدوارها، وأقبح فترات تاريخها، قد تحطمت فيها جميع مقومات البقاء والحياة، فأصبحت تحتضر قد أيس منها المصلحون وهم على قلتهم وندرتهم قد هربوا في الفيافي والقفار فراراً ويأساً منها كما يدل على ذلك قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد كان ينتقل من عالم إلى آخر كل عالم إذا احتضر أوصى به إلى من يعرفه من بقايا العلماء في مختلف المناطق والديار حتى انتهى إلى الأخير منه فقال له: لا أعرف الآن أحداً في هذه الأرض إلاّ أنه حان مبعث نبي داره في كذا وكذا فوصف له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق سلمان إلى المدينة ينتظر مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أقفرت الأرض كلها من عالم أو مصلح( [25]).
خامساً: العرب:
أما العرب فقد تركوا دين أبيهم إسماعيل وابتعدوا عن الحنيفية دين أبيهم إبراهيم، وانتشرت بينهم عبادة الأصنام والأوثان، وغلوا فيها إلى حد يثير السخرية حيث كان الواحد منهم في سفره يجمع أربعة أحجار ثلاثة لقدره وواحداً يعبده، وإن لم يجد حلب الشاة على كوم من تراب ثم عبده.
روى البخاري عن أبي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ رضي الله عنه قال: «كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَراً هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَراً جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ، فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قُلْنَا: مُنَصِّلُ الأَسِنَّةِ فَلا نَدَعُ رُمْحاً فِيهِ حَدِيدَةٌ وَلا سَهْماً فِيهِ حَدِيدَةٌ إِلاَّ نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبٍ، وَسَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ يَقُولُ: كُنْتُ يَوْمَ بُعِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غُلاماً أَرْعَى الإِبِلَ عَلَى أَهْلِي، فَلَمَّا سَمِعْنَا بِخُرُوجِهِ فَرَرْنَا إِلَى النَّارِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ»( [26]).
وكان أول من أدخل الشرك إلى العرب عمرو بن لحي الخزاعي.
روى البخاري عن سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ رضي الله عنه قَالَ: «الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ وَلا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لآلِهَتِهِمْ فَلا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرِ بْنِ لُحَيٍّ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ»( [27]).(11/267)
روى مسلم عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ إِنَّ الْبَحِيرَةَ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا يَحْلُبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَأَمَّا السَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِآلِهَتِهِمْ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السُّيُوبَ»( [28]).
ورواه أحمد في «المسند» أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار»( [29]).
وفي رواية أخرى عنه ولم يذكر: «وعبد الأصنام»( [30]).
® وقد عبد قبائل من العرب الشمس والقمر، والملائكة والجن، والكواكب، وبعضهم عبد أضرحة من ينسب إليهم الصلاح، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الَّلاتَ وَالعُزَّى} (النجم:19) قال: «كان رجلاً صالحاً يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره»( [31]).
® وكانت العرب تقصد بعبادة الأصنام عبادة الله والتقرب إليه عن طريقها، أو بواسطتها، وهم على طرق مختلفة: فبعضهم يقول: ليس لنا أهلية لعبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته، فاتخذناها لتقربنا إلى الله، وفرقة قالت: إن للملائكة عند الله جاهاً ومنزلة فاتخذنا أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله، وبعضهم جعلوا الأصنام قبلة في عبادة الله مثل الكعبة قبلة في عبادته، وفرقة أخرى اعتقدت أن على كل صنم شيطاناً موكلاً بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حاجته بأمر الله، ومنهم من يقصدون بذلك شفاعتهم عند الله زلفى قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلى اللهِ زُلْفَى} (الزمر:3)، وقال تعالى عنهم: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} (يونس:18).
® ولم تكن العرب تعتقد في أصنامها النفع أو الضر.
روى الترمذي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه قَالَ: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي الحصين: «كم تَعْبُدُ الْيَوْمَ إِلَهاً؟ قَالَ أَبِي: سَبْعَةً، سِتَّةً فِي الأرْضِ وَوَاحِداً فِي السَّمَاءِ. قَالَ: فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟ قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ. قَالَ: يَا حُصَيْنُ أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَسْلَمْتَ عَلَّمْتُكَ كَلِمَتَيْنِ تَنْفَعَانِكَ قَالَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ حُصَيْنٌ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِيَ الْكَلِمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَعَدْتَنِي فَقَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي»( [32]).
بل كانوا عند الشدائد ينسون آلهتهم ويتخلون عنها كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت:65).
وكانت أعظم شبه العرب هي: إنكار البعث، وجحد إرسال الرسل من البشر( [33]).
وكانوا على حال سيئة من الأمية والجهل والإغراق في الخمور والقمار، والعصبية القبلية المقيتة التي يلغي معها عقله أحياناً على حد قول الشاعر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
وقول الآخر:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
وكانوا بعيدين كل البعد عن اجتماع الكلمة ووحدة الصف، فكانت تقوم بينهم الحروب والمنازعات لأتفه وأحقر الأسباب كما دلت عليها أيامهم مثل: حرب البسوس التي دامت أربعين عاماً بسبب اعتداء على جمل امرأة، وداحس والغبراء كذلك بسبب اعتداء على فرس، وغيرها كثير.
وكانوا على عادات سيئة مثل: وأد البنات، وعمل الميسر، والاستقسام بالأزلام، والنسيء، والبحيرة والسائبة، والتطير والفأل بالطير والجمادات( [34])... والجمع بين الأختين، ونكاح زوجة الأب وهذا كان ممقوتاً عند بعضهم حتى سموه نكاح المقت، ومنها المضارة في الطلاق، والعضل في النكاح، وكانوا يرثون النساء( [35]).(11/268)
تلك الحياة الجاهلية بكل صورها وفي جميع أماكنها وبقاعها قد صورها المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث العظيم الذي رواه مسلم عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: «أَلا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا: كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْداً حَلالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَاناً، وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَاباً لا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِماً وَيَقْظَانَ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشاً. فَقُلْتُ: رَبِّ إِذاً يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً. قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشاُ نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لا زَبْرَ لَهُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعاً لا يَبْتَغُونَ أَهْلاً وَلا مَالاً، وَالْخَائِنُ الَّذِي لا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لا يُصْبِحُ وَلا يُمْسِي إِلا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ، وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ» -وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو غَسَّانَ فِي حَدِيثِهِ- «وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ»( [36]).
فالحديث يشير إلى الانحراف عن الشريعة ونبذها وراءهم ظهرياً واختراع أنظمة وقوانين من عند أنفسهم، فحرموا الحلال وأحلوا الحرام في قوله: «كل مال نحلته عبداً حلال... وحرمت عليهم ما أحللت لهم» وهذا رد على ما شرعوه من السوائب والوصيلة والحام والبحيرة، مما يدعونه لآلهتهم، بينما الله شرع أن كل مال رزقه عبداً من عباده فهو حلال له.
كما يوضح الانحراف عن التوحيد والردة الكاملة عن الدين «وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم... وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً».
كما يشير إلى الفساد العظيم الذي غطى وجه الأرض مما استحقوا فيه مقت الله لهم جميعاً إلا بقايا من أهل الكتاب.
بقايا سنن إبراهيم عليه السلام عند العرب:
وقد بقيت عند بعض العرب بقايا من سنن إبراهيم عليه السلام وشريعته بنسب متفاوتة بين القبائل ومن ذلك: خصال الفطرة التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام وهي خمس في الرأس وخمس في الجسد: المضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والفرق، والسواك وهذه في الرأس، وأما التي في الجسد فهي: الاستنجاء، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط وحلق العانة، والختان.
وكانوا يغتسلون للجنابة ويغسلون موتاهم ويكفنونهم، وكانوا يصومون يوم عاشوراء، ويطوفون بالبيت ويسعون بين الصفا والمروة، ويمسحون الحجر ويلبون إلا أنهم يشركون في تلبيتهم يقولون: «لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك»، ويقفون المواقف كلها، ويعظمون الأشهر الحرم.
وكانوا يحكمون بالدية مائة من الإبل، ويوقعون الطلاق إذا كان ثلاثاً وبالرجعة في الأولى والثانية، والقصاص في الجروح، واتباع الحكم في المبال في الخنثى، وكانوا يحرمون نكاح المحارم، وعملوا بالقسامة، واجتنب بعضهم الخمر في الجاهلية، وكانوا يغلظون على النساء أشد التغليظ في شرب الخمر( [37]).(11/269)
وكانوا على شيء من العبادة كالحج والصدقة، وهم على اعترافهم بالله وبعظمته وبتدبيره للأمور، وأنه الرازق الخالق المحيي المميت، وأن جميع الخلق تحت قهره وتصرفه، إلا أنهم اتخذوا من دون الله وسائط يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءَ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهَ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس:31)، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كٌنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون:84-89).
فهم بذلك يشهدون أن الله هو الخالق الرازق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات ومن فيهن والأرضين ومن فيها عبيده وتحت تصرفه وقهره، ومع ذلك يشركون به ويدعون معه غيره، بل كانت الكعبة وهي بيت الله المعظم عندهم يحيط به ثلاثمائة وستون صنماً.
® وكانت فيهم سمات كثيرة تؤهلهم لحمل راية الإسلام وهي وإن صعب توجيهها إلى الوجهة السليمة إلا أنها من أكبر الخصال المعينة على تقبلهم الإسلام وحملهم لرايته فيما بعد، ومن تلك الخصال:
1- الذكاء والفطنة: فقد كانت ألواح قلوبهم صافية لم تكتب فيها تلك الفلسفات والأساطير والأغلوطات التي يصعب محوها كما في الأمم المعاصرة لهم، فكأنهم يعدونها لحمل أبهى علم وأعظمه وهو الإسلام، ولهذا كانوا أحفظ شعب عرف في ذلك الزمن وقد وجه الإسلام قريحة الحفظ والذكاء إلى حفظ الدين وحمايته، فكانت قواهم الفكرية، ومواهبهم الفطرية مذخورة فيهم، لم تستهلك في فلسفات خيالية، وجدال بيزنطي عقيم، ومذاهب كلامية معقدة( [38]).
وكانت الأمية غالبة عليهم يعتمدون في أحوالهم وأيامهم على الحفظ، فكان الواحد منهم مثلاً يحفظ من القصائد ما يفوت الإحصاء والحصر، فهذا الأصمعي من المتأخرين يقول: «ما بلغت الحلم حتى رويت اثني عشر ألف أرجوزة للأعراب».
واتساع لغتهم دليل على قوة حفظهم وذاكرتهم فإذا كان للعسل ثمانون اسماً وللثعلب مائتان وللأسد خمسمائة، فإن للجمل ألفاً، وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم، ولا شك أن استعياب هذه الأسماء يحتاج إلى ذاكرة قوية حاضرة وقادة( [39]).
وقد بلغ بهم الذكاء والفطنة إلى الفهم بالإشارة فضلاً عن العبارة، والأمثلة على ذلك كثيرة ونكتفي بقصتين للدلالة على ذلك:
فقد عزمت حنظلة على الإغارة على إحدى القبائل العربية، فمر بهم راكب فأخذوا عليه الميثاق أن لا ينذرهم أو يكلمهم، فلما مر بهم الرجل علّق على شجرة عندهم وطباً من لبن، ووضع في بعض أغصانها حنظلة، ووضع صرة من تراب وصرة من شوك، ثم ارتحل راحلته وغادرهم فلم يكلمهم، ففهم القوم من صرة التراب بأنه أتاهم عدد كثير، وأن الحنظلة رمز لقبيلة حنظلة، وأما الشوك فيخبرهم بأن لهم شوكة، وأما اللبن فهو دليل على قرب القوم وبعدهم، فإن كان حلواً حليباً فقد أتت الخيل، وإن كان لا حلواً ولا حامضاً فعلى قدر ذلك، وإن كان قارصاً فعلى قدر ذلك، وإن كان خاثراً فلهم مهلة من الرأي، وإنما ترك الرجل كلامهم لأنه قد أخذت عليه العهود وقد أنذرهم فأعدوا عدتهم وارتحلوا عن عدوهم( [40]).
وقد بلغ بهم الذكاء إلى الفهم بقرع العصا كما في قصة سعد بن مالك من قيس بن ثعلبة حين قرع العصا لأخيه عمرو بن مالك، وذلك أن النعمان أرسل عمروا يرتاد له الكلأ، فأبطأ عليه فأقسم لئن جاء حامداً للكلأ أو ذاماً ليقتلنه.
فلما قدم قال سعد للنعمان: أتأذن لي أن أكلمه؟ قال: إن كلمته قطعت لسانك، قال: فأشير إليه؟ قال: إن أشرت إليه قطعت يدك، قال: فأومئ إليه؟ قال: إذن أنزع حدقتيك، قال: فأقرع له العصا؟ قال: اقرع.
فتناول عصا من بعض جلسائه فوضعها بين يديه وأخذ عصاه التي كانت معه وأخوه قائم، فقرع بعصاه العصا الأخرى قرعة واحدة فنظر إليه أخوه ثم أومأ بالعصا نحوه فعرف أنه يقول: مكانك، ثم قرع العصا قرعة واحدة ثم رفعها إلى السماء ثم مسح عصاه بالأخرى فعرف أنه يقول قل له: لم أجد جدباً، ثم قرع العصا مراراً بطرف عصاه ثم رفعها شيئاً فعرف أنه يقول: ولا نباتاً، ثم قرع العصا قرعة وأقبل بها نحو النعمان فعرف أنه يقول: كلمه.(11/270)
فأقبل عمرو بن مالك حتى وقف بين يدي النعمان، فقال له النعمان: هل حمدت خصباً، أو ذممت جدباً؟ فقال عمرو: لم أذمم جدباً، ولم أحمد بقلاً، الأرض مشكلة لا خصبها يعرف، ولا جدبها يوصف، رائدها واقف، ومنكرها عارف، وآمنها خائف، فقال النعمان: أولى لك، بذلك نجوت.
ولما كان العرب بهذه المثابة من الفطنة والذكاء كان معجزتهم القرآن، فإن لكل قوم معجزة بحسب أفهامهم وقدر عقولهم( [41]).
2- أهل كرم وسخاء يسترخصون أموالهم التي تعبوا في جمعها والحصول عليها في سبيل ذلك، مما سهل عليهم بعد ذلك بذل أموالهم في سبيل الله.
وهذا لا يحتاج إلى بيان، ولا يعوزه إقامة دليل ولا برهان فقد شهد لهم بذلك القاصي والداني، واشتهر به الحاضر منهم والبادي، وقد نطقت بذلك أشعارهم وأقاصيصهم التي لا تعد ولا تحصى، وسأذكر بعضاً من ذلك:
قال الشاعر:
ومستنبحِ قال الصدى مثل قوله ... حضأت له نارا لها حطب جزل
فقمت إليه مسرعا فغنمته ... مخافة قومي أن يفوزوا به قبل
فأوسعني حمدا وأوسعته قرىَ ... وأرخص بحمد كان كاسبه الأكل
وقال آخر:
تركت ضأني تود الذئب راعيها ... وأنها لا تراني آخر الأبد
الذئب يطرقها في الدهر واحدة ... وكلَ يوم تراني مدية بيدي
وقال آخر:
وما يك فيّ من عيب فإني ... جبان الكلب مهزول الفصيل
وقال آخر:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق
® وكان من كرمهم ينزلون بالروابي والأماكن العالية وفوق الجبال حتى يراهم الضيف، وكانوا يوقدون النيران بالليل ليهتدي إليهم الأضياف، وربما أوقدوها بالمندلي الرطب وهو عطر ينسب إلى مندل وهي بلدة من بلاد الهند ليهتدي إليها العميان:
وإني لأدعو الضيف بالضوء بعدما ... كسى الأرض نضاح الجليد وجامده
ومن كرماء العرب حاتم الطائي وهو ممن اشتهر ولم يخف أمره على أحد وهو القائل
لغلامه:
أوقد فإن الليل ليل قرُ ... والريح يا واقدُ ريح صر
علّ يرى نارك من يمرُ ... إن جلبت ضيفاً فأنت حر
وهو القائل في قصيدته الطويلة يخاطب زوجته ماوية:
أماوي لا يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
أماوي إن المال مال بذلته ... فأوله شكر وآخره ذكر
ومن كرماء العرب هرم بن سنان الذي قال فيه الشاعر:
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ومن كرمائهم عبد الله بن جدعان التيمي وكان له جفان عظيمة في مكة يأكل منها القائم والراكب على البعير:
له داعي بمكة مشمعل ... وآخر فوق دارته ينادي
إلى رُدح من الشيزي ملآء ... لُباب البر يلبك بالشهاد
ومن كرمهم أنهم كانوا يكرهون أن يطعموا أضيافهم البائت من اللحم، حدث قيس بن سعد رضي الله عنه: «أنه نزل على رجل هو وصاحب له، فنحر لهم جزوراً فأكلوا منه، فلما كان من الغد نحر لهم آخر فقال: شأنكم به، فقلنا: ما أكلنا من الأول إلا اليسير، فقال: إني لا أطعم أضيافي الغاب، فأقمنا عنده أياماً وهو يفعل
ذلك...»( [42]).
® وكانت قريش تقوم بأمر من يرد إلى مكة من الحاج بالغاً ما بلغ من طعامهم وشرابهم، وكان هاشم وهو أحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حضر الحج قام في قريش فقال: يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وهم ضيف الله وأحق الضيف بالكرامة ضيفه فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاماً أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة فيها، فإنه والله لو كان لي مال يسع لذلك ما كلفتكموه فيخرجون لذلك خرجاً من أموالهم كل امرئ على حسب قدرته واستطاعته، فيصنع به طعاماً للحاج حتى يصدروا وهذه هي الرفادة التي سنها قصي، وهاشم هو الذي هشم الثريد بمكة( [43]).
قال النعمان بن المنذر لكسرى في مدح العرب: «وأما سخاؤها فإن أدناهم رجلاً الذي تكون عنده البكرة والناب عليها بلاغه في حموله وشبعه وريه فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة، ويجتزي بالشربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر»( [44]).
3- وكانوا أصحاب صراحة ووضوح بعيدين عن الالتواءات والتعقيد، الصدق سجيتهم، والكذب ليس مطية لهم بل يأنفون منه ويعيبونه، أهل وفاء، ولهذا كانت الشهادة باللسان كافية للدخول في الإسلام.
وقصة أبي سفيان مع هرقل لما سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الحروب بينهم قائمة قال: «لولا أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عليه»( [45]) دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب.
أما وفاؤهم فقد قال النعمان بن المنذر لكسرى في وفاء العرب: «وإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماء فهي ولَث وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عوداً من الأرض فيكن رهناً بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن داره، فيصاب فلا يرضى حتى يفني تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وأنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله»( [46]).(11/271)
فالوفاء خلق متأصل بالعرب فجاء الإسلام ووجه الوجهة السليمة فغلظ على من آوى محدثاً مهما كانت منزلته وقرابته قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من آوى محدثاً»( [47]).
ومن القصص الدالة على وفائهم: قصة حنظلة بن عفراء مع المنذر بن ماء السماء حين قدم عليه في يوم بؤسه وأراد قتله فطلب منه التأجيل سنة، وكذلك وفاء السموأل بأدرع امرئ القيس( [48]).
ومن أروع القصص: «أن الحارث بن عباد قاد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم المهلهل الذي قتل ولد الحارث وقال: (بؤ بشسع نعل كليب) في حرب البسوس، فأسر الحارث مهلهلاً وهو لا يعرفه فقال له: دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم. قال: فأنا هو، فجز ناصيته وتركه» وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار( [49]).
ومن وفاءهم: «أن النعمان بن المنذر خاف على نفسه من كسرى لما منعه من تزويج ابنته فأودع أسلحته وحرمه إلى هانئ بن مسعود الشيباني، ورحل إلى كسرى فبطش به، ثم أرسل إلى هانئ يطلب منه ودائع النعمان فأبى، فسير إليه كسرى جيشاً لقتاله فجمع هانئ قومه آل بكر وخطب فيهم فقال: «يا معشر بكر، هالك معذور، خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر قاتلوا فما للمنايا من بد»( [50])، وانتصر على الفرس في موقعة ذي قار، فهذا الرجل احتقر حياة الذل والاستكانة، ورأى الموت شرفاً في ساحة العز.
4- كانوا أصحاب شجاعة، ومغاوير حرب، وأحلاس خيل، وأصحاب جلادة وكانت الفروسية من أبرز أخلاقهم.
حتى كانوا يتمادحون بالموت قتلاً، ويتهاجون بالموت على الفراش قال أحدهم لما بلغه قتل أخيه: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن قطعاً بأطراف الرماح، وموتاً تحت ظلال السيوف.
وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طُلّ منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظُباة نفوسنا ... وليست على غير الظباة تسيل
وحيث كان العرب لا يقدمون شيئاً على العز وصيانة العرض، وحماية الحريم، استرخصوا في سبيل ذلك نفوسهم.
قال عنترة:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل ... لا بد أن أسقى بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل( [51])
وكانوا يختارون الموت على الذلة، قال حصين بن حمام المري:
فلست بمبتاع الحياة بذلة ... ولا مرتق من خشية الموت سلما
وقال عدي بن رعلاء الغساني:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش ذليلاً ... سيئاً باله قليل الرجاء
فهو يصف من تركته الحرب معافى في ثياب الذل فموته في هذه الحال أفضل( [52]).
وقال عنترة:
لا تسقني ماء الحياة بذلة ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم ... وجهنم بالعز أطيب منزل
5- كانوا بمعزل عن الأدواء المدنية والترف الذي يحول دون التحمس للعقيدة والتفاني في سبيلها، فكانوا يقلون من الأكل ويقولون البطنة تذهب الفطنة ويعيبون الرجل الأكول الجشع:
إذا مدت الأيد إلى الزاد لم أكن ... باعجلهم إذ أجشع القوم أعجل( [53])
6- وكانوا أمة نشأت على الحرية والمساواة، لم تخضع لحكومة أجنبية ولم تألف الرق والعبودية واستعباد الإنسان للإنسان مثل الأمم المعاصرة لهم، الذين حرموا من إبداء الرأي فضلاً عن النقد وإبداء الملاحظة، يأنفون من الذل ويأبون الضيم والاستصغار والاحتقار.
جلس عمرو بن هند ملك الحيرة لندمائه وسألهم: هل تعلمون أحداً من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك.
فدعا الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعا أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فلما جاءت قالت لها ذلك فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: وا ذلاه يا لتغلب...
فسمعها ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفاً للملك معلقاً بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب وانتهبوا ما في الرواق، ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلاً:
بأي مشيئة عمرو بن هند ... نكون لِقِيلكم فيها قطينا
بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وتوْعِدنا رويداً ... متى كنا لأمك مَقْتَوينا
إلى أن يقول في آخر معلقته: ...
إذا ما المَلْك سام الناس خسفاً ... أبينا أن نقر الذل فينا
القيل هو الملك دون الملك الأعظم، والقطين هم الخدم، والقتو خدمة الملوك( [54]).
أنساب العرب:
ينقسم العرب إلى قسمين: عرب الجنوب وهم قحطان.
وعرب الشمال وهم من ولد نزار بن معد بن عدنان وهم قسمان:(11/272)
ربيعة بن نزار وقد نزل هذا الفرع وسكن شرقا، حيث أقامت عبد القيس في البحرين، وحنيفة في اليمامة، وبنو بكر بن وائل سكنت ما بين البحرين واليمامة، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، وسكنت تميم في بادية البصرة.
وأما فرع مضر: فقد نزلت سليم بالقرب من المدينة، وأقامت ثقيف في الطائف، واستوطنت سائر هوازن شرقي مكة، وسكنت أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة، وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حوران( [55]).
وولد الرسول صلى الله عليه وسلم من مضر، وقد أخرج البخاري عن كليب بن وائل قال: حدثتني ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة قال: «قلت لها: أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أكان من مضر؟ قالت: فممن كان إلا من مضر؟ من بني النضر بن كنانة»( [56]).
مهبط الوحي مكة المكرمة:
مكة واد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، تشرف عليها جبال جرد وهي جبل (أبو قبيس) وهو الذي كانت تسكنه قريش إلى زمن قصي، و(قعيقعان) وهذان الجبلان هو الأخشبان اللذان ورد ذكرهما في الحديث المخرج في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها «إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأخشبين»( [57]) كما سيأتي في قصة الطائف.
ولما قدمت خزاعة من اليمن أخرجت جرهم من مكة وتولت ولاية البيت، وكان سيدهم عمرو بن لحي أول من نصب الأوثان وأدخل عبادة الأصنام إلى العرب وغير دين التوحيد.
قريش:
تنسب قريش إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، فقريش من فهر، وما قبله ليس من قريش، وقد انقسمت قريش إلى قسمين: قريش الظواهر وهم البادية الذين نزلوا الجبال ظاهر مكة وقريش البطاح وهم الذين نزلوا بطاح مكة.
وبعد أن تغلب قصي بن كلاب على خزاعة في ولاية البيت، جمع قومه من الشعاب والأودية والجبال وأنزلهم إلى مكة، فسمي مجمعاً، وقسم مكة أرباعاً بين قومه، فسكنوا فيها بعد أن قطع قصي الأشجار بيده، وكانت قريش تهاب ذلك، فلما رأته يفعل ذلك أعانوه، وقد تيمنت به فكانت لا تعقد أمراً، ولا تبرم عقداً إلا في داره.
أبونا قصي كان يدعى مجمعاً ... به جمع الله القبائل من فهر
وقد اشتهرت قريش بالتجارة، وامتاز رجالاتها بالدهاء والحذق والذكاء في التعامل مع الناس، ومع القبائل والحكومات القائمة فقد تألفت الناس وتألفها الناس من أجل ذلك، وقد استفادت قريش من أمن البيت وتعظيم العرب له في نجاح تجاراتها وانتشار الأسواق الآمنة فيها، مما حمل الناس على جلب بضائعهم إليها، والامتيار منها، كما استفادت منه في رحلاتها إلى اليمن وإلى الشام، حيث كان الناس يحترمونهم لأنهم أهل الحرم، فقد كانت العرب تنعت قريش بـ (آل الله) و(جيران الله) و(سكان حرم الله) و(أهل الله)، لذا كان أهل مكة يميلون إلى السلم ولا يركنون إلى الحرب والغزو إلا دفاعاً عن النفس، وهذا الذي أبقى سادتها وعظماءها الذين أصبحوا عقبة كؤداً أمام الدعوة، بعكس أهل المدينة الذين أفنت الحرب ملأهم وكبراءهم.
سكان مكة من غير قريش:
بنو كنانة وقريش من بني كنانة إلا أنها ميزت نفسها عنهم، وخزاعة، وبنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، والأحابيش وهم حلفاء قريش من بعض قبائل العرب ومن غيرهم مثل عضل وبني الحارث وبني المصطلق، وغيرهم، سموا بذلك حين اجتمعوا بذنب حبشي - وهو جبل بأسفل مكة - فتحالفوا بالله إنا ليد على غيرنا ما سجا ليل وأوضح نهار، وما أرسى حبشي مكانه، وقيل غير ذلك أقوال كثيرة.
وكان من ساداتهم (ابن الدغنة) و(الحليس بن يزيد).
وقد كان الأحابيش من غير العرب وفدوا إلى مكة من الحبشة وما جاورها وبعضهم قد تأثر بالنصرانية يشهد لذلك قصة الحديبية: «إن هذا من قوم يتألهون»، وقد امتزج هؤلاء بالعرب وحالفوا تلك القبائل فغلبت عليهم تلك التسمية، بسبب تحالفهم مع هؤلاء الأحابيش، والله أعلم.
دار الندوة:
وكانت دار الندوة دار ملأ مكة، ومجلس سادتها ووجوهها وأشرافها وأولي الأمر فيها، فلم تكن بمكة حكومة مهيمنة على الناس وإنما الأمر للملأ والأشراف فيها من شتى بطون قريش.
وقد خلف قصي جملة من الأولاد هم: عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف، وعبد بن قصي، وجعل لابنه عبد الدار دار الندوة والحجابة واللواء والسقاية والرفادة، وبعد ذلك نافسهم بنو عبد مناف وتحالفوا ضدهم في حلف سمي حلف المطيبين فاقتطعوا منهم السقاية والرفادة.
وكان زعماء قريش يحافظون على تراث الآباء ولا يبغون به بديلاً: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزخرف:23).(11/273)
فهذا قانونهم ودستورهم ومرجعهم، وفي هذا حفاظ على زعامتهم ومصالحهم الخاصة، ولهذا لم يلتفتوا إلى نداء الحق: {قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكَمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف:24)، فلا يريدون الخروج على العادة والعرف الذي تعارف عليه الناس مهما كان يتصف به ذلك العرف من باطل وضلال وانحراف وشر: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (البقرة:170)( [58]).
الاصطفاء:
قال الله تعالى: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نّؤْمِنَ حَتّىَ نُؤْتَىَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام:124).
أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٌ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} (الزخرف:31-32)، يعنون: لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم {مِنَ القَرْيَتَيْنِ} أي من مكة والطائف، وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون الرسول صلوات الله وسلامه عليه بغياً وحسداً، وعناداً واستكباراً كقوله تعالى مخبراً عنه: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزْواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً} ( الفرقان: 41 )، وقال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزْواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} (الأنبياء:36)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأنبياء:41)، هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه، ومنشئه صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه، حتى إنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه «الأمين»، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم: وكيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا... الحديث بطوله، الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به.
روى الإمام أحمد عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: «بَلَغَهُ صلى الله عليه وسلم بَعْضُ مَا يَقُولُ النَّاسُ قَالَ: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ فِرْقَةٍ، وَخَلَقَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ، وَجَعَلَهُمْ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيْتًا وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا»( [59]) صدق صلوات الله وسلامه عليه( [60]).
وروى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ»( [61]).
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي عَمَّارٍ شَدَّادٍ أَنَّهُ سَمِعَ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ يَقُول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»( [62]).
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْناً فَقَرْناً حَتَّى كُنْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ»( [63]).
نسبه الشريف صلى الله عليه وسلم:(11/274)
هو: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ ابْنِ كِلابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعبِ بْنِ لؤَيِّ بْنِ غالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ( [64]).
وقال ابن حجر: «إن نسبه صلى الله عليه وسلم إلى عدنان متفق عليه، يعني عند جميع العلماء»( [65]).
وقالت عائشة رضي الله عنها كما أخرجه الطبراني بسند جيد: «استقام نسب الناس إلى معد بن عدنان»( [66]).
وقد أقر أبو سفيان بعلو نسبه صلى الله عليه وسلم حين سأله هرقل: «كيف نسبه فيكم؟ فأجاب: هو فينا ذو نسب، فقال هرقل: فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها»( [67]).
أسماؤه صلى الله عليه وسلم:
في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب»( [68]).
وعن أبي موسى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: «أنا محمد، وأحمد، والمُقَفّي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة»( [69]).
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مذمماً، ويلعنون مذمماً، وأنا محمد»( [70]).
شق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
قوله: «العاقب» في الترمذي: «الذي ليس بعده نبي»( [71]).
قال ابن حجر: «والذي يظهر أنه أراد أن لي خمسة أسماء أختص بها لم يسم بها أحد قبلي، أو معظمة أو مشهورة في الأمم الماضية، لا أنه أراد الحصر فيها»، وقد ذكر السهيلي أنه لم يتسم أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بمحمد إلا ثلاثة، إلا أن ابن حجر ذكر أنه ألف كتاباً في أسمائه صلى الله عليه وسلم فأوصل من تسمى قبله إلى خمسة عشر( [72]).
وقد ألفت عدة كتب في أسمائه وأوصلها بعضهم إلى أكثر من ثلاثمائة اسم، لكن كثيراً منها لا يثبت، وبعضها من أوصافه، وبعضها لم يرد على سبيل التسمية مثل من عد من أسمائه اللبنة للحديث المذكور الذي أخرجه البخاري في باب خاتم النبيين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»( [73]).
أما كنيته صلى الله عليه وسلم فهو: أبو القاسم، كما ورد ذلك في الصحيحين عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «سموا باسمي، ولا تكتنوا بكنيتي»( [74]).
ولادته ونشأته صلى الله عليه وسلم:
ولد يوم الاثنين كما ورد ذلك في صحيح مسلم لما سئل عن صيام يوم الاثنين قال: «ذاك يوم ولدت فيه»( [75]).
في عام الفيل وهو أرجح الأقوال بل قال خليفة بن خياط: إنه المجمع عليه، وقد ذكر ابن إسحاق بدون إسناد أن ولادته في الثاني عشر من ربيع الأول( [76]).
وتتفق رواية مسلم مع ابن إسحاق في كون والده مات وهو حمل في بطن أمه( [77]).
وفي الصحيحين أن ثويبة مولاة أبي لهب قامت بإرضاعه صلى الله عليه وسلم فعن أم حبيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أرضعتني وأبا سلمة ثويبة»( [78]).
كما أرضعته مولاته أم أيمن وقد أعتقها عليه الصلاة والسلام بعدما كبر.
روى مسلم في صحيحه قال ابْنُ شِهَابٍ: «وَكَانَ مِنْ شَأْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أُمِّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا كَانَتْ وَصِيفَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَلَمَّا وَلَدَتْ آمِنَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا تُوُفِّيَ أَبُوهُ، فَكَانَتْ أُمُّ أَيْمَنَ تَحْضُنُهُ حَتَّى كَبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْتَقَهَا، ثُمَّ أَنْكَحَهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ بَعْدَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ»( [79]).
أما رضاعه من حليمة السعدية في بني سعد فهذا مما استفاض واشتهر، وقد أخرج ذلك ابن إسحاق بسنده وفيه الجهم بن أبي الجهم قال عنه الذهبي: «مجهول».
لكن القصة رواها أبو يعلى، وابن حبان، والطبراني وقال الهيثمي: رجالهما ثقات يعني رجال أبي يعلى والطبراني، وقال ابن كثير: «وهذا الحديث قد روي من طرق أخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي»( [80]).
وقد ورد استرضاعه في بني سعد بسند جيد من طريق ابن إسحاق، قال صلى الله عليه وسلم: «واسترضعت في بني سعد ابن بكر»( [81]).(11/275)
وماتت أمه وعمره ست سنوات، فكفله جده عبد المطلب ثم مات بعد سنتين فأوصى به إلى عمه أبي طالب فكفله عمه وحن عليه ورعاه.
وقد شب مع عمه أبي طالب تحت رعاية الله وحفظه له من أمور الجاهلية وعاداتها السيئة «فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جواراً، وأعظهم حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رؤي ملاحياً ولا ممارياً أحداً، حتى سماه قومه الأمين، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة»( [82]).
وخالف جاهلية قريش في أبرز خصائصها كمناسك الحج حيث كانوا يسمون الحمس، ويقفون في المزدلفة، ولا يخرجون من الحرم زاعمين أن أهل الحرم لا ينبغي لهم أن يعظم من الحل كما يعظم من الحرم.
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقف بعرفة مع الناس وخالف طريقة قومه كما روى ذلك البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم حين أضل بعيراً له فذهب يطلبه في عرفة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً فيها مع الناس فقال: «هذا والله من الحمس فما شأنه ها هنا؟»( [83]).
حلف الفضول:
ولم يشهد صلى الله عليه وسلم أي حلف لقريش إلا حلف الفضول أو حلف المطيبين حيث تعاقدوا فيه على نصرة المظلوم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما شهدت حلفاً لقريش إلا حلف المطيبين، وما أحب أن لي حمر النعم وأني كنت نقضته»( [84]).
وحلف المطيبين كان بين بني هاشم وبني أمية وبني زهرة وبني مخزوم وقد جرى هذا الحلف قديماً بعد وفاة قصي وتنازع بني عبد مناف وبني عبد الدار، وسمي حلف الفضول بالمطيبين لأن العشائر التي حضرتها هي التي حضرت الحلف السابق( [85]).
وأخرج الحميدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدعان حلفاً لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها وألا يعز ظالم مظلوماً»( [86]).
رعي الغنم:
كان صلى الله عليه وسلم في شبابه يرعى الغنم لقريش وقال: «مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ»( [87]).
دروس وعبر:
ورعي الغنم يتيح لصاحبه عدة خصال تربوية منها:
1- الصبر: على الرعي من طلوع الشمس إلى غروبها، نظراً لبطء الغنم في الأكل، فيحتاج راعيها إلى الصبر والتحمل، وكذا سياسة البشر.
2- الحلم: فبعضها يتقدم وبعضها يتأخر وبعضها يذهب شمالاً وبعضها جنوباً، فإن كان الراعي غضوباً جمعها بعد شتاتها بصورة مرعبة فتبقى مجتمعة خائفة لا تأكل تخشى من عصا الراعي.
3- الأناة والقدرة: على جمع شتاتها بعد رعيها بدون أذى يلحق بها، أو نقص في غذاء يصيبها.
4- الرأفة والعناية بالضعيف: ففيها الصغير والضعيف والهرم، فيحتاج منه إلى لين ورأفة بها حتى تلحق بصواحبها وترعى مثلهن، وكذا سياسة البشر.
5- ارتياد أماكن الخصب: والبحث عنها ونصحها في ذلك وتجنيبها مواطن الجدب والهلكة، وكذا سياسة البشر تحتاج إلى بذل الجهد والنصح لهم في توريدهم مواطن الخير وتجنيبهم مواطن الهلكة، وتحسين معاشهم وما يحتاجونه من رزق حلال، وتجنيبهم الأرزاق المحرمة التي تسبب لهم الويلات والفساد، وتوزيع الثروة عليهم كل على حسبه وقدرته وجهده.
6- التواضع: في رعي الغنم وهو أمر ظاهر وقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر» فقال رجل: يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنا؟ فقال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس»( [88]).
7- ورعي الغنم من أعظم الفرص في الخلوة بالله تعالى والتفكر في خلق السموات والأرض حيث السماء بنجومها، والأرض بجبالها وأشجارها وأنعامها...
8- إن الله تعالى قادر على أن يغني محمداً صلى الله عليه وسلم عن رعي الغنم، ولكن هذه تربية له ولأمته للأكل من كسب اليد.
9- ورعي الغنم نوع من أنواع الكسب باليد وصاحب الدعوة يجب أن يستغني عن ما في أيدي الناس ولا يعتمد بدعوته عليهم، فبذلك تبقى قيمته وترتفع منزلته، ويبتعد عن الشبه والتشكيك فيه، ويتجرد في إخلاص العمل لله تعالى، ويرد شبه الطغاة والظلمة الذي يصورون للناس أن الأنبياء أرادوا الدنيا بدعوتهم: {وَتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} (يونس:78) هكذا يقول فرعون لموسى، ونظراً لسيطرة حب الدنيا وحطامها على عقولهم يظنون أن أي تفكير وأي حركة مراد به الدنيا، ولهذا قالت الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم مبينة استغنائها عنهم: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} (سبأ:47)، {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ} (هود:29).(11/276)
روى البخاري عَنِ الْمِقْدَامِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»( [89]).
ولاشك أن الاعتماد على الكسب الحر تكسب الإنسان الحرية التامة والقدرة على قول كلمة الحق والصدع بها.
وكان أصحاب رسول الله يتاجرون ويعملون بأيديهم ولا يعتبر غضاضة في حقهم، فهذا عمر يشغله الصفق بالأسواق عن حضور بعض مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي موسى في الاستئذان «أَخَفِيَ هَذَا عَلَيَّ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ يَعْنِي الْخُرُوجَ إِلَى تِجَارَةٍ»( [90]).
وفي البخاري عن قتادة: «كان القوم يتبايعون ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حق من حقوق الله لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله»( [91]).
وتقول عائشة رضي الله عنها: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمال أنفسهم»( [92]).
زواجه صلى الله عليه وسلم بخديجة:
ذكر ابن إسحاق قصة في زواجه صلى الله عليه وسلم بخديجة وخروجه في تجارتها بغير إسناد ولم يثبت أحد من الأئمة هذه القصة، وأما الزواج من حيث هو فهو ثابت قطعاً كما في الصحيحين وغيرهما، واختلف في عمرها حين تزوجها، فبينما يرى ابن إسحاق: أن عمرها ثمان وعشرون، يرى الواقدي أن عمرها أربعون، بينما تتجه الروايات إلى أن عمره صلى الله عليه وسلم كان خمساً وعشرين سنة حين تزوجها( [93]).
تحكيمه في وضع الحجر:
ومما يدل على صيانته ومكانته عند الناس رضاهم بحكمه حين حكموه في الحجر الأسود بعد أن تنافسوا في رفعه: «فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَماً قَالُوا: أَوَّلَ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الأَمِينُ فَقَالُوا لَهُ، فَوَضَعَهُ فِي ثَوْبٍ ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ فَأَخَذُوا بِنَوَاحِيهِ مَعَهُ فَوَضَعَهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم»( [94]).
المصادر والمراجع:
1- الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ - للحافظ السخاوي / تعريب: صالح أحمد العلي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
2- الأدب المفرد - للإمام البخاري / دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
3- البداية والنهاية - للحافظ ابن كثير / الطبعة الثانية، عام 1977م، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان.
4- بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب - محمود شكري الألوسي / تحقيق محمد بهجة الأثري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية.
5- تاريخ الأمم والملوك - لأبي جعفر الطبري / تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الثانية، دار سويدان، عام 1387هـ، بيروت، لبنان.
تاريخ الطبري = تاريخ الأمم والملوك.
6- تخريج أحاديث فقه السيرة للغزالي - للشيخ محمد ناصر الدين الألباني / الطبعة السابعة، عام 1976هـ، دار الكتب الحديثة.
7- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - للخطيب البغدادي / تحقيق محمود الطحان، طبعة عام 1403هـ، مكتبة المعارف، الرياض.
8- دلائل النبوة ومعرفة أحوال الشريعة - للبيهقي / تحقيق: عبد المعطي القلعجي، الطبعة الأولى، عام 1405هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
9- ديوان عنترة بن شداد / تحقيق محمد سعيد مولوي، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي، بيروت.
10- الرسالة المحمدية - لسليمان الندوي / الطبعة الثالثة، عام 1401هـ، مكتبة دار الفتح، دمشق.
11- السنن - للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني / تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية.
12- السنن - للإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي / طبعة دار إحياء السنة النبوية.
13- السنن - للإمام محمد بن عيسى الترمذي / تحقيق أحمد شاكر وآخرين، طبعة المكتبة الإسلامية.
14- السنن - للإمام محمد بن يزيد بن ماجه/ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، طبعة عام 1395هـ، دار إحياء التراث العربي.
15- السيرة النبوية - للحافظ ابن كثير / تحقيق مصطفى عبد الواحد، طبعة عام 1403هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
16- السيرة النبوية - لأبي الحسن الندوي / الطبعة الأولى، عام 1397هـ، دار الشروق، جدة.
17- السيرة النبوية - لابن هشام / تحقيق مصطفى السقا وآخرين، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
18- حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، صور مقتبسة من القرآن الكريم وتحليلات ودراسات قرآنية - لمحمد عزة دروزة / الطبعة الثانية، عام 1384هـ مطبعة مصطفى البابي الحلبي وشركاه، مصر.
19- السيرة النبوية الصحيحة - لأكرم ضياء العمري / طبعة عام 1412هـ، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة.
20- السيرة النبوية في الصحيحين عند ابن إسحاق، دراسة مقارنة في العهد المكي - للدكتور سليمان بن حمد العودة / رسالة دكتوراه مكتوبة على الآلة الكاتبة.(11/277)
21- شرح المعلقات السبع - للزوزاني الحسين بن أحمد / دار مكتبة الحياة، بيروت.
22- صبح الأعشى في صناعة الإنشاء - للقلقشندي / طبعة مؤسسة قرطبة.
23- صحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري / المطبوعة مع فتح الباري، تحقيق محب الدين الخطيب، المكتبة السلفية، القاهرة.
24- صحيح الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري / تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى، عام 1374هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
25- الطريق إلى المدائن - لأحمد عادل كمال/ الطبعة السادسة، عام 1406هـ، دار النفائس، بيروت، لبنان.
26- الغرباء الأولون - لسلمان بن فهد العودة / الطبعة الأولى، عام 1410هـ، دار ابن الجوزي، الدمام.
27- فتح الباري بشرح صحيح البخاري - لابن حجر العسقلاني / تحقيق محب الدين الخطيب، الطبعة الثانية، عام 1400هـ، المكتبة السلفية، القاهرة.
28- القاموس المحيط - للفيروزآبادي / تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، عام 1407هـ، بيروت، لبنان.
29- لسان العرب - لابن منظور / الطبعة الأولى، عام 1300هـ، دار صادر، بيروت، لبنان.
30- مجلة البيان / العدد الثاني - سنة 1407هـ شهر صفر - تصدر عن المنتدى الإسلامي بلندن.
31- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد - للهيثمي/ الطبعة الثالثة، عام 1402هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.
32- المستدرك على الصحيحين - للحاكم / دار الكتاب العربي، بيروت.
33- المسند - للإمام أحمد / الطبعة الثانية، عام 1398هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
34- مفتاح السعادة ومصباح السيادة - لطاش كبري زادة / تحقيق كامل كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور، مطبعة الاستقلال الكبرى ودار الكتب الحديثة، القاهرة.
35- المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - لجواد علي / الطبعة الثانية، عام 1976م، دار العلم للملايين، بيروت، ومكتبة النهضة، بغداد.
36- ميزان الاعتدال في نقد الرجال - للإمام الذهبي / تحقيق علي محمد البجاوي، الطبعة
الأولى، عام 1382هـ، دار المعرفة، بيروت.
________________________________________
( [1]) لسان العرب (4/389).
( [2]) (1/251).
( [3]) البداية (3/242)، وانظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/195).
( [4]) ... الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/195).
( [5]) ... الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/195).
( [6]) انظر: الرسالة المحمدية، المحاضرة الأولى.
( [7]) مسند أحمد (ح24671).
( [8]) صحيح مسلم (ح408).
( [9]) انظر: المحاضرة الثالثة من الرسالة المحمدية.
( [10]) رواه البخاري (ح438) -واللفظ له-، ومسلم (ح521).
( [11]) انظر: المحاضرة الثانية من الرسالة المحمدية.
(1) رواه البخاري انظر فتح الباري (8\360).
( [13]) رواه يونس بن بكير في زوائده على السير والمغازي لابن إسحاق (ص:210)، والبيهقي في دلائل النبوة
(2/207)، وقال في الغرباء (ص:93): (( إسناده حسن )).
( [14]) صحيح البخاري (ح3461).
( [15]) رواه الترمذي (ح2657)، وأبو داود (ح3660)، وابن ماجة (ح230، 231، 232 236، 3056)، وأحمد (ح4146، 62937)، والدارمي (ح228).
( [16]) انظر: الرسالة المحمدية، المحاضرة الرابعة لسليمان الندوي.
( [17]) راجع فهرس السيرة النبوية صور مقتبسة من القرآن الكريم لمحمد عزة دروزة.
( [18]) ذكرهما السخاوي في كتابه (( الإعلان بالتوبيخ )) (ص:527).
( [19]) انظر: لسان العرب (11/129)، والقاموس المحيط (ص:1267).
( [20]) رواه البخاري في الإيمان - باب المعاصي من أمر الجاهلية (ح30)، ومسلم في الإيمان (ح1661).
( [21]) رواه البخاري في الاعتكاف (ح2033)، ومسلم (ح1656).
( [22]) رواه البخاري في النكاح (ح5521).
( [23]) رواه البخاري (ح3640)، ومسلم (ح1920). انظر: بلوغ الأرب (1/15- 17).
( [24]) انظر: المسند (ح23298).
( [25]) انظر: السيرة للندوي من أولها إلى (ص:25).
( [26]) صحيح البخاري (ح4027).
( [27]) صحيح مسلم (ح3265).
( [28]) صحيح مسلم (ح2856).
( [29]) المسند (2/275،316).
( [30]) المسند (1/466) وفي سنده عمرو بن مجمع وهو ضعيف، وإبراهيم الهجري وهو لين الحديث.
( [31]) انظر صحيح البخاري (ح4859).
( [32]) صحيح مسلم (3483).
( [33]) انظر: بلوغ الأرب (2/194-244).
( [34]) بلوغ الأرب (3/36-73).
( [35]) انظر: بلوغ الأرب (2/52-55)، (2/301-369)، (3/3-76).
( [36]) صحيح مسلم (ح2865).
( [37]) بلوغ الأرب (2/286-300).
( [38]) السيرة للندوي (ص:12).
( [39]) بلوغ الأرب (1/39-40).
( [40]) بلوغ الأرب (1/37).
( [41]) بلوغ الأرب (1/33).
( [42]) انظر عن كرم العرب: بلوغ الأرب (1/46-98).
( [43]) بلوغ الأرب (1/377).
( [44]) بلوغ الأرب (1/149).
( [45]) صحيح البخاري (ح7).
( [46]) بلوغ الأرب (1/150).
( [47]) رواه مسلم (ح1978).
( [48]) انظر عن وفاء العرب: بلوغ الأرب (1/122-140).
( [49]) مجلة البيان، العدد الثاني.(11/278)
( [50]) انظر عن يوم ذي قار: تاريخ الطبري (2/207)، صبح الأعشى (1/393).
( [51]) ديوان عنترة (ص252).
( [52]) انظر عن شجاعة العرب بلوغ الأرب (1/103-120).
( [53]) بلوغ الأرب (1/377).
( [54]) انظر: شرح المعلقات (ص:194- 213)
( [55]) انظر: الطريق إلى المدائن (ص:40).
( [56]) فتح الباري (6/607).
( [57]) رواه البخاري (ح3231)، ومسلم (ح1771).
( [58]) انظر المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (4/5-76).
( [59]) ... المسند (ح1791).
( [60]) ... تفسير ابن كثير (3\332).
( [61]) المسند (1\397).
( [62]) صحيح مسلم (ح2276).
( [63]) صحيح البخاري (ح3293).
( [64]) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار - باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، الفتح (7/199) بدون إسناد.
( [65]) فتح الباري (6/611).
( [66]) فتح الباري (6/116).
( [67]) أخرجه البخاري في بدء الوحي (ح7).
( [68]) فتح الباري (6/641)، وصحيح مسلم (4/1828).
( [69]) رواه مسلم (4/1828).
( [70]) صحيح البخاري (ح3533).
( [71]) فتح الباري (6/644).
( [72]) فتح الباري (6/642).
( [73]) فتح الباري (6/644-645).
( [74]) رواه البخاري (ح110)، ومسلم (2110)، الفتح (6/647).
( [75]) صحيح مسلم (2/819).
( [76]) السيرة الصحيحة (1/96).
( [77]) رواه مسلم (3/1392).
( [78]) أخرجه مسلم (2/1072).
( [79]) صحيح مسلم (3/1392).
( [80]) انظر: السير لابن هشام (1/171)، وميزان الاعتدال (1/426)، ومجمع الزوائد (8/221) والسيرة لابن كثير (1/228)، السيرة النبوية في الصحيحين (ص:118-119)، والسيرة الصحيحة (ص:98-102).
( [81]) سيرة ابن هشام (1/175)، وسيرة ابن كثير (1/299).
( [82]) سيرة ابن كثير (1/249).
( [83]) صحيح البخاري (ح1664)، وصحيح مسلم (ح1220) انظر إلى كتاب مسائل الجاهلية التي خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
( [84]) رواه أحمد (1/190-193)، والبخاري في المفرد (ح570)، والحاكم ووافقه الذهبي (2/219)، وصححه الألباني في فقه السيرة (ص:75).
( [85]) السيرة الصحيحة (ص:112).
( [86]) السيرة ابن كثير (1/258).
( [87]) رواه البخاري (ح2262).
( [88]) (ح91).
( [89]) (ح2072).
( [90]) رواه البخاري (ح2062)، ومسلم (2153).
( [91]) كتاب البيوع - باب التجارة في البز (ح2062).
( [92]) رواه البخاري (ح2071).
( [93]) السيرة لابن كثير (1/265)، والسيرة الصحيحة (ص:112).
( [94]) رواه الإمام أحمد (3/425)، والحاكم (3/458)، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر: سيرة ابن هشام (1/209).
========================
مدير مركز التنوير لابد من وقف الحوار مع الفاتيكان
حوار:عبد الرحمن أبو عوف
- الاختراق الصهيوني للهيئات المسيحية وراء الحملة الجائرة ضد نبينا عليه الصلاة والسلام.
- الحملة أعادت العلاقة مع الغرب إلى المربع صفر وعرقلت محاولات التقارب والحوار.
- إنشاء كليات للسنة النبوية وتفعيل دور المراكز ضرورة حتمية.
- رموز التغريب في العالم الإسلامي أكبر خطر على السنة المطهرة.
في حوار مثير أكد الكاتب الصحفي أبو إسلام أحمد عبد الله مدير مركز التنوير الإسلامي أن أمتنا الإسلامية مطالبة كلها بالتصدي للحملة الظالمة التي تشنها جهات كنسيّة غربيّة على رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأن يكون تصدينا لهذه الحملة بأسلوب مؤسسي منسق تشترك فيه جميع الهيئات الإسلامية الرسمية، وأن تنسق هذه الجهات فيما بينها حملة تجب هذه الاتهامات الظالمة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عبر ندوات ومؤتمرات يشترك فيها علماء المسلمين مع رجال الدين المسيحيين لإظهار تهافت هذه الاتهامات، وكذلك التصدي لمحاولات الإساءة الداخلية لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- وسنته التي يقوم بها الاتجاه العلماني، وأن نواجه حملة (مليون ضد محمد) تحمله مواجهة مليار مسلم مع الرسول
وشدد أبو إسلام على ضرورة مقاطعة حوار الأديان الذي يتم حاليًّا بين جهات إسلامية مع الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي كأقل موقف نواجه به الحملات الظالمة ضد نبينا عليه الصلاة والسلام.
وقضايا مثيرة وعديدة نناقشها مع أبي إسلام في السطور التالية..
تشن جهات كنسية حملة ظالمة ضد نبينا الكريم.. كيف تنظر إلى هذه الحملات المغرضة؟
هذه ليست أول محاولة يقوم بها قساوسة غربيون ينتمون بصورة غير مباشرة للفاتيكان ضد الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فالكنيسة الغربية ومنها الفاتيكان لا تعترف بنبي الإسلام، ونظرتهم إليه تقتصر إلى كونه مصلحًا وليس نبيًّا مُرسلاً.(11/279)
وهذه الحملة تأتي كحلقة في مسلسل العداء للنبي؛ فتارة يتهمونه بأنه مزواج ويعشق النساء، وأخرى بالجمود والتطرف، وثالثة بأنه إرهابي نشر دعوته بالسيف وليس بالإقناع والحوار، وأنه اعتمد على مجموعة من القتلة وسفاكي الدماء لنشر هذه الدعوة؛ علاوة على حملتهم الشديدة على زوجاته -رضي الله عنهن- واتهامهن بأفظع الاتهامات، والحملات الظالمة التي تعد سابقة خطيرة للفاتيكان الذي لم نتعود منه هذا التهور وموقفه من الرسول كان لا يتعدى عدم الاعتراف بنبوته، ولكن لم نعهد منه الإساءة المباشرة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتشويه صورته.
مواجهة الفاتيكان
إذًا ما دام الفاتيكان وقساوسته قد تورطوا في هذه الهوّة السحيقة؛ فكيف نواجهها؟
أول خطوة نواجه بها هذه الحملة الظالمة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي: وقف حالات الحوار التي تجريها العديد من الهيئات الإسلامية مع الفاتيكان، وعلى رأسها الأزهر الشريف ورابطة العالم الإسلامي والمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة؛ حيث يستغل الفاتيكان هذه الجولات من الحوار لتحسين صورته وإظهاره بأنه مؤسسة للمودة والتسامح مع الآخر.
وثاني خطوة هي: دحض هذه المؤامرات، وشن حملة إعلامية كبيرة لمواجهتها عبر إظهار زيفها وعقد الندوات والمؤتمرات التي تظهر الوجه الحقيقي للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وإظهار سماحته وأخلاقه العالية وإحسانه إلى الآخر؛ خصوصًا النصارى واليهود، وطبع كتب بمختلف اللغات ترسم الصورة الحقيقية للنبي؛ فأوروبا رغم تقدمها العلمي والتكنولوجي تجهل أبسط المعلومات عن الإسلام و نبينا الكريم؛ لذا يفضل أن نوجه حملتنا لمناصرة نبينا العظيم إليهم بلغتهم، والتأكيد لهم أن العداء للنبي مخالف لأبسط القواعد المسيحية التي تنادي بالتسامح وقبول الآخر, وأن احترام الأنبياء والرسل من أبسط تعاليم المسيح والمسيحية.
اختراق صهيوني
برأيك هل تقف جهات صهيونية وراء هذه الحملة؟
هناك اختراق صهيوني للمؤسسات المسيحية وعلى رأسها الفاتيكان منذ مدة طويلة، ولا أستبعد أن تقف هذه الجهات المشبوهة وراء الحملة على نبينا العظيم لتشويه صورة ديننا الحنيف، ويمكن أن يكون خلفها التيار الصهيوني المسيحي الذي يرى أن نصرة اليهود وهيمنتهم على أمتنا الإسلامية تأتي تنفيذًا لتعليمات المسيح، وهذا من أسوأ صور التطرف. ومما يزيد من يقيني بتورط جهات خارجية في هذه الحملة أن الفاتيكان طوال تاريخه لم يُقدِم على خطوة كهذه، وهي ما تعد سقطة مزرية للفاتيكان تؤثر كثيرًا على مصداقيته؛ فالحملة على محمد -صلى الله عليه وسلم- تعيد العلاقة بين العالم الإسلامي والمسيحية إلى المربع صفر، وتعيدنا عمومًا إلى أجواء الحرب الصليبية التي شنتها القوات الصليبية بدعم من الكنيسة، كما أنه يتسبب في وأد محاولات التقارب وجولات الحوار التي جرت بين المؤسسات الإسلامية والمسيحية في السنوات الماضية.
جهد قاصر
ولكن كيف نستطيع كمسلمين مواجهة مثل هذه الحملات؛ خصوصا أن هناك حملات علمانية مغرضة في الداخل تستهدف النبي وسنته؟
الرد على حملة كهذه يتطلب جهدًا مؤسسيًّا وليس شخصيًّا، وأن تقوم به جهات كبرى كالأزهر ورابطة العالم الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من المراكز العلمية الرصينة، وأن يتم التنسيق بين هذه الجهات للتصدي لهذه الحملات المشبوهة، وهذا يتطلب جهدًا كبيرًا، وأن يركز هذا الجهد على وقف الحملات الداخلية التي تشن هجومًا شديدًا على الرسول وسنته ممن يطلق عليهم اسم "القرآنيين" الذين يسيئون إلى الإسلام عمومًا ورسوله -صلى الله عليه وسلم- خصوصًا، وأن تكون أفعال النبي وأقواله نبراسًا لنا في حياتنا، أي تصبح أسلوب حياة. ومن الأسف حاليًّا أن الدعاة إلى الإسلام لا يركزون في دعوتهم على الهدي الظاهر ولا يركزون على سنن النبي وأفعاله؛ بل يبتعدون عنها حتى لا يتهمهم أحد بالغلو والتطرف.
وكذلك ضرورة التصدي للاتجاه العلماني الذي يعمل على تشويه صورة نبينا كلما سنحت له الفرصة، علينا أن نقف ونتصدى لهذه الهيئات ومما يؤسف عليه أن هناك جهات عديدة مهمتها الدفاع عن النبي وسنته ومنها مراكز دراسات السُّنّة الموجودة في العديد من الدول العربية والإسلامية وهذه المراكز رغم تعددها ونشاطها إلا أن جهدها قاصر، ولم تحقق الأهداف التي أنشئت من أجلها للدفاع عن الرسول وسنته، واكتفت بعقد المؤتمرات والندوات التي يتحدث فيها علماء مسلمون لعلماء مسلمين، ولم تعمل على إعطاء جهدها طابعًا خارجيًّا يتصدى للمؤتمرات الغربية على رسولنا عبر مشاركة مفكرين وعلماء ومفكرين غربيين؛ فنحن نظل نتحاور مع أنفسنا ولا نوجه حديثنا للغرب، وهذا خطأ كبير!.(11/280)
أما الأوساط الشعبية والإسلامية؛ فعليها واجب كبير لنصرة الرسول واستغلال التقدم التكنولوجي لفضح مؤامرات الغرب ضد رسولنا وديننا، وبذل جهد للظهور بمظهر المناصر لنبينا -صلى الله عليه وسلم-، وعدم إعطاء الفرصة لتيار انهزامي ينتشر بين الأمة يدّعي أن تجاهل هذه الحملات يطفئها، وهذا خطأ فظيع؛ فالغرب إذا وجدنا نتهاون مع كرامة نبينا فسيستمر في غيه!
السم في العسل
تحدثتَ كثيرًا عن الاختراق الغربي لمؤسساتنا الإسلامية خصوصًا الرسمية.. كيف ذلك؟
فعلاً هناك اختراق مسيحي للمؤسسات الرسمية؛ فعلماء هذه المؤسسات يحاولون استرضاء المؤسسات الدينية الغربية ويظهرون إعجابهم بالنمط الغربي ويحاولون تسويق النمط الغربي إلينا على طريقة السم في العسل لدرجة أن العديد من شيوخ الإسلام يتحدثون أن الغرب أصبح الوصي على الإسلام، وأن الاستفادة منه أفضل لنا، وأن المواجهة لن تكون في مصلحتنا، وأحسب أن هذه الظاهرة بدأت تتكرس بشدة في الأيام الأخيرة؛ حيث أصبح بعض علماء السلطان يعملون وكلاء للغرب، ويسعون ليكونوا رموزًا للتغريب في حياتنا، بل إنهم أصبحوا يتندرون على فكرنا الأصيل ويصمون ثوابت إسلامية بالتخلف والجمود، وهذه كارثة إذا لم نحاول التصدي لها ووأدها حاليًا فسوف نعاني الأمرين منها في المستقبل!.
مزيداً من التفاعل للدفاع عن رسولنا صلى الله عليه وسلم
نشرت جريدة الرياض في 29/12/1426هـ
ربيع الحرف
مزيداً من التفاعل للدفاع عن رسولنا صلى الله عليه وسلم
د. نورة خالد السعد
منذ يوم الجمعة 26 شعبان 1426ه الموافق 30 سبتمبر 2005م والرسوم الساخرة برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم منشورة في الصحيفة الدانماركية (جيلاندز بوسطن) والدفاع عن نشرها بدعوى حرية الرأي!!
ويدعم هذا الرأي ملكة الدانمارك ورئيس الوزراء الدانماركي بل ان الحكومة الدانماركية كما نشر في موقع الإسلام ديني في يوم الاربعاء 25 ذي الحجة على لسان رئيس وزرائها تحاشت الرد على النقد المقدم إليها من الأمم المتحدة وقد كانت 57 دولة إسلامية تقدمت باحتجاج إلى هيئة الأمم المتحدة بخصوص الرسومات المسيئة لسيد البشرية حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأكد مبعوث الأمم المتحدة (دور دياني) في لقاء له مع جريدة اليولاندبوستن ان على الحكومة الدانماركية ان تتخذ موقفاً من هذا الموضوع، ولكن هذا الطلب رفض من قبل رئيس الوزراء الدانماركي وقال في تصريحه يوم الثلاثاء 24/12 الموافق 24/1/2006م بأنه من الخطأ ان تقوم حكومة ديموقراطية بتقييم عمل الصحافة ويرى ان الحكومة لن تضع نفسها في موقع الحكم لأن هذا يتطلب تفرغاً تاماً لما تقدمه الصحافة اليومية!! وفي الوقت نفسه أكد هذا الرئيس الدانماركي ان حكومته مرتاحة لطريقة تعاطيها مع هذه القضية!! وانها لا تشعر بأنها أساءت لحقوق الإنسان في هذا المجال!! ويقول: لقد قمنا بتقديم شرح واضح ومفصل عن كيفية تعاملنا وحمايتنا لحقوق الإنسان والأقليات مؤكداً ان هذا الشرح يتماشى مع التطلعات التي ينشدها مسؤول لجنة حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة!!
.. انظروا كيف هو التعامل اللامبالي والممعن في الإساءة والمهانة لنا بصفتنا مسلمين!؟ لقد خلع الله المهابة من قلوب أعدائنا عندما تهاونا في أمور ديننا ورضينا تدنيس القرآن الكريم في معتقلات جوانتانامو بل وإحراقه ورسم الصليب عليه.. واليوم يساء إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم ويكابرون ويرفضون الاعتذار!! بينما يحاكم مفكرون لمجرد انهم شككوا في الهولوكوست!! ويُسأل سفير خليجي في بريطانيا منذ أعوام لمجرد انه نشر قصيدة شعر في أم استشهادي فلسطيني!! وكيف يتحرك كوفي عنان ويشجب ومع جوقة المطبلين في الأمم المتحدة لأن الرئيس الايراني قال لهم اجعلوا دولة إسرائيل لديكم في أرضكم!!
والقائمة طويلة جداً وإعادة كتابتها لن تغير من الأمر شيئا لأن هؤلاء لا يتحركون إلا عندما يتأذى اقتصادهم إذا ما استمرت المقاطعة لمنتجاتهم ليس في المملكة هنا فقط بل في كل المجتمعات الإسلامية.. فلا يهنأ أي منا بالتلذذ بالجبن والزبدة من بلد يحتقر رسولنا ويستهزئ به ولا يلقي بالاً إلى جميع هذه الاحتجاجات من الهيئات الإسلامية العالمية..
?? يدعون أن هذا (حرية رأي)!! ونحن هنا نناقش الحوار مع الآخر واحترام الآخر.. وهذا هو الآخر يتمثل في تصرف دولتين أوروبيتين كانتا مسالمتين!!
ومن رسائل وجهت لوزير الخارجية الدانماركي الدكتور بيرستج مولر من قبل العديد من الغيورين جاء فيها (ان ادعاء الصحيفة بحرية التعبير في نشرها تلك الرسوم ادعاء غير مقنع لأن جميع دساتير العالم ومنظماته تؤكد على احترام الرسل، وعلى احترام الشرائع السماوية، واحترام الآخرين وعدم الطعن فيه علانية. وقد جاء في ميثاق شرف المجلس العالمي للفيدرالية الدولية للصحفيين ما نصه:(11/281)
- على الصحفي التنبه للمخاطر التي قد تنجم عن التمييز والتفرقة اللذين قد يدعو إليهما الإعلام وسيبذل كل ما بوسعه لتجنب القيام بتسهيل مثل هذه الدعوات التي قد تكون مبنية على أساس عنصري أو الجنس أو اللغة أو الدين أو المعتقدات السياسية وغيرها من المعتقدات.
- سيقوم الصحفي باعتبار ما سيأتي على ذكره على انه تجاوز مهني خطير: الانتحال، التفسير بنية السوء، الافتراء الطعن، القذف، الاتهام على غير أساس، قبول الرشوة سواء من أجل النشر أو لاخفاء المعلومات.
- على الصحافيين الجديرين بصنعتهم هذه ان يؤمنوا أن من واجبهم المراعاة الأمينة للمبادئ التي تم ذكرها ومن خلال الاطار العام للقانون في كل دولة.
وجاء فيها أيضاً: (اننا حين نطالب الصحيفة والحكومة الدانماركية بالاعتذار ومنع تلك الاساءات لاحقاً فإننا نعتمد على الميثاق الصحفي الذي جاء فيه (سيقوم الصحافي ببذل أقصى طاقته لتصحيح وتعديل معلومات نشرت ووجد انها غير دقيقة على نحو مسيء).
.. هذا الميثاق مهم ولمن سيرفع دعوى قضائية على هذه الصحيفة الاعتماد عليه وألا يطالب باعتذار فقط بل لابد من إغلاق تلك الصحيفة.. فالذي أُسيء له ليس حاكماً أو زعيماً بل هو سيد البشرية صلى الله عليه وسلم ومن خاطبه الخالق: إنا ارسلناك رحمة للعالمين..
ولابد من تفعيل رسمي من قبل الاتحادات والمنظمات الإسلامية في كل موقع والمطالبة بتفعيل القرار الذي تبنته لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بتاريخ 2/3/1426ه الموافق 12/4/2005م الداعي إلى محاربة تشويه الأديان لاسيما الإسلام الذي زادت وتيرة تشويهه في الأعوام الأخيرة ويقابل هذا صمت رسمي من معظم حكومات الدول الإسلامية ما عدا المملكة العربية السعودية التي سحبت سفيرها من الدانمارك منذ أيام ولله الحمد.. ولابد أن تحذو حذوها جميع الدول الإسلامية ولابد من إبعاد سفراء الدانمارك والنرويج أيضاً لأن صحيفتيهما أعادتا نشر الرسوم المسيئة..
?? نحمد الله على التجاوب الشريف من بعض التجار لايقاف بيع المنتجات الدانماركية ومقاطعتها فهذا سلاح آخر لابد أن يستمر وأن تكون هناك آلية مستمرة للتصدي لأمثال هذه التصرفات وأن يشارك جميع المثقفين والعلماء والكتّاب والكاتبات للتصدي لهذه الاساءات فالقلم أمانة.. وكما يتفاعلون مع (قضايا الآخر)!! لابد أن يتفاعلوا مع قضايا تمس (رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما يسخر منه هذا الآخر)!!
?? تحية تقدير لقناة المجد لتفاعلها المتميز وتسخيرها الإعلام لأداء الأمانة والدفاع عن رسولنا صلى الله عليه وسلم على مدى الأيام الماضية...
19 تعليق
1
شكر
جزاك الله خيرا ولاحرمك الاجر وحماك الله من كل مكروه
علي الحاج
05:13 صباحاً 2006/01/29
2
لانريد الاعتذار
كالعادة يا دكتوره مواقفك مثل مواقف قناة المجد مشرفة وهذا ادراك جميل لمعنى الامانة الصحفية التي افتقد لها الكثير للاسف.
تحية لكل مسلم غيور دافع وأنكر ما تقوم به هذه الدول الفاسدة التي لم ترى في حرية التعبير الا على حساب المسلمين. والله ان هذا لن يزيدنا الا تمسكا وحبا بسيد الخلق. واذا كانوا اتهمونا بالارهاب، فهذا هو الارهاب الفكري والاستفزاز. ان الاعتذار لايكفي فقد يكون ضعيف مثل ذر الرماد في العيون.
أتمنى من الجهات الرسمية ان يكون الاعتذار على شكل صفحة كاملة في هذه الصحف تعطى للمسلمين ليكتبوا عن دينهم ونبيهم ويدافعوا عن هذه الشبهات. صدقوني لو تم ذلك فلن تجرأ صحيفة على الاعتداء لانها ستعرف انها مطالبة بعد ذلك بتخصيص مساحة معينة في صفحاتها للرد على الشبهات وعرض المسلمين لدينهم بالشكل الصحيح.
ألف شكر للدكتور العزيزة وقناة المجد وجميع المخلصين.
أبو فيصل
08:14 صباحاً 2006/01/29
3
تحية شكر لقلمك الشريف
فأنت من أوائل من جرد قلمه للتصدي لحملة التشويه التي قصد بها المساس بالجناب النبوي، وهكذا نريد من كتابنا، وهذا ما ننتظره منهم.
والعجب لا ينقضي من هذا الإصرار المزعج من صحيفة ((بولاند بوستن)) وحكومة الدنمارك من ورائها؛ فالحكومة وعلى رأسها الملكة ((مارجريت الثانية)) ورئيس الوزراء ووزير الخارجية يصرون على عدم الاعتذار، وصحيفة بولاند بوستن الدنماركية نشرت أمس بياناً للمواطنين السعوديين في صفحتها الأولى تصر فيه على أنها حرية الرأي والتعبير، ووضعت رابطاً لبيان في آخر بيانها أمس لبيان سبق أن نشرته، وفيه: أنها لن تعتذر، ولن تزيل الرسومات من الأعداد التي نشرت فيها.
أما خوفنا فهو من بعض المخذلين من أبناء جلدتنا الذين ينطقون بألسنتنا، وأخذوا في نشر تصريحات، وتدبيج مقالات في بعض وسائل الإعلام يدعون فيها إلى عدم المقاطعة، ويهونون من الجرم الشنيع الذي وقعت فيه صحيفة ((بولاند بوسطن الدانماركية)) ومجلة ((ماغازينت)) النرويجية.(11/282)
هؤلاء نخشى من تخذيلهم، ومن فتهم في عضد هذه الحملة التي أثلجت صدورنا حين وحدت بين الصفوف، وحركت الهمم، ونفضت الغبار عن كثير من أحوالنا. والله الموفق.
أحمد بن عبد العزيز السليمان
08:17 صباحاً 2006/01/29
4
فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء!
الدكتورة نوره السعد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحية وشكر لما يخطه يراعك، وأسأل الله لكِ دوام شرف الدفاع والذب عن ساحة رسولنا صلى الله عليه وسلم..
صدقتِ (القلم أمانة).. أين من سخّر قلمه للدفاع عن المطربة فلانة؟! وعن الممثل فلان؟! وأين من سخّر قلمه لتمجيد الأراذل والحثالة؟!..
ألا يستحق سيد ولد آدم لمن يهب نخوة ودفاعاً عن شرفه؟؟ بل وعن شرف مليار ومائة مليون مسلم؟؟.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (هجاهم حسان فشفى واشتفى)..
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
هجوت محمدا برا تقيا * رسول الله شيمته الوفاء،
فإن أبي ووالده وعرضي * لعرض محمد منكم وقاء،
فمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه وينصره سواء،
أكرر شكري وتقديري لأستاذتنا نوره، مع التحية..
خالد بن راشد الحجي
08:30 صباحاً 2006/01/29
5
كلمه الشعوب
يجب على الشعوب ان يكون لها دور كبير وان لا يعتمد على ماتقوم به الحكومات فقط وان تستمر الحمله ضد الدنمارك والمقاطعه على جميع المستويات حتى يكون درس لجميع الدول وتبقى للتاريخ
عبدالله الجابر
08:49 صباحاً 2006/01/29
6
اختلف معك
افهموا الرأي الأخر..وماسبق ان طرحه احد المعقبين عن الموضوع. لماذا المقاطعة؟ لماذا المقاطعة؟ ان المقاطعة لن تحل المشكلة بل هذا ما سيثبت فكرة الغرب بكوننا شعب متخلف و لا نجيد الحوار. لنعطي فرصة للحوار.وهو ما قاله الأخ عبدالحليم وعلينا ان ننتبه لواقعنا وانفسنا ولا نكون امميين اكثر من اللازم.نحن همنا وطننا. واذكر تعليق عضو مجلس الشورى في جريدة شمس إن "مقاطعة المنتجات الدنماركية أسلوب عاطفي، لذا ينبغي على المسلمين أن يسعوا إلى إيصال صورتهم بملامحها الحقيقية، لا كما يصورهم الخطاب الإسلامي المتطرف".
لمى
09:15 صباحاً 2006/01/29
7
ليست مسؤليتكم وحدكم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
جزاك الله خير د/نوره
نعم هي ليست مسؤليتكم وحدكم ككتاب ومثقفين وايضا تجار هي مسؤلية كل مسلم ان يدافع عن دينه وانا في الحقيقة استغرب من الدول الاسلامية التي لم تبادر بسحب سفرائها بعد الذي حدث !!! أليسو مسلمين؟
مع العلم أن سحب السفراء اقل شيء يجب أن يعمل به.
قبل الختام يجب ان نشيد بشبابنا البواسل ( الهاكرز ) الذين بدأو في اقتحام مواقع الصحف على الانترنت التي شنت الهجوم على سيد الخلق محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ووضعوا راية التوحيد على واجهات المواقع...
الوليد السليمان
09:22 صباحاً 2006/01/29
8
مشكورة
الله يعطيك العافية ويجعل هذا المقال يشهد لك يوم القيامة, بارك الله فيك.
بدر عبدالله
09:29 صباحاً 2006/01/29
9
حملات جادة
اتمنى ان يكون هناك حملة توعوية تقوم وبشكل جدي بتوعية اصحاب المحلات و توضيح الموقف بشكل اكبر لمنعهم من بيع منتجات بلد كهذة وبيان واجبهم كمسلمين تجاه هذا الدين. و نشكر مملكتنا الحبيبه على سحب سفبرها من الدنمارك
هناء الحوراني
09:40 صباحاً 2006/01/29
10
شكر
جزاك الله خيرا و صلى الله على سيد الخلق
ابو العبد التميمي
10:27 صباحاً 2006/01/29
11
أنت عينة من الجنود البواسل
في الحروب السابقة كان الإنتصار والقوة لمن هو الأقوى...
العصر الحديث تخاض الحروب بسلاح العقل والفكر والمال والإقتصاد..
وجنوده هم العلماء والمفكرين والكتاب المخلصين...
دكتورة نورة عجباً من دولة كالدنمارك كما قلت في مقالة لي سابقة تعتبر من الأقزام مقارنة مع الدول الأخرى ومع ذلك عندها الشجاعة أن تجرح 000 000 000 1 شخص مسلم!!!
هذا يدلنا ويبرهن لنا أن العلة لاتكمن في هؤلاء الناس فهم أحلوا الشذوذ والمخدرات وعبدوا الشيطان وقطعوا الأرحام.وأكثر ممانعرفه جميعنا ولكن العلة والمصيبة فينا نحن المسلمين...والأمل بالله كبير فما تزيد هذه المصايب المسلمين الا وقوداً للإنطلاق نحو قيادة المستقبل بإذن الله...
ووالله إن الأمة محتاجة لهاكذا مخلصين من أمثالك وأمثال القائمين على قناة المجد وكل المخلصين لله أولاً ثم لدينهم ونبيهم...
ووالله كما ذكرتي أن أنجح علاج لهؤلاء المرضى هو سلاح الإقتصاد.
ولننقل المعركة من أن تكون لدينا إلى عقر دارهم عندما ينقلب الإقتصاد الى بطالة وخسائر ومظاهرات وينقلب رجال الأعمال عليهم وإن الله سيريهم سوء أ‘مالهم إن نحن صدقنا الله ماوعدناه وكنا مواطنين صالحين نعي مايطلب منا على أكمل وجه وبذكاء...(11/283)
فهل نعجز نحن المسلمين عن الإستغناء عن منتجات عدوة الله ورسوله الدنمارك وهي منتجات لها بديل من صناعاتنا المحلية أم نفشل لأننا أناس عاطفييون في هذا الإختبار كما فشلنا مع المنتجات الأمريكية.هذا إختبار لنا إختبار للإرادتنا وحبنا لطيب الثرى محمد صلى الله عليه وسلم...
أختي الدكتورة نورة والله على أني منشغل جداً ولكن مادام المسألة تمس النبي صلى الله عليه وسلم فالموضوع مختلف وسوف أدافع بقلمي وبمالي وبجهدي وبعقلي وبدعائي والكل على قدر إستطاعته...
وإلم أفعل ذلك فما فائدة عيشي !
Falcon eyes
10:47 صباحاً 2006/01/29
12
لا تختزلوا الإساءة فى أصبع زبدة
رائع هذا المقال د. نورة و إضافة للأقلام الحرة الغيورة التى انبرت لهذا الإسفاف و التفاهة التى جاءت فى صحف الدنمارك و النرويج. و العجيب أنّ هذه الدول من الدول ( الناعمة )، الطرية مثل الزبدة، و لست أدري من أين طلعت لها هذه الأنياب و المخالب التى لم تجد إلاّ أفضل و أكمل البشر للإستهزاء به. و الأعجب أن نرى بعض المسلمين الذى تعودوا على الإستكانة و الذل يطالبون بالإنحناء و الحوار مع هؤلاء السفلة. يا ترى ما الذى سيقوله المسلم المحاور ؟ الموضوع ليس مسألة سياسية مختلف عليها بين الدول، بل طعنٌ فى عقيدة مليار و ثلاثمائة مليون مسلم و إهانةٌ لنبيّهم المعصوم - عليه أفضل الصلاة و أتمّ التسليم.
أرجو أن تكون قرارات قادة المسلمين على مستوى هذا الغليان الذى يجتاح وجدان كل مسلم على وجه الأرض، وأن تكون مقاطعة منتوجات هذه الدول أول الغيث و أهون العقوبات.
قال حرية التعبير قال !!! عجبى.
أنور على
12:37 مساءً 2006/01/29
13
بورك فيك وفي قلمك.. ومهما قلنا وكتبنا ,ز.. نأمل المزيد من التفاعل
شكر الله لك هذا المقال والمقالات التي قبله.. والله أسأل أن يجعلك ممن يشفع لهم الحبيب صلى الله عليه وسلم، ووالديك.. والأخوة الاقراء...
مؤلم حقاً ألا يكون هناك تفاعل من قِبل صحفنا السعودية ,,, إلا النزر القيلي.. من الأخوة الأخوات الكتاب!!!
بينما في الكويت والدول الأخوى... تحركت سياسياً بعد تحرك حكومتنا - وفقها الله - بينما سبقتنا إعلامياً.. بمراحل ! فما السبب ؟
فشكر الله سعيى إخواتنا وإخواننا الكتاب الذين تفاعلوا مع الحديث... ومن لم يتفاعل مع نبي الرحمة وما يسخر به.. فلا حاجة لنا به ولا بكتاباته.
لو سمع أحدهم قصة مختلقة عن رجل توقعوا أنه من هيئة المر بالمعروف والنهي عن المنكر... لحملوا الدنيا ولم يقعدوها... والآن وكأن الأمر لا يعينهم!!!
وأخيراً قال تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره}
وفق الله الجميع لما يحب ويرضاه، وأخذ بيدينا جميعاً للبر والتقوى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
عبدالعزيز بن علي العسكر
01:11 مساءً 2006/01/29
14
بارك الله في الجهود
الاخت الدكتوره نوره بارك الله في جهودك وحقك علينا الدعاء بأن يبارك الله لك في علمك وقلمك وجرئتك في الدفاع عن قضايا الامة فأنت أحد فرسان الساحة وامالنا معقودة بعد الله على جهودك والمخلصين من امثالك،وما وصلنا الى هذه المرحلة من الضعف والهوان الا بالبعد عن الدين.
ابوعبدالعزيز
02:18 مساءً 2006/01/29
15
الله يوفق في الدنيا والاخره
الى الدكتوره نوره السعد وفقك الله وارجوا منك ان تدعي الكاتبات والصحفيات الى تبني القضيه وتصعيدها على كل المستويات وفي كل المحافل الدوليه والمحليه وفي الاذاعات وعبر وسائل الاعلام المختلفه وبارك الله في جهودك وفي قلمك
ابو ياسر
03:08 مساءً 2006/01/29
16
نعم قاطعوهم ثم قاقطعوهم
الأخت الفاضله الدكتوره نور السعد0
وفقك الله على هذا البيان الجميل وجزاك الله خير الجزاء على ما اورتي به من كلام صادق وبيان حول النية المبيته للحكومة الدنمركية وحثالات صحافتها حول موضوع سب النبي والإعتداء عليه صلى الله عليه وسلم والموقف السلبي لملكة الدنمرك ورءيس وزراءها يزيدنا تمسكاً وحرصاً على نصرة نبينا صلى الله علية وسلم0
لي تعليق طويل حول ماكتبته الكاتبه (لمى) وقمت بإنزاله في إحدى المنتديات
تركي الحربي
03:24 مساءً 2006/01/29
17
فلتسير القافلة.
آمل المضي في الدفاع عن الحبيب صلى الله عليه وسلم..بدات القافلة تسير بعزم نحو هدف واحد الكبير والصغير المراة والرجل الوزير والحقير المطيع والعاصي كل من في قلبه من ذرة ايمان. ان التحرك يزلزل قلوب مريضة..بهتت بما تم، يحارون الآن..كيف يصرفوا الانتباه عن هذه القضية، لذا أوصي الأخ الحربي بعدم اشغال قلمه بمن يثير ضجيج حول القافلة.فهذا أنت يا وطني شامخ بدينك، وهذه انت يا أمتي عاليه بهمتك. ومن لم يعجبه فليشرب من البحر.
لجين السعيد
05:01 مساءً 2006/01/29
18
شكر
أثابك الله وجعل ما تكتبين في ميزان حسناتك، وخالص لوجهه الكريم.
أم لين
05:06 مساءً 2006/01/29
19
بس هذا الي تقدرون عليها(11/284)
لو ان واحد متكلم على حاكم دوله او رئيسى او وزير الى اخرى ماذ فعلوا
اقاموا الدنيا واقعدوه وما بالك في رسول الله صلى الله عليه وسلم
اقسم بالله لو انه متكلم على حاكم دوله اسحبو السفير والاعلام جالس يسب في الدوله وهذا يسبو رسول صلى الله عليه وسلم
حسبي الله ونعم الوكيل
عاقل
05:54 مساءً 2006/01/29
==========================
مسلمو الدنمارك وأزمة الرسوم المسيئة
الكاتب: د.رائد حليحل
أيها الإخوة الأحباب، أتيت مع إخوان لي من الدانمرك نمثل بين أيديكم الغالبية العظمى من مسلمي الدانمرك حتى نرفع لكم شكايتنا عما حصل في تلك الديار...
أيها الإخوة الأحباب، لا بد لي أن أجعل كلامي على محورين اثنين....
المحور الأول : هو الكلام عن الفاجعة أو الكارثة التي وقعت في ديارنا في بلاد الدانمرك، والمحور الثاني هو الكلام عن كيفية تعاطي المسلمين مع هذه الأزمة.
لابد أن نعي بداية أن صحيفة (يولاند بوسطن) لها ميول واضحة، فكل من يتابع الإعلام الدانمركي يعرفها تماما، هي يمينية متطرفة بما تعني الكلمة، إن عندها من عدم المحبة إن لم أقل عداء بيناً للجالية عموما والمسلمين منهم تحديدا. ولم ترتدع يوما عن التطاول على الإسلام والمسلمين ولكنه طبعا لم يبلغ حدّ نشر الرسوم المسيئة، إنما كان على صورة النقد للمسلمين باستغلال بعض الثغرات عندهم وبعض المواقف التي تظهر ضعفهم التي كانت تبرزها دون أن تبرز غيرها، ولقد كللت هذه الأعمال بتلك الفاجعة الأخيرة عندما انبرت ظنا منها وإيهاما للمجتمع الدانمركي على أنها راعية الحقوق وأنها حريصة على حرية الرأي والتعبير، وأنها حامية لحمى الديمقراطية في تلك الديار، وبالتالي أنها التي تقف أمام زحف إسلامي مخيف في ديار الغرب عموما وفي الدانمرك تحديدا.
الذي هيج الجريدة أن كاتبا كتب كتابا عن الإسلام، للأسف لقد نزل إلى الأسواق منذ مدة قريبة وعنوان الكتاب (القرآن وحياة محمد)، وهذا الكتاب فيه من الأكاذيب والشبهات وإثارة كل ما يمكن استغلاله ليقدح في مقام النبوة، ما لا يعلم به إلا الله. هذا الكاتب أراد أن يسوق لكتابه برسم يوضع على غلاف الكتاب يعكس مضامين الكتاب، أي رسومات ساخرة تعبر في أول صفحة عما في داخل الكتاب، لقد أبى أكثر الفنانين بل امتنعوا، فلما علمت الجريدة بذلك حكمت أن هذه مبادرة خطيرة، أيمكن أن نخاف نحن في ديارنا من المسلمين، أيمكن أن نراعي مشاعر المسلمين عوضا عن أن يراعوا هم مشاعرنا وقيمنا ومبادئنا وغير ذلك، فأرسلت هي بدورها إلى ثلة من الفنانين ومن الرسامين تطالبهم بل تحثهم وتوهمهم أن المعركة لا بد منها، وأنها المعركة الفاصلة التي لو انهزم هؤلاء أمامها فإن بناء الديمقراطية حقيقة سيشكل عليه هذا الضغطُ الإسلامي خطرا كبيرا ، فحثتهم على هذا الفعل، فاستجاب اثنى عشر وامتنع بقية الأربعين، وجاءت الرسومات قاصمة لظهر كل عاقل فضلا عن كل مسلم.
لقد جاءتنا الفاجعة صبيحة يوم الجمعة، ولعل اختيار يوم الجمعة له دلالته ـ لنفس اليوم ـ ولأن الجريدة ستكون بين يدي الذين عندهم الإجازة الأسبوعية يتمتعون بالنظر إلى تلك الرسومات الساخرة طيلة ثلاثة أيام وكان ذلك في يوم 30 من شهر 9 من العام الميلادي 2005م ، فما كان من المسلمين إلا أن تنادو لعقد لقاء هادئ هادف بعيد عن الانفعالات، وإنما أردنا أن نتشاور في ما بيننا وأن نتذاكر كيف يمكن أن نواجه مثل هذه القضية، ولا أفشي سرا إن قلت لكم أن هناك رأيا كان مطروحا في هذه الجلسة أنه علينا أن نتجاهل تلك الرسومات ولكن الرأي الأغلب كان : لا بد أن نتصدى لها والذي رجح الرأي الآخر أننا وجدنا من الصحيفة إصرارا على عملها ، ولعلمكم فإن أول ردّ نزل لنا على الرسومات كان بعد أسبوع، وطيلة هذا الأسبوع كانت في كل يوم تتحفنا الصحيفة بتكرار صورة أو مقال يؤكد هذا المعنى.(11/285)
الصور كانت مسيئة، والإشكال فيها كبير ولكن الإشكال في ما قاله المحرر مرافقا لهذه الصور كان أكبر، عندما أراد منا أن نتهيأ نفسيا لهذا الأمر وأن نرضى ونرضخ لأي إهانة مهما عظمت ومهما كان حجمها لأن هذا كان من متطلبات الحياة الديمقراطية، وهنا تكمن الخطورة ، لأن الرسومات لم تكن رصاصة طائشة ولم تكن عملا حقيقة غير هادف إنما كانت عملا مدروسا، وقد افتضح هؤلاء أرباب تلك الصحيفة عندما قال خبير في الديانات في الدانمرك " لقد استُشِرت في هذه الرسومات، فقلت لهم حذار حذار من نشرها، لأنها ستحدث انتفاضة". ولكن إصرارهم على نشرها إلى جانب سكوتنا أسبوعا كاملا، طبعا سكوتنا إعلاميا، ولكن كنا في داخلنا وفي مجتمعاتنا ومنتدياتنا في حالة تشاور حول ما هو العمل الأنسب وكيف سنواجه القضية. وأنا لا بد أن أذكر هذا الكلام، ليس دفاعا عن أنفسنا وليس تزكية لها، إنما بيانا للحقيقة، لأننا سمعنا كثيرا من التوجيهات والنصائح الكريمة وشيئاً من نقد، كنت أتألم منه أنا وإخواني في الدانمرك. هذا النقد كان يقول أن المسلمين في الدانمرك هم الذين يتحملون مسؤولية الإساءة وهم الذين يتحملون أسبابها، وهذه الكلمة فيها من الإجحاف لحق مسلمي الدانمرك ما لا يعلم به إلا الله.
ليكن معلوما لديكم جميعا، إن كان لا بد من تحميل المسلمين لهذه المسؤولية فليكن التحمل من المسلمين عامة، في العالم كله، لأننا اليوم نعيش في عالم كأنه قرية واحدة. هؤلاء نظرتهم على الإسلام، ليست من أجل الشيخ رائد ، إنما نظرة على كل عمل ولو كان في أقاصي الدنيا ومحاولة نقده بهذه الطريقة أو بغيرها. فأقول لكم لا تعفوا أنفسكم من المسؤولية، بل بيننا شراكة كاملة كلنا نتحمل المسؤولية إذا كان لا بد من تحملها، ولكن حتى لا نظلم أيضا لأننا قصرنا في التعريف برسول الله وقصرنا بالدعوة إلى الله ولو أننا قمنا بواجبنا لما عمل بهذا العمل، ولا أدري، أكل تهكم بدين الله سببه المسلمون؟ وبالتالي، أيعقل أن نحمل المسلمين المسؤولية في الدنيا والآخرة بأن نطالب أن يقام الحد عليهم اليوم أو نطالب بأن يعاقبهم الله يوم القيامة لأنهم متسببون في هذه الإساءة؟ أقول، كفانا جلدا لذواتنا، لا ينبغي أن نجلد أنفسنا لهذا المستوى والحد. نعم، أنا مع النقد الذاتي، ولو لم أكن معه لما نقدت إخوانا لي في الله، أحبهم، أحترمهم ولكن المصلحة العليا أهم عندي من أن أنتقدهم أو غير ذلك.
إذاً، رأينا أيها الإخوة بعد إصرار الصحيفة أنه لا بد من القيام بعمل، ولكن تخيلوا ما العمل الذي أديناه. كان عملا حقيقة كما يقال في الغرب تحت مظلة الديمقراطية! لم نقارف عملا واحدا والقضية اليوم عمرها خمسة أشهر، لم نقارف عملا واحدا يمكن أن يسجل على المسلمين أنهم أخطأوا بحق رسالتهم ودينهم وحضارتهم في المجتمعات الغربية.
لعلمكم، المسيرات التي خرجت في العالم الإسلامي هي التي وقع فيها التخريب، أما عندنا، حتى المسيرات لم تخرج، لأننا كنا نخشى لو أننا أطلقنا دعوة للخروج إلى المسيرات، ونحن نعلم أن النفوس ملتهبة، أنه قد يخشى أن يحدث شيء، ولذلك من حنكتنا وحكمتنا رفضنا أن تكون هناك مسيرات في الدانمرك.(11/286)
ما الذي عملناه؟ جمعنا توقيعات حقيقة بلغت حوالي عشرين ألف توقيع من أجل أن نوصل رسالة للصحيفة وأرباب السياسة أن هذا عمل لا يمكن أن نرضى عنه. استشرنا محامين من أجل أن نرفع قضية في القضاء الدانمركي لنحل تلك القضية. كتبنا رسالة احتجاج مؤدبة في قمة الأدب إلى تلك الصحيفة وقلنا لهم " إن كنتم في علمانيتكم لا تقيمون للرموز قداسة، فإن نبينا ما زال له في قلوبنا وسيبقى بإذن الله رمزية عظيمة وقدسية كبيرة، لا بد لكم، إن أردتم أن نحترم قيمكم، إذا أردتم أن نحترم مجتمعكم لا بد أن تحترمونا، لا بد أن يكون احتراما متبادلا وأما احترام من طرف واحد يعتبر ظلما ومهانة". ثم أكثر من ذلك، كتبنا رسالة دبلوماسية إلى وزير الثقافة ولم يصلنا الجواب إلا من أيام قليلة بعد أن التهب الشرق الأوسط بحالة الاحتجاج. إذا، كل هذا الكلام يدل على أننا لم نشأ أن نجعل من الدانمرك ساحة حرب ، وهذا للأسف من باب التضليل الإعلامي في الدانمرك، صوّر للمجتمع الدانمركي أن اعتراض المسلمين ليس إلا نوع من أنواع إعلان الحرب على حرية الرأي والتعبير وقلنا لهم مرارا، نحن أولى وأول من نادى بحرية الرأي والتعبير. هل هناك أعظم من أن يكون في ديننا إذن للبشرية أن يكون منهم مؤمن ومنهم كافر؟ أي حرية أعظم من ذلك! أي حرية أعظم من قول الله، لا إكراه في الدين! ولكن للأسف أيها الإخوة، هناك أمر أرجو من الجميع أن يتنبه له تماما ، وهو أن صورتنا تشوه دائما في الدانمرك ، وولله ليس بتقصير منا ولا نعفي أنفسنا من المسؤولية ، ولكن أنا وغيري من الدعاة الذين هم معي الآن جزاهم الله خيرا! يتكلم أحدنا ساعة لا يأخذ الإعلام منه إلا كلمة وتوظف في غير محلها ، وتبتر وتوضع في غير سياقها ليتوهم القارئ والسامع أن هؤلاء حقيقة أسود ضارية لا بد أن تخافوا منهم.
لقد عشنا في الدانمرك بسلام ولا زلنا مسالمين ولما قمنا من أجل أن نوقف هذه المهزلة كان سبب ذلك أننا نخشى أن يحدث في الدانمرك ما حدث في هولندا. لا نريد أن نفتح المجال أما عواطف غوغائية غير منضبطة لتنتقم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أردنا منهم أن يخاطبونا بالعقل لنخاطبهم بالعقل، أن نحل القضية بالعقل وأنا أطمئنكم أيضا لأننا في مرحلة لم نتعرض بها للحكومة الدانمركية بكلمة واحدة، لا نريد أن نظهر أمامها أننا أناس نريد أن نشاغب مع الحكومة. كل كلامنا كان منصبا على الجريدة وما زال حتى اليوم ، ولم نطلب من الحكومة موقفا منصفا لنا إلا عندما أخطأت الحكومة بأعمال أظهرت من خلالها أنا داعمة أو متغاضية عن عمل الصحيفة ، ولعل بعضكم اليوم اطلع على نشرة الأخبار على أن الرئيس الدانمركي أصر أن يقحم أنفه في هذه المعضلة ليعترض اعتراضا كبيرا ويدين بشدة عمل شركة (آرلا) التي قالت لنا نحن المؤتمرين هنا، أرجوكم أنا أحترمكم، أنا أدين عمل الصحيفة، لا تأخذوني بجريمتها!
مجرد هذه الكلمة العاقلة التي كنا نتمنى من المجتمع الدانمركي برمته أن ينبري ليقولها وإن كان لا بد لنا أن ننصف لنقول: نعم، هناك أصوات جميلة في الدانمرك. خبراء في الدستور قالوا كلمتهم الطيبة، خبراء في السياسة قالوا كلمتهم الطيبة. عشرون دبلوماسيا كبيرا اعترضوا. ستين ألف توقيع من أناس جامعيين ومدرسين وطلاب قدموها للدولة أنك لا بد أن تكفي عن هذه المهزلة.
إذا نحن كنا وما زلنا وسنبقى نقول مشكلتنا مع الصحيفة وديننا علمنا أن لا نأخذ الصالح بجريرة الطالح، أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وإن كان لا بد من كلمة أعلم أن الكثير يسأل عنها، وهي قضية المقاطعة. فأنتم أعلم منا أننا مسلمو الدانمرك لم نطالب بالمقاطعة ولن نحث عليها ولم نطالب الناس بها ولكنها وقعت ردة فعل من الشعوب الإسلامية وإن دلت على شيء فتدل على أن قلوبهم قد غلت بالإهانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن كان لا بد اليوم من موقف فإن إخوانكم من اللجنة التي أتت من الدانمرك تلتمس منكم أن تقدروا الظرف الحالي الذي تعيشه هذه المرحلة في الدانمرك مسلمون وغيرهم وأننا لا بد أن نثمن عاليا موقفا ليس فقط شركة(آرلا)، إنما أي جهة من الدانمرك تتبرأ من عمل الصحيفة، فلا بد أن نرسل لها رسالة إيجابية لنبين لهم عدلنا نحن كمسلمين، وأننا لا يمكن أن نظلم أحدا، لكن أخيرا أقول لكم أيها الإخوة الأحباب ، إن كان لكم شرف نصرة النبي والتمتع بهذه النصرة فنحن لنا شرف التعرض لهذه الأذية لنصرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
أنا واحد من كثر قد أتتهم التهديدات لأننا انتصرنا لرسول الله سواءً كان واقعيا أو غير واقعي، الله أعلم به، ولكن الخطر لا يهمنا أن يأتي من مصادر مجهولة. الذي يزعجنا أن يتلفظ مسؤولون في الحكومة الدانمركية، عندما يهدأ العالم الإسلامي، لا بد أن نصفي حساباتنا مع الأئمة والدعاة وكأنهم اقترفوا جريمة لأنهم انتصروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(11/287)
نقولها بصراحة، حياكم الله على جهودكم، بارك الله بكم على هذه الاستضافة الكريمة ونسأل الله أن لا يخرج هذا الجمع إلا بما يرضي الله أولا وما يقر عين رسول الله صلى عليه وسلم ثانيا، وما يعيد العزة لأمتنا ثالثا وما يكون رسالة حضارية إنسانية طيبة هادئة هادفة نسلمها للغرب أننا إذا كنتم كما تقولون حريصون على السلام فنحن دين الإسلام وأحرص من كل العالم على هذا السلام ولكن لا سلام مع الاعتداءات والإهانة، فنقول للمجتمع الدانمركي سامحوني، لأنني لا بد أن أوجه الخطاب ولعلم بعضكم هناك أكثر من جهة إعلامية دانمركية، أتت لتسمع كلامي وكلامكم ونحن ليس عندنا شيء في الخفاء، ما نقوله في خطبة الجمعة أو للصحافة أو حتى في لقاءاتنا الخاصة كلام واحد. لقد ساءتنا الرسومات! لا يمكن أن نرضى عنها! لا بد من الاعتذار والتراجع والاعتذار عندهم صعب لأنهم يعلنون أنهم إن اعتذروا، فمجرد الاعتذار إقرار بعدم التكرار وهذا ما لا يريدونه.
فاتقوا الله أيها المسلمون واعلموا أن الأمة تنظر إليكم لتخرجوا بقرارات متوازنة تكفل أولا وهذا همنا نحن مسلمو الدانمرك، تكفلوا لنا حماية ديننا ورموزنا ومقدساتنا ولكن لا يعني ذلك أن لا تكون منسجمة مع الواقع أو واعية لما يجري.
بارك الله فيكم! عندي الكثير، لكن وقتكم أثمن. جازاكم الله خيرا والسلام عليكم ورحمة الله.
ـ كلمة ألقيت خلال المؤتمر العالمي لنصرة النبي عليه الصلاة والسلام الذي عقد في البحرين
ـ المشرف العام على اللجنة الأوروبية لنصرة خير البرية
===========================
مشكلات الحوار الثقافي بين الغرب والإسلام
الكاتب: مصطفى عاشور
أثارت المحاضرة التي ألقاها المفكر والمؤرخ المصري طارق البشري في معهد الدراسات العربية بالقاهرة تحت عنوان "مشاكل الحوار الثقافي بين الشرق والغرب" الكثير من التفاعل والإعجاب من الحضور؛ نظرا لأهمية القضية التي طرحتها، والأفكار التي عرضها. وقد أكد البشري -في تلك المحاضرة- أن الغرب يسعى لستر صراعه السياسي مع الشرق في كونه صراعا ثقافيا، رغم أن الصراع سياسي في الأصل، ورأى أنه إذا كان العدوان سياسيا فلا داعي أن نشغل أنفسنا بالحوار الثقافي، وألا نعبأ برأي الغرب فينا، وأن يكون جدلنا الحقيقي مع أنفسنا وقوانا الداخلية.
ورأى أن الغرب في العقود الأخيرة يحاول أن يجعل مشكل المسلمين ذاتيا، وليس مشكلا معه، فمنذ عام 1980 كانت أغلب صراعات المنطقة ذاتية، بل ظهرت مشكلات ثقافية داخلية في العالم العربي؛ فقد كانت الحقوق تفهم في السابق على أساس أنها حقوق الأمة في تقرير مصيرها، ولكنها حاليا تفهم على أساس أنها حق المرأة تجاه الرجل مثلا، ومن ثم انزوت فكرة الحقوق الجماعية وظهرت حقوق الفرد.
ودعا البشري إلى أن نمارس ثقافتنا كما فهمناها باعتبارها الوعاء الذي يجمعنا للمقاومة، وأنه ليس مطلوبا منا أن نبرر أنفسنا للآخرين، وأن نمارس مفاهيمنا التي تشحذ عزائمنا، وألا نتورط في حديث أكثر من اللازم عن صراع الحضارات.
الحوار بين السياسي والثقافي
في بداية المحاضرة أشار البشري إلى قضايا من المفترض أن تحكم الإطار العام عند الحديث عن أي حوار ثقافي بين الإسلام والغرب، في مقدمتها:
الالتباس بين الديني والسياسي: فالمعروف أن أي نظام سياسي يحتاج إلى جامعة ما بين الحاكم والمحكومين، وبغياب هذه الرابطة تصبح تكلفة البقاء عالية، وهذا ما يظهر واضحا في الموقف من الحاكم الأجنبي الذي لا ينتمي إلى الجماعة السياسية، فالاحتلال – مثلا- مشكلة ثقافية وسياسية معا.
محاولة ستر العدوان السياسي وراء أسباب ثقافية: فدائما يحاول المعتدي أن يصور الصراع السياسي على أنه صراع ثقافي، فنظرية "صراع الحضارات" التي جرى تصويرها على أنها صراع ثقافي هي في الأساس صراع سياسي.
وتناول قضية الاستشراق، معتبرا أن الاستشراق أعطانا مناهج علمية، لكن في الفترة الأخيرة الاستشراق يحكّم الفكر الغربي في الفكر المتعلق بالمسلمين، ويشرح الوقائع التاريخية بالمنهج الذي يفهم به هو وقائع تاريخه رغم الاختلاف بين التجربتين.
فالاستشراف ينظر للإسلام من منطق إما مسيحي وإما لاديني، ويحاكم النظم الخاصة بالإسلام من معاييره هو، ومثال ذلك تقسيم السلطات في الدولة، فالغرب يقسم السلطات إلى: قضائية وتشريعية وتنفيذية، وعندما ينظر إلى الحضارة الإسلامية وتجاربها يتساءل: هل هذا التقسيم موجود أم غير موجود؟ وعندما يرى أنه غير موجود -وفقا للمنظور الذي يرى به- يطلق على النظم الإسلامية أنها نظم شمولية، معتبرا أن الإمام (الحاكم) تتجمع في يديه جميع السلطات.
وتساءل البشري: هل غابت السلطة التشريعية عن النظام الإسلامي؟(11/288)
وأشار إلى أن المستقر في المجتمع أن السلطة التشريعية مأخوذة من الكتاب والسنة؛ فالفقهاء كانوا يدرسون للطلاب، وهؤلاء كانوا موجودين بشكل أهلي في المساجد يعلمون الناس، وكانت قوانين الكتاب والسنة هي قوانين درجة أولى، ثم تأتي اجتهادات الفقهاء كقوانين درجة ثانية، وكان القاضي يتصل بالشريعة مباشرة، ومن ثم فمن خلال فهم النظام الإسلامي ندرك أن السلطات الثلاث كانت موجودة.
ومن الأسئلة التي تؤكد ذلك: هل يجوز للإمام أن يعين القاضي ويفرض عليه رأيا معينا؟ الراجح عند الفقهاء مقولة "صح التعيين وبطل الشرط"، وبالتالي ووفقا للمقاييس الغربية فالسلطة التشريعية منفصلة عن السلطة القضائية المنفصلة عن السلطة التنفيذية. هذا الأمر لم يكن المستشرق يستطيع أن يتوصل إليه.
انتقاء الإدراك
وأشار البشري إلى أن المفكر الغربي اهتم من التراث الإسلامي بأمرين:
الأول: اهتم بالصوفية لاقترابها من المسيحية في بعض الجوانب.
الثاني: اهتم بالفلسفة نظرا لأن الفلسفة تبحث عن الشرعية في تنظيم المجتمع.
ولم يهتم المستشرقون بالفقه رغم أن التكوين الأساسي للجمهور العربي الإسلامي جاء من الفقه أكثر منه من الفلسفة، فمثلا اهتم الغرب بـ"السهروردي" في حين لم يهتم بـ"الشافعي"، كما أنه اهتم بالصوفية في جانبها العقلي ولم يهتم بها في جانبها الاجتماعي، والتكوينات الاجتماعية التي أنشأتها. وأنه عندما قرأ كتاب "عادات المصريين المحدثين" لـ "إدور وليم لين" للمرة الأولى انبهر به لدقته وقدرته على الوصف والحياد، وعندما أعاد قراءته بعد ثلاث سنوات اكتشف أن الرجل لم يستطع أن يدرك العمق الروحي للمصريين، حتى بدت له مادة الكتاب وكأنها جثة محنطة بدون روح؛ فمثلا أورد حكاية طريفة عن شيخ كان يركب حمارا ثم وقع من على ظهره وابتعدت عنه العمة (غطاء الرأس) فهرع الناس إلى العمة وتركوا الشيخ؛ فالناس اعتبروا العمة رمزا ولذا انصرفوا إلى الرمز وتركوا الشخص.
هذا المشكل يتعلق بنظرة المفكر الغربي لنا ولتراثنا، فهو لا يستطيع أن يدرك كنهه مهما كان متفهما له، ومهما كان متعاطفا مع قضاياه، ويؤكد ذلك مالك بن نبي عندما قال: "المثقف الإنساني الغربي يستطيع أن يفهم مشاكلنا نحن الشرقيين، ويستطيع أن يقف معنا في مشاكلنا الاقتصادية والسياسية بدافع من الإنسانية، لكن لن يفهمك من الناحية الثقافية؛ لأنه مستغرق في ثقافته هو" فمثلا لن يفهم الجهاد، ولكنه يفهم حركات المقاومة.
وأكد البشري أن كتابات المستشرقين قد نجد فيها أمانة، ودقة، وفيها قدرة على جمع معلومات جيدة، لكنها خاضعة لمعايير احتكام ليست مستخلصة من الثقافة الإسلامية وتاريخها، فالمستشرق يحتكم إلى معايير مستخلصة من خبرته التاريخية وثقافته.
أما علم الأنثروبولوجيا الذي يتعلق بدراسة المجتمعات وعاداتها وتقاليدها، فإن هذا العلم نظر إلى العلاقة مع تلك المجتمعات في الشرق على أنها علاقة باحث ومبحوث، بين طرف مدرك، ومادة مبحوثة مدركة، ولم ينظر إلى العلاقة على أنها بين إدراكين؛ ولذلك نجد فروقا في الجوهر؛ فمثلا لا يقبل العقل الغربي بتعدد الزوجات، في حين أنه يقبل بوجود علاقات متعددة خارج إطار الزواج.
الأمر الآخر يتعلق بأنه في كثير من الموسوعات ستجد أنها تركز على أن العنصر المادي هو المحرك والأساس للأحداث، فمثلا البارود كانت بداية اكتشافه في الصين لكنه لم يستخدم في القتل؛ إذ كان هناك تفاعل بين الفكر والثقافة والتكوين النفسي وبين التطور المادي.
المعاصرة.. غربية
وفيما يتعلق بموضوع المعاصرة أشار البشري إلى محاولة الغرب دائما -بحكم التطور المادي- جعل موضوع المعاصرة هو الأساس في التعامل مع الآخر، فهو يقيس معاصرتنا على أساس بعدنا أو قربنا منه. وللأسف الشديد وقع المسلمون في هذا الوهم خاصة بعد استقلال الدول العربية.
ففي أثناء الاستعمار كانت المواجهة مع الغرب مواجهة سياسية، وهذه المواجهة جعلت المواطنين أكثر صلابة ثقافيا، وعندما نجحت حركات التحرير في تحقيق الاستقلال، ونظرت إلى المستقبل وجدت أنها تريد أن تنشئ مجتمعاتنا على غرار الغرب، ولذا نظر إلينا الغرب على أننا مجتمعات ودول نامية، ودخلنا في نفس النفق الذي يريد الغرب منا أن نسير فيه، فأصبح الغرب هو المعيار والميزان، ولم تستطع حركاتنا الوطنية أن تستمر مددا طويلة في هذا الشأن.
ونلاحظ أن أي فكر إذا دخلت في إطار تجربته التاريخية والتطبيقية يصبح نافعا أو غير نافع، فمثلا الديمقراطية عندما وظفت في إطار الحركة الوطنية لتحقيق الاستقلال نجحت الحركة الوطنية، والاشتراكية أنتجت عندما ارتبطت بفكرة الاستقلال الوطني، وعندما وظفها الشيوعيون والقوميون لم تنتج.
ومن ثم فالمسألة لا تتعلق بمطلق الأخذ من الغرب، ولكن بما نأخذه، كما أن المعيار الواجب الاحتكام إليه لا بد أن يكون من داخل الجماعة وليس من خارجها.
وأشار البشري إلى أننا نحتاج الفكر الغربي في أمرين مهمين:
علوم الصناعة وفنونها.(11/289)
وعلوم الإدارة: لأن الغرب لم ينجح بعلوم الصناعة وحدها وإنما أيضا بما استخلصه من نظم لإدارة المجتمع والدولة، وهي جهود خطت بالحضارة الإنسانية للأمام. وأكد أن الغرب أسير مصطلحاته الخاصة، وأن الحضارة الإسلامية أكثر انفتاحا من الغرب قديما وحديثا، فالغرب متمركز حول ذاته وحول تجربته الثقافية، معتبرا أن تجربته هي التجربة الوحيدة في العالم، وما دون ذلك هو دون ذلك.
هل يفهموننا؟
كانت المداخلات والتعليقات على محاضرة البشري كثيرة، ومنها مداخلة الدكتور أحمد يوسف رئيس معهد البحوث والدراسات العربية الذي تناول إشكالية: هل هم يفهموننا أم أنهم لا يريدون أن يفهموننا؟.
وأشار أن كلتا الحالتين موجودتان في الغرب، وأن عدم فهم الغرب للبعد المعنوي قد يصل إلى مركز صنع القرار في العالم الغربي فيفعل فعله، وأشار أن صانع القرار قد يعرض عليه شيء لكنه يسعى لتحقيق هدف معين، ومن ثم فاستخدام الثقافة في الصراع السياسي تقوى في مرحلة الهيمنة، وهو ما يفرض استدعاء هويتنا.
وتساءل: هل من الممكن أن يحتجوا علينا بنفس الحجة التي نحتج بها عليهم؟ بمعنى أننا نفهم الغرب في إطار سياقنا الثقافي والتاريخي، وأن المسلمين يحاولون أن يطبقوا عليه معاييرهم الخاصة على الغرب.
وحمل الدكتور أحمد يوسف المسلمين جزءا من مسئولية ما جرى، وتساءل عن الجهد الذي بذله المسلمون حتى يوضحوا جوهر الدين وحقيقته، أو بمعنى آخر: أين المسئولية الإسلامية في عدم فهم الآخر لنا؟.
أما الدكتور سيف الدين عبد الفتاح فطالب بإعطاء أهمية للتحليل الثقافي في تحليل الظاهرة السياسية، وأشار إلى أن أي حوار حضاري لا بد أن يقوم على ثلاثة أسس مهمة وهي: المعرفة، والاعتراف، والمعروف؛ وهو ما يؤكد أن الحوار لا بد أن يقود إلى شيء.
إسلام أون لاين
======================
مصطلح الحديث في سؤال وجواب
الشيخ مصطفى العدوي
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، ولي المتقين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم النبيين ، عليه أفضل صلاة ، وأتم تسليم ، وآله وصحبه ، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد:
فهذا مبحث يتعلق بمصطلح الحديث وعلله أعددته ؛ تيسيرًا على الدارسين والباحثين في هذا العلم – علم الحديث – وسائلاً الله أن ينفعني وإخواني به ، وقد قدمته بأسئلة وأجوبة في مصطلح الحديث ، وكانت قد طُبعت في رسالة من قبلُ عدة طبعات ، فأودعتها ثانية في هذا الكتاب ، كتقدمة لدراسة العلل، ومناقشة الأسانيد ، وأسأل الله أن يفقهني وإخواني المسلمين في الدين ، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
كتبه
أبو عبد الله / مصطفى بن العدوي شلباية
مصر – الدقهلية – منية سمنود
س1: اذكر طرفاً من أهمية علم الحديث؟
ج1: علم الحديث من أجلّ العلوم الشرعية، إن لم يكن أجلها، فعليه وبه تقوم سائر العلوم الشرعية، ومن لم يكن عنده إلمام به أخطأ، وأوقع غيرَه في الخطأ، وانحرف عن النهج السديد من حيث يشعر، ومن حيث لا يشعر، سواء كان مفسراً أو فقيهًا أو أصولياً أو واعظاً أو مؤرخاً .
* فقد تجد مفسراً من المفسرين يفسر آيات من كتاب الله، ويجتهد في تفسيرها غاية الاجتهاد، إلا أنه جانَب الصواب بعد الاجتهاد كله؛ وذلك لأنه بنى تفسيره للآيات على أحاديث ضعيفة، أو موضوعة، أو أثر لا يثبت عن قائله.
* وقد تجد فقيهاً يصول ويجول في مسألة فقهية لتحريرها ، ويحاول- قدر جهده- الوصول إلى الصواب فيها، ولكنه لا يُوفق ؛ لأنه بنى رأيه فيها على حديث ضعيف، وهو لا يشعر.
* وكذلك بالنسبة لأهل الأصول، تجد فيهم ـ مثلاً ـ أصولياً يُؤَصِّل قاعدة من القواعد التي تبنى عليها الأحكام، وتُؤَسس عليها مسائل من الدين، يؤصلها على حديث ضعيف، فتأتى القاعدة وما رُكِّبَ عليها بضرر على الدين أكثر من النفع الذي رجاه مؤسسها ومؤصلها.
* وما أكثر هذا في الوعاظ ، الذين يزعمون أنهم يقربون الناس إلى ربهم، ولا يشعرون أنهم يكذبون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم)، ويَتَقّوَّلُون عليه ما لم يقل، بل ويكذبون على الله عز وجل؛ إذ ينسبون إليه ما لا يحصى مما لم يقله- سبحانه- من الأحاديث القدسية [1]، بعضها فيه الخطأ الصُرَاح الذي يُضَادُّ قواعدَ أهل السنة والجماعة، وأصول الدين من الكتاب الحكيم والسنة النبوية المطهرة، فضلاً عما فيه من وصف الرب سبحانه بما لم يصف به نفسه، فلا يبتعدون بأفعالهم هذه عن الوقوع تحت طائلة قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الأنعام : 144 ].(11/290)
* أما المؤرخون، فحدث ولا حرج، فقد قل فيهم الصالحون، وفشا فيه الكذب، فزوروا التاريخ، وزيفوا الحقائق، وشوهوا جمال سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بما اختلقوه فيها ونسبوه إليها، فكان علمُ الحديث الحَكَمَ في ذلك كله، فجزى الله أهله خير الجزاء؛ إذ نافحوا عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وصحّحوا مسارات العلوم الشرعية، ونظّفوا سُقياها من كل شائبة ودخيلة، فعظم الله أجرهم، وغفر زلاتهم، ورفع درجاتهم، وأسكنهم فسيح الجنان.
* هذا طرف من أهمية علم الحديث ومصطلحه، ولو كان المجال هنا مجاله لأوردنا ما لا يتسع المقام هنا لبيانه، ولكن في ذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
س2: ما معنى الطريق (أو السند) ؟ وما معنى المتن؟ مَثِّل لما تقول؟
ج2: الطريق : هو سلسلة الرجال الموصلة للمتن.
والمتن: هو ما ينتهي إليه السند من الكلام .
وكمثال لذلك : ما أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود (واللفظ لأبي داود):
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" .
فقوله : ( حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر) هو السند، وقوله: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" هو المتن.
س3: إلى كم قسم ينقسم الحديث من ناحية عدد الطرق؟
ج3: ينقسم الحديث من ناحية تعدد الطرق إلى قسمين:
1- متواتر.
2- آحاد .
س4: ما هو الحديث المتواتر؟
ج4: هو الحديث الذي يأتي عن عدد كبير من الرواة ( وذلك في كل طبقة من طبقات السند) يستحيل تواطؤهم على الكذب، ويستندون إلى أمرٍ محسوس.
* توضيحات وتنبيهات على التعريف:
1- حدد بعض أهل العلم عدد طرق المتواتر بالأربعة، وبعضهم عيَّنه بالخمسة ، وبعضهم عيَّنه بالعشرة، وبعضهم بالأربعين ، وبعضهم بالسبعين، إلى غير ذلك، والذي عليه الأكثر هو العدد الذي يحصل به اليقين. عزي هذا القول إلى جمهرة أهل العلم. [ راجع:" توضيح الأفكار" ص2/403 ] .
2- معنى يستندون إلى أمر محسوس كقولهم: حدثنا، أو سمعنا، أو لمسنا.
س5: إلى كم قسم ينقسم المتواتر؟ عرف كل قسم؟
ج5: ينقسم المتواتر إلى قسمين:
1- متواتر لفظي، وهو: ما تواتر لفظه.
2- متواتر معنوي.
قال السيوطي في" تدريب الراوي" (2/180): وهو أن ينقل جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب وقائع مختلفة، وتشترك في أمرٍ يتواتر ذلك القدر المشترك، كما إذا نقل رجل عن حاتمٍ مثلاً أنه أعطى جملاً، وآخر أنه أعطى فرساً، وآخر أنه أعطى ديناراً، وهلم جرا، فيتواتر القدر المشترك بين إخبارهم، وهو الإعطاء؛ لأن وجوده مشترك من جميع هذه القضايا.
س6: مثل للأحاديث المتواترة اللفظية بأمثلة، وللمتواتر المعنوي بمثال.
ج6: مثال لمتواتر اللفظي حديث: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" ، وحديث : "نضَّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها" ، وحديث: " من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة" .
ومثال المتواتر المعنوي أحاديث" رفع اليدين في الدعاء ".
س7: ما الكتب المؤلفة في الأحاديث المتواترة؟
ج7: وقفنا منها على :
1- "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة" للسيوطي.
2- "نظم المتناثر في الحديث المتواتر" للكتاني.
س8: ما هو خبر الآحاد ؟
ج8: الآحاد ما ليس بمتواتر.
س9: إلى كم قسم ينقسم خبر الآحاد؟ وما هي هذه الأقسام؟
ج9: ينقسم خبر الآحاد إلى ثلاثة أقسام وهي:
1- المشهور.
2- العزيز.
3- الغريب (الفرد).
س10: ما الحديث المشهور(عند المحدثين)؟
ج10: هو: ما رواه في كل طبقة ثلاثة فأكثر من غير أن ينتهي إلى التواتر، وقيل: إنه يكفي أن يكون الراوي في الطبقة الأولى "وهم الصحابة" أقل من ثلاثة.
س11: ما الحديث العزيز؟
ج11: هو: ما رواه في كل طبقة اثنان، وقد يكون الحديث عزيزاً عن أحد الرواة، وذلك إذا رواه عنه راويان.
س12: ما الحديث الغريب ( الفرد)؟ اذكر مثالاً له؟
ج12: هو: ما انفرد براويته راوٍ واحد.
ومثاله: حديث "إنما الأعمال بالنيات " تفرد به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، ورواه عن عمر علقمة بن وقاص الليثي، ورواه عن علقمة بن وقاص الليثي محمد بن إبراهيم التيمي، ورواه عن محمد بن إبراهيم التيمي يحيى بن سعيد الأنصاري .
س13: ما الفرق بين حديث الآحاد، والحديث المتواتر، من ناحية القبول أو الرد (أو الصحة والضعف)؟
ج13: الحديث المتواتر مقطوع بصحته، أي مقبول قطعاً، أما حديث الآحاد فمنه الصحيح المقبول، ومنه الضعيف المردود.
س14: إلى كم قسم ينقسم الحديث من ناحية الصحة والضعف؟
ج14: الذي استقر عليه العمل، أن الحديث ينقسم إلى ثلاثة أقسام وهي:
1- الصحيح .
2- الحسن.
3- الضعيف.
وقد كان أكثر المتقدمين على تقسيم الحديث إلى قسمين فقط. وهما: الصحيح والضعيف، والذي أدخل اصطلاح الحسن هو الترمذي ـ رحمه الله ـ وكان قبله قليلاً ما يُطلق.
س15: عرف الحديث الصحيح لذاته؟(11/291)
ج15: هو: الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معللاً .
س16: وضح التعريف السابق؟
ج16: المتصل : ما سلم إسناده من سقوط فيه، بحيث يكون كل رجاله سمع ذلك المروي من الذي رواه عنه.
* العدل: من له مَلَكَة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة.
* الضبط : ينقسم إلى قسمين :
1- ضبط صدرٍ: وهو أن يُثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء.
2- ضبط كتاب: هو أن يحفظ كتابه من ورَّاقِي السوء.
* الشاذ: هو مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، هذا الذي استقر عليه العمل الآن.
* المعلل: هو ما به علة قادحة، وتنقسم العلة إلى قسمين:
1- علة قادحة [2] وكمثال لها: إسقاط ضعيف بين ثقتين، قد سمع أحدهما من الآخر.
2- علة غير قادحة وكمثال لها: إبدال ثقة بثقة.
وكما هو واضح أن العلة القادحة تُضَعِّف الحديث وغير القادحة لا تؤثر على صحته.
س17: بماذا يُرْمَز للعدل الضابط؟
ج17: يرمز للعدل الضابط برموز منها : أوثق الناس- ثقة ثبت- ثقة متقن-ثقة حجة-ثقة فقيه –ثقة ثقة ـ ثقة ـ حجة.
س18: ماذا يعني قول ابن معين في الرجل: "لا بأس به"؟
ج18: قول ابن معين في الرجل: "لا بأس به"، يعنى أنه ثقة.
س19: من المحدث الذي ضُعِّفَ بسبب عدم ضبط الكتاب؟
ج19: هو سفيان بن وكيع، كان له ورَّاق سوء يُدْخِل في كتبه ما ليس منها فضُعِّفَ بسببه.
س20: ما فائدة أصح الأسانيد؟
ج20: لها فوائد منها :
1- الاطمئنان على صحة الحديث.
2- تكون أحد المرجِّحات عند الاختلاف.
س21: ما أصح الأسانيد عند:
1- أحمد بن حنبل.2- البخاري.
ج21: أصح الأسانيد عند أحمد: الزهري، عن سالم، عن أبيه ، وأصحها عند البخاري: مالك، عن نافع، عن ابن عمر.
س22: ما أصح الأسانيد عن أبي بكر رضى الله عنه ؟
ج22: أصح الأسانيد عن أبي بكر رضى الله عنه هو: إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر.
س23: ما أوهى الأسانيد عن الصديق، وعن علي رضى الله عنهما ؟
ج23: أضعف الأسانيد عن الصديق: صدقة الدقيقي، عن فرقد السبخي، عن مرة الطيب، عنه. [انظر تدريب الراوي ج1/180 ] وأضعف الأسانيد عن علي : عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن الحارث الأعور، عن علي.
س24: أي هذه الاصطلاحات أعلى رتبة: حديث صحيح – حديث صحيح الإسناد-حديث رجاله ثقات؟
ج24: أصحها الأول، أي:
حديث صحيح؛ وذلك لأنه قد يكون الحديث رجاله ثقات، لكن فيه من لم يسمع ممن فوقه، فيكون منقطعاً، وقد يكون الحديث إسناده صحيحاً، إلا أنه شاذ أو معلل.
س25: من أول من اعتنى بجمع الصحيح ؟
ج25: أول من اعتنى بجمع الصحيح: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وتلاه صاحبه وتلميذه مسلم بن الحجاج النيسابوري .
س26: ما شرط كل من البخاري ومسلم لإخراج الحديث في صحيحه؟
ج26: شرط البخاري المُعَاصَرَة، واللُّقْيَا، أي: يكون الراوي عاصر شيخه، وثبت عنده سماعه منه، وشرط مسلم المعاصرة [زاد بعضهم مع إمكان اللقيا].
س27: ما رأيكم فيمن يقتصر على الصحيحين دون غيرهما من كتب السنة، وهل البخاري ومسلم اشترطا إخراج كل صحيح؟
ج27: لا شك أنه مُجَانب للصواب، بل وواقع في الضلال لرده سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ثبتت في غير البخاري ومسلم، فلم يشترط البخاري ومسلم إخراج كل صحيح ، فقد نقل أهل العلم عن البخاري قوله: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ونقلوا عنه أيضاً: وتركت من الصحاح مخافة الطول، وقد صحَّح البخاري نفسه أحاديث ليست في صحيحه، وذلك يتضح بصورةٍ كبيرة في سؤالات الترمذي له، كما في سنن الترمذي، والعلل الكبير له .
ونقل أهل العلم عن مسلم كذلك: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ها هنا.
فلا شك إذن في ضلال من اقتصر على الصحيحين ورد ما سواهما.
س28: ما رأيكم فيمن يقتصر على الصحيحين دون غيرهما من كتب السنة، وهل البخاري ومسلم اشترطا إخراج كل صحيح؟
ج28: لا شك أنه مُجَانب للصواب، بل وواقع في الضلال لرده سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ثبتت في غير البخاري ومسلم، فلم يشترط البخاري ومسلم إخراج كل صحيح ، فقد نقل أهل العلم عن البخاري قوله: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ونقلوا عنه أيضاً: وتركت من الصحاح مخافة الطول، وقد صحَّح البخاري نفسه أحاديث ليست في صحيحه، وذلك يتضح بصورةٍ كبيرة في سؤالات الترمذي له، كما في سنن الترمذي، والعلل الكبير له .
ونقل أهل العلم عن مسلم كذلك: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ها هنا.
فلا شك إذن في ضلال من اقتصر على الصحيحين ورد ما سواهما.
س29: على أي شيءِ يُحْمَل قول الشافعي :"لا أعلم كتاباً في العلم أكثر صواباً من كتاب مالك"؟
ج29: هذا قاله قبل أن يؤلف البخاري ومسلم كتابيهما.
س30: ما موضوع المستخرج؟(11/292)
ج30: هو أن يعمد المصنف إلى الكتاب فيخرج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب، فيجتمع معه في شيخه، أو من فوقه، وشرطه: أن لا يصل إلى شيخ أبعد حتى يفقد سنداً يوصله إلى الأقرب إلا لعذر من علو أو زيادةٍ مهمة، أو تصريح بتحديث أو تسمية من لم ينسب أو غير ذلك.
س31: ما موضوع المستدرك؟
ج31: هو أن يعمد مصنفه إلى شرط صاحب كتاب، ويسحب هذا الشرط على أحاديث ليست في الكتاب، فإذا انطبقت أدرجها في كتاب، وهذا يسمى مستدرك. كما فعل الحاكم مع البخاري ومسلم.
س32: ما الموقف من مستدرك الحاكم؟
ج32: لا شك أن فيه ما هو صحيح، ولكن فيه أيضاً ما هو حسن وضعيف، بل وموضوع، وينبغي التيقظ التام لكل ما تفرد به الحاكم، ولا يغرنك قول الحاكم: حديث صحيح الإسناد، وموافقة الذهبي له، فالحاكم متساهل جداً في القضاء بالصحة، ولم ينقح كتابه، والذهبي كذلك متساهل في هذا الباب، فكم من رجل يتكلم فيه الذهبي في الميزان، ويصحح حديثه في تعليقه على المستدرك.
س33: اذكر بعض الأخطاء التي يقع فيها الحاكم عند قوله : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه؟
ج33: يعمد الحاكم- رحمه الله- مثلاً إلى سند فيه هشيم عن الزهري، فيقول فيه : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وذلك منه بناءً على أن هشيمًا والزهري من رجال الشيخين، وكونهما من رجال الشيخين صحيح كما ذكر الحاكم ـ رحمه الله ـ لكن هنا نقطة وقع الحاكم بسببها في الوهم، ألا وهي: أن هشيماً ضعيف في الزهري خاصة، فلم يُخرج البخاري ولا مسلم لهشيم عن الزهري وإنما أخرجا لهشيم عن غير الزهري، وأخرجا للزهري من رواية غير هشيم عنه؛ وذلك لأن هشيماً كان قد دخل على الزهري فأخذ عنه عشرين حديثاً، فلقيه صاحب له وهو راجع، فسأله رؤيتها، وكان ثَمَّ ريحٌ شديدة، فذهبت بالأوراق من يد الرجل، فصار هشيم يحدث بما علق منها بذهنه، ولم يكن أتقن حفظها، فوهم في أشياء منها، ضعف في الزهري بسببها.
وكذلك القول في سماك عن عكرمة فهو سند ملفق من رجال الشيخين، فسماك من رجال مسلم، وعكرمة من رجال البخاري، فقوله: سماك عن عكرمة لا من شرط البخاري، ولا من شرط مسلم، ورواية سماك عن عكرمة مضطربة، فيقول الحاكم في إسناد كسماك عن عكرمة : إنه على شرط الشيخين، فيظهر وهمه في ذلك.
فينبغي أن يُحكم على كل حديث بما يستحق بعد النظر في طريقه، وفي سنده ورواته.
س34: ما مراتب الحديث الصحيح، وبماذا انْتُقِدَت؟
ج34: قال جمع من أهل العلم: أعلاها مرتبة ما اتفق عليه الشيخان، ثم ما أخرجه البخاري، ثم ما أخرجه مسلم، ثم ما كان على شرطهما ولم يخرجاه، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما كان على شرط مسلم، ثم ما أخرجه الذين اشترطوا في كتبهم الصحة، وانتقد هذا الترتيب بأن المتواتر أعلاها صحة، ودُفِع هذا الانتقاد بأن المتواتر ليس من مباحث الإسناد، فهو خارج من البحث، فهو صحيح بلا بحث . وانتقدت أيضاً بأن ما رواه الجماعة أعلى صحة مما أخرجه الشيخان، ودفع بأن من لم يشترط الصحة لإخراج الحديث لا يزيد إخراجه للحديث صحة، ولكن يظهر أن ما أخرجه الجماعة ينبغي أن يكون أعلى رتبة من المتفق عليه، فالبخاري ومسلم داخلان في الجماعة.
س35: ماذا تعرف عن (مجمع الزوائد)؟
ج35: هو كتاب جمع زوائد ستة كتب وهي: مسند أحمد، وأبي يعلى، والبزار، ومعاجم الطبراني الثلاثة: (الكبير والأوسط والصغير) على الكتب الستة (الأمهات).
س36: ما سنن النسائي المعدودة في الكتب الستة؟
ج36: هي السنن الصغرى (المجتبى).
س37: لماذا انتقى النسائي السنن الصغرى من السنن الكبرى؟
ج37: بناء على طلب أمير الرملة منه بانتقاء الصحيح من السنن الكبرى .
س38: ما شرط النسائي في كتابه؟
ج38: لا يترك راوياً إلا إذا اجتمع الجميع على ترك حديثه، وفسر ابن حجر الجمع بطبقتي المتشددين والمتوسطين، فقال: إنما أراد بذلك إجماعاً خاصاً، ثم ذكر الذي فحواه ما تقدم.
س39: اذكر بعض المتشددين والمتوسطين؟
ج39: أمثلة للمتشددين:شعبة-يحيى القطان- يحيى بن معين-أبو حاتم.
المتوسطين: سفيان الثوري- عبد الرحمن بن مهدى- أحمد بن حنبل- البخاري.
س40: ما شرط الترمذي؟
ج40: قال الترمذي- كما نُقِلَ عنه في شروط الأئمة الخمسة للحازمي ص56-: ما أخرجت في كتابي إلا حديثاً عمل به الفقهاء.
س41: اذكر مقاصد الأئمة الخمسة في تخريجهم للحديث؟
ج41: في شروط الأئمة الخمسة قال: وأما فرق ما بين الأئمة الخمسة من القصد:
* فغرض البخاري تخريج الأحاديث الصحيحة المتصلة واستنباط الفقه والسيرة والتفسير، فذكر عرضاً الموقوف والمعلق، وفتاوى الصحابة والتابعين وآراء الرجال، فتقطعت عليه متون الأحاديث وطرقها في أبواب كتابه.
* وقصد مسلم تجريد الصحاح بدون تعرض للاستنباط، فجمع أجود ترتيب، ولم تتقطع عليه الأحاديث.(11/293)
* وهمة أبي داود جمع الأحاديث التي استدل بها فقهاء الأمصار، وبنوا عليها الأحكام، فصنَّف سننه، وجمع فيها الصحيح والحسن واللين والصالح للعمل، وهو يقول : ما ذكرت في كتابي حديثاً أجمع الناس على تركه. وما كان منها ضعيفاً صرح بضعفه، وما كان فيه علة بينها، وترجم على كل حديث بما قد استنبط منه عالم ، وذهب إليه ذاهب، وما سكت عنه فهو صالح عنده، وأحوج ما يكون الفقيه إلي كتابه.
* وملمح الترمذي الجمع بين الطريقتين كأنه استحسن طريقة الشيخين حيث بَيَّنَا وما أبهما .
وطريقة أبي داود حيث جمع كل ما ذهب إليه ذاهب، فجمع كلتا الطريقتين، وزاد عليهما بيان مذاهب الصحابة والتابعين، وفقهاء الأمصار، واختصر طرق الحديث، فذكر واحداً وأومأ إلى ما عداه، وبيَّن أمر كل حديث من أنه صحيح أو حسن أو منكر، وبيَّن وجه الضعف، أو أنه مستفيض أو غريب.
قال الترمذي : ما أخرجت في كتابي هذا إلا حديثاً عمل به بعض الفقهاء، سوى حديث "فإن شرب في الرابعة فاقتلوه"، وحديث : "جمع بين الظهر والعصر بالمدينة من غير خوف ولا سفر".
س42: اذكر طرفاً من طريقة عمل الترمذي في سننه ؟
ج42: ربما أنه يسلك مسلك الإمام مسلم في بعض الأحيان، فقد نص مسلم على أنه ربما أخرج الحديث في صحيحه من طريق ضعيف؛ لعلوه، والحديث معروف عند أئمة هذا الشأن من طريق العدول، ولكن بإسناد نازل .
وفي شرح مسلم أنه أنكر أبو زرعة عليه- أي على مسلم- روايته في صحيحه عن أسباط بن نصر، وقطن بن نسير، وأحمد بن عيسى المصري، فقال مسلم: إنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد روى الثقات عن شيوخهم- إلا أنه ربما وقع إليَّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي برواية أوثق منهم بنزول، فأقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات. انتهي [توضيح الأفكار1/171]
س43: هل نسخ الترمذي كلها واحدة؟ برِّهن على قولك ؟
ج43: ليست كلها واحدة، ففي بعضها حسن، وفي بعضها حسن صحيح في الحديث الواحد، مثال ذلك حديث: "الصلح جائز بين المسلمين "، قال الصنعاني في توضيح الأفكار: لم يُتْبِعه الترمذي بتصحيح ولا تحسين، وفي كثير من النسخ : حسن صحيح.
س44: ماذا قال ابن حزم في الترمذي ؟ وبماذا رد عليه العلماء؟
ج44: ذكر الذهبي: أن ابن حزم في كتابه " الإيصال" قال في الترمذي: إنه مجهول، وكذا ذكر ابن حجر، ورد العلماء على ابن حزم قوله، فقال ابن حجر : أما ابن حزم، فنادى على نفسه بعدم الاطلاع، وذلك لما وصف به ابن حزم الترمذي_ رحمه الله _ حينما وصفه بالجهالة .
وقد أشار أحمد شاكر في مقدمته للترمذى إلى أن الذهبي قد يكون وهم، وتبعه ابن حجرٍ في نسبته هذا القول إلى الترمذي؛ فإن ابن حزم أخرج للترمذي حديثاً في "المحلى" (9/297) ولم يذكر فيه جرحاً ولا تضعيفاً.
س45: ماذا يعنى البيهقي والبغوي بقولهما: أخرجه البخاري؟
ج45: يعنيان أن البخاري أخرج أصل الحديث.
س46: عرف المجهول؟
ج46: تنقسم الجهالة إلى نوعين: جهالة عينٍ - جهالة حالٍ.
مجهول العين : هو من روى عنه راوٍ واحد ولم يوثقه معتبر.
مجهول الحال (أو الوصف): هو من روى عنه راويان فأكثر، ولم يوثقه معتبر.
ومجهول العين في الغالب لا يصلح في الشواهد، ولا في المتابعات، بينما مجهول الحال يصلح في الشواهد والمتابعات .
وقد تساهل بعض أهل العلم في جهالة التابعين، ورقوا أحاديث بعض من جهلت حاله من التابعين إلى الحسن، بل وإلى الصحة، برهانهم في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم ..".
س47: ما حكم حديث المختلط الثقة؟
ج47: يبحث عن الرواة عنه قبل الاختلاط، والرواة بعد الاختلاط، ويصحح حديث من روى عنه قبل الاختلاط، ويتوقف في حديث من روى عنه بعد الاختلاط.
س48: ما رتبة ابن حبان والعجلي في توثيق المجاهيل؟
ج48: ابن حبان والعجلي متساهلان في توثيق المجاهيل.
س49: ما مراتب توثيق ابن حبان كما ذكرها المعلمي في كتابه "التنكيل لما ورد في تأنيب الكوثري من الأباطيل " ؟وهل تُعُقِّبَت بشيء؟
ج49: قال المعلمي - رحمه الله - في ( التنكيل 1/450) : والتحقيق أن توثيقه (يعنى توثيق ابن حبان ) على درجات:
الأولى: أن يصرح به كأن يقول: "كان متقناً" أو " مستقيم الحديث" أو نحو ذلك.
الثانية: أن يكون الرجل من شيوخه الذين جالسهم وخبرهم.
الثالثة: أن يكون من المعروفين بكثرة الحديث، بحيث يُعلم أن ابن حبان وقف له على أحاديث كثيرة.
الرابعة: أن يظهر من سياق كلامه أنه قد عرف ذلك الرجل معرفة جيدة.
الخامسة: ما دون ذلك.
فالأولى لا تقل عن توثيق غيره من الأئمة، بل لعلها أثبت من توثيق كثير منهم، الثانية قريب منها، والثالثة مقبولة، والرابعة صالحة ، والخامسة لا يؤمن فيها الخلل، والله أعلم. انتهي كلامه رحمه الله.
هذا وقد علق الشيخ ناصر الدين الألباني- رحمه الله –على هذا الكلام بقوله:(11/294)
قلت: هذا تفصيل دقيق يدل على معرفة المؤلف _ رحمه الله تعالى _ وتمكنه من علم الجرح والتعديل، وهو ما لم أره لغيره فجزاه الله خيراً غير أنه قد ثبت لدى بالممارسة أن من كان منهم من الدرجة الخامسة، فهو على الغالب مجهول لا يُعرف، يشهد لذلك صنيع الحُفَّاظ كالذهبي والعسقلاني وغيرهما من المحققين، فإنهم نادراً ما يعتمدون على توثيق ابن حبان وحده ممن كان في هذه الدرجة والتي قبلها أحياناً، ولقد أجريت لطلاب الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة يوم كنت أستاذاً للحديث فيها (سنة1382هـ) تجربة عملية في هذا الشأن في بعض الدروس (الأسانيد) فقلت لهم: لنفتح على أي راو ٍفي كتاب خلاصة تذهيب الكمال تفرد بتوثيقه ابن حبان، ثم لنفتح عليه في الميزان (للذهبي) والتقريب (للعسقلاني) ، فسنجدهما يقولان فيه: (مجهول)، أو ( لا يعرف)، وقد يقول العسقلاني فيه: (مقبول) يعنى لين الحديث، ففتحنا على بضعة من الرواة تفرد بتوثيقهم ابن حبان فوجدناهم عندهما كما قلت، إما مجهول، أو لا يعرف، أو مقبول.
هذا وقد تُعُقِّبَ عداب الحمش في رسالته (رواة الحديث الذين سكت عليهم أئمة الجرح والتعديل بين التوثيق والتجهيل ص69) بقوله: إن هذا الكلام على إطلاقه من الشيخين فيه نظر؟!.
فالرواة المترجمون في كتاب الثقات قسمان: قسم انفرد ابن حبان بالترجمة له ، أو كان اعتماد مَن ترجمه بعده عليه، وهؤلاء يزيد عددهم على ألفي ترجمة في الكتاب، والقسم الثاني: الرواة الذين اشترك مع غيرهم في الترجمة لهم، وهؤلاء صنفان:
الصنف الأول: الرواة الذين أطلق عليهم ألفاظ الجرح والتعديل، وهؤلاء يقرب عددهم من ثلاثة آلاف راوٍ.
وقد تعددت ألفاظ النقد وتباينت دلالاتها كما قدمت بعض ذلك فبينما تجده يصف الرجل بالحفظ والإتقان أو الوثاقة أو الصدق أو استقامة الحديث، إذا بك تجده يصف الرجل بأنه قد يخطيء أو يخطيء أحياناً، أو يخطيء كثيراً، أو يخطىء ويخالف، أو يخطىء ويُغْرب، ويدلس ويخالف. والراوة الذين يصرح فيهم بالتوثيق ليسوا على درجة واحدة في نفس الأمر في كل مصطلحات التوثيق.
فقد وجدته وصف خمسة وخمسين رجلاً بالإتقان بيد أنني لم أجد لغيره كلاماً في ثمانية منهم، والذين وجدت لهم تراجم كانوا جميعاً من الحفاظ أو الثقات.
أما لفظ (مستقيم الحديث) وما دار في فلكه فقد أطلقه ابن حبان على ستةٍ وخمسين راوياً ومائتي راوٍ، وقد جاءت ألفاظه الدالة على الاستقامة متعددة، فتارة يصف الراوي بأنه مستقيم الحديث جداً، وتارة يصفه بأنه مستقيم الأمر في الحديث، وتارة يقيد الاستقامة بشروط فيقول مثلاً: مستقيم الحديث إذا روى عن الثقات، أو إذا روى عنه الثقات، وتارة يقول: روى أحاديث مستقيمة، وأنه مستقيم الحديث يغرب، ومستقيم الحديث ربما أخطأ.
كما أطلق عبارات أوضحت لنا مقصوده من الاستقامة، ولكنه أكثر ما أطلق هذا المصطلح بلفظ (مستقيم الحديث) مجرداً، وله ألفاظ أخرى مشابهة، ولكنها قليلة. وقد وجدت فيمن وصفه ابن حبان بأنه (مستقيم الحديث) الحافظ والثقة والصدوق، ووجدت فيهم المجروح والمضعف والمجهول حسب اصطلاح المتأخرين، وقد كانت ألفاظ النقد التي أطلقها ابن حبان في كتابيه (الثقات والمجروحين) تسعة عشر لفظاً ومائتي لفظ درستها جميعاً دراسة نقدية في رسالتي سالفة الذكر، وأعددت لها ملاحق خاصة بألفاظها، ولذلك فإنني أرى أن هذه الإطلاقات من فضيلة الشيخ اليماني - رحمه الله - عامة وعائمة.
وما ذكره فضيلة الشيخ الألباني من أن كلام الشيخ المعلمي (تفصيل دقيق)، غير دقيق ولا مفيد في التحقيق العلمي شيئاً . انتهي المراد من كلام عداب الحمش.
س50: ما درجة الترمذي في التصحيح؟
ج50: الترمذي معروف بالتساهل في التصحيح، فينبغي أن تتتبع الأحاديث الموجودة فيه، ويحكم عليها بما تستحق، وقد شرع في هذا الشيخ أحمد بن شاكر - رحمه الله - ولكن أعجلته المنية.
س51: ما هو الفرق بين المسانيد، وكتب السنن، والمعاجم أيهما أصح؟
ج51: المسانيد فيها كل صحابي ومروياته، وكذلك المعاجم إلا أن فيها الصحابة مرتبون على حروف المعجم باستثناء العشرة المبشرين بالجنة [3] فهم مُقَدَّمون ، أما كتب السنة فهي مرتبة على الأبواب الفقهية فيذكرون الترجمة للباب، ثم يذكرون ما وقع لهم في هذه الترجمة من حديث أي صحابي كان.
وينبغي أن يعلم أن المسانيد والمعاجم كتب سنة أيضاً، من ناحية احتوائها على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من ناحية الصحة ففي الغالب أن كتب السنة -المرتبة على الأبواب الفقهية- أكثر صحة إذ إن مؤلفيها يتحرون ما يشهد لتراجمهم، ولكن لا يعنى هذا أن كل حديث في كتب السنة(المرتبة فقهياً) أصح من كل حديث في المسانيد والمعاجم، ولكن الأمر نسبي أغلبي، والله أعلم.
س52: اذكر بعض الشروح للكتب الآتية: صحيح البخاري- صحيح مسلم. سنن أبي داود- سنن الترمذي . سنن النسائي – موطأ مالك . مسند أحمد.(11/295)
ج52: شرحه الكتاب فتح الباري- عمدة القاري صحيح البخاري النووي- المفهم على شرح مسلم للقرطبي صحيح مسلم عون المعبود- بذل المجهود سنن أبي داود زهر الرُّبَى سنن النسائي تحفة الأحوذي سنن الترمذي التمهيد – الاستذكار موطأ مالك الفتح الرباني مسند أحمد
س53: ما الشواهد التي تشير إلى أن الخبر موضوع؟
ج53: على ذلك شواهد منها:
1- إقرار واضعه بالوضع، كما أقر نوح بن أبي مريم والملقب بنوح الجامع، أنه وضع على ابن عباس أحاديث في فضائل القرآن سورة سورة .
2- ما ينزل منزلة الإقرار كأن يحدث عن شيخ بحديث لا يُعرف إلا عنده، ثم يُسأل عن مولده، فيذكر تاريخاً معينًا، ثم يتبين من مقارنة تاريخ ولادة الراوي بتاريخ وفاة الشيخ المروى عنه أن الراوي ولد بعد وفاة الشيخ، أو نحو ذلك، كما ادعى مأمون بن أحمد الهروي أنه سمع من هشام ابن عمار فسأله الحافظ ابن حبان: متى دخلت الشام؟ قال: سنة خمسين ومائتين، فقال له: فإن هشاماً الذي تروي عنه مات سنة 245 فقال: هذا هشام بن عمار آخر.
3- قرائن في الراوي أو المروي، أو فيهما معاً كالحنفي الذي يروي حديثاً في ذم الشافعي، والثناء على أبي حنيفة [يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس. . . وأبو حنيفة سراج أمتي ... ] أو غير ذلك ، راجع تعليق الشيخ أحمد بن شاكر على الباعث الحثيث.
4- ركاكة اللفظ وفساد المعنى والمجازفة الفاحشة.
5- مخالفة صريحة لما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة، فإذا وجد شيء من ذلك وجب البحث وراء الحديث بدقة حتى نقف على حقيقته.
س55: هل تجوز رواية الحديث الموضوع ؟
ج55: لا تجوز رواية الحديث الموضوع إلا للتحذير منه والتنبيه عليه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" رواه مسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: "الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله . . " .
س56: اذكر بعض أقسام الوضاعين؟
ج56: منهم زنادقة أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ومنهم أهل البدع والأهواء، كالرافضة، والخطابية، يضعون أحاديث تعزز مذاهبهم الباطلة، ومنهم المنتسبون إلى الزهد يضعون أحاديث يرغبون بها الناس، ويرهبونهم بزعمهم، ومنهم القصاص، ومنهم علماء السلاطين الذين يضعون الأحاديث إرضاءً لحكامهم.
س57: اذكر بعض الكتب المؤلفة للأحاديث الموضوعة؟
ج57: منها: الأباطيل للجوزقاني، والموضوعات لابن الجوزي ، واللآلئ المصنوعة، وكراسة الرغبي الصنعاني اللغوي، والفوائد المجموعة للشوكاني، وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للشيخ ناصر الألباني، وكذلك الكتب المؤلفة في الضعفاء.
س58: ما مدى تثبت ابن الجوزي في كتابه الموضوعات؟
ج58: ابن الجوزي متسرع في الحكم على الحديث بالوضع ، وقد حكم على حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن طالت بك مدة أوشك أن ترى قوماً يغدون في سخط الله، ويروحون في لعنته، في أيديهم مثل أذناب البقر". والحديث في صحيح مسلم، وانظر السؤال التالي وإجابته.
س59: ماذا تعرف عن كتاب (القول المسدد في الذب عن مسند أحمد)؟
ج59: هو كتاب ألفه الحافظ ابن حجر، ذكر فيه أربعة وعشرين حديثاً من مسند أحمد ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات، وحكم عليها بذلك، ورد عليه ابن حجر ودفع قوله.
س60: اذكر بعض أسماء الوضاعين ؟
ج60: منهم نوح بن أبي مريم الملقب بنوح الجامع، ومقاتل بن سليمان البلخي العالم بالتفسير، وغياث بن إبراهيم النخعي، ومحمد بن سعيد المصلوب.
س61: هل تبرأ الذمة بذكر سند الحديث الضعيف مع عدم التنبيه على ذلك؟
ج61: لا تبرأ الذمة إلا إذا كان ذلك بين أهل العلم بالأسانيد ، أما العوام فلا يجوز التلبيس عليهم، وقد كنت يوما أصلى الجمعة في بعض المساجد الكبرى ، والمسجد على أشده في موسم الحج، وإذا بالخطيب يخطب في خطبته قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم". فحدثته بعد هذه الخطبة وأوضحت له أن الحديث لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي : وهل قلت : إنه صحيح؟! انظر كيف يهرب من البشر، ويظن أنه نجا، والله من ورائه محيط.
س62: من هم مظنة الأحاديث الضعيفة والموضوعة في هذا الزمان؟(11/296)
ج62: أغلبهم الصوفية، وبعض الجماعات والفرق المنبثقة عنهم والتي تدعو في نهاية أمرها إلى التصوف الصريح، وقد أكثرت هذه الطوائف من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون ، ولبست على المسلمين أمر دينهم ، بل ونصبوا العداء لمن أراد أن يتفقه في الدين، ومن جملتهم أيضاً جماعة الوعاظ، الذين لا يبالي أغلبهم بصحة الحديث من ضعفه ، وجزى الله الشيخ عبد الحميد كشك على ما قدم من خير للإسلام، وعلى ما هدى الله على يديه من شباب، ونسأل الله أن يعفو عنه لتحديثه بالأحاديث الضعيفة التي لا تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أكثر منها، نسأل الله أن يعيننا وإياه على تحري الصدق والدفاع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنقيتها مما ليس منها، ونهيب بكل أئمة المساجد وجمهور الوعاظ والقصاصين ألا يتحدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بما صح عنه.
س63: عرف الحديث الحسن وهل يُحْتَج به؟
ج63: هو نفس تعريف الصحيح، إلا أنه في رجاله من هو خفيف الضبط، ويُحتج به.
س64: بماذا يرمز لخفيف الضبط في التقريب ( تقريب التهذيب) ؟
ج64: يرمز لخفيف الضبط برمز: صدوق – لا بأس به- صدوق يَهِم.
س65: من الذي أدخل اصطلاح الحسن ؟
ج65: هو الترمذي [4].
س66: ما شروط الترمذي للحسن؟
ج66: شروط الترمذي للحكم بالحسن هي :
1- أن لا يكون في إسناده متهم بالكذب.
2- أن لا يكون شاذاً.
3- أن يروي من غير وجه.
س68: ما معنى قول الترمذي: حسن صحيح؟
ج68: اعلم أولاً أنه اختلف العلماء في هذا التعريف والذي اختاره الحافظ في نخبة الفكر أن لذلك حالتين:
الأولى : أن يأتي من طريق واحد فيكون في الطريق رجل اخُتِلَف في تصحيح حديثه وفي تحسينه فيكون صحيحاً باعتبار مَن صحَّح حديثه، وحسناً باعتبار مَن حسَّن حديثه.
الثانية: أن يأتي من طريقين فيكون حسناً من إحداهما صحيحاً من الأخرى .
س69: ما حكم حديث من قيل فيه في التقريب: صدوق يخطئ؟
ج69: ينبغي أن تراجع ترجمة مثل هذا بتوسع ، فإن كان الحديث الذي بين يديك من الأحاديث التي أخطأ فيها تتوقف في الحديث . وإن لم يكن من الأحاديث التي أخطأ فيها يُحَسَّن حديثه.
س70: ما معنى قول أبي داود" وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح"؟
ج70: حملها بعض أهل العلم على الحسن ، أي ما سكت عنه فهو حسن، ومنهم ابن الصلاح وحملها بعضهم على أنه صالح للاحتجاج. وحملها آخرون على ما هو أعم من ذلك .
س71: هل كل ما سكت عنه أبو داود فهو حسن؟
ج71: ليس الأمر كذلك ، بل فيه الصحيح والحسن والضعيف ، وقد سئل أبو داود – سأله الآجري- عن أحاديث سكت عنها في سننه فحكم بضعفها . وينبغي أن تتبع أسانيد الأحاديث من سنن أبي داود ويحكم عليها بما تستحق.
س72: ما هو اصطلاح البغوي في المصابيح؟ وما مدى صحته؟
ج72: قال ما مضمونه : إن ما أخرجه البخاري ومسلم أو أحدهما صحيح، وإن الحسن ما رواه أبو داود والترمذي وأشباههما ولا شك أنه اصطلاح خاطيء وهو اصطلاح خاص به.
س73: عرف الحديث الضعيف ؟
ج73: هو ما لم تتوافر فيه شروط الصحة أو الحُسن .
س74: عرف الحديث المنقطع؟
ج74: هو ما سقط من وسط إسناده رجل، وقد يكون الانقطاع في موضع واحد، وقد يكون في أكثر من موضع.
س75: عرف المقطوع؟
ج75: هو الموقوف على التابعي قولاً أو فعلاً.
س76: عرف الحديث المرسل؟
ج76: هو حديث التابعي إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كلمة نحوها، وخصَّه بعض أهل العلم بكبار التابعين ، واختصاصه بكبار التابعين هي الصورة التي لا خلاف فيها، وأطلق بعض أهل العلم المرسل على ما سقط من إسناده رجل من أي موضع كان.
س77: من أي أقسام الحديث يكون الحديث المرسل؟
ج77: المرسل من أقسام الضعيف.
س78: ما حكم مراسيل الصحابة – مثل لها ؟
ج78: مراسيل الصحابة مقبولة معمول بها عند أهل العلم وكمثال لذلك قول عائشة رضى الله عنها: "... أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة.." ؛ فعائشة لم تدرك القصة ، هذا وننبه على أن أكثر أهل العلم يجعلون أحاديث الصحابي الذي لم يميز على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كحكم مراسيل كبار التابعين.
س79: هل يضر عدم ذكر اسم الصحابي؟ مثلاً كقول قائل . . عن سعيد عن رجل من أصحاب النبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
ج79: لا يضر ذلك لكون الصحابة رضى الله عنهم كلهم عدول.
س80: ما هو تفصيل الشافعي بالنسبة لقبول المراسيل؟
ج80: الشافعي يقبل مراسيل كبار التابعين بشروط وهي :
1- أن تأتى من وجه آخر ولو مرسلة.
2- أو أن تعتضد بقول صحابي أو أكثر العلماء.
3- إذا كان المرسل لو سمى لا يسمي إلا ثقة فحينئذ يكون مرسله حجة، ولا ينهض إلى رتبة المتصل، وكبار التابعين كسعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عدى بن الخيار.
وإن كان بعض أهل العلم يعد عبيد الله في الصحابة اللذين ولدوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يميزوا(11/297)
س81: مثل لمن تعد مراسليهم من أضعف المراسيل؟
ج81: مثل الحسن البصري- الزهري- يحيى ابن أبي كثير.
س82: مثل للمقلوب في المتن؟
ج82: "إذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا واشربوا وإذا أذن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا".
الصواب: " إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ".
س83: مثل للمقلوب في السند؟
ج83: قد يكون القلب في الإسناد في اسم راوٍ أو نسبه، يقول: "كعب بن مرة" بدل"مرة بن كعب"
س84: هل يجوز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؟
ج84: نرى أنه لا يجوز العمل بالضعيف، ومن ادعى التفرقة فعليه البرهان .
س85: على أي شيء يُحمل قول أحمد وابن مهدي وابن المبارك :"إذا روينا في الحلال والحرام شدَّدنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا"؟
ج85: حمله بعض أهل العلم على الحديث الحسن الذي لم يصل إلى درجة الصحة، فإن التفريق بين الصحيح والحسن لم يكن في عصرهم، بل كان أكثر المتقدمين لا يصف الحديث إلا بالصحة أو الضعف فقط .
س86: ما شروط العمل بالحديث الضعيف عند من يعمل به؟
ج86: لذلك شروط وضعوها :
1- أن يكون الحديث في القصص أو المواعظ أو فضائل الأعمال.
2- أن يكون الضعف غير شديد.
3- أن يندرج تحت أصل معمول به.
4- أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط .
س87: ما معنى حديث لا أصل له ؟
ج87: معناه: لا إسناد له، قاله ابن تيمية رحمه الله.
س88: كيف يعرف ضبط الراوي؟
ج88: يعرف بموافقة الحفاظ المتقنين الضابطين إذا اعتبر حديثه بحديثهم، فإن كانت أغلب أحاديثه موافقة لأحاديثهم عرف ضبطه، وإن كثرت مخالفاته اختل ضبطه.
س89: ما الحديث المتروك؟
ج89: هو الذي يرويه من يتهم بالكذب، ولا يعرف ذلك الحديث إلا من جهته، ويكون مخالفاً للقواعد العامة.
س90: عرف الحديث المعلق؟
ج90: هو ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر ولو إلى آخر الإسناد.
س91: إلى كم قسم تنقسم المعلقات وما هي؟ مثل لما تقول ؟
ج91: تنقسم إلى قسمين:
1- معلقات بصيغة الجزم نحو: قال-ذكر- وروى.
2- معلقات بصيغة التمريض نحو: يُذْكر- يقال- يُرْوَى.
س92: هل المعلق ضعيف أو صحيح؟
ج92: بصورة أولية فالمعلق من قسم الضعيف إلا أن نقف على الرجال المحذوفين، ومن ثَمَّ نحكم عليه بما يستحق.
س93: هل المعلقات التي في صحيح البخاري على شرطه؟
ج93: ليست المعلقات التي في صحيح البخاري كلها على شرطه؛ لأنه قد وسم كتابه ( بالجامع المسند الصحيح المختصر في أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسننه وأيامه).
س94: تكلم باختصار سريع عن المعلقات التي في صحيح البخاري؟
ج94: منها: ما أورده البخاري معلقاً في موضع ووصله في موضع آخر من صحيحه، ومنها: ما لا يوجد إلا معلقاً ، وهذا الأخير على صورتين:
الأولى: المعلق بصيغة الجزم، ويستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لكن يبقى النظر فيمن أُبْرِزَ من رجال ذلك الحديث، فمنه ما يلتحق بشرطه ومنه ما لا يلتحق ... (قاله الحافظ) [5].
فمثال لما يلتحق بشرطه قوله في كتاب الوكالة: قال عثمان بن الهيثم: حدثنا عوف، حدثناً محمد ابن سيرين عن أبي هريرة رضى الله عنه، " وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة رمضان . . ".
وأما ما لا يلتحق بشرطه فقد يكون صحيحاً على شرط غيره، وقد يكون حسناً صالحاً للحجة، وقد يكون ضعيفاً لا من جهة قدح في رجاله بل من جهة انقطاع يسير في إسناده.
فمثال ما هو صحيح على شرط غيره: قوله في الطهارة: وقالت عائشة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه" وهو حديث صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه مسلم في صحيحه.
ومثال لما هو حسن صالح للحجة: قوله: وقال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: "الله أحق أن يستحيا منه من الناس "، وهو حديث حسن مشهور عن بهز أخرجه أصحاب السنن.
ومثال لما هو ضعيف بسبب الانقطاع لكنه مُنْجَبَر بأمر آخر: قوله في كتاب الزكاة: وقال طاوس: قال معاذ بن جبل لأهل اليمن: ائتوني بعض ثياب خميص، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . فإسناده صحيح إلى طاوس، إلا أن طاوساً لم يسمع من معاذ.
الصيغة الثانية: وهي صيغة التمريض لا تستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، ولا تنافيها أيضاً، لكن فيه ما هو صحيح وما ليس بصحيح.(11/298)
أما الصحيح، فمنه ما هو على شرطه، ويورده بالمعنى في موضوع آخر من صحيحه كقوله في الطب: ويذكر عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرقى بفاتحة الكتاب، فإنه أسنده في موضع آخر طريق عبيد الله بن الأخنس، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس رضى الله عنهما "أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بحي فيهم لديغ.." - فذكر الحديث في رقيتهم للرجل بفاتحة الكتاب، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبروه بذلك: "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" وهذا أورده بالمعنى لم يجزم به؛ إذ ليس في الموصول أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الرقية بفاتحة الكتاب، إنما فيه أنه لم ينههم عن فعلهم، فاستفيد ذلك من تقريره.
وأما ما لم يورده بالمعنى في موضع آخر مما أورده بهذه الصيغة، فمنه ما هو صحيح إلا أنه ليس على شرطه، ومنه ما هو حسن، ومنه ما هو ضعيف فرد إلا أن العمل على موافقته، ومنه ما هو ضعيف فرد لا جابر له .
فمثال لما هو صحيح ليس على شرطه: أنه قال في الصلاة: ويذكر عن عبد الله بن السائب قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون في صلاة الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع، وهو حديث صحيح على شرط مسلم، أخرجه في صحيحه ، إلا أن البخاري لم يُخرج لبعض رواته.
ومثال الثاني (وهو الحسن): قوله في البيوع: ويذكر عن عثمان بن عفان رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل" وهذا الحديث قد رواه الدارقطني من طريق عبد الله بن المغيرة، وهو صدوق عن منقذ مولى عثمان وُثِّقَ عن عثمان به، وتابعه عليه سعيد بن المسيب، ومن طريقه أخرجه أحمد في المسند إلا أن في إسناده ابن لهيعة، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث عطاء عن عثمان، وفيه انقطاع، فالحديث حسن لما عضده من ذلك.
ومثال الثالث: وهو الضعيف الذي لا عاضد له إلا أنه على وفق العمل، قوله في الوصايا: ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالدين قبل الوصية، وقد رواه الترمذي موصولاً من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث الأعور، عن علي، والحارث ضعيف ، وقد استغربه الترمذي، ثم حكى إجماع أهل العلم على العمل به.
ومثال رابع: وهو الضعيف الذي لا عاضد له، وهو في الكتاب قليل جداً، وحيث يقع ذلك فيه يتعقبه المصنف بالتضعيف بخلاف ما قبله، فمن أمثلته قوله في كتاب الصلاة: ويذكر عن أبي هريرة رفعه "لا يتطوع الإمام في مكانه"، ولا يصح. وهو حديث أخرجه أبو داود من طريق ليث بن أبي سليم، عن الحجاج بن عبيد، عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة رضى الله عنه، وليث بن أبي سليم ضعيف، وشيخ شيخه لا يعرف، وقد اختُلِف عليه فيه. انتهي بتصريف من مقدمة الفتح .
س95: ما حكم الموقوفات المعلقة في صحيح البخاري؟
ج95: يجزم البخاري منها بما صح عنده، ولو لم يكن على شرطه، ولا يجزم بما كان في إسناده ضعيف أو انقطاع، إلا حيث يكون منجبراً، إما بمجيئه من وجه آخر، وإما بشهرته عمن قاله . أفاده الحافظ.
س96: تكلم عن المعلقات التي في صحيح مسلم ؟
ج96: المعلقات في صحيح مسلم قليلة جداً ، وقد ذكر ابن الصلاح في كتابه" صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط" نقلاً عن الحافظ أبي علي الغساني أن مسلماً وقع الانقطاع فيما رواه في كتابه في أربعة عشر موضعاً.(قلت:يريد بالمنقطع هنا المعلق، وذلك بعد تتبعها) ثم ذكر هذه المواضع. وأشار إلى ذلك أيضاً العراقي في التقييد والإيضاح.
ثم إن هذه المواضع الأربعة عشر قد وُصِلَت في مسلم نفسه، وقال الحافظ العراقى في التقييد: . . . فعلى هذا ليس في كتاب مسلم بعد المقدمة حديث معلق لم يوصله إلا حديث أبي الجهم، قلت:وهو "أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بئر جمل" [6] الحديث ، قال فيه مسلم : وروى الليث بن سعد حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن هرمز الأعرج عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول: أقبلت أنا وعبد الله ابن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخلنا على أبي الجهم بن الحارث بن الصامت الأنصاري فقال أبو الجهم: "أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بئر جمل...) الحديث .
س97: ماذا تعرف عن حديث"ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" ؟
ج97: هذا الحديث أخرجه البخاري معلقاً في كتاب الأشربة من صحيحه، قال فيه: وقال هشام ابن عمار، ثم ساق السند.
وضعَّفه ابن حزم وزعم أنه معلق، ومن ثم قرَّر مذهبه الفاسد في إباحة الملاهي، لكن الحديث رواه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والبرقاني في صحيحه، والطبراني والبيهقي مسنداً متصلاً إلى هشام بن عمار وغيره، فصح الحديث والحمد لله .
واندفع ما قرَّره ابن حزم - رحمه الله وعفا عنه- وقد أجاب ابن الصلاح بثلاثة أوجه، وذلك في "صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط" ، الوجه الأول والثالث نرى فيه تعسفاً ، والصواب الوجه الثاني وقد أثبتناه.(11/299)
س98: ماذا تعرف عن كتاب تغليق التعليق؟
ج98: هو كتاب قيم للحافظ ابن حجر -رحمه الله- ألفه لوصل ما ذكر معلقاً في صحيح البخاري.
س99: هل تدخل المعلقات فيما انتقده الدارقطني على البخاري ومسلم ؟
ج99: لا تدخل المعلقات فيما انتقده الدارقطني على البخاري ومسلم
س100: كم حديثاً انتقده الدارقطني على البخاري ومسلم؟
ج100: في الجملة نحوٌ من مائتي حديث، انتقد على البخاري مائة وعشرة أحاديث ، شاركه مسلم في إخراج اثنين وثلاثين منها، وانتقد على مسلم خمسة وتسعين حديثاً (بما فيها التي شاركه البخاري فيها)، راجع مقدمة فتح الباري، ورسالة بين الإمامين والدارقطني لربيع بن هادي، ورسالة الإلزامات والتتبع لمقبل بن هادي.
س101: هل تم للدارقطني الانتقاد في كل الأحوال؟
ج101: لم يتم له الانتقاد في كل الأحوال، فقد أصاب في بعضها، وأخطأ في الآخر. وأحياناً-بل كثيراً- ما ينتقد سند الحديث دون متنه.
س102: عرف الحديث المسند؟
ج102: فيه أقوال:
1- قول الحاكم: هو ما اتصل إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2- قول الخطيب: هو ما اتصل إلى منتهاه.
3- قول ابن عبد البر: هو المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان متصلاً أو منقطعاً.
س103: عرف المتصل؟
ج103: هو المنافي للإرسال والانقطاع، ويشمل المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والموقوف على الصحابي، فعليه يكون المتصل هو الذي سمعه كل راوٍ من الذي قبله، ويشمل المرفوعَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والموقوفَ على الصحابي.
س104: عرف المرفوع ؟
ج104: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً عنه، سواء كان متصلاً أو منقطعاً أو مرسلاً ، هذا قول الأكثر.
س105: عرف الموقوف؟
ج105: هو الموقوف على الصحابي قولاً أو فعلاً.
س106: هل الموقوف حجة؟وما الدليل؟
ج106: ليس الموقوف حجة . قال الله تعالى:
(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (الأعراف:3) .
وقال سبحانه: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا( (الحشر:7) .
وقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ( (الشورى:10) .
وقال سبحانه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (النساء:59) .
وقال سبحانه: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا ( (الأنفال:46) .
أما ما ورد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عَضُّوا عليها بالنواجذ" فواضح من قوله صلى الله عليه وسلم: "عليها" أنها سنة واحدة، وهي التي وافق فيها الخلفاءُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم .
ثم إننا نلفت النظر إلى أن الصحابة رضوان الله عليهم لم تكتب لهم العصمة، بل كلٌّ منهم يصيب ويخطئ ، وما قال الله في حق أحد منهم (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى([ النجم :3 ] ولا قال أحد من الصحابة لصحابي آخر: إنني حجة فاتبعني، فهذا عمران بن حصين رضى الله عنه يخالف أمير المؤمنين عمر في مسألة التمتع في الحج، ومع عمر الصواب، قال عمران( كما في الصحيح 451): أنزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء [7].
وهذا علي رضى الله عنه يخالف عثمان في نفس المسألة، فلم يَدَّعِ عمر ولا عثمان أنهم حجة، فليتق الله أقوام بدَّلوا الحقائب فأعطوا أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم حق الله سبحانه وتعالى فدَعَوْهم من دون الله، ونزَّلوا صحابة رسول الله منزلة رسول الله، فلرسول الله منزلة ينبغي أن لا تُعْطى لغيره، ولأصحابه منزلة لا يشاركهم فيها من بعدهم. فليتق الله أقوام جعلوا حقوق الله لنبيه وحقوق نبيه لأصحابه رضي الله عنهم، فلكل حق، لله حق ينبغي أن لا يشاركه فيه أحد، فلنبي الله حق ومنزلة فوق منزلة الصحابة، فلا ينبغي أن يُدْعَى نبي الله من دون الله، ولا ينبغي أن نجعل كلام الصحابي في منزلة كلام رسول الله.
س107: هل تفسير الصحابي له حكم الرفع؟
ج107: تفسير الصحابي ليس له حكم الرفع
س108: هل ذِكْر الصحابي سبب نزول الآية له حكم الرفع؟
ج108: ذكر جمع من أهل العلم ذلك.
س109: هل قول الصحابي" أمرنا بكذا" و "نهينا عن كذا" له حكم الرفع؟
ج109: هذا له حكم الرفع، فالأمر والنهي هو ما جاء به الله على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
س110: هل قول الصحابي: " كنا نفعل كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" له حكم الرفع؟
ج110: أكثر أهل العلم على أن ذلك له حكم الرفع.
س111: ما الفرق بين الصيغتين الآتيتين:(11/300)
1- عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: . . . 2- عن عروة أن عائشة قالت :يا رسول الله .....؟
ج111: الثانية يَعُدُّها بعض أهل العلم مرسلة؛ لأن عروة لم يدرك القصة، بينما الأولى متصلة.
س112: عرف تدليس الإسناد؟
ج112: هو أن يروي عن مَن لقيه ما لم يسمعه منه موهِماً أنه سمعه منه، أو بتعبير آخر: هو أن يُسقط المحدث شيخَه، ويُحدث عن شيخ شيخه بلفظ محتمل السماع، مثل عن – أن- قال، ويكون قد سمع من شيخ شيخه بعض الأحاديث. أما هذا بعينه فسمعه منه بواسطة.
س113: هل يقبل حديث المدلس إذا كان ثقة؟
ج113: لا يُقبل إلا إذا صرَّح بما يفيد السماع نحو: أخبرني- سمعت- قال لي.
س114: عرف تدليس التسوية؟
ج114: هو إسقاط ضعيف بين ثقتين، قد سمع أحدهما من الآخر (أي قد عرف أن أحدهما سمع عن الآخر عدة أحاديث، لكن في هذا الحديث بعينه كان بينهما واسطة، والواسطة ضعيف فأسقط).
س115: هل يقبل حديث مدلس تدليس التسوية إذا كان ثقة؟
ج115: لا يقبل إلا إذا صرَّح في السند بالتحديث من مدلس تدليس التسوية إلى نهاية السند.
س116: مَثَّل لمن اشتهر بتدليس التسوية؟
ج116: كمثال لهم: الوليد بن مسلم، وبقية بن الوليد
س117: عرف تدليس الشيوخ؟
ج117: هو الإتيان باسم الشيخ أو كُنْيته على خلاف المشهور به ؛ تعمية لأمره وتوعيراً للوقوف على حاله.
س118: مثل لتدليس الشيوخ؟ ومن الذي اشتهر به؟
ج118: اشتهر به الخطيب البغدادي، وأبو بكر بن مجاهد المقرئ وابن الجوزي .
أما الأمثلة: يروي الخطيب في كتبه عن أبي القاسم الأزهري، وعن عبيد الله بن أبي الفتح الفارسي، وعن عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي، والجميع شخص واحد من مشايخه.
وكذلك يروي عن الحسن بن محمد الخلال،وعن الحسن بن أبي طالب، وعن أبي محمد الخلال، والجميع عبارة عن واحد.
س119: عرف تدليس العطف؟
ج119: كأن يقول : حدثنا فلان وفلان، وهو لم يسمع من الثاني المعطوف، كما ذُكر عن هشيم أنه خرج على أصحابه فقال: حدثني حصين ومغيرة، ثم استمر في حديثه، ثم قال لتلاميذه: هل دلست عليكم اليوم؟ قالوا: لا، قال: بل قد فعلتُ، أما حصين فقد حدثني، وأما مغيرة فحدثني فلان عنه.
س120: هل هناك أنواع أخرى للتدليس؟
ج120: نعم هناك تدليس حذف الأداة، وتدليس السكوت، وتدليس البلاد، أما تدليس حذف الأداة فيحذف الأداة مطلقاً، وتدليس السكوت كأن يقول : حدثناً أو سمعت، ثم يسكت، ثم يقول: "هشام بن عروة" موهماً أنه سمع منه وليس كذلك .
وتدليس البلاد كأن يقول حدثني فلان بالقاهرة، وهو يقصد قرية أخرى.
س121: ما حكم عنعنة الأعمش وقتادة وأبي إسحاق السبيعي؟
ج121: يلزم أن يصرّح كل منهم بالتحديث ، فإنهم مدلسون، لكن إذا روى عنهم شعبة فلا تضر عَنْعَنَتُهُم، فإنه قال: كفيتكم تدليس ثلاثة، ثم ذكرهم .
وقد قال الحافظ ابن حجر في عدة مواضع من فتح الباري: إن رواية شعبة عن أيّ مدلس تجبر عنعنة ذلك المدلس ( هذا مضمون كلامه).
س122: ما حكم عنعنة أبي الزبير؟
ج122: إذا روى عنه الليث، وكان هو يروي عن جابر لا تضر عنعنته، أما غير ذلك فإن عنعنة أبي الزبير لا تُقْبل في الغالب.
س123: ما قولكم في عنعنات الأعمش عن أبي وائل، وأبي صالح، وإبراهيم النخعي؟
ج123: عدد من العلماء يقبلون مثل هذه العنعنات، ويصححون حديث الأعمش عنهم وإن عَنْعَنَ، إلا إذا وجد هناك ما يشعر بتدليس، فحينئذ يتوقف حتى ينظر في تصريح للأعمش بالتحديث.
س124: من الذي اشتهر أنه لا يدلس إلا عن ثقة؟
ج124: هو سفيان بن عيينة.
تنبيه: قد يقول المحدث: خطبنا فلان، ويقصد أنه خطب أهل بلده، وقد أشار إلى ذلك السخاوي في فتح المغيث فقال :... كقول الحسن البصرى: خطبنا ابن عباس ، وخطبنا عتبة بن غزوان، وأراد أهل البصرة بلده، فإنه لم يكن بها حين خطبتهما، ونحوه في قوله: حدثنا أبو هريرة، وقول طاوس: قدم علينا معاذ اليمن، وأراد أهل بلده؛ فإنه لم يدركه.
س125: ماذا قال القطب الحلبي بشأن العنعنات التي في الصحيحين؟
ج125: قال: أكثر العلماء على أن المُعْنَعَنَات التي في الصحيحين مُنَزَّلَة مَنْزِلَة السماع؛ إما لمجيئها من وجه آخر بالتصريح بالسماع، أو لكون المعنعن لا يدلس إلا عن ثقة أو لوقوعها من جهة بعض النقاد المحققين سماع المعنعن لها.
قلت: أما ابن الصلاح والنووي فذهبا إلى أنها محمولة على ثبوت السماع فيما عندهم، من جهة أخرى إذا كان في أحاديث الأصول لا المتابعات ؛ تحسيناً للظن بمصنفيهما ، يعني ولو لم نقف نحن على ذلك لا في المستخرجات التي هي مظنة لكثير منه، ولا في غيرها، وأشار ابن دقيق العيد إلى التوقف في ذلك.
س126: ما المُدْرج؟
ج126: هو أن تُزَاد لفظة في الحديث من كلام الراوي، فيحسبها من يسمعها مرفوعة في الحديث؛ فيرويها كذلك، وقد يكون الإدراج في السند أو في المتن.
س127: مثل للمدرج في أول الحديث ؟(11/301)
ج127: حديث أبي هريرة رضى الله عنه مرفوعاً : ( أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار) فلفظ : " أسبغوا الوضوء" هنا من قول أبي هريرة ، وقد جاء ت صريحة فقال أبو هريرة: أسبغوا الوضوء ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ويل للأعقاب من النار " فتبين أن لفظة: أسبغوا الوضوء من قول أبي هريرة .
تنبيه: ورد " أسبغوا الوضوء" مرفوعاً من حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنه.
س128: مثل للمدرج في وسط الحديث؟
ج128: مثاله: حديث من مس ذكره أو أنثييه أو رَفْغَيه فليتوضأ، فلفظة "أو أنثييه أو رفغيه" من قول عروة.
س129: مثل للمدرج في آخر الحديث؟
ج129: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " للعبد المملوك أجران، والذي نفسي بيده لولا الجهاد والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك " فلفظ: "والذي نفسي بيده" إلى آخر الحديث من قول أبي هريرة لاستحالة كون النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
س130: مثل للمدرج في الإسناد؟
ج130: مثاله: ما رواه الترمذي من طريق ابن مهدي، عن الثوري، عن واصل الأحدب، ومنصور، والأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود قال: قلت: "يا رسول الله! أي الذنب أعظم..".
فإن رواية واصل هذه مدرجة على رواية منصور والأعمش، فإن واصلاً يرويه عن أبي وائل عن ابن مسعود مباشرة ،لا يذكر فيه عمرو بن شرحبيل.
س131: كيف يُعرف المدرج؟
ج131: يُعرف المدرج بأمور منها:
1- جمع طرق الحديث.
2- مجيئه مفصلاً من وجه آخر.
3- استحالة كون النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
4- النص على ذلك من الراوي.
س132: هل حدَّث أحد من الصحابة عن التابعين؟
ج132: ثبت ذلك من عدة طرق ذكرها العراقي في" التقييد والإيضاح" ص76.
س133: ما هو الحديث المعضل ؟
ج133: هو ما سقط من وسط إسناده اثنان فأكثر على التوالي.
س134: متى يحكم على الحديث بالاضطراب؟
ج134: إذا توفرت شروط ثلاثة:
1- المخالفة.
2- تكافؤ الطرق، معنى تكافؤ الطرق أن يكون:هذا صحيح، وهذا صحيح مثله، وهذا حسن وهذا حسن مثله، أما معنى عدم تكافؤ الطرق أن يكون هذا حسنًا ، وهذا أحسن ، أو هذا صحيحًا، وهذا أصح .
3- عدم إمكان الجمع ، وقد يكون الاضطراب في السند أو في المتن.
س135:بماذا مثل أهل العلم للمضطرب في المتن؟
ج135: مثلوا بتحديد الصلاة التي حدث فيها الشك في قصة ذي اليدين.
س136: بماذا مثلوا للمضطرب في السند؟
ج136: مثلوا بحديث مجاهد عن الحكم بن سفيان مرفوعاً في نضح الفرج بعد الوضوء، فقد اختُلف عنه على عشرة أقوال فقيل: عن مجاهد عن الحكم عن أبيه، وقيل :عن مجاهد عن الحكم أو ابن الحكم عن أبيه، وقيل: عن مجاهد عن رجل من ثقيف عن أبيه ...
س137: اذكر تعريفات العلماء للحديث الشاذ؟
ج137: تعريف الشافعي: فرد ثقة خالف .
الحاكم: فرد ثقة .
الخليلي: فرد .
ابن الصلاح : الأول: تعريف الشافعي .
الثاني: فرد ضعيف ، أي تفرد الضعيف أي أن الشافعي يشترط أن يكون راويه ثقة خالف فيه غيره. بينما الحاكم يشترط أن يكون راويه ثقة خالف أو لم يخالف، بينما الخليلي يشترط مجرد التفرد ، وابن الصلاح له تعريفان:
الأول: تعريف الشافعي .
والثاني: أن يكون راويه ضعيفًا تفرد به.
والذي عليه العمل هو تعريف الشافعي رحمه الله.
س138: ما هو الحديث المنكر؟
ج138: هو ما خالف فيه الضعيف غيره . أي أنه إذا كان هناك ثقة خالف من هو أوثق منه فحديث الثقة يسمى شاذاً، وحديث الثقات يسمى محفوظاً، وإذا كان ضعيفاً وخالف من هو أرجح منه فحديث الضعيف يسمى منكراً ، والأرجح يسمى معروفاً .
تنبيه: بعض المتقدمين يطلقون على الحديث إنه منكر ويقصدون مجرد تفرد الراوي.
راجح ترجمة محمد بن إبراهيم التميمي في مقدمة الفتح،وانظر أيضاً حديث الاستخارة في البخاري، وكلام الحافظ ابن حجر الذي ذكره عليه ، وما نقله ابن حجر عن الإمام أحمد في ذلك (فتح الباري) وإذا قال البخاري في راوٍ: إنه منكر الحديث فهي من أردأ عبارات التخريج عنده.
س139: اذكر بعض الكتب المؤلفة في العلل؟
ج139: منها العلل لابن المديني- العلل للإمام أحمد بن حنبل- العلل لابن أبي حاتم- العلل للدارقطني- العلل للترمذي- التَّتَبُّعَات للدارقطني.ثم كتب للسنن تعتبر كتب علل ، ويستفاد منها كثيراً في جانب العلل ككتاب السنن للنسائي والسنن الكبرى للبيهقي.
س141: ما حكم زيادة الثقة؟
ج141: بعضهم قبلها مطلقاً وبعضهم ردَّها مطلقاً. وبعضهم فصَّل في المسألة فقال: إن اتحد مجلس السماع لم تُقبل، وإن تعدد قُبلت، وهناك أقوال أخرى. والذي نراه صواباً أنه لا يحكم فيها بحكم مطرَّد بل ينظر إلى قرائن تحيط بها نحو ثقة مَن زاد أو ضعفه- كثرتهم أو قلتهم – مخالفاتهم أو موافقتهم و... وكذلك الحكم في الوصل والإرسال، وفي الرفع والوقف فيحكم للأرجح.
س142: مثل زيادة الثقة؟
ج142: مثل بعض أهل العلم بحديث "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" تفرد أبو مالك الأشجعي بزيادة "وتربتها طهوراً".(11/302)
س143: بماذا استدل بعض أهل العلم لتوقفهم في قبول زيادة الثقة؟
ج143: استدلوا بقصة ذي اليدين مع رسول الله ، وذلك في حديث : " أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله ؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه عن مدى صحة قول ذي اليدين مع كون ذي اليدين صحابي ، والصحابة عدول .
س144: عرف العلة القادحة للحديث؟
ج144: هي سبب غامض خفي قادح في الحديث مع أن الظاهر السلامة منه .
س145: عرف الحديث المعلول؟
ج145: هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن الظاهر سلامته منها، ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي : رجاله ثقات ، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر .
س146: اذكر بعض أنواع العلل؟
ج146: قد تكون العلة بالإرسال في الموصول أو الوقف في المرفوع ، وإسقاط ضعيف بين ثقتين قد سمع أحدهما من الآخر أو الاختلاف على رجل في تسمية شيخه أو تجهيله أو غير ذلك.
س147: ما معنى طريق الجادة؟
ج147: هي الطريق المعروفة مثل مالك عن نافع عن ابن عمر، ويحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة .
س148: ماذا نفعل إذا تعارضت (أو اختلفت) طريق الجادة مع غير الجادة ؟
ج148: يقدم أهل العلم غير الجادة ؛ وذلك لأنها دليل على حفظ الراوي لها ، فإن فيها ما يلفت نظر الراوي لحفظها.
س149: اذكر بعض أوجه ترجيح رواية على أخرى؟
ج149: منها كثرة الملازمة وطول الصحبة – كون الراوي ثقة- كون الرواة أكثر- حال الرواة عند التحديث و.... .
س150: إلى كم قسم ينقسم التفرد؟
ج150: ينقسم إلى قسمين :
1- فرد مطلق .
2- فرد نسبي.
س151: عرف كل نوع ؟
ج151: الفرد المطلق: هو أن ينفرد الراوي الواحد عن كل أحد من الثقات وغيرهم، كحديث : " إنما الأعمال بالنيات" تفرد به عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وتفرد به علقمة عن عمر ، وتفرد به محمد بن إبراهيم عن علقمة ، وتفرد به يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم .
والفرد النسبي: إما أن يكون تفرُّد ثقةٍ أي لم يروه ثقة إلا فلان ، وإما أن يكون تَفَرََّدَ به أهل بلده، وإما أن يكون تفرد شخص بالنسبة لشخص أي لم يروه عن فلان إلا فلان.
وقد مثل أهل العلم للنوع الأول بحديث قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر بقاف واقتربت الساعة لم يروه ثقة إلا ضميرة بن سعيد انفرد به عن عبيد الله عن أبي واقد الليثي .
والنوع الثاني : حديث : "القضاة ثلاثة"، تفرد به أهل مروٍ عن عبد الله بن بريدة عن أبيه.
ومثال النوع الثالث: حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بسويق وتمر ، لم يروه عن بكر إلا وائل.
س152: ما معنى كل من الاصطلاحات الآتية: 1- الاعتبارات 2- المتابعات 3- الشواهد؟
ج152: الاعتبارات: هي عملية البحث عن أطراف الحديث وطرقه وألفاظه .
المتابعات : تنقسم إلى قسمين :
1- متابعة تامة وضابطها : أن يشترك الراويان في الشيخ.
2- متابعة قاصرة وضابطها : أن يشترك الراويان في شيخ الشيخ أو مَن بعده .
الشواهد: هي أن يكون معنى الحديث موجوداً في حديث آخر ، والجمهور يشترطون أن يختلف الصحابي .
س153: ما فائدة الشواهد والمتابعات؟
ج153: ينجبر بها ضعف الضعيف، فمثلاً سند فيه رجل صدوق وتابعه صدوق آخر فيرتقي الحديث إلى الصحة.
وسند فيه رجل مقبول (ومعنى مقبول عند ابن حجر أنه مقبول إذا تُوبِعَ وإلا فلين) تابَعه مقبول آخر فيرتقي حديثه إلى الحسن لغيره، وإذا تابع المقبول صدوق فيرتقي الحديث إلى الصحة.
وأيضاً إذا تابع مقبول ضعيف فيرتقي إلى الحسن.
وإذا كانت كل الطرق بها ضعف (لكنه يسير) فينجبر هذا الضعف بالمتابعات والشواهد.
س154: هل هناك من أهل العلم من لا يعمل بالشواهد والمتابعات؟
ج154: هناك من أهل العلم من ينظر إلى الأسانيد استقلالاً ويحكم على كل إسناد بما يستحق، فإن كانت هناك جملة من الأسانيد في كل منها ضعيف ، فيحكم بضعفها ولا يقويها ببعضها، ومن هؤلاء: أبو محمد بن حزم، وهو وارد أيضاً في بعض تصرفات الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله . إلا أن الكثير من أهل العلم يعملون بالشواهد والمتابعات فيُرَقُّون الحديث إلى غاية الصحة إذا كثرت طرقه- وإن كان فيها ضعف- إذا لم يشتد سبب الضعف، والله تعالى أعلم.
س155: ما درجة الشيخين الفاضلين أحمد شاكر وناصر الألبانى في تصحيح الأحاديث من ناحية التساهل أو التشدد؟
ج155: أما الشيخ الفاضل أحمد شاكر رحمه الله فيجنح إلى التساهل في الحكم على الحديث بالصحة، ومنشأ ذلك أنه عمد إلى رجال دارت عليهم جملة هائلة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثَّقهم ، ومن ثَم صحَّح أحاديثهم، من هؤلاء ابن لهيعة وشهر بن حوشب وعبد الله (مكبر الاسم) بن عمر العمري ، وليث بن أبي سليم ، وعبد الله بن صالح كاتب الليث ، ويزيد بن أبي زياد، وهؤلاء الراجح من أمرهم أنهم أقرب إلى الضعف.(11/303)
أما الشيخ ناصر الألباني حفظه الله فهو أحسن حالاً في هذا الجانب إلا أن عمله لا يخلو من شيء من ذلك ، ووجه ذلك أنه يصحح الحديث في كثير من الأحيان بناء على صحة الإسناد فقط ، ولا ينظر إلى أوجه إعلاله ، وأحيانًا يصحح الحديث بمجموع الطرق وكثرتها مع شدة ضعفها ، والله تعالى أعلم.
س156: ما حكم حديث كل من قيل فيه: شيخ - صالح - يعتبر بحديثه - يكتب حديثه - لين الحديث - مستور –مجهول الحال مقارب الحديث؟
ج156: كل هؤلاء حديثهم يصلح في الشواهد والمتابعات.
س157: هل هؤلاء الذين يأتي ذكرهم يصلحون في الشواهد أو المتابعات: كذاب- ضعيف جداً – متروك – وَاهٍ - وضَّاع- متهم بالوضع؟
ج157: لا يصلح حديث هؤلاء شاهداً لغيره ولا متابعاً.
س158: كيف يمكن التمييز بين الرواة في حالة تشابه أسمائهم؟
ج158: يمكن ذلك بأمور منها:
1- الرمز المرموز به بجوار كل منهم في كتاب كتقريب التهذيب مثلاً.
2- الطبقات.
3- المشايخ والتلاميذ.
4- جمع طرق الحديث.
5- البلدان.
6- الاختصاص.
7- إذا كانا ثقتين فلا يضر.
8- إذا كانا ضعيفين فلا يضر.
9- إذا كان أحدهما ثقة والآخر ضعيفاً فنتوقف.
س159: هل هناك ما نميز به بين بعض الرواة كسفيان الثورى مثلاً وسفيان بن عيينة ، ومن اسمهم هشام أو عمرو أو علقمة أو نحو ذلك؟
ج159: نعم هناك ما نميز به بين ذلك، ومن أنفع الوسائل لذلك معرفة الاختصاص، فهناك رواة مختصون بالرواية عن مشائخ معينين، فمثلاً:
* علي بن المديني وقتيبة بن سعيد ، ومسدد ، ومحمد بن سلام البيكندي ، والحميدي (عبد الله بن الزبير) كل هؤلاء إذا رَوَوْا عن سفيان فهو سفيان بن عيينة.
* ومحمد يوسف الفريابي ووكيع بن الجراح ومحمد بن كثير العبدي وعبد الله بن المبارك وعبد الرحمن ابن مهدي وقبيصة بن عقبة كل هؤلاء إذا رَوَوْا عن سفيان فهو سفيان الثوري .
* وكذلك إذا قيل سفيان عن أبيه فهو سفيان الثوري .
* أما لتمييز من اسمه هشام من الرواة مثلاً:
فإذا كان هشام يروي عن قتادة فهو : هشام الدستوائي .
وإذا كان هشام يروي عن أنس فهو : هشام بن زيد بن أنس حفيد أنس رضي الله عنه . وإذا كان هشام يروي عن معمر وابن جريج فهو: هشام بن يوسف الصنعاني .
وإذا كان هشام يروي عن ابن سيرين فهو : هشام بن حسان .
أما هشام الذي يروي عنه البخاري فهو هشام بن عبد الملك الطيالسي.
وهشام الذي يروي عن أبيه هو هشام بن عروة بن الزبير.
كذلك هشام الذي يروي عن يحيى بن أبي كثير هو هشام الدستوائي .
* أما بالنسبة لعمرو:
فعمرو الذي يروي عنه شعبة هو عمرو بن مرة .
وعمرو الذي يروي عنه الأعمش هو عمرو بن مرة أيضاً .
وعمرو الذي يروي عنه سفيان بن عيينة هو عمرو بن دينار .
وعمرو الذي يروي عنه ابن وهب هو عمرو بن الحارث .
* أما علقمة:
فعلقمة الذي يروي عن عمر بن الخطاب هو علقمة بن وقاص الليثي .
وعلقمة الذي يروي عن ابن مسعود هو علقمة بن قيس النخعى .
وفي هذا الباب جملة من الفوائد منها:
سالم إذا روى عن أبيه فهو سالم بن عبد الله بن عمر .
سالم إذا روى عن جابر فهو سالم بن أبي الجعد .
* إسماعيل عن قيس إسماعيل هو ابن أبي خالد .
وقيس هو قيس ابن أبي حازم.
شعيب عن أنس هو شعيب بن الحبحاب.
* أبو اليمان عن شعيب فهو شعيب بن أبي حمزة.
* حميد عن أنس هو – في الغالب- حميد بن أبي حميد الطويل.
* حميد عن أبي هريرة هو حميد بن عبد الرحمن بن عوف.
* إذا جاء السند مكياً وصحابيه اسمه عبد الله فهو عبد الله بن عباس.
إذا جاء السند مدنياً وصحابيه اسمه عبد الله فهو عبد الله بن عمر.
إذا جاء السند كوفياً وصحابيه اسمه عبد الله فهو عبد الله بن مسعود .
إذا جاء السند مصرياً وصحابيه اسمه عبد الله فهو عبد الله بن عمرو بن العاص .
إذا روى أبو بردة عن عبد الله فعبد الله هو عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري .
إذا روى علقمة عن عبد الله فهو ابن مسعود.
وهذا في غالب الأحوال. والله تعالى أعلم.
س160: ما معنى قول الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه تقريب التهذيب (من العاشرة أو في الحادية عشرة أو من الخامسة ... ونحو ذلك) في تراجمه للراوة ؟
ج160: مراده من ذلك أن هذا الراوي من الطبقة العاشرة أو من الطبقة الحادية عشرة أو من الطبقة الخامسة، وكتفصيل لذلك نقول: إن بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحاب كتب السنن تقريباً من 200-250 سنة ، فهذه المدة الزمنية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحاب الكتب قسمت تقريباً إلى عشر طبقات:
* فالطبقة الأولى: هم الصحابة.
* الطبقة الثانية: طبقة كبار التابعين كابن المسيب، والمخضرمين كذلك ، والمخضرم هو من أدرك الجاهلية والإسلام ولكنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به، فمن ذلك مثلاً رجلاً أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يلتق برسول الله صلى الله عليه وسلم لبُعْد مسافة عنه أو لعذر آخر.(11/304)
أو رجل كان معاصراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يسلم إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* الطبقة الثالثة: هي الطبقة الوسطى من التابعين كالحسن وابن سيرين وهم طبقة روت عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
* الطبقة الرابعة: صغار التابعين : وهم طبقة تلي الطبقة المتقدمة ، جُل روايتهم عن كبار التابعين كالزهري وقتادة.
* الطبقة الخامسة: طبقة صغرى من التابعين ( هم أصغر من المتقدمين) وهم تابعون رأوا صحابياً أو صحابيين، ومن هؤلاء موسى بن عقبة والأعمش.
* الطبقة السادسة: طبقة عاصروا الخامسة لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة كابن جريج .
* الطبقة السابعة: طبقة كبار أتباع التابعين كمالك والثوري.
* الطبقة الثامنة: هي الوسطى من أتباع التابعين كابن عيينة وابن علية.
* الطبقة التاسعة: هي الطبقة الصغرى من أتباع التابعين كيزيد بن هارون والشافعي وأبي داود الطيالسي وعبد الرازق.
* الطبقة العاشرة : كبار الآخذين عن تبع التابعين ممن لم يلق التابعين كأحمد بن حنبل.
* الطبقة الحادية عشرة: الطبقة الوسطى من ذلك كالذهلي والبخاري.
* الطبقة الثانية عشرة: صغار الآخذين عن تبع الأتباع كالترمذي وباقى شيوخ الأئمة الستة الذين تأخرت وفاتهم قليلاً كبعض شيوخ النسائي.
وكرسم تفصيلى لذلك:
رسول الله صلى الله عليه وسلم 1 الصحابة 2 كبار التابعين والمخضرمين 3 الوسطى من التابعين 4 صغار التابعين 5 تابعون لم يلتقوا إلا صحابياً أو اثنين 6 تابعون لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة 7 كبار أتباع التابعين 8 الوسطى من أتباع التابعين 9 صغار أتباع التابعين 10 كبار الآخذين عن تبع الأتباع 11 الوسطى من الآخذين عن أتباع التابعين 12 صغار الآخذين عن تبع الأتباع
س161: اذكر عدداً من رجال الطبري في تفسيره الذين دارت عليهم جملة من الأسانيد مع بيان أحوالهم باختصار؟
ج161: أخرج الطبري رحمه الله في تفسيره عن عدد من الرواة وأكثر عنهم وفي حديث كثير منهم ضعف، فأخرج لمحمد بن حميد الرازي ( ويقول فيه حدثنا ابن حميد) وهو ضعيف، وأخرج لسفيان ابن وكيع (ويقول فيه حدثنا ابن وكيع أو حدثنا سفيان) وسفيان بن وكيع قد ضُعِّفَ بسبب ورَّاق السوء الذي كان عنده .
وأخرج رحمه الله للمثنى بن إبراهيم الآملي ، وللآن لم نقف للمثنى هذا على ترجمة .
وفي أسانيد الطبري أيضاً(وبكثرة) أبو صالح وهو عبد الله بن صالح كاتب الليث ، والراجح ضعفه. وفيها أيضاً محمد بن أبي محمد وهو مجهول.
وأخرج أيضاً بعض الأسانيد التالفة كما يقول: حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس ، فمحمد بن سعد هو محمد بن سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعد بن جنادة العوفي وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء.
س162: وجدت لابن معين في راو واحد قولين مختلفين فعلى أي شيء يحمل الاختلاف؟
ج162: إما أن يكون تغيَّرَ اجتهادُه أو يكون هذا مثلاً ضعيفاً حينما يسأل عنه بالنسبة لراوٍ آخر أو العكس، كأن يُسأل عن رجلين أحدهما ثبت والآخر أدنى منه فيقول: هذا ثبت وذاك ضعيف (أي بالنسبة للأول).
س163: عرف المزيد في متصل الأسانيد والمرسل الخفي؟
ج163: قد يجيء الواحد بإسناد واحد من طريقين ولكن في أحدهما زيادة راوٍ. وهذا يشتبه على كثير من أهل الحديث ولا يدركه إلا النقاد، فتارة تكون الزيادة راجحة بكثرة الراوين لها وتارة يحكم بأن راوي الزيادة وهم فيها تبعاً للترجيح والنقد.
فإذا رجحت الزيادة كان النقص من نوع "الإرسال الخفي" وإذا رجح النقص كان الزائد من "المزيد في متصل الأسانيد" .
مثال الأول: حديث عبد الرازق عن الثوري عن أبي إسحاق عن زيد بن يُثَيْع بضم الياء التحتية المثناة وفتح الثاء المثلثة وإسكان الياء التحتية المثناة ، وآخره عين مهملة عن حذيفة مرفوعاً "إن وليتموها أبا بكر فقوي أمين" فهو منقطع في موضعين؛ لأنه روي عن عبد الرازق قال: حدثني النعمان بن أبي شيبة عن الثوري ، وروي أيضاً عن الثوري عن شريك عن أبي إسحاق.
مثال الثاني: حديث ابن المبارك قال: حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن يزيد حدثني بسر بن عبدالله قال:
سمعت أبا إدريس الخولانى قال: سمعت واثلة يقول:
سمعت أبا مرثد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" فزيادة" سفيان" و "أبي إدريس" وهم، فالوهم في زيادة " سفيان" من الراوي عن ابن المبارك، فقد رواه ثقات عن ابن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بغير واسطة مع تصريح بعضهم بالسماع. والوهم في زيادة أبي إدريس من ابن المبارك فقد رواه ثقات عن عبد الرحمن بن يزيد عن بُسْر بغير واسطة مع تصريح بعضهم بالسماع.
س164: بماذا يعرف الإرسال الخفي؟
ج164: يعرف بأمور منها عدم لقاء الراوي شيخه ، وإن عاصره أو بعدم سماعه منه أصلاً أو بعدم سماعه الخبر الذي رواه وإن كان سمع منه غيره.
س165: ما حكم رواية أهل البدع؟(11/305)
ج165: يقبل منهم ما لا يوافق بدعتهم (ما داموا صادقي اللهجة) أما ما يوافق بدعهم فيتوقف فيه.
س166: اذكر مرتبة هذه الألفاظ عند البخاري: "سكتوا عنه" و"فيه نظر" و"منكر الحديث"؟
ج166: هذه أدنى المنازل عند البخاري وأردؤها.
س167: ما هي أنواع تحمل الحديث ؟
ج167: أنواع تحمل الحديث هي:
1- السماع.
2- القراءة على الشيخ.
3- الإجازة.
4- المناولة.
5- المكاتبة.
6- الإعلام.
7- الوصية.
8- الوجادة (وهي أن يجد حديثاً بخط شخص بإسناده).
س168: ما معنى الإسناد العالي والنازل؟
ج168: الإسناد العالي هو القريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.والنازل هو البعيد. ثم إن العلو والنزول أقسام. راجع الباعث الحثيث.
س169: متى يُصار إلى الحكم بالنسخ؟
ج169: لا بد أن تتوافر شروط ثلاثة وهي :
المخالفة- عدم إمكان الجمع- معرفة التاريخ.
س170: من هو المخضرم؟
ج170: هو الذي أدرك الجاهلية والإسلام ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمناً به.
س171: من هو التابعي؟
ج171: هو من صحب الصحابي.
س172: من هو الصحابي؟
ج172: هو من لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال إسلام الراوي ، وإن لم تطل صحبته وإن لم يرو عنه شيئاً.
س173: من هم العبادلة من الصحابة؟
ج173: هم عبد الله بن الزبير ، وابن عباس ، وابن عمر ، وابن عمرو بن العاص .
س174: عرف المؤتلف والمختلف؟
ج174: هو ما تتفق في الخط صورته وتختلف في اللفظ صورته مثال سلام وسلام، عباس وعياش، غنام وعثام .
تنبيه : إذا أردنا الوقوف على رجال الحاكم- والدارقطني- والطبرانى ، وهؤلاء المتأخرين فعلينا بكتب من التي يأتي ذكْرُها:
1- العبر في أخبار من غبر.
2- شذرات الذهب في أخبار من ذهب.
3- تاريخ بغداد.
4- كتب التواريخ بصفة عامة.
5- سير أعلام النبلاء.
س175: اذكر باختصار بعض الكتب الأساسية التي تلزم طالب علم الحديث ؟
ج175: يلزمه الآتي:
كتب السنن وهي (باختصار للأهم):
• فتح البارى شرح صحيح البخاري "ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي" .
• صحيح مسلم "ترتيب محمد فؤاد"
• صحيح مسلم شرح النووي
• سنن أبي داود تحقيق عزت عبيد الدعاس
• عون المعبود شرح سنن الترمذي
• تحفة الأحوذى شرح سنن الترمذي
• سنن الترمذي تحقيق أحمد شاكر
• سنن ابن ماجه ترتيب محمد فؤاد
• سنن النسائي
• موطأ مالك ترتيب محمد فؤاد
• التمهيد لابن عبد البر
• مسند أحمد بن حنبل مع فهرست الشيخ ناصر الألباني
• سنن الدارمي
• مسند الطيالسي
• المنتخب لعبد بن حميد
• مسند الشافعي
• مستخرج أبي عوانة
• المنتقى لابن الجارود
وإذا كان موسراً فعليه شراء أي كتاب في السنة من الكتب ذوات الأسانيد .
كتب الرجال
• تقريب التهذيب.
• تهذيب التهذيب.
• تعجيل المنفعة لابن حجر
• تهذيب الكمال.
• لسان الميزان.
• الكامل في الضعفاء لابن عدي
• الضعفاء للعقيلي
• ميزان الاعتدال.
• التاريخ الكبير للبخاري
• الجرح والتعديل لابن أبي حاتم
• العبر في أخبار من غبر الذهبي
• تذكرة الحفاظ.
• سير أعمال النبلاء
• الثقات لابن حبان
• تاريخ بغداد.
وكذلك باقي كتب الرجال والتواريخ إن كان موسراً.
كتب البحث والمصطلح (وستأتي كتب المصطلح في مراجع البحث).
• تحفة الأشراف.
• المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ( ولألفاظ القرآن).
• ذخائر المواريث .
• مفتاح كنوز السنة.
• جامع الأصول.(وهو من كتب السنة).
• مفتاح الصحيحين.
• موسوعة أطراف الحديث.
• لبانة القارئ فهرست لصحيح البخاري.
• فهرست مسند أحمد بن حنبل (على الحروف الهجائية) لبسيوني زغلول.
• وكتب الشيخ ناصر الدين الألباني: بجملتها ففيها خير كثير وبركة في شتى النواحي.
التفاسير
• تفسير ابن جرير الطبري
• تفسير القرطبي
• تفسير ابن أبي حاتم
• تفسير ابن كثير
• تفسير عبد الرازق
• التفسير الكبير للرازي
• الدر المنثور للسيوطي
وباقي كتب تفاسير أهل السنة في حالة الاستطاعة.
كتب الفقه
• نيل الأوطار.
• سبل السلام.
• المغني.
• المجموع شرح المهذب.
• المحلى.
• المبسوط.
كتب اللغة
• تاج العروس.
• لسان العرب.
كتب النحو
• التحفة السنية
• قطر الندى
• الألفية
• مغنى اللبيب
كتب علل الحديث
• العلل لابن أبي حاتم.
• العلل لأحمد بن حنبل.
• العلل لعلى بن المدينى.
• العلل للترمذي.
• العلل للدارقطني.
• كتب الضعفاء والمتروكين
هذه أشياء أساسية مختصرة تلزم طالب علم الحديث ويلزمه قبلها أن يخلص العمل لوجه الله .
انتهت الأسئلة
والحمد لله رب العالمين
_______________
[1] انظر كتاب "ضعيف الأحاديث القدسية" لأخينا أحمد العيسوي حفظه الله.
[2] والعلة القادحة: هي سبب قادح مؤثر في الحديث مع أن ظاهر الحديث السلامة.
[3] المبشرون بالجنة من أ صحاب النبي كثير، ولكن ا لمرا د بالعشرة هم الذين جمعهم حديث واحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أبو بكر- عمر- عثمان- علي- طلحة- الزبير- سعد بن أ بي وقاص- وعبد الرحمن بن عوف – وأبو عبيدة- وسعيد ابن زيد.(11/306)
[4] وقد سبق الترمذي البخاري وأبو حاتم الرازي إلى هذا الاصطلاح وغيرهما، ولكنه انتشر و اشتهر في كتب الترمذي .
[5] أحياناً لا يتحقق هذا، بمعنى أن الحديث المعلق بصيغة الجزم قد يكون ضعيفاً إلى من علق عنه أيضًا.
[6] ولفظه في البخاري من حديث أبي الجهيم (337) أ قبل النبي صلى ا لله عليه وسلم من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام.
[7] يعني عمران بن حصين رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه فعلها . ( كما في طرق الأحاديث).
=======================
مفاهيم أساسية لدراسة السيرة النبوية
محمد جلال القصاص
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة وتشمل بيان:
أهمية وضع ضوابط لقراءة السيرة النبوية
(السيرة النبوية ـ على صاحبها الصلاة والسلام ـ هي في الحقيقة عبارة عن الرسالة التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المجتمع البشرى قولًا وفعلًا، وتوجيها وسلوكًا، وقَلَبَ بها موازين الحياة، فبدَّل مكان السيئة الحسنة، وأخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله)
أي أنها ـ بلغة القوم ـ حركة من حركات الإصلاح التي عرفتها البشرية.
واليوم يتنادى كثيرون للإصلاح الديني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي... الخ. وكثير من هؤلاء يدعي الانتساب للدين وأنه ينطلق من ثوابت الدين الكلية ويستوقد من سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم شعلة يستضيء بها في رحلة(الإصلاح) التي يقوم بها.
والحقيقة أن الكل يذهب للسيرة بخلفية فكرية مسبقة فيَبتُر ويجتزئ وينقل ما يريد مما يحقق له أهدافه، وقد رأينا أن العلمانيين ومن بذروا بذور العلمانية في عالمنا الإسلامي كـ(طه حسين) و(ورفاعة الطهطاوي) قد كتبوا في السيرة النبوية.
ولكنها طريقة أهل الأهواء والبدع الذين يعتقدون ثم يستدلون، أو الذين يذهبون إلى النصوص ليأتوا بها على هواهم.
لذا كان لابد من وضع ضوابط لدراسة السيرة النبوية.
ولما كانت الخلفية الفكرية للكاتب أو المتحدث تنعكس على أفكاره المكتوبة أو المقروءة ولا بد، رأينا ـ ممن يتكلمون في السيرة من دعاة الصحوة الإسلامية المباركة ـ من لا يرى في السيرة إلا السيف والجهاد، ومنهم من لا يرى إلا الأشخاص، ويحاول أن يصور الأمر على أنه بطولات شخصية، وتنحصر رؤيته في عبقرية الشخص وتوصيف الحدث دون ربطه بغيره أو النظر إلى فقه الحدث وما فيه من التشريعات.
فغالب الطرح الموجود للسيرة النبوية يغلب عليه إثبات الوقائع ووصف تطور الأحداث وذكر النتائج.وهو أمر جيد إن كان الخطاب موجه فقط للعوام من الناس.
وقد حاولت في هذه الرسالة أن أضع بعض الأصول لدراسة السيرة النبوية. ولم تقع عيني على دراسة مشابه لشيوخنا الكرام، لذا بذلت ما استطعت من الجهد وأعترف بأن الأمر مازال يحتاج إلى مزيد من الدراسة، والله أسأل أن يبارك لي في كلماتي وأن ينفع بها.
أولا: أهمية دراسة السيرة النبوية:
1 ـ حُبّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبادة، قال تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ).[الأحزاب: الآية6]
وفي الحديث " فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ"
وفي البخاري عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ " فَقَالَ لَهُ عُمَرُ فَإِنَّهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْآنَ يَا عُمَرُ " وجاء رجل إلى النبي صلى الله فسأله عَنْ السَّاعَةِ فَقَالَ : مَتَى السَّاعَةُ قَالَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ : لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ: قَالَ أَنَسٌ فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ.(11/307)
والاقتداء به ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو أحد ركني الإسلام الذي قام عليهما(الإخلاص والمتابعة)، قال تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا) [ الأحزاب:21 ]. وهو أيضا الترجمة الحقيقية للمحبة قال الله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)[ آل عمران: 31 ]
ومن أمحل المحال أن يحب المرء من يجهل أوصافه وأحواله، ومن أمحل المحال أن يقتدي المرء بمن لا يعرف شيئًا عن سيرته وهديه، من هنا تأتي أهمية شرح السيرة النبوية لتوضيح صفاته وأحواله صلى الله عليه وسلم، ليعرفها من جهل فيحب ويتبع.
2 ـ وتعلُّم السيرة النبوية عبادة فقد جاء عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه قال: " كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن".
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: «كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعدها علينا، ويقول: هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها»(1).
3 ـ وإذا أعملنا قاعدة " الوسائل لها أحكام المقاصد " ـ وهو ممكن هنا ـ وجدنا أن السيرة النبوية إحدى وسائل التعبد، تأخذ حكم الغاية التي تصل إليها. وبعض الغايات عبادات واجبة، وبعض الغايات دفاع عن الحبيب صلى الله عليه وسلم.
4 ـ وفي السيرة توضيح لكثير من معاني القرآن الكريم، كتلك الآيات التي تتكلم عن الغزوات في سورة آل عمران، والتوبة والأحزاب والفتح والحشر...، كما أن في دراسة السيرة النبوية بيان لكثير من أسباب النزول. فهناك سور بأكملها تتكلم عن غزوة مثل سورة الأنفال التي تتكلم عن غزوة بدر، وسورة التوبة التي تتكلم عن غزوة تبوك، وسورة الحشر التي تتكلم عن جلاء بني النضير، وهناك آيات كثيرة في سورة آل عمران تتحدث عن غزوة أحد، وحتى تفهم هذه الآيات جيدًا لا بد من دراسة السيرة النبوية.
5ـ ولما كانت القدوة لابد منها في حياة الناشئة كان لا بد من تعلم السيرة النبوية، لإعطاء الأجيال نماذج طيبة طاهرة، من الصحابة والتابعين، وطرد النماذج الجاهلية أو الخيالية التي تعطى للأطفال فيما يعرض على الشاشات المرئية أو في القصص المكتوبة مما عمت به البلوى هذه الأيام. ففي السيرة نماذج حية للقادة العظماء وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي السيرة نماذج حيّة للزهاد وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي السيرة نماذج للتجار الناجحون المخلصون الأتقياء. وفي السيرة أفضل النماذج للمربين وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي السيرة أسمى نماذج الصبر والثبات والجد في الحصول على المراد.
ولا بد من عقد المقارنة بين هذه النماذج الخيالية المكذوبة التي لا يستفيد منها القارئ وخاصة الناشئة شيء، وبين نماذج البطولة الحية الموجودة في السيرة النبوية.
بل لا بد من عقد المقارنة بين عظماء التاريخ الإسلامي وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وباقي الجبابرة الذين استخفوا قومهم فأطاعوهم، والذين ملكوا على الناس بالسيف، ولم يتركوا أثرا لهم يُحي ذكرهم بالخير بين الناس كما كان حال من رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6 ـ واليوم دار الزمان دورة أخرى، وصار الكفر هو القوة العظمى الوحيدة على وجه الأرض ففرض علينا ما هو مرفوض في ديننا، وتبعه كثير من قومنا رغبة ورهبة، ولا بد من التصدي لهذه الحالة والوقوف بوجهها، لذا كان لا بد من معرفة كيف عالج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمر من قبل. وتُعرض السيرة النبوية كنموذج للإصلاح ورد الناس إلى دين الله.
وأحاول ـ بحول الله وقوته ـ عرض بعض المفاهيم التي لا بد منها ـ من وجهة نظري ـ لمن يريد دراسة السيرة النبوية أو عرضها على الناس.
ثانيا: السيرة النبوية وصحة المصادر:
يعاني النصارى واليهود من الشك الكبير في تراثهم الديني... كل تراثهم الديني؛ بل في أقدس ما لديهم وهو ما يسمونه(الكتاب المقدس)، فهم مختلفون أو قل يجهلون الكثير عن الشخصيات التي كتبت(العهد القديم) وكذا من كتبوا الأناجيل (القانونية منها وغير القانونية)، والكلام في التشكيك فيمن كتبوا الأناجيل مشهور ومعلوم، والمعلومات عن الأصول التي تمت الترجمة منها تكاد تكون معدومة، والحديث عن ما يسمونهم بـ(الآباء الأولون) حديث مُحتكر بين طائفة معينة، ومن يدخل منهم الإسلام يتكلم بأنه كله كذب ولولا ذلك لخرج للعوام، فهم إذا في شك كبير من كتابهم وتراثهم الفكري والتاريخي، وهو مصداق قول الله تعالى:(وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب) ويستر عيبهم أن الدين حكر على الأحبار والرهبان، وأن العوام ليس لهم من الدين سوى بعض القضايا الذهنية التي يعتقدونها كقضية الفداء والصلب مثلا عند النصارى، وبعض الشعائر التعبدية التي يلتزم بها القليل. ولا يلام عليها الباقين.(11/308)
هذا حال أقرب الديانات لنا ـ النصرانية ـ والأمر أسوء في اليهودية والبوذية وغيرهما من الديانات الأخرى.
أما نحن المسلمين فنعرف عن نبينا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم كل شيء... نعرف عنه صلى الله عليه وسلم مأكله ومشربه وملبسه ومشيته وجلسته، وكيف كان ينام، وكيف كان يضحك، وما كان يحب من الأشياء، ومن كان يحب ويكره من الأشخاص، ونعرف صلاته وغزواته، وحاله في بيته مع نسائه وأطفاله وأحفاده، ونعرف عن نبينا ما لا يعرفه أحدنا عن أبيه.
وهذه مِنَّة من الله عظيمة يجب التنبيه عليها لمن يعرض السيرة النبوية على الناس، فنحن حين نعرض السيرة النبوية نتكلم عن عِلْم مدون، وليس عن قصص مفترى. ونتكلم عن حقائق وأشخاص معروفة ومعلومة وليس عن أشخاص وهمية.
ويعرف أهمية هذا من يناظر النصارى ويختلط بهم.
وأمرًا آخر يجب التنبيه عليه وهو أن الكتب التي تأخذ منها السيرة النبوية ومنها كتب التفسير تثبت الروايات الضعيفة والمكذوبة للرد عليها وتضعيفها. فلا يعني أبدًا وجود هذه الروايات في كتب السير أنها صحيحة فلا بد من الالتفات إلى التعليق الذي يذكره المؤلف على القصة أو الرواية.
مثل قصة الغرانيق العلا التي أوردها المفسرون في سورة النجم ولم يقل أحد منهم أن القصة صحيحة، بمعنى أنه نزل في القرآن آيات تقول عن(اللات) و(العزى) " أنهم هم الغرانيق العلا وإن شفاعتهم لترتجى" فلم تكن هذه أبدًا يومًا من الأيام آيات من كتاب الله وتم نسخها أو حذفها. ولم يذكرها المفسرون من باب التأيد، وإنما من باب التكذيب والرد على من يقول بها.
ومثال ذلك أيضا ما يقال عن الحمار(يعفور) الذي كلم النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، وما يقال من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى زينب في ثياب شفافة فأعجبته وسعى في طلاقها من زيد ليتزوجها هو صلى الله عليه وسلم.
هذه الروايات ومثلها ترد في كتب السير وكتب التفسير أيضًا لتكذبيها والرد عليها.
وليس مجرد وجودها هو إثبات لها كما يفتري أهل الكتاب. فالواجب على من يعرض السيرة أن ينبه على هذا الأمر.
وقد يبدو للقارئ أن هذا الأمر بسيطًا لا يستحق الوقوف عنده والتنبيه عليه، إلا أنك حين تعلم أن دعاة الكفر ينقلون هذه الأشياء لمن يسمعونهم من المسلمين والنصارى ويقولون لهم ها نحن ننقل لكم من كتب أئمتهم الكبار(بن كثير) و(القرطبي) و(الجلالين)... الخ يتبين لك مدى أهمية التنبيه على هذا الأمر، وعلى هذا المسلك الفاسد الذي هو في حقيقة أمره كذب ليس إلا.
ثالثا: شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم المفترى عليها:
ما يحدث اليوم من سبِّ للحبيب صلى الله عليه وسلم ليس حدثًا عابرًا قامت به صحيفة سيئة الأخلاق نفثت به عن حقدها في عدد من أعدادها، وليس هو همُّ حفنه من أراذل الكفار مُلئت قلوبهم غيظًا وحنقًا على شخص الحبيب صلى الله عليه وسلم فقاموا يمثلون وينكتون ويسخرون. بل لو كان الأمر كذلك لكان مما يسعه الصدر على عظمه إذ أن مجاراة السفهاء أمر يترفع عنه العقلاء... ولكن..الأمر أعمق من هذا كله.
هذه الأمور ليست إلا كما يقول الله عز وجل:(... قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ)(آل عمران: من الآية 118). وهاأنذا أنادي العقلاء. فهل يسمعون؟... وهل يجيبون؟... وليت أولى العزم من العقلاء مَن يلبون؟
من قبل كان النصارى في حملاتهم(التبشيرية) يتكلمون عن النصرانية... يبترون ويكذبون ويبدون قليلاً ويخفون كثيرًا كي يُظهروا دينهم المحرف في صورة يتقبلها الآخر. واتخذوا مما يسمى بحوار الأديان... هذا الحوار الذي يجرى مع علماء الدين(الرسميين) وسيلة ليقولوا لمن يخاطبونهم من ضعاف المسلمين في أدغال أفريقيا وجنوب شرق أسيا أن الإسلام يعترف بنا ولا يتنكر لنا فكله خير ـ بزعمهم وهم كاذبون آثمون ـ.
وكانت حملتهم على الإسلام حملة على شعائره... يتكلمون عن(التعدد) وعن(الطلاق) وعن(الحدود) وعن(الجهاد) وعن(الميراث) وعن ناسخ القرآن ومنسوخه، ثم في الفترة الأخيرة وخاصة بعد انتشار الفضائيات ودخولها كل البيوت تقريبًا، وكذا بعد ظهور تقنية الإنترنت عمومًا والبالتوك خصوصًا، أخذ القوم منحى آخر وهو التركيز على شخص الحبيب صلى الله عليه وسلم. قاموا ينقضون الإسلام بتشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم.
ودعك من كلام الأراذل، هناك طرحٌ يُلْبِسُه دعاة الكفر ثوب العِلمية ويدَّعون أنه الحقيقة التي لا مراء فيها، يخاطبون بهذا الهراء قومهم ومن يتوجهون إليهم بالتنصير!!
هذا توجه عام داخل حملات التنصير اليوم.
والأمر بيِّن لمن له أدنى متابعة لما يتكلم به القوم. وما حدث في الصحف الأوربية هو طفح لما يُخاطب به القوم في الكنائس وغرف البالتوك وبعض الفضائيات عن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.(11/309)
فهم يحاضرون ويؤلفون عن(أخلاق نبي الإسلام)، يتكلمون عن زواجه بتسع من النساء ـ وقد اجتمع عند سليمان عليه السلام سبعمائة من النساء وهذا في كتابهم ـ، وعن زواجه من عائشة ومن زينب ومن صفية ـ رضي الله عنهن، وعن غزواته صلى الله عليه وسلم؛ وبطريقة البتر للنصوص واعتماد الضعيف والشاذ والمنكر من الحديث يخرجون بكلامهم الذي يشوهون به صورة الحبيب صلى الله عليه وسلم. ولكنه في الأخير يبدو للمستمع أن هذا كلام(بن كثير) و(الطبري) و(بن سعد) علماء الإسلام. فيظن المخاطبون أنها الحقيقة التي يخفيها(علماء) الإسلام!!
دعاة النصرانية يغرفون من وعاء الشيعة الكدر النجس حين يتكلمون عن أمهات المؤمنين وعن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بل وفي كلامهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا، ويغرفون من وعاء(القرآنيون) الذين يتركون السنة تشكيكًا في ثبوتها أو في عصمة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
والمطلوب هو قراءة جيدة لما يحدث، والتصدي له على أرض الواقع. لا نريد ثورة كلامية، وغضبة لا يفهم منها(الآخر) إلا أنها نفرة المتعصب، نريد قطع الطريق على هؤلاء وإحباط كيدهم، وإنقاذ الناس من الكفر بربهم.
مطلوب خطاب أكاديمي يجفف منابع المنصرين، أعني ما يقوله القرآنيون والشيعة على شخص الحبيب صلى الله عليه وسلم ونسائه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. وما يفتريه النصارى بالبتر للنص واعتماد المكذوب والشاذ والضعيف من الحديث.
ومعنيٌ بهذا طلبة درجات التخصص العليا في الكليات الشرعية. وإن أخذ الأمر وقتا ولكنه سيثمر بإذن الله يومًا ما.
ومطلوب خطاب لعامة الناس يبين لهم كيف كان نبيهم صلى الله عليه وسلم بعيدًا كل البعد عما يقولوه النصارى، وأن ما يقال محض كذب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان كل الكمال وجملة الجمال صلى الله عليه وسلم، ويأخذ شخص الحبيب صلى الله عليه وسلم اهتمامًا أكبر ممن يعرضون السيرة النبوية على الناس.
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت * * * مثل النبي رسول الأمة الهادي.
وأعرض الآن واحدة من الشبهات التي يتكلم بها النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم والرد عليها، ليعرف قومنا كيف أنها مُهْمَلة في ما يُعرض من السيرة النبوية، وخاصة المسموعة التي تصل إلى العوام، وهم من يستهدفهم المنصِّرون.
يتكلمون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شهوانيًا لا همَّ له إلا النساء، مستندين في ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بتسعة من النساء، وزواجه من عائشة رضي الله عنها وهي في التاسعة من عمرها، وزواجه زينب زوجة زيد بن حارثة ابنه بالتبني، وكذا زواجه من بعض السبايا. ويسمون هذه الأسماء بغير
وما يجهله الكثيرون هو أن التعدد لم يأت به الإسلام ابتداءً وإنما هو المعمول به في الأمم من قبل... كذا كان إبراهيم عليه السلام، وكذا كان يعقوب عليه السلام، وكان داود عليه السلام كذلك، وكان لسليمان عليه السلام من الزوجات والجواري سبعمائة كما يقول كتاب النصارى(المقدس).
وكان تعدد الزوجات منتشرًا عند الفراعنة، وعند العرب قبل الإسلام، وعند شعوب وسط وشرق وجنوب شرق أسيا، وعند الشعوب الوثنية في إفريقيا، بل ظلت الكنيسة حتى القرن السابع عشر تعترف بالتعدد، ولا يوجد نص صريح في العهد الجديد(الإنجيل) يمنع التعدد، أما العهد القديم(التوراة والمزامير ورسائل بعض الأنبياء) ففيها نصوص كثيرة صريحة تبين شرعية التعدد.
فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعًا من الرسل. والإسلام في إباحته للتعدد لم يأت بجديدٍ مُنكر بل أتى بما هو معروف معمول به بين جميع الناس، والمنكر شرعًا وعقلاً وواقعًا هو عدم إباحة التعدد.
ثم لو افترضنا جدلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما يقول النصارى ـ وحاشاه صلى الله عليه وسلم ـ فهذا ليس بعيب عند النصارى أنفسهم.
فعندهم أن نوحًا عليه السلام شرب الخمر وتعرى وضاجع بنتاه، ويفترون على نبي الله لوط عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام أن ابنتاه سقتاه الخمر فشرب حتى ذهب عقله، ثم قام فزنى بإحداهما ليلة كاملة، وفي الليلة الثانية تكررت الفعلة مع البنت الثانية. قطع الله لسانهم. وإن تعجب فمن قول كبير الضالين في مصر(شنودة) حين راح يبرر هذه الفعلة بقولة:(أن ابنتي لوط قد فعلتا ذلك لتنجبا منه نسلاً مؤمناً). أغفل عن الحكمة نبي الله لوط وفطن إليها شنودة؟!! وهل ينتشر عضوًا مَن سكر حتى الثمالة؟!
أبدًا كله كذب.
وعندهم أن نبي الله سليمان عليه السلام ولدُ زنى أنجبه داود حين زنى بزوجة أمير الجيش أوريا الحثي، وأنه ـ سليمان عليه السلام ـ ارتد في أخر عمره و عبد الأصنام و بنى لهم المعابد، وذلك حين غوته النساء.
وعندهم أن نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ سرق مواشي حميه وخرج بأهله خلسة دون أن يعلمه.
وكذا أن راوبين زنى بزوجة أبيه يعقوب وعلم يعقوب بذلك الفعل القبيح و سكت عنه.(11/310)
بل لم يسلم منهم المسيح ـ عليه السلام ـ فعندهم أن المسيح عيسي بن مريم ـ عليه السلام ـ من نسل الزنى. وذلك طبقاً لما ورد في إنجيل متى(1-10) (أن عيسى بن سليمان بن داوود و جدهم الأكبر فارض الذي هو من الزنا من يهوذا بن يعقوب).
فلو حاكمناهم إلى كتابهم لما وجدنا ما يقولونه عيبًا. وإنما أردت من هذا العرض أن يعلم القارئ أن القوم لا يقدسون أحدًا إلا الأحبار والرهبان، الذين يعتقدون فيهم العصمة، وأنهم لو تحاكموا لكتابهم ما عابوا شيئًا على محمد صلى الله عليه وسلم مما يفترونه عليه.
ثم لم يكن الحبيب صلى الله عليه وسلم هذا الشخص الذي تأخذه النظرة، ويجري وراء النساء هنا وهناك، كما يفترون، وسيرته شاهد على ذلك. فقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد وهو ابن أربعةٍ وعشرين عامًا وهي بنت أربعين عامًا. وكانت متزوجة ً من رجلين قبله. وظل معها خمسةً وعشرين عامًا... إلى أن تُوفيت رضي الله عنها،أي حتى بلغ عمره الخمسين، وكانت هي في الخامسة والستين. أي أنه قضى معها فترة الشباب، ولم يكن يومها دينٌ يمنع، بل كانت هناك الرايات الحمر تنصب على البيوت، وهي رايات البغايا تنادي الرجال، ولم ُيسمع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كانت له نزوات الشباب التي لم تكن محرمة في ذلك اليوم. بل كان الداعي إليها لا يَمَلُّ النداء. ثم ماتت خديجة رضي الله عنه وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيَّا لها بعد وفاتها يذكرها بخير، حتى قالت أم المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها: كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يومًا من الأيام، فأخذتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزًا قد أبدلك الله خيرًا منها، فغضب ثم قال: "لا والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء". وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "خير نسائها خديجة بنت خويلد، وخير نسائها مريم بنت عمران".
وفي البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ وَمَا رَأَيْتُهَا وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ فَيَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ
أتسائل: أهذا حال من يبحث عن الشهوة؟
كم كان عمر خديجة يوم ماتت؟
خمس وستون عامًا.
فعلم يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أعلى شهوة كان يقضيها معها؟
وما يُشتهى في امرأة قاربت السبعين من عمرها.
بل والله على ألفة وعشرة. وتلك شيم الرجال..
أخو الخنا... لا يقر له قرار، ولا يعرف الألفة والعشرة، وإنما يوم هنا ويوم هناك.
ماتت خديجة وتركت للنبي صلى الله عليه وسلم، ستةً من الأبناء... أربعة بنات منهن من قارب سن الزواج، وولدان صغيران....
ولم يفكر صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه في الزواج، بل ظل فترة من الزمن بلا زواج حتى جاءته خولة بنت حكيم رضي الله عنها زوجة عثمان بن مظعون وعرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم الزواج من ثيب عجوز... هي سودة بنت زَمْعَة رضي الله عنها، وأرضاها لتكون أمًا لأولاده، وعرضت عليه صلى الله عليه وسلم الزواج من عائشة رضي الله عنها لتوطد العلاقة بينه وين صاحبه أبي بكر رضي الله عنه. فتزوج بعد ذلك بسودة رضي الله عنها وكانت امرأة ضخمة ثبطة(بطيئة الحركة) مُصبية(ذات أولاد) لا حاجة لها في الرجال. هكذا يصفونها. وليس هذا حال من يبحث عن شهوته، وإنما حال من يبحث عن أم لأولاده الست الذين تركتهم له خديجة رضي الله عنها.
وتزوج من عائشة رضي الله عنها، ولم يكن الزواج في هذا السن(التاسعة) عيب، فقد كان تكلم لخطبة عائشة رضي الله عنها جبير بن المطعم بن عدي قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا الأمر ـ زواج الكبير من الصغيرة ـ أمر عادي في هذه الأيام فقد تزوج عبد المطلب مع ابنه عبد الله ببنت عم آمنة بنت وهب التي في نفس سنها في ليلة واحدة، وكان يومها قد تجاوز المائة عام. وتزوج عمرو بن العاص وأنجب وهو بن اثنا عشر عامًا.
ولو كان في هذا الأمر عيب لم تكن قريش واليهود ليتركونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين كانوا يفتعلون الأكاذيب للنيل منه صلى الله عليه وسلم.
ومريم العذراء أنجبت المسيح عليه السلام وهي في الثانية عشر من عمرها، كما تقول الموسوعة الكاثوليكية، أي أنها حملت وهي في الحادية عشر، وكانت مخطوبة قبل ذلك، وكان يوسف النجار خطيبها قد تجاوز الثمانين من عمره.(11/311)
ثم لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكهل مُحْدَودب الظهر الذي لا يقوم من مجلسه إلا بغيره، بل كان صلى الله عليه وسلم فتيَّا من أشد الرجال، يُجَامِع حتى يكسل، ويركب الخيل ويلبس الحديد، ويثبت حين يفر الأبطال... وسِيمًا... قسيمًا... أسود الشعر واللحية. بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ولو أن عائشة رضي الله عنها زفت إليه مكرهه لما أحبته هذا الحب. ولم تكن السيدة عائشة هذه الطفلة الغافلة التي لا تفقه شيئًا، رمى بها أبوها وأمها إلى رجل عجوز كما يرسم لكم الخيال.. بل كانت من أعقل النساء، وهذا أمر معروف مشهور.
ليس المقام مقام تفصيل في الرد على شبهات النصارى وإنما أضرب مثالاً لما أقترحه على من يعرض السيرة النبوية. فهذا أمر مُستجد ويحتاج إلى معالجة خاصة، وقد شرحت نموذجا لبيان قولي.
أقول: لا بد من الوقوف مع هذه القضية وبيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بشرًا يعتريه ما يعتري البشر من حب النساء والولد، ومن الحاجة إلى الطعام والشراب، وما إلى ذلك.
رابعا: البعثة المحمدية(السيرة النبوية) حلقة من حلقات الدعوة إلى التوحيد:
خلق الله عز وجل الناس لعبادته وحده لا شريك له(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فكان آدم عليه السلام نبيًا مرسلاً ، ثم كانت ذريته من بعده على التوحيد ألف عام حتى ظهر الشرك.
وأرسل نوح عليه السلام يدعو الناس إلى التوحيد، ومن يومها وموكب الدعوة إلى الله يسير.
دعوة الكل بما فيها دعوة محمد صلى الله عليه وسلم هي الإسلام بمفهومه العام، الاستسلام لله... إخلاص العبادة لله عز وجل بشقيها الطاعة والنسك، أو الشرائع والشعائر.
وموجز دعوتهم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أنها دعوة واحدة إلى منهج "التوحيد" بكل فروعه وأنواعه وموالاة أهله، وما يستلزمه ذلك من نبذ الشرك بكل صورة وألوانه، ومعاداة أهله.
وفي القرآن جاء التعبير عن الرسالات جميعاً بأنها كتاب واحد قال تعالى:(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). وقال تعالى(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ). وقال تعالى:(اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)، وجُمْلةً (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً. أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً)..
فالدين عند الله واحد(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ) وليس هناك تعدد أديان وإنما تعدد رسالات. ولذلك من الخطأ الاعتقاد بتعدد الأديان.
وتدبر قول الله تعالى(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ)، ومعرف أن قوم نوح لم يكذبوا إلا نبيهم نوحًا عليه الصلاة والسلام، وإنما لما كانت الدعوات واحدة، أعتبر تكذيب قوم نوح لرسولهم نوح عليه السلام تكذيب للرسل جميعًا.
فالدين عند الله الإسلام ولا يقبل من الناس غيره(وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) هو دين إبراهيم عليه السلام قال تعالى:(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) وقال تعالى:(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(11/312)
وهو دين يعقوب عليه السلام وبنيه من بعده قال الله (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ.(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) وجاء على لسان قوم موسى عليه السلام (وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)،(وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) وجاء على لسان نوح عليه السلام (فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
وجاء على لسان يوسف عليه السلام (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين) [ يوسف: 101 ]
وجاء على لسان الحواريين (فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون) [ آل عمران: 52 ].
وفي آية أخرى (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون) [ المائدة: 111 ]
وجاء في خطاب سليمان عليه السلام إلى أهل اليمن (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)،(فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ)، وجاء على لسان الملائكة وهم يتكلمون عن قوم لوط عليه السلام:(فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِين. فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ)، فالدين واحد وإن تعدد الرسالات. وفي الحديث "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ"
ونجد في السيرة النبوية ربط بين الأشخاص التي عاصرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين من سبقوا. يُشبه أبو بكر رضي الله عنه بمؤمن آل فرعون، وعروة بن مسعود الثقفي بالرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، وعقبة بن معيط بقاتل ناقة صالح عليه السلام. وأبو جهل بفرعون، وأمية بن أبي الصلت بالذي آته الله آياته فانسلخ منها... وقريب من هذا " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ " و"لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ".
وحين عرض السيرة النبوية على الناس لا بد من الحرص على تبين هذا الحبل الممدود بين عباد الله وعباد الشيطان على مر العصور، والقرآن الكريم يستخدم مع المكذبين للرسالة في كل العصور نفس الوصف فهم الملأ... الذين استكبروا. وجاء التعبير عن رفض دعوة الرسل ـ كل الرسل ـ بأنه عبادة للشيطان قال تعالى(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)
والمطلوب هو توضيح هذا الربط بين عباد الله في كل زمان ومكان، وبين عباد الشيطان في كل زمان ومكان من خلال دراسة السيرة النبوية. وبيان أن السيرة النبوية ما هي إلا حلقة من حلقات الدعوة إلا الله عبر التاريخ، هي رسالة الله إلى البشرية بعد أن انحرفوا لردهم إلى الدين الحق. وهذا الربط أيضًا يحدث نوع من الأنس بين مسلمي اليوم ومسلمي الأمس.
خامسا: لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم للعرب فقط:(11/313)
بعض ممن يشرحون السيرة النبوية، يحصرون أحداث السيرة في العهد المكي بين الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين وبين قريش، مما يفهم منه أن الدعوة كانت محلية، علما بأن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف، وكان يعرض نفسه على القبائل في الحج، وجاءه الجن واستمعوا إليه، وجاءه فريق من نصارى الحبشة والشام حين سمعوا به صلى الله عليه وسلم فتلى عليهم القرآن وأسلموا. وفيهم نزل قول الله تعالى.في سورة القصص:(وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون. الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه إلى الحبشة لتكوين نواة أخرى احتياطية للدعوة الإسلامية، ولم يكن سبب الهجرة هو الهروب من التعذيب كما تتكلم بعض المصادر، وإنما أصح من ذلك أن يقال أنها كانت لتكوين نواة احتياطية للدعوة الإسلامية، يدل على ذلك كون من هاجروا إلى الحبشة ممن لهم شوكة في مكة مثل جعفر بن أبي طالب وعثمان بن عفان...
وكونهم لم يرجعوا بعد الهجرة مباشرة بل بعد سبع سنيين من الهجرة حين استقرت الدولة الإسلامية بوضوح.
وبعد ذلك كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الملوك يدعوهم إلى الإسلام، فقد كانت الدعوة عالمية من يومها الأول وفي كل مراحلها.
أضف إلى ذلك البشارات التي كان يتكلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم من فتح فارس والشام.
وجاء في الحديث " تُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الشام فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَتُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"
وفي الحديث "إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ "
وفي الحديث " تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللَّهُ ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللَّهُ".
فالدعوة كانت عالمية من يومها الأول، ومن المهم جدًا التنبيه على هذا الأمر. فهناك من يردد أن الدعوة كانت محلية عربية، قرشية. ثم تحت أطماع استعمارية أصبحت عالمية. هذا حديث نفر غير قليل من(العقلانيين).
سادسا: حال البشرية قبل البعثة المحمدية:
هذه الفقرة متممة لما قبلها.
كثير ممن يتناول دراسة السيرة النبوية يتناول فقط حال الجاهلية في الجزيرة العربية فقط، بل يختزل البعض الأمر أكثر من ذلك فلا يتكلم إلا عن حال قريش، وكأنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا إلى العرب!.
ومن فضلة القول أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث للناس كافة، وأن نور الإسلام أضاء جنبات المعمورة كلها بعد قرن من وفاته صلى الله عليه وسلم.
إخواني الكرام!
لم يكن حال البشرية خارج الجزيرة العربية خير من حالها في الجزيرة العربية، لا في الناحية الدينية ولا في الناحية الاجتماعية، ولا في الناحية الاقتصادية. لم تكن البشرية قبل محمد صلى الله عليه وسلم، تعرف أيا من أنواع الرقي المادي أو التكريم للإنسان.
في الفرس:
كانت المحرمات النسبية التي تعارف على حرمتها أهل الأقاليم المتواضعة موضع خلاف ونقاش عندهم، حتى أن يزدجر الثاني الذي حكم في أواسط القرن الخامس الميلادي تزوج بنته، ثم قتلها، وبهرام جوبين الذي تملك في القرن السادس الميلادي كان متزوجًا أخته.
ولم يكن هذا معصية بل كان قربة يتقربون به إلى الله.!!
وفيهم ظهرت دعوة (ماني) التي تدعو إلى العزوبية وترك الزواج استعجالاً لفناء البشرية، ومع أن صاحب هذه الدعوة قتل إلا أن دعوته ظل لها أنصار إلى ما بعد الفتح الإسلامي.
وفيهم ظهرت دعوة (مزدك) التي دعت إلى أن يكون الناس سواء في كل شيء، في الأموال وفي النساء، ولاقت هذه الدعوى رواجًا كبيرًا، حتى صاروا لا يعرف الرجل ولده ولا المولود أباه.(11/314)
وكان الأكاسرة يدعون أنهم تجري في عروقهم دم إلهي، وكان الناس ينظرون إليهم كآلهة ويعتقدون أن في طبيعتهم شيئًا علويًا مقدسًا، فلا يجري اسمهم على لسانهم، ولا يجلسون في مجالسهم، وليس لأحد حق عليهم، وأن ما يعطونه لأحد إنما هو صدقه وتكرم من غير استحقاق، وليس للناس قبلهم إلا السمع والطاعة.
ودون ذلك كان المجتمع قائمًا على الطبقية المؤسسة على اعتبار الحرفة والنسب، وكان من قواعد السياسة أن يقنع كل واحد بمركزه الذي منحه نسبه، ولم يكن يسمح لأحد أن يتخذ حرفة غير الحرفة التي خلقها الله لها، ولم يكن الملوك يولون وضيعا وظيفة من وظائفهم.
ثم هم جميعهم أهل فارس كانوا ينظرون إلى الأمم الأخرى نظرة ازدراء وامتهان، ويلقبونها بألقاب فيها احتقار وسخرية، ويرون أن بهم ما ليس في غيرهم من أسباب الرفعة والعلو، وأن الله قد خصهم بمواهب ومنح لم يشرك فيها معهم أحدًا.
وفي ناحية الشعائر التعبدية، كانت الديانة عندهم هي عبادة النار، والنار لا توحي لعبادها بشريعة ولا ترسل رسولاً ولا تتدخل في شئون حياتهم، لذا أصبحت الديانة عند المجوس عبارة عن طقوس يؤدونها في أماكن خاصة وأوقات خاصة، أما في أمورهم فكانوا أحرارا يسيرون على أهوائهم، أو ما يؤدي إليه تفكيرهم، أو ما توحي به مصالحهم ومنافعهم.
وفي الهند والصين كانت البوذية، وهي ديانة أرضية تدعو إلى قمع شهوات النفس وترك الدنيا وما فيها ثم تحولت إلى الوثنية بعد أن عبدت بوذا، وتسرب إلى مناهج العبادة السحر والأوهام. وكانت الآلهة متعددة حتى أصحبت المعادن كالذهب والفضة آلهة، والحيوانات آلهة والأجرام الفلكية آلهة، وبعض الأشخاص التاريخية آلهة... الخ.
وكانت ذات الطبقية موجودة أيضًا.
أما اليهودية فلم تكن تصلح لحمل مشعل الحضارة للبشرية، فقد تحولت لديانة مرتبطة بالجنس، لا ترى عليها في الأمم الأخرى من سبيل، فلم تكن لدى اليهود نية لهداية البشرية وإنما للنيل منها، وتحقيق أطماعهم على حساب الآخرين.
والمسيحية ديانة لم تعرف التطبيق في أرض الواقع، فلم تكن المسيحية في عهدها الأول من التفصيل والوضوح ومعالجة مسائل الإنسان، بحيث تقوم عليها حضارة أو تسير في ضوئها دولة، ثم جاءها(شاؤول اليهودي) المعروف بـ(بولس الرسول) فطمس نورها وطعمها بخرافات الجاهلية التي انتقل منها والوثنية الرومية التي نشأ عليها، وقضى قسطنطين على البقية الباقية، حتى أصبحت النصرانية مزيجًا من الخرافات اليونانية، والوثنية الرومية، والأفلاطونية المصرية والرهبانية، كما يقول صاحب كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين).
وأصبحت بعد زيادات المحرفين وتأويل الجاهلين، تحول بين الإنسان والعلم والفكر، وأصبحت على مَر العصور ديانة وثنية يقدس أهلها القديسين والصور المعلقة في الكنائس. حتى أن أصحابها الأوائل لو بعثوا لما استطاعوا التعرف على شي من ديانتهم.
وحدث أن انقسم النصارى إلى ما يعرف اليوم بالكاثوليك و(الأرثوذكس) تبعًا لاختلافهم في طبيعة المسيح عليه السلام، وكان مذهب الدولة هو المذهب الكاثوليكي. وقاموا باضطهاد من خالفهم المذهب، فرجال كانوا يعذبون ثم يقتلون غرقًا، ورجال كانوا يشعلون فيهم النار وهم أحياء موثقون، و غير ذلك من الفظائع.
وكانت ذات الطبقية الموجودة في غيرهم، فكانت بعض الممالك تزرع وتحصد، وتحمل زرعها على دوابها وأكتافها لخزينة الدولة.
وانشر ت الرشوة والفساد الإداري في الدولة، والفساد الخلقي بين عوام الناس.
وباقي الشعوب الوثنية في أفريقيا كانت تعيش عيشة أقرب للبهيمية منها للإنسانية.
هذا هو حال البشرية قبل البعثة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
وأقول: ومن المهم ونحن ندرس السيرة أو نعرضها على الناس أن نوضح حال البشرية قبل البعثة المحمدية، وذلك لأن فريقا من عبّاد الصليب اليوم يقولون بأن البشرية كانت في أوج حضارتها ثم جاء العرب ـ يعنون المسلمين ـ وهدموا هذه الحضارة. فكان لا بد من التعريج على حال البشرية قبل البعثة المحمدية لبيان أي حضارة كانت وهدمها الإسلام. وبيان أي حضارة أقامها الإسلام، وبيان كيف أن الإسلام كان نور ورحمة من الله للبشرية لمن آمن منها ولمن كفر.
وهناك فريق آخر أخبث من هذا الفريق، يتكلم بأنها كانت حركة سياسية كغيرها من الحركات ويعرض السيرة النبوية من هذا القبيل، وأن الفتوحات ما هي إلا أحد أشكال الاحتلال، وأنه هبت ثورات فيما بعد لمقاومة هذا الاحتلال ورفع الظلم عن الناس. ويذهب يقرأ السيرة النبوية بهذه الطريقة.
ونحتاج إلى طرح للسيرة النبوية يبين أن الدعوة ما كانت أبدًا قرشية أو عربية، ولم تكن الحركات التي ظهرت في التاريخ الإسلامي وخاصة الفرق التي ظهرت في القرون الأولى حركات شعوبية ـ باستثناء حركة الزنوج والتي لم تستمر ولم تترك أي أثر فكري أو منهجي في حياة الناس ـ ضد العرب بل كانت حركات عقدية منحرفة، وكان رؤوسها عرب وسبب نشأتها خلافات دينية.(11/315)
وهذا الطرح لا بد أن يعمل على ربط العقيدة الصحيحة... وأهداف الدعوة الكلية التي هي تعبيد الناس لله بأحداث السيرة النبوية.
وهذا يستلزم قراء جديدة للسيرة النبوية، ولعل فيما يأتي مزيد بيان
سابعا: طبيعة الخطاب الدعوي في مكة وحدة الأهداف والمنطلقات:
في الجاهلية الأولى كان المال دولة بين الأغنياء... قِلَّة غنية وكَثرة بالكاد تجد قوت يومها.
وفي الجاهلية الأولى كانت الحروب تأكل الرجال على ناقة أو لأن فرسًا سبقت أختها.! وفي الجاهلية الأولى كان الزنا وكانت الخمر وكان وأد البنات وبيع الأحرار. وفي الجاهلية الأولى كان الشرك الأكبر(شرك النسك وشرك الطاعة)... تُدعى الأصنام من دون الله ويُنذر لها ويُذبح عندها، وكان شرك الطاعة... يُشَرِّع الملأ ويتبع العوام. ولم تخل الجاهلية من المصلحين، الذين يسعون في إصلاح ذات البين وحقن الدماء ورفع الظلم عن الضعفاء.
وحين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يضع يده في يد أحد من هؤلاء ألبته. بكلمات أخر:
رُغم أن الدعوة الإسلامية كانت تدعوا لمثل ما كان يدعو إليه كثير من المصلحين من مكارم الأخلاق إلا أنها لم تضع يدها في يد أحد من هؤلاء.
ذلك لأنه وإن اتحدت الأهداف فإن المنطلقات متغايرة. فهؤلاء دوافعهم شتى.. تدفعهم المروءة ويدفعهم الثناء الحسن ويدفعهم عرف الآباء، أما المسلمون فيدفعهم طاعة الله ورسوله ولا ينبغي أن يكون لهم دافع غير ذلك.
وهؤلاء تقف أهدافهم عند إصلاح الدنيا؛ والمسلمون يصلحون الدنيا للآخرة.
وشتان.
ومن يتدبر أحداث السيرة النبوية وما كان يَتَنَزَلُ في بداية البعثة يجد أن الدعوة الإسلامية بدأت بتعريف الناس بربهم.. بأسمائه وصفاته وآثار ذلك في مخلوقاته.. كيف أنه الحي القيوم الرحيم الرحمن ذي الجلال والإكرام مالك الملك القريب المجيب.. الخ، ثم بترسيخ نظرية الثواب والعقاب وذلك بتعريفهم بالجنة(دار الثواب) وبالنار(دار العقاب)، وقُصَّ عليهم خبر من سبقوا، مَن أطاعوا منهم كيف كانت عاقبتهم ومن عصوا منهم ماذا فعل الله بهم. واقرءوا ما نزل من القرآن في مكة.
ثم جاءت التشريعات باسم الله الذي عرفوه بأسمائه وصفاته وبَيْنَ يدي الثواب والعقاب.
فمثلاً قيل لهم: الله ـ الذي عرفوه ـ يأمركم بالصلاة، ومن فعل فله الجنة ـ التي عرفوها ـ ومن عصى فله النار ـ التي عرفوها ـ.
والله الذي عرفتموه يأمركم بالزكاة ومن أطاع فثوابه الجنة التي عرفتموها، ومن عصى فله النار التي عرفتموها.
لذا استقامت النفوس محبه ورهبة لله وخوفًا من النار وطمعا في الجنة.
وبهذا يتضح منطلق الدعوة الإسلامية وهدفها، وهو تعبيد الناس لله... تعريفهم بربهم ليعظموه ويوقروه ويسبحوه، وإصلاح الدنيا ـ يجيء تبعًا وليس أصلاً ـ، ثم الفوز بالجنة.
ولهذا لم يرتد من أسلم، ولم يتلكأ في سيره إلى الله.
وعلى من يعرض السيرة النبوية على الناس ـ أو يقرؤها ـ عليه أن يلتفت لهذا. وأن ينتبه إلى أن الخطاب الدعوي كان في الأساس أخروي تنطلق منه باقي شئون الحياة.
وفي بيعة العقبة الثانية وغيرها من أحداث العهد المكي دليل على ذلك.
وأزيد الأمر بيانًا فأقول:
نعم. في العهد المكي كانت الدعوة الإسلامية في خطابها الموجه للجاهلية يومها، كانت مصرة على أن تبدأ من اليوم الآخر ترغيبا وترهيبا.
تحاول أن تجعل القلوب معلقة بما عند ربها ترجوا رحمته وتخشى عقابه. ويكون كل سعيها دفعا للعقاب وطلبًا للثواب فتكون الدنيا بجملتها مطية للآخرة.
على هذا تربى الصحابة رضوان الله عليهم.بل ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو أيضا تربى على هذا المعني ، فقد كان يتنزل عليه بأبي هو وأمي وأهلي صلى الله عليه وسلم (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) [يونس: 40] (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).
ولهذا استقامت النفوس تبذل قصارى جهدها في أمر الدنيا ترجوا به ما عند الله فكان حالهم كما وصف ربهم (تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ)
فهذا وصف للظاهر(رُكَّعاً سُجَّداً) ووصف للباطن(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)، والسياق يوحي بأن هذه هي هيئتهم الملازمة لهم التي يراهم الرائي عليها حيثما يراهم. كما يقول صاحب الظلال رحمه الله.
واقرأ آيات الأحكام في كتاب الله لتطالع هذا الإصرار من النص القرآني على وضع صورة الآخرة عند كل أمر ونهي ضمن السياق بواحدة من دلالات اللفظ، المباشرة منها أو غير المباشر(دلالة الإشارة أو التضمن أو الاقتضاء أو مفهوم المخالفة.. الخ).(11/316)
فمثلا يقول الله تعالى: (ويْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
فتدبر كيف يأتي الأمر بعدم تطفيف الكيل حين الشراء وبخسه حين البيع؟ ومثله قول الله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)
فهنا أمر بالسعي على الرزق، وتذكير بأن هناك نشور ووقوف بين يدي الله عز وجل، فيسأل المرء عن كسبه من أين أتى وإلى أين ذهب؟
بل واقرأ عن الآيات التي تتحدث عن الطلاق في سورة البقرة تجد أنها تختم باسم أو اسمين من أسماء الله عز وجل "... فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " "... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " "... وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ " "... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ " ".... إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ "
وهذا لا شك استحضار للثواب والعقاب.
ومثله الآيات التي تأمر بالحجاب تُختم بـ(إن ذلكم كان عند الله عظيمًا) و(.. وكان الله غفورًا رحيمًا).
نعم كان هذا أسلوب القرآن العظيم في عرض قضايا الشريعة كلها وهذه بعض الآيات والأحاديث في هذا الشأن تزيد الأمر وضوحًا:
في الظِّهار انظر كيف يربط الله تعالى أداء الكفارة بالإيمان به وبرسوله :(فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
وانظر كيف جعل الله تعالى تحكيم شرعة شرط للإيمان به :(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)
وفي الحديث: " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ " [البخاري كتاب الإيمان الحديث رقم 13 ترقيم العالمية].
وفي البخاري أيضا الحديث 14 كتاب الإيمان " فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ "
وفي البخاري حديث رقم 6135 كتاب الأدب: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ... الحديث".
ومثل هذا كثير في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا ما تربى عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وإنا نجد في كتاب ربنا أننا ملزمون بالسير على دربهم واقتفاء آثارهم قال الله تعالى:(وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً)
وقال الله تعالى:(فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
أقول: ملزمون إذا بالتعريج على التوحيد وتصحيح المفاهيم فيه لإخواننا وأخواتنا، وبناتنا ونسائنا وكل عزيز علينا، ليكون حالهم مع الأمر والنهي... كل الأمر والنهي كحال من سبقوا؟!
وحينها... حين يتعرفون على ربهم جيدًا، حين يعرفون مصيرهم بعد الموت، لن تجد كثير مشاغبة في الامتثال للأمر.
دعني أوسع الأمر أكثر من هذا وأقول:
لم لا نبدأ مخاطبة(الآخر) بالتوحيد نقول لهم: آمنوا بربكم الذي خلقكم ورزقكم وأحياكم ويميتكم ثم يحاسبكم؟
لم لا ننادي فيهم: أسلموا قبل أن تكونوا من جثي جهنم التي وصفها كذا وكذا؟
أسلموا كي لا تحرموا جنة فيها وفيها...؟
ويدور الحوار حول دلائل صدق الخبر ومَطْلَبْ المخبر.
أسذاجة؟
لا وربي.فهكذا نشأت خير أمّة أخرجت للناس.
وعلى من يشرح السيرة النبوية للناس عليه أن يوضح ذلك لهم، من خلال مواقف الدعوة في العهد المكي والعهد المدني، ومنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة، وبما كان يخاطب الناس، وكيف كان يعلمهم التوحيد ويربهم عليه.
نعم. نحن بحاجة إلى قراءة جديدة للسيرة النبوية نبين فيها للناس أهداف الدعوة الإسلامية ومنطلقاتها... نحتاج هذا الطرح الفكري اليوم أكثر من أي يوم مضى.
فاليوم قامت بعض الفصائل الإسلامية بالتحالف مع الأحزاب ذات التوجهات اليسارية، وتوجهت إلى الجماهير بخطاب دنيوي بحت ونادت بشرع الله من باب الأفضلية... لأنه خير من غيره، أو لأنه هو الأنسب لإصلاح الدنيا، فيُقبل من يُقبل وليس عنده هدف سوى ما فهمه من هذا الخطاب الدعوي المنقوص.(11/317)
واليوم رفعت بعض الفصائل المجاهدة الشعارات الوطنية وراحت تثني على الزعامات العلمانية بدعوى لمِّ شمل أبناء الوطن الواحد، وهؤلاء وأولئك نحسن الظن بهم ولكن خطاب كهذا تضيع به الأهداف الحقيقية للدعوة الإسلامية أو تتميع في أحسن الأحوال، ولست اغمز أحدًا ـ معاذ الله ـ وإنما أنصح بما أراه صحيحًا.
أقول: لا بد من المفاصلة الفكرية التي يتميز بها سبيل المؤمنين من سبيل الكافرين والمنافقين. وتعرف العامة أين هي وتمضي بوضوح في طريق الله المستقيم. كما بدأت الدعوة في مكة بين ظهراني قريش على يد الحبيب صلى الله عليه وسلم.
ثامنا: أساس الخلاف بين الرسالة والجاهلية.
أقول ـ مستعينا بالله ـ: كل رسالة واجهت مجتمعًا مستمسكًا بمجموعة من القيم والأعراف والتقاليد الخاطئة التي تصفها الرسالة بأنها كفر بالله، جُملةُ هذه التقاليد تقوم على نوعين من الخطأ:
أولهما: التقرب والتوجه إلى غير الله بالنسك.
ثانيهما: الطاعة والتشريع والإتباع من دون الله.
ويتحرك هذا المجتمع بإرادة واعية أو غير واعية للمحافظة على وجوده ضد دعوات الرسل، وفي التنزيل (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ)،
وفي التنزيل:(قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، وفي التنزيل "(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)
ومن يتدبر يجد أن شرك الطاعة هو أساس شرك النسك، فلولا طاعة عمرو بن لحي مثلا لما عُبدت الأصنام في جزيرة العرب.
ولولا طاعة كل قوم لكبرائهم لما ضل مًن ضل(وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) ونجد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة حصر لمفهوم العبادة في الطاعة.
قال تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)
وعبادة الشيطان هي طاعته.
وقال تعالى(اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)
سمع عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه هذه الآية من رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترض قائلا:(إِنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوهُمْ ) فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: (بَلَى إِنَّهُمْ حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَال وَأَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَام فَاتَّبَعُوهُمْ فَذَلِكَ عِبَادَتهمْ إِيَّاهُمْ) يقول بن كثير: قَالَ حُذَيْفَة بْن الْيَمَان وَعَبْد اللَّه بْن عَبَّاس وَغَيْرهمَا فِي تَفْسِير "اِتَّخَذُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا مِنْ دُون اللَّه " إنَّهُمْ اِتَّبَعُوهُمْ فِيمَا حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا وَقَالَ السُّدِّيّ اِسْتَنْصَحُوا الرِّجَال وَنَبَذُوا كِتَاب اللَّه وَرَاء ظُهُورهمْ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا" أَيْ الَّذِي إِذَا حَرَّمَ الشَّيْء فَهُوَ الْحَرَام وَمَا حَلَّلَهُ فَهُوَ الْحَلَال وَمَا شَرَعَهُ اُتُّبِعَ.
فسمَّ الله ورسوله الإتباع في التحليل والتحريم عبادة، كما سمى المحللون والمحرمون ـ المشرعون آلهة ـ.
ومثل هذا قول الله تعالى: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [ آل عمران: 64 ]
وهذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة رضوان الله عليهم، فهذا ربعي بن عامر رضي الله عنه يخاطب رستم " الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " ثم لم تكن الدعوة قرشية أو عربية، ولم تكن الحركات التي ظهرت في التاريخ الإسلامي وخاصة الفرق التي ظهرت في القرون الأولى حركات شعوبية ـ باستثناء حركة الزنوج ـ ضد العرب بل كانت حركات عقدية منحرفة، وكان رؤوسها عرب وسبب نشأتها خلافات دينية.
وهذا الطرح لا بد أن يعمل على ربط العقيدة الصحيحة... وأهداف الدعوة الكلية التي هي تعبيد الناس لله، بأحداث السيرة.(11/318)
والخلل الملحوظ الذي كتبتُ من أجله هذه الفقرة هو أن كثيرًا من الكتاب والخطباء الذين يكتبون السيرة النبوية أو يلقون فيها دروسًا، يحصرون قضية الخلاف بين الجاهلية والدعوة في عبادة الأصنام وبعض القضايا الأخلاقية مثل تحريم الزنا وشرب الخمر ووأد البنات، وأن الغزوات كانت لمعالجة مشاكل الجوار ولأمور اقتصادية ونحو ذلك وهو من البتر الذي لا يُقبل بحال.
والمراد: أنه حين دراسة السيرة النبوية أو عرضها على الناس لا يفهم أبدًا أن الخلاف بين الدعوة والجاهلية القائمة كان في بعض العادات الجاهلية السيئة مثل وأد البنات والزنا وشرب الخمر ورفع الظلم عن الضعفاء، وبعض مظاهر شرك النسك من عبادة الأصنام والاستقسام بالأزلام... الخ.
وإنما كانت ولا زالت القضية الكبرى التي انبثقت منها باقي القضايا هي قضية الطاعة لمن، أو السلطان يكون لمن؟ أو بتعبير آخر من تعبد؟ الله في صورة شرعة؟ أم الشيطان في صورة المناهج الأرضية التي زينها لأوليائه؟
فمن عبد الأصنام إنما عبدها طاعة للأولياء الشيطان، ومن اعتقد التثليث وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك طاعة لأولياء الشيطان، قصد أم لم يقصد.
تاسعا: الملأ ودورهم البارز في التصدي للدعوة:
الملأ هم: أَشْرافُ القوم ووجُوهُهم ورؤَساؤهم ومُقَدَّمُوهم، الذي يُرْجَع إِلى قولهم. وفي الحديث: هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الملأُ الأَعْلى؟
والملأ من الكفار لهم دور بارز في تسير الأحداث، ولا بد من الوقوف على دورهم وإبرازه للناس. إذ هم موجودون مع الباطل في كل مكان وزمان.
ومن خلال قراءتي للسيرة النبوية وما استمعت إليه من شبهات من الضالين من أهل الكتاب، يمكنني القول أن الدعوة لا تواجه شبهات حقيقية وإنما تواجه مجموعة من الناس ـ هم الملأ ـ يعرفون الدعوة تماما، وهم يكذبون على قومهم ويرهبونهم تارة ويرغبونهم تارة من أجل صدهم عن سبيل الله.
والآن اذكر بعض المشاهد من السيرة النبوية ومن أحوال الأمم السابقة أوضح بها قولي.(11/319)
الوليد بن المغيرة يجلس بين قومه يصف القرآن بعدما سمعه: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه، فيصيح القوم: صبأ الوليد، ويقوم إليه شيطانهم أبو جهل ويهمس في أذنيه بكلمات ثم يعود ثانية إلى مجلسه. وأقبل الوليد على القوم بوجهه، وظن القوم أن الوليد سيقف موقف الداعي لهذا الدين الجديد؛ فالأمر ليس ببعيد؛ فمِن قَبْله عَدَا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتله، وعاد من عنده مسلماً، ولكن الوليد خيّب ظنهم فلم يكن إقباله عليهم إقبال المخلص الداعي لهذا الدين الجديد بل كان المخلص الداعي لدينهم. ويتكلم الوليد.. يصيح فيهم بأن قولوا في الرجل قولةً واحدةً.. ولا تختلفوا حتى لا يظهر كذبكم. ويعرض القوم آراءهم: نقول ساحر.. نقول شاعر.. نقول كاهن.. نقول كاذب.. والوليد لا يجد الوصف مناسباً فيردّه. ويُسند إليه الأمر: قُل أنت يا أبا عمارة نسمع. ويصمت الوليد.. يجولُ بفكره.. يحاول أن يجد نقيصة في الرجل أو في منهجه [إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ](المدثر: 18-23). يحاول الوليدُ ويحاول.. ولكن أنّى له؟! فالرجل هو الصادق الأمين، ومنهجه هو هو الذي وصفه من قبل بأن له حلاوة وعليه طلاوة. ويعجز الوليد، ويعود إلى بعض آرائهم التي قالوها هُم وردها هو من قبل، يقول: قولوا ساحر، ثم يُدَلل على قوله وما أكذبه: ألا ترون أنه يفرق بين الرجل وزوجته، والابن وأبيه [فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ ](المدثر: 24-25). ويصيح القوم فرحاً بهذا!! قاتلك الله يا وليد! ما حملك على ألا تفعل ما فعل عمر، وقد وصفت القرآن بما هو حق، ونفيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس بحق؟! كأني بقريش وقد أقسم الملأ منهم أن ما يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم هو من عند هذا الغلام الأسود الذي يعتكف بجواره في غار حراء، كأني بهم وقد كلمت وجوههم وهم يرون هذا الغلام لا يتكلم العربية [وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ](النحل: 103). كأني برسلهم تعدو في الصحراء تقصد اليهود يسألونهم عن خبر هذا النبي، ويعطيهم اليهود الأمارة: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ سلوه عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ سلوه عن الروح ما هي؟ ويُعطونهم صفة الإجابة، وتعود الرسل، ويحشر الملأ القوم منادين فيهم: جئنا بالقول الفصل بيننا وبين محمد صلى الله عليه وسلم، ويعطيهم الصادق الأمين الأمارة تامة. ثم.. ماذا حدث؟ الموقف لا يتغير ولا يتبدل، يظهر الحق ويستيقن فريق من الناس، ثم يعاندون. وما كانت قريش بدعاً؛ فقد كان لهم سلف فيمن مضوا قوم نوح [قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ](هود: 32) جُودِلوا ودحضت حجتهم؛ فالطبيعي بعد هذا هو الإيمان، ولكن انظر إلى كلامهم ما أعجبه [جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ](هود: 32). وقوم عاد ينادون نبيهم هوداً - عليه السلام -: [قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ](الأعراف: 70) فهم إذن يفهمون الرجل، ولا يكون ذلك إلا بإظهار الحجج والبراهين، ثم انظر إلى موقفهم بعد هذا البيان، وكيف أنه يطابق موقف من كان قبلهم. وقوم ثمود يطلبون الآية فتأتيهم، ثم ماذا؟ هل آمنوا؟ أبداً لا بل عقروا الناقة وقالوا قولة من قبلهم [فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المُرْسَلِينَ ](الأعراف: 77). وقوم لوط [وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ](الأعراف: 82) لِمَ يا قوم؟ [إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ](الأعراف: 82) ألهذا؟!! وقوم خليل الله إبراهيم - عليه السلام -: [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ](العنكبوت: 24). وإن تعجب فمن أهل مدين قوم شعيب - عليه السلام - نبي الله؛ إذ يبلِّغ رسالة ربه فيؤمن البعض، ويكفر البعض الآخر، ويأخذ الرجل بمبدأ المسالمة: [وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى(11/320)
يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ](الأعراف: 87)، أفي هذا عيْب؟ ولكن انظر ما ردّ الملأ [ قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ](الأعراف: 88). الموقف من الدعوة ورجالها هو هو، المنطق نفسه يتكرر، ولا يكاد يتغير، يعرفون الحق ويستيقنون منه تماماً ثم لا يتبعونه، وليت الأمر بقي على هذا فالبلية به خفيفة، بل يعلنون أنه لا هوادة، ولا مقام مع الحق وأهله. وانظر إلى هذه الآيات من سورة إبراهيم كيف أنها تكلمت بألسنتهم مجتمعين على تفرقهم زماناً ومكاناً - كأنهم فردٌ واحد - قال - تعالى -: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ](إبراهيم: 9-13). فانظر كيف أن الخيار بين أمرين لا ثالث لهما: [لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا](إبراهيم: 13)، وكيف أن هذا هو كلام الكفار جميعهم في مختلف أزمنتهم [قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ](إبراهيم: 9).
وما أريده هو أن أسلط الضوء على هذا النوع المجرم من الناس. الذي لا يريد الحق أبدًا... يكره الحق وهو يعرفه، ويعرف ما فيه من الخير. يلبس الحق على عوام الناس... يحاول أن يضلهم.
هذا النوع من الناس موجود في كل زمان ومكان، وهو الذي يختلق المتشابه في القرآن. هو الذي يفتعل المتشابه كذبًا وبهتانا كي يلبس على الناس دينهم.
وإن تدبرت وجدت أن الجهاد في الشريعة يستهدف هؤلاء الناس. وبمجرد القضاء عليهم يدخل الناس في دين الله أفواجًا.
والمطلوب حين عرض السيرة النبوية أن تكون هناك تحليلات لمواقف الملأ الذين استكبروا من الدعوة النبوية، وكيف أنهم كانوا يعرفون الحق ويعاندونه... كيف أنهم كانوا يحاربون الحق وهم يعلمون ما فيه من الخير.
عاشرًا: الدعوة الإسلامية والخصوصية في المفاهيم والتصورات.
للشريعة الإسلامية خصوصية في الاستعمالات اللغوية للألفاظ ولها خصوصية في المفاهيم والتصورات.
أولا: خصوصية الشريعة الإسلامية في الاستعمالات اللغوية للألفاظ.
مثلا كلمة(الآذان) في اللغة:الإعلام.. مطلق الإعلام.
ومنه قول الشاعر:
آذنتنا بِبَينِها أسماء رب ثاوٍ يَمَلُّ منه الثِّواء
وخصص الشرع المعنى فجعله إعلام مخصوص عن شيء مخصوص ـ الصلاة المفروضة ـ بصيغة مخصوصة ـ صيغة الآذان الحالية.
وكذا الصوم. مطلق الإمساك في اللغة، ومنه قولِ الله تعالى على لسان مريمَ عليها السلام(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً). وفي الشرع: إمساك مخصوص(عن الطعام والشراب والشهوة) في وقت مخصوص (من الفجر حتى غروب الشمس). بنية مخصوصة، وهي نية القربى من الله تعالى بأداء ما افترضه علينا أو ما انتدبنا إليه.
وكذا التيمم في اللغة القصد... مطلق القصد.
ومنه قول الشاعر :
تيممتُ مصر أطلب الجاه والغنى *** فنلتهما في ظل عيش مُمنَّع
وزرت ملوك النيل ارتاد نيلهم * * * فأحمد مرتادي وأخصب مربعي
فكلمة تيممت هنا تعني قصدت.
وفي الشرع تستخدم كلمة التيمم للدلالة على أمر مخصوص، وهو بديل الوضوء عند فقده حقيقة أو حكمًا، وهو مشروح تفصيله في كتب الفقه.(11/321)
وكلمة الإيمان في اللغة التصديق الجازم ومنه قوله تعالى(... وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) قولةُ إخوةُ يوسف لأبيهم، استعمل فيها الإيمان بمعناه اللغوي أي(بمصدق لنا).
ولكن إذا أطلقت لفظة الإيمان في الشرع فإنها تدل على تصديق مخصوص. وهو التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم المستلزم للإذعان بالجوارح.
أو قل: معرفةٌ بالقلب والتي يسميها علماء العقيدة " قول القلب " تولد هذه المعرفة يقينا في القلب وهو ما يسمى عند علماء العقيدة بعمل القلب تنضبط بموجبه به الجوارح. قوة وضعفا... وجودًا وعدمًا.
هذا هو دلالة لفظ الإيمان حين يستخدمه الشرع (على تفصيل لا يناسبه المقام)
وأحيانا يستعمل الشرع الألفاظ بذات الدلالة اللغوية لها، فمثلا كلمة الآذان التي تكلمنا عليها، جاءت بمعناها اللغوي في القرآن الكريم " فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء، وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون" [ الأنبياء: 109]. فآذنتكم هنا بمعنى أعلمتكم، استخدمت بمعناها اللغوي.
وقول الله تعالى " فأذنوا بحرب من الله " أي كونوا على علم. أو: أعلموا كل من لم يترك الربا بحرب من الله ورسوله.
وكذا كلمة التيمم جاءت في سورة البقرة، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [البقرة: 267 ] أي ولا تقصدوا الخبيث وتنفقوا منه،.
وكلمة الصلاة "إن الله وملائكته يصلون على النبي. يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " قال بن كثر في تفسير هذه الآية، قال البخاري : قال أبو العالية: صلاة الله تعالى ثنائه عليه ـ أي على النبي صلى الله عليه وسلم ـ، وصلاة الملائكة الدعاء.
والمعنى يتضح من دِلالة السياق.
والمقصود مما تقدم أن الشرع وإن كان قد استخدم اللغة العربية لبيان مراد الله من عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لم يستخدمها بذات المعاني، وإنما كانت له خصوصية في استعمالها. فدلالته اللغوية غير دلالته الشرعية، وإن تقاطعت المعاني وتطابقت أحيانا.
ثانيا: خصوصية الشريعة الإسلامية في المفاهيم والتصورات.
للشريعة الإسلامية أيضا خصوصية في المفاهيم والتصورات، ولا تكاد تجد مفهوم من المفاهيم التي تعارف عليها الناس إلا وللشريعة الإسلامية خصوصية فيه.
مثلا: مفهوم الرزق... تحصيل الرزق. أعني تحصيل الرزق على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة ـ ما يقولون عنه الرقي المادي ـ، الناس لهم أسباب مادية يسلكونها في تحصيل رزقهم.
والشرع له خصوصية في هذا الأمر، فهو يتكلم عن أسباب أخرى مضافة إلى معالجة الأسباب المادية قال تعالى:
"ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون" [ الأعراف: 96]
وقال تعالى :(ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(الأنفال: 53)
وقال تعالى: "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" [ المائدة: 66 ]
مثال آخر: من أين يأتي البلاء؟
الناس يقولون كلامًا كثيرًا.. نعرف منه وننكر.
والشرع يعطي مفهوما آخر: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير" [ الشورى: 30].
"أو لما أصابتكم مصيبة قلت أنى هذا قل هو من عند أنفسكم" [ آل عمران: 165]
والنصر والتمكين كيف الوصول إليه؟: (.... وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(الحج من الآية: 40)
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(النور: 55)
والأمر أوسع من هذا فهناك خصوصية في كل المفاهيم تقريبا. الكبر.. البر.. وفي مفهوم المعركة من حيث أسباب النصر فيها ومن حيث جنودها الذين يحضرون القتال.. الخ.
وإنما أردت هنا لفت النظر فقط.
لماذا الكلام في الخصوصية؟
لأمور أركز على اثنين منها.
أولهما: فيه نقض لاستدلالات أصحاب الفرق الضالة.(11/322)
باستقراء مناهج الفرق الضالة وخصوصا التي تكلمت في الإيمان، أهلَ الإرجاء والاعتزال والتصوف والمتفلسفة، تجد أن خطأ هؤلاء الرئيسي يكون في الجهل بأن للشريعة الإسلامية خصوصية في استعمال الألفاظ وفي المفاهيم والتصورات، وبالتالي تجده يستعمل الألفاظ بمعناها اللغوي مما يؤدي إلى الخروج بنتائج مغلوطة.
وهذا بين جدًا في حالة الإرجاء، وله أمثلة كثيرة في ضلالات النصارى التي يسمونها أدلة على إلوهية المسيح في القرآن الكريم ، وكذا في أطروحات العصرانيين.
وحيث أن المقصود هنا هو بيان القاعدة وليس مناقشة أدلة هؤلاء فإن أكتفي بمثال أبين فيه قولي، ولعل الله أن ييسر مناقشة هؤلاء على ضوء هذه القاعدة لاحقا.
أهلُ الإرجاء ـ مثلا ـ فسروا (الإيمان) بمعناه اللغوي، مدعين بأن القرآن نزل بلسان عربي مبين.استخدموا المقدمات المنطقية العقلية لإثبات باطلهم، فقالوا القرآن نزل بلسان عربي مبين.
أليس كذلك؟
بالطبع هو كذلك. لا أحد ينكر هذا.
ثم استمروا على هذه المقدمات المغلوطة، فقالوا العرب تُعرّف لفظ الإيمان بالتصديق الخبري أو ما يقولون عنه المعرفة.إذا الإيمان هو التصديق أو المعرفة، وذهبوا إلى النصوص وحَمَلوها حملا على القول بباطلهم، والنصوص من كلام العرب الذي ترد فيه الاحتمالات ويدخله التأويل بأدنى الحجج، ومن شأنها أنها طَيِّعة تسير على هوى من يحملها طائعة أو مكره.
ونعم الشرع استعمل اللغة العربية في بيان مراد الله من عبادة ولكنه خصص وأضاف، ولا بد من الوقوف عند المعنى الشرعي وعدم تجاوزه.
والشرع لم يستخدم لفظة(الإيمان) بذات الدلالة اللغوية، وإنما بدلالة أخرى كما قدمنا. وهذا أيضا فيه رد على مرجئة الفقهاء الذين قالوا بأن العمل وإن كان لا بد منه إلا أنه لا يدخل في مسمى الإيمان ذلك لأنهم اعتمدوا تفسير لفظ الإيمان بمعناه اللغوي، ونحن نقول هناك فرق بين استعمال الشرع للفظة الإيمان واستعمال اللغة لها ولا بد من استعماله بمعناه الشرعي.
ولست هنا معنيا بمناقشة مذهب المرجئة وإنما أريد أن أنبه على أنه لا بد من الرجوع للمعنى الشرعي في تفسير معان الكلمات، وليس الاكتفاء فقط بالمعنى اللغوي أو العرفي.
وأهلُ الكلام... أهل التحريف والتعطيل في الأسماء والصفات، ركب الشيطان رأسهم من باب التنزيه، حيث قاموا ينزهون ربهم عن خلقه وعبيده ـ كما زعموا ـ فتصوروا أن التنزيه لا يكون إلا عن طريق نفي المماثلة بالكلية، ومن هناك راحوا يعطلون ويحرفون.
ولو أنهم عادوا إلى الشرع، وعلموا كيف أن له خصوصية تامة في تصورات الإنسان عن خالقه ومعبوده ـ سبحانه وتعالى ـ لما كان شيء من هذا.
والأمثلة على هذه القاعدة عند العصرانيين، وعباد الصليب أكثر وأوضح، وفي النية استخراج بحث في هذا الشأن والله المستعان.
ثانيهما: المناعة الفكرية.
الإيمان بأن للشريعة الإسلامية خصوصية في المفاهيم والتصورات، والاستعمالات اللغوية للألفاظ، وأنه لا بد من الوقوف عليها ومراجعتها قبل التكلم في أي موضوع، وكذا الإيمان بأن الدين كامل " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا ". وليس فقط بل الإيمان بأن الأحكام الشرعية في غاية الحكمة، وذلك لأنها من الله العليم الخبير الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. وأنه يجب رد كل ما أشكل على المرء إلى الكتاب والسنة، وأن لا يمضي في اتخاذ أحكام أو رسم تصورات قبل مراجعة أهل العلم من العلماء الربانيين كما أمر ربنا.
(وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)(النساء: 83)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(النساء: 59)
فهنا جعل الرد لله والرسول شرط لصحة الإيمان... " فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر".
ولاحظ أن الرد ليس مقتصرا على الأمور العظام بل على كل شيء. فانظر كيف أتى التعبير بكلمة شيء التي هي نكره، وفي سياق الشرط لتفيد العموم. فكل شيء يجب أن يرد إلى الكتاب والسنة، ومن لا يعرف يسأل.
حين يعرف المسلم هذا الأمر تتكون عنده مناعة فكرية، فلا يقبل كل ما يسمع بل يكون عنده خاصية الانتقاء... القبول والرد.
ودعني أضرب الأمثال ليتضح المقال.
نجد أن كثيرًا من المسلمين يردد كثيرًا من الكلمات وهي بمعان مستحدثة لا نعرفها. بل ننكرها.(11/323)
مثلا كلمة(الحرية) و كلمة(المساواة)، تردد على لسان كثير من أبناء الأمة الإسلامية، وهي كلمات غربية بدلالات غير إسلامية. هذا أقل ما يمكن أن يقال فيها. فـ(الحرية) تعني حرية المرأة في التبرج والسفور بل والعري، ومخالطة الرجال في أماكن العمل وفي أماكن اللهو بما لا يخفى، والحرية عندهم تشمل حرية الكلمة وإن كانت سبًا لله ورسوله وطعناً في الدين، أو غمزا لعباد الله الموحدين.
وعندنا "(مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(قـ: 18) "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ"
و(المساواة) عندهم تشمل تسوية الرجل بالمرأة في كل شيء. وعندنا للمرأة ما ليس للرجل، وللرجل ما ليس للمرأة، وعلى كلٍ من الحقوق ما ليس على الآخر، تبعا للاختلافات الجسمية والنفسية.(... وليس الذكر كالأنثى.....) حِكْمة العليم الحكيم الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، والمساواة عندهم تعني أيضا مساواة أهل الكفر بأهل الإيمان، وعندنا " أفنجعل المسلمين كالمجرمين. مالكم كيف تحكمون. أم لكم كتاب فيه تدرسون "؟؟!!.".
فبينهما فرق: بين معاني الألفاظ الحديثة فيما هي مستعملة اليوم فيه، ومعناها في الشرع، فرق يجب الوقوف عليه، ولا يردد هكذا دون تدبر.
فلو علموا أن هناك خصوصية للشريعة الإسلامية في المفاهيم والتصورات، ما رددوا هكذا بدون وعي ولرجعوا إلى الشريعة الإسلامية يستنطقونها ماذا تقول في كل ما يعرض عليهم.
والمطلوب ممن يعرض السيرة النبوية على الناس أو يقرأها هو أن يبين هذه الخصوصية في المفاهيم والتصورات ومعاني الألفاظ وهو يعرض الغزوات مثلا، وهو يشرح بعض مواقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه أو أعدائه. لتتكون مناعة فكرية عند من يسمع نحن في أمس الحاجة إليها اليوم في هذه الأيام.
حادي عشر:الدعوة الإسلامية دعوة عملية وليست مفاهيم نظرية.
من يتدبر حال النصرانية مثلا يجد أنها تحولت إلى مجموعة من المفاهيم النظرية التي يكفي مجرد التصديق بها للانتساب إليها، وإذا انضم إلى هذه المفاهيم ممارسة بعض الشعائر التعبدية فإن الشخص يعتبر من المتدينين.!
حتى أنك حين تستمع إلى دعوة النصرانية مثلاً تجد أنها دعوة إلى التصديق بأمور نظرية، مثل قضية التثليث، وقضية الصلب والفداء، وقداسة الباباوات. وبعض الشعائر التعبدية، والحياة بعد ذلك تخضع لما يمليه عليهم الواقع، أو ما يحلو لأحبارهم ورهبانهم وأرباب الرأي فيهم.
وكذا أصبحت البوذية واليهودية، وكاد الإرجاء أن يفعلها بالدعوة الإسلامية لولا أن الله قيض لهذا الدين رجالاً أحيا بهم السنة وأمات بهم البدعة.
وأعرض بعض المشاهد من السيرة النبوية، لأبين بها أن الدين لم يكن يوما ما نظرية مجردة ولا مجادلة فكرية يكتفي بمجرد الاقتناع فيها...
تروي لنا كتب السير أن مسلمة جلست في سوق بني قينقاع في المدينة عند صائغ يهودي فراودها عن كشف وجهها فأبت عليه، فعقد طرف ثوبها إلى ظهرها على حين غفلة منها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه.
هذا مشهد من المشاهد ترويه لنا كتب السيرة، والمشهد التالي له مباشرة في كتب السيرة هو حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني قينقاع وإصراره على ذبحهم لولا وقاحة بن سلول في شفاعته لهم. وسقط من كل الروايات ما بين المشهدين ما حدث في السوق والحصار من الأحداث، كأن الحدثين متلاصقين.
فلم تروِ لنا كتب السير أن أحدًا تكلم بأن مَن فعل الفعلة قُتل فكفّوا أيديكم يكفي؛ ولم تروي لنا كتب السير أن أحدًا تكلم بأن الأمر لم يتجاوز كشف جزء من العورة لفترة وجيزة، ولم تروي لنا كتب السير أن أحدًا تكلم بأن لبني قينقاع إخوة في الدين والملة في ذات المدينة، هم بنو قريظة وبنو النضير وورائهم في خيبر عدد وعتاد ولهم حلفاء من غطفان، وغطفان يومها غطفان. بل لم يتكلم أحد مطلقًا.. لم تروي كتب السيرة سوى فعل، وهو حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم حتى أجلاهم.
وتروي لنا كتب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب في عشرة من أصحابه لبني النضير يطلب منهم وفاء ما عاهدوه عليه، فغدروا وهمُّوا بقتله صلى الله عليه وسلم وحين علم بغدرهم وهو جالس تحت جدار بيت من بيوتهم قام ولم يتكلم، وأعد الجيش ولم يتمهل، وحاصرهم حتى خربت بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وخرجوا منها أذلاء صاغرين.(11/324)
وتروي لنا كتب السير أن الأخبار أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن خالد بن سفيان الهُذلي يُجَمِّع العرب في بطن عُرْنَة عند سفح عرفة على بعد خمسمائة كيلو متر من المدينة،فأرسل له رجلاً(عبد الله بن أُنيس) من المدينة يسعى على قدميه فأخمد الفتنة. ولم نسمع كثيرًا ولا قليلاً من الكلام.
وغدرت قريش بعهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم وراحت وجاءت وقالت وأكثرت، وما كان من الحبيب صلى الله عليه وسلم إلا أن رد عليهم بفعل لا بقول... استنفر أصحابه وجمََََّع جيشه وفتح مكة.
وغدرت قريظة فذبحت، وقتلت غسان رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فتحرك جيش مؤتة، وبنو المصطلق همّوا بالتَّجَهُز فوجدوا الخيل صباحا تشرب من مائهم.
هكذا... نعم هكذا.
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم كثيرًا.
ولم يكن الباعث على هذا(التصرف الفعلي) من الرسول صلى الله عليه وسلم هو كثرة العدد ووفرة العتاد، فقد كانت الحال حال... هو منهج الدعوة من يومها الأول " أنظر كيف بدأت، " يا أيها المدثر قم فأنذر" "إن لك في النهار سبحًا طويلاً ".
فلم تكن فقط عملية وجادة مع المخالف وإنما أيضا في تربية الجماعة المؤمنة، كانت الدروس كلها عملية.
يذبح سبعين من الصحابة يوم أحد منهم الحمزة بن عبد المطلب ليتعلم القوم درسا من جملة واحدة " قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)
ويستمر حادث الإفك شهرا ليتعلم القوم درسا عمليا(لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ) (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)(النور: 15)
ويحاصر المخلفين عن غزوة تبوك خمسين يوما حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، ليتلقوا درسًا عمليًا هم ومن يشاهدونهم ومن يسمع بهم كي لا يتخلفوا ثانية عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه.
هذا حاله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع عدوه ومع أتباعه... هذا هو المنهج الرباني الذي تحرك به النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن من أوضح الأمور لمن يتدبر نشأت الجماعة المؤمنة على يد الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف نمت وتطورت وكيف عالجت مشاكلها الداخلية بين أفرادها والخارجية مع أعدائها، أن نهج الشرع كان عمليا، ولم يكن يومًا ما نظريًا.
لم يتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأجندة عمل لمن يخالفونه يشرح فيها وجهات نظره، ورؤيته للمستقبل، وإنما كان هادئًا كثير الصمت يعمل ولا يتكلم.
ومن الواضح جدًا أيضًا أن الأفراد ميزتهم المواقف ولم يتميزوا بالمعرفة الذهنية، ولا بأصوات العامة لهم.
واليوم: العقيدة دروس علمية.. نظرية، لا تكاد تعرف (الأخ ) إلا من كلامه، قليل من تتعرف عليهم من وجوههم وفعالهم.
واليوم شعارات نرفعها وننام تحتها مكتفين بمجرد الانتساب للعمل الإسلامي.
واليوم شعارات نرفعها ونتعصب لها.
والمطلوب حين عرض السيرة النبوية على الناس أن ينبه على هذا الأمر، وأن نقف مع الأحداث نبين كيف كانت الدعوة جادة، ولم تكن يومًا ما مفاهيم نظرية.
وأن المفاهيم الإسلامية ما جاءت إلا لتنشئ واقعًا... إلا لتترجم على أرض الواقع.
والله أسال أن يبارك لي في كلماتي وأن ينفع بها من كتب ومن نشر ومن قرأ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
======================
مقاطعة البضائع الأمريكية واليهودية
تاريخ الإجابة 01/04/2002
موضوع الفتوى المعاملات
بلد الفتوى - أمريكا
نص السؤال كيف يمكن مقاطعة البضائع الأمريكية واليهودية إذا كنا نعيش في أمريكاأم هل يعني ذك أن يحرم علينا شراء البضائع اليهوديةخاصة؟
اسم المفتي لجنة تحرير الفتوى بالموقع
نص الإجابة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فإن مقاطعة البضائع أو السلع التي تنتجها إسرائيل وأعوانها إنما يطالب به من لديه بدائل عن هذه السلع، وأما بالنسبة للمقيم في إسرائيل أو في بلد تعاون إسرائيل إذا لم تكن أمامها سلع من بلد آخر مستوردة فإنها تكون مضطرة إلى أن تشتري مثل هذه السلع الإسرائيلية أو الأمريكية مثلاً، والضرورة تبيح ما هو محظور، ولكن إذا كان هناك في أمريكا سلع واردة من الدول العربية أو من الدول التي لا تناصر إسرائيل مثلاً فإن الواجب في هذه الحالة شراء هذه السلع بديلاً عن السلع الإسرائيلية أو الأمريكية؛ لأن مقاطعة هذه البضائع عند وجود البديل أمر واجب شرعاً؛ لأنه من قبيل الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى بأضعف الوسائل، وهذا هو واجب من لا يتمكن من المسلمين من الجهاد بنفسه أو ماله.(11/325)
هذا ما قاله فضيلة الشيخ الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة جامعة الأزهر
ويقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي
هذا السؤال يسال عن التعامل مع طائفتين من أهل الكتاب: اليهود والنصارى.
أما عن الطرف الأول: اليهود ؛ فلا يجوز التعامل معهم بأي حال من الأحوال، لأنهم جميعًا عسكريون محاربون للإسلام وأهله، احتلوا أرضنا، وداسوا مقدساتنا، واعتدوا على حرماتنا، ولا زالوا يمارسون اعتداءهم ليل نهار، وفي شأنهم قال تعالى:{إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} الممتحنة:9. ويقول صلى الله عليه وسلم:" قاتلوا الكفار بأيديكم وأموالكم وألسنتكم" ونحن لا نملك الجهاد بالسلام الآن، خاصة أننا يحال بيننا وبينه، فلم يبق معنا أي سلاح إلا المقاطعة، فوجب على المسلمين مقاطعة اليهود اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا، وكذلك المحاربين من أهل الكتاب كالصرب والأمريكان المعتدين، والهندوس وكل من حارب الإسلام أو أعان على حربة
إلا من اضطر من أهل فلسطين المحتلة .
أما الطرف الثاني وهم النصارى: فإن كانوا محاربين كالصرب وغيرهم كما قلنا فهؤلاء يقاطعون، وأما من كانوا مسالمين غير محاربين، فلا شيء في الاستيراد منهم والتصدير لهم، بشرط أن تكون التجارة فيما أحل الله لا مما حرم، وذلك مصداقًا لقوله تعالى:{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} الممتحنة:8. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتعامل مع الكفار بالبيع والشراء ما داموا غير محاربين له ولدينه.
أما الدكتور عبد المعز حريز فيضع ضوابط لهذه المقاطعة فيقول :
أما بالنسبة للمقاطعة فيمكن النظر إليها من عدة جوانب
الجانب الأول: نوع البضاعة المشتراة، ومدى حاجتنا إليها
الجانب الثاني: مدى توفر السلعة نفسها، وفق تقنياتها وقدراتها وقوتها في الاستخدام
الجانب الثالث: سعر السلعة ومدى تناسبه مع خدمتها..
وعليه فإن مثل أجهزة الكمبيوتر وغيرها من الأجهزة والتقنيات العلمية والطبية التي يفتقر إليها المسلمون –وهم عالة على الغرب فيها- من الأهمية بمكان؛ بحيث يجب أن ننظر إلى موضوع مقاطعتها وفق الاعتبارات السابقة وغيرها من الاعتبارات الخاصة؛ ولهذا كله فإني أجيز شراء مثل هذه الأجهزة العلمية بقصد الطاعة، وأن نستخدم فارق السعر في قضايا تعود علينا بالنفع، وذلك إن كانت الأجهزة الأمريكية ليس لها بديل مناسب .
وهناك بعض الدول الإسلامية مثل ماليزيا وغيرها من الدول تقوم بتصنيع مثل هذه الأجهزة فإن أمكن استخدام مثل هذه الأجهزة فهو أولى، أما إن رأيت شراء الأجهزة اليابانية مع هذا الفارق فجائز إن كانت هذه الأجهزة فيها من الخدمات ما يجعلها أفضل من الأجهزة الأخرى، ويكون هذا التصرف داخلاً تحت التبذير والإسراف إن كان بقصد المباهاة أو دون فائدة مرجوة.. وإلا فلا.
ويقول يقول الشخ ابن جبرين من علماء السعودية :
يجب على المسلمين عمومًا التعاون على البر والتقوى ومساعدة المسلمين في كل مكان بما يكفل لهم ظهورهم وتمكنهم في البلاد وإظهارهم شعائر الدين وعملهم بتعاليم الإسلام وتطبيقه للأحكام الدينية وإقامة الحدود والعمل بتعاليم الدين، وبما يكون سببًا في نصرهم على القوم الكافرين من اليهود والنصارى ، فيبذل جهده في جهاد أعداء الله بكل مايستطيع، فقد ورد في الحديث : (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم).
فيجب على المسلمين مساعدة المجاهدين بكل مايستطيعونه ،وبذل كل الإمكانات التي يكون فيها تقوية للإسلام والمسلمين ،كما يجب عليهم جهاد الكفار بما يستطيعونه من القدرة، وعليهم أيضًا أن يفعلوا كل مافيه إضعاف للكفار أعداء الدين, فلا يستعملونهم كعمال للأجرة كتابًا او حسابًا أو مهندسين أو خدامًا بأي نوع من الخدمة التي فيها إقرار وتمكين لهم بحيث يكتسحون أموال المؤمنين، ويعادون بها المسلمين .
وعلى المسلمين أيضًا أن يقاطعوا جميع الكفار بترك التعامل معهم ،وبترك شراء منتجاتهم سواء كانت نافعة كالسيارات والملابس وغيرها ،أو ضارًا كالدخان بنية العداء للكفار وإضعاف قوتهم وترك ترويج بضائعهم ،ففي ذلك إضعاف لاقتصادهم مما يكون سببًا في ذلهم وإهانتهم .
والله أعلم
===============
مقاطعة السلع الأجنبية: رؤية فقهية
تاريخ الإجابة 08/03/2005
بلد الفتوى - السعودية
نص السؤال يتحدث كثير من الناس الآن عن سلاح المقاطعة ودوره في نصرة المسلمين المظلومين في فلسطين وغيرها فما الحكم الشرعي لاستخدام هذا السلاح ؟ وأيهما أولى بالمقاطعة ؟
اسم المفتي مجموعة من المفتين
نص الإجابة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :
هذا السؤال يسأل عن التعامل مع طائفتين من أهل الكتاب: اليهود والنصارى.(11/326)
أما عن الطرف الأول: اليهود ؛ فلا يجوز التعامل معهم بأي حال من الأحوال، لأنهم جميعًا عسكريون محاربون للإسلام وأهله، احتلوا أرضنا، وداسوا مقدساتنا، واعتدوا على حرماتنا، ولا زالوا يمارسون اعتداءهم ليل نهار، وفي شأنهم قال تعالى:{إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} الممتحنة:9. ويقول صلى الله عليه وسلم:" قاتلوا الكفار بأيديكم وأموالكم وألسنتكم" ونحن لا نملك الجهاد بالسلاح الآن، خاصة أننا يحال بيننا وبينه، فلم يبق معنا أي سلاح إلا المقاطعة، فوجب على المسلمين مقاطعة اليهود اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا، وكذلك المحاربين من أهل الكتاب كالصرب والأمريكان المعتدين، والهندوس وكل من حارب الإسلام أو أعان على حربه إلا من اضطر من أهل فلسطين المحتلة .
أما الطرف الثاني وهم النصارى: فإن كانوا محاربين كالصرب وغيرهم كما قلنا فهؤلاء يقاطعون، وأما من كانوا مسالمين غير محاربين، فلا شيء في الاستيراد منهم والتصدير لهم، بشرط أن تكون التجارة فيما أحل الله لا فيما حرم، وذلك مصداقًا لقوله تعالى:{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} الممتحنة:8. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتعامل مع الكفار بالبيع والشراء ما داموا غير محاربين له ولدينه.
ويقول فضيلة الشيخ فؤاد مخيمر من علماء الأزهر، رئيس الجمعية الشرعية بمصر ـ رحمه الله ـ
إن الأيدي المتوضئة والعقول التي تفكر في الصناعة لا شك أنها أيدٍ مباركة، وإن حدث قصور بيننا نحن المسلمين، فليس معنى ذلك أننا متأخرون، ولكن يجب على كل مسلم أن يجود صناعته وأن يتقن عمله، من أجل ترويج الاقتصاد وازدهاره
وعندما تحتال بعض الدول الصناعية على بلادنا بأن تبعث إلينا قطع التصنيع والخامات اللازمة لتصنيع السيارات أو ما يتصل بالكهربائيات وما تحتاجه البلاد والعباد من أدوات صناعية وعسكرية وغيرها، ثم يدخلون علينا التغرير بأن تعمل الأيدي الوطنية في هذا التصنيع، فهذه خطة مرسومة؛ ذلك لأن العمالة عندنا في بلادنا لا تكلفهم شيئًا بخلاف ما هم عليه في مصانعهم في بلادهم، ثم يغرقون الأسواق بهذه الصناعات زاعمين أنها صنعت في مصر أو في أي بلد إسلامي آخر، وبهذه الخطة تجمع أموال المسلمين التي تُشترى بها هذه السلع وتحول إلى هذه البلاد وهي مكتظة بالأموال؛ فيروج اقتصادهم وينهار اقتصاد الأمة الإسلامية، وتسحب الأموال من مصارفنا لتضاف إلى مصارف الغرب، وهذا أمر يعقد الحياة الاقتصادية والاجتماعية ويضعف الشئون العسكرية؛ ذلك لأن السيولة بالبلاد الإسلامية تنخفض ويرتفع مستواها في بلاد العالم الآخر
لذا أقول: يجب على كل مسلم ومسلمة أن يكونوا يقظين، وأن يقبلوا على المنتجات المحلية والإسلامية التي صنعت بخامات وبأيدي المسلمين؛ لتعود الأموال لخزينة المسلمين في أي بلد كان، عندئذ نجد الغرب يتأخر والمسلمين يتقدمون ويرتفع مستوى المعيشة عندهم
ومما يجب أن نؤكد عليه أن الحرب المعاصرة حرب اقتصادية أكثر منها عسكرية؛ لأن الاقتصاد هو عصب البلاد والعباد، فبضعفه تضعف الأمة وينتشر الفقر وتتفشى الأمراض؛ فيجب أن نحصن أنفسنا من هذا الوباء، وألا نسمع وننفذ مخططات أعدائنا؛ لأن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين
وعندما يلتزم المسلمون بذلك فعلى الدولة أن توفر عملاً مناسبًا للأيدي العاملة التي كانت تعمل في تلك المصانع، وأن المسلم عندما ينخفض دخله يكون ذلك بمثابة جهاد منه، فالباقي يحتسبه عند الله رفعة لدينه ولوطنه.
ويقول الأستاذ الدكتور السيد نوح من علماء الأزهر وأستاذ علوم الحديث بالكويت
مصالح الناس تدور بين الضروريات يعني التي إذا انقطعت مات الإنسان، وبين الحاجيات التي تحضر الإنسان نوعًا ما فيكون عنده ثوبان بدلا من ثوب واحد، وسيارة تحمله بدلاً من أن يمشي على قدميه، وبين التكميليات والتحسينيات وهذه لا يترتب عليها إلا مزيد من الترف يؤدي بالمرء إلى الاسترخاء، وربما يسلك المرء بسببها والعياذ بالله في سلك المبذرين إخوان الشياطين..
وعليه فإنه إذا كانت البضاعة من قبيل الأمور التكميلية والتحسينية فإنه من الأولى للمرء ألا يشتريها سواء كانت أمريكية أو أوروبية أو حتى محلية، فإن ألحت عليه نفسه لضعف بشري ليشتريها، فلا يشتر ممن يؤازر العدو اليهودي الصهيوني الذي يحتل بلاد المسلمين بدءاً بفلسطين، ويقتل النفوس، ويهدم البيوت، ويسلب الأموال، ويعتدي على الأعراض، ويدوس الحرمات والمقدسات انطلاقًا للقضاء على المشروع الحضاري للأمة من أوله لآخره، ومعلوم أن أمريكا أول من يؤازر هؤلاء.(11/327)
ولذلك يحرم بشكل قطعي شراء هذه البضائع، وفي غيرها من المحلي أو السلع الأوروبية التي وإن ساندت إسرائيل لا تساندها بشكل مباشر علني فيها الكفاية، وبهذا يصير المسلم بعيدًا عن حديث "من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوبًا بين عينيه آيس من رحمة الله"؛ لأنه لم يساند هؤلاء الذين يساندون إسرائيل في قتل المسلمين، ولا نقول ما قيمة الامتناع عن شراء سلعة أو سلعتين من هذه البلدان: هل هذا سيؤثر في اقتصاد هؤلاء؟ نقول: إن المهم المبدأ، وهو أننا لا نتعامل مع من يعين على قتل المسلمين، والعبث بحرماتهم ومقدساتهم، على أن ذلك يؤثر، فمصر البلد الفقير أدت واجبها في مقاطعة بعض هذه السلع والبضائع إلى حد أنها أفلست فأغلقت مؤسساتها ورحلت إلى غير رجعة..
والله أعلم.
=====================
مقاطعة السلع والمصنوعات الأجنبية
تاريخ الإجابة 22/10/2000
موضوع الفتوى المعاملات
نص السؤال كيف نستطيع مقاطعة الشركات الأجنبية التى تعمل فى الدول العربية وتساعد فى تشغيل العمالة المحلية ؟وكذلك الشركات الوطنية التى تعمل بموجب توكيل من شركات أجنبية ؟
نص الإجابة
إن الأيدي المتوضئة والعقول التي تفكر في الصناعة لا شك أنها أيدٍ مباركة، وإن حدث قصور بيننا نحن المسلمين، فليس معنى ذلك أننا متأخرون، ولكن يجب على كل مسلم أن يجود صناعته وأن يتقن عمله، من أجل ترويج الاقتصاد وازدهاره
وعندما تحتال بعض الدول الصناعية على بلادنا بأن تبعث إلينا قطع التصنيع والخامات اللازمة لتصنيع السيارات أو ما يتصل بالكهربائيات وما تحتاجه البلاد والعباد من أدوات صناعية وعسكرية وغيرها، ثم يدخلون علينا التغرير بأن تعمل الأيدي الوطنية في هذا التصنيع، فهذه خطة مرسومة؛ ذلك لأن العمالة عندنا في بلادنا لا تكلفهم شيئًا بخلاف ما هم عليه في مصانعهم في بلادهم، ثم يغرقون الأسواق بهذه الصناعات زاعمين أنها صنعت في مصر أو في أي بلد إسلامي آخر، وبهذه الخطة تجمع أموال المسلمين التي تُشترى بها هذه السلع وتحول إلى هذه البلاد وهي مكتظة بالأموال؛ فيروج اقتصادهم وينهار اقتصاد الأمة الإسلامية، وتسحب الأموال من مصارفنا لتضاف إلى مصارف الغرب، وهذا أمر يعقد الحياة الاقتصادية والاجتماعية ويضعف الشئون العسكرية؛ ذلك لأن السيولة بالبلاد الإسلامية تنخفض ويرتفع مستواها في بلاد العالم الآخر
لذا أقول، يجب على كل مسلم ومسلمة أن يكونوا يقظين، وأن يقبلوا على المنتجات المحلية والإسلامية التي صنعت بخامات وبأيدي المسلمين؛ لتعود الأموال لخزينة المسلمين في أي بلد كان، عندئذ نجد الغرب يتأخر والمسلمين يتقدمون ويرتفع مستوى المعيشة عندهم
ومما يجب أن نؤكد عليه أن الحرب المعاصرة حرب اقتصادية أكثر منها عسكرية؛ لأن الاقتصاد هو عصب البلاد والعباد، فبضعفه تضعف الأمة وينتشر الفقر وتتفشى الأمراض؛ فيجب أن نحصن أنفسنا من هذا الوباء، وألا نسمع وننفذ مخططات أعدائنا؛ لأن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين
وعندما يلتزم المسلمون بذلك، فعلى الدولة أن توفر عملاً مناسبًا للأيدي العاملة التي كانت تعمل في تلك المصانع، وأن المسلم عندما ينخفض دخله يكون ذلك بمثابة جهاد منه، فالباقي يحتسبه عند الله رفعة لدينه ولوطنه
=====================
مقاطعة المنتجات الصينية لاضطهادهم المسلمين
موضوع الفتوى المعاملات
نص السؤال دولة كالصين مثلا تستولي حالياً على إقليم إسلامي هو (تركستان الشرقية) أو ما تسميه هي (سنكيانج)، وهو إقليم إسلامي في الأساس وكان دولة إسلامية، وربما لا يعلم عنه المسلمون كثيراً؛ نظراً لما تمارسه الصين من تعتيم إعلامي، وهي تمارس فيه وسائل القمع والإرهاب ضد سكانه من المسلمين، وآخر ما سمعناه هو أنها طلبت من أمريكا معاونتها في القضاء على (الإرهاب) المزعوم في هذا الإقليم في مقابل مساعدة الصين لأمريكا ضد أفغانستان.
سؤالي هو: هل يمكننا القول بأنه يجب مقاطعة المنتجات الصينية على هذا الأساس؛ قياساً على مقاطعة المنتجات اليهودية التي تجب مقاطعتها؟ مع الأخذ بالاعتبار أن المنتجات الصينية قد غزت الأسواق وتوجد بعض المنتجات قد يكون من الصعب العثور عليها من أي دولة أخرى، وربما تجد المنتج الصيني ذا جودة عالية وثمن رخيص جداً في مقابل المنتجات الأخرى ذات السعر الأعلى.
أرجو بيان الحكم في هذه القضية، بياناً حاسما بعبارات محددة، وأرجو ألا تكون الإجابة من قبيل (من الأفضل كذا، أو لا يستحسن كذا)، وإنما لو كان الحكم موضحاً بصورة أدق، هل هو حلال، حرام... إلخ لكان هذا أشفى وأفضل. جزاكم الله خيراً على جهودكم وبارك فيكم ومعذرة على الإطالة.
اسم المفتي الشيخ جعفر أحمد الطلحاوي
نص الإجابة
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:(11/328)
إذا صح ما تقول وثبت يقينا فإنه يتوجب سلوك نفس السبيل كائنة ما كانت النتائج، وعلى المسلمين أن يسعوا إلى توفير البدائل وتحقيق الاكتفاء الذاتي حتى لا نظل عالة على الأعداء كالعبد الذي هو كل على مولاه.
أما ما ذكرت من أنه لا يعلم المسلمون شيئا عن إخوانهم المسلمين في هذه المقاطعات فهذا التعميم منك مجانب للصواب، لكننا في عصر أحوج ما تكون فيه إلى أن تمارس الشعوب الإسلامية الضغوط المختلفة والمتعددة لدفع حكوماتها إلى أن تقف وقفة لله تعالى: " قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا" الآية.
وتهدف هذه المقاومة وممارسة هذه الضغوط لوضع النقاط على الحروف وتحديد المراد بالاصطلاحات حتى نعلم جميعا ما المقصود بالإرهاب، وحتى لا تلتبس الأفهام وتختلط الأوراق ويخلط الحق بالباطل، فليست مقاومة المحتل والمعتدي إرهابا، وليس الدفاع عن النفس إرهابا، وإنما هي حقوق مشروعة في الكتاب والسنة والعقل، وما يملكه كل مسلم هو الدعاء، فهو أمضى أنواع الأسلحة، ولا يرد القضاء إلا الدعاء.
والله أعلم.
====================
مقاطعة بضائع الكفار نظرة شرعية
للشيخ الدكتور : هاني بن عبد الله بن محمد بن جبير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، وبعد :
فقد ( فوجئ العالم الإسلامي في هذا العصر بتفوق عدوه عليه في ميادين شتى ، ولو أن هذا التفوق كان في مجال السيف والرمح والكر والفر ، فلربما كنا نستطيع أن ندفع عن أنفسنا شره ونحول دون انتصاره علينا ، بل قد نهزمه فنسترد ما ضاع منا . ولكنه كان ولا يزال تفوقاً غير متكافئ ؛ فالعدو على اختلاف توجهاته يملك من وسائل القوة ما يضمن له التحكم والقهر ، وبسط النفوذ وإملاء الإرادة في الوقت الذي أصبحنا فيه عالة عليه في كل شيء ، مما يجعلنا نصنّف أنفسنا قبل أن يصنفنا غيرنا بأننا متخلفون . ونتيجة لذلك فنحن ( عالم التبعيّة ) الواقع تحت التأثيرات الخارجية وقانون التوازن الدولي .
إن الصدمات العنيفة التي كان من المفروض أن تولِّد فينا ردود أفعال مناسبة لم تتوقف هزاتها وتحدياتها ، ولقد بقينا مدة طويلة دون أن تكون مواجهاتنا لها في المستوى المطلوب ) [1] .
ويبقى الأفراد الغيورون يلتفتون صوب كل اتجاه بحثاً عن سبيل مواجهة أو طريق نجاة أو وسيلة إنقاذ إيماناً منهم بأنه لا بد من أن يستنفد المرء كل طاقته ولا يدّخر منها شيئاً لتبرأ ذمته ويستحق وعد الله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) (البقرة : 214) ولما كان الاقتصاد في هذا الزمن ذا تأثير كبير وفعال على مواقف الدول واتجاهاتها ؛ فقد بدأت الدعوة إلى ( مقاطعة ) البضائع والمنتجات التي تصدرها الدول التي تحارب المسلمين أو تقف معها ؛ لتكون وسيلة ضغط عليها لتوقف ( أو تخفف ) من موقفها المعادي للمسلمين .
وكان لهذا النداء تجاوباً كبيراً من الشعوب المسلمة التي لا حول لها ولا قوّة ، ولا تعرف كيف تعمل ، ولا كيف تنتصر .
حتى قال بعضهم إن ( سلاح المقاطعة ) هو السلاح الوحيد المؤثر في سجل المواجهة مع إسرائيل في وقتنا الحاضر [2] .
وفي الحقيقة إن المتابع لمجريات الأحداث يلمس لهذه المقاطعة آثاراً كبيرة تدفع بعض الشركات إلى التبرُّؤ من دعم الدولة اليهودية ، أو إلى تعهدها بدفع تبرعات لجهات فلسطينية ، إلى غير ذلك .
وقد انتشرت في الساحة الإعلامية عدة فتاوى تقول : إن « كل من اشترى البضائع الإسرائيلية والأمريكية ، من المسلمين فقد ارتكب حراماً ، واقترف إثماً مبيناً ، وباء بالوزر عند الله والخزي عند الناس » [3] .
وحقيقة أن الغيرة الإسلامية تشتعل في النفس إذا رأت ما يحل بالمسلمين وما يدبر لهم على أيدي أعداء الله .
إلا أن موقف الموقِّع عن رب العالمين وهو يتلو قوله تعالى : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ) ( النحل : 116 ) .
موقفٌ لا تؤثر فيه العواطف ولا يغلبه الحماس عن تأمل نصوص الوحيين ، وإعمال قواعد الشرع وأدلته .(11/329)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : « كما أن الله نهى نبيّه أن يصيبه حزن أو ضيق ممن لم يدخل في الإسلام في أول الأمر فكذلك في آخره ؛ فالمؤمن منهي أن يحزن عليهم أو يكون في ضيق من مكرهم . وكثير من الناس إذا رأى المنكر ، أو تغير كثير من أحوال الإسلام : جزع وكلَّ وناح كما ينوح أهل المصائب وهو منهي عن هذا بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام ، وأن يؤمن بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأن العاقبة للتقوى ، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه ، فليصبر إن وعد الله حق ، ويستغفر لذنبه ، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار » [4] .
وفي هذه الورقات القليلات نظرات شرعية عاجلة لموضوع ( المقاطعة ) ، حاولت فيها الوصول لحكم شرعي فقهي فيها .
* أولاً : تعريف المقاطعة الاقتصادية :
المقاطعة مفاعلة من القطع . يقال : قطعه يقطعه قطعاً .
والقطع : إبانة بعض أجزاء الجرم من بعضٍ فصلاً [5] .
والقطع والقطيعة : الهجران ضد الوصل [6] .
والبضاعة : السلعة ، وأصلها القطعة من المال الذي يتجر فيه ، وقيل جزء من أجزاء المال تبعثه للتجارة [7] .
والسلعة : ما تُجر به والمتاع ، وجمعها : سِلَع [8] .
قال في المنجد الأبجدي : ( المقاطعة : عدم التعامل مع شخصٍ أو شركة أو مؤسسة أو دولة ، ومنه مقاطعة بلد لمنتجات وحاصلات بلدٍ آخر ) [9] .
وقال في المعجم الوسيط : ( المقاطعة : الامتناع عن معاملة الآخرين اقتصادياً أو اجتماعياً وفق نظام جماعي مرسوم ) [10] .
وشاع استعمال المقاطعة في الامتناع عن شراء منتجات من يحارب المسلمين أو يعينهم دون الامتناع عن البيع ؛ وذلك لأن أهل الإسلام صاروا مستهلكين ، وقل الإنتاج فيهم .
* ثانياً : قواعد ومقدمات :
وهي سبع أسردها تباعاً ..
الأولى : جواز معاملة الكفار .
الأصل أنه يجوز معاملة الكفار بالبيع والشراء سواء كانوا أهل ذمّة أو عهد أو حرب [11] إذا وقع العقد على ما يحل ، ولا يكون ذلك من موالاتهم [12] .
عن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أبيعاً أم عطيّة ؟ أو قال : أم هبة ؟ قال : لا ، بل بيع . فاشترى منه شاةً [13] .
وقد بوّب البخاري على هذا الحديث في صحيحه : باب البيع والشراء مع المشركين وأهل الحرب .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي بأن يكاتب ، والمكاتبة أن يشتري العبد نفسه من سيده ، وكان سيده يهودياً [14] .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن درعه مرهونة عند رجل من يهود على ثلاثين صاعاً من شعير أخذها رزقاً لعياله [15] .
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل [16] .
وسواء في ذلك أن يسافر المسلم لبلد الكفار وديار الحرب أو يجيء الكافر لبلاد الإسلام ليبيع أو يشتري .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « وإذا سافر الرَّجل إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر - رضي الله عنه - في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام ، وهي حينذاك دار حرب ، وغير ذلك من الأحاديث » [17] .
عن الحسن قال : كتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - : أن تجار المسلمين إذا دخلوا دار الحرب أخذوا منهم العُشر . قال فكتب إليه عمر : خذ منهم إذا دخلوا إلينا مثل ذلك : العشر [18] .
قال الحافظ ابن حجر : « تجوز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم على المتعامَل فيه ، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم » [19] .
هذا هو الأصل العام في معاملة الكفار .
يستثنى من هذا الأصل مسائل ؛ منها :
أنه لا يجوز أن يبيع المسلم للكفار ما يستعينون به على قتال المسلمين . لقوله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان ) ( المائدة : 2 ).
قال ابن بطال : « معاملة الكفار جائزة ، إلا بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين » [20] .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن معاملة التتار ، فأجاب : ( يجوز فيها ما يجوز في معاملة أمثالهم ، ويحرم فيها ما يحرم في معاملة أمثالهم ... فأما إن باعهم أو باع غيرهم ما يعينهم به على المحرمات كبيع الخيل والسلاح لمن يقاتل به قتالاً محرماً فهذا لا يجوز .. في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لعن في الخمر عشرة : لعن الخمر ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وبائعها ، ومبتاعها ، وساقيها ، وشاربها ، وآكل ثمنها » [21] . فقد لعن العاصر وهو إنما يعصر عنباً يصير عصيراً ، والعصير حلال : يمكن أن يتخذ خلاً ودبساً وغير ذلك ) [22] .
وسواء كان ذلك وقت الحرب بين المسلمين والكفار أو وقت الموادعة والهدنة بينهم .(11/330)
قال السرخسي : ولا يمنع التجار من حمل التجارات إليهم إلا الكراع [23] والسلاح والحديد ؛ لأنهم أهل حرب ، وإن كانوا موادعين ؛ ألا ترى أنهم بعد مضي المدة يعودون حرباً للمسلمين ، ولا يمنع التجار من دخول دار الحرب بالتجارات ما خلا الكراع والسلاح ؛ فإنهم يتقوون بذلك على قتال المسلمين فيمنعون من حمله إليهم ، وكذلك الحديد ؛ فإنه أصل السلاح . قال الله تعالى : ( وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) ( الحديد : 25 ) [24] .
وهذه المسألة من معمولات سد الذرائع المفضية إلى المفاسد ، ومن أمثلة قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد .
الثانية : وسائل التعامل مع الكفار .
شراء بضائع الكفار يتخذ في هذا العصر صوراً متعددة ، وله وسائل لا بد من معرفتها ليتم الحكم عليها من خلالها . ولعله يمكن حصرها في الصور الآتية :
1 - الشراء المباشر من الكافر الذي يبيع أو يصنع أو ينتج السلعة ، وهذا آكد ما يشمله حديثنا .
2 - الشراء من خلال وسيط ( سمسار ) ؛ حيث يكون لديه علم بعدد من المصانع والشركات المنتجة ، فيقوم بالتنسيق والتقريب بين المشتري وبين المنتج أو المصنع ، ويتولى كتابة وثيقة البيع بين الطرفين ، وكل ذلك مقابل نسبة يستلمها الوسيط من الشركة أو المصنع المصدّر [25] .
وهنا تكون الأموال مدفوعة للبائع الأصلي فهو كالشراء المباشر في الاستفادة من الشراء والتضرر بالمقاطعة .
3 - الشراء من ( وكيل بالعمولة ) إذ يستورد البضائع باسمه ولحسابه هو ، وتجري معاملاته باسمه أو بعنوان شركة ما ، ثم ينقل الحقوق والالتزامات إلى موكله تنفيذاً لعقد الوكالة المبرم بينهما مقابل أجرة تسمى : ( عمولة ) [26] .
والفرق بينه وبين الذي قبله أن هذا يستورد البضائع ويبقيها لديه معروضة ليبيعها باسمه هو ، ويتم التعاقد معه أو مع شركته ، ثم بعد ذلك يسلم للمنتج أو المصنع قيمة المبيع ويطالبه بالالتزامات . أما الأول فإنه وسيط فقط يربط بين الطرفين ، ثم تنتهي مهمته . وفي هذه الحالة تكون الأموال أيضاً مدفوعة للبائع الأصلي ؛ فهو كالشراء المباشر في الاستفادة من الشراء والتضرر بالمقاطعة ، إلا أن المقاطعة تضر بهذا الوكيل أيضاً لتحمله تخزين وعرض البضائع .
4 - شراء بضائع أصلها من صنع الكفار ، وجرى تصنيعها داخل بلاد المسلمين على يد شركة مسلمة تأخذ امتياز تصنيعها من الشركة الأصلية مقابل مبلغ مالي يدفعه صاحب امتياز التصنيع للشركة الأصلية بشكل دوريّ . وهنا يستفيد أولاً من البيع : الشركة المسلمة وتتضرر هي أولاً من المقاطعة . أما الكافر فيكون ضرره غير مباشر من خلال ما قد يعرض لصاحب امتياز التصنيع من الاستغناء عن حق الامتياز المذكور فيتوقف عن مواصلة دفع ما يقابله .
5 - الشراء من مسلم اشترى بضائع صنعها الكفار أو أنتجوها ؛ فهنا المتضرر من المقاطعة أولاً المسلم الذي اشترى البضاعة . مع أن المقاطعة تضر الكافر إذا امتنع التاجر المسلم من شراء منتجاته مرة أخرى لعدم رواجها .
الثالثة : أنواع بضائع الكفار .
البضائع عموماً سواء باعها كفار أو مسلمون ، إما أن تكون ضرورية أو حاجيّة أو تحسينية [27] .
ولا شك أن بينها فرقاً كبيراً ؛ فالشرع جاء بالتفريق بين الضروري وغيره ، وأباح المحرم عند الاضطرار قال تعالى : ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) ( الأنعام : 119 ) .
وقعّد أهل العلم قاعدة : « لا محرم مع اضطرار » [28] . مستندين لنصوص متوافرة من أدلة الشرع تقررها . ومعلوم أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة إذا كانت عامّة [29] .
وعليه فإننا لا بد أن نفرّق بين بضاعة ضروريّة لا غنى عنها كالدقيق مثلاً ، أو حاجيّة عامة كبعض المراكب وبين التحسينيات من أنواع الألبسة والكماليات ونحوها .
ومن شواهد ذلك في موضوعنا ما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنّه كان يأخذ من النبط من القِطْنيّة ( وهي الحبوب التي تطبخ ) العُشْر ، ومن الحنطة والزيت نصف العشر ؛ ليكثر الحَمْل إلى المدينة [30] . فقد خفف عمر رضي الله عنه ما يأخذه منهم للمصلحة في ذلك ؛ فإن في الحنطة معاش الناس .
ومن هذا نقول : إنّه يخفف في أمور الضرورات والحاجيات العامة ويراعى فيها ما لا يراعى في غيرها.
قال الشاطبي : « الأمور الضرورية إذا اكتنفها من خارج أمور لا تُرضى شرعاً فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج » [31] .
الرابعة : سد الذرائع .
سد الذرائع من الأدلة المستعملة عند أهل العلم . والمراد بها منع الجائز لئلا يتوصّل به إلى الممنوع [32] .
ونتيجة إعمالها : تحريم أمرٍ مباح لما يفضي إليه من مفسدة .
وأداء الوسيلة إلى المفسدة : إما أن يكون قطعياً أو ظنيًّا أو نادراً .
فإن كان قطعياً : فقد اتفق العلماء على سدّه والمنع منه سواء سُمّي سَدَّ ذريعة أو لا [33] .(11/331)
وإن كان نادراً فقد اتفق العلماء أيضاً على عدم المنع منه ، وأنّه على أصل المشروعيّة .
وأما إن كان ظنياً فقد اختلف أهل العلم فيه هل يمنع أو لا ؟ [34] .
وقد أطال العلامة ابن القيم في الاستدلال على صحة قاعدة سد الذرائع ، واستشهد عليها بتسعة وتسعين دليلاً [35] .
ولعل الصحيح في هذا القسم الأخير أنه يُنظر فيه إلى المصلحة والمفسدة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « ثم هذه الذرائع إذا كانت تفضي إلى المحرم غالباً فإن الشرع يحرمها مطلقاً . وكذلك إذا كانت تفضي وقد لا تُفضي ، لكن الطبع متقاضٍ لإفضائها . وأما إن كانت إنما تفضي أحياناً ؛ فإن لم يكم فيها مصلحة راجحة على هذا الإفضاء القليل وإلا حرمها أيضاً » [36] . وسيأتي لهذا مزيد بيان .
والمقصود أن الشرع راعى الوسائل والطرق التي يسلك منها إلى الشيء وتتوقف الأحكام عليها ؛ فطرق الحرام والمكروهات تابعة لها .
وإذا نهى الشرع عن شيء فنهيه يستلزم النهي عن كل ما يفضي إليه ويوصل إليه [37] .
ولذا فقد نبه أهل العلم على أنه يجب على المفتي والمجتهد أن لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل من مصلحة أو مفسدة تنشأ عنه . فلا يأذن بفعل ولو كان فيه جلب مصلحة إلا أن ينظر في مآله لئلا يكون استجلاب المصلحة فيه مؤدياً إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها [38] .
قال ابن كثير : « الشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله ؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام ، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب » [39] .
الخامسة : قاعدة المصالح والمفاسد .
لا شك « أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وأنها ترجح خير الخيرين وتحصّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما » [40] .
ونظرنا في المصالح والمفاسد ينحصر في ملحظين :
الأول : أن الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ، فإنه يُنْهى عنه ؛ وذلك لأن الشريعة مبنيّة على الاحتياط والأخذ بالحزم ، والتحرز مما عسى أن يكون طريقاً إلى مفسدة ؛ ولذا سدّت ذرائع مفضية إلى الإضرار والفساد في شواهد كثيرة من الكتاب والسنة [41] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « الفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة يُنْهى عنه كما نُهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة لما في ذلك من المفسدة الراجحة وهو التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك ، وليس في قصد الصلاة في تلك الأوقات مصلحة راجحة لإمكان التطوّع في غير ذلك من الأوقات .
ولهذا تنازع العلماء في ذوات الأسباب ؛ فسوّغها كثير منهم في هذه الأوقات ، وهو أظهر قولي العلماء ؛ لأن النهي إذا كان لسدّ الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه في هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها ، فتفوت مصلحتها ، فأبيحت لما فيها من المصلحة الراجحة بخلاف ما لا سبب له ؛ فإنّه يمكن فعله في غير هذا الوقت ، فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة ، وفيه مفسدة توجب النهي عنه » [42] .
وفي المقابل فقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال للكفار الذي هو محرم عليهم الانتفاع به ، وكدفع مال لرجل يأكله حراماً حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال . فهذه صور جائزة لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة [43] .
الثاني : أن المصالح والمفاسد يكفي فيها الظن الغالب ؛ وذلك أن المصالح والمفاسد لا يعرف مقدارها إلا بالتقريب ؛ أما تحديدها بدقة فغير ممكن غالباً .
قال العز بن عبد السلام : « أكثر المصالح والمفاسد لا وقوف على مقاديرها وتحديدها ، وإنما تُعرف تقريباً لعزّة الوقوف على تحديدها » [44] . ولذا يقوم الظن الغالب فيها مقام العلم .
قال الشاطبي : « وإذا كان الضرر والمفسدة تلحق ظنًّا ، فهل يجري الظن مجرى العلم .. أم لا .. ؟ اعتبار الظن هو الأرجح لأمور : أحدها : أن الظن في أبواب العمليات جار مجرى العلم ؛ فالظاهر جريانه هنا . والثاني : أن المنصوص عليه من سد الذرائع داخل في هذا القسم كقوله تعالى : ( وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( الأنعام : 108 ) . فإنهم قالوا : لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك .. والثالث : أنه داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه » [45] .
السادسة : الإضرار الاقتصادي طريق من طرق الجهاد المشروع .
وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم التضييق والضغط الاقتصادي بتلك السرايا والبعوث التي سيّرها لمهاجمة قوافل قريش التجارية ؛ فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص فقال : « اخرج يا سعد حتى تبلغ الخرّار ؛ فإن عيراً لقريش ستمر بك » [46] .(11/332)
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه يعترض عيراً لقريش في غزوة بواط [47] . كما خرج لغزوة العشيرة لاعتراض قافلة لقريش في طريقها إلى الشام ، ولما عادت خرج يريدها [48] . وغزوة بدر إنما كان سببها طلبه عير أبي سفيان [49] .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم ، وقال : « هذه عير قريش فيها أموالهم ؛ فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها » فانتدب الناس [50] . إلى غير ذلك من شواهد كثيرة ، وكما استعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب فقد استعمله أبو بصير لما خرج إلى سيف البحر ولحق به أبو جندل بعد صلح الحديبية ، واجتمع إليهما عصابة ممن أسلم من قريش لا يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها ، فقتلوهم وأخذوا أموالهم [51] . بل وأبلغ من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش أن تضيق عليهم معيشتهم .
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قريشاً كذبوه واستعصوا عليه ، فقال : « اللهم أعني عليهم بسبعٍ كسبع يوسف » فأصابتهم سنة حصّت كل شيء حتى كانوا يأكلون الميتة ، وكان يقوم أحدهم فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجَهْد والجوع ، فأتاه أبو سفيان فقال : أيْ محمد ! إن قومك هلكوا ؛ فادع الله أن يكشف عنهم [52] .
السابعة : ارتباط المقاطعة بإذن ولي الأمر .
لا شك أن من الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة وجوب السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين في المعروف .
وأعمال الرعيّة منها ما يشترط لفعله إذن الإمام ، ومنها ما لا يشترط له إذنه .
والمقاطعة بشكلها المعاصر مما لا يظهر لي ارتباطه بإذن ولي الأمر ؛ بدليل حديث ثمامة الآتي نصّه : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَلَ نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أُثال سيّد أهل اليمامة ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا عندك يا ثمامة ؟ فقال عندي خير : إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت . فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد فقال : ما عندك يا ثمامة ؟ فأعاد عليه مقالته ؛ حتى كان من الغد أعاد عليه مقالته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أطلقوا ثمامة .
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ، ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله . يا محمد ! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك ؛ فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إليَّ ، والله ما كان من دين أبغضَ إليَّ من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ؛ فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل : أصبوت ؟ فقال : لا ، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم » [53].
زاد ابن هشام : « فانصرف إلى بلاده ومنع الحمل إلى مكة حتى جهدت قريش ، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة يُخَلّي إليهم حمل الطعام ففعل » [54] .
والشاهد من الحديث أن ثمامة منع الحمل إلى مكة وهو نوع من المقاطعة الاقتصادية لهم مع أنه لم يتقدمه إذن نبوي بذلك ، وإنما قاله حميّة لله ورسوله لما قالوا له : صبوت ، كما هو ظاهر الحديث .
* ثالثاً : حكم المقاطعة الاقتصادية :
لا شك أن التعامل التجاري والاقتصادي الحاصل في هذا الزمن يباين التعاملات التجارية في الأزمان السابقة ؛ فهو الآن أوسع وأشمل وأيسر ، ولا شك أن ارتباط الاقتصاد بالسياسة وتأثيره على التوجهات السياسية والنزاعات الحزبيّة صار أكبر وأقوى .
ولذا فإن بحث هذه المسألة بالتوسع في النظر فيها هو من خصائص هذا العصر .
والذي يظهر أن حكم المقاطعة يختلف باختلاف الأحوال ، وإليك التفصيل :
الأول : إذا أمر بها الإمام :
إذا أمر الإمام بمقاطعة سلعة معينة أو بضائع دولة من دول الكفر فإنه يجب على رعيته امتثال أمره ؛ قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) ( النساء : 59 ) .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اسمعوا وأطيعوا إن استعمل عليكم عبدٌ حبشي كأن رأسه زبيبة » [55] .(11/333)
وليس للإمام أن يأمر بذلك إلا أن يرى في ذلك مصلحة عامّة لا تقابلها مفسدة أو ضرر أرجح منه ؛ وذلك أن الأصل في تصرّفات الولاة النافذة على الرعية الملزمة لها في حقوقها العامة والخاصَّة أن تبنى على مصلحة الجماعة ، وأن تهدف إلى خيرها . وتصرّف الولاة على خلاف هذه المصلحة غير جائز [56] .
ولذا قعَّد أهل العلم قاعدة : تصرّف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة [57] .
ولعلَّ في قصة كعب بن مالك - رضي الله عنه - إذ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامه وصاحبيه [58] شاهداً لأمر الإمام بالمقاطعة .
الثاني : إذا لم يأمر بها الإمام :
إذا لم يأمر الإمام بالمقاطعة فلا يخلو الحال من أمرين :
1 - أن يعلم المسلم أنَّ قيمة ما يشتريه يعين الكفار على قتل المسلمين أو إقامة الكفر . فهنا يحرم عليه أن يشتري منهم ؛ وذلك لأن الشراء منهم والحال ما ذكر مشمول بالنهي عن التعاون على الإثم والعدوان ، ومشمول بقاعدة سد الذرائع المفضية إلى الحرام . وإذا علم المسلم أن أهل العلم حرَّموا بيع العنب لمن يتخذه خمراً ، وبيع السلاح لأهل الحرب أو وقت الفتنة خشية استعماله لقتل المسلمين ، وحَرَّموا إقراض من يغلب على الظن أنه يصرف ماله في محرم [59] ؛ فكيف إذا كان عين الثمن الذي يشتري به يُقتل به مسلم أو يعان به على كفر ؟!
سئل ابن القاسم عن النصراني يوصي بشيء يباع من ملكه للكنيسة هل يجوز لمسلم شراؤه فقال : لا يحل ذلك له لأنه تعظيم لشعائرهم وشرائعهم . وسئل في أرض لكنيسة يبيع الأسقف منها شيئاً في إصلاحها ؟ فقال : لا يجوز للمسلمين أن يشتروها من وجه العون على تعظيم الكنيسة [60] .
وسئل الإمام أحمد عن نصارى وقفوا ضيعة للبيعة أيستأجرها الرجل المسلم منهم ؟ قال : لا يأخذها بشيء لا يعينهم على ما هم فيه [61] .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن [62] : « الكافر الحربي لا يُمَكَّن مما يعينه على حرب أهل الإسلام ولو بالميرة والمال ، ونحوه ، والدواب والرواحل ، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب من أثاثهم وأمتعتهم ، ومنعهم من الانتفاع به » [63] .
وعلى كلٍ فالنهي عن التعاون عن الإثم والعدوان يشمل هذه الصورة وغيرها وهي آية محكمة .
هذا حكم ما لو علم ذلك يقيناً سواء باطلاع مباشر ، أو خبر موثوق به ، أو غير ذلك . وغلبة الظن تجري مجرى العلم كما سبق .
2 - أن لا يتيقن أن عين ما يشتري به منهم يستعان به على حرام من قتال المسلمين أو إقامة الكفر ؛ فهذا باق على الأصل العام وهو جواز البيع والشراء وسائر المعاملات .
فإن الأصل في البيوع الإباحة سواء منها ما كان مع المسلمين أو الكفار . كما سبق . وحيث لم يوجد ناقل عن هذا الأصل فلا يتغير الحكم ولكن يرتبط به الحالة الآتية :
3 - أن لا يتيقن أن عين ما يشتري به منهم يستعان به على حرام ؛ لكن في مقاطعتهم مصلحة ، ولعل هذه الحالة هي أكثر ما يكون الحديث عنه .
ولبيان حكم هذه الحالة فإني أحتاج لتقسيمها إلى قسمين :
أ - أن يتم الشراء من الكافر مباشرة أو من خلال سمسار أو وكيل بعمولة .
وإذا أردت الوصول للحكم الشرعي في هذا القسم فإني بحاجة لتقرير مسلَّمات شرعيّة توصلنا للنتيجة : فالأصل جواز التعامل مع الكفار ولو كانوا من أهل الحرب ، وأن وسائل الحرام حرام . ولا يحكم على فعلٍ حتى يُنْظر في مآله وعاقبته .
ولا يباح مما يفضي إلى مفسدة إلا ما كانت مصلحته أرجح . ولا يحرم مما يفضي إلى مصلحة إلا ما كانت مفسدته أرجح . ولا مانع من استعمال الإضرار المالي جهاداً لأعداء الله ولو لم يأذن به الإمام .
وعليه فإن كان في المقاطعة والحال ما ذكر مصلحة فإنه يُنْدب إليها على أنه يراعى مدى الحاجة للبضائع كما سبق .
ب - أن يتم الشراء من مسلم اشترى البضاعة أو صاحب امتياز . ولبيان الحكم فإني مع تذكيري بما سبق من مسلَّمات فإني أذكر بأن المنتج الكافر يأخذ مقابل منحه امتياز التصنيع ، وهو يأخذه سواء قلَّ البيع أو كثر ، فالمقاطعة إضرار به وبعمالته وبالمساهمين معه في رأس ماله ، وكذا الحال بالنسبة لمن اشترى بضاعة من الكافر وصارت من ماله فالمقاطعة إضرار به .
ولذا فإن القول بندب المقاطعة فيه ثِقَل لوجود المفسدة والضرر الكبيرين ، ولا يقال فيها إن المفسدة خاصة والمصلحة عامة ؛ وذلك لأن المسلم سيكون هو المتضرر ، ولأنَّ نفع المقاطعة مظنون وتضرر الشركة مقطوع به ، والمقطوع يقدم على المظنون .
وعلى كلٍّ فاعتراض المفسدة قد يمنع القول بندب المقاطعة في هذا القسم ، والله تعالى أعلم .
وأنبّه هنا إلى أن من قاطع البضائع والسلع المنتجة من دول الكفار بنيّة حسنة كتقديم البديل الإسلامي أو زيادة في بغض الكفار فإنه إن شاء الله ممدوح على فعله مثاب .(11/334)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « المباح بالنيّة الحسنة يكون خيراً ، وبالنيّة السّيئة يكون شراً ، ولا يكون فعل اختياري إلا بإرادة .. فإذا فعل شيئاً من المباحات فلا بد له من غاية ينتهي إليها قصده ، وكل مقصود إما أن يقصد لنفسه وإما أن يقصد لغيره فإن كان منتهى مقصوده ومراده عبادة الله وحده لا شريك له وهو إلهه الذي يعبده لا يعبد شيئاً سواه وهو أحب إليه من كل ما سواه ؛ فإن إرادته تنتهي إلى إرادته وجه الله ، فيثاب على مباحاته التي يقصد الاستعانة بها على الطاعة ، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « نفقة الرجل على أهله يحتسبها صدقة [64] » [65] .
وبعد ! فإن جميع ما سبق إنما هو نظر فقهي مجرد يحتاج تنزيله على وقائعه إلى نظرين : فقهي يحقق المناط ، وواقعي يعرف الحال .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « الواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين ؛ فلا يؤخذ رأيهم ، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا » [66] .
اللهم ألهمنا رشدنا ، وقنا شر أنفسنا ، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
=======================================================
(*) القاضي بالمحكمة الكبرى بجدة .
(1) تضمين من (الثقة بالله أولاً) ، للدكتور عبد السلام الهراس ، ص 3 .
(2) تذكير النفس بحديث القدس (3 /514) .
(3) انظر : مجلة القدس ، العدد ، 24 ، ص 18 .
(4) مجموع الفتاوى ، (18/295) .
(5) لسان العرب ، (8 /276) ؛ القاموس المحيط ، ص 971 .
(6) لسان العرب ، (8/280) .
(7) لسان العرب ، (8/15) ؛ القاموس المحيط ، 942 .
(8) لسان العرب ، (8/160) : القاموس الفقهي ، 180 .
(9) المنجد الأبجدي ، 987 .
(10) المعجم الوسيط (2/746) ورمز لها بمحدثة ، والمراد أنها لفظ استعمله المحدثون في العصر الحديث ، وشاع في لغة الحياة العامة .
(11) أهل الذمة : هم الكفار الذين يقيمون في دار الإسلام إقامة دائمة بأمانٍ مؤبّد ، والعهد هو عقد بين المسلمين وأهل الحرب على ترك القتال مدة معلومة ، والمعاهدون هم أهل البلد المتعاقد معهم ، وأهل الحرب هم أهل البلاد التي غلب عليها أحكام الكفر ولم يجر بينهم وبين المسلمين عهد ، وأما المستأمِن فهو الحربي الذي يدخل دار الإسلام بأمانٍ مؤقت لأمرٍ يقتضيه ، انظر : الدر النقي ، لابن عبد الهادي (1/290) ؛ المبدع (3/313 ، 398) ؛ كشاف القناع (3/100) .
(12) انظر : الولاء والبراء في الإسلام ، محمد سعيد القحطاني ، 356 .
(13) صحيح البخاري ، 2216 .
(14) أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً مجزوماً به في باب شراء المملوك من الحربي في كتاب البيوع ، وقد وصله أحمد في مسنده (5/443) ؛ وانظر : فتح الباري (4/480) ؛ ومجمع الزوائد (9 / 335) .
(15) أحمد في مسنده (5 / 137) ؛ الدارمي (2582) ؛ الترمذي (1214) ؛ النسائي (4651) ؛ ابن ماجه (2439) بإسناد على شرط البخاري ، إرواء الغليل (5/231) .
(16) صحيح البخاري (2068) ؛ صحيح مسلم (1603) .
(17) اقتضاء الصراط المستقيم (2/15) .
(18) سنن البيهقي كتاب الجزية ، باب ما يؤخذ من الذمي ومن الحربي إذا دخل بلاد الإسلام بأمان ، برقم 19283 .
(19) فتح الباري (9/280) .
(20) فتح الباري (4/410) .
(21) أحمد (2/71) ؛ البيهقي (8/287) ؛ الحاكم (4/144) ، وحسنه الألباني في إرواء الغليل ، 1529 .
(22) مجموع الفتاوى (29/275) .
(23) اسمٌ للخيل .
(24) المبسوط (10/88 ، 89) وانظر المقدمات لابن رشد (2/154) ، نهاية المحتاج (3/390) ، والمحلى لابن حزم (9/65) ؛ فتح القدير ، لابن كمال الهمام (5/461) .
(25) انظر : الوساطة التجارية في المعاملات المالية ، الدكتور الأطرم ، 484 .
(26) انظر : النظام التجاري بالمملكة السعودية ، المادة 18 ؛ معجم المصطلحات القانونية ، لخليل شيبوب ، مادة : كمسيون ، وكالة .
(27) الضروري هو ما يسبب فواته اختلال نظام الحياة ، والحاجي هو ما يسبب فواته الضيق والحرج على الناس ، وأما التحسيني فهو ما يسبب فواته خروج حياة الناس عن العادات الكريمة ، الموافقات ، للشاطبي (2/8 ، 11) .
(28) الأشباه والنظائر ، للسيوطي 93 ، وابن نجيم 85 .
(29) الأشباه والنظائر ، للسيوطي 97 ، وابن نجيم 91 .
(30) موطأ الإمام مالك ، كتاب الزكاة برقم 621 ؛ السنن الكبرى ، للبيهقي ، كتاب الجزية ، باب ما يؤخذ من الذمي إذا تجر في غير بلده ، برقم 19279 ؛ مصنف عبد الرزاق ، كتاب أهل الكتاب ، باب : في صدقة أهل الكتاب (6/99) ، وانظر في هذه المسألة : المغني (13/235) والقِطْنيّة بكسر القاف والتشديد واحدة القطاني كالعدس والحمص ونحوهما ، انظر : النهاية في غريب الحديث (4/85) .
(31) الموافقات (4/210) .
(32) الموافقات ، للشاطبي ، (3/257) .(11/335)
(33) الموافقات (4/200) ، وانظر تفصيل ذلك في قواعد الوسائل في الشريعة الإسلامية ، لمصطفى مخدوم ، 370 فما بعدها .
(34) إحكام الفصول ، للباجي ، 690 ؛ شرح الكوكب المنير ، للفتوحي (4/434) .
(35) إعلام الموقعين (3/137 - 159) .
(36) الفتاوى الكبرى ، (3/257) .
(37) إعلام الموقعين ، (3/135) ؛ القواعد والأصول الجامعة ، لابن سعدي ، ص 14 .
(38) انظر : الموافقات (4/194) .
(39) تفسير القرآن العظيم (3/351) .
(40) تضمين من مجموع الفتاوى (20/48) .
(41) الموافقات (2/364) ، ومن الأمثلة التي ذكرها : النهي عن البناء على القبور ، وسفر المرأة بلا محرم ، والخلوة بالأجنبية ، وتحريم الزينة على المرأة في عدة الوفاة ، وميراث القاتل ، وغير ذلك .
(42) مجموع الفتاوى (1/164) .
(43) الفروق ، للقرافي ، (2/62) ، الفرق الثامن والخمسون .
(44) القواعد الصغرى ، ص 100 .
(45) الموافقات ، (2/ 360) .
(46) مغازي الواقدي ، (1/11) ؛ السيرة لابن هشام (2/287) ؛ طبقات ابن سعد (2/7) .
(47) السيرة لابن هشام ، (2/284) ؛ طبقات ابن سعد (2/908) .
(48) السيرة لابن هشام ، (2/284) ؛ طبقات ابن سعد (2/9) .
(49) صحيح مسلم 1901 ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه .
(50) السيرة لابن هشام ، (2/284) وصرح فيه ابن إسحاق بالسماع ؛ والبيهقي في الدلائل (3/31) ؛ وذكره الحافظ في فتح الباري (6/334) وسكت عنه .
(51) صحيح البخاري ، 7231 .
(52) صحيح البخاري 4823 ؛ صحيح مسلم 2798 .
(53) صحيح البخاري ، 4372 ؛ صحيح مسلم ، 1764 .
(54) السيرة النبوية ، لابن هشام (2/381) معلقاً ، وذكره ابن القيم في زاد المعاد (3/277) .
(55) صحيح البخاري ، 7142 .
(56) المدخل الفقهي العام ، للزرقا (2/1050) .
(57) الأشباه والنظائر ، للسيوطي 134 ؛ وابن نجيم ، 124 .
(58) صحيح البخاري ، 4418 ؛ صحيح مسلم ، 2769 .
(59) نهاية التدريب نظم غاية التقريب ، 104 .
(60) بواسطة اقتضاء الصراط المستقيم (2/19) .
(61) اقتضاء الصراط المستقيم (2/10) .
(62) هو عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعاً ، ولد عام 1225هـ سكن مصر وأخذ عن علمائها وعلماء الدعوة السلفية ، له عدة مؤلفات ، ممن تلقى عنه الشيخ حمد بن عتيق ، والشيخ سليمان بن سحمان ، توفي سنة 1292هـ .
(63) الدرر السنيّة (8/340) .
(64) صحيح البخاري 5351 ؛ صحيح مسلم 1002 .
(65) مجموع الفتاوى (7/43) .
(66) الاختيارات الفقهية 311 .
========================
الغرب والإسلام
(1)
أحقاد وافتراءات.. لها تاريخ
د.محمد عمارة
مشكلتنا، في مواجهة الهجوم على الإسلام، والإساءة إلى رسولنا {، وخاصة تلك التي تتكرر من دوائر سياسية ودينية وإعلامية في الغرب.. أننا نتعامل مع هذه الهجمات والإساءات تعاملاً غير صحي، يتسم في أغلب الأحيان، بالتجزيئية والموسمية والانفعالات، التي سرعان ما تتبخر، مع بقاء المواقف المعادية على حالها.. بل ربما هي في تصاعد وازدياد..
وحلاً لهذه المشكلة، فإن العقل المسلم، ومؤسسات العلم والإعلام الإسلامية، عليها أن تعي عدداً من الحقائق، التي تمثل ثوابت حاكمة أو يجب أن تكون حاكمة لمواقفنا إزاء هذه الهجمات.
وأولى هذه الحقائق: هي إدراك الجذور العميقة للعداء للإسلام عند الآخرين.. فمنذ ظهور الإسلام بدأ العداء له، والتهجم عليه، والافتراء على رسوله {. ولقد سجل القرآن الكريم، وسجلت السيرة النبوية، هذه الحقيقة، باعتبارها سنة من سنن التدافع بين الحق والباطل: ولا يزالون يقاتلونكم حتى" يردوكم عن دينكم إن استطاعوا (البقرة:217)، ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى" يأتي الله بأمره إن الله على" كل شيء قدير 109 (البقرة)، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (8) (الصف)، إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى" جهنم يحشرون 36 (الأنفال)... ولقد اعترف كثير من الغربيين بقدم العداء الغربي للإسلام، حتى قال القائد والكاتب الإنجليزي "جلوب باشا" (1897 1986م): "إن تاريخ مشكلة الشرق الأوسط أي مشكلة الغرب مع الشرق الإسلامي إنما يعود إلى القرن السابع الميلادي"! أي إلى ظهور الإسلام!!
فنحن إذن أمام موقف ثابت وقديم.. ولسنا أمام مقال هنا ورسم "كاريكاتوري" هناك.. ومن ثمَّ فنحن في حاجة إلى استراتيجية ثابتة ودائمة لمواجهة هذا العداء وهذه الهجمات.(11/336)
والحقيقة الثانية: هي أن هذا الغرب الذي تأتي منه أغلب هذه الهجمات ليس كتلة واحدة ولا موقفاً واحداً إزاء الإسلام.. صحيح أن الأكاذيب والافتراءات تملأ الكتب المدرسية الغربية حتى لقد رُصدت هذه الأكاذيب في مشروع بحثي أنجز في ألمانيا، فبلغت ثمانية مجلدات!!.. وصحيح أن هذه الأكاذيب تنتشر في الثقافة الشعبية الغربية التي تصور المسلمين عبدة للثالوث!!.. وتصور رسول الإسلام { كاردينالاً كاثوليكياً رشح نفسه في انتخابات البابوية، فلما رسب أحدث انشقاقاً هو الأكبر والأخطر في تاريخ النصرانية!!.. إلى آخر مخزون ثقافة الكراهية السوداء في المجتمعات الغربية إن كان له آخر! ... لكن.. ومع هذا.. فإن هناك عدداً كبيراً من علماء الغرب ومفكريه قد قادتهم عقولهم إلى احترام الإسلام والثناء على حضارته، والإنصاف لتاريخ الأمة الإسلامية.
ولذلك، فعلينا أن نواجه الافتراءات الغربية بمشروع فكري نقدم فيه للغرب وعلى نطاق واسع... شهادات هؤلاء العلماء والمفكرين الغربيين، المنصفة للإسلام، وذلك من باب "وشهد شاهد من أهلها".. فالأمر المؤكد أن هذه الشهادات ستكون أجدى وأفعل في كشف الزيف الذي تمثله حملات العداء والتشويه للإسلام..
والحقيقة الثالثة: هي أن أفكار الجمود والتقليد والغضب والعنف، التي لا تخلو منها مجتمعاتنا الإسلامية، يسلط أعداؤنا عليها كل الأضواء، بل ويبالغون في تصويرها حتى تغطي على تيار الوسطية والاستنارة والاعتدال في الفكر الإسلامي وهو التيار الأوسع والأعرض والأعمق وذلك لتشويه كامل الصورة الإسلامية، ولإخافة الشعوب الغربية من الإسلام، فتنخرط وراء حكوماتها الاستعمارية في الحرب على عالم الإسلام.. وفي مواجهة ذلك علينا أن نقدم للإنسان الغربي مشروعاً للتعريف بالإسلام نترجم فيه الفكر الوسطي الإسلامي، وأن تقدم هذا المشروع المؤسسات الإسلامية المعروفة بالوسطية والتاريخ العريق مثل الأزهر الشريف وذلك لنقول لهؤلاء الآخرين: هذا هو الإسلام، لمن أراد أن يعرف حقيقة الإسلام.
هناك علاقة جدلية بين "الدفاع" و"الهجوم"، وإذا كان "الدفاع" غير "الاعتذار".. فإن علينا ونحن ندافع عن الإسلام إزاء التهجمات التي توجه إليه، والإساءات التي توجه إلى رسولنا {، وخاصة من دوائر الهيمنة السياسية والإعلامية الغربية.. علينا ونحن نعرف الآخرين بحقائق سماحة الإسلام وعدالته أن نتخذ موقف الهجوم على الفكر العنصري والدموي الذي تزخر به المواريث الدينية والحضارية لدى هؤلاء الغربيين الذين يهاجمون الإسلام والذين يبصرون "القشة" في عيون غيرهم، ويتعامون عن "الأخشاب والأشواك" التي تمتلئ بها عيونهم!.. وعلى الذين ينتقدون "الخطاب الديني الإسلامي" أن ينظروا أولاً إلى خطاباتهم الدينية والثقافية، الطافحة بالعنصرية والدموية والاستعلاء والتمركز حول الذات وإنكار الاعتراف بالآخرين...
كذلك، يجب علينا ونحن ندافع عن الإسلام، ونرد سهام خصومه، أن نستخدم سلاح الوعي بحقائق التاريخ.. والوعي بحقائق الواقع الذي نعيش فيه.. فنذّكر الذين يتهمون المسلمين بالعدوانية والإرهاب: أن الشرق قد تعرض لعدوان الغرب واستعماره وقهره ونهبه منذ ما قبل الإسلام.. وبعد ظهور الإسلام.. فالقضية أقدم حتى من الإسلام!..
فالإغريق والرومان والبيزنطيون قد احتلوا الشرق وقهروه حضارياً ودينياً وثقافياً ولغوياً عشرة قرون من "الإسكندر الأكبر" (356 324ق.م) في القرن الرابع قبل الميلاد وحتى "هرقل" (610 641م) في القرن السابع للميلاد...
لما حررت الفتوحات الإسلامية أوطان الشرق وضمائر شعوبه من هذا القهر الاستعماري... عاد الغرب ليختطف الشرق من التحرير الإسلامي، فشن عليه حملاته الصليبية التي دامت قرنين من الزمان (1096 1291م)، ولم يتورع الغرب إبان هذه الحروب الصليبية التي رفع فيها أعلام النصرانية عن أن يتحالف مع التتر الوثنيين ضد الإسلام!
ولما حررت دول الفروسية الإسلامية الشرق من جيوش الصليبيين وأزالت قلاعهم وكياناتهم الاستيطانية.. عاد هذا الغرب الاستعماري منذ إسقاط غرناطة (1492م) إلى القيام بغزوته الحديثة، فالتف حول العالم الإسلامي، ثم أخذ بغزوة بونابرت سنة 1798م في ضرب قلب العالم الإسلامي، ومازلنا نعالج آثار هذه الغزوة، التي مضى على بدايتها خمسة قرون.. والتي لم يتورع فيها الغرب الاستعماري الحديث عن التحالف مع أعدائه التاريخيين اليهود الصهاينة ضد الإسلام والمسلمين كما سبق وصنع الغرب الصليبي بتحالفه مع الوثنية التترية في العصر الوسيط!
ثم... على الغرب الاستعماري أن ينظر قبل اتهامه الإسلام وأمته بالعدوانية والإرهاب!- أن ينظر إلى خريطة الواقع الذي نعيش فيه..(11/337)
فشركات الغرب العابرة للقارات والجنسيات، تنهب ثروات العالم الإسلامي وموارده الخام بأرخص الأسعار، في الوقت الذي يصدرون فيه إلينا سلع الاستهلاك الترفي والترف الاستهلاكي بأغلى الأسعار.. ويعملون على حرماننا من التنمية والتقنية وامتلاك أدوات القوة الصناعية!
والقواعد العسكرية الغربية تغطي أغلب بلاد العالم الإسلامي.. حتى لقد تحولت بلاد عربية وإسلامية إلى قواعد عسكرية!!.. ولا شيء غير القواعد!!.. وذلك لحراسة النهب الاقتصادي، والعدوان على سيادة الدول الإسلامية!
والأساطيل الحربية الغربية غدت تحتل بحارنا ومحيطاتنا.. بل وتحولت مناطق من عالم الإسلام إلى مدافن للنفايات القاتلة.. بعد أن تحولت شعوبنا وزراعاتنا إلى حقول تجارب للفاسد والضار من الأسمدة والمبيدات والأدوية!!
والغرب، الذي يحرم شعوب الإسلام دون غيرها من حق تقرير المصير.. هو الذي يعطي هذا الحق للأقليات التي هي جزء أصيل من الشعوب الإسلامية، حتى غدا هذا الحق لأول مرة في تاريخ الشرعية الدولية.. أداة تفتيت للدول ذات السيادة بدلاً من أن يكون أداة لتحرير الشعوب من الاستعمار، ما حدث ويحدث في "تيمور الشرقية" وفي جنوب السودان.
يحدث ذلك في واقعنا الإسلامي.. بينما لا تجد في الغرب جندياً مسلماً.. ولا شركة إسلامية، ولا حتى سفينة إسلامية لصيد الأسماك!! ومع ذلك يتحدثون عن عدوانيتنا وإرهابنا.. غافلين ومتغافلين عن حقائق التاريخ، وحقائق الواقع الذي نعيش فيه.. فهل نعي نحن دور هذا الوعي بالتاريخ الواقع في هذا الصراع؟!
فصل جديد.. وليس الأخير!
في 30 سبتمبر سنة 2005م نشرت إحدى الصحف الدانماركية "بولاندس بوسطن" رسوماً كاريكاتورية مسيئة إلى رسول الله {.. وكانت هذه الرسوم ثمرة "لمسابقة" أجرتها الصحيفة بين رسامي "الكاريكاتور" ليتخيلوا ويرسموا رسول الإسلام، في الصورة التي رسمتها في مخيلتهم ثقافتهم الغربية وتراثهم عن رسول الإسلام.. وكانت الحصيلة اثني عشر رسماً، منها ذلك الرسم الذي يصور رسول الإسلام { معتمراً عمامة في شكل قنبلة!!
نعم.. فرسول السلام العادل، والتوحيد الخالص، والرفق بالطبيعة والجمال، فضلاً عن الإنسان والحيوان والنبات، قد صورته الثقافة السائدة في التراث الغربي "إرهابياً"، نشر دينه بالسيف والدم.. وها هي تعاليمه الآن الإسلام قد غدت "الإرهاب" الذي يشيعه في العالم أتباعه "الإرهابيون"!!
وعندما استفزت هذه الرسوم سفراء الدول العربية والإسلامية في "كوبنهاجن" عاصمة الدانمارك ودعتهم السفيرة المصرية للاجتماع والاحتجاج.. وطلبوا مقابلة رئيس الوزراء الدانماركي، رفض مقابلتهم، قائلاً: إن ما نشرته الصحيفة لم يخرج عن حدود القانون.. وإن الحكومة الدانماركية لا تتدخل فيما هو من حرية التعبير!
ومع تسرب أنباء هذه الرسوم إلى أجهزة الإعلام في البلاد الإسلامية، غضبت الجماهير لرسولها الكريم، ولمقدسات دينها الحنيف، فعقدت المؤتمرات، وصدرت البيانات، واندلعت المظاهرات، وسقط الشهداء.. وبدأ جمهور الناس في مقاطعة البضائع الدانماركية.. وانخرطت قطاعات من النخبة في الكتابة والخطابة دفاعاً عن العقائد والمقدسات.
لكن رد الفعل الغربي في الإعلام وفي مؤسسات الاتحاد الأوروبي والحكومات الغربية، كان في مجمله سلبياً.. بل ومعادياً.. فصحف كثيرة في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا وإسبانيا واستراليا والنرويج وروسيا فضلاً عن إسرائيل قد أعادت نشر الرسوم المسيئة إلى رسول الإسلام.. ومفوضية الاتحاد الأوروبي تضامنت مع الدانمارك، بحجة أن حرية التعبير يجب ألا تتقيد بحرمات مقدسات الإسلام.. بل وهددت هذه المفوضية الدول الإسلامية التي تقاطع البضائع الدانماركية بتطبيق العقوبات عليها، لأن مقاطعة الدانمارك هي مقاطعة لكل دول الاتحاد الأوروبي الخمس والعشرين!!.. ووصل الأمر إلى حد أن أحد الوزراء في إيطاليا دعا إلى شن حرب صليبية ضد الإسلام والمسلمين.. وإلى طبع هذه الرسوم المسيئة إلى رسول الإسلام على القمصان ليرتديها ويتزين بها الأوروبيون!!
وهكذا انشغل العالم بوقائع أحدث فصول الإهانات الغربية لمقدسات الإسلام!
* * * *وفي الساحة الإسلامية.. ظن كثيرون أن هذا الحادث الغريب هو حادث مفاجئ.. وشاذ.. وليست له سابقة ولا نظير في التاريخ.. بينما ظن آخرون أن هذا الموقف الغربي، الذي يستبيح إهانة العقائد والمقدسات الدينية الإسلامية، بدعوى حرية التعبير التي يراها "قيمة مطلقة" تعلو على غيرها من القيم حتى إنها غير قابلة للنقاش!... ظنوا أن ذلك الموقف الغربي هو موقف حديث، أثمرته العلمانية الغربية التي سادت في السياسة والدولة والمجتمعات الغربية منذ القرن الثامن عشر والتي نزعت القداسة عن كل مقدسات الأديان.. والتي تطورت في ما بعد الحداثة إلى نزع القداسة حتى عن منظومة القيم والأخلاق.(11/338)
لكن الذي تريد أن تقدمه هذه الدراسة، من خلال "الوقائع.. والوثائق.. والشهادات الغربية ذاتها" هو البرهنة على أن عداء الغرب للإسلام، وتعمده إهانة مقدساته وفي المقدمة منها رسوله العظيم.. وقرآنه الكريم هو عداء وافتراء له تاريخ!.. وأن تاريخ الغرب في اقتراف هذه الجرائم سابق حتى على علمنة الفكر الغربي والمجتمعات الغربية.. بل إن هذا الموقف الغربي من الإسلام إنما يعود إلى ظهور الإسلام!!
لقد قالها الجنرال الإنجليزي "جلوب باشا" اللفتنانت جنرال جون باجوت (1897 1986م) والذي سبق أن عمل قائداً للجيش الأردني حتى سنة 1956م.. قالها في لحظة صدق فجاءت معبرة أصدق التعبير عن تاريخ الغرب في العداء للإسلام.. لقد قال: "إن تاريخ مشكلة الشرق الأوسط أي مشكلة الغرب مع الشرق الإسلامي إنما يعود إلى القرن السابع للميلاد"!! أي إلى ظهور الإسلام.
ليس غرباً واحداً
وقد حرصنا دائماً، وفي كل ما كتبناه عن مواقف الغرب من الإسلام وحضارته وأمته، على ضرورة التمييز في الغرب بين:
1 الإنسان الغربي: الذي لا مشكلة له مع الإسلام وأمته وحضارته.. والذي يتفهم ديننا وقضايانا عندما تعرض عليه بمنطق وموضوعية.. والذي لنا من بين علمائه ومفكريه العشرات، بل والمئات الذين تحدثوا عن الإسلام وحضارته بموضوعية وإنصاف حتى إننا نتعلم من كتاباتهم.. نحن المسلمين الكثير..
2 والعلم الغربي: الذي هو مشترَك إنساني عام، استفادت فيه النهضة الأوروبية الحديثة من تراث الإسلام العلمي والحضاري، كما سبق واستفاد المسلمون فيه من تراث الحضارات القديمة الإغريقية.. والهندية.. والفارسية التي أحيا مواريثها الإسلام..
3 ومؤسسات الهيمنة الغربية: تلك التي تتركز مشكلة الإسلام والمسلمين معها، لا لأنها غربية، وإنما لأنها "إمبريالية"، سبق لها أن استعمرت الشرق ونهبته اقتصادياً، وقهرته دينياً وسياسياً وثقافياً لمدة عشرة قرون من "الإسكندر الأكبر" (356 323ق.م) في القرن الرابع قبل الميلاد وحتى "هرقل" (610 641م) في القرن السابع للميلاد!
فلما ظهر الإسلام، وحررت فتوحاته أوطان الشرق من هذا الاستعمار والقهر الغربي الإغريقي.. الروماني.. البيزنطي عاد هذا الغرب تحت أعلام الصليب، و"بأيديولوجية" الحرب الدينية المقدسة ليحارب الشرق، ويشن عليه العديد من الحملات العسكرية، التي شاركت فيها دول الغرب وإماراته وفرسان إقطاعه، بقيادة الكنيسة الكاثوليكية.. ولقد استمرت هذه الحملات الصليبية، والكيانات الاستيطانية والإحلالية التي أقامتها في قلب العالم الإسلامي قرنين من الزمان (489 690ه 1096 1291م).
وعندما نهضت دول الفروسية الإسلامية الدولة "الزنكية النورية" (521 648ه 1127 1250م).. والدولة "الأيوبية" (567 648ه 1171 1250م).. والدولة "المملوكية" (648 784ه 1250 1382م).. عندما نهضت دول الفروسية الإسلامية هذه فحررت عالم الإسلام من آثار هذه الحملات الصليبية الغربية.. بدأ الغرب دورة جديدة من دورات صراعه التاريخي ضد الإسلام والمسلمين، وذلك لإعادة اختطاف الشرق من التحرير الإسلامي.. فكانت الحروب التي أسقطت "غرناطة"، واقتلعت الإسلام من الأندلس (897ه 1492م) لتبدأ غزوة الخمسمائة عام!.. الغزوة الغربية الحديثة للشرق الإسلامي، التي لا تزال وقائعها قائمة حتى هذه اللحظات!.
لقد بدأت هذه الغزوة الغربية الحديثة بالالتفاف حول العالم الإسلامي حول إفريقيا (902ه 1497م) واحتلال الكثير من البلاد الإسلامية في شرقي آسيا الهند .. والفلبين.. وإندونيسيا.. ثم استدارت لضرب قلب العالم الإسلامي العالم العربي ابتداء من حملة "بونابرت" (1769 1821م) على مصر والشام (1213ه 1798م).
ولكي يدرك الذين لا يدركون وعي الغرب بهذا التاريخ.. بل واحتفاله بذكرياته.. يكفي أن نعلم أن الغرب قد احتفل بمرور خمسمائة عام على إسقاطه "غرناطة" واقتلاعه الإسلام من غربي أوروبا الأندلس احتفل بذلك سنة 1992م، وذلك بإقامة "دورة أولمبية" في "برشلونة" سنة 1992م أي في مكان الحدث!! وذهب العالم بمن فيه المسلمون! ليلعبوا على أنغام الذكريات الغربية بالانتصار على الإسلام.. وببدء الغزوة الغربية الحديثة لعالم الإسلام من ذات المكان أيضاً البرتغال ! وليشاهدوا مع الألعاب الأفلام والمسرحيات التي تتحدث عن هذه الأحداث، في مسلسل الصراع الغربي ضد الإسلام!.. بل وفي العام نفسه (1992م) شن الغرب حربه بقيادة الصرب ضد البوسنة والهرسك، لاقتلاع الإسلام من وسط أوروبا، في الذكرى الخمسمائة لاقتلاعه من غرب أوروبا.
إذن.. فمع هذه المؤسسات الاستعمارية الغربية، ومع هذا المشروع "الإمبريالي" الغربي، الطامع في اغتصاب الشرق ونهب ثرواته وتغريب ثقافته وقهر حضارته ومسخ هويته، تتركز مشكلتنا في العلاقة بالغرب.. وليس مع الإنسان الغربي أو العلم الغربي.(11/339)
وذلك حتى لا نضع الجميع في "سلة واحدة"، غافلين عن المنهج القرآني في التعامل مع الآخرين كل الآخرين: ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون 113 (آل عمران).
وإذا كنا قد نشرنا العديد من الكتب الكبيرة والمتوسطة.. والصغيرة عن تاريخ الغرب معنا نحن المسلمين .. على امتداد قرون هذا الصراع الذي فرضوه علينا.. فإن هدف هذه الدراسة الموجزة هو:
1 إيراد الوقائع والشهادات الغربية، والحقائق التاريخية، التي تحكي تاريخ الافتراءات الغربية على الإسلام، والعداء والعدوان على مقدساته..
2 ولتكون هذه الوقائع والشهادات والحقائق التاريخية في صدر جداول أعمال أية حوارات بين المسلمين والغربيين.. وذلك لتكون هذه الحوارات علاجاً "للمرض" وليست وقوفاً عند العرض.. فضلاً عن أن تكون كحالها اليوم "علاقات عامة" و"مجاملات".
إن التناول الشجاع لحقائق العلاقات بين الغرب والشرق، هو الكفيل بفتح الأبواب ولو ببطء وتدرج لتصحيح مسارات هذه العلاقات.. وهو وحده الكفيل بتصحيح المفاهيم الخاطئة، وإعادة بناء الصور لدى الفرقاء المختلفين.
الغرب والإسلام .. افتراءات لها تاريخ (2) القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم في المخزون الثقافي الغربي د.محمد عمارة
FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT=" ...
محمد عمارة ...
في كتاب مترجم عن الألمانية، كتبه عالمان سويسريان هما "هوبرت هيركومر" و"جيرنوت روتر" يقولان عن الصورة الغربية، الشائعة والمستكنة في التراث الغربي، عن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم:
"لقد اعتبر المسيحيون الأوروبيون محمداً رجلاً عاش حياة داعرة، وتجاوز خبثه كل حدود الدناءة والانحطاط.. ولم يتورع خيالهم عن الادعاء بأن رسول الإسلام كان في الأصل كاردينالاً كاثوليكياً، تجاهلته الكنيسة في انتخابات البابا، فقام بتأسيس طائفة ملحدة في الشرق انتقاماً من الكنيسة.. واعتبرت أوروبا المسيحية، في القرون الوسطى، محمداً المرتد الأكبر عن المسيحية، الذي يحمل وزر انقسام نصف البشرية عن الديانة المسيحية..."!!(1)
وبشهادة المستشرق الفرنسي الشهير "مكسيم رودنسون" (1915 2004م):
"فلقد حدث أن الكتاب اللاتين، الذين أخذوا بين سنة 1100م وسنة 1140م على عاتقهم إشباع الحاجة لدى الإنسان العامي، أخذوا يوجهون اهتمامهم نحو حياة محمد، دون أي اعتبار للدقة، فأطلقوا العنان "لجهل الخيال المنتصر"... فكان محمد "في عرفهم": ساحراً، هدم الكنيسة في إفريقيا والشرق عن طريق السحر والخديعة، وضمن نجاحه بأن أباح الاتصالات الجنسية.. وكان محمد "في عرف تلك الملاحم": هو صنمهم الرئيس، وكان معظم الشعراء الجوالة يعتبرونه كبير آلهة "السراسنة" (البدو)، وكانت تماثيله "حسب أقوالهم" تصنع من مواد غنية، وذات أحجام هائلة..!!
لقد اعتُبر الإسلام، في العصور الوسطى نوعاً من الانشقاق الديني، أو هرطقة ضمن المسيحية. وهكذا رآه "دانتي" (1295 1321م)...(2)
تلك هي صورة الإسلام ورسوله في الثفافة الشعبية الأوروبية، التي تبلورت وشاعت منذ العصور الوسطى.. قبل العلمانية.. وقبل أن يعرف الغرب شيئاً اسمه "حرية التعبير"!.
(2)
وإذا كانت الملاحم الشعبية إنما تمثل أكبر المكونات لثقافة جمهور أية أمة من الأمم أو حضارة من الحضارات، فإن "ملحمة رولاند" الشعبية حوالي سنة 1000م تصور المسلمين الذين يبلغ التوحيد الديني للألوهية عندهم أرقى درجات التنزيه والتجريد، فكل ما خطر على بالك، فالله ليس كذلك! تصورهم هذه الملحمة الشعرية الشعبية الأوروبية وثنيين، يعبدون ثالوث:
1 أبولين Apollin...
2 تير فاجانت Tervagant...
3 محمد mahamed.(3)
* * *(3)
وإذا كان الدين واللاهوت والفلسفة الدينية قد لعبت دوراً بارزاً في تكوين العقل الغربي والثقافة الأوروبية في عصورها الوسطى.. فإن "القديس الفيلسوف" "توما الأكويني" (1225 1274م) وهو أكبر فلاسفة الكاثوليكية عبر تاريخها قد صور لقومه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم فقال:
"لقد أغوى محمد الشعوب من خلال وعوده لها بالمتع الشهوانية.. وحرَّف جميع الأدلة الواردة في التوراة والأناجيل من خلال الأساطير والخرافات التي كان يتلوها على أصحابه، ولم يؤمن برسالته إلا المتوحشون من البشر الذين كانوا يعيشون في البادية".(4)
أما رأس البروتستانتية "مارتن لوثر" (1483 1546م) فلقد قال عن رسول الإسلام الذي جعل الحياء شعبة من شعب الإيمان.. والعفة ثابتاً من ثوابت القيم الإسلامية.. قال "مارتن لوثر" عن هذا الرسول الكريم:
"إن محمداً هو خادم العاهرات، وصائد المومسات"!!!(5)
* * *(4)
وإذا كانت "الكوميديا الإلهية" التي كتبها الشاعر الإيطالي الأشهر "دانتي" (1295 1321م) قد غدت معلماً من معالم ثقافة أوروبا منذ عصر النهضة وحتى هذه اللحظات.. ونصاً يدرسه الطلاب في المدارس والجامعات.. فإن هذه (الكوميديا الإلهية) قد وضعت رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وعلي ابن أبي طالب كرَّم الله وجهه:(11/340)
"في الحفرة التاسعة، في ثامن حلقة من حلقات جهنم.. لأنهم بنظر "دانتي" من أهل الشجار والنفاق، الذين تقطعت أجسادهم في سعير الكوميديا الإلهية"!!(6)
* * *(5)
وإذا كانت هذه الإشارات وهي مجرد إشارات تفصح عن عناوين الصورة الشعبية والدينية لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم في ثقافة أوروبا العصور الوسطى.. وبدايات عصر النهضة فإن هذه الصورة لم تتبدل ولم تتعدل في فكر "التنوير الغربي".
ففيلسوف التنوير الغربي "فولتير" (1694 1778م) الذي قدمه الغرب.. وقدمه المثقفون العلمانيون في بلادنا.. باعتباره نموذج الشجاعة "الفكرية".. المستعد للموت في سبيل حرية الآخرين هو الذي كتب عن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم مسرحيته "التعصب أو محمد الرسول"، فجعل فيها من رسول الله نموذجاً للتعصب!! رغم اعتراف الرسول بكل الآخرين، حتى الذين ينكرون نبوته ويكفرون بدينه! وتقنينه: "أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم".
كما أخفى "فولتير" في هذه المسرحية جبنه أمام الكنيسة ، وخوفه من مهاجمة المسيحية أو نقدها، بالهجوم على الإسلام ورسول الإسلام!
ولم يكشف حقيقة هذا الذي جعلوه فيلسوفاً للحرية والتنوير سوى رائد اليقظة الإسلامية الحديثة جمال الدين الأفغاني (1254 1314ه 1838 1897م).. الذي كتب عن "فولتير" و"روسو" (1712 1778م) فقال:
"لقد زعما حماية العدل ومغالبة الظلم والقيام بإنارة الأفكار وهداية العقول، فنبشا قبر "أبيقور الكلبي" (341 270ق.م) وأحييا ما بلي من عظام الدهريين، ونبذا كل تكليف ديني، وغرسا بذور الإباحية والاشتراك، وزعما أن الآداب الإلهية جعليات خرافية، كما زعما أن الأديان مخترعات أحدثها نقص العقل الإنساني. وجهر كلاهما بإنكار الألوهية، ورفع كل عقيرته بالتشنيع على الأنبياء (برأهم الله مما قالا) وكثيراً ما ألف "فولتير" من الكتب في تخطئة الأنبياء والسخرية بهم والقدح في أنسابهم وعيب ما جاؤوا به"!(7)
* * *(6)
وإذا كان القرآن الكريم قد أخبر المسلمين أنه جاء مصدقاً لما بين يديه من الكتب السماوية التي نزلت على سائر الأنبياء والمرسلين.. وتحدث عن صحف إبراهيم.. وزبور داود عليهما السلام وقال عن توراة موسى عليه السلام إن فيها هدى ونور (المائدة:44)، وعن إنجيل عيسى عليه السلام: إن فيه هدى ونور (المائدة:46).
فقد قال "مارتن لوثر" (1483 1546م) رأس البروتستانتية الغربية وزعيمها عن القرآن الكريم:
"أي كتاب بغيض وفظيع وملعون هذا القرآن.. مليء بالأكاذيب والخرافات والفظائع.. وإن إزعاج محمد، والإضرار بالمسلمين، يجب أن تكون هي المقاصد من وراء ترجمة القرآن وتعرف المسيحيين عليه".(8)!!
وقال الشاعر الألماني الشهير "جوته" (1749 1832) عن هذا القرآن الكريم:
"إنه الكتاب الذي يكرر نفسه تكرارات لا تنتهي، فيثير اشمئزازنا دائماً، كلما شرعنا في قراءته"!!(9)
وحتى الرجل الذي أنصف نبي الإسلام، وجعله أعظم العظماء "توماس كارليل" (1795 1881م) رأيناه يقول عن القرآن الكريم:
"إن محمداً شيء والقرآن شيء آخر، فالقرآن هو خليط طويل وممل ومشوش.. جاف.. وغليظ.. باختصار، هو غباء لا يُحتمل"!!(10)
فنحن إذن بإزاء عداء لقدس أقداس الإسلام رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم... وقرآنه الكريم ... وهو عداء له تاريخ قديم.. وثابت.. وطويل..
* * *(7)
وإذا كنا نكتب اليوم بمناسبة إهانة الغرب غرب القرن الحادي والعشرين لمقدسات الإسلام.. فإن الوقائع والممارسات الغربية التي تهين وتمتهن هذه المقدسات هي وقائع وممارسات لها تاريخ قديم.. بل وسابق حتى على ظهور الإسلام!..
فالغرب الذي يهين اليوم مقدسات الإسلام على الرغم من احترام الإسلام وتقديسه لكل مقدسات جميع الأديان.. هذا الغرب الاستعماري في طوره الإغريقي الروماني البيزنطي هو الذي امتهن مقدسات النصرانية الشرقية، واتهم عقائدها، واغتصب كنائسها وأديرتها ولقرون عديدة حتى جاءت الفتوحات الإسلامية فحررت هذه العقائد والمقدسات مع تحريرها لأوطان أصحابها.. وعلى هذه الحقيقة، شهد الأسقف "ميخائيل السرياني" فقال:
"لقد نهب الرومان الأشرار كنائسنا وأديرتنا بقسوة بالغة، واتهمونا دون شفقة، ولهذا جاء إلينا من الجنوب أبناء إسماعيل لينقذونا من أيدي الرومان. وتركنا العرب نمارس عقائدنا بحرية وعشنا في سلام".(11)
وقبل "ميخائيل السرياني" شهد الأسقف "يوحنا النقيوسي" الذي كان شاهد عيان على الفتح الإسلامي لمصر.. بأن هذا الفتح الذي حرر مصر من الاستعمار البيزنطي، إنما كان بمثابة العدل الإلهي الذي انتقم الله به من ظلم الرومان.. فقال:(11/341)
"إن الله، الذي يصون الحق، لم يهمل العالم، وحكم على الظالمين، ولم يرحمهم لتجرئهم عليه، وردهم إلى أيدي الإسماعيليين (العرب المسلمين) ثم نهض المسلمون وحازوا كل مصر، وكان عمرو بن العاص يقوى كل يوم في عمله ويأخذ الضرائب التي حددها، ولم يأخذ شيئاً من مال الكنائس، ولم يرتكب شيئاً ما سلباً أو نهباً، وحافظ على الكنائس طوال الأيام، ودخل الأنبا بنيامين بطرك المصريين مدينة الإسكندرية، بعد هربه من الرومان ثلاثة عشر عاماً، وسار إلى كنائسه، وزارها كلها، وكان كل الناس يقولون: هذا النفي، وانتصار الإسلام كان بسبب ظلم هرقل الملك، وبسبب اضطهاد الأرثوذكس.. وهلك الروم لهذا السبب، وساد المسلمون مصر.. وخطب الأنبا بنيامين (39ه 659م) في دير مقاريوس، فقال: لقد وجدت في الإسكندرية زمن النجاة والطمأنينة اللتين كنت أنشدهما، بعد الاضطهادات والمظالم التي قام بتمثيلها الظلمة المارقون".(12)
* * *(8)
وبعد هذا الإنقاذ والتحرير "والنجاة والطمأنينة والسلام"، التي حققها الإسلام لكل عقائد أصحاب الديانات ولجميع المقدسات.. جاءت الحملات الصليبية الغربية (489 690ه 1096 1291م) لتحول المسجد الأقصى إلى اصطبل خيل وكنيسة لاتينية، منتهكة حرمة هذا الحرم القدسي الشريف، الذي هو عند المسلمين أولى القبلتين، وثالث الحرمين، وأحد المساجد الثلاثة التي تنفرد بأن تشد إليها الرحال.. جاء الصليبيون فحولوه إلى اصطبل خيل وكنيس لاتيني لما يقرب من تسعين عاماً (492 583ه 1099 1187م).. حتى حرره صلاح الدين الأيوبي (532 589ه 1137 1193م).
* * *(9)
وإبان الحملة الفرنسية، التي قادها "بونابرت" (1769 1821م) على مصر (1213ه 1798م) دنست جيوشه جيوش الثورة الفرنسية الرافعة لأعلام الحرية والإخاء والمساواة دنست الأزهر الشريف أقدم وأعرق الجامعات الكبرى وأحد المساجد الشهيرة في تاريخ الإسلام ومزقت وداست الجنود والخيول .. القرآن الكريم وكتب السنة النبوية المطهرة.. وسكر الجنود.. وبالوا وتغوطوا على هذه المقدسات، في الأزهر الشريف.. ولقد وصف مؤرخ العصر الشيخ عبدالرحمن الجبرتي (1167 1237ه 1754 1822م) هذا الذي اقترفه جنود الحملة الفرنسية، فقال:
"لقد دخل أولئك الوعول التيوس إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيل.. وداس فيه المشاة بالنعالات وهم يحملون السلاح والبندقيات، وتفرقوا في صحنه ومقصوراته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا في الأروقة والحجرات وكسروا القناديل والسهارات، وهشَّموا خزائن الطلبة، والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع، والودائع والمخبآت، بالدواليب والخزانات وشتتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا بالمسجد وتمخطوا، وبالوا وتغوطوا، وشربوا الشراب وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عروه، ومن ثيابه أخرجوه، ووجدوا في بعض الأروقة إنساناً فذبحوه، ومن الحياة أعدموه، وفعلوا بالجامع الأزهر، ما ليس عليهم بمستنكر، لأنهم أعداء الدين وأخصام متغلبون، وغرماء متشمتون، وضباع متكالبون، وأجناس متباينون، وأشكال متعاندون.
وأعطى تلك الليلة جيش الرحمن، فسحة جيش الشيطان".(13)
* * *(10)
وتتكرر ذات الفعلة تدنيس الأزهر الشريف والقرآن الكريم.. وكتب السنة النبوية المطهرة على يد الاستعمار الإنجليزي (1338ه 1919م).. فلقد حاول الإنجليز إبان ثورة الشعب المصري 1919م إغلاق الجامع الأزهر في 2 أبريل سنة 1919م لكن شيخه الشيخ محمد أبوالفضل الجيزاوي (1263 1346ه 1847 1927م) رفض.. فاقتحموه ودنسوه في 11 ديسمبر سنة 1919م.. ولقد وصف ذلك المؤرخ الحجة عبدالرحمن الرافعي (1306 1386ه 1889 1966م) فقال:
"لقد وقف في يوم 11 ديسمبر سنة 1919م 18 ربيع الأول سنة 1338 حادث اهتزت له أرجاء القاهرة، وأثار عاصفة من السخط والاستنكار في أنحاء البلاد، وهو اقتحام الجنود الإنجليزية للجامع الأزهر، لقد دخلوه بنعالهم وأسلحتهم مطاردين للمتظاهرين واعتدوا على من صادفوه بالضرب والإيذاء، فحدث هرج ومرج في الجامع واقتحم الجنود مكاتب الإدارة، وحاولوا كسر الأبواب ففزع الموظفون وحدثت ضجة داخل الجامع وخارجه..."(14)
* * *(11)
وإذا كانت الديانات السماوية، وكذلك القوانين الوضعية، عبر التاريخ الإنساني، قد تعارفت وتوافقت على احترام العهود وتقديس عقود الأمان وخاصة للأسرى الذين يعانون وطأة الهزيمة والاستضعاف فإن الغرب الاستعماري قد احترف نقض عهود الأمان التي قطعها للأسرى المسلمين.. وذبحهم، رغم ما أعطى لهم من عهود الأمان!!".
ففي الحروب الصليبية الغربية على الإسلام والمسلمين، رأينا ملكهم الذي يباهون به "ريتشارد قلب الأسد" (1189 1199م) بذبح ثلاثة آلاف جندي من أسرى المسلمين بعد أن قطع لهم عهد الأمان!.. وبشهادة وعبارة المستشرقة الألمانية الدكتورة "سيجريد هونكه":(11/342)
"فعلى العكس من المسلمين الذين شملوا أسرى الصليبيين بمروءتهم، وأسبغوا عليهم من الجود والرحمة ما صار مضرباً للمثل في التخلق بروح الفروسية العالية لم تعرف الفروسية النصرانية أي التزام خُلقي تجاه كلمة الشرف أو الأسرى، فالملك "ريتشارد قلب الأسد" الذي أقسم بشرفه لثلاثة آلاف أسير عربي أن حياتهم آمنة! إذ هو فجأة متقلب المزاج، فيأمر بذبحهم جميعاً"(15)!!!
وفي العصر الحديث، رأينا "بونابرت" (1769 1821) يقترف ذات الجريمة، جريمة الغدر بعهد الأمان الذي قطعه لأسرى معركة "يافا" (1214ه 1799م).. فلقد ذبح آلاف الجنود المسلمين الذين استسلموا، والذين أعطاهم عهد الأمان!!.. ولقد وصف المؤرخ الحجة عبدالرحمن الرافعي هذا الغدر، والانتهاك لقداسة عهود الأمان، فقال: نقلاً عن المؤخرين الفرنسيين:
"لقد وصل نابليون بجيشه تجاه يافا يوم 3 مارس 1799م، وكان الجيش العثماني بقيادة عبدالله باشا الجزار (1132 1219ه 1720 1804م) ممتنعاً بها، فحاصرها نابليون بجنوده واستولى عليها يوم 7 مارس، بعد معركة شديدة، قتل فيها من الجنود العثمانية 2000 قتيل، ودخل الفرنسيون المدينة، وأعملوا فيها السيف والنار.
لقد نهب الجنود الفرنسيون يافا وارتكبوا فيها من الفظائع ما تقشعر منه الأبدان باعتراف المؤرخين الفرنسيين واستمر النهب والقتل يومين متواليين، واضطر الجنرال "روبان" robin الذي عينه نابليون قائداً للمدينة أن يقتل بعض الجنود لإعادة النظام، فذهب جهده عبثاً، ولم ينقطع النهب إلا بعد أن كلَّ الجنود من الاعتداء وسفك الدماء!!.
ولم يكد ينقطع النهب لمدينة يافا، حتى أعقبته مأساة أخرى أشد هولاً وفظاعة، ذلك أنه بعد انتهاء المعركة ودخول الفرنسيين المدينة، كان بها من الجنود العثمانية نحو ثلاثة آلاف مقاتل، آثروا التسليم وإلقاء السلاح في يد الفرنسيين بشروط اتفقوا عليها مع اثنين من ياوران نابليون، وهما "بورها رنيه"bearha ranis و"كروازييه" Croisier... ومن هذه الشروط: أن تُضمن لهم أرواحهم بعد التسليم، وتعهد الياوران بذلك باسم القائد العام "نابليون" وتلقاهم الفرنسيون كأسرى حرب، ولكن نابليون، بعد أن فكر طويلاً في أسرهم، وتردد في شأنهم، أمر بإعدامهم جميعاً رمياً بالرصاص.. فسيق أولئك الأسرى إلى شاطئ البحر وأعدموا جميعاً رمياً بالرصاص"!!(16)
* * *(12)
وعندما احتلت فرنسا الجزائر (1346ه 1830م)... لم تنسها علمانيتها المتوحشة الحقد النصراني الصليبي على الإسلام والمسلمين، فاعتبرت انتصارها هذا انتصاراً للمسيحية على الإسلام!.. وسجل رفاعة الطهطاوي (1216 1290ه 1801 1873م) هذه الحقيقة وكان شاهد عيان عليها يومئذ بباريس فقال:
"إن المطران الكبير بباريس لما سمع بأخذ الجزائر، ودخل الملك "شارل العاشر (1824 1830م) الكنيسة يشكر الله على ذلك، جاء إليه المطران ليهنئه على هذه النصرة، فقال: إنه يحمد الله على كون الملة المسيحية انتصرت نصرة عظيمة على الملة الإسلامية ولا زالت كذلك"(17)!!
وعندما احتفل الفرنسيون العلمانيون بمرور مائة عام على احتلالهم للجزائر (1349ه 1930م) ماذا قالوا في الخطب والكلمات التي عبرت عن حقدهم الصليبي على الإسلام...؟ لقد خطب أحد كبار ساستهم فقال:
"إننا لن ننتصر على الجزائريين ماداموا يقرأون القرآن ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن من وجودهم، وأن نقتلع العربية من ألسنتهم"!!
وخطب سياسي آخر فقال:
"لا تظنوا أن هذه المهرجانات من أجل بلوغنا مائة سنة في هذا الوطن، فلقد أقام الرومان قبلنا فيه ثلاثة قرون، ومع ذلك خرجوا منه، ألا فلتعلموا أن مغزى هذه المهرجانات هو تشييع جنازة الإسلام بهذه الديار..."!!
وخطب أحد كرادلة الكنيسة الفرنسية، فقال:
"إن عهد الهلال في الجزائر قد غبر، وإن عهد الصليب قد بدأ، وإنه سيستمر إلى الأبد.. وإن علينا أن نجعل أرض الجزائر مهداً لدولة مسيحية مضاءة أرجاؤها بنور مدنية منبع وحيها الإنجيل..."!!
* * *(13)
وفي القرن الحادي والعشرين.. وبعد احتلال أمريكا للعراق سنة 2003م بواسطة تحالف صليبي غربي يضاهي الحملات الصليبية الأولى وجدنا رعاة البقر يتعمدون انتهاك كل حرمات المسلمين، مركزين على حرمتي "العرض" و"الدين".
صنعوا ذلك عندما انتهكوا مقدسات الأعراض للنساء والرجال ومقدسات العقائد في سجن "أبو غريب" وغيره من السجون على النحو الذي سجلت نماذجه الصور التي شاهدها الناس عبر الفضائيات والصحف والمجلات...
وصنعوا ذلك في مدينة "الفالوجة" العراقية في أكتوبر - نوفمبر سنة 2004م ففي مدينة تعدادها 300.000 ألف أي نحو ثلث مليون ومساحتها أربعة كيلومترات في الطول والعرض:
دمر الأمريكيون 40 مسجداً من جملة مساجدها السبعين!
وأجهزوا على الجرحى في المساجد.. ورأى الناس ذلك عبر الصور في الفضائيات!
ودنسوا ودمروا محتويات المساجد بما في ذلك المصاحف وكتب السنة النبوية المطهرة!(11/343)
كما استخدموا الأسلحة المحرمة دولياً مثل الفوسفور الأبيض.. والقنابل العنقودية ضد المدنيين الأبرياء، بمن فيهم الأطفال والنساء!!
وصنع الأمريكيون ذلك أيضاً في معتقل "جوانتانامو".. حيث دنسوا القرآن الكريم، ووضعوا صحائفه في المراحيض!! ليهينوا الأسرى والمعتقلين الذين يقدسون هذا القرآن الكريم!
وصنعوا ذلك ببغداد في يناير 2006م عندما اقتحم الجيش الأمريكي مسجد "أم القرى" مقر "هيئة علماء المسلمين" بالعراق... ودمروا ودنسوا المقدسات الإسلامية بما فيها القرآن الكريم... وكتب السنة النبوية الطهرة.. ثم رسموا الصليب على جدران هذا المسجد!!
* * *(14)
ولا يحسبن أحد أن هذه النماذج وهي مجرد نماذج من الوقائع والحقائق، قد كانت هي الذروة التي توقفت عندها الممارسات الغربية في انتهاك حرمات الإسلام ومقدساته.. فلقد رأينا من القادة والمسؤولين نعم القادة والمسؤولين من يتجاوزون إهانة رسول الإسلام.. والقرآن الكريم.. وغيرهما من الرموز والمقدسات إلى حيث الإهانة حتى للذات الإلهية!!
فوزير العدل نعم العدل!! الأمريكي السابق "جون أشكروفت" يهين رب العالمين، فيقول:
"إن المسيحية دين أرسل الرب فيه ابنه ليموت من أجل الناس، أما الإسلام، فهو دين يطلب الله فيه من الشخص إرسال ابنه ليموت من أجل هذا الإله"!(18)
والجنرال الأمريكي "ويليام. ج. بويكن" نائب وزير الدفاع الأمريكي يخطب في إحدى الكنائس وهو بزيه العسكري فيقول:
"إن إلهنا أكبر من إلههم.. إن إلهنا إله حقيقي، وإله المسلمين صنم.. وإنهم يكرهون الولايات المتحدة الأمريكية، لأنها أمة مسيحية - يهودية، وحربنا معهم هي حرب على الشيطان.. وإن دين الإسلام دين شيطاني شرير.. ومحمد هو الشيطان نفسه..."(19)!!
* * *الهوامش
(1) هوبرت هيركومر، جيرنوت روتر (صورة الإسلام في التراث الغربي) ص 23، 24، ترجمة: ثابت عيد، وتقديم: د.محمد عمارة. طبعة دار نهضة مصر القاهرة سنة 1999م، سلسلة "في التنوير الإسلامي".
(2) د. محمد عمارة (الإسلام في عيون غربية: بين افتراء الجهلاء وإنصاف العلماء) ص 64، طبعة دار الشروق القاهرة سنة 2005م.
(3) صورة الإسلام في التراث الغربي، ص 25، 26.
(4) المرجع السابق، ص 32، 33.
(5) المرجع السابق، ص 21.
(6) المرجع السابق، ص 24.
(7) جمال الدين الأفغاني (الأعمال الكاملة) ص 161، دراسة وتحقيق: د.محمد عمارة، طبعة القاهرة سنة 1968م.
(8) صورة الإسلام في التراث الغربي ص 21.
(9) من نصوص تحت الطبع، ترجمها الباحث ثابت عيد، مترجم (صورة الإسلام في التراث الغربي).
(10) المرجع السابق.
(11) د. صبري أبوالخير سليم (تاريخ مصر في العصر البيزنطي) ص 62، طبعة القاهرة، دار عين، سنة 2001م.
(12) الأسقف يوحنا النقيوسي (تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي: رؤية قبطية للفتح الإسلامي) ص 201، 202، 220، ترجمة ودراسة: د. عمر صابر عبدالجليل، طبعة القاهرة دار عين، 2001م.
(13) الجبرتي (مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس" ص 72، تحقيق: د. عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم. طبعة القاهرة، دار الكتب سنة 1998.
(14) عبدالرحمن الرافعي (ثورة سنة 1919م) ص 76 78، طبعة دار الشعب القاهرة.
(15) د. سيجريد هونكة (الله ليس كذلك) ص 34، طبعة دار الشروق، القاهرة سنة 1995م.
(16) عبدالرحمن الرافعي (تاريخ الحركة القومية) ج، ص 29، 30، طبعة القاهرة سنة 1958م.
(17) رفاعة الطهطاوي (الأعمال الكاملة) ج2، ص 219، دراسة وتحقيق: د. محمد عمارة، طبعة بيروت، سنة 1973م.
(18) صحيفة (الشرق الأوسط) لندن في 21-2-2002م.
(19) صحيفة (الحياة) لندن في 17-10-2003م، وصحيفة (الأهرام) القاهرة، في 18-10-2003م.
الغرب والإسلام .. افتراءات لها تاريخ (3) الإهانات الصهيونية لمقدسات الإسلام د.محمد عمارة
محمد عمارة ...
(15)
أما الإهانات الصهيونية لمقدسات الإسلام، فحدث عنها ولا حرج!..
لقد بدأت مع بداية جريمة إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين سنة 1948م، وذلك بهدم خمسمائة قرية فلسطينية وتدمير مساجدها.. وحتى مقابر الأموات فيها!!.. ثم استمرت هذه الإهانات لتأخذ الآن صورة تهويد مدينة الحرم القدسي الشريف.. وتهديد المسجد الأقصى، وذلك بالحفر تحت أساساته، وبناء متحف وكنيس يهودي أسفل ساحاته، والتجهيز لهدمه، وإقامة هيكل يهودي على أنقاضه!!
وبين هذا الذي بدأ سنة 1948م وهذا الذي يحدث اليوم، كان مسلسل الإهانات التي اقترفها المستوطنون الصهاينة المدعومون من أمريكا والغرب بحق القرآن الكريم تمزيقاً وتدنيساً وبحق المساجد بكتابة الشعارات المهينة للإسلام والمسلمين على جدرانها... وباغتصاب الجزء الأكبر من "الحرم الإبراهيمي" بمدينة الخليل... وحتى برسم رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم في صورة خنزير!!.
@@@
(16)(11/344)
ومع كل هذا الذي مثل ويمثل "مخزوناً لثقافة الكراهية السوداء"، تجاه الإسلام ومقدساته وأمته وحضارته.. نجدهم يصدعون رؤوسنا ومعهم العلمانيون والعملاء في بلادنا عن عيوب "الخطاب الإسلامي" وعن رفض المسلمين للآخر!.. وتعصبهم إزاء الآخرين!!.. ونجدهم يعتمدون الميزانيات، ويمارسون الضغوط لتغيير مناهج التعليم في البلاد الإسلامية، وذلك لتحويل الإسلام عن طبيعته وجعله كما قال "فوكوياما": "ديناً حداثياً.. ليبرالياً.. علمانياً.. يقبل المبدأ المسيحي: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله"!
لقد كتب الصحفي الأمريكي "توماس فريدمان" إبان الحرب الأمريكية على أفغانستان سنة 2001م يقول:
"إن الحرب الحقيقية في المنطقة الإسلامية هي في المدارس، لذلك يجب أن نفرغ من حملتنا العسكرية (على أفغانستان) بسرعة.. لنعود مسلحين بالكتب.. لينمو جيل جديد، يقبل سياساتنا، كما يقبل شطائرنا..."(1)
ولم يقل أحد بضرورة أن يبصر الغرب هذا القذى في عيونه الثقافية التي ينظر بها إلى الإسلام!
إن الأكاذيب والمغالطات والمفتريات ضد الإسلام في الكتب المدرسية الغربية التي تكون عقول الناشئة في البلاد الغربية قد ملأت صفحات ثمانية مجلدات أنجزها مشروع بحثي جاد، أشرف عليه البروفيسور عبدالجواد فلاتوري.. وطبعتها جامعة "كولن" بألمانيا في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن العشرين.. فلم لا يتحدث أحد عن ضرورة المراجعة لهذا "الخطاب التعليمي" المليء بالمفتريات ضد الإسلام والمسلمين؟!
وإن الغربيين الذين يناصبون الإسلام العداء.. يتحدثون عن الأصول "اليهودية المسيحية" لحضارتهم الغربية فلم لا ينظرون إلى العنصرية الدموية التي يطفح بها الخطاب اليهودي ضد جميع الأغيار.. ذلك الذي تحوله الفتاوى الحاخامية على أرض فلسطين إلى سياسات للإبادة.. والاغتيالات.. والتطهير العرقي.. والإحلال الاستيطاني على حساب العزل والأبرياء من الفلسطينيين؟!
ألم يقرأوا في أسفار العهد القديم:
"وكلم الرب موسى في عربات موآب على أردنّ أريحا قائلاً: كلم إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم.. تملكون الأرض وتسكنون فيها.. وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذين تستبقون منهم أشواكاً في أعينكم ومناخس في جوانبكم ويضايقونكم في الأرض التي أنتم ساكنون فيها، فيكون أني أفعل بكم كما هممت أن أفعل بهم.
سبع شعوب دفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم، فإنك تحرمهم "تهلكهم" لا تقطع لهم عهداً ولا تشفق عليهم.. ولا تصاهرهم.. لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك. إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض.. مباركاً تكون فوق جميع الشعوب.. وتأكل كل الشعوب الذين الرب إلهك يدفع إليك. لا تشفق عيناك عليهم..."(2)
ألم يقرأ أحد من هؤلاء الذين يبتزون المسلمين بالحديث عن عيوب خطابهم الديني نصوص هذه "العنصرية الدموية المقدسة"!! التي تحولت إلى فتاوى حاخامية معاصرة، يقول فيها الحاخام العقيد أ.فيدان "زيميل": "إن الهالاكاه "الشريعة" تحض على قتل حتى المدنيين الطيبين"!!(3)
ألم يبصر أحد شيئاً من هذا القذى الذي تطفح به عيون الغرب العنصري "الصليبي الصهيوني" تجاه الأغيار.. وتجاه الإسلام والمسلمين على وجه الخصوص؟!
@@@
(17)
ثم.. هل يمكن أن يدخل شيء من هذه الافتراءات والأكاذيب والعنصرية في باب "حرية التعبير"؟!
إن هذا الافتراء الغربي على الإسلام ورموزه ومقدساته سابق بقرون طوال على معرفة الغرب لحرية التعبير!
وهذه الفلسفة الوضعية العلمانية التي أسس عليها الغرب منذ عصر النهضة حريته في التعبير، إنما تقوم على "نسبية الفكر الإنساني".. ورفض "المطلقات".. فلم تكن حرية التعبير الخاصة بإهانة رموز الإسلام ومقدساته وهي موقف وفكر إنساني من "المطلقات"، التي لا تقبل النقاش؟!
ولم لا يستخدم الغرب كل الغرب هذه الحرية في التعبير عندما يكون الأمر خاصاً بنقد اليهود.. أو الصهيونية... أو حتى السياسات الاستعمارية الإسرائيلية؟!.. فهنا وهنا فقط ينسى الغرب حقه في حرية التعبير.. ويحول الممارسات اليهودية والصهيونية والإسرائيلية إلى "مطلقات معصومة" تتحول انتقاداتها إلى جرائم يعاقب عليها القانون؟!
ثم.. هل يجيز الغرب بحجة حرية التعبير إعلان المواطن الغربي كراهيته لوطنه، وازدراءه لرموزه، وافتراءه على تاريخه.. فضلاً عن حرية الخيانة لهذا الوطن؟!
ولم تكون حرية التعبير "مطلقة.. ومقدسة.. ولا يجوز النقاش فيها" عندما تكون خاصة بالافتراء على الإسلام ومقدسات المسلمين؟!.
@@@
(18)
لقد نهى الإسلام أهله حتى عن سب الأصنام التي يعبدها المشركون، وذلك صيانة للمعبود الحق عن سب الوثنيين.. فقال سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى" ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون (108) (الأنعام).(11/345)
ولقد آمن المسلمون ويؤمنون.. وصلوا ويصلون على كل أنبياء الله ورسله.. كما آمنوا وصدقوا بكل الكتب السماوية.. وليس فقط بالقرآن الكريم الذي جاء مصدقاً لما سبقه من مطلق الذكر والوحي والكتاب: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير 285 (البقرة).
ولا يكتمل إيمان المسلم إلا إذا اعترف بكل ألوان الآخرين.. وساوى بين كل الآخرين في الحقوق والواجبات.. إذ التكريم الإلهي في الإسلام هو لمطلق نفس الإنسانية، لأن البشر، على اختلاف الشعوب والقوميات والأجناس والألوان والثقافات والحضارات، هم من نفس واحدة، تنوعت توجهاتهم وتمايزت شرائعهم وثقافاتهم وحضاراتهم ليتعارفوا ويتعايشوا يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير 13 (الحجرات).
والمسلمون مطالبون في الدولة الإسلامية بتمكين غير المسلمين من إقامة عقائدهم التي تكفر بالإسلام! وتمكينهم من الأمن والأمان على سائر مقدساتهم وهكذا صنعت الدولة الإسلامية، منذ عهد النبوة وعلى امتداد التاريخ، فعاشت فيها جميع ألوان الشرائع والديانات السماوية والوضعية ولم يعرف تاريخ المسلمين حرباً دينية للإكراه على الاعتقاد.. وبنص العهد الذي قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعموم النصارى:
"أن أحمي جانبهم، وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان ومواطن السياح.. وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام من ملتي.. لأني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وعلى المسلمين ما عليهم.. حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم..."(4)
لكن غير المسلمين وخاصة في الحضارة الغربية ومؤسساتها الدينية والسياسية لا يعترفون بالآخر... أي آخر وخاصة إذا كان هذا الآخر هو الإسلام والمسلمين.
إن الحضارة الغربية بشهادة العلماء المنصفين من أبنائها تتمحور حول ذاتها، ولا تعترف بالآخرين... وبعبارة المستشرق الفرنسي "مكسيم رودنسون" (1915 2004م):
"فإن الظاهرة التي لعبت الدور الأكبر في تحديد طبيعة النظرة الأوروبية إلى الشرق.. هي التمركز حول الذات، وهي صفة طبيعية في الأوروبيين، كانت موجودة دائماً، ولكنها اتخذت الآن في ظل الإمبريالية الأوروبية صبغة تتسم بالازدراء الواضح للآخرين"(5)
أما عن إنكار المؤسسات الدينية الغربية للإسلام الذي يعترف بكل الكتب... والشرائع.. والديانات فيكفي أنها لا تزال حتى هذه اللحظات تنكر أن يكون الإسلام ديناً سماوياً.. وأن يكون القرآن وحياً إلهياً.. وأن يكون رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وهي بذلك الجحود والإنكار تؤسس لهذه الافتراءات التي توالت وتتوالى على الإسلام منذ ظهوره وحتى هذه اللحظات!
لقد عقد بالقاهرة في فندق "شيراتون المطار" مؤتمر للحوار الإسلامي المسيحي، في 28، 29 أكتوبر سنة 2001م.. ولما جاءت لحظة التوقيع على "البيان الختامي" ورأى فيه مندوب الفاتيكان القس خالد أكشه ومندوب مجلس الكنائس العالمي الدكتور طارق متري عبارة: "الديانات السماوية.. والقيم الربانية" رفضا التوقيع على البيان وقالا: إننا لا نعترف بالإسلام ديناً سماوياً.. ولا بالقيم الإسلامية قيماً ربانية!!
وساعتها تساءل الدكتور يوسف القرضاوي وكان مشاركاً في الحوار: عن جدوى الجلوس معاً.. مع عدم الاعتراف المتبادل، والقبول المتبادل؟!(6)
وهكذا.. وحتى هذه اللحظات.. يرفض الغرب الحضاري.. والديني الاعتراف بالآخر الإسلامي الذي يعترف بكل ألوان الآخرين...
تلك إشارات مجرد إشارات لبعض الوقائع والحقائق التاريخية الشاهدة على أن ما نواجهه نحن المسلمين من إهانات غربية موجهة إلى مقدسات الإسلام والمسلمين... ليست أحداثاً عارضة.. ولا منفردة.. ولا معزولة.. ولا حديثة الوقوع.. وأن القضية ليست رسماً "كاريكاتورياً" نشرته صحيفة "بولاندس بوستن" الدانماركية في 30 سبتمبر سنة 2005م.. وتناقلته عنها بعد ذلك، العديد من الصحف الأوروبية.. وطبعته على القمصان وارتدته دوائر صليبية!!.. وإنما نحن أمام موقف معاد لمقدسات الإسلام.. قديم.. وثابت.. وله تاريخ!
لكنهم ليسوا سواءً(11/346)
وإذا كنا قد أشرنا في بداية هذه الدراسة إلى أن الغرب ليس موقفاً واحداً.. وأن عداءه للإسلام ليس شاملاً.. وأن المشكلة هي مع مشروع الهيمنة الغربي، ومؤسساته الدينية.. والسياسية.. والإعلامية، وأن هناك من علماء الغرب ومفكريه من أنصفوا الإسلام إنصافاً متميزاً وممتازاً.. فيكفي، للبرهنة على هذه الحقيقة، أن نقدم ثلاث شهادات غربية.. أولاها تعترف بافتراء الغرب على الإسلام، وجحوده له وإنكاره إياه، وثانيتها تنصف القرآن الكريم، ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وهي ترد على افتراءات الغربيين.. وثالثتها تضع الإسلام في المكانة العليا التي لا تدانيها مكانة بين الديانات.
1 لقد كتب المستشرق الفرنسي الحجة "جاك بيرك" (1910 1995م) وهو أحد أعمدة الثقافة الفرنسية الأوروبية.. كتب يقول عن موقف الغرب من الإسلام:
"إن الإسلام" الذي هو آخر الديانات السماوية الثلاث، والذي يدين به أزيد من مليار نسمة في العالم، والذي هو قريب من الغرب جغرافياً، وتاريخياً، وحتى من ناحية القيم والمفاهيم.. قد ظل، ويظل حتى هذه الساعة، بالنسبة للغرب: ابن العم المجهول، والأخ المرفوض.. والمنكر الأبدي.. والمبعد الأبدي.. والمتهم الأبدي.. والمشتبه فيه الأبدي"!!(7)
2 وكتب العالم الإنجليزي "مونتجمري وات" وهو أحد أعمدة الثقافة الإنجليزية والأوروبية.. والذي أنفق من عمره أكثر من ثلث قرن في دراسة الإسلام كتب يقول عن صدق القرآن الكريم.. وصدق رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: رداً على افتراءات الأوروبيين:
"إن القرآن ليس بأي حال من الأحوال كلام محمد، ولا هو نتاج تفكيره، وإنما هو كلام الله وحده، وقصد به مخاطبة محمد ومعاصريه، ومن هنا فإن محمداً ليس أكثر من رسول اختاره الله لحمل هذه الرسالة، إلى أهل مكة أولاً، ثم لكل العرب، ومن هنا فهو قرآن عربي مبين.
إنني أعتقد أن القرآن، بمعنى من المعاني، صادر عن الله وبالتالي فهو وحي..
إننا نؤمن بصدق محمد وإخلاصه عندما يقول: إن كلمات الله ليست نتيجة أي تفكير واع منه.. وربما كانت الملامح الأساسية للوحي يمكن اختصارها في العناصر الثلاثة الآتية:
1 أن الكلمات المنزلة على محمد كانت تحضر في عقله الواعي.
2 وأن تفكيره الشخصي لم يكن له دور في ذلك.
3 وأن يقيناً جازماً كان يتملك فؤاده أن هذه الكلمات هي من عند الله.
لقد وجد محمد الكلمات، أو المحتوى الشفهي حاضراً في وعيه، فلما تمت كتابته شكَّل النص القرآني الذي بين أيدينا، وكان محمد واعياً تماماً بأنه لا دخل لتفكيره الواعي في هذه الرسالة القرآنية التي تصله، وبتعبير آخر فقد كان يعتقد أنه يمكنه أن يفصل بين هذه الرسالة القرآنية وبين تفكيره الواعي، الأمر الذي يعني أن القرآن لم يكن بأية حال من الأحوال نتاج تفكير محمد.. إنه لا ينبغي النظر إليه باعتباره نتاج عبقرية بشرية.
وفي الحوار مع الإسلام، يجب أن يتخلى المسيحيون عن فكرة أن محمداً لم يتلق وحياً، وعن الأفكار الشبيهة... وإذا لم يكن محمد هو الذي رتب القرآن بناء على وحي نزل عليه، فمن الصعب أن نتصور "زيد بن ثابت" (11 ق.ه 45ه 611 665م) أو أي مسلم آخر يقوم بهذا العمل.. ومن هنا فإن كثيراً من السور قد اتخذت شكلها الذي هي عليه منذ أيام محمد نفسه.. والقرآن كان يُسجل فور نزوله.
وعندما تحدى محمد أعداءه بأن يأتوا بسورة من مثل السور التي أوحيت إليه، كان من المفترض أنهم لن يستطيعوا مواجهة التحدي، لأن السور التي تلاها محمد هي من عند الله، وما كان لبشر أن يتحدى الله. وليس من شك في أنه ليس من قبيل الصدفة أيضاً أن كلمة "آية" تعني علامة على القدرة الإلهية، وتعني أيضاً فقرة من الوحي".(8)
3 أما المستشرقة الألمانية الدكتورة "سيجريد هونكة" فلقد كتبت تقول:
"إن الإسلام هو ولا شك أعظم ديانة على ظهر الأرض سماحة وإنصافاً. نقولها بلا تحيز، ودون أن نسمح للأحكام الظالمة أن تلطخه بالسواد، وإذا ما نحينا هذه المغالطات التاريخية الآثمة في حقه، والجهل البحت به، فإن علينا أن نتقبل هذا الشريك والصديق، مع ضمان حقه في أن يكون كما هو..."(9)
هكذا شهد ويشهد كثير من علماء الغرب، فينصفون الإسلام إنصافاً يجب أن يتعلم منه المسلمون.. ويتسلحوا به في الحوار مع المفترين من الغربيين على الإسلام!
وبعد...
إنها إذن معركة لها تاريخ..
وإذا كانت الجماهير تغضب عندما تُهان مقدساتها.. فإن هذا الغضب مع مشروعيته.. وأهميته.. بل ووجوبه ليس هو الحل.. وليس هو العلاج للمرض المستكن في الثقافة الغربية تجاه الإسلام.
وإنما الحل والعلاج لدى:(11/347)
1 النخبة الفكرية، التي يجب عليها أن "ترتب العقل الإسلامي".. وأن تقدم للإنسان الغربي مشروعاً فكرياً يعرفه بحقائق الإسلام الدين... والحضارة.. والتاريخ لتحرر عقل هذا الإنسان من مخزون ثقافة الكراهية السوداء الموروث والمستكن في التراث الغربي عن الإسلام ومقدسات المسلمين وليكن ذلك في صورة مشروع "ألف كتاب إسلامي" تعرف بحقيقة الإسلام، تترجم إلى مختلف اللغات الغربية الحية والمهمة.
وأيضاً من خلال الحوار الجاد مع مؤسسات العلم والفكر والتعليم والثقافة الغربية.. الحوار الذي يجب أن نعد له أهله القادرين عليه، والمخلصين له.. والذي يكشف للغرب من خلال حقائق الإسلام... وشهادات المنصفين من علماء الغرب عن الأكاذيب والأغاليط والأخطاء التي تراكمت في التراث الغربي والثقافة الغربية عن الإسلام والمسلمين... فبمنهاج: "وشهد شاهد من أهلها" نستطيع أن نفتح عيون الغربيين على حقائق الإسلام، وعلى الافتراءات الغربية التاريخية.. والحديثة.. والمعاصرة على الإسلام..
وبذلك وحده نحاصر الجهود المنظمة لمؤسسات الهيمنة الغربية في الافتراء على الإسلام.. ويكون العلاج "للمرض"... وليس الوقوف فقط عند "العَرَض".
2 ولدى النخبة الحاكمة في ديار الإسلام التي يجب عليها أن تسعى في الجمعية العامة للأمم المتحدة وللشعوب فيها أغلبية مضمونة لاستصدار قرار ملزم يوافق عليه مجلس الأمن الدولي باحترام جميع المقدسات الدينية، لكل الأديان التي تؤمن بها الأمم والشعوب.
كما يجب على هذه النخبة الحاكمة أن "ترتب البيت الإسلامي"... وذلك بتحرير ديار الإسلام من القواعد العسكرية الغربية التي تنتقص سيادتنا وحريتنا وكرامتنا.. وتحرير البحار والمحيطات في عالم الإسلام من الأساطيل الغربية.. وتحرير ثروات العالم الإسلامي من النهب الاستعماري الغربي.. فبدون "ترتيب البيت الإسلامي" وتعظيم إمكانات و"أوراق الضغط" التي تملكها الأمة الإسلامية لن يحترمنا الآخرون بأي حال من الأحوال.
@@@
تلك هي "المشكلة.. والداء".. وهذا هو "الحل والدواء"..
وصدق الله العظيم: ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون 113 يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين 114 وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين 115 (آل عمران)، إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى" جهنم يحشرون 36 (الأنفال)، ومن أظلم ممن افترى" على الله الكذب وهو يدعى" إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين (7) يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (8) هو الذي أرسل رسوله بالهدى" ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (9) (الصف). أنتهى
الهوامش
(1) صحيفة (وطني) في 25-11-2001م.
(2) سفر التثنية، إصحاح 23: 50 53، 55، 56. وإصحاح 7: 1 3، 14 16.
(3) إسرائيل شاحاك (الديانة اليهودية وموقفها من غير اليهود) ص 133، وما بعدها ترجمة حسن خضر. طبعة القاهرة دار سينا، سنة 1994م.
(4) (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة) ص 11 وما بعدها. تحقيق: د. محمد حميد الله الحيدرأبادي، طبعة القاهرة، سنة 1956م.
(5) د. محمد عمارة (الإسلام في عيون غربية: بين افتراء الجهلاء وإنصاف العلماء) ص 64، 65، طبعة دار الشروق، القاهرة، سنة 2005م.
(6) صحيفة (الأسبوع) القاهرة في 5 نوفمبر سنة 2001م، وصحيفة "عقيدتي" القاهرة في 6 نوفمبر سنة 2001، وصحيفة "العالم الإسلامي" مكة المكرمة، في 16 نوفمبر سنة 2001م.
(7) من حديث جاك بيرك في 27-6-1995م، مع حسونة المصباحي، حول "العرب والإسلام في نظر المستشرق الفرنسي جاك بيرك"، صحيفة (الشرق الأوسط) لندن في 1-11-2000م.
(8) مونتجمري وات (الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر) ص 35، 36، 106، 39، 206، 52 54، 71، 23، 61، 128، 63، 131، 83، ترجمة: د. عبدالرحمن عبدالله الشيخ، طبعة القاهرة مكتبة الأسرة سنة 2001م.
(9) سيجريد هونكه (الله ليس كذلك) ص 101.
======================
صورة الإسلام في الخطاب الغربي
صورة الإسلام في الخطاب الغربي
(1)
د.محمد عمارة(*
في الحديث عن "صورة الإسلام" وأمته وحضارته في الخطاب الغربي، لابد من التقديم بين يدي هذا الحديث بعدد من المقدمات:
أولاها: أننا لسنا بإزاء "صورة" واحدة، لأن الغرب ليس كتلة واحدة صماء، ومن ثم فإننا لسنا بإزاء خطاب غربي واحد فيما يتعلق بالإسلام.
وهذا الموقف الذي يميّز بين القوى والتيارات وألوان الخطاب، عن الإسلام، في الحضارة الغربية، ليس مجرد "ضرورة مصلحية" يقتضيها البحث عن الأصدقاء، لتجنب تكثير الأعداء، ولكن ضرورة مشروعة ومطلوبة، وهو موقف نابع من "العدل" الذي يعلمنا إياه ويفرضه علينا القرآن الكريم.(11/348)
ونحن نقول للذين يسطحون أيضاً القضايا العميقة، ويبسّطون الأمور المعقدة والمركبة، عندما يرددون عبارة: "إن الكفر ملة واحدة".. نقول لهم: ولكن الإسلام لا يضع كل عالم الكفر في سلة واحدة، ولا في مرتبة واحدة، وإنما ميَّز الإسلام بين المشركين وبين الكتابيين... بل إن الإسلام لم يضع المشركين جميعاً في سلة واحدة، وإنما ميّز بين المحاربين منهم والمعاهدين الذين لم ينقصوا المسلمين شيئاً من العهود التي تعاهدوا معهم عليها، فدعا إلى قتال المقاتلين من المشركين، ودعا إلى الوفاء بعهود المعاهدين منهم... بل ميّز الإسلام بين شرك الجاحد للحق الذي يعرفه وشرك الجاهل، فإذا استجار هذا المشرك الباحث عن المعرفة، فعلى المسلمين إجارته، وتقديم المعرفة إليه، ثم إيصاله آمناً إلى مأمنه، وتركه لضميره، دونما إكراه وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى" يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (6) (التوبة).
بل لقد ميَّز الإسلام بين الدهريين، الذين استبدلوا الدهر بالخالق، سبحانه وتعالى، وبين المشركين الذين لم يجحدوا وجود الخالق وخلقه للخلق، لكنهم أشركوا مع الخالق الوسائط التي زعموا أنها تقربهم إليه زلفى!... وتحدثت آيات القرآن الكريم عن هذا التنوع في أصناف المشركين، فصاغت المنهاج العلمي في دراسة الواقع، والموقف العادل في التعامل مع الآخرين.
وكذلك صنع المنهاج الإسلامي في التعامل مع الكتابيين، فميز بين اليهود الذين هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا وبين النصارى الذين هم أقرب مودة للمؤمنين ثم هو لم يضع جميع النصارى في سلة واحدة، وإنما ميَّز بين الموحدين منهم "الذين يتعبدون على شريعة عيسى عليه السلام، وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول { ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق... ميَّز الإسلام بين هؤلاء النصارى، وبين النصارى الذين عبدوا المسيح وأمه والأحبار والرهبان من دون الله، فوُصفوا في القرآن بصفات الكفر، بل وبالشرك أيضاً.
وكذلك صنع المنهاج القرآني مع فصائل ومذاهب اليهود... فمع حديثه عن عداوتهم الأشد للمؤمنين، نجد القرآن يبلغ قمة العدل عندما يقول إنهم ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون 113 يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين 114 وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين 115 (آل عمران)، بينما منهم الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على" لسان داوود وعيسى \بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون 78 كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون 79 (المائدة).
ويؤكد القرآن الكريم هذا المنهاج العادل في التعامل مع الآخر الكتابي عندما يستخدم التبعيض "من" للتمييز بين فرقائهم ومذاهبهم، فيقول: من أهل الكتاب (آل عمران:113)، وعندما يتحدث عن طائفة من أهل الكتاب (آل عمران:69)، أو كثير من أهل الكتاب (البقرة:109)، دونما إطلاق أو تعميم.
ومع اشتراك الفرس والروم يوم ظهر الإسلام في التجبر والظلم والهيمنة والاستعمار، وإعلان الإسلام عن سعيه لتحرير الأرض من استعمارهم وتحرير الضمائر من تجبرهم وإكراههم، إلا أن الإسلام لم يسوِّ بين هذين الطاغوتين الفرس والروم فميز القرآن بين الكتابيين منهم (الروم) وبين المجوس (الفرس) عندما تحدث عن حزن المسلمين لتغلب الفرس على الروم، وفرحهم يوم يأذن الله بانتصار الروم النصارى على الفرس المجوس: الجم" (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (5) (الروم).
صورة الإسلام في الخطاب الغربي
د.محمد عمارة
في إطار قوى التجبر والهيمنة هناك أيضاً فروق، لا يغفلها منهاج الإسلام في رؤية الآخرين، وفي العلاقات مع هؤلاء الآخرين.. ولقد ميَّز فقهاء الإسلام وفلاسفته انطلاقاً من هذا المنهاج القرآني ميَّزوا أصناف الكفر ودرجاته.. فهناك كفر جحود للحق الذي عرفه الجاحدون.. وهناك كفر جهل وتقصير.. وهناك كفر من بلغته الدعوة.. وكفر من لم تبلغه الدعوة.. أو بلغته مشوهة، ودون إقامة الحجة عليها وإزالة الشبهات عنها.. وفي ذلك يقول حجة الإسلام أبوحامد الغزالي (450 505ه - 1058 1111م): "إن أكثر نصارى الروم والترك في هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله تعالى، أعني الذين هم في أقاصي الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف:
صنف لم يبلغهم اسم محمد {، أصلاً، فهم معذورون.
وصنف بلغهم اسمه ونعته وما ظهر عليه من المعجزات، وهم المجاورون لبلاد الإسلام والمخالطون لهم، وهم الكفار الملحدون.(11/349)
وصنف ثالث بين الدرجتين، بلغهم اسم محمد {، ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضاً منذ الصبا أن كذاباً متلبساً اسمه محمداً ادعى النبوة، كما سمع صبياننا أن كذاباً يقال له المقفع(1) بعثه الله، تحدى بالنبوة كاذباً، فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول "الذين لم يبلغهم اسم الرسول"، فإنهم مع أنهم سمعوا اسمه، سمعوا ضد أوصافه، وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب".(2)
بل تحدث الفقهاء أيضاً، عن "كفر النعمة" الذي هو مغاير "لكفر الاعتقاد".. وقالوا بوجود "كفر دون كفر".. وبكفر "المقولة" دون كفر "القائل"، الذي قد يكون لديه تأويل حتى ولو كان فاسداً... فلم يضعوا كل ألوان الكفر في سلة واحدة، ولا في فسطاط واحد.. كما يصنع الذين يبسِّطون أمور التعامل مع الآخرين.
ولقد وضع علماء مدرسة الإحياء والتجديد الحديثة، في بلادنا، وقادة التحرر الوطني، الذين انطلقوا عن هذا المنهاج الإسلامي، لتحرير بلادنا من الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة... وضعوا هذا المنهاج الإسلامي الذي لا يضع كل الآخر في سلة واحدة في الممارسة والتطبيق، وهم يتعاملون مع الاستعمار الغربي لعالم الإسلام، ومع الخطاب الغربي الذي كان يمهد ويبرر لهذا الاستعمار.
فجمال الدين الأفغاني (1254 1314ه- 1838 1897م) تحدث عن هذا المنهاج في المقال الافتتاحي لمجلة "العروة الوثقى" التي صدرت (سنة 1300ه 1883م) لسان حال جمعية العروة الوثقى التي تكوَّنت عقودها وخلاياها في الشرق الإسلامي وذلك عندما تحدث عن تحالف هذه الجمعية مع الأحرار الأوروبيين في البلاد الاستعمارية ذاتها.. فقال: "ولما كانت بدايتهم تستدعي مساعدة من يضارعهم في مثل حالهم، رأوا أن يعقدوا الروابط الأكيدة مع الذين يتململون من مصابهم، ويحبون العدالة العامة، ويحامون عنها من أهل أوروبا"(3).
ولقد سارت الحركات الوطنية في بلادنا على هذا المنهاج.. فوجدنا مصطفى كامل باشا (1291 1326ه - 1874 1908م)، باعث الوطنية المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي، وداعية الجامعة الإسلامية، وزعيم الحزب الوطني يتحالف مع القوى الحرة والليبرالية في فرنسا، وأوروبا، بل ويراهن على التناقضات بين الاستعمار الفرنسي، والاستعمار الإنجليزي في جلب التأييد لإجلاء الإنجليز عن مصر.
وعلى درب مصطفى كامل باشا، سار خليفته في زعامة الحزب الوطني بمصر محمد بك فريد (1284 1338ه - 1868 1919م) الذي لم يكتف بالتحالف مع الدولة العثمانية، والحركات الوطنية الإسلامية، وإنما تحالف أيضاً مع الاشتراكيين الأوروبيين وشارك في المؤتمرات التي عقدوها، بل وراهن على التناقضات بين الألمان وبين الإنجليز في هذا الميدان.
وعلى الدرب نفسه سارت حركات التحرر الوطني المعاصرة في بلادنا، عندما استفاد كثير منها من التناقضات التي قامت إبان الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، سواء أكانت هذه الاستفادة في التسليح.. أم التصنيع.. أم في دعم قضايانا بالمحافل الدولية.
ذلك هو المنهاج الإسلامي في النظر إلى الآخر كل آخر وفي التعامل معه، ومع الخطاب الصادر عنه.. فالبلاغ القرآني القائل: ليسوا سواء هو عنوان المنهاج الإسلامي في هذا المقام.
الهوامش
(1) الإشارة إلى عبدالله بن المقفع (106 142ه 724 759م) كان في الأصل مجوسياً مزدكياً فأسلم، وألف وترجم في الفلسفة.. وقتل بتهمة الزندقة.
(2) (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) ص23 طبعة القاهرة سنة 1907م.
(3) (الأعمال الكاملة) ج2 ص342 دراسة وتحقيق: د.محمد عمارة. طبعة بيروت سنة 1981م.
صورة الإسلام في الخطاب الغربي
د.محمد عمارة
في الحديث عن صورة الإسلام في الخطاب الغربي.. أشرنا إلى المقدمة الأولى، التي تؤكد أن الغرب ليس واحداً... وأن خطابه من ثم ليس واحداً.(11/350)
أما المقدمة الثانية: فهي أن الخطاب الغربي عن الإسلام وأمته وحضارته، ليس مجرد "مقولات نظرية" أو تعبيرات عن صور ذهنية مجردة، وإنما هو بناء فكري مركب، نما عبر تاريخ الاحتكاك العنيف بين الغرب والشرق، لا ليقف عند أفكار المفكرين وكتابات الكاتبين ونظريات المنظِّرين، وإنما ليكون التبرير المسوّغ لهيمنة الغرب على الشرق، واحتلال أرضه، ونهب ما فيها من ثروات.. فهو خطاب تبريري لتسويغ ممارسات لا أخلاقية، تجسدها الإمبريالية والاستعمار في أرض الواقع.. وهذا الخطاب الغربي عن الإسلام وأمته وحضارته، تتوجه به الدوائر الاستعمارية الغربية إلى العقل الشرقي، لتغريب عقول شريحة من نخب مفكرينا ومثقفينا، الذين يتبنون هذه الصورة الغريبة عن الإسلام وحضارته، فيصبحون بيننا عملاء حضاريين للغرب، يبشرون بالتبعية للمركز الغربي.. على النحو الذي تحدث عنه جمال الدين الأفغاني عندما قال: "إن المقلدين لتمدن الأمم الأخرى ليسوا أرباب تلك العلوم التي ينقلونها... ولقد علمتنا التجارب أن المقلدين من كل أمة، المنتحلين أطوار غيرها، يكونون فيها منافذ لتطرق الأعداء إليها، وطلائع لجيوش الغالبين وأرباب الغارات، يمهدون لهم السبيل، ويفتحون لهم الأبواب، ثم يثبتون أقدامهم"(1).
كما يتوجه الغرب الاستعماري بهذه الصورة التي صنعها ويصنعها للإسلام وحضارته إلى شعوبه هو، كي يبرر أمامها سلوكه العدواني الاستعماري ضد الشعوب التي يستعمرها، وكي يخيف شعوبه من الإسلام، فيجرها إلى التضحية في معاركه الفكرية.. والقتالية ضد الإسلام وعالمه.
والآن.. وبعد نمو الوجود الإسلامي في المجتمعات الغربية بأوروبا.. وأمريكا.. وأستراليا غدا المسلمون في تلك البلاد يعانون معاناة مضاعفة من آثار ذلك الخطاب، حتى لقد أصبحوا محرومين من مميزات الليبرالية الغربية، وامتيازات الحريات والحقوق المدنية، وغدوا متهمين لمجرد أنهم مسلمون، ومحرومين من أبسط ثوابت وضوابط وشروط العدالة في المحاكمات أمام القضاء إذ يحاكمون ويدانون "بأدلة سرية" لا يعلمون عنها شيئاً!! بل وغدوا ضحايا اعتداءات وإيذاءات مادية ومعنوية، زادت في أمريكا بعد قارعة 11 سبتمبر سنة 2001م، أكثر من 1700% عما كانت عليه قبل هذه القارعة كما رصدت ذلك منظمات أمريكية لحقوق الإنسان(2).. حتى يوشك الخطاب الغربي، والممارسات الغربية أن تدخل المسلمين لمجرد أنهم مسلمون في دورة جديدة من دورات "محاكم التفتيش" التي نصبها الغرب للإسلام والمسلمين عقب سقوط "غرناطة"، واقتلاع الإسلام من الأندلس (897ه 1492م)!.
فنحن إذن بإزاء خطاب غربي عن الإسلام، له آثار كارثية في أرض الواقع.. ولسنا بإزاء مجرد أفكار نظرية وصور ذهنية سلبية عن الإسلام.
@@@
والمقدمة الثالثة: هي أن نزعة "المركزية الغربية"، التي لا تعترف بالآخر غير الغربي الديني منه والثقافي والحضاري بل ولا تعترف بالغربي الأبيض إذا كان مسلماً، كما هو حالها إزاء الأوروبيين المسلمين في ألبانيا والبوسنة والسنجق.. وكوسوفا.. ومقدونيا.. وتركيا... إن هذه "النزعة المركزية الغربية" تلعب دوراً محورياً وكبيراً في تراكم ثقافة هذا الخطاب الغربي عن الآخر الإسلامي، فعدم الاعتراف بالآخر فيه التبرير لإلغاء هذا الآخر!.. وحتى إذا كان هناك اعتراف بالآخر "كأمر واقع"، فإن عدم الاعتراف بشرعيته ومشروعيته وحقه في الوجود المتميز والمستقل، يذكي دائماً وأبداً السعي إلى إلغائه وطي صفحته من الوجود... فالغرب الليبرالي الرأسمالي ظل لأكثر من سبعين عاماً يعترف بالشمولية الشيوعية "كأمر واقع"، ولكنه لم يعترف أبداً بشرعيتها ومشروعيتها وحقها في الوجود المستقل والمتميز.. ولذلك، ظل موقفه الدائم منها موقف الساعي إلى إسقاطها وطي صفحتها من الوجود، وعندما تحقق له ذلك اعتبر هذا الانتصار "نهاية التاريخ"!.
ولقد لعبت هذه النزعة المركزية نزعة عدم الاعتراف بشرعية ومشروعية الوجود الحر والمستقل والمتميز للآخر لعبت الدور المحوري في التعبئة الفكرية والمادية لإلغاء وجود هذا الآخر، ولتبرير وراثة ما في حوزته من أوطان وثروات!!.(11/351)
بل لقد استعان الغرب في سبيل تأكيد "نزعته المركزية" هذه بالنظريات العلمية الزائفة، مثل "الداروينية"، التي زعمت أن الصراع هو قانون العلاقة بين الأحياء، وأن البقاء للأقوى، لأن الأقوى هو الأصلح... فانطلق الغرب الاستعماري من هذا الزيف لتبرير إلغائه لثقافات وحضارات الأمم والشعوب التي ابتليت باستعماره لبلادها، بحجة أنها الضعيفة، وأنه الأقوى... فلها الفناء، وله وحده ولحضارته البقاء!... وفي سبيل تكريس هذا الزيف الغربي، بلور الغرب علماً سماه "علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية" الخاص بدراسات "المجتمعات البدائية" التي هي في عرف الغرب المجتمعات غير الغربية.. فهي بدائية.. وهو المتقدم.. وهي الضعيفة.. وهو الأقوى.. فلها الإبادة، وله البقاء بحكم هذا الزيف الذي جعله الغرب "علماً"!!.. والذي توجه "بخطابه" إلى شعوبه.. وإلى شعوبنا أيضاً!.
الهوامش
(1) (الأعمال الكاملة) ص195 197، دراسة وتحقيق: د.محمد عمارة. طبعة القاهرة سنة 1998م.
(2) في التقرير السنوي لمكتب التحقيقات الفيدرالية بالولايات المتحدة الأمريكية أن الاعتداءات على المسلمين في أمريكا كانت سنة 2000م 28 حالة، وارتفعت سنة 2001م إلى 2000 جريمة، أي بنسبة 1600%، صحيفة "الأهرام" القاهرة: في 27-11-2002م... وفي تقرير المنظمة الأمريكية لحقوق الإنسان.
صورة الإسلام في الخطاب الغربي
د.محمد عمارة
إرادة الصمود
ونحن أمام هذا "الكابوس" بإزاء عدد من الخيارات:
أولها: خيار الاستسلام، يأساً وقنوطاً من روح الله ونصره.. وهو خيار بائس، ينسى أصحابه أننا لسنا بإزاء شيء جديد غير مسبوق في تاريخ الإسلام والمسلمين، وإنما أمام "دورة" من دورات التدافع والصراع، واجهت أمتنا أسوأ منها، وتعاملت مع ما هو أشد قسوة منها، فكان تاريخ الشرق الإسلامي، دائماً وأبداً، مقبرة الغزاة والإمبراطوريات.. من الرومان.. وحتى الإمبراطوريات الغربية الحديثة.
وذلك فضلاً عن أن هذا اليأس الذي لا يقرأ أهله ولا يعون سنن التاريخ يخرجهم والعياذ بالله من حظيرة الإيمان بحقيقة الإسلام: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون (87) (يوسف).
والخيار الثاني: هو خيار "العنف العشوائي"... وهو خيار يحرم قضايانا العادلة من أصدقاء كثيرين حتى في إطار الشعوب الغربية وتيارات الفكر الغربي... فضلاً عن أنه يسيء إلى حقيقة الجهاد الإسلامي... ناهيكم عن عدم جدواه أمام شراسة التحديات التي تواجهها أمتنا في هذا المنعطف من منعطفات المواجهة بين الفرعونية والقارونية الأمريكية وبين الإسلام... بل لربما أعطى هذا "العنف العشوائي" بعض الذرائع لهذه الفرعونية كي تستر بعضاً من مقاصدها الكالحة واستبدادها القبيح.
أما الخيار الثالث: فهو خيار المقاومة الإسلامية لهذه التحديات الغربية بالمعنى الشامل للمقاومة.
ونقطة البداية في هذه المقاومة هي "إرادة الصمود"، التي هي المعيار الحقيقي والفارق الجوهري بين النصر والهزيمة... فهناك أمم انكسرت إرادتها في الحروب والمواجهات، فلم يعوضها عن انكسار الإرادة وفرة أسباب القوة المادية كاليابان مثلاً وهناك حالات تتعاظم فيها إرادة الصمود كلما تعاظمت شراسة التحديات والحالة الإسلامية نموذج جيد لهذا النوع والحمد لله.
وبعد "إرادة الصمود" تلزمنا "الإدارة" التي ترمم وترتب "البيت العربي والإسلامي" في إطار الحد الأدنى الذي يعظِّم الإمكانات العقدية والفكرية والبشرية والمادية الهائلة التي تملكها أمتنا.
وهذا الاجتماع العربي الإسلامي على هذا الحد الأدنى من التضامن، ليس لمحاربة أمريكا والغرب.. فنحن لا نريد ذلك، ولا قِبل لإمكاناتنا بمثل ذلك.. وإنما نريد هذا الحد الأدنى من التضامن لتحسين أوراقنا ومواقع أقدامنا أمام هذه التحديات... ولتمكيننا من التدافع، الذي هو حراك يعدل الموازين، ويغير المواقف، ويحسِّن الأوضاع، ويزيل الخلل الفاحش، ويكثِّر الأصدقاء، ويقلل الأعداء، أو يحيد بعضهم، دون أن يبلغ حد الصراع والقتال: \دفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم 34 (فصلت).
إننا نريد المقاومة، بمعناها العام، والجهاد بمعناه الشامل... وليس القتال أو الحرب، بمعناهما الخاص... وصدق رسول الله {، إذ يقول: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاثبتوا، وأكثروا من ذكر الله" (رواه الدارمي).
وإن تحقيق الحد الأدنى من التضامن والتكامل والتكاتف والتساند بين دول وإمكانات العالم الإسلامي بدءاً ببعض الدول المحورية هو الإعداد والاستعداد الذي يحقق الردع للأعداء فلا يطمعون في أن يبلغ الغي والتجبر الحدود القصوى... وفي ذلك بداية التغيير لاتجاه الخط البياني في معادلة العلاقة بين الإسلام وأمته وحضارته وبين التحديات الشرسة التي فرضها ويفرضها علينا مشروع الهيمنة الغربية هذه الأيام.
@@@(11/352)
تلك هي جذور المواجهة التي تعيشها أمتنا الآن... وهذه هي حقيقة صورة الإسلام في الخطاب الغربي... وهذا هو المخرج من المأزق الذي يأخذ منا بالخناق... والذي تزيغ منه الأبصار. وتبلغ القلوب الحناجر.. ويزلزل الكثيرين منا زلزالاً شديداً.
وعلينا أن نتذكر دائماً وأبداً، أننا إذا قصرت بنا الهمم عن التأسي بصحابة رسول الله {، يوم الأحزاب فحرام أن تقصر بنا الهمم عن التأسي بالمماليك أمام التتار
الجدل بين "الواقع" و"الفكر"
صورة الإسلام في الخطاب الغربي(4)
النفي الغربي للإسلام
د.محمد عمارة
وفي الموقف الغربي من الآخر الإسلامي تنهض هذه "النزعة المركزية" بالدور المحوري في اختراع الصور الغربية عن الإسلام، وفي إذكاء روح العداء الغربي للحضارة الإسلامية، وفي التبرير لحروب الغرب الفكرية والقتالية ضد عالم الإسلام وأمته وحضارته.
وإذا كانت المواجهة التاريخية والحديثة والمعاصرة قائمة بين "المشروع الغربي" الذي ينفي "المشروع الإسلامي"، فإن هذا النفي الغربي للإسلام وحضارته، له جذور عميقة في تصورات الثقافة الغربية عن الإسلام، وهذه الجذور الرافضة والنافية للآخر الإسلامي حية وفاعلة بل ونامية حتى هذه اللحظات.
نجد ذلك في "المشروع الكنسي" الذي أعلن بلسان البروتستانت في "مؤتمر كولورادو" سنة 1978م ضرورة اختراق الإسلام لتنصير كل المسلمين!، كما أعلن هذا "المشروع الكنسي" بلسان الكاثوليك ضرورة أن تصبح إفريقيا نصرانية سنة 2000م، فلما خاب الرجاء غير الصالح، أجلوا التاريخ إلى سنة 2025م!.. وتعبر عن هذا "المشروع الكنسي" حتى فرنسا العلمانية بلسان رئيسها الأسبق "فاليري جيسكار ديستان" عندما أعلن استحالة قبول تركيا في الاتحاد الأوروبي، لأنها مسلمة، والاتحاد الأوروبي "نادٍ مسيحي"!.
أما "لسان" الغرب الأرثوذكسي، فلقد مارس هذا النفي للإسلام، بالمجازر والمقابر الجماعية، على أرض البلقان والشيشان.. كما تمارسه الصهيونية وهي امتداد غربي متحالفة مع الصليبية الغربية على أرض فلسطين!.
بل إن كنائس الغرب التي خانت نصرانيتها لا تستحي عندما تعلن هذا النفي للإسلام، حتى في المؤتمرات التي "تحاور" فيها رموز الإسلام، في عقر دار الإسلام!!.. ففي "مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي"، الذي عقد بالقاهرة بدعوة من "المنتدى العالمي للحوار" بجدة و"مؤتمر العالم الإسلامي" والذي انعقدت جلساته في فندق "شيراتون هليوبولس" في 28، 29 أكتوبر سنة 2001م رفض ممثل الفاتيكان، نائب الأمين العام للمجلس البابوي للحوار بين الأديان، القس "خالد أكاش"... وممثل "مجلس الكنائس العالمي" الدكتور "طارق متري".. رفضا التوقيع على البيان الختامي للمؤتمر، لأنه وضع الإسلام مع اليهودية والنصرانية، تحت وصف "الأديان السماوية الربانية"، وقالا: "إن وصف الإسلام كدين سماوي ورباني لا يزال محل خلاف لم يُحسم بعد"!!.
ولقد علق الدكتور يوسف القرضاوي وكان مشاركاً مع شيخ الأزهر في هذا المؤتمر على هذا الموقف فقال: "إنني أستغرب من توجس بعض رجال الدين المسيحي من وصف الإسلام بالربانية والسماوية، وإذا كان الفاتيكان والكنائس العالمية لاتعترف بالإسلام كدين سماوي فلماذا نجتمع إذن؟! وإذا لم يقرر رجال الدين المسيحي والفاتيكان بأن الإسلام دين رباني فلا داعي للقاء والحوار..."(1).
إنهم يعترفون بالإسلام "كأمر واقع"، ويصنفونه ضمن "الديانات الوضعية"، غير السماوية وغير الربانية، وذلك لتبرير السعي الكنسي الدائب والدائم لتنصير المسلمين، وطي صفحة الإسلام من الوجود انطلاقاً من "النزعة المركزية" التي لا تعترف بالآخرين... فتسعى إلى إلغائهم، بضمير مستريح!.
كذلك نجد هذا النفي للآخر، والرفض لمشروعية وجوده المتميز والمستقل، في "المشروع الحضاري" الغربي، الذي لا يعترف بالتعددية الحضارية العالمية.. وإن اعترف بالحضارات غير العربية "كأمر واقع" فهو يسعى بالتغريب وعولمة نموذجه الحضاري إلى إلغاء هذه التعددية الحضارية، والانفراد الغربي بالعالم كله.. وفي سبيل ذلك يستخدم "نزعة صدام الحضارات.. وصراع الثقافات" كحتمية مزعومة لتبرير سيادة هذه النزعة المركزية على النطاق العالمي.
وفيما يتعلق بالنفي الغربي للإسلام على وجه الخصوص يكفي أن نشير إلى كلمات المستشرق الفرنسي "جاك بيرك" (1910 1995م) التي يقول فيها: "إن الإسلام، الذي هو آخر الديانات السماوية الثلاث، والذي يدين به أكثر من مليار نسمة في العالم، والذي هو قريب من الغرب جغرافياً، وتاريخياً، وحتى من ناحية القيم والمفاهيم.. قد ظل، ويظل حتى هذه الساعة، بالنسبة للغرب: ابن العم المجهول، والأخ المرفوض.. والمنكور الأبدي.. والمبعد الأبدي.. والمتهم الأبدي.. والمشتبه فيه الأبدي"(2).(11/353)
لقد قال "جاك بيرك" هذا الكلام، المعبر وهو الخبير في الثقافة الغربية وفي الإسلام معاً عن نفي الغرب للإسلام وحضارته وأمته، كموقف ثابت ودائم.. وقدَّم هذه الصورة للإسلام في الثقافة الغربية والحضارة الغربية والممارسات الغربية، قبل "قارعة سبتمبر سنة 2001" بسبع سنوات!... وكأنه كان يصف "طوفان" ثقافة الكراهية السوداء التي انهالت على الإسلام وأمته وحضارته عقب سبتمبر سنة 2001م!.
فنحن أمام موقف ثابت ودائم من قبل المشروع الكنسي الغربي.. والمشروع السياسي والحضاري الغربي.. وهو موقف ينفي الآخر الإسلامي، ليبرر العدوان الاستعماري والهيمنة الحضارية على عالم الإسلام.
الهوامش
(1) صحيفة "الأسبوع" القاهرة في 5-11-2001م، وصحيفة "العالم الإسلامي" مكة في 16-11-2001م، وصحيفة "عقيدتي" القاهرة في 6-11-2001م.
(2) من حديث جال بيرك في 27-6-1995م. انظر: حسونة المصباحي "العرب والإسلام في نظر المستشرق الفرنسي جاك بيرك"، صحيفة "الشرق الأوسط" لندن في 1-11-2000م.
صورة الإسلام في الخطاب الغربي(5)
د.محمد عمارة
إن "الجدل" بين "الواقع" و"الفكر" هو حقيقة علمية، لا تنفرد بها بعض الفلسفات الاجتماعية الغربية.. بل لقد سبق الإسلام إلى تقرير هذه الحقيقة فيما عرفناه من العلاقة بين آيات القرآن الكريم "ومناسبات" نزولها.. والعلاقة، بين الأحاديث النبوية و"أسباب ورود" هذه الأحاديث.. وهذا "الجدل" بين "الواقع" و"الفكر" هو مما تكاد تلمسه العقول في الدراسات الاجتماعية لنشأة الأفكار وتطورها.
ولقد كان "واقع" الاستعمار الغربي للشرق منبعاً أصيلاً لكثير من الصور الزائفة التي صنعها الغرب للشرق وهي الصور التي عادت لتزكي ولتبرر، في المخيلة الغربية، نزعة الاستعمار والاستعلاء والاحتواء والاستغلال.
ولأن تاريخ الاستعمار الغربي للشرق سابق على ظهور الإسلام، فلقد صنع الغرب الروماني والبيزنطي للنصرانية المصرية والشرقية، ولثقافة الشرق وحضارته الصور الزائفة التي بررت القهر والاضطهاد والإبادة التي مارسها الرومان والبيزنطيون عشرة قرون ضد الشرق والشرقيين من "الإسكندر الأكبر" (356 323ق م) في القرن الرابع قبل الميلاد وحتى "هرقل" (610 641م) في القرن السابع للميلاد.
ولأن الإسلام هو الذي حرر بفتوحاته أرض الشرق من الاستعمار والاستغلال الروماني البيزنطي، وحرر ضمائر الشرقيين من الاضطهاد والقهر الديني والحضاري، فلقد بدأت الصورة الغربية المعادية للإسلام وحضارته وأمته ودولته وعالمه تتبلور في الثقافة الغربية الدينية.. والمدنية منذ ذلك التاريخ.. لقد كانت الحضارة الشرقية، بنصرانيتها اليعقوبية، هي "العدو البربري الهمجي" بنظر الرومان البيزنطيين .. فلما أصبحت الحضارة الشرقية إسلامية، أصبحت هي العدو الجديد، الذي حلت صورته محل صورة العدو القديم.. تماماً كما صنع الإعلام الغربي عقب سقوط الشيوعية في العقد الأخير من القرن العشرين ورسخ أن الإسلام هو العدو الذي حل محل إمبراطورية الشر الشيوعية!.
لقد بدأ العداء الغربي للإسلام منذ ظهور الإسلام وتحريره الشرق والشرقيين من هيمنة الرومان.. وفي هذا المقام يقول الكاتب والقائد الإنجليزي "جلوب باشا" (1897 1986م) كلمته التي توقظ النيام!:
"إن تاريخ مشكلة الشرق الأوسط إنما يعود إلى القرن السابع للميلاد"!!.
ومنذ ذلك التاريخ توالت محاولات الغرب إعادة اختطاف الشرق من الإسلام:
فكانت الموجة الاستعمارية الصليبية، التي دامت قرنين (489 690ه 1096 1291م) والتي شارك فيها الغرب كله، بقيادة الكنيسة الكاثوليكية، وتحويل المدن التجارية الأوروبية وسيوف أمراء الإقطاع الأوروبيين.. ولقد انتهت هذه الموجة بالهزيمة على يد الفروسية الإسلامية، التي اقتلعت قلاعها، وهدمت حصونها، وأزالت كل آثارها.
ثم جاءت الموجة التترية زاحفة على الشرق الإسلامي، بدعوة من الصليبيين الأوروبيين الذين تحالفوا مع الوثنية التترية ضد التوحيد الإسلامي!... ولقد هددت هذه الموجة التترية التي كان يقود جيوشها نصارى نساطرة! هددت الوجود الإسلامي ذاته.. ثم كانت هزيمتها الساحقة على يدي الفروسية الإسلامية في "عين جالوت" (658ه 1260م).. ثم انتهت بانتصار الإسلام في عقول وقلوب التتار، فدخلوا الإسلام، وتحولوا إلى سيوف في معارك هذا الدين!..
ومنذ سقوط "غرناطة" (897ه 1492م) ونجاح الصليبية الأوروبية في اقتلاع الإسلام وحضارته المشرقة وثقافته السمحة من الأندلس، بدأت مرحلة جديدة في هذه الحرب الغربية على الإسلام وأمته وحضارته وعالمه... بدأت مرحلة الالتفاف حول العالم الإسلامي مرحلة التطويق مروراً بسواحل إفريقيا الغربية والجنوبية.. ووصولاً إلى الأطراف الإسلامية في الجنوب الشرقي لآسيا الفلبين.. والهند.. وإندونيسيا .. وذلك تمهيداً لضرب قلب العالم الإسلامي الوطن العربي بحملة "بونابرت" (1769 1821م) على مصر (1213ه 1798م).(11/354)
وإبان هذه المرحلة مرحلة الغزوة الاستعمارية الحديثة تميز التحدي الغربي عن الحقبة الصليبية الأولى بالغزو الفكري، المصاحب لاحتلال الأرض ونهب الثروات... أي بصناعة الصورة الغربية للإسلام وحضارته وأمته، تلك الصورة التي نمت مكوناتها لتزكي وتبرر للغرب نفي الآخر الإسلامي، ولتشحن الشعوب الأوروبية بالعداء للإسلام، حفزاً لها على مواصلة الغزو والاحتلال لبلاد الإسلام.
وخلال هذه القرون من طمع الغرب باستعادة الشرق من الإسلام تبلور الخطاب الغربي حول الشرق، على النحو الذي يخدم تحقيق هذه الاستراتيجية الاستعمارية الغربية.. وهو خطاب متنوع ومتكامل في ذات الوقت.. متنوع بتنوع الدوائر الصادر منها.. ومتكامل لتحقيق هذه الاستراتيجية الغربية الواحدة.. ومتنوع كذلك بتنوع الجمهور الذي يتوجه إليه هذا الخطاب الإسلامي.
صورة الإسلام في الخطاب الغربي(6)
اختطاف الشرق من الإسلام
د.محمد عمارة
ذكرنا في ختام المقال السابق، أن الخطاب الغربي حول الشرق تنوع بسبب عدة عوامل، منها تنوع الجمهور الذي يتوجه إليه ذلك الخطاب، ونفصل ذلك كالآتي:
1 الغرب الكنسي اللاهوتي، له خطاب ديني يسعى به إلى تنصير المسلمين.. وحتى الدوائر العلمانية في النظم السياسية الغربية بما فيها العلمانية الفرنسية المتطرفة تدعم هذا المشروع الكنسي التنصيري وخطابه اللاهوتي، لأنه يصب في النهاية في تحقيق استراتيجية إلحاق الشرق بالغرب، وهيمنة الحضارة الغربية المسيحية بمعنى من المعاني على حضارة الإسلام.. ومن هنا كان دعم حكومات فرنسا العلمانية لمدارس الإرساليات التنصيرية في المشرق العربي لأنها وفق عبارة قناصل الحكومة الفرنسية "تستهدف جعل سورية (أي الشام الكبير) حليفاً أكثر أهمية من مستعمرة! وتأمين هيمنة فرنسا على منطقة خصبة ومنتجة! وتحويل الموارنة إلى جيش متفان لفرنسا في كل وقت!... وجعل البربرية العربية "كذا" تنحني لا إرادياً أمام الحضارة المسيحية لأوروبا"!!(1).
فالهدف الاستراتيجي، الذي يجتمع عليه الغرب الاستعماري الكنسي منه والسياسي هو إعادة اختطاف الشرق من الإسلام، والتوسل إلى ذلك بتشويه صورة الإسلام، أو طي صفحة وجود هذا الإسلام!
2 والغرب السياسي القائد لهذه المواجهة بعد إزاحة الكنيسة عن مركز القيادة له خطاب سياسي وثقافي وحضاري، يسعى إلى تغريب الشرق، واحتلال عقل النخب من أبنائه، لتأييد احتلال الأرض ونهب الثروات عندما يصبح الغرب ونموذجه الحضاري والقيمي هو قبلة عقول هذه النخب من المفكرين والمثقفين.
ومع توجيه هذا الخطاب الغربي الثقافي منه واللاهوتي في الأساس... إلى عقول المسلمين الشرقيين.. فلقد توجهوا به كذلك إلى الرأي العام الغربي، لإقناعه بضرورته، ولكسب تأييده لمراميه.. ولإشراكه في الإنفاق عليه، والنهوض بتبعاته، والحرب في سبيله.
وإذا كان طمع الغرب الاستعماري السياسي والكنسي قد شمل العالم كله، وليس فقط عالم الإسلام، فلقد تميَّز الخطاب الغربي للعالم الإسلامي عن خطابه للحضارات غير الإسلامية، بسبب تميز الإسلام ودوره في هذه المواجهة التاريخية بين الغرب والإسلام... فالإسلام ليس مجرد حضارة متميزة عن الحضارة الغربية كما هو الحال مع الحضارات الأخرى: الصينية والهندية واليابانية وإنما هو مع هذا التميز حضارة عالمية، وليست محلية كتلك الحضارات، ومن ثم فهو المنافس الأول والأخطر للحضارة الغربية على النطاق العالمي، بل وفي عقر دار الحضارة الغربية ذاتها!
ومن هنا كان إحياء الغرب وإنعاشه لذاكرة شعوبه بذكريات:
الفتوحات الإسلامية الأولى التي حررت الشرق من هيمنة الغرب في القرن السابع الميلادي بعد عشرة قرون من القهر الحضاري، الإغريقي والروماني.. والبيزنطي للشرق..
وذكريات الوجود الإسلامي في الأندلس الذي استمر ثمانية قرون (92 897ه 711 1492م) وهو الوجود الذي كاد يدخل جنوب أوروبا ووسطها في دائرة الإسلام، لولا الهزيمة الإسلامية في معركة "بلاط الشهداء" (114ه 732م).
وذكريات الهزيمة الصليبية أمام الفروسية الإسلامية، وفشل الحملات الصليبية في إعادة اختطاف الشرق والقدس من الإسلام، رغم استمرار هذه الحملات قرنين من الزمان (489 690ه 1096 1291م).
وذكريات المطاردة العثمانية للتحدي الأوروبي على أرضه... وفيها تم فتح القسطنطينية (857ه 1453م)، ثم أوغلت هذه المطاردة على أرض البلقان.. حتى وصلت إلى أسوار "فيينا" في (935ه 1529م) وفي (1094ه 1683م).
وذكريات السيطرة الإسلامية على البحار الكبرى للكرة الأرضية الأبيض والأحمر والعرب.. والأسود لأكثر من عشرة قرون، كان المسلمون فيها هم "العالم الأول" على ظهر هذا الكوكب.
كان المشروع الغربي السياسي منه والكنسي حريصاً دائماً وأبداً، على إنعاش ذاكرة الشعوب الغربية بذكريات و"خطر العالمية الإسلامية"، على استراتيجيته، وذلك لتأجيج حماس تلك الشعوب في معركة الغرب لاستعادة الشرق مرة أخرى من الإسلام.(11/355)
وفي كل مفردات هذا الخطاب الغربي اللاهوتي منه والسياسي والثقافي والتعليمي والإعلامي كان الغرب حريصاً على توجيه أمضى أسلحته وأخطرها إلى الإسلام الدين والثقافة والحضارة باعتباره النموذج الذي يحرر الشرق من الرومان ومن الصليبيين، والطاقة المقاومة لكل محاولات هيمنة الغرب على الشرق من جديد.
الهوامش
(1) من مراسلات القناصل أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية باريس سنوات 1840 1842 1848 1897 1898م. انظر كتابنا: (هل الإسلام هو الحل؟) ص22 طبعة القاهرة سنة 1995م.
صورة الإسلام في الخطاب الغربي(7)
ثقافة الكراهية .. الأصول والجذور
د.محمد عمارة
أثمرت تراكمات مفردات الخطاب الغربي، الخاص بالشرق الإسلامي، أثمرت مخزوناً من "ثقافة الكراهية السوداء"، التي شاعت وترسبت، بل وتكلَّست، في كثير من ميادين الثقافة واللاهوت والتعليم والإعلام بأوروبا وأمريكا.. وهو المخزون الداعم للمشاريع الغربية لاستعمار الشرق، والذي تطفح به منابر الثقافة والإعلام والتنصير الغربية إبان الأزمات الحادة في علاقة الغرب بالإسلام، على النحو الذي رأيناه ونراه بعد "قارعة 11 سبتمبر 2001م" في الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي هذا الميدان يستطيع العقل المسلم أن يتابع ويعي دلالات المواقف والأفكار، التي غدت مكونات أساسية في ثقافة الخطاب الغربي حول الإسلام والحضارة الإسلامية ... وهي مواقف وأفكار رصدها وانتقدها علماء غربيون منصفون.. وذلك من مثل:
تصوير نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ، باعتباره المنشق الكاثوليكي الأكبر، الذي اختطف الشرق من الغرب الروماني، ومن الكاثوليكية!!.. وكما يقول المفكر الألماني "هوبرت هيركومر" في دراسته عن "صورة الإسلام في الأدب الوسيط" : "فإن الأوروبيين ادَّعوا أن رسول الإسلام كان في الأصل كاردينالاً كاثوليكياً، تجاهلته الكنيسة في انتخابات البابا، فقام بتأسيس طائفة ملحدة في الشرق، انتقاماً من الكنيسة، واعتبرت أوروبا المسيحية في القرون الوسطى محمداً المرتد الأكبر عن المسيحية الذي يتحمل وزر انقسام نصف البشرية عن الديانة المسيحية"(1)!!
وتصوير الكاثوليكية الأوروبية بلسان فيلسوفها الأكبر "توما الأكويني" (1225 1274م) رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بأنه "الذي أغوى الشعوب من خلال وعوده الشهوانية... وقام بتحريف جميع الأدلة الواردة في التوراة والأناجيل من خلال الأساطير والخرافات التي كان يتلوها على أصحابه، ولم يؤمن برسالة محمد إلا المتوحشون من البشر، الذين كانوا يعيشون في البادية..."(2)!!
وتصوير البروتستانتية الأوروبية بلسان رائدها الأول "مارتن لوثر" (1483 1546م) للقرآن الكريم "بأنه كتاب بغيض وفظيع وملعون، ومليء بالأكاذيب والخرافات والفظائع"... وحديثه عن أن "إزعاج محمد، والإضرار بالمسلمين، يجب أن تكون هي المقاصد من وراء ترجمة القرآن، وتعرف المسيحيين عليه!"، وأن "على القساوسة أن يخطبوا أمام الشعب عن فظائع محمد، حتى يزداد المسيحيون عداوة له، وأيضاً ليقوى إيمانهم بالمسيحية، ولتتضاعف جسارتهم وبسالتهم في الحرب ضد الأتراك المسلمين، وليضحوا بأموالهم وأنفسهم" في هذه الحروب!!(3).
وتصوير الغرب للمسلمين في الثقافة الشعبية الأوروبية، ومن خلال الملاحم الشعبية، مثل "ملحمة رولاند" سنة 1100م، بأنهم "الجنس الحيواني الحقير.. والكلاب والخنازير"!!.. وأنهم "يعبدون أصنام الثالوث: "أبوللين" Apollin، و"تيرفاجانت" Tervagant و"حوميت محمد" Mahamet!!(4).
وهي الأوصاف المزيفة والكاذبة، التي لا تزال تجترها حتى الآن "أفلام هوليود"، والأعمال "الأدبية" التي يفوز أصحابها بجوائز "نوبل" في هذه الأعوام!!
ووضع "دانتي" (1295 1321م) صاحب "الكوميديا الإلهية" رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه "في الحفرة التاسعة في ثامن حلقة من حلقات جهنم، وقد قطعت أجسامهم وشوهت في دار السعير، لأنهم كانوا في الحياة الدنيا "بكذبه وافترائه" أهل شجار وشقاق"!!(5).
وحديث "جوته" (1749 1832م) عن القرآن الكريم، باعتباره "الكتاب الذي يكرر نفسه تكرارات لا تنتهي فيثير اشمئزازنا دائماً، كلما شرعنا في قراءته"!!
وحديث المستشرق الألماني "تيودور نولدكه" (1836 1930م) في كتابه "من تاريخ القرآن" عن "لغة القرآن المتراخية والركيكة .. وتكراراته التي لا تنتهي، والتي لا يستحي الرسول من استخدام الكلمات نفسها فيها... والبراهين التي تعوزها الدقة والوضوح، والتي لا تقنع إلا المؤمنين من البداية بالعاقبة النهائية. والقصص التي لا تقدم إلا قليلاً من التنوع، والتي كثيراً ما تجعل آيات الوحي أقرب إلى الملل والسآمة.. فأسلوب القرآن فيه عيوب كثيرة، عيوب غير موجودة في القصائد العربية القديمة ولا في أخبار العرب.. وأفكاره ضحلة، وساذجة، وبدائية"!!(11/356)
أما "توماس كارليل" (1795 1881م) الذي تحدث عن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، حديثاً إيجابياً، حتى جعله كزعيم مصلح، وليس كنبي ورسول أول العظماء المائة فإنه هو القائل: "محمد شيء، والقرآن شيء آخر مختلف تماماً.. ولا يوجد شيء غير الشعور بالواجب يمكن أن يحمل أي أوروبي على قراءة القرآن... إإنه خليط طويل، وممل ومشوش.. جاف.. وغليظ.. باختصار، هو غباء لا يحتمل"(6).
هذه هي صورة الإسلام.. وقرآنه.. ورسوله.. وصورة المسلمين وحضارتهم، التي شاعت في الثقافة الغربية، وفي الخطاب الغربي عن الشرق الإسلامي، منذ ظهور الإسلام، وحتى العصر الحديث... والتي كوَّنت الأصول والجذور لثقافة الكراهية السوداء، التي تستكين حيناً، وتطفو أحياناً، إبان الأزمات بين الغرب والإسلام.
حدث هذا ويحدث، بينما يؤمن المسلمون ويقدسون كل الكتب والشرائع والنبوات والرسالات، ولا يفرقون بين أحد من رسل الله، ويتلون آيات القرآن التي تقول عن التوراة والإنجيل إن فيهما هدى ونوراً!
الهوامش
(1) (صورة الإسلام في التراث الغربي) ص23، 24، ترجمة: ثابت عيد، طبعة القاهرة سنة 1999م.
(2) المرجع السابق: ص 32، 33.(3) المرجع السابق: ص21.
(4) المرجع السابق: ص18، 25. (5) المرجع السابق: ص24.
(6) ترجم هذه النصوص عن الألمانية: ثابت عيد، ضمن ملف تحت الطبع عن "تقييمات غربية لأسلوب القرآن".
(* كاتب ومفكر إسلامي مصر
صورة الإسلام في الخطاب الغربي(8)
تجريد الإسلام من خصوصياته
&&د.محمد عمارة&&
كاتب ومفكر إسلامي مصر
سعت الغزوة الاستعمارية الأوروبية الحديثة كي تؤبد احتلالها لعالم الإسلام، ونهبها لثرواته إلى تجريد الإسلام من شموله للدنيا مع الآخرة، ومن مرجعيته للدولة والسياسة والاجتماع مع منظومة القيم والأخلاق الحاكمة لسلوك الأفراد... سعت إلى فك الارتباط بين شريعته الإلهية وحركة الواقع في المجتمعات الإسلامية التي استعمرتها هذه الغزوة، وذلك لتُلحق هذا الواقع بالقانون الوضعي الغربي العلماني، حتى لا يبقى للإسلام إلا ملكوت السماء والغيب والدار الآخرة كما هو حال النصرانية المهزومة أمام العلمانية الغربية وسعت هذه الغزوة الاستعمارية كذلك إلى فك الارتباط بين الإسلام والعربية لغة القرآن الكريم وذلك لتغريب اللسان، مع تغريب الفقه والقانون... وكان خطاب الاستعمار الفرنسي في هذا الميدان نموذجياً، فلقد أعلن فلاسفته ومنظروه:
"أن الأسلحة الفرنسية هي التي فتحت البلاد العربية، وهذا يخوِّلنا اختيار التشريع الذي يجب تطبيقه في هذه البلاد!... ويجب فصل الدين الإسلامي عن القانون المدني... وحصر الإسلام في الاعتقاد وحده "والحيلولة دون اندماج العادات والأعراف في الشرع الإسلامي، ليتيسر دمجها في القانون الفرنسي بدلاً من القانون الإسلامي"!
"كذلك يجب الفصل بين الإسلام والاستعراب.. فالعربية هي رائد الإسلام، لأنها تُعلَّم من القرآن، وإذا سادت الفرنسية بدلاً من العربية، وأصبحت لغة التفاهم، فلن يهمنا كثيراً أن تضم الديانة الإسلامية الشعب كله، أو أن آيات من القرآن يتلوها رجال بلغة لا يفهمونها، كما يقيم الكاثوليك القداديس باللغات اللاتينية والإغريقية والعبرانية"!!(1).
فالمطلوب في خطاب الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة تجريد الإسلام من خصوصياته ومقومات تميزه عن النموذج الحضاري الغربي، وذلك بتغريب الفقه والقانون بالعلمانية بعد تغريب الواقع، لعزل الشريعة عن الحياة... وتغريب اللسان في بلاد الإسلام، لعزل القرآن عن الحياة، وإلحاق المسلمين بالثقافة الغربية، ومنظومة قيمها.
والدارس لواقع بلاد المغرب العربي تونس والجزائر والمغرب حتى بعد ما يقرب من نصف قرن من الاستقلال السياسي يدرك حجم الكارثة التي أحدثها "التغريب الفرنكفوني" في ميادين اللغة والثقافة والتعليم والإعلام، بل والقيم أيضاً، حتى هذه اللحظات.
فالنخبة الفرنكفونية المتغربة تسيطر على ميادين الفكر والثقافة والإعلام.
والصحافة الفرنكفونية الناطقة بالفرنسية تمثل الحجم الأكبر والأهم في الميدان الصحفي.
وطغيان الفرنسية في ميدان التربية والتعليم ظاهر للعيان.
وحركة النشر وسوق الكتاب تغالب فيه الفرنسية العربية فتغلبها.
وحتى النزعات العنصرية التي تريد إحلال البربرية الأمازيغية محل العربية، ما هي إلا ستار لإحلال الفرنسية ومن ثمَّ الفكر الفرنكفوني محل الهوية العربية والإسلامية.
بل لقد بلغت كارثة التبعية والتغريب والاستلاب الحضاري في تلك البقعة العزيزة على أرض الإسلام وأمته إلى الحد الذي زادت فيه معدلات التغريب والفرنكفونية في عهد "الاستقلال" عنه في عهد الاحتلال والمقاومة الوطنية لهذا الاحتلال!!.(11/357)
ويكفي أن نعلم أن الفرنسية هي لغة التخاطب والتعامل، ليس فقط في إدارات الشركات والمؤسسات، وإنما أيضاً في مداولات ودوائر الحكم ومجالس الوزارات! الأمر الذي يجعل من أوليات تيار الإسلام والعروبة.. الجهاد لتحرير العقل العربي والمسلم من هذا الاحتلال!
الهوامش
(1) محمد السماك (الأقليات بين العروبة والإسلام) ص57 59، طبعة بيروت سنة 1990م.
صورة الإسلام في الخطاب الغربي(9)
الخطاب التنصيري يكشف حقيقة حوار الأديان
د.محمد عمارة
لم تكن مقاصد الخطاب الغربي خطاب الهيمنة الموجه إلى العالم الإسلامي المعاصر، بأفضل كثيراً من خطاب الغزوة الاستعمارية في العصر الحديث... بل ربما كان الأمر أسوأ في كثير من مفردات هذا الخطاب..
فالخطاب الكنسي اللاهوتي، الذي طمح بل وطمع إلى تنصير كل المسلمين، قد تحدث عن الإسلام في وثائق "مؤتمر كولواردو سنة 1978م" فقال:
"إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي تناقض مصادره الأصلية أسس النصرانية.. والنظام الإسلامي هو أكثر النظم الدينية المتناسقة اجتماعياً وسياسياً... ونحن بحاجة إلى مئات المراكز، لفهم الإسلام، ولاختراقه في صدق ودهاء! ولذلك، لا يوجد لدينا أمر أكثر أهمية وأولوية من موضوع تنصير المسلمين.
لقد وطدنا العزم على العمل بالاعتماد المتبادل مع كل النصارى والكنائس الموجودة في العالم الإسلامي... إن نصارى البروتستانت في الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا منهمكون بصورة عميقة في عملية تنصير المسلمين.. وعلى المواطنين النصارى في البلدان الإسلامية وإرساليات التنصير الأجنبية العمل معاً، بروح تامة، من أجل الاعتماد المتبادل والتعاون المشترك لتنصير المسلمين.. إذ يجب أن يتم كسب المسلمين عن طريق منصرين مقبولين من داخل مجتمعاتهم.. ويفضّل النصارى العرب في عملية التنصير. إن تنصير هذه البلاد سوف يتم من خلال النصارى المنتمين إلى الكنيسة المحلية، ويتم ذلك بعد تكوين جالية محلية نصرانية قوية"(1).
وبعد هذا التخطيط لاختراق الإسلام في "صدق.. ودهاء!" تحدث قساوسة وبروتوكولات التنصير هذه عن ضرورة صناعة الكوارث في بلاد الإسلام، لإحداث الخلل في توازن وضحايا هذه الكوارث، باعتبار ذلك هو الشرط الضروري لتحول هؤلاء الضحايا من الإسلام إلى النصرانية!.. معتبرين ذلك "نعمة" كبرى و"معجزة" تهيئ لهم تنصير المسلمين!! فقالوا: "لكي يكون هناك تحول إلى النصرانية، فلابد من وجود أزمات ومشكلات وعوامل تدفع الناس أفراداً وجماعات خارج حالة التوازن التي اعتادوها!.. وقد تأتي هذه الأمور على شكل عوامل طبيعية، كالفقر والمرض والكوارث والحروب، وقد تكون معنوية، كالتفرقة العنصرية، أو الوضع الاجتماعي المتدني.. وفي غياب مثل هذه الأوضاع المهيئة فلن تكون هناك تحولات كبيرة إلى النصرانية!"(2).
ولقد كشف هذا الخطاب التنصيري عن "المقاصد الحقيقية من وراء ما يسمونه "الحوار بين الأديان" فإذا بهذه المقاصد هي التمهيد للتحول القسري نعم القسري إلى النصرانية.. وبنص عباراتهم يقولون: "إن بيانات مجلس الكنائس العالمي، التي تشدد على "حرية الإقناع والاقتناع" لا تلزم المجلس!!.. فالحوار.. عند مجلس الكنائس العالمي.. ليس بديلاً عن تحويل غير النصارى إلى النصرانية.. وهذه البيانات عن "حرية الإقناع والاقتناع" لاتعني تخلي المجلس عن مواقفه المناصرة "للجهود القسرية والواعية والمتعمدة والتكتيكية لجذب الناس من مجتمع ديني ما إلى آخر.."؟!(3).
وإذا كان هذا هو الخطاب الكنسي البروتستانتي، إزاء الإسلام والمسلمين، فإن خطاب الكاثوليكية الغربية يقطر، هو الآخر، بالعداء للإسلام.
فالمونسنيور "جوزيبي برنارديني" يصرح بحضرة بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني في 1999م فيقول: "إن العالم الإسلامي سبق أن بدأ يبسط سيطرته بفضل دولارات النفط.. وهو يبني المساجد والمراكز الثقافية للمسلمين المهاجرين في الدول المسيحية، بما في ذلك روما عاصمة المسيحية، فكيف يمكننا ألا نرى في ذلك برنامجاً واضحاً للتوسع، وفتحاً جديداً"؟!(4).
وفي نفس التاريخ، يتحدث الكاردينال "بول بوباز" مساعد بابا الفاتيكان.. ومسؤول المجلس الفاتيكاني للثقافة إلى صحيفة "الفيجارو" الفرنسية، فيقول: "إن الإسلام يشكل تحدياً بالنسبة لأوروبا وللغرب عموماً.. وإن المرء لا يحتاج إلى أن يكون خبيراً ضليعاً لكي يلاحظ تفاوتاً متزايداً بين معدلات النمو السكاني في أنحاء معينة من العالم، ففي البلدان ذات الثقافة المسيحية يتراجع النمو السكاني بشكل تدريجي، بينما يحدث العكس في البلدان الإسلامية النامية.
إن التحدي الذي يشكله الإسلام يكمن في أنه دين وثقافة، ومجتمع وأسلوب حياة وتفكير وتصرف، في حين أن المسيحيين في أوروبا يميلون إلى تهميش الكنيسة أمام المجتمع، ويتناسون الصيام الذي يفرضه عليهم دينهم، وفي الوقت نفسه ينبهرون بصيام المسلمين في شهر رمضان"(5).(11/358)
ويمضي هذا الخطاب الكنسي الكاثوليكي ليرفض التعايش بين الإسلام والمسيحية في أوروبا.. فيقول الكاردينال "جاكومو بيفي" أسقف مدينة "بولونيا" بإيطاليا في رسالته يوم 13-9-2000م داعياً إلى استئصال المسلمين من أوروبا: "فإما أن تتحول أوروبا إلى مسيحية فوراً، وإلا ستكون إسلامية مؤكداً"(6)!
هذا هو الخطاب الكنسي الغربي إزاء الإسلام، وتلك هي صورة الإسلام في هذا الخطاب البروتستانتي منه والكاثوليكي في الواقع المعاصر الذي نعيش فيه.. والسابق على "قارعة سبتمبر لسنة 2001م" التي ألمت بأمريكا.
الهوامش
(1) (التنصير: خطة لغزو العالم الإسلامي) الترجمة العربية لوثائق مؤتمر كولورادو ص452، 22، 23، 789. 79، 53، 56، 4، 5، 627، 630، 383، 845. طبعة مركز دراسات العالم الإسلامي... مالطا سنة 1991م.
(2) المصدر السابق، ص 242، 827، 287، 469، 364، 147.(3) المصدر السابق، ص 770.
(4) صحيفة "الشرق الأوسط" في 13-10-1999م.
(5) صحيفة "الشرق الأوسط" في 1-10-1999م.
(6) صحيفة "العالم الإسلامي" في 6-10-2000م.
صورة الإسلام في الخطاب الغربي(10)
دعوة نيكسون لمواجهة الصحوة
د.محمد عمارة
أما خطاب المشروع السياسي والحضاري الغربي المعاصر إزاء الإسلام، فلقد بدأته أمريكا عقب الحرب العالمية الثانية عندما ورثت الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة: الإنجليزية والفرنسية بمحاولة "استغلال" الإسلام في حربها الباردة ضد الشيوعية.. وبعبارات الشهيد سيد قطب (1324 1386 ه- 1906 1966م): "إن الإسلام الذي يريده الأمريكان، وحلفاؤهم في الشرق، ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان، ولكنه فقط الإسلام الذي يقاوم الشيوعية، إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم، ولا يطيقون من الإسلام أن يحكم، لأن الإسلام حين يحكم سينشئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن طرد المستعمر فريضة، وأن الشيوعية كالاستعمار وباء، فكلاهما عدو، وكلاهما اعتداء.. الأمريكان وحلفاؤهم إذن يريدون للشرق إسلاماً أمريكانياً يجوز أن يستفتى في منع الحمل، ويجوز أن يستفتى في دخول المرأة البرلمان، ويجوز أن يستفتى في نواقض الوضوء، ولكنه لا يستفتى أبداً في أوضاعنا الاجتماعية أو الاقتصادية أو نظامنا المالي، ولا يُستفتى أبداً في أوضاعنا السياسية والقومية، وفيما يربطنا بالاستعمار من صلات، فالحكم بالإسلام، والتشريع بالإسلام، والانتصار للإسلام لايجوز أن يمسها قلم، ولا حديث، ولا استفتاء.."(1) في الإسلام الأمريكاني!
هذا هو نوع "الإسلام الأمريكاني" الذي أرادت أمريكا "استغلاله" في حربها الباردة ضد الشيوعية كما استغلت النصرانية أيضاً. وأنشأت، لذلك، "مجلس الكنائس العالمي" في ذات التاريخ..
فلما تعاظم مد اليقظة الإسلامية في سبعينيات القرن العشرين عقب سقوط نماذج التحديث على النمط الغربي.. اتخذت أمريكا ومن ورائها الغرب من الإسلام المجاهد.. إسلام اليقظة والصحوة عدواً، حتى قبل "قارعة سبتمبر عام 2001م" وحتى عندما كانت كل الحركات الإسلامية التي يسمونها "أصولية ومتطرفة" تقف مع أمريكا في خندق واحد إبان الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفيتي والشيوعية في ثمانينيات القرن العشرين!.
وفي ذلك التاريخ، كتب الرئيس الأمريكي "ريتشارد نيكسون" وهو مفكر استراتيجي عن هذه اليقظة الإسلامية، التي يقودها من أسماهم "الأصوليون الإسلاميون" الذين هم كما يقول "مصممون على استرجاع الحضارة الإسلامية السابقة عن طريق بعث الماضي، ويهدفون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وينادون بأن الإسلام دين ودولة، وعلى الرغم من أنهم ينظرون إلى الماضي فإنهم يتخذون منه هداية للمستقبل، فهم ليسوا محافظين، ولكنهم ثوار"!!
ودعا "نيكسون" إلى اتحاد الغرب الأمريكي والأوروبي.. والروسي لمواجهة هذا البعث الإسلامي، وإلى: "تحديد الخيار الذي تختاره الشعوب المسلمة"!! ليكون "نموذج تركيا العلمانية المنحازة نحو الغرب والساعية إلى ربط المسلمين بالغرب سياسياً واقتصادياً.. وذلك حفاظاً على مصالح الغرب في الشرق.. لأن أكثر ما يهمنا في الشرق الأوسط هو النفط وإسرائيل.. وإن التزامنا نحو إسرائيل عميق جداً، فنحن لسنا مجرد حلفاء، ولكننا مرتبطون ببعضنا بأكثر مما يعنيه الورق، نحن مرتبطون معهم ارتباطاً أخلاقياً.. ولن يستطيع أي رئيس أمريكي أو كونجرس أن يسمح بتدمير إسرائيل"!(11/359)
ولقد أفصح "نيكسون" عن الموقف الأمريكي والغربي الذي اتخذ الإسلام والمسلمين عدواً، عندما قال: "إن الكثيرين من الأمريكيين قد أصبحوا ينظرون إلى كل المسلمين كأعداء.. ويتصور كثير من الأمريكيين أن المسلمين هم شعوب غير متحضرة، ودمويون، وغير منطقيين.. وليس هناك صورة أسوأ من هذه الصورة حتى بالنسبة للصين الشيوعية.. في ذهن وضمير المواطن الأمريكي عن العالم الإسلامي.. ويحذر بعض المراقبين من أن الإسلام والغرب متضامنان.. وأن الإسلام سوف يصبح قوة جيبوليتيكية متطرفة.. وأنه مع التزايد السكاني والإمكانات المادية المتاحة، سوف يؤلف المسلمون أخطاراً كبيرة.. وأنهم يوحدون صفوفهم للقيام بثورة ضد الغرب.. وسوف يضطر الغرب إلى أن يتحد مع موسكو ليواجه الخطر العدواني للعالم الإسلامي"(2)!!
تلك هي صورة الإسلام في الخطاب الاستراتيجي الأمريكي والغربي في ثمانينيات القرن العشرين.. إبان "شهر العسل" بين أمريكا والغرب من ناحية، وكل الحركات الإسلامية. والدول الإسلامية من ناحية أخرى إبان الجهاد المشترك ضد الشيوعية في أفغانستان.. وقبل "قارعة سبتمبر 2001" بنحو خمسة عشر عاماً!
الهوامش
(1) من كتاب (أمريكا من الداخل) والنقل عن: د.جابر قميحة "سيد قطب والإسلام الأمريكاني" صحيفة "آفاق عربية" القاهرة في 27-12-2001م والدكتور جابر ينقل عن مجلة "الرسالة" سنة 1951م.
(2) ريتشارد نيكسون: (الفرصة السانحة) ص28، 140، 141، 152، 153، 135، 138، 139، ترجمة: أحمد صدقي مراد. طبعة القاهرة سنة 1992م.
صورة الإسلام في الخطاب الغربي(12)
حرب المشروع الغربي
د.محمد عمارة
إذا كان استعراض وقائع هذا الطوفان بل البركان الذي تفجرت حممه في وجه الإسلام وأمته وحضارته وعالمه: سلاحاً يقتل.. وحصاراً يخنق.. وحملات نفسية وفكرية وثقافية ودينية وإعلامية.. وتهديداً ووعيداً إذا كان استعراض وقائع هذا الطوفان والبركان يحتاج إلى دراسة مطولة ومتخصصة (1).. فإننا نختار نماذج شاهدة على أن هذه الحرب التي أعلنها الغرب على الإسلام تحت اسم "الأصولية الإسلامية" أو "الراديكالية الإسلامية" أو "الإرهاب الإسلامي" وفي بعض الأحيان على الإسلام وقرآنه ورسوله صلى الله عليه وسلم مباشرة وفي صراحة ووقاحة إنما هي حرب المشروع الغربي السياسي والحضاري والكنسي وليست مجرد تعصب كاتب هنا أو حماقة أديب هناك.. نختار نماذج شاهدة من كلمات القيادات المسؤولة، المعبرة عن أركان النظام الأمريكي والغربي، ومشروع الهيمنة الذي يعلنون عنه الآن عندما يكتبون ويقولون: إن القرن الواحد والعشرين إنما هو قرن الإمبريالية الأمريكية والإمبراطورية الأمريكية دونما منافس أو شريك!!
إنها حرب معلنة وليست مؤامرة سرية تدبر في الخفاء على "الإسلام المقاوم" لمشروع الهيمنة الأمريكي - الغربي وليست حرباً على الإسلام الذي يقف عند الشعائر والعبادات، وتقصير الثياب، وإطالة اللحى، وفقه الغناء والموسيقى والدخان والتصوير!... ولا الإسلام الذي يغرق في بحار الدروشات والشعوذات والخرافات!
وهذا الإسلام المقاوم للهيمنة هو الذي يسمونه "الأصولية الثورية".. وتعريفهم لها حتى لا يخدعنا مخادع قد حدده الرئيس الأمريكي الأسبق ورجل الاستراتيجية "ريتشارد نيكسون" عندما وصف هؤلاء الأصوليين الإسلاميين الثوار بأنهم "هم المصممون على:
استرجاع الحضارة الإسلامية السابقة عن طريق بعث الماضي.
والذين يهدفون إلى تطبيق الشريعة الإسلامية..
وينادون بأن الإسلام دين ودولة..
وعلى الرغم من أنهم ينظرون إلى الماضي، فإنهم يتخذون منه هداية للمستقبل، فهم ليسوا محافظين، ولكنهم ثوار"(2).
وإذا كانت هذه هي "الأصولية الإسلامية الثورية"، التي أعلنت أمريكا والغرب الحرب عليها ، عقب "قارعة سبتمبر"، فإنها هي بعينها الإسلام الشامل والمقاوم لمشروع الهيمنة الأمريكي - الغربي.. وهي البعث الإسلامي، على وجه الدقة والتحديد... وليست "جماعات العنف العشوائي" بحال من الأحوال.
وإذا نحن تجاوزنا مجاراةً لبعض الناس عن دلالات وصف الرئيس الأمريكي "بوش الصغير" هذه الحرب بأنها "حملة صليبية".. وقبلنا تجاوزاً ما يقوله هؤلاء من أن هذه العبارة هي "زلة لسان"! فإننا نقدم هنا نماذج "للتصريحات الحيثيات" الصادرة من أعمدة السياسة والإدارة والفكر الإستراتيجي، للمشروع الأمريكي والغربي، والتي تشهد على أن هذه الحرب إنما هي معلنة ضد الإسلام، أو داخل الإسلام... والإسلام المقاوم للهيمنة على وجه الخصوص والتحديد.(11/360)
فوزير العدل نعم العدل! الأمريكي "جون أشكروفت"، لم يكتف بالحديث عن حرب الحضارة ضد البربرية، والخير ضد الشر، والمدنية ضد التخلف كما صنع آخرون وإنما ذهب ليتفوق على غلاة القساوسة المنصِّرين، فسب إله العالمين، الذي يؤمن به مليار ونصف المليار من المسلمين... فقال: "إن المسيحية دين أرسل الرب فيه ابنه ليموت من أجل الناس، أما الإسلام فهو دين يطلب الله فيه من الشخص إرسال ابنه ليموت من أجل هذا الإله"!(3).
والسيناتور الأمريكي "جوزيف ليبرمان" الذي كان مرشحاً ديمقراطياً لمنصب نائب الرئيس في الانتخابات الأمريكية سنة 2000م يعلن: "أنه لا حل مع الدول العربية والإسلامية إلا أن تفرض عليها أمريكا القيم والنظم والسياسات التي نراها ضرورية... فالشعارات التي أعلنتها أمريكا عند استقلالها لا تنتهي عند الحدود الأمريكية بل تتعدادها إلى الدول الأخرى"(4).
الهوامش
(1) انظر دراستنا عن "الهجمة الأمريكية على الإسلام" بكتابنا "في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام" طبعة القاهرة، سنة 2003م.
(2) "الفرصة السانحة" ص 140.
(3) صحيفة "الشرق الأوسط" في 21-2-2002م.
(4) صحيفة "الأهرام" في 16-1-2002م.
صورة الإسلام في الخطاب الغربي(13)
قوارع الحادي عشر من سبتمبر
د.محمد عمارة
وتتوالى بعد قارعة سبتمبر سنة 2001م الهجمات الأمريكية والغربية على الإسلام..
فوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة "مادلين أولبرايت" تعلن: "إننا معشر الأمريكيين أمة ترتفع قامتها فوق جميع الشعوب، وتمتد رؤيتها أبعد من جميع الشعوب"(1)!.. فتتحدث إلى الشعوب الإسلامية بلغة النازية التي سبق وعانت منها!
الزعيم "الديني السياسي" "بات روبرتسون" مؤسس جماعة التحالف السياسي المسيحي التي تسيطر على الكونجرس الأمريكي، والحزب الجمهوري، والإدارة الأمريكية وهو مرشح أسبق للرئاسة الأمريكية، والأب الروحي للرئيس "بوش الصغير" الذي ولد بوش على يديه ولادته المسيحية الجديدة، بعد انحرافه الذي استمر من التاسعة والثلاثين... يعلن "بات روبرتسون": "أن الدين الإسلامي دعا إلى العنف... وأنه بالنظر إلى المعنى الحقيقي لآيات قرآنية، فإن أسامة بن لادن أكثر وفاءً لدينه الإسلامي من آخرين.. وأن أمريكا بحاجة إلى إنذار ضد خطر المسلمين الذين يكرهون أمريكا ويحاولون تدمير إسرائيل.. وإننا في هذه الحرب إنما نعلي كلمة الله الذي يقف معنا، مع الحق في هذا الصراع الديني الذي نخوضه، ويحيطنا بعنايته"!(2).
والمستشرق الأمريكي الصهيوني "برنارد لويس" وهو من أعمدة المشيرين على صانع القرار الأمريكي يقول، في كتابه الذي أصدره بعد "قارعة سبتمبر" بعنوان "ما هو الخطأ في العلاقة بين الإسلام والغرب؟": "إن إرهاب اليوم هو جزء من كفاح طويل بين الإسلام والغرب.. فالنظام الأخلاقي الذي يستند إليه الإسلام مختلف عما هو في الحضارة اليهودية المسيحية "الغربية" وآيات القرآن تصدق على ممارسة العنف ضد غير المسلمين... وهذه الحرب هي حرب بين الأديان"(3).
و"توني بلير" رئيس وزراء إنجلترا، يعلن في 17 سبتمبر سنة 2001م أي بعد ستة أيام من "قارعة سبتمبر" أن هذه الحرب التي أعلنها الغرب على الإسلام "هي حرب المدنية والحضارة "في الغرب" ضد البربرية "في الشرق"!!
"أما "مارجريت تاتشر" رئيسة وزراء إنجلترا الأسبق، فإنها تكتب عن "تحدي الإرهاب الإسلامي الفريد، الذي لا يقف عند أسامة بن لادن، بل يشمل حتى الذين أدانوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر على أمريكا والذين انتقدوا بشدة أسامة بن لادن وطالبان"، ولكنهم "يرفضون القيم الغربية، وتتعارض مصالحهم مع مصالح الغرب"... فالذين يرفضون القيم الغربية وتتعارض مصالحهم مع المصالح الغربية تصفهم "تاتشر" بأنهم "أعداء أمريكا وأعداؤنا"، وتشبههم بالشيوعية، وتدعو الغرب إلى معاملتهم كما عامل الشيوعية"!(4).
رئيس وزراء إيطاليا "سيلفيو بيرلسكوني" يعلن في 29 سبتمبر سنة 2001م أن الحضارة الغربية أرقى من الحضارة الإسلامية.. ولابد من انتصار الحضارة الغربية على الإسلام، الذي يجب أن يُهزم، لأنه لا يعرف الحرية والتعددية ولا حقوق الإنسان.. وأن الغرب سيواصل تعميم حضارته، وفرض نفسه على الشعوب.. وأنه قد نجح حتى الآن في تعميم حضارته وفرض نفسه على العالم الشيوعي وقسم من العالم الإسلامي"(5).
وغير أعمدة النظم والسياسة والإدارة في أمريكا وإنجلترا وإيطاليا، نجد وزير الداخلية في ألمانيا "أوتوشيلي"، يبلغ الحد الذي يصف فيه "عقيدة الإسلام بأنها هرطقة وضلال"(6).(11/361)