إن الله عز وجل فرض الحجاب على المرأة محافظة على عفة الرجال الذين قد تقع أبصارهم عليها، وليس حفاظًا على عفتها من الأعين التي تراها فقط، ولئن كانت تشترك معهم هي الأخرى في هذه الفائدة في كثير من الأحيان إلا أن فائدتهم من ذلك أعظم وأخطر، وإلا فهل يقول عاقل تحت سلطان هذه الحجة المقلوبة: إن للفتاة أن تبرز عارية أمام الرجال كلهم ما دامت ليست في شك من قوة أخلاقها وصدق استقامتها؟!
إن بلاء الرجال بما تقع عليه أبصارهم من مغرياتِ النساء وفتنتهن هو المشكلة التي أحوجت المجتمعَ إلى حلّ، فكان في شرع الله ما تكفّل به على أفضل وجه، وبلاء الرجال إذا لم يجد في سبيله هذا الحلّ الإلهي ما من ريب سيتجاوز بالسوء إلى النساء أيضًا، ولا يغني عن الأمر شيئًا أن تعتصم المرأة المتبرجة عندئذ باستقامةٍ في سلوكها أو عفة في نفسها، فإن في ضرام ذلك البلاء الهائج في نفوس الرجال ما قد يتغلّب على كل استقامة أو عفة تتمتّع بها المرأة إذ تعرض من فنون إثارتها وفتنتها أمامهم[16].
الشبهة الخامسة: دعوى أن الحجاب من وضع الإسلام:
زعم آخرون أن حجاب النساء نظام وضعه الإسلام فلم يكن له وجود في الجزيرة العربية ولا في غيرها قبل الدعوة المحمدية[17].
الجواب:
1- إن من يقرأ كتب العهد القديم وكتب الأناجيل يعلم بغير عناء كبير في البحث أن حجاب المرأة كان معروفًا بين العبرانيين من عهد إبراهيم عليه السلام، وظل معروفًا بينهم في أيام أنبيائهم جميعًا، إلى ما بعد ظهور المسيحية، وتكررت الإشارة إلى البرقع في غير كتاب من كتب العهد القديم وكتب العهد الجديد.
ففي الإصحاح الرابع والعشرين من سفر التكوين عن (رفقة) أنها رفعت عينيها فرأت إسحاق، فنزلت عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائي، فقال العبد: هو سيدي، فأخذت البرقع وتغطت.
وفي النشيد الخامس من أناشيد سليمان تقول المرأة: أخبرني يا من تحبه نفسي، أين ترعى عند الظهيرة؟ ولماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك؟
وفي الإصحاح الثالث من سفر أشعيا: إن الله سيعاقب بنات صهيون على تبرجهن والمباهاة برنين خلاخيلهن بأن ينزع عنهن زينة الخلاخيل والضفائر والأهلة والحلق والأساور والبراقع والعصائب.
وفي الإصحاح الثامن والثلاثين من سفر التكوين أيضًا أن تامار مضت وقعدت في بيت أبيها، ولما طال الزمان خلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت.
ويقول بولس الرسول في رسالته كورنثوس الأولى: "إن النقاب شرف للمرأة، وكانت المرأة عندهم تضع البرقع على وجهها حين تلتقي بالغرباء وتخلعه حين تنزوي في الدار بلباس الحداد[18].
فالكتب الدينية التي يقرؤها غير المسلمين قد ذكرت عن البراقع والعصائب مالم يذكره القرآن الكريم.
2- وكان الرومان يسنون القوانين التي تحرم على المرأة الظهور بالزينة في الطرقات قبل الميلاد بمائتي سنة، ومنها قانون عرف باسم "قانون أوبيا" يحرم عليها المغالاة بالزينة حتى في البيوت[19].
3- وأما في الجاهلية فنجد أن الأخبار الواردة في تستّر المرأة العربية موفورة كوفرة أخبار سفورها، وانتهاكُ سترها كان سببًا في اليوم الثاني من أيام حروب الفجار الأول؛ إذ إن شبابًا من قريش وبني كنانة رأوا امرأة جميلة وسيمة من بني عامر في سوق عكاظ، وسألوها أن تسفر عن وجهها فأبت، فامتهنها أحدهم فاستغاثت بقومها.
وفي الشعر الجاهلي أشعار كثيرة تشير إلى حجاب المرأة العربية، يقول الربيع بن زياد العبسي بعد مقتل مالك بن زهير:
من كان مسرورًا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرًا يندبنه يلطمن أوجههن بالأسحار
قد كن يخبأن الوجوه تسترًا فاليوم حين برزن للنظار
فالحالة العامّة لديهم أن النساء كن محجبات إلا في مثل هذه الحالة حيث فقدن صوابهن فكشفن الوجوه يلطمنها، لأن الفجيعة قد تنحرف بالمرأة عما اعتادت من تستر وقناع.
وقد ذكر الأصمعي أن المرأة كانت تلقي خمارها لحسنها وهي على عفة[20].
وكانت أغطية رؤوس النساء في الجاهلية متنوعة ولها أسماء شتى، منها:
الخمار: وهو ما تغطي به المرأة رأسها، يوضع على الرأس، ويلفّ على جزء من الوجه.
وقد ورد في شعر صخر يتحدث عن أخته الخنساء:
والله لا أمنحها شرارها ولو هلكت مزقت خمارها
وجعلت من شعر صدارها
ولم يكن الخمار مقصورًا على العرب، وإنما كان شائعًا لدى الأمم القديمة في بابل وأشور وفارس والروم والهند[21].
النقاب: قال أبو عبيد: "النقاب عند العرب هو الذي يبدو منه محجر العين، ومعناه أن إبداءهن المحاجر محدث، إنما كان النقاب لاصقًا بالعين، وكانت تبدو إحدى العينين والأخرى مستوره"[22].
الوصواص: وهو النقاب على مارِن الأنف لا تظهر منه إلا العينان، وهو البرقع الصغير، ويسمّى الخنق، قال الشاعر:
يا ليتها قد لبست وصواصًا
البرقع: فيه خرقان للعين، وهو لنساء العرب، قال الشاعر:
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت فقد رابني منها الغداة سفورها[23](6/457)
الشبهة السادسة: الاحتجاج بقاعدة: "تبدل الأحكام بتبدّل الزمان":
فهم أعداء الحجاب من قاعدة: "تبدل الأحكام بتبدل الزمان" وقاعدة: "العادة محكّمة" أنه ما دامت أعرافهم متطوّرة بتطوّر الأزمان فلا بدّ أن تكون الأحكام الشرعية كذلك[24].
الجواب:
لا ريب أن هذا الكلام لو كان مقبولاً على ظاهره لاقتضى أن يكون مصير شرعية الأحكام كلها رهنًا بيد عادات الناس وأعرافهم، وهذا لا يمكن أن يقول به مسلم، لكن تحقيق المراد من هذه القاعدة أن ما تعارف عليه الناس وأصبح عرفًا لهم لا يخلو من حالات:
1- إما أن يكون هو بعينه حكمًا شرعيًا أيضًا بأن أوجده الشرع، أو كان موجودًا فيهم فدعا إليه وأكّده، مثال ذلك: الطهارة من النجس والحدث عند القيام إلى الصلاة، وستر العورة فيها، وحجب المرأة زينتها عن الأجانب، والقصاص والحدود وما شابه ذلك، فهذه كلها أمور تعدّ من أعراف المسلمين وعاداتهم، وهي في نفس الوقت أحكام شرعية يستوجب فعلها الثواب وتركها العقاب، سواء منها ما كان متعارفًا عليه قبل الإسلام ثم جاء الحكم الشرعي مؤيّدًا ومحسّنًا له كحكم القسامة والديه والطواف بالبيت، وما كان غير معروف قبل ذلك، وإنما أوجده الإسلام نفسه كأحكام الطهارة والصلاة والزكاة وغيرها.
فهذه الصورة من الأعراف لا يجوز أن يدخلها التبديل والتغيير مهما تبدلت الأزمنة وتطورت العادات والأحوال؛ لأنها بحدّ ذاتها أحكام شرعية ثبتت بأدلة باقية ما بقيت الدنيا، وليست هذه الصورة هي المعنية بقول الفقهاء: "العادة محكَّمة".
2- وإما أن لا يكون حكمًا شرعيًا، ولكن تعلّق به الحكم الشرعي بأن كان مناطًا له، مثال ذلك: ما يتعارفه الناس من وسائل التعبير وأساليب الخطاب والكلام، وما يتواضعون عليه من الأعمال المخلّة بالمروءة والآداب، وما تفرضه سنة الخلق والحياة في الإنسان مما لا دخل للإرادة والكليف فيه كاختلاف عادات الأقطار في سن البلوغ وفترة الحيض والنفاس إلى غير ذلك.
فهذه الأمثلة أمور ليست بحد ذاتها أحكامًا شرعية ولكنها متعلَّق ومناط لها، وهذه الصورة من العرف هي المقصودة من قول الفقهاء: "العادة محكمة"، فالأحكام المبنيّة على العرف والعادة هي التي تتغيّر بتغيّر العادة، وهنا فقط يصحّ أن يقال: "لا ينكر تبدّل الأحكام بتبدل الزمان"، وهذا لا يعدّ نسخًا للشريعة، لأن الحكم باق، وإنما لم تتوافر له شروط التطبيق فطبِّق غيره. يوضّحه أنّ العادة إذا تغيرت فمعنى ذلك أن حالة جديدة قد طرأت تستلزم تطبيق حكم آخر، أو أن الحكم الأصلي باق، ولكن تغير العادة استلزم توافر شروط معينة لطبيقه[25].
الشبهة السابعة: نساء خيِّرات كنّ سافرات:
احتجّ أعداء الحجاب بأن في شهيرات النساء المسلمات على اختلاف طبقاتهن كثيرًا ممن لم يرتدين الحجاب ولم يتجنّبن الاختلاط بالرجال.
وعمد المروجون لهذه الشبهة إلى التاريخ وكتب التراجم، يفتشون في طولها وعرضها وينقبون فيها بحثًا عن مثل هؤلاء النساء حتى ظفروا بضالتهم المنشودة ودرتهم المفقودة، فالتقطوا أسماء عدد من النساء لم يكن يبالين ـ فيما نقلته الأخبار عنهن ـ أن يظهرن سافرات أمام الرجال، وأن يلتقين معهم في ندوات أدبية وعلمية دونما تحرز أو تحرج[26].
الجواب:
1- من المعلوم والمتقرر شرعا أن الأدلة الشرعية التي عليها تبنى الأحكام هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فضمن أيّ مصدر من مصادر التشريع تندرج مثل هذه الأخبار، خاصة وأنّ أغلبها وقع بعد من التشريع وانقطاع الوحي؟![27].
2- وإذا علِم أن أحكام الإسلام إنما تؤخذ من نص ثابت في كتاب الله تعالى أو حديث صحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قياس صحيح عليهما أو إجماع التقى عليه أئمة المسلمين وعلماؤهم لم يصحّ حينئذ الاستدلال بالتصرّفات الفردية من آحاد الناس أو ما يسمّيه الأصوليون بـ"وقائع الأحوال"، فإذا كانت هذه الوقائع الفردية من آحاد الناس لا تعتبر دليلاً شرعيًا لأيّ حكم شرعيّ حتى لو كان أصحابها من الصحابة رضوان الله عليهم أو التابعين من بعدهم فكيف بمن دونهم؟!
بل المقطوع به عند المسلمين جميعًا أن تصرفاتهم هي التي توزن ـ صحة وبطلانًا ـ بميزان الحكم الإسلامي، وليس الحكم الإسلامي هو الذي يوزن بتصرفاتهم ووقائع أحوالهم، وصدق القائل: لا تعرف الحقّ بالرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله[28].
3- ولو كان لتصرفات آحاد الصحابة أو التابعين مثلاً قوة الدليل الشرعي دون حاجة إلى الاعتماد على دليل آخر لبطل أن يكونوا معرّضين للخطأ والعصيان، ولوجب أن يكونوا معصومين مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا لأحد إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما من عداهم فحقَّ عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطاء))، وإلاّ فما بالنا لا نقول مثلاً: يحل شرب الخمر فقد وجِد فيمن سلف في القرون الخيِّرة من شربها؟![29].(6/458)
4- وما بال هؤلاء الدعاة إلى السفور قد عمدوا إلى كتب التاريخ والتراجم فجمعوا أسماء مثل هؤلاء النسوة من شتى الطبقات والعصور، وقد علموا أنه كان إلى جانب كل واحدة منهن سواد عظيم وجمع غفير من النساء المتحجّبات الساترات لزينتهن عن الأجانب من الرجال؟! فلماذا لم يعتبر بهذه الجمهرة العظيمة ولم يجعلها حجة بدلاً من حال أولئك القلة الشاذة المستثناة؟!
يقول الغزالي: "لم تزل الرجال على مر الأزمان تكشف الوجوه، والنساء يخرجن منتقبات أو يمنعن من الخروج"[30]، ويقول ابن رسلان: "اتفق المسلمون على منع النساء من الخروج سافرات"[31].
ولماذا لم يحتج بمواقف نساء السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في تمسكهم بالحجاب الكامل واعتباره أصلاً راسخًا من أصول البنية الاجتماعية؟![32].
الشبهة الثامنة: الحجاب كبت للطاقة الجنسية:
قالوا: إنّ الطاقة الجنسية في الإنسان طاقة كبيرة وخطيرة، وخطورتها تكمن في كبتها، وزيادة الضغط يولّد الانفجار، وحجاب المرأة يغطّي جمالها، وبالتالي فإنّ الشباب يظلون في كتب جنسيّ يكاد أن ينفجر أو ينفجر أحيانًا على شكل حوادث الاغتصاب وغيرها، والعلاج لهذه المشكلة إنما يكمن في تحرير المرأة من هذا الحجاب لكي ينفس الشباب الكبت الذي فيهم، وبالتالي يحدث التشبع لهذه الحاجة، فيقلّ طبقًا لذلك خطورة الانفجار بسبب الكبت والاختناق[33].
الجواب:
1- لو كان هذا الكلام صحيحًا لكانت أمريكا والدول الأوربية وما شاكلها هي أقلّ الدول في العالم في حوادث الاغتصاب والتحرّش في النساء وما شاكلها من الجرائم الأخلاقية، ذلك لأن أمريكا والدول الأوربية قد أعطت هذا الجانب عناية كبيرة جدًا بحجة الحرية الشخصية، فماذا كانت النتائج التي ترتبت على الانفلات والإباحية؟ هل قلّت حوادث الاغتصاب؟ هل حدث التشبّع الذي يتحدّثون عنه؟ وهل حُميت المرأة من هذه الخطورة؟
جاء في كتاب "الجريمة في أمريكا": إنه تتم جريمة اغتصاب بالقوة كل ستة دقائق في أمريكا[34]. ويعني بالقوة: أي تحت تأثير السلاح.
وقد بلغ عدد حالات الاغتصاب في أمريكا عام 1978م إلى مائة وسبعة وأربعين ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين حالة، لتصل في عام 1987م إلى مائتين وواحد وعشرين ألف وسبعمائة وأربع وستين حالة. فهذه الإحصائيات تكذّب هذه الدعوى[35].
2- إن الغريزة الجنسية موجودة في الرجال والنساء، وهي سرّ أودعه الله تعالى في الرجل والمرأة لحِكَم كثيرة، منها استمرار النسل. ولا يمكن لأحد أن ينكر وجود هذه الغريزة، ثم يطلب من الرجال أن يتصرفوا طبيعيًا أمام مناظر التكشف والتعرّي دونما اعتبار لوجود تلك الغريزة[36].
3- إن الذي يدّعي أنه يمكن معالجة الكبت الجنسي بإشاعة مناظر التبرّج والتعري ليحدث التشبع فإنه بذلك يصل إلى نتيجتين:
الأولى: أن هؤلاء الرجال الذين لا تثيرهم الشهوات والعورات البادية من فئة المخصيّين، فانقطعت شهوتهم، فما عادوا يشعرون بشيء من ذلك الأمر.
الثانية: أن هؤلاء الرجال الذين لا تثيرهم العورات الظاهرة من الذين أصابهم مرض البرود الجنسي.
فهل الذين يدعون صدقَ تلك الشبهة يريدون من رجال أمتنا أن يكونوا ضمن إحدى هاتين الطائفتين من الرجال؟![37].
الشبهة التاسعة: الحجاب يعطل نصف المجتمع:
قالوا: إن حجاب المرأة يعطل نصف المجتمع، إذ إن الإسلام يأمرها أن تبقى في بيتها[38].
الجواب:
1- إن الأصل في المرأة أن تبقى في بيتها، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى} [الأحزاب:33]. ولا يعني هذا الأمر إهانة المرأة وتعطيل طاقاتها، بل هو التوظيف الأمثل لطاقاتها[39].
2- وليس في حجاب المرأة ما يمنعها من القيام بما يتعلق بها من الواجبات، وما يُسمح لها به من الأعمال، ولا يحول بينها وبين اكتساب المعارف والعلوم، بل إنها تستطيع أن تقوم بكل ذلك مع المحافظة على حجابها وتجنبها الاختلاط المشين.
وكثير من طالبات الجامعات اللاتي ارتدين الثوب الساتر وابتعدن عن مخالطة الطلاب قد أحرزن قصب السبق في مضمار الامتحان، وكن في موضع تقدير واحترام من جميع المدرسين والطلاب[40].
3- بل إن خروج المرأة ومزاحمتها الرجل في أعماله وتركها الأعمال التي لا يمكن أن يقوم بها غيرها هو الذي يعطل نصف المجتمع، بل هو السبب في انهيار المجتمعات وفشو الفساد وانتشار الجرائم وانفكاك الأسَر، لأن مهمة رعاية النشء وتربيتهم والعناية بهم ـ وهي من أشرف المهام وأعظمها وأخطرها ـ أضحت بلا عائل ولا رقيب.
الشبهة العاشرة: التبرج أمر عادي لا يلفت النظر:
يدّعي أعداء الحجاب أن التبرج الذي تبدو به المرأة كاسية عارية لا يثير انتباه الرجال، بينما ينتبه الرجال عندما يرون امرأة متحجبة حجابًا كاملاً يستر جسدها كله، فيريدون التعرّف على شخصيتها ومتابعتها؛ لأنّ كلَّ ممنوع مرغوب[41].
الجواب:(6/459)
1- ما دام التبرج أمر عادي لا يلفت الأنظار ولا يستهوي القلوب فلماذا تبرّجت؟! ولمن تبرجت؟! ولماذا تحمّلت أدوات التجميل وأجرة الكوافير ومتابعة الموضات؟![42].
2- وكيف يكون التبرج أمرًا عاديًا ونرى أن الأزواج ـ مثلاً ـ تزداد رغبتهم في زوجاتهم كلما تزينّ وتجمّلن، كما تزداد الشهوة إلى الطعام كلما كان منسقًا متنوعًا جميلاً في ترتيبه ولو لم يكن لذيذ الطعم؟![43].
3- إن الجاذبية بين الرجل والمرأة هي الجاذبية الفطرية، لا تتغير مدى الدهر، وهي شيء يجري في عروقهما، وينبه في كل من الجنسين ميوله وغرائزه الطبيعية، فإن الدم يحمل الإفرازات الهرمونية من الغدد الصماء المختلفة، فتؤثر على المخ والأعصاب وعلى غيرها، بل إن كل جزء من كل جسم يتميز عما يشبهه في الجنس الآخر؛ ولذلك تظهر صفات الأنوثة في المرأة في تركيب جسمها كله وفي شكلها وفي أخلاقها وأفكارها وميولها، كما تظهر مميزات الذكورة في الرجل في بدنه وهيئته وصوته وأعماله وميوله. وهذه قاعدة فطرية طبيعية لم تتغير من يوم خلق الله الإنسان، ولن تتغير حتى تقوم الساعة[44].
4- أودع الله الشبق الجنسي في النفس البشرية سرًّا من أسراره، وحكمة من روائع حكمه جلّ شأنه، وجعل الممارسة الجنسية من أعظم ما ينزع إليه العقل والنفس والروح، وهي مطلب روحي وحسي وبدني، ولو أن رجلاً مرت عليه امرأة حاسرة سافرة على جمال باهر وحسن ظاهر واستهواء بالغ ولم يلتفت إليها وينزع إلى جمالها يحكم عليه الطب بأنه غير سوي وتنقصه الرغبة الجنسية، ونقصان الرغبة الجنسية ـ في عرف الطب ـ مرض يستوجب العلاج والتداوي[45].
5- إن أعلى نسبة من الفجور والإباحية والشذوذ الجنسي وضياع الأعراض واختلاط الأنساب قد صاحبت خروج النساء مترجات كاسيات عاريات، وتتناسب هذه النسبة تناسبًا طرديًا مع خروج النساء على تلك الصورة المتحللة من كل شرف وفضيلة، بل إن أعلى نسبة من الأمراض الجنسية ـ كالأيدز وغيره ـ في الدول الإباحية التي تزداد فيها حرية المرأة تفلّتًا، وتتجاوز ذلك إلى أن تصبح همجية وفوضى، بالإضافة إلى الأمراض والعقد النفسية التي تلجئ الشباب والفتيات للانتحار بأعلى النسب في أكثر بلاد العالم تحللاً من الأخلاق[46].
6- أما أن العيون تتابع المتحجبة الساترة لوجهها ولا تتابع المتبرجة فإن المتحجبة تشبه كتابًا مغلقًا، لا تعلم محتوياته وعدد صفحات وما يحمله من أفكار، فطالما كان الأمر كذلك، فإنه مهما نظرنا إلى غلاف الكتاب ودققنا النظر فإننا لن نفهم محتوياته، ولن نعرفها، بل ولن نتأثر بها، وبما تحمله من أفكار، وهكذا المتحجبة غلافها حجابها، ومحتوياتها مجهولة بداخله، وإن الأنظار التي ترتفع إلى نورها لترتد حسيرة خاسئة، لم تظفر بِشَروَى[47] نقير ولا بأقلّ القليل.
أما تلك المتبرجة فتشبه كتابًا مفتوحًا تتصفّحه الأيدي، وتتداوله الأعين سطرًا سطرًا، وصفحة صفحة، وتتأثّر بمحتوياته العقول، فلا يترك حتى يكون قد فقد رونق أوراقه، فتثنت بل تمزق بعضها، إنه يصبح كتابًا قديمًا لا يستحق أن يوضع في واجهة مكتبة بيت متواضعة، فما بالنا بواجهة مكتبة عظيمة؟![48].
الشبهة الحادية عشرة: السفور حقّ للمرأة والحجاب ظلم:
زعموا أن السفور حقّ للمرأة، سلبها إياه المجتمع، أو سلبها إياه الرجل الأناني المتحجر المتزمت، ويرون أن الحجاب ظلم لها وسلب لحقها[49].
الجواب:
1- لم يكن الرجل هو الذي فرض الحجاب على المرأة فترفع قضيتها ضدّه لتتخلّص من الظلم الذي أوقعه عليها، كما كان وَضعُ القضية في أوربا بين المرأة والرجل، إنما الذي فرض الحجاب على المرأة هو ربها وخالقها الذي لا تملك ـ إن كانت مؤمنة ـ أن تجادله سبحانه فيما أمر به أو يكون لها الخيرة في الأمر، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا} [الأحزاب:36][50].
2- إن الحجابَ في ذاته لا يشكل قضية، فقد فرض الحجاب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفذ في عهد، واستمر بعد ذلك ثلاثة عشر قرنًا متوالية وما من مسلم يؤمن بالله ورسوله يقول: إن المرأة كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مظلومة.
فإذا وقع عليها الظلم بعد ذلك حين تخلّف المسلمون عن عقيدتهم الصحيحة ومقتضياتها فلم يكن الحجاب ـ بداهة ـ هو منبع الظلم ولا سببه ولا قرينه، لأنه كان قائمًا في خير القرون على الإطلاق، وكان قرين النظافة الخلقية والروحية، وقرين الرفعة الإنسانية التي لا مثيل لها في تاريخ البشرية كله[51].
الشبهة الثانية عشرة: الحجاب رمز للغلو والتعصب الطائفي والتطرف الديني:
زعم أعداء الحجاب أن حجاب المرأة رمز من رموز التطرف والغلو، وعلامة من علامات التنطع والتشدد، مما يسبب تنافرا في المجتمع وتصادما بين الفئتين، وهذا قد يؤول إلى الإخلال بالأمن والاستقرار.
الجواب:(6/460)
1- هذه الدعوى مرفوضة من أساسها، فالحجاب ليس رمزا لتلك الأمور، بل ولا رمزا من الرموز بحال، لأن الرمز ما ليس له وظيفة إلا التعبير عن الانتماء الديني لصاحبه، مثل الصليب على صدر المسيحي أو المسيحية، والقلنسوة الصغيرة على رأس اليهودي، فلا وظيفة لهما إلا الإعلان عن الهوية. أما الحجاب فإن له وظيفة معروفة وحِكَما نبيلة، هي الستر والحشمة والطهر والعفاف، ولا يخطر ببال من تلبسه من المسلمات أنها تعلن عن نفسها وعن دينها، لكنها تطيع أمر ربها، فهو شعيرة دينية، وليس رمزا للتطرف والتنطع.
ثم إن هذه الفرية التي أطلقوها على حجاب المرأة المسلمة لماذا لم يطلقوها على حجاب الراهبات؟! لماذا لم يقولوا: إن حجابَ اليهوديات والنصرانيات رمز للتعصب الديني والتميز الطائفي؟! لماذا لم يقولوا: إن تعليق الصليب رمز من رموز التطرف الديني وهو الذي جرّ ويلات الحروب الصليبية؟! لماذا لم يقولوا: إن وضع اليهودي القلنسوة الصغيرة على رأسه رمز من رموز التطرف الديني وبسببه يحصل ما يحصل من المجازر والإرهاب في فلسطين المحتلة؟!
2- إن هذه الفرية يكذّبها التاريخ والواقع، فأين هذه المفاسد المزعومة والحجاب ترتديه المرأة المسلمة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا؟!
3- إن ارتداء المرأة للحجاب تم من منطلق عقدي وقناعة روحية، فهي لم تلزَم بالحجاب بقوة الحديد والنار، ولم تدعُ غيرها إلى الحجاب إلا بالحكمة والحجج الشرعية والعقلية، بل عكس القضية هو الصحيح، وبيان ذلك أن إلزام المرأة بخلع حجابها وجعل ذلك قانونا وشريعة لازمة هو رمز التعصب والتطرف اللاديني، وهذا هو الذي يسبب التصادم وردود الأفعال السيئة، لأنه اعتداء على الحرية الدينية والحرية الشخصية.
[1] عودة الحجاب: محمد أحمد إسماعيل المقدم (3/391).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: الدين يسر (39).
[3] أخرجه مسلم في الجهاد (1732).
[4] عودة الحجاب (3/393).
[5] انظر: عودة الحجاب (3/395-396).
[6] المتبرجات للزهراء فاطمة بنت عبد الله (122).
[7] انظر: المتبرجات (122).
[8] المتبرجات (124) بتصرف.
[9] المترجات (124-125).
[10] عودة الحجاب (3/412).
[11] عودة الحجاب (3/412-413) باختصار.
[12] عودة الحجاب (3/412-413).
[13] إلى كل أب غيور يؤمن بالله لعبد الله ناصح علوان (44)، انظر: عودة الحجاب (3/414).
[14] عودة الحجاب (3/415).
[15] إلى كل فتاة تؤمن بالله. د.محمد سعيد البوطي (97).
[16] إلى كل فتاة تؤمن بالله (97-99).
[17] يا فتاة الإسلام اقرئي حتى لا تخدعي للشيخ صالح البليهي (124).
[18] يا فتاة الإسلام (128-126) باختصار.
[19] يا فتاة الإسلام (126).
[20] المرأة بين الجاهلية والإسلام، محمد الناصر وخولة درويش (169، 170).
[21] المرأة بين الجاهلية والإسلام (171).
[22] غريب الحديث (2/440-441)، عند شرح قول ابن سيرين: "النقاب محدث".
[23] انظر: المرأة بين الجاهلية والإسلام (171-172)..
[24] عودة الحجاب (3/403).
[25] عودة الحجاب (3/403-404).
[26] عودة الحجاب (3/409).
[27] عودة الحجاب (3/409).
[28] عودة الحجاب (3/409-410).
[29] عودة الحجاب (3/410).
[30] إحياء علوم الدين (2/74).
[31] انظر: عون المعبود (4/106).
[32] عودة الحجاب (3/410-411).
[33] أختي غير المحجبة ما المانع من الحجاب؟ لعبد الحميد البلالي (7).
[34] هذا بالنسبة لعام (1988م) على ما في الكتاب.
[35] أختي غير المحجبة (8، 10) بتصرف.
[36] أختي غير المحجبة (12).
[37] أختي غير المحجبة (12-13).
[38] أختي غير المحجبة (64).
[39] أختي غير المحجبة (64).
[40] يا فتاة الإسلام اقرئي (39-40).
[41] المتبرجات (117).
[42] المتبرجات (117).
[43] المتبرجات (117).
[44] التبرج لنعمت صافي (23-24).
[45] الفتاوى للشيخ محمد متولي الشعراوي بمشاركة: د.السيد الجميلي. انظر: المتبرحات (119-120)
[46] المتبرجات (120) وللمزيد من ذلك انظر: المرأة المتبرجة وأثرها السيئ في الأمة لعبد الله التليدي (12-25).
[47] الشَّروى كجدوى: المثل. (القاموس المحيط، مادة: شرى).
[48] المتبرجات (118).
[49] قضية تحرير المرأة لمحمد قطب (21).
[50] قضية تحرير المرأة (19).
[51] قضية تحرير المرأة لمحمد قطب (19-20). ...
-------------------
165- الرِّق
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف
الرد على الشبهة:
الرِّق لغة: هو الشئ الرقيق ، نقيض الغليظ والثخين.
واصطلاحًا: هو المِلْك والعبودية ، أى نقيض العِتْق والحرية.
والرقيق بمعنى العبد يطلق على المفرد والجمع ، وعلى الذكر والأنثى أما العبد ، فهو: الرقيق الذكر ، ويقابله: الأَمَة للأنثى. ومن الألفاظ الدالة على الرقيق الذكر لفظى: الفتى أو الغلام.. وعلى الأنثى لفظى:
الفتاة ، والجارية. أما القنّ فهو أخص من العبد ، إذ هو الذى مُلِك هو وأبواه.
ومالك الرقيق هو: السيد ، أو المولى.(6/461)
والرق نظام قديم قدم المظالم والاستعباد والطبقية والاستغلال فى تاريخ الإنسان ، وإليه أشار القرآن الكريم فى قصة يوسف عليه السلام:(وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بُشْرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون. وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين.
وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ) (1) وكان الاسترقاق من عقوبات السرقة عند العبرانيين القدماء ، وعندما سئل إخوة يوسف عن جزاء السارق لصواع الملك(قالوا جزاؤه من وُجد فى رحله فهو جزاؤه..) (2).
وفى الحضارات القديمة كان الرق عماد نظام الإنتاج والاستغلال ، وفى بعض تلك الحضارات كالفرعونية المصرية والكسروية الفارسية كان النظام الطبقى المغلق يحول دون تحرير الأرقاء ، مهما توفرت لأى منهم الرغبة أو الإمكانات.. وفى بعض تلك الحضارات كالحضارة الرومانية كان السادة هم الأقلية الرومانية ، وكانت الأغلبية فى الامبراطورية برابرة أرقاء ، أو فى حكم الأرقاء.. وللأرقاء فى تلك الحضارات ثورات من أشهرها ثورة " اسبارتاكوس " [ 7371ق م ].
وعندما ظهر الإسلام كانت للمظالم الاجتماعية والتمييز العرقى والطبقى منابع وروافد عديدة تغذى " نهر الرق " فى كل يوم بالمزيد من الأرقاء.. وذلك من مثل:
1- الحرب ، بصرف النظر عن حظها من الشرعية والمشروعية ، فالأسرى يتحولون إلى أرقاء ، والنساء يتحولن إلى سبايا وإماء..
2- والخطف ، يتحول به المخطوفون إلى رقيق..
3- وارتكاب الجرائم الخطيرة كالقتل والسرقة والزنا كان يحكم على مرتكبيها بالاسترقاق..
4- والعجز عن سداد الديون ، كان يحوِّل الفقراء المدينين إلى أرقاء لدى الأغنياء الدائنين..
5- وسلطان الوالد على أولاده ، كان يبيح له أن يبيع هؤلاء الأولاد ، فينتقلون من الحرية إلى العبودية.
6- وسلطان الإنسان على نفسه ، كان يبيح له بيع حريته ، فيتحول إلى رقيق..
7- وكذلك النسل المولود من كل هؤلاء الأرقاء يصبح رقيقا ، حتى ولو كان أباه حرا..
ومع كثرة واتساع هذه الروافد التى تمد نهر الرقيق فى كل وقت بالمزيد والمزيد من الأرقاء ، كانت أبواب العتق والحرية إما موصدة تماما ، أو ضيقة عسيرة على الولوج منها..
وأمام هذا الواقع ، اتخذ الإسلام ، إبان ظهوره ، طريق الإصلاح الذى يتغيا تحرير الأرقاء ، وإلغاء نظام العبودية ، وطى صفحته من الوجود ، لكن فى " واقعية ثورية " إذا جازالتعبير.. فهو لم يتجاهل الواقع ولم يقفز عليه.. وأيضا لم يعترف به على النحو الذى يبقيه ويكرسه..
لقد بدأ الإسلام فأغلق وألغى وحرّم أغلب الروافد التى كانت تمد نهر الرقيق بالمزيد من الأرقاء.. فلم يبق منها إلا أسرى الحرب المشروعة والشرعية ، والنسل إذا كان أبواه من الأرقاء.. وحتى أسرى الحرب المشروعة فتح الإسلام أمامهم باب العتق والحرية المنّ أو الفداء: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منًّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها.. ) (3) فعندما تضع الحرب أوزارها ، يتم تحرير الأسرى ، إما بالمن عليهم بالحرية وإما بمبادلتهم بالأسرى المسلمين لدى الأعداء..
ومع إغلاق الروافد روافد الاسترقاق ومصادره التفت الإسلام إلى " كتلة " واقع الأرقاء ، فسعى إلى تصفيتها بالتحرير ، وذلك عندما عدد ووسع مصابّ نهر الرقيق..ولقد سلك الإسلام إلى ذلك المقصد سبيل منظومة القيم الإسلامية. وسبيل العدالة الاجتماعية الإسلامية. فحبب إلى المسلمين عتق الأرقاء تطوعا، إذ فى عتق كل عضو من أعضاء الرقيق عتق لعضو من أعضاء سيده من النار ، فتحرير الرقيق سبيل لتحرير الإنسان من عذاب النار يوم القيامة.. كما جعل الإسلام عتق الأرقاء كفارة للكثير من الذنوب والخطايا..
وجعل للدولة والنظام العام مدخلاً فى تحرير الأرقاء عندما جعل هذا التحرير مصرفا من المصارف الثمانية لفريضة الزكاة فهو جزء من أحد أركان الإسلام (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) (4). كما جعل الحرية هى الأصل الذى يولد عليه الناس ، والرق هو الاستثناء الطارئ الذى يحتاج إلى إثبات ، فمجهولوا الحكم هم أحرار ، وعلى مدعى رقهم إقامة البينات ، وأولاد الأمة من الأب الحر هم أحرار و" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ ! "..(6/462)
كذلك ، ذهب الإسلام فساوى بين العبد والحر فى كل الحقوق الدينية ، وفى أغلب الحقوق المدنية ، وكان التمييز فقط ، فى أغلب حالاته بسبب التخفيف عن الأرقاء مراعاة للاستضعاف والقيود التى يفرضها الاسترقاق على الإرادة والتصرف.. فالمساواة تامة فى التكاليف الدينية ، وفى الحساب والجزاء.. وشهادة الرقيق معتبرة فى بعض المذاهب الإسلامية عند الحنابلة وله حق الملكية فى ماله الخاص ، وإعانته على شراء حريته بنظام المكاتبة والتدبير مرغوب فيها دينياً (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذى آتاكم ) (6). والدماء متكافئة فى القصاص..
وبعد أن كان الرق من أكبر مصادر الاستغلال والثراء لملاك العبيد ، حوّله الإسلام بمنظومة القيم التى كادت أن تسوى بين العبد وسيده إلى ما يشبه العبء المالى على ملاك الرقيق.. فمطلوب من مالك الرقيق أن يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل مالا يطيق.. بل ومطلوب منه أيضاً إلغاء كلمة " العبد " و الأمة " واستبدالها بكلمة " الفتى " و " الفتاة ".
بل لقد مضى الإسلام فى هذا السبيل إلى ما هو أبعد من تحرير الرقيق ، فلم يتركهم فى متاهة عالم الحرية الجديد دون عصبية وشوكة وانتماء ، وإنما سعى إلى إدماجهم فى القبائل والعشائر والعصبيات التى كانوا فيها أرقاء ، فأكسبهم عزتها وشرفها ومكانتها ومنعتها وما لها من إمكانات ، وبذلك أنجز إنجازاً عظيماً وراء وفوق التحرير عندما أقام نسيجاً اجتماعياً جديداً التحم فيه الأرقاء السابقون بالأحرار ، فأصبح لهم نسب قبائلهم عن طريق " الولاء " ، الذى قال عنه الرسول (: [ الولاء لُحْمَةٌ كلُحْمَة النسب ] رواه الدارمى. حتى لقد غدا أرقاء الأمس " سادة " فى أقوامهم ، بعد أن كانوا " عبيداً " فيهم..
وقال عمر بن الخطاب وهو من هو فى الحسب والنسب عن بلال الحبشى ، الذى اشتراه أبو بكر الصديق وأعتقه: " سيدنا أعتق سيدنا " !.. كما تمنى عمر أن يكون سالم مولى أبى حذيفة حياً فيختاره لمنصب الخلافة.. فالمولى ، الذى نشأ رقيقاً ، قد حرره الإسلام ، فكان إماماً فى الصلاة وأهلاً بخلافة المسلمين.
ولقد ساعد على هذا الاندماج فى النسيج العربى فضلاً عن الإسلامى ذلك المعيار الذى حدده الإسلام للعروبة وهو معيار اللغة وحدها ، فباستبعاد " العرق.. والدم " غدت الرابطة اللغوية والثقافية انتماءً واحداً للجميع ، بصرف النظر عن ماضى الاسترقاق وعن هذا المعيار للعروبة تحدث الرسول(فى معرض النقد والرفض للذين أرادوا إخراج الموالى ، ذوى الأصول العرقية غير العربية ، من إطار العروبة ، فقال:
[ أيها الناس ، إن الرب واحد ، والأب واحد.. وليست العربية بأحدكم من أب أو أم ، وإنما هى اللسان ، فمن تكلم العربية فهو عربى.. ]..
هكذا كان الإسلام إحياء وتحريراً للإنسان ، مطلق الإنسان ، يضع عن الناس إصرهم والأغلال التى كانت عليهم ، ويحرر الأرقاء ، لأن الرق فى نظره " موت " ، والحرية " حياة وإحياء ".. ولقد أبصر هذه الحكمة الإسلامية الإمام النسفى [ 710هجرية /1310م ] وهو يعلل جعل الإسلام كفارة القتل الخطأ تحرير رقبة: (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) (6).. فقال: إن القاتل " لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمة أن يدخل نفساً مثلها فى جملة الأحرار ، لأن اطلاقها من قيد الرق كإحيائها ، من قِبَل أن الرقيق ملحق بالأموات ، إذ الرق أثر من آثار الكفر ، والكفر موت حكماً.." (7).. فالإسلام قد ورث نظام الرق عن المجتمعات الكافرة فهو من آثار الكفر ، ولأنه موت لروح وملكات الأرقاء ، وسعى الإسلام إلى إلغائه ، وتحرير أى إحياء موات هؤلاء الأرقاء ، كجزء من الإحياء الإسلامى العام (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (8).
ومع أن مقاصد الإسلام فى تصفية نهر الرقيق بإغلاق روافده وتجفيف منابعه ، وتوسيع مصباته لم تبلغ كامل آفاقها ، إذ انتكس "الواقع التاريخى" للحضارة الإسلامية ، بعد عصر الفتوحات ، وسيطرة العسكر المماليك على الدولة الإسلامية.. إلا أن. حال الأرقاء فى الحضارة الإسلامية قد ظلت أخف قيوداً وأكثر عدلاً بما لا يقارن من نظائرها خارج الحضارة الإسلامية ، بما فى ذلك الحضارة الغربية ، التى تزعمت فى العصر الحديث الدعوة إلى تحرير الأرقاء..(6/463)
فلقد اقترن عصر النهضة الأوروبية بزحفها الاستعمارى على العالمين القديم والجديد ، وبعد أن استعبد المستعمرون الأسبان والبرتغاليون والإنجليز والفرنسيون سكان أمريكا الأصليين ، وأهلكوهم فى سخرة البحث عن الذهب وإنشاء المزارع ، مارسوا أكبر أعمال القرصنة والخطف فى التاريخ ، تلك التى راح ضحيتها أكثر من أربعين مليوناً من زنوج إفريقيا ، سلسلوا بالحديد ، وشحنوا فى سفن الحيوانات ، لتقوم على دمائهم وعظامهم المزارع والمصانع والمناجم التى صنعت رفاهية الرجل الأبيض فى أمريكا وأوروبا.. ولا يزال أحفادهم يعانون من التفرقة العنصرية فى الغرب حتى الآن.
وعندما سعت أوروبا فى القرن التاسع عشر إلى إلغاء نظام الرق ، وتحريم تجارته ، لم تكن دوافعها فى أغلبها روحية ولا قيمية ولا إنسانية ، وإنما كانت فى الأساس دوافع مادية ، لأن نظامها الرأسمالى قد رأى فى تحرير الرقيق سبيلاً لجعلهم عمالاً أكثر مهارة ، وأكثر قدره على النهوض باحتياجات العمل الفنى فى الصناعات التى أقامها النظام الرأسمالى.. فلقد غدا الرق بمعايير الجدوى الاقتصادية عبئاً على فائض رأس المال الذى هو معبود الحضارة الرأسمالية المادية وأصبحت حرية الطبقة العاملة أعون على تنمية مبادراتها ومهاراتها فى عملية الإنتاج..
ولقد كان ذات القرن الذى دعت فيه أوروبا لتحرير الرقيق هو القرن الذى استعمرت فيه العالم ، فاسترقّت بهذا الاستعمار الأمم والشعوب استرقاقاً جديداً ، لا تزال الإنسانية تعانى منه حتىالآن..
(1) يوسف: 1921.
(2) يوسف: 75.
(3) محمد: 4.
(4) التوبة: 60.
(5) النور: 33.
(6) النساء: 92.
(7) [ تفسير النسفى ] طبعة القاهرة ، الأولى.
(8) الأنفال: 24
--------------------
الإسلام والرق - محمد قطب ... ...
ربما كانت هذه الشبهة أخبث ما يلعب به الشيوعيون لزلزلة عقائد الشباب!.. لو كان الإسلام صالحاً لكل عصر – كما يقول دعاته – لما أباح الرق.. وإن إباحته للرق.. وإن إباحته للرق لدليل قاطع على أن الإسلام قد جاء لفترة محدودة، وأنه أدى مهمته وأصبح في ذمة التاريخ !
وإن الشباب المؤمن ذاته لتساوره بعض الشكوك! كيف أباح الإسلام الرق؟ هذا الدين الذي لا شك في نزوله من عند الله، ولا شك في صدقه، وفي أنه جاء لخير البشرية كلها في جميع أجيالها.. كيف أباح الرق؟ الدين الذي قام على المساواة الكاملة. الذي رد الناس جميعاً إلى أصل واحد، وعاملهم على أساس هذه المساواة في الأصل المشترك.. كيف جعل الرق جزءاً من نظامه وشرع له؟ أَوَ يريد الله للناس أن ينقسموا أبداً إلى سادة وعبيد؟ أَوَ تلك مشيئته في الأرض؟ أَوَ يرضى الله للمخلوق الذي أكرمه إذ قال: " ولقد كرمنا بني آدم " أن يصير طائفة منه سلعة تباع وتشترى كما كان الحال مع الرقيق؟ وإذا كان الله لا يرضى بذلك، فلماذا لم ينص كتابه الكريم صراحة على إلغاء الرق كما نص على تحريم الخمر والميسر والربا وغيرها مما كرهه الإسلام؟
وإن الشباب المؤمن ليعلم أن الإسلام دين الحق، ولكنه كإبراهيم: " قال: أولم تؤمن؟ قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي ! ".
أما الشباب الذي أفسد الاستعمار عقله وعقائده، فإنه لا يتلبث حتى يتبين حقيقة الأمر، وإنما يميل به الهوى فيقرر دون مناقشة أن الإسلام نظام عتيق قد استنفد أغراضه !
وأما الشيوعيون خاصة فأصحاب دعاوى " علمية " مزيفة، يتلقونها من سادتهم هناك، فينتفشون بها عجبا ً، ويحسبون أنهم وقعوا على الحقيقة الأبدية الخالدة التي لا مراء فيها ولا جدال، وهي المادية الجدلية، التي تقسم الحياة البشرية إلى مراحل اقتصادية معينة لا معدى عنها ولا محيص. وهي الشيوعية الأولى، والرق، والإقطاع، والرأسمالية، والشيوعية الثانية (وهي نهاية العالم!) وأن كل ما عرفته البشرية من عقائد ونظم وأفكار، إنما كانت انعكاساً للحالة الاقتصادية، أو للطور الاقتصادي القائم حينئذ، وأنها صالحة له، متلائمة مع ظروفه، ولكنها لا تصلح للمرحلة التالية التي تقوم على أساس اقتصادي جديد. وأنه – من ثم – لا يوجد نظام واحد يمكن أن يصلح لكل الأجيال. وإذا كان الإسلام قد جاء والعالم نهاية فترة الرق ومبادئ فترة الإقطاع، فقد جاءت تشريعاته وعقائده ونظمه ملائمة لهذا القدر من التطور، فاعترفت بالرق، وأباحت الإقطاع [11 ]! ولم يكن في طوق الإسلام أن يسبق التطور الاقتصادي، أو يبشر بنظام جديد لم تتهيأ بعد إمكانياته الاقتصادية! لأن كارل ماركس قال إن هذا مستحيل !
ونريد هنا أن نضع المسألة في حقيقتها التاريخية والاجتماعية والنفسية، بعيداً عن الغبار الذي يثيره هؤلاء وأولئك، فإذا حصلنا على حقيقة موضوعية فلا علينا حينئذ من دعاوي المنحرفين، و " العلماء " المزيفين !(6/464)
نحن ننظر اليوم إلى الرق في ظروف القرن العشرين، وننظر إله في ضوء الشناعات التي ارتكبت في عالم النخاسة، والمعاملة الوحشية البشعة التي سجلها التاريخ في العالم الروماني خاصة، فنستفظع الرق، ولا تطيق مشاعرنا أن يكون هذا اللون من المعاملة أمراً مشروعاً يقره دين أو نظام. ثم تغلب علينا انفعالات الاستبشاع والاستنكار فنعجب كيف أباح الإسلام الرق، وكل توجيهاته وتشريعاته كانت ترمي إلى تحرير البشر من العبودية في جميع ألوانها وأشكالها، ونتمنى في حرارة الانفعال أن لو كان الإسلام قد أراح قلوبنا وعقولنا فنص على تحريمه بالقول الصريح .
وهنا وقفة عند حقائق التاريخ. ففظائع الرق الروماني في العالم القديم لم يعرفها قط تاريخ الإسلام، ومراجعة بسيطة للحالة التي كان يعيش عليها الأرقاء في الإمبراطورية الرومانية، كفيلة بأن ترينا النقلة الهائلة التي نقلها الإسلام للرقيق، حتى لو لم يكن عمل على تحريره – وهذا غير صحيح !
كان الرقيق في عرف الرومان " شيئا " لا بشرا. شيئا لا حقوق له البتة، وإن كان عليه كل ثقيل من الواجبات. ولنعلم أولا من أين كان يأتي هذا الرقيق. كان يأتي من طريق الغزو. ولم يكن هذا الغزو لفكرة ولا لمبدأ .
وإنما كان سببه الوحيد شهوة استعباد الآخرين وتسخيرهم لمصلحة الرومان .
فلكي يعيش الروماني عيشة البذخ والترف، يستمتع بالحمامات الباردة والساخنة، والثياب الفاخرة، وأطايب الطعام من كل لون، ويغرف في المتاع الفاجر من خمر ونساء ورقص وحفلات ومهرجانات، كان لا بد لكل هذا من استعباد الشعوب الأخرى وامتصاص دمائها. ومصر مثل لذلك حين كانت في قبضة الرومان، قبل أن يخلصها من نيرهم الإسلام. إذ كانت حقل قمح للإمبراطورية، وموردا للأموال .
في سبيل هذه الشهوة الفاجرة كان الاستعمار الروماني، وكان الرق الذي نشأ من ذلك الاستعمار. أما الرقيق فقد كانوا – كما ذكرنا – أشياء ليس لها كيان البشر ولا حقوق البشر. كانوا يعملون في الحقول وهم مصفدون في الأغلال الثقيلة التي تكفي لمنعهم من الفرار. ولم يكونوا يُطْعَمون إلا إبقاء على وجودهم ليعملوا، لا لأن من حقهم – حتى كالبهائم والأشجار – أن يأخذوا حاجتهم من الغذاء. وكانوا – في أثناء العمل – يساقون بالسوط، لغير شيء إلا اللذة الفاجرة التي يحسها السيد أو وكيله في تعذيب هذه المخلوقات. ثم كانوا ينامون في " زنزانات " مظلمة كريهة الرائحة تعيث فيها الحشرات والفئران، فيلقون فيها عشرات عشرات قد يبلغون خمسين في الزانزانة الواحدة – بأصفادهم – فلا يتاح لهم حتى الفراغ الذي يتاح بين بقرة وبقرة في حظيرة الحيوانات .
ولكن الشناعة الكبرى كانت شيئاً أفظع من كل ذلك، وأدل على الطبيعة الوحشية التي ينطوي عليها ذلك الروماني القديم، والتي ورثها عنه الأوربي الحديث في وسائل الاستعمار والاستغلال .
تلك كانت حلقات المبارزة بالسيف والرمح، وكانت من أحب المهرجانات إليهم، فيجتمع إليها السادة وعلى رأسهم الإمبراطور أحياناً، ليشاهدوا الرقيق يتبارزون مبارزة حقيقية، توجه فيها طعنات السيوف والرماح إلى أي مكان في الجسم بلا تحرز ولا احتياط من القتل. بل كان المرح يصل إلى أقصاه، وترتفع الحناجر بالهتاف والأكف بالتصفيق، وتنطلق الضحكات السعيدة العميقة الخالصة حين يقضي أحد المتبارزين على زميله قضاء كاملاً، فيلقيه طريحاً على الأرض فاقد الحياة !
ذلك كان الرقيق في العالم الروماني. ولا نحتاج أن نقول شيئاً عن الوضع القانوني للرقيق عندئذ، وعن حق السيد المطلق في قتله وتعذيبه واستغلاله دون أن يكون له حق الشكوى، ودون أن تكون هناك جهة تنظر في هذه الشكوى أو تعترف بها، فذلك لغو بعد كل الذي سردناه .
ولم تكن معاملة الرقيق في فارس والهند وغيرها، تختلف كثيراً عما ذكرنا من حيث إهدار إنسانية الرقيق إهداراً كاملا ً، وتحميله بأثقل الواجبات دون إعطائه حقاً مقابلها، وإن كانت تختلف فيما بينها قليلاً أو كثيراً في مدى قسوتها وبشاعتها .
ثم جاء الإسلام …
جاء ليرد لهؤلاء البشر إنسانيتهم.جاء ليقول للسادة عن الرقيق :
" بعضكم من بعض " [12] جاء ليقول: " من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن أخصى عبده أخصيناه " [13] جاء ليقرر وحدة الأصل والمنشأ والمصير: " أنتم بنو آدم وآدم من تراب " [14] ، وأنه لا فضل لسيد على عبد لمجرد أن هذا سيد وهذا عبد. وإنما الفضل للتقوى : " ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى " [15 ].(6/465)
جاء ليأمر السادة أمراً أن يحسنوا معاملتهم للرقيق: " وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً " [16] وليقرر أن العلاقة بين السادة والرقيق ليست علاقة الاستعلاء والاستعباد، أو التسخير أو التحقير، وإنما هي علاقة القربى والأخوة . فالسادة " أهل " الجارية يُستأذنون في زواجها: " فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم. بعضكم من بعض، فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن بالمعروف " [17]، وهم إخوة للسادة: " إخوانكم خولكم.. فمن كان " أخوه " تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم " [18] وزيادة في رعاية مشاعر الرقيق يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : " لايقل أحدكم: هذا عبدي وهذه أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي " [19] ويستند على ذلك أبو هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يجري: " احمله خلفك، فإنه أخوك، وروحه مثل روحك ".
ولم يكن ذلك كل شئ. ولكن ينبغي قبل أن ننتقل إلى الخطوة التالية أن نسجل القفزة الهائلة التي قفزها الإسلام بالرقيق في هذه المرحلة .
لم يعد الرقيق " شيئاً ". وإنما صار بشراً له روح كروح السادة. وقد كانت الأمم الأخرى كلها تعتبرالرقيق جنساً آخر غير جنس السادة، خلق ليستعبد ويستذل، ومن هنا لم تكن ضمائرهم تتأثم من قتله وتعذيبه وكيه بالنار وتسخيره في الأعمال القذرة والأعمال الشاقة [20 ] ومن هنالك رفعه الإسلام إلى مستوى الأخوة الكريمة، لا في عالم المثل والأحلام، بل في عالم الواقع. ويشهد التاريخ - الذي لم ينكره أحد، حتى المتعصبون من كتاب أوربا - بأن معاملة الرقيق في صدر الإسلام بلغت حداً من الإنسانية الرفيعة لم تبلغه في أي مكان آخر. حداً جعل الرقيق المحررين يأبون مغادرة سادتهم السابقين - مع أنهم يملكون ذلك بعد أن تحرروا اقتصادياً وتعودوا على تحمل تبعات أنفسهم - لأنهم يعتبرونهم أهلاً لهم، يربطهم بهم ما يشبه روابط الدم! وأصبح الرقيق كائناً إنسانياً له كرامة يحميها القانون، ولا يجوز الاعتداء عليها بالقول ولا بالفعل. فأما القول فقد نهى صلى الله عليه وسلم السادة عن تذكير أرقائهم بأنهم أرقاء. وأمرهم أن يخاطبوهم بما يشعرهم بمودة الأهل وينفي عنهم صفة العبودية، وقال لهم في معرض هذا التوجيه: " إن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم " [21] فهي إذن مجرد ملابسات عارضة جعلت هؤلاء رقيقاً، وكان من الممكن أن يكونوا سادة لمن هم اليوم سادة! وبذلك يغض من كبرياء هؤلاء، ويردهم إلى الآصرة البشرية التي تربطهم جميعاً، والمودة التي ينبغي أن تسود علاقات بعضهم ببعض. وأما الاعتداء الجسدي فعقوبته الصريحة هي المعاملة بالمثل: " ومن قتل عبده قتلناه.. " وهو مبدأ صريح الدلالة على المساواة الإنسانية بين الرقيق والسادة، وصريح في بيان الضمانات التي يحيط بها حياة هذه الطائفة من البشر - التي لا يخرجها وضعها العارض عن صفتها البشرية الأصيلة - وهي ضمانات كاملة ووافية، تبلغ حداً عجيباً لم يصل إليه قط تشريع آخرمن تشريعات الرقيق في التاريخ كله، لا قبل الإسلام ولا بعده، إذ جعل مجرد لطم العبد في غير تأديب (وللتأديب حدود مرسومة لا يتعداها ولا يتجاوز على أي حال ما يؤدب به السيد أبناءه) مبرراً شرعياً لتحرير الرقيق .
* * *
ثم ننتقل إلى المرحلة التالية، مرحلة التحرير الواقعي .
لقد كانت الخطوة السابقة في الواقع تحريراً روحياً للرقيق، برده إلى الإنسانية ومعاملته على أنه بشر كريم لا يفترق عن السادة من حيث الأصل، وإنما هي ظروف عارضة حدت من الحرية الخارجية للرقيق في التعامل المباشر مع المجتمع، وفيما عدا هذه النقطة كانت للرقيق كل حقوق الآدميين .
ولكن الإسلام لم يكتف بهذا، لأن قاعدته الأساسية العظمى هي المساواة الكاملة بين البشر، وهي التحرير الكامل لكل البشر. ولذلك عمل فعلاً على تحرير الأرقاء، بوسيلتين كبيرتين: هما العتق والمكاتبة .
فأما العتق فهو التطوع من جانب السادة بتحرير من في يدهم من الأرقاء، وقد شجع الإسلام على ذلك تشجيعاً كبيراً، وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم القدوة الأولى في ذلك إذ أعتق من عنده من الأرقاء، وتلاه في هذا أصحابه، وكان أبو بكر ينفق أموالاً طائلة في شراء العبيد من سادة قريش الكفار، ليعتقهم ويمنحهم الحرية ؛ وكان بيت المال يشتري العبيد من أصحابهم ويحررهم كلما بقيت لديه فضلة من مال. قال يحيى بن سعيد: " بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فجمعتها ثم طلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد فقيراً ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها عبيداً فأعتقتهم ".(6/466)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق من الأرقاء من يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، أويؤدي خدمة مماثلة للمسلمين. ونص القرآن الكريم على أن كفارة بعض الذنوب هي عتق الرقاب. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على العتق تكفيراً عن أي ذنب يأتيه الإنسان، وذلك للعمل على تحرير أكبر عدد ممكن منهم، فالذنوب لا تنقطع، وكل ابن آدم خطاء كما يقول الرسول. ويحسن هنا أن نشير إشارة خاصة إلى إحدى هذه الكفارات لدلالتها الخاصة في نظرة الإسلام إلى الرق، فقد جعل كفارة القتل الخطأ دية مسلمة إلى أهل القتيل وتحرير رقبة: " ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلَّمة إلى أهله " [22] والقتيل الذي قتل خطأ هو روح إنسانية قد فقدها أهلها كما فقدها المجتمع دون وجه حق، لذلك يقرر الإسلام التعويض عنها من جانبين: التعويض لأهلها بالدية المسلمة لهم، والتعويض للمجتمع بتحرير رقبة مؤمنة ! فكأن تحرير الرقيق هو إحياء لنفس إنسانية تعوض النفس التي ذهبت بالقتل الخطأ. والرق على ذلك هو موت أو شبيه بالموت في نظر الإسلام، على الرغم من كل الضمانات التي أحاط بها الرقيق، ولذلك فهو ينتهز كل فرصة " لإحياء " الأرقاء بتحريرهم من الرق [23]!
ويذكر التاريخ أن عدداً ضخماً من الأرقاء قد حرر بطريق العتق، وأن هذا العدد الضخم لا مثيل له في تاريخ الأمم الأخرى، لا قبل الإسلام، ولا بعده بقرون عدة حتى مطلع العصر الحديث. كما أن عوامل عتقهم كانت إنسانية بحتة، تنبع من ضمائر الناس ابتغاء مرضاة الله، ولاشيء غير مرضاة الله .
أما المكاتبة، فهي منح الحرية للرقيق متى طلبها بنفسه، مقابل مبلغ من المال يتفق عليه السيد والرقيق. والعتق هنا إجباري لا يملك السيد رفضه ولا تأجيله بعد أداء المبلغ المتفق عليه. وإلا تدخلت الدولة (القاضي أو الحاكم) لتنفيذ العتق بالقوة، ومنح الحرية لطالبها .
وبتقرير المكاتبة، فتح في الواقع باب التحرير في الإسلام، لمن أحس في داخل نفسه برغبة التحرر، ولم ينتظر أن يتطوع سيده بتحريره في فرصة قد تسنح أو لا تسنح على مر الأيام .
ومنذ اللحظة الأولى التي يطلب فيها المكاتبة - والسيد لا يملك رفض المكاتبة متى طلبها الرقيق، ولم يكن في تحريره خطر على أمن الدولة الإسلامية - يصبح عمله عند سيده بأجر، أو يتاح له - إذا رغب - أن يعمل في الخارج بأجر، حتى يجمع المبلغ المتفق عليه .
ومثل ذلك قد حدث في أوربا في القرن الرابع عشر - أي بعد تقرير الإسلام له بسبعة قرون - مع فارق كبير لم يوجد في غير الإسلام، وهو كفالة الدولة للأرقاء المكاتبين - وذلك إلى جانب مجهود الإسلام الضخم في عتق الأرقاء تطوعاً بلا مقابل، تقرباً إلى الله ووفاء بعبادته .
تقول الآية التي تبين مصارف الزكاة: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها... وفي الرقاب … " [24] فتقرر أن الزكاة تصرف من بيت المال - وهو الخزانة العامة في العرف الحديث - لمعاونة المكاتبين من الأرقاء لأداء ثمن التحرير، إذا عجزوا بكسبهم الخاص عن أدائه .
وبهذا وذاك يكون الإسلام قد خطا خطوات فعليه واسعة في سبيل تحرير الرقيق، وسبق بها التطور التاريخي كله بسبعة قرون على الأقل، وزاد على هذا التطور عناصر – كرعاية الدولة – لم يفىء إليها العالم إلا في مطلع تاريخه الحديث. وعناصر أخرى لم يفىء إليها أبداً، سواء في حسن معاملة الرقيق، أو في عتقه تطوعاً، بغير ضغط من التطورات الاقتصادية أو السياسية التي اضطرت الغرب اضطراراً لتحرير الرقيق كما سيجيء .
وبهذا وذاك تسقط حذلقة الشيوعيون ودعاواهم " العلمية " الزائفة، التي تزعم أن الإسلام حلقة من حلقات التطور الاقتصادي جاءت في موعدها الطبيعي حسب سنة المادية الجدلية – فها هي ذي قد سبقت موعدها بسبعة قرون – والتي تزعم أن كل نظام - بما في ذلك الإسلام - إن هو إلا انعكاس للتطور الاقتصادي القائم وقت ظهوره، وأن كل عقائده وأفكاره تلائم هذا التطور وتستجيب له، ولكنها لا تسبقه، ولا تستطيع أن تسبقه، كما قرر العقل الذي لا يخطىء ولا يأتيه الباطل من فوقه ولا من تحته، عقل كارل مارس تقدست ذكراه! فها هو ذا الإسلام لم يعمل بوحي النظم الاقتصادية القائمة حينئذ في جزيرة العرب وفي العالم كله، لا في شأن الرقيق، ولا في توزيع الثروة، ولا في علاقة الحاكم بالمحكوم، أو المالك بالأجير [25]، وإنما كان ينشئ نظمه الاجتماعية والاقتصادية تطوعاً وإنشاء على نحو غير مسبوق، ولا يزال في كثير من أبوابه متفرداً في التاريخ .
وهنا يخطر السؤال الحائر على الأفكار والضمائر: إذا كان الإسلام قد خطا هذه الخطوات كلها نحو تحرير الرقيق، وسبق بها العالم كله متطوعاً غير مضطر ولا مضغوط عليه، فلماذا لم يخط الخطوة الحاسمة الباقية، فيعلن في صراحة كاملة إلغاء الرق من حيث المبدأ؟(6/467)
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي أن ندرك حقائق اجتماعية ونفسية وسياسية أحاطت بموضوع الرق، وجعلت الإسلام يضع المبادئ الكفيلة بتحرير الرقيق، ويدعها تعمل عملها على المدى الطويل .
يجب أن نذكر أولاً أن الحرية لا تمنح وإنما تؤخذ. وتحرير الرقيق بإصدار مرسوم كما يتخيل البعض لم يكن ليحرر الرقيق ! والتجربة الأمريكية في تحرير الرقيق بجرة قلم على يد أبراهام لنكولن خير شاهد لما نقول، فالعبيد الذين حررهم لنكولن - من الخارج - بالتشريع، لم يطيقوا الحرية، وعادوا إلى سادتهم يرجونهم أن يقبلوهم عبيداً لديهم كما كانوا، لأنهم - من الداخل - لم يكونوا قد تحرروا بعد .
والمسألة على غرابتها ليست غريبة حين ينظر إليها على ضوء الحقائق النفسية. فالحياة عادة. والملابسات التي يعيش فيها الإنسان هي التي تكيف مشاعره وتصوغ أحاسيسه وأجهزته النفسية [26] والكيان النفسي للعبد يختلف عن الكيان النفسي للحر، لا لأنه جنس آخر كما ظن القدماء، ولكن لأن حياته في ظل العبودية الدائمة جعلت أجهزته النفسية تتكيف بهذه الملابسات، فتنمو أجهزة الطاعة إلى أقصى حد، وتضمر أجهزة المسؤولية واحتمال التبعات إلى أقصى حد ..
فالعبد يحسن القيام بكثير من الأمور حين يأمره بها سيده، فلا يكون عليه إلا الطاعة والتنفيذ. ولكنه لا يحسن شيئاً تقع مسؤوليته على نفسه، ولو كان أبسط الأشياء، لا لأن جسمه يعجز عن القيام بها، ولا لأن فكره – في جميع الأحوال - يعجز عن فهمها ؛ ولكن لأن نفسه لا تطيق احتمال تبعاتها، فيتخيل فيها أخطاراً موهومة، ومشكلات لا حل لها، فيفر منها إبقاء على نفسه من الأخطار !
ولعل الذين يمعنون النظر في الحياة المصرية - والشرقية - في العهود الأخيرة يدركون أثر هذه العبودية الخفية التي وضعها الاستعمار الخبيث في نفوس الشرقيين ليستعبدهم للغرب. يدركونها في المشروعات المعطلة التي لا يعطلها - في كثير من الأحيان - إلا الجبن عن مواجهة نتائجها! والمشروعات المدروسة التي لا تنفذها الحكومات حتى تستقدم خبيراً انجليزياً أو أمريكياً [27].. الخ. ليحتمل عنها مسؤولية المشروع ويصدر الإذن بالتنفيذ! والشلل المروع الذي يخيم على الموظفين في الدواوين ويقيد إنتاجهم بالروتين المتحجر، لأن أحداً من الموظفين لا يستطيع أن يصنع إلا ما يأمره به " السيد " الموظف الكبير، وهذا بدوره لا يملك إلا إطاعة " السيد " الوزير، لا لأن هؤلاء جميعاً يعجزون عن العمل، ولكن لأن جهاز التبعات عندهم معطل وجهاز الطاعة عندهم متضخم، فهم أشبه شيء بالعبيد، وإن كانوا رسمياً من الأحرار !
هذا التكيف النفسي للعبد هو الذي يستعبده. وهو ناشىء في أصله من الملابسات الخارجية بطبيعة الحال، ولكنه يستقل عنها، ويصبح شيئاً قائماً بذاته كفرع الشجرة الذي يتدلى إلى الأرض، ثم يمد جذوراً خاصة به ويستقل عن الأصل. وهذا التكيف النفسي لا يذهب به إعلان تصدره الدولة بإلغاء الرق . بل ينبغي أن يغير من الداخل، بوضع ملابسات جديدة تكيف المشاعر على نحو آخر، وتنمي الأجهزة الضامرة في نفس العبد، وتصنع كياناً بشرياً سوياً من كيانه المشوه الممسوخ .
وذلك ما صنعه الإسلام .
فقد بدأ أولا بالمعاملة الحسنة للرقيق. ولا شيء كحسن المعاملة يعيد توازن النفس المنحرفة، ويرد إليها اعتبارها، فتشعر بكيانها الإنساني، وكرامتها الذاتية، وحين ذلك تحس طعم الحرية فتتذوقه، ولا تنفر منه كما نفر عبيد أمريكا المحررون .
وقد وصل الإسلام في حسن المعاملة ورد الاعتبار الإنساني للرقيق إلى درجة عجيبة ضربنا أمثلة منها من قبل في آيات القرآن وأحاديث الرسول، ونسرد هنا أمثلة أخرى في التطبيق الواقعي .
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين بعض الموالي وبعض الأحرار من سادة العرب. فآخى بين بلال بن رباح وخالد بن رويحة الخثعمي، وبين مولاه زيد وعمه حمزة، وبين خارجة بن زيد وأبي بكر، وكانت هذه المؤاخاة صلة حقيقية تعدل رابطة الدم وتصل إلى حد الاشتراك في الميراث !
ولم يكتف بهذا الحد …
فقد زوج بنت عمته زينب بنت جحش من مولاه زيد. والزواج مسألة حساسة جداً وخاصة من جانب المرأة، فهي تقبل أن تتزوج من يفضلها مقاماً ولكنها تأبى أن يكون زوجها دونها في الحسب والنسب والثروة، وتحس أن هذا يحط من شأنها ويغض من كبريائها. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهدف إلى معنى أسمى من كل ذلك وهو رفع الرقيق من الوهدة التي دفعته إليها البشرية الظالمة إلى مستوى أعظم سادة العرب من قريش .
ولم يكتف كذلك بهذا الحد .(6/468)
فقد أرسل مولاه زيداً على رأس جيش فيه الأنصار والمهاجرون من سادات العرب، فلما قتل ولى ابنه أسامة بن زيد قيادة الجيش، وفيه أبو بكر وعمر وزيرا الرسول وخليفتاه من بعده، فلم يعط المولى بذلك مجرد المساواة الإنسانية، بل أعطاه حق القيادة والرئاسة على " الأحرار ". ووصل في ذلك إلى أن يقول: " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله تبارك وتعالى [28]". فأعطى الموالي بذلك الحق في أرفع مناصب الدولة، وهو ولاية أمر المسلمين. وقد قال عمر وهو يستخلف: " لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته " فيسير على نفس المبدأ الذي سنه الرسول صلى الله عليه وسلم. ويضرب عمر مثلاً آخر من الأمثلة الرائعة على احترام الموالي ؛ إذ يعارضه بلال بن رباح في مسألة الفيء فيشتد في معارضته، فلا يجد سبيلاً في رده إلا أن يقول: " اللهم اكفني بلالاً وأصحابه "! ذلك وهو الخليفة الذي كان يملك - لو أراد - أن يأمر فيطاع !
هذه النماذج التي وضعها الإسلام كان المقصود بها تحرير الرقيق من الداخل - كما قلنا في مبدأ هذا الفصل - لكي يحس بكيانه فيطلب الحرية، وهذا هو الضمان الحقيقي للتحرير .
وصحيح أنه شجع على العتق وحث عليه بكل الوسائل، ولكن هذا نفسه كان جزءاً من التربية النفسية للرقيق، لكي يشعروا أن في إمكانهم أن يحصلوا على الحرية ويتمتعوا بكل ما يتمتع به السادة من حقوق، فتزداد رغبتهم في الحرية ويتقبلوا احتمال التبعات في سبيلها، وهنا يسارع في منحها لهم، لأنهم حينئذ مستحقون لها، قادرون على صيانتها .
وفرق كبير بين النظام الذي يشجع الناس على طلب الحرية ويهيء لها الوسائل، ثم يعطيها لهم في اللحظة التي يطلبونها بأنفسهم، وبين النظم التي تدع الأمور تتعقد وتتحرج، حتى تقوم الثورات الاقتصادية والاجتماعية وتزهق الأرواح بالمئات والألوف، ثم لا تعطي الحرية لطلابها إلا مجبرة كارهة .
وقد كان من فضائل الإسلام الكبرى في مسألة الرقيق، أنه قد حرص على التحرير الحقيقي له من الداخل والخارج، فلم يكتف بالنية الطيبة كما فعل لنكولن بإصدار تشريع لا رصيد له في داخل النفوس ؛ مما يثبت عمق إدراك الإسلام للطبيعة البشرية، وفطنته إلى خير الوسائل لمعالجتها. وهذا إلى جانب تطوعه بإعطاء الحقوق لأصحابها، مع تربيتهم على التمسك بها واحتمال تبعاتها - على أساس الحب والمودة بين جميع طوائف المجتمع - قبل أن يتصارعوا من أجل هذه الحقوق، كما حدث في أوربا، ذلك الصراع البغيض الذي يجفف المشاعر ويورث الأحقاد. فيفسد كل ما يمكن أن تصيبه البشرية من الخير في أثناء الطريق .
والآن نتحدث عن العامل الأكبر الذي جعل الإسلام يضع الأساس لتحرير الرقيق ثم يدعه يعمل عمله من خلال الأجيال .
لقد جفف الإسلام منابع الرق القديمة كلها، فيما عدا منبعاً واحداً لم يكن يمكن أن يجففه، وهو رق الحرب. ولنأخذ في شيء من التفصيل .
كان العرف السائد يومئذ هو استرقاق أسرى الحرب أو قتلهم [29] وكان هذا العرف قديماً جداً، موغلاً في ظلمات التاريخ، يكاد يرجع إلى الإنسان الأول، ولكنه ظل ملازماً للإنسانية في شتى أطوارها .
وجاء الإسلام والناس على هذا الحال. ووقعت بينه وبين أعداءه الحروب، فكان الأسرى المسلمون يسترقون عند أعداء الإسلام، فتسلب حرياتهم، ويعامل الرجال منهم بالعسف والظلم الذي كان يجري يومئذ على الرقيق، وتنتهك أعراض النساء لكل طالب، يشترك في المرأة الواحدة الرجل وأولاده وأصدقاؤه من يبغي الاستمتاع منهم، بلا ضابط ولا نظام، ولا احترام لإنسانية أولئك النساء أبكاراً كن أم غير أبكار. أما الأطفال – إن وقعوا أسرى – فكانوا ينشأون في ذل العبودية البغيض .
عندئذ لم يكن جديراً بالمسلمين أن يطلقوا سراح من يقع في أيديهم من أسرى الأعداء. فليس من حسن السياسة أن تشجع عدوك عليك بإطلاق أسراه، بينما أهلك وعشيرتك وأتباع دينك يسامون الخسف والعذاب عند هؤلاء الأعداء. والمعاملة بالمثل هنا هي أعدل قانون تستطيع استخدامه، أو هي القانون الوحيد. ومع ذلك فينبغي أن نلاحظ فروقاً عميقة بين الإسلام وغيره من النظم في شأن الحرب وأسرى الحرب .
كانت الحروب – وما تزال – في غير العالم الإسلامي لا يقصد بها إلا الغزو والفتك والاستعباد. كانت تقوم على رغبة أمة في قهر غيرها من الأمم، وتوسيع رقعتها على حسابها، أو لاستغلال مواردها وحرمان أهلها منها ؛ أو لشهوة شخصية تقوم في نفس ملك أو قائد حربي، ليرضي غروره الشخصي وينتفش كبراً وخيلاء، أو لشهوة الانتقام.. أو ما إلى ذلك من الأهداف الأرضية الهابطة. وكان الأسرى الذين يسترقون، لا يسترقون لخلاف في عقيدة، ولا لأنهم في مستواهم الخلقي أو النفسي أو الفكري أقل من آسريهم، ولكن فقط لأنهم غلبوا في الحرب .(6/469)
وكذلك لم تكن لهذه الحرب تقاليد تمنع من هتك الأعراض أو تخريب المدن المسالمة، أو قتل النساء والأطفال والشيوخ، وذلك منطقي مع قيامها لغير عقيدة ولا مبدأ ولا هدف رفيع .
فلما جاء الإسلام أبطل ذلك كله، وحرم الحروب كلها. إلا أن تكون جهاداً في سبيل الله.. جهاداً لدفع اعتداء عن المسلمين، أو لتحطيم القوى الباغية التي تفتن الناس عن دينهم بالقهر والعنف. أو لإزالة القوى الضالة التي تقف في سبيل الدعوة وإبلاغها للناس ليروا الحق ويسمعوه .
( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) [30] (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) [31 ].
فهي دعوة سلمية لا تكره أحداً: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) [32] وبقاء اليهود والمسيحيين في العالم الإسلامي على دينهم حتى اللحظة برهان قاطع لا يقبل الجدل ولا المماحكة، يثبت أن الإسلام لم يكره غيره على اعتناقه بقوة السيف [33 ].
فاذا قبل الناس الإسلام، واهتدوا إلى دين الحق، فلا حرب ولا خصومة ولا خضوع من أمة لأمة، ولا تمييز بين مسلم ومسلم على وجه الأرض، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى .
فمن أبى الإسلام وأراد أن يحتفظ بعقيدته في ظل النظام الإسلامي – مع إيمان الإسلام بأنه خير من هذه العقيدة وأقوم سبيلاً – فله ذلك دون إكراه ولا ضغط، على أن يدفع الجزية مقابل حماية الإسلام له، بحيث تسقط الجزية أو ترد إن عجز المسلمون عن حمايته [34] فإن أبوا الإسلام والجزية فهم إذن معاندون متبجحون، لا يريدون للدعوة السلمية أن تأخذ طريقها، وإنما يريدون أن يقفوا بالقوة المادية في طريق النور الجديد يحجبونه عن عيون قوم ربما اهتدوا لو خلي بينهم وبين النور .
عند ذلك فقط يقوم القتال، ولكنه لا يقوم بغير إنذار أو إعلان، لإعطاء فرصة أخيرة لحقن الدماء ونشر السلم في ربوع الأرض: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) [35 ].
تلك هي الحرب الإسلامية، لا تقوم على شهوة الفتح ولا رغبة الاستغلال، ولا دخل فيها لغرور قائد حربي أو ملك مستبد، فهي حرب في سبيل الله وفي سبيل هداية البشرية، حين تخفق الوسائل السلمية كلها في هداية الناس .
ولها مع ذلك تقاليد ؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته: "اغزوا باسم الله في سبيل الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا" [36 ].
فلا قتل لغير المحارب الذي يقف بالسلاح يقاتل المسلمين، ولا تخريب ولا تدمير ولا هتك للأعراض، ولا إطلاق لشهوة الشر والإفساد: (إن الله لا يحب المفسدين )
وقد راعى المسلمون تقاليدهم النبيلة هذه في كل حروبهم، حتى في الحروب الصليبية الغادرة، حين انتصروا على عدوهم الذي كان في جولة سابقة قد انتهك الحرمات واعتدى على المسجد الأقصى فهاجم المحتمين فيه بحمى الله – رب الجميع – وأسال دماءهم فيه أنهاراً، فلم ينتقموا لأنفسهم حين جاءهم النصر، وهم يملكون الإذن من الدين ذاته بالمعاملة بالمثل: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) [37]. ولكنهم ضربوا المثل الأعلى الذي يعجز عنه غير المسلمين في كل الأرض حتى العصر الحديث .
ذلك فارق أساسي في أهداف الحرب وتقاليدها بين المسلمين وغير المسلمين. وقد كان الإسلام يملك لو أراد – والحق يسنده في ذلك – أن يعتبر من يقع في يديه من الأسرى – ممن يعاندون الهدى ويصرون على وثنيتهم الهابطة وشركهم المخرف – قوماً ناقصي الآدمية، ويسترقهم بهذا المعنى وحده . فما يصر بشر على هذه الخرافة – بعد إذ يرى النور – إلا أن يكون في نفسه هبوط أو في عقله انحراف، فهو ناقص في كيانه البشري، غير جدير بكرامة الآدميين، وحرية الأحرار من بني الإنسان .
ومع ذلك فإن الإسلام لم يسترق الأسرى لمجرد اعتبار أنهم ناقصون في آدميتهم، وإنما لأنهم – وهذه حالهم – قد جاءوا يعتدون على حمى الإسلام، أو وقفوا بالقوة المسلحة يحولون بين الهدى الرباني وبين قلوب الناس .
وحتى مع ذلك فلم يكن تقليد الإسلام الدائم هو استرقاق الأسرى. فقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم بعض أسرى بدر من المشركين منًّا بغير فداء، وأطلق بعضهم لقاء فدية، وأخذ من نصارى نجران جزية ورد إليهم أسراهم، ليضرب بذلك المثل لما يريد أن تهتدي إليه البشرية في مستقبلها .
ومما هو جدير بالإشارة هنا أن الآية الوحيدة التي تعرضت لأسرى الحرب: (فإما منّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها) [38] لم تذكر الاسترقاق للأسرى، وإنما ذكرت الفداء وإطلاق السراح دون مقابل، حتى لا يكون الاسترقاق تشريعاً دائماً للبشرية ولا ضربة لازب، إنما هو أمر يلجأ إليه الجيش الإسلامي المحارب إذا اقتضته الظروف والملابسات .(6/470)
يضاف إلى ذلك أن الأسرى الذين كانوا يقعون في يد الإسلام كانوا يعاملون تلك المعاملة الكريمة التي وصفناها من قبل، ولا يلقون الهوان والتعذيب، وكان يفتح أمامهم باب التحرر حين تسعى نفوسهم إليه وتحتمل تبعاته، وإن كان معظمهم في الواقع لم يكن حراً قبل أسره، إنما كان من الرقيق الذي استرقه الفرس والرومان ودفعوه إلى قتال المسلمين .
فكأن الأمر في الحقيقة لم يكن استرقاقاً من أجل الاسترقاق. ولا كان الرق أصلاً دائماً يهدف الإسلام إلى المحافظة عليه، فاتجاه الإسلام إلى تحرير الرقيق هو الاتجاه البارز الذي تشير كل الدلائل إليه .
وإنما هو وضع موقوت يؤدي في النهاية إلى التحرير .
تقوم الحرب بين المسلمين وأعداء الإسلام فيقع بعض الأسرى من الكفار في يد المسلمين، فيصبحون – في بعض الحالات، لا في كل الحالات ولا بصورة حتمية – رقيق حرب، فيعيشون فترة من الزمن في جو المجتمع الإسلامي، يبصرون عن كثب صورة العدل الرباني مطبقاً في واقع الأرض، وتشملهم روح الإسلام الرحيمة بحسن معاملتها واعتباراتها الإنسانية، فتتشرب أرواحهم بشاشة الإسلام، وتتفتح بصائرهم للنور .. وعندئذ يحررهم الإسلام بالعتق في بعض الأحيان، أو بالمكاتبة إن تاقت نفوسهم إلى الحرية وسعوا إليها .
وبذلك تصبح الفترة التي يقضونها في الرق في الحقيقة فترة علاج نفسي وروحي، قوامه إحسان المعاملة لهم، وإشعارهم بآدميتهم المهدرة، وتوجيه أرواحهم إلى النور الرباني بغير إكراه.. ثم في النهاية يكون التحرير ..
وذلك كله في حالة الاسترقاق. وليست هي السبيل الوحيد الذي يسلكه الإسلام، كما يتضح من آية التشريع، ومن السلوك العملي للرسول صلى الله عليه وسلم في مختلف الغزوات .
أما النساء فقد كرمهن - حتى في رقهن - عما كن يلقين في غير بلاد الإسلام. فلم تعد أعراضهن نهباً مباحاً لكل طالب على طريقة البغاء (وكان هذا هو مصير أسيرات الحروب في أغلب الأحيان) وإنما جعلهن ملكاً لصاحبهن وحده، لا يدخل عليهن أحد غيره، وجعل من حقهن نيل الحرية بالمكاتبة، كما كانت تحرر من ولدت لسيدها ولداً ويحرر معها ولدها، وكن يلقين من حسن المعاملة ما أوصى به الإسلام .
* * *
تلك قصة الرق في الإسلام: صفحة مشرفة في تاريخ البشرية. فالإسلام لم يجعل الرق أصلاً من أصوله، بدليل أنه سعى إلى تحريره بشتى الوسائل، وجفف منابعه كلها لكي لا يتجدد، فيما عدا المنبع الواحد الذي ذكرناه وهو رق الحرب المعلنة للجهاد في سبيل الله. وقد رأينا أن الرق فيها ليس ضربة لازب، وأنه – إن حدث – فلفترة موقوتة تؤدي في النهاية إلى التحرير ..
أما ما حدث في بعض العهود الإسلامية من الرق في غير أسرى الحروب الدينية، ومن نخاسة واختطاف وشراء لمسلمين لا يجوز استرقاقهم أصلاً، فإن نسبته إلى الإسلام ليست أصدق ولا أعدل من نسبة حكام المسلمين اليوم إلى الإسلام بما يرتكبونه من موبقات وآثام !
وينبغي أن نجعل بالنا إلى عدة أمور في هذا الموضوع .
الأول: هو تعدد منابع الرق عند الدول الأخرى بغير ضرورة ملجئة سوى شهوة الاستعباد، من استرقاق أمة لأمة، وجنس لجنس، واسترقاق للفقر. واسترقاق بالوراثة من الميلاد في طبقة معينة، واسترقاق بسبب العمل في الأرض إلخ، وإلغاء هذه المنابع كلها في الإسلام، فيما عدا المنبع الوحيد الذي شرحنا ظروفه من قبل .
والثاني: أن أوربا مع تعدد موارد الرق فيها بغير ضرورة، لم تلغ الرق حين ألغته متطوعة، وكتابهم يعترفون بأن الرق ألغي حين ضعف إنتاج الرقيق – لسوء أحوالهم المعيشية وفقدان الرغبة أو القدرة على العمل – بحيث أصبحت تكاليف العبد من إعاشة وحراسة أكثر من إنتاجه !! فهي إذن حسبة اقتصادية لا غير، يحسب فيها المكسب والخسارة، ولا ظل فيها لأي معنى من المعاني الإنسانية التي تشعر بكرامة الجنس البشري، فتمنح الرقيق حريته من أجلها ! هذا بالإضافة إلى الثورات المتتابعة التي قام بها الرقيق فاستحال معها دوام استرقاقه .
ومع ذلك فإن أوربا حينئذ لم تمنحه الحرية. ولكنها حولته من رقيق للسيد إلى رقيق للأرض، يباع معها ويشترى، ويخدم فيها، ولا يجوز له أن يغادرها، وإلا اعتبر آبقاً وأعيد إليها بقوة القانون مكبلاً بالسلاسل مكوياً بالنار. وهذا اللون من الرق هو الذي بقي حتى حرمته الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، أي بعد أن قرر الإسلام مبدأ التحرير بما يزيد على ألف ومائة عام .
والأمر الثالث: أنه لا يجوز أن تخدعنا الأسماء. فقد ألغت الثورة الفرنسية الرق في أوربا، وألغى لنكولن الرق في أمريكا، ثم اتفق العالم على إبطال الرق.. كل ذلك من الظاهر. وإلا فأين هو الرق الذي ألغي؟ وما اسم ما يحدث اليوم في كل أنحاء العالم؟ وما اسم الذي كانت تصنعه فرنسا في المغرب الإسلامي؟ وما اسم الذي تصنعه أمريكا في الزنوج، وانجلترا في الملونين في جنوب افريقيا؟(6/471)
أليس الرق في حقيقته هو تبعية قوم لقوم آخرين، وحرمان طائفة من البشر من الحقوق المباحة للآخرين؟ أم هو شيء غير ذلك؟ وماذا يعني أن يكون هذا تحت عنوان الرق، أو تحت عنوان الحرية والإخاء والمساواة؟ ماذا تجدي العناوين البراقة إذا كانت الحقائق التي وراءها هي أخبث ما عرفته البشرية من الحقائق في تاريخها الطويل؟
لقد كان الإسلام صريحاً مع نفسه ومع الناس فقال : هذا رق، وسببه الوحيد هو كذا، والطريق إلى التحرر منه مفتوح .
أما الحضارة الزائفة التي نعيش اليوم في أحضانها، فلا تجد في نفسها هذه الصراحة، فهي تصرف براعتها في تزييف الحقائق وطلاء اللافتات البراقة. فقتل مئات الألوف في تونس والجزائر والمغرب لغير شيء سوى أنهم يطالبون بالحرية والكرامة الإنسانية: حريتهم في أن يعيشوا في بلادهم بلا دخيل، وأن يتكلموا لغتهم، ويعتقدوا عقيدتهم، ولا يخدموا إلا أنفسهم. وحريتهم في التعامل المباشر مع العالم في السياسة والاقتصاد... قتل هؤلاء الأبرياء وحبسهم في السجون القذرة بلا طعام ولا ماء، وانتهاك أعراضهم والسطو على نسائهم، وقتلهن بلا مبرر وشق بطونهن للتراهن على نوع الجنين.. هذا اسمه في القرن العشرين حضارة ومدنية ونشر لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة. أما المعاملة المثالية الكريمة التي كان يمنحها الإسلام للرقيق قبل ثلاثة عشر قرناً، تطوعاً منه وإكراماً للجنس البشري في جميع حالاته، مع إعلانه العملي بأن الرق وضع مؤقت وليس حالة دائمة، فهذا اسمه تأخر وانحطاط وهمجية .
وحين يضع الأمريكان على فنادقهم ونواديهم لافتات تقول: " للبيض فقط " أو تقول في وقاحة كريهة: " ممنوع دخول السود والكلاب "، وحين يفتك جماعة من البيض " المتحضرين " بواحد من الملونين، فيطرحونه أرضاً ويضربونه بأحذيتهم حتى يسلم الروح، ورجل الشرطة واقف لا يتحرك ولا يتدخل، ولا يهم لنجدة أخيه في الوطن وفي الدين واللغة فضلاً عن الأخوة في البشرية، كل ذلك لأنه – وهو ملون – تجرأ فمشى إلى جانب فتاة أمريكية بيضاء لا عرض لها – وبإذنها لا كرها عنها – يكون هذا هو أقصى ما وصل إليه القرن العشرون من التحضر والارتفاع .
أما حين يتهدد العبد المجوسي عمر بالقتل، ويفهم عنه عمر ذلك، ثم لا يحبسه ولا ينفيه من الأرض، ولا نقول يقتله، وهو مخلوق ناقص الآدمية حقا لأنه يعبد النار ويصر على عبادتها تعصباً منه للباطل بعد أن رأى الحق بعينيه، فما أشد همجية عمر، وما أشد ازدراءه لكرامة الجنس البشري لأنه قال: " تهددني العبد "! ثم تركه حراً حتى ارتكب جريمته فقتل خليفة المسلمين، لأنه لم يكن يملك عليه سلطاناً قبل أن يقترف الجريمة .
وقصة الملونين في أفريقيا، وحرمانهم من حقوقهم البشرية وقتلهم أو " اصطيادهم " حسب تعبير الجرائد الإنجليزية الوقحة، لأنهم تجرأوا فأحسوا بكرامتهم وطالبوا بحريتهم، هذا هو العدل البريطاني في قمته، والحضارة الإنسانية في أوجها، والمبادئ السامية التي تجيز لأوربا الوصاية على العالم. أما الإسلام فهو همجي جداً لأنه لم يتعلم " اصطياد " البشر، والتلهي بقتلهم لأنهم سود البشرة. بل وصل توغله في التأخر والانحطاط أن يقول: " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة .. "
أما المرأة فلها حساب آخر .
كان الإسلام قد أباح للسيد أن يكون عنده عدد من الجواري من سبى الحرب [39] يستمتع بهن وحده، ويتزوج منهن أحياناً إذا شاء. وأوربا تستنكر هذا اليوم وتتعفف عن هذه الحيوانية البشعة التي تعتبر الجواري متاعاً مباحاً، وأجساداً لا حرمة لها ولا كرامة، كل مهمتها في الحياة إشباع لذة بهيمية بغيضة، لرجل لا يرتفع عن مستوى الحيوان .
وجريمة الإسلام الحقيقية في هذا الأمر أنه لا يبيح البغاء! فقد كانت أسيرات الحرب في البلاد الأخرى يهوين إلى حمأة الرذيلة بحكم أنه لا عائل لهن، ولأن سادتهن لا يشعرن نحوهن بحمية العرض، فيشغلونهن في هذه المهمة البغيضة، ويكسبون من هذه التجارة القذرة: تجارة الأعراض. ولكن الإسلام – المتأخر – لم يقبل البغاء، وحرص على حفظ المجتمع نظيفاً من الجريمة، فقصر هؤلاء الجواري على سيدهن، عليه إطعامهن وكسوتهن وحفظهن من الجريمة، وإرضاء حاجتهن الجنسية – عرضاً – وهو يقضي حاجته .
أما ضمير أوربا فلا يطيق هذه الحيوانية... ولذلك أباحت البغاء ومنحته رعاية القانون وحمايته! وراحت تنشره عامدة في كل بلد وطئته أقدامها مستعمرة. فما الذي تغير من الرق حين تغير عنوانه؟ وأين كرامة البغي وهي لا تملك رد طالب – وما يطلبها أحد إلا لأقذر معنى يمكن أن تهبط إليه البشرية: دفعة الجسد الخالصة التي لا تلطفها عاطفة، ولا ترتفع بها روح؟ وأين من هذه القذارة الحسية والمعنوية ما كان بين السادة والجواري في الإسلام؟(6/472)
لقد كان الإسلام صريحاً مع نفسه ومع الناس، فقال: هذا رق. وهؤلاء جوار. وحدود معملتهن هي كذا وكذا. ولكن الحضارة المزيفة لا تجد في نفسها هذه الصراحة، فهي لا تسمي البغاء رقا، وإنما تقول عنه إنه " ضرورة اجتماعية "!
ولماذا هو ضرورة؟
لأن الرجل الأوربي المتحضر لا يريد أن يعول أحداً: لا زوجة ولا أولاداً. يريد أن يستمتع دون أن يحتمل تبعة. يريد جسد امرأة يفرغ فيه شحنة الجنس. ولا يعنيه من تكون هذه المرأة، ولا تعنيه مشاعرها نحوه ولا مشاعره نحوها. فهو جسد ينزو كالبهيمة، وهي جسد يتلقى هذه النزوة بلا اختيار، ويتلقاها لا من واحد بعينه، ولكن من أي عابر سبيل .
هذه هي " الضرورة " الاجتماعية التي تبيح استرقاق النساء في الغرب في العصر الحديث. وما هي بضرورة لو ارتفع الرجل الأوربي إلى مستوى " الإنسانية " ولم يجعل لأنانيته كل هذا السلطان عليه .
والدول التي ألغت البغاء في الغرب المتحضر لم تلغه لأن كرامتها أوجعتها، أو لأن مستواها الخلقي والنفسي والروحي قد ارتفع عن الجريمة. كلا! ولكن لأن الهاويات قد أغنين عن المحترفات. ولم تعد الدولة في حاجة إلى التدخل !
وبعد ذلك يجد الغرب من التبجح ما يعيب به نظام الجواري في الإسلام، ذلك النظام الذي كان قبل ألف وثلثمائة عام – وعلى أنه نظام غير مطلوب له الدوام – أكرم بكثير وأنظف بكثير من النظام الذي يقوم اليوم في القرن العشرين، وتعتبره المدنية نظاماً طبيعيا ً، لا يستنكره أحد، ولا يسعى في تغييره أحد، ولا يمانع أحد في أن يظل باقياً إلى نهاية الحياة !
ولا يقل قائل إن هؤلاء " الهاويات " يتطوعن دون إكراه من أحد وهن مالكات لحريتهن الكاملة. فالعبرة بالنظام الذي يدفع الناس بأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية والروحية إلى قبول الرق أو الوقوع فيه. ولا شك أن " الحضارة " الأوربية هي التي تدفع إلى البغاء وتقره، سواء كان البغاء الرسمي أو بغاء المتطوعات الهاويات !
تلك قصة الرق في أوربا حتى القرن العشرين: رق الرجال والنساء والأمم والأجناس. رق متعدد المنابع متجدد الموارد، في غير ضرورة ملجئة، اللهم إلا خسة الغرب وهبوطه عن المستوى اللائق لبني الإنسان .
ودع عنك استرقاق الدولة الشيوعية لأفراد شعبها حتى لا يملك أحدهم حرية اختيار العمل الذي يريده، ولا المكان الذي يعمل فيه، واسترقاق أصحاب رؤوس الأموال للعمال في الغرب الرأسمالي حتى لا يملك أحدهم سوى اختيار السيد الذي يستعبده .
دع عنك هذا وذاك، فقد تجد المجادلين عنه والمنافحين. ويكفي ما سردناه من ألوان الرق الصارخة الصريحة، التي تتم باسم المدنية وباسم التقدم الاجتماعي! ثم انظر هل تقدمت البشرية في أربعة عشر قرناً، بعيداً عن وحي الإسلام، أم إنها ظلت تنحدر وتتأخر، حتى لتحتاج اليوم إلى قبس من هدي الإسلام، يخرجها مما هي فيه من الظلام؟ !
[11] سنناقش في الفصل التالي شبهة الإقطاع .
[12] سورة النساء: 25 .
[13] حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي .
[14] حديث رواه مسلم وأبو داود ..
[15] أخرجه الطبري في كتاب " آداب النفوس " " بإسناده عمن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ".
[16] سورة النساء36 : .
[17] سورة النساء 25 : .
[18] حديث رواه البخاري .
[19] رواه أبو هريرة .
[20] يعتقد الهنود أن الرقيق (المنبوذين) خلقوا من قدم الإله، ومن ثم فهم بخلقتهم حقراء مهينون، ولا يمكن أن يرتفعوا عن هذا الوضع المقسوم لهم إلا بتحمل الهوان والعذاب، عسى أن تنسخ أرواحهم بعد الموت في مخلوقات أفضل! وبذلك تضاف إلى لعنة الوضع السيِّئ الذي يعيشون فيه لعنة أخرى روحية تقضي عليهم أن يرضوا بالذل ولا يقاوموه .
[21] ذكره الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين في الكلام عن حقوق المملوك، في حديث طويل قال إنه آخر ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم .
[22] سورة النساء92 : .
[23] عن " العدالة الإجتماعية في الإسلام ".
[24] سورة التوبة: 60 .
[25] انظر الفصول التالية .
[26] يقول دعاة المذهب المادي إن الملابسات الخارجية هي التي (تخلق) المشاعر. ونحن لا نؤمن بذلك لأن فيه مغالطة صارخة. فهناك رصيد نفسي سابق في وجوده لهذه الملابسات، والملابسات (تكيف) هذا الرصيد، لكنها لا تخلقه من العدم .
[27] أو روسياً في بعض البلاد الآن !
[28] رواه البخاري .
[29] جاء في الموسوعة التاريخية المسماة " تاريخ العالم : Universal History of the World " في ص 2273 ما ترجمته: " وفي سنة 599 رفض الإمبراطور (الروماني) موريس ـ بسبب رغبته في الاقتصاد ـ أن يفتدي بضع ألوف من الأسرى وقعوا في يد الآوار فقتلهم خان الآوار عن بكرة أبيهم ".
[30] سورة البقرة: 190 .
[31] سورة الأنفال : 39.
[32] سورة البقرة: 256 .
[33] شهد بذلك مسيحي أوربي هو السيرت.و.أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام ).
[34] الأمثلة على ذلك كثيرة منها مثالان وردا في كتاب (الدعوة إلى الإسلام ):(6/473)
قال في صفحة 58 : " وكذلك حدث أن سجل في المعاهدة التي أبرمها مع بعض أهالي المدن المجاورة للحيرة : فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا " وقال: " فلما علم أبو عبيدة قائد العرب بذلك ( بتجهيز هرقل لمهاجمته) كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم بأن يردوا عليهم ما جبي من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: " إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع. وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك. وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا إن نصرنا الله عليهم "
[35] سورة الأنفال : 61.
[36] أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي
[37] سورة البقرة: 194 .
[38] سورة محمد: 4 .
39] بذلك يخرج من دائرة الإسلام كل ما كان يأتي من الجواري – أو العبيد – عن طريق الاختطاف من بلاد إسلامية ويباع ويشترى في سوق النخاسة .
المصدر : من كتاب شبهات حول الإسلام
الإسلام... والرق
-----------------
الإسلام والرق
وهنا يثار موضوع الرق، وكيف أباحه الإسلام؟
ونقول: أن الإسلام لم يجئ بشرع الاسترقاق، بل جاء بشريعة الحرية، ورد الأرقاء إلى ساحتها التي فطرهم الله عليها، كما يقول الفاروق عمر: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً".
|والقارئ للقرآن الكريم لا يجد فيه آية واحدة تبيح الاسترقاق والاستعباد، وإنما يجد الآيات المتعددة تنادي بتحرير الأرقاء وتحض على إعتاقهم، وتجعل هذا التحرير من أعظم القرب والطاعات الدينية| ثم تجعله كفارة تستر ما يقع فيه المسلم من بعض المخالفات الدينية. بل أنه يوجبه على الدولة الإسلامية، ويجعله عملاً من أعمالها، ومصرفاً من مصارف أموالها، ونفصل هذا الأجمال بعض التفصيل، فنقول:
أولاً ـ أن أسرى يخير القرآن فيهما بين أمرين لا ثالث لهما: المن عليهم بنعمة الحرية من غير مقابل، أو المن عليهم بها في مقابل فداء مالي أو شخصي، وهو ما يسمى الآن (تبادل الأسرى)1. يقول الله تعالى: (...فَإِمَّا مَنَّاً بَعدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضعَ الحَربُ أَوْزَارهَا) (سورة محمد/ 4).
كذلك إذا رجعنا إلى السنة النبوية وجدنا أن أقوال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأفعاله تنطق بأنه ما جاء مسترقاً بل محرراً.
يحث على العتق ويحض عليه، فيقول: "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار".
ويقول: "أيما رجل مسلم أعتق رجلاً مسلماً فأن الله عزّ وجل جاعل وفاء كل أعظم من عظامه عظماً من عظام محرره..."
وإذا كان الصحابة قد استرقوا في حروبهم فإنما كان ضرورة حربية لا محيص عنها، ومعاملة بالمثل حيث كان أعداؤهم يسترقون أسرى المسلمين، وتسهيلاً لاستخلاص هؤلاء الأسرى المسلمين من يد أعدائهم عن طريق التبادل.
وقد شرع الله سبحانه أحكامه التي تحقق المصالح الأصلية، وأباح الخروج عنها في أحوال الضرورة التي تقدر بقدرها ولا تعدوها. والله سبحانه وتعالى يقول: (وَقَدْ فَصلَ لَكُم مَّا حَرَّم عَليكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُررتُمْ إِليهِ) (سورة الأنعام/119).
ثم أن الله سبحانه وتعالى يشير إلى قاعدة المعاملة بالمثل في قوله تعالى: (فَمنِ اعَتدَى عَلَيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمثلِ مَا اعَتدَى عَليكَمْ) وفي قوله تعالى: (الشَّهرُ الحَرَامُ بِالشَّهرِ الحرَامِ، وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) فمن انتهك حرمة من الحرمات، ولم يكن هناك مفر من مقابلته بمثل عمله، كانت المصلحة في معاملته بالمثل، وفي حدود الضرورة، حتى يرتدع، ولا يفل الحديد إلا الحديد، وأن أنت أكرمت اللئيم تمردا. والوقوف عند المثالية أحياناً أمام من لا يؤمنون ولا يتعاملون بها يضر ولا ينفع.
وبهذا ضيق الإسلام موارد الرق وأسبابه، التي وجدها قبله وكانت متعددة2 ووقف بها وحصرها عند المعاملة بالمثل، وبقدر الضرورة من غير تجاوز ولا اعتداء.
ثانياً ـ لم يكتف الإسلام بذلك، بل وضع خطة حكيمة لإنهاء الرق وقد كان أساساً لنظام الحياة الاقتصادية والاجتماعية ـ تدريجياً من غير رجة اقتصادية أو اجتماعية.
فجعل عتق الرقبة كفارة للحنث في اليمين، يقول الله تعالى: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ...) (سورة المائدة/89).
كما جعله كفارة في الظهار، وهو تحريم الرجل زوجته على نفسه، ثم رغبته في العودة إليها.(6/474)
يقول تعالى: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً...) (سورة المجادلة/ 3-4).
ثم جعله الله كفارة للقتل خطأ. يقول سبحانه: (وَمَا كَانَ لمُؤمنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ وَدِيةٌ مُّسلَّمَةٌ إِلى أهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُّؤمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسلَّمةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنَ ...) (سورة النساء/ 92).
وكفارة للإفطار المتعمد في نهار رمضان، فقد روي أبو هريرة أن رجلاً أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: هلكت يا رسول الله، قال: ما شأنك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: فهل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا..."3.
ويلاحظ أن العتق هو الواجب الأول في بعض هذه الكفارات قبل الصيام وهو من أسمى العبادات، وقبل الإطعام للفقراء، وما أشد حاجتهم إليه، وكأن رد الحرية إلى الرفيق وفيها حياته الحقيقية أولى وأهم.
ثم جعله كفارة لضرب العبد أو لطمه. يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من لطم مملوكاً له أو ضربه فكفارته عتقه"4.
ثم جعل تحرير العبيد مصرفاً من مصارف الزكاة في قوله تعالى: (إِنَّما الصَّدقَاتُ للفُقَراءِ وَالمَسَاكينِ وَالعَاملِينَ عَليْها وَالمُؤلفةِ قُلوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالغَارِمينَ وَفِي سَبيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبيلِ فَرِيضةً مِّن اللهِ وَاللهُ عَليمٌ حَكيمٌ) (سورة التوبة/60).
ثم دعا إلى تحرير الرقاب، قربة وطاعة لله: (فلاَ اقْتَحمَ العَقَبةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبةَ فَكُّ رَقبَةٍ أَو إِطعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغبةٍ يَتيماً ذَا مَقْرَبةٍ أَوْ مِسْكيناً ذَا مَتْربةٍ) (سورة البلد/ 11-16).
فأن أبدى الرقيق رغبة في الحرية في مقابل مالى ، كان على مالكه الاستجابة لرغبته في الخروج إلى ساحة الحرية، وهو ما يسمى "المكاتبة" مع التخفيف عنه في هذا المال الذي يدفعه ومعاونته مالياً في أدائه. وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَالَّذينَ يَبتغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمتُمْ فِيهمْ خَيْراً وَأَتُوهُم مِّن مَّالِ اللهِ الَّذي أَتاكُمْ) (سورة النور/ 33) ثم أن القرابة القريبة تتنافى مع الاسترقاق، ولهذا إذا ملك الشخص قريبه المحرم صار هذا القريب حراً. يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ومن ملك ذا رحم محرم فهو حر".
وكذلك علاقة زوجية، فإذا ملك الزوج زوجته صارت حرة، وإذا ملكت الزوجة زوجها صار حراً. ثم إذا استولد المالك أمته، أي كان له منها ولد، كانت في سبيلها إلى الحرية، فأن شاء حررها، وإلا حرم عليه التصرف في ملكيتها حتى يموت فتكون حرة، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "أيما امرأة ولدت من سيدها فأنها حرة إذا مات".
وإذا عتق نصيبه في عبد، عتق العبد، وكان على المالك تخليصه من ماله، فأن لم يكن له مال سعى العتيق في أداء المال إلى الشريك الآخر دون إرهاق، يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من أعتق شقصاً5 له في عبد فخلاصه في ماله أن كان له مال، فأن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه" كذلك إذا أوصى المالك بعتق عبده لم يجز له الرجوع في الوصية وكان هذا العبد حراً بعد الوفاة، ولو تجاوزت قيمته ثلث التركة الذي تنفذ فيه الوصايا.
بل أن المالك إذا جرى على لسانه هازلاً إعتاق عبده، أصبح العبد حراً، فأن الحرية لا تتوقف على القصد والنية.
وهكذا تتعدد أسباب التحرير بصورة واضحة، وتترتب على بعض الأعمال والتصرفات المتكررة، وتكون مع ذلك في مسئولية الدولة الإسلامية والأفراد المسلمين، بحيث لو سارت الأمور سيراً طبيعياً ما بقي رقيق، وهو ما خطط الإسلام له، وتشوَّفَ إليه كما يقول الفقهاء.
فإذا جاء العالم اليوم بعد صحوة الرق6، كان مستضيئاً بنور الإسلام ومقتبساً من روحه.
ومع هذا حرص الإسلام على معاملة الرقيق معاملة إنسانية أخوية كريمة، إلى أن يجعل الله له مخرجاً إلى الحرية.
يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إخوانكم خولكم، قد ملككم الله إياهم، ولو شاء لملككم إياهم، فأطعموهم مما تطعمون، وأكسوهم مما تكسون".(6/475)
ويقول: "الله، الله، فيما ملكت أيمانكم" ويقول: "ما خففت عن خادمك من عمله كان لك أجراً في موازينك".
ويقول: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق" "هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوة تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فأن كلفتموهم فأعينوهم عليه".
وكان من وصاياه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقد حضرته الوفاة ـ الوصية بالأرقاء قارناً لها بالمحافظة على الصلاة. يقول أنس: كانت عامة وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين حضرته الوفاة، وهو يغرغر بنفسه: الصلاة وما ملكت أيمانكم7.
وفوق هذا كان من الأدب القرآني والأدب النبوي تسمية العبد فتى والأمة فتاة، ابتعاداً عن معنى الاستعباد. يقول الله سبحانه: (وَمَن لّضم يَستطيعْ مِنكُم طَولاً أَن يَنكحَ المُحصنَاتِ المُؤمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانكُم مِّن فَتَياتِكم المُؤمِناتِ) (سورة النساء/ 25) ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تقل عبدي وأمتي، ولكن قل فتاي وفتاتي".
وكان من نتيجة معاملة المسلمين للأرقاء هذه المعاملة، اندماج الأرقاء في الأسر الإسلامية اخوة متحابين، حتى كأنهم بعض أفرادها.
يقول جوستاف لوبون:ـ "أن الذي أراه صادقاً هو أن الرق عند المسلمين خير منه عند غيرهم، وأن حال الأرقاء في الشرق أفضل من حال الخدم في أوروبا، وأن الأرقاء في الشرق يكونون جزءاً من الأسرة... وأن الموالي الذين يرغبون في التحرر ينالونه بإبداء رغبتهم.. ومع هذا لا يلجأون إلى استعمال هذا الحق"8.
-----------------------------------
هوامش
1 وهذا النوع من الفداء هو الأولى، لأن فيه إطلاق الحرية للمسلمين غير المسلمين، ودين الحرية يحرص على الحرية بالنسبة لغير اتباعه كما يحرص عليها في اتباعه، لأن الحرية ـ عنده ـ كالماء والغذاء والهواء حقوق طبيعية لكل إنسان (وأنظر التمهيد لكتاب السير الكبير ط جامعة القاهرة للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ص74).
2 ومن ذلك أن المدين إذا عجز عن سداد الدين يصبح رقيقاً لصاحبه، بينما يشرع القرآن في ذلك إمهاله والتخفيف عنه "وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدقوا خير لكم أن كنتم تعلمون".
3 نيل الأوطار للشوكاني ج4 ص293.
4 رواه مسلم.
5 الشقص: الجزء والنصيب.
6 تنص المادة الرابعة من إعلان حقوق الإنسان على أنه "لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعها".
7 أنظر نيل الإوطار ج7 ص3.
8 حضارة العرب ص459-460.
----------------------------
المصدر: عالم الفكر ـ المجلد الأول ـ العدد الرابع مارس 1971
==================
166-التسري
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف
الرد على الشبهة:
هذا عن الرق فى التاريخ الإنسانى وفى الإسلام: الدين.. الحضارة.. والتاريخ..
أما التسرى ، فهو: اتخاذ مالك الأمة منها سَرِيَّةِ يعاشرها معاشرة الأزواج فى الشرع الإسلامى..
وكما لم يكن الرق والاسترقاق تشريعاً إسلامياً مبتكراً ، ولا خاصية شرقية تميزت به الحضارات الشرقية عن غيرها من الحضارات ، وإنما كان موروثاً اجتماعياً واقتصادياً إنسانياً ، ذاع وشاع فى كل الحضارات الإنسانية عبر التاريخ.. فكذلك كان التسرى الذى هو فرع من فروع الرق والاسترقاق نظاماً قديماً ولقد جاء فى المأثورات التاريخية المشهورة والمتواترة أن خليل الله إبراهيم ، عليه السلام ، قد تسرى بهاجر المصرية ، عندما وهبه إياها ملك مصر ، ومنها وُلد له إسماعيل عليه السلام.. فمارس التسرى أبو الأنبياء ، وولد عن طريق التسرى نبى ورسول.. وكذلك جاء فى المأثورات التاريخية أن نبى الله سليمان عليه السلام قد تسرى بثلاثمائة سرية !.. وكما شاع التسرىعند العرب قبل الإسلام ، فلقد مارسه ، فى التاريخ الإسلامى والحضارة الإسلامية ، غير المسلمين مثل المسلمين..
وإذا كان التسرى ، هو اتخاذ مالك الأمة منها سريّه ، أى جعله لها موضعا للوطء ، واختصاصها بميل قلبى ومعاشرة جنسية ، وإحصان واستعفاف.. فلقد وضع الإسلام له ضوابط شرعية جعلت منه زواجاً حقيقياً ، تشترط فيه كل شروط الزواج ، وذلك باستثناء عقد الزواج ، لأن عقد الزواج هو أدنى من عقد الملك ، إذ فى الأول تمليك منفعة ، بينما الثانى يفضى إلى ملك الرقبة ، ومن ثم منفعتها..
ولقد سميت الأمة التى يختارها مالكها سرية له سُميت " سَرِيَّةً " " لأنها موضع سروره ، ولأنه يجعلها فى حالٍ تسرها " دون سواها ، أو أكثر من سواها.. فالغرض من التسرى ليس مجرد إشباع غرائز الرجل ، وإنما أيضاً الارتفاع بالأَمة إلى مايقرب كثيراً من مرتبة الزوجة الحرة..
والإسلام لا يبيح التسرى أى المعاشرة الجنسية للأَمة بمجرد امتلاكها.. وإنما لابد من تهيئتها كما تهيأ الزوجة.. وفقهاء المذهب الحنفى يشترطون لتحقيق ذلك أمرين:
أولهما: تحصين السرية ، بأن يخصص لها منزل خاص بها ، كما هو الحال مع الزوجة..(6/476)
وثانيهماً: مجامعتها ، أى إشباع غريزتها ، وتحقيق عفتها.. طالما أنها قد أصبحت سرية ، لا يجوز لها الزواج من رقيق مثلها ، أو أن يتسرى بها غير مالكها..
ولأن التسرى إن فى المعاشرة الجنسية أو التناسل مثله مثل الزواج من الحرائر.. فلقد اشترط الإسلام براءة رحم الأمة قبل التسرى بها ، فإباحة التسرى قد جاءت فى آية إباحة الزواج: وإن خفتم ألا تقسطوا فى اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألاّ تعولوا ) (1).. والتكليف الإسلامى بحفظ الفروج عام بالنسبة لمطلق الرجال والنساء ، أحراراً كانوا أم رقيقاً ، مسلمين كانوا أم غير مسلمين: (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) (2).. ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سبايا " أوطاس " أى حنين: [ لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة.. ] (3).
وكذلك الحال مع المقاصد الشرعية والإنسانية من وراء التسرى.. فهى ذات المقاصد الشرعية والإنسانية من وراء الزواج:
تحقيق الإحصان والاستعفاف للرجل والمرأة ، وتحقيق ثبوت أنساب الأطفال لآبائهم الحقيقيين.. ففى هذا التسرى كما يقول الفقهاء " استعفاف مالك الأمة.. وتحصين الإماء لكيلا يملن إلى الفجور ، وثبوت نسب أولادهن ". وأكاد ألمح فى التشريع القرآنى أمراً إلهياً بالإحصان العام للرجال والنساء ، أحرارًا كانوا أو أرقاء.. ففى سياق التشريع لغض البصر ، وحفظ الفروج ، جاء التشريع للاستعفاف بالنكاح الزواج للجميع.. وجاء النهى عن إكراه الإماء على البغاء ، لا بمعنى إجبارهن على الزنا فهذا داخل فى تحريم الزنا ، العام للجميع وإنما بمعنى تركهن دون إحصان واستعفاف بالزواج أو التسرى أكاد ألمح هذا المعنى عندما أتأمل سياق هذه الآيات القرآنية: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيَّة المؤمنون لعلكم تفلحون * وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم * وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذى آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) (4). فالتشريع للاستعفاف والإحصان بالنكاح الزواج والتسرى عام وشامل للجميع..
بل لقد جعل الإسلام من نظام التسرى سبيلاً لتحقيق المزيد من الحرية للأرقاء ، وصولاً إلى تصفية نظام العبودية والاسترقاق.. فأولاد السرية فى الشرع الإسلامى ، يولدون أحراراً بعد أن كانوا يظلون أرقاء فى الشرائع والحضارات غير الإسلامية والسرية ، بمجرد أن تلد ، ترتفع إلى مرتبة أرقى هى مرتبة " أم الولد " ثم تصبح كاملة الحرية بعد وفاة والد أولادها..
وكما اشترط الشرع الإسلامى للتسرى استبراء الرحم ، كما هو الحال فى الزواج من الحرائر ، اشترط فى السرية ما يشترط فى الزوجة الحرة: أن تكون ذات دين سماوى ، مسلمة أو كتابية.. وأن لا تكون من المحارم اللاتى يحرم الزواج بهن ، بالنسب أو الرضاعة.. فلا يجوز التسرى بالمحارم ، بل ولا يحل استرقاقهم أصلاً ، إناثاً كانوا أم ذكوراً ، فامتلاكهم يفضى إلى تحريرهم بمجرد الامتلاك.. وفى الحديث النبوى الشريف: [ من ملك ذا رحِمٍ مَحْرَمٍ فهو حر ] (5).
وكما هو الحال فى اختيار الزوجة الحرة ، استحسن الشرع الإسلامى تخير السرية ذات الدين ، التى لا تميل إلى الفجور ، وذلك لصيانة العرض. وأن تكون ذات عقل ، حتى ينتقل منها إلى الأولاد. وأن تكون ذات جمال يحقق السكينة للنفس والغض للبصر. فالتخيُّر للنُّطَف وفق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ تخيَّروا لنطفكم](6) هو تشريع عام فى الحرائر والإماء (7)..(6/477)
وكما لا يجوز الاقتران بأكثر من أربع زوجات حرائر ، اشترط بعض الفقهاء الالتزام بذات العدد فى السرارى ، أو فيهن وفى الزوجات الحرائر.. وإذا كان جمهور الفقهاء لا يقيدون التسرى بعدد الأربعة ، فإن الإمام محمد عبده فى فتواه عن تعدد الزوجات قد قال عند تفسيره لقول الله سبحانه وتعالى:(أو ما ملكت أيمانكم) (8). " لقد اتفق المسلمون على أنه يجوز للرجل أن يأخذ من الجوارى ما يشاء بدون حصر ولكن يمكن لفاهم أن يفهم من الآية غير ذلك ، فإن الكلام جاء مرتبطاً بإباحة التعدد إلى الأربعة فقط..
" (9).
ويؤيد هذا الاجتهاد ما كان عليه العمل فى صدر الإسلام ، إذ لم يكن الرجل يتسرى بغير سرية واحدة وكما يجب العدل بين الزوجات الحرائر عند تعددهن.. قال بعض الفقهاء: إن ما يجب للزوجة يستحب للسرية ، وجعل الحنابلة الإحصان للأرقاء ذكوراً وإناثاً أمراً واجباً.. (10).
هكذا رفع الإسلام ، بالشروط التى اشترطها فى التسرى ، من شأن السرارى ، وذلك عندما جعلهن فى الواقع العملى أقرب ما يكن إلى الزوجات الحرائر. وعندما جعل من نظام التسرى بابًا من أبواب التحرير للإماء ولأولادهن ، بعد أن كان رافداً من روافد الاسترقاق والاستعباد..
أما الواقع التاريخى ، الذى تراجع عن هذا النموذج الإسلامى للتسرى ، عندما كثرت السبايا ، وتعددت مصادر الاسترقاق.. فمن الخطأ البين بل والتجنى حمل هذا الواقع التاريخى على شرع الإسلام..
فالإسلام كما قدمنا فى الحديث عن الرق قد ألغى وجفف كل روافد ومصادر الاسترقاق ، ولم يستثن من ذلك إلا الحرب الشرعية المشروعة. ولذلك ، فإن تجارة الرقيق ، وأسواق الأرقاء ، وشيوع التسرى الذى جاء ثمرة لاختطاف الفتيات والفتيان ، وللحروب غير المشروعة ، وغيرها من سبل الاسترقاق التى حرمها الإسلام.. كل ذلك إن حُسب على " التاريخ الإسلامى " فلا يمكن أن يُحسب على " دين الإسلام ".. وعن هذه الحقيقة الهامة يقول الإمام محمد عبده: " لقد ساء استعمال المسلمين لما جاء فى دينهم من هذه الأحكام الجليلة ، فأفرطوا فى الاستزادة من عدد الجوارى ، وأفسدوا بذلك عقولهم وعقول ذراريهم بمقدار ما اتسعت لذلك ثرواتهم..
أما الأسرى اللاتى يصح نكاحهن فهن أسرى الحرب الشرعية التى قصد بها المدافعة عن الدين القويم أو الدعوة إليه بشروطها ، ولا يَكُنَّ عند الأسر إلا غير مسلمات.. وأما ما مضى المسلمون على اعتياده من الرق ، وجرى عليه عملهم فى الأزمان الأخيرة ، فليس من الدين فى شىء ، فما يشترونه من بنات الجراكسة أو من السودانيات اللاتى يختطفهن الأشقياء السَّلبَة المعروفون "بالأسيرجية"، فهو ليس بمشروع ولا معروف فى دين الإسلام ، وإنما هو من عادات الجاهلية ، لكن لا جاهلية العرب بل جاهلية السودان والجركس.. " (11).
وإذا كان من العبث الظالم حمل تاريخ الحضارة الغربية مع الرق والاسترقاق على النصرانية ، كدين ، فالأكثر عبثية والأشد ظلماً هو حمل التاريخ الإسلامى فى هذا الميدان على شريعة الإسلام !..
(1) النساء: 3.
(2) المؤمنون: 5 ، 6.
(3) رواه أبو داود.
(4) النور: 30 33.
(5) رواه أبو داود.
(6) رواه ابن ماجة.
(7) انظر: [ الموسوعة الفقهية ] مادة " التسرى " طبعة الكويت 1408 هجرية 1988م.
(8) النساء: 3.
(9) [ الأعمال الكاملة ] ج2 ص 91 طبعة القاهرة 1993م.
(10) المصدر السابق: ج2 91.
(11) المصدر السابق: ج2 ص 91، 92.
-------------------
167-هل تحريم زواج المسلمة بغير المسلم يُعد نزعة عنصرية ؟
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف
الرد على الشبهة:
1 ـ صحيح أن الإسلام يجيز زواج المسلم من غير المسلمة (مسيحية أو يهودية) ولا يجيز زواج المسلمة من غير المسلم. وللوهلة الأولى يُعد ذلك من قبيل عدم المساواة ، ولكن إذا عرف السبب الحقيقى لذلك انتفى العجب ، وزال وَهْمُ انعدام المساواة. فهناك وجهة نظر إسلامية فى هذا الصدد توضح الحكمة فى ذلك. وكل تشريعات الإسلام مبنية على حكمة معينة ومصلحة حقيقية لكل الأطراف.
2 ـ الزواج فى الإسلام يقوم على " المودة والرحمة " والسكن النفسى. ويحرص الإسلام على أن تبنى الأسرة على أسس سليمة تضمن الاستمرار للعلاقة الزوجية. والإسلام دين يحترم كل الأديان السماوية السابقة ويجعل الإيمان بالأنبياء السابقين جميعًا جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية. وإذا تزوج مسلم من مسيحية أو يهودية فإن المسلم مأمور باحترام عقيدتها ، ولا يجوز له ـ من وجهة النظر الإسلامية ـ أن يمنعها من ممارسة شعائر دينها والذهاب من أجل ذلك إلى الكنيسة أو المعبد. وهكذا يحرص الإسلام على توفير عنصر الاحترام من جانب الزوج لعقيدة زوجته وعبادتها. وفى ذلك ضمان وحماية للأسرة من الانهيار.(6/478)
3 ـ أما إذا تزوج غير مسلم من مسلمة فإن عنصر الاحترام لعقيدة الزوجة يكون مفقودًا. فالمسلم يؤمن بالأديان السابقة ، وبأنبياء الله السابقين ، ويحترمهم ويوقرهم ، ولكن غير المسلم لا يؤمن بنبى الإسلام ولا يعترف به ، بل يعتبره نبيًّا زائفًا وَيُصَدِّق ـ فى العادة ـ كل ما يشاع ضد الإسلام وضد نبى الإسلام من افتراءات وأكاذيب ، وما أكثر ما يشاع.
وحتى إذا لم يصرح الزوج غير المسلم بذلك أمام زوجته فإنها ستظل تعيش تحت وطأة شعور عدم الاحترام من جانب زوجها لعقيدتها. وهذا أمر لا تجدى فيه كلمات الترضية والمجاملة. فالقضية قضية مبدأ. وعنصر الاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة أساس لاستمرار العلاقة الزوجية.
4 ـ وقد كان الإسلام منطقيًّا مع نفسه حين حرّم زواج المسلم من غير المسلمة التى تدين بدين غير المسيحية واليهودية ، وذلك لنفس السبب الذى من أجله حرّم زواج المسلمة بغير المسلم.
فالمسلم لا يؤمن إلا بالأديان السماوية وما عداها تُعد أديانًا بشرية. فعنصر التوقير والاحترام لعقيدة الزوجة فى هذه الحالة ـ بعيدًا عن المجاملات ـ يكون مفقودًا. وهذا يؤثر سلبًا على العلاقة الزوجية ، ولا يحقق " المودة والرحمة " المطلوبة فى العلاقة الزوجية.
----------------
لحكمة من تحريم زواج المسلمة بغير المسلم ... العنوان
بسم الله الرحمن الرحيم ،أنا أعمل في بلد أوربي و كنت في نقاش مع أحدهم ، أحدثه عن سماحة الإسلام وعن نظرة الإسلام لجميع الناس بمساواة ، فقال لي ماذا تفسر تحريم زواج المسلمة بغير المسلم ألا يُعد نزعة عنصرية ؟ فبماذا أجيبه ؟
وجزاكم الله خيراً ... السؤال
14/05/2006 ... التاريخ
مجموعة من المفتين ... المفتي
الحل ...
... بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :
فيرى جمهور الفقهاء إباحة زواج المسلم من نساء أهل الكتاب، وأجمعوا على حرمة زواج المسلمة من غير المسلم، وهذا أمر تعبدي، وإذا أردنا أن نلتمس حكمة لذلك فيمكن أن يقال: إن الإسلام عندما أباح للرجل الزواج من الكتابية فإنه أمر الزوج أن يحترم دينها لأن المسلم يؤمن بجميع الأنبياء، أما غير المسلم إذا تزوج من مسلمة فإنه لا يحترم عقيدتها، ولا يؤمن بنبيها مما يوقد النار في المنزل ويمنع السكينة والرحمة التي عليها قوام البيوت، فلهذا منع الإسلام مثل هذا الزواج .
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: -
المسلمة لا تتزوج إلا مسلماً، والله تعالى يقول (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) وقال (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) ثم استثنى فقال :( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) فأباح زواج المحصنات من أهل الكتاب ولم يجز زواج الرجال من نساء المسلمين.
وحكمة ذلك: أن المسلم يؤمن بكل الرسل بما فيهم موسى وعيسى عليهم السلام. وبكل الكتب بما فيها التوراة والإنجيل. بينما لا يؤمن أهل الكتاب إلا برسولهم وكتابهم. وقد أجاز الإسلام لزوجة المسلم الكتابية أن تذهب إلى أماكن عبادتها كالكنيسة والمعبد ، بينما لا يجيز هؤلاء الكتابيين للمسلمة ـ لو تزوجوها ـ أن تذهب للمسجد وتظهر شعائر الإسلام.
والأهم من ذلك: أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، والزواج ولاية وقوامة ، فيمكن أن يكون المسلم وليا وقواما على زوجته الكتابية ، بينما لا يمكن أن يكون غير المسلم وليا أو قواما على المسلمة، فالله تعالى يقول: ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا).
والزوجة عليها طاعة زوجها ، فلو تزوجت المسلمة غير المسلم لتعارضت طاعتها له مع طاعتها لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ولعل هناك حكما أخرى كامنة فى منع زواج المسلمة من غير المسلم ، يعلمها الله تعالى ، العليم بما يصلح العباد ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)؟
وما على المؤمن بالله تعالى وبحكمته وعلمه ؛ إلا أن يقول:( سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)
أهـ
ويقول الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ :
رب البيت المسلم يستحيل أن يمر بخاطره أن يهين موسى أوعيسى ، إنه يحترمهما كما يحترم نبيه محمدا ، ويصفهما بالوجاهة والرسالة وقوة العزم وصدق البلاغ!
وهذا معنى يلقي السكينة في نفوس أتباعهما.
أما اليهود والنصارى فإن ضغائنهم على محمد أعيت الأولين والآخرين، وقد استباحوا قذفه بكل نقيصة.
وفي عصرنا هذا منحت إنجلترا أعظم جائزة أدبية لكاتب نكرة ،كل بضاعته شتم محمد والولوغ في عرضه والتهجم عل حرمه ! فكيف تعيش مسلمة في بيت تلك بعض معالمه؟
إن الزواج ليس عشق ذكر لمفاتن أنثى !!إنه إقامة بيت على السكينة النفسية والآداب الاجتماعي، في إطار محكم من الإيمان بالله، والعيش وفق هداياته، والعمل على إعلاء كلمته، وإبلاغ رسالاته. أهـ
وهذا الذي ذكر ما هو إلا محاولات لاستنباط الحكمة من المنع ، ويبقى الكثير الذي لا يدركه إلا الله ، على أن الفيصل في المسألة أنه أمر تعبدي محض.(6/479)
وجاء في فتاوى الأزهر الشريف:
صحيح أن الإسلام يجيز زواج المسلم من غير المسلمة (مسيحية أو يهودية) ولا يجيز زواج المسلمة من غير المسلم. وللوهلة الأولى يُعد ذلك من قبيل عدم المساواة ، ولكن إذا عرف السبب الحقيقي لذلك انتفى العجب ، وزال وَهْمُ انعدام المساواة. فهناك وجهة نظر إسلامية في هذا الصدد توضح الحكمة في ذلك. وكل تشريعات الإسلام مبنية على حكمة معينة ومصلحة حقيقية لكل الأطراف.
الزواج في الإسلام يقوم على " المودة والرحمة " والسكن النفسي . ويحرص الإسلام على أن تبنى الأسرة على أسس سليمة تضمن الاستمرار للعلاقة الزوجية . والإسلام دين يحترم كل الأديان السماوية السابقة ويجعل الإيمان بالأنبياء السابقين جميعًا جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية. وإذا تزوج مسلم من مسيحية أو يهودية فإن المسلم مأمور باحترام عقيدتها ، ولا يجوز له ـ من وجهة النظر الإسلامية ـ أن يمنعها من ممارسة شعائر دينها، والذهاب من أجل ذلك إلى الكنيسة أو المعبد.
وهكذا يحرص الإسلام على توفير عنصر الاحترام من جانب الزوج لعقيدة زوجته وعبادتها. وفى ذلك ضمان وحماية للأسرة من الانهيار.
أما إذا تزوج غير مسلم من مسلمة فإن عنصر الاحترام لعقيدة الزوجة يكون مفقودًا. فالمسلم يؤمن بالأديان السابقة ، وبأنبياء الله السابقين ، ويحترمهم ويوقرهم ، ولكن غير المسلم لا يؤمن بنبي الإسلام، ولا يعترف به ، بل يعتبره نبيًّا زائفًا وَيُصَدِّق ـ في العادة ـ كل ما يشاع ضد الإسلام وضد نبي الإسلام من افتراءات وأكاذيب ، وما أكثر ما يشاع.
وحتى إذا لم يصرح الزوج غير المسلم بذلك أمام زوجته فإنها ستظل تعيش تحت وطأة شعور عدم الاحترام من جانب زوجها لعقيدتها. وهذا أمر لا تجدي فيه كلمات الترضية والمجاملة. فالقضية قضية مبدأ. وعنصر الاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة أساس لاستمرار العلاقة الزوجية.
وقد كان الإسلام منطقيًّا مع نفسه حين حرّم زواج المسلم من غير المسلمة التي تدين بدين غير المسيحية واليهودية ، وذلك لنفس السبب الذي من أجله حرّم زواج المسلمة بغير المسلم.
فالمسلم لا يؤمن إلا بالأديان السماوية وما عداها تُعد أديانًا بشرية. فعنصر التوقير والاحترام لعقيدة الزوجة في هذه الحالة ـ بعيدًا عن المجاملات ـ يكون مفقودًا. وهذا يؤثر سلبًا على العلاقة الزوجية ، ولا يحقق " المودة والرحمة " المطلوبة في العلاقة الزوجية أهـ
==================
صور محظورة من الزواج المختلط
مما لا شك فيه أن استقرار الحياة الزوجية غاية من الغايات التي يحرص عليها الإسلام• وعقد الزواج إنما يعقد للدوام والتأييد إلى أن تنتهي الحياة ليتسنى للزوجين أن يجعلا من البيت مهداً يأويان إليه وينعمان في ظلاله الوارفة بنعمة الاستقرار والسعادة، ومن أجل هذا كانت الصلة بين الزوجين من أقدس الصلات وأوثقها، وليس أدل على قدسيتها من أن الله سبحانه وتعالى سمى العهد بين الزوج وزوجته بالميثاق الغليظ، قال تعالى في سورة النساء: (وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً)•
وفي إطار اهتمامه بالزواج وما يترتب عليه من نتائج وآثار، بيّن الإسلام موانع الزواج التي تمنع المسلم من الاقتران بنساء معينات أو في حالات محددة لما قد ينتج عن هذا الاقتران من أضرار سلبية تتعارض ومقاصد الشرع الحكيم•
وإذا كانت موانع الزواج تنقسم إلى قسمين: موانع مؤبدة لا يمكن أن تزول وأخرى مؤقتة تمنع الزواج مادامت قائمة وتبيحه في حال ارتفاعها، فإن ما يعرف في الاصطلاح الحديث بالزواج المختلط، أي الزواج بالأجنبيات يدخل في بعض صوره ضمن الموانع المؤقتة، كما أن الزواج المختلط يتنوع بدوره إلى نوعين: الزواج المختلط الأصلي >مثل زواج المسلم بالكتابية< والزواج المختلط الطارئ >مثل إسلام زوج الكتابية< وهو بشطريه يشتمل على عدة صور منها ما هو جائز في حق المسلم ومنها ما هو محظور•
ولما كان الزواج المختلط قد أضحى في عصرنا هذا يشكل ظاهرة لافتة للانتباه خاصة في صفوف أبناء الجاليات والأقليات المسلمة في الغرب فإن المشكلات والانعكاسات السلبية التي يطرحها هنا وهناك قد أمست تتفاقم بحدة وتزداد تعقيداً خاصة على مستوى وقوع الكثير في الصور المحظورة من الزواج المختلط مما جاء منهياً عنه في الشريعة الإسلامية، ولذلك نقتصر في هذه العجالة على إيضاح وبيان هذه الصور المحظورة حتى يتنبه إليها من يهمه الأمر•
ويمكن تلخيص الصور المحظورة من الزواج المختلط في الحالات التالية:
الحالة الأولى
تحريم زواج المسلمة بغير المسلم، وهذا أمر أجمع عليه المسلمون استناداً إلى قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنَّ حل لهم ولا هم يحلونَّ لهنَّ) الممتحنة:10•(6/480)
والحكمة من تحريم زواج المسلمة بغير المسلم، هو أن الإسلام يأبى أن يكون المسلم تحت سلطان الكافر لأن عقد الزواج يستلزم أن يكون للرجل حق الطاعة والقوامة على المرأة، ونص الفقهاء أيضاً على أن الكافر قد لا يتحرج من سب دين زوجته المسلمة وتسفيه عقيدتها وقد يؤثر عليها فتنخلع من ربقة الإسلام، كما أن الأولاد يتبعون آباءهم في الدين والنسب وكل هذه الحيثيات جعلت الشارع الحكيم يمنع ويحظر هذه الحالة من الزواج•
الحالة الثانية
تحريم زواج المسلم بالمشركة، والمقصود بها المرأة التي لا تعتنق ديناً سماوياً، ويدخل في هذا المسمى كل من المرأة الوثنية التي تعبد الأوثان والأصنام مثل البوذيين والمجوس والبراهمة عبدة البقر، والملحدة التي تجحد الأديان كالشيوعية•
والحكمة من تحريم الزواج بالمشركة هو كونها تختلف عن المسلم اختلافاً بيناً في العقيدة مما يحول دون أي التقاء أو اتفاق يسمح بالسكن والمودة والرحمة التي هي من مقاصد الزواج•
الحال الثالثة
إسلام زوج المشركة، إذ لما كان المسلم لا يجوز له الزواج بالمشركة، فإنه إذا أسلم الرجل وكان في عصمته امرأة مشركة توجب عليه عرض الإسلام على الزوجة، فإن أسلمت أبقى عليها وإن امتنعت وعارضت لزمه فراقها•
الحالة الرابعة
إسلام زوجة الكتابي أو المشرك، وهذه الحالة تنبني على القاعدة المقررة وهي أن المسلمة لا يمكن أن ينعقد زواجها على غير المسلم، ولذلك فإنه إذا أسلمت الزوجة ورفض زوجها ـ كتابياً كان أو مشركاً ـ الدخول في الإسلام، فإنه يجب التفريق بينهما عند انتهاء عدة الزوجة التي هي استبراء من ماء الزوج الكافر بعد إسلام الزوجة•
الحالة الخامسة
ردة أحد الزوجين لأن إعلان أحد الزوجين ارتداده عن الإسلام يجعل الطرف الآخر مرتبطاً بزوج خارج عن الدين، وهو ما يستلزم التفريق بينهما بطلقة بائنة، والدليل على تحريم زواج المرتد أو المرتدة قوله تعالى: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر< الممتحنة:10، وقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمِنَّ ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم) البقرة:221•
إن الباعث من وراء التنبيه إلى هذه الصور المحظورة من الزواج المختلط هو كون كثير من المسلمين الذين يهاجرون إلى الغرب للعمل أو لطلب العلم تتفشى بينهم ظاهرة الزواج بالأجنبيات، فيقع بعضهم في الممنوع شرعاً طمعاً في تحقيق أغراض ومصالح شخصية كالحصول على الجنسية أو الطمع في ثروة المرأة الأجنبية أو غير ذلك من الإغراءات التي تجعل الواقع فيها لا يستحضر الدين والضوابط الشرعية
================
حكم زواج غير المسلم بالمسلمة
سؤال أثاره عدد ممن قرأ في وسائل الإعلام فتوى يبيح فيها صاحبها زواج غير المسلم بالمسلمة، وقد نسب إليه أنه قال: إن تحريم هذا الزواج مجرد أقاويل وتخرصات وأوهام وتضليل، الهدف منها جر المرأة إلى الوراء .
وقبل هذا وردنا في المجلة سؤال من فضيلة الأخ الشيخ- أبو الكلام شفيق القاسمي المظاهري، أحد علماء الهند والأمين العام لقسم الإفتاء لجماعة أهل السنة والجماعة في جنوب الهند، عن صدور مثل هذه الفتوى -مع بعض الاختلاف - من شخص آخر في الهند .
وقد سبق أن أجبنا فضيلته عن هذا السؤال في كتيب اسمه (رسالة إلى أهل السنة والجماعة في جنوب الهند) تم توزيعه مع العدد السابع والستين من المجلة .
وسؤال آخر يتفرع من السؤال الأول حول دوافع هذه الفتوى وأمثالها، وأهداف أصحابها ومبتغاهم في هذه المرحلة التي تواجه فيها الأمة هجوماً على عقيدتها وتراثها .
والجواب عن هذين السؤالين من وجهين:
الوجه الأول: حكم زواج غير المسلم بالمسلمة .
هذا الحكم لا يحتاج إلى كثير من الاجتهاد. إذا كان الزوج مشركاً فالحَكَمُ فيه كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة. أما الكتاب فقول الله تعالى: ولا تنكحوا المشركين حتى" يؤمنوا (1). قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية: "يعني تعالى ذكره بذلك أن الله قد حرم على المؤمنات ألا ينكحن مشركاً، كائناً من كان المشرك من أي أصناف الشرك كان، فلا تنكحوهن أيها المؤمنون فإن ذلك حرام عليكم.. ثم قال: أخبرنا معمر عن قتادة والزهري في قوله: ولا تنكحوا المشركين قال لا يحل لك أن تنكح يهودياً أو نصرانياً ولا مشركاً من غير أهل دينك.. وعن عكرمة والحسن البصري قال: حرم على المسلمات رجالهم يعني المشركين" (2).
وذكر الفخر الرازي أن قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركين حتى" يؤمنوا فلا خلاف هاهنا أن المراد به الكل، وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر البتة، على اختلاف أنواع الكفرة (3). وذكر الإمام القرطبي في تفسيره في قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركين حتى" يؤمنوا أي لا تزوجوا المسلمة من المشرك، وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام(4).(6/481)
وفي الكتاب أيضاً قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن (1). قال الإمام القرطبي قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن المراد إذا هاجرت المؤمنات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركن أزواجهن المشركين فامتحنوهن قيل: إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها فقالت: سأهاجر إلى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بامتحانهن. واختلف فيما كان يمتحنهن به، فقال ابن عباس: كانت المحنة أن تُستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقاً لرجل منَّا؛ بل حُبّاً لله ولرسوله. فإذا حلفت بالله الذي لا إلَه إلا هو على ذلك، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردّها؛ فذلك قوله تعالى: فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن .
وقيل إن المحنة كانت أن تشهد أن لا إلَه إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ قاله ابن عباس أيضاً .
قوله تعالى: الله أعلم بإيمانهن أي هذا الامتحان لكم، والله أعلم بإيمانهن، لأنه مُتَولِّي السرائر. فإن علمتموهن مؤمنات أي بما يظهر من الإيمان. وقيل: إن علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن أي لم يحل الله مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن لمشركة. وهذا أدل دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامُها لا هجرتها (2).
وقال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: "كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إلَه إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وقال مجاهد فامتحنوهن فاسألوهن عما جاء بهن، فإن كان جاء بهن غضب على أزواجهن أو سخطة أو غيرة ولم يؤمنَّ فارجعوهن إلى أزواجهن، وقال عكرمة: يقال لها ما جاء بك إلا حب الله ورسوله، وما جاء بك عشق رجل منا ولا فرار من زوجك فذلك قوله فامتحنوهن . وقال قتادة كانت محنتهن أن يستحلفن بالله ما أخرجكن النشوز وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله وحرص عليه، فإذا قلن ذلك قبل ذلك منهن، وقوله تعالى فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقيناً. وقوله تعالى لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أمر أبي العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب -رضي الله عنها- وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر، بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا). ففعلوا فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه، فَوَفَى له بذلك وصَدَقَه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة -رضي الله عنه- فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان، فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقاً"(1).
والسؤال في هذا المقام هل يعد الكتابي في حكم المشرك فيحرم زواج المسلمة منه ؟ يجيب عن هذا السؤال فريقان: الأول- يرى أن هذا التحريم هو الأصل القاطع الذي لا مجال للخلاف فيه، استدلالاً وعملاً بقول الله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله (1). وقوله عز ذكره: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد (2). وقوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (3). واستدلالاً كذلك بأن عبدالله بن عمر لما سئل عن نكاح النصرانية واليهودية قال: "إن الله حرم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئاً أكبر من أن تقول المرأة ربها عيسى وهو عبد من عباد الله"(4). فإذا كان هذا في حق زواج المسلم منها فهو في حق زواج غير المسلم منها أولى وآكد، كما يستدل أيضاً بأن الكثير من العلماء على أن لفظ المشرك يندرج فيه الكفار من أهل الكتاب، وإن النقل قد تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يسمي كل من كان كافراً بالمشرك (5).(6/482)
وفي المقابل هناك من ينفي كون الكتابي مشركاً، ويحتج بأن الله فَصَل بين أهل الكتاب والمشركين في قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى" والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على" كل شيء شهيد (1). وقوله: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين (2). وقوله عز وجل: إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين (3). وقوله ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين (4). فهذا -كما يقول - عطف على معطوف عليه، والعطف هنا يقتضي المغايرة.
ومن يقول هذا قد يقول أيضاً إن اليهود ليسوا كلهم مشركين، وأن من يقول منهم إن عزير ابن الله هم طائفة صغيرة من أتباع فنحاص(5) كما قد يقول إن النصارى ليسوا كلهم يعتقدون في ألوهية عيسى أو يشركونه مع الله ،وأن من يقول ذلك بعض طوائفهم. والأقوال في هذا لا تنتهي .
قلت: وأياً كانت الحجج والأقاويل في هذا، فإن سلف الأمة وخلفها من علمائها وفقهائها ومفسريها فهموا من كتاب ربهم ومن سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم تحريم نكاح المسلمة من الكتابي، ولم يمار في هذا الفهم أحد منهم، وقد أشرنا آنفاً إلى ما قاله في ذلك علماء التفسير. أما في الفقه، ففي مذهب الإمام أبي حنيفة قال الإمام الكاساني: "إن المرأة إذا كانت مسلمة فلا يجوز إنكاح المؤمنة الكافر، بدلالة قوله تعالى: ولا تنكحوا المشركين حتى" يؤمنوا . ولأن في نكاح المؤمنة الكافر خوف وقوع المؤمنة في الكفر، لأن الزوج يدعوها إلى دينه، والنساء في العادة يتبعن الرجال فيما يؤثرون من الأفعال، ويقلدنهم في الدين ... إلى قوله: فلا يجوز إنكاح المسلمة الكتابي، كما لا يجوز إنكاحها الوثني والمجوسي، لأن الشرع قطع ولاية الكافرين عن المؤمنين بقوله تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (1). فلو جاز إنكاح الكافر المؤمنة لثبت له عليها سبيل، وهذا لا يجوز (2).
وفي مذهب الإمام مالك قال في شرح منح الجليل فيمنع عقد النكاح لمسلمة، فلا ولاية لكافر سواء كان ذمياً أو حربياً أو مرتداً على مسلمة لقول الله تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (3). وقال ابن جزي إن نكاح كافر مسلمة يحرم على الإطلاق بإجماع(4).
وفي مذهب الإمام الشافعي قال الإمام الماوردي في الحاوي: المسلمة لا تحل لكافر بحال، سواء كان الكافر كتابياً أو وثنياً (5).
وفي مذهب الإمام أحمد قال الإمام ابن مفلح في المبدع: لا يحل لمسلمة نكاح كافر لا نعلم فيه خلافاً (6). وفي المغني قال الإمام ابن قدامة: لا يجوز لكافر نكاح مسلمة. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم (1).
وفي المذهب الظاهري قال الإمام أبو محمد علي بن حزم: ولا يحل لمسلمة نكاح غير مسلم أصلاً (2).
قلت: هذه هي النصوص بحرفيتها كما وردت في الكتاب والسنة وفي كتب الأئمة، وحين ننقلها فإنما هو لبيان الحق وبراءة للذمة، وأياً كان القول حول كون الكتابي مشركاً أم غير مشرك فإن إجماع الأمة وسلفها وخلفها منعقد على تحريم زواج المسلمة بغير المسلم، أياً كانت صفته، والإجماع حجة ثابتة فهو المصدر الثالث لشريعة الله، وعامة العلماء على أن منكره يكفر .
الوجه الثاني: دوافع هذه الفتوى وأهدافها :
لا أحد يعرف على وجه التحديد دوافع هذه الفتوى التي صدرت من هذا الشخص أو ذاك، خاصة وأن هذه المسألة لم تكن قضية أو مشكلة بين المسلمين وأهل الكتاب، وأراد هذان الرجلان البحث عن حل لها؛ حتى الذين يتعصبون للمرأة ويقولون إنهم يدافعون عن حقوقها لم يطالبوا بما أفتى به هذان الرجلان.
نعم: نحن لم نفهم أن تحريم زواج المسلمة من غير المسلم يجرها إلى الوراء كما قال أحد الرجلين، بل إن هذا قول لا يقوله عاقل. قد يكون لهذا وأمثاله بواطن وسلوكيات لا نعرفها، وقد يكونون في مرحلة من الخلل الفكري الذي يحدث عندما تنحرف النفس فتختلط عليها الألوان فتراها على غير حقيقتها.
وربما يذهب الظن إلى أن هؤلاء إنما يبحثون عن منافع لا يستطيعون الوصول إليها إلا إذا أفتوا بمثل هذه الفتاوى، لتكون وسيلتهم للوصول إلى هذه المنافع، بعد أن ظنوا أن الأمة في حال من الضعف قد لا تستطيع فيه مواجهتهم، سيما وهي محاطة بظروف دولية تبحث فيها عن مأمن من فوضى القوة والسيطرة التي تسود العالم أو بعض أجزائه .(6/483)
والغالب أن هؤلاء إنما يبحثون فعلاً عن هذه المنافع رغم معرفتهم بخطأ فتاواهم وفسادها وبطلانها، وقد حدث مثل هذا حينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤسس الدولة، وكان هذا التأسيس يتطلب مواجهة المعادين لها؛ ففي تلك المرحلة كانت فئة من المنافقين تهتم بمصالحها الدنيوية مع المعادين لدين الله، ولم يكن يهمهم من هذا الدين ولا من الدولة إلا بقدر ما ينتفعون منه، وكان على رأس هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول، وكان هذا يسارّ المشركين واليهود خوفاً على مصالحه معهم، مع ظنه السيئ في رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من دين الله، واعتقاده أن هذا الدين سوف يفشل، وأن الغلبة ستكون للمعادين له. ولم يدرِ هو وأضرابه أن الله يعلم أسرارهم ودواخلهم فأنزل فيهم قوله تعالى فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى" أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على" ما أسروا في أنفسهم نادمين (1). ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين (2).
ومع قوة القوى المعادية وسند المنافقين لها إلا أن الله نصر دينه وأعز رسوله، فأصبح عمل المنافقين مجرد تاريخ يتلى للاعتبار والاتعاظ فحسب.
هذا في الماضي، أما في الزمن المعاصر فقد عرف تاريخ الأمة الحديث مرزا غلام أحمد القادياني وجماعته من الجهلة والمارقين، وقد أجهد هذا نفسه وحاول إقناع المسلمين وغيرهم في الهند بوجوب طاعة المستعمر للهند آنذاك، والانقياد له، مدعياً أن هذا من طاعة الله، كما حاول تعطيل الجهاد ووصفه بما يتفق مع عقيدته ومبادئه المنحرفة. وقد عرف الناس من كان وراءه ومن كان يدفع له المال، ومع كل ما كان له من زخم دعاوى أضفاه عليه المستعمر، إلا أن الهنود رفضوا دعاواه، وجاهدوا بكل قوة لتحرير بلادهم، وكان من نتيجة هذا الجهاد تحرر الهند، وتكوين دولتي الباكستان وبنغلاديش المسلمتين، وبقي مرزا غلام أحمد مجرد اسم في تاريخ الردة وخدمة المستعمرين .
وفي الختام نقول: إن هؤلاء الذين يتجرؤون على الله بهذه الفتاوى، ويتوسلون بها إلى القوى الأجنبية، من أجل منافعهم الشخصية، إنما يرتكبون خطأ وإثماً كبيراً في حق دينهم وأمتهم.
أما قولهم بأنهم يجتهدون في الإسلام ويبينون أحكامه فهو قول باطل، وإثم مبين، وقد شدد الله في عقوبة من يحل ما حرمه أو يحرم ما أحله، فقال تعالى: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (1)، متاع قليل ولهم عذاب أليم (2). كما بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستبتلى بأقوام حدد صفاتهم وسلوكهم بقوله: (يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يقولون من قول خير البرية يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) (3).
ولا يسعنا إلا أن نسأل الله عز وجل أن يعز دينه، ويعلي كلمته، وأن يرد كل ضالٍ إلى الحق. إنه سميع مجيب.
================
زواج المسلمة من الكتابي
المؤلف ... الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي
نص البحث
زواج المسلمة من الكتابي حرام ومستحله مرتد
عقد الزوجية في الإسلام ليس كعقدها في جميع الديانات الأخرى كتابية أو وثنية أو لادينية، بتميزه عنها جميعها ابتداء واستمرارا وانتهاء.
ولئن كان هذا العقد في غير الإسلام مجرد اتفاق بين ذكر وأنثى يباركه أو يوثقه بشر سواء كان رجل دين أورجل دولة، فإنه في الإسلام علاقة ربانية ينشئها الله تعالى ويشهد عليها ويأتمن الزوجين عليها ويسألهما ويحاسبهما يوم القيامة بها.
يقول تعالى:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) 1
( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا )2
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )3
( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا )4
هذه الوشيجة الربانية والعلاقة الإنسانية أبى الله عز وجل إلا أن يصفها بالميثاق الغليظ5 بقوله:
( وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ) 6
ومن العجيب أن هذا الوصف " الميثاق الغليظ" لم يطلق في القرآن إلا على معنيين :
أولهما ميثاق الله عز وجل مع النبيئين وأقوامهم على الإيمان والإسلام بقوله تعالى:
( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً )7(6/484)
( وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً )8
أما المعنى الثاني فخاص بالعلاقة الزوجية كما أسلفنا بقوله تعالى ( وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظا)9 ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع ( فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله )10
وقال: (وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله عز وجل، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وبسط يديه وقال: ألا هل بلغت ألا هل بلغت،ثم قال: ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رب مبلغ أسعد من سامع )11 . فكان من مقتضيات هذا الميثاق لقوته ومتانته وعظم مسؤوليته أن يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج وحسن الصحبة والمعاشرة والولاء في الله ما يثقل كاهليهما ويحفظ أسرتهما وذريتهما ويبرئ ذمتهما عند المساءلة بين يدي الله تعالى.
كذلك أيضا نجد تعظيما آخر من الله عز وجل لهذه العلاقة في سورة الممتحنة، إذ جعلها أحد مَثَلين للولاء والبراء، مَثَل منها ومَثَل من إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه.
ذلك أن محور هذه السورة الكريمة هو عقيدة الولاء والبراء، افتتحت بتحريم موالاة أعداء الله ومحبتهم بقوله تعالى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ) 12
وختمت كذلك بتحريم اتخاذ الكافرين أولياء في قوله تعالى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ )13
وبين دفتي هذه السورة ضرب الله تعالى مَثَلين توضيحيين كاشفين لمدى خطورة هذه العقيدة في أهم مفاصلها، مفصل العلاقة مع الوالدين والقوم، ومفصل العلاقة بين الزوجة وزوجها، داعيا في الحالتين إلى اتخاذ الميثاق مع الله مقدما على أي رابطة أخرى، وحاكما عليها.
الأول في علاقة إبراهيم بأبيه وقومه إذ يقول تعالى ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) 14 ، ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) 15
أما المَثَل الثاني ففي العلاقة الزوجية، إذ حرم الله عز وجل المرأة المسلمة على الكافر، بحيث لا تقوم هذه الآصرة حق قيامها إلا من خلال الرجل المسلم ذي أهلية تحمل أمانة الوفاء بهذا الميثاق الغليظ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ }16
بهذه الآية الكريمة يكون اشتراط الإسلام في الرجل كي يكون أهلا للزواج من المسلمة ثابتا ثبوتا قطعيا بنص الكتاب. ولئن جادل بعضهم بمحاولة تأويل قوله تعالى( وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) 17 ،
فلا حجة لهم فيما ذهبوا إليه، لأن هذه الآية نفسها تؤكد حكم تحريم زواج المسلمة من الكافر. وما محاولة ضرب آية سورة الممتحنة بآية سورة البقرة إلا من تلبيس الأهواء والغواية، والقول بأن أهل الكتاب ليسوا مشركين دعوى ساقطة لتعارضها مع النقل الصحيح والعقل السليم، وما الداعي إليها إلا كفر بما جاء عن الله تعالى أو خضوع مذل ومداراة سفيهة ومسايرة وتزلف للتجبر الكتابي المعاصر.(6/485)
إن الكفر في الشريعة الإسلامية هو تكذيب ما جاء عنه عز وجل بواسطة نبيه - صلى الله عليه وسلم - سواء كان هذا التكذيب جحودا للأسماء والصفات أو الربوبية والألوهية أو إنكارا للنبوة وما نقل عنها صحيحا، أو رفضا للشريعة وتعاليمها، وهو بذلك متضمن للشرك سواء كان الشرك بعبادة الأهواء أو الأشجار أو الأحجار أو الرهبان والأحبار، ويدخل فيه بهذه المعاني كلها اليهودي والنصراني والمشرك واللاديني، فيحرم لذلك على المسلمة الزواج بأي منهم. لاسيما وقد ورد لفظ " الكفار " في آية التحريم من سورة الممتحنة بصيغة الجمع المعرف ب" أل" وهي تفيد الاستغراق ، أي جميع أصناف الكفرة.
كما أن صريح الكتاب والسنة قد حسم هذا الأمر حسما قاطعا حين وردت النصوص المبينة أن أهل الكتاب كفار ومشركون. فقد قال تعالى:
( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) 18
( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) 19
( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }20
هذه الآيات صريحة في أن اليهود والنصارى مشركون، لاسيما عندما عقب على الآية الثالثة بقوله تعالى ( وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ )، وعلى الثانية بقوله: (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ).
تبين هذه المعاني كلها وتؤكدها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تواتر عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يسمي كل من كان كافرا بالمشرك وكان الكفار في عهده ما بين يهودي ونصراني وعابد وثن ومستشفع به ومنكر للبعث والتكليف.
كما روى الأعمش وسفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال: سئل حذيفة عن قول الله عز وجل: ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ )، هل عبدوهم؟ فقال : لا ، ولكن أحلوا لهم الحرام فاستحلّوه ، وحرموا عليهم الحلال فحرموه .21
وروى الترمذي عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من { ذهب، فقال: "ما هذا يا عدي ؟ اطرح عنك هذا الوثن" ، وسمعته يقرأ من سورة براءة : اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ، ثم قال: " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكن كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلّوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرموه " 22.
وفي رواية البيهقي: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فسمعته يقول اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، قال: قلت يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم، قال: أجل ولكن يحلون لهم ما حرم الله فيستحلونه ويحرمون عليهم ما أحل الله فيحرمونه فتلك عبادتهم لهم ) 23
وتقتضي هذه النصوص القطعية من الكتاب والسنة أن الكفر يتضمن الشرك مبنى ومعنى وشرعا، إذ لو كان غير ذلك لوجب أن يغفر الله عز وجل لأهل الكتاب بمقتضى قوله : {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } 24. وهذا المعنى باطل بطلانا بينا.
كما أن قوله تعالى{ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }25 يهدم ما ذهب إليه المبطلون لاسيما بتعقيب الله في نهاية الآية بقوله (أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) لأن علة التحريم في المشركين وهي الدعوة إلى النار قائمة في أهل الكتاب أيضا.(6/486)
هذه المعاني كلها بينتها السنة النبوية المطهرة ولخصتها قولا وعملا، فقد أخرج ابن جرير عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا "26 وعند عبد الرزاق وابن جرير عن عمر بن الخطاب قال " المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة "27 وعند عبد بن حميد عن قتادة قال " أحل الله لنا محصنتين محصنة مؤمنة ومحصنة من أهل الكتاب نساؤنا عليهم حرام ونساؤهم لنا حلال " 28 .
إن تحريم زواج المسلمة بغير المسلم يعد من المسائل التي لم يختلف عليها المسلمون ، والتي تواتر إجماعهم عليها منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فرق بين بنته زينب وزوجها المشرك ثم ردها إليه بعد إسلامه 29، إلى يومنا هذا، وما ذلك إلا لما فهموه من الكتاب والسنة قطعيا، ولم يشذ عن هذا الحكم إلا شرذمة من ذوي الأهواء والضلال، قدامى ومعاصرين ممن باعوا أنفسهم لغير الله تعالى.
إن زواج المسلمة بغير المسلم ولو كان جهلا منها لا استحلالا، يؤدي بها إلى الكفر مهما حاذرت وحرصت، لأن مآل هذا الزواج أن يخل بعقيدتها ولاء وبراء.
ذلك أن الولاء شرعا هو محبة الله ورسوله وطاعتهما ومحبة المسلمين في الله ونصرتهم، والبراء هو بغض من كفر بالله ورسوله وشريعة الإسلام، أو أنكر الرسالة ومرسلها والمرسل بها، أو حارب أهلها، بدليل قوله تعالى ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) 30.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) 31.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ ) 32.
( وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ) 33
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله 34
وعن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا يحق العبد حق صريح الإيمان حتى يحب لله تعالى ويبغض لله فإذا أحب لله تبارك وتعالى وأبغض لله تبارك وتعالى فقد استحق الولاء من الله وإن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم35
وعن عمرو بن الجموح أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحق العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله تبارك وتعالى وأبغض لله فقد استحق الولاية من الله 36
وعن معاذ أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان قال أن تحب لله وتبغض لله وتعمل لسانك في ذكر الله قال وماذا يا رسول الله قال وأن تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك 37
وعن البراء بن عازب قال كنا جلوسا عند النبي صلى اللهم عليه وسلم فقال أي عرى الإسلام أوسط قالوا الصلاة قال حسنة وما هي بها قالوا الزكاة قال حسنة وما هي بها قالوا صيام رمضان قال حسن وما هو به قالوا الحج قال حسن وما هو به قالوا الجهاد قال حسن وما هو به قال إن أوسط عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله 38
وعن البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون أي عرى الإيمان أوثق؟ قلنا الصلاة، قال: الصلاة حسنة وليست بذلك، قلنا الصيام، فقال مثل ذلك، حتى ذكرنا الجهاد فقال مثل ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الإيمان الحب في الله عز وجل والبغض في الله 39
وبما أن الزوجة المسلمة في الأصل بفطرتها ومقتضيات دينها تحب زوجها وتواليه وتطيعه وتنصره، فإن كان زوجها كافرا كان ولاؤها ومحبتُها له ونصرتهُا إياه محبةً ضمنيةً للكفر ونصرةً وطاعةً لأعداء ربها ورسوله ومبغضيهما، وهذا يتعارض مع العقيدة السليمة ويهدمها.
خلاصة ما نصل إليه في هذا المبحث أن زواج المسلمة من غير المسلم، الكتابي40 يهوديا كان أو نصرانيا، والمشرك واللاديني، لا يجوز شرعا، ومحرم بإجماع كل المذاهب الإسلامية على اختلافها، ولا يوجد رأي فقهي واحد يؤيد هذه المسألة، لا في كتب المتأخرين ولا المتقدمين ولا في أقوالهم
وأن إنكار حكم التحريم هذا يوجب ردة القائل به، لأنه معلوم من الدين بالضرورة، وغير خفي على عامة المسلمين وسوقتهم بله علمائهم وسراتهم، وغني عن البيان التذكير بحكمة هذا التحريم وضرورته لحفظ الأعراض دينا ونسلا ومجتمعا سويا وأمة قوية رائدة، وإن كانت النصوص المحرمة لزواج المسلمة من غير المسلم متضمنة كل هذه المعاني.
-----------------------------------
[1] - النساء 1
[2] - الأعراف 189(6/487)
[3] - الروم 21
[4] - الزمر 6
[5] - الواو والثاء والقاف كلمة تدل على عقد وإحكام، والفعل : وثق به على وزن "ورث" ثقة وموثقا ووثاقة ووثوقا: ائتمنه، والميثاق هو العهد المحكم، والمواثقة المعاهدة، ، وأخذ الله ميثاق النبيئين أخذ العهد عليهم.
[6] - النساء 21
[7] - الأحزاب 7
[8] - النساء 154
[9] - النساء 21
[10] - صحيح مسلم رقم 2137 – ابن ماجه 3065 – الدارمي 1778
- [11] مجمع الزوائد
[12] - الممتحنة 1
[13] - الممتحنة 13
[14] - الممتحنة 4
[15] - الممتحنة 6
-[16] الممتحنة 10
[17] - البقرة 221
[18] - المائدة 73
[19] - المائدة 72
[20] - التوبة30 – 31
[21] - تفسير القرطبي 8/120
[22] - سنن الترمذي رقم 3020
[23] - السنن الكبري للبيهقي 10/116
[24] - النساء 48
[25] - البقرة 221
[26] - حدثنا تميم بن المنتصر أخبرنا إسحاق الأزرقي عن شريك عن أشعث بن سوار عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا ثم قال وهذا الخبر وإن كان في إسناده مافيه فالقول به لإجماع الجميع من الأمة عليه كذا قال ابن جرير رحمه الله . تفسير ابن كثير 1/258 ، أقول وصحة معنى هذا الحديث تأتي من موافقته للقرآن عند عرضه عليه كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
[27] - تفسير الطبري 2/278 ، تفسير ابن كثير 1/258
[28] - عون المعبود 8/9، تفسير الطبري 6/108
[29] - المستدرك على الصحيحين 3/25.
[30] - المجادلة 22
[31] - المائدة 51
[32] - آل عمران149
[33] - هود 113
[34] - مصنف ابن أبي شيبة 6/172
[35] - أحمد مسند المكيين 14998- ج 3/430، فتح الباري 1/47، الفردوس بمأثور الخطاب 5/152
[36] - مجمع الزوائد 1/89، رواه أحمد وفيه رشدين بن سعد وهو منقطع ضعيف.
[37] - أحمد مسند الأنصار 21113، مجمع الزوائد 1/61
[38] - أحمد مسند الكوفيين 17793
[39] - مسند الطيالسي1/101، شعب الإيمان 1/46
[40] - أطلق لفظ" كتابي" على اليهود والنصارى لكونهم كانوا أصحاب كتاب منزل، ولكنهم حرفوه وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وهو ما أشارت إليه الآيتان 30- 31 من سورة التوبة. وإلا فهم في الشرك مع المشركين سواء
---------------------
في ظل إجماع الفقهاء قديما وحديثا على حكمه: زواج المسلمة بغير المسلم.. حرام
إعداد/ عبد القادر علي ورسمة
في ظل إجماع الفقهاء قديما وحديثا على حكمه: زواج المسلمة بغير المسلم.. حرام
إعداد/ عبد القادر علي ورسمة
إن زواج المسلمة بغير المسلم يعد من المسائل التي لم يختلف عليها الفقهاء، ومن المسائل التي قد أجمعوا على حرمتها، ولكن للأسف بدأنا نسمع أصواتاً ونقرأ لأناس لا دخل لهم بالعلم الشرعي يهرفون بما لا يعرفون ويفتون بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير حول زواج المسلمة من غير المسلم كتابياً كان أم مشركاً داخل البلاد الإسلامية أو خارجها فالحكم واحد، وقد حاول بعض المستشرقين ومن لف لفهم من العلمانيين سابقا ويحاولون الآن إثارة بعض الزوابع في كثير من المسائل الشرعية، ومنها قضية زواج المسلمة بغير المسلم، ونصوص الكتاب والسنة واضحة كل الوضوح في هذه المسألة حيث قال تعالى: -وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ، وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ. وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ. أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِه،ِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ- -البقرة/221.
ودلّت الآية بوضوح على تحريم زواج المسلمة من المشرك وحتى لو كان كتابياً، ولو أعجبها وأعجب أهلها، طالما بقي على شركه، وعلّة التحريم هي الشرك.
وزواج المسلمة من المشرك، محرم بنص الآية، ويشمل غير المسلمين جميعاً سواء كانوا كتابيين أم غير كتابيين.
قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: -والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم- يعني : والحرائر من الذين أعطوا الكتاب وهم اليهود والنصارى الذين دانوا بما في التوراة والإنجيل من قبلكم أيها المؤمنون بمحمد من العرب وسائر الناس أن تنكحوهن أيضاً ، -إذا آتيتموهن أجورهن- يعني : إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتكم ومحصناتهم أجورهن؛ وهي: مهورهن -تفسير الطبري 6/104-.(6/488)
وقال الإمام الطبري أيضاً: القول في تأويل قوله تعالى : -ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم- يعني تعالى ذكره بذلك : أن الله قد حرم على المؤمنات أن ينكحن مشركاً كائناً من كان المشرك، ومن أي أصناف الشرك كان ، فلا تنكحوهن أيها المؤمنون منهم فإن ذلك حرام عليكم ، ولأنْ تُزَوّجُوهنّ من عبد مؤمن مصدق بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله خير لكم من أن تُزَوّجُوهنّ من حر مشرك ولو شرف نسبه وكرم أصله، وإن أعجبكم حسبه ونسبه.
عن قتادة والزهري في قوله تعالى: -ولا تنكحوا المشركين- قال : لا يحل لك أن تنكح يهودياً أو نصرانياً ولا مشركاً من غير أهل دينك . - تفسير الطبري 2/379
وأشار القرطبي في تفسيره إلى الإجماع على حرمة زواج المسلمة بكافر حيث قال في تفسير قوله تعالى -ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا- وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام ويقول الدكتور عبد الكريم زيدان: لا يجوز زواج المسلمة بغير المسلم عند جميع الفقهاء.
نساء أهل الكتاب
ويرى جمهور الفقهاء إباحة زواج المسلم من نساء أهل الكتاب، وأجمعوا على حرمة زواج المسلمة من غير المسلم ،وهذا أمر تعبدي ، وإذا أردنا أن نلتمس حكمة لذلك فيمكن أن يقال: إن الإسلام عندما أباح للرجل الزواج من الكتابية، فإنه أمر الزوج أن يحترم دينها لأن المسلم يؤمن بجميع الأنبياء، أما غير المسلم إذا تزوج من مسلمة فإنه لا يحترم عقيدتها، و لا يؤمن بنبيها مما يوقد النار في المنزل ويمنع السكينة والرحمة التي قوام البيوت عليها، ويمكن أن يخرجها عن دينها لما عنده من الكره والبغض للإسلام والمسلمين؛ فلهذا منع الإسلام مثل هذا الزواج، وقال تعالي : -ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم-.
المسلمة والكتابي
إن زواج المسلمة من الكتابي سواء كان يهودياً أم نصرانياً أم مشركاً غير كتابي لا يجوز شرعا، وذلك بإجماع كل المذاهب الإسلامية على اختلافها، ولا يوجد رأي فقهي واحد يؤيد هذه المسألة، لا في كتب المتأخرين ولا المتقدمين ولا في أقوالهم، ونطالب من أهل الأهواء الذين يدعون بجواز هذا الأمر بداعي العولمة ومساواة الجميع أن يأتوا بأي عالم من علماء المسلمين أفتى بجواز هذا الأمر، وإلا فليسكتوا عن إلقاء الشبهات التي لا تستند إلى شيء؛ لأن ديننا الإسلامي الحنيف لا يعتمد على الأهواء بل يعتمد على نصوص شرعية من الكتاب والسنة، وأقوال أهل العلم البعيدة عن الأهواء والبدع.
فتوى المجمع
وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي فتوى عن استفسار ورد إليهم من قبل بعض المسلمين في الغرب، وكان كالتالي: ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم خصوصاً إذا طمعت في إسلامه بعد الزواج حيث تدعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوافر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان، وأنهن مهددات بالانحراف أو يعشن في وضع شديد الحرج؟ الجواب : زواج المسلمة بغير المسلم ممنوع شرعاً بالكتاب والسنة والإجماع. وإذا وقع فهو باطل، ولا تترتب عليه الآثار الشرعية المترتبة على النكاح، والأولاد المولودون عن هذا الزواج أولاد غير شرعيين، ورجاء إسلام الأزواج لا يغير من هذا الحكم شيئاً .
- وعليه فإن زواج المسلمة بغير المسلم محرم بإجماع المسلمين، بل وقد يؤكد العلماء بأن استحلال هذا الأمر قد يؤدي إلى الكفر والخروج من الإسلام.
وإلى حرمة نكاح المسلمة بغير المسلم وبطلان هذا النكاح يشير قول الله جل وعلا: -ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه- البقرة:/221.
وقول الله تعالى : -يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن- الممتحنة/10.
- وقد حرمت هذه الآية المسلمات على المشركين، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ثم نسخ بعد ذلك.
يقول الشافعي رحمه الله : فإن أسلمت المرأة، أو ولدت على الإسلام، أو أسلم أحد أبويها وهي صبية لم تبلغ حرم على كل مشرك كتابي ووثني نكاحها بكل حال.
مثل أولاد الزنا(6/489)
وقد قرر فقهاؤنا السابقون أن من ينشأ عن هذه العلاقة المحرمة من أولاد فإن مثلهم مثل أولاد الزنا لا يثبت لهم نسب، ولا يتقرر لهم ميراث من الزاني، فإن ماء الزنا هدر لا يثبت به نسب ولا يتقرر به ميراث لقوله صلى الله عليه وسلم : -الولد للفراش وللعاهر الحجر- فالولد ينسب لصاحب الفراش الشرعي وهو الزوج ، وحيث لايوجد مثل هذا الفراش في هذه الواقعة لبطلان عقد النكاح فلا يثبت نسب، ولا يتقرر ميراث إلا بين الولد وبين أمه، أما بينه وبين الزاني فلا توارث وذلك لسببين : لاختلاف الدين من ناحية؛ لأن الولد مسلم بالتبعية لأمه، والزاني من أهل الكتاب، وقد قررت الشريعة المطهرة عدم التوارث عند اختلاف الدين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: -لا يتوارث أهل ملتين شتى-.
- وعلىه نرى أن حكم الشرع في هذه المسألة واضح جداً، وأنه لا يوجد دليل واحد يدل على جواز هذا الأمر، وإن كان بعض أهل الأهواء من العلمانيين وغيرهم يحاولون إثارة الشبهات، حتى يتمكنوا من تغيير بعض ثوابت الدين عند المسلمين، وذلك لتكوين ثقافة عالمية واحدة،ودور الأمم المتحدة وتدخلها في شؤون المرأة ومحاولاتها إقناع العالم بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة وتدخلاتها السافرة في شؤون الدول واضح لكل ذي نظر، مما يدل على أن إثارة مثل هذه المواضيع في هذه الأيام يخدم أجندة خارجية تسعى إلى طمس ثوابت الأمة وهويتها وثقافتها، وهذا مخالف لمبادئ حقوق الإنسان التي يتبجح بها الغرب وأذنابه من العلمانيين، والتي تنص على وجوب احترام الثقافات والأديان.
- وعلى المسلم أن يكون حذراً من هذه الأفكار الهدامة وينبغي أن يلتزم بكتاب الله وسنة رسوله، وعلى فهم سلف الأمة خير القرون قاطبة؛ قال تعالى: -وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله، ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا- -الأحزاب-26-.
-------------------
168- هل صحيح أن الإسلام ضد حرية الاعتقاد ؟
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف
الرد على الشبهة:
1 ـ لقد كفل الإسلام للإنسان حرية الاعتقاد. وجاء ذلك فى وضوح تام فى القرآن الكريم: (لا إكراه فى الدين ) (1). فلا يجوز إرغام أحد على ترك دينه واعتناق دين آخر. فحرية الإنسان فى اختيار دينه هى أساس الاعتقاد. ومن هنا كان تأكيد القرآن على ذلك تأكيدًا لا يقبل التأويل فى قوله: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (2).
2 ـ وقد أقر النبى صلى الله عليه وسلم الحرية الدينية فى أول دستور للمدينة حينما اعترف لليهود بأنهم يشكلون مع المسلمين أمة واحدة.
ومن منطلق الحرية الدينية التى يضمنها الإسلام كان إعطاء الخليفة الثانى عمر بن الخطاب للمسيحيين من سكان القدس الأمان " على حياتهم وكنائسهم وصلبانهم ، لا يضار أحد منهم ولا يرغم بسبب دينه ".
3 ـ لقد كفل الإسلام أيضًا حرية المناقشات الدينية على أساس موضوعى بعيد عن المهاترات أو السخرية من الآخرين. وفى ذلك يقول القرآن: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن ) (3). وعلى أساس من هذه المبادئ السمحة ينبغى أن يكون الحوار بين المسلمين وغير المسلمين ، وقد وجه القرآن هذه الدعوة إلى الحوار إلى أهل الكتاب فقال: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله * فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (4). ومعنى هذا أن الحوار إذا لم يصل إلى نتيجة فلكل دينه الذى يقتنع به. وهذا ما عبرت عنه أيضًا الآية الأخيرة من سورة (الكافرون) التى ختمت بقوله تعالى للمشركين على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: (لكم دينكم ولى دين ) (5).
4 ـ الاقتناع هو أساس الاعتقاد: فالعقيدة الحقيقية هى التى تقوم على الإقناع واليقين ، وليس على مجرد التقليد أو الإرغام. وكل فرد حر فى أن يعتقد ما يشاء وأن يتبنى لنفسه من الأفكار ما يريد ، حتى ولو كان ما يعتقده أفكارًا إلحادية. فلا يستطيع أحد أن يمنعه من ذلك طالما أنه يحتفظ بهذه الأفكار لنفسه ولا يؤذى بها أحدًا من الناس. أما إذا حاول نشر هذه الأفكار التى تتناقض مع معتقدات الناس ، وتتعارض مع قيمهم التى يدينون لها بالولاء ، فإنه بذلك يكون قد اعتدى على النظام العام للدولة بإثارة الفتنة والشكوك فى نفوس الناس. وأى إنسان يعتدى على النظام العام للدولة فى أى أمة من الأمم يتعرض للعقاب ، وقد يصل الأمر فى ذلك إلى حد تهمة الخيانة العظمى التى تعاقب عليها معظم الدول بالقتل. فقتل المرتد فى الشريعة الإسلامية ليس لأنه ارتد فقط ولكن لإثارته الفتنة والبلبلة وتعكير النظام العام فى الدولة الإسلامية. أما إذا ارتد بينه وبين نفسه دون أن ينشر ذلك بين الناس ويثير الشكوك فى نفوسهم فلا يستطيع أحد أن يتعرض له بسوء ، فالله وحده هو المطلع على ماتخفى الصدور.(6/490)
وقد ذهب بعض العلماء المحدثين إلى أن عقاب المرتد ليس فى الدنيا وإنما فى الآخرة ، وأن ما حدث من قتل للمرتدين فى الإسلام بناء على بعض الأحاديث النبوية فإنه لم يكن بسبب الارتداد وحده ، وإنما بسبب محاربة هؤلاء المرتدين للإسلام والمسلمين (6).
(1) البقرة: 256.
(2) الكهف: 29.
(3) النحل: 125.
(4) آل عمران: 64.
(5) الكافرون: 6.
(6) راجع: الحرية الدينية فى الإسلام للشيخ عبد المتعال الصعيدى ص 3،72، 73، 88 ـ دار الفكر العربى ـ الطبعة الثانية (دون تاريخ).
-------------------
حقوق الأفراد في ظل الإسلام
عبد الوهاب خلاف
لقد اعطى الاسلام الفرد حقوقا مثل الحقوق التي اعطته اياه المدنية المعاصرة ولكن حصرتها بقيود تتناسب والظروف الاجتماعية والبيئية التي يعيشها الفرد. وجميع هذه الحقوق على تعددها ترجع إلى أمرين عامين: الأول الحرية الشخصية، والثاني المساواة بين الأفراد في الحقوق المدنية والسياسية.
الحرية الشخصية
المراد من الحرية الشخصية أن يكون الشخص قادراً على التصرف في شؤون نفسه وفي كل ما يتعلق بذاته، آمناً من الاعتداء عليه في نفس أو عرض أو مال أو مأوى أو أي حق من حقوقه، على أن لا يكون في تصرفه عدوان على غيره. ومن هذا التعريف يتبين أن الحرية الشخصية تتحقق بتحقق أمور؛ وأنها معنى مكون من حريات عدة وهي: حرية الذات، وحرية المأوى، وحرية الملك، وحرية الاعتقاد، وحرية الرأي، وحرية التعليم. ففي تأمين الفرد على هذه الحريات كفالة لحريته الشخصية، وهذا ما قرره الإسلام في شأن هذه الحريات.
الحرية الفردية أو حرية الذات
في أحكام الإسلام ما يقرر ويؤمّن الفرد على ذاته من أي اعتداء: وذلك أن الإسلام حد حدوداً بأوامره ونواهيه؛ وشرع لمجاوزة هذه الحدود عقوبات، بعضها مقدرة وهي الحدود، وبعضها موكول تقديره إلى ولاة الأمر وهي التعازير، فلا جريمة إلاّ في تعدي حدود الله، ولا عقوبة إلاّ على وفق شرع الله. واتفقت كلمة علماء الإسلام على أن العقوبات مما لا تثبت بالرأي والقياس وأنها لا تثبت إلاّ بالنص، وجاء في القرآن الكريم قوله عز شأنه: (فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) وقوله تعالى: (فَمَن اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ). ففي النهي عن العدوان إلاّ على ظالم، وفي الأمر بأن يكون الاعتداء على الظالم مماثلاً لاعتدائه لا يزيد، وفي قصر الجريمة على مخالفة حدود الله، ومنع تشريع العقوبات بالرأي والقياس كفالة للحرية الفردية وتأمين من الاعتداء على الذات. وجميع ما في كتاب الله وسُنة رسوله، من النهي عن الظلم والإيذاء للمسلم والذمّي، يؤيد حرية الذات وأمان الإنسان من أذى غيره.
حرية المأوى
في أحكام الإسلام ما يكفل هذه الحرية. فإن النفي والإبعاد عقوبة لم يذكرها القرآن الكريم إلاّ جزاء للذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً. قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَآؤُ الذَّينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَونَ فِي الأَرضِ فَسَاداً أن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهمْ وأَرجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَو يُنفَوا مِنَ الأَرضِ ذَلِكَ خِزيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وفي القرآن الكريم والسنة تقرير حرمة المسكن قال تعالى: (يا أَيُّها الذَّينَ أَمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرونَ، فإِن لَّم تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَإِن قِيَل لَكُمْ ارْجِعُوا فَارجِعُوا، هُوَ أَزْكَى لَكُمْ، واَللهُ بِمَا تَعْمَلونَ عَلِيمٌ).
وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع".
حرية الملكية
الإسلام أقر هذه الحرية وكفلها بأحكام عدة:
منها أن كل ما شرعه الله من التصرفات التي تفيد نقل ملكية العين أو منفعتها، من بيع وإجارة وقرض وغيره، جعل أساس صحته ونفاذه حرية المتصرف ورضاه واختياره. فالركن الأول لصحة المبادلات المالية التراضي والأصل في هذا قوله عز وشأنه: (يا أَيُّهَا الذَّينَ أَمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ).
ومنها النهي في مواضع عدة في القرآن والسنة عن التعدي على مال الغير وأخذه من مالكه بغير حق، قال تعالى: (وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلى الحُكَّامِ لِتَأكُلُوا فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) وقال عز شأنه: (إِنَّ الذَّينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَونَ سَعِيراً).(6/491)
وليس تقرير عقوبة السارق وتضمين الغاصب إلاّ ضماناً لحرية الملكية. قال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) وقال عليه السلام: "ولا يحل لأحد أن يأخذ متاع أخيه لاعباً ولا جاداً، فإن أخذه فليرده عليه" وقال: "على اليد ما أخذت حتى ترد".
ومما يؤيد حق الملكية في أحكام الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم لمن كان يغبن في المبادلات "إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولي الخيار ثلاثة أيام" ونهيه عن بيع الغرر، فإن في تجويز شرط الخيار والنهي عن بيع الغرر ضمانة لتحقق رضا المالك بالتبادل وعدم خروج الملك من مالكه وفي نفسه شبهة قهر أو خداع له. بل إن تقرير حق الشفعة إذا نظر إليه من ناحية أنه لدفع الضرر عن الجار أو الشريك يؤيد احترام الملكية وإحاطة المالك بما يدفع عنه الضرر ويحول بينه وبين الانتفاع بملكه.
حرية الاعتقاد1
الإسلام أقر هذه الحرية، وترك لكل فرد الحرية التامة في أن يكّون عقيدته بناء على ما يصل إليه عقله ونظره الصحيح، وذلك أن الإسلام جعل أساس التوحيد والإيمان البحث والنظر، لا القهر والإلجاء، ولا المحاكاة والتقليد. ففي كثير من آي الكتاب الكريم لفت الناس إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء، ليهتدوا هم بهذا النظر إلى الإيمان الصحيح والدين الحق، كقوله تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء)وقوله تعالى: (إنَّ فِي خَلقِ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ وَاخْتِلافِ الَّليلِ وَالنَّهارِ، وَالفُلكِ الَّتي تَجْري فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ، فَأَحْيَا بِهِ الأَرضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيَها مِن كُلِّ دَآبَّةٍ، وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالأَرضِ، لأَيَاتٍ لِّقَومٍ يَعْقِلُونَ)، وفي كثير من الآي الكريمة نعى على من آمن بطريق التقليد لا بطريق البحث والنظر، كقوله تعالى: (بل قالوا إِنَّا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)، وفي كثير من الآي نفي للإيمان بطريق الإكراه والقسر كقوله تعالى: (لآ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ)، وكقوله تعالى: (أَفَأَنتَ تُكْرهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وكقوله تعالى: (لكمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ).
فإذا كان أساس الاعتقاد في الإسلام النظر العقلي والبحث والتفكير في آيات الله ولا محاكاة، ولا تقليد، ولا إلجاء، ولا إكراه، فليس أضمن لحرية الاعتقاد من هذا. ويؤيده ما جاء في الكتاب الكريم من أنه لا سلطان للداعي غير سلطان التذكير والموعظة الحسنة، قال تعالى لرسوله: (فذَكِّر إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّستَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ).
هذا ما يؤيد حرية الاعتقاد في الإسلام وإما ما يقرره حماية إقامة الشعائر، فإن الإسلام جعل لغير المسلمين الحرية التامة في أن يقيموا شعائر دينهم في كنائسهم ومعابدهم وجعل لهم أن يتبعوا أحكام دينهم في معاملاتهم وأحوالهم الشخصية. والأصل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم في شأن الذميين: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وجميع العهود التي كانت تعطى للمعاهدين كان يقرن فيها بالتأمين على الأنفس والأموال التأمين على العقائد وإقامة الشعائر، وفي عهد عمر لأهل إيليا ما نصه "أعطاهم الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسائر ملتهم، لا تسكن كنائسهم ولا ينقص منها ولا من خيرها ولا من صلبهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم". فالإسلام في تكوين العقيدة أطلق للعقل عنان النظر، وفسح له في مجال البحث والتفكير في الآيات والدلائل وفي حماية عقائد المسلمين أحاطها بما يكفلها ويحفظها وترك أرباب كل دين وما يدينون به.
حرية الرأي
الإسلام في شأن هذا الحق نظر إلى موضوع الرأي: إما أن يكون أمراً دينياً، أو غير ديني.
فإن كان الأمر غير ديني، فلكل فرد أن يبدي رأيه فيه حسبما يراه، ويُعرِب عنه بالوسيلة الميسورة له، وقد حدث في صدر الإسلام وبعده عدة حوادث تدل على حرية الرأي وإقراره في هذه المواضع: من ذلك أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أشار على المسلمين في بعض الغزوات أن ينزلوا موضعاً معيناً، فسأله أحد الصحابة: أهذا منزل أنزلكه الله؟ أو هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة... قال الصحابي للرسول: ليس هذا بمنزل... وأشار بإنزال المسلمين منزلاً آخر، وتحولوا. واختلاف أبي بكر وعمر في حكم الأسرى على مسمع من الرسول خبره مستفيض. وكذلك اختلاف كبار الصحابة في شأن الخلافة وكثير من الشؤون.(6/492)
وأما في الأمور الدينية فلكل واحد أن يجتهد فيها، ويرى الرأي الذي يوصله إليه اجتهاده، ما دام في غيره موضع النص، ورأيه في حدود أصول الدين الكلية ونصوصه الصحيحة: وذلك أن الإسلام جعل القياس أحد أصوله، ومصدراً من مصادر التشريع فيه، والقياس هو إلحاق الأشباه بالأشباه، والنظائر بالنظائر، لاستنباط الأحكام التي لم ينص عليها،.. وفي هذا الإلحاق والاستنباط مجال فسيح للرأي، ومتسع عظيم للنظر، وفي جعله مصدراً تشريعياً اعتبار للرأي وتقرير لحقه.
وكذلك جاء في السنّة أن كل مجتهد مأجور: إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران. فالمئوية على الاجتهاد ـ سواء أدى إلى خطأ أو صواب ـ دليل على تقدير الإسلام للرأي، وإقراره هذا الحق.
ويؤيد هذا ما ورد في كثير من النصوص من ذم التقليد والنعي على المقلدين الذين يهملون عقولهم ولا يحررونها من أسر التقليد، وما جاء على ألسنة كثير من المجتهدين من التصريح بأنهم ما اجتهدوا ليقلدوا، وأن آرائهم لأنفسهم وخطأهم عليها.
فليس في أصول الإسلام ونصوصه ما ينافي حرية الرأي بالمعنى الذي بيّناه، بل فيها ما يؤيده ويقرره. وأما ما ورد عن ابن عباس من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"، وما ورد عن أبي بكر من قوله: "أي سماء تظلني وأي أرض تقلّني إن قلت في كتاب الله برأيي؟".. فهو محمول على الرأي الذي يستند إلى مجرد الهوى ولا يعتمد على مصلحة عامة ولا أصل ديني كلّي.
وأما ما حدث في الإسلام من سد باب الاجتهاد وإيجاب التقليد لأئمة معينين، فإن هذا ليس من مقتضى أصول الدين أو نصوصه وإنما هو علاج لجأ إليه المتأخرون سداً لباب الفوضى، فهو من قبيل ارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين، ولو وفق المسلمون إلى علاج تلك الفوضى ما كان في الإسلام مانع من الاجتهاد.
حرية التعليم
الإسلام نص على أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ونفى أن يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولم ينص على أنواع معينة من العلوم وحظر ما عداها، فكل علم يوصل إلى مصلحة دنيوية أو دينية فهو مطلوب وهو حق مشاع بين أفراد الناس ذكورهم وإناثهم. وليس في أصول الإسلام ما يدل على أنه يضيق بعلم أو يقف في سبيل تعليم بل إن في حوادث التاريخ دليلاً على أن المسلمين وَسِعت صدورهم وبلادهم مختلف العلوم وطبقات العلماء الذين ما وجدوا في غير الإسلام متسعاً لعلومهم ونظرياتهم. وإن ما نقل إلى العربية من علوم الفرس على يد ابن المقفع وأضرابه، وما عرب من علوم اليونان في عهد المنصور والرشيد والمأمون، وما كانت عليه حال العلم والتعليم في معاهد بغداد وقرطبة وسمرقند، دليل على تقدير الإسلام لحرية العلم وتأييده للتعليم.
وكيف لا يتفق الإسلام وحرية التعليم، وأول أسس الإسلام أن يكون الإيمان عماده البرهان والحجة والنظر في ملكوت السماوات والأرض! وهذا النظر يحتاج إلى مختلف العلوم وتعرف كثير من النظريات!... وكيف يكلف المسلمون بقوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) إذا كان في الإسلام ما يقيد حريتهم في إعداد القوة بحظر البحث في أنواع من العلوم أو الفنون التي تتطلبها حاجات الإعداد في مختلف العصور.
فالحقيقة الثابتة أن الإسلام يقرر حرية العلم، بل يجعل طلبه فريضة محكمة على كل مسلم ومسلمة، وما يرمى به المسلمون من اضطهاد أنواع من العلوم في بعض العصور، فليس سببه أمراً في طبيعة الإسلام. وفيما كتبه الأستاذ الإمام في كتابه "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية" مقنع لمن في نفسه ريب.
المساواة
المساواة شعار من أظهر شعائر الإسلام، ونصوصه وأحكامه ناطقة بتقريرها على أكمل وجوهها: وذلك أن الإسلام لا يفرق بين واحد وآخر في الخضوع لسلطان قانونه، وليس فيه فرد فوق القانون مهما علت منزلته، وأمير المؤمنين والوالي وكل واحد من الأفراد متساوون في أحوالهم المدنية والجنائية، لا يمتاز واحد بحكم خاص ولا بطرق محاكمة خاصة بل جميعهم أمام القانون سواء.
وكذلك لا يميز الإسلام واحداً عن واحد في التمتّع بالحقوق: فلم يجعل منزلة أو ميزة حقاً لأفراد أسرة معينة، لا يستمتع بها سواه، بل ناط الأمر بالعمل له، ومهد السبيل لكل عامل، فكل مناصب الدولة من أمارة المؤمنين إلى أصغر منصب فيها حق مُشاع بين أفراد الأمة، لا يحول بينه وبينها نسب أو عصبية وينطق بهذا قوله صلى الله عليه وسلم "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" وقوله صلى الله عليه وسلم لبني هاشم: "يا بني هاشم. لا يجئني الناس بالأعمال وتجيئوني بالأنساب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
وفي كثير من النصوص تقرير المساواة وجعلها من شعائر الإيمان، كقوله تعالى (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وقوله صلى الله عليه وسلم "إخوانكم خدمكم" وقوله عليه السلام: "الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحمر على أسود ولا لعربي على عجمي".(6/493)
وفي كثير من الأحكام تحقيق هذه المساواة: ففي الحج كلهم بلباس واحد عراة الرؤوس لا يلبسون مخيطاً، وفي الصلاة كلهم في صفوف متساوية، وفي التناصح للوضيع على الرفيع ما للرفيع على الوضيع وفي الجنايات النفس بالنفس والعين بالعين والجروح قصاص،... وهكذا في سائر الأحكام الإسلامية الناس سواسية. وقد كانت هذه المساواة في صدر الإسلام شعار المسلمين في حربهم وسلمهم، وكان الذميون والمعاهدون يستمتعون في بلادهم بنعمة هذه المساواة عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من آذى ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة".
مركز المرأة في الحياة الإسلامية القرضاوي
المرأة أُنثى
قدّر الإسلام أُنوثة المرأة، واعتبرها ـ لهذا الوصف ـ عنصراً مكملاً للرجل، كما أنه مكمل لها، فليس أحدهما خصماً للآخر، ولا ندَّا له ولا منافساً، بل عوناً له على كمال شخصه ونوعه.
فقد اقتضت سُنَّة الله في المخلوقات، أن يكون الأزدواج من خصائصها، فنرى الذكورة والأُنوثة في عالم الإنسان والحيوان والنبات، ونرى الموجب والسالب في عالم الجمادات من الكهرباء والمغناطيس وغيرها، حتى الذًّرًّة، فيها الشحنة الكهربائية الموجبة، والشحنة السالبة (الألكترون البروتون).
وإلى ذلك أشار منذ أربعة عشر قرناً فقال: (وَمِن كُلِّ شَئٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
فالذكر والأُنثى كالعلبة وغطائها، والشيء ولازمه، لا غِنَى لأحدهما عن الآخر.
ومنذ خلق الله النفس البَشرية الأُولى ـ آدم ـ خلق منها زوجها ـ حوَّاء ـ ليسكن إليها، ولم يتركه وحده، حتى ولو كانت هذه الوحدة في الجنَّة، وكان الخطاب الإلهي لهما معاً، أمراً ونهياً: (أسكنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمينَ). (سورة البقرة / 35).
فالمرأة ـ بهذاـ غير الرجل، لأنها تكمله ويكملها، والشيء لا يكمل نفسه، والقرآن يقول: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) (سورة آل عمران/36).
كما أن الموجب غير السالب، والسالب غير الموجب.
ومع هذا لم تُخلق لتكون نداً ولا خصماً، بل هي منه وله: (بعضكم من بعض) (سورة النساء/25)، (واللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً) (سورة النحل/72).
واقتضت حكمة الله أن يكون التكوين العضوي والنفسي للمرأة يحمل عناصر الجاذبية للرجل وقابلية الانجذاب إليه.
وركَّب الله في كل من الرجل والمرأة شَهْوة غريزية فِطرية قوية تسوقهما إلى التجاذب واللِّقاء حتى تستمر الحياة ويبقى النوع.
ومن ثَمَّ يرفض الإسلام كل نظام يصادم هذه الفِطرة ويعطلها، كنظام الرهبنة.
ولكنه حظر كل تصريف لهذه الطاقة على غير ما شرعه الله ورضيه من الزواج الذي هو أساس الأُسرة، ولهذا حرَّم الزنى، كما حرَّمته الأديان السماوية كلها، ونهى عن الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، وسدَّ كل منفذ يؤدي إلى هذه الفواحش، حماية للرجل والمرأة من عوامل الإثارة وبواعث الفتنة والإغراء.
وعلى هذا الأساس من النظر إلى فِطرة المرأة، وما يجب أن تكون عليه في علاقتها بالرجل، يعامل بالرجل، يعامل الإسلام المرأة، ويقيم كل نظمه وتوجيهاته وأحكامه.
إنه يرعى أُنوثتها الفِطرية، ويعترف بمقتضياتها فلا يكبتها ولا يصادرها، ولكنه يحول بينها وبين الطريق الذي يؤدي إلى ابتذالها، وامتهان أُنوثتها، ويحميها من ذئاب البشر، وكلاب الصيد، التي تتخطف بنات حوَّاء، لتنهشها نهشاً، وتستمتع بها لحماً، ثم ترميها عظماً.
ونستطيع أن نحدد موقف الإسلام من أُنوثة المرأة فيما يلي:
1- إنه يحافظ على أُنوثتها، حتى تظل ينبوعاً لعواطف الحنان والرِّقة والجمال، ولهذا أحلَّ لها بعض ما حُرِّم على الرجال، بما تقتضيه طبيعة الأُنثى ووظيفتها، كالتحلي بالذهب، ولُبْسِ الحرير الخالص، فقد جاء في الحديث: "إن هذين حرام على ذُكور أُمتي حِلٌ لإناثهم"2.
كما أنه حرَّم عليها كل ما يجافي هذه الأُنوثة، من التشبه بالرجال في الزي والحركة والسلوك وغيرها، فنهى أن تلبس المرأة لِبْسة الرجل، كما نهى الرجل أن يلبس لِبْسة المرأة، وجاء في الحديث: "لعن الله الرجلَ يلبس لِبْسة المرأة، والمرأة تلبس لِبْسة الرجل"3، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال، مثلما لعن المتشبهين من الرجال بالنساء4، وفي الحديث: "ثلاثة لا يدخلون الجنَّة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة_المتشبهة بالرجال_والديُّوث"5.
والديوث: الذي لا يبالي مَن دخل على أهله.
وفي الحديث الآخر: "لعن الله الرجُلة من النساء"6.(6/494)
2- وهو يحمي هذه الأُنوثة ويرعى ضعفها، فيجعلها أبداً في ظل رجل، مكفولة النفقات، مكفية الحاجات، فهي في كنف أبيها أو زوجها أو أولادها أو إخوتها، يجب عليهم نفقتها، وفق شريعة الإسلام، فلا تضطرها الحاجة القاهرة إلى الخوض في لجج الحياة وصراعها ومزاحمة الرجال بالمناكب من أجل لقمة العيش، وهو ما فعلته المرأة الغربية بحكم الضرورة، حيث لا يرعاها أب ولا ابن أخ ولا عم، فاضطرت أن تقبل أي عمل، وبأي أجر، وقاية من الهلاك.
3- وهو يحافظ على خُلُقها وحيائها، ويحرص على سمعتها وكرامتها، ويصون عفافها من خواطر السوء، وألسنة السوء ـ فضلاً عن أيدي السوءِ ـ أن تمتد إليها.
ولهذا يوجب الإسلام عليها:
(أ) الغض من بصرها والمحافظة على عفِتَّها ونظافتها: (وَقُل لِّلمُؤمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (سورة النور/31).
(ب) الاحتشام والتستر في لباسها وزينتها دون إعنات لها، ولا تضييق عليها: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَليَضْرِبْنَ بِخُمُرهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) (سورة النور/31). وقد فسر: (ما ظَهَرَ مِنْهَا) بالكحل والخاتم، وبالوجه والكفين، وزاد بعضهم: القدمين.
(ج) ألا تبدى زينتها الخفية _كالشَعر والعنق والنَّحر والذراعين والساقين_ إلا لزوجها ومحارمها الذين يشق عليها أن تستتر منهم استتارها من الأجانب: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَليَضْرِبْنَ بِخُمُرهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَو أَبائِهِنَّ أَو أَباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَو أَبنَائِهنَّ أَو أَبنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَو إِخوَانِهِنَّ أَو بَنِي إِخْوَانِهنَّ أَو بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَو نِسَائِهنَّ أَو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَو التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَو الطِّفْلِ الذَّينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) (سورة النور/31).
(د) أن تتوقر في مشيتها وكلامها: (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) (سورة النور/31)، (فلاَ تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً) (الأحزاب/32). فليست ممنوعة من الكلام، وليس صوتها عورة! بل هي مأمورة أن تقول قولاً معروفاً.
(ه) أن تتجنب كل ما يجذب انتباه الرجل إليها، ويغريه بها، من تبرج الجاهلية الأُولى أو الأخيرة، فهذا ليس من خُلُق المرأة العفيفة. وفي الحديث: "أيُمَا امرأة استعطرت ثم خرجت من بيتها ليشم الناس ريحها فهي زانية"7. أي تفعل فعلها، وإن لم تكن كذلك، فيجب أن تتنزَّه عن هذا السلوك.
(و) أن تمتنع عن الخلوة بأي رجل ليس زوجها ولا مَحْرَماً لها، صوناً لنفسها ونفسه من هَواجس الإثم، ولسمعتها من ألسنة الزور: "لا يَخْلُوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ، ولا تسافرنَّ امرأة، إلا ومعها مَحْرم"8.
(ز) ألا تختلط بمجتمع الرجال الأجانب إلا لحاجة داعية، ومصلحة معتبرة، وبالقدر اللازم، كالصلاة في المسجد، وطلب العلم، والتعاون على البر والتقوى، بحيث لا تُحرم المرأة من المشاركة في خدمة مجتمعها، ولا تنسى الحدود الشرعية في لقاء الرجال.
إنَّ الإسلام بهذه الأحكام يحمي أُنوثة المرأة من أنياب المفترسين من ناحية، ويحفظ عليها حياءها وعفافها بالبُعْد عن عوامل الانحراف والتضليل من ناحية ثانية، ويصون عِرْضها من ألسنة المفترين والمرجفين من ناحية ثالثة، وهو ـ مع هذا كله ـ يحافظ على نفسها وأعصابها من التوتر والقلق، ومن الهزَّات والاضطرابات، نتيجة لجموح الخيال، وانشغال القلب، وتوزع عواطفه بين شتَّى المثيرات والمهيِّجات.
وهو أيضاً ـ بهذه الأحكام والتشريعات ـ يحمي الرجل من عوامل الانحراف والقلق، ويحمي الأُسرة من أسباب التفكك، ويحمي الأُسرة من أسباب التفكك، ويحمي المجتمع كله من عوامل السقوط والانحلال.
* الاختلاط المشروع:
دخلت مجتمعنا الحديث كلمات أصبح لها دلالات لم تكن لها من قبل. من ذلك كلمة "الاختلاط" بين الرجل والمرأة. فقد كانت المرأة المسلمة ـ في عصر النبوة وعصر الصحابة والتابعين ـ تلقى الرجل، وكان الرجل يلقى المرأة، في مناسبات مختلفة، دينية ودنيوية، ولم يك ذلك ممنوعاً بإطلاق، بل كان مشروعاً إذا وُجِدت أسبابه، وتوافرت ضوابطه، ولم يكونوا يسمون ذلك "اختلاطاً".
ثم شاعت هذه الكلمة في العصر الحديث ـ ولا أدري متى بدأ استعمالها ـ بما لها من إيحاء، ينفر منه حس المسلم والمسلمة؛ لأن خلط شيء بشيء يعني إذابته فيه، كخلط الملح أو السكر بالماء.
المهم أن نؤكد هنا أن ليس كل اختلاط ممنوعاً، كما يتصور ذلك ويُصورِّه دعاة التشديد والتضييق، وليس كذلك كل اختلاط مشروعاً، كما يروِّج لذلك دعاة التبعية والتغريب.(6/495)
والذي أود أن أذكره هنا: أنَّ الواجب علينا أن نلتزم بخير الهَدْى، وهو هَدْى محمد صلى الله عليه وسلم، وهَدْى خلفائه الراشدين، وأصحابه المهديين، الذين أُمِرنا أن نتبع سُنَّتهم، وأن نعض عليها بالنواجذ، بعيداً عن نهج الغرب المتحلل، ونهج الشرق المتشدد.
والمتأمل في خير الهَدْى يرى: أن المرأة لم تكن مسجونة ولا معزولة، كما حدث ذلك في عصور تخلف المسلمين.
فقد كانت المرأة تشهد الجماعة والجمعة، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: صلاة العشاء وصلاة الفجر، وكان عليه الصلاة والسلام يحثهن على أن يتخذن مكانهن في الصفوف الأخيرة خلف صفوف الرجال، وكلما كان الصف أقرب إلى المؤخرة كان أفضل، خشية أن تظهر من عورات الرجال شيء، وكان أكثرهم لا يعرفون السراويل، ولم يكن بين الرجال والنساء أي حائل من بناء أو خشب أو نسيج، أو غيره....
وكانوا في أول الأمر يدخل الرجال والنساء من أي باب اتفق لهم، فيحدث نوع من التزاحم عند الدخول والخروج، فقال عليه الصلاة والسلام: "لو تركنا هذا الباب للنساء"9، فخصَّصوه بعد ذلك لهن، وصار يُعرف إلى اليوم باسم "باب النساء".
وكان النساء في عصر النبوة يحضرن الجمعة، ويسمعن الخُطبة، حتى إنَّ إحداهن حفظت سورة "ق" من فِي رسول الله صلى الله عليه وسلم من طول ما سمعتها من فوق منبر الجمعة.
وكان النساء يحضرن كذلك صلاة العيدين، ويشاركن في هذا المهرجان الإسلامي الكبير، الذي يضم الكبار والصغار، والرجال والنساء، في الخلاء مهلِّلين مكبِّرين.
روى مسلم عن أُم عطية قالت: "كنا نؤمر بالخروج في العيدين، والمخبأة والبِكر".
وفي رواية قالت: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُخرجهن في الفِطر والأضحى: العواتق والحُيَّض وذوات الخدور، فأما الحُيَّض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله؛ إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: "لِتُلْبِسْهَا أُختها من جلبابها"10.
وهذه سُنَّة أماتها المسلمون في جُلِّ البلدان أو في كلها، إلا ما قام به مؤخراً شباب الصَحْوة الإسلامية الذين أحيوا بعض ما مات من السُنَن مثل سُنَّة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، وسُنَّة شهود النساء صلاة العيد. وذلك في بعض البلدان الإسلامية التي قويت فيها الصَحْوة وارتفعت رايتها.
وكان النساء يحضرون دروس العلم، مع الرجال عند النبي صلى الله عليه وسلم، ويسألن عن أمر دينهن مما قد يستحي منه الكثيرات اليوم، حتى أثنت عائشة على نساء الأنصار، أنهن لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين، فطالما سألن عن الجنابة والاحتلام والاغتسال والحيض والاستحاضة ونحوها.
ولم يشبع ذلك نهمهن لمزاحمة الرجال واستئثارهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبن أن يجعل لهن يوماً يكون لهنَّ خاصة، لا يغالبهنَّ الرجال ولا يزاحمونهم وقلن في ذلك صراحة: "يا رسول الله؛ قد غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك" فوعدهنَّ يوماً، فلقيهنَّ فيه ووعظهنَّ وأمرهنَّ11.
وتجاوز هذا النشاط النسائي إلى المشاركة في المجهود الحربي في خدمة الجيش والمجاهدين، بما يقدرنَ عليه ويحسنَّ القيام به، من التمريض والإسعاف، ورعاية الجرحى والمصابين، بجوار الخدمات الأُخرى من الطهي والسقي وإعداد ما يحتاج إليه المجاهدون من أشياء مدنية.
عن أُم عطية قالت: "غزوتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، فأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى"12.
وروى مسلم عن أنس: "أن عائشة وأُم سليم، كانتا في يوم أُحُد" مشمِّرتين، تنقلان القِرَب على متونهما (ظهورهما) ثم تفرغانها في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها"13، ووجود عائشة هنا ـ وهي في العقد الثاني من عمرها ـ يرد الذين ادّعوا أنَّ الاشتراك في الغزوات والمعارك كان مقصوراً على العجائز والمتقدمات في السن، فهذا مُسَلَّم. وماذا تغني العجائز في مثل هذه المواقف التي تتطلب القدرة البدنية والنفسية معاً؟
وروى الإمام أحمد: أنَّ ست نسوة من نساء المؤمنين كنَّ مع الجيش الذي حاصر "خيبر": يتناولن السهام، ويسقين السويق، ويداوين الجرحى، ويغزلن الشَّعر، ويعنَّ في سبيل الله، وقد أعطاهنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نصيباً من الغنيمة14.
بل صحّ أن نساء بعض الصحابة شاركن في بعض الغزوات والمعارك الإسلامية بحمل السلاح، عندما أُتيحت لهنَّ الفرصة، ومعروف ما قامت به أُم عمارة نسيبة بنت كعب يوم "أُحُد" حتى قال عنها صلى الله عليه وسلم: "لمقامها خير من مقام فلان وفلان"15.
وكذلك اتخذت أُم سليم خنجراً يوم "حُنَين"، تبقر به بطن مَن يقترب منها.(6/496)
روى مسلم عن أنس ابنها: أنَّ أُم سليم اتخذت يوم "حُنَين" خنجراً، فكان معها، فرآها أبو طلحة (زوجها) فقال: يا رسول الله؛ هذه أُم سليم معها خنجر! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الخنجر"؟ قالت: اتخذته، إن دنا مني أحد المشركين بقرتُ به بطنه! فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك16.
وقد عقد البخاري باباً في "صحيحه" في غزو النساء وقتالهن.
ولم يقف طموح المرأة المسلمة في عهد النبوة والصحابة للمشاركة في الغزو عند المعارك المجاورة والقريبة في الأرض العربية كخبير وحُنَين، بل طمحن إلى ركوب البحار، والإسهام في فتح الأقطار البعيدة لإبلاغها رسالة الإسلام.
ففي صحيح البخاري ومسلم عن أنس: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عند أُم حرام بنت ملحان (خالة أنس) يوماً، ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أُمتي عُرِضوا علىَّ غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكاً على الأَسِرَّة ـ أو مثل الملوك على الأَسِرَّة"، قالت: فقلت: يا رسول الله؛ ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها17.. فركبت أُم حرام البحر في زمن عثمان، مع زوجها عبادة بن الصامت إلى قبرص، فصُرِعت عن دابتها هناك، فتوفيت ودُفِنت هناك، كما ذكر أهل السير والتاريخ.
وفي الحياة الاجتماعية شاركت المرأة داعية إلى الخير، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، كما قال تعالى: (وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْليَاءُ بَعْضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ...) (التوبة/71).
ومن الوقائع المشهورة رد إحدى المسلمات على عمر في المسجد في قضية المهور، ورجوعه إلى رأيها علناً، وقوله: "كل الناس أفقه من عمر"!. وقد ذكرها ابن كثير في تفسير سورة النساء ونسبها إلى أبي يعلى في مسنده، وقال: إسنادها جيد قوي18.
وفي رواية عند عبد الرزاق أن عمر قال: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته19!: أي غلبته.
وقد عيَّن عمر في خلافته الشِفاء بنت عبد الله العدوية محتسبة على السوق. والمتأمل في القرآن الكريم وحديثه عن المرأة في مختلف العصور، وفي حياة الرسل والأنبياء لا يشعر بهذا الستار الحديدي الذي وضعه بعض الناس بين الرجل والمرأة.
فنجد موسى ـ وهو في ريعان شبابه وقوّته ـ يحادث الفتاتين ابنتي الشيخ الكبير، ويسألهما وتجيبانه بلا تأثم ولا حَرَج، ويعاونهما في شهامة ومروءة، وتأتيه إحداهما بعد ذلك مرسِلة من أبيها تدعوه أن يذهب معها إلى والدها، ثم تقترح إحداهما على أبيها بعد ذلك أن يستخدمه عنده؛ لما لمست فيه من قوة وأمانة.
لنقرأ في ذلك ما جاء في سورة القصص: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلتَ إلىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِن أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظَّالمِينَ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَأَبَتِ اسْتَئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مِنَ استَئْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ) (سورة القصص/23-26).
وفي قضية مريم نجد زكريا يدخل عليها المحراب، ويسألها عن الرزق الذي يجده عندها: (كلما دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَريَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنَدهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالتَ هُوَ مِنَ عِنَد اللهِ أَنَّ اللهَ يَرْزُقُ مِنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (سورة آل عمران/37).
وفي قصة ملكة سبأ نراها تجمع قومها تستشيرهم في أمر سليمان:
(قَالَت يَأَيُّهَا المَلَؤُا أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ، قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِليْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ، قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعزَّةَ أَهْلِهَا أَذلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (سورة النمل/32-34).(6/497)
وكذلك تحدَّثت مع سليمان عليه السلام وتحدَّث معها: (فلما جَاءَتْ قِيَل أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ، وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ، قِيَل لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) (سورة النمل/42-44).
ولا يُقال: إنَّ هذا شرع مَن قبلنا فلا يلزمنا؛ فإنَّ القرآن لم يذكره لنا إلا لأن فيه هداية وذكرى وعبرة لأُلى الألباب، ولهذا كان القول الصحيح: أنَّ شرع مَن قبلنا المذكور في القرآن والسُّنَّة هو شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه. وقد قال تعالى لرسوله: (أُولئِكَ الذَّينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَهُمُ اقْتَدِهْ) (سورة الأنعام/90).
إنَّ إمساك المرأة في البيت، وإبقاءها بين جدرانه الأربعة لا تخرج منه اعتبره القرآن ـ في مرحلة من مراحل تدرج التشريع قبل الفاحشة من نساء المسلمين، وفي هذا يقول تعالى في سورة النساء: (وَالَّتي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَربَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوُهنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّهُنَّ المَوْتُ أَو يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) (سورة النساء/15).
وقد جعل الله لهنَّ سبيلاً بعد ذلك حينما شرع الحد، وهو العقوبة المقدَّرة في الشرع حقاً لله تعالى، وهي الجَلْد الذي جاء به القرآن لغير المحصن، والرجم الذي جاءت به السُّنَّة للمحصن.
فكيف يستقيم في منطق القرآن والإسلام أن يُجعل الحبس في البيت صفة ملازمة للمسلمة الملتزمة المحتشمة، كأننا بهذا نعاقبها عقوبة دائمة وهي لم تقترف إثماً؟
والخلاصة: أنَّ اللِّقاء بين الرجال والنساء في ذاته إذن ليس محرَّماً، بل هو جائز أو مطلوب إذا كان القصد منه المشاركة في هدف نبيل، من علم نافع أو عمل صالح، أو مشروع خير، أو جهاد لازم، أو غير ذلك مما يتطلب جهوداً متضافرة من الجنسين، ويتطلب تعاوناً مشتركاً بينهما في التخطيط والتوجيه والتنفيذ.
--------------------------------------
هوامش
1 ملحوظة: يجب توضيح وتقييد هذا المعنى بأن قصد المؤلف أنه لا يجوز إجبار أحد على الدخول في الإسلام، ولكن بالنسبة للذين أسلموا أي المسلمين بالفعل فإنه لا يجوز للمسلم أن يبدل دينه ويرتد عن الإسلام فهو ملتزم به أمام الله والشريعة.
2 رواه ابن ماجه ج 2، برقم (3595) عن عليّ، وهو صحيح بجموع طرقه.
3 رواه عن أبي هريرة: أبو داود (4098)، ونسبه المنذري للنسائي أيضاً، كما رواه أحمد: 2/325، وابن حِبَّان في صحيحه (الإحسان 1904) والحاكم وصححه على شرط مسلم: 4/194، ووافقه الذهبي.
4 رواه عن ابن عباس البخاري في كتاب اللِّباس، كما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، صحيح الجامع الصغير (5100).
5 رواه أحمد عن ابن عمر، وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح (1680)، ورواه النسائي: 5/80، والحاكم وصححه: 1/72 بلفظ: "رَجُلة النساء"، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي: رواه البزار بإسنادين ورجالهما ثقات: 8/147،148.
6 رواه أبو داود عن عائشة، صحيح الجامع الصغير (5096).
7 رواه أبو داود عن أبي موسى (4173)، والترمذي (2786)، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه النسائي ج8 ص153 في كتاب الزينة، ولفظه: "أيما امرأة استعطرت فمرَّت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية".
8 متفق عليه عن ابن عباس، اللؤلؤ والمرجان (850).
9 رواه أبو داود، ج1 برقم (462) عن أبن عمر، وفي رواية أخرى لأبي داود (463) أن قائل ذلك هو عمر،قال وهو أصح.
10 أي تعيرها من ثيابها ما تستغني عنه، والحديث في كتاب "صلاة العيدين" في صحيح مسلم، ج1، حديث رقم (890).
11 رواه البخاري في كتاب "العلم" من صحيحه: 1/34، عن أبي سعيد.
12 رواه مسلم برقم (1812).
13 رواه مسلم برقم (1811).
14 رواه أحمد: 5/271، 6/371، وأبو داود ج3 برقم (2729).
15 الطبقات: 8/415، وسير أعلام النبلاء: 2/278-279.
16 رواه مسلم برقم (1809).
17 انظر الحديث رقم (1912) من صحيح مسلم.
18 تفسير ابن كثير: 1/467، طبعه عيسى الحلبي، وأوردها الهيثمي في المجمع وقال: فيه مجالد بن سعيد، وفيه ضعف، وقد وثق: 4/284.
19 ذكرها ابن كثير أيضاً، المصدر السابق، وانظر: المصنف: 6/180 برقم (10420).
-------------------------------------
المصدر: السياسة الشرعية
=============
) قضية الحريات [الكاتب: عبد الآخر حماد الغنيمي]
هى النقطة الأخيرة في مناقشتنا لحكم لديمقراطية في الإسلام، حيث نرى الديمقراطية الغربية تفتح للناس باب الحريات على مصراعيه حتى لتكاد تكون بلا ضوابط.(6/498)
ولا شك أن الإسلام هو دين الحرية بمعناها الصحيح إذ يضع الضوابط المثلى لممارسة الحريات، الأمر الذي لا يرضى به الديمقراطيون، وأضرب لذلك مثالاً واحداً وهو حرية الاعتقاد ففي ظل الديمقراطية يحق للإنسان طبقا لحرية الاعتقاد أن يغير عقيدته فينسلخ من دينه إلى دين جديد أو إلى لا دين.
أما حرية الاعتقاد في الإسلام فهي تختلف عن ذلك فالنصراني مثلاً يمكنه أن يبقى في دار الإسلام على دينه وهو آمن على نفسه وماله بشرط أن يؤدي ما يجب عليه طبقا للنظام الإسلامي، أما المسلم فليس له أن يغير دينه فيصير نصرانياً مثلا بدعوى حرية الاعتقاد، ومن فعل ذلك فحكمه في الشرع معروف: يستتاب وإلا قتل، ونحن نجد دعاة العلمانية في مصر مثلاً تثور ثائرتهم لمجرد الإشارة لمثل هذه القضية - قضية حد الردة - ويرون فيها نوعاً من الحجر على الحريات حتى اعتبر أحدهم(17) مسألة تغيير الدين حقاً يجب أن يتساوى فيه الجميع واستنكر أن يكون للقبطي الحق في تغيير عقيدته بينما يرفض ذلك الحق بالنسبة للمسلم ويقول: ((وقد سألت مرة العالم الجليل الدكتور فرهود رئيس جامعة الأزهر الأسبق كيف يا سيدنا تطالبون بإعدام من يغير دينه من المسلمين لأي سبب؟ قال لي: لأنه أما وقد اختار الدين الإسلامي فيستحق العقاب إذا تركه. قلت: ومن قال إن 90% من المسلمين قد اختاروا أن يكونوا مسلمين، نحن لم نكن كفاراً حتى أسلمنا لقد ولدنا ووجدنا أنفسنا مسلمين حسب شهادة ميلاد آبائنا وكذلك المسيحيون واليهود، وإذا كنت ترى أن من حقي أن أختار أن أكون مسلماً فلماذا لا تسمح للإنسان أن يختار غير ذلك؟)) (18)
وهذا الباطل الذي يقول به ذلك الكاتب وأمثاله سببه ما أشربوه من فهم مغلوط لعدة قضايا: فَهُم لم يفهموا الدين إلا أنه علاقة بين العبد وبين إلهه يختار لها الفرد أي صورة يشاء، ثم فهموا قضية الحريات على أنها مطلقة - على الأقل في باب الاعتقاد - فبنوا على ذلك أن للإنسان أن يغير اختياره متى شاء ولا يصح أن يحجر عليه أحد في ذلك الاختيار، ناهيك عن فهمهم لقضية المساواة بين الأديان والمعتقدات التي تجعلهم لا يفرقون بين دين هو الحق وبين أديان باطلة لا يرضاها الله عز وجل.
وهذا مثال واحد من أمثلة الخلاف بين الإسلام والديمقراطية في باب الحريات وغيره كثير.
------------
(17) هو الكاتب اليساري عبد الستار الطويلة في كتابه أمراء الإرهاب ص 34.
(18) المصدر السابق ص: 34-35.
==============
سنة كلها تشريع [الكاتب: يحيى هاشم حسن فرغل] موضوع السنة من الموضوعات القديمة الجديدة التي يحوم حولها أعداء الإسلام قديما، وحديثا ؛ يحاولون أن ينفذوا منها إلى هدم الشريعة ثم هدم الإسلام برمته، والمقصود بالسنة هنا أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته
وهي تتضمن الأحكام الشرعية الخمسة من الفرضية مثل صوم رمضان، أو الوجوب مثل صلاة الوتر عند الحنفية، ومن السنية أو الندب أوالاستحباب مثل صوم ست من شعبان، ومن التحريم مثل أكل الربا، ومن الكراهية التحريمية أو التنزيهية مثل أكل الثوم عند صلاة الجمعة، ومن الإباحة مثل البيع والشراء.
منذ زمن طويل أطلت برأسها فتنة الاكتفاء بالقرآن الكريم: قال رجل لعمران بن حصين لا تتحدث معنا إلا بالقرآن فقال له عمران: إنك لأحمق، هل في القرآن بيان عدد ركعات الفرائض أو اجهروا في كذا دون كذا؟ فقال الرجل لا، فأفحم الرجل.
وروى البيهقي أيضا في باب صلاة المسافر من سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سئل عن قصر الصلاة في السفر وقيل له: إنا لنجد في الكتاب العزيز صلاة الخوف ولا نجد صلاة السفر فقال للسائل: يا أخي: إن الله تعالى أرسل إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا، وإنما نفعل ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، قصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم [1].
واليوم فإن من أظهر ما يدل على مدى التمزق والحيرة التي أصابت الساحة الثقافية – بفضل حركة التنوير - هو ما عليه المسلمون اليوم بالنسبة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهم اليوم أربعة أصناف متناحرة:
• صنف يتطرف برفض السنة كلها وهؤلاء خارجون عن الملة بالكلية.
• وصنف يأخذون بها جميعا ولكنه يتطرف فلا يفرق بين ما هو فرض ومندوب، وحرام ومكروه من الأحكام الخمسة.
• وصنف يزعم أن فيها ما هو للتشريع فيأخذ به وما ليس في التشريع فلا يأخذ به.
• وصنف يأخذ بالسنة كلها وأنها كلها تشريع يتفاوت حكمه بين الفرض والمندوب والتحريم والكراهة والإباحة.(6/499)
أما الصنف الأول: الذي يزعم أنه يكتفي بالقرآن ولا يتقيد بالسنة فأمره واضح بين، إذ هو لا يلتزم بالسنة ولا بالقرآن معا، لأنه لوا التزم بالقرآن لالتزم بالسنة نزولا عند قوله تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا }، {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }، { وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى }.
وفي سنن ابي داود بسنده عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)).
هؤلاء أمرهم بين، ينتسبون إلى الإسلام زورا وبهتانا.
يقول الإمام الشعراني: (سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله تعالى يقول: لولا أن السنة بينت لنا ما أجمل في القرآن ما قدر أحد أن يستخرج أحكام المياه والطهارة، ولا عرف كيف يكون الصبح ركعتين والظهر والعصر والعشاء أربعا، ولا كون المغرب ثلاثا، ولا كان أحد يعرف ما يقال في دعاء التوجه والافتتاح، ولا عرف صفة التكبير، ولا أذكار الركوع والسجود، والاعتدالين، ولا ما يقال في جلوس التشهدين ولا كان يعرف كيفية صلاة العيدين والكسوفين، ولا غيرهما من الصلوات كصلاة الجنازة، والاستسقاء، ولا كان يعرف الزكاة ولا أركان الصيام والحج، والبيع والنكاح والجراح والأقضية وسائر أبواب الفقه).
الصنف الثاني: وهو من يذهب إلى الطرف الآخر من القضية في أقصاه، فيلتزم بالسنة التي هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، ولكنه لا يفرق فيها بين الأحكام الشرعية الخمسة التي قدمناها فيخلط بين الفرض والمندوب، فيراه فرضا كله والمكروه والمحرم فيراه محرما كله، ويدخل المباح تارة هنا وتارة هناك.
فهؤلاء - مثلا – يستمعون إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في لعق الأصابع عند الأكل فيأخذون بذلك في جميع الأحوال كأنه فرض، ويستمعون إلى سنته صلى الله عليه وسلم في التوضؤ بحفنة من الماء فيأخذون بذلك في جميع الأحوال كأنه فرض كذلك.
لابد من النظر في ضوء أصول الفقه في تحديد معنى الأمر ومعنى النهي ومعنى الوجوب ومعنى الإباحة إلخ.
وفي ضوء أسباب الواقعة، التي تفسر معناها ولا تحبسه، يقول أستاذنا الدكتور موسى شاهين لاشين في بحثه القيم الذي اعتمدنا عليه في هذه المقال:
نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد أي بحفنة من الماء، وكان يغتسل بأربع حفنات فهذا تشريع ولكنه ليس للوجوب بالذات، وإنما هو يدور بين الوجوب والندب والإباحة بحسب الظروف، والملابسات. ولو عاش صلى الله عليه وسلم على ضفاف نهر مثلا لتوضأ بأكثر من حفنة ماء، ولاغتسل بأكثر من أربع حفنات.
وكان صلى الله عليه وسلم يعد سلاحه لملاقاة الأعداء بالسيف والرمح والنبل، فهذا تشريع ولكنه ليس للوجوب بالذات، ولكنه يدور بين أحكام الشريعة الخمس، بحسب الملابسات، ولو عاش في زماننا لما قصر صلى الله عليه وسلم عن الإعداد بأقصى مظاهر القوة العسكرية الحديثة.
إن بعض مشكلات الإسلام اليوم هي في بعض أهله ممن يفرطون، أو يفرطون، فليس من الإسلام في شيء ما نسمع عنه اليوم من أن بعض الدعاة يذهب إلى أوربا أو أمريكا ليدعو إلى الإسلام فيأكل على الأرض، وبالأصابع، فالحق أن هذا تنفير من الإسلام وليس دعوة إليه ولا فهما له.
إن مشكلة الإسلام مع هؤلاء في أنهم يدخلون جميع أفعاله صلى الله عليه وسلم في باب الوجوب أو الإلزام، بينما هي قد تكون من التشريع بالندب، أو من التشريع بالإباحة، أو غير ذلك من أحكام التشريع.
والصنفان السابقان: من يرفضون السنة جملة وتفصيلا، ومن ياخذون بها دون تفرقة بين الأحكام الشرعية الخمسة - أمرهما هين في كشف خطرهما أو انحرافهما، فالأول الذي ينكر السنة في باب التشريع إجمالا، كافر غير مسلم، والثاني الذي لا يميز فيها بين الفرض والمندوب والمحرم والمكروه والمباح أمره خطير ولكنه أقل خطرا من أولئكم. فهم مسلمون متشددون فيما لا موضع للتشديد فيه، ويمكن كشف خطرهما بشيء من الفقه والتعليم.
وهناك صنف ثالث: برز في العقود الأخيرة يزعم أن منها ما هو للتشريع فيؤخذ به، ومنها ما هو لغير التشريع فلا يؤخذ به، وهذه مقولة بالغة الخطر، وخطرها من نعومتها وشدة التلبيس فيها.
يقول الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين ردا على هؤلاء مبينا أن السنة كلها تشريع: " ولم يخالف في ذلك أحد من علماء المسلمين طوال أربعة عشر قرنا، حتى كان النصف الثاني للقرن الرابع عشر للهجرة، فكان أول من قسم السنة إلى تشريع وغير تشريع فضيلة الشيخ محمود شلتوت في كتابه " الإسلام عقيدة وشريعة ".(6/500)
يذهب الشيخ شلتوت: إلى أن ما ورد من أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته قد يأتي بعضه: على ما سبيله سبيل الحاجة البشرية كالأكل والشرب والمشي والتزاور والمصالحة بين شخصين. وما سبيله التجارب والعادة الشخصية، أو الاجتماعية كالذي ورد في شئون الزراعة والطب وطول اللباس أو قصره. وما سبيله التدبير الإنساني في ظروف خاصة كتوزيع الجيوش على المواقع الحربية. وكل هذه الأنواع ليس شرعا يتعلق به طلب الفعل أو تركه، وإنما هو من الشئون البشرية التي ليس مسلك الرسول فيها صلى الله عليه وسلم " تشريعا ولا مصدر تشريع ".
ويقول الشيخ موسى شاهين لاشين: وعن الشيخ شلتوت أخذ كثير من المعاصرين فيما كتبوه عن السنة وتقسيمها إلى تشريعية وغير تشريعية. والذين ساروا في ركاب الشيخ شلتوت هم حتى اليوم لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة.وهؤلاء بحسن نية في بعض الأحيان يفتحون في الشريعة الإسلامية ثغرة يحسبونها هينة وهي منفذ خطير لأعداء الشريعة الإسلامية.
خصوصا وأن القضية بدأت أولا ؛ بإخراج ما سبيله الحاجة البشرية كالأكل والشرب من التشريع، ثم انتهت إلى إخراج كل ما يتعلق بالمعاملات التي لم ترد في القرآن الكريم، فيذهبون إلى أن المعاملات في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست خاضعة للتشريع، وإنما هي صادرة عن اجتهادات بشرية يجوز لمن يأتي بعده أن يجتهد مثله، وأن يخالفه في أفعاله وتقريراته وأفعاله وبخاصة ما جاء منها في المعاملات التي لم ترد في القرآن الكريم - ولو أدى اجتهاده إلى غير ما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاده - وفقا لعبارة الدكتور عبد المنعم النمر في كتابه " السنة والتشريع ص 46 " ويحصر السنة التشريعية في دائرة ضيقة بقوله: (نسارع فنقرر أن كل ما صدر عن الرسول من شئون الدين والعقيدة والعبادة والحلال والحرام والعقوبات والأخلاق والآداب لا شأن لنا به إلا من ناحية فهمه)، ثم يقول: (لكن هناك أحاديث كثيرة تتصل بمعاملات الناس في الحياة من بيع وشراء ورهن وإجارة وقراض وسلم)، كل ذلك لا يراه من التشريع وإن جاء في السنة، ثم يقرر أن المعاملات تخضع في الإسلام أولا وأخيرا لمبدأ المصلحة. وعلى هذا النحو جاءت كتابات العلمانيين من نحو نور فرحات، ومحمد خلف الله أحمد، وحسين أحمد [2]
وهو لم يكتف بما اكتفى به الشيخ شلتوت من إخراج ما سبيله الحاجة البشرية كالأكل والشرب، وإنما أخرج المعاملات جميعا، ولم يفرق في ذلك بين واجب ومندوب، أو مباح ومحرم، أو مكروه، وحكم على ما يقرب من نصف السنة بأنه ليس من التشريع.
ومن الواضح ما يمثله هذا التوجه من خطر على الشريعة الإسلامية: ينسفها أولا في المعاملات، ويبقيها في العبادات ليجهز بعد ذلك على المعاملات والعبادات جميعا. وهذه هي الغاية التي تنتهي إليها العلمانية في أقصى حالاتها. وهؤلاء يأتي الرد عليهم بعد نبذة سريعة عن الصنف الرابع.
الصنف الرابع: وهم المسلمون منذ عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريب من عهدنا الحاضر، فهؤلاء يؤمنون بأن السنة كلها تشريع: إيمانا بما جاء عن ذلك في القرآن الكريم: { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما }، { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب }، { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا }، { وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى }.
يقول الأستاذ الدكتور عبد الغني عبد الخالق: (كل ما تلفظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم – ما عدا القرآن – أو ظهر منه من ابتداء رسالته إلى نهاية حياته فهو من سنته، سواء ما أثبت حكما عاما لسائر أفراد الأمة، وهذا هو الأصل، أو ما أثبت حكما خاصا به أو ببعض أصحابه، وسواء أكان فعله جبليا أم كان غير جبلي، من قول أو فعل يصدر عنه إلا ويثبت حكما شرعيا، بقطع النظر عن كونه إيجابا أو ندبا أو تحريما أو كراهة أو إباحة).
يقول ابن تيمية رحمه الله: (كل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم – بعد النبوة – أو أقرعليه أو فعله ولم ينسخ فهو تشريع. والتشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب، فإنه يتضمن إباحة الدواء، والانتفاع به فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعا لاستحبابه، والمقصود أن جميع أقواله يستفاد منه شرع).
لقد ذهب جمهور الأصوليين إلى أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدل – على الأقل – على الإذن به، مطلق الإذن الذي يشمل الوجوب والندب والإباحة، ما لم يوجد دليل على تعيين واحد منها. وقال بعضهم: يفيد الوجوب ما لم توجد قرينة مانعة منه. وقال بعضهم يفيد الاستحباب ما لم توجد قرينة مبينة للوجوب. ومن ذلك يتبين الإجماع على كونه تشريعا.(7/1)
إن أظهر ما يستدل به القائلون بأن بعض السنة ليس تشريعا هو ما يذكرونه في باب الأكل والشرب ؛ يقولون: إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكل والشرب هي من باب الجبلة أو العادة والتجربة. فهي ليست تشريعا. وهو كلام منمق يتبين بطلانه بعد الفحص والنظر. فإذا ظهر بطلان دعواهم فيما جاء عن الأكل والشرب ظهر بطلان دعواهم في القضية كلها. وتبين رسوخ ما عليه جماعة المسلمين من كون السنة كلها تشريعا.
لقد حرم الله الميتة ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحر (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فمن الذي أحل السمك الميت – وها نحن في قلب مسألة الأكل والشرب –؟
أليس هذا تشريعا؟
كيف يكون ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب ليس تشريعا مع أن الله سبحانه وتعالى يقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) 157 الأعراف، أليس فعله صلى الله عليه وسلم أو قوله أو تقريره يعطي حكما شرعيا أقله رفع الحرج عن فعله؟ أكله صلى الله عليه وسلم للقثاء بالرطب ألا يفيد هذا إباحة هذا الفعل؟ أو لا يفيد؟ ألا يفيد هذا جواز الجمع بين لونين من الطعام؟ أو لا يفيد؟ وإليكم طائفة مما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب، بعضها واجب وبعضها مندوب:
فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: (كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام سم الله وكل بيمينك، وكل مما يليك) كيف لا يكون هذا تشريعا يدخل في أحد الأحكام الخمسة؟
وفي ذم الشره والتنفير من الجشع في الأكل يقول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء) [أخرجه البخاري]، كيف لا يكون هذا تشريعا يدخل في أحد الأحكام الخمسة؟
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " الكرع " وهو الشرب منكفئا على الإناء وتناول الشراب بالفم كما تشرب البهائم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مررنا على بركة فجعلنا نكرع فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا بها) [أخرجه ابن ماجة]، أليس هذا تشريعا يدخل في أحد الأحكام الخمسة؟
ونهى صلى الله عليه وسلم عن اختنات الأسقية – أي الشرب من الإناء الكبير – منعا من توارد الأفواه على المكان الواحد في الإناء، فعن عائشة رضي الله عنها (نهى صلى الله عليه وسلم أن يشرب من في السقاء – أي فم السقاء – لأن ذلك ينتنه) [أخرجه الحاكم بسند قوي]، أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
ونهى صلى الله عليه وسلم عن التنفس في الإناء عند الشرب فقال: (إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الماء) [أخرجه البخاري]. أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
ونهى صلى الله عليه وسلم عن النفخ في الشراب عند الشرب فقال رجل: القذاة أراها في الإناء؟ قال: (اهرقها). قال: فإني لا أروى من نفس واحد؟ قال: (فأين القدح إذن عن فيك) [أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح]. أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب في آنية الذهب والفضة. [أخرجه البخاري] أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
وأمر صلى الله عليه وسلم بتغطية أواني الطعام والشراب فقال: (أطفئوا المصابيح إذا رقدتم وغلقوا الأبواب، وأوكوا الأسقية، وخمروا الأطعمة والشراب) أي غطوها [أخرجه البخاري]، أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
ونهى صلى الله عليه وسلم عن الأكل من وسط الإناء فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافته، ولا تأكلوا من وسطه " [أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح]. أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
ورغب صلى الله عليه وسلم في المواساة بالطعام والمشاركة فيه والاجتماع عليه فقال: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية) [أخرجه مسلم]، أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
وحفاظا منه صلى الله عليه وسلم على أحاسيس الآخرين نجده صلى الله عليه وسلم: ما عاب طعاما قط، كان إذا اشتهى شيئا أكله وإن كرهه تركه، أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟ وقد اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهرا – في المسجد – لا يدخل عليهن بيوتهن – [أخرجه البخاري] أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
ولم يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة له ولا خادما قط [أخرجه أحمد]، أليس هذا تشريعا بأحد الحكام الخمسة؟
وكان صلى الله عليه وسلم يتوضأ بحفنة من الماء وغيره يتوضأ بعشر حفنات [أخرجه البخاري] أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وكان صلى الله عليه وسلم يصلي في الليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة [أخرجه البخاري]، أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟(7/2)
وكان صلى الله عليه وسلم يصوم في السفر وبعض أصحابه يفطر، وكان يفطر وبعض أصحابه يصوم، كما أخرجه البخاري، أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتلحي في العمة – أي بتطويقها تحت الحنك – كما ذكره ابن قتيبة، أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وقد يحزن صلى الله عليه وسلم فيأتي في حزنه بما لا يعتبر واجبا ولكنه يعتبر تشريعا بالإباحة كالبكاء ودمع العينين.
وقد يضحك فيأتي في ضحكه بما يعتبر تشريعا بالتبسم صلى الله عليه وسلم، أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وقد يعبس صلى الله عليه وسلم أليس هذا تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وقد يغضب صلى الله عليه وسلم فيأتي في غضبه بما يعتبر تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وقد ينسى صلى الله عليه وسلم فيأتي بعد نسيانه بما يعتبر تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وإن ما يجري في الأكل والشرب يجري مثله في الأفعال الجبلية أو العادية الأخرى له صلى الله عليه وسلم كاللباس فلبسه صلى الله عليه وسلم للإزار، والرداء، والجبة الشامية، والقميص، والبرنس، والسراويل والعمامة، وتقنع، وعصب رأسه بخرقة فوق العمامة، ولبس على رأسه المغفر، والعمامة السوداء، والبردة النجرانية، والحبرة، والبردة اليمانية والشملة إلخ... أفلا يعتبر ذلك تشريعا بأحد الأحكام الخمسة؟
وكان الصحابة رضي الله عنهم يؤمنون بذلك - أي بأن أفعاله تشريع -: لبس نعله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فلبسوا نعالهم، فلما خلع نعله – لسبب لا يعلمونه – خلعوا نعالهم.
ولما رأوه صلى الله عليه وسلم يمتنع عن أكل الثوم امتنعوا حتى أباح لهم.
ولما رأوه صلى الله عليه وسلم يمتنع عن أكل الضب – لسبب لا يعلمونه أيضا – أوشكوا أن يمتنعوا حتى أباح لهم.
وكانوا في الأفعال الجبلية يقضون حاجاتهم جماعات يرى بعضهم بعضا ويكلم بعضهم بعضا، فعلمهم التواري والتستر وعدم الكلام، وكان بعضهم يبول قائما فعلمهم الجلوس. [أخرجه النسائي وابن ماجة].
وإذا كان بعض الصحابة لم يصبغوا شيبتهم – مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا إلى ذلك – مخالفة لليهود والنصارى – فليس معنى هذا أن سنته صلى الله عليه وسلم في ذلك ليست تشريعا بالمعنى العام، ولكن معناه أنه ليس تشريعا بالوجوب، ويظل بعد ذلك داخلا في التشريع بالندب أو التشريع بالإباحة
أليس إذا اختلف أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في فعل من الأفعال أنه محظور أو مباح ثم نقل الناقل في موضوع اختلافهم فعلا للنبي صلى الله عليه وسلم، ألا يدل ذلك على حسم الخلاف؟
وكانوا لا يؤاكلون الحائض ولا يأكلون مما عملت يداها ولا يخالطونها ولا يلامسونها فكان هو صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كله – كما أخرجه مسلم – تشريعا بالإباحة؟
أليست الإباحة من أقسام الحكم الشرعي:
طبقا لتعريف الحكم الشرعي كما عرفه الأصوليون من أهل السنة بأنه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا فإن الإباحة حكم شرعي، وهو على كل حال شيء والحرية شيء آخر، ومن الخطأ الاستدلال به على قيمة الحرية في الإسلام كما وجدنا في مناقشة هذا الموضوع في حلقة الشريعة والحياة بقناة الجزيرة [في 11102003].
المباح - كما عرفه الآمدي -: ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك، فهو إذن تشريع.
وهو - كما عرفه الجويني -: ما خير الشارع فيه بين الفعل والترك من غير اقتضاء ولا زجر ولا حكم عقلي قبل ورود الشرع.
فالإباحة حكم شرعي لم يخالف في ذلك إلا بعض المعتزلة.
والمراد بالاقتضاء الطلب سواء كان طلبا بالإيجاب، أو بالندب، أو بالتحريم أو بالكراهة.
والمراد بالتخيير ما كان تخييرا بين فعل الشيء أو تركه دون ترجيح لأحد الجانبين على الآخر، والذي يترتب على هذا هو الإباحة، فيصير المكلف مخيرا بين الفعل والترك ويسمى الفعل مباحا.
وقد أطلق بعض الأصوليين اسم الحكم التكليفي على الحكم التخييري – كما هو على الحكم الاقتضائي – ويرجع ذلك فيما يرى الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور إلى عدة اعتبارات من بينها: أن المكلف ملزم باعتقاد إباحته، ولأنه يرد بأسلوب الأمر أحيانا كما في نحو قوله تعالى { كلوا واشربوا }، { إذا حللتم فاصطادوا }، وربما يرجع الأمر في هذا إلى ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور موسى شاهين لا شين من أن بعض أحكام الإباحة واجبة التناول في أصلها كالأكل والشرب لا يجوز الامتناع عنه بإطلاق، ويرى الكعبي من الأصوليين أن المباح مطلوب، بل واجب، بناء على أنه به يحصل ترك الحرام، وما يحصل به ترك الحرام فهو واجب.(7/3)
ومن المعتزلة من ينفي أن الإباحة من الأحكام الشرعية - كما نقل عنهم الغزالي في المستصفى - إذ معنى المباح رفع الحرج عن الفعل والترك وذلك ثابت بالعقل قبل السمع، وقد ناقشهم الغزالي بما يثبت كون الإباحة داخلة في أحكام الشرع باعتبار أو آخر. وموقفنا في هذا المقال يركن إلى عدم الدخول في هذا الخلاف، لأن كلامنا في أن السنة كلها تشريع يتجه إلى ما جاء بالسنة لا إلى ما لم يأت بها، وهذا الأخير ما نترك التوسع فيه للأصوليين.
ومن هنا فإنه كما يرى الأستاذ الدكتور موسى شاهين لا شين في بحثه القيم في صميم هذا الموضوع [3]: لا خلاف لنا هنا مع المعتزلة فيما جاء من الإباحة على الأصل المعقول قبل مجيء الشرع، وكلامنا فيما جاء فيه نص أو سنة، فهو مما اجتمع عليه الدليلان العقلي والنقلي معا.
إن الإباحة تعني تكليفا وتشريعا لا بأحد المباحات دون غيره، ولكنه تكليف بالتحرك في دائرته، يقول الإمام الشاطبي: (المباح وإن كان ظاهره الدخول تحت اختيار المكلف لكنه إنما دخل بإدخال الشارع له تحت اختياره)، أي إنه إنما كان مباحا بحكم الشارع لا بحكم المكلف.
وأليس المباح عندما يتناوله المسلم كما تناوله الرسول صلى الله عليه وسلم بنية الاقتداء به ومحبته ألا يعتبر عندئذ داخلا في حكم التشريع بالندب والاستحباب؟
وأليس المباح الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يظن البعض كالاكتحال وصبغ الشعر وتضفيره أفاد تشريعا بالإباحة لولاه لاجتهد مجتهدون بالتحريم أو الكراهة؟
وأليس تناول المباح موجبا للأجر إذا تناوله المسلم باعتباره مما أباحه الشارع، أو باعتباره مساعدا على البعد عن الحرام؟ إذن فهو تشريع، وهذا مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم بسنده عن أبي ذر أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور. يصلون كما نصلي. ويصومون كما نصوم. ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: ((أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة. وكل تكبيرة صدقة. وكل تحميدة صدقة. وكل تهليلة صدقة. وأمر بالمعروف صدقة. ونهي عن منكر صدقة. وفي بضع أحدكم صدقة)) قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)).
والمباح نفسه ألا يعني التكليف بوجه من الوجوه ؛
فالأكل والشرب واجب في أصله وجملته، يحرم الامتناع عنه مدة تعرض النفس للهلاك، والاختيار إنما هو في المأكول والبدائل والملابسات فيه.
واللباس واجب في أصله يحرم التجرد منه نهائيا، والاختيار إنما هو في بدائل الملبوس وملابساته { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون }.
أما إذا كان المقصود بأن بعض أفعاله صلى الله عليه وسلم ليست تشريعا يعني أنها غير ملزمة أي غير واجبة فهذا صحيح بشروطه، ولا خلاف عليه إجمالا، لكنه لا يعني أنه لا يفيد حكما شرعيا على الإطلاق سواء بالوجوب أو بالندب أو بالكراهة إلخ، فهذا باب خطير من أبواب اختراق الشريعة الإسلامية بالاجتهاد المغلوط.
وكما يقول أستاذنا الدكتور موسى شاهين لاشين: (إن باب الشر المغلق إذا كسر غلقه لم يؤمن انفتاحه على مصراعيه، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وسلب التشريع عن عشرة من أفعاله صلى الله عليه وسلم يتيح الفرصة لآخرين: تسلبها عن عشرين، ثم عن مائة، ثم عن المعاملات كلها، ثم عن الشريعة كلها) جزاه الله خيرا.
________________________________________
[1] الميزان للشعراني ج1 ص 49.
[2] أنظر بحث الأستاذ الدكتور موسى شاهين لاشين السابق ص 33.
[3] بحث بعنوان " السنة كلها تشريع " بمجلة كلية الشريعة بجامعة قطر العدد العاشر.
-------------------------
169- ما موقف الإسلام من الديمقراطية وحقوق الإنسان ؟
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف
الرد على الشبهة:
1 ـ يُعد الإسلام أول من نادى بحقوق الإنسان وشدد على ضرورة حمايتها. وكل دارس للشريعة الإسلامية يعلم أن لها مقاصد تتمثل فى حماية حياة الإنسان ودينه وعقله وماله وأسرته. والتاريخ الإسلامى سجل للخليفة الثانى عمر بن الخطاب مواجهته الحاسمة لانتهاك حقوق الإنسان وقوله فى ذلك: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا " ؟.(7/4)
2 ـ تنبنى حقوق الإنسان فى الإسلام على مبدأين أساسيين هما: مبدأ المساواة بين كل بنى الإنسان ، ومبدأ الحرية لكل البشر. ويؤسس الإسلام مبدأ المساواة على قاعدتين راسختين هما: وحدة الأصل البشرى ، وشمول الكرامة الإنسانية لكل البشر. أما وحدة الأصل البشرى فإن الإسلام يعبر عنها بأن الله قد خلق الناس جميعًا من نفس واحدة. فالجميع إخوة فى أسرة إنسانية كبيرة لا مجال فيها لامتيازات طبقية. والاختلافات بين البشر لا تمس جوهر الإنسان الذى هو واحد لدى كل البشر. ومن هنا فهذه الاختلافات ينبغى ـ كما يشير القرآن الكريم ـ أن تكون دافعًا إلى التعارف والتآلف والتعاون بين الناس وليس منطلقًا للنزاع والشقاق: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا * إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (1).
أما القاعدة الأخرى للمساواة فهى شمول الكرامة الإنسانية لكل البشر. وقد نص القرآن على ذلك فى قوله: (ولقد كرمنا بنى آدم ) (2). فالإنسان بهذا التكريم جعله الله خليفة فى الأرض ، وأسجد له ملائكته ، وجعله سيدًا فى هذا الكون ، وسخر له ما فى السموات وما فى الأرض. فالإنسان بذلك له مكانته ومكانه المفضل بين الخلق جميعًا. وقد منح الله هذه الكرامة لكل الناس بلا استثناء لتكون سياجًا من الحصانة والحماية لكل فرد من أفراد الإنسان ، لا فرق بين غنى وفقير وحاكم ومحكوم. فالجميع أمام الله وأمام القانون وفى الحقوق العامة سواء.
أما المبدأ الثانى الذى ترتكز عليه حقوق الإنسان فهو مبدأ الحرية. فقد جعل الله الإنسان كائنًا مكلفًا ومسئولاً عن عمارة الأرض وبناء الحضارة الإنسانية. وليست هناك مسئولية دون حرية ، حتى فى قضية الإيمان والكفر التى جعلها الله مرتبطة بمشيئة الإنسان (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (3).
وهكذا تشمل الحرية كل الحريات الإنسانية دينية كانت أم سياسية أم فكرية أم مدنية.
3 ـ الحكم فى تعاليم الإسلام لابد أن يقوم على أساس من العدل والشورى. وقد أمر الله الناس فى القرآن بالعدل وألزمهم بتطبيقه (إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (4). (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) (5). والآيات فى ذلك كثيرة. أما الشورى فهى مبدأ أساسى ملزم. وكان النبى (يستشير أصحابه ويأخذ برأى الأغلبية وإن كان مخالفًا لرأيه. وأظهر مثل على ذلك خروج المسلمين إلى غزوة أُحد. فقد كان الرسول يرى عدم الخروج ، ولكن الأكثرية كانت ترى الخروج. فنزل على رأيهم وخرج ، وكانت الهزيمة للمسلمين. ومع ذلك شدد القرآن على ضرورة الشورى فقال مخاطبًا النبى: (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر ) (6). ولا يلتفت فى هذا الصدد إلى رأى قلة من الفقهاء الذين يزعمون أن الشورى غير ملزمة. فهذا الزعم مخالف للنصوص الدينية الصريحة.
وقد ترك الإسلام للمسلمين حرية اختيار الشكل الذى تكون عليه الشورى طبقًا للمصلحة العامة. فإذا كانت المصلحة تقتضى أن تكون الشورى بالشكل المعروف الآن فى الدول الحديثة فالإسلام لا يعترض على ذلك. وكل ما فى الأمر هو التطبيق السليم مع المرونة طبقًا لظروف كل عصر وما يستجد من تطورات محلية أو دولية.
ومن ذلك يتضح مدى حرص الإسلام على حقوق الإنسان وصيانتها ، وحرصه على التطبيق السليم لمبدأ الشورى أو الديمقراطية بالمفهوم الحديث.
4 ـ الإسلام أتاح الفرصة لتعددية الآراء ، وأباح الاجتهاد حتى فى القضايا الدينية طالما توافرت فى المجتهد شروط الاجتهاد. وجعل للمجتهد الذى يجتهد ويخطئ أجرًا وللذى يجتهد ويصيب أجران. والدارس لمذاهب الفقه الإسلامى المعروفة يجد بينها خلافًا فى وجهات النظر فى العديد من القضايا. ولم يقل أحد:
إن ذلك غير مسموح به. ومن هنا نجد أن الإسلام يتيح الفرصة أمام الرأى الآخر ليعبر عن وجهة نظره دون حرج مادام الجميع يهدفون إلى ما فيه خير المجتمع والحفاظ على أمنه واستقراره.
(1) الحجرات: 13.
(2) الإسراء: 70.
(3) الكهف: 29.
(4) النحل: 90.
(5) النساء: 58.
(6) آل عمران: 159.
-----------------
حقوق الإنسان التي كفلها له الإسلام
ملفات متنوعة
أضيفت بتاريخ : 17 - 06 - 2003 نقلا عن : خاص بإذاعة طريق الإسلام نسخة للطباعة القراء : 8529
إن شريعة الإسلام مبنية بناءً متيناً حكيماً لأنها من العزيز الحكيم الحميد فما من مصلحة في الدنيا والآخرة إلا وأرشدت إليه ودلت عليه ، ولذا اعتنت الشريعة بحفظ الضرورات الخمس: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، فحياة البشر لا تستقيم وأمورهم لا تنتظم إلا بحفظ هذه الضرورات ، أليست هي من حقوق الإنسان التي كفلها له الإسلام.
« فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله وكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه » كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهذا موقف يبين قيمة الإنسان في الإسلام وأنه ليس بهيمة إنه إنسان سميع بصير جعل الله له حقاً ورأياً وكلمة:(7/5)
( أتت ثياب من اليمن فوزعها أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه على الناس لكل مسلم ثوب وبقي ثوب لأمير المؤمنين فلبسه فوصل الثوب إلى ركبتيه فقال لابنه عبد الله: أعطني ثوبك الذي هو حصتك فأعطاه إياه فوصل عمر ثوبه بثوب ابنه عبد الله ولبسهما وصعد يخطب في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس اسمعوا لما سوف أحدثكم عنه...فيصرخ سلمان الفارسي: والله لا نسمع ولا نعي – رجل يقاطع الخليفة أمير المؤمنين رجل فارسي ليس بقرشي ولا هاشمي ولا عربي ولا هو من قرابة الخليفة–
فيقول عمر: ولم؟
فيرد سلمان: لأنك تلبس ثوبين وتلبسنا ثوباً واحداً ، أين العدالة؟
فقال عمر: يا عبد الله: قم فأجب.
فقام عبد الله والناس سكوت فقال: إن أبي رجل طويل لايكفيه ثوب فأعطيته ثوبي ، فوصله بثوبه ولبسهما.
فهنا قال سلمان: يا أمير المؤمنين الآن قل نسمع وأمر تطع ).
نعم إنها حقوق الإنسان إن من حقك أن تعيش محترماً في كلمتك وفي رأيك وفي بيتك وفي مالك لا تعيش خوفاً ولا بطشاً ولا إرهاباً ولا تخويفاً وهذا ما كفله الإسلام لجميع المسلمين على حد سواء لا فرق بين أبيض وأسود ولا غني وفقير ولا كبير وصغير ، الكل سواء في ميزان الإسلام.
فالله تعالى لا يضيع حق كل ذي حق وقد بعث رسله فبينوا الحقوق والواجبات وهاهو نبينا صلى الله عليه وسلم يقف في حجة الوداع ليذكر الناس بحقوقهم وواجباتهم فيقول: « أيها الناس إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم » ، وهي وصية سيكررها صلى الله عليه وسلم في آخر خطبته تأكيداً لها وإبرازاً لخطورة الاعتداء على الأموال والدماء فيوم عرفة هو يوم الإعلان عن حقوق الإنسان فيه أعلن أبو القاسم صلى الله عليه وسلم حق الإنسان في الحياة وفي الملكية وفصَّل حقوق النساء وأنها إنسانة لها شأنها في المجتمع فهي تمثل نصف الأمة وتلد النصف الآخر إذاً هي أمة كاملة كفل لها الإسلام حقوقها فلها حق العشرة الحسنة وحق التعليم وحق اختيار الزوج .... وغيرها من الحقوق.
إن الإسلام كفل للإنسان كل حقوقه فانظر لحرمة الكعبة فإن لها حرمة عظيمة ولكن حرمة المؤمن عند الله أشد حرمة من الكعبة.
===============
حقوق الإنسان في الإسلام من التأصل إلى التقنين
الأستاذ محمّد دكير[1]
انتشار الوعي الحقوقي في العالم
تعد قضية حقوق الإنسان من أهم القضايا التي احتلت الصدارة والاهتمام العالمي والمحلي. وذلك مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث ظهرت الحاجة للسلم العالمي، وضرورة خلق توازن دولي، إضافة إلى سعي عدد من الشعوب لتحقيق استقلالها، وشروعها في بناء الدولة الوطنية، هذه الدولة التي واجهتها عدة مشاكل وعقبات مهمة، كان على رأسها الاختيارات السياسية والاقتصادية والايديولوجية التي تبين أن لها علاقة مباشرة بموضوع حقوق الإنسان.
هذه الاختيارات كان لها وقع مزدوج داخل العالم الإسلامي، فهي إلى جانب إسهامها في إحداث تغييرات جذرية في جميع البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التقليدية، أحدثت تطوراً ملموساً في مجال الحقوق الإنسانية، إلاّ أنها، في المقابل، فجرت مجموعة من الإشكاليات التي عولجت، وتمت مناقشتها بشكل واسع تحت عناوين مختلفة مثل: الأصالة والمعاصرة، الخصوصية والعالمية، الهوية والغزو الثقافي، وغيرها من العناوين التي تدل على فداحة التحديات التي تعرض لها العالم الإسلامي، بعدما فقد السيطرة على حدوده السياسية والثقافية بالخصوص.
لقد وضع الإسلام في قفص الاتهام، مباشرة بعد الهزائم الحضارية التي توالت على العالم الإسلامي، واعتبر المسؤول الأول عن تخلف المسلمين. وطالبت فئات داخل العالم الإسلامي، منبهرة بالحضارة الغربية، بإبعاد الإسلام عن جميع مناحي الحياة، لأنه يشكل، من منظورها، عائقاً أمام التطور المطلوب. وقد وجدت هذه المطالبات من يدعمها على المستوى الفكري والأيديولوجي؛ إذ نجد أن مجموعة كبيرة من الكتابات التي أنجزت داخل مراكز البحث في الجامعات الغربية وخارجها، انصبت في إثارة الشبهات وتفجير القضايا الفكرية الحساسة، للتدليل على أن الإسلام يعد من أهم الأسباب في تخلف الأمة الإسلامية. وأن عدداً من تشريعاته ونظمه القانونية التقليدية المتوارثة، تسهم بشكل واضح في تكريس هذا التخلف عن ركب الحضارة.
كانت ردود الفعل مختلفة ومتعددة، بعد تحقيق التحرر السياسي وانطلاق عملية تجديد شاملة لجميع البنى، مواكبة في أحد جوانبها المهمة، عملية الدفاع عن الإسلام ونظمه التشريعية في مجالات الاقتصاد والسياسية والاجتماع، وتبرئته من الخلل الذي أصاب العقل المسلم الذي توقف عن الفعل الحضاري.(7/6)
ومع التطور الذي عرفه مجال حقوق الإنسان، على المستوى العالمي، خلال العقود الخمسة الماضية، أضيف إلى التحديات السابقة تحد جديد، جعل الفكر الإسلامي الذي انشغل طويلاً بالدفاع عن النظم الإسلامية، يتوجه بسرعة نحو الإسهام بمعالجة قضايا حقوق الإنسان، لإبراز إسهام الإسلام في هذا المجال كذلك. وصولاً إلى تأكيد تفوق التشريع الحقوقي الإسلامي، وموافقة هذا التشريع ورؤاه الفكرية لحقوق الإنسان الشاملة.
لذلك فقد عرفت السنوات العشرون الأخيرة حركة نشطة في مجال التأليف الإسلامي في محاولة لتأصيل الحقوق الإنسانية. والكشف عن إسهام الإسلام في هذا المجال الذي حظي باهتمام كبير في الآونة الأخيرة.
وجاءت سرعة الاستجابة، من طرف الفكر الإسلامي، رد فعل مباشراً للتحدي الذي طرحته المواثيق والإعلانات العالمية، من جهة، وتصاعد وتيرة الاهتمام بحقوق الإنسان في العالم من جهة أخرى.
أهم التطورات العالمية في مجال حقوق الإنسان
الاهتمام بمجال حقوق الإنسان ليس وليد الآونة التي تلت الحرب العالمية الثانية، كما لا يمكن أن نرجعه إلى " حقبة زمنية معينة أو مترتبة عن أيديولوجية واحدة، ومحددة، وإنما هي (الحقوق) نتاج تراكمات تاريخية متتالية ومتعاقبة[2]، و " ما خلفته العقائد الدينية من مبادئ تُبجَّل الإنسان وتعلي من قيمته وتنبذ العسف والظلم "[3].
إلاّ أن الاهتمام الغربي المعاصر، بهذا المجال، على مستوى التنظير والممارسة، وصولاً إلى تقنينه في مواثيق وإعلانات عالمية، جعل هذا الاهتمام يأخذ بعداً عالمياً لم يسبق له مثيل من قبل، وكان من نتائجه المهمة، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عن منظمة الأمم المتحدة سنة 1948م.
إن التطور الذي عرفه مجال الحقوق الإنسانية، على المستوى النظري بالخصوص، يرجع بالأساس إلى التطور السياسي الذي عرفته أوروبا، ومحاولة عدد من المفكرين والفلاسفة، الوقوف في وجه الاستبداد السياسي للدولة والكنيسة، من دون إغفال الموروث اليوناني والروماني الذي شكل الخلفية الفكرية لهؤلاء المفكرين، وهم يضعون المباحث السياسية ويطورونها. لقد شهدت أوروبا آنذاك صراعات دامية وطويلة من أجل: " إسقاط بعض المفاهيم السياسية التي تؤسس للاستبداد السياسي والديني، وتنكر على الإنسان الفرد كيانه وحقوقه "[4]. كفكرة الحق الإلهي التي كانت الكنيسة تروج لها، أو فكرة العناية الإلهية التي قامت عليها الشرعية السياسية للملوك والأباطرة.
من هنا بدأ الفكر الأوروبي، بعد صراع سياسي واجتماعي طويل ومضن، يصل إلى بعض النتائج، وكان من أهمها فصل الدين عن السياسة، ومحاولة وجود بدائل وأفكار تؤسس لعلاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، على أساس ديني أو غيبي، ولكن على أسس واضحة وموضوعية، وذلك ليس لتحجيم الاستبداد السياسي فحسب، ولكن لتحرير الإنسان من قوة الدولة وسيطرتها المجحفة والمنتهكة لحقوقه الذاتية والواقعية. ويمكن الحديث هنا عن ثلاث نظريات طورت المجال السياسي الغربي ودفعت به إلى الأمام، ما كان له التأثير الكبير، ليس على مجال حقوق الإنسان بشكل عام فحسب. ولكن على الواقع السياسي الغربي المعاصر الذي شكلت هذه النظريات خلفيته الفلسفية والفكرية.
النظرية الأولى: فكرة القانون الطبيعي التي عرفها اليونان، وكانت تعني عندهم " وجود قانون ثابت لا يتغير مستمد من الطبيعة، ويتمثل بكشف العقل عن روح المساواة والعدل الكامنة في النفس "[5]. ثم انتقلت الفكرة إلى الرومان، لكنها ستعرف تطوراً على مستوى المضمون؛ وذلك عبر إضفاء طابع اللائكية عليها، مع فقهاء القرن السابع عشر الميلادي.
النظرية الثانية: العقد الاجتماعي، وهي كما صاغها لوك (ت 1704م) وروسو (ت 1770م)، تقوم على مناهضة الحكم المطلق، في محاولة لترسيخ أسس الحكم الديمقراطي، وذلك باعتبارهما العقد الاجتماعي عقداً تبادلياً، يرتب حقوقاً وواجبات إزاء المحكومين والحاكمين[6]. وقد أسهمت هذه النظرية في تطور المذهب الفردي، بإقرار وجود حريات وحقوق طبيعية سابقة على المجتمع المنظم، يجب على السلطة عدم الاعتداء عليها. كما أسهمت في وضع الضمانات الدستورية والسياسية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وعموماً فقد جاءت الثورة الفرنسية معتمدة على مبادئ المذهب الفردي الحر. فأصدرت وثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789م، متضمنة النص على الحرية والمساواة والملكية وحق الأمن وحق مقاومة الظلم[7].
النظرية الثالثة: جاء منتسكيو، صاحب كتاب " روح القوانين "، ليعلن أن تحقيق العدل، داخل أي نظام سياسي، رهين بفصل السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
ومع هذه التجارب، وما واكبها من بحوث ودراسات فكرية، اهتمت بميدان الحريات العامة وحقوق الإنسان، تبلورت الرؤية الخاصة لدى الغرب (الرأسمالي) في مجال حقوق الإنسان.(7/7)
استفاد المذهب الليبرالي (الرأسمالي) من الانتقادات التي وجهها له المذهب الاشتراكي الذي بدأ يتبلور تنظيراً وممارسة، ما دفع به نحو التطور والتوسع ليشمل ميادين جديدة، ظهرت أهميتها مع التطور الصناعي، كالحقوق الاقتصادية والاجتماعية المتعددة للطبقات العاملة، ما أضاف أبعاداً جديدة لمفاهيم حقوق الإنسان، وأعاد النظر في بعض الحقوق من حيث الأولوية والأهمية. وأدخل حقوقاً جديدة لم تكن معتبرة من قبل وبالتالي فالتطور الفكري والسياسي الذي عرفته أوروبا، بشطريها الرأسمالي والاشتراكي، إضافة إلى التجربة السياسية الأمريكية، قد نجم عنه تراكم هائل على مستوى التجربة والتنظير في مجال حقوق الإنسان. دفع به ـ أي هذا التراكم ـ ليفرض نفسه على المستوى العالمي، لتصبح المطالبة بحقوق الإنسان والدعوة إلى احترامها دعوة عالمية، تتبناها المؤسسات الدولية والوطنية وتسعى لاحترامها وفرضها[8].
أمامَ هذا التراكم، نجد أن مجال حقوق الإنسان قد عرف تطوراً لا مثيل له من قبل، وأن الوعي أصبح ذا بعد عالمي، يؤثر في جميع المشاريع والتشريعات والاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تقوم بها الدول في العالم ككل. وهذا مما وسع مجال التحدي أمام الفكر الإسلامي، الذي وجد نفسه مضطراً للدخول في معالجات وسجالات متعددة المناحي والأوجه، سنطلع على بعض ملامحها بعد قليل.
أما في العالم الإسلامي، وعلاوة على أصالة الحقوق الإنسانية في الإسلام، فهذه الحقوق محل إجماع عدد لا بأس به من المفكرين المسلمين والعرب، كما أن الدعوة للاهتمام بالحقوق الإنسانية كانت قد واكبت عمليات التحرر السياسي، حيث كان شعار الدفاع عن الحقوق الإنسانية، من أهم الشعارات التي رفعتها الحركات التحررية في وجه الاستعمار. وبعيد الاستقلال، عرفت هذه المطالب نوعاً من التوسع، وفجرت مشاكل وقضايا جديدة. يقول المحامي حسين ضناوى: " أصبحت قضية حقوق الإنسان داخلية وطنية تهدف لضمان عدم استبداد الحكام، وقيام أنظمة ديمقراطية ذات شرعية حقيقية "[9] إلاّ أن الاهتمام بحقوق الإنسان في العالم الإسلامي، سواء على المستوى التنظيري أم على مستوى الممارسة، لم تتضح معالمه إلاّ خلال العقدين الأخيرين، وذلك مع انتشار موجه التأليف والتأصيل وتوسعها في هذا الميدان من جهة، وظهور منظمات وهيئات محلية تختص بالدفاع عن حقوق الإنسان من جهة أخرى. إضافة إلى تطور التشريعات القانونية المعمول بها. وحجم الضغوط الدولية التي كان من آثارها مصادقة عدد كبير من الدول الإسلامية على بعض المواثيق الحقوقية الدولية، وإدخال بنودها ضمن التشريعات والقوانين المحلية المعتبرة عند التطبيق[10].
لكن ما يلاحظ، وخصوصاً بالنسبة للعالم العربي، أن الاهتمام بهذا الميدان، وما أنتج، من مواثيق محلية، ومنظمات حقوقية[11]، جاء من طرف بعض الشخصيات العلمية والأكاديمية، من حقوقيين ومفكرين. ولم يكن للدولة أو الأجهزة الرسمية أي نشاط فعال في هذا المجال، باستثناء الاهتمام المتواضع الذي أبدته جامعة الدول العربية، والذي أثمر إنشاء اللجنة الدائمة لحقوق الإنسان.
لكن، ومهما قيل عن تردي الوضع الحقوقي في العالمين العربي والإسلامي، فإن تطوراً إيجابياً يمكن تلمسه في صدور عدة بيانات حقوقية عربية وإسلامية، ومطالبة أصحابها بإدخالها ضمن التشريعات المحلية والنظم القانونية المعتبرة، وانتشار عدد كبير من المنظمات الحقوقية داخل العالم الإسلامي، وقد أخذت على عاتقها تطوير مجال الحقوق الإنسانية، بنشر الوعي الحقوقي، إلى جانب الكشف والتنديد بالخروقات التي تقع من طرف السلطات الحاكمة، أو غيرها من الجهات التي تملك وسائل القوة والقهر.
هذه التطورات، على المستويين العالمي والمحلي التي عرضنا لها باقتضاب، شكلت الخلفية الموضوعية، لانطلاق عملية التأصيل الإسلامي للحقوق الإنسانية، وتأثرت بإشكالاته التي يفجرها بين الحين والآخر.
ملاحظة لا يفوتنا ذكرها هنا، وتتعلق بالصحوة الإسلامية الشاملة التي اجتاحت العالم الإسلامي، منذ بداية هذا القرن، وصولاً إلى تشكل ملامحها الأساسية خلال العقدين الأخيرين. لأنها أسهمت إسهاماً فعلياً في تدعيم عملية التأصيل الحقوقي، وسرعت بتكاملها، لأن هذه الصحوة كانت قد عالجت عدداً من المواضيع في إطار دفاعها عن الإسلام والتبشير به، وتأكيد أفضليته من دون أن يكون العنوان الذي عولجت تحته هذه المواضيع حقوقياً. لكن توجه الفكر الإسلامي نحو التأصيل في مجال الحقوق، بخاصة، جعله يستفيد مما أنجز في مجالات فكرية إسلامية مختلفة.
إن قضية حقوق الإنسان مركبة ومتعددة الأبعاد والمداخلات، باختلاف جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والدينية. ومن ثم يمكن أن تدخل ضمن دائرة اهتمام العديد من فروع المعرفة وتخصصاتها[12].(7/8)
لذلك فقد وجد الفكر الإسلامي نفسه، وهو يقوم بالتأصيل، يعرض للمذهب الإسلامي المتكامل في جميع مناحي الفعل الإنساني. لهذا كانت الصحوة الإسلامية التي سبقت هذا الاهتمام المتميز بهذا الحقل، رافداً مهماً ساعد، كما قلنا، في عملية التكامل السريع والشامل، وأنضج مبكراً عملية التنظير في هذا المجال. وصولاً إلى تقنين هذه الحقوق في مواثيق وإعلانات إسلامية، صدرت تباعاً خلال السنوات العشرين الماضية. وعليه لا بد من اعتبار الصحوة الإسلامية واقعاً موضوعياً داخلياً، أسهم إلى جانب التطور العالمي في بلورة المنظومة الحقوقية الإسلامية، التي سنعرض لأهم ملامحها بعد قليل.
التأصيل الإسلامي لحقوق الإنسان: الملامح والمميزات
قلنا، سابقاً، إن قضية حقوق الإنسان قضية مركبة ومتعددة الأبعاد، لذلك فقد وجد الفكر الإسلامي نفسه، وهو يقوم بعملية التأصيل لحقوق الإنسان، يعرض النظم الإسلامية في جميع المجالات. وهذه العملية فتحت عينيه على قضايا متعددة، وجعلته يتعرض لتحديات ذاتية جديدة. لأنه اصطدم، أثناء معالجة بعض القضايا الخاصة، بتجربة تاريخية طويلة، تعرض فيها تطبيق الإسلام، لمجموعة من الإخفاقات، إلى جانب بعض النجاحات بطبيعة الحال.
وقد شكلت هذه التجربة وموروثها الفكري، زخماً ساعد من جهة المفكر الإسلامي على الإحاطة بأبعاد التشريع الإسلامي عند التطبيق أو التنظير. لكنه وقف، من جهة أخرى، عائقاً أمام الفصل في عدد من القضايا، التي تبين أن التجربة التاريخية فيها كانت بعيدة جداً عن مقاصد الإسلام وشريعته، بالرغم من ترسانة التبريرات التي أوجدها العقل الاجتهادي الذي عايش هذه التجربة. لذلك يمكننا أن نؤكد على أن عملية التأصيل كانت تسير إلى جانب إعادة النظر في عدد من الوقائع التأريخية، بالتحليل والدفاع عن اجتهاد معين تارة، باعتباره يمثل وجهة نظر الإسلام الحقيقية التي طبقها المسلمون، أو بالنقد والرفض تارة أخرى. وفي مرات عدة ساد الاختلاف وبقيت مجموعة من المواضيع معلقة تنتظر الحسم.
لكن ظهرت بعض الكتابات التي انتهجت الموضوعية العلمية، لتؤكد على أن الانتقادات التي وجهت للإسلام، كان يجب في حقيقة الأمر أن توجه للتطبيقات الخاطئة التي وقعت، وإلى بعض الاجتهادات التي تأثرت بالظروف التاريخية الموضوعية. لذلك لا بد من التفريق هنا بين مبادىء النظام الإسلامي التي لا يشك أحد في أن مقاصدها تهدف إلى تحقيق واقع أفضل للإنسان في بعديه المادي والروحي، وبين وقائع التاريخ المحسوبة على الإسلام.
هذه الحقيقة التي أفصح عنها الفكر الحقوقي الإسلامي كانت مهمة جداً، لأنها ساعدت على تعميق المراجعة الشاملة التي يقوم بها الفكر الإسلامي، وهو يجدد نفسه، لمواكبة التطورات الحضارية، وينفض عنه غبار التقليد وتجارب الماضي السلبية.
نجد، مثلاً، أن البحث في الحقوق السياسية في الإسلام، يدفع بهذا الفكر إلى محاولة الكشف عن النظام السياسي في الإسلام بعيداً عن التجربة التاريخية، ومناقشة إشكالاته، كالحديث عن الشورى ومقارنتها بالديمقراطية الغربية، والتأكيد على ان نظام الشورى الإسلامي يضمن حقوق المشاركة السياسية للإنسان المسلم. إضافة إلى الحديث عن حجم الحريات السياسية وطبيعة علاقة الحاكم بالمحكومين، وحقوق المعارضة وإنشاء الأحزاب. وكما قلنا، سابقاً، أدت معالجة هذه القضايا إلى إعادة النظر في عدد من الاجتهادات والتطبيقات التاريخية، انتهت إلى رفض الاستبداد السياسي، وتفنيد مسوغاته الفكرية، وقطع صلته بمبادىء دينية تلبست بلباس القداسة، واتخذها أعداء الإسلام مطية للطعن فيه وفي تشريعاته.
الحقوق الاقتصادية كان لها نصيب مهم في عملية التأصيل، لأنها ستكشف بدورها عن نظام الإسلام الاقتصادي، عند البحث في الحقوق الاقتصادية التي يقدمها الإسلام للإنسان فرداً وجماعة، وتشريعاته الاقتصادية التي تكفل الرخاء والرفاه للمجتمع المسلم. لكن التأصيل، في مجال الحقوق الاقتصادية، عانى من تحديات جمة لأن المذهب الاقتصادي في الإسلام غير متكامل من حيث التنظير والتفصيل، وملامحة تعاني من الغموض. مع قلة البحوث الاقتصادية المنجزة في الماضي، وتطور المجال الاقتصادي المعاصر وتعقيده وتفرعاته الكثيرة، التي جعلت المفكر الإسلامي يشعر بنوع من التخبط، لأنه لم يجد بين يديه سوى الأصول العامة، وبعض الأحكام الجزئية في قضايا اقتصادية متفرقة. لذلك كان عليه أن يفتح باب الاجتهاد على مصراعيه لعلاج نواقص هذا الموضوع بالذات. خصوصاً إذا علمنا أن المذاهب الاقتصادية التي تم استيرادها من الغرب، وطبقت في العالم الإسلامي، كان لها وقع سيء على الهوية الدينية، لأن هذه المذاهب حملت معها خلفيات عقائدية ومظاهر، على نقيض تام مع دين التوحيد، بل مناقضة لكل دين. لذلك فالتحدي في هذا المجال كان كبيراً.(7/9)
إلى جانب البحث في الحقوق السياسية والاقتصادية، كان هناك اهتمام متميز وخاص بحقوق المرأة، تشهد على ذلك كثرة الكتابات والدراسات التي أنجزت في هذا الموضوع، سواء الكتابات العامة التي تحدثت عن موضوع المرأة في الإسلام، واهتمت بالرد على الشبهات والانتقادات التي يروج لها الغزو الفكري الغربي، وتجد بعض الآذان الصاغية لها داخل العالم الإسلامي، أم الكتابات المتخصصة في مجال الحقوق كما نصت عليها الكتابات الحقوقية الغربية، ومن ضمنها المواثيق والإعلانات الحقوقية العالمية. وموضوع المرأة في الإسلام، كان قد اكتسب صبغة ذات حساسية خاصة قبل التوجه الحقوقي، خلال العقود الأخيرة، لأن وضع المرأة بشكل عام كان من بين القضايا التي احتدم حولها النقاش مبكراً، مع وصول الجحافل الأولى للاستعمار الغربي وسيطرتها العسكرية على العالم الإسلامي. وبقي هذا الجدل محتدماً، وفي تصاعد مستمر، بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية، لأن الغزو الثقافي عبر وسائط الإعلام والتعليم، ما فتىء يركز على هذا الموضوع ويثيره بين الحين والآخر. لذلك فقد وجدت المرأة المسلمة نفسها تتقاذفها التيارات والايديولوجيات المختلفة، بين منتصر لما تدعو له الحضارة الغربية من قيم وحقوق تخص المرأة، وبين قيم الإسلام التي امتزجت مع تقاليد المجتمعات الإسلامية وأعرافها. وقد استطاعت عملية التأصيل لحقوق المرأة أن تميط اللثام عن عدد من المغالطات الأيديولوجية، ووضعت في بعض جوانبها المتميزة، حداً بين ما يريده الإسلام من المرأة وما قدمه لها من حقوق، وبين الواقع التاريخي، أو وضع المرأة المسلمة الحالي، الذي يحكمه التخلف وعدم الانسجام بين النظرة الإسلامية الحقوقية والواقع المعيش. لكن يمكن أن يقال إن عملية التأصيل في مجال حقوق المرأة قد بلغت شأواً من التقدم، تم فيه الاعتراف والانتباه لعدد كبير من الحقوق التي كانت، إلى عهد قريب، خارجة عن موضوع البحث أو المعالجة، بل كان النسيان والتجاهل يلفها ويلغيها من الوجود الواقعي. وبدأ الكلام عن حقوق تثير حساسية كبيرة داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وهكذا بدأ الحديث عن الحقوق السياسية للمرأة وحقها في الولاية مثلاً؟.
لكن لا بد هنا من الإشارة إلى أن الفكر الإسلامي ما زال يتعامل مع الموروث الروائي المتعلق بالمرأة، بنوع من الحذر، وقلة الجرأة لمعالجته، لأنه مما لا شك فيه أن عدداً كبيراً من الأعراف والتقاليد قد استحالت عبر الوضع والكذب إلى أحاديث نبوية، كما أن التفسيرات التقليدية لكثير من الأحاديث، يجب إعادة النظر فيها، إذا أردنا فعلاً أن نكشف عن الوضع الحقوقي للمرأة كما جاء به الإسلام. وهذان الأمران: التردد والتخبط كثيراً ما يظهران في الكتابات العامة أو المختصة بحقوق المرأة في الإسلام.
وتفرع مجال التأصيل كثيراً، باعتباره استجابة للتحديات الحضارية المعاصرة التي كان من أهم إنجازاتها الإعلانات والمواثيق العالمية والإقليمية والوطنية، والمطالبة بالعمل على وضعها موضع التنفيذ والتطبيق، لذلك نجد أن مواضيع كثيرة قد نوقشت وتم علاجها سواء بشكل مفصل وكبير، أم بدراسات محدودة. ومن العناوين التي عولجت وكثر حولها التأليف نذكر: الحقوق الاجتماعية والإعلامية، الحريات العامة، الدستورية، الزوجية، العائلية، الأقارب، العمال، حقوق الجنين، الآباء، المتهم، الطفل، الأقليات إضافة إلى عناوين أخرى تعالج مواضيع جديدة، طرحها التطور العالمي في هذا المجال.
ومما لاحظناه، عند إنجازنا لببليوغرافيا خاصة بموضوع حقوق الإنسان[13] في الإسلام، أن الكتابات عن حقوق المرأة تأتي على رأس القائمة من حيث كثرتها وتفرعها، وهذا يؤكد حجم التحدي كما ذكرنا سابقاً، ثم تأتي الكتابات عن الحقوق السياسية، بعدها نجد أن موضوع الاقليات قد أخذ حيزاً كبيراً في مجال التأليف الحقوقي. وهذا يدل كذلك على حجم التحديات التي أثارها الإعلام الغربي حول الأقليات الدينية التي تعيش داخل العالم الإسلامي منذ قرون، وهو يروج أن التشريعات الإسلامية تضطهدها وتنتهك جملة من حقوقها. وأمام الهجمات المتكررة لهذا الاعلام، نجد أن الفكر الإسلامي استجاب بشكل إيجابي حينما عالج هذا الموضوع، وخصص له جهوداً محترمة في عملية التأصيل هذه.(7/10)
هناك مواضيع حقوقية مهمة نلاحظ فيها بعض التقصير؛ إذ إن هذه العملية تعطيها حقها المطلوب، مع وجود موروث روائي لا بأس به يمكن أن يسهل هذه العملية، كموضوع حقوق الطفل، فالدراسات والبحوث قليلة جداً، وهذا يقلل من فرص وضع ميثاق حقوقي خاص بالطفل، لأن التراكم التنظيري متواضع جداً. لكننا نلاحظ أن العقل الإسلامي قد تحرر من محظوراته وكوابحه الذاتية والموضوعية، وانفتح على مصراعيه لمناقشة جميع القضايا التي لها علاقة بحقوق الإنسان وبحثها. وإن كنا نسجل نوعاً من السبق الوقائعي والتنظيري للفكر الغربي في هذا المجال، فالعقل المسلم، بشكل عام، يظل منفعلاً وليس فاعلاً في أغلب القضايا التي توصلها له وسائط الاعلام الغربية، فيهرع لمعرفتها والرد عليها سلباً أو إيجاباً. لكننا نثمن سرعة الاستجابة في كثير من الأحيان، وكذلك الكم المعرفي في ميدان الحقوق الذي نجم عنها، لأنه سيشكل الأرضية والقاعدة الفكرية المتينة لانطلاق الأجيال القادمة نحو الإبداع والإنتاج وبلورة النظرية الإسلامية في جميع المجالات.
مميزات عملية التأصيل
من خلال القراءات المتعددة، للكتابات الإسلامية الحقوقية، تظهر بوضوح بعض المميزات والخصائص التي تكاد تشترك فيها مجمل هذه الكتابات والبحوث، ليس في مجال معين، كالاقتصاد أو السياسة، ولكن في أغلب المواضيع المبحوثة. أولى هذه الخصائص، الحديث عن مفهوم الحق في المنظور الإسلامي، وذلك في قبالة الحديث عن الخلفيات الفكرية والفلسفية التي انطلق منها الوعي الحقوقي الغربي، وشكلت الأرضية العقائدية التي تتحكم في تعريفه للحق الإنساني. وقد تحدثنا من قبل عن النظريات الثلاث التي شكلت الخلفية الفلسفية للفكر الحقوقي الغربي.
والحديث عن مفهوم الحق، لما له من أهمية كبرى يحتاج إلى شيء من التفصيل. إن الاختلاف الذي تبرزه بعض الحقوق المنصوص عليها في المواثيق العالمية، إنما يرجع في أساسه إلى النظرة الفلسفية والعقائدية للحق، من حيث مفهومه ومصادره. لذلك فمعالجة الفكر الإسلامي الحقوقي لهذه القضية تعد مهمة وأساسية.
الميزة، أو الخاصية الثانية، تظهر في النقد الذي وجهه الفكر الإسلامي الحقوقي للحقوق الإنسانية في الفكر الغربي بشكل عام، عندما اتجه لنقد المذاهب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الغربية، مستعيناً بطبيعة الحال ببعض المظاهر، حيث الإخفاق في مجال الحقوق أدى إلى كوارث إنسانية، تجاوزت حدود تأمين الاحتياجات الضرورية للإنسان إلى تعريض وجوده الإنساني ككل للخطر، فظواهر الانتحار والتفسخ العائلي والتحلل الأخلاقي، وانتشار الإلحاد. هذه الظواهر التي تجتاح الواقع الغربي، تكاد تعصف بالمكتسبات الحقوقية التي تم تحقيقها بعد معاناة طويلة.
طبعاً نحن، هنا، أمامَ إشكال له جانبه الحقوقي، لكنه قد يتجاوزه، ليتم الحديث عن الحاجة إلى الأديان السماوية، بوصفها بديلاً عن الأيديولوجيات الوضعية. وهذا ما نجد تلميحاً له أثناء معالجة الفكر الإسلامي لقضايا حقوقية جزئية، على اعتبار أن النظر إلى الظاهرة الإنسانية، لا يمكن معالجته بشكل جزئي، لأن النتائج النهائية لأي تطبيق ستفتقر إلى النظرة الكلية للإنسان، في إطار فلسفي عقائدي، لا يهمل المنطلقات، ويتحدث عن الغايات والمقاصد الوجودية الأساسية للإنسان، بشكل واضح ومفصل، ما يسهم بشكل فعال في تحقيق ما يصبو له الإنسان من حياة أفضل على الأرض.
وهذه النظرة التكاملية تدفع بنا إلى الحديث عن الخاصية الثالثة، وهي شمولية الحقوق الإنسانية في الفكر الحقوقي الإسلامي، والتي نظر لها من خلال: التشريع الإلهي (الوحي) الذي يعلم يقيناً الاحتياجات الحقيقية للإنسان وحقوقه الأساسية، إضافة إلى نقطة مهمة تتلخص في كون التشريع الإلهي يمثل الحقيقة التي لا تتأثر بالمصالح الفردية أو الجماعية أو الفئوية، أو غيرها من التقسيمات التي يطغى تأثيرها في التشريعات الوضعية. وبالتالي فالحديث عن عالمية الحقوق، انطلاقاً من تشريعات وضعية، يعد تسويقاً لأيديولجيات غرضها الهيمنة لا غير.
هذه المميزات الثلاث، سنعرض لها بنوع من التفصيل، لأنها من القضايا المهمة التي ركز عليها الفكر الإسلامي الحقوقي أثناء عملية التأصيل، ولأنها محطات يمكن من خلالها معرفة المدى الذي توصلت إليه هذه العملية.
________________________________________
[1] كاتب من الغرب
[2] الدكتور أحمد بلحاج السندك، حقوق الإنسان، رهانات وتحديات، الرباط، شركة بابل للطباعة، 1996، ص8.
[3] أمينة البقالي، حركة حقوق الإنسان: من أجل أنسنة العمل السياسي، مجلة الوحدة، العدد 63/64، السنة السادسة، 89/1990، ص75.
[4] المحامي حسين ضناوي، وعي حقوق الإنسان: جذور التطور والحماية، جريدة النهار البيروتية، بتاريخ 17/12/1990م، ص2.
[5] عمر ممدوح مصطفى، القانون الروماني، القاهرة، ط3، 1959م، ص16.(7/11)
[6] الدكتور محمّد خريف، حقوق الإنسان بالمغرب، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، 1994م، ص14.
[7] أحمد البخاري وأمينة جبران، الحريات العامة وحقوق الإنسان، مراكش، وليلي للطباعة والنشر، ط1، 1996م، ص69.
[8] مثل منظمة العفو الدولية التي لديها الآن ما يزيد عن (700ألف) عضو مشترك في نحو (150) بلداً في جميع أنحاء العالم، وما يزيد على (4200) مجموعة محلية في (63) بلداً، إضافة إلى عدد كبير من المنظمات الوطنية التي تهتم بالدفاع عن حقوق الإنسان وفضح الانتهاكات المختلفة.
[9] جريدة النهار البيروتية، م.س.، ص90.
[10] اعترضت عدد من الدول الإسلامية على بعض البنود الواردة في الإعلانات التي طلب منها المصادقة عليها، واعتبرتها مسوغاً كافياً لعدم التصديق على هذه الإعلانات العالمية.
[11] ظهرت في العالم العربي مجموعة من المنظمات الحقوقية، وقد صدر مؤخراً كتاب عن المعهد العربي لحقوق الإنسان في تونس يعد أهم دليل لمعرفة هذه المنظمات وعناوينها.
[12] حسين توفيق إبراهيم، حقوق الإنسان في الكتب والرسائل الجامعية وبعض الدوريات العربية، مجلة منبر الحوار، عدد9، السنة 3، ص73.
[13] انظر: مجلة الكلمة، عدد 20، 1998م.
================
حقوق الإنسان في الإسلام
مقدمة:
- تعريف الحقوق.
- هل هذه الحقوق مستحقة للإنسان أم هي من تفضل الله تعالى عليه؟
- مظاهر التكريم الإلهي للإنسان.
الفصل الأول: خصائص ومميزات حقوق الإنسان في الإسلام.
1- حقوق الإنسان في الإسلام تنبثق من العقيدة الإسلامية.
2- حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية.
3- حقوق الإنسان في الإسلام شاملة لكل أنواع الحقوق.
4- حقوق الإنسان في الإسلام ثابتة ولا تقبل الإلغاء أو التبديل أو التعطيل.
5- حقوق الإنسان في الإسلام ليست مطلقة بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية.
الفصل الثاني: أهم الحقوق التي كفلها الإسلام للإنسان.
أولاً: حق الحياة.
ثانياً: حق الكرامة.
ثالثاً: حق الحرية.
رابعاً: حق التدين.
خامساً: حق التعليم.
سادسا: حق معرفة الحق.
سابعا: حق التملك والتصرف.
ثامنا: حق العمل.
الفصل الثالث: مقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وفي الوثائق الوضعية الدولية.
أولاً: من حيث الأسبقية والإلزامية.
ثانياً: من حيث العمق والشمول.
ثالثاً: من حيث الحماية والضمانات.
الفصل الرابع: مفهوم الغرب لحقوق الإنسان.
1- حرية التدين.
2- حرية إقامة العلاقات الأسرية.
3- حق الحرية.
4- حق التملك.
مقدمة:
- تعريف الحقوق:
تعريف الحقوق لغة:
قال الجوهري: "الحق: خلاف الباطل، والحق: واحد الحقوق، والحَقة أخص منه، يقال: هذه حقتي أي: حقي".
وقال الفيروز آبادي: "الحق: من أسماء الله تعالى أو من صفاته، والقرآن، وضد الباطل، والأمر المقضي، والعدل، والإسلام، والمال، والملك، والموجود الثابت، والصدق، والموت، والحزم، وواحد الحقوق".
وقال المناوي: "الحق لغة: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره".
تعريف الحقوق اصطلاحاً:
الحقوق لها معنيان أساسيان:
1- فهي أولاً تكون بمعنى: مجموعة القواعد والنصوص التشريعية التي تنظم على سبيل الإلزام علائق الناس من حيث الأشخاص والأموال.
فهي بهذا المفهوم قريبة من مفهوم خطاب الشارع المرادف لمعنى (الحكم) في اصطلاح علماء الأصول، أو لمعنى (القانون) في اصطلاح علماء القانون.
وهذا المعنى هو المراد عندما نقول مثلاً: الحقوق المدنية، أو القانون المدني.
2- وهي ثانياً تكون جمع حق بمعنى السلطة والمكنة المشروعة، أو بمعنى المطلب الذي يجب لأحد على غيره.
وهذا هو المراد في مثل قولنا: إن للمغصوب منه حق استرداد عين ماله لو قائماً، وأخذ قيمته أو مثله لو هالكاً، وإن للمشتري حق الرد بالعيب، وإن التصرف على الصغير هو حق لوليه أو وصيه ونحو ذلك.
ويمكن تعريف الحق بمعناه العام بأن يقال: الحق هو اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفاً.
- هل هذه الحقوق مستحقة للإنسان أم هي من تفضل الله تعالى؟
قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} [الروم:47].
قال ابن كثير: "أي" حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً".
وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54].
قال القرطبي: "أي: أوجب ذلك بخبره الصادق ووعده الحق".
وقال ابن كثير: "أي: أوجبها على نفسه الكريمة تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقاً زائداً على هذا كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ}.(7/12)
ولكن أهل السنة يقولون هو الذي كتب على نفسه الرحمة، وأوجب هذا الحق على نفسه، لم يوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدّعون أنه واجب عليه بالقياس على الخلق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه القدرية والجبرية أتباع جهم والقدرية النافية".
وقال ابن القيم: "وقد أخبر سبحانه عن نفسه أنه كتب على نفسه وأحق على نفسه، قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ}، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ} [التوبة:111]، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: ((أتدري ما حق الله على عباده؟)) وفيه: ((أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟))، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في غير حديث: من فعل كذا كان على الله أن يفعل به كذا وكذا في الوعد والوعيد، ونظير هذا ما أخبر سبحانه من قسمه ليفعلن ما أقسم عليه كقوله: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92]، {فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم:68]، وقوله: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:13]، وقوله: {لأمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85]، إلى أمثال ذلك من صيغ القسم المتضمن معنى إيجاب المقسِم على نفسه أو منعه نفسَه، وهو القسم الطلبي المتضمن للحظر والمنع، بخلاف القسم الخبري المتضمن للتصديق والتكذيب، قالوا: وإذا كان معقولاً من العبد أن يكون طالباً من نفسه فتكون نفسه طالبة منها لقوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوء} [يوسف:53]، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، مع كون العبد له آمر ونهاه فوقه، فالرب تعالى الذي ليس فوقه آمر ولا ناهٍ كيف يمتنع منه أن يكون طالباً من نفسه فيكتب على نفسه، ويحق على نفسه، ويحرم على نفسه؟! بل ذلك أولى وأحرى في حقه من تصوره في حق العبد، وقد أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وكتابة ما كتبه على نفسه وإحقاق ما حقه عليها متضمن لإرادته ذلك ومحبته له ورضاه به وأنه لا بد أن يفعله، وتحريمه ما حرمه على نفسه متضمن لبغضه لذلك وكراهته له وأنه لا يفعله، ولا ريب أن محبته لما يريد أن يفعله وبغضه له يمنع وقوعه منه مع قدرته عليه لو شاء، وهذا غير ما يحبه من فعل عبده ويكرهه منه، فذاك نوع وهذا نوع، ولما لم يميز كثير من الناس بين النوعين وأدخلوهما تحت حكم واحد اضطربت عليهم مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، وبهذا التفصيل سفر لك وجه المسألة وتبلج صبحها".
- مظاهر التكريم الإلهي للإنسان:
1- خلقه في أحسن تقويم:
قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4].
قال ابن عباس: (في أعدل خلق).
قال ابن كثير: "إنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل، منتصب القامة سوي الأعضاء حسنها".
2- نفخ فيه من روحه:
قال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} [السجدة:9].
وقال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72].
قال الواحدي: "وأضاف روح آدم إليه إكراماً وتشريفاً".
3- أمر الملائكة بالسجود لآدم:
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
قال ابن كثير: "وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم، امتن بها على ذريته، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم".
4- تعليم آدم الأسماء كلها:
قال تعالى: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ e قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. [البقرة:31، 32].
قال ابن كثير: "هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم".
5- جعل الإنسان خليفة في الأرض:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30].
قال البغوي: "والصحيح أنه خليفة الله في أرضه؛ لإقامة أحكامه وتنفيذ وصاياه".(7/13)
قال ابن عاشور: "وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار؛ ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما علم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس".
6- تفضيل الإنسان على كثير من المخلوقات:
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70].
قال الشوكاني: "أجمل سبحانه هذا الكثير ولم يبين أنواعه، فأفاد ذلك أن بني آدم فضلهم سبحانه على كثير من مخلوقاته... والتأكيد بقوله {تَفْضِيلاً} يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين، فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من كفرانه".
7- تسخير المخلوقات للإنسان:
قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13].
قال ابن سعدي: "وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض ولما أودع الله فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات وأنواع الحيوانات وأصناف الأشجار والثمرات وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو معد لمصالح بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته".
الصحاح (4/1460).
القاموس المحيط (3/221).
التوقيف على مهمات التعاريف (ص 287).
المدخل الفقهي العام (3/9-10) لمصطفى الزرقاء.
تفسير القرآن العظيم (3/446).
الجامع لأحكام القرآن (6/435).
تفسير القرآن العظيم (2/140).
أخرجه البخاري في الجهاد، باب اسم الفرس والحمار (48)، ومسلم في الإيمان (30).
مفتاح دار السعادة (ص 430-431) ببعض اختصار.
تفسير ابن أبي حاتم (10/3448).
تفسير القرآن العظيم (4/527).
الوسيط في تفسير القرآن المجيد (3/45).
تفسير القرآن العظيم (1/80).
تفسير القرآن العظيم (1/78).
معالم التنزيل (1/79).
تفسير التحرير والتنوير (1/400).
فتح القدير (3/244-245).
تيسير الكريم الرحمن (ص 776).
الفصل الأول: خصائص ومميزات حقوق الإنسان في الإسلام:
1- حقوق الإنسان في الإسلام تنبثق من العقيدة الإسلامية:
إن حقوق الإنسان في الإسلام تنبع أصلاً من العقيدة، وخاصة من عقيدة التوحيد، ومبدأ التوحيد القائم على شهادة أن لا إله إلا الله هو منطلق كل الحقوق والحريات، لأن الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد خلق الناس أحراراً، ويريدهم أن يكونوا أحراراً، ويأمرهم بالمحافظة على الحقوق التي شرعها والحرص على الالتزام بها، ثم كلفهم شرعاً بالجهاد في سبيلها والدفاع عنها، ومنع الاعتداء عليها وهذا ما تكرر في القرآن الكريم في آيات القتال والجهاد.
فحقوق الإنسان في الإسلام تنبع من التكريم الإلهي للإنسان بالنصوص الصريحة، وهو جزء من التصور الإسلامي والعبودية لله تعالى وفطرة الإنسان التي فطره الله عليها.
2- حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية:
إن حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية منحها الله لخلقه، فهي ليست منحة من مخلوق لمخلوق مثله، يمن بها عليه ويسلبها منه متى شاء، بل هي حقوق قررها الله للإنسان.
3- حقوق الإنسان في الإسلام شاملة لكل أنواع الحقوق:
من خصائص ومميزات الحقوق في الإسلام أنها حقوق شاملة لكل أنواع الحقوق، سواء الحقوق السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية.
كما أن هذه الحقوق عامة لكل الأفراد الخاضعين للنظام الإسلامي دون تمييز بينهم في تلك الحقوق بسبب اللون أو الجنس أو اللغة.
4- حقوق الإنسان في الإسلام ثابتة ولا تقبل الإلغاء أو التبديل أو التعطيل:
من خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها كاملة وغير قابلة للإلغاء؛ لأنها جزء من الشريعة الإسلامية.
إن وثائق البشر قابلة للتعديل غير متأبية على الإلغاء مهما جرى تحصينها بالنصوص، والجمود الذي فرضوه على الدساتير لم يحمها من التعديل بالأغلبية الخاصة.
وقضى الله أن يكون دينه خاتم الأديان وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ومن ثم فما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باق ما دامت السماوات والأرض.
5- حقوق الإنسان في الإسلام ليست مطلقة بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية:
ومن خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها ليست مطلقة، بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وبالتالي بعدم الإضرار بمصالح الجماعة التي يعتبر الإنسان فرداً من أفرادها.
حقوق الإنسان في الإسلام للدكتور محمد الزحيلي (ص 132-133) بتصرف.
حقوق الإنسان في الإسلام للدكتور سليمان الحقيل (ص 53).
حقوق الإنسان في الإسلام. د.سليمان الحقيل (ص 53).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 53).
حرمات لا حقوق، لعلي جريشة.
حقوق الإنسان للحقيل (ص 53).
الفصل الثالث: مقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وفي الوثائق الوضعية الدولية:
أولاً: من حيث الأسبقية والإلزامية:(7/14)
لقد كان للشريعة الإسلامية الغراء فضل السبق على كافة المواثيق والإعلانات والاتفاقيات الدولية في تناولها لحقوق الإنسان وتأصيلها لتلك الحقوق منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وأن ما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية اللاحقة ومن قبلها ميثاق الأمم المتحدة ما هو إلا ترديد لبعض ما تضمنه الشريعة الإسلامية الغراء.
فحقوق الإنسان المهددة اليوم والتي ندعو إلى حمايتها واحترامها قد أقرها الإسلام وقدسها منذ أربعة عشر قرناً فسبق بها سبقاً بعيداً عما قال به القرن الثامن عشر الذي عُد قرن حقوق الإنسان.
وحقوق الإنسان كما جاء بها الإسلام حقوق أصيلة أبدية لا تقبل حذفاً ولا تعديلاً ولا نسخاً ولا تعطيلاً، إنها حقوق ملزمة شرعها الخالق سبحانه وتعالى، فليس من حق بشر كائناً من كان أن يعطلها أو يتعدى عليها، ولا تسقط حصانتها الذاتية لا بإرادة الفرد تنازلاً عنها ولا بإرادة المجتمع ممثلاً فيما يقيمه من مؤسسات أياً كانت طبيعتها وكيفما كانت السلطات التي تخولها.
أما فيما يتعلق بالقيمة القانونية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان فهو ليس إلا مجرد تصريح صادر عن الأمم المتحدة غير ملزم.
فيتضح أن حقوق الإنسان في المواثيق الدولية عبارة عن توصيات أو أحكام أدبية، أما في الإسلام فحقوق الإنسان عبارة عن فريضة تتمتع بضمانات جزائية وليست مجرد توصيات أو أحكام أدبية، فللسلطة العامة في الإسلام حق الإجبار على تنفيذ هذه الفريضة، خلافاً لمفهوم هذه الحقوق في المواثيق الدولية التي تعتبرها حقاً شخصياً مما لا يمكن الإجبار عليه إذا تنازل عنه صاحبه.
ثانياً: من حيث العمق والشمول:
حقوق الإنسان في الإسلام أعمق وأشمل من حقوق الإنسان في الوثائق الوضعية، فحقوق الإنسان في الإسلام مصدرها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما مصدر حقوق الإنسان في القوانين والمواثيق الدولية فهو الفكر البشري، والبشر يخطئون أكثر مما يصيبون، ويتأثرون بطبيعتهم البشرية بما فيها من ضعف وقصور وعجز عن إدراك الأمور والإحاطة بالأشياء، وقد أحاط الله بكل شيء علماً.
إن الحقوق في الإسلام تبلغ درجة الحرمات وهي في هذا تمر بدرجات، فالحقوق مُسَلَّمة، ومن بعدها تدعمها الواجبات، ومن بعد الواجبات تحميها الحدود، ومن بعد الحدود ترتفع إلى الحرمات.
وإذا كانت المواثيق البشرية قد ضمنت بعض الحقوق فإن الإسلام بمصدريه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة شملا جميع أنواع الحقوق التي تكرم الله بها على خلقه.
ثالثاً: من حيث الحماية والضمانات:
إن حقوق الإنسان في القوانين الوضعية لم توضع لها الضمانات اللازمة لحمايتها من الانتهاك.
فبالرجوع إلى مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م نجده لم يحدد الوسائل والضمانات لمنع أي اعتداء على حقوق الإنسان وبخاصة ما يكون من هذه الوسائل والضمانات على المستوى العالمي.
كما تضمن الإعلان تحذيراً من التحايل على نصوصه أو إساءة تأويلها دون تحديد جزاء للمخالفة، وتضمنت أيضاً تشكيل لجنة لحقوق الإنسان تقوم بدراسة تقارير الدول الأطراف عن إجراءاتها لتأمين الحقوق المقررة، كما تتسلم التبليغات المقدمة من إحدى الدول الأطراف ضد أخرى بشأن أدائها لأحد التزاماتها المقررة بمقتضى الاتفاقية وذلك بشروط معينة.
وبالنظر إلى الحماية الدولية لحقوق الإنسان نجدها محاولات لم تصل إلى حد التنفيذ، وهي تقوم على أمرين:
1- محاولة الاتفاق على أساس عام معترف به بين الدول جميعاً.
2- محاولة وضع جزاءات ملزمة تدين الدولة التي تنتهك حقوق الإنسان.
إن كل ما صدر عن الأمم المتحدة والمنظمات والهيئات بخصوص حقوق الإنسان يحمل طابع التوصيات ولا يعدو كونه حبراً على ورق يتلاعب به واضعوه حسبما تمليه عليهم الأهواء والشهوات.
أما في الإسلام فقد اعتمد المسلمون في مجال حماية حقوق الإنسان على أمرين أساسين، وهما:
1- إقامة الحدود الشرعية، إذ إن من أهم أهداف إقامة الحدود الشرعية في الإسلام المحافظة على حقوق الأفراد.
2- تحقيق العدالة المطلقة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم وحثا عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل:90].
قال ابن عطية: "والعدل هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات وترك الظلم والإنصاف وإعطاء الحق".
وقال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء:58].
قال ابن كثير: "أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس".
وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه في إقامة العدل فكانت حياته كلها عدل، وعلم أصحابه العدل وأوصى أمته به وحذرهم من الظلم، ووضع منهج الإسلام في إقرار العدل والمساواة والمحافظة على الحقوق وحمايتها.
حقوق الإنسان للحقيل (ص 87).(7/15)
حقوق الإنسان للحقيل (ص 103).
حقوق الإنسان للحقيل (88-89).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 89).
حقوق الإنسان للحقيل.
المحرر الوجيز (2/416).
تفسير القرآن العظيم (1/528).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 103-104).
الفصل الرابع: مفهوم الغرب لحقوق الإنسان:
لم تظهر فكرة حقوق الإنسان جزئياً بشكل رسمي عند الغرب إلا في القرن الثالث عشر الميلادي، الموافق للقرن السابع الهجري، أي: بعد نزول الإسلام بسبعة قرون، وذلك نتيجة ثورات طبقية وشعبية في أوروبا، ثم في القرن الثامن عشر في أمريكا لمقاومة التميز الطبقي أو التسلط السياسي أو الظلم الاجتماعي.
1- حرية التدين في الغرب:
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن لكل شخص الحق في حرية الدين وحرية تغيير ديانته أو عقيدته وحرية الإعراب عنها بالتعليم والممارسة.
فالإنسان عند الغرب حر في أن يختار الدين الذي يريده وحر في أن يغير دينه متى شاء.
وهذا يتعارض مع تعاليم الإسلام الذي لا يجيز للمسلم تغيير ديانته، بل يعتبر ذلك ردة ويجب إقامة الحد فيها؛ لأن السماح بالردة يشكل خطراً على أمن الدولة الإسلامية، ويخالف ما قصده الإسلام من حفظ للضروريات الخمس التي على رأسها ضرورة حفظ الدين الذي تقوم الدولة الإسلامية أساساً عليه.
2- حرية إقامة العلاقات الأسرية:
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين.
فيبيح للكافر التزوج بمسلمة وللمسلم التزوج بالكافرة بدون أي قيود على ذلك.
وهذا يخالف تعاليم الإسلام التي لا تجيز للمرأة المسلمة أن تتزوج بغير المسلم، وذلك صيانة للأسرة من الانحلال بسبب الاختلاف في الدين عند احترام الزوج بموجب عقيدته لمقدسات زوجته لأن المرأة أحد عنصري الأسرة الأكثر حساسية في هذا الموضوع بسبب شعورها بالضعف أمام الرجل".
3- حق الحرية:
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق".
وفي اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية: "لكل فرد الحق في الحرية والسلامة الشخصية ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا على أساس من القانون وطبقاً للإجراءات المقررة".
وهذا الحق يكاد أن يكون نظرياً اليوم، ويعاني الأفراد والشعوب الويلات من الإفراط والتفريط بحق الحرية، والمتاجرة بها والتغني فيها وعدم ضبط الممارسات فيها وحولها، حتى قالت إحدى نسائهم: "كم من الجرائم ارتكبت باسمك أيتها الحرية".
4- حق التملك:
تفاوت مفهوم حق التملك عند الغرب تفاوتاً هائلاً.
فالرأسمالية أطلقت حرية التملك إلى أبعد الحدود وجردته من كل قيد حتى استبد الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال بمقدرات الأمم والشعوب واستنزفت خيرات البلاد وطبقات الفقراء والعمال.
بينما تمادت الشيوعية في الإفراط والغلو وألغت الملكية الفردية وفرضت ملكية الدولة الكاملة، واستولت على جميع وسائل الإنتاج، وأصبح العمال مجرد آلات للعمل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 101).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 181).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 155-156) بتصرف.
حقوق الإنسان للحقيل (ص 82).
حقوق الإنسان للحقيل (ص 161).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 169).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 169).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 170).
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 315).
-------------------
الإسلام والديمقراطية
الشيخ فتحي منصور
قاضي المحكمة الشرعية - القدس
Sheikh Fathi Mansour,
Judge, Islamic Shari’a Court-
Jerusalem
إن فكرة الديمقراطية في وقتنا الحاضر تغزو العالم عبر مساحات واسعة من النشاطات الإعلامية والثقافية سواء على مستوى الندوات أو المحاضرات أو اللقاءات المرئية أو صفحات الجرائد وغيرها، أو عبر الحملات العسكرية لغزو البلدان العربية والإسلامية لنشر (الديمقراطية) في هذه البلاد وقمع الأنظمة (الديكتاتورية).
ولا شك أن في هذه الفكرة بريقاً قوياً خاصة بالنسبة للشعوب التي تعاني من القهر والاستبداد، وقد حول هذا البريق فكرة (الديمقراطية) من بُعد فكري ونظري لترتيب السياسة في المجتمع الى ممارسات عملية تتعلق بحريات أساسية منها حرية التعبير والتنقل والتنظيم وغيرها.
فالناس عامة لا يكترثون في البحث عن الأسس الفلسفية أو الفكرية التي تنطلق منها الديمقراطية، بقدر ما يهتمون ببعض المظاهر والممارسات السياسية التي يرتاحون إليها ويثنون عليها ويودون أن تكون جزءاً من واقعهم لعلهم ينعمون ببعض (الخيرات) التي تنعم بها الشعوب التي أقامت نظماً سياسية ديمقراطية.(7/16)
وقد ساد هذا الانطباع الجماهيري العام عن الديمقراطية في العالم الإسلامي والوطن العربي حتى بات المفهوم الشعبي لها مرادفاً (للحرية). ولا ينتبه الكثيرون من الناس أن الحرية قد تكون أكثر شمولاً أو أقل اتساعاً من الديمقراطية، وأن لكل مفهوماً خاصاً ربما يتقاطع مع الآخر ولا يلتقي معه بالضرورة. وربما أن هذا الأمر هو الذي قاد بعض المفكرين والباحثين المسلمين إلى القول بأن الإسلام (ديمقراطي) وأن القيم الديمقراطية قيم إسلامية يجب الدفاع عنها، وبدلاً من أن يركزوا على البحث في مجال الحريات في الإسلام، انطلقوا يتحدثون عن الحداثة الإسلامية في ثوب ديمقراطي.
* إذن ما المقصود بالديمقراطية:
لقد عرفت الديمقراطية لغوياً أنها حكم الشعب.
وقد نشأ هذا المفهوم في أثينا في الثقافة اليونانية القديمة ثم تجسدت هذه الفكرة في العصور اللاحقة في الفكر السياسي الغربي واتخذت نشاطاً نضالياً من أجل الديمقراطية بين الحكام والمحكومين بلغ أوجه خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر عندما استطاع البريطانيون من الحد من صلاحيات الملك بعد ثورتي 1649 و 1688.
وكان ل (جون لوك) دور بارز في الدعوة للديمقراطية بالمفهوم الغربي والذي عرفها بأنها (حق الأكثرية التي اكتسبت سلطة الجماعة بالاتحاد في استخدام تلك السلطة لتشريع القوانين وتنفيذها بواسطة موظفين عينوا لذلك).
أما الولايات المتحدة فلم تعرب النظام الديمقراطي إلا بعد الاستقلال (1776) وتجسدت في إعلان حقوق الإنسان وحريته. رغم أن الديمقراطية الأمريكية بقيت مشوهة إلى اليوم حيث لا يحق مثلاً الترشيح للرئاسة إلا لفئة معينة من الشعب كالبروتستانت أو البيض أو الانكلوسكسون، كما أن الثروة المالية للمرشح مقدمة على أن نوع من الكفاءات الأخرى.
أما في فرنسا فقد انفجرت الثورة سنة 1789 معلنة حقوق الإنسان والمواطن، حيث عرف جان جاك روسو الديمقراطية بما يلي:
"يستطيع صاحب السيادة في المقام الأول أن يعهد بأمانة الحكم إلى الشعب كله أو إلى الجزء الأكثر منه بحيث يكون هناك من المواطنين الحكام أكثر من المواطنين الأفراد ويطلق على هذا الشكل من الحكومة اسم ديمقراطية".
أما (مونتسكيو) ففي معرض تقسيمه للحكومات اعتبر الحكم الديمقراطي شكلاً من أشكال الحكم الجمهوري.
فالديمقراطية في راية تحكم على أساس الفضيلة السياسية وتعني حب الدولة وحب المساواة، وفي ظل النظام الديمقراطي فإن المواطنين يختارون وفقاً لبمدأ المساواة وإمكانياتهم وقدراتهم، والسلطة التشريعية يجب أن تكون بين الأفراد كما أن التصويت يجب أن يكون عاماً.
إذن، فالديمقراطية بالمعنى اللغوي (حكم الشعب): هي قاعدة لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع في حال من الأحوال، وهو الأمر الذي يؤكده (روسو) حيث يقول (وإذا أخذنا عبارة الديمقراطية بكل معناها الدقيق نجد أن الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبداً ولن توجد أبداً فيما يخالف النظام الطبيعية أن يحكم العدد الأكبر وأن يكون العدد الأصغر هو المحكوم ولا يمكن أن نتصور بقاء الشعب مجتمعاً على الدوام للنظر في الشؤون العامة ونستطيع أن نرى بسهولة أنه لا يمكن إقامة لجان من أجل ذلك دون تغيير في شكل الإدارة.
أما المفهوم الاصطلاحي للديمقراطية فقد أصبح يشمل معان أخرى أضيفت إليه كإعطاء الحرية للناس في تشريع القانون واختيار من ينفذه من خلال الانتخابات العامة التي تكفل المساواة للأفراد في المشاركة في الحياة السياسية حيث يكون الرأي للأغلبية.
ولا شك أن الحرية والمساواة مفاهيم تتوق إليها النفس الإنسانية التي بطبيعتها ترفض العبودية والظلم، ولذا نجد التغني بالديمقراطية واعتبارها الحكم المنشود لكل شعب مضطهد مظلوم تنطلق من هذين الشعارين اللذين ترفعهما.
إذن فالديمقراطية تعتبر منهجاً في الحكم يرمي إلى وضع حد لثنائية الحاكم والمحكوم التي سادت تاريخ أوروبا القديم والوسيط، واقترنت بانتشار الحكم الفردي وسيطرة الكنيسة وغياب القانون.
ويهدف هذا المنهج إلى استبدال هذا الوضع القديم بآخر جديد هو وضع الدولة الحديثة التي يحكمها القانون باعتبارها معبرّاً عن إرادة الشعب وملزماً للرئيس والمرؤوس معا.
ولبلوغ هذا الهدف يعتمد المنهج الديمقراطي على جملة من المبادئ الأساسية التي تتولد عنها آليات وأجهزة دستورية تختلف صيغتها التفصيلية من نظام إلى آخر، ويمكن إجمالها فيما يلي:
1. الشعب صاحب السيادة ومصدر السلطات والشرعية.
2. انبثاق السلطات بواسطة الانتخابات
3. الإقرار للأغلبية بأن تحكم وللأقلية بأن تعارض
4. التعددية الحزبية
5. التداول السلمي على السلطة
6. مراقبة الحكام وممارسة التأثير عليهم
7. فصل السلطات
8. ضمان حريات المعتقد والتعبير والعمل النقابي
9. حفظ مصالح الضعفاء والأقليات
10.احترام حقوق الإنسان
مقارنة عامة لبعض المفاهيم بين الديمقراطية والإسلام
مصدر التشريع
يمتاز نظام الحكم في الإسلام بخصائص أهمها:
1- الحاكمية لله(7/17)
2- السيادة للأمة
3- الدولة الإسلامية واحدة في المبادئ، متعددة في الأشكال حسب الزمان والمكان.
? الحاكمية لله؛ تعني أن مصدر التشريع هو الله سبحانه وتعالى وحده وأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله تعالى بالوحي.
? الحاكم منفذ لأحكام الله تعالى في الأمة مجتهد في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأساسية.
? طاعة الحاكم واجبة ما لم يخالف نصاً صريحاً.
? قال تعالى: ( أيا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً)
وقال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).
وقال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك).
قال تعالى( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)
أما النظام الديمقراطي، فإن حق التشريع للشعب، فالدستور وسائر القوانين هي من صنع البشر ويمثل على أفضل تقدير وفي لحظات مثالية تحكم الأكثرية بالأقلية.
وشتان بين نظام وضعه خالق الإنسان والعالم بخفايا نفسه والقادر على وضع ما يصلها من القوانين التي توصل الإنسان إلى سعادته الحقيقية وبين نظام يستمد من الإنسان الذي هو في أفضل حالات نزاهته وتجرده عن اللذات عرضة للخطأ الذي يذهب ضحيته البشر.
اختيار الحاكم
- حق اختيار الحاكم هو للأمة بواسطة أهل الحل والعقد، فالحكم بالإسلام هو عقد عن تراض بين الأمة والحاكم.
- البيعة تعني الطاعة والقبول
- الحاكم مقيد بتبني الأحكام الشرعية المستنبطة استنباطاً صحيحاً من الأدلة الشرعية ومقيد بالحلال والحرام.
- لا يخرج على الحاكم أو يعزل إلا إذا أظهر كفراً بواحاً.
عن عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المكره والمنشط، فبايعناه، فقال: فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان).
الشورى
? الشورى ضرورة إنسانية في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلاقات الفردية.
قال عليه الصلاة والسلام (إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه)
وهي في النظام السياسي في الإسلام من لوازم الإيمان بالله تعالى.
قال تعالى ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون).
? النظام السياسي في الإسلام نظام شوري يرفض جميع أشكال الحكم الاستبدادي وكل الأنظمة السياسية الغوغائية والفوضوية.
? قال تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين).
? الحاكم يمارس تنفيذ هذا النظام من خلال الوقوف على رأي فئة من الأمة تتصف بالذكاء والحنكة والتجربة والإخلاص للنظام والأمة، وهذه الفئة تمثل الأمة تمثيلاً حقيقياً بجميع قطاعاتها وتحاسب الحاكم محاسبة من شأنها تسديد مسيرته ودعمه في اتجاهاته الخيرة وتعينه على اتخاذ القرارات المهمة والحسم في المواقف التي تواجهه.
لما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر خرج فاستشار الناس فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه ثم استشارهم فأشار عليه عمر - رضي الله عنهم - عنه فسكت فقال رجل من الأنصار إنما يريدكم، فقالوا يا رسول الله، "والله لا نكون كما قالت بنوا إسرائيل لموسى عليه السلام (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)، ولكن والله لو ضربت أكباد الإبل، حتى تبلغ برك الغماد لكنا معك".
المرأة
? لقد وزع الإسلام الاختصاصات العملية توزيعاً يوافق طبائع الذكورة والأنوثة.
? كفل الإسلام للمرأة حقوقاً عديدة في المجالات السياسية، فقد أقر لها حق المشاركة السياسية من حيث إبداء الرأي، وأن الآية الكريمة (وأمرهم شورى بينهم) لم تخص الرجال دون النساء.
وقد شاركت أم سلمة في صلح الحديبة وهي التي أشارت على النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحلق رأسه.
كما عارضت أسماء بنت أبي بكر بيعة بأنها عبد الله بن الزبير للأمويين.
? منح الإسلام للمرأة حق التعبير عن الرأي أسوة بالرجال.(7/18)
فقد خطب عمر رضي الله فقال: (ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقالت إليه امرأة فقالت: يا عمر يعطينا الله وتحرمنا، أليس الله سبحانه وتعالى يقول (وآتيتم إحداهم قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً)، فقال عمر، أصابت امرأة وأخطأ عمر، وفي رواية فاطرق عمر ثم قال كل الناس افقه منك يا عمر، وفي رواية أخرى امرأة أصابت ورجل أخطأ وترك الإنكار.
? ساوى الإسلام بين الذكور والإناث في حق التعليم والثقافة
? فسح الإسلام أمام المرأة مجال العمل وراعى تركيبة المرأة البيولوجية وأنوثتها.
=================
يقول الأستاذ فهمي هويدي: "يظلم الإسلام مرتين: مرة عندما يقارن بالديمقراطية ومرة عندما يقال إنه ضد الديمقراطية، إذ المقارنة بين الاثنين خاطئة وادعاء التنافي خطيئة، الأمر الذي يحتاج إلى تحرير أولاً واستجلاء ثانياً".
مفهوم الديمقراطية وتاريخها
لقد عرفت الديمقراطية لغوياً أنها حكم الشعب.
وقد نشأ هذا المفهوم في أثينا في الثقافة اليونانية القديمة ثم تجسدت هذه الفكرة في العصور اللاحقة في الفكر السياسي الغربي واتخذت نشاطاً نضالياً من أجل الديمقراطية بين الحكام والمحكومين بلغ أوجه خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر عندما استطاع البريطانيون من الحد من صلاحيات الملك بعد ثورتي 1649 و 1688.
وكان لـ (جون لوك) دوراً بارزاً في الدعوة للديمقراطية بالمفهوم الغربي والذي عرفها بأنها (حق الأكثرية التي اكتسبت سلطة الجماعة بالاتحاد في استخدام تلك السلطة لتشريع القوانين وتنفيذها بواسطة موظفين عينوا لذلك).
أما الولايات المتحدة فلم تعرف النظام الديمقراطي إلا بعد الاستقلال (1776) وتجسدت في إعلان حقوق الإنسان وحريته. رغم أن الديمقراطية الأمريكية بقيت مشوهة إلى اليوم حيث لا يحق عملياً الترشيح للرئاسة إلا لفئة معينة من الشعب كالبروتستانت أو البيض أو الانكلوسكسون، كما أن الثروة المالية للمرشح مقدمة على أن نوع من الكفاءات الأخرى.
أما في فرنسا فقد انفجرت الثورة سنة 1789 معلنة حقوق الإنسان والمواطن، حيث عرف جان جاك روسو الديمقراطية بما يلي:
"يستطيع صاحب السيادة في المقام الأول أن يعهد بأمانة الحكم إلى الشعب كله أو إلى الجزء الأكثر منه بحيث يكون هناك من المواطنين الحكام أكثر من المواطنين الأفراد ويطلق على هذا الشكل من الحكومة اسم ديمقراطية".
أما (مونتسكيو) ففي معرض تقسيمه للحكومات اعتبر الحكم الديمقراطي شكلاً من أشكال الحكم الجمهوري.
فالديمقراطية في راية تحكم على أساس الفضيلة السياسية وتعني حب الدولة وحب المساواة، وفي ظل النظام الديمقراطي فإن المواطنين يختارون وفقاً لبمدأ المساواة وإمكانياتهم وقدراتهم، والسلطة التشريعية يجب أن تكون بين الأفراد كما أن التصويت يجب أن يكون عاماً.
إذن، فالديمقراطية بالمعنى اللغوي (حكم الشعب): هي قاعدة لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع في حال من الأحوال، وهو الأمر الذي يؤكده (روسو) حيث يقول (وإذا أخذنا عبارة الديمقراطية بكل معناها الدقيق نجد أن الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبداً ولن توجد أبداً فيما يخالف النظام الطبيعية أن يحكم العدد الأكبر وأن يكون العدد الأصغر هو المحكوم ولا يمكن أن نتصور بقاء الشعب مجتمعاً على الدوام للنظر في الشؤون العامة ونستطيع أن نرى بسهولة أنه لا يمكن إقامة لجان من أجل ذلك دون تغيير في شكل الإدارة.
مفهوم الديمقراطية حالياً
يقول الأستاذ راشد الغنوشي: مفهوم الديمقراطية مفهوم واسع يتسع لمعاني كثيرة، ولكنها قد تلتقي عند معنى أنها نظام سياسي يجعل السلطة للشعب، ويُمكِّن المحكومين من القدرة على التأثير في حكامهم، بل قبل ذلك يعطيهم الحق في اختيار حكامهم وفي التأثير فيهم والضغط عليهم، وعند الاقتضاء إلى تغييرهم عبر آليات قد تختلف من نظام ديمقراطي إلى آخر، ولكنها تلتقي أيضاً عند آلية الانتخاب أي الاقتراع الحر عبر خطوات كثيرة وأشكال، وبالتالي يحقق هذا النظام التداول على السلطة عبر صناديق الاقتراع، ويمكّن الناس- أي المحكومين- من حريات كالتعبير، وتكوين الأحزاب واستقلال القضاء، وبالتالي فالديمقراطية هي شكل يعلن عن أن هذا النظام السياسي يقوم على سيادة الشعب، ومن جهة أخرى جملة من المضامين والقيم تقر بكرامة الناس وبمساواتهم لبعضهم، ويقر لهم بجملة من الحقوق وجملة من الحريات تجعلهم قادرين على اختيار حكامهم والضغط عليهم وتغييرهم بالوسائل السلمية، تعطيهم الحق في المشاركة في السلطة، وتجعلهم آمنين من الجور أو من الاستبداد.
الإسلام والديمقراطية
يقول الدكتور يوسف القرضاوي : "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" ومن هنا كان لابد أن نعرف ما هي الديمقراطية ،الديمقراطية بجوهرها هذا لا تنافي الإسلام لأنها تقوم على عدة مبادئ:(7/19)
أولاً: أن يختار الناس من يحكمهم: لا أن يقود الناس من يكرهونه ولا يرضون عنه، فإذا كان الإسلام قال فيحق الإمامة الصغرى –المقصود إمامة الصلاة-: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شِبراً، أول هذه الثلاثة "رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون" (رواه ابن ماجه والترمذي والطبراني و إسناده حسن أو صحيح)فإذا كان هذا بالنسبة للإمامة الصغرى فما بالك بالإمامة الكبرى بقيادة الأمة وفي الحديث (الذي رواه مسلم وأحمد والطبراني): "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم ،وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم"
ثانياً: المحاسبة: وهي أن أن يحاسب الناس هذا الشخص بعد اختياره إذ لا معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلابد إذاً أن يقوَّم الخطأ وأن يعان على الصواب، سيدنا أبو بكر يقول: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة عليكم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني"، وابن الخطاب يقول على المنبر: "رحم الله امرئ أهدى إلى عيوب نفسي، مرحباً بالناصح أبد الدهر، مرحباً بالناصح غدواً وعشياً، من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقومه"، وهكذا فمن حق الأمة يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: "الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم" .
ولذلك حمل القرآن حملة شعواء على المتألهين في الأرض، نمروذ الذي قال لإبراهيم (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، فرعون الذي قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)، ومن مع فرعون؟ هامان وقارون، هامان السياسي الوصولي الذي يسند الطاغية المتجبر، والرأسمالي الإقطاعي الذي يسند هذا وذاك قارون، الإسلام حمل على هؤلاء يعني جميعاً، وحمل على الشعوب التي تتبع هؤلاء، ولذلك قال عن قوم فرعون: (وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً) وقال عن عاد قوم هود: (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)، لا يجوز للأمة أن تتبع.. وقال عن فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) حمل الشعوب المسؤولية، لأن الشعوب يجب أن تتحمل تبعاتها في اختيار الحاكم ومساءلته، لا أن تكون قطيعاً يسوقه الحاكم بعصاه.
ثالثاً: القيم الديمقراطية: كالحرية والكرامة وحقوق الإنسان ،هذه كلها مبادئ إسلامية، هي عندهم تسمى حقوقاً، عندنا تسمى فرائض، يعني ما يعتبر في الديمقراطية حقاً في الإسلام يعتبر فرضاً وليس حقاً يجوز التنازل عنه ومن أهم هذه الفرائض:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فرض عليك أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، وإلا دخلت في الذين لعنوا كما لعن بنو إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم.. لماذا؟ (كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ).
- كرامة الإنسان في الإسلام : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)
- المساواة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)
فكل المعاني التي قامت عليها الديمقراطية معاني يقرها الإسلام، فلذلك نحن في غنى أن نقول ديمقراطية، ولكن لأن الديمقراطية وصلت إلى صيغ وأساليب وضمانات لتحقيق هذه القيم السياسية التي جاء بها الإسلام، فنحن نقول البشرية في صراعها مع الطغاة والمستبدين طوال العصور استطاعت الوصول إلى تلك القيم فلماذا لا نستفيد منها.
الإسلام والديمقراطية...هل يكتب التوفيق لهذا الزواج-الجزء1
________________________________________
الحاجة إلى الديمقراطية
يقول الأستاذ راشد الغنوشي : غابت دولة الشورى في كل المستويات منذ القرن الأول (قال عليه الصلاة والسلام:الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكاً)وأصبحنا نورَّثً إلى هؤلاء الملوك، و ساد التقليد وهو شكل من أشكال الاستبداد أيضاً ، وفي مجال التربية ساد التصوف الأعمى "المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي من يغسله"وهذا يلغي إرادة الناس يلغي إرادة من يسمون المريدين لصالح الشيخ.
فأصبحنا إذاً مجتمعنا ينتج الاستبداد ويتحرك في إطار الاستبداد.(7/20)
فلما انفتحت النوافذ وجاء الهواء لم نستطع أن نتعايش مع الفكر الحديث، وبادرنا برفضه، على سبيل المثال انظر ما حصل في أفغانستان في التسعينات ، خرب البلد على يد مجاهدين، لماذا؟ لأنهم لو اتفقوا على الديمقراطية كآليات لحسم خلافاتهم لرجعوا للشعب الأفغاني واحتكموا له، ومن يرضى به الشعب يُقبل، ولكن هؤلاء كثير من مشايخهم يرفضون الديمقراطية لأنها حرام –بزعمهم- وأن الشعب ليس محل ثقة، ويقولون بنظام يتخيلونه واضحاً، ولكنها مجرد أسماء: يقولون نظام أهل الحل والعقد، من هم أهل أحل والعقد؟ كيف نختارهم؟ هؤلاء كانوا واضحين في مجتمع صغير كمجتمع المدينة، كيف نتوصل إليهم اليوم دون ممارسة الآليات الحديثة، آليات الديمقراطية في الانتخاب؟ فخرب البلد رغم أنهم قد يكونون صالحين ومجاهدين، لكنهم ورثوا هذا التخلف في فقهنا السياسي، فلم يتوفقوا إلى آليات لحسم خلافاتهم
في الحركة الإسلامية جوانب كثيرة للتجديد ، فالإسلام أقر مبدأ الشورى، وأمرنا ألا يقرر الفرد ولاالنخبة المستبدة في القضايا الكبرى ، وإنما الأمة كلها تُشارك في صناعة القرار.
فكرة المشاركة هذه فكرة أساسية جاء بها الإسلام، وأظن أن غيابها وإقصاء الأمة عن شأنها واستبداد الأفراد بالمجموع هو الذي أنهك حضارتنا وأسلمها إلى الانهيار، على حين توفق الغرب في أن يحول شورانا هذه- مبدأ الشورى المبدأ العظيم- أن يجعل له آليات تجعل من الشورى نظاماً يحقق التداول على السلطة، ويحقق الأمن من الجور، ويعطي للناس للشعب وسائل الضغط على الحكام، ويعطي وسائل النصح والتغيير، وبالتالي أمِن الغرب من الاستبداد، وبقينا نحن المسلمين لا أمل لنا في نصح حكامنا- فضلاً عن تغييرهم- إلا أن ننتظر زيارة ملك الموت لمستبد أو إعلان دبابة في الهزيع الأخير من الليل، وهذه كارثة على الحاكم والمحكوم بصراحة.
ويرى بعض المفكرين أن الابتعاد عن الديمقراطية يؤثر على الدور الرسالي للإسلام حيث يقول مراد هوفمان: إذا لم يتمكن العالم الإسلامي من تأكيد العنصر الديمقراطي الأصيل الكامن في تكوينه، وسيترتب على ذلك أن المسلمين لن يتمكنوا من تحقيق وتطوير إمكاناتهم في شتى المجالات: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وسيعقب ذلك تخلفه وعجزه السياسي.
الشورى واجب إسلامي
أوجب الإسلام الشورى، الحاكم يجب أن يستشير الناس ولا يستبد بالرأي، والشورى كما قال الإمام ابن عطية في تفسيره: "من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدين من الأمراء فعزله واجب، وهذا ما لا خلاف فيه".
وبين الدكتور البوطي أن الشورى تمتاز عن الديمقراطية بأنها "واجب في الوقت ذاته، كلف الله به الأمة، وحمل سائر أفرادها مختلف تبعاته.." وأوضح أن الشورى الشرعية أو التشريعية تعتبر "عبادة تعاونية محضة يبتغى منها الوصول إلى مرضاة الله".
و يقول الدكتور يوسف القرضاوي :إن الإسلام أقام الحياة السياسية على مبدأ الشورى، وهو مقرر في القرآن الكريم بقوله تعالى في وصف مجتمع المؤمنين (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) هذا في القرآن المكي، وفي القرآن المدني قال الله تعالى لرسوله (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وإذا كان الرسول مأموراً بالمشاورة فغيره أولى بأن يشاور يعني قطعاً، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر الناس مشاورة، كما جاء في صحيح البخاري، أكثر الناس مشاورة لأصحابه، هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يعني معروف، شاور في غزوة بدر ، وشاور في غزوة أحد، وشاور في غزوة الخندق، وكثيراً ما نزل عن رأيه إلى رأي أصحابه.
في غزوة بدر شاور قبل الغزوة، وشاور في أثناء الغزوة، وشاور بعد الغزوة في مسألة الأسرى، في غزوة أحد شاور أيضاً الصحابة في الخروج إلى المشركين أم البقاء في المدينة، وكان رأيه ورأي كبار الصحابة أن يبقوا في المدينة، ولكن الشباب وهم جمهور الناس رفضوا ذلك، وقالوا: يعني ما دخل علينا فيها في الجاهلية. أفي الإسلام يدخلون علينا؟! وأبوا إلا أن يخرجوا، فنزل على رأيهم، في غزوة الخندق أيضاً استشار السعود: سعد بن معاذ، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود من الأنصار حينما عرض عليه قبيلة غطفان أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة أو نصف ثمار المدينة ويرجعوا وينفضوا عن قريش، وعرض الرسول عليهم هذا، وقال لهم: إن العرب رمتكم عن قوس واحدة، فلا مانع إن إحنا نقسم المهاجمين بأننا نصالح بعضهم وأن نتفرغ للبعض، ولكن هؤلاء السعود وهم يمثلون الأنصار رفضوا ذلك قالوا ما أخذوا منا تمرة في الجاهلية بعد أن أعزنا الله بالإسلام يأخذون منا؟ رفضوا ونزل النبي -صلى الله عليه وسلم- على رأيهم.(7/21)
و يقول مراد هوفمان معلقاً: إن آية الشورى (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) جعلت واجب الشورى يمتد إلى المؤمنين كافة وليس الرسول وحده، وقرنت واجب الشورى بفرض الصلاة. وهذه الصيغة ذات أهمية قصوى ،حتى وإن كان فرض الأخذ بالشورى - كما هو الحال في الغرب - قد عطل وانتهى الأخذ به في التاريخ الإسلامي الذي يتسم بالتسلط، ولم يعد الأخذ بالشورى موضع تنفيذ منذ حكم الأسرة الأموية في دمشق عام 750.انتهى
ومنذ تلك اللحظة بدأ فشل المسلمين السياسي وقد صدق عليه الصلاة والسلام إذ يقول: "لينتقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة "
وبهذا فلا يجوز للمسلمين أن يفتخروا بالممارسة السياسية التي مارسوها – أو بالأصح مارسها الملوك- بعد نهاية العقد الرابع للهجرة.
آليات الديمقراطية الإسلامية
يقول مراد هوفمان: أما أهم الشروط التي يجب توافرها في كيان حكم إسلامي صحيح، هو أن يسود فيه الإجماع على من يحكم وما يحكم، أي أن يتم الحكم بموافقة الغالبية، حتى يكون هناك عقد (بمفهوم روسو) يحكم العلاقة بين الشعب والحكومة، ويسمى العقد الاجتماعي، وهو في الإسلام البيعة.
وفي الجزائر مثلاً اقترح الشيخ محفوظ نحناح زعيم الحركة الإسلامية الجزائرية تسمية الشكل الإسلامي للديمقراطية، شورى قراطية أي النظام الشوروي).
وأعتقد أن على المسلمين بدلاً من الوقوف عند مفردات منفرة، وإضاعة الجهد في مجادلات كلامية، أن يتبينوا أن أهم أهداف الديمقراطية ووظائفها، إنما هي تأمين وجود رقابة منظمة على الحكومات لمنع أي ظلم وتسلط وسوء استخدام للسلطة، وما هذا إلا جوهر الأهداف الإسلامية.
ويتم تحقيق هذا في ديمقراطية إسلامية لها لبناتها.
وقد استخرجت من كلام هوفمان أهم تلك اللبنات:
- اللبنة الأولى: بجعل القرآن الكريم المصدر الأعلى للدستور
- اللبنة الثانية: يجب أن توضع جميع القوانين المستمدة من القرآن الكريم موضع اعتبار وقياس من قبل قانونيين مسلمين.
ملاحظة:وهذا لا يعارض ممارسة الديمقراطية فالديمقراطيات محكومة بالدساتير و الديمقراطية الإسلامية محكومة بدستور مستمد من شرع الله.
- اللبنة الثالثة: قيام حياة نيابية إسلامية بناءً على التوجيه القرآني بوجوب الشورى إذ لا ينكر أي مسلم في يومنا هذا وجوب الأخذ بالشورى، ولا نفكر حقيقة أن الشورى لا يمكن أن تتم في المجتمعات الحديثة ذات الكثافة العالية من خلال كل الأفراد، بل من خلال مجلس منتخب يمثل ناخبيه كما فعل موسى عليه السلام من قبل " وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا"
- اللبنة الرابعة (الاقتراع وسيلة الانتخاب): السؤال الذي يمكن أن يطرح من وجه نظر إسلامية ويكون موضع خلاف، ليس وجود مجلس للشورى، ولكن كيفية انتخاب أعضاء هذا المجلس.
فإذا قام الحاكم _كما هو متبع في كثير من البلدان الإسلامية _ بتعيين أعضاء هذا المجلس، فكأنما يقوم الحاكم الذي يجب مراقبته بمراقبة نفسه بنفسه. ولذلك هناك تأييد متزايد للانتخابات العامة الحرة لممثلي الشعب، ويحظى هذا الاقتراح بموافقة غالبية المسلمين.
هناك عقبة من المحتمل أن تعوض الممارسة الديمقراطية، وهي أنه يجب على المسلم أن يمتنع عن أن يطلب لنفسه منصباً سياسياً. ولقد كان هذا الأمر -أي أن يطلب المرء لنفسه منصباً سياسيا -موضع رفض بل ازدراء، حتى إن الرسول محمد لم يعين أحدا في منصب قيادي قد يكون طلبه لنفسه. (ولابد أن يصل المسلمون إلى اجتهاد مناسب لحل هذا الإشكال كأسلوب التزكية مثلاً الذي اقترحه د.القرضاوي)
- اللبنة الخامسة(الشورى الملزمة):وهو أمر سنأتي إلى شرحه تفصيلاً في فقرة اعتراضات على الديمقراطية.
- اللبنة السادسة( الإقرار بالتعددية): يذكر القرآن إمكانية اختلاف آراء ووجهات نظر المسلمين" فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا" ولكن للأسف يؤمن بعض المسلمين أن اختلاف وجهات النظر ما هو إلا دليل لسوء النوايا .
- اللبنة السابعة( السلطة التشريعية): هناك ضرورة لإصدار تشريعات لا تنظم فقط الجوانب الفنية لبناء الشوارع والتعريفة الجمركية والمسائل الصحية وضمانات العمل وغيرها ، بل أيضاً هناك ضرورة لإصدار أحكام تكميلية في مجال التعزير مثلاً. حدث هذا في عهد الخلافة العباسية، حيث وجد نظامان للأحكام، تزامنا معاً: أحكام الشريعة من ناحية، ومن ناحية أخرى نظام إدارة وأحكام متحرز نسبياتهم من خلاله استحداث عقوبات لم يذكرها القرآن، مثل دفع الغرامة نقداً، والسجن.
أما الأمور التي لا تقبل التأويل فيجب في النظام الإسلامي التنبيه أن "لا اجتهاد في مورد النص"(7/22)
- اللبنة الثامنة : فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية .
----------------------
الحرية بين الإسلام والديمقراطية
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.
وبعد...
لا توجد كلمة تغنت بها الشعوب، واستهوتها قلوبهم ككلمة "الحرية"!
تنادوا بها في كل وادٍ ونادٍ، وفي كل خطبة ومقالٍ أو كتاب، ورفعوها شعاراً، وجعلوها غاية يرخص في سبيلها كل غالٍ ونفيس!
وفي كثير من الأحيان ينادون بها ولا يعرفون ما الذي يريدونه منها؟!
إلى أن أصبحت هذه الكلمة - لشدة فتنة الناس بها - مطية دهاقنة الحكم والسياسة إلى أهدافهم ومآربهم ومصالحهم الخاصة، وليصرفوا إليهم وجوه الناس!
وأصبحت الحرية - في كثير من الأحيان - ذريعة وسبباً لوأد الحرية، والحريات، وإعلان الحروب على كثير من الشعوب!
وصوروا أن الديمقراطية هي التي تحقق لهم الحرية، لأنها تقوم على الحرية، لذا جعلوا من لوازم مناداتهم بالحرية التنادي بالديمقراطية، وكأن كل واحدة منهما لازمة للأخرى ومؤدية إليها ولا بد، فمن كان محباً للحرية والتحرر لا بد من أن ينادي بالديمقراطية، ويكون محباً لها والعكس كذلك، وكل من كان عدواً للديمقراطية فهو عدو للحرية، كما زعموا!
والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة:
هل الديمقراطية - كما تمارس في أرقى الدول الغربية الديمقراطية - فعلاً تحقق الحرية التي يحتاجها ويريدها الإنسان، وترقى به إلى المستوى المطلوب والمنشود من الحرية؟!
وما هي نوعية وصفة وحدود الحرية التي تحققها الديمقراطية للشعوب؟!
وهل الإنسان الأمريكي أو الأوربي فعلاً هو حر، وهل الحرية التي يعيشها في بلاده ومجتمعاته فعلاً هي الحرية، أو من الحرية؟!
وهل الإسلام يتعارض مع مبدأ الحرية، أم أنه يقرها ويدعو إليها؟!
ثم - إن كان يقرها - كيف ينظر للحرية، وكيف يمارسها، وما هو الممنوع منها وما هو المسموح؟!
وهل الحرية التي يريدها الإسلام هي ذات الحرية التي تريدها الديمقراطية، أم يوجد فارق بينهما؟!
ثم أيهما أصدق لهجة وواقعاً مع الحرية المنشودة، الإسلام أم الديمقراطية؟!
هذه الأسئلة وغيرها تحملنا على المقارنة بين الحرية كما يريدها الإسلام، وكما مارسها لأكثر من ألفٍ وأربعمائة سنة خلت، ولا يزال يمارسها ويدعو إليها، وبين الحرية كما تريدها الديمقراطية، وكما تمارس في واقع أرقى الدول والمجتمعات الديمقراطية المعاصرة، لنرى أيهما أجدى نفعاً، وأصدق لهجة، وأولى بالسلامة، وأقرب للحق والصواب!
فأقول:
الحرية في الديمقراطية، يقوم بتحديدها، وتحديد المسموح منها من الممنوع الإنسان القاصر الضعيف، وفق ما تملي عليه أهواؤه ونزواته وشهواته، وهذا يعني أن مساحة الحرية في الديمقراطية تتسع أحياناً وتضيق أحياناً، بحسب ما يرتئيه الإنسان المشرِّع في كل يوم أو ظرف، بحسب ما يظن فيه المصلحة!
وهذا يعني أن الشعوب تكون حقل تجارب، وهي في حالة تغيير وتقلب مستمر مع ما يجوز لهم ومالا يجوز لهم من الحرية!
بينما الحرية في الإسلام، الذي يقوم بتحديدها، وتحديد المسموح منها من الممنوع، هو الله تعالى وحده، خالق الإنسان المنزه عن صفات النقص أو الضعف والعجز، العالم بأحوال عباده وما يُناسبهم وما يحتاجون إليه، وبالتالي فالحرية في الإسلام تمتاز بالثبات والاستقرار، فالذي يجوز من الحرية للإنسان قبل ألف وأربعمائة سنة يجوز له إلى قيام الساعة، فكل امرئٍ يعرف ما له وما عليه، والمساحة التي يمكن أن يتحرك بها كحق وهبه الله إياه!
كما أنها تمتاز بالحق المطلق والعدالة المطلقة؛ لأنها صادرة عن الله عز وجل، وهذا بخلاف الحرية في الديمقراطية الصادرة عن الإنسان الذي يحتمل الوقوع في الظلم والخطأ، والقصور!
الحرية في الديمقراطية، يكون الإنسان حراً في دائرة المباحات التي أذن له المشرعون من البشر أن يتحرك بها!
بينما الحرية في الإسلام، يكون الإنسان حراً في دائرة المباحات والمسموحات التي أذن الله بها، وأذن لعبده استباحتها والتنعم بها، والتحرك فيها!
الحرية في الديمقراطية، تحارب وتنكر الشر الذي يتفق عليه المشرعون من البشر بأنه شرٌّ، وهذا من لوازمه - بحكم جهلهم وقصورهم وعجزهم - أن يدخلوا كثيراً من الشر في دائرة الخير الجائز والمباح، كما من لوازمه أن يدخلوا كثيراً من الخير في دائرة الشر الممنوع والمحظور، عقلاً وشرعاً!
كم من أمر يجيزونه تحت عنوان الحرية ثم بعد ذلك يظهر لهم خطؤهم وظلمهم فينقضونه ويمنعونه، وكذلك كم من أمر يحرمونه ويمنعونه ثم يظهر لهم نفعه، فيجيزونه ويُبيحونه، وهذا كله يقلل من قيمة الحرية التي يدعونها!(7/23)
بينما الحرية في الإسلام، تحارب وتنكر الشرَّ الذي حكم الله تعالى عليه بأنه شرٌّ، الذي ما بعده إلا الخير، وذلك لما ذكرناه آنفاً أن الله تعالى منزه عن الخطأ أو الزلل سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى لا يجيز إلا الخير والنافع، كما أنه لا يحرم إلا كل شرٍّ وقبيح!
فالله تعالى جميل يحب الجمال، وبالتالي فهو لا يُشرِّع إلا الجميل والجمال، فحاشاه سبحانه وتعالى أن يشرع القبيح أو يأذن به!
ومنه نعلم أن الحرية في الإسلام، تتحرك في جميع ميادينها مع الجميل والجمال، وتبتعد كل البعد عن الخبائث والقبائح!
الحرية في الديمقراطية، تعبد العبيد للعبيد، فتجعل العبيد منقادين لعبيد ربما يكونون أقل منهم شأناً، يُشرعون ويُقننون لهم، يُحرمون ويُحلون لهم، وليس على الآخرين إلا الطاعة والاستسلام والانقياد، والخضوع!
فأي حرية هذه، مع العبودية للمخلوق هذه؟!
بينما الحرية في الإسلام، فإنها تعمل على تحرير العباد - كل العباد - من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وحده سبحانه وتعالى!
فإن قيل: هي في نهاية المطاف عبادة وعبودية، فأين الحرية؟!
أقول: أجيب على هذا السؤال الساقط من أوجه:
منها: أن الله تعالى هو الذي خلق الإنسان، وأنشأه ورباه، وهداه النجدين، وسخر له الكون كله، وبالتالي من حقه سبحانه وتعالى أن يُعبد، ومن الواجب على عباده أن يعبدوه ويُخلصوا في عبادته سبحانه وتعالى، وشكره، واتباع أوامره!
فعبادة العبد لخالقه وحده، عز، وفخر، ورفعة، وشرف ما بعده شرف، بينما عبادته للمخلوق العاجز الضعيف، ظلم، وذل، وضياع، وعذاب ما بعده عذاب!
ومنها: أن المرء فُطر على العبودية والتدين، فهو إن لم يكن عبداً لخالقه، فسيكون لا محالة عبداً للمخلوق وفي الباطل، أياً كانت صورة ونوعية هذا المخلوق!
ومنها: أن إفراد الله تعالى وحده بالعبادة، هو عين التحرر من عبادة الآلهة الأخرى الوضيعة المكذوبة المزعومة!
الحرية في الديمقراطية، تُخضع الإنسان لكثير من المؤثرات والضغوط الخارجية التي تفقده كثيراً من حرية الاختيار والتفكير: ضغط الإعلام بجميع فروعه وتخصصاته ووسائله، ضغط إثارة الشهوات ووسائل اللهو بجميع أصنافها وألوانها، وما أضخمها، ضغط الحاجة والسعي الدؤوب وراء الرزق والكسب، ضغط سحرة الساسة والأحبار والرهبان ومدى تزويرهم للحقائق، ضغط المخدرات والمسكرات المنتشرة في كل مكان، وأخيراً التلويح باستخدام عصا الإرهاب والتهديد الجسدي والمادي لمن يستعصي على جميع تلك الوسائل والضغوطات، ولا يستعصي عليها إلا من رحمه الله، وما أقلهم!
فهذه الضغوط والمؤثرات تُسلب المرء صفة حرية الاختيار، والتفكير، واتخاذ المواقف التي يريدها ويرضاها بعيداً عن تلك المؤثرات الخارجية المصطنعة!
هذه الضغوط والمؤثرات التي يصعب الفكاك منها، تُسلب المرء حريته، وإن زعم بلسانه أنه حرٌّ، وظهر للآخرين بأنه حر!
لذلك نجد طغاة القوم ومستكبريهم، وأحبارهم ورهبانهم، لا يحتاجون إلى مزيد عناء عندما يريدون من شعوبهم أن تسير في اتجاه دون اتجاه، أو يريدون حملهم على استعداء جهة دون جهة، أو على اختيار شيء دون شيء، يكفي لتحقيق ذلك أن يُسلطوا عليهم قليلاً من تلك المؤثرات والضغوطات الآنفة الذكر، ولفترة وجيزة من الوقت!
هذه الضغوط والمؤثرات التي تسلب المرء حريته، هي المعنية من قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ليس مكر الليل وحسب، أو مكر النهار وحسب، بل هو مكر الليل والنهار وعلى مدار الوقت، بحيث لا يُعطى المرء منهم لحظة واحدة يخلد فيها للراحة والهدوء والتفكير، حتى لا يهتدي إلى الحق، ويعرف أين هو من الصواب!
بينما الحرية في الإسلام، تحرر المرء من جميع تلك المؤثرات الخارجية التي تقلل من حريته وحرية اختياره وقراره، وربما تسلبها كلها، لتعيد له جميع قواه النفسية والجسدية والمعنوية، وترفع عنه جميع الأغلال والقيود، ثم تقول له بعد ذلك: اختر الذي تريده، {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.
الحرية في الديمقراطية، تمر بصاحبها على الجيف المتآكلة، وعلى القبائح، وعلى الأمراض، وعلى الفساد، وعلى كل ما يُفسد الذوق الجميل، والطبائع السوية، فتجرئه على الشذوذ والاعتداء، والإدمان على ذلك!
ومثله كمثل الذي يقود سيارة بلا كوابح، ولا ضوابط، ولا مراعاة لحقوق طريق أو مار، فيصطدم بالجميع، ويمر على الجميع، ويعتدي على الجميع!
بينما الحرية في الإسلام، تمر بصاحبها على كل ما هو جميل أو طيب، كما أنها لا تسمح له أن يتعدى ذلك، ليمر على الخبائث والجيف والأمراض، لتحافظ على سلامة ذوقه، وتفكيره، وصحته، وإيمانه!(7/24)
ومثله كمثل الذي يقود سيارة بكوابح وضوابط، ينطلق حيث ينبغي الانطلاق، ويقف حيث ينبغي التوقف، ويُعطي كل ذي حقٍّ حقه، من غير إفراطٍ ولا تفريط!
الحرية في الديمقراطية، تظهر وكأنها منحة يمن بها الإنسان على أخيه الإنسان، يعطيه منها ما يشاء ويسلبها منه متى يشاء!
بينما الحرية في الإسلام، حق وهبه الله تعالى لعباده، وفطرهم عليه، لا منة فيه لمخلوق على مخلوق، لا يجوز أن يُسلب أو يُنتقص منه شيء إلا بإذن الله، وبسلطانٍ بينٍ منه سبحانه وتعالى، يتجسد هذا المعنى في مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض أمرائه: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).
هذه هي الحرية في الديمقراطية، وهذه هي الحرية في الإسلام، فأي الفريقين أولى بالحرية، والسلامة، والحق؟!
الحرية في الديمقراطية أم الحرية في الإسلام؟!
{وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
عبد المنعم مصطفى حليمة؛ أبو بصير
8/3/1423 هـ
---------------------
170- ما موقف الإسلام من الفنون ؟
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف
الرد على الشبهة:
1 ـ الإسلام دين يحب الجمال ويدعو إليه فى كل شىء. والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: [ إن الله جميل يحب الجمال ] (1). والفن هو فى حقيقته إبداع جمالى لا يعاديه الإسلام. وغاية ما فى الأمر أن الإسلام يجعل الأولوية للمبدأ الأخلاقى على المبدأ الجمالى ، بمعنى أنه يجعل الثانى مترتبًا على الأول ومرتبطًا به. وهذا هو الموقف المبدئى للإسلام إزاء جميع أشكال الفنون. وهناك معيار إسلامى للحكم على أى فن من الفنون يتمثل فى قاعدة تقول: حَسَنُه حسن وقبيحه قبيح.
والقرآن الكريم فى العديد من آياته يلفت الأنظار إلى ما فى الكون من تناسق وإبداع وإتقان ، وما يتضمنه ذلك من جمال وبهجة وسرور للناظرين (2). ومن هنا لا يعقل أن يرفض الإسلام الفن إذا كان جميلاً.
أما إذا اشتمل على القبح بما يعنيه ذلك من قبح مادى ومعنوى فإن الإسلام يرفضه ولا يوافق عليه.
2 ـ وترتيبًا على ما تقدم فإن الفن إذا كان هدفه المتعة الذهنية ، وترقيق الشعور ، وتهذيب الأحاسيس ، فلا اعتراض عليه. ولكن إذا خرج عن ذلك وخاطب الغرائز الدنيا فى الإنسان ، وخرج عن أن يكون فنًّا هادفًا فإنه حينئذ لا يساعد على بناء الحياة ، بل يعمل على هدمها ، وبذلك يخرج عن أن يكون فنًّا ، بل يصير نوعًا من اللهو المذموم والعبث المرفوض. وهذا أمر لا يقره الإسلام.
3 ـ إذا كانت الموسيقى والغناء تحمل إلينا ألحانًا جميلة وكلمات مهذبة وأنغامًا راقية ، وأصواتًا جميلة ، فذلك لا يرفضه الإسلام طالما كان فى إطار المبدأ الأخلاقى ، أى طالما كان هدف الفن هو السمو بالإنسان وبأحاسيسه ووجدانه ومشاعره. وقد امتدح النبى صلى الله عليه وسلم صوت أبى موسى الأشعرى ـ وكان صوته جميلاً ـ وهو يتغنى بالقرآن. وكان النبى يختار من بين أصحابه للأذان أجملهم صوتًا. وقد سمع النبى صلى الله عليه وسلم صوت الدف والمزمار دون تحرج. وفى يوم عيد دخل أبو بكر على ابنته عائشة زوجة الرسول ولديها جاريتان تغنيان وتضربان بالدفوف فاعترض أبو بكر على ذلك. ولكن النبى صلى الله عليه وسلم رفض ما أبداه أبو بكر من احتجاج فى هذا الصدد قائلاً: [ دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد ] (3). وقد أوصى النبى صلى الله عليه وسلم نفسه السيدة عائشة أن ترسل من يغنى فى حفل زفاف قريبة لها زُفت إلى رجل من الأنصار.
وهناك مرويات أخرى عديدة عن النبى صلى الله عليه وسلم تبين أن الغناء والموسيقى ليسا من المحرمات فى الإسلام ما لم يصحبهما أمور منكرة غير أخلاقية (4).
4 ـ أما الرقص: فالإسلام يفرق فيه بين رقص المرأة ورقص الرجل. فالرقصات الشعبية التى يؤديها الرجال مثلاً لا ضير فيها ، وقد سمح النبى صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة بمشاهدة الأحباش وهم يرقصون فى يوم عيد.
ورقص المرأة أمام النساء لا حرج فيه. أما رقصها أمام الرجال فذلك لا يقره الإسلام لما فيه من محاذير كثيرة.
5 ـ أما التمثيل فإنه ليس حرامًا مادام فى إطار المبدأ الأخلاقى ، ولا ينكر أحد ما للتمثيل الهادف من دور فعال فى معالجة الكثير من المشكلات والقضاء على العديد من السلبيات فى المجتمع. ولا حرج أيضًا أن يشتمل التمثيل على ألوان من اللهو البرئ والترويح المقبول والترفيه الذى لا يخرج عن نطاق المعقول. وكذلك التصوير لا ضير فيه ، بل أصبح فى حياتنا المعاصرة يمثل فى أحيان كثيرة ضرورة لا غنى عنها.
6 ـ أما النحت أو التماثيل المجسمة فهناك نصوص واضحة فى تحريمها. ويرجع السبب فى تحريم الإسلام لذلك بالدرجة الأولى إلى ما يخشى من توقير هذه التماثيل أو عبادتها كما كان يفعل عباد الأصنام قديمًا.(7/25)
فإذا لم يكن ذلك واردًا على الإطلاق نظرًا لارتفاع درجة الوعى لدى الناس فلا ضرر منه ولا حرج فيه لانعدام سبب التحريم. غير أن الإسلام من باب سد الذرائع لا يريد أن يفتح هذا الباب لما يمكن أن يترتب عليه من محاذير فى أزمنة مستقبلية. فالإسلام يشرع لكل الأجيال ولمختلف العصور. وما يستبعد فى بيئة قد يقبل فى أخرى ، وما يعتبر مستحيلاً فى عصر قد يصبح حقيقة واقعة فى عصر آخر قريب أو بعيد.
(1) رواه مسلم فى كتاب الإيمان.
(2) انظر: الحجر: 16 ، النحل: 6 ، فصلت: 12.
(3) متفق عليه.
(4) راجع: الحلال والحرام فى الإسلام للدكتور القرضاوى ص 291 وما بعدها ـ الدوحة ، قطر 1978م ، والشيخ محمد الغزالى: مائة سؤال عن الإسلام ج1 ص 174 وما بعدها.
--------------------
171-ما أسباب تفرق المسلمين رغم دعوة الإسلام للوحدة ؟
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف
الرد على الشبهة:
1 ـ لا ينكر أحد أن الشعوب الإسلامية فى عصرنا الحاضر متفرقة ومتنازعة فيما بينها ، فهذا واقع ملموس لا يحتاج إلى برهان. ولكن هذا يُعد مرحلة فى تاريخ المسلمين شأنهم فى ذلك شأن بقية الشعوب والأمم الأخرى. ولا يعنى ذلك أنهم سيظلون كذلك إلى الأبد. وكما استطاعت الشعوب الأوروبية أن تتغلب على عوامل الفرقة والتنازع فيما بينها والتى أدت إلى حربين عالميتين شهدهما القرن العشرون ـ فإن الشعوب الإسلامية سوف تستطيع فى مستقبل الأيام أن تتغلب أيضًا على عوامل الفرقة فيما بينها ، والبحث عن صيغة ملائمة للتعاون المثمر من أجل مصلحة المجتمعات الإسلامية كلها.
وهناك محاولات مستمرة فى هذا الصدد وإن كانت بطيئة وذات تأثير محدود ومتواضع مثل منظمة المؤتمر الإسلامى التى تضم كل الدول الإسلامية ، إلا أنه يمكن تطوير العمل فى هذه المنظمة وغيرها من منظمات إسلامية أخرى للوصول بها إلى مرحلة متقدمة من التعاون الأوثق. وللأمة الإسلامية فى تعاليم الإسلام فى الوحدة والتعاون والتآلف والتكافل أعظم سند يضمن لها نجاح هذه المحاولات فى مستقبل الأيام.
2 ـ فالإسلام فى مصادره الأصلية يدعو إلى الوحدة والتضامن ويحذر من الفرقة والتنازع (واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ) (1) ، ويدعو إلى الشعور بآلام الآخرين والمشاركة فى تخفيفها ، ويجعل الأمة كلها مثل الجسد الواحد ـ كما يقول النبى صلى الله عليه وسلم ـ [ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ] (2). ويعتبر الإسلام رابطة العقيدة بمنزلة رابطة الأخوة: (إنما المؤمنون إخوة ) (3). وحينما هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار ، فأصبحوا إخوة متحابين متضامنين فى البأساء والضراء. وآيات القرآن وأحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك أكثر من أن تحصى.
3 ـ هناك أسباب خارجية كثيرة أدت إلى الانقسام والفرقة بين المسلمين فى العصر الحديث. وترجع هذه الأسباب فى قدر كبير منها إلى الفترة التى هيمن فيها الاستعمار على بلاد العالم الإسلامى. وعندما رحل ترك مشكلات عديدة كان هو سببًا فيها مثل مشكلات الحدود ، وكانت القاعدة التى على أساسها خطط لسياساته هى مبدأ: " فَرِّق تَسُد ". ومن هنا عمل على إحياء العصبيات العرقية بين شعوب البلاد المستعمَرة. وقام بنهب خيرات هذه البلاد ، وأدى ذلك إلى إفقارها وتخلفها الحضارى الذى لا تزال آثاره باقية حتى اليوم. ولا تزال معظم شعوب العالم الإسلامى تعانى من المشكلات التى خلفها الاستعمار.
4 ـ انشغل المسلمون بالمشكلات الكثيرة التى خلفها الاستعمار وغفلوا عن تعاليم الإسلام فى الوحدة والتضامن.
ولكن الشعوب الإسلامية لا تزال تحن إلى وحدة جهودها ، وتضامنها فيما بينها ، وتجميع قواها فى سبيل الخير لهذه الشعوب جميعها. ولا يزال المسلم فى أى بلد إسلامى يشعر بآلام المسلمين فىمناطق العالم المختلفة بوصفه جزءاً من الأمة الإسلامية. وهذا من شأنه أن يعمل على توفير أساس راسخ لمحاولات إعادة التضامن والوحدة بين أقطار العالم الإسلامى ، بمعنى توحيد الجهود والتكامل فيما بينها فى ميادين الثقافة والاقتصاد والسياسة والأمن ، وتبادل الخبرات والمنافع ، وكل ما يعود على المسلمين بالخير ، مما يجعلهم أقدر على القيام بدور فعّال فى ترسيخ قواعد السلام والأمن فى العالم كله.
(1) آل عمران: 103.
(2) رواه الإمام مسلم وغيره (راجع: فيض القدير ج5 ص 514 وما بعدها).
(3) الحجرات: 10.
------------------
172- هل الإسلام مسئول عن تخلف المسلمين ؟
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف
الرد على الشبهة:(7/26)
1 ـ حقائق التاريخ تبين بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام قد استطاع بعد فترة زمنية قصيرة من ظهوه أن يقيم حضارة رائعة كانت من أطول الحضارات عمرًا فى التاريخ. ولا تزال الشواهد على ذلك ماثلة للعيان فيما خلفه المسلمون من علم غزيز فى شتى مجالات العلوم والفنون ، وتضم مكتبات العالم آلافًا مؤلفة من المخطوطات العربية الإسلامية تبرهن على مدى ما وصل إليه المسلمون من حضارة عريقة. يضاف إلى ذلك الآثار الإسلامية المنتشرة فى كل العالم الإسلامى والتى تشهد على عظمة ما وصلت إليه الفنون الإسلامية.
وحضارة المسلمين فى الأندلس وما تبقى من معالمها حتى يومنا هذا شاهد على ذلك فى أوروبا نفسها.
وقد قامت أوروبا بحركة ترجمة نشطة فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر لعلوم المسلمين. وكان ذلك هو الأساس الذى بنت عليه أوروبا حضارتها الحديثة.
2 ـ يشتمل القرآن الكريم على تقدير كبير للعلم والعلماء وحث على النظر فى الكون ودراسته وعمارة الأرض. والآيات الخمس الأولى التى نزلت من الوحى الإلهى تنبه إلى أهمية العلم والقراءة والتأمل (1).
وهذا أمر كانت له دلالة هامة انتبه إليها المسلمون منذ البداية. وهكذا فإن انفتاح الإسلام على التطور الحضارى بمفهومه الشامل للناحيتين المادية والمعنوية لا يحتاج إلى دليل.
3 ـ أما تخلف المسلمين اليوم فإن الإسلام لا يتحمل وزره ، لأن الإسلام ضد كل أشكال التخلف. وعندما تخلف المسلمون عن إدراك المعانى الحقيقية للإسلام تخلفوا فى ميدان الحياة. ويعبر مالك بن نبى ـ المفكر الجزائرى الراحل ـ عن ذلك تعبيرًا صادقًا حين يقول: " إن التخلف الذى يعانى منه المسلمون اليوم ليس سببه الإسلام ، وإنما هو عقوبة مستحقة من الإسلام على المسلمين لتخليهم عنه لا لتمسكهم به كما يظن بعض الجاهلين ". فليست هناك صلة بين الإسلام وتخلف المسلمين.
4 ـ لا يزال الإسلام وسيظل منفتحًا على كل تطور حضارى يشتمل على خير الإنسان. وعندما يفتش المسلمون عن الأسباب الحقيقية لتخلفهم فلن يجدوا الإسلام من بين هذه الأسباب ، فهناك أسباب خارجية ترجع فى جانب كبير منها إلى مخلفات عهود الاستعمار التى أعاقت البلاد الإسلامية عن الحركة الإيجابية ، وهذا بدوره ـ بالإضافة إلى بعض الأسباب الداخلية ـ أدى أيضًا إلى نسيان المسلمين للعناصر الإيجابية الدافعة لحركة الحياة فى الإسلام.
5 ـ لا يجوز الخلط بين الإسلام والواقع المتدنى للعالم الإسلامى المعاصر. فالتخلف الذى يعانى منه المسلمون يُعد مرحلة فى تاريخهم ، ولا يعنى ذلك بأى حال من الأحوال أنهم سيظلون كذلك إلى نهاية التاريخ.
ولا يجوز اتهام الإسلام بأنه وراء هذا التخلف ، كما لا يجوز اتهام المسيحية بأنها وراء تخلف دول أمريكا اللاتينية.
إن الأمانة العلمية تقتضى أن يكون الحكم على موقف الإسلام من الحضارة مبنيًّا على دراسة موضوعية منصفة لأصول الإسلام وليس على أساس إشاعات واتهامات وأحكام مسبقة لا صلة لها بالحقيقة.
(1) العلق: 1ـ5.
-------------------
173- هل صحيح أن الصوم يقلل حركة الإنتاج ؟
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف
الرد على الشبهة:
1 ـ الصوم من العبادات التى لم ينفرد بها الإسلام. فقد أخبر القرآن الكريم أن الصوم كان مفروضًا أيضًا على الأمم السابقة: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) (1). ولا تزال هناك ديانات أخرى حتى يومنا هذا تَعرِف شعيرة الصوم. ولكن هناك فرقًا واضحًا بين الصوم فى الإسلام والصوم فى غيره من الديانات. ويتمثل هذا الفرق فى أن الصوم فى الإسلام يأتى فى شهر معين من العام طبقًا للتقويم الهجرى ، ويبدأ صيام كل يوم بالامتناع التام عن الطعام والشراب وعن كل الشهوات من طلوع الفجر حتى غروب الشمس. وهذا يعنى أن المسلم يقضى نهار يومه كله ـ وهو وقت العمل المعتاد ـ وهو صائم على النحو المشار إليه. ولعل هذا هو السبب الذى من أجله يتوهم البعض أن الصوم الإسلامى بهذه الطريقة يقلل حركة الإنتاج لدى الفرد والمجتمع.
2 ـ والصوم فى حقيقة الأمر برئ من هذه التهمة. فالصوم يفترض فيه أنه يعمل على تصفية النفوس والتسامى بالأرواح. وهذا من شأنه أن يمد الفرد بطاقة روحية تجعله أقدر على الإنتاج والعمل أكثر مما لو لم يكن صائمًا. وهذه الطاقة الروحية قوة لا يستهان بها. وقد حارب المسلمون فى غزوة بدر أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وهم صائمون وانتصروا ، وحارب الجنود المصريون عام 1973م وهم صائمون حيث كان ذلك فى شهر رمضان وانتصروا. ولم يقلل الصوم من نشاطهم ، بل كان العكس هو الصحيح تمامًا.(7/27)
3 ـ ما نراه فى بعض البلاد الإسلامية من قلة الإنتاج فى شهر الصوم يرجع إلى أسباب أخرى غير الصوم. فمن عادة الكثيرين أن يظلوا متيقظين فى شهر الصوم معظم الليل. ولا يأخذون قسطًا كافيًا من النوم ، فنجدهم ـ نظرًا لذلك ـ متعبين أثناء النهار. ومن هنا يقل إنتاجهم ، ويقبلون على أعمالهم ببطء وفى تثاقل. ويعتذرون عن ذلك بأنهم صائمون. وقد يكون اعتذارهم هذا فى أول النهار. فلو كان للصوم أى تأثير على النشاط ـ كما يزعمون ـ فإن ذلك لا يكون فى أول النهار ، بل يكون فى فترة متأخرة منه.
4 ـ لقد ثبت أن للصوم فوائد كثيرة صحية وروحية واجتماعية وتربوية. فالمفروض أنه فرصة سنوية للمراجعة والتأمل والتقييم والنقد الذاتى على المستويين الفردى والاجتماعى بهدف القضاء على السلبيات والتخلص من الكثير من الأمراض الاجتماعية ، وهذا من شأنه أن يدفع حركة المجتمع بخطى أسرع ، وبإخلاص أكثر ، وبوعى أفضل.
(1) البقرة: 183.
--------------------
174- هل صحيح أن الزكاة تتيح للغنى فرصة عند الله أفضل من فرصة الفقير ؟
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف
الرد على الشبهة:
1 ـ تُعد الزكاة فى الإسلام أول ضريبة نظامية فى تاريخ الاقتصاد فى العالم. فالذى كان يحدث قبل ذلك هو أن الحكام كانوا يفرضون الضرائب حسب أهوائهم ، وبقدر حاجتهم إلى الأموال تحقيقًا لأغراضهم الشخصية. وكان عبء هذه الضرائب يقع على كاهل الفقراء أكثر مما يقع على كاهل الأغنياء ، أو يقع على كاهل الفقراء وحدهم. ولما جاء الإسلام وفرض الزكاة قام بتنظيم جمعها وحدد لها نسبة معينة ، وجعلها تقع على عاتق الأغنياء والمتوسطين ، وأعفى منها الفقراء (1). وتشريع الزكاة ليس فقط نظامًا ماليًّا ، وإنما هو فى الوقت نفسه عبادة كالصلاة والصيام والحج ، يؤديها المسلم القادر على دفعها ، ليس خوفًا من السلطة التنفيذية ، ولكن تقربًا إلى الله واستجابة لتعاليم دينه.
2 ـ شعر الفقراء فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم بعجزهم عن أداء الزكاة مثل الأغنياء. ورأوا أن هذا من شأنه أن يعطى للأغنياء ميزة الحصول على الثواب من الله بأدائهم للزكاة وحرمان الفقراء من هذا الثواب مع أنه لا ذنب لهم فى فقرهم. وقام الفقراء بعرض ما يشعرون به على النبى صلى الله عليه وسلم ، فأوصاهم بالتسبيح والتحميد والتكبير (أى بقول سبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر) ثلاثًا وثلاثين مرة عقب كل صلاة ، وبين لهم أن هذا من شأنه أن يرفع من درجاتهم عند الله ويجعل منزلتهم عنده لا تقل عن منزلة الأغنياء الذين يؤدون الزكاة (2).
3 ـ المعيار الذى اعتمده القرآن فى المفاضلة بين الناس بصفة عامة هو معيار التقوى والعمل الصالح كما جاء فى القرآن الكريم: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (3). والتقوى مفهوم عام يشمل كل عمل يقوم به الإنسان ـ أيًّا كان هذا العمل دينيًا أم دنيويًا ـ طالما قصد به وجه الله ونفع الناس ودفع الأذى عنهم.
فالقرب من الله لا يتوقف على أداء الزكاة أو غيرها من الشعائر الإسلامية فحسب ، بل يتوقف أيضًا على التوجه العام من جانب الإنسان فى كل ما يقوم به فى حياته من أعمال ، وما يصدر عنه من سلوك وما يخرج من فمه من أقوال. والإسلام يعلق أهمية كبيرة على النية. فالأعمال بالنيات كما يقول النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ] (4). وهذا يعنى أن الفقير الذى لا يستطيع إخراج الزكاة ويتمنى أن لو كان لديه مال ليزكى به فإنه يثاب على هذه النية مادامت صادقة. وقد يُخرج الغنى الزكاة ويقصد من وراء ذلك التظاهر أمام الناس والحصول على مكانة بينهم فلا يثاب على ذلك بشىء.
(1) راجع: محمد قطب: شبهات حول الإسلام ـ ص91 ـ مكتبة وهبة سنة 1960م.
(2) فتح البارى بشرح صحيح البخارى ج2 ص 325 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقى. المطبعة السلفية.
(3) الحجرات: 13.
(4) البخارى. باب الوحى رقم 1 ، والإيمان 41 ، والنكاح 5 ، والطلاق 11 ، والترمذى فضائل الجهاد 16 ، والنسائى طهارة 59.
-------------------
175-لماذا حرّم الإسلام أكل لحم الخنزير ؟
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف
الرد على الشبهة:
1 ـ لم يكن الإسلام أول الأديان التى حرمت أكل لحم الخنزير. فالديانة اليهودية تحرِّم أكل لحم الخنزير.
ولا يوجد حتى الآن يهودى فى أوروبا وأمريكا يأكل لحم الخنزير إلا فيما ندر. ولم يعب أحد على اليهود ذلك ، بل يحترم الغرب العادات الدينية لليهود. وعندما جاء السيد المسيح ـ عليه السلام ـ صرح ـ كما جاء فى الإنجيل ـ بأنه لم يأت لينقض الناموس بل ليكمله ، أى أنه لم يأت ليغير التشريعات اليهودية.
ومن بينها بطبيعة الحال تحريم أكل لحم الخنزير. والأمر المنطقى بناء على ذلك أن يكون الخنزير محرمًا فى المسيحية أيضًا (1).(7/28)
2 ـ عندما جاء الإسلام حرّم أيضًا أكل لحم الخنزير. وهذا التحريم امتداد لتحريمه فى الديانات السماوية السابقة. وقد نص القرآن الكريم عليه صراحة فى أربعة مواضع (2). وهناك من ناحية أخرى ـ بجانب هذا التحريم الدينى ـ أسباب ومبررات أخرى تؤكد هذا التحريم. ومن ذلك ما أثبته العلماء المسلمون من أن أكل لحم الخنزير ضار بالصحة ولا سيما فى المناطق الحارة. وفضلاً عن ذلك فإن الآيات القرآنية التى ورد فيها تحريم لحم الخنزير قد جمعت هذا التحريم مع تحريم أكل الميتة والدم. وضرر أكل الميتة والدم محقق لما يتجمع فيهما من ميكروبات ومواد ضارة ، مما يدل على أن الضرر ينسحب أيضًا على أكل لحم الخنزير.
وإذا كانت الوسائل الحديثة قد تغلبت على ما فى لحم الخنزير ودمه وأمعائه من ديدان شديدة الخطورة (الدودة الشريطية وبويضاتها المتكلسة) فمن الذى يضمن لنا بأنه ليست هناك آفات أخرى فى لحم الخنزير لم يكشف عنها بعد ؟ فقد احتاج الإنسان قرونًا طويلة ليكشف لنا عن آفة واحدة. والله الذى خلق الإنسان أدرى به ويعلم ما يضره وما ينفعه. ويؤكد لنا القرآن هذه الحقيقة فى قوله: (وفوق كل ذى علم عليم ) (3).
3 ـ يحسب الإسلام حساب الضرورات فيبيح فيها المحرمات. وفى ذلك قاعدة مشهورة تقول: " الضرورات تبيح المحظورات ". ومن هنا فإن المسلم إذا ألجأته الضرورة الملحة ـ التى يخشى منها على حياته ـ لتناول الأطعمة المحرمة ومنها الخنزير فلا حرج عليه. كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ) (4). ولكن هذه الإباحة لا يجوز أن تتعدى حدود تلك الضرورة وإلا كان المسلم آثماً.
(1) راجع: الحلال والحرام للدكتور القرضاوى ص42 ـ قطر 1978م.
(2) البقرة: 173 ، والمائدة: 3 ، والأنعام: 145 ، والنحل: 115 (3) يوسف: 76.
(4) البقرة: 173.
---------------------
176- لماذا حرّم الإسلام الحرير والذهب على الرجال ؟
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف
الرد على الشبهة:
1 ـ يعتمد القول بتحريم لبس الحرير والتختم بالذهب للرجال فى الإسلام على العديد من المرويات عن النبى صلى الله عليه وسلم ـ كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء ـ وتتلخص وجهة نظرهم فى أن من طبيعة الرجل الصلابة والقوة. والإسلام يريد أن يتربى الرجال بعيدًا عن مظاهر الضعف ، وبعيدًا أيضًا عن مظاهر الترف الذى يحاربه الإسلام ويعده مظهرًا من مظاهر الظلم الاجتماعى ، وذلك حتى يكون الرجل قادرًا على الكفاح والانتصار فى معارك الحياة وميادين القتال أيضًا إذا اقتضى الأمر. ولما كان التزين بالذهب وارتداء الحرير يُعدان من مظاهر الترف فقد حرمهما الإسلام على الرجال. ولكنه أباحهما للمرأة مراعاة لمقتضى أنوثتها وما فطرت عليه من حب للزينة (1).
2 ـ وعلى الرغم من هذا التحريم فإنه إذا كانت هناك ضرورة صحية تقضى بلبس الرجل للحرير فإن الإسلام يبيح له ذلك ولا يمنعه. فقد أذن النبى صلى الله عليه وسلم لكل من عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام فى لبس الحرير لأنهما كانا يشكوان من حكة فى جسمهما (2).
3 ـ وقد ذهب الإمام الشوكانى (توفى حوالى عام 1840م) فى كتابه الشهير " نيل الأوطار " إلى القول بأن أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى النهى عن لبس الحرير تدل على الكراهية فقط وليس على التحريم. والكراهية هنا درجة أخف من التحريم. ويقوى الشوكانى رأيه هذا بأن هناك ما لا يقل عن عشرين صحابيًّا منهم أنس والبراء بن عازب قد لبسوا الحرير. ومن غير المعقول أن يقدم هؤلاء الصحابة على ما هو محرّم ، كما يبعد أيضًا أن يسكت عنهم سائر الصحابة وهم يعلمون تحريمه (3).
4 ـ أما التختم بالذهب أى اتخاذه كخاتم ونحوه للرجال فقد ذهب جمهور العلماء إلى تحريمه أيضًا اعتمادًا على بعض الأحاديث النبوية. ولكن هناك جماعة من العلماء ذهبوا إلى القول بكراهة التختم بالذهب للرجال كراهة تنزيه فقط. وكراهة التنزيه بعيدة عن التحريم وقريبة من الإباحة أو الجواز ، واعتمدوا فى ذلك أيضًا على أن هناك عددًا من الصحابة قد تختموا بالذهب منهم سعد بن أبى وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، وصهيب ، وحذيفة ، وجابر بن سمرة ، والبراء بن عازب. الذين فهموا أن النهى للتنزيه وليس للتحريم (4).
(1) راجع: الحلال والحرام فى الإسلام للدكتور القرضاوى ص 80 وما بعدها ـ الدوحة ـ قطر 1978م.
(2) راجع: نيل الأوطار للشوكانى ج2 ص81 ـ دار الجيل ، بيروت 1973م.
(3) نيل الأوطار ج2 ص73 وما بعدها. راجع أيضًا: فقه السنة للشيخ سيد سابق ج3 ص 481 وما بعدها. بيروت 1971م.
(4) راجع: فقه السنة للشيخ سيد سابق ـ المجلد الثالث ص 482 وما بعدها ، 488 وما بعدها.
---------------------
177-
178-
179-
180-
==================
الباب السابع -الاحتفال بالمولد النبوي
1. ... منهج أهل السنة في تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -(7/29)
لربنا تبارك وتعالى أرفع القدر وأعظم الشأن؛ فله العظمة الكاملة التي تتجلى في ذاته وصفاته وأفعاله، في خلقه وأمره، في الآفاق والأنفس، أنَّى نظرت في خلقه رأيت ما يبهر العقول ويزيد الإيمان، ومهما تلوت من آي كتابه العظيم وقفت على دلائل عظمته، وأدلة قَدْره سبحانه. خضعت لعظمة ربي عز وجل المخلوقات، وذلت لجبروته الأرض والسماوات، واشتد نكيره تعالى على من أخل بتعظيمه، فقال سبحانه:{ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. فحقٌ على من عرف قدر الله وأراد تعظيمه أن يعظم ما عظمه - تعالى - قياماً بحقه من التوحيد والعبادة، وقياماً بحق كتابه وحق رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وغير خاف على مسلم صادق في إسلامه تلك المنزلة الرفيعة التي حباها ربنا تعالى لصفوة خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله حبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فإلى شيء من جوانب تلك العظمة، وهدي السابقين والتابعين لهم بإحسان في تعظيمه -صلى الله عليه وسلم-... ذلك الحديث الذي تنشرح له صدور المؤمنين الصادقين، وتتطلع إليه نفوسهم، ويتمنون أن لو اكتحلت أعينهم برؤية حبيبهم صلى الله عليه وسلم؛ وتشنفت آذانهم بسماع صوته.
المراد بالتعظيم:
قال الله تعالى: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلاً} [الفتح:8،9]. فذكر تعالى: حقاً مشتركاً بينه وبين رسوله صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان، وحقاً خاصاً به تعالى وهو التسبيح، وحقاً خاصاً بنبيه صلى الله عليه وسلم وهو التعزير والتوقير.
وحاصل ما قيل في معناهما أن: التعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه. والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار. وهذه المعاني هي المراد بلفظ التعظيم عند إطلاقه، فإن معناه في اللغة: التبجيل، يقال: لفلان عظمة عند الناس: أي حرمة يعظم لها، ولفظ التعظيم وإن لم يرد في النصوص الشرعية، إلا أنه استعمل لتقريب المعنى إلى ذهن السامع بلفظ يؤدي المعنى المراد من التعزير والتوقير. والتعظيم أعلى منزلة من المحبة، لأن المحبوب لا يلزم أن يكون معظماً، كالولد يحبه والده محبة تدعوه إلى تكريمه دون تعظيمه، بخلاف محبة الولد لأبيه، فإنها تدعوه إلى تعظيمه. والرجل يعظم لما يتمتع به من الصفات العلية، ولما يحصل من الخير بسببه، أما المحبة فلا تحصل إلا بوصول خير من المحبوب إلى من يحبه.
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم سيرة وخُلقاً:
لقد حبا الله تبارك وتعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم من الخصائص القوية والصفات العلية والأخلاق الرضية ما كان داعياً لكل مسلم أن يجله ويعظمه بقلبه ولسانه وجوارحه.
وقد كان لأهل السنة والجماعة قدم صدق في العناية بجمع خصائصه، وإبراز فضائله والإشادة بمحاسنه، فلم يخل كتاب من كتب السنة كالصحاح والسنن وغيرها من كتب مخصصة لم يخل من ذكر مآثره، كما أُفردت كتب مستقلة للحديث عنه وعن سيرته.(7/30)
وقد اختار الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم اسم (محمد) المشتمل على الحمد والثناء؛ فهو صلى الله عليه وسلم محمود عند الله تعالى، ومحمود عند ملائكته، ومحمود عند إخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام ومحمود عند أهل الأرض كلهم، وإن كفر به بعضهم؛ لأن صفاته محمودة عند كل ذي عقل وإن كابر وجحد؛ فصدق عليه وصفه نفسه حين قال: « أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، بيدي لواء الحمد، تحته آدم فمن دونه ». وقد أغاث الله تعالى به البشرية المتخبطة في ظلمات الشرك والجهل والخرافة، فكشف به الظلمة، وأذهب الغمة، وأصلح الأمة، وصار هو الإمام المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم، فهدى الله به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به أعينا عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وكثَّر به بعد القلة، وأعزَّ به بعد الذلة، وأغنى به بعد العيلة. عرّف الناسَ ربَّهم ومعبودهم غاية ما يمكن أن تناله قواهم من المعرفة، ولم يدع لأمته حاجة في هذا التعريف، لا إلى من قبله، ولا إلى من بعده، بل كفاهم، وشفاهم، وأغناهم عن كل من تكلم في هذا الباب:{أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51]، وعرفهم الطريق الموصلة إلى ربهم ورضوانه ودار كرامته، ولم يدع صلى الله عليه وسلم حسناً إلا أمر به، ولا قبيحاً إلا نهى عنه. وعرفهم حالهم بعد القدوم على ربهم أتم تعريف، فكشف الأمر وأوضحه، ولم يدع باباً من العلم النافع للعباد المقرب لهم إلى ربهم إلا فتحه، ولا مشكلاً إلا بينه وشرحه، حتى هدى به القلوب من ضلالها، وشفاها به من أسقامها، وأغاثها به من جهلها، فأي بشر أحق بأن يُحب؟ جزاه الله عن أمته أفضل الجزاء.
وقد وصف النبيَّ صلى الله عليه وسلم عدد من أزواجه وأصحابه كخديجة وعائشة، وأنس، وابن عباس، وعلي، وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم، ولما كان المقصود الإشارة إلى ذلك دون الاستقصاء آثرت نقل كلام ابن القيم الجامع لأوصافه، تحاشياَ للإطالة وكثرة التخاريج.
قال ابن القيم: (ومما يحمد عليه صلى الله عليه وسلم ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، فإن من نظر في أخلاقه وشيمه صلى الله عليه وسلم علم أنها خير أخلاق الخلق، وأكرم شمائل الخلق، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أعظم الخلق، وأعظمهم أمانة، وأصدقهم حديثاً، وأجودهم وأسخاهم، وأشدهم احتمالاً، وأعظمهم عفواً ومغفرة، وكان لا يزيد شدة الجهل عليه إلا حلماً، كما روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: (محمد عبدي ورسولي سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخَّاب بالأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، وأفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً).
وأرحم الخلق وأرأفهم بهم، وأعظم الخلق نفعاً لهم في دينهم ودنياهم، وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبداً عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد، وأصبرهم في مواطن الصبر، وأصدقهم في مواطن اللقاء، وأوفاهم بالعهد والذمة، وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه، وأشدهم تواضعاً، وأعظمهم إيثاراً على نفسه، وأشد الخلق ذبَّاً عن أصحابه، وحماية لهم، ودفاعاً عنهم، وأقوم الخلق بما يأمر به، وأتركهم لما ينهى عنه، وأوصل الخلق لرحمه، فهو أحق بقول القائل: بَرْدٌ على الأدنى ومرحمةٌ وعلى الأعادي مارنٌ جَلْدُ بواعث تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم: يدعو المسلم إلى ذلك أمور عدة، منها:
1- تعظيم العظيم سبحانه وتعالى، لأنه عظم نبيه صلى الله عليه وسلم؛ حيث أقسم بحياته في قوله:{لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الحجر: 72]. كما أثنى عليه فقال:{وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقال:{ورَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]، فلا يُذكر بشر في الدنيا ويثنى عليه كما يُذكر النبي صلى الله عليه وسلم ويثنى عليه.(7/31)
2- أن من شرط إيمان العبد أن يعظم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الغرض من بعثته صلى الله عليه وسلم. قال تعالى:{إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلاً} [الفتح: 8، 9]، قال ابن القيم: (وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما تجوز تبعاً لمحبة الله وتعظيمه، كمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه، فإن أمته يحبونه لمحبة الله له، ويعظمونه ويجلونه لإجلال الله له؛ فهي محبة لله من موجبات محبة الله، وكذلك محبة أهل العلم والإيمان ومحبة الصحابة رضي الله عنهم وإجلالهم تابع لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم). بل الأمر كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(إن قيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله).
3- ما ميزه الله تعالى به - مما سبق ذكره - من شرف النسب، وكرم الحسب، وصفاء النشأة، وأكمل الصفات والأخلاق والأفعال.
4- ما تحمله صلى الله عليه وسلم من مشاق نشر الدعوة، وأذى المشركين بالقول والفعل حتى أتم الله به الدين وأكمل به النعمة. مع الصحابة في تعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتوقيرهم له في حياته: نال الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين شرف لقاء النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لهم النصيب الأوفى من توقيره وتعظيمه مما سبقوا به غيرهم، ولم، ولن يدركهم من بعدهم، ثم شاركوا الأمة في تعظيمه بعد موته صلى الله عليه وسلم. كان شأنهم في توقيره أوضح وأظهر من أن يستدل عليه، وأجمل من وصف شأنهم في ذلك عروة ابن مسعود الثقفي رضي الله عنه حين فاوض النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، فلما رجع إلى قريش قال:(أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخمَّ نخامةً إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون النظر إليه تعظيمًا له).!
وقد وُصف الصحابة حال جلوسهم واستماعهم للنبي صلى الله عليه وسلم بوصف عجيب جاء في أحاديث عدة، منها قول أبي سعيد الخدري: وسكت الناس كأن على رؤوسهم الطير. وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه:(وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه).
ولما زار أبو سفيان ابنته أم حبيبة رضي الله عنها في المدينة، ودخل عليها بيتها، ذهب ليجلس على فراش رسول الله؛ فطوته، فقال: يا بنية! ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أو رغبت به عني؟ فقالت:(هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه). ومن شدة حرص الصحابة على إكرامه وتجنب إيذائه قول أنس بن مالك:(إن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير).
ولما نزل قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]، قال ابن الزبير:(فما كان عمر يُسمِع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه)، وكان ثابت بن قيس جهوري الصوت يرفع صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم فجلس في بيته منكساً رأسه يرى أنه من أهل النار بسبب ذلك، حتى بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
وللمحدثين نصيب:(7/32)
للمحدثين رحمهم الله ورضي عنهم منهج رصين ورصيد ثري وإسهام قوي في إجلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوقير مجلس الحديث، والتحفز لاستباق العمل به، تعظيماً له وهذه بعض الشواهد: حدث عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فكان مما قال: وما سمعته قط يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة، فنظرت إليه وقد حل إزاره وانتفخت أوداجه، واغرورقت عيناه، فقال:(أو نحو ذلك أو دون، أو قريباً من ذلك، أو شبه ذلك). وجعفر بن محمد، ومالك بن أنس، والأعمش، بل قد صار ذلك مستحباً عندهم، وكرهوا خلافه. قال ضرار بن مرة:(كانوا يكرهون أن يحدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على غير وضوء). قال إسحاق: فرأيت الأعمش إذا أراد أن يتحدث وهو على غير وضوء تيمم. وكان مالك يلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويأخذ زينته للتحديث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن أبي الزناد: كان سعيد بن المسيب - وهو مريض - يقول:(أقعدوني؛ فإني أكره أن أحدث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع). ومرّ مالك بن أنس على أبي خازم وهو يحدث فجازه، وقال:(إني لم أجد موضعاً أجلس فيه، فكرهت أن آخذ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا قائم). وكان محمد بن سيرين يتحدث فيضحك، فإذا جاء الحديث خشع. وقال سعيد بن عامر:(كنا عند هشام الدستوائي فضحك رجل منا فقال له هشام الدستوائي: تضحك وأنت تطلب الحديث؟!)..
كيف نعظم النبي صلى الله عليه وسلم؟
إن الأمر بتوقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه يعني أن ذلك عبادة لله عز وجل وقربة إليه سبحانه والعبادة التي أرادها الله تعالى ويرضاها من العبد هي ما ابتغي به وجهه، وكان على الصفة التي شرعها في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم. فأما الإخلاص في الأعمال وابتغاء وجه الله فيها فهو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن معناها لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى. وأما متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فهي مقتضى الشهادة بأن محمداً رسول الله، ولازم من لوازمها؛ إذ معنى الشهادة له بأنه رسول الله حقاً:(طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع).
وهذا كمال التعظيم، وغاية التوقير. وأي تعظيم أو توقير للنبي صلى الله عليه وسلم لدى من شك في خبره، أو استنكف عن طاعته، أو ارتكب مخالفته، أو ابتدع في دينه وعبد الله من غير طريقه؟! ولذا اشتد نكير الله تعالى على من سلكوا في العبادة سبيلاً لم يشرعها، فقال:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاًذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وقال صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، أي مردود عليه.
ثم العبادة محلها القلب واللسان والجوارح:
ويتحقق تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بالقلب بتقديم محبته على النفس والوالد والولد والناس أجمعين؛ إذ لا يتم الإيمان إلا بذلك، ثم إنه لا توقير ولا تعظيم بلا محبة. وإنما يزرع هذه المحبة معرفته لقدره ومحاسنه صلى الله عليه وسلم. وإذا استقرت تلك المحبة الصادقة في القلب كان لها لوازم هي في حقيقتها مظاهر للتعظيم ودلائل عليه، ومن صور ذلك التعظيم: الثناء عليه صلى الله عليه وسلم بما هو أهله، وأبلغ ذلك ما أثنى عليه ربه عز وجل به، وما أثنى هو على نفسه به، وأفضل ذلك: الصلاة والسلام عليه؛ لأمر الله عز وجل وتوكيده:{إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]، وهذا إخبار من الله تعالى: (بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا)، وصلاة المؤمنين عليه هي الدعاء طلباً للمزيد من الثناء عليه. والصلاة عليه مشروعة في عبادات كثيرة كالتشهد والخطبة وصلاة الجنازة وبعد الأذان وعند الدعاء وغيرها من المواطن. وأفضل صيغها: ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قالوا: أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد».(7/33)
وغير خاف عليك ما في الصلاة عليه من الفوائد والثمرات من كونها سبباً لحصول الحسنات، ومحو السيئات، وإجابة الدعوات، وحصول الشفاعة، وصلاة الله على العبد، ودوام محبة النبي صلى الله عليه وسلم وزيادتها، والنجاة من البخل. ومن تعظيمه: التأدب عند ذكره صلى الله عليه وسلم بأن لا يذكر باسمه مجرداً، بل يوصف بالنبوة أو الرسالة، وهذا كما كان أدباً للصحابة رضي الله عنهم في ندائه فهو أدب لهم ولغيرهم عند ذكره، فلا يقل: محمد، ولكن: نبي الله، أو الرسول، ونحو ذلك.
وهذه خصيصة له في خطاب الله في كتابه الكريم دون إخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلم يخاطبه تعالى قط باسمه مجرداً، وحين قال:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ}[الأحزاب: 40] قال بعدها:{ولَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}. يجيء التوجيه إلى هذا الأدب في قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً}[النور: 63].
ومنه: الإكثار من ذكره، والتشوق لرؤيته، وتعداد فضائله وخصائصه ومعجزاته ودلائل نبوته، وتعريف الناس بسنته وتعليمهم إياها، وتذكيرهم بمكانته ومنزلته وحقوقه، وذكر صفاته وأخلاقه وخلاله، وما كان من أمور دعوته وسيرته وغزواته، والتمدح بذلك شعراً ونثراً.
وأسعد الناس حظاً بذلك: المحدثون والمشتغلون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. والشرط في ذلك: كونه في حدود المشروع، وسطاً بين الجفاء وبين الغلو والإطراء. استشعار هيبته صلى الله عليه وسلم ولجلالة قدره وعظيم شأنه، واستحضاره لمحاسنه ومكانته ومنزلته، والمعاني الجالبة لحبه وإجلاله وكل ما من شأنه أن يجعل القلب ذاكراً لحقه من التوقير والتعزير، ومعترفاً به ومذعناً له، فالقلب ملك الأعضاء، وهي جند له وتبع، فمتى ما كان تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم مستقراً في القلب مسطوراً فيه على تعاقب الأحوال فإن آثار ذلك ستظهر على الجوارح حتماً لا محالة.
وحينئذ سترى اللسان يجري بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وترى باقي الجوارح ممتثلة لما جاء به ومتبعة لشرعه وأوامره، ومؤدية لماله من الحق والتكريم. وبرهان التعظيم الصادق هو تعظيم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الشريعة المتضمنة في الكتاب والسنة كما فهمها سلف الأمة، وذلك باتباعها والتزامها قلباً وقالباً، وتحكيمها في كل مناحي الحياة وشؤونها الخاصة والعامة؛ ومحال أن يتم الإيمان بدون ذلك:{ويَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالرَّسُولِ وأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ ومَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}[النور:47]..
فإن هذا هو مقتضى التعظيم الحقيقي والتوقير الصادق؛ إذ العبرة بالحقائق لا بالمظاهر والأشكال الجوفاء، ولذا قدم الله عز وجل هذا الأدب العظيم على سائر الآداب الواجبة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى عن التقدم بين يديه بأمر دون أمره أو قول دون قوله، بل يكونون تبعاً لأمره منقادين له مجتنبين نهيه، فقال في أول سورة الحجرات:{يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]. ومن التقدم بين يديه: تقديم القوانين والتشريعات البشرية على شريعته، أو تفضيل حكم غيره على حكمه أو مساواته به، أو التزام منهج مخالف لهديه وسنته:{فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
وأسعد الناس حظاً بسنته وأقربهم إلى الشرب من حوضه: أهل السنة والجماعة، فهم من أحيوا سنته واتبعوا شريعته وهديه. ومن توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم توقيره في آله، ومنهم أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين ورعاية وصيته بهم بمعرفة فضلهم ومنزلتهم وشرفهم بقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة على إيمانهم، وبحفظ حقوقهم والقيام بها، فهم أشرف آل على وجه الأرض، وأزواجه أمهات المؤمنين الطاهرات، قال الله تعالى:{إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33]، وقد أوجب الله الصلاة عليهم تبعاً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد في الصلاة.
ومنه: توقيره في سائر صحبه رضي الله عنهم جميعاً فإنهم خيرة الناس بعد الأنبياء، وخيرة الله لصحبة نبيه، وهم حماة المصطفى صلى الله عليه وسلم والأمناء على دينه وسنته وأمته، وذلك بمعرفة فضلهم، ورعاية حقوقهم، فإن الطعن فيهم أو تنقُّصهم عنوان الزندقة. ومنه: الأدب في مسجده، وكذا عند قبره، وترك اللغط ورفع الصوت، ولذا أنكر عمر رضي الله عنه على من رفع صوته فيه. فقال للرجلين:(ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟! لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً).(7/34)
ومن تعظيمه: حفظ حرمة بلده المدينة النبوية؛ فإنها مهاجره، ودار نصرته، وبلد أنصاره، ومحل إقامة دينه، ومدفنه، وفيها مسجده خير المساجد بعد المسجد الحرام. والمقصود من تعظيم المدينة هو تعظيم حرمها، وهذا أمر واجب في حق من سكن بها أو دخل فيها، مع ما يجب على ساكنيها من مراعاة حق المجاورة وحسن التأدب فيها، وذلك لما لها من المنزلة والمكانة عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم فيتأكد فيها العمل الصالح وتعظم فيها السيئة؛ لشرف المكان.
صور من البخس:
بعد هذه الجولة الماتعة مع حق عظيم للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يسوغ أبداً لمنتسب إلى السنة أن يجفو في حق نبيه صلى الله عليه وسلم فيخل بما يجب له من الإجلال والتوقير والتعظيم. ومن صور الإخلال: التقصير في معرفته أو معرفة سيرته وهديه أو فهم سنته أو الإخلال في تطبيقها غلواً أو جفاء. ومنها: إساءة العمل والتقصير في الصالحات، وخاصة ممن ينتسب لآل بيته الكرام. ومن العجيب مع تأكد هذا الحق العظيم أن يقع التعرض بسوء للمؤمنين الصادقين من آل البيت! وأعجب منه سب صحابته والنيل من أزواجه الطاهرات! وأكبر منها الإساءة إلى ذات النبي صلى الله عليه وسلم، والجرأة على نقده ولمز شريعته في ديار المسلمين!! ثم أين هو من دين النبي صلى الله عليه وسلم من يستبدل شريعته بقوانين البشر، أو يهزأ من هديه، أو يتعالى على سنته؟!
وبعد: يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! هل عظَّم نبيكم وحبيبكم صلى الله عليه وسلم من حلف به مع أنه صلى الله عليه وسلم يقول:«من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت»، ويقول:«من حلف بغير الله فقد أشرك»؟! وهل عظَّمه من توسل بذاته مع أن الصحابة توسلوا بدعائه لا بذاته، كما في حديث عمر حين طلب من العباس الدعاء والاستسقاء والنبي صلى الله عليه وسلم عندهم في قبره؟! وهل عظَّمه من توجه إليه طالباً منه الشفاعة مع أن الله عز وجل بين للأمة أن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه تعالى ورضاه، وأمر من أراد الشفاعة بطلبها بطاعته؟! وهل عظمه من استغاث به مع أنه بشر لا يملك من أمره شيئا؟! أليس هذا تنكراً لمحبته وتعدياً لشرعه وعصياناً لأمره؟ حيث قال:«لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله»؟!
وهل من تعظيمه الابتداع في دينه، والزيادة في شريعته من التمسح بحجرته أو الاحتفال بمولده بعد اتفاقنا على نصحه لأمته ودلالتها على كل حسن؟! فأي حسن في عمل احتفالات ساعات أو أيام ثم التقصير والإهمال في سائر العام؟! وأي حسن في الاحتفال بزمن توفي فيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؟! وأي حسن في مشابهة دين النصارى المفتونين بالاحتفالات؟! وأي حسن في التعدي على فقه الفاروق حين أرَّخ بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم رمز انتصار دينه، ولم يؤرخ بمولده ووفاته، تقديماً للحقائق والمعاني على الطقوس والأشكال؟! وأي حسن في تجديد دين الدولة العبيدية الباطنية الحاقدة التي ابتدعت ذلك الاحتفال؟! وأي حسن في عمل لم يشرعه الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله أنصاره وحماة دينه وحملة رسالته رضي الله عنهم؟ أليسوا أصدق الناس حباً له؟! أليس فقه الراشدين وفهمهم وسنتهم مما أوصاكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم قائلا: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ؟! أليس فعل المولد مخالفة لأمره: وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة؟!
فأي تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الموالد التي صارت ركباً للمدعين، وحجة للبطالين؟! ألا ترون المولد بعد هذا تقصيراً في حق حبيبنا صلى الله عليه وسلم وظلماً له؟! اللهم اجعلنا من المعظمين رسولنا -صلى الله عليه وسلم- حق التعظيم المتبعين شرعه، السائرين على دربه، المهتدين بهديه، اللهم أحينا على سنته، ولا تحرمنا من مرافقته في الجنة.. آمين.
----------------
2. ... في ذكرى المولد النبوي
خباب بن مروان الحمد
المقدمة
المبحث الأول: في حكم الاحتفال بذكرى مولد محمد صلى الله عليه وسلم
المبحث الثاني : ذكر أقوال لأهل العلم فيه.
المبحث الثالث : شبهات وردود.
المقدمة
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى الله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين.. أما بعد:
أخي المسلم.. أختي المسلمة..(7/35)
في مثل هذه الأيام يحتفل فئام من البشر بيوم مولد محمد صلى الله عليه وسلم، وهم من وقت ليس ببعيد يعدون العدة ويجهزون الأجهزة استعداداً للاحتفال لهذا اليوم، فالأضواء قد علقت في أعمدة الشوارع، والبيوت قد زينت بالزهور والورود، والحلويات قد أصبح لها سوق رائجة للبيع، وبعض الأمكنة استئجرت حتى يُفْعَل بها هذا الاحتفال، والمعازف والطبول والدفوف وأشياء كثيرة كثيرة قد نُفِضَ عنها الغبار استعداداً لذكرى المولد النبوي!!
فهل فعل هذا من الأمور التي ترضي الرب تبارك وتعالى؟ وما هو حكمه؟ وهل فعله السلف أو أقروه؟ إلى غير ذلك من الأشياء التي سأطرقها في هذا البحث اليسير.
وقبل أن أصول وأجول في ثنايا هذا البحث فإني سأذكر مقدمة يسيرة نافعة بإذن الله عز وجل لمن أراد الله هدايته وأبعده عن أسباب شقاوته، كلها من سلسبيل القرآن ومشكاة الحديث والسنة، فهما المنهل العذب الزلال على قلوب أهل الإيمان، والصواعق المردية لأهل الكفر والضلال.
فهذه مقدمة نافعة في الأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة، ووجوب طاعة الله ورسوله، وأن مرجع أهل السنة والجماعة في استدلالهم هو كتاب الله وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام لا إلى آراء الناس وعقول المشايخ، نقول فيها:
يا مَن يقرأ هذا الكلام المزبور والخط المسطور، قد أنزل الله علينا هذا القرآن ليكون الهادي لنا في ظلمات الحياة، ومنيراً للصراط المستقيم، وقائداً يدعو البشرية جمعاء إلى جنة خلد أعدت للمؤمنين. وقد ذكر الله عز وجل في هذا الكتاب العظيم آيات كثيرة بلغت ثلاثاً وثلاثين آية كما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل ـ قدس الله روحه ـ كلها في الأمر والحث على طاعة الله ورسله والتمسك بغرز القرآن والسنة فقد قال تعالى {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعض الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا} [الأحزاب: 36].
فقد ذكر الله أنه لا يكون للمؤمنين إذا قضى الله ورسوله عليهم أي أمر، وتأمل هنا قوله تعالى {أمراً} فهي نكرة في سياق النفي فهي تعم كل أمر، فإذا قضى الله ورسوله أي أمر لا يكون لهم أن يتخيروا من أمرهم هذا غير الذي قضى فيهم ثم ذكر الله عزل وجل أن من عصى الله ورسوله فهو في ضلال بعيد؛ لأنه يأبى ما قضاه الله ورسوله عليه وخالف أمرهما.
وقال تعالى {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون* ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون} [النور: 51 ـ 52].
وقال تعالى {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 36].
وقال تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا..} [الحشر: 7].
وقال تعالى {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين} [المائدة: 92].
وقد حذرنا الله عز وجل من الإشراك بطاعته فقال {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام: 121]، وقال تعالى {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله..} [الشورى: 21]، وقال تعالى {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آبائنا..} [لقمان: 21]، وقال تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً} [النساء: 61].
ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يوصينا بالتمسك بسنته فيقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". (مسند أحمد 4/126، وانظر صحيح الجامع 2546).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". (صحيح مسلم867).
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". (رواه البخاري 2697، ومسلم 1718).
والعجب كل العجب ـ والله ـ أن ترى كثيراً ممن ينتسبون للإسلام ويقولون بألسنتهم نحن نحب الله ورسوله فإذا أنكرت عليهم شيئاً من منكرات في الدين ظاهرةٍ عليهم، جادلوك بألسنتهم وبدءوا يستندون بأقوال لبعض من ينتسب إلى العلم، وهي أقوال "ساقطة" وصدق من قال: "لكل ساقطة لاقطة"، ثم إذا قلت لهم قال الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجوا وأكثروا وقالوا أنت قرن مماحك، فواأسفاه على أناس أعرضوا عن الكتاب والسنة، وكأنّ هذين الأصلين من أًول شريعتنا لا اعتبار لهما في مجرى حياتهم، ويأتي آخرون من هذا الصنف ثم يقولون وهل أنت أعلم من الشيخ الفلاني أو العالم الرباني فهم يرونا نفعل مثل هذه الأمور التي تدعون أنها منكرات وبدع ولم ينكروا علينا ما نفعله؟(7/36)
وهذه طامة كبيرة وقارعة خطيرة حيث أن مثل هؤلاء قد أجّروا عقولهم لمشايخهم ولم يريدوا أن يطلبوا أدلة الكتابة والسنة؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لتركوا منكرات كثيرة وقعوا بها ولما أقلعوا عن البدع والمعاصي التي تحيط بهم. وأعيذك الله أخي وأنت يا أختاه أن تكونا من مثل هذا النوع فإن الهوى استحكم على قلوبهم فهم إما أن يناقشوك بآرائهم وأهوائهم أو بآراء مشايخهم بلا استناد للكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وقد قال الشاعر ينكر على المحتجين بكلام شيوخهم:ـ
أقول قال الله قال رسوله *** فتجيب شيخي إنه قد قالَ
وأمثال هؤلاء قليل ـ إن شاء الله ـ وأسأله تعالى أن يهديهم ويصلح شأنهم.
وقد يحصل لك في النقاش مع مثل هذه النخبة من البشر أنهم يقولون لك هذه وجهة نظرنا وما ندين الله به وأنت يا من تناقشني برأيك هذه هي وجهة نظرك وما تدين الله به، والحمد لله كل على هدى مستقيم.
وهذه شبهة ألقاها عليهم شيخهم ـ إبليس الرجيم ـ وإلا فإن الجواب عن ذلك أن يقال: أن المرجع في النزاع والنقاش هو كتاب الله سبحانه وتعلى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} [النساء: 59].
وقال تعالى {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله..} [الشورى: 10].
نعم، هذا هو مرجعنا كتاب الله عز وجل..
لا تذكر الكتب السوالف *** طلع النهار فأطفئ القنديلا
إذاً ما يدعي به أهل الهوى من أنّ آرائهم هي التي يدينون الله بها فكلامهم هذا مردود عليهم، وعلى هذا فإن اليهود والنصارى يدينون الله بما هم عليه من الكفر والضلال ولن ينقذهم كلامهم هذا عند الله شيئاً.
وأنا الآن أطلب من القارئ الكريم والأخت الكريمة أن يتجردا للحق فالحق أحق أن يتبع فماذا بعد الحق إلا الضلال، وحذار حذار من الهوى فالله عز وجل يقول {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26] وقال: {بل اتبع الذين ظلموا أهوائهم}.
وقد أحسن من قال:
إن الهوان هو الهوى قلب اسمه *** فإذا هَوِيتَ فقد لقيت هواناً
وأختم بقول الله سبحانه {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} [الأنعام: 153]، وليكن شعار كل مسلم طالب للحق مبتعد عن الباطل أن يقول ما قاله أحد المتقدمين ـ رحمه الله ـ:
كتاب الله عز وجل قولي *** وما صحت به الآثار ديني
فدع ما صدّ عن هذي وخذها *** تكن منها على عين اليقين
المبحث الأول: في حكم الاحتفال بذكرى مولد محمد صلى الله عليه وسلم:
في يوم 12/ 3 يحتفل جمع من الأمة الإسلامية بذكرى مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الحقيقة إن الاحتفال بمثل هذا اليوم واتخاذه عيداً بدعة منكرة قبيحة ولم يدل على جوازها كتاب ولا سنة ولا إجماع سلف الأمة.
بل الأمة الإسلامية في عهد القرون الثلاثة الأولى التي فضلها محمد صلى الله عليه وسلم على غيرها مجمعة أنها لا تعرف احتفالاً ولا عيداً إلا الأضحى والفطر، أما سواهما من الأعياد والذكريات فهو لغو غير معدود ولا معروف عندهم، بل لا تشرئب إليها أنفسهم، ولا ترتفع إليها أعناقهم.
ذلك أنهم كانوا شديدي الإنكار على كل من خالف الإسلام بكفر أو بدعة أو معصية، ولقوة اعتصامهم بالكتاب والسنة خلت بيوتاتهم من البدع المنكرة، والأمور المحدثة.
وللقارئ أو القارئة أن يسألا ويقولا:
ما سبب حكمك على أن من احتفل بذكرى مولد النبي المختار محمد صلى الله عليه وسلم أنه قد أرتكب بدعة منكرة في الدين؟ فأقول وبالله التوفيق:
1ـ النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده في حياته وهو المبلغ للدين، ولم يأمر بذلك.
2ـ أن الخلفاء الراشدين لم يفعلوا هذا الاحتفال مع أنهم أحب للرسول صلى الله عليه وسلم منا.
3ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصانا بالتمسك بسنته، وأن لا نعبد الله إلا بما شرع، وذكرى المولد لو كان فيها خير لذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها خبراً، ومن تعبّد الله بما لم يشرعه لعباده وعلى لسان رسوله، فقد اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقصور أو بالتقصير في تبليغ دعوة الله.
4ـ قال الإمام مالك بن أنس ـ نوّر الله ضريحه ـ: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، فما دام أن السلف لم يفعلوا مثل هذه البدعة المحدثة فحري بنا ألا نفعلها، وقد قال الناظم:
وكل خير في اتباع من سلف *** كل شر في ابتداع من خلف
5ـ أن يوم المولد وليلته لو كان لها مزية لاختصت بفضل معين، ثم إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتذكر سيرته لا تكون في يوم واحد بل في كل الأيام نقرأ سيرته ونتبع ما شرعه لنا صلى الله عليه وسلم.(7/37)
وقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم من شر ما يعلمه لهم".
6ـ إن بعض الموالد فيها اختلاط الرجال بالنساء، وفيها الغلو بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى أنّ بعضهم قد يجعله في مقام الربوبية، وبعضهم يظن أن محمداً صلى الله عليه وسلم يحضر المولد فيقومون له محييين ومرحبين، ويكون كذلك من المنكرات مشاركة المعازف من الطبل والدف وآلات الموسيقى، وكذلك بعضهم يستغيث بمحمد صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه المدد والغوث وأنه يعلم الغيب. وكل هذه الأمور منكرة محرمة وبعضها فيها شرك بالله ـ عياذاً به سبحانه ـ فكيف إذا اجتمعت كلها.
7ـ الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث الصحيح فقال: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" رواه النسائي بسند صحيح. ولفظه: "كل" هنا للعموم فيكون معناها أن أية بدعة محدثة في الدين فهي بدعة وأمّا من يقول "كل" ليس المراد بها العموم فما رأيك بقول الله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} هل توجد أنفس من مخلوقات الله عز وجل لا تموت؟
8ـ من فعل هذه البدعة فقد تشبه بأعداء الله فإن النصارى يحتفلون بعيد ميلاد المسيح عيسى بن مريم، وقد سرت بدعتهم هذه للمسلمين فأصبحوا يحتفلون بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم، والرسول حذرنا من التشبه بأعداء الله فقال: "من تشبه بقوم فهو منهم" والحديث رواه أحمد وأبو داود وجوّد إسناده ابن تيمية، وحسنه ابن حجر.
9ـ من احتفل بذكرى المولد فقد اتهم ديننا بالنقص، ولو كان قصد هذا المبتدع حسناً؛ فإن بدعته طعن في دين الله عز وجل وتكذيب لقوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3].
10ـ إن الكفار أعداء الله يفرحون بإقامة هذه البدع؛ لأنهم قرءوا كتبنا الإسلامية وعلموا أنه متى أحدث في الدين بدعة ماتت سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، "وأوضح أنموذج لذلك ما ذكره الجبرتي من أن نابليون أمر الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي، وأمره بتعليق الزينات، بل وحضر الحفل بنفسه من أوله إلى آخره..." ويعلل الجبرتي اهتمام الفرنسيين بالاحتفال بالموالد عموماً بما "رآه الفرنسيون في هذه الموالد من الخروج عن الشرائع، واجتماع النساء، وإتباع الشهوات، والرقص، وفعل المحرمات" أ.ه. [حقوق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإجلال والإخلال (155) المنتدى الإسلامي].
11ـ إننا لو نقبنا في بداية تاريخ هذه البدعة ومن هو أول من فعلها فسنجد أنهم الفاطميون العبيديون، وهم من الباطنيين، وقد حكموا مصر وكان بدء حكمهم في مصر في القرن الرابع الهجري، وقد ذكر تقي الدين أحمد بن علي المقريزي في كتابة "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" (1/490) أنه كان للفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم، فذكرها وهي كثيرة جداً، ومنها مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ومولد علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، ومولد الخليفة الحاضر، وقد قال ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة (567هـ) وهي السنة التي انتهت فيها دولتهم بموت آخرهم العاضد، قال: "ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد، وقلّ عندهم الصالحون من العلماء والعباد..". [الرد على الرفاعي والبوطي، للعباد (82ـ83). وكتاب القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل، (2/451ـ452)].
وقال العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي مفتي الديار المصرية سابقاً في كتابة "أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام" (44ـ45) : "مما حدث وكثر السؤال عنه الموالد فنقول: إن أول من أحدثها بالقاهرة الخلفاء الفاطميون، وأولهم المعز لدين الله توجه من المغرب إلى مصر في شوال سنة (361هـ)، فوصل إلى ثغر الإسكندرية في شعبان سنة (362هـ) ودخل القاهرة لسبع خلون من شهر رمضان فابتدعوا ستة موالد النبوي، ومولد أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب...". [القول الفصل، إسماعيل الأنصاري (2/457ـ458)].(7/38)
وبعض أهل العلم ذكر أن أول من احتفل بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم هو الملك المظفر "أبو سعيد كوكبوري" ملك إربل في آخر القرن السادس أو أول القرن السابع الهجري، وقد قال ابن كثير في البداية والنهاية (13/ 137) عن هذا الملك وهو أبو سعيد كوكبوري: "كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً.. [إلى أن قال:] قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد أنه كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة آلف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى.. [إلى أن قال:] ويعمل الصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم" أ.ه [حقوق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإجلال والإخلال (140)].
ويمكن الجمع بين قول من قال إن الاحتفال بالمولد النبوي أول من فعله الرافضة بنو عبيد القداح في القرن الرابع، وبين قول من قال أول من فعله هو ملك إربل في القرن السابع، أن يقال:
أن أول من فعله بنو عبيد القداح في مصر ثم سرت هذه البدعة إلى الشام والعراق في القرن السابع الهجري.
وقد قال ابن كثير في البداية والنهاية عن الدولة الفاطمية (11/346): "هم كفار، فساق، فجار ملحدون، زنادقة، معطلون الإسلام جاحدون ولمذهب المجوسية معتقدون" ا.ه. [مجموعة الرسائل والتوجيهات، محمد جميل زينو (1/199)].
وقال ياقوت في معجمه (1/138) عن الملك المظفر صاحب إربل وقد كان من معاصريه: "طباع هذا الأمير متضادة، فإنه كثير الظلم، عسوف بالرعية، راغب في أخذ الأموال من غير وجهها" ا.ه
إذاًَ علمنا علم اليقين أيها القارئ الكريم والقارئة الكريمة أن هذه البدعة تسربت للمسلمين من الكفار العبيديين ومن ملك إربل الظالم المتعسف المبتدع، فهل يجوز لنا أن نأخذ ديننا من مثل هؤلاء المبتدعة؟
12ـ ومن الأمور التي تجعلنا نقول إن الاحتفال بذكرى المولد بدعة، أن إحياء بدعة المولد يفتح الباب للبدع الأخرى والاشتغال بها عن السنن، ولهذا تجد المبتدعة ينشطون في إحياء البدع ويتكاسلون عن السنن ويبغضونها ويعادون أهلها. [حقوق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإجلال والإخلال (142)].
والبدعة أحب إلى إبليس من مائة معصية؛ لأنها تجر الإنسان إلى الشرك بالله وقد لا يعلم ذلك، ولأن صاحبها يعتقد أنه على صواب ويجادل عن جواز بدعته، أما صاحب المعصية يعلم أن المعصية غير جائزة وقد يتوب منها ويستغفر الله عز وجل.
13ـ يُلزَم أصحاب بدعة المولد النبوي أن يفعلوا ذكرى لوفاته صلى الله عليه وسلم وذكرى ليوم بعثته في نشر دين الإسلام وهلم جراً، ثم أن محمداً صلى الله عليه وسلم توفي في شهر ربيع الأول "فلأي سبب يفرحون ـ أي أصحاب البدعة ـ بميلاده، ولا يحزنون بموته لولا قسوة القلب"، وعلى هذا الإلزام يكون في كل يوم ذكرى مولد أو وفاة لكل نبي وصالح وضاع ديننا بالموالد والذكريات.
المبحث الثاني: ذكر أقوال لأهل العلم في إنكار هذه البدعة:
1ـ قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه: "وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" وفي رواية النسائي "وكل ضلالة في النار".
2ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (2/123): "وكذلك ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً.. من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً. مع اختلاف الناس في مولده فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيراً، ولو كان هذا خيراً محضاة أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وتعظيم له منا، وهم على الخير أحرص...".
وتأمل رعاك الله ما قاله "مع اختلاف الناس في مولده"؛ لأن بعض أهل العلم قال: ولد صلى الله عليه وسلم في يوم التاسع من ربيع الأول، وبعضهم قال ولد في يوم الثاني عشر. ولذا يلزم من يفعل هذه البدعة أن يحتفل كل يوم قيل إنه ولد فيه محمد صلى الله عليه وسلم حتى ينال ما يريده من موافقة اليوم الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم.
3ـ وقد ألف الفاكهاني رسالة "المورد في عمل المولد" وأنكر هذه البدعة وقال: "لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة، أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكالون" إلى آخر ما قال رحمه الله (1/ 8ـ9) من كتاب "رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي"، تحت إشراف رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء.
4ـ وألف الشيخ إسماعيل الأنصاري رسالة ضخمة بما يقارب (600) صفحة وذكر أن الاحتفال بالمولد بدعة، وردّ على معظم الشبه التي يثيرها أدعياء هذه البدعة في رسالته "القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل".
5ـ وممن أنكر هذه البدعة الإمام الشاطبي في كتابه "الاعتصام".(7/39)
6ـ والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه "صيانة الإنسان".
7ـ والشيخ ابن باز، ومحمد ابن إبراهيم وجمع من العلماء المتقدمين والمتأخرين ـ رحمة الله عليهم أجمعين ـ.
المبحث الثالث: شبهات وردود:
يستند بعض مقيمي مثل هذا المولد إلى شبهات يتعلقون بها ويجوزون بها فعل بدعتهم، ولذا فلا بد من عرض شيء منها مع أنها أوهى من بيت العنكبوت، وسأذكر أهم الشبه التي يتعلق بها هؤلاء وأناقشها، خاصة أن بعض من ينتسب إلى العلم ويقيم مثل هذه الموالد يلبّس على العوام بهذه الشبه ـ فلا حول ولا قوة إلا بالله ـ.
كيف، لا أدري، لماذا؟ ربما *** أنني يوماً عرفت السببا
عالِم يدعو بدعوى جاهل *** وليوث الحرب ترجو الأرنبا
الشبهة الأولى: أن إقامة مثل هذا المولد من قبيل البدعة الحسنة الجائزة في دين الإسلام.
ويجاب عن هذه الشبة بأن يقال: ليس في دين الإسلام بدعة تسمى بدعة حسنة، فإنه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي مرّ بنا مراراً يقول: "وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وزاد النسائي "وكل ضلالة في النار".
وقد ذكر الشاطبي في كتابه "الاعتصام" (1/28) أن "ابن الماجشون" قال: سمعت مالكاً يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول {اليوم أكملت لكم دينكم} فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً".
ثم إنه صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المتفق عليه: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي لفظ مسلم "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
فهل عمل بدعة الاحتفال بالمولد النبوي من دين الإسلام الذي ذكره الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم لنا، وهل فعل هذه البدعة كان عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وذكر الإمام ابن بطة في كتاب "الإبانة" (1/339) عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قوله: "كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة" وذكره محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة بسند صحيح.
ورحمة الله على الإمام مالك الذي كان كثيراً ما ينشد:
وخير أمور الدين ما كان سنة *** وشر الأمور المحدثات البدع
ذكره الشاطبي في كتابه "الاعتصام" (1/115).
الشبهة الثانية: يستند بعضهم إلى ما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أن قال: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح"، ثم يقولون وكثير من المسلمين يستحسن فعل الاحتفال بذكرى مولد محمد صلى الله عليه وسلم.
والجواب عن ذلك:
1ـ أن هذا الكلام المنسوب لابن مسعود رضي الله عنه إنما أراد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد كل من هب ودب من المسلمين والمنتسبين إلى الإسلام، وكلامه صريح في ذلك، وهذا لفظه عند الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ".
وهذا مثل ما رآه الصحابة حسن من العلم بالتاريخ والابتداء به بالهجرة، ومثل وضع ديوان العطاء زمن عمر بن الخطاب، ومثل جمع المصحف في عهد أبي بكر، وأما ما رأوه سيئاً مثل التحلق والاجتماع على عد التسبيح والتحميد والتكبير، وقد أنكر ذلك ابن مسعود وأبي موسى الأشعري، ومثل إنكار الصحابة لبدعة الخوارج، ومثل إنكار علي رضي الله عنه على الرافضة في غلوهم فيه وإنكار الصحابة معه. [الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي لحمود التويجري (163ـ166)بتصرف].
2ـ أن يقال إن أهل الإسلام يستقبحون البدع ويعتبرونها ضلالة، ومن ضمنها بدعة المولد النبوي.
3ـ أن هذا الكلام الوارد عن ابن مسعود المراد به ما أجمع عليه المسلمون ورأوه حسناً لا ما رآه بعضهم واستحسنه وقد ذكر هذا الجواب أربعة من أئمة العلم، وهم ابن القيم والشاطبي وابن قدامة وابن حزم. [القول الفصل، الأنصاري (2/591)].
ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتبهم أو إلى المرجع السابق ذكره فقد ذكر الشيخ إسماعيل جميع أقوالهم.
الشبهة الثالثة: أن الاحتفال بالمولد يفعله الكثير من الناس بل يراه بعض المشايخ، ولو كان منكراً ما فعله هؤلاء.
والجواب عن هذه الشبهة:
1ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، رواه أهل السنن إلا النسائي وهو حسن لغيره. (سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 1331).(7/40)
2ـ ذكر العلامة محمد ابن إبراهيم ـ رحمه الله ـ عن الإمام الشاطبي في كتاب "الاعتصام" أنه قال نقلاً عن بعض مشايخه: "إن الاحتجاج على تحسين البدع بهذه الدعوى ليس بشيء في أمر تركته القرون الثلاثة المقتدى بهم"، ثم قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ "ولما كانت البدع والمخالفات وتواطأ الناس عليها صار الجاهل يقول: "ولو كان هذا منكراً لما فعله الناس"، ثم قال ما ذكره ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: "من اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها بناء على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها فهو مخطئ في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المستحدثة المخالفة للسنة..". [رسائل في حكم الاحتفال بالمولد، رسالة الشيخ محمد ابن إبراهيم].
3ـ أن فعل الكثير من الناس لأي شيء لا يدل على أنه حق بل إن الله ذم الكثرة في القرآن فقال {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116]، وقال {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف: 103]، وقال {وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم} [الأنعام: 119]، وقال تعالى {وإن كثيراً من الخلفاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا أو قليل ما هم} [ص: 24].
4ـ ويرد على من قال إن بعض المشايخ يقول بجوازه بل يفعله، بأن رسول الهدى يقول: "وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، ووالله إن قول رسول الله أحب إلينا من قول أمة كلها، وقد قال أبو بكر بن أبي داود:
ودع عنك آراء الرجال وقولهم *** فقول رسول الله أزكى وأشرح
ويقال لمن استدل بقول شيوخه، أيهما أحب إليك قول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أم قول مشايخك؟ فإن قال بل قوله عليه الصلاة والسلام أحبُّ إليّ، فيقال له: إن الله عز وجل يقول {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}، وقد ذكر ابن تيمية في كتاب العبودية قول الحسن البصري: "ادعى قوم محبة الله ورسوله فأنزل الله عليهم آية الممتحنة {قل إن كنتم تحبون الله..}، فامتحنهم الله بهذه الآية.
وقد قال الإمام الشافعي: "أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس. [الرسالة (104)].
إن قال إن قول شيخي أحب إلي من قول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فإني أبشره بآية عظيمة {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً}. [النساء: 115].
وقد قال ابن تيمية: "ومن نصب شخصاً كائناً من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو من الذين فرقوا بدينهم وكانوا شيعاً". [الفتاوى (2/239ـ240)].
الشبهة الرابعة: دعوى بعضهم أن من لم يحتفل بمولده صلى الله عليه وسلم فإنه يكره الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يحبه ولا يعظمه.
والجواب عن هذه الشبهة أن يقال:
1ـ بل إنكم أنتم يا من تدعون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تعظموه ولا توقروا شرعه، والدليل على ذلك أنكم لا تقرؤون في الشمائل المحمدية ولا تكثرون الصلاة عليه ولا تتذكرونه إلا في هذا اليوم المبتدع.
2ـ ويقال كذلك أنتم الذين تنقصتم محمداً صلى الله عليه وسلم، ورميتموه بالتقصير فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" (أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (1844) في كتاب الإمارة).
وقد نهانا محمد صلى الله عليه وسلم وحذرنا عن البدع كلها، فقال: "وكل بدعة ضلالة".
قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/102): "وكما أنك لا تجد مبتدعاً إلا وهو متنقص للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة فإن يزعم أنها خير من السنة وأولى بالصواب، أو يزعم أنها هي السنة إن كان جاهلاً مقلداً، وإن كان مستبصراً في بدعته فهو مشاق لله ورسوله".
وإني أبشر السني بكلام عظيم لابن القيم قاله كذلك في إغاثة اللفهان (1/111) "وهذا المبتدع إنما ينقم على السني تجريده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه لم يشبها بآراء الرجال ولا بشيء مما خالفها. فصبر الموحد المتبع للرسل على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة خير له وأنفع، وأسهل عليه من صده على ما ينقمه الله ورسوله عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة.
إذا لم يكن بد من الصبر، فاصطبر *** على الحق، ذاك الصبر تحمد عقباه
وأختم بما ذكره أبو داود في سننه عن حذيفة رضي الله عنه قال: " كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقال".
وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه (20750) واللفظ له، وأخرجه كذلك أبو داود (4611) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "فيوشك قائل أن يقول: ما هم بمتبعي فيتبعوني وقد قرأت القرآن؟! ثم يقول: ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره! فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة..".(7/41)
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.
-------------------
3. ... هل أنت تحب النبي صلى الله عليه وسلم؟!
ففي الصحيحين عن أنس رض الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة قال:(وماذا أعدت لها), قال: ما أعدت لها كثير عمل إلا أنني أحب الله ورسوله قال النبي صلى الله عليه وسلم, (المرء مع من أحب). يقول أنس فما فرحنا بشي كفرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(المرء مع من أحب), ثم قال: وأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجوا الله أن أحشر معهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.
ولكن السؤال: هل أنت تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا فتنعم بهذه الكلمة(المرء مع من أحب) أم لا؟
قبل التسرع في الإجابة ينبغي أن تسأل عن علامات المحبة. ما هي العلامات التي تنبغي أن تكون فيّ حتى أكون محب للنبي صلى الله عليه وسلم حقا لا إدعاءً؟
الجواب: أن هذه العلامات كثيرة ولكن سأذكر بعضها؛ ولكن قبل أن أذكرها ينبغي أن تعلم أن هذه العلامات ليست لأحكم عليك أو لتحكم أنت عليّ وإنما ليحكم كل منا على نفسه ويطالب بها نفسه؛ فكلنا يدعي حب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن من الصادق منا ومن الكاذب؟ نسأل الله أن نكون من الصادقين.
العلامة الأولى :- طاعته فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر
قال تعالى:(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) وفى البخاري عن ابي هريرة رضي الله عنه قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا ومن يأبى يا رسول الله قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى), فعلامة المحبة أن تطيع أمره وتجتنب نهيه.
تعصى الإله وأنت تزعم حبه *** هذا لعمري فى القياس شنيع
لو كنت صادقا في حبه لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع
وها أنا أذكر لك بعض الأوامر لتطالب نفسك أيها المحب لله ورسوله بفعل هذه الأوامر التي أمرك بها الله عز وجل وأمرك بها النبي صلى الله عليه وسلم:
- أمرك حبيبك بأن تغض بصرك فلا تنظر إلى المتبرجات ولا إلى المسلسلات والأفلام فهل نفذت ما أمرك به حبيبك أيها المحب؟
- أمرك أيتها المحبة بالحجاب فهل ارتديته؟
- أمرنا نترك الغيبة والنميمة فهل تركتها؟
- أمرنا ببر الوالدين وصله الرحم والإحسان إلى الجار.
- أمرنا أمراً مهماً وهو صلاة الفجر فهل تؤديها في وقتها أيها المحب وأنت أيتها المحبة
العلامة الثانية الغيرة :-
إن أي محب يغار على محبوبه وله؛ فينبغي أيها المحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم أن تغار إذا انتهكت حرمات الله.
انظر إلى اليهود حين استولوا على القدس في عام 1967 عبروا عن فرحهم وخرجوا في مظاهرات عارمة وصاحوا قائلين(محمد مات مات خلف بنات) إن هذه الكلمات ينبغي أن تفجر في قلب كل محب لهذا الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم نار الغيرة عليه وله ليقوم ويصرخ ويقول لهؤلاء الكلاب – اليهود- محمد لم يمت ولم يخلف بنات، بل خلف وراءه رجالاً يحملون هَم هذا الدين ويضحون من أجله بالغالي والنفيس.
ولكن مجرد صرختك لن تصل إلى هؤلاء الكلاب – اليهود – وإنما يصل إليهم فعلك.
وينبغي أن يسألني كل من احترق قلبه وثارت فيه الغيرة ماذا أصنع وماذا عليّ؟
وأجيبك : إنهما أمران:
الأول: إصلاح نفسك فإنه بصلاحك يفسد على هؤلاء كثيراً من خططهم التي يخططونها لإفساد شباب المسلمين فلقد قال شيطانهم الأكبر صموئيل زويمر رئيس جمعيات التبشير في مؤتمر القدس للمبشرين عام 1935(إن مهمة التبشير التي ندبتكم الدولة المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية فإن هذا هداية لهم وتكريم!! إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله --) فأرجوا من الله أن تعي هذه الكلمات وأن تخيب آمالهم، وأرجوا أن تحافظ على الصلاة في المسجد وبالذات صلاة الفجر وأنقل كلام ذلك اليهودي وهو يقول: (لن تستطيعوا أن تغلبوننا حتى يكون عدد المصلين في صلاة الفجر كعددهم في صلاة الجمعة) فأنت واحد من هذا العدد.
وأرجوا منكِ أيتها المحبة أن ترتدي الخمار فإنه يقذف في قلوب الأعداء الخوف وفوق ذلك فإنه يرضي ربك وهذه هي الغاية
الثاني: إصلاح غيرك –أصحابك – إخواتك – جيرانك – أهلك..
وكيف ذلك؟ أريد أن أبذل ولا أدرى ماذا أفعل؟ أذكر لك بعض الوسائل الدعوية تفعلها مع كلامك لهم ونصحك إياهم:
1- توزيع الشرائط الإسلامية: ولو أن تخصص من مالك كل شهر ثمن شريط واحد تهديه لأحد الناس وقل له إن سمعته فأهديه لغيرك وهكذا.
2- توزيع الكتيبات الإسلامية. كتيب واحد كل شهر على الأقل.
3- تعليق بعض الورقات على باب العمارة التي تسكن فيها تتكلم عن حرمه ترك الصلاة أو حرمة التبرج أو عن حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أو..(7/42)
4- عمل لقاء أسبوعي مع أهل بيتك أو مع أصدقائك تسمعوا فيه شريطاً أو تقرأوا فيه القران أو..
5- نشر هذه الورقة وأمثالها.
6- أن تقوم بالليل لتدعوا لهذه الأمة أن يحفظها الله وأن يحفظ لنا مشايخنا وعلماءنا.
7- دعوة الآخرين لمجالس العلم في المساجد وعلى شبكة الإنترنت.
8- أن تدعوا لمن تدعوه وتنصحه أن يهديه الله.
9- وأخيراً هل جلست مع أمك أو أباك تكلمهم في أمر الدين!!
هم يقولون فماذا تقول أنت
يقول روبرت ماكس أحد أعمدة التنصير(لن يتوقف سعينا نحو تنصير المسلمين حتى يرتفع الصليب في مكة ويقام قداس الأحد في المدينة) فماذا تقول أنت!؟
العلامة الثالثة مطالعة أخباره ودراسة سيرته في كل وقت
فإن من يحب أحد يريد أن يعرف عنه كل شيء فماذا تعرف أنت عن حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم, من أجمل الكتب في السيرة: الرحيق المختوم – وقفات تربوية في السيرة النبوية.
هناك علامات أخرى ولكن لا يتسع المقام لذكره
-------------------
4. ... هل احتفلوا؟!
الشيخ أحمد عبد العزيز الحمدان
سؤال يطرح نفسه كلما أقبل على المسلمين شهر ربيع الأول ، وهو : هل احتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمولد وهل احتفل صحابته رضوان الله عليهم ، وهل احتفل سلف هذه الأمة الصالح رحمهم الله تعالى ؟ كما يفعله كثير من النَّاس في هذه الأزمنة ، أم أنَّهم تركوا الاحتفال ؟ نترك للعلماء الجواب عن ذلك :
قال العلامة عمر بن علي السكندري المالكي ، المشهور بالفاكهاني - رحمه الله تعالى - : " لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ، ولا يُنقل عملُه عن أحد من علماء الأمَّة ، الذين هم القدوة في الدين … بل هو بدعة أحدثها البطَّالون " . وأقرَّه الشيخ العدوي المالكي - في حاشيته على مختصر سيدي خليل -والشيخ محمَّد عليش المالكي - رحمهما الله - في (فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك) .
وقال العلامة ابن الحاجّ المالكي -رحمه الله تعالى ،في (المدخل) عن المولد إذا خلا من جميع المنكرات-: "فإن خلا من كلِّ ما تقدم ، فهو بدعة بنفس نيته فقط ، إذ إنَّ ذلك زيادة في الدين ، وليس من عمل السلف الماضين … ولم يُنقل عن أحد منهم أنَّه نوى المولد ، ونحن لهم تبع ، فيسعنا ما وسعهم".
وقال الحافظ ابن حجر الشافعي - رحمه الله تعالى-: "أصل عمل المولد بدعة، لم تُنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة".
وقال الحافظ السخاوي الشافعي - رحمه الله تعالى-: "عمل المولد لم يُنقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنَّما حدث بَعْدُ".
وقال الشيخ نصير الدين المبارك، الشهير بابن الطبَّاخ - رحمه الله تعالى-: "ليس هذا من السنن".
وقال الشيخ ظهير الدين جعفر التزمنتي - رحمه الله تعالى - : " هذا الفعل لم يقع في الصدر الأول من السلف الصالح ، مع تعظيمهم وحبِّهم له صلى الله عليه وسلم ، إعظاماً ومحبَّةً لا يبلغ جمعنا الواحد منهم ، ولا ذرة منه . "
قال إمام دار الهجرة ، مالك بن أنس - رحمه الله تعالى - : " من أحدث في هذه الأمَّة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة ، لأنَّ الله يقول ] اليوم أكملت لكم دينكم [ فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً . "
وإن من أعظم الأمور - بعد ما ذكرناه - مما يدل على ما ذكر العلماء - رحمهم الله تعالى - أن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير متفق عليه بين العلماء ، إذ الخلاف فيه كبير ، خلافٌ في سنة ولادته صلى الله عليه وسلم ، وخلاف في شهر ولادته صلى الله عليه وسلم ، وخلاف في تاريخ ولادته صلى الله عليه وسلم ، وخلاف في يوم ولادته .
متى ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإليكم ما قاله الصحابة رضوان الله عليهم ، والتابعون لهم ، وعلماء الحديث من بعدهم ، وأهل التاريخ والسير .
أولاً : سنة ولادته صلى الله عليه وسلم : الأكثرون على أنَّ ولادته صلى الله عليه وسلم كانت عام الفيل ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ؛ قيل : بعد حادثة الفيل بخمسين يوماً ، وهو قول السهيلي المالكي ؛ وقيل : بخمس وخمسين يوماً ،حكاه الحافظ الدمياطي الشافعي ؛ وقيل : بشهر ؛ وقيل : بأربعين يوماً ، حكاهما مغلطاي الحنفي وابن سيد النَّاس الشافعي ؛ وقال الإمام الزهري : بعد الفيل بعشر سنين ؛ وقيل : قبل الفيل بخمس عشرة سنة ؛ وقيل : غيره .
ثانياً : شهر ولادته صلى الله عليه وسلم :قيل :في شهر صفر؛ وقيل : في ربيع الآخر، حكاهما مغلطاي الحنفي ؛ وقيل : في رجب ؛ وقيل : في رمضان ، حكاه اليعمري الشافعي ومغلطاي الحنفي ، وهو مروي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وهو موافق لمن قال : إنَّ أمَّه حملت به في أيام التشريق ؛ وأغرب من قال : إنَّه ولد في أيام التشريق .(7/43)
ثالثاً : يوم ولادته صلى الله عليه وسلم : قيل : غير معين ؛ وقيل : في ربيع الأول ، من غير تعيين اليوم ، نقله الحافظ القسطلاني الشافعي في (المواهب اللدنية) ؛ وقيل : يوم الإثنين ، والجمهور على هذا ؛ وقيل :لليلتين مضتا من ربيع الأول ،قاله ابن عبد البر المالكي ، ورواه الواقدي :عن أبي معشر نجيح المدني ؛ وقيل : لثمان ليال مضين منه ، رُوي ذلك عن ابن عبَّاس وجبير بن مطعم رضي الله عنهم ، واختاره ابن حزم ، ونقل ابن عبد البر تصحيح أهل التأريخ له ، وقطع به الحافظ محمّد الخوارزمي ، ورجحه الحافظ ابن دِحية الكلبي الظاهري ، وقال : هو الذي لا يصح غيره ، وعليه أجمع أهل التأريخ ؛ وقال القطب القسطلاني : هو اختيار أكثر أهل الحديث ، وهو اختيار أكثر من له معرفة بهذا الشأن ؛ وحكى القضاعي إجماع أهل الزِيْج ( الميقات ) عليه ؛ وقيل : لتسع خلون منه ، وهذا ما ذهب إليه الباشا الفلكي المصري ، وله رسالة علمية في هذا ، درس فيها الموضوع دراسة فلكية ؛ ورجحه الشيخ علي الطنطاوي ، وأثنى على رسالته ؛ وقيل : لعشر مضين منه ، وهو قول الشعبي ، ومحمد الباقر ، وصححه الحافظ الدمياطي الشافعي ؛ وقيل : لاثنتي عشرة مضت منه ، وهو قول ابن إسحاق ؛ وقيل :لسبع عشرة مضت منه ،نقله ابن دِحية عن بعض الشيعة ؛ وقيل : لثمان عشرة مضين منه ؛ وقيل : لثمان بقين منه ، رواه أبو رافع عن أبيه محمد بن حزم الظاهري .
رابعاً : وقت ولادته صلى الله عليه وسلم : قيل : ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاراً ؛ وقيل : عند طلوع الفجر ؛ وقيل : عند طلوع أنجم الغفر ؛ وقيل : ولد ليلاً ، رواه الحاكم عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها . إنَّ الصحابة رضوان الله عليهم لو كانوا يرون أنَّ ضبط تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم لو أهمية ما لما أهملوا ذلك ، ولما اختلفت أقوالهم فيه ، ولوجدناهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، مع أنَّهم كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل صغيرة وكبيرة من أمر الدين ، فلما لم يسألوه ، تبين أن ذلك من الأمور التي لم يعيروها أي اهتمام ، ولم يكونوا يرون أنَّها حقيقة بالسؤال !
أخي الكريم ، علام يدل اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بضبط تاريخ مولد سيد المرسلين رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم؟
هذا والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
-------------------
5. ... 12 وقفة.. مع المحتفلين بيوم 12 ربيع الأول
حسن الحسيني
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين ، أما بعد : فهذه وقفات مع المحتفلين بميلاد خير البشر صلى الله عليه وآله وسلم ، أسأل الله أن ينفع بها :
الوقفة الأولى
لقد أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم باتباع الشريعة الربانية ، وعدم اتباع الهوى ، قال تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)، فالعبادات كلها توقيفيّة ، بمعنى أنه لا مجال للرأي فيها ، بل لا بد أن يكون المشرّع لها هو الله سبحانه وتعالى ، ولذلك أمر الله نبيّه في أكثر من موضع باتباع الوحي : ( إن اتبع إلا ما يوحى إليّ ) ، وقد قرّر العلماء أنّ : العبادات مبنيةٌ على الاتباع لا الابتداع .
الوقفة الثانية
لقد امتنّ الله تعالى على عباده ببعثة الرّسول صلى الله عليه وسلم وليس بميلاده ، قال تعالى : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (آل عمران:164) .
الوقفة الثالثة
السلف الصالح لم يكونوا يزيدون من الأعمال في يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأيام ، ولو فعلوا لنقل إلينا ! ولا يخفى لأنهم أشدّ الناس حبًّا وتعظيمًا واتباعًا .
قال العلامة / أبي عبد الله محمد الحفار المالكي : ( ألا ترى أنّ يوم الجمعة خير يومٍ طلعت عليه الشمس ، وأفضل ما يفعل في اليوم الفاضل صومه ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة مع عظيم فضله ، فدلّ هذا على أنه لا تحدث عبادة في زمان ولا في مكان إلا إذا شرعت ، وما لم يشرع لا يفعل ، إذ لا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما أتى به أولها ... والخير كله في اتّباع السلف الصالح ) المعيار المعرب 7 / 99 .
الوقفة الرابعة
انظر إلى فقه الفاروق عمر بن الخطاب حين أرَّخ بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم رمز انتصار دينه ، ولم يؤرّخ بمولده ووفاته ، أتدري لماذا ؟ تقديماً للحقائق والمعاني على الطقوس والأشكال والمباني !!
الوقفة الخامسة(7/44)
إن أوّل من أحدث بدعة المولد : الخلفاء الفاطميون بالقرن الرابع للهجرة بالقاهرة ، فقد ابتدعوا ستة موالد : المولد النبوي، ومولد الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين ، ومولد الخليفة الحاضر ، وبقيت هذه الموالد على رسومها إلى أن أبطلها الأفضل ابن أمير الجيوش ، ثم أعيدت في خلافة الحاكم بأمر الله سنة 524هـ بعد ما كاد الناس ينسونها .
فعلى هذا لم تعرف الأمة هذا المولد قبل هذه الدولة ، فهل هي أهلٌ للاقتداء بها ؟ والغريب أنّه وصل بالبعض ، تفضيل ليلة المولد النبوي على ليلة القدر !!
الوقفة السادسة
اختلف المؤرخون وأهل السير في الشهر الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل : ولد في شهر رمضان ، والجمهور : على أنه ولد في ربيع الأول ، ثم اختلف هؤلاء في تحديد تاريخ يوم مولده على أقوال :
فقيل : اليوم الثاني من ربيع الأول قاله ابن عبد البرّ ، وقيل : اليوم الثامن ، صححه ابن حزم ، وهو اختيار أكثر أهل الحديث ، وقيل : اليوم التاسع ، وهذا ما رجّحه أبو الحسن الندوي ، وزاهد الكوثري ، وقيل : اليوم العاشر ، اختاره الباقر ، وقيل : اليوم الثاني عشر ، نصّ عليه ابن إسحاق ، وقيل : السابع عشر من ربيع الأول ، وقيل : الثامن عشر من ربيع الأول ...
وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على عدم حرص الصحابة على نقل تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم إلينا ، فلو كان في ذلك اليوم عبادة ، لكانت معلومة مشهورة لا يقع فيها خلاف ، ولنقل إلينا مولده على وجه الدقّة .
قال الشيخ القرضاوي : ( إذا نظرنا إلى هذا الموضوع من الناحية التاريخية : نجد أنّ الصحابة رضوان الله عليهم،لم يحتفلوا بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا بذكرى إسرائه ومعراجه أو هجرته ، بل الواقع أنهم لم يكونوا يبحثون عن تواريخ هذه الأشياء ! فهم اختلفوا في يوم مولد النبي صلى الله عليه و سلم ، فإن اشتهر أنه الثاني عشر من ربيع الأول ، لكن البعض يقول : لا ، الأصح اليوم التاسع من ربيع الأول وليس يوم الثاني عشر ، وذلك لأنه لا يترتب عليه عبادة أو عمل ، ليس هنالك قيام في تلك الليلة ولا صيام في ذلك اليوم ، فلذلك المعروف أنّ الصحابة والتابعين والقرون الأولى وهي خير قرون هذه الأمة لم تحتفل بهذه الذكريات ! بعد ذلك حدثت بعد عدة قرون بدأت هذه الأشياء .. ) .
ولمراعاة هذا الخلاف ، كان صاحب إربل يحتفل بالمولد ، سنةً في ثامن شهر ربيع الأول ، وسنة ً في ثاني عشرة !!! ( انظر ابن خلكان 1 / 437 ) .
الوقفة السابعة
إنّ التاريخ الذي ولد فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، هو بعينه التاريخ الذي توفي فيه ! : ( يوم الاثنين 12 ربيع الأول ) ، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه ، نبّه على ذلك غير واحد من أهل العلم ، منهم ابن الحاج المالكي ، والإمام الفاكهاني .
قال ابن الحاج المالكي : ( العجب العجيب : كيف يعملون المولد بالمغاني والفرح والسرور كما تقدّم ، لأجل مولده صلى الله عليه وسلم كما تقدّم في هذا الشهر الكريم ؟ وهو صلى الله عليه وسلم فيه انتقل إلى كرامة ربه عزّ وجل ، وفجعت الأمة وأصيبت بمصابٍ عظيم ، لا يعدل ذلك غيرها من المصائب أبدًا ، فعلى هذا كان يتعيّن البكاء والحزن الكثير ... فانظر في هذا الشهر الكريم ـ والحالة هذه ـ كيف يلعبون فيه ويرقصون ) المدخل 2 / 16 .
الوقفة الثامنة
من الملاحظ أنّ انتشار الاحتفال بالمولد النبوي بين المسلمين ، كان في البلاد التي جاور فيها المسلمون النصارى ، كما في الشام ومصر .. فالنصارى كانوا يحتفلون بعيد ميلاد المسيح في يوم مولده ، وميلاد أفراد أسرته ، فكان ذلك سببًا في سرعة انتشار تلك البدعة بين المسلمين تقليدًا للنصارى .
حتى قال الحافظ السخاوي مؤيدًا الاحتفال بالمولد : ( وإذا كان أهل الصليب اتّخذوا ليلة مولد نبيّهم عيدًا أكبر ، فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر ) !! وقد تعقّبه الملا علي القاري : ( قلت : ممّا يردّ عليه أنّا مأمورون بمخالفة أهل الكتاب ) المورد الروي في المولد النبوي / 29 .
الوقفة التاسعة
إنّ محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لا تتحقّق بالاحتفال بمولده ، وإنّما تتحقّق بالعمل بسنّته ، وتقديم قوله على كل قول ، وعدم ردّ شيء من أحاديثه ، ولنعلم أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد وسعهم دين الله من غير احتفالٍ بمولده ، إذًا فليسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
والفرح بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ، لا يمكن أن يقتصر على يومٍ واحدٍ ، بل بكل لحظة من لحظات حياة المسلم ، بالتزام أوامره واجتناب نواهيه ، والخضوع لكل ما جاء به من عند الله تعالى ، فلا تقف الفرحة أمام يومٍ واحدٍ ، بل نجعل لنا من كل يومٍ جديدٍ ، التزامًا أكثر بالسنة ، ، لنحوّل ضعفنا إلى قوةٍ ، ونرسي في أنفسنا قواعدَ عقيدتنا ، ومبادئ الإسلام العظيم .
الوقفة العاشرة(7/45)
قال النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبدالله ورسوله ) البخاري .
أكثر تلك الموالد فيها إطراءٌ ومبالغة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ، والغريب أنّه حتى المؤيدين للموالد ، قد أقرّوا بوجود الغلو الذي يصل إلى درجة الكفر !! خاصةً عندما تجرّأ البعض على تأليف كتب عن المولد النبوي ، ثم وضع الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! تأييدًا لذلك يقول عبد الله الغماري ـ أحد كبار الصوفية المعاصرين ـ :
( .. وكتب المولد النبوي ملأى بهذه الموضوعات ، وأصبحت عقيدةً راسخة في أذهان العامة ، وأرجو أن يوفّقني الله إلى تأليفٍ حول المولد النبوي ، خالٍ من أمرين اثنين : الأحاديث المكذوبة، والسّجع المتكلّف المرذول ... والمقصود أنّ الغلو في المدح مذمومٌ لقوله تعالى : {لا تغلوا في دينكم}، وأيضًا فإنّ مادح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر لم يثبت عنه ، يكون كاذبًا عليه ، فيدخل في وعيد : " من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النار "
وليست الفضائل النبويّة مما يتساهل فيها برواية الضعيف ونحوه ، لتعلقها بصاحب الشريعة ونبي الأمة ، الذي حرّم الكذب عليه وجعله من الكبائر ، حتى قال أبو محمّد الجويني والد إمام الحرمين بكفرِ الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا فما يوجد في كتب المولد النبوي وقصة المعراج من مبالغات وغلوٍ لا أساس له من الواقع : يجب أن تُحرق ، لئلا يُحرق أصحابها وقارئوها في نار جهنّم ، نسأل الله السلامة والعافية ) من نقده لبردة البوصيري ص 75.
وقد جرت العادة في الموالد أن تختم بالعبارات البدعية والتوسلات الشركيّة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
الوقفة الحادية عشرة
ما يدور في الموالد من المفاسد ، لا تخفى على مسلم ، من أهمها :
أنّ المحتفلين بالمولد يرمون المخالفين ـ وللأسف ـ بعدم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم !! متناسين بأنّ التعظيم والمحبة تكون بالاتباع لا الابتداع ، وكذلك : ما يجري داخل الموالد من إطفاء الأنوار وهزّ الرؤس وتمايل الأكتاف و .. ناهيك عن الأذكار المكذوبة والقصص الموهومة ، ويقول الشيخ علي محفوظ الأزهري : ( فيها إسراف وتبذير للأموال ، وإضاعة للأوقات فيما لا فائدة منه ولا خير فيه ) الإبداع / 324 ، والقواعد الشرعية تقضي بأنّ المباح ـ وهذا على فرض أنه مباح ـ إذا أدّى إلى محرّم : فإنّه يحرم من باب سدّ الذرائع ، فكيف وهو يحوي على المنكرات !!
الوقفة الثانية عشرة
وقد أجمع المسلمون على بدعية الاحتفال بالمولد النبوي ، لكنهم اختلفوا في حسنه وقبحه ، فذهب البعض منهم إلى أنه بدعة حسنة : كابن حجر والسيوطي والسخاوي .. وغيرهم ، نظرا للمصلحة التي ظنوا حصولها !!
لكن العلماء المحقّقين ، المتقدّمين منهم والمتأخرين ، أفتوا بحرمة الاحتفال بالمولد ، عملاً بالأدلة الشرعية التي تحذّر من البدع في الدين ، والأعياد والاحتفالات من أمور الشريعة ، ووقفوا أمام فتح باب شر متيقّن لخيرٍ موهوم ؟ ثم ما وعاء هذا الخير المزعوم ، عملٌ لم يفعله الرسول ولا صحابته ولا التابعون لهم بإحسان قروناً طويلة !! علمًا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ، لم يفرّق بين بدعة حسنة وأخرى سيئة ، بل قال : ( كل بدعة ضلالة ) !
قال الإمام مالك : ( من ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة ، فقد زعم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة !! لأن الله يقول : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، فما لم يكن يومئذٍ دينًا فلا يكون اليوم دينًا ) الاعتصام للشاطبي .
بعض العلماء الذين أفتوا ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي :
• الإمام الشاطبي قال ببدعية المولد النبوي ؟ فقد ذكر بعض أنواع البدع في أول كتابه الاعتصام (1/34) ، وعدّ منها اتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، وذمّ ذلك .
• الإمام الفاكهاني قال ببدعية المولد النبوي ، في رسالته المفردة / 8-9 .
• والعلامة ابن الحاج المالكي في المدخل قال ببدعية المولد النبوي (2/11-12) .
• وعلامة الهند أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي قال ببدعية المولد النبوي ، وكذلك شيخه العلامة بشير الدين قنوجي الذي ألف كتاباً سماه " غاية الكلام في إبطال عمل المولد والقيام " ( انظر تعليقه على حديث : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " في سنن الدارقطني ) .
• الشيخ العلامة / أبي عبد الله محمد الحفار المالكي ـ من علماء المغرب العربي ـ : ( ليلة المولد لم يكن السلف الصالح ـ وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم ـ يجتمعون فيها للعبادة ، ولا يفعلون فيها زيادة على سائر ليالي السنة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يعظّم إلا بالوجه الذي شرع تعظيمه ، وتعظيمه من أعظم القرب إلى الله ، لكن يتقرّب إلى الله جل جلاله بما شرع .. ) المعيار المعرب 7 / 99 .(7/46)
• الشيخ العلامة / محمد صالح العثيمين : ( يقيمونها لأنهم كما يقولون يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويريدون إحياء ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن نقول لهم : مرحباً بكم إذا أحببتم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومرحباً بكم إذا أردتم إحياء ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن !! هناك ميزان وضعه أحكم الحاكمين وإله العالمين ، هناك ميزان للمحبة ألا وهو قول الله تعالى : " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ " .
فإذا كان الإنسان صادقاً في دعوى محبة الله ورسوله ، فليكن متبعاً لشريعة الله متبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن لم يكن متبعاً له فإنه كاذب في دعواه ، لأن هذا الميزان ميزان صدق وعدل ، إذن فلننظر هل إحداث احتفال بليلة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم هل هو من شريعة الله ؟ هل فعله النبي صلى الله عليه وسلم ؟ هل فعله الخلفاء الراشدون ؟ هل فعله الصحابة هل فعله التابعون لهم بإحسان هل فعله أتباع التابعين ؟ إن الجواب على كل هذه التساؤلات بالنفي المحض القاطع ، ومن ادعى خلاف ذلك فليأت به : " هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " ) موقع الشيخ.
• الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي : ( ... وقالوا إن الذي ابتدع هذه الموالد وهذه الأشياء الفاطميون في مصر ، ومن مصر انتقل إلى بلاد أخرى ، وربما كان وراء ذلك أهداف سياسية معينة ! أنهم يريدون أن يشغلوا الجماهير والشعوب بهذه الموالد وهذه الاحتفالات ! حتى لا يبحث الناس في أمور السياسة ولا في أمور القضايا العامة إلى آخره ! ولذلك إذا نظرنا إلى الأمر باعتباره عبادة نقول : أنه لم ترد هذه العبادة ولم تصح ) !! قناة الجزيرة .
• الشيخ محمد الغزالي أفتى ببدعية المولد النبوي ، في كتابه ليس من الإسلام / 252 :
( والتقرب إلى الله بإقامة هذه الموالد عبادة لا أصل لها ... ومن ثمّ فنحن نميل إلى تعميم الحكم على هذه الموالد جميعاً ووصفها بأنها مبتدعات تُرفض ولا يُعتذر لها ... إن إلغاء الموالد ضرورةٌ دينيةٌ ودنيويةٌ ... وهكذا انتظم الاحتفال بليلة المولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج ، وليلة النصف من شبعان ، وليلة القدر، ورأس السنة الهجرية .
وقد حددت لهذه الاحتفالات تواريخ كيفما اتفق ، وجُعل البذل فيها من مظاهر التديّن !! وأحياها العوام والخواص بمزيد من الكلام والطعام ، وهكذا تكون نصرة الإسلام !! ) .
وفي الختام
وختامًا أسأل الله أن يأذنَ لهذه الورقات بالقبول عنده ، وأن يُنْتفع بها ، فإن المُنية الانتفاعُ بها ، وليس وراء القبول مُبْتغى، ولا سواه مُرْتَجى ، فاللهم إن مفزعَنَا إليك لا إلى غيرك، فثبت أقدامنا على الحق ، وبصَّرنا بأنفسنا ، ولا تجعل من عملنا لأحدٍ سواك شيئاً، والله الهادي إلى سواء السبيل ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
-------------------
6. ... المولد النبوي، ما وراءه؟!
مقدمة:
ليست القضية قضية احتفال بمولد النبي الكريم أو توسل به أو شد الرحل إلى قبره، فهذه القضايا محل خلاف بين العلماء، وإن كان الصواب منعها ..
بل القضية أبعد من ذلك..
في كل عام يدور جدل كبير ـ إذا حل شهر ربيع الأول ـ حول قضية المولد النبوي بين مؤيد ومعارض..
هذا الجدل يأخذ في كثير من الأحيان شكلا من أشكال التعصب واتباع الهوى، ويقينا أن المسلم يقصد الحق ويبتغي الثواب، لكن هذا القصد لا يغني ولا يجدي إلا إذا وافقه اتباع الشرعة المحمدية..
وإن قضية المولد في حد ذاتها ليست بتلك المشكلة التي يترتب عليها إيمان أو كفر، وإن كانت لا ريب محدثة، يدل على حدثانها:
تأخر ظهورها عن عصر النبوة والصحابة والتابعين والسلف، ومضي القرون الثلاثة الأولى المفضلة دون وقوعها..
وكل الخير في اتباع من سلف، وكل الشر في ابتداع من خلف، والأمة الراشدة هي التي يسعها ما وسع سلفها الصالح، لكن لا يعنينا في هذا المقام أن نبين أصل المولد ونشأته بالقدر الذي يعنينا فيه استشفاف الحقيقة الكامنة وراء هذا المولد..
أمامنا ثلاث قضايا كلها تتعلق بالنبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه:
الأولى: المولد..
الثانية: التوسل به..
والثالثة: شد الرحل إلى قبره..
هذه الأمور الثلاثة صارت عند طائفة من الناس علامة على حب رسول الله، فمن احتفل بمولده وتوسل به وشد رحله إلى قبره فهو محب، ومن لم يفعل ذلك أو نهى عنه فهو فاقد الحب..
وقد قلنا من قبل إن إمامنا في كل قضية الكتاب والسنة وفقه السلف:
فهل الشرع دعا إلى شيء من ذلك؟..
وهل جعلها علامة على حب الرسول؟..
الثابت أن الشرع لم يأمر بالاحتفال بالمولد النبوي، لكنه في ذات الوقت لم ينه عن تدارس سيرة النبي واستخراج العبر منها في كل زمان ومكان، بل هو من المقربات إلى الله تعالى، والشرع لم يعلق حب الرسول على فعل تلك الأمور الثلاثة، بل علقه على اتباعه وتعظيمه..(7/47)
وأما التوسل فإن الشرع لم يأمر بالتوسل بالنبي الكريم بعد مماته، وقد كان الصحابة يتوسلون به في حال حياته، أي يطلبون منه الدعاء، وكان هذا جائزا حينذاك، لكنه لما مات تركوا ذلك لعلمهم أن الميت ولو كان نبيا لا يملك أن ينفع أحدا..
لذا فإنهم لما قحطوا في عام الرمادة في عهد عمر استسقوا بالعباس عم النبي وما استسقوا بالنبي فقال عمر رضي الله عنه:
" اللهم إنا كنا نستسقيك بنبينا فتسقينا، وإن نستسقيك بعم بنبينا فاسقنا" البخاري، كتاب الاستسقاء باب سؤال الناس الأمام الاستسقاء إذا قحطوا، انظر: فتح الباري 2/494.
وفي خلافهم في سقيفة بني ساعدة حول الخلافة لم يتوسلوا به في حل ذلك الخلاف، ولا في المحنة التي تعرض لها عثمان رضي الله عنه، ولا في الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما..
فلو كان التوسل به ـ أي طلب الدعاء منه بعد مماته ـ جائزا لم يفرط الصحابة فيه، فعدم فعلهم ـ وهم الأحرص على الخير ـ يدل على المنع منه..
وأما التوسل بجاهه فذلك أمر لم يفعله الصحابة أبدا لا في حال حياته ولا بعد مماته، وما ورد من أثر يجيز التوسل بجاهه فهو ضعيف، وما عرف عن السلف مثل هذا النوع من التوسل، إلا ما كان من الإمام أحمد..
أما عن شد الرحل إلى قبره عليه الصلاة والسلام، فإنه نهى عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد فقال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) البخاري كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة انظر: فتح الباري3/63ـ64
أي لا يجوز شد الرحل لأجل العبادة إلا لهذه المواطن الثلاثة..
أما من قصد غيرها لأجل العبادة فقد خالف الأمر ووقع في النهي، لكن قد يأتي من يخالف فيقول:
"ليس في الحديث النهي عن شد الرحل إلى القبر، وليس فيه ذكر القبور أصلا، فمن أين قلتم الحديث ينهى شد الرحل إلى القبر؟"..
فيقال: إنما ذكرت المساجد لأن المقصود هو العبادة، فالقاصد للمسجد إنما يقصده لأجل الصلاة وقراءة القرآن والذكر والاعتكاف، وهذه عبادات، وزيارة القبور لا ريب أنها عبادة لأن الشارع أمر بها..
وكل ما أمر به الشارع فهو عبادة..
وعلى ذلك فلا يجوز السفر من أجل زيارة القبر، لأن السفر لأجل العبادة لا يجوز إلا لهذه الثلاثة..
وليس في هذا الكلام منع لزيارة القبور، بل الزيارة مشروعة في كل حال، أما الممنوع فهو السفر لأجلها..
فإن لم يسلم المخالف بهذا فحينئذ الحَكَم الذي يحكم بين المسلمين إذا اختلفوا في فهم نص من نصوص الشرع هم السلف وعلى رأسهم الصحابة، فماذا يقول الصحابة في هذه المسألة؟..
ورد أن أبا هريرة خرج إلى الطور فلما بلغ ذلك بصرة بن أبي بصرة الغفاري قال له حين أقبل:
"لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت سمعت رسول الله يقول: فذكر الحديث" الموطأ، النسائي كتاب الجمعة باب ذكر الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، صححه الألباني..
وجاء رجل إلى ابن عمر فقال له:
" إني أريد الطور..
فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى فدع عنك الطور ولا تأته".. أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة، انظر: فتح المجيد باب ماجاء في حماية المصطفى جناب التوحيد ص289..
والطور ليست بمسجد بل هي بقعة مباركة، كلم الله فيها موسى عليه السلام، فالصحابة ما فهموا من الأثر أن المنع خاص بالمساجد، بل فهموا المنع لأجل العبادة، ولو فهموا أنه مخصوص بالمساجد لما أنكروا على من خرج إلى الطور يريد التبرك..
فهذه فتوى الصحابة في هذه المسألة، ولا أظن مسلما إلا هو يرضى بما ثبت عنهم ورضوه دينا، لأنهم هم الكمل، وهم خيار الأمة وقدوتها..
وكل حديث ورد في فضل زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فهو ضعيف كما ذكر الأئمة المحققون كابن تيمية، بل الذي ورد النهي عن اتخاذ قبره عيدا فقال: (لا تتخذوا قبري عيدا)..
أي تعادونه بالزيارة، والعيد في اللغة اسم لما يعتاد مجيئه، سمي عيد الفطر عيدا وكذا الأضحى والجمعة لكونها معتادة تجيء كل عام وكل أسبوع، فالذي يزور قبره في كل موسم أو عيد أو نحو ذلك فقد اتخذ قبره عيدا، وهذا هو ما نهى عنه الرسول الكريم..
وقد أنكر الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب اعتياد القبر فقد روى سعيد بن منصور في سننه عن سهيل بن أبي سهيل قال:
" أتى الحسن بن الحسن بن علي عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال:
هلم إلى العشاء..
فقلت: لا أريده..
فقال: مالي رأيتك عند القبر؟..
فقلت: سلمت على النبي..
فقال: إذا دخلت المسجد فسلم..
ثم قال: إن رسول الله قال:
(لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء" انظر: الفتاوى 27/189. فتح المجيد باب حماية المصطفى جناب التوحيد ص286..(7/48)
فقد أنكر عليه زيارته القبر، وأرشده إلى السنة وهي أن من أراد السلام على رسول الله فإن في الأرض ملائكة سياحة تبلغه عن أمته السلام، فلا فرق بين القريب من القبر والبعيد عنه كما ذكر ابن رسول الله الذي هو أقرب الناس نسبا إليه، فالسنة لمن أراد السلام عليه أن يسلم حين دخوله المسجد كما أرشد إلى ذلك النبي الكريم، والسنة أن يصلى ويسلم عليه في الصلاة، فهذا الذي يشق على نفسه بالسفر وإتيان القبر لأجل السلام يستوي هو ومن قعد في بيته في أقصى الأرض في بلوغ السلام، فلم هذا العناء ورسول الله لم يأمر بزيارة قبره؟..
وما عرف عن صحابته أنهم كانوا يعتادون القبر، بل لم يكونوا يزورونه إلا ما كان من ابن عمر كان إذا قدم من سفر أم القبر فسلم على رسول الله ثم أبي بكر ثم أبيه ..
انظر: المصنف لعبد الرزاق، كتاب الجنائز، باب السلام على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، والمصنف لابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب من كان يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم..
قال عبيد الله بن عمر:
" لا نعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك " ..
انظر: مصنف عبد الرزاق، كتاب الجنائز، باب السلام على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فتح المجيد ص288، الجواب الباهر ابن تيمية 60 ..
إذن.. تعليق محبة رسول الله بفعل هذه الأمور الثلاثة إذا كان صادرا من جاهل لا يعلم حقيقة الأمر النبوي وما هو مشروع وما هو ممنوع فهو معذور لجهله وظنه ثبوت ما لم يثبت، وإن كان لا يعذر في ترك سؤال أهل العلم..
وأما إن كان صادرا من عالم يعلم عدم ثبوت ذلك في الشرع ويخفي وراءه اعتقادا خاصا وفكرا موروثا عن الأديان والنحل القديمة، يقصد به تقويض ملة الإسلام وهدم أركان الإيمان بالله فهنا نصل إلى لب القضية التي نريد أن نوقفكم على حقيقتها:
إننا أمام فكر خطير لا يمت إلى الإسلام بصلة، له قواعده وأركانه المستمدة من ثقافات أجنبية قديمة من قبل الإسلام، دخل إلى الإسلام باسم الزهد في أول أمره لما كان الزهاد من أرباب هذا الفكر يملؤون الدنيا، ثم تحول لاحقا إلى الدعوة إلى محبة رسول الله لما قل الزهادون منهم وكثر المترفون..
لذا فالذي نقوله هنا:
ليست القضية قضية احتفال بمولد النبي الكريم أو توسل به أو شد الرحل إلى قبره، فهذه القضايا محل خلاف بين العلماء، وإن كان الصواب منعها لما سبق من أدلة..
بل القضية أبعد من ذلك، إنها قضية فلسفية تخرج معتقدها من دائرة الإسلام وتدخله دائرة الإلحاد والزندقة، وللأسف، المتفطنون لهذا الأمر هم قلة والأكثر في غفلة عن الحقيقة، وتلك الغفلة تساهم بطريقة لا شعورية في ترسيخ هذه الفكرة المصادمة للإسلام، حين ينحصر البحث والجدل حول قضايا فرعية مع نسيان القضية الأساسية..
لذا كان من المهم إعطاء فكرة عن الأصل الذي انبثق عنه ادعاء محبة الرسول والنسبة إليها عند هؤلاء الذين سموا صوفية وأشغلوا العالم بهذه الدعوى، لكي نعلم هل هم صادقون في هذه المحبة، أم أن لهم غرضا آخر من الدعوة إليها؟..
الإنسان الكامل:
الإنسان الكامل، فكرة فلسفية صوفية كانت رائجة في الأمم المتصوفة من قبل الإسلام.. أطلق هذا اللقب من قبل الصوفية القدماء من أهل فارس والهند واليونان على أول موجود وجد في الكون حسب نظريتهم... حيث زعموا أن هذا الموجود الأول فاض عن الله تعالى كما يفيض نور الشمس عن الشمس، لم يخلقه بل صدر عنه، فهو نور من نور، ونوره امتد إلى جميع ذرات الكون:
فبه قامت الحياة.. وهو الإله الذي صنع وخلق الموجودات.. وهو الواسطة بين الخالق والخلق لما له من شبه بهما.. فله صفات الإله وله صفات البشر..
ولأنه بهذه المرتبة فهو يعلم الغيب ويدبر أمر العالم، وربما سموه الروح الأعظم أو العقل الأول أو الفعال وغيرها من التسميات، هذه خلاصة فكرة الإنسان الكامل التي في تلك الثقافات القديمة قبل الإسلام..
انظر الإنسان الكامل، عبد الرحمن بدوي، الموسوعة الفلسفية 1/136، بنية العقل العربي، الجابري ص378
ثم إن الله تعالى كتب لهذا الدين أن ينتشر في بلاد فارس والهند فدخل فيه كثير من حملة هذا الفكر أبناء تلك البلاد، ومع قلة الوعي بحقيقة الإسلام بقي كثير منهم على هذا الاعتقاد الفاسد ظانين عدم منافاته لما أنزل الله، فصاروا يدعون إليه بحسن نية وقصد..
لكن طائفة أخرى تعمدت نشر هذا الفكر بين المسلمين خبثا وكيدا لما كانت قلوبهم تنطوي على حقد عظيم على هذا الدين الذي أزال دولهم الظالمة الكافرة..
وبما أن لقب الإنسان الكامل غريب على المجتمع الإسلامي تحاشوا أن يصطدموا به فاتخذوا بدلا منه لقب الحقيقة المحمدية أو النور المحمدي..(7/49)
فإذا سمع السامع هذا اللقب تبادر إلى ذهنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن أعظم شخصية في تاريخ المسلمين هو محمد صلى الله عليه وسلم، وله خصائص ليست لغيره بإجماع المسلمين، وكثير من المسلمين ممن عدم الفقه والعلم لا يمانع من الزيادة والغلو في حقه عليه الصلاة والسلام..
هنا وظف هؤلاء هذه الشخصية لإبراز فكرة الإنسان الكامل من خلالها..
فقالوا عن رسول الله أنه:
أول موجود فاض عن الله تعالى كما يفيض نور الشمس عن الشمس..
وهو نور ونوره ممتد إلى جميع ذرات الكون..
وكل العلوم قطرة من بحره..
وهو محل نظر الإله..
له شبه بالصفات الإلهية والصفات البشرية..
فهو واسطة بين الخالق والخلق..
فصارت الحقيقة المحمدية هي حقيقة الإنسان الكامل بغير فرق... إلا أنهم ومحاولة منهم لترويج تلك الفكرة الفلسفية حرفوا الآيات واختلقوا الأحاديث للتدليل عليها..
( الحقيقة المحمدية = الإنسان الكامل)
والذي يثبت هذا التوافق ما يرد في أقوالهم وأشعارهم من أوصاف غالية في حق النبي الكريم لا يمكن أن تفسر إلا من خلال فكرة الإنسان الكامل، وهانحن نورد طرفا منها..
يقول ابن عربي: " بدء الخلق الهباء، وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية" الفتوحات المكية 1/118
ويقول الحلاج:
" أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر وأقدم سوى نور صاحب الكرم... همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم... العلوم كلها قطرة من بحره.. والأزمان ساعة من دهره" الطواسين 13
وقال ابن الدباغ:
" اعلم أن أنوار المكونات كلها من عرش وفرش وسموات وأرضين وجنات وحجب وما فوقها وما تحتها إذا جمعت كلها وجدت بعضا من نور محمد، وأن مجموع نوره لو وضع على العرش لذاب، ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت، ولو جمعت المخلوقات كلها ووضع ذلك النور العظيم عليه لتهافتت وتساقطت" هذه هي الصوفية ص87 نقلا عن محبة الرسول ص203
يقول البوصيري في البردة:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
هذه هي الحقيقة المحمدية عندهم، فكل كلماتهم وأشعارهم تنطق بحقيقة الإنسان الكامل لايجادل في ذلك إلا جاهل أو ماكر.. وهم وإن كانوا قد استتروا خلف هذا اللقب المحمدي زمنا إلا أنهم عادوا وحنوا إلى لقبهم القديم فصاروا يصرحون به..
فهذا إمامهم الأكبر ابن عربي الطائي يطلق لقب الإنسان الكامل في كثير من مؤلفاته وله مؤلف بعنوان: "الإنسان الكلي"..
وهذا عبد الكريم الجيلي وهو منهم يضع كتابا بعنوان: "الإنسان الكامل"..
وهناك آخرون غيرهم قدماء ومحدثون..
الإنسان الكامل، الحقيقة المحمدية مرتبة عامة:
وإن المدقق في أقوالهم وأحوالهم يعلم يقينا أنهم لا يعظمون رسول الله ولا يحبونه، بل يتخذون محبته ذريعة إلى تحقيق فكرة الإنسان الكامل بين المسلمين.. ولذا فإنهم عندما يطلقون لقب الحقيقة المحمدية أو غيره مما يقوم مقامه لا يقصدون به ذات النبي عليه الصلاة والسلام خاصة، بل كل ذات تتحقق فيها الأهلية ـ حسب شروطهم ـ لأن تصير في مرتبة الإنسان الكامل..
فليست هذه المرتبة حكرا على النبي أو غيره من البشر، بل هي مشاعة ينالها كل من هذب نفسه وصفاها على طريقة فلسفية خاصة حتى تصل إلى مرحلة الاتحاد بذات الله تعالى كما يقولون، تعالى الله عما يقولون، فإذا صارت كذلك نالت مرتبة الإنسان الكامل..
لذا فإنهم يعتقدون في مشايخهم ما يعتقدونه في الإنسان الكامل، فهم نور، وهم يعلمون الغيب، ويدبرون شؤون الكون، ومن هنا نفهم لماذا يصرون على تعظيم أولئك المشايخ هذا التعظيم الغالي الذي لا يجوز أن يكون إلا لرب العالمين..
يقول الجيلي:
" اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم له تنوع في ملابس، ويظهر في كنائس، فيسمى باعتبار لباس، ولا يسمى به باعتبار لباس آخر، فاسمه الأصلي الذي هو له محمد، وكنيته أبو القاسم، ولقبه شمس الدين، ثم له باعتبار ملابس أخرى أسام، وله في كل زمان اسم يليق بلباسه في ذلك الزمان... فقد اجتمعت به صلى الله عليه وسلم هو في صورة شيخي إسماعيل الجبرتي" الإنسان الكامل 2/73
قال بعضهم:
كل النبيين والرسل الكرام أتوا نيابة عنه في تبليغ دعواه
فهو الرسول إلى كل الخلائق في كل العصور ونابت عنه أفواه
(النفحات الأقدسية للبيطار ص17)(7/50)
وإذا كنا قلنا إنهم لا يحبون رسول الله حقيقة، بل يتخذون المحبة ستارا لغاية علمناها من التفصيل السابق، فإننا نشير كذلك إلى أن لهم غاية أخرى يتوصلون إليها بهذه الدعوى ألا وهي: تعظيم ذواتهم، وإستذلال العباد، وتسخيرهم في شهواتهم.. وذلك حين يزعمون أن ذواتهم تمثل الحقيقة المحمدية، وقد مهدوا لذلك بقولهم إن هذه الحقيقة تظهر في كل زمان ومكان في صورة ولي من الأولياء..
ولعل هذا هو السبب الأول في الدعوة إلى محبة الرسول...
(( فهم ينتقلون منها إلى تعظيم ذواتهم))..
يظهر ذلك جليا من حيث إنهم لا يقفون عن حد الاحتفال بمولد النبي الكريم والتوسل به وشد الرحل إلى قبره، بل: (( يجيزون ويدعون إلى الاحتفال بمولد كل شيخ من مشايخهم والتوسل بهم وشد الرحل إلى قبورهم للتضرع والسؤال))..
كما هو معلوم، تحت اسم الولاية والتعظيم وطلب البركة..
ولو فرضنا صدقهم لكان ينبغي لهم ألا يشركوا أحدا مع رسول الله في تلك القضايا الثلاث، ولو كانوا صادقين لنهوا أتباعهم عن دعاء النبي وسؤاله ما لايقدر عليه إلا الله، وحينذاك نقول: إنهم صادقون في المحبة، مخطئون اجتهادهم...
لكنهم ما فعلوا هذا ولا ذاك، بل جعلوا لكل شيخ مرتبة تضارع مرتبة النبي وتفوقه حتى تصل إلى مرتبة الإله، وأذنوا في تقديم القربات إليهم من دون الله، فهم مشركون زنادقة متبعون لأهواءهم:
{ فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لايهدي القوم الظالمين }...
( تلك هي الحقيقة.. لكن كثيرا منهم لا يعلمون)
فهذه هي حقيقة محبة رسول الله عند هؤلاء القوم، كما رأينا:
ليس فيها إلا تعظيم الذوات وإحياء دين الفلاسفة الوثنيين من فرس وهند ويونان، وفكرتهم تناقض الإسلام... فليس أحد فاض عن الله، بل كل الموجودات مخلوقة لله تعالى ليست من ذاته ولا من نوره.. وليس أحد من خلق الله يملك علم اللوح والقلم، ولا يقدر أحد على التصرف في الكون..
فمعتقد هذه الاعتقادات كافر بالله تعالى..
والحق أن كثيرا من أتباع هذه الفكرة لا يدركون حقيقتها..
وكثير من الذين يحتفلون بالمولد لا يعلمون أصل هذا الأمر..
بل كثير منهم صادقون في محبتهم وشعورهم تجاه الرسول لكنهم مخطئون حين لم يلتزموا المحبة الشرعية القائمة على الاتباع..
لكن البلية فيمن يعتنق هذا الفكر الإلحادي ويدعو إليه متخذا محبة رسول الله ستارا..
فهذا أصل الضلالة مصدر الغواية، إذن هذه هي الحقيقة، فمن جادلهم فليجادلهم فيها، وليحذر من الخديعة والحيلة فيظن أن القضية قضية مولد أو توسل أو سفر إلى قبر، بل القضية أخطر من تلك بكثير كما قد رأينا.
-------------------
7. ... الاحتفال بالمولد النبوي
يحيى بن موسى الزهراني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين . . . أما بعد :
فلقد كان العالم يغط في ظلام عميق ، وجهل سحيق ، فكان القتل ، والظلم ، وكثير من الكبائر والعظائم التي لا تجد من ينكرها ، أو يبطلها ، لقد أنت الشعوب قبل الإسلام أنيناً شديداً ، وجار العدوان والطغيان ، وأقيمت الحدود على الفقراء والضعفاء ، ونجا منها الأغنياء والأقوياء ، وبقي الناس على ذلك المر والعلقم حتى رحم الله البشرية ، بإرسال أفضل الرسل وخاتمهم وأرحمهم بأمته ، وهو نبينا وحبيبنا محمد صلى اله عليه وسلم ، وبعد مولده وشبابه ، ونضوجه ونبوته عادت البسمة للناس من جديد ، فقد أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وحطم أسس الشرك ، وقضى على معالم الوثنية ، واستأصل شأفتها ، واجتث جرثومتها ، حتى أقيمت الحدود على الطغاة والبغاة ، واخذ الحق من الظالم ، وأعيد للمظلوم ، وهكذا عاشت الأمة في خير وهناء .
فقبل الشروع في المولد النبوي ، وقبل تفنيد ما فيه من الباطل ، يحسن بنا أن نتطرق إلى بعض الأمور التي قد يغفل عنها كثير من المسلمين ، وهي مما يتعلق به عليه الصلاة والسلام ، والتي ينبغي على المكلف معرفتها والاهتمام بها حتى يعرف أمر نبيه صلى الله عليه وسلم عليه ومن هذه الأمور :
أولا ً : النبي صلى الله عليه وسلم رحمة :
فهو - صلى الله عليه وسلم - رحمة على أمته رحيم رؤوف بهم مشفق عليهم ، قال تعالى : [ لقد جاء كم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليهم بالمؤمنين رؤوف رحيم ] ( التوبة 128 ) ، وقال تعالى : [ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ] ( الأنبياء 107)(7/51)
وقد حث أمته على التراحم فيما بينهم والتعاطف والشفقة من بعضهم على بعض وأن يكونوا كالجسد الواحد يساعد بعضهم بعضا ويقف بعضهم مع بعض فهو كما وصفه ربه سبحانه رحيم بالمؤمنين قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا )) وأشار بالسبابة والوسطى [ البخاري وأبو داود والترمذي ] ، وقال تعالى : [ فأما اليتيم فلا تقهر ] ( الضحى 9 ) .
وكذلك من الرحمة التي أوصى بها النبي- صلى الله عليه وسلم - العناية بالأرملة والمسكين وذوي الحاجات فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله )) [ البخاري ومالك ] ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه فقال : (( امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين )) [ رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح].
ومن رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالفقراء قال فيهم : (( بئس الطعام طعام الوليمة يُدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء )) [ في الصحيحين ] ، وقد أوصى - صلى الله عليه وسلم - بالإحسان إلى البنات والنساء والضعفاء وما ذاك إلا من رحمته وشفقته على أمته .
فعن أنس رضى الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين )) [ رواه مسلم ] وجاريتين أي بنتين ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( اللهم إني أحرَّج حق الضعيفين اليتيم والمرأة )) [ رواه النسائي بإسناد جيد ] ومعنى أحرج أي أنه يُلحق الإثم بمن ضيع حق اليتيم والمرأة ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم )) [ رواه البخاري مرسلا وأورده بمعناه النسائي في صحيح سنن النسائي 2/669 برقم ( 2978) ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( من لا يرحم الناس لا يرحمه الله )) [ متفق عليه ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( من لا يَرحم لا يُرحم )) [ متفق عليه].
ومن رحمته - صلى الله عليه وسلم - أنه أوصى بالرحمة بالحيوان فقال عليه الصلاة والسلام : (( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) [ ابن حبان ومسلم والدارمي وغيرهم ] .
وصور رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأمته وشفقته عليهم كثيرة جداً ، فعليه الصلاة والسلام.
ثانياً : مولده صلى الله عليه وسلم :
ولد عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل ، قال أبو قتادة الأنصاري : سأل رجل أعرابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما تقول في صوم يوم الاثنين ؟ قال : [ ذاك يوم ولدت فيه ، وفيه أوحي إلي ] ( مسلم ) .
وعن قيس بن مخرمة بن عبد المطلب ، قال : ولدت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل ] ( الترمذي وإسناده حسن ) انظر سير أعلام النبلاء 1/33 .
ثالثاً : بشريته صلى الله عليه وسلم :
فهو - صلى الله عليه وسلم - بشر مثل بقية البشر قال تعالى : [ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً ] ( الإسراء 93) ، وقال تعالى : [ محمد رسول الله .....] ( الفتح29 ) وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي )) [ متفق عليه ] ، وهي دلالة على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول الله إلى الناس كافة بل إلى الثقلين ـ الجن والإنس ـ وقال الله جل وعلا: [ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذين أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى …..] ( الشورى13 ) والمذكورون في هذه الآية هم أولو العزم من الرسل فهم بشر ولكن الله أكرمهم بالرسالة وغفر لهم جميعاً ، وقال الله جل وعلا : [ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ….] ( آل عمران59 ) ، فهذه الآيات تدل دلالة قاطعة لاشك فيها أن الأنبياء بشر والله هو خالقهم ، ولكنه اصطفاهم برسالاته عن بقية البشر، فلا يُعبدون من دون الله ويحرم الغلو فيهم أو التوسل بهم بعد موتهم ، لأن ذلك من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد والمخرج من ملة الإسلام والنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من أولئك الأنبياء الذين بعثهم الله عز وجل للعباد مبشرين ومنذرين قال تعالى: [ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ] ( آل عمران144 ) ، فلا يجوز الغلو فيه أو التوسل به بعد موته أو طلب العون أو المدد منه ، فإنه بشر مثل كل البشر فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لن يدخل الجنة أحداً عمله ، قالوا : ولا أنت يارسول الله ، قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة )) [ البخاري ومسلم ] .(7/52)
فمن ذلك عُلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر ولد وعاش ومات ، قال تعالى : [ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أوقتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ] ( آل عمران144 ) ، وقال تعالى : [ إنك ميت وإنهم ميتون ] ( الزمر30 ) ، والخطاب للنبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام .
فالواجب على المؤمن أن يؤمن برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسالة جميع الأنبياء والرسل عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، لأن ذلك ركن من أركان الإيمان ، الذي لو سقط لضعف إيمان المرء معه وقد يهوي إلى الهاوية والعياذ بالله .
رابعاً : فضله على جميع الخلائق :
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع )) [ مسلم ] .
وقيل أن السيد : هو الذي يفوق قومه في الخير، وقيل : هو الذي يُفزع إليه في النوائب والشدائد فيقوم بأمرهم ويتحمل عنهم مكارههم ويدفعها عنهم .
وهو - صلى الله عليه وسلم - أفضل البشر على الإطلاق ، وهو أفضل الأنبياء والمرسلين وخاتمهم ، قال - صلى الله عليه وسلم -: (( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين )) [ مسلم ] ، فهو سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ، ففي يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد ولا يبقى منازع ولا معاند له ، بخلاف الدنيا فقد نازعه في سيادته ملوك الكفار وزعماء المشركين ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - أنا سيد ولد آدم لم يقله فخراً ، بل إنه صرح بنفي الفخر فقال عليه الصلاة والسلام : (( أنا سيد ولد آدم ولا فخر )) [ الترمذي ]
وقوله أنا سيد ولد آدم ، كما قلنا لم يقلها مفاخرة بها وإنما قال ذلك لسببين:
الأول : امتثالاً لأمر ربه سبحانه عندما قال جل من قائل عزيز سبحانه : [ وأما بنعمة ربك فحدث ] ( الضحى11 ) .
الثاني : أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه لأمته ليعرفوه ويوقروه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضى ذلك الاعتقاد ويوقروه بما تقتضيه مرتبته .
فهو الذي يطلب من ربه ويسأله سبحانه يوم القيامة للفصل بين العباد وهو أول من يُشفع يوم القيامة ، فلهذا فهو أفضل الخلائق على الإطلاق ، صلوات ربي وسلامه عليه .
خامساً : معنى شهادة أن محمداً رسول الله :
معناها: طاعته فيما أمر ، وتصديقه فيما أخبر ، واجتناب مانهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلاّ بما شرع.
فطاعته - صلى الله عليه وسلم - من طاعة الله عز وجل ، قال تعالى : [ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ] ( آل عمران 331 ) .
وقال تعالى : [ قل أطيعوا الله والرسول ] ( آل عمران 32 ) ، وقال تعالى : [ من يطع الرسول فقد أطاع الله ] ( النساء 80 ) ، وتصديقه - صلى الله عليه وسلم - في الأخبار الماضية والمستقبلية مما كان من أمور الغيب التي أطلعه الله عليها ، وتصديقه في ذلك من أوجب الواجبات .
ومن مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله اجتناب مانهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكل مانهى عنه يجب اجتنابه وذلك مصداقاً لقوله تعالى : [ وما أتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا ] ( الحشر 7 ) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( ما أمرتكم من أمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه )) [ مسلم ] .
سادساً : عبوديته صلى الله عليه وسلم :
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - عبد من عباد الله وهو مملوك لله عز وجل ووصفه الله تعالى بالعبودية الخاصة كما قال تعالى : [ أليس الله بكافٍ عبده ] ( الزمر 26 ) ، فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة فهو - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين قال تعالى : [ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ] ( الفرقان1 ) ، فهو عبد لله تعالى ، أما الربوبية والإلهية فهما حق لله تعالى وحده لا يشركه في شي منهما أحد ، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما قلنا عبد الله ورسوله كما قال هو عن نفسه (( إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله )) [ ابن حبان ] .(7/53)
فلا يُرفع فوق منزلته عليه الصلاة والسلام ولا يكون له خصيصة من خصائص الألوهية فهو عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب إلا ما أطلعه الله عز وجل عليه من الأمور الغيبية قال تعالى : [ قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ] ( النمل65 ) ، وقال تعالى : [ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول ] ( الجن 26 ، 27 ) ، فقد أطلع الله عز وجل نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - على بعض الأمور الغيبية ، لذلك فهو لا يعلم الغيب من تلقاء نفسه ، ودليل ذلك أنه عندما سأله جبريل عليه السلام عن الساعة قال : (( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل )) وقد علم - صلى الله عليه وسلم - مما أطلعه الله عليه أن ذلك السائل هو جبريل عليه السلام قال تعالى : [ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ] ( هود49 ) ، وقال تعالى : [ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمر وهم يمكرون ] ( يوسف 102 ) .
وكذلك فهو - صلى الله عليه وسلم - لا ينفع ولا يضر بنفسه ، ولا يُعتقد فيه أي أمر من أمور الألوهية أو الربوبية ولقد وصفه الله بالعبودية في أشرف المقامات فقال جل من قائل سبحانه [ سبحان الذي أسرى بعبده ] ( الإسراء 1 ) .
فهو - صلى الله عليه وسلم - عبد الله ورسوله فلا يعطى ولا يرفع فوق منزلته هذه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة )) [مسلم].
فهو عبد الله ورسوله ، وصلوات ربي وسلامه عليه .
سابعاً : حاجة الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
لما عاش الناس قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - في جاهلية جهلاء وظلمة دهماء خصوصاً بعدما حرفوا وبدلوا في الكتب المنزلة على أنبيائهم ، لذلك كله أحوج الله الخلائق كلهم إلى من يزيل عنهم تلك الغمة ، ويعيدهم إلى عبادة الله الخالق الواحد القهار ، فأرسل الله نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم سبحانه وتعالى .
فأما حاجتهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا فهي أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنفس ، لأنه مبشرهم بالجنان ومنذرهم من النيران ، وأما حاجتهم إليه في الآخرة فإنهم يستشفعون بالرسل إلى الله ليفصل بين الخلائق ، فكلهم يتأخر عن الشفاعة ، فيشفع لهم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الذي يستفتح لهم باب الجنة .
فلهذا كانت حاجة الناس إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - حاجة ماسة وأكيدة في الدنيا والآخرة .
ثالثاً : الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم :
قبل الحديث عن المولد النبوي الكريم ، نتحدث عن فرقة من فرق الضلالة والتي بسببها وجدت مثل هذه البدع المنكرة والمكفرة ، فمن هذه الفرق :
الصوفية :
وأحسن ما قيل فيها أنها فرقة منسوبة إلى الصوف ، وأول ما ظهرت هذه الفرقة في البصرة ، وكانوا يبالغون في الزهد والعبادة والخوف ، ولبسوا الصوف تشبهاً بالمسيح بن مريم ، فلذلك أطلق عليهم الصوفية . وليس طريقهم مقيداً بلبس الصوف ، ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به ، لكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر حالهم . ولكنهم بعد ذلك تشعبوا وتنوعوا ، وقيل أن التصوف تسرب إلى بلاد المسلمين ، من الديانات الأخرى كالديانة الهندية ، والرهبانية النصرانية .
يقول الشيخ / عبدالرحمن الوكيل :
إن التصوف أدنأ وألأم كيداً ، ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله ولرسله . [ مصرع التصوف ] .
ويقول الشيخ / صالح الفوزان :
الصوفية دخيلة على الإسلام ، ويظهر ذلك في ممارسات المنتسبين إليها ، من ممارسات غريبة على الإسلام وبعيدة عن هديه ، وخصوصاً المتأخرين منهم ، الذين كثرت شطحاتهم ، وعظمت غلطاتهم ، وأما المتقدمون منهم فكانوا على جانب من الاعتدال ، كالفضيل بن عياض ، والجنيد ، وإبراهيم بن أدهم وغيرهم.
موقف الصوفية من العبادة والدين :
لقد تفاقم الوضع في هذه الأزمنة في عبادة الصوفية ، حتى أصبحت المنكرات ظاهرة للعيان ، كوضوح الشمس في رابعة النهار ، وكل ذلك من باب الزهد كما يدعونه ، وحبهم المفرط في النبي صلى اله عليه وسلم إلى غير ذلك من توافه الأمور ، ولقد اتخذ أهل التصوف وخصوصاً المتأخرين منهم صنوفاً من أصناف العبادة المبتدعة ، وتتلخص بدعهم فيما يلي :
1- قصرهم العبادة على المحبة :(7/54)
يبنون عبادتهم لله على جانب المحبة ، ويهملون الجوانب الأخرى ، وهي جوانب عظيمة يعتمد عليها الدين اعتماداً كبيراً ، كجانب الخوف والرجاء ، وقد قال بعضهم : أنا لا أعبد الله طمعاً في جنته ، ولا خوفاً من ناره ، ولا شك أن هذا من الضلال ، فمن هو الذي لا يطمع في الجنة ، ومن هو الذي لا يخاف من النار ، وقد جاءت الآيات والأحاديث المشتهرة بذلك ، والذي لا يطمع في الجنة ، فبماذا يطمع إذن ، قال تعالى : " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض " ، وقال تعالى : " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز " ، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من أربع ، من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة الدجال ، ومن فتنة المحيا والممات . [ رواه مسلم ] ، فكيف يقول قائل بعد ذلك ، أنه لا يطمع في الجنة ولا يخاف من النار ، بل نقول نحن : اللهم إنا نسألك الجنة ، ونعوذ بك من النار .
فالعبادة ليست مقصورة على جانب واحد فقط ، قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : العبادة : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
ولهذا يقول بعض السلف :
من عبد الله بالحب وحده : فهو زنديق ، ومن عبده بالرجاء وحده : فهو مرجئ ، ومن عبده بالخوف وحده : فهو حروري ، ومن عبده بالحب والرجاء والخوف : فهو مؤمن موحد . ولهذا قال تعالى : " تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون "
وقال تعالى : " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً " ، في هذه الآية أعظم دليل على كذب الصوفية وأهلها ، لأن كل إنسان يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه .
2- عدم الرجوع للكتاب والسنة :
في غالب أمر الصوفية انهم لا يرجعون إلى الكتاب والسنة في دينهم وعبادتهم ، وغنما يرجعون على أذواقهم وما يرسمه لهم شيوخهم من الطرق المبتدعة ، والأذكار والأوراد الخاطئة الكاذبة ، وربما يستدلون بالحكايات والمنامات والأحاديث الموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتشبثون بها ، ومن المعلوم أن العبادة لا تكون صحيحة إلا إذا كانت مبنية على ما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة المحتج بها .
قال شيخ الإسلام : صراط الله واحد ، لا انقسام فيه ولا اختلاف عليه ، وما عداه فهو سبل متفرقة تتفرق بمن سلكها ، وتبعده عن صراط الله المستقيم ، وهذا ينطبق على كل فرق الصوفية ، فإن كل فرقة لها طريقة خاصة تختلف عن طريقة الفرقة الأخرى ، ولكل فرقة شيخ يسمونه شيخ الطريقة ، يرسم لها منهاجاً يختلف عن منهاج الفرق الأخرى ، ويبتعد بهم عن الصراط المستقيم ، ويزعم هذا الشيخ انه يتلقى الأوامر من الله مباشرة ، ولا يخفى على كل ذي لب وعقل من الناس أن الرسالة قد انقطعت بموت النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو آخر الأنبياء والرسل ، وانقطع الوحي كذلك بموته عليه الصلاة والسلام ، ولهذا قال تعالى : " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء " ، قال القرطبي رحمه الله : ومعناه : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي أو يرسل . 16/48 ،
يقول الشيخ / محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى : هناك قاعدة مهمة يجب على كل طالب علم معرفتها ، وأقول : لأنها تضع النقاط على الحروف ، وتزيل كثير من الران الذي غطى قلوب كثير من المبتدعة ، وتجعل طالب العلم قادراً بإذن الله تعالى على مجابهة مثل أولئك المبتدعة وأهل الضلالة .
والقاعدة تقول :
كل شيء كان سببه موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله ، ففعله بعده بدعة .
وقاعدة أخرى :
الأصل في العبادات الحظر ، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله ، والأصل في العادات الإباحة ، فلا يمنع منها إلا ما حرمه الله ورسوله .
مما سبق يتبين لنا أن مولد النبي صلى الله عليه وسلم كان سببه موجوداً في عهد العهد النبوي ، ولكن لم يحتفل بمولده أحد من البشر في قرنه وفي القرون المفضلة من بعده ، وهي ثلاثة قرون ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " ، قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهوراً في القرون الثلاثة ، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك " .(7/55)
مما سرى في المسلمين في هذا العصر وما سبقه من الأعصار من التشبه بالكفار ، التشبه بالنصارى في عمل ما يسمى بالاحتفال بالمولد النبوي ، يحتفل جهلة المسلمين أو العلماء المضلين في ربيع الأول من كل سنة بمناسبة مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، فمنهم من يقيم هذا الاحتفال في المساجد ومنهم من يقيمه في البيوت أو الأمكنة المعدة لذلك ويحضره جموع كثيرة من دهماء الناس وعوامهم ، يعملون ذلك تشبهاً بالنصارى في ابتداعهم الاحتفال بمولد المسيح عليه السلام . ولا ريب أن الله سبحانه وتعالى بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ، وهى العلم النافع والعمل الصالح ، ولم يقبضه إليه حتى أكمل له ولأمته الدين وأتم عليهم النعمة كما قال سبحانه وتعالى : [ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ] "المائدة3 " فبين الله سبحانه وتعالى بهذه الآية الكريمة أن الدين قد كمل والنعمة قد أتمت ، فمن زعم أن يُحدث حدثاً يزعم أنه مشروع وأنه ينبغي للناس أن يهتموا به ويعملوا به فلازم قوله أن الدين ليس بكامل بل هو محتاج إلى مزيد وتكميل ، ولا شك أن ذلك باطل ، بل من أعظم الفرية على الله سبحانه والمصادمة لهذه الآية الكريمة ، ولو كان الاحتفال بيوم المولد النبوي مشروعاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته لأنه أنصح الناس لهم ، وليس بعده نبي يبين ما سكت عنه من حقه ، لأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، وقد أبان للناس ما يجب له من الحق كمحبته واتباع شريعته والصلاة والسلام عليه وغير ذلك من حقوقه الموضحة في الكتاب والسنة ولم يذكر لأمته أن الاحتفال بيوم مولده أمر مشروع حتى يعملوا بذلك ولم يفعله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته ، ثم الصحابة رضي الله عنهم أحب الناس له وأعلمهم بحقوقه لم يحتفلوا بهذا اليوم لا الخلفاء الراشدون ولا غيرهم ، ثم التابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة لم يحتفلوا بهذا اليوم .
أفتظن أن هولاء كلهم جهلوا حقه أو قصروا فيه حتى جاء المتأخرون فأبانوا هذا النقص وكملوا هذا الحق ؟ لا والله ، ولن يقول هذا عاقل يعرف حال الصحابة وأتباعهم بإحسان .
وإذا عُلم أن الاحتفال بيوم المولد النبوي لم يكن موجوداً في عهده صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه الكرام ولا في عهد أتباعهم في الصدر الأول ، ولا كان معروفاً عندهم . عُلم أن ذلك بدعه محدثة في دين الله لا يجوز فعلها ولا إقرارها ولا الدعوة إليها ، بل يجب إنكارها والتحذير منها عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة : { خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة } ، وقوله عليه الصلاة والسلام : { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة } ، وقوله عليه الصلاة والسلام : { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } ، وقوله صلى الله عليه وسلم :{ من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } ، فكل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو رد ومردود على صاحبه وعليه النكال وله الويل من الخالق سبحانه ، فمن كان عمله خارجاً عن الشرع المطهر وليس متقيداً به فهو مردود ولا يزيد صاحبه إلا بُعداً عن الله تعالى ، ولا يزيده إلا مقتاً وخساراً ، ويذهب ذلك العمل هباءً منثوراً لمخالفته الواضحة لدين الله تعالى ، والله جل وعلا قد تكفل بدينه وحفظه : [ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ] " الحجر9 " .
فمن شرع لأولئك الفئام من الناس هذا الدين الذي ابتدعوه ؟ أهو الهوى ؟ أم الشيطان ؟ أم لهم شركاء وآلهة أخرى غير الله تُشرع لهم ديناً غير دين الله تعالى فتُحلل وتُحرم لهم ؟
قال تعالى : [ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ] "الشورى 21 " ، وقد ختم الله جل وعلا هذه الآية بقوله : [ وإن الظالمين لهم عذاب أليم ] ، فهؤلاء ظلمة ، ظلمة لأنفسهم ، ظلمة لدينهم ، ظلمة لا خوانهم المسلمين الذين يأتون من بعدهم ، ويجدون تلك البدع والخرافات ، والأهواء والمنكرات ؟ فإن الله جلت قدرته قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً .
فمن أشد الظلم وأقبحه وأشنعه أن يتعدى الإنسان على ربه ، بأن يُشرّع للناس عبادة لم يأذن بها الله عز وجل ، ليحذر أولئك من شديد عقابه ، وأليم عذابه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك هذه الأمة على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، وقد أوضح صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة قبل موته عليه الصلاة والسلام أنه ترك فيها ما إن تمسكت به فلن تَضل أبداً ، كتاب الله عز وجل وسنته صلى الله عليه وسلم ، فمن أراد أن يزيد في الدين ما ليس منه ، فالدين بريء منه وزيادته مردودة عليه ، وهو مأزور غير مأجور آثم ببدعته تلك .(7/56)
قال صلى الله عليه وسلم : { تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك } ( الترمذي وأبوداود والحاكم ) .
وقال أبو ذر رضي الله عنه : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علماً .
وقال العباس رضي الله عنه : والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً وأحل الحلال وحرم الحرام ، ونكح وطلق وحارب وسالم . ولو تصفحنا كتاب الله عز وجل صفحة صفحة وسطراً سطراً ، لمَا وجدنا آية فيه تدل على أنه يُحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك في السنة لا يوجد حديث ولا أثر صحيح يُعتمد عليه يدل على ذلك .
فمن أين جاء أولئك الناس بهذا الاحتفال المبتدع في دين الله .
فكثرة وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة ، إنما هو من ترك الاشتغال بأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك ترك اجتناب النواهي ، فلو أن من أراد أن يعمل عملاً في الدين سأل العلماء الربانيين ، علماء أهل السنة والجماعة ، عما شرعه الله في ذلك فامتثله وأطاعه ورضي به وانتهى عما فيه نهي ، لوقعت كل الأعمال مقيدة بالكتاب والسنة .
ولكن المصيبة والطامة الكبرى أن العامل يعمل بمقتضى رأيه وهواه ، فتقع الحوادث مخالفة لما شرع الله .
فمن امتثل أمر الله تعالى وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم واشتغل بذلك عما سواه حصلت له النجاة في الدنيا والآخرة ، ومن خالف ذلك واشتغل بخواطره وهواه وانقاد وراء المخططات الصهيونية والنصرانية وغيرها من مخططات أعداء الدين وقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم ، وابتداعهم في دينهم ، فكانوا فريسة وصيداً سهلاً في أيدي المسلمين آنذاك .
فهل نحذوا حذوهم ، ونقتفي أثرهم ، وهم على الباطل والضلال ، والزيغ والانحلال ؟ لا والله ؟ لا ينبغي هذا . بل الواجب التمسك بالدين الإسلامي الحنيف ، الذي لا نُصرة للمسلمين إلا بتمسكهم به ، ولا رِفعة لهم إلا بتقيدهم به ، وأن نترك الابتداع في دين الله عز وجل .
فأمور الأعياد المخالفة للشرع والاحتفالات المصادمة للدين ليست من شعار المسلمين بل أن : { من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه } ( الترمذي وهو حسن ) ، ويبتعد عن الشبهات ، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه .
فأمر ليس في كتاب الله وليس في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لا يعنينا الاهتمام به ، ولا حتى النظر إليه ، ولا التفكير فيه ، فمن أراد عمله عليه قبل ذلك أن يسأل أهل العلم عن ذلك ، حتى يكون على بصيرة من دينه ، قال تعالى : [ فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ]" النحل 43" .
والسؤال هنا :
ماذا يحدث في هذا المولد ؟
إن غالب هذه الاحتفالات مع كونها بدعة مخالفة للدين فهي لا تخلوا من اشتمالها على منكرات أخرى مثل :
1ـ اختلاط الرجال بالنساء ، مما قد يُفضي إلى أمور محرمة بين الجنسين ، بل إن ذلك يحصل غالباً في هذه الأعياد المبتدعة المنكرة وكيف يدعي أولئك حُب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يخالفون أمره ، فيحصل الاختلاط بين الرجال والنساء ، وقد حذر عليه الصلاة والسلام من الدخول على النساء غير المحارم حتى أنه قال في الحمو : الحمو الموت .
فكيف يدّعون حبهم واحتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وهم يُقدّمون في هذا الاحتفال كل ما فيه معصية له صلى الله عليه وسلم . فليتب أولئك من هذه الخرافات والخزعبلات قبل أن يحل بهم هادم اللذات ، وهم غرقى في الذنوب والشهوات ، ثم بعد ذلك لا تنفع الآهات والويلات .
2ـ ذبح ذبائح في مثل هذه الموالد والأعياد المزيفة ولا شك ولا ريب أن الذبح لغير الله شرك قال صلى الله عليه وسلم : { لعن الله من ذبح لغير الله } (مسلم ) ، واللعن : هو الطرد والإبعاد من رحمة الله عز وجل ، وإن الله عز وجل قد أمر بأن يكون الذبح له سبحانه ، في قوله تعالى : [ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ] " الأنعام 162، 163 " وقال تعالى : [ فصل لربك وانحر ] " الكوثر 2 "
فالذبح لغير الله في الأضرحة والقبور وغيرها شرك أكبر ومن فعل ذلك فهو ملعون لما جاء في الحديث السابق ، وحكم هذه الذبائح حكم الميتة ولو ذكر اسم الله عليها ، لأنها لم تكن لله عز وجل .(7/57)
3ـ ضرب الدفوف والطبول واستعمال الأغاني والمعازف والله جل وعلا قد حرم المعازف والغناء المصحوب معها سواءً كان ما جناً أم غير ماجن ، قال تعالى : [ ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين ] " لقمان 6 " وقد أقسم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الصحابي المعروف عن المقصود بلهو الحديث ، فقال : { والله الذي لا إله إلا هو إنه الغناء } . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم : { ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعزف } ( البخاري ) ، إنه والله لأمر تأسف له النفوس ، وتضيق له القلوب ممن لا ينطبق عملهم على قولهم ، بل عملهم يكذب قولهم ولا يصدقه يقولون نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحتفل بمولده ، ثم في ذات الوقت يعصونه ولا يطيعونه يرتكبون ما نهى عنه ، ويجتنبون ما أمر به فأي حب هذا ؟ وأي اتباع له صلى الله عليه وسلم الذي يدعيه أولئك المبتدعة ؟
4ـ شرب الخمور والمسكرات والدخان وأكل القات ، وغير ذلك من المشروبات المحرمات .
والله تعالى حذرهم ونهاهم عنها ، فقال جل وعلا : [ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العدواة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ] ، ثم ختم الله عز وجل هذه الآيات بالآية الدالة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن في طاعتهما الفلاح والنجاح ، وفي معصيتهما الخسران والحرمان ، فقال تعالى : [ وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ] " المائدة 90،91 ،92" .
5ـ يعتقد من يحتفل بالمولد النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحضر المولد ، ولهذا يقومون له محيين ومرحبين ، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ، ولا يتصل بأحد من الناس ، ولا يحضر اجتماعهم ، بل هو مقيم في قبره ولا يخرج إلى يوم القيامة وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة كما قال تعالى :[ ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ] " المؤمنون 15 ،16 " وقال عليه الصلاة والسلام : { أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة ، وأنا أول شافع وأول مشفع } ( مسلم ) .
فهذا قول الله تعالى يقول عن نبيه صلى الله عليه وسلم : [ إنك ميت وإنهم ميتون ] " الزمر " فلا إله إلا الله ـ أين عقول أولئك الناس عن قول الله عز وجل ، وقول نبيه صلى الله عليه وسلم . ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا أجدبوا واحتبس عنهم المطر ، فإنهم يطلبون من نبيهم أن يدعو الله لهم ، فكان يفعل ، ولكن بعد موته عليه الصلاة والسلام ، لم ينقل عن أحد منهم أنه كان يدعو النبي في قبره ويستغيث به ، بل كما جاء عن عمر بن الخطاب أنه دعا العباس عم رسول الله ، فقال : الهم إنا كنا نستشفع بنبينا فتسقينا ، فها نحن نستشفع بعم نبينا فأسقنا ، فقال : قم يا عباس فادع الله لنا ، ولم يستشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ، لأنه عرف أنه لم يعد يملك لهم شيئاً بعد موته .
6ـ ما يحدث في هذه الموالد من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أو الغلو فيه والتوسل به أو الغلو في الأولياء ، وهذا هو الشرك الأكبر المحبط للأعمال والمدخل للنيران ـ أعاذنا الله من ذلك ـ فيحصل فيها دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستعانة والاستغاثة به ، أو طلب المدد منه عليه الصلاة والسلام ، واعتقاد أنه يعلم الغيب ، ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يفعلها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره ممن يسمونهم بالأولياء .
وإن الله تعالى قد حرم الدعاء لغيره سبحانه ، فالدعاء حق من حقوقه تعالى فلا يُصرف إلا لله ، قال تعالى : [ وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ] " الجن 18 " وقال تعالى : [ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ] " الأعراف 194" ، وإلى أصحاب العقول والأفهام هذه الآية التي تبطل كل المزاعم من أن الأموات يسمعون دعاء الغير ، هذه الآية قاطعة وجازمة بأن الميت لا يسمع ولا ينفع ولا يضر ، قال تعالى : [ والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ] " فاطر 13 ـ 14 " ، فمن دعا غير الله عز وجل بجلب نفع أو دفع ضر أو غير ذلك فقد أشرك بالله شركاً أكبر مخرجاً من الملة ، فلا يُدعى إلا الله عز وجل لأنه سبحانه بيده دفع الضر وكشفه وإسباغ النعمة وإفاضة الخير على عباده وغير ذلك من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله .(7/58)
وقال جل وعلا : [ ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ] " الأحقاف 5-6 " ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما : { إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله } ( الترمذي ) .
فلا يسأل الإنسان إلا ربه ، ولا يستعين إلا به ، فهو سبحانه الذي يستطيع النفع والضر وبيده خزائن كل شيء ، لذلك قال تعالى : { وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ] " غافر 60" ، وقال تعالى : [ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً ] " الإسراء 56" .
ولو كان أولئك الأموات يملكون نفعاً أو ضراً لنفعوا أنفسهم ولما ما توا ، ولدفعوا عن أنفسهم الموت وما يحصل بهم من ضر ، فكيف ينفعون غيرهم أو يضرونهم ـ فعجباً !! لأولئك الناس الذين تركوا عقولهم سلعة رخيصة يلعب بها شياطين الإنس والجن ، حتى ضلوا عن جادة الصواب ، فعبدوا العباد ، بدلاً من أن يعبدوا رب العباد ، واتجهوا إلى عبادة القبور والأضرحة التي لا تنفع ولا تضر فما هي إلا كومة من تراب ولو قدر الله عز وجل وبعث أحد أولئك الأموات ، ووجد الناس رجالاً ونساءً جماعات وفرادى يطوفون حول قبره ويتبركون به ويطلبون المدد منه ويذبحون تقرباً إليه ، والله لما وسعه إلا أن يدعوهم إلى عبادة الله ولبين لهم أنه إنسان مثلهم لا ينفع ولا يضر وإلا لنفع نفسه قبل ذلك ، ولو وجدهم على حالهم هذه لسخر منهم واستهزأ بهم ولتبرأ إلى الله مما يفعلون ، فالله عز وجل أنعم عليهم بنعم شتى ، فوهبهم العقل والسمع والبصر ، ومع ذلك فنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا ، يعرفون الباطل فلا يجتنبونه ، ويعرفون الحق فلا يتبعونه وقد قال لهم ربهم : [ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ] " الذاريات 56 " .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار } ( أحمد والبخاري ) ، وفي رواية مسلم : { من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار } .
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تعظيمه فقال : { لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا } ( مسلم وأبو داود وابن ماجة ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } ( في الصحيحين ) ، قالت عائشة رضي الله عنها : {يحذر ما صنعوا ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجداً } . وقال عليه الصلاة والسلام : { ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنها كم عن ذلك } ( مسلم ) ، وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم : { لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها } . وروى أهل السنن عن بن عباس رضي الله عنهما قال : { لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج } ، وذكرت أم سلمة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور ، فقال : { أولئك إذا مات فيهم الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله } ( البخاري ومسلم ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : { ولا تجعلوا قبري عيداً } ( أبو داود ) وروى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } وقال صلى الله عليه وسلم : { لا تطروني كما أطرت النصارى بن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله } ( البخاري ) .
فيحرم الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم أو التوسل به أو دعاؤه أو طلب المدد منه صلى الله عليه وسلم فهو ميت وقد قال تعالى : [ إنك ميت وإنهم ميتون } " الزمر30 " وقال تعالى : [ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفأين مت فهم الخالدون ] " الأنبياء34 " ، فإذا كان هذا يحرم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى ، لأنهم لا ينفعون ولا يضرون فيحرم الطواف حول قبور أولئك الأموات ويحرم الذبح عندها أو التقريب لها ، أو طلب المدد منها أو التبرك بها والتمسح بها أو غير ذلك من الأمور المحرمة ، فكل من فعل ذلك فهو داخل في قوله تعالى : [ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ] " النساء 116 " وقوله تعالى : [ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً ] " الفرقان 23" ، وقوله تعالى : [ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ] " الكهف 104" ، لأنهم خالفوا ما خلقوا من أجله وهو عبادة الله وحده لا شريك له .(7/59)
فاجتماع الناس لإحياء ليلة المولد وقراءة قصته صلى الله عليه وسلم بدعة محدثة منكرة في دين الله عز وجل ، ومن أباطيلهم وكذبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر هذه المجالس ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد توفي وغسل وكفن وصلي عليه صلاة الجنازة ودفن كغيره ، وهو أول من يبعث يوم القيامة من قبره .
ومن البدع المنكرة التي يجب إنكارها ، الاحتفال بالنصف من شعبان ، وعيد الميلاد ، وبلوغ الشخص 21سنة وعيد الأم وغير ذلك من البدع التي أحدثها أعداء الله ليشوشوا على المسلمين عقيدتهم ويبعدوهم عن دينهم فيقعوا فريسة لأهواء الأعداء ، فأين أفئدتهم وأبصارهم .
فقد نقل الصحابة رضوان الله عليهم ، عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كل شئ تحتاجه الأمة ولم يفرطوا في شئ من الدين ، بل هم السابقون إلى كل خير فلو كان الاحتفال بمولده مشروعاً لكانوا أسبق الناس إليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم أنصح الناس ، وقد بلغ البلاغ المبين ، ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ، ويباعد من النار إلا بينه للأمة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : { ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم شر ما يعلمه لهم } ( مسلم ) وقال تعالى : [ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر وذكر الله كثيراً ] " الأحزاب 21" وقال تعالى : [ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ] " التوبة 100 " .
وقال صلى الله عليه وسلم : { إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين } . فلو كان تعظيم هذا المولد والاحتفال به من دين الله ، لفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتمه ، فلما لم يقع شئ من ذلك ، عُلم أن الاحتفال بهذا المولد وتعظيمه ليس من الإسلام في شئ فهو بدعة منكرة في دين الله عز وجل ما أنزل الله بها من سلطان ، ولم يأذن بها الله تعالى ، فقد أكمل الله تعالى الدين وأتم النعمة على عباده : [ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ] " المائدة 3 " ، وقال تعالى : [ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم } " الشورى 21 ".
وقال صلى الله عليه وسلم : { من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد } ( متفق عليه ) ، وقال عليه الصلاة والسلام : { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } ( مسلم ) وفي صحيح مسلم ، قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة : { أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة } وزاد النسائي بسند جيد : { وكل ضلالة في النار } . وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع ، فأوصنا : { أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ، وإن تأمر عليكم عبد ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة } ( أحمد وغيره ) .
فلقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه والسلف الصالح التحذير من البدع ، والترهيب منها ، وذلك لأنها زيادة في دين الله عز وجل ، وفي البدع تشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى في زيادتهم وابتداعهم في دينهم زيادة لم يأذن بها الله ، ففي ذلك من الفساد العظيم والمنكر الشنيع ما لا يعلم إلا به الله .
وفي تلك البدع والاحتفالات مصادمة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
أسأل الله تعالى أن يمن علينا بالعلم النافع ، والعمل الصالح ، وأن يجنبنا البدع الظاهرة والباطنة ، وأن يتم علينا نعمة الدين المستقيم ، دين الإسلام الحنيف ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين ، نبينا محمد الأمين
--------------------
8. ... شهر ربيع الأول
أول من أحدث بدعة المولد النبوي:
لا شك أن الصحابة رضي الله عنهم هو أشد الناس محبة للرسول صلى الله عليه وسلم وأحرصهم على اتباعه وأعلم الناس بالسنة ، وهم رضي الله عنهم مع حرصهم وشدة محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤثر عنهم على الإطلاق إن أحدا منهم احتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يؤثر كذلك عن القرون المفضلة الأولى أن أحدا احتفل بالمولد . فلم تسجل حادثة واحدة في كتب التاريخ تدل على وجود مثل هذا الأمر في تلك القرون .
ما يعني أن أمر هذا الاحتفال استحدث بعد هذه القرون المفضلة .(7/60)
وأول من أحدث هذه البدعة هم الباطنية وبالأخص قوم يعتبرون من المؤسسين للدعوة الباطنية يقال لهم بني القداح ويسمون أنفسهم بالفاطميين ، وينتسبون زوراً إلى ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فجدهم هو ميمون ابن ديصان القداح وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق وميمون هذا من الأهواز وهو أحد مؤسسي المذهب الباطني الخبيث وذلك بالعراق ، ثم ارتحل إلى المغرب ، وانتسب هناك إلى عقيل بن أبي طالب وزعم أنه من نسله ، فلما دخل في دعوته قوم من غلاة الرافضة ادعى أنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق فقبلوا ذلك منه على الرغم من أن محمد ا بن إسماعيل بن جعفر الصادق مات وليس ذرية . وممن تبع ابن ديصان القداح رجل يقال له : حمدان قرمط وإليه تنسب القرامطة .
ثم لما توالت الأيام ظهر المعروف منهم بسعيد بن الحسين بن أحمد بن عبدالله بن ميمون بن ديصان القداح فغير اسمه ونسبه وقال لأتباعه : أنا عبيد الله بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق فظهرت فتنته بالمغرب .
قال ابن خلكان في وفيات الأعيان: (وأهل العلم بالأنساب من المحققين ينكرون دعواه في النسب).
وفي سنة 402 هـ كتب جماعة من العلماء والقضاة ، والأشراف والعدول والصالحين والفقهاء والمحدثين ، محاضر تتضمن الطعن والقدح في نسب الفاطميين – العبيديين - وشهدوا جميعا أن الحاكم بمصر هو : منصور بن نزار الملقب ب" الحاكم " حكم الله عليه بالبوار والخزي والدمار – ابن معد بن إسماعيل بن عبدالله بن سعيد –لا أسعده الله – فإنه لما صار إلى بلاد المغرب تسمى بعبيد الله ، وتلقب بالمهدي ، وأن من تقدم من سلفه أدعياء خوارج ، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه . ولا يتعلقون بسبب وأنه منزه عن باطلهم ، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور . وأنهم لا يعلمون أحدا من أهل بيوتات علي بن أبي طالب رضي الله عنه توقف عن إطلاق القول في أنهم خوارج كذبه ، وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعا في الحرمين ، وفي أول أمرهم بالمغرب ، منتشرا انتشارا يمنع أن يدلس أمرهم على أحد ، أو يذهب وهم إلى تصديقهم فيما ادعوه ، وأن هذا الحاكم بمصر –هو و سلفه – كفار فساق فجار ، ملحدون زنادقة ، معطلون ، وللإسلام جاحدون ، ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون ، وقد عطلوا الحدود ، وأباحوا الفروج ، وأحلوا الخمر ، وسفكوا الدماء ، وسبوا الأنبياء ولعنوا السلف ، وادعوا الربوبية، كتب في سنة 402 هجرية وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير . ا.هـ
فأول من قال بهذه البدعة – بدعة الاحتفال بالمولد النبوي – هم الباطنية الذين أرادوا أن يغيّروا على الناس دينهم ، وأن يجعلوا فيه ما ليس منه ؛ لإبعادهم عما هو من دينهم فإشغال الناس بالبدع طريق سهل لإماتة السنة ، والبعد عن شريعة الله السمحة وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المطهرة.
وقد كان دخول العبيديين مصر سنة 362 هـ في الخامس من رمضان ، وبدعة الاحتفال بالمولد عموما ، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم خصوصا إنما ظهرت في عهد العبيديين ، ولم يسبقهم أحد إلى ذلك .
قال المقريزي : ( ذكر التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادا ومواسم تتسع بها أحوال الرعية وتكثر نعمهم وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي ) :
• موسم رأس السنة
• وموسم أول العام
• ويوم عاشوراء
• ومولد النبي صلى الله عليه وسلم
• ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه
• ومولد الحسن رضي الله عنه
• ومولد الحسين رضي الله عنه
• ومولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها
• ومولد الخليفة الحاضر
• وليلة أول رجب
• وليلة النصف من رجب
• وليلة أول شعبان
• وليلة النصف من شعبان
• وموسم ليلة رمضان
• وغرة رمضان
• وسماط رمضان
• وليلة الختم
• وموسم عيد لفطر
• وموسم عيد النحر
• وعيد الغدير
• وكسوة الشتاء
• وكسوة الصيف
• وموسم فتح الخليج
• ويوم النيروز
• ويوم الغطاس
• ويوم الميلاد
• وخميس العدس
• وأيام الركوبات
ثم تكلم المقريزي عن كل موسم من هذه المواسم ، ومراسم الاحتفال فيه .
فهذه شهادة ظاهرة واضحة من المقريزي – وهو من المثبتين انتسابهم إلى ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن المدافعين عنهم – أن العبيديين هم سبب البلاء على المسلمين وهم الذين فتحوا باب الاحتفالات البدعية على مصراعيه ، حتى إنهم كانوا يحتفلون بأعياد المجوس والمسيحيين وهذا من الأدلة على بعدهم عن الإسلام ومحاربتهم له ، وإن لم يجهروا بذلك ويظهروه .
وفي ذلك دليل أيضا على أن إحياءهم للموالد الستة المذكورة ومنها مولد النبي صلى الله عليه وسلم ليس محبة له صلى الله عليه وسلم كما يزعمون وكما يظهرون للعامة والسذج من الناس ، وإنما قصدهم بذلك نشر خصائص مذهبهم الإسماعيلي الباطني ، وعقائدهم الفاسدة بين الناس ، وإبعادهم عن الدين الصحيح ، والعقيدة السليمة بابتداعهم هذه الاحتفالات ، وأمر الناس بإحيائها ، وتشجيعهم على ذلك وبذل الأموال الطائلة في سبيل ذلك .(7/61)
موقف أهل السنة والجماعة من بدعة المولد
اتفق العلماء من السلف الصالح - رحمهم الله – على أن الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من المواسم غير الشرعية ، أمر محدث مبتدع في الدين ، ولم يؤثر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ، ولا عن التابعين وتابعيهم ، ولا علماء الأمة المشهورين كالأئمة الأربعة ونحوهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
(وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول ، التي يقال إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف، ولم يفعلوها، والله سبحانه وتعالى أعلم).
وقال – أيضا – في – " اقتضاء الصراط المستقيم " : ((فصل.. ومن المنكرات في هذا الباب: سائر الأعياد والمواسم المبتدعة ، فإنها من المنكرات المكروهات سواء بلغت الكراهة التحريم ، أو لم تبلغه ؛ وذلك أن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها ؛ لسببين :
أحدهما: أن فيها مشابهة للكفار .
والثاني : أنها من البدع . فما أحدث من المواسم والأعياد هو منكر ، وإن لم يكن فيها مشابهة لأهل الكتاب ؛ ))
وقد ذكر رحمه الله تعالى توجيه ذلك فقال : (( أن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات ، فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر – رضي الله عنهما – قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرّت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ، ويقول : ؛" بعثت أنا والساعة كهاتين – ويقرن بين إصبعيه : السبابة والوسطى - ويقول :" أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة " وفي رواية للنسائي: "وكل ضلالة في النار")).
وبين رحمه الله تعالى أن الزمان ثلاثة أنواع ويدخل فيها بعض أعياد المكان والأفعال:
أحدها : يوم لم تعظمه الشريعة الإسلامية أصلا ، ولم يكن له ذكر في السلف ، ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه ، مثل أول خميس من رجب ، وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب .
النوع الثاني : ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره ، من غير أن يوجب ذلك جعله موسما ، ولا كان السلف يعظمونه : كثامن عشر ذي الحجة الذي خطب النبي صلى الله عليه وسلم بغدير خم مرجعه من حجة الوداع ...
وكذلك ما يحدثه بعض الناس : إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام ، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع – من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا مع اختلاف الناس في مولده ، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع فيه لو كان خيرا ، ولو كان خيرا محضا أو راجحا لكان السلف – رضي الله عنهم – أحق به منا ، فإن كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا ، وهم على الخير أحرص . وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره ، وإحياء سنته ظاهرا وباطنا ، ونشر ما بعث به ،والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان ، فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان .
وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حرّاصا على أمثال هذه البدع – مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد – تجدهم فاترين في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أمروا بالنشاط فيه ، وإنما هم بمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه ، أو يصلي فيه قليلا ، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة ، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي تُشرع ، ويصحبها من الرياء والكبر والاشتغال عن المشروع بما يفسد حال صاحبها .
المراجع :
• كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي
• كتاب البدع الحولية لعبد الله بن عبد العزيز التويجري
المصدر المفكرة الإسلام
--------------------
9. ... المولد النبوي بين المشروعية والبدعية
المولد النبوي بين المشروعية والبدعية
فهد عبد الله
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.
فمع كل إقبال شهر ربيع الثاني يثار الجدل والنقاش حول مشروعية الاحتفال بمولد النبي- صلى الله عليه وسلم - من عدم مشروعيته وتكثر الرسائل والكتب من الطرفين المجيزين والمانعين وتتنوع بين الصغيرة والكبيرة والمطولة والمختصرة، ومع هذا فقد أحببت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع وأن أوضح بعض القضايا التي أرى من الضروري فهمها واستيعابها وتجليتها وبيانا للحق وكشفا لغيره مما قد يلبس لبوس الحقيقة وهو عنها بمعزل.
وقد قسمت البحث إلى :
المقدمة: فقبل أن أدخل في صلب الموضوع مهدت له بجملة تمهيدات هي في الحقيقة مقدمات ضرورية ومفيدة يظهر من خلالها حكم المولد وترسم الطريق لكيفية التعامل مع هذه المسألة وغيرها مما يقاربها أو يشابهها .
الفرع الأول: أدلة المانعين.(7/62)
الفرع الثاني: أدلة المجيزين.
الفرع الثالث: القول الراجح.
الخاتمة.
المقدمة
وهنا أذكر بعض القضايا التي تصور بعض جوانب هذه المسألة وتساعد على فهمها وإعطائها الحكم الصائب.
1- تاريخ المولد النبوي:
يرجع البعض الاحتفال بالمولد النبوي إلى الدول الباطنية والتي يسميها أتباعها بالفاطمية والتي حكمت مصر ردحا من الزمن وكانت هذه الدولة تعتنق الدين الإسماعيلي وينتسب قادتها إلى شخص يسمى عبيد الله بن ميمون القداح يذكر عنه بعض المؤرخين بأنه مجوسي دس نفسه في المسلمين مريدا زعزعة دينهم وخلخلته من الداخل بإحداث بعض البدع والخرافات والعقائد المناقضة للإسلام.
ويذكرون أن الدولة الباطنية أحدثت المولد النبوي ضمن موالد واحتفالات وأعياد أخرى كثرت مع الزمن ونكتفي بذكر الموالد التي نقل احتفالهم بها وهي: مولد النبي- صلى الله عليه وسلم -، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن والحسين ، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر [1]
في حين يرجع آخرون وهم المؤيدون للمولد بأن أول من عمله لم يكن باطنيا أو إسماعيليا بل كان ملكا عادلا ويعرف بالمظفر أبي سعيد ملك إربل وحكي عنه أنه في بعض الموالد كان يمد في السماط خمسة آلاف رأس مشوى، وعشرة آلاف دجاجة ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى وأنه كان يحضر عنده في هذه الموالد أعيان العلماء(!) والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم(!!!)[2]، ولكن مما أيد به أصحاب القول الأول قولهم أن تاريخ فعل هذا الملك متأخر عن فعل الباطنية مما يعني أنهم أول من أحدثه، وأن هذا الملك فلدهم جهلا.
وعلى كل فالجميع متفقون على أنه جاء متأخرا بحيث مرت القرون الثلاثة الأولى وهي القرون المفضلة دون ذكر للاحتفال بالمولد أو إقامته، وهذا هو المطلوب أي الإقرار بأن المولد حدث متأخرا، لأننا سنبني على هذا شيئا آخر، ولا يهمنا في هذا المقام كون أول من احتفل بالمولد سنيا أو شيعيا، إنسيا أو جنيا أو غيره.
وهذا ما صرح به العلماء حيث ذكروا أن الاحتفال بالمولد لم يكن في السلف قال الحافظ السخاوي في فتاويه :"عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة وإنما حدث بعد".أهـ[3]
وإن مما يجدر ذكره والتنبيه عليه أن فترة ظهور المولد كانت فترة التقليد وانقضاء المجتهدين، ومن المعلوم أن استحباب فعل ما أو إيجابه اجتهاد بلا شك؛ لأن التقليد هو التزام قول الغير دون زيادة أو نقصان بخلاف الاجتهاد الذي يعني بذل الوسع في استنباط حكم شرعي وهذا بعينه هو ما قالوه بشأن استحباب المولد فكيف يتواءم هذا مع ما نظروا له من تحريم الاجتهاد وإغلاق بابه وشن الغارة على بعض الأكابر ممن هو أهل للاجتهاد بتضليله لكونه نزع ربقة التقليد، إنه حقا لأمر غريب، أقول هذا وإن كانت قناعتي بأن إقفال باب الاجتهاد لم يكن واقعيا إلى حد كبير فدعوى إغلاق باب الاجتهاد وانقراض عصر المجتهدين وإن منعت علماء أكابر من الاجتهاد في مسائل مهمة وكانت سيفا مصلتا على كثيرين إلا أنها في الواقع لم تمارس عمليا بشكل كبير فقد كان الكثير من الفقهاء يجتهدون بل ومن وصموا بأنهم مقلدين، ولسنا في مقام بسط هذا إنما أحببت أن أشير إلى هذه النكتة إذ إن بعضهم مع تحريمه الاجتهاد على جلة من العلماء الكبار إذا به يجتهد هو نفسه، وللأسف أنه حين يجتهد يكون اجتهاده غالبا مجانبا للصواب فيما يتعلق بما يشابه قضايا المولد والذكر ونحوها مما له علاقة بالتصوف والذي دخلت فيه الكثير من الدخائل.
2- السنة والبدعة:
كثر الكلام عن البدعة وتعددت تعاريف العلماء لها فمنها المتشابه ومنها المتغاير ومنها المتداخل، وقد حاول كل صاحب تعريف أن يدلل لتعريفه وينقض تعريف الآخرين، والسبب الأكبر في هذا الاختلاف هو أن كل صاحب تعريف يصوغ تعريفه بما يتلائم وأقواله الفقهية وتوجهاته الاستنباطية والمذهبية فهو يصوغ التعريف بعين وينظر بالعين الأخرى إلى الفروع، محاولا ألا يعود تعريفه بإبطال بعض أقواله وفتاويه أو فتاوى مدرسته الفقهية التي ينتمي غليها.(7/63)
ومع هذا تجد أحيانا هذه التعاريف مطاطة عامة لا تستطيع أن تمسكها، فإذا ما جئتها من طرف فرت عليك من طرف آخر، وكمثال على هذا يعرف بعضهم البدعة بأنها "إحداث ما لم يكن في عهد الرسول- صلى الله عليه وسلم -"[4] فترى أن هذا التعريف واسع يشمل كل ما لم يكن في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم - سواء كان في إطار التعبدات أو العادات، وهكذا تجد الكثير من التعاريف، يرد عليها هذا الإشكال ولهذا تفادا أصحاب التعريف السابق ما قدر يرد على تعريفهم من إشكالات بأن قسموا البدعة إلى: بدعة حسنة وأخرى سيئة، وقسمها آخرون كالعز بن عبد السلام وتبعه كثيرون إلى الأحكام الخمسة: واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، ولكن يرد هذا التقسيم حديث: "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"[5] ومن المعلوم أصوليا أن (كل) من ألفاظ العموم وأضيفت إلى نكرة فتعم كل بدعة، ولهذا فتقسيم البدعة على هذا الشكل يتناقض تماما والنص النبوي.
والصواب أن البدعة لها إطلاقان الأول لغوي والثاني شرعي ، فأما الإطلاق اللغوي فتعني البدعة إحداث ما ليس له مثال سابق وفي هذا الإطار يدخل تعريف العز ونحو قول عمر رضي الله عنه بشأن التراويح: نعمت البدعة هذه، مراده البدعة بالمعنى اللغوي للبدعة لا المعنى الاصطلاحي.
فالبدعة بالمعنى اللغوي تشمل ما كان دنيويا كاختراع الكهرباء والسيارات والطائرات، إذ كلها أحدثت على غير مثال سابق.
كما يدخل ضمنها المصالح المرسلة كجمع القرآن وتدوين العلوم وبناء المدارس والأربطة ونحوها.
أما المعنى الاصطلاحي للبدعة فالذي نرتضيه إلى حد كبير هو تعريف الإمام الشاطبي في كتابه القيم الاعتصام والذي عرف البدعة بأنها "طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية"[6] فيخرج بهذا التعريف ما كان دنيويا وما كان مصلحة مرسلة.
بقيت نقطة أود توضيحها لها تعلق بموضوع البدعة ويحتج بها البعض في تجويز واستحباب بدعة ما وهو قولهم: إن له أصلا في السنة كما فعل بعضهم في مسألة المولد بأن قال إنه خرجه على أصل ثابت في الصحيحين من أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى"[7].
ويكفي في الرد على هذا أن نذكر قصة عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -لما جاء إلى أولئك القوم المتحلقين في المسجد، ومعهم حصى، يعدون بها التكبير والتهليل والتسبيح، فقال لهم - رضي الله عنه -:"فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامنٌ أن لا يضيع من حسناتكم شيءٌ، ويحكم يا أمة محمدٍ! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرونَ، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملةٍ أهدى مِن ملةٍ محمدٍ أو مفتتحو باب ضلالةٍ.
قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن؛ ما أردنا إلا الخير.
قال: وكم من مريدٍ للخيرِ لن يصيبه" [8]
فرغم أن الشارع قد حث على الذكر ورغب فيه ووردت فيه الكثير من الأدلة الصحيحة والصريحة بما لم يرد شيء منه في المولد ومع هذا فقد وصفهم ابن مسعود بأنهم لم يصيبوا الخير، وهذا دليل واضح في المسألة.
ارتكبت الكثير من البدع ونَفَذَت العديد من الخرافات، تحت عنوان له أصل في السنة مع أن ما زعموه أصلا لا يتفق مع ما يفعلوه، كم أنه لو لم يكن إلا تعارض حديث (كل بدعة ضلالة) والذي يدل على التحريم والأصل الذي يذكرونه لكان الأخذ بالتحريم هو الصواب وهو ما ذكره العلماء في التعارض من علم الأصول، هذا إذا تنزلنا وقلنا بوجود تعارض وإلا فالأمر ليس كذلك بتاتا.
إن البدعة تعني الاستدراك على الشارع بتشريع ما لم يشرعه والله يقول : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } ]المائدة:3[ فدين الله كامل لا يحتاج إلى زيادة، ويكفينا أثر ابن مسعود - رضي الله عنه -حيث قال: "اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة"[9].
3- تصوير زائف:
يحاول البعض تصوير الخلاف بين من يحرمون الاحتفال بالمولد والمجيزين له بأنه خلاف بين من يحب النبي- صلى الله عليه وسلم - ومن لا يحبه بل تأخذ بعضهم فورة الغضب فيقول : إن بين القوم -أي المحرمين لهذه البدعة- والنبي- صلى الله عليه وسلم - شيء وأن غرضهم إنما هو نزع محبة النبي- صلى الله عليه وسلم - من القلوب!!! ولست أدري هل كان بين خير القرون ورسول الله- صلى الله عليه وسلم -شيء، وهل أراد سلف الأمة بعدم احتفاله نزع محبة النبي- صلى الله عليه وسلم - من القلوب.
أقول يؤخذ على هذا التصوير وتبعاته الكلامية مآخذ:
أ - ليس من أدب الخلاف أن نرمي الآخر بمثل هذا الكلام الذي لا يمت إلى الموضوع بصلة.(7/64)
ب - يقول سبحانه { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } [10] فالله وحده هو من يعلم ما تخفيه الصدور وما تنطوي عليه القلوب، فقوله بأن غرضهم... علم بالغيب ورد لهذه الآية، هذا وقد ثبت في مسلم أن زيد بن ثابت قتل رجلا في حرب بعد نطقه الشهادتين فعنفه رسول الله فقال زيد إنما قالها خوفا من السلاح، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: أفلا شققت عن صدره"[11] ونقول لهذا القائل أفلا شققت عن صدور المخالفين حتى علمت أغراضهم.
ت - أن الخلاف ليس حول مسألة عقدية بل هي مسألة فرعية هذا في حالة كون بالمولد مجردا عن بدع أخرى لها أحكامها الأخرى، فتهويلها بالشكل السابق فيه مجانبة للحقيقة بل يزعم بعضهم بأن المحرمين يقولون بأن من يحتفل بالمولد مشرك!!! هكذا ولست أدري ما الذي يدفع إلى هذا القول الذي ليس له من الحقيقة أدنى نصيب.
ث - في قولهم بأن بين المحرمين والنبي- صلى الله عليه وسلم - شيء...الخ ولا أدري ما هذا الشيء إلا أنني استغرب هذه المقولة ممن يدعي التصوف ويدعو إلى حسن الظن بالمسلمين ومعاملتهم باللين وعدم رفع الخلافيات والفرعيات إلى القطعيات ونحو هذا الكلام الذي اكتشفت أخيرا بعده عن واقعه وانعدام أثره في تطبيقه العملي وما نحن فيه خير مثال على ذلك.
ج - إن المقولة السابقة تعني تكفير المحرمين، لأن من يكون بينه وبين النبي- صلى الله عليه وسلم - شيء ويريد أن ينزع محبة النبي- صلى الله عليه وسلم - من القلوب فالكفر غير بعيد عليه، في حين أنه يتهم المحرمين بأنهم هم من يكفر الناس !!!
ح - عندما يفلس القائل من كل الحجج المقنعة بحيث لا يجد ما يؤيد مقولته يضطر إلى قول مثل هذا الكلام الدعائي الذي لا تتوفر فيه المعايير الموضوعية ولا ينطلق وفق المناهج العلمية في التدليل وتنعدم عنده كل أشكال الاستدلال.
خ - يريد المجيزون أن يتفهم الآخرون موقفهم وهم لم يتفهموا موقف غيرهم، فالمحرمون قالوا بتحريم الاحتفال بالمولد بناء على أدلة صحت عندهم والتي سنذكرها لاحقا فاتهامهم بتهم غير لائقة لا يمت إلى التدين ولا إلى أدب الخلاف بصلة.
الفرع الأول: أدلة المحرمين لإقامة المولد النبوي
استدل المحرمون بجملة أدلة أذكرها فيما يلي:
1- أن هذا الفعل لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به ولا فعله صحابته ولا أحد من التابعين ولا تابعيهم ولا فعله أحد من أهل الإسلام خلال القرون المفضلة الأولى وإنما ظهر- كما تقدم- على أيدي أناس هم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان وهم الباطنيون.
إذا تقرر هذا فالذي يفعل هذا الأمر داخل ضمن الوعيد الذي توعد الله عز وجل صاحبه وفاعله بقوله (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) والذي يفعل ما يسمى بالمولد لاشك انه متبع لغير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعيهم .
2- أن الذي يمارس هذا الفعل واقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وجاء في رواية أخرى ( وكل ضلالة في النار ).
فقوله (كل بدعة ضلالة ) عموم لا مخصص له يدخل فيه كل أمر مخترع محدث لا أصل له في دين الله والعلماء مجمعون على انه أمر محدث فصار الأمر إلى ما قلنا أنه بدعة ضلالة تودي بصاحبها إلى النار أعاذنا الله وإياك منها.
3- أن فاعل هذه البدعة غير مأجور على فعله بل مردود على صاحبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) ولا يكفي حسن النية بل لابد من متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
4- قال الله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } [12]
والقول بأن المولد عبادة يتعبد لله تعالى بها فيه تكذيب بهذه الآية .
كما أن فيه استدراك على الله وعلى رسوله بأنهم لم يدلونا على هذه العبادة العظيمة التي تقرب إلى الله والرسول .
5- أن فاعل المولد معاند للشرع ومشاق له لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه وكيفيات خاصة وقصر الخلق عليها بالأوامر والنواهي وأخبر أن الخير فيها والشر في مجاوزتها وتركها لأن الله اعلم بما يصلح عباده، وما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب إلا ليعبدوه وفق ما يريد سبحانه والذي يبتدع هذه البدعة راد لهذا كله زاعم أن هناك طرقا أخرى للعبادة وان ما حصره الشارع أو قصره على أمور معينة ليس بلازم له فكأنه يقول بلسان حاله إن الشارع يعلم وهو أيضا يعلم بل ربما يفهم أن يعلم أمرا لم يعلمه الشارع.
6- أن في إقامة هذه البدعة تحريف لأصل من أصول الشريعة وهي محبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه ظاهرا وباطنا واختزالها في هذا المفهوم البدعي الضيق الذي لا يتفق مع مقاصد الشرع المطهر إلى دروشة ورقص وطرب وهز للرؤوس لأن الذي يمارسون هذه البدعة يقولون إن هذا من الدلائل الظاهرة على محبته ومن لم يفعلها فهو مبغض للنبي صلى الله عليه وسلم(7/65)
وهذا لاشك تحريف لمعنى محبة الله ومحبة رسول لان محبة الله والرسول تكون باتباع سنته ظاهرا وباطنا كما قال جل وعلا { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [13]
فالذي يجعل المحبة باقامة هذه الموالد محرف لشريعة الله التي تقول ان المحبة الصحيحة تكون باتباعه صلى الله عليه وسلم ، بل محو لحقيقة المحبة التي تقرب من الله وجعلها في مثل هذه الطقوس التي تشابه ما عند النصارى في أعيادهم وبهذا يعلم أنه ( ما أحييت بدعة إلا وأميتت سنة ).
7- أن هذا المولد فيه مشابهة واضحة لدين النصارى الذين يحتفلون بعيد ميلاد المسيح وقد نهينا عن التشبه بهم كما قال صلى الله عليه وسلم "ومن تشبه بقوم فهو منهم"[14][15]
8- أن الفرح بهذا اليوم والنفقه فيه وإظهار الفرح والسرور فيه قدح في محبة العبد لنبيه الكريم إذ هذا اليوم باتفاق هو اليوم الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يفرح فيه.
وأما يوم مولده فمختلف فيه ،فكيف تكون عبادة عظيمة تقرب إلى الله واليوم الذي يحتفل فيه غير مجزوم به .
ويقول ابن الحاج [16]:" ثم العجب العجيب كيف يعملون المولد للمغاني والفرح والسرور لأجل مولده عليه الصلاة والسلام كما تقدم في هذا الشهر الكريم وهو عليه الصلاة والسلام فيه انتقل إلى كرامة ربه عز وجل وفجعت الأمة فيه وأصيبت بمصاب عظيم لا يعدل ذلك غيرها من المصائب أبداً فعلى هذا كان يتعين البكاء والحزن الكثير وانفراد كل إنسان بنفسه لما أصيب به ......". أهـ
9- اشتمال هذه الموالد على كثير من كبائر وعظائم الأمور والتي يرتع فيها أصحاب الشهوات ويجدون فيها بغيتهم مثل: الطرب والغناء واختلاط الرجال بالنساء، ويصل الأمر في بعض البلدان التي يكثر فيها الجهل أن يشرب فيها الخمر وكذلك إظهار ألوان من الشعوذة والسحر ومن يحضر هذه الأماكن بغير نية القربة فهو آثم مأزور غير مأجور فكيف إذا انضم إليه فعل هذه المنكرات على أنها قربة إلى الله عز وجل فأي تحريف لشعائر الدين أعظم من هذا التحريف[17].
الفرع الثاني: أدلة المجيزين ومناقشتها
استدل الميزون بجملة أدلة نذكرها فيما يلي مع مناقشة وجه الاستدلال:
1) قال تعالى: { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } [يونس 58].
فالله عَزَّ وجَّل طلب منا أن نفرح بالرحمة، والنبيُّّ صلى الله عليه وسلم رحمة، وقد قال تعالى: { وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء 107].
الجواب:
بعد الرجوع إلى كتب التفسير المشهورة كتفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير وتفاسير القرطبي والبغوي والبيضاوي والنسفي وابن الجوزي لم أعثر على شيء من هذا القبيل ويكفي في توضيح معنى الآية أن أذكر كلام شيخ المفسرين إذ لو نقلت عن الجميع لطال المقام.
قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بك ، وبما أنزل إليك من عند ربك : بفضل الله أيها الناس الذي تفضل به عليكم وهو الإسلام ، فبينه لكم ودعاكم إليه ، وبرحمته التي رحمكم بها فأنزلها إليكم ، فعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه ، فبصركم بها معالم دينكم ؛ وذلك القرآن .
{ فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } يقول : فإن الإسلام الذي دعاهم إليه والقرآن الذي أنزله عليهم ، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وأموالها وكنوزها، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل"[18] .
يظهر من هذا أن الآية تتحدث عن شيء آخر ولا يدخل فيها نصا أو دلالة ما ذكروه أن النبي- صلى الله عليه وسلم - هو المراد بالرحمة هنا، كما أن في هذا إغفال تام لسياق الآية.
ثم حتى وإن سلمنا بأن المراد بالرحمة هو النبي- صلى الله عليه وسلم - فما دخل المولد بالفرح به، إن المولد يعني الاحتفال في يوم معين من السنة أو بصورة مستمرة بأسلوب مخصوص، والآية تأمر بالفرحة دون توقيت، كما أنها فرحة كذلك بما أنزل على النبي- صلى الله عليه وسلم - من تشريع والذي هو كذلك رحمة للناس ولا علاقة للمولد بهذا كله.
2) قال الله تعالى: { وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل مانثبت به فؤادك } [هود120] والمولد النبوي الشريف يشتمل على أنباء النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذكره تثبيت لأفئدة المؤمنين.
الجواب:
أولا: لا علاقة لهذه الآية بالمولد كما هو ظاهر.
ثانيا: تثبيت الفؤاد يكون بما ثبت في القرآن والسنة حاشا الخزعبلات من القصص التي تهز الإيمان بدلا من تثبيته.
ثالثا: من المعلوم أن السيرة النبوية وذكر قصص الأنبياء كما هو وارد في القرآن وصحيح السنة مما هو مطلوب طوال العام وبدون طقوس ومظاهر خاصة.
3) قوله تعالى حكاية عن عيسى بن مريم عليهما السلام: { ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين } [المائدة 114].
وقوله تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه السلام: { والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا } [مريم:33].(7/66)
هذه الآية والتي قبلها وغيرهما من الآيات ، حافلة بالإشارات إلى ميلاد المسيح عليه السلام، ومدحه ومزاياه التي مَنَّ الله بها عليه، وهي بمجموعها شاهدة وداعية إلى الاحتفال بهذا الحدث العظيم.
وما كان ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم بأقل شأناً من ميلاد عيسى عليه السلام، بل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم منه، لأنه صلى الله عليه وسلم أكبر نعمة، فيكون ميلاده أيضاً أكبر وأعظم.
الجواب:
يجاب عن هذا الاستدلال من وجوه:
أ - إننا أمة الإسلام ليس لنا سوى عيدين لا غير.
ب - الآية الأولى لا تذكر الاحتفال ولا تدل عليه لا دلالة ولا اقتضاء، وإنما تتحدث عن المائدة التي أنزلها الله من السماء لبني إسرائيل من أتباع عيسى.
ت - فيه مشابهة للنصارى ومن المعلوم أن من مقاصد الشرع مخالفتهم في شعائرهم.
4) قال تعالى: { لتؤمنوا بالله ورسوله، وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا } [الفتح9].
الجواب:
ليس من توقيره أن نبتدع في دينه غير ما شرعه وجاء به، بل التوقير الحق هو اتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وقد نهانا عن الابتداع، فوجب اتباعه إيمانا وتوقيرا.
5) قال الله تعالى: { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } [آل عمران:164].
6) قوله سبحانه وتعالى: { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } . والاحتفال بالمولد تطبيع النفس على كثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم رجاء أن ينطبع حبه وحب آله في القلوب .
7) قوله سبحانه وتعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } .
الجواب:
كل الآيات السابقة لا تدل على مشروعية المولد، كما أن المراجع لكتب التفسير يجد لهذه الآيات سياقات ودلالات أخرى لا تتفق وما أرادوا التدليل عليه، وإنني لأستغرب كيف حشرت هذه الآيات في غير موضعها للتدليل على ما لا تدل عليه، وتذكرني هذه الاستدلالات بمناظرة جرت لابن حزم مع بعضهم فاستدل مناظره بآية لا تدل على المراد فما كان من ابن حزم إلا أن قال: إذا كان هذا دليلك فدليلي { قل أعوذ برب الناس }
8) عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: "ذاك يوم ولدتُ فيه، وفيه أنزل علي" [19]
وهذا في معنى الاحتفال به إلا أن الصورة مختلفة ولكن المعنى موجود سواء كان ذلك بصيام أو إطعام طعام أو اجتماع على ذكر أو صلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو سماع شمائله الشريفة
الجواب:
أ - أن المولد ليس فيه صيام بل إن القائلين به يكرهون صيامه ويجعلونه عيدا وينزلون عليه أحكام العيد ويقولون: " يكره صوم يوم المولد النبوي الشريف لإلحاقه بالأعياد"[20] وقال آخر: " ويكره أيضا صوم يوم المولد النبوي لأنه شبيه بالأعياد"[21]
ب - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - صام يوم الاثنين، والمولد قد يكون السبت أو الأحد أو غيرهما فهل يستحب صومه، هم لا يقولون بهذا ولا غيرهم، وإذا ما قاله بعضهم فهو مخالف لما استدلوا به لأن الدليل في الاثنين المتكرر كل أسبوع لا في غيره.
ت - كما أن صومه- صلى الله عليه وسلم - للاثنين لم يكن لشهر ربيع الثاني أو غيره اختصاص فكيف قصره المجيزون على هذا الشهر.
9) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسئلوا عن ذلك فقالوا: هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيماً له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نحن أولى بموسى منكم" وأمر بصومه[22].
الجواب:
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صام يوم عاشوراء وحث على صيامه فكان صيامه سنة وهذا لم يحدث بشأن يوم ولادته الذي هو الثاني عشر من ربيع الأول كما يذهب بعضهم إلى هذا، فهو لم يشرع فيه شيئاً فوجب ألا نشرع فيه شيئا لا صيام ولا قيام فضلا عن الاحتفال[23].
10) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن نفسه بعد النبوة، مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عَقَّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات.
الجواب:(7/67)
تكلم الإمام النووي عن هذا الحديث في المجموع فقال: "أما الحديث الذي ذكره ـ أي الشيرازي ـ في عق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه فرواه البيهقي بإسناده عن عبدالله بن محرر بالحاء المهملة والراء المكررة عن قتادة عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عنه نفسه بعد النبوة" وهذا حديث باطل ، قال البيهقي هو حديث منكر"[24] كما ضعفه الحافظ ابن حجر في الفتح[25] والتلخيص[26].
" هل ثبت أن العقيقة كانت مشروعة لأهل الجاهلية وهم يعملون بها حتى نقول إن عبد المطلب قد عق عن ابن ولده ؟
ثم هل أعمال أهل الجاهلية يعتد بها في الإسلام؟ حتى نقول إذا عق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه شكراً لا قياماً بسنة العقيقة، إذا قد عق عنه ؟
سبحان الله ما أعجب هذا الاستدلال وما أغربه ، وهل إذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح شاة
شكراً لله تعالى على نعمة إيجاده وإمداده يلزم من ذلك اتخاذ يوم ولادته - صلى الله عليه وسلم -عيداً للناس ؟
و لم لم يدعُ إلى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبين للناس ماذا يجب عليهم فيه من أقوال وأعمال ؟ كما بين ذلك في عيدي الفطر والأضحى .
أنسي ذلك أم كتمه ، وهو المأمور بالبلاغ ؟
سبحانك اللهم إن رسولك - صلى الله عليه وسلم - ما نسي ولا كتم ولكن الإنسان كان أكثر شيء جدلاً"[27].
10) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لهم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عزَّ وجل يباهي بكم الملائكة"[28].
11) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. فقال: أي آية؟ قال: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } [المائدة3].
فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذين نزلت فيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بعرفة يوم الجمعة[29].
الجواب:
في هذا اتباع لليهودي الذي ذكر طبعهم من كونهم يحتفلون بالوقائع والحوادث والذي يريد منا المستدل بهذا الدليل أن نتبعهم فيه، ولم يلق بالا إلى أن عمر رضي الله عنه رغم معرفته بزمان ومكان نزول الآية إلا أنه لم يكترث لقول اليهودي ولم يدفعه هذا لأن يحتفل بذلك اليوم ولا غيره، فيا ترى أمرنا باتباع بهدي الخلفاء الراشدين أم بمقولات اليهود، أم أن اليهودي كان أفقه من عمر وصحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -!!!
12) إن الاحتفال بالمولد يشتمل على كثير من أعمال البر كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والذكر والصدقة، ومدح وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذكر شمائله الشريفة وأخباره المنيفة، وكلُّ هذا مطلوب شرعاً ومندوب إليه.
وما كان يبعث ويساعد على المطلوب شرعاً فهو مطلوب، لذا قال تعالى مخبراً أنه هو وملائكته يصلون على النبي: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب 56].
الجواب:
قد يحتوي المولد على ما هو مرغب فيه كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسماع بعض الفوائد العلمية وقراءة سيرته صلى الله عليه وسلم، وهذه كلها مرغب فيها بلا شك، ولهذا ليس الإشكال هنا بل في نقطة أخرى وهي تخصيص أسلوب ووقت وهيئة مخصوصة بحيث يصبح الذكر والصلاة على النبي مع غيرها بمثابة عمل واحد له صفته المخصوصة التي يتقرب بها على جهة التعبد، وهذا هو ما أخرج المولد من المشروعية إلى البدعية.
الفرع الثالث: سبب الخلاف والترجيح:
أولا: سبب الخلاف:
من خلال ذكر أدلة الفريقين يظهر أن الخلاف في مسألة المولد تنبع من سببين:
الأول: هل الاحتفال بالمولد يسلك به مسلك العبادات أو العادات؟!
فالعبادات الأصل فيها التوقف والاتباع، بخلاف العادات .
فالمحرمون رأوا أن المولد من باب التعبدات والتي لا يجوز الزيادة فيها وأننا متعبدون بما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، في حين نظر المجوزون إلى أنه من باب العادات التي لا تحتاج إلى توقيف، فمثلها مثل الدروس التي تقام في المسجد هل نقول إذا كانت ثابتة في زمن معين بأنه بدعة وأنه يجب أن تكون كما كان يفعل رسول الله، فالتعليم وجد مقتضاه في عهد النبي صلى اله عليه وسلم بل هو معلم العالمين ومع هذا فلم يكن يقيم دروسا ثابتة فهل يكون من البدعة أن نفعل نحن كذلك بالطبع لا، وكذلك حال المولد.(7/68)
قد يجاب عن هذا بأن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه وأن التدريس الآن ما هو إلا ترتيب وتنظيم ولكن سيقال بأن هذا الكلام مثله مثل قولنا : له أصل، وهذا مما عبتموه علينا فكيف تقولون به الآن، كما أننا نفعل ذلك إذ المولد ليس إلا ترتيب وتنظيم.
الثاني: إن الموالد الآن لا تقتصر على ما هو مندوب ومرغب فيه بل اشتملت على جملة من البدع، منها ما هو أصلي ومنها ما هو إضافي، زد على ذلك ما قد يصاحبه من المعاصي .
وقبل أن يعترض أحدهم فيقول بعدم وجود معاصي وآثام مما ذكره الكثير من العلماء أسارع بالقول إن طقوس الاحتفال بالمولد لا تمضي عل شكل ونسق واحد في كافة المناطق والطرق التي تعمله بل يختلف ويتفاوت بحسب لأسباب كالجهل والبعد كما في بلاد العجم وبعيدا عن نقل كلام الفقهاء كالشيخ ابن تيمية وابن الحاج وغيرهما ممن ذكروا وقوع الكثير من المعاصي وهم مصدقون إلا أن المشاهدات الواقعية الحية ووسائل الاتصال الحديثة لا تدع مجالا لمكذب، إذ يصبح المولد عند بعضهم وخاصة بلاد العجم مرتعا للفسق وانتهاك الحرمات والإغراق في البدع الإلحادية في أحيان كثيرة، كما يصبح مباءة للفسقة والسحرة والذين يضحكون على بعض العامة وهم كثر باسم الولاية وبركة المولد فينتهكون حرماتهم وشرفهم، ويسود الاختلاط بل ترى رقص النساء كاشفات عن أجزاء من أجسامهن أمام ومع الرجال إما تحت مسمى الوجد أو التعبد وإظهار الذل والانكسار وطلبا للشفاعة، وكم من مآسي ترتكب باسم المولد الذي ليس من الدين لا في ورد ولا صدر.
هذه الأعمال وغيرها يستصحبها الفقيه عندما ينزل عليها الحكم الشرعي وهذا ما حدث للمحرمين فعندما وجدوا ما يحدث في هذه الموالد من البدع والفجور، حكموا بحرمتها.
في حين يرى بعض من لا يجيز ما سبق ويستنكره أن نفصل بين حكم المولد وما يحدث فيه من بدع فنجيز المولد ونحرم البدع، وكون المولد قد احتوى على ضلالات لا يعني هذا البتة تحريمه .
والصحيح أن المحرمين لم يكن دليهم الوحيد هو سد الذريعة أو بسبب ما يحدث في المولد من مخالفات فقط بل لأدلة وأسباب أخرى كذلك كما سبق بيانه، ومع هذا فمن نافلة القول هنا أن نذكر أن نظرة المحرمين تتفق ونظرة الإمام مالك في سد الذريعة بخلاف نظرة المجيزين في بالفصل بين جواز المولد وحرمة ما قد يقع فيه وأننا نجيز المولد وننهى عن المخالفات والتي هي نظرة الإمام الشافعي، ولكن كما قلت هذه نظرة أو قاعدة المذهبين في مسألة سد الذريعة، لكن الجميع لم يقولوا بجواز المولد بل كانوا متفقين على نبذ البدع.
كما أن المولد قد ارتبط بالبدع لدرجة يصعب الفصل بينه وبين المخالفات الواقعة فيه إذ إن البعض لا يعتبر المولد مولدا مقبولا!! إلا بما يحدث فيه من ضلالات.
الترجيح:
أولاً: أود أن أسجل هنا جملة ملاحظات على استدلالات المجيزين وهي كما يلي:
1. أنه مع كثرة الأدلة التي ساقها المجيزون للتدليل على جواز بل واستحباب الاحتفال بالمولد النبوي إلا أن كل استدلال لا يخلو من انتقاد وجيه.
2. أن كل ما استدلوا به من الأدلة القرآنية والحديثية لا تفيد ندب الاحتفال بالمولد النبوي فكلها خارج محل النزاع.
3. أن بعض الأحاديث النبوية التي استدلوا بها ضعيفة جدا مما لا يصح أن يحتج به.
4. فيه محاولة مستميتة لإثبات الاحتفال بأي وجه ولو كان عن طريق لي معاني النصوص أو الاستدلال بما لا يصح الاستدلال به أو رفع درجة بعض الأحاديث الواهية إلى درجة الضعيفة ممن ليس لهم خبرة في الحديث وعلومه، رغم أنها كذلك لا تفيد المراد وهذا مما يحزن فبدلا من النظر في الأدلة ثم إطلاق الحكم على المولد حدث العكس إذ نظر إلى المولد أولا باعتباره مشروعا بل ومندوبا بل غالى بعضهم ممن ليس له حصيلة علمية كبيرة فجعله واجبا ثم راحوا يبحثون عن أدلة لهذا الحكم.
ثانيا: تحديد ولادة النبي- صلى الله عليه وسلم -:
يقام الاحتفال بالمولد النبوي في الثاني عشر من ربيع الثاني باعتبار أنه يوم ولادته- صلى الله عليه وسلم - ونحن إذا ما بحثنا عن حقيقة هذا التاريخ نجد أنه لا يوجد نص نبوي يدل على هذا التاريخ، فلم يتكلم النبي- صلى الله عليه وسلم - البتة عن تاريخ ميلاده بل الذي ورد أنه ولد في يوم إثنين أما ما وراء ذلك من التحديديات فلا تصح.
ثم إذا ما فتشنا كتب السيرة النبوية محاولين معرفة تاريخ مولده سنجد أن كتاب السيرة يختلفون حوله إلى أقول هي كما يلي:
- يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول.
- ثامن ربيع الأول.
- عاشر ربيع الأول.
- ثاني عشر ربيع الأول.
- قال الزبير بن بكار : ولد في رمضان.
و ذلك عام الفيل بعده بخمسين يوما و قيل بثمانية و خمسين يوما و قيل بعده بعشر سنين و قيل : بعد الفيل بثلاثين عاما وقيل : بأربعين عاما[30] ولهذا السبب لم يذكر ابن اسحق تاريخ ولادته حاشا ما رواه عن قيس بن مخرمة قال : ولدت أنا و رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل كنا لدين[31].
يظهر لنا مما سبق :(7/69)
1- لم يثبت نص في تحديد تاريخ مولده.
2- أن النبي- صلى الله عليه وسلم - بعدم تنصيصه على تاريخ وفاته أراد عمدا أن لا يعرف كي لا يحدث معه كما حدث للمسيح ويدل لهذا الأمر بمخالفة النصارى في شعائرهم.
3- أنه ليس من الشرع إذ لو كان كذلك لذكر التاريخ فما من أمر فيه خير إلا ودلنا عليه- صلى الله عليه وسلم -.
4- أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يسألوا النبي- صلى الله عليه وسلم - مما يدل أنه لم يكن يعني لهم شيئا كبيرا.
5- أن هذا الخلاف بين علماء السيرة يدل على عدم وجود دليل صحيح صريح في هذه المسألة بحيث يتفقون على يوم محدد.
ثالثا: يمكن أن نقسم الموالد إلى قسمين:
1- مولد صاحبته البدع والخرافات.
2- مولد لم تصاحبه أية بدعة كأن يكون مقتصرا على سماع درس أو محاضرة مثلا.
فالنوع الأول لا شك في تحريمه لما يصاحبه من الضلالات والبدع.
وأما النوع الثاني إذا جعلناه من باب العبادات فهو بلا شك لا يجوز لأن إحداث عمل تعبدي زائد لا يجوز.
وإذا جعلناه من باب العادات والتي نجد فيه فرصة لتعليم سيرة النبي- صلى الله عليه وسلم - ونحوها فيمكن أن يقال بالجواز نظرا لهذا المعنى، لكن يبقى على هذا إشكالات هي:
1- أن تاريخ مولده ليس متفقا عليه.
2- أنه قد يفتح بابا لما لا يجوز شرعا كأن تدخله بعض البدع.
3- قد يعتقد الناس مندوبيته واستحبابه الشرعي في حين أن الأمر ليس كذلك، وإذا كان الإمام مالك قد ترك بعض السنن كالقبض في الصلاة خشية أن يظن العامة وجوبها فهذا أولى.
4- سيفتح هذا بابا لأن يقال إن هناك أياما مهمة في حياة النبي- صلى الله عليه وسلم - كالبعثة والتي فيها اتصلت الأرض بالسماء وبشر النبي- صلى الله عليه وسلم - بالنبوة وأمر بالإنذار فهي كذلك تستحق الاحتفال، والهجرة والانتصارات في حياته وأيام نجاته من المؤامرات وغيرها مما لن ينتهي.
5- أن فيه مشابهة للنصارى، وقد علم من نصوص الشرع طلب مخالفتهم،إلا ما نص الشارع على مشروعيته فنحن نتبع الشرع سواء وافق النصارى أو غيرهم أم لا، أما ما لم يرد به الشرع وفيه المشابهة فالمطلوب فيه المخالفة.
وبناء على ما سبق فالذي يظهر رجحانه هو التحريم سواء كان بدون بدع ومخالفات أو معها، وكلما زادت البدع كلما قوي التحريم، فتحريم المولد الخالي من البدع من باب تحريم الوسائل وتحريم المولد الحافل بها من باب تحريم المقاصد وبينهما فرق كبير إلا أنهما لا يخرجان عن دائرة التحريم
وبناء عليه يحرم:
1- إقامة المولد والتعاون على ذلك.
2- الإنفاق عليه وفيه، لأنه ليس من أوجه البر التي يؤجر عليها المسلم
3- كل ما من شأنه إحياؤه واستمراره ودوامه كالوقف عليه وغيره.
والله أعلم..
الخاتمة:
مر المولد بمراحل فبينما بدأ احتفالا تنفق فيه الكثير من الأموال دخلت بعد ذلك جملة من الطقوس فزاد السبكي -مثلا- القيام وقت المولد عند ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم -، واعتقد البعض أنه - صلى الله عليه وسلم - يحضر المجلس ولهذا سميت الحضرة بهذا الاسم أي لحضور النبي- صلى الله عليه وسلم - وقد أخذ الفقهاء المقلدة بفعل السبكي وقالوا يكفي في جواز هذا الفعل والعمل به فعل هذا الإمام، وتناسوا أن المرجع الوحيد للتشريع هو النبع الصافي القرآن والسنة.
كما أنه رغم تصريح بعضهم بأن النبي- صلى الله عليه وسلم - لا يحضر وأن القيام إنما هو احترام وإجلال له- صلى الله عليه وسلم - إلا أن الكثيرين يعتقدون حضوره - صلى الله عليه وسلم - ومشاركته ومباركته.
وزادت البدع مع إقامة الموالد عند القبور، كما أن المساجد بيوت الله لم تخل من مفاسد هذه الاحتفالات، ثبت في مسلم[32] أن صحابيا قام في المسجد ينشد ضالة، يريد أن يعلم الناس أن من وجدها فليردها إليه وربما كان لا يمتلك غيرها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: " من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا" فإذا كان هذا الرد من هذا حالة فكيف بمن يجعل المسجد مزبلة للقمامات وبقايا الأطعمة والوساخات، نقول له إن المساجد لم تبن لهذا.
كيف بمن يجعل من المسجد مسرحا يصفق ويرقص فيه كما يفعل المهرجون في السيرك ثم يسمي هذا شكرا لله على دين الإسلام الذي هو بريء من البدع النكراء هذه والتي تقام في أطهر وأقدس بقاع الأرض، فحري أن يقال لهؤلاء إن المساجد لم تبن هذا.
أين احترام النبي- صلى الله عليه وسلم - والفرح بمولده كما يقولون وهم يخالفونه جهارا نهارا ، بألوان شتى من المخالفات.
إن الأعياد الشرعية والتي ورد الترغيب في الفرح فيها لا يجوز فيها ما يعمل في الموالد من ضلالات وخرافات وتبذير وعبادات بدعية وبعد هذا يُرجى الأجر والثواب.(7/70)
لقد ولدت لنا عصور الانحطاط تدينا مزيفا بعيدا كل البعد عن دين الإسلام، وبدلا من أن نطيع الله ونمتثل أوامره ونجتنب نواهيه في سائر حياتنا المنزلية والمالية والسياسية وغيرها أصبح الدين كله بضعة رقصات وليلة نحيب وأناشيد لا تمت إلى الذكر بصلة.
وأصبح يوم المولد هو اليوم التي تكفر فيه الخطايا والسيئات، ثم لم يكتف بيوم في السنة حتى جعلوه احتفالا دائما ليصبح يوميا تقسم فيه الأيام على القبور، وفق جدول معين.
كما أن من أراد احتفالا دينيا أقام مولدا.
وإذا أراد الرجل أو المرأة شيئا دنيويا نذر أو نذرت مولدا.
ومن أردا طرد الجن من منزله فأفضل نصيحة له أن يقيم مولدا.
ومن أراد أن يزيل الصرع (المس) عن نفسه ويخرج منها الشياطين التي ركبته فليَدَع الأطباء جميعا وليجتنب القرآن وإن وصفه الله بأنه شفاء إذ إن شفاءه حتما سيكون في المولد، وفيه ترى الجنون بعينه.
أهذا دين الله الذي جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم والهداية .
أهذا دين الإسلام الذي أمرنا بتوحيده سبحانه وعبادته بما شرع هو وحده سبحانه.
أهذا هو دين الإسلام الذي فتح الشرق والغرب ودخلت فيه الملايين من الشعوب الغارقة في ظلمات الوثنية والجهل بعد أن رأت نوره الساطع.
أهذا دين الله الذي أمرنا بالأخذ بسنن الكون والتعامل معها وفقا لما أراد وشرع.
حتما إنه ليس كذلك.
ملاحق البحث
ملحق1
الأحاديث الضعيفة والموضوعة في المولد
"إن محمدًا أول المخلوقات" وما ذاك إلا لنشر حديث جابر المكذوب "أول ما خلق الله نورُ نبيك يا جابر خلقه من نوره قبل الأشياء"، فهذا الحديث لا أصل له مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مخالف للكتاب والسنة.
أما حديث: "كنت أول النبيين في الخلق وءاخرهم في البعث" فهو ضعيف( كما نقل ذلك المحدثون وفيه بقية ابن الوليد وهو مدلس، وسعيد بن بشير وهو ضعيف.
أما حديث: "كنت نبيًّا وءادم بين الماء والطين"، و: "كنت نبيًّا ولا ءادم ولا ماء ولا طين" فلا أصل لهم). ولا حاجة لتأويلهم فإنه لا حاجة لتأويل الآية أو الحديث الصحيح لخبر موضوع لا أصل له.
* ومن الكذب الذي انتشر في بعض كتب المولد قولهم: لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك فقد حكم عليه المحدثون بالوضع.
* وكذلك ما روي أن جبريل عليه السلام كان يتلقى الوحي من وراء حجاب، وكُشف له الحجاب مرة فوجد النبي صلى الله عليه وسلم يوحي إليه فقال جبريل: "منك وإليك"، فهذا من الكذب الشنيع المخالف لقوله تعالى { وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [سورة الشورى].
* وكذلك من الكذب ما روي في بعض كتب المولد عن أبي هريرة قال: سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا جبريل كم عمرتَ من السنين؟، فقال: يا رسول الله لا أعلم، غير أن في الحجاب الرابع نجمًا يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة،رأيته اثنين وسبعين ألف مرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وعزة ربي أنا ذلك الكوكب.
ملحق2
المورد في حكم المولد
للشيخ الإمام أبي حفص تاج الدين الفاكهاني رحمه الله ت 734 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسر لنا اقتفاء آثار السلف الصالحين، حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين، وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين.
أحمده على ما منَّ به من أنوار اليقين، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد تكرر سؤال جماعة من المُباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول، ويسمونه: المولد:
هل له أصل في الشرع ؟ أو هو بدعة وحدث في الدين ؟
وقصدوا الجواب عن ذلك مٌبيَّناً، والإيضاح عنه معيناً.
فقلت وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بِدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفسٍ اغتنى بها الأكالون، بدليل أنَّا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا:
إما أن يكون واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، أو محرماً.
وهو ليس بواجب إجماعاً، ولا مندوباً؛ لأن حقيقة المندوب: ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون ولا العلماء المتدينون
- فيما علمت- وهذا جوابي عنه بين يدي الله إن عنه سئلت.
ولا جائز أن يكون مباحاً؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين.
فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً، أو حراماً، وحينئذٍ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بين حالين:(7/71)
أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئاً من الآثام: فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام، سُرُجُ الأزمنة وزَيْن الأمكنة.
والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يُعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤلمه ويوجعه؛ لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف، لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل، من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد، والنساء الغاتنات، إما مختلطات بهم أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف.
وكذا النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } ]سورة الفجر:14[.
وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يَحِلُّ ذلك
بنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات،
لا من الأمور المنكرات المحرمات، فإن لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ.
ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فيما أجازَناه:
قد عرف المنكر واستنكر الـ ـمعروف في أيامنا الصعبة
وصار أهل العلم في وهدةٍ وصار أهل الجهل في رتبة
حادوا عن الحق فما للذي سادوا به فيما مضى نسبة
فقلت للأبرار أهل التقى والدين لما اشتدت الكربة
لا تنكروا أحوالكم قد أتت نوبتكم في زمن الغربة
ولقد أحسن أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - - وهو ربيع الأول- هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه.
وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول .
000000000000000
[1] الخطط للمقريزي 1/490
[2] البداية والنهاية 13/137
[3] نقلا عن سبل الهدى والرشاد للصالحي (1/439) ط. وزارة الأوقاف المصرية .
[4] تهذيب الأسماء واللغات 1/22
[5] مسلم 2/592
[6] الاعتصام 1/51
[7] البخاري 3/1434، ومسلم2/795
[8] سنن الدارمي 1/68-69
[9] سنن الدارمي 1/80
[10] غافر 19
[11] مسلم 1/96
[12] المائدة 3
[13] آل عمران 31
[14] أبو داود 2/442
[15] انظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 2/581.
[16] المدخل 2/15
([17]) انظر هذه الأدلة وغيرها في المولد النبوي للحنيني، وانظر القول الفصل للشيخ إسماعيل الأنصاري.
[18] جامع البيان 6/568.
[19] مسلم 2/818
[20] فقه العبادات على مذهب الإمام مالك 1/324
[21] الفقه على المذاهب الأربعة1/899
[22] البخاري 3/1434 ومسلم 2/795
[23] انظر الإنصاف فيما قيل في المولد للجزائري63
[24] المجموع 8/412
[25] 9/519
[26] 4/174
[27] الإنصاف 61
[28] مسلم برقم (2701)
[29] البخاري 1/25 ومسلم 4/2312
[30] انظر الفصول في السيرة 91،
[31] سيرة ابن إسحاق 25
[32] 1/397
----------------------
10. ... مجموعة فتاوى عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي وما يتصل به
الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ، والبدعة الحسنة!
المفتي:
الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله
س 147 يقول السائل: بالنسبة للاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول من كل عام، أنا أعرف أنه بدعة، ولكنني سمعت من يقول بأن هناك بدعة حسنة أو بدعة مستحبة، وهناك من يعملونه في كل عام هجري في شهر ربيع الأول، فأرجو إيضاح ذلك، بارك الله فيكم؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الاحتفال بالمولد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والتسليم أمر قد كثر فيه الكلام، وكتبنا فيه كتابات متعددة، ونشرت في الصحف مرات كثيرة، ووزعت مرات كثيرة، وكتب فيه غيري من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، وبيَّن أولئك العلماء أنه بدعة، وأن وجوده من بعض الناس لا يبرر كونه سنة، ولا يدل على جوازه ومشروعيته.(7/72)
وقد نص على ذلك أيضا الشاطبي رحمه الله في كتابه الاعتصام، وكتب في هذا أيضا شيخنا العلامة الكبير محمد بن إبراهيم رحمه الله كتابة وافية، وليس في هذا والحمد لله شك عند من عرف الأصول وعرف القاعدة الشرعية في كمال الشريعة والتحذير من البدع، وإنما يُشكل هذا على بعض الناس الذين لم يحققوا الأصول ولم يدرسوا طريقة السلف الصالح دراسة وافية كافية، بل اغتروا بمن فعل المولد من بعض الناس فقلدوه، أو اغتروا بمن قالت إن في الإسلام بدعة حسنة.
والصواب في هذا المقام أن الاحتفال بالموالد كله بدعة، بمولده عليه الصلاة والسلام وبمولد غيره، كمولد البدوي أو الشيخ عبد القادر الجيلاني أو غيرهما، لم يفعله السلف الصالح، ولم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم احتفالا بمولده، وهو المعلم المرشد عليه الصلاة والسلام، وقد بلغ البلاغ المبين، ونصح الأمة وما ترك سبيلا يقرب من الله ويدني من رحمته إلا بيَّنه للأمة وأرشدهم إليه، وما ترك سبيلا يباعد من رحمة الله ويدني من النار إلا بيَّنه للأمة وحذرهم منه، فقد قال الله سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3].
وقد أقام عليه الصلاة والسلام في مكة ثلاث عشرة سنة وفي المدينة عشر سنين ولم يحتفل بهذا المولد، ولم يقل للأمة افعلوا ذلك، ثم صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم لم يفعلوا ذلك، لا الخلفاء الراشدون، ولا غيرهم من الصحابة، ثم التابعون لهم بإحسان من التابعين وأتباع التابعين من القرون المفضلة كلهم على هذا السبيل، لم يفعلوا شيئا من هذا؛ لا قولا ولا عملا.
ثم أتى بعض الناس في القرن الرابع ممن ينسب إلى البدعة من الشيعة الفاطميين المعروفين، حكام مصر والمغرب فأحدثوا هذه البدعة، ثم تابعهم غيرهم من بعض أهل السنة جهلا بالحق، وتقليدا لمن سار في هذا الطريق، أو أخذا بشبهات لا توصل إلى الحق.
فالواجب على المؤمن أن يأخذ الحق بدليله، وأن يتحرى ما جاءت به السنة والكتاب حتى يكون حكمه على بينة وعلى بصيرة، وحتى يكون سيره على منهج قويم.
والله يقول: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10]، ويقول عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59].
وإذا نظرنا فيما يفعله الناس من الاحتفالات ورددناها إلى القرآن العظيم لم نجد فيه ما يدل عليها، وإذا رددناه إلى السنة لم نجد فيها ما يدل على ذلك لا فعلا ولا قولا ولا تقريرا، فعلم بذلك أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة بلا شك يجب تركها ولا يجوز فعلها، ومن فعل ذلك من الناس فهو بين أمرين: إما جاهل لم يعرف الحق فيعلم ويرشد، وإما متعصب لهوى وغرض، فيدعى للصواب ويدعى له بالهداية والتوفيق، وليس واحد منهما حجة؛ لا الجاهل ولا المتعصب، وإنما الحجة فيما قاله الله ورسوله لا في قول غيرهما.
ثم القول بأن البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة وإلى محرمة وواجبة؛ قول بلا دليل، وقد رد ذلك أهل العلم واليقين وبينوا خطأ هذا التقسيم، واحتجوا على هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد يعني: فهو مردود (متفق على صحته)، وروى مسلم رحمه الله في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد يعني: فهو مردود.
وفي الصحيح عن جابر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ولم يقل البدعة فيها كذا وكذا؛ بل قال: كل بدعة ضلالة. وقد وعظ أصحابه فقال: وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة
والبدعة شرعا إنما تكون في أمور الدين والتقرب إلى الله سبحانه، لا في أمور الدنيا، أما أمور الدنيا مثل المآكل والمشارب فللناس أن يحدثوا بمآكلهم وطعامهم وشرابهم صناعات خاصة، يصنعون الخبز على طريقة والأرز على طريقة، وأنواعا أخرى على طريقة، لهم أن يتنوعوا في طعامهم، وليس في هذا حرج.
وإنما الكلام في القربات والعبادات التي يتقرب بها إلى الله، هذا هو محل التبديع، وكذلك الصناعات، وآلات الحرب للناس أن يحدثوا أشياء يستعينون بها في الحرب، من القنابل والمدافع وغير ذلك، وللناس أن يحدثوا المراكب والطائرات والسفن الفضائية والقطارات، ليس في هذا شيء، إنما الكلام فيما يتقرب به إلى الله، ويعده الناس قربة وطاعة يرجون ثوابها عند الله.(7/73)
هذا هو محل النظر، فما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم هو ولا أصحابه، ولم يدل عليه صلى الله عليه وسلم، ولم يرشد إليه، بل أحدثه الناس وأدخلوه في دين الله فهو بدعة؛ شاء فلان أم غضب فلان، فالحق أحق بالاتباع.
ومن هذا الباب ما أحدثه الناس من بناء المساجد على القبور واتخاذ القباب عليها، فهذه من البدع التي وقع بها شر كثير، حتى وقع الشرك الأكبر وعبدت القبور من دون الله؛ بأسباب هذه البدع، فيجب على المؤمن أن ينتبه لما شرعه الله فيأخذ به، وعليه أن ينتبه لما ابتدعه الناس فيحذره؛ وإن عظَّمه المشار إليهم من أهل الجهل، أو التقليد الأعمى، والتعصب.
فلا عبرة عند الله بأهل التقليد الأعمى، ولا بأهل التعصب، ولا بأهل الجهل، وإنما الميزان عند الله لمن أخذ بالدليل واحتج بالدليل وأراد الحق بدليله، هذا هو الذي يعتبر في الميزان، ويرجع إلى قوله، ونسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
-------------------
حكم الاحتفال بالمولد النبوي وحضوره
المفتي:
الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله
س 148 يقول السائل: ما حكم المولد النبوي؟ وما حكم الذي يحضره؟ وهل يعذب فاعله إذا مات وهو على هذه الصورة؟
الجواب:
المولد لم يرد في الشرع ما يدل على الاحتفال به؛ لا مولد النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، فالذي نعلم من الشرع المطهر وقرره المحققون من أهل العلم أن الاحتفالات بالموالد بدعة لا شك في ذلك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنصح الناس وأعلمهم بشرع الله، والمبلغ عن الله لم يحتفل بمولده صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، لا خلفاؤه الراشدون، ولا غيرهم، فلو كان حقا وخيرا وسنة لبادروا إليه ولما تركه النبي صلى الله عليه وسلم ولعلمه أمته أو فعله بنفسه ولفعله أصحابه، وخلفاؤه رضي الله عنهم، فلما تركوا ذلك علمنا يقينا أنه ليس من الشرع، وهكذا القرون المفضلة لم تفعل ذلك، فاتضح بذلك أنه بدعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وقال عليه الصلاة والسلام: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد في أحاديث أخرى تدل على ذلك.
وبهذا يعلم أن الاحتفالات بالمولد النبوي في ربيع الأول أو في غيره، وكذا الاحتفالات بالموالد الأخرى كالبدوي والحسين وغير ذلك؛ كلها من البدع المنكرة، التي يجب على أهل الإسلام تركها، وقد عوضهم الله بعيدين عظيمين: عيد الفطر وعيد الأضحى ففيهما الكفاية عن إحداث أعياد واحتفالات منكرة مبتدعة.
وليس حب النبي صلى الله عليه وسلم يكون بالموالد وإقامتها، وإنما حبه صلى الله عليه وسلم يقتضي اتباعه والتمسك بشريعته، والذبِّ عنها، والدعوة إليها، والاستقامة عليها، هذا هو الحب الصادق كما قال الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]، فحب الله ورسوله ليس بالموالد ولا بالبدع.
ولكن حب الله ورسوله يكون بطاعة الله ورسوله وبالاستقامة على شريعة الله، وبالجهاد في سبيل الله، وبالدعوة إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمها والذب عنها، والإنكار على من خالفها، هكذا يكون حب الله سبحانه وحب الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون بالتأسي به؛ بأقواله وأعماله، والسير على منهاجه عليه الصلاة والسلام، والدعوة إلى ذلك، هذا هو الحب الصادق الذي يدل عليه العمل الشرعي، والعمل الموافق لشرعه.
وأما كونه يعذب أو لا يعذب هذا شيء آخر، هذا إلى الله جل وعلا، فالبدع والمعاصي من أسباب العذاب، لكن قد يعذب الإنسان بسبب معصيته وقد يعفو الله عنه؛ إما لجهله، وإما لأنه قلد من فعل ذلك ظنا منه أنه مصيب، أو لأعمال صالحة قدمها صارت سببا لعفو الله أو لشفاعة الشفعاء من الأنبياء والمؤمنين أو الأفراط.
فالحاصل أن المعاصي والبدع من أسباب العذاب، وصاحبها تحت مشيئة الله جل وعلا إذا لم تكن بدعته مكفرة، أما إذا كانت بدعته مكفرة من الشرك الأكبر فصاحبها مخلد في النار -والعياذ بالله-، لكن هذه البدعة إذا لم يكن فيها شرك أكبر وإنما هي صلوات مبتدعة، واحتفالات مبتدعة، ليس فيها شرك، فهذه تحت مشيئة الله كالمعاصي، لقول الله سبحانه في سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
وأما الأشخاص الذين يجعلون لأنفسهم عيدا لميلادهم فعملهم منكر وبدعة كما تقدم، وهكذا إحداث أعياد لأمهاتهم أو لآبائهم أو مشايخهم كله بدعة يجب تركه والحذر منه.(7/74)
وأما ما أحدثه الفاطميون المعروفون، فإن ذلك كان في مصر والمغرب في القرن الرابع والخامس، وقد أحدثوا موالد للرسول صلى الله عليه وسلم، وللحسن والحسين، وللسيدة فاطمة، ولحاكمهم، ثم وقع بعد ذلك الاحتفال بالموالد بعدهم من الشيعة وغيرهم، وهي بدعة بلا شك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المعلم المرشد، وأصحابه أفضل الناس بعد الأنبياء، وقد بلغ البلاغ المبين، ولم يحتفل بمولده عليه الصلاة والسلام، ولا أرشد إلى ذلك، ولا احتفل به أصحابه أفضل الناس، وأحب الناس للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة الثلاثة.
فعلم أنه بدعة، ووسيلة إلى الشرك والغلو في الأنبياء وفي الصالحين، فإنهم قد يعظمونهم بالغلو والمدائح التي فيها الشرك بالله، الشرك الأكبر، كوصفهم لهم بأنهم يعلمون الغيب، أو أنهم يدعون من دون الله، أو يستغاث بهم، وما أشبه ذلك، فيقعون في هذا الاحتفال في أنواع من الشرك وهم لا يشعرون، أو قد يشعرون.
فالواجب ترك ذلك، وليس الاحتفال بالمولد دليلا على حب المحتفلين بالنبي صلى الله عليه وسلم وعلى اتباعهم له، وإنما الدليل والبرهان على ذلك هو اتباعهم لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، هذا هو الدليل على حب الله ورسوله الحب الصادق، كما قال عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31].
فمن كان يحب الله ورسوله فعليه باتباع الحق، بأداء أوامر الله، وترك محارم الله، والوقوف عند حدود الله، والمسارعة إلى مراضي الله، والحذر من كل ما يغضب الله عز وجل، هذا هو الدليل، وهذا هو البرهان، وهذا هو ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان.
أما الاحتفال بالموالد للنبي صلى الله عليه وسلم، أو للشيخ عبد القادر الجيلاني، أو للبدوي، أو لفلان وفلان، فكله بدعة وكله منكر يجب تركه، لأن الخير في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع أصحابه والسلف الصالح، والشر في الابتداع والاختراع ومخالفة ما عليه السلف الصالح، هذا هو الذي يجب وهذا هو الذي نفتي به، وهذا هو الحق الذي عليه سلف الأمة ولا عبرة لمن خالف ذلك وتأول ذلك، فإنما هدم الدين في كثير من البلدان، والتبس أمره على الناس بسبب التأويل والتساهل، وإظهار البدع، وإماتة السنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله - والله المستعان.
---------------
الرد حول حكم الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من الموالد
المفتي:
الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.
في يوم الخميس الموافق 18 / 3 / 1378 هـ اطلعت على مقال محمد أمين يحيى نشرته صحيفة الأضواء في عددها الصادر يوم الثلاثاء الموافق 16 / 3 / 1378 هـ، ذكر فيه الكاتب المذكور أن المسلمين في كافة أقطار الأرض يحتفلون بيوم المولد النبوي، على صاحبه أفضل الصلاة وأكمل التسليم، بشتى أنواع الاحتفالات وأنه يجب علينا قبل غيرنا أفرادا وجماعات أن نحتفل به احتفالا عظيما، وعلى الصحف أن تهتم به وتدبج به المقالات، وعلى الإذاعة أن تهتم بذلك وتعد البرامج الخاصة لهذه المناسبة الذكرى الخالدة. هذا ملخص المقال المذكور.
وقد عجبت كثيرا من جرأة هذا الكاتب على الدعاية - بهذا المقال الصريح - إلى بدعة منكرة تخالف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام والسلف الصالح التابعون لهم بإحسان في بلاد إسلامية تحكم شرع الله وتحارب البدع، ولواجب النصح لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين رأيت أن أكتب كلمة على هذا المقال؛ تنبيها للكاتب وغيره على ما تقتضيه الشريعة الكاملة حول الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فأقول: لا ريب أن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وهما العلم النافع والعمل الصالح، ولم يقبضه إليه حتى أكمل له ولأمته الدين وأتم عليهم النعمة، كما قال سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا [سورة المائدة، الآية: 3]،
فأبان سبحانه بهذه الآية الكريمة أن الدين قد كمل والنعمة قد أتمت، فمن رام أن يحدث حدثا يزعم أنه مشروع وأنه ينبغي للناس أن يهتموا به ويعملوا به فلازم قوله إن الدين ليس بكامل بل هو محتاج إلى مزيد وتكميل، ولا شك أن ذلك باطل، بل من أعظم الفرية على الله سبحانه والمصادمة لهذه الآية الكريمة.(7/75)
ولو كان الاحتفال بيوم المولد النبوي مشروعا لبيّنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته؛ لأنه أنصح الناس، وليس بعده نبي يبين ما سكت عنه من حقه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وقد أبان للناس ما يجب له من الحق كمحبته واتباع شريعته، والصلاة والسلام عليه وغير ذلك من حقوقه الموضحة في الكتاب والسنة، ولم يذكر لأمته أن الاحتفال بيوم مولده أمر مشروع حتى يعملوا بذلك ولم يفعله صلى الله عليه وسلم طيلة حياته، ثم الصحابة رضي الله عنهم أحب الناس له وأعلمهم بحقوقه لم يحتفلوا بهذا اليوم، لا الخلفاء الراشدون ولا غيرهم، ثم التابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة لم يحتفلوا بهذا اليوم.
أفتظن أن هؤلاء كلهم جهلوا حقه أو قصروا فيه حتى جاء المتأخرون فأبانوا هذا النقص وكملوا هذا الحق؟ لا والله، ولن يقول هذا عاقل يعرف حال الصحابة وأتباعهم بإحسان.
وإذا علمت أيها القارئ الكريم أن الاحتفال بيوم المولد النبوي لم يكن موجودا في عهده صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه الكرام ولا في عهد أتباعهم في الصدر الأول، ولا كان معروفا عندهم، علمت أنه بدعة محدثة في الدين، لا يجوز فعلها ولا إقرارها ولا الدعوة إليها، بل يجب إنكارها والتحذير منها عملا بقوله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة: خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة
وقوله صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليه بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة
وقوله عليه الصلاة والسلام: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي لفظ: من عملا عملا ليس عليه أمرنا فهو رد والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ومعلوم عند كل من له أدنى مسكة من علم وبصيرة أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بالبدع كالاحتفال بيوم المولد، وإنما يكون بمحبته واتباع شريعته وتعظيمها والدعوة إليها ومحاربة ما خالفها من البدع والأهواء، كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [سورة آل عمران، الآية: 31]. وقال سبحانه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [سورة الحشر، الآية: 7].
وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل يا رسول الله ومن يأبى؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى خرجه البخاري في صحيحه.
وتعظيمه صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يكون في وقت دون الآخر، ولا في السنة مرة واحدة، بل هذا العمل نوع من الهجران، وإنما الواجب أن يعظم صلى الله عليه وسلم كل وقت بتعظيم سنته والعمل بها والدعوة إليها والتحذير من خلافها، وببيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الأعمال الصالحة والأخلاق الزاكية والنصح لله ولعباده، وبالإكثار من الصلاة والسلام عليه وترغيب الناس في ذلك وتحريضهم عليه، فهذا هو التعظيم الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم للأمة ووعدهم الله عليه الخير الكثير والأجر الجزيل والعزة في الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة.
وليس ما ذكرته هنا خاصا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، بل الحكم عام في سائر الموالد التي أحدثها الناس، وقد قامت الأدلة على أن الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم بدعة منكرة لا يجوز إقرارها فغيره من الناس أولى بأن يكون الاحتفال بمولده بدعة، فالواجب على العلماء وولاة أمر المسلمين في سائر الأقطار الإسلامية أن يوضحوا للناس هذه البدعة وغيرها من البدع، وأن ينكروها على مَن فعلها، وأن يمنعوا من إقامتها نصحا لله ولعباده، وأن يبينوا لمن تحت أيديهم من المسلمين أن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين إنما يكون باتباع سبيلهم والسير على منهاجهم الصالح، ودعوة الناس إلى ما شرعه الله ورسوله، وتحذيرهم مما خالف ذلك، وقد نص العلماء المعروفون بالتحقيق والتعظيم للسُنّة على إنكار هذه الموالد والتحذير منها، وصرحوا بأنها بدع منكرة لا أصل لها في الشرع المطهر ولا يجوز إقرارها.
فالواجب على من نصح نفسه أن يتقي الله سبحانه في كل أموره وأن يحاسب نفسه فيما يأتي ويذر، وأن يقف عند حدود الله التي حدها لعباده, وأن لا يُحدِث في دينه ما لم يأذن به الله.
فقد أكمل الله الدين وأتم النعمة، وتوفي الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ترك أمته على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك.(7/76)
والله المسئول أن يهدينا وسائر المسلمين صراطه المستقيم، وأن يعصمنا وإياهم من البدع والأهواء، وأن يمن على الجميع بالتمسك بالسنة وتعظيمها والعمل بها والدعوة إليها والتحذير مما خالفها، وأن يوفق ولاة أمر المسلمين وعلماءهم لأداء ما يجب عليهم من نصر الحق، وإزالة أسباب الشر، وإنكار البدع والقضاء عليها، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
------------
حكم الاحتفال بالموالد
المفتي:
الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله
- 286 - الحمد لله والصلاة ، والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فقد اطلعت على كلمة نشرتها جريدة المدينة بعددها الصادر في يوم الاثنين الموافق 28 / 12 / 1401 هـ مضمونها أن الأخ جمال محمد القاضي رأى في برنامج أبناء الإسلام الذي يبث من التلفاز السعودي حلقة تشتمل على الاحتفال بعيد الميلاد . ويسأل جمال هل عيد الميلاد يجيزه الإسلام؟... إلخ .
والجواب :
لا ريب أن الله سبحانه وتعالى شرع للمسلمين عيدين يجتمعون فيهما للذكر والصلاة ، وهما : عيد الفطر والأضحى بدلا من أعياد الجاهلية ، وشرع أعيادا تشتمل على أنواع من الذكر والعبادة كيوم الجمعة ويوم عرفة وأيام التشريق ، ولم يشرع لنا سبحانه وتعالى عيدا للميلاد لا ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره ، بل قد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين ومن التشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم ، فالواجب على أهل الإسلام ترك ذلك والحذر منه ، وإنكاره على من فعله وعدم نشر أو بث ما يشجع على ذلك أو يوهم إباحته في الإذاعة أو الصحافة أو التلفاز لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد متفق عليه ، وقوله صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد أخرجه مسلم في صحيحه وعلقه البخاري جازما به ، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبة الجمعة : أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وفي مسند أحمد بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من تشبه بقوم فهو منهم وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة وفي لفظ شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال فمن
وفي هذا المعني أحاديث أخرى كلها تدل على وجوب الحذر من مشابهة أعداء الله في أعيادهم وغيرها ، وأشرف الخلق وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده في حياته ، ولم يحتفل به أصحابه بعده رضي الله عنهم ولا التابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة ، ولو كان الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم أو مولد غيره خيرا لسبقنا إليه أولئك الأخيار ، ولعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته وحثهم عليه أو فعله بنفسه ، فلما لم يقع شيء من ذلك علمنا أن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين التي يجب تركها والحذر منها امتثالا لأمر الله سبحانه وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وذكر بعض أهل العلم أن أول من أحدث الاحتفال بالموالد هم الشيعة الفاطميون في المائة الرابعة، ثم تبعهم بعض المنتسبين إلى السنة في هذه البدعة جهلا وتقليدا لهم ولليهود والنصارى ، ثم انتشرت هذه البدعة في الناس ، والواجب على علماء المسلمين بيان حكم الله في هذه البدع وإنكارها والتحذير منها ، لما يترتب على وجودها من الفساد الكبير وانتشار البدع واختفاء السنن ، ولما في ذلك من التشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفرة الذين يعتادون مثل هذه الاحتفالات ، وقد كتب أهل العلم في ذلك قديما وحديثا ، وبينوا حكم الله في هذه البدع فجزاهم الله خيرا ، وجعلنا من أتباعهم بإحسان .(7/77)
وهذه الكلمة الموجزة أردنا بها التنبيه للقراء على هذه البدعة ليكونوا على بينة ، وقد كتبت في ذلك كتابة مطولة نشرت في الصحف المحلية وغيرها غير مرة ، ولا ريب أن الواجب على المسئولين في حكومتنا وفي وزارة الإعلام بوجه أخص وعلى جميع المسئولين في الدول الإسلامية منع نشر هذه البدع والدعوة إليها أو نشر ما يوهم الناس إباحتها أداء لواجب النصح لله ولعباده ، وقياما بما أوجب الله من إنكار المنكر ، ومساهمة في إصلاح أوضاع المسلمين وتطهيرها مما يخالف الشرع المطهر ، والله المسئول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح أحوال المسلمين ، وأن يوفقهم للتمسك بكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ، والحذر من كل ما يخالفهما ، وأن يصلح قادتهم ويوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده ومحاربة ما خالفها إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .
0000000000000
حكم زواج المرأة بمن يحضر الموالد وعنده بعض البدع
السؤال:
لدي سؤال صعب ، فأخت زوجتي ستتزوج قريباً ، وهي متخوفة من نوعية الشخص الذي ستتزوج به ، وحتى أكون واضحاً معك ، فقد سألتْني ما إذا كان يصح الزواج برجلٍ يؤيِّد بشدة المولد أو الاحتفال بمولد النبي – صلى الله عليه وسلم - أنا أفهم أن هذا العمل في ذاته بدعة في الإسلام ، لكن ، الصعوبة تكمن في ما إذا كان يمكن للمسلمة أن تتزوج بمن يقيمون الموالد ، وفي البلد الذي أقيم فيه فإن الناس الذين يقيمون هذا العمل يفعلونه كعبادة ، وفي هذه المناسبة يدعى الناس لحضور الاحتفال حيث تقرأ بعض الأحاديث وتُغنى بعض الأغنيات ويقال الدعاء ، والناس في الحقيقة يقفون ويغنون ! وأنا أتمنى أن يكون هذا هو الفعل الذي تشير إليه الفتوى في موقعك . أما عن السؤال فهو : هل يجوز للمسلمة الزواج بمن يفعل هذا الفعل ؟ والسؤال الأصعب والذي أخشى من طرحه هو : هل مَن يفعل هذا الفعل يعتبر مسلماً ؟ .
الجواب:
الحمد لله وبعد :
* فأما ما يتعلق بحكم المولد ، وهل يعتبر فاعله مسلم: فالجواب تجده بالتفصيل في زاوية "مواضيع في المناسبات" من هذا الموقع ، وخلاصته : أن الذين يفعلون هذا الأمر هم أصناف كثيرة بحسب ما يقومون به من أعمال ـ وإن كان المولد في حد ذاته بدعة ـ لكن الحكم على فاعله يختلف بقدر ما يرتكبه في هذا المولد من مخالفات ، وبالتالي فقد يصل الأمر إلى حد الشرك والخروج من الملة ؛ إذا ارتكب في هذا المولد شيئاً مِن المكفرات المعلومة ، كدعاء غير الله ، أو وصف النَّبي صلى الله عليه وسلم بصفات الربوبية ، أو ما شابه ذلك ، وأما إن كان لم يصل إلى هذا الحد فهو فاسق وليس بكافر ، ويتفاوت فسقه بقدر ما يرتكب في هذا المولد من مخالفات وبدع .
* وأما مسألة الزواج من الرجل الذي يشارك في مثل هذه الموالد فحكمه يختلف بحسب حال هذا الرجل ؛ فإن كان يقع في المكفرات فلا يجوز الزواج منه بحال من الأحوال لأن الله يقول { وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُم } البقرة/221 والعقد يعتبر باطلاً ، وهذا بإجماع أهل العلم .
* وأما إن كان المبتدع لم يصل ببدعته إلى حد الكفر ؛ فإن العلماء قد حذروا من مناكحة أهل البدع تحذيراً شديداً ، ولذا قال الإمام مالك رحمه الله : " لا ينكح أهل البدع ؛ ولا ينكح إليهم ، ولا يسلم عليهم .. " المدونة " 1 / 84 ، وقريب منه قول الإمام أحمد رحمه الله .
* وقد قررّ الأئمة الأربعة رحمهم الله أن مسألة الكفاءة في الدين بين الرجل والمرأة في النكاح من الأمور المعتبرة ؛ فالفاسق ليس بكفؤ للمسلمة المتدينة المستقيمة لأن الله قال : ( أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ) ولاشك أن البدعة في الدين من أشد أنواع الفسق ، ومعنى اعتبار الكفاءة في الدين : أنه لو اكتشفت المرأةُ أن الزوج فاسقٌ أو تبيَّن لأوليائها أن الزوج فاسق بعد أن تمَّ العقد فإنه يحق للمرأة أو لأوليائها الاعتراض على هذا العقد وطلب فسخه ، أما إذا أسقطوا هذا الحق برضاهم فإن العقد صحيح .
* ولذا فينبغي الحذر من مثل هذا النكاح ؛ خصوصاً وأن القوامة تكون للرجل فربَّما ضايق المرأة ؛ وأجبرها على ارتكاب بعض البدع ، أو ألزمها بمخالفة السنَّة في بعض الأمور ؛ أما الأولاد فشأنهم أخطر ، فهم عرضة لأن يربيهم على بدعته فينشئون مخالفين لأهل السنَّة ، وفي هذا من الحرج والضيق على الأم المتبعة لمنهج أهل السنة والجماعة ما فيه .
* وخلاصة القول : أن نكاح المرأة لرجل مسلم من أهل البدع مكروه عند أهل السنة كراهة شديدة ، لما يترتب عليها من المفاسد ، وتعطيل كثير من المصالح .
ومن ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه .
والله أعلم .
راجع " موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع " د . إبراهيم الرحيلي ( 1 / 373 – 388 ).
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
00000000(7/78)
الحكم في قراءة المولد
السؤال:
"اللهم صلي صلاةً كاملة وسلم سلاما تاما على سيدنا محمد الذي (الذي كما ينطق بها بعضهم) تنحل به العقد، وتتفرج به الكرب، وتقضى به الحوائج ، وتنال به الرغائب، وحسن الخواتيم ويستسقى الغمام بوجهه الكريم وعلى آله وصحبه في كل لمحة ونفس"
ما ورد أعلاه يسمى بالصلاة النارية في الهند وتقرأ 4444 مرة إذا وقعت فاجعة أو كارثة في إحدى البيوت حيث يؤتى بالعديد من التلاميذ ورئيس المدرسة .
1- ما هو معنى الكلمات الواردة أعلاه ؟
2- يقول الناس بأنه إذا كانت الكلمات لا تحتوي على شرك، فلا مانع من الاستمرار في قراءتها لأنها ليست ضارة فهي نوع من أنواع الذكر وأنها تذكرهم بالله وأننا نقوم بنوع من الدعاء الاضافي ليقربنا من الله وليبعد عنا بعض المصائب.
3- ما هو الحكم في قراءة المولد، هل هناك أي ضرر من قراءته على نحو دوري من قبل تلاميذ المدرسة أو من إمام المسجد؟ .
الجواب:
الحمد لله
1. الكلمات الواردة في الصلاة المبتدعة واضحة ، ولا بأس من بيانها أكثر :
"تنحلُّ به العقد": أي: يجد المخرج لما يواجهه من تعقيدات وأمور يصعب حلّها عليه.
وقد يراد به : يسكن به الغضب.
"تنفرج به الكُرب": أي : يزول الغم والحزن من النفس .
"تقضى به الحوائج": أي : يحصل ما يريده ويسعى قضائه .
"تنال به الرغائب وحسن الخواتيم": أي : تتحقق أمنياته سواء ما في الدنيا أو ما في الآخرة، ومنه: أن يختم له بخير.
" يستسقى الغمام بوجهه الكريم " : أي : يطلب منه دعاء الله تعالى بإنزال المطر .
والغمام : السحاب .
2. ما قاله لكم بعض الناس أن هذه الصلاة لا تحوي شركاً ، وأنه يجوز لكم الاستمرار بها .. إلخ : باطل وذلك لما احتوته تلك الصلاة المزعومة من مخالفات شرعيَّة واضحة منها :
أ. أنه جعلها تقال عند المصائب ، وهذا من اختراع الأسباب في إحداث العبادة .
ب. أنه جعل لها حدّاً ( 4444 ) مرة ! وهذا من اختراع الكم في إحداث العبادة .
ت. أنه جعل قراءتها جماعية ، وهذا من اختراع الكيف في إحداث العبادة .
ث. أن فيها عبارات مخالفة للشرع ، وشرك وغلو في النبي صلى الله عليه وسلم ، ونسبة أفعال له لا يصح أن تنسب إلا لله عز وجل ، كقضاء الحوائج ، وحل العُقد ، ونيل الرغائب ، وحسن الخاتمة . وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول : ( قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ) ،
ج. أنه ترك ما جاء به الشرع ، وذهب ليخترع صلاة ودعاءً من عنده ، وفي هذا اتهام للنبي صلى الله عليه وسلم بالتقصير في بيان ما يحتاجه الناس ، وفيه استدراك على الشرع .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "منْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" .
رواه البخاري ( 2550 ) ومسلم ( 1718 ) ، وفي رواية "مسلم" ( 1718 ) : "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله : وهذا الحديث أصلٌ عظيمٌ مِن أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أنَّ حديث "الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات" ميزانٌ للأعمال في باطنها، فكما أنَّ كلَّ عملٍ لا يُراد به وجهُ الله تعالى ؛ فليس لعامله فيه ثوابٌ ، فكذلك كلُّ عملٍ لا يكون عليه أمر الله ورسوله؛ فهو مردودٌ على عامله، وكلُّ مَن أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس مِن الدين في شيءٍ.أ.هـ "جامع العلوم والحكم" (1/180)
وقال النووي رحمه الله : وهذا الحديث قاعدةٌ عظيمةٌ مِن قواعد الإسلام ، وهو مِن جوامع كَلِمه صلى الله عليه وسلم ؛ فإنَّه صريحٌ في رد البدع والمخترعات، وفي الرواية الثانية زيادة وهي: أنَّه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعةٍ سُبق إليها، فإذا احتُج عليه بالرواية الأولى - أي: " مَن أحدث " - يقول: أنا ما أحدثتُ شيئاً، فيُحتج عليه بالثانية - أي : "مَن عمل" - التي فيها التصريح بردِّ كلِّ المحدثات، سواء أحدثها الفاعل، أو سُبق بإحداثها... وهذا الحديث مما ينبغي حفظه، واستعماله في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به.
"شرح مسلم" (12/16).
3. أما بالنسبة للمولد : فإن عمله بدعة ، ولو كان خيراً لسبقنا أكثر الناس حبّاً للنبي صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة رضي الله عنهم ، وما يُقرأ فيه فأكثره ضعيف أو موضوع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه غلوٌّ بنبينا صلى الله عليه وسلم ، وهذه أقوال العلماء :
أ. سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن يعمل كل سنة ختمة في ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم هل ذلك مستحب أم لا ؟
فأجاب :(7/79)
الحمد لله ، جمع الناس للطعام في العيدين وأيام التشريق سنة ، وهو من شعائر الإسلام التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين وإعانة الفقراء بالإطعام في شهر رمضان هو من سنن الإسلام ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من فطَّر صائما فله مثل أجره " ، وإعطاء فقراء القراء ما يستعينون به على القرآن عمل صالح في كل وقت ، ومن أعانهم على ذلك كان شريكهم في الأجر " .
وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد ، أو بعض ليالي رجب ، أو ثامن عشر ذي الحجة ، أو أول جمعة من رجب ، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال " عيد الأبرار " ، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها والله سبحانه وتعالى أعلم .
" الفتاوى الكبرى " ( 4 / 415 ) .
ب. قال ابن الحاج :
وقد ارتكب بعضهم في هذا الزمان ضد هذا المعنى وهو أنه إذا دخل هذا الشهر الشريف - أي : ربيع الأول - تسارعوا فيه إلى اللهو واللعب بالدف والشبابة وغيرهما كما تقدم .
فمن كان باكيا فليبك على نفسه وعلى الإسلام وغربته وغربة أهله والعاملين بالسنة .
ويا ليتهم لو عملوا المغاني ليس إلا بل يزعم بعضهم أنه يتأدب فيبدأ المولد بقراءة الكتاب العزيز وينظرون إلى من هو أكثر معرفة بالهنوك والطرق المهيجة لطرب النفوس فيقرأ عشرا ، وهذا فيه من المفاسد وجوه :
منها : ما يفعله القارئ في قراءته على تلك الهيئة المذمومة شرعاً والترجيع كترجيع الغناء ، وقد تقدم بيان ذلك .
الثاني : أن فيه قلة أدب وقلة احترام لكتاب الله عز وجل .
الثالث : أنهم يقطِّعون قراءة كتاب الله تعالى ويقبلون على شهوات نفوسهم من سماع اللهو بضرب الطار والشبابة والغناء والتكسير الذي يفعله المغني وغير ذلك .
الرابع : أنهم يظهرون غير ما في بواطنهم وذلك بعينه صفة النفاق وهو أن يظهر المرء من نفسه شيئا وهو يريد غيره اللهم إلا فيما استثني شرعاً ؛ وذلك أنهم يبتدئون القراءة وقصد بعضهم وتعلق خواطرهم بالمغاني .
الخامس : أن بعضهم يقلل من القراءة لقوة الباعث على لهوه بما بعدها وقد تقدم .
السادس : أن بعض السامعين إذا طول القارئ القراءة يتقلقلون منه لكونه طول عليهم ولم يسكت حتى يشتغلوا بما يحبونه من اللهو ، وهذا غير مقتضى ما وصف الله تعالى به أهل الخشية من أهل الإيمان لأنهم يحبون سماع كلام مولاهم لقوله تعالى في مدحهم { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } فوصف الله تعالى من سمع كلامه بما ذكر وبعض هؤلاء يستعملون الضد من ذلك فإذا سمعوا كلام ربهم عز وجل قاموا بعده إلى الرقص والفرح والسرور والطرب بما لا ينبغي فإنا لله وإنا إليه راجعون على عدم الاستحياء من عمل الذنوب يعملون أعمال الشيطان ويطلبون الأجر من رب العالمين ، ويزعمون أنهم في تعبد وخير ويا ليت ذلك لو كان يفعله سفلة الناس ولكن قد عمت البلوى فتجد بعض من ينسب إلى شيء من العلم أو العمل يفعله وكذلك بعض من ينسب إلى المشيخة أعني في تربية المريدين وكل هؤلاء داخلون فيما ذكر .
ثم العجب كيف خفيت عليهم هذه المكيدة الشيطانية والدسيسة من اللعين ، ألا ترى أن شارب الخمر إذا شربه أول ما تدب فيه الخمرة يحرك رأسه ساعة بعد ساعة فإذا قويت عليه ذهب حياؤه ووقاره لمن حضره وانكشف ما كان يريد ستره عن جلسائه .
فانظر رحمنا الله وإياك إلى هذا المغني إذا غنى تجد من له الهيبة والوقار وحسن الهيئة والسمت ويقتدي به أهل الإشارات والعبارات والعلوم والخيرات يسكت له وينصت فإذا دب معه الطرب قليلا حرك رأسه كما يفعله أهل الخمرة سواء بسواء كما تقدم ، ثم إذا تمكن الطرب منه ذهب حياؤه ووقاره كما سبق في الخمرة سواء بسواء فيقوم ويرقص ويعيط وينادي ويبكي ويتباكى ويتخشع ويدخل ويخرج ويبسط يديه ويرفع رأسه نحو السماء كأنه جاءه المدد منها ويخرج الرغوة أي الزبد من فيه وربما مزق بعض ثيابه وعبث بلحيته .
وهذا منكر بيِّن ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال ولا شك أن تمزيق الثياب من ذلك هذا وجه .
الثاني : أنه في الظاهر خرج عن حد العقلاء إذ أنه صدر منه ما يصدر من المجانين في غالب أحوالهم .
" المدخل " ( 2 / 5 -7 ) .
ج. قالت اللجنة الدائمة :
إقامة احتفال بمناسبة مولده صلى الله عليه وسلم لا يجوز لكونه بدعة محدثة لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون ، ولا غيرهم من العلماء في القرون الثلاثة المفضلة .
" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 3 / 2 ) .
د. سئل الشيخ ابن باز :
هل يحل للمسلمين أن يحتفلوا في المسجد ليتذكروا السيرة النبوية الشريفة في ليلة 12 ربيع الأول بمناسبة المولد النبوي الشريف بدون أن يعطلوا نهاره كالعيد؟ واختلفنا فيه ، قيل : بدعة حسنة ، وقيل: بدعة غير حسنة ؟
فأجاب :(7/80)
ليس للمسلمين أن يقيموا احتفالا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة 12 من ربيع الأول ولا في غيرها ، كما أنه ليس لهم أن يقيموا أي احتفال بمولد غيره عليه الصلاة والسلام؛ لأن الاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده في حياته صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ للدين والمشرع للشرائع عن ربه سبحانه وتعالى ولا أمر بذلك ولم يفعله خلفاؤه الراشدون ولا أصحابه جميعا ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة ، فعلم أنه بدعة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق على صحته ، وفي رواية مسلم - وعلقها البخاري جازما بها - : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
والاحتفال بالموالد ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم بل هو مما أحدثه الناس في دينه في القرون المتأخرة فيكون مردودا ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في خطبته يوم الجمعة : " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " رواه مسلم في صحيحه ، وأخرجه النسائي بإسناد جيد وزاد : "وكل ضلالة في النار".
ويغني عن الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم تدريس سيرته عليه الصلاة والسلام وتاريخ حياته في الجاهلية والإسلام في المدارس والمساجد وغير ذلك ، ويدخل في ذلك بيان ما يتعلق بمولده صلى الله عليه وسلم وتاريخ وفاته من غير حاجة إلى إحداث احتفال لم يشرعه الله ولا رسوله ولم يقم عليه دليل شرعي..
والله المستعان ونسأل الله تعالى لجميع المسلمين الهداية والتوفيق للاكتفاء بالسنة والحذر من البدعة . " فتاوى الشيخ ابن باز " ( 4 / 289 ) .
والله أعلم.
الإسلام سؤال وجواب (www.islam-qa.com)
000000000000000
حكم المشاركة في بعض الاحتفالات السنوية
محمد الحمود النجدي
السؤال:
ما حكم الشرع في المشاركة في بعض الاحتفالات والمناسبات السنوية مثل اليوم العالمي للأسرة ، واليوم الدولي للمعاقين والسنة الدولية للمسنين ، وكذا بعض الاحتفالات الدينية كالإسراء والمعرج والمولد النبوي والهجرة وذلك بإعداد بعض النشرات أو إقامة المحاضرات والندوات الإسلامية لتذكير الناس ووعظهم ؟
الجواب:
الحمد لله...
الذي يظهر لي أن هذه الأيام التي تتكرر في كل سنة والاجتماعات هي من الأعياد المحدثة ، والشرائع المبتدعة التي لم ينزل الله تعالى بها من سلطاناً ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم .
وقال أيضاً : (إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) متفق عليه.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كلام طويل في (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) في ذم المواسم والأعياد المحدثة التي لا أصل لها في الشرع الحنيف، وأن ما تشتمل عليه من الفساد في الدين ليس كل أحدٍ بل ولا أكثر الناس يُدرك فساد هذا النوع من البدع، ولا سيما إن كانت من جنس العبادات المشروعة، بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد.
وأن الواجب على الخلق : اتباع الكتاب والسنة ، وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة.
وأن من أحدث عملاً في يوم كإحداث صوم أو صلاة أو صنع أطعمة أو زينة وتوسيع في النفقة ونحو ذلك، فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب ، وذلك لأنه لا بد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله ، إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه ، أو قلب متبوعه ، لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع.
وأن العيد يكون اسماً لنفس المكان ولنفس الزمان ، ولنفس الاجتماع ، وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياء .
أما الزمان فثلاثة أنواع، ويدخل فيها بعض بدع أعياد المكان والأفعال .
إحداهما : يوم لم تعظمه الشريعة أصلاً ، ولم يكن له ذكر عند السلف ، لا جرى فيه ما يوجب تعظيمه .
النوع الثاني : ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره ، من غير أن يوجب ذلك جعله موسماً، ولا كان السلف يعظمونه .
وإن من فعل ذلك فقد شابه النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعياداً أو اليهود ، وإنما العيد شريعة فما شرعه الله اتُبع ، وإلا لم يُحدث في الدين ما ليس منه .
وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً .. فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له ، وعدم المانع فيه لو كان خيراً ...(7/81)
النوع الثالث : ما هو معظم في الشريعة كيوم عاشوراء ويوم عرفة ويومي العيدين وغيرها ، ثم يحدث فيه أهل الأهواء ما يعتقدون أنه فضيلة وهو منكر ينهى عنه ، مثل إحداث الروافض التعطش والحزن في يوم عاشوراء وغير ذلك ، من الأمور المحدثة التي لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السلف ولا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع أو الشهور أو الأعوام غير الاجتماعات المشروعة ، فإن ذلك يضاهي الاجتماع للصلوات الخمس وللجمعة وللعيدين وللحج ، وذلك هو المبتدع المحدث .
وأصل هذا : أن العبادات المشروعة التي تتكرر بتكرر الأوقات ، حتى تصير سنناً ومواسم ، قد شرع الله منها ما فيه كفاية العباد ، فإذا أحدث اجتماع زائد على هذه الاجتماعات معتاد ، كان ذلك مضاهاة لما شرعه الله وسنه ، وفيه من الفساد ما تقدم التنبيه على بعضه بخلاف ما يفعله الرجل وحده أو الجماعة المخصوصة أحياناً . انتهى ملخصاً .
وبناء على ما سبق : لا يجوز للمسلم المشاركة في هذه الأيام التي يحتفل بها في كل عام ، وتتكرر في كل سنة ، لمشابهتها لأعياد المسلمين كما مر معنا ، أما إن كانت غير متكررة ، وقَدر فيها المسلم على بيان الحق الذي يحمله وتبليغه للناس فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
المرجع : مسائل ورسائل /محمد الحمود النجدي ص31 .
(www.islam-qa.com)
----------------------
11. ... بمناسبة شهر ربيع: هذا بيان منزلة النبي.. وأهل الغلو فيه..
بمناسبة شهر ربيع: هذا بيان منزلة النبي.. وأهل الغلو فيه..
جاءت النصوص مبينة أمرين مهمين في حق النبي صلى الله عليه وسلم:
الأول: بشريته، وكونه خلقا من خلق الله تعالى، من ولد آدم، ولد وعاش ومات كغيره من بني آدم.
الثاني: أنه أفضل البشر، وأحسنهم، وأعلاهم، وأقربهم إلى الله تعالى.
فمن النصوص في المعنى الأول قوله تعالى:
{قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}.
{قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا * قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشد * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا}..
{قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحي إلي وما أنا إلا نذير مبين}.
{ ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين}..
{ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون}..
والآيات في المعنى كثيرة، أما الأحاديث فمنها:
ما رواه الإمام البخاري بسنده عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
(لا تُطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مرين، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله) .
وما رواه الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
(ما شاء الله وشئت! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني والله عدلا؟!بل ما شاء الله وحده).
وما رواه الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا قال:
( يا محمد! يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس! عليكم بتقواكم، لا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله) .
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية أصحابه رضوان الله عليهم على هذا المعنى، وهو أن النبي - مهما بلغ – فلن يبلغ أن يكون إلهاً وربا مسؤولا، فكان حرصهم رضوان الله عليهم على طلب مرضاة الله تعالى وسؤاله والرغبة إليه فوق كل شيء، ولم يكن في قلوبهم الرغبة إلى المخلوق أو طلب الحسْب منه مهما كان شأنه، ومن أمثلة ذلك:
ما رواه الإمام البخاري في حادثة الإفك بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت:
" فلما سُري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُري عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة! أما الله عز وجل فقد برأك)، فقالت لي أمي: قومي إليه، قالت: فقلت: والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله تعالى" .
وما رواه الإمام البخاري – أيضا - بسنده عن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة توبته قال: "فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك)، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟، فقال: (لا، بل من عند الله)" .
و لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر رضي الله فقال كما روى الإمام البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما:" أما بعد:
فمن كان منكم يعبد محمدا صلى الله عليه وسلم فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله:(7/82)
{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين}" .
ذلك فيما يتعلق بالأمر الأول، وهو بشريته صلى الله عليه وسلم.
أما فيما يتعلق بالأمر الثاني، وهو أفضليته صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق، فاصطفاؤه بالرسالة الكاملة الخاتمة الشاملة، وتقديمه على الخواص من الأنبياء والرسل، واتخاذه خليلا، وجعله سيد ولد آدم، واختصاصه بأنواع من الشفاعة، روى الإمام مسلم بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( لو كنت متخذا خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا) .
وروى مسلم - أيضا – بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع) .
وروى الإمام أحمد بسنده عن عبد المطلب بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ألا إن الله خلق خلقه، فجعلني من خير خلقه، ثم فرقهم فرقتين فجعلني من خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل فجعلني من خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا، فجعلني من خيرهم بيتا، وأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا) .
ويكفي من ذلك كله أن الله تعالى شهد له بالعبودية الكاملة، ووصفه بها في أشرف المواطن، في الإسراء والمعراج في أول سورة الإسراء، وفي مقام التحدي في سورة البقرة، وفي مقام الدعوة في سورة الجن.
فقد وصف بالعبودية في هذه المواطن الشريفة، مما يدل على أن هذا الوصف هو وصف تشريف وتكريم، وليس انتقاصا كما قد يظن من يظن.
فالنبي صلى الله عليه وسلم عبد رسول، كما وصف هو نفسه بذلك في قوله الذي رواه الإمام البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
( إنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله) .
وفي هذا رد على طائفتين غاليتين:
الأولى: مفْرِطة، رفعته فوق منزلته، فجعلته فوق مرتبة العبودية، في مرتبة الربوبية والألوهية، حتى صار عندها إلها وربا مسؤولا.
الثانية: مفَرّطة، لم تعرف منزلته ولا قدره ولا حقوقه، فعاملته كسائر البشر، فلم ترفع بهديه رأسا.
فوصفه بالعبودية رد على الطائفة الأولى، ووصفه بالرسالة رد على الطائفة الثانية، وهذا هو التوسط، وهو خير الأمور، وبذلك نعطي النبي حقه ومنزلته، دون غلو أو إجحاف.
فمن كلام الغالين في حق النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله البوصيري في البردة التي يرددها ملايين الصوفية في العالم، في كل آن، خاصة في الموالد النبوية في شهر ربيع:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علوم اللوح والقلم
فهذا هو الغلو بعينه، بل هو الشرك والكفر الأكبر، حيث استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فقد استغاث به وهو ميت، والميت لا يستغاث به، فهو لا يقدر على شيء..
ثم إنهم زعموا أن هذه الاستغاثة إنما تكون يوم القيامة..
ولو فرضنا الأمر كما قالوا، فكيف لهم أن يتقدموا بهذه الاستغاثة في الدنيا قبل حلول الآخرة؟..
إنهم استغاثوا به حال موته، وهذا هو المحرم.
ثم الزعم أن الدنيا والآخرة إنما هما من جود النبي صلى الله عليه وسلم:
فهل هما من جود النبي؟..
هل أوجدهما النبي؟..
أم وجدا لأجل النبي؟...
أما الأول فباطل لا ريب، فلا خالق إلا الله..
أما الثاني فهو الغلو بعينه، ومن أين لهم أن الدنيا والآخرة ما وجدتا إلا لأجل النبي صلى الله عليه وسلم؟، بل عندنا أن الله ما خلق الخلق إلا لعبادته، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
ثم القول بأن من علوم النبي علم اللوح والقلم، فذلك معناه أن علم النبي زيادة على ما في اللوح والقلم، إذن هو يعلم ما كان وما لم يكن، وزيادة، وهذا باطل، فالنبي لا يعلم ما في غد، إلا شيئا علمه الله، والله تعالى لم يعلمه كل شيء، وقد قال الله تعالى:
{قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}.
أما هؤلاء فيزعمون أن النبي يعلم كل شيء في اللوح وزيادة، ويدعون أن الله علمه، وذلك باطل، ولم يكن، ولو كان لما أخبر النبي عن نفسه أنه لا يعلم الغيب، ولما مسه السوء..
وهؤلاء بلاياهم وغلوهم كبير في النبي، فهذا ابن عربي يقول:
" بدء الخلق الهباء، وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية" الفتوحات المكية 1/118
ويقول الحلاج:
" أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نور أنور وأظهر وأقدم سوى نور صاحب الكرم... همته سبقت الهمم، ووجوده سبق العدم، واسمه سبق القلم، لأنه كان قبل الأمم... العلوم كلها قطرة من بحره.. والأزمان ساعة من دهره" الطواسين 13
وقال ابن الدباغ:(7/83)
" اعلم أن أنوار المكونات كلها من عرش وفرش وسموات وأرضين وجنات وحجب وما فوقها وما تحتها إذا جمعت كلها وجدت بعضا من نور محمد، وأن مجموع نوره لو وضع على العرش لذاب، ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت، ولو جمعت المخلوقات كلها ووضع ذلك النور العظيم عليه لتهافتت وتساقطت" هذه هي الصوفية ص87 نقلا عن محبة الرسول ص203
فمثل هذا هو الغلو، وهو رفع للنبي فوق منزلته، والله لا يرضى بذلك، ولا النبي صلى الله عليه وسلم..
----------------------
12. ... حول المولد النبوي
مرزوق سالم الغامدي
مما لاشك فيه أن أياماً كثيرة وعظيمة في حياة الأمة الإسلامية، فرح بها المتقدمون، ويفرح بها المسلمون المتأخرون إلى يوم القيامة، ومن هذه الأيام يوم المولد النبوي، يوم الإسراء والمعراج، ويوم فتح مكة، ويوم الانتصار في بدر, وأيام أخرى مجيدة. ولاشك أيضاً أن كل مسلم يؤمن بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً ـ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراُ ـ ، قد يحزن حزناً عميقاً يوم وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، ويود المسلم المحب لنبيه حباً حقيقياً لو أنه خسر ماله وأهله ليحظى برؤية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولو ساعة من نهار ، كما صح الخبر الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له قال: (من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله).
* فما هي الكيفية التي يحزن بها ، أو يفرح بها المسلم ؟
* وما هي حدود الفرح والحزن ؟ وبمن نقتدي في التعبير عن ذلك في خلال حياتنا ؟.
ولكي نتعرف على الإجابة الصحيحة ، لابد أن نعرف ما يلي :
• لقد منع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أهل المدينة من اتخاذ يومين يلعبون فيهما كل عام ، على حسب العادة المتبعة عندهم ، وقال لهم : (إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر) ، قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ : والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه. هذا من جهة.
• ومن جهة أخرى: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طول حياته ـ وهو الحريص على ما ينفع أمته ويسعدهم في الدنيا والآخرة ـ لم يأمر قرابته ولا صحابته ـ رضي الله عنهم أجمعين • بالاجتماع أو الاحتفال والفرح في ذكرى يوم مولده، أو يوم الإسراء والمعراج، أو يوم سبعة عشر رمضان، أو أي يوم آخر من الأيام التي يحتفل بها الآن ، ولا في غيرها من المناسبات العديدة ، مع وجود الداعي والمقتضي لذلك، وعدم وجود مانع لإقامة الاحتفال أو الاجتماع .
• من ذلك ومن غيره من الأدلة فهم العلماء من سلفنا الصالح : أن اتخاذ يوم للاحتفال أو الاجتماع لا يكون إلا عن طريق الوحي ، وأن ذلك تشريع وليس من العادات المباحة التي يحق للناس فعلها ، فمثل ذلك مثل القبلة ، والصيام ، ومشاعر الحج ، والآذان والإقامة ، والغسل من الجنابة... إلخ.
• والعيد: هو اسم لكل ما يعود من الاجتماع ، فلا يصح تخصيص يوماً للاجتماع للحزن ، أو للذكر ، أو للفرح والسرور ، إلا بدليل شرعي ثابت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو إجماع الصحابة ، ولا يتوفر ذلك الدليل إلا ليومي : الفطر والأضحى من كل عام ، وليوم الجمعة من كل أسبوع .
فهذه الأيام الثلاثة هي أعيادنا نحن أمة الإسلام لا رابع لها البتة .
• ولقد مرت القرون الثلاثة وجزء من القرن الرابع الهجري والأمة كلها على هذا الأمر ، لا تعرف إلا عيدين حوليين وعيد أسبوعي حتى ظهرت الدولة العبيدية
في مصر ، والتي تمت بالدولة الفاطمية ، فأقاموا احتفالات المولد النبوي ، وعدة موالد أخرى ، كما ذكر ذلك أهل العلم ومنهم : المقريزي في كتابه ـ الواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ـ .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في كتابه البداية والنهاية ـ الجزء الحادي عشر ـ عن تلك الدولة العبيدية : ( ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد ، وقلَّ عندهم الصالحون من العلماء والعباد ) . ثم ذكر فتوى علماء القرن الخامس عن حكام تلك الدولة ، والتي جاء فيها : ( أن هؤلاء أدعياء خوارج ولا نسب لهم في ولد علي ابن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ، ولا يتعلقون بسبب ، وأنه منزه عن باطلهم ، وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور ، وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعاً في الحرمين ، وأن هذا الحاكم بأمر الله وسلفه كفار فساق فجار ملحدون ، زنادقه معطلون ، وللإسلام جاحدون .... ا.هـ . ) .
فهؤلاء الحكام العبيديون أبناء اليهودي : عبيد الله بن ميمون القداح ، هم أول من احتفل بالمولد النبوي . فهل ترضى أخي المسلم أن يكون هؤلاء العبيديون قدوتك فتحتفل بالمولد النبوي ؟ .(7/84)
وإنني أتساءل : هل هؤلاء العبيديون أبناء اليهودي : ابن ميمون القداح ، حقاً يحتفلون فرحاً بالمولد النبوي كل عام في الثاني عشر من ربيع الأول ؟ أم هم يحتفلون فرحاً بموت النبي ؟ لأن اليهود يعتبرون أنفسهم قتلوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالشاة المسمومة .
فهم عليهم لعنة الله والملآئكة والناس أجمعين ، يفرحون بموت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وإن من العجيب أن يكون أول من ضع بذرة عقيدة التشيع والرفض هو اليهودي : عبدالله بن سبأ ، وأول من ابتدع بدعة المولد النبوي هم العبيديون أبناء اليهودي عبيد الله بن ميمون القداح !!!
• وإن مما يلفت الانتباه أيضاً ، عدم ثبوت تاريخ يوم ولادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأيضاً عدم ثبوت يوم الإسراء والمعراج ، وهذا فيه دلالة واضحة على أنه لم يخصص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذين اليومين اجتماعاً أو احتفالاً فكانت تمر هذه الإيام كغيرها من الأيام .
وكذلك كان في عهد الخلفاء الراشدين ، وفي عهد الأئمة المحدثين ، وفي عهد الأئمة الأربعة ومنهم الفقيه الهاشمي المطلبي : محمد بن إدريس الشافعي ـ رضي الله عنهم ورحمهم رحمة واسعة ـ ، فهل هؤلاء على الصواب أم العبيديون ؟!! . ( أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياُ على صراط مستقيم ) .
• إذاً الأولى للمسلمين ترك ما تركه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مترك ما تركه آل بيته وصحابته ـ رضي الله عنهم أجمعين وترك ما تركه العلماء المحدثون ـ البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داود وابن ماجة وإسحاق وابن المبارك وسفيان ـ ، وترك ما تركه الأئمة الأربع ـ رحمهم الله أجمعين . فهؤلاء هم القدوة وعلى رأسهم سيدنا وأسوتنا وقدوتنا محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم .
• إن الواقع الذي تعيشه الأمة يبين لنا أن تصنيف الناس في طريقة تعبيرهم للفرح بالمولد النبوي ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : المتمسكون بالسنة النبوية المتبعون للحديث النبوي الثابت . هؤلاء يقرأون السيرة ويستفيدون منها ويعلمونها لأولادهم ، مستقيمون على شرع الله قدر المستطاع ، ويجتنبون ما نهى الله عنه ، لا يفعلون أي قربة إلا إذا ثبت بالدليل الصحيح . يصلون على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلاً ونهاراً ويذكرونه في كل أوقاتهم ، لا يغيب عنهم منهجه وسنته وسيرته ، يتمنون رؤيته ولو خسروا أموالهم وأولادهم ، وقافين عند سنته لا يتجاوزونها ، لسان حالهم يقول : نفعل ما فعله ونترك ما تركه رجاء أن تدركنا شفاعته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
القسم الثاني : هم أهل الأهواء ، وأصحاب الفرق الضالة ، وأصحاب الأفكار الهدامة كالعلمانية والبعثية ، وأصحاب السلطة التي تحكم بغير ما أنزل الله وتوالي أعداء الله ولا تطبق شرع الله وتعادي الصالحين والمصلحين ، وكل من يعلن الفسق والفجور باسم الفن ، إلى غير هؤلاء من الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا الاسم ، أو ما هو مكتوب في هوياتهم فقط من أصحاب الملل التي خلعت ربقة الإسلام من أعناقها . نسأل الله العافية.
فأصحاب هذا القسم يهتمون اهتماماً بالغاً بالاحتفالات بالموالد وغيرها من المناسبات البدعية ، ويمارسون خلال هذه الاحتفالات بعض المنكرات ، ويستغيثون بالأموات ، ويعتقدون أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحضر هذه الاحتفالات ـ أو روحه الشريفة فقط هي التي تحضر كما يزعم بعضهم ـ . وكل هذه الأمور عشتها وشاهدتها بنفسي حينما كنت من أحد الأتباع قبل أن يمن الله عليَّ بالهداية . فقدوة هؤلاء هم العبيدون وعبد الله بن سبأ ، وتلاميذ أرسطو وأفلاطون كالبسطامي وابن عربي والحلاج ، وقدوتهم أيضاً الكنيسة والرهبان . والعياذ بالله من ذلك .
وأصحاب هذا القسم إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ، كأنهم خشب مسندة ، شعار أكثرهم : الغاية تبرر الوسيلة ، يخادعون الله والذين آمنوا ، ويستهزئون بالصالحين، أسأل الله العظيم أن يهدي جميع المسلمين للصراط المستقيم.
القسم الثالث : أناس طيبون ، غلب عليهم حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحب آل بيته الطاهرين وصحابته الكرام ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ، فاجتمعوا يوم المولد وذكروا الله وقرأوا السيرة أو بعضاً منها ، وصلوا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم انفضوا وانصرفوا من مجلسهم راجين من الله القبول ، متمنين أن ينالوا الشفاعة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .(7/85)
فهؤلاء يقال لهم : عسى أن يثيبكم على نيتكم وأن يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم ، ولكن نذكرهم بالثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليفعلوا مثله حتى يرافقوه في الجنة ، فحينما علموا عبادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقالوها وقالوا : هذا النبي قد غفرله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وقال أحدهم : لا أصوم الدهر أبداً ، وقال الثاني : أقوم الليل أبداً ، وقال الثالث : لا أتزوج النساء . - أرادوا بذلك التقرب إلى الله وحصد الحسنات ـ . فحينما علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ، غضب وقام خاطباً وقال : ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ؟ ألا إني أخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم أفطر ، ,اصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ).
وهذا فيه دلالة عظيمة على أن القربات لا يكفي فيها حسن النية ، ولا تكون بالرغبات الشخصية ، ولا بالآراء و الأذواق وإنما تكون بما وافق سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الثابتة عنه ليس إلا.
من هذا الموقف ومن غيره من المواقف التي لا يسع المجال لذكرها عرف الصحابة معنى الإلتزام بسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فهذا عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يرى في المسجد جماعة قد تحلقت وقد ترأس عليها أحدهم ، وقد جمعوا حصى أمام كل واحد منهم ، فيقول زعيمهم هذا سبحوا مائة ، هللوا مائة ، وهم ينفذون أمره ويعدون تسبيحهم وتهليلهم بالحصى . فماذا قال لهم أبو عبد الرحمن ـ رضي الله عنه ـ ؟ قال : ( عدوا سيئاتكم فأنا ضامن ألا يضيع من حسناتكم شيء ، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم ، هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون ، وهذه ثيابه لم تبلى ، وآنيته لم تكسر ، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلاتين؟) قالوا : والله ما أردنا إلا الخير . فقال : ( وكم من مريد للخير لا يدركه أو لا يصيبه ) ، ثم فرقهم .
وكذلك فهم التابعون والعلماء المحدثون والأئمة الأربعة ـ رحمهم الله جميعاً ـ . هذا رجل قام يصلي ركعات بعد السنة الراتبة في الفجر ، فنهاه أحد الحاضرين في المسجد ، فقال الرجل : هل يعذبني الله على الصلاة ؟ فقيل له : لا ، ولكن يعذبك على مخالفة السنة .
وآخر يريد أن يحرم من عند قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنهاه الإمام مالك
ـ رحمه الله ـ وقال له : أحرم من حيث من أحرم رسول الله ، إني أخشى عليك الفتنة، فقال الرجل : وأي فتنة في أميال أزيدها ؟ فقال له الإمام : أي فتنة أعظم من أنك ترى أنك هديت إلى أمر قصر عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ .
إني سمعت الله يقول : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أتصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) . ثم أنني أوجه هذه الأسئلة لأصحاب القسم الثالث ولغيرهم :
س1/ ألا يوجد في السنة النبوية ما يحقق لهم الزيادة في محبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويحقق لهم شفاعته ؟
س2/ ألم يحقق الصحابة والآل ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ محبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون الاحتفال بيوم مولده ؟
س3/ ألا يمكن دراسة السيرة والشمائل طوال العام لنتعظ بها ونتخذها نبراساً لنا في الحياة ؟
س4/ أليس لنا في رسول الله أسوة حسنة ؟ وأليس في صحابته وآل بيته قدوة لنا ؟
يا أيها الأخ المسلم : إن كنت من القسم الأول فاحمد الله على ذلك ، فإنه يرجى لك الفوز والنجاة ، وعليك أن تنكر على كل مبتدع على حد سواء ، فلا ينبغي لك أن تنكر على بدعة ما ، وتسكت على أخرى تزلفاً لسلطان أو وطنية أو عصبية جاهلية ، فدعاء ختم القرآن في صلاة التراويح بدعة ، والدعاء للسلاطين والحكام بالتعيين بالاسم على منابر الجمعة بدعة ، وكذلك الدعاء لهم في دعاء القنوت بدعة ، والمهرجان بدعة ، والنيروز وشم النسيم بدعة ، واليوم الوطني بدعة ، وكل الأيام الوطنية أو العالمية أو المرورية أو الصحية أو غيرها من المسميات كلها بدع وأعياد محدثة ما أنزل الله بها من سلطان ، وكذلك اليوبيل الفضي والذهبي والماسي كلها أعياد بدعية .
جاء في الفتوى الصادره من دار الإفتاء برقم 17779 وتاريخ 20/3/1416هـ < ... لا تجوز إقامة الحفلات وتوزيع الهدايا وغيرها بمناسبة مرور سنين على ولادة الشخص أو فتح محل من المحلات أو مدرسة من المدارس أو أي مشروع من المشاريع لأن هذا من إحداث الأعياد البدعية في الإسلام ولأنه تشبه بالكفار في عمل مثل هذه الأشياء ، فالواجب ترك ذلك ، والتحذير منه > .(7/86)
أما إذا كنت أخي المسلم من القسم الثالث ، فعليك ألا تعادي أهل القسم الأول ، واحذر من اتهامهم بالتقصير في محبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أن ترميهم بما ليس فيهم ، وإنما عليك أن تبغض أهل الصنف الثاني المذكورين سابقاً ، وألا تغتر بما يظهرونه أو يقولونه عن محبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الاحتفال بمولده فتتغاضى عن بلاويهم وطاماتهم لأنهم اتفقوا معك في بدعة الاحتفال بليلة المولد ، وعليك أن تزن الأمور بميزان الشرع ، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ، وعليك موالاة من يقيمون شرع الله في نفوسهم وقلوبهم وحياتهم واضعاً نصب عينيك قول الله تعالى ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) .
أسأل الله العظيم أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه .
منا قشة بعض الشبه:
من الأمور التي لا يختلف عليها اثنان ، أن كل صاحب بدعة بعد أن يبتدع بدعته يبحث في القرآن والسنة وينقب عن أي شيء ليتخذه دليلاً ـ بزعمه ـ على بدعته ليظهر أمام الناس أنه ممن يتبع الدليل ويستجيب لأمر الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ولو نظرت أخي المسلم فيما يشغب به المستدلون على جواز الاحتفال بالمولد النبوي لوجدت أن أدلتهم لا تخرج عن أحد أربع حالات :
1- أدلة صحيحة لا تصلح للاستدلال على مرادهم .
2- الاستدلال بالكذب والبهتان .
3- الاستدلال بفعل الكفار .
4- شبه متفرقة .
والآن نناقش بعض ما أوردوه على جواز الاحتفال بالمولد باختصار :
1- أدلة صحيحة لا تصلح للاستشهاد بها:
من هذه الأدلة قولهم : قال الله تعالى : ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) وحيث إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمةً للعالمين ، والله قد أمرنا بالفرح به ، فلذلك نحن نفرح ونحتفل بيوم مولده .
والرد على هؤلاء بأن يقال لهم : من قال أن الفرح في هذه الآية معناه الاحتفال بالمولد ؟ انظروا إلى كتب التفسير كلها فهي موجودة ومتوفرة والحمد لله ، فإنها لم تذكر هذا المعنى الذي تذكرونه أنتم ـ هذا من جهة ـ ومن جهة أخرى يقال لهم:
ألم تنزل هذه الآية على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ فلماذا لم يفعل هذا المولد استجابة لأمر الله ؟ ولماذا لم يأمر أصحابه وآل بيته بذلك ؟ وهو الحريص على أمته بأن يعلمهم ما ينفعهم ويقربهم إلى الله . ثم لماذا لم يفهم هذا الفهم الذي فهمتموه من هذه الآية كبار التابعين والمفسرين ، وكذلك العلماء والمحدثون ، وكذلك الأئمة الأربعة ؟ فهل هؤلاء قصروا عن أمرٍ وفهمٍ أنتم يالخلوف توصلتم إليه ؟ .
وما قيل عن هذا الاستدلال ، يقال أيضاً عن الأدلة الأخرى مثل قول الله تعالى: ( وذكرهم بأيام الله ). وصيام يوم الاثنين من كل أسبوع الذي كان يصومه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحينما سئل عنه قال : ( ذلك يوم ولدت فيه وبعثت فيه ) . فالصحابة والآل والعلماء والمحدثون والأئمة الأربعة وأصحاب الكتب الستة كلهم فهموا من هذا الحديث مشروعية صيام يوم الاثنين من كل أسبوع وخاصة أنه جاء حديث آخر يبين أن الأعمال تعرض يومي الاثنين والخميس ، فكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصومهما شكراً لله ولأنه يحب أن يعرض عمله وهو صائم . وأصغر طالب علم أيضاً فهم هذا الفهم ، أما أهل البدع فحولوه إلى أن المراد به الاحتفال بالمولد النبوي ، بينما لا يوجد ما يفيد ذلك لا من قريب ولا من بعيد في هذا الحديث ولا في حديث صيام يوم عاشوراء . فالاستدلال باطل ، والقياس فاسد والحجة واضحة والحمد لله .
وإنني أسأل هؤلاء المبتدعة عن هذه الأسئلة :
س/ هل هذا الفهم والقول الذي تستدلون به علم به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ وهل هذا الأمر علم به الخلفاء الراشدون ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ؟ وهل هذا الذي تقولونه علم به أصحاب الكتب الستة ، والأئمة الأربعة ، وعلماء القرون الثلاثة المفضلة ؟
فإن أجبتم بنعم علموا ذلك . أقول لكم هل احتفلوا بيوم مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أم تركوا ذلك ؟ والإجابة بالتأكيد : أنهم تركوا ذلك ولم يحتفلوا . إذاً نقول لكم : يسعكم ما وسع القوم ، وعليكم أن تقدوا بهم في ترك ما تركوا فإن في اتباعهم السلامة .
2- الاستدلال بالكذب والبهتان .(7/87)
من هذه الأدلة قولهم : أن أبا لهب يخفف عنه العذاب كل يوم اثنين ، لأنه أعتق ثويبة حينما بُشر بولادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإذا كان هذا الكافر يخفف عنه العذاب وهو في جهنم لفرحه بمولد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكيف بالمؤمن الموحد . وقبل أن أذكر الرد على هذه الفرية أنقل لكم ما رواه البخاري في كتاب النكاح الباب ( 19 ) عن عروة بن الزبير حيث قال : ( قال عروة : وثويبة مولاة لأبي لهب ، وكان أبو لهب أعتقها . فأرضعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما مات أبو لهب أُريه بعض أهله بشرحبية ، قال له : ماذا لقيت ؟ قال له أبو لهب : لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بإعتاقتي ثويبة . أ . هـ ) .
وجاء في الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر : أن ثويبة التي أرضعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي مولاة أبي لهب ، كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلها وهي بمكة وكانت خديجة تكرمها وهي على ملك أبي لهب وسألته أن يبيعها ، فلما هاجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعتقها أبو لهب ..... إلخ أ . هـ .
يلاحظ من هاتين الروايتين عن ثويبة ما يلي :
1/ أن أبا لهب عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لم يعتق ثويبة يوم مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وليس في الرواية حتى إشارة من بعيد تشير إلى ذلك ، إنما أعتقها بعد الهجرة .
2/ أن عروة روى رؤيا منام عن شخص مجهول ، قيل أن سبب عدم ذكر اسمه لأنه مشرك .
3/ أن عروة تابعي . والتابعي لا تقبل روايته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى يذكر اسم الصحابي الذي أخبره بالرواية عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا أمر معروف عن طلاب العلم ، فكيف إذا كانت الرواية من تابعي ، عن مجهول ، تحكي رؤيا منام ؟؟؟ ظلمات بعضها فوق بعض .
4/ وهل يصح أن يرد المسلم أمراً شرعياً ثابتاً بالقرآن والسنة برؤيا منام؟ فالكافر المعاند المكابر ليس له في الآخرة إلا العذاب الشديد في جهنم . وأبو لهب نزل عليه الحكم بأنه سيصلى ناراً ذات لهب وهو حي يرزق ، لأنه كان يكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويكره الإسلام والمسلمين . فهل نرد ذلك كله برؤيا منام !!!
فلاحظ أيها الأخ المسلم كيف تجرأ هؤلاء المبتدعة على تلفيق هذا الخبر وتفصيله على حسب هواهم ، فلا أدري هل هم يقتدون بأبي لهب أيضاً .
3- الاستدلال بأفعال الكفار:
مثل الاستدلال بفعل النصارى واحتفالهم بعيد الميلاد ؟ على اعتبار أن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل الرسل ، فمن باب أولى أن يحتفل بعيد ميلاده ، والاستدلال بما تفعله دول الكفر في تمجيد وتعظيم زعمائها وكبرائها ، فمن باب أولى أن يمجد سيد ولد آدم ـ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنقول له : من أسلم طريقة ؟ من يقتدي بهؤلاء الكفار ، أمن يقتدي بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين وعبدالله ابن عباس وبقية الآل والصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ؟؟ .
4- شبه متنوعة:
أ- الاستدلال بجزء من حديث ، وهو : ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ) .
فنقول لهم : أولاً : عليكم الاطلاع على الحديث من أوله إلى آخره ، والقصة التي وقعت وكانت سبباً في ذكره ، وشرح العلماء له ، وفقه الحديث وما يدل عليه حتى يتم الاستشهاد به في الموضع الصحيح .
وثانياً : تكملة الحديث : ( ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها .... إلخ ) ، فنقول : وما يدرك أيها المبتدع أن ما تفعله سنة حسنة أم سنة سيئة ؟ وهل لديك من الله برهان على ذلك ؟ .
ب- الاستدلال باجتماع الصحابة في عهد عمر ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ في صلاة التراويح في رمضان ، وبجمع المصاحف في مصحف واحد في عهد عثمان ـ رضي الله عنه ـ وبأمور أخرى فعلها الخلفاء الراشدون ـ رضي الله عنهم ـ .
فالجواب على ذلك : أن نقول لهم : يا أيها المبتدعة لقد أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نقتدي بأبي بكر وعمر . وأمر نا باتباع سنة الخلفاء الراشدين كما هو معروف ومعلوم للجميع .. فهل تضعون أنفسكم في منزلتهم ؟ وهل تعتبرون أنفسكم من الخلفاء الراشدين ؟ وتريدون من الناس اتباعكم ؟؟؟(7/88)
ج- قال أحد المذيعين في برنامج في قناة فضائية ، حينما اتصل به شخص ليلة الاحتفال بالمولد النبوي هذا العام 1422هـ مبيناً أن في بلده يحصل منكرات عظيمة وظاهرة ، وفساد كبير في أماكن الاحتفالات بالمولد النبوي .. فقاطعه المذيع وقال : حتى في عيد الأضحى وعيد الفطر يحصل منكرات فهل نلغي العيدين ؟ وهذا فيه من المغالطة ما فيه ، لأن المسلمين في عيد الفطر أو عيد الأضحى يغتسلون ويتطيبون ويخرجون مهللين ومكبرين ، ثم يجتمعون للصلاة ، وبعد أداء الصلاة يعودون إلى بيوتهم .. هذا هو العيد عندنا نحن أمة الإسلام ، بالإضافة إلى النحر في عيد الأضحى المبارك ، ورمي جمرة العقبة والطواف والسعي بالنسبة للحجاج .. هذا هو العيد وهذه شعائره . فأين المنكرات في هذا أيها المذيع ؟ وإن كنت تقصد ما يفعله الناس بعد العيد ، فيما يسمى سهرات ليالي العيد ، فهذا ليس من العيد ولا يسمى هذا الفعل عيدا ً . بينما الذي يفعل في الموالد من منكرات وأمور مخالفة للشرع ، يكون في وقت الاحتفال وفي مواقع الاحتفال ، وهذا أمر مشتهر ومنتشر في كثير من بلدان المسلمين مع الأسف الشديد . فأين هذا من ذاك أيها المذيع ؟!!!
- وأخيراً : أليس من الأجدر والأولى أن يكون الاحتفال بمولد الشخص في حياته ثم إذا مات يتم الامتناع عن الاحتفال بمولده ، خاصة إذا كان يوم وفاته هو يوم ولادته !!! فاعتبروا يا أولى الأبصار.
كذب وبهتان:
إن سبب تركي اتباع الصوفية ـ والحمد لله ـ هو اعتماد الكبراء والزعماء ومن شايعهم على الأكاذيب والخرافات والمنامات ، ولكن كل مطلع على السيرة الصحيحة والأحاديث الصحيحة والتفسير الصحيح يكتشف مدى ما وصل إليه هؤلاء من الجرأة والكذب على الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً ـ فمن الأكاذيب التي يرددونها دائماً قولهم :
1/ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلق من نور ، وأنه إذا مشى في الشمس ليس له ظل . وهذا القول مخالف لقول الله تعالى : ( قل إنما أن بشر مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد ) ، وغيرها من الآيات والأحاديث التي تثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشر ، وأن البشر كلهم خلقوا من طين ، وأن الذين خلقوا من نور هم الملائكة . وأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس من الملائكة . هذا من ناحية . أما من ناحية أخرى فأقول لهؤلاء : كيف يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس له ظل ، ولا يذكر ذلك الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وهم قد وصفوه وصفاً دقيقاً ؟ ثم ألم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرتدي لباساً أم كانت الملابس التي عليه هي الأخرى ليس لها ظل ؟!!!
2/ ومن بهتانهم قولهم : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم الخمس التي في قوله تعالى : (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير).
وأيضاً قولهم : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في قبره يعلم ما في قلوب من يقفون عند قبره ويعرف أسمائهم ويردد السلام بصوت مسموع يسمعه كل من يسلم عليه !!!
سبحانك ربي هذا بهتان عظيم . فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يعلم من الغيب إلا ما يطلعه الله عليه ، قال تعالى : ( قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمداً عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ) وقال تعالى على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) .
وبالرجوع إلى السنة الصحيحة والسيرة الثابتة يتضح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يعلم الغيب ، ولم يكن يعلم من خلف الباب حينما يطرق للاستئذان للدخول عليه . بل إن الكلب دخل بيته ، مما سبب منع دخول جبريل عليه السلام ، وهو لا يدري عنه . وكانت تحدث بعض الأمور للصحابة لا يعلم عنها ، مثل زواج عبد الرحمن بن عوف ، وموت المرأة التي كانت تقم المسجد .. إلى غير ذلك من الأحداث الكثيرة التي لا يسع المجال لذكرها . فإذا كان هذا في حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فكيف وهو في القبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
أما رد السلام بصوت مسموع فهذه فرية لا تستحق منا قشتها ، لوضوح الكذب فيها وضوح الشمس في رابعة النهار.
3/ ومن بهتانهم أيضاً ، الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى حيث يدّعون أن أسماء الله الحسنى هي أسماء للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويشغبون على الناس بما ورد في القرآن من صفات للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، مثل : بشير ونذير ورؤوف ورحيم وسراج منير . وفي هذا مغالطة واضحة .(7/89)
لقد وصف الله الإنسان في سورة الإنسان بقوله تعالى : ( إنا حلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً ) ، فهل يقال لكل إنسان أن من أسمائه السميع والبصير ؟ لا أظن عاقلاً يقول ذلك ، فهاتان صفتان لكل إنسان . والسميع والبصير اسمان للرحمن سبحانه وتعالى . وقد قال الله : (سبح اسم ربك الأعلى)، وقال لموسى: (إنك أنت الأعلى)، فهل { الأعلى } اسم من أسماء موسى ؟ كلا إنه صفة لما سيكون عليه أمر موسى– عليه السلام – أمام فرعون – عليه لعنة الله -.
ولو فرضنا أن الصفات التي جاءت في القرآن تصف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه سراج منير ورؤوف رحيم إلى آخرها ، لو فرضنا أنها أسماء للنبي
ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يزعمون ، فلماذا لا يقفون عندها فقط ؟ لماذا يقولون أن الأسماء الإلهية هي أسماء للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهل يرضى المسلم أن يقول للنبي أنه هو الله ، الرحمن ، المهيمن ، الجبار ، المتكبر ، البارئ، المصور، المحيي، المميت، الرزاق، إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى؟! سبحان الله عمّا يشركون.
4/ ومن كذبهم اتهام الملائكة بأنهم خروا سجداً وبكيّاً حينما رأوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة المعراج ، وأصغر طالب علم إذا قرأ الحديث الصحيح الذي فيه وصف المعراج ، ينكشف له زيف وكذب هذا الإدعاء ، فالملائكة عباد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . فلا يجوز في حقهم محقرات الذنوب حتى يوصموا بالسجود لغير الله عز وجل .
ولقد كان سجود الملائكة لآدم طاعة لله الذي أمرهم بالسجود له . وهو تشريق لآدم -عليه السلام-. فهم يطيعون أمر الله ويسبحونه ليلاً ونهاراً لا يفترون . فمن أين لهؤلاء اتهام الملائكة كلهم بالسجود للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع البكاء ؟!!
5/ ادعاؤهم كذباً وزوراً أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحضر إلى مكان الإحتفالات بمولده – أو أن روحه فقط هي التي تحضر كما يقول بعضهم - . فحينما كنت أحضر تلك الاحتفالات معهم ، وعندما يذكر القاص قصة المولد ويذكر خروج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بطن أمه للدنيا، ننهض نحن الحاضرون واقفين مرددين بصوت مرتفع:
مرحباً يا نور عيني مرحباً مرحباً جد الحسين مرحباً
ويرش ماء الورد على الجميع ، ويؤتى بالبخور ، ونستمر في هذا الوضع ما يقارب خمس دقائق ثم نعود ونجلس في أماكننا ويكمل الاحتفال . فكأن هؤلاء هم الذين يتحكمون في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيخرجونه من قبره عند ذكر ولادته ليحضر إليهم . أو هم الذين يتحكمون في روحه الشريفة ، وينزلونها من الفردوس الأعلى لتحضر احتفالاتهم !!! نسأل الله العافية .
وللحق أقول أن بعض الأتباع لا يرضى بهذه الأمور ولا يعتقدها . فهم لا ينطبق عليهم ما ذكرته عن الصوفية ، بل إن من هؤلاء الاتباع أناساً صالحين مصلحين ، ومنهم العباد والزهاد والذين يحافظون على الصلاة في المسجد والذين يحسنون إلى الناس ويتصدقون على الفقراء . وإنما يفعلون هذه الاحتفالات أو يشاركون فيها ظناً منهم أن هذا من الخلاف الجائز بين العلماء ، وأنه من الأمور الاجتهادية التي يسع الناس فعلها . ولكن إذا ما عرف بعضهم الحق واطلع على عقائد هؤلاء الصوفية آب ورجع وتاب إلى الله من المشاركة في تلك الاحتفالات .
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا و اجعلنا من عبادك الصالحين ، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا واجعل خير أيامنا يوم لقائك ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
-----------------------
13. ... دلائل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بين السنة والبدعة
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصل عظيم من أصول الدين، فلا إيمان لمن لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
* قال الله تعالى:(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) [ التوبة:24].
قال القاضي عياض في شرح الآية: فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها -صلى الله عليه وسلم-، إذ قرّع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وتوعدهم بقوله تعالى:(فتربصوا حتى يأتي الله بأمره)، ثم فسقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله(1).
* وقال الله تعالى:(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)[ الأحزاب: 6].
* وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"2).
* وقال أيضاً: "الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده"(3).(7/90)
* وعن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك"، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"(4).
آثار محبته -صلى الله عليه وسلم-:
المحبة عمل قلبي اعتقادي تظهر آثاره ودلائله في سلوك الإنسان وأفعاله ومن علامات ذلك:
أولاً: تعزير النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره:
قال الله تعالى:(إنا أرسلناك شاهداْ ومبشراْ ونذيراْ لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاْ)[ الفتح:9].
ذكر ابن تيمية أن التعزير: (اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه). والتوقير: (اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار)(5).
وتوقير النبي -صلى الله عليه وسلم- له دلائل عديدة، منها:
1 - عدم رفع الصوت فوق صوته:
قال الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون)[ الحجرات: 2].
وعن السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(6).
2 -الصلاة عليه:
قال الله تعالى:(إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماْ)[ الأحزاب: 57].
قال ابن عباس: يصلون: يُبرّكون(7).
وفي الآية أمر بالصلاة عليه، والأمر يقتضي الوجوب، لهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "البخيل من ذكرتُ عنده فلم يصل عليّ"(8).
وقال: " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ "(9).
ثانياً: الذ ب عنه وعن سنته:
إن الذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونصرته، آية عظيمة من آيات المحبة والإجلال، قال الله تعالى:(للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاْ من الله ورضواناْ وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون)[ الحشر: 8].
ولقد سطر الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة وأصدق الأعمال في الذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفدائه بالأموال والأولاد والأنفس، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، وكتب السير عامرة بقصصهم وأخبارهم التي تدل على غاية المحبة والإيثار، وما أجمل ما قاله أنس بن النضر يوم أحد لما انكشف المسلمون: (اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس بن مالك: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه).(10).
ومن الذب عن سنته -صلى الله عليه وسلم-: حفظها وتنقيحها، وحمايتها من انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين، ورد شبهات الزنادقة والطاعنين في سنته، وبيان أكاذيبهم ودسائسهم، وقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنضارة لمن حمل هذا اللواء بقوله: " نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مُبلّغ أوعى من سامع ".(11).
والتهاون في الذب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو الذب عن سنته وشريعته، من الخذلان الذي يدل على ضعف الإيمان، أو زواله بالكلية، فمن ادعى الحب ولم تظهر عليه آثار الغيرة على حرمته وعرضه وسنته، فهو كاذب في دعواه.
ثالثاً: تصديقه فيما أخبر:
من أصول الإيمان وركائزه الرئيسة، الإيمان بعصمة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلامته من الكذب أو البهتان، وتصديقه في كل ما أخبر من أمر الماضي أو الحاضر أو المستقبل، قال الله تعالى:(والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)[ النجم: 14].
والجفاء كل الجفاء، بل الكفر كل الكفر اتهامه وتكذيبه فيما أخبر، ولهذا ذم الله المشركين بقوله:(وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين، أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين)[يونس: 37-39].(7/91)
ومن لطائف هذا الباب التي تدل على منزلة الشيخين الجليلة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: " بينما راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبها حتى استنقذها، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع ليس لها راع غيري؟ وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إليه فكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا، ولكني خلقت للحرث، فقال الناس: سبحان الله! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما "(12).
رابعا:ً اتباعه وطاعته والاهتداء بهديه:
الأصل في أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقواله أنها للاتباع والتأسي، قال الله تعالى:(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراْ)[ الأحزاب: 21].
قال ابن كثير: هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله وأحواله، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل.(13).
وجاء أمر الله سبحانه وتعالى في وجوب طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) [ الحشر: 7].
وجعل الله عز وجل طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من طاعته سبحانه، فقال:(من يطع الرسول فقد أطاع الله)[ النساء: 80].
وأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول، فقال:(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) [ النساء: 59].
وتواترت النصوص النبوية في الحث على اتباعه وطاعته، والاهتداء بهديه والاستنان بسنته، وتعظيم أمره ونهيه، ومن ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: " فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".(14).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "صلوا كما رأيتموني أصلي"(15).
وقال: "لتأخذوا عني مناسككم"(16).
فطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي المثال الحي الصادق لمحبته عليه الصلاة والسلام فكلما ازداد الحب، زادت الطاعات، ولهذا قال الله عز وجل:(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)[ ال عمران: 31].
فالطاعة ثمرة المحبة، وفي هذا يقول أحد الشعراء:
تعصى الإله وأنت تزعم حبه *** ذاك لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن أحب مطيع
خامساً:التحاكم إلى سنته وشريعته:
إن التحاكم إلى سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- أصل من أصول المحبة والاتباع، فلا إيمان لمن لم يحتكم إلى شريعته، ويسلم تسليماً، قال الله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاْ مما قضيت ويسلموا تسليماْ) [النساء: 65].
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن من علامات الزيغ والنفاق الإعراض عن سنته، وترك التحاكم إليها، قال الله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاْ بعيداْ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداْ) [ النساء: 60،61].
الغلو في محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
انحرف بعض الناس عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحدثوا في دين الله عز وجل ما ليس منه، وغيروا وبدلوا، وغلوا في محبتهم للرسول -صلى الله عليه وسلم- غلواً أخرجهم عن جادة الصراط المستقيم، الذي قال الله عز وجل فيه:(وأن هذا صراطي مستقيماْ فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)[ الأنعام: 153].
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على حماية جناب التوحيد، فكان يحذر تحذيراً شديداً من الغلو والانحراف في حقه، ودلائل ذلك كثيرة جداً منها:
* عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: »لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله«(17).
* وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: »لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد إلا أني أنهاكم عن ذلك يحذر ما صنعوا«(18).
* وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما شاء الله وشئت، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: »جعلتني لله عدلاً، بل قل ما شاء الله وحده«(19).(7/92)
* وعن أنس أن رجلاً قال: يا محمد، يا سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: »قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل«(20).
ونظائر هذه النصوص كثيرة جداً، وثمرتها كلها بيان أن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه لا تكون إلا بالهدي الذي ارتضاه وسنه لنا، ولهذا قال عليه أفضل الصلاة والسلام: »من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ«(21).
حقيقة المولد النبوي:
ظهرت هذه الفكرة في عصر الدولة العبيدية الباطنية، إظهاراً منهم لدعوى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم انتشرت في كثير من دول العالم الإسلامي، إلى يومنا هذا فأصبح اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول عيداً مشهوداً عند كثير من المبتدعة يجتمعون فيه لإنشاد المدائح النبوية والأوراد الصوفية، وإقامة الحفلات والرقصات، وقد يقترن بذلك بعض الشركيات من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- والاستغاثة به، وقد يحدث الاختلاط بين الرجال والنساء والاستماع إلى الملاهي.
إن تحويل الإسلام إلى طقوس وثنية من الأهازيج الشعرية والطبول والمزامير والتمايل والرقص، وبالتالي الانحراف به عن صفائه ونقائه، هو من قبيل جعله إلى العبث والخرافة أقرب منه إلى الدين الحق.
وحينما تكون هذه العقلية الساذجة المنحرفة حاكمة للعالم الإسلامي يكون رد الفعل الرئيس لدخول خيول نابليون إلى الأزهر الشريف هو اجتماع الشيوخ للتبرك بقراءة حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- من صحيح البخاري! وكلما ازدادت الدائرة على المسلمين ازدادت الدروشة، وتمايلت الرؤوس وبحت الأصوات بالأناشيد والأوراد والمدائح النبوية.
إن الاحتفال بالمولد النبوي أصبح عند بعض الناس من العامة والخاصة الآية الرئيسة لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأذكر أنني كنت قبل سنوات في بلد إسلامي في أوائل شهر ربيع الأول، والناس منهمكون في التجهيز والإعداد لليوم الثاني عشر، تحدثت مع أحد كبار الأساتذة الجامعيين عن هذه البدعة، وبعد أن بح صوتي بذكر الأدلة والشواهد، قال لي: هذا صحيح، ولكن هذا سيدنا النبي!! عندها تذكرت قول غلاة الصوفية: »من أراد التحقيق فليترك العقل والشرع!«(22)، وصدق ابن تيمية حينما قال عن غلاتهم: »كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم«(23).
ومن المفارقات التي تدعو إلى التأمل، أن بعض الناس قد يعصى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلاً ونهاراً، ويتهاون في تعظيم أوامره، فضلاً عن الالتزام بسنته، ومع ذلك فهو يحتفي بيوم المولد، ويوالي فيه ويعادي، وكأن غاية الحب عنده هو إحياء هذا اليوم بالمدائح والأوراد، وبعد ذلك ليفعل ما يشاء...؟! يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: »من تتبع التاريخ يعلم أن أشد المؤمنين حباً واتباعاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- أقلهم غلواً فيه ولاسيما أصحابه رضي الله عنهم ومن يليهم من خير القرون، وأن أضعفهم إيماناً وأقلهم اتباعاً له هم أشد غلواً في القول وابتداعاً في العمل«.
وليس عجيباً أن يحظى هذا اليوم باحتفاء رسمي من الحكومات العلمانية وتسخر له كافة الإمكانات الرسمية، وتجري تغطية فعالياته من جميع وسائل الإعلام، لأنها تعلم يقيناً أن غاية هؤلاء الدراويش لا تتجاوز الأوراد والمدائح حتى إن النذور والقرابين التي ترمى على القبور والأضرحة والمزارات أصبحت مصدر دخل رئيس لوزارات الأوقاف والسياحة، ولهذا كان حافظ إبراهيم يقول متهكماً:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم**** وبألف ألف يرزق الأموات
من لي بحظ النائمين بحفرة قامت** على أحجارها الصلوات؟!(24)
إن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عقيدة راسخة في قلوب المؤمنين، ثمرتها الاقتداء والبذل والعطاء والتضحية والجهاد في سبيل نصرة دينه وإعلاء لوائه وحماية سنته، ولا يوجد بين محبي الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكان للعجزة النائحين، وما أجمل قول أنس بن النضر رضي الله عنه لما مر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه«(25).
===========
هوامش:
(1)الشفا بتعريف أحوال المصطفى 2/18.
(2)أخرجه البخاري 1/58، ومسلم 1/67.
(3)أخرجه البخاري 1/58.
(4)أخرجه البخاري 11/523.
(5)الصارم المسلول على شاتم الرسول ص422.
(6)أخرجه البخاري 1/560.
(7)أخرجه البخاري تعليقاً مجزوماً به 8/532.
(8)أخرجه أحمد 201، والترمذي 5/551.
(9)أخرجه أحمد 2/254، والبخاري في الأدب المفرد ص 220، والترمذي 5/550.
(10)أخرجه البخاري 6/21 و 7/354.
(11)أخرجه أحمد 1/437، والترمذي 5/34، وابن ماجة 1/85.
(12)أخرجه البخاري في عدة مواضع منها: 6/152 و 7/18 و 42.
(13) تفسير القرآن العظيم 3/475.(7/93)
(14)أخرجه أحمد 4/126،127، وأبو داود 5/13-15، والترمذي 5/44، وابن ماجة 1/16.
(15)أخرجه البخاري 2/111 و 10/438.
(16)أخرجه مسلم 2/943.
(17)أخرجه البخاري في عدة مواضع منها 6/478.
(18)أخرجه البخاري 8/140، ومسلم 1/377.
(19)أخرجه أحمد 1/214 و 283 و 347.
(20)أخرجه أحمد 3/153 و 241.
(21)أخرجه مسلم 3/1344.
(22) مجموع الفتاوى 11/243.
(23) مجموع الفتاوى 2/174.
(24)الديوان، ج1، ص 318.
(25)أخرجه البخاري 6/21 و 7/355 ومسلم 3/1512.
* من تعليقاته على كتاب »صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان« للسهسواني.
مجلة البيان
-----------------------
14. ... ظاهرة الاحتفال بالمولد النبوي وآثارها.. مصر أنموذجًا
ظاهرة الاحتفال بالمولد النبوي وآثارها
- مصر أنموذجاً -
عبد الكريم الحمدان
كيف؟ لا أدري. لماذا؟ *** ربما أنني يوماً عرفت السَبَبَا
عالمٌ يدعو بدعوى جاهلٍ!! *** وليوثُ الحربِ ترجو الأَرْنَبَا!!
سؤال مبهم في مطلعه، لكنه محير في خاتمته!! والإجابة عنه تختلف باختلاف ما يدور السؤال حوله من مبهمات حياتنا التي كثرت، وكل منها يحتاج إلى أسئلة لكنها أحوج إلى إجابات تشفي.
كيف تصبح محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيدةً عن دينه وهديه؟
كيف تصاغرت همم الناس للاشتغال بذكر شمائل رسولهم -صلى الله عليه وسلم- ومآثره في يوم أو بعض يوم من العام، ثم يُتناسى ويُهجر ذكره سائر العام؟!
ولماذا تنفق الأموال وتسير الجموع إلى مثل هذه المواقف؛ والمسلمون في كل أرض يُتخطفون؟!
أسئلة تطرح نفسها مع كل موسم يتنادى فيه القوم لاحتفال من احتفالاتهم، والتي من أشهرها: الاحتفال بمولد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي أجروه مجرى الواجبات، حتى أصبح من (الشعائر) التي يعزّ عليهم إغفالها أو ترك القيام بها؛ مع تفريطهم في كثير من فروض الأعيان والكفايات فضلاً عن السنن والمستحبات.
إن هناك موالد أخرى كثيرة تولدت عن مسألة الاحتفال بالمولد النبوي، وكلها أصبحت تُعَظَّم، وتُمارَس فيها أمور بدعوى التقرب إلى الله، هذه الموالد في مصر وحدها أصبحت ستة إلى جانب 22 موسماً آخر؛ بخلاف موالد من يدّعي فيهم الولاية(1) والله أعلم بما كانوا يعملون.
وأصبح تضخيم تلك الاحتفالات وحبك الأساطير حولها ثم إشاعتها بين العوام وأشباههم - ليتلهوا بها - من الوسائل التي يلجأ إليها الحكام لصرف الناس عن الدين الحق؛ فما أن يفرغ الناس من مناسبة حتى يلاحَقوا بغيرها، وهكذا دواليك.
من المعروف أن أول من توسع في الاحتفال بالموالد في مصر هم العبيديون المسمَّوْن بـ(الفاطميين) وقد كانت لهم ذرائع ودوافع في إحياء الاحتفال بالموالد، جُلها لا تمت إلى محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- بصلة؛ وهي - مع التأمل - الذرائع والدوافع نفسها التي لا تزال وراء الاحتفال بالمولد إلى يومنا هذا.
أسباب النشأة وتفاعلاتها الاجتماعية:
من خلال التتبع الواقعي لتاريخ الاحتفال بالمولد في مصر واستقراء ما يجري فيه من وقائع يمكن أن نجمل الدافع إلى ذلك في عدة أسباب هي:
1 - نشر العقائد الشيعية من خلال التذرع بحب آل البيت والارتباط بهم؛ وهذا ما صنعه العبيديون من قبل ويفعله أحفادهم والمتأثرون بهم في كثير من البلاد.
2 - نيل الشهرة والصيت؛ وهذا يختص بفئة تنفق على هذه الموالد وترعاها من الأغنياء والموسَرين.
3 - كسب الولاء الديني وهو الدافع الذي يدفع (مشايخ الطرق) للتسابق في إقامة السرادقات، والمشي في المسيرات من أجل الاستزادة من الأتباع.
4 - الارتزاق وهو ما يقوم به طائفة عريضة من تجار الحلوى وبائعي(أمور أخرى) ومؤجري الألعاب والملاهي والبائعين الجوالين، بل مشايخ الطرق المنتفعين بما يجري في الأضرحة، والمداحين والقصاصين والمنشدين والمغنين والراقصات! وأمثالهم.
5 - إتاحة الفرصة أمام الفساق والفجار الذين يسعون وراء الحرام؛ فإذا ما سمعوا بمولد قالوا: هلموا إلى بغيتكم؛ حيث يتسنى لهم فيها قضاء مآربهم.
6 - التعمية على بعض الممارسات المعادية للدين الحق. وقد تطور هذا في العصور المتأخرة إلى وسائل أكثر تعمية كأن تفتتح في الموالد بعض المشاريع الكبرى وتقام المهرجانات الدينية! من أجل الاحتفال بسيد المرسلين! -صلى الله عليه وسلم-، وتكون الرسالة التي يراد لها أن تبلغ الجميع أنه ليس أغير على النبي -صلى الله عليه وسلم- ودينه من هؤلاء، ويُقدَّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أدبياتهم على أنه شخصية تاريخية كان لها أثرها في تاريخ الأمة العربية! شأنها شأن العظماء، ومع انتهاء الحفل يسدل الستار حتى إشعار آخر.(7/94)
وأوضح أنموذج لذلك ما ذكره الجبرتي من أن نابليون أمر الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي، وأمره بتعليق الزينات، بل وحضر الحفل بنفسه من أوله إلى آخره (2)، ويعلق عبد الرحمن الرافعي قائلاً: فنابليون قد استعمل سياسة الحفلات ليجذب إليه قلوب المصريين من جهة، وليعلن عن نفسه في العالم الإسلامي بأنه صديق الإسلام والمسلمين(3).
مشاهد من الاحتفال:
تختلف صور الاحتفال تبعاً للفئة المحتفلة وأفكارها وأهدافها، ويمكننا في هذا المقام التفريق بين أربع فئات درجت على الاحتفال بالمولد في العقود الأخيرة:
أولها: الجهات الحكومية وهي التي كانت تمثل رسمياً في هذه الاحتفالات؛ حيث كانت وزارة الأوقاف ترعى الاحتفال السنوي الذي كان يحضره الملك في أيام الملكية، ثم أصبح يحضره الرؤساء في عهد الجمهورية، وفي العادة فإن الملوك والرؤساء يلقون في هذا اليوم خطبة، كما يحضره شيخ الأزهر وعدد من الوزراء والشخصيات العامة، وتوزع فيه جوائز على الفائزين في مسابقة تقام احتفالاً بالمولد النبوي، كما توزع فيه الجوائز التقديرية على بعض الحضور باسم تكريم العلم والعلماء، كما تقام احتفالات في كافة المدن ترعاها فرق من الشرطة.
وفي وقتنا الحاضر تحتفل إذاعة القرآن الكريم في مصر بالمولد على مدى شهر كامل هو ربيع الأول. ومع أن كثيراً من البرامج لا غبار عليها إلا أن ارتباطها بموسم لم يقره الشرع يبقى نقطة مؤاخذة إضافة إلى بعض البرامج والفقرات التي لا تخلو من غلو في شخصه -صلى الله عليه وسلم- مثل قول المنشد:
ميلاد طه أكرم الأعياد ونذير كل الخير والإسعاد
2- الجهات شبه الرسمية: ويمثلها تقليدياً في الاحتفالات المجلس الصوفي الأعلى والطرق التابعة له ووكلاؤه في كل المدن؛ إذ ينص قانون تنظيم الطرق الصوفية الصادر 1976م على اختصاص هذا المجلس بإصدار تصاريح إقامة الموالد! ومجالس الذكر وسير المواكب والاحتفالات في المواسم والأعياد الدينية(4)، وتقيم المشيخة الصوفية هذا الاحتفال الذي تحضره مواكب الشرطة، ويحضره مندوب رسمي عن رئيس البلاد، وتعزف فيه الموسيقى، وتنطلق المسيرة تحت الرايات طريقة بعد أخرى في موجة من الإنشاد مبتدئة من مسجد الجعفري مشياً على الأقدام بالشوارع لتنتهي إلى المشهد الحسيني الذي يقف الجميع أمامه في خشوع لقراءة الفاتحة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم تُدَبَّح الخطب وتلقى الأناشيد والأشعار. ويبدأ الحفل الشعبي من حيث انتهى الحفل الرسمي الذي تنقله الإذاعة والتلفزيون عادة.
ويدخل كل (شيخ طريقة) خيمته، وتعقد حلقات الذكر أو الشطح والرقص والتدخين والإنشاد والتشبيب إلى جنب المراقص وملاعب القمار وأماكن مشبوهة، وإذا ما قدر لامرئ أن يرى أنواع الشر مجتمعة فما أحسب أنه سيجد مكاناً يُجملها مثل هذه المواطن التي تمارس فيها المعاصي على أنها طاعة، والخرافة على أنها حقيقة، والجهل على أنه علم. ويمكنك أن تلمس هذا وأنت تسمع لمنشد يهذي بين أدعياء المحبة فيقول:
سعد السعود علا في الحل والحرم *** نور الهدى قد بدا في العرب والعجم
بمولد المصطفى أصل الوجود ومن *** لولاه لم تخرج الأكوان من عدم
ويطلب القوم المزيد فيسمعهم حُلُوليَّات ابن الفارض:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة *** فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
ويستزيدونه حتى يقول:
أنا فيكمو أنا فيكمو *** ولكني خفي عنكمو
وهنا يتصايح الناس ويسقط بعضهم ويسكر بعضهم ويظل يهذرم بكلام لا يعني إلا الحلول، أو ما يسميه بعضهم بالحضرة الإلهية على اختلافٍ بينهم.
والحق أن الموالد من أخصب البيئات للمناكر الظاهرة والمستترة؛ ففي ساحاتها الواسعة ينتشر الرقعاء دون خجل، ويختلط النساء بالرجال في المأكل والمشرب وغيرها؛ حيث تكثر جرائم الزنا واللواط، ويدخن الحشيش، وتسمع الأغاني الخليعة والموسيقى الصاخبة، وتختفي روح الجد، وتفيض روح الفوضى وعدم النظام، كما تختفي النظافة من المساجد وتضطرب أوقات الصلوات والجماعات، ودعك من أن أكثر الوافدين على هذه الساحات لهم عقائد غريبة؛ فربما ضن أحدهم على أمه بقروش يبرها بها في الوقت الذي يبسط يده بالنفقة هنا! وبعضهم يعتذر لهذه الموالد بأن فيها حلقات للذكر ودروساً للعلم وتلاوة للقرآن وإطعاماً للفقراء والمساكين، وكل هذه الآثام ينتعش وجودها في هذا الجو الاحتفالي المبتدَع الذي ما أنزل الله به من سلطان، ومع هذا يدعي أهله أنهم يحبون النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحيون ذكراه!
ولو خلت الموالد من هذه الآثام التي سقناها آنفاً، لوجب تعطيلها أيضاً؛ لمظاهر التدُّين الفاسد التي تسودها؛ فحلقات الذكر ضروب من الهوس وألوان من الرقص الذي يسودُّ له وجه أهل الدين!(7/95)
أما القرآن المتلو في هذه الساحات فما ينتفع به قائل ولا سامع؛ إنه ضرب من غناء مملول النغم يتصنع له بعض السامعين من الإقبال ريثما يفرغ منه، وكذلك الوعظ في دروس الوعظ والإرشاد التي تنظمها بعض المؤسسات الدينية لا تكاد تظفر بفائدة هما يراد نشره بين الجماهير المحتشدة في هذه الموالد.
تلك محاولات عابثة وإهدار لقيمة الذكر الحكيم والحديث الشريف.
ولو افترضنا وجود بعض الخير بين الأعمال التي تمارس في المولد فإنها لا تسوِّغ إقامة الموالد بعدما أضحت الشرور المتيقنة التي تكتنفها أكثر بكثير من تلك الفوائد المظنونة؛ وقانون الشريعة في هذا: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح (5).
وثالث الفئات المحتفلة بالمولد هم عامة الناس: الذين كانوا يمثلون زخماً قوياً لاحتفالات الصوفية حتى وقت قريب، لكن الإقبال قل كثيراً نتيجة عدد من العوامل منها:
1 - الأثر الذي أحدثته الصحوة الإسلامية المباركة وتمثل في توعية الناس؛ فلا شك أن ذلك كان له أثر كبير في محاربة البدع.
2 - ارتفاع نسبة التعليم والتثقيف الذي أدى إلى سقوط كثير من الأوهام والخرافات.
3 - الهجوم العلماني وما يشيعه من سلوكيات مادية - ولا يخفى أن منطلق هجومه عقلاني وليس شرعياً - فهو يحارب الدين بصورة فجة ثم يرفع شعاراً مشوهاً للدين تمثله الموالد ونحوها من أجل إسقاط سلطانه كلياً، ولا شك أنه قد اجتذب قطاعاً من المجتمع لا يستهان به.
4 - كثرة وسائل الترفيه من وسائل إعلام وغيرها مما اجتذب الفئة التي كانت تحتفل بالمولد من أجل الترفيه والترويح؛ فقد وجدت ما يغنيها ويزيد في هذه الوسائل، ومع هذا فيبقى احتفال قطاع عريض من العامة بالمولد محصوراً في شراء حلوى المولد ومشاهدة الاحتفالات في التلفاز، وإن كانت الاحتفالات لا تزال بالمدن التي فيها الأضرحة الكبرى كطنطا ودسوق وقنا وأسيوط.
ورابع هذه الفئات: هي بعض الاتجاهات الإسلامية(6) التي تحتفل بالمولد بإقامة الأمسيات الدينية التي تذكِّر بهديه -صلى الله عليه وسلم-. ولو لم يكن في ذلك غير موافقة المبتدعة أو إثبات شبهة سنية الاحتفال أو شرعيته لدى العوام لكفى بها ضرراً؛ فكيف إذا انضاف إلى ذلك قصرهم للخطب في ذلك اليوم على مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما يدعو إلى تعظيم ذلك اليوم على وجه التقرب. والغريب أن بعضهم يقيس ذلك الاحتفال على احتفال النصارى بعيد الميلاد أو احتفال القوميين برموزهم السياسية ويقولون: النبي -صلى الله عليه وسلم- أولى بالتعظيم. إن من الظلم مساواة النبي -صلى الله عليه وسلم- بهؤلاء، أو الاحتجاج على شرعية ذلك بصنيع هؤلاء وقد أُمِرنا بمخالفتهم.
البعد الاعتقادي للاحتفال بالمولد:
يعتقد قطاع عريض من المتصوفة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد خُلِقَ من نور (أي أزلي) ويسمون ذلك بـ (الحقيقة المحمدية) التي سبقت خلق آدم ثم حلت فيه حين خلق، وما زالت تنتقل من آدم إلى من بعده من الأنبياء حتى بلغت شخصه -صلى الله عليه وسلم-، وهي التي يستمد منها جميع الأولياء - عندهم - علمهم وقوتهم وتصرفهم، أو هي التي تنتقل بما يعرف عندهم بـ (القطب الغوث)، وهذا الكلام تلفيق بين اليونانية وفق نظرية الفيض النوراني وبين الخرافات الهندوكية التي تقول بتناسخ الأرواح.
والواقع أن ثمة رابطاً قوياً بين نظرية الحقيقة المحمدية(7) وبين احتفالهم بالمولد هي أن الحقيقة تجسدت في شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في مولده، وهذا ما يهم القوم. أما الشريعة التي جاءت بعد البعث فليست لهم؛ لأن علمهم لدنيٌّ مستمد من هذه الحقيقة.
ولهذا، فهم يقدسون أولياءهم الذين استمدوا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- العلم والتصريف، ولأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- - كما يعتقدون - حي في قبره، وأن الحقيقة قد انتقلت إلى مَنْ بَعدَه من الأولياء، فلماذا يُحرق عليه وهو لم يمت(8)؟ ولهذا لا نعجب إذا حدثوا أن الرفاعي (صاحب الطريقة الرفاعية) قد مد له النبي -صلى الله عليه وسلم- يده من القبر فصافحه وأعطاه العهد، أو قالوا قريباً من ذلك عن البدوي أو الدسوقي أو الشاذلي. لكل هذا فهم يقدسون يوم المولد دون غيره.
وتعجب بعد هذا من مسائل يثيرونها(9): هل يوم المولد أفضل، أم ليلة القدر؟ ويُصطنع لها أقوال ينتصر في آخرها لقولهم وهو واه جداً.
ومثال آخر/ هو قولهم حول وجوب إظهار الفرحة بيوم المولد مثل أيام العيدين. وتفرع عن هذا مسألة هي: ما حكم صيام يوم المولد؟
دعوات الإصلاح:(7/96)
كان لبعض علماء الأزهر وغيرهم جهود مشكورة في توعية هؤلاء المحتفلين بالمولد والإنكار عليهم، وتقدمهم في ذلك رهط من العلماء والمشايخ -رحمهم الله- جميعاً كان من أبرزهم: الشيخ علي محفوظ، والشيخ حسنين مخلوف، والشيخ المراغي، بالإضافة إلى عدد من رجال الدعوة والإصلاح مثل: الشيخ حسن البنا الذي حاول أن يُحَمِّل الأزهر ووزير الأوقاف المسؤولية؛ إذ كان يرى أن التصوف بهذا الشكل قد أضر بالدين على تلك الصورة الدخيلة فأصبح شراً لا يطاق.
ومنهم الشيخ محمد رشيد رضا الذي شدد كثيراً على ممارسات التصوف، لكنه كان يشارك أحياناً في الاحتفال بالمولد بإلقاء الكلمات أو تأليف الرسائل في بيان مكانته -صلى الله عليه وسلم- وواجب الأمة نحوه.
كما ساهمت جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر في ذلك من خلال مؤلفات مشائخها: محمد حامد الفقي، وعبد الرحمن الوكيل، وجميل غازي، ومن جاء بعدهم، وعلى صفحات (الهدي النبوي) ومجلة التوحيد.
وكان للجمعية الشرعية كذلك جهود مشكورة وإن لم تكن في مستوى جماعة أنصار السنة، وكان ممن تكلم في بدع الموالد: الشيخ عبد اللطيف مشتهري - رحمه الله - ويضاف إلى هذا جهود الدعوة السلفية التي حملت على عاتقها أيضاً الرسالة نفسها.
وفي السنوات الأخيرة، أثمرت تلك الجهود المباركة أثراً ملموساً في توعية الناس بمضار الابتداع وثمار الاتباع، وهكذا يُقال للدعاة في كل بلد ابتلي بالمبتدعة: اجتهدوا في تبصير الناس بالحق، فعلى الحق نور لا تطيقه خفافيش الجهالة والظلام.
(وقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُهُ والْمُؤْمِنُونَ وسَتُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة:105].
=========
الهوامش:
(1) انظر: السنن والمبتدعات للشيخ محمد عبد السلام الشقيري، ص 143، والإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ، والقول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل للشيخ إسماعيل الأنصاب، ص 181.
(2) انظر تاريخ الجبرتي: 2/201 - 202، ويعلل الجبرتي اهتمام الفرنسيين بالاحتفال بالموالد عموماً (لما رآه الفرنسيون في هذه الموالد من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والرقص وفعل المحرمات).
(3) تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم لعبد الرحمن الرافعي، ص 258 - 261.
(4) المادة 12 من الباب الأول من اللائحة التنفيذية، وهذا يعني أن الدولة تعترف رسمياً بسلطة هذا المجلس.
(5) الكلام للشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - نقلاً عن (الوثنية في ثوبها الجديد) لسمير شاهين، ص 106 - 107.
(6) وكأن هذه الفئات ظنت أن ذلك حل وسط بين بدعية هؤلاء وما ظنوه مجافاة لحق صاحب النبوة -صلى الله عليه وسلم-، ولئن سلمنا لهم بالتفريق مع عدم صحته يبقى أن بدعة العادة لا تنطبق على اتخاذ الأعياد لما فيها من التشريع وكونها خصوصية شرعية.
(7) انظر على سبيل المثال الكلام عن الحقيقة المحمدية ونقدها في كتاب (الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة للأستاذ عبد الله عبد الخالق).
(8) يعتقدون أنه لم يمت لأنه حقيقة نورانية كالملائكة، الله توحيد وليس وحدة، محمد الأنور البلتاجي، ص 432 وما بعدها، التصوف الإسلامي لزكي مبارك، ص 206 - 210، وخطاب مفتوح لشيخ مشايخ الطرق الصوفية لعبد الرحمن الوكيل، ص52.
(9) انظر هذه المسائل في الكتاب القيم: القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل -صلى الله عليه وسلم-
مجلة البيان.
------------------------
15. ... الأعياد والمناسبات..المعتبرة في الإسلام
محمد عثمان
الأعياد جمع عيد. والعيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائد: إما بعود السنة، أو بعود الأسبوع أو بعود الشهور، أو نحو ذلك. فالعيد يجمع أموراً، منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة.
ومنها: اجتماع فيه.
ومنها: أعمال تجمع ذلك من العبادات أو العادات وقد يختص ذلك بمكان بعينه.
وقد يكون مطلقاً وكل من هذه الأمور قد يسمى عيداً (1).
فالزمان كقوله - صلى الله عليه وسلم - ليوم الجمعة: "إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيداً" (رواه ابن ماجه).
والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس: "شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.." (متفق عليه). والمكان كقوله - صلى الله عليه وسلم -:"لا تتخذوا قبري عيداً".
وقد يكون لفظ العيد اسماً لمجموع العيد والعمل فيه وهو الغالب كقوله - صلى الله عليه وسلم-:"دعهما يا أبا بكر!؛ فإن لكل قوم عيداً وإن هذا عيدنا" (متفق عليه).
لقد أكثر الناس القول في اعتبار المناسبات في الإسلام وعدم اعتبارها، ووقع فيها الإفراط والتفريط، وإذا نظرت إلى شريعة الإسلام وأحداثه عامة وخاصة؛ تجد المناسبات أو الأعياد على قسمين:
مناسبة معتبرة عني بها الشرع لما فيها من عظة وذكرى تتجدد مع تجدد الأيام والأجيال وتعود على الفرد والجماعة بالتزود منها.(7/97)
ومناسبة لم تعتبر، إما لاقتصارها في ذاتها، أو عدم استطاعة الأفراد مسايرتها.
فمن الأول يوم الجمعة، وقد عني بها الإسلام في الحث على القراءة المنوه عنها في صلاة الفجر، وفي الحث على أدائها والحفاوة بها من اغتسال وطيب وتبكير إليها، ولكن من غير غلو ولا إفراط. فقد جاء النهي عن صوم يومها وحده دون أن يسبق بصوم قبله أو يلحق بصوم بعده. كما نهى عن إفراد ليلتها بقيام، والنصوص في ذلك متضافرة ثابتة معلومة.
فكان يوم الجمعة مناسبة معتبرة مع اعتدال وتوجه إلى الله بدون إفراط أو تفريط. وذلك أن يوم الجمعة هو يوم آدم عليه السلام، فيه خلق، وفيه خلقت فيه الروح، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تِيبَ عليه، وفيه تقوم الساعة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - تعالى - بهذه المناسبة: "إن قراءة سورة السجدة وسورة الإنسان معاً في يوم الجمعة لمناسبة خلق آدم في يوم الجمعة ليتذكر الإنسان في هذا اليوم - وهو يوم الجمعة - مبدأ خلق أبيه ادم، ومبدأ خلق عموم الإنسان، ويتذكر مصيره ومنتهاه ليرى ما هو عليه من دعوة الرسول وهل هو شاكر أو كفور؟) [ أضواء البيان ].
وكما قيل يوم الجمعة يوم آدم، قيل في يوم الاثنين يوم محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم - أي فيه وُلد، وفيه أنزل عليه، فقد جاء عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه سئل عن صيام يوم الاثنين. فقال: "هذا يوم ولدت فيه وعليَّ فيه أنزل" (2) وكان يوم وصوله المدينة في الهجرة.
أما ما يفعله كثير من الناس في هذه الأزمنة من احتفالات ومظاهر فقد حدث ذلك بعد أن لم يكن لا في القرن الأول ولا الثاني ولا الثالث وهي القرون المشهود لها بالخير كما جاء الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". والذين أحدثوا هذه البدعة هم الفاطميون في القرن الرابع. يقول الشيخ محمد أمين الشنقيطي - رحمة الله عليه -: (وقد افترق الناس في هذا الأمر إلى فريقين: فريق ينكره وينكر على من يفعله، لعدم فعل السلف إياه ولا مجيء أثر في ذلك. وفريق يراه جائزاً لعدم النهي عنه، وقد يشدد كل فريق على الآخر في هذه المسألة ولشيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" كلام وسط في غاية الإنصاف. نورد موجزه لجزالته والله الهادي إلى سواء السبيل.
قال - رحمه الله - في فصل قد عقده للأعياد المحدثة فذكر أول جمعة من رجب، وعيد غدير خم في الثامن عشر من ذي الحجة حيث خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحث على اتباع السنة وأهل بيته ثم أتى إلى عمل المولد.
وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في عيد ميلاد المسيح، وإما محبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيماً له، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولده -صلى الله عليه وسلم- عيداً مع اختلاف الناس في مولده أي في ربيع أو في رمضان فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع له.
يضيف شيخ الإسلام: (ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعظيماً له منا وهم على الخير أحرص.
وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سننه باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
وأكثر هؤلاء الذين تراهم حرصاء على أمثال هذه البدع - مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة - تجدهم فاترين في أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلاً، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة وأمثال هذه الزخارف الظاهرة - التي لم تشرع - ويصحبها من الرياء والكبر والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها" ا.هـ (اقتضاء، ص295).
وليس بصحيح ما يزعمه بعض المبتدعة من تسمية المولد إحياءً لذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فالله أحيا ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث قرن ذكره مع ذكره - تعالى - في الشهادتين ومع كل أذان وكل إقامة لأداء صلاة وفي كل تشهد في فرض أو نفل مما يزيد على الثلاثين مرة.
ومن المناسبات المعتبرة: شهر رمضان المبارك بكامله لكونه أنزل فيه القرآن:(شَهْرُ رَمَضَانَ الَذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًًى لِّلنَّاسِ) [البقرة:185].(7/98)
ومن المناسبات ليلة القدر لبدء نزول القرآن فيها لقوله - تعالى -:(إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ (1) ومَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ (2)) [القدر]، ثم بين مقدارها (لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) وبين خواصها (تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيهَا بِإذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4))، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحتفي بها ويلتمسها في العشر الأواخر وفي الوتر من العشر الأواخر، فكان -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشرة كلها التماساً لتلك الليلة. روى البخاري في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر".
ومن المناسبات يوم عاشوراء، فلقد كان لهذا اليوم تاريخ قديم، وكانت العرب تعظمه في الجاهلية وتكسو فيه الكعبة، ولما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وجد اليهود يصومونه؛ فقال لهم: لِمَ تصومونه؟ فقالوا: يوماً نجى الله فيه موسى من فرعون فصامه شكراً له، فصمناه. فقال -صلى الله عليه وسلم-: نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه".
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسُئلوا عن ذلك فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه نبي الله موسى وبني إسرائيل على فرعون فنحن نصومه تعظيماً له. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نحن أولى بموسى منكم، فأمر بصومه".
إن نجاة نبي الله موسى من عدو الله فرعون مناسبة عظيمة، نصرة الحق على الباطل وانتصار جند الله وإهلاك جند الشيطان. وهذا بحق مناسبة يهتم لها كل مسلم؛ ولذا قال عليه الصلاة والسلام: "نحن أحق بموسى منكم؛ نحن - معشر الأنبياء - أبناء علاّت، ديننا واحد".
وقد كان صيام عاشوراء فرضاً حتى نُسخ بفرض رمضان وهكذا مع عظيم مناسبته من إعلان كلمة الله ونصرة رسوله كان ابتهاج موسى عليه السلام به في صيامه شكراً لله.
ومن هذه المناسبات المعتبرة عيد الفطر وعيد الأضحى وهما مناسبتان عظيمتان لحديث أنس بن مالك الذي رواه أبو داود في سننه: "قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما يوم الفطر ويوم الأضحى" (رواه أبو داود والحديث على شرط مسلم).
ومما يعتبر ذا صلة بهذا المبحث في الجملة ما نقله الإمام ابن كثير في تفسيره - عند قوله تعالى: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً) [المائدة:3] - قال عندها:
"روى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا - معشر اليهود - نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية؟ قال: قوله: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)؛ فقال عمر: والله إنى لأعلم اليوم الذين نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والساعة التي نزلت فيها عشية عرفة في يوم الجمعة" (رواه البخاري ومسلم).
وروي عن كعب قوله: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه.
الأعياد غير المعتبرة في الإسلام:
عيد الميلاد:
يحتفل النصارى بيوم ولادة عيسى ويظهرون الأفراح والسرور ويعطلون الدوائر والأعمال، ويهنئ بعضهم بعضاً، ويتزاورون ويظهرون شعار دينهم، وقد قلدهم وشابههم كثير من جهال المسلمين وذوي الرئاسة والسياسة. ففي أعمال كثير من المسلمين في هذا العيد أنهم يعطلون الدوائر الحكومية والشركات وبعض التجار الكبار تعظيماً لهذا اليوم، احتراماً له ويزورون أصدقاءهم النصارى ويرسلون لمن كان منهم بعيداً بطاقات تهنئة. والرؤساء والملوك يرسلون برقيات تهنئة للدول التي تزعم أنها تدين بالمسيحية.
وهذا العيد وغيره من الأعياد التي ابتلي بها كثير من البلاد الإسلامية - كعيد الوطن، وكعيد العلم، وعيد الأم وعيد الشجرة وعيد النظافة، وعيد الولادة، وعيد الأسرة، وعيد الأولياء -كلها محرمة في دين الإسلام؛ لمشابهتها الكفار في أعيادهم ولا شك أن في هذا إحياءً لسنن الجاهلية، وإماتة الشرائع الإسلامية في قلوب المسلمين، وإن كان أكثر الناس لا يشعرون بذلك لشدة استحكام ظلمة الجاهلية في قلوبهم، ولا ينفعهم ذلك الجهل عذراً بل هو الجريمة التي تولّد عنها كل الجرائم من الكفر والفسوق والعصيان.
قال شيخ الإسلام: إن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها لسببين:
1- أحدهما: أن فيها مشابهة للكفار.
2- والثانى: أنها من البدع.
فما أحدث من المواسم والأعياد هو منكر؛ وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب من وجهين:(7/99)
أحدهما: أن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات؛ فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبَّحكم ومسَّاكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: أما بعد.. فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد. وشر الأمور محدثاتها. وكل بدعة ضلالة" (اقتضاء الصراط المستقيم ص266).
وحديث أبي سعيد في الصحيحين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتتبعنّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم". قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟!، قال: فمَن؟! ".
بدع الشهور:
هناك بدع كثيرة يصعب حصرها في هذه العجالة ولكني أذكر نبذة منها:
1- استقبال الرافضة شهر محرّم بالحزن والهم والخرافات والأباطيل، فيصنعون ضريحاً من الخشب مزيناً بالأوراق الملونة يسمونه ضريح الحسين أو كربلاء. وخلال هذا الشهر تمنع الزينة فتضع النسوة زينتهن ولا يأكل الناس اللحوم وتشعل النيران ويتواثب الناس عليها والأطفال يطوفون الطرقات يصيحون: يا حسين!.. يا حسين!.
2- بدع صفر: كان بعض الناس يمتنعون فيه عن السفر أو إقامة أي حفل، ويظهرون التشاؤم والتطير.
3- ربيع الأول: بدعة المولد، أي إقامة احتفالات لمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكذلك ما يسمونه بليلة الإسراء والمعراج فتقام الولائم وتضاء الشموع وتصلَّى النوافل.
4- وفي شعبان: ما يسمونه ليلة النصف من ليلة البراءة؛ حيث يعتقدون غفران الذنوب وإطالة الأعمار وزيادة الأرزاق.
5- بدع شهر رمضان: اهتمام الناس بالجمعة الأخيرة منه فيصلي مَن كان لا يصلي بقية أيامه.
والصواب - الذي عليه المحققون من أهل العلم - النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم، وعن
هذه الصلاة المحدثة، وعن كل تعظيم لهذا اليوم من صنع الأطعمة وإظهار الزينة ونحو ذلك حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام وحتى لا يكون له مزيَّة أصلاً.
الخلاصة:
خلاصة القول أننا نستفيد من هذه العجالة أموراً:
* منها أن الإسلام لم يشرع الاحتفال بولادة أو بموت أحد.
* ومنها: أن هذه المناسبات قد تعددت حتى غدا الإسلام احتفالات وأعياداً. فقد يقول قائل: أنا أحتفل بيوم ولادة النبي - عليه الصلاة والسلام - وقد يقول آخر: أحتفل بيوم الهجرة؛ لأنه بالهجرة فرَّق الله بين الحق والباطل واعتز المسلمون وصارت لهم دولة؛ فتستحق الاحتفال بها، وإظهار التعظيم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -.
وقد يقول آخر: أنا أحتفل بيوم بدر؛ لأنه يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، يوم أن نصر الله المسلمين على المشركين. وقد يقول آخر: أنا أحتفل بيوم فتح مكة يوم دخل الناس في دين الله أفواجاً. وقد يقول آخر: أنا أحتفل بيوم وفاته يوم انتقل إلى الرفيق الأعلى...
وهكذا تتعدد الآراء ويتفرق الناس على غير هدى، ومن غير دليل شرعى يحسم النزاع، ويوفر الجهد.
==========
الهوامش:
1 - اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص189، ط. دار المعرفة.
2 - مسند الإمام أحمد، ج5، ص279-299، ومسلم في صحيحه في كتاب الصيام.
مجلة البيان
-------------------------
16. ... قوادح عقدية في بردة البوصيري
قوادح عقدية في بردة البوصيري
د. عبد العزيز محمد آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن ميميه البوصيري - المعروفة بالبردة - من أشهر المدائح النبوية وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً، ولذا تنافس أكثر من مائه شاعر في معارضتها، فضلاً عن المشطِّرين والمخمِّسين والمسبِّعين، كما أقبل آخرون على شرحها وتدريسها، وقد تجاوزت شروحها المكتوبة خمسين شرحاً، فيها ما هو محلى بماء الذهب! وصار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد كالقرآن.
يقول الدكتور زكي مبارك : وأما أثرها في الدرس، فيتمثل في تلك العناية التي كان يوجهها العلماء الأزهريون إلى عقد الدروس في يومي الخميس والجمعة لدراسة حاشية الباجوري على البردة، وهي دروس كانت تتلقاها جماهير من الطلاب، وإنما كانوا يتخيرون يومي الخميس والجمعة، لأن مثل هذا الدرس لم يكن من المقررات فكانوا يتخيرون له أوقات الفراغ(1).
وقد أطلق البوصيري على هذه القصيدة البردة من باب المحاكاة والمشاكلة للقصيدة الشهيرة لكعب بن زهير - رضي الله عنه - في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ؛ فقد اشتهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى كعباً بردته حين أنشد القصيدة - إن صح ذلك - (2) فقد ادعى البوصيري - في منامه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ألقى عليه بردة حين أنشده القصيدة !!(7/100)
وقد سمى البوصيري هذه القصيدة أيضاً ب الكواكب الدرية في مدح خير البرية(3). كما أن لهذه البردة اسماً آخر هو البرأة ؛ لأن البوصيري كما يزعمون برئ بها من علته، وقد سميت كذلك بقصيدة الشدائد ؛ وذلك لأنها - في زعمهم - تقرأ لتفريج الشدائد وتيسير كل أمر عسير.
وقد زعم بعض شراحها أن لكل بيت من أبياتها فائدة ؛ فبعضها أمان من الفقر، وبعضها أمان من الطاعون(4).
يقول محمد سيد كيلاني - أثناء حديثه عن المخالفات الشرعية في شأن البردة -: ولم يكتف بعض المسلمين بما اخترعوا من قصص حول البردة، بل وضعوا لقراءتها شروطاً لم يوضع مثلها لقراءة القرآن، منها : التوضؤ، واستقبال القبلة، والدقة في تصحيح ألفاظها وإعرابها، وأن يكون القارئ عالماً بمعانيها، إلى غير ذلك. ولا شك في أن هذا كله من اختراع الصوفية الذين أرادوا احتكار قراءتها للناس، وقد ظهرت منهم فئة عرفت بقراء البردة، كانت تُستدعى في الجنائز والأفراح، نظير أجر معين(5).
وأما عن مناسبة تأليفها فكما قال ناظمها : كنت قد نظمت قصائد في مدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم اتفق بعد ذلك أن أصابني خِلْط فالج أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة، فعملتها، واستشفعت بها إلى الله في أن يعافيني، وكررت إنشادها، وبكيت ودعوت، وتوسلت ونمت، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقى عليّ بردة، فانتبهت ووجدت فيّ نهضة ؛ فقمت وخرجت من بيتي، ولم أكن أعلمت بذلك أحداً، فلقيني بعض الفقراء، فقال لي : أريد أن تعطيني القصيدة التي مدحت بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقلت : أيّها؟ فقال : التي أنشأتها في مرضك، وذكر أولّها، وقال : والله لقد سمعتها البارحة وهي تنشد بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يتمايل وأعجبته، وألقى على من أنشدها بردة، فأعطيته إياها، وذكر الفقير ذلك، وشاع المنام(6).
ففي هذه الحادثة تلبّس البوصيري بجملة من المزالق والمآخذ، فهو يستشفع ويتقرب إلى الله - تعالى - بشرك وابتداع وغلو واعتداء - كما سيأتي موضحاً إن شاء الله -.
ثم ادعى أنه رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- دون أن يبيّن نعته ؛ فإن من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- حسب صفاته المعلومة فقد رآه، فإن الشيطان لا يتمثل به - كما ثبت في الحديث -.
ثم ادعى أن النبي في -صلى الله عليه وسلم- مسح على وجهه وألقى عليه بردة، فعوفي من هذا الفالج، فتحققت العافية بعد المنام دون نيل البردة! ثم التقى البوصيري - في عالم اليقظة - بأحد المتصوفة وأخبره بسماع القصيدة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تمايل إعجاباً بالقصيدة، وهذا يذكّرنا بحديث مكذوب بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تواجد عند سماع أبيات حتى سقطت البردة عن منكبيه وقال: ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر المحبوب.
قال شيخ الإسلام : إن هذا الحديث كذب بإجماع العارفين بسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنته وأحواله(7).
وأما عن استجابة دعاء البوصيري مع ما في قصيدته من الطوامَّ، فربما كان لاضطراره وعظم فاقته وشدة إلحاحه السبب في استجابة دعائه.
يقول شيخ الإسلام : ثم سبب قضاء حاجة بعض هؤلاء الداعين الأدعية المحرمة أن الرجل منهم قد يكون مضطراً ضرورة لو دعا الله بها مشرك عند وثن لاستجيب له، لصدق توجهه إلى الله، وان كان تحري الدعاء عند الوثن شركاً، ولو استجيب له على يد المتوسل به، صاحب القبر أو غيره لاستغاثته، فإنه يعاقب على ذلك ويهوي به في النار إذا لم يعفُ الله عنه، فكم من عبد دعا دعاء غير مباح، فقضيت حاجته في ذلك الدعاء، وكان سبب هلاكه في الدنيا والآخرة(8).
وأما عن التعريف بصاحب البردة فهو : محمد بن سعيد البوصيري نسبة إلى بلدته أبو صير بين الفيوم وبني سويف بمصر، ولد سنة 608ه، واشتغل بالتصوُّف، وعمل كاتباً مع قلة معرفته بصناعة الكتابة، ويظهر من ترجمته وأشعاره أن الناظم لم يكن عالماً فقيهاً، كما لم يكن عابداً صالحاً ؛ حيث كان ممقوتاً عند أهل زمانه لإطلاق لسانه في الناس بكل قبيح، كما أنه كثير السؤال للناس، ولذا كان يقف مع ذوي السلطان مؤيداً لهم سواء كانوا على الحق أم على الباطل.
ونافح البوصيري عن الطريقة الشاذلية التي التزم بها، فأنشد أشعاراً في الالتزام بآدابها، كما كانت له أشعار بذيئة يشكو من حال زوجه التي يعجز عن إشباع شهوتها!
توفي البوصيري سنة 695هـ وله ديوان شعر مطبوع(9).
وسنورد جملة من المآخذ على تلك البردة التي قد تعلّق بها كثير من الناس مع ما فيها من الشرك والابتداع. والله حسبنا ونعم الوكيل.
1- يقول البوصيري :
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة مَن لولاه لم تُخرج الدنيا من العدم(7/101)
ولا يخفى ما في عَجُز هذا البيت من الغلو الشنيع في حق نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث زعم البوصيري أن هذه الدنيا لم توجد إلا لأجله -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال - سبحانه: ((ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56]،
وربما عوّل أولئك الصوفية على الخبر الموضوع : لولاك لما خلقت الأفلاك(10).
2- قال البوصيري :
فاق النبيين في خَلق وفي خُلُق ولم يدانوه في علم ولا كرم
وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم
أي أن جميع الأنبياء السابقين قد نالوا والتمسوا من خاتم الأنبياء والرسل محمد -صلى الله عليه وسلم-، فالسابق استفاد من اللاحق! فتأمل ذلك وقارن بينه وبين مقالات زنادقة الصوفية كالحلاج القائل : إن للنبي نوراً أزلياً قديماً كان قبل أنه يوجد العالم، ومنه استمد كل علم وعرفان ؛ حيث أمدّ الأنبياء السابقين عليه.. وكذا مقالة ابن عربي الطائي أن كل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي يأخذ من مشكاة خاتم النبيين(11).
3- ثم قال :
دع ما ادعته النصارى في نبيهمُ واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم
يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله - منتقداً هذا البيت : ومن المعلوم أن أنواع الغلو كثيرة، والشرك بحر لا ساحل له، ولا ينحصر في قول النصارى ؛ لأن الأمم أشركوا قبلهم بعبادة الأوثان وأهل الجاهلية كذلك، وليس فيهم من قال في إلهه ما قالت النصارى في المسيح - غالباً - : إنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، بل كلهم معترفون أن آلهتهم ملك لله، لكن عبدوها معه لاعتقادهم أنها تشفع لهم أو تنفعهم فيحتج الجهلة المفتونون بهذه الأبيات على أن قوله في منظومته : دع ما ادعته النصارى في نبيهم مَخْلَصٌ من الغلو بهذا البيت، وهو قد فتح ببيته هذا باب الغلو والشرك لاعتقاده بجهله أن الغلو مقصور على هذه الأقوال الثلاثة(12).
لقد وقع البوصيري وأمثاله من الغلاة في لبس ومغالطة لمعنى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- : لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله(13)، فزعموا أن الإطراء المنهي عنه في هذا الحديث هو الإطراء المماثل لإطراء النصارى ابن مريم وما عدا ذلك فهو سائغ مقبول، مع أن آخر الحديث يردّ قولهم ؛ فإن قوله - عليه الصلاة والسلام - : إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله تقرير للوسطية تجاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو عبد لا يُعبد، ورسول لا يُكذب، والمبالغة في مدحه تؤول إلى ما وقع فيه النصارى من الغلو في عيسى - عليه السلام -، وبهذا يُعلم أن حرف الكاف في قوله -صلى الله عليه وسلم- : كما أطرت هي كاف التعليل، أي كما بالغت النصارى(14).
ويقول ابن الجوزي - في شرحه لهذا الحديث - : لا يلزم من النهي عن الشيء وقوعه ؛ لأنَّا لا نعلم أحداً ادعى في نبينا ما ادعته النصارى في عيسى - عليه السلام - وإنما سبب النهي فيما لم يظهر ما وقع في حديث معاذ بن جبل لما استأذن في السجود له فامتنع ونهاه ؛ فكأنه خشي أن يبالغ غيره بما هو فوق ذلك فبادر إلى النهي تأكيداً للأمر(15).
4 - وقال أيضاً :
لو ناسبت قدره آياته عِظماً أحيا اسمه حين يُدعى دارس الرمم
يقول بعض شرّاح هذه القصيدة : لو ناسبت آياته ومعجزاته عظم قدره عند الله - تعالى - وكل قربه وزلفاه عنده لكان من جملة تلك الآيات أن يحيي الله العظام الرفات ببركة اسمه وحرمة ذكره(16).
يقول الشيخ محمود شكري الآلوسي منكراً هذا البيت : ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغلو ؛ فإن من جملة آياته -صلى الله عليه وسلم- القرآن العظيم الشأن ؛ وكيف يحل لمسلم أن يقول : إن القرآن لا يناسب قدر النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل هو منحط عن قدره ثم إن اسم الله الأعظم وسائر أسمائه الحسنى إذا ذكرها الذاكر لها تحيي دارس الرمم؟(17).
5- وقال أيضا :
لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه طوبى لمنتشق منه وملتثم
فقد جعل البوصيري التراب الذي دفنت فيه عظام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطيب وأفضل مكان، وأن الجنة والدرجات العلا لمن استنشق هذا التراب أو قبَّله، وفي ذلك من الغلو والإفراط الذي يؤول إلى الشرك البواح، فضلاً عن الابتداع والإحداث في دين الله - تعالى -.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - : واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يقبله، وهذا كله محافظة على التوحيد(18).
6- ثم قال :
أقسمتُ بالقمر المنشق إنّ له من قلبه نسبةً مبرورة القسم
ومن المعلوم أن الحلف بغير الله - تعالى - من الشرك الأصغر ؛ فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك(19).(7/102)
وقال ابن عبد البر - رحمه الله-: لا يجوز الحلف بغير الله - عز وجل - في شيء من الأشياء ولا على حال من الأحوال، وهذا أمر مجتمع عليه... إلى أن قال: أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها، لا يجوز الحلف بها لأحد(20).
7- قال البوصيري :
ولا التمست غنى الدارين من يده إلا استلمت الندى من خير مستلم
فجعل البوصيري غنى الدارين مُلتَمساً من يد النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع أن الله - عز وجل - قال : ((ومَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)) [النحل:53]، وقال - سبحانه - : ((فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ واعْبُدُوهُ)) [العنكبوت:17]، وقال - تعالى - : ((قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ) [يونس:31]، ((قُلِ ادْعُوا الَذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ)) [سبأ:22] .
وأمر الله نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة المذكورة في قوله - تعالى - : ((قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ ولا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ)) [الأنعام:50].
8- قال البوصيري :
فإن لي ذمة منه بتسميتي محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
وهذا تخرُّص وكذب ؛ فهل صارت له ذمة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمجرد أن اسمه موافق لاسمه؟! فما أكثر الزنادقة والمنافقين في هذه الأمة قديماً وحديثاً الذين يتسمون بمحمد!
و يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله - تعقيباً على هذا البيت : قوله : فإن لي ذمة... إلى آخره كذب على الله وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- فليس بينه وبين اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة، لا بمجرد الاشتراك في الاسم مع الشرك(21).
فالاتفاق في الاسم لا ينفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة(22).
9- وقال البوصيري :
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
والشاعر في هذا البيت ينزل الرسول منزلة رب العالمين ؛ إذ مضمونه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المسؤول لكشف أعظم الشدائد في اليوم الآخر، فانظر إلى قول الشاعر، وانظر في قوله - تعالى - لنبيه -صلى الله عليه وسلم- : ((قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) [الزمر:13].
ويزعم بعض المتعصبين للقصيدة أن مراد البوصيري طلب الشفاعة ؛ فلو صح ذلك فالمحذور بحاله، لما تقرر أن طلب الشفاعة من الأموات شرك بدليل قوله - تعالى - : ((ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ ولا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [يونس:18]، فسمى الله - تعالى - اتخاذ الشفعاء شركاً(23).
10- وقال :
يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
يقول الشيخ سليمان بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله - تعقيباً على هذا البيت -: فتأمل ما في هذا البيت من الشرك :
منها : أنه نفى أن يكون له ملاذ إذا حلت به الحوادث إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو.
ومنها : أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله، وذلك هو الشرك في الإلهية(24).
وانتقد الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد ابن عبد الوهاب هذا البيت قائلاً : فعظم البوصيري النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يسخطه ويحزنه؛ فقد اشتد نكيره - صلى الله عليه وسلم - عما هو دون ذلك كما لا يخفى على من له بصيرة في دينه ؛ فقصر هذا الشاعر لياذه على المخلوق دون الخالق الذي لا يستحقه سواه ؛ فإن اللياذ عبادة كالعياذ، وقد ذكر الله عن مؤمني الجن أنهم أنكروا استعاذة الإنس بهم بقوله: ((وأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً)) [الجن: 6]، أي طغياناً، واللياذ يكون لطلب الخير، والعياذ لدفع الشر، فهو سواء في الطلب والهرب(25).
وقال العلامة محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله - عن هذا البيت : فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وغفل عن ذكر ربه ورب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- . إنا لله وإنا إليه راجعون(26).
11- وقال البوصيري :
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم(7/103)
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب : سؤاله منه أن يشفع له في قوله : ولن يضيق رسول الله... إلخ، هذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوهم وهو الجاه والشفاعة عند الله، وذلك هو الشرك، وأيضاً فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره ؛ فإن الله - تعالى - هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لا أن الشافع يشفع ابتداءاً(27).
12- وقال أيضا :
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل الدنيا والآخرة من عطاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وإفضاله، والجود هو العطاء والإفضال ؛ فمعنى الكلام : أن الدنيا والآخرة له -صلى الله عليه وسلم-، والله - سبحانه وتعالى - يقول : ((وإنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأُولَى)) [الليل:13](28).
وقوله : ومن علومك علم اللوح والقلم. في غاية السقوط والبطلان ؛ فإن مضمون مقالته أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلم الغيب، وقد قال - سبحانه - : ((قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ)) [النمل:65] وقال - عز وجل - : ((وعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ والْبَحْرِ ومَا تَسْقُطُ مِن ورَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)) [الأنعام:59]، والآيات في هذا كثيرة معلومة(29).
وأخيراً أدعو كل مسلم عَلِقَ بهذه القصيدة وولع بها أن يشتغل بما ينفع ؛ فإن حق النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما يكون بتصديقه فيما أخبر، واتباعه فيما شرع، ومحبته دون إفراط أو تفريط، وأن يشتغلوا بسماع القرآن والسنة والتفقه فيهما ؛ فإن البوصيري وأضرابه استبدلوا إنشاد وسماع هذه القصائد بسماع القرآن والعلم النافع، فوقعوا في مخالفات ظاهرة ومآخذ فاحشة.
وإن كان لا بد من قصائد ففي المدائح النبوية التي أنشدها شعراء الصحابة -رضي الله عنهم- كحسان وكعب بن زهير ما يغني ويكفي.
اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ؛ إنك حميد مجيد. (*)
=============
الهوامش :
(1) المدائح النبوية، ص 199.
(2) يقول ابن كثير - رحمه الله - في البداية والنهاية (4 /373) : ورد في بعض الروايات أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاه بردته حن أنشده القصيدة.. وهذا من الأمور المشهورة جداً، ولكن لم أر ذلك في شيء، من هذه الكتب المشهورة بإسناد أرتضيه ؛ فالله أعلم .
(3) انظر مقدمة محقق ديوان البوصيري، ص 29.
(4) انظر المدائح النبوية لزكي مبارك، ص 197.
(5) مقدمة ديوان البوصيري، ص 29، 30.
(6) فوات الوفيات لمحمد بن شاكر الكتبي، 2/258.
(7) مجموع الفتاوى، 11 /598.
(8) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/692، 693، باختصار.
(9) انظر ترجمته في مقدمة ديوان البوصيري، تحقيق محمد سيد كيلاني، ص 5 - 44، وللمحقق كتاب آخر بعنوان : البوصيري دراسة ونقد .
(10) انظر : الصنعاني في موضوعاته، ص 46 ح (78)، والمسلسلة والموضوعة للألباني، 1/299، ح(282).
(11) انظر تفصيل ذلك في كتاب محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرؤوف عثمان، ص 169 - 196.
(12) الدرر السنية، 9/81، وانظر 9/48، وانظر : صيانة الإنسان للسهسواني (تعليق محمد رشيد رضا)، ص 88.
(13) أخرجه البخاري، ح ./3445.
(14) انظر القول المفيد، 1 /376، ومفاهيمنا لصالح آل الشيخ، ص 236، ومحبة الرسول لعبد الرؤوف عثمان، ص 208 .
(15) فتح الباري، 12 /149.
(16) غاية الأماني للآلوسي، 2 /349.
(17) غاية الأماني للآلوسي، 2/ 350، باختصار وانظر الدر النضيد لابن حمدان، ص 136.
(18) الرد على الأخنائي، ص 41.
(19) رواه أحمد، ح. /4509، والترمذي، ح./ 1534.
(20) التمهيد، 14/366، 367 .
(21) تيسير العزيز الحميد، ص 22.
(22) انظر الدرر السنية، 9 /51.
(23) انظر الدرر السنية، 9/49، 82، 271.
(24) تيسير العزيز الحميد، ص 219، 220.
(25) الدرر السنية، 9/ 80، وانظر 9/49، 84، 193، ومنهاج التأسيس والتقديس لعبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، ص 212.
(26) الدر النضيد، ص 26.
(27) تيسير العزيز الحميد، ص 220، وانظر الدرر السنية، 9/52.
(28) انظر الدرر السنية، 49، 50، 81، 82، 85، 268.
(29) انظر الدرر السنية، 9/50، 62، 81، 82، 268، 277.
(*) نقلا عن قرص مجلة البيان عدد 139
-------------------------
17. ... رسالة "حكم الاحتفال بالمولد والرد على من أجازه"
رسالة "حكم الاحتفال بالمولد والرد على من أجازه "
الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وآله وصحبه.
أما بعد:
فإن مما أحدث بعد القرون المشهود لها بالخير بدعة الاحتفال بالمولد النبوي، وقد تجاهل محمد مصطفى الشنقيطي ذلك؛ حيث برر البدعة في مقالته المنشورة في جريدة (الندوة) (عدد 1112) الصادر في 7 / 4 / 1383 هـ بأمور:(7/104)
أحدها: دعوى تلقي الأمم الإسلامية هذا الاحتفال بالقبول منذ مئات السنين.
الثاني: تقسيم العز بن عبد السلام البدعة إلى أحكام الشريعة الخمسة.
الثالث: قول عمر بن الخطاب في قضية التراويح:(نعمت البدعة).
الرابع: قول عمر بن عبد العزيز:(تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور).
الخامس: دعوى الكاتب: أن في إقامة الاحتفال بالمولد صون عرض المملكة العربية السعودية عن أن تنسب إلى تنقص النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يذاع عنها تنقصه وإحراق كتب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
فلهذا وجب نقض هذه الشبه التي أتي بها هذا الشخص أولاً، وبيان حكم المولد ثانياً.
فنقول وبالله التوفيق:
أما دعوى الشنقيطي: أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي ـ وإن كان بدعة ـ فقد تلقته الأمة بالقبول، فمن أقوى الأدلة على جهالته؛ لأمور:
أحدها: أن الأمة معصومة من الاجتماع على ضلالة، والبدعة في الدين بنص الأحاديث النبوية ضلالة، فمقتضى كلام الشنقيطي: أن الأمة اجتمعت في قضية الاحتفال بالمولد على ضلالة.
الثاني: أن الاحتجاج على تحسين البدع بهذه الدعوى ليس بشيء في أمر تركته القرون الثلاثة المقتدى بهم، كما بينه الشاطبي في(الاعتصام) نقلاً عن بعض مشايخه، ثم قال:
(ولما كانت البدع والمخالفات وتواطأ الناس عليها صار الجاهل يقول: لو كان هذا منكراً لما فعله الناس)، ثم قال:(وما أشبه هذه المسألة بما حُكي عن أبي علي بن شاذان بسند يرفعه إلى أبي عبد الله ابن إسحاق الجعفري قال: كان عبد الله بن الحسن ـ يعني: ابن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ـ يكثر الجلوس إلى ربيعة، فتذاكروا يوماً، فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا، فقال عبد الله: أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام أفهم الحجة على السنة؟ فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم ":
(من اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها بناءً على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها فهو مخطئ في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المستحدثة المخالفة للسنة)، قال:(ولا يجوز دعوى إجماع بعمل بلد أو بلاد من بلدان المسلمين، فكيف بعمل طوائف منهم!)، قال:(وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك، بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم مع ما أٌتوه من العلم والإيمان، فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة، أو من قيدته العامة، أو قوم مترئسون بالجهالة لم يرسخوا في العلم، ولا يعدون من أولي الأمر، ولا يصلحون للشورى، ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله، أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل عن غير روية أو لشبهة، أحسن أحوالهم فيها أن يكونوا فيها بمنزلة المجتهدين).
ثم ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الاحتجاج بمثل هذه الحجة ـ وهي دعوى الإجماع على العادات المخالفة للسنة ـ ليس طريقة أهل العلم؛ لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق من الناس حتى من المنتسبين إلى العلم والدين، وذكر أن الاستناد إلى أمور ليست مأخوذة عن الله ولا رسوله ليس من طريقة أولي العلم والإيمان، ثم قال:(والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال، وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل فنوع من النفاق في العلم والجدل والكلام والعمل).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاقتضاء ": (ما أكثر ما قد يحتج بعض من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها). وذكر أن التعلق في تحسين البدع بما عليه الكثير من الناس إنما يقع ممن لم يحكم أصول العلم؛ فإنه هو الذي يجعل ما اعتاده هو ومن يعرفه إجماعاً، وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك ويستنكر تركه.
وذكر الشاطبي في " الاعتصام ": أن منشأ الاحتجاج بعمل الناس في تحسين البدع الظن بأعمال المتأخرين وإن جاءت الشريعة بخلاف ذلك، والوقوف مع الرجال دون التحري للحق.
الأمر الثالث: ما سنذكره عن علماء المسلمين من احتواء الاحتفال بالمولد على المحرمات، وبيان أن ما لم يحتو على المحرمات منه بدعة.
وأما تقسيم الشنقيطي البدعة إلى أحكام الشريعة الخمسة، وتمثيله للبدعة الواجبة بنقط حروف القرآن وتشكيلها وبناء مدارس العلم.(7/105)
فالجواب عنه: أن هذا التقسيم في غاية المناقضة لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة "، وفي رواية النسائي: " وكل ضلالة في النار" وروى أصحاب السنن عن العرباض بن سارية، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّو عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاقتضاء ":(لا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلية، وهي قوله: " كل بدعة ضلالة " بسلب عمومها، وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل)، وقال:(إن قصد التعميم المحيط ظاهر من نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الجامعة، فلا يعدل عن مقصوده بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم)، وذكر شيخ الإسلام: أن تخصيص عموم النهي عن البدع بغير دليل من كتاب أو سنة أو إجماع لا يقبل، فالواجب التمسك بالعموم.
وقال الشاطبي في " الاعتصام " في رد تقسيم البدعة إلى أحكام الشرع الخمسة:
(أن هذا التقسيم أمر مخترع، لا يدل عليه دليل شرعي)، قال:(هو ـ أي: هذا التقسيم ـ في نفسه متدافع؛ فإن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي؛ لا من نصوص الشرع ولا من قواعده، إذ لو كان هناك من الشرع ما يدل على وجوب أو ندب أو إباحة؛ لما كان ثم دعة، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخير فيها.
فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعاً، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متناقضين.
أما المكروه منها والمحرم؛ فمسلم من جهة كونها بدعاً لا من جهةٍ أخرى، إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته؛ لم يثبت ذلك كونه بدعة؛ لإمكان أن يكون معصية كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها، فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم إلا الكراهية والتحريم).
وممن تعقب تقسيم العز بن عبد السلام البدعة إلى أحكام الشريعة الخمسة العلامة زروق في " شرح رسالة القيرواني "، قال بعد ذكر هذا التقسيم:
(قال المحققون: إنما تدور ـ أي البدعة ـ بين محرم ومكروه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: " كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " وكلام العلماء في رد هذا التقسيم كثير.
وأما التمثيل بنقط المصحف وتشكيله وبناء المدارس للبدعة الواجبة فليس بمسلم؛ لأن ما ذكر ليس من البدعة في الدين، فإن نقط المصحف وتشكيله إنما هما لصيانة القرآن من اللحن والتحريف، وهذا واجب شرعاً.
وأما بناء المدارس للعلم فيقول الشاطبي في " الاعتصام " رداً على التمثيل به للبدعة ما نصه:(أما المدارس؛ فلا يتعلق بها أمر تعبدي يقال في مثله: بدعة؛ إلا على فرض أن يكون من السنة أن لا يقرأ العلم إلا في المساجد، وهذا لا يوجد، بل العلم كان في الزمان الأول يبث بكل مكان؛ من مسجد، أو منزل، أو سفر، أو حضر، أو غير ذلك، حتى في الأسواق فإذا أعد أحد من الناس مدرسة يعين بإعدادها الطلبة؛ فلا يزيد ذلك على إعداده له منزلاً من منازله، أو حائطاً من حوائطه، أو غير ذلك، فأين مدخل البدعة ههنا؟!
وإن قيل: إن البدعة في تخصيص ذلك الموضع دون غيره، فالتخصيص هنا ليس بتخصيص تعبدي، وإنما هو تعيين بالحبس كما تتعين سائر الأمور المحبسة).
وأما استدلال الشنقيطي على أن البدعة في الدين تكون حسنة بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قضية التراويح:(نعمت البدعة هذه) فاستدلال ليس في محله، فإن عمر لم يقصد بذلك تحسين البدعة في الدين.
قال الشاطبي في " الاعتصام ":(إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه لا أن هذه بدعة من حيث المعنى، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي)، قال:(وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه؛ لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم ":(أما قول عمر:(نعمت البدعة هذه) فأكثر المحتجين بهذا؛ لو أردنا أن نثبت حكماً بقول عمر الذي لم يخالف فيه؛ لقالوا:(قول الصاحب ليس بحجةٍ)، فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن اعتقد قول الصاحب حجة؛ فلا يعتقده إذا خالف الحديث.
فعلى التقديرين: لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب).
ثم قال:(ثم نقول: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعةً، مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداءً من غير مثال سابق، وأما البدعة الشرعية؛ فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي).(7/106)
ثم قال:(فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعلٍ، أو إيجابه بعد موته، أو دل عليه مطلقاً، ولم يعمل به ألا بعد موته، ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبوبكر رضي الله عنه، فإذا عمل أحد ذلك العمل بعد موته، صح أن يسمى بدعة في اللغة؛ لأنه عمل مبتدأ.
قال: وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم:(كل بدعةٍ ضلالة) لم يرد به كل عمل مبتدأ؛ فإن دين الإسلام، بل كل دين جاءت به الرسل؛ فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم).
قال:(وإذا كان كذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى، وقد قال لهم في الليلة الثالثة أو الرابعة لما اجتمعوا: " إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن يفرض عليكم، فصلوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة "، فعلل صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض، فعلم بذلك أن المقتضي للخروج قائم، وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم، فلما كان في عهد عمر؛ جمعهم على قارئ واحدٍ، وأسرج المسجد فصارت هذه الهيئة ـ وهي اجتماعهم في المسجد وعلى إمامٍ واحدٍ مع الإسراج ـ عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمي بدعةً؛ لأنه في اللغة يسمى بذلك، وإن لم يكن بدعةً شرعيةً، لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض زال بموته صلى الله عليه وسلم، فانتفى المعارض).
وقال شيخ الإسلام أيضاً في " الاقتضاء ":(أما صلاةَ التراويح فليست بدعةً في الشريعة، بل هي سنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، فإنه قال: " إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه "، ولا صلاتها جماعة بدعة، بل هي سنة في الشريعة، بل قد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثًا.
وصلاها أيضاً في العشر الأواخر في جماعة مرات، وقال: " إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة "، لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح. رواه أهل السنن، وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد.
وفي قوله هذا ترغيب في قيام شهر رمضان خلف الإمام، وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقاً، وكان الناس يصلونها جماعة في المسجد على عهده صلى الله عليه وسلم و يقرهم، وإقراره سنة منه صلى الله عليه وسلم).
وأما استدلال الشنقيطي على استحسان الابتداع في الدين بما عزاه إلى عمر بن عبد العزيز أنه قال:(تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور) يقصد الشنقيطي بذلك: القياس، أي: فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما أحدثوا من الفتور.
فقد أجاب الإمام الشاطبي في " الاعتصام " عن هذا الاستدلال بأمور:
أولها: أن هذا قياس في مقابلة النص الثابت في النهي عن الابتداع، وهو من باب فساد الاعتبار.
الثاني: أن هذا قياس على نص لم يثبت بعد من طريق مرضي.
الثالث: أن هذا الكلام على فرض ثبوته عن عمر بن عبد العزيز لا يجوز قياس إحداث العبادات عليه؛ لأن كلام عمر إنما هو في معنى عادي يختلف فيه مناط الحكم الثابت فيما تقدم؛ كتضمين الصناع، أو الظنة في توجيه الأيمان دون مجرد الدعاوى، فيقول: أن الأولين توجهت عليهم بعض الأحكام لصحة الأمانة والديانة والفضيلة، فلما حدثت أضدادها أختلف المناط، فوجب اختلاف الحكم، وهو حكم رادع أهل الباطل عن باطلهم، فأثر هذا المعنى ظاهر مناسب، بخلاف ما نحن فيه فإنه على الضد من ذلك، ألا ترى أن الناس إذا وقع فيهم الفتور عن الفرائض فضلاً عن النوافل ـ وهي ما هي من القلة والسهولة ـ فما ظنك بهم إذا زيد عليهم أشياء أخرى يرغبون فيها ويحضون على استعمالها، فلا شك أن الوظائف تتكاثر حتى تؤدي إلى أعظم من الكسل الأول وإلى ترك الجميع، فإن حدث للعامل بالبدعة هو في بدعته أو لمن شايعه فيها فلا بد من كسله عن ما هو أولى، قال: فصارت هذه الزيادة عائدة على ما هو أولى منها بالإبطال أو الإخلال، وقد مر أنه ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنة ما هو خير منها.
الرابع: أن هذا القياس مخالف لأصل شرعي، وهو طلب النبي صلى الله عليه وسلم السهولة والرفق والتيسير وعدم التشديد، فزيادة وظيفة لم تشرع تظهر ويعمل بها دائماً في مواطن السنن هي تشديد بلا شك، فليس قصد عمر بن عبد العزيز بهذا الكلام على فرض ثبوته عنه فتح السبيل إلى إحداث البدع.
وقال العلامة قاسم بن عيسى بن ناجي المالكي في " شرح رسالة القيرواني"(7/107)
في معنى(تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور) قال:(معناه: ما أحدثوا من الفجور مما ليس فيه نص)، وقال: قال التقي السبكي في الكتاب الذي ألفه في شأن رافضي جاهر بلعنة أبي بكر الصديق، وقال فيه: عدو الله، فقتله القاضي المالكي، قال في هذه الكلمة بعدما عزاها إلى مالك بن أنس بلفظ:(يحدث للناس أحكام بقدر ما يحدثون من الفجور): لا نقول إن الأحكام تتغير بتغير الزمان، بل باختلاف الصورة الحادثة، فإذا حدثت صورة على صفة خاصة علينا أن ننظر فيها، فقد يكون مجموعها يقتضي الشرع له حكماً، على هذا حمل التقي السبكي هذه الكلمة، وذكر أنها منطبقة على قضية الرافضي؛ لكون صورتها مجموعة من إظهار سب الصديق في ملأ من الناس ومجاهرته وإصراره عليه وإعلاء البدعة وغمض السنة، ونقل السيوطي هذا التأويل عن السبكي في " الحاوي ".
ومن هذه النقول يعلم أن عمر بن عبد العزيز لم يقصد بهذه الكلمة فتح أي باب يناقض الشريعة، وكيف ينسب إلى عمر بن عبد العزيز فتح باب الابتداع في الدين، وهو الذي يقول حينما بايعه الناس بعدما صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه:(يا أيها الناس، إنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد كتابكم كتاب، ولا بعد سنتكم سنة، ولا بعد أمتكم أمة، ألا وإن الحلال ما أحله الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة، ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع).
وأما دعوى الشنقيطي: أن عدم احتفال المملكة السعودية بالمولد النبوي يعرضها إلى أن تُنسب من قبل الدول الأخرى إلى تنقص الرسول صلى الله عليه وسلم وازدرائه حيث تحتفل بغيره ولا تحتفل لمولده، ويذاع عنها ذلك، كما يذاع عنها أنها تحرق كتب الصلاة عليه، فهذا من عندياته، وذلك لأمور:
أحدها: أن الحكومات الإسلامية كلها تعترف للحكومة السعودية بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، مع علمها بأنها لا تحتفل بالمولد النبوي مخافة من الابتداع، وأقرب شاهد في زماننا هذا على ذلك إقبال وفودها على المؤتمر الإسلامي الذي يعقد بمكة، فإنه لا يتصور ذلك الإقبال الشديد على من يتهم بما ذكره الشنقيطي، وكذلك على الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وتلك الإشاعات التي يشير إليها الشنقيطي إنما حاول المبطلون التنفير بها عن دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. وكان الشيخ يجيب عن كل ذلك بقوله:(سبحانك هذا بهتان عظيم).
وكان يذكر أن ما ينسب إليه من إحراق كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليس له أصل، إلا أنه نصح بعض من يتعلق بكتاب " دلائل الخيرات " بأنه لا يصير هذا الكتاب أجل في قلبه من كتاب الله، فيظن أن القراءة فيه أنفع من قراءة القرآن، ورغم هذه الافتراءات أبى الله إلا أن يظهر الحق ويبطل الباطل، ويعلي الدعوة التي حاول أولئك المبطلون التنفير عنها بمثل تلك الإشاعات الباطلة.
الثاني: أن القائل بـ: أن تارك الاحتفال بالمولد متنقص للنبي صلى الله عليه وسلم، إن أراد بقوله هذا أن ذلك اعتقاد التارك فقد كذب وافترى، وإن أراد أن ذلك تنقيص للنبي صلى الله عليه وسلم عما يستحقه شرعاً فالمرجع في ذلك إلى الكتاب والسنة، وما عليه القرون المشهود لها بالخير فنحاكم كل من يطالبنا بهذا إلى ذلك، فإن جاء بدليل صحيح صريح، وإلا فنحن مستمسكون بقول النبي صلى الله عليه وسلم:(كل بدعة ضلالة)، وبما روى أبو داود في سننه، عن حذيفة رضي الله عنه قال:(كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً)، ولا نصون أعراضنا في الدنيا بالتقرب إلى الله تعالى بما لم يشرعه.(7/108)
الثالث: أن أكثر ما يقصد من تلك الاحتفالات التي تقام للرؤساء إحياء الذكرى، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال الله في حقه:(ورفعنا لك ذكرك)(سورة الانشراح: 4)، فذكره مرفوع في الأذان والإقامة والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة عليه وفي قراءة الحديث واتباع ما جاء به، فهو أجل من أن تكون ذكراه سنوية فقط، ولكن الأمر كما قال السيد رشيد رضا في كتابه " ذكرى المولد النبوي " قال:(إن من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين أو الدنيا في طور ضعفهم ـ أي البشر ـ في أمر الدين أو الدنيا؛ لأن هذا تعظيم لا مشقة فيه على النفس، فيجعلونه بدلاً مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي يقوم بها أمر الدين أو الدنيا، و إنما التعظيم الحقيقي بطاعة المعظم، والنصح له، والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره ويعتز دينه إن كان رسولًا، وملكه إن كان ملكًا، وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم ثم للخلفاء، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذا السبيل، ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم اللساني، ولاشك أن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بكل تعظيم، وليس من التعظيم الحق له أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص أو تبديل أو تغيير لأجل تعظيمه به، وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين فقد كان جل ما أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية.
ومازالوا يبتدعون بقصد التعظيم وحسن النية حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم، ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا، وكما تساهل الخلف الذين اتبعوا سننهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع لضاع أصل ديننا أيضًا، ولكن السلف الصالح حفظوا لنا الأصل، فالواجب علينا أن نرجع إليه ونعض عليه بالنواجذ) اهـ.
هذا مع أن الاحتفال بالمولد النبوي إذا كان بطريق القياس على الاحتفالات بالرؤساء صار ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ ملحقاً بغيره وهذا ما لا يرضاه عاقل.
* حكم المولد
قسم العلماء الاجتماع الذي يعمل في ربيع الأول ويسمى باسم: المولد إلى قسمين:
أحدهما: ما خلا من المحرمات فهو بدعة لها حكم غيرها من البدع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الفتاوى الكبرى ": أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي شهر رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال: عيد الأبرار ـ فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها.
وقال في " الاقتضاء ":(إن هذا ـ أي اتخاذ المولد عيداً ـ لم يفعله السلف، مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه)، وقال:(ولو كان هذا خيراً محضًا، أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص).
وقال ابن الحاج في " المدخل ":(فإن خلا ـ أي المولد ـ منه ـ أي من السماع وتوابعه ـ وعمل طعامًا فقط، ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان، وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ إن ذلك زيادة في الدين ليس من عمل السلف الماضين، وإتباع السلف أولى، بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه، لأنهم أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيما له ولسنته صلى الله عليه وسلم، ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع، فيسعنا ما وسعهم، وقد علم أن إتباعهم في المصادر والموارد، كما قال الشيخ أبو طالب المكي ـ رحمه الله ـ في كتابه.
وقد جاء في الخبر:(لا تقوم الساعة حتى يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً)، وقد وقع ما قاله عليه الصلاة والسلام بسبب ما تقدم ذكره وما يأتي بعد؛ لأنهم يعتقدون أنهم في طاعة، ومن لا يعمل عملهم يرون أنه مقصر، فإنا لله وإنا إليه راجعون) ا.هـ.
وقال العلامة تاج الدين عمر بن علي اللخمي الإسكندراني المشهور بـ:(الفاكهاني) في رسالته في المولد المسماة بـ " المورد في عمل المولد ": (لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بِدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفسٍ اغتنى بها الأكالون، بدليل أنَّا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، أو محرماً.
وهو ليس بواجب إجماعاً، ولا مندوباً؛ لأن حقيقة الندب: ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون ولا العلماء المتدينون ـ فيما علمت ـ وهذا جوابي عنه بين يدي الله إن عنه سئلت.
ولا جائز أن يكون مباحاً؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين. فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً، أو حراماً).(7/109)
ثم صور الفاكهاني نوع المولد الذي تكلم فيه بما ذكرنا بأنه: هو أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئاً من الآثام، قال:(فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام، سُرُجُ الأزمنة وزَيْن الأمكنة) اهـ.
ويرى ابن الحاج في " المدخل ": أن نية المولد بدعة، ولو كان الاشتغال في ذلك اليوم بصحيح البخاري، وعبارته:(وبعضهم ـ أي المشتغلين بعمل المولد ـ يتورع عن هذا ـ أي سماع الغناء وتوابعه ـ بقراءة البخاري وغيره عوضاً عن ذلك، هذا وإن كانت قراءة الحديث في نفسها من أكبر القرب والعبادات وفيها البركة العظيمة والخير الكثير، لكن إذا فعل ذلك بشرطه اللائق به على الوجه الشرعي لا بنية المولد، ألا ترى أن الصلاة من أعظم القرب إلى الله تعالى، ومع ذلك فلو فعلها إنسان في غير الوقت المشروع لها لكان مذموماً مخالفاً، فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فما بالك بغيرها).
هذا ما بينه المحققون في هذا النوع من المولد.
وقد حاول السيوطي في رسالته " حسن المقصد في عمل المولد " الرد على ما نقلناه عن الفاكهاني، لكنه لم يأت بشيء يقوى على معارضة ما ذكره الفاكهاني؛ فإنه عارضه بأن الاحتفال بالمولد النبوي إنما أحدثه ملك عادل عالم قصد به التقرب إلى الله، وارتضاه ابن دحية، وصنف له من أجله كتاباً وهذا ليس بحجة؛ فإن البدعة في الدين لا تقبل من أي أحد كان بنصوص الأحاديث، فلا يمكننا أن نعارض الأحاديث المحذرة من الابتداع في الدين بعمل أبي سعيد كوكبري بن أبي الحسن علي بن بكتكين الذي أحدث الاحتفال بالمولد في القرن السادس، وعدالته لا توجب عصمته.
وقد ذكر ابن خلكان أنه يحب السماع، وأما ابن دحية فلا يخفى كلام العلماء فيه، وقد اتهموه بوضع حديث في قصر صلاة المغرب كما في تاريخ ابن كثير.
* وأما القسم الثاني من عمل المولد وهو: المحتوي على المحرمات، فهذا قد منعه العلماء وبسطوا القول فيه، وإليك بعض عباراتهم في ذلك:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له:(فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك واتخاذه عبادة، فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق).
وقال الفاكهاني في رسالته في المولد:(الثاني ـ أي من نوعي عمل المولد ـ أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤلمه ويوجعه؛ لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف، لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل، من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهم أو مشرفات، ويرقصن بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذا النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى:(إن ربك لبالمرصاد)(سورة الفجر: 14).
وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يَحِلُّ ذلك بنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات لا من الأمور المنكرات المحرمات، فإن لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ. ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فيما أجازناه:
قد عرف المنكر واستنكر الـ ـمعروف في أيامنا الصعبة
وصار أهل العلم في وهدةٍ وصار أهل الجهل في رتبة
حادوا عن الحق فما للذي ساروا به فيما مضى نسبة
فقلت للأبرار أهل التقى والدين لما اشتدت الكربة
لا تنكروا أحوالكم قد أتت نوبتكم في زمن الغربة
قال الفاكهاني:(ولقد أحسن أبو عمرو بن العلاء حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو ربيع الأول ـ هو بعينه الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه، وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول).(7/110)
وقال الشيخ أبو الحسن ابن عبد الله بن الحسن النباهي المالقي الأندلسي في كتابه " المرتبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا " في ترجمة القاضي أبي عبدالله محمد بن عبد السلام المنستيري:(إن الأمير أبا يحيى استحضره مع الجملة من صدور الفقهاء للمبيت بدار الخلافة والمثول بين يديه ليلة الميلاد الشريف النبوي، إذ كان قد أراد إقامة رسمه على العادة الغريبة من الاحتفال في الأطعمة وتزيين المحل بحضور الأشراف، وتخير القوالين للأشعار المقرونة بالأصوات المطربة، فحين كمل المقصود من المطلوب، وقعد السلطان على أريكة ملكه ينظر في ترتيبه، والناس على منازلهم بين قاعد وقائم هز المسمع طاره، وأخذ يهنؤهم بألحانه، وتبعه صاحب يراعه كعادته من مساعدته، تزحزح القاضي أبو عبد الله عن مكانه، وأشار بالسلام على الأمير، وخرج من المجلس، وتبعه الفقهاء بجملتهم إلى مسجد القصر فناموا به، فظن السلطان أنهم خرجوا لقضاء حاجتهم، فأمر أحد وزرائه بتفقدهم والقيام بخدمتهم إلى عودتهم، وأعلم الوزير ـ الموجه لما ذكر ـ القاضي بالغرض المأمور به، فقال له: أصلحك الله، هذه الليلة المباركة التي وجب شكر الله عليها، وجمعنا السلطان ـ أبقاه الله ـ من أجلها لو شهدها نبينا المولد فيها صلوات الله وسلامه عليه لم يأذن لنا في الاجتماع على ما نحن فيه من مسامحة بعضنا لبعض في اللهو، ورفع قناع الحياء بمحضر القاضي والفقهاء، وقد وقع الاتفاق من العلماء على أن المجاهرة بالذنب محظورة، إلا أن تمس إليها حاجة؛ كالإقرار بما يوجب الحد أو الكفارة، فليسلم لنا الأمير ـ أصلحه الله ـ في القعود بمسجده هذا إلى الصباح، وإن كنا في مطالب أُخر من تبعات رياء ودسائس أنفس وضروب غرور، لكنا كما شاء الله في مقام الاقتداء، لطف الله بنا أجمعين بفضله. فعاد عند ذلك الوزير المرسل للخدمة الموصوفة إلى الأمير أبي يحيى وأعلمه بالقصة، فأقام يسيراً وقام من مجلسه، وأرسل إلى القاضي من ناب عنه في شكره وشكر أصحابه، ولم يعد إلى مثل ذلك العمل بعد، وصار في كل ليلة يأمر في صبيحة الليلة المباركة بتفريق طعام على الضعفاء، وإرفاق الفقراء؛ شكراً لله. انتهى كلام النباهي.
وقد ذكر ابن الحاج في " المدخل " مما احتوى عليه الاحتفال بالمولد في زمانه ـ فكيف بزماننا هذا ـ ما يلي:
1ـ استعمال الأغاني وآلات الطرب من الطار المصرصر والشبابة وغير ذلك.
قال ابن الحاج: (مضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشتغلون في أكثر الأزمنة التي فضلها الله وعظمها ببدع ومحرمات)، وذكر ابن الحاج قول القائل:
يا عصبة ما ضر أمة أحمد وسعى إلى إفسادها إلا هي
طار ومزمار ونغمة شادنٍ أرأيت قط عبادة بملاهي
2 ـ قلة احترام كتاب الله عز وجل، فإنهم يجمعون في هذه الاحتفالات بينه وبين الأغاني، ويبتدئون به قصدهم الأغاني.
قال ابن الحاج:(ولذلك نرى بعض السامعين إذا طول القارئ القراءة يتقلقلون منه؛ لكونه طول عليهم ولم يسكت حتى يشتغلوا بما يحبونه من اللهو)، وقال:(وهذا غير مقتضى ما وصف الله تعالى به أهل الخشية من أهل الإيمان؛ لأنهم يحبون سماع كلام مولاهم؛ لقوله تعالى في مدحهم:(وإذا سمعوا مآ أٌنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنآ ءامنا فاكتبنا مع الشاهدين)(سورة المائدة: 83)، فوصف الله تعالى من سمع كلامه بما ذكر، وبعض هؤلاء يستعملون الضد من ذلك، فإذا سمعوا كلام ربهم عز وجل قاموا بعده إلى الرقص والفرح والسرور والطرب بما لا ينبغي، فإنا لله وإنا إليه راجعون على عدم الاستحياء من عمل الذنوب، يعملون أعمال الشيطان، ويطلبون الأجر من رب العالمين، ويزعمون أنهم في تعبد وخير).
قال:(ويا ليت ذلك لو كان يفعله سفلة الناس، ولكن قد عمت البلوى، فتجد بعض من ينسب إلى شيء من العلم أو العمل يفعله، وكذلك بعض من ينتسب إلى المشيخة ـ أعني في تربية المريدين ـ وكل هؤلاء داخلون فيما ذكر، ثم العجب كيف خفيت عليهم هذه المكيدة الشيطانية والدسيسة من اللعين؟!).
3 ـ الافتتان بالمردان؛ فإن الذي يغني في الاحتفالات ربما يكون شاباً نظيف الصورة، حسن الكسوة والهيئة، أو أحداً من الجماعة الذين يتصنعون في رقصهم، بل يخطبونهم للحضور، فمن لم يحضر منهم ربما عادوه ووجدوا في أنفسهم عليه، وحضوره فتنة، سيما وهم يأتون إلى ذلك شبه العروس، لكن العروس أقل فتنة؛ لأنها ساكنة حيية، وهؤلاء عليهم العنبر والطيب يتخذون ذلك بين أثوابهم، ويتكسرون مع ذلك في مشيهم إذ ذاك، وكلامهم ورقصهم، ويتعانقون فتأخذهم إ ذاك أحوال النفوس الرديئة من العشق والاشتياق إلى التمتع بما يرونه من الشبان ويتمكن منهم الشيطان، وتقوى عليهم النفس الأمارة بالسوء، وينسد عليهم باب الخير سداً.(7/111)
قال ابن الحاج:(وقد قال بعض السلف: لأن أؤتمن على سبعين عذراء أحب إليَّ من أن أؤتمن على شاب، وقوله هذا ظاهر بين؛ لأن العذراء تمتنع النفوس الزكية ابتداءً من النظر إليها بخلاف الشاب؛ لما ورد أن النظرة الأولى سهم، والشاب لا يتنقب ولا يختفي بخلاف العذراء، والشيطان من دأبه أنه إذا كانت المعصية كبرى أجلب عليها بخيله ورجله ويعمل الحيل الكثيرة).
قال ابن الحاج:(وبعض النسوة يعاين ذلك على ما قد علم من نظرهن من السطوح والطاقات وغير ذلك؛ فيرينه وسمعنه وهن أرق قلوباً وأقل عقولاً فتقع الفتنة في الفريقين).
هذا بعض ما ذكره ابن الحاج من المحرمات التي تحصل في احتفال الرجال بالمولد.
ثم ذكر من المفاسد المتعلقة بالنساء ما يلي:
1 ـ افتتان الرجال بالنساء؛ لأن بعض الرجال يتطلع عليهن من بعض الطاقات والسطوح، وتزداد الفتنة برفع أصواتهن، وتصفيقهن بالأكف، وغير ذلك مما يكون سبباً إلى وقوع المفسدة العظمى.
2 ـ افتتانهن في الاعتقاد؛ وذلك لأنهن لا يحضرن للمولد إلا ومعهن شيخه تتكلم في كتاب الله وفي قصص الأنبياء بما لا يليق، فربما تقع في الكفر الصريح وهي لا تشعر؛ لأنها لا تعرف الصحيح من السقيم والحق من الكذب، فتدخل النسوة في الغالب وهن مؤمنات، ويخرجن وهن مفتتنات في الاعتقاد أو فروع الدين.
3 ـ خروج النساء إلى المقابر وارتكاب أنواع المحرمات هناك من الاختلاط وغيره، ويذكر ابن الحاج: أن هذه المفسدة من آثار بناء البيوت على المقابر قال:(إذ لو امتثلنا أمر الشرع في هدمها لانسدت هذه المثالم كلها وكفي الناس أمرها)، قال:(فبسبب ما هناك من البنيان والمساكن وجد من لا خير فيه السبيل إلى حصول أغراضه الخسيسة ومخالفة الشرع)، قال:(ألا ترى ما قد قيل من العصمة أن لا تجد، فإذا هَمَّ الإنسان بالمعصية وأرادها وعمل عليها ولم يجد من يفعلها أو وجده، ولكن لا يجد مكاناً للاجتماع فيه فهو نوع من العصمة، فكان البنيان في القبور فيه مفاسد:
منها: هتك الحريم بخروجهن إلى تلك المواضع، فيجدون أين يقمن أغراضهن، هذا وجه، الثاني: تيسير الأماكن لاجتماع الأغراض الخسيسة، فتيسير المساكن هناك سبب وتسهيل لوقوع المعاصي هناك.
4 ـ فتح باب الخروج لهن لغير ضرورة شرعية؛ فإنهم ـ أي: أهل زمانه ـ ضموا لأيام المولد النبوي الثلاثة، يوم الاثنين لزيارة الحسين، وجعلوا يوم الأربعاء لزيارة نفيسة، فالتزمن الزيارة في تلك الأيام لما يقصدن من أغراض، الله أعلم بها. قال ابن الحاج: ولو حكي هذا عن الرجال لكان فيه شناعة وقبح فكيف به في النساء؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا ما ذكره ابن الحاج في " المدخل " من مفاسد الاحتفالات بالمولد في زمانه بالنسبة لمن يقصدون المولد، ثم قسم الذين يعملون المولد في ذلك الزمن لا لقصد المولد إلى خمسة أقسام:
أحدها: من له فضة عند الناس متفرقة قد أعطاها لهم في بعض الأفراح والمواسم فيعمل المولد ليستردها، قال ابن الحاج: فهذا قد اتصف بصفة النفاق، وهو أنه يظهر خلاف ما يبطن، إذ ظاهر حاله أنه عمل المولد يبتغي به الدار الآخرة، وباطنه أنه يجمع به فضته.
الثاني: من يتظاهر من ذوي الأموال بأنه من الفقراء المساكين، فيعمل المولد لتزيد دنياه بمساعدة الناس له، فيزداد هذا فساداً على المفاسد المتقدم ذكرها، ويطلب مع ذلك ثناء الناس عليه بما ليس فيه.
الثالث: من يخاف الناس من لسانه وشره وهو من ذوي الأموال، فيعمل المولد ليأخذ من الناس الذين يعطونه تقية على أنفسهم وأعراضهم، قال ابن الحاج:(فيزداد من الحطام بسبب ما فيه من الخصال المذمومة شرعاً، وهذا أمر خطر؛ لأنه زاد على الأول أنه ممن يخاف من شره، فهو معدود بفعله من الظلمة).
الرابع: من يعمل المولد وهو ضعيف الحال ليتسع حاله.
الخامس: من له من الفقراء لسان يخاف منه ويتقى لأجله، فيعمل المولد حتى يحصل له من الدنيا ممن يخشاه ويتقيه، حتى أنه لو تعذر عن حضور المولد الذي يفعله أحد معارفه لحل به من الضرر ما يتشوش به، وقد يؤول ذلك إلى العداوة أو الوقوع في حقه في محافل بعض ولاة الأمور؛ قاصداً بذلك حط رتبته بالوقيعة فيه أو نقص ماله.. إلى غير ذلك مما يقصده من لا يتوقف على مراعاة الشرع الشريف.
قال ابن الحاج بعد بسط الكلام على هذه المفاسد: (هذا الذي ذكر بعض المفاسد المشهورة المعروفة، وما في ذلك من الدسائس ودخول وساوس النفوس وشياطين الإنس والجن مما يتعذر حصره، فالسعيد السعيد من أعطى قياده للاتباع وترك الابتداع، وفقنا الله لذلك بمنه).
وذكر ابن الحاج: أن سكوت من سكت من العلماء على إنكار ما ذكر ليس بدليل؛ لأن الناس كانوا يقتدون أولاً بالعلماء، فصار الأمر بعد ذلك بالعكس، وهو: أن من لا علم عنده يرتكب ما لا ينبغي فيأتي العالم فيقتدي به في ذلك، قال: (فعمت الفتنة، واستحكمت هذه البلية، فلا تجد في الغالب من يتكلم في ذلك، ولا من يعين على زواله أو يشير إلى ذلك أن ذلك مكروه أو محرم) اهـ.(7/112)
وقد ذكر ابن حجر الهيتمي في " الفتاوى الحديثية ": أن الموالد التي تفعل عندهم في زمنه أكثرها مشتمل على شرور لو لم يكن منها إلا رؤية النساء الرجال الأجانب لكفى ذلك في المنع، وذكر أن ما يوجد في تلك الموالد من الخير لا يبررها ما دامت كذلك؛ للقاعدة المشهورة المقررة: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. قال: (فمن علم وقوع شيء من الشر فيما يفعله من ذلك فهو عاص آثم، وبفرض أنه عمل في ذلك خيراً فربما خيره لا يساوي شره، ألا ترى أن الشارع صلى الله عليه وسلم اكتفى من الخير بما تيسر، وفطم جميع أنواع الشر، حيث قال: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه "، فتأمله تعلم ما قررته من أن الشر وإن قلَّ لا يرخص في شيء منه، والخير يكتفى منه بما تيسر.
هذا ما ذكره أهل العلم في بحث الاحتفال بالمولد النبوي، ولم يخل عصر من العصور المتقدمة منذ أُحدث من عالم يبين الحق فيه، ولم يزل المتبصرون من أهل العلم في وقتنا هذا ينكرون ما يقع في تلك الأيام من البدع والمحرمات.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خذلها، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
انتهت رسالة " حكم الاحتفال بالمولد النبوي والرد على من أجازه "
للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله
ويليها ملحق في إنكار ذلك.
------------------------
18. ... ملحق رسالة "حكم المولد والرد على من أجازه"
ملحق رسالة "حكم المولد والرد على من أجازه"
الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله
(بعد ما نشر ردنا على الشنقيطي كتب مرة أخرى في الموضوع رددنا عليها بالرد التالي:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فقد نشرت جريدة الندوة في العدد الصادر يوم السبت 16 / 4 / 1382 هـ للشنقيطي محمد مصطفى العلوي في تبرير الاحتفال بالمولد النبوي مقالاً آخر تحت عنوان:(هذا ما يقوله ابن تيمية في الاحتفال المشروع بذكرى المولد النبوي)، مضمون ذلك المقال: أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى الاحتفال بالمولد النبوي، واعتمد الشنقيطي في تلك الدعوى على ثلاثة أمور:
1 ـ قول شيخ الإسلام في " اقتضاء الصراط " في بحث المولد: (فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم؛ لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمت أنه يستحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد).
يقول الشنقيطي: فكلام شيخ الإسلام ـ يقصد هذه العبارة ـ صريح في جواز عمل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، الخالي من منكرات تخالطه.
2 ـ قول شيخ الإسلام في " الاقتضاء " أيضاً: (إذا رأيت من يفعل هذا ـ أي المنكر ـ ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه).
يقول الشنقيطي: (من الجدير بالذكر ما أشار إليه شيخ الإسلام أن مرتكب البدعة لا ينهى عنها إذا كان نهيه عنها يحمله إلى ما هو شر منها، ومن المعلوم عند العموم: أن أكثر أهل هذا الزمان يضيعون الليالي وخصوصاً ليلة الجمعة في سماع أغاني أم كلثوم وغيرها من حفلات صوت العرب الخليعة مما يذيعه الراديو والتلفزيون، فلا يخفى على مسلم عاقل أن سماع ذكر صفة وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من سماع الأغاني الخليعة والتمثيليات الماجنة).
3 ـ دعوى أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا ينكر الابتداع في تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر الشنقيطي أن أكبر شاهد على ذلك تأليفه كتاب " الصارم المسلول ".
هذا ما ذكره الشنقيطي مما برر به هذه الدعوى الباطلة.
والحق أنه إنما أٌتي من سوء فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وسيرته، وفي نوع ما وقع فيه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب " الاستغاثة ":
(الوهم إذا كان لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلم لم يكن على المتكلم بذلك بأس، ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم متوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم، بل ما زال الناس يتوهمون من أقوال الناس خلاف مرادهم)، وهذا هو عين ما وقع للشنقيطي في عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية. وإلى القراء بيان ذلك فيما يلي:(7/113)
أما قول شيخ الإسلام: (فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم؛ لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، فليس فيه إلا الإثابة على حسن القصد، وهي لا تستلزم مشروعية العمل الناشئة عنه؛ ولذلك ذكر شيخ الإسلام أن هذا العمل ـ أي الاحتفال بالمولد ـ يستقبح من المؤمن المسدد، ولكن الشنقيطي أخذ أول العبارة دون تأمل في آخرها، وفي أول بحث المولد في " اقتضاء الصراط المستقيم " فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الذين يتخذون المولد عيداً محبة للنبي صلى الله عليه وسلم(ص 294، 295):(والله تعالى قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً، مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان).
فهذا تصريح من شيخ الإسلام بأن إثابة من يتخذ المولد عيداً محبة للنبي صلى الله عليه وسلم من ناحية قصده لا تقتضي مشروعية اتخاذ المولد عيداً ولا كونه خيراً، إذ لو كان خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا؛ لأنهم أشد محبة وتعظيماً لرسول الله منا. ثم بعد ذلك صرح شيخ الإسلام بذم الذين يتخذون المولد عيداً، فقال في(ص 295، 296):
(أكثر هؤلاء تجدهم حرصاء على أمثال هذه البدع مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة، تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلاً، وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء الكبير والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها).
وقال شيخ الإسلام في " الاقتضاء "(ص 317):(من كانت له نية صالحة أثيب على نيته وإن كان الفعل الذي فعله ليس بمشروع إذا لم يتعمد مخالفة الشرع).
وصرح في(ص 290) بأن إثابة الواقع في المواسم المبتدعة متأولاً أو مجتهداً على حسن قصده(1) لا تمنع النهي عن تلك البدع والأمر بالاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعة فيه، وذكر أن ما تشتمل عليه تلك البدع من المشروع لا يعتبر مبرراً لها.
كما صرح في كلامه على مراتب الأعمال بأن العمل الذي يرجع صلاحه لمجرد حسن القصد ليس طريقة السلف الصالح، وإنما ابتلى به كثير من المتأخرين، وأما السلف الصالح فاعتناؤهم بالعمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه بوجه من الوجوه، وهو العمل الذي تشهد له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:(وهذا هو الذي يجب تعلمه وتعليمه، والأمر به على حسب مقتضى الشريعة من إيجاب واستحباب)، أضف إلى هذا أن نفس كلام شيخ الإسلام:(فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له أجر عظيم لحسن قصده).. الخ، إنما ذكره بصدد الكلام على عدم محاولة إنكار المنكر الذي يترتب على محاولة إنكاره الوقوع فيما هو أنكر منه، يعني أن حسن نية هذا الشخص ـ ولو كان عمله غير مشروع ـ خير من إعراضه عن الدين بالكلية.
ومن الأدلة على عدم قصده تبرير الاحتفال بالمولد تصريحاته في كتبه الأٌخر بمنعه، يقول في " الفتاوى الكبرى ":(أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال: عيد الأبرار فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها).
وقال في بعض فتاواه:(فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك، واتخاذه عبادة، فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يستحب ذلك إلا جاهل أو زنديق).
وأما قول شيخ الإسلام:(إذا رأيت من يعمل هذا ـ أي المنكر ـ ولا يتركه إلا إلى شر منه فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه).(7/114)
فمن غرائب الشنقيطي الاستدلال به على مشروعية الاحتفال بالمولد ما دام شيخ الإسلام يسمي ذلك منكراً، وإنما اعتبر ما يترتب على محاولة إزالته من خشية الوقوع في أنكر منه عذراً عن تلك المحاولة من باب اعتبار مقادير المصالح والمفاسد، وقد بسط شيخ الإسلام الكلام على هذا النوع في رسالته في " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "، ومن ضمن بحثه في ذلك قوله:(ومن هذا الباب ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور؛ لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به واستعذر منه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه حمي له سعد بن عابدة ـ مع حسن إيمانه وصدقه ـ وتعصب لكل منهما قبيلته حتى كادت أن تكون فتنة).
ومن هذا يُعلم أن لا ملازمة بين ترك النهي عن الشيء لمانع وبين إباحة ذلك الشيء كما تخيله الشنقيطي. وقد فاته أن هذه العبارة التي نقلها عن شيخ الإسلام في عدم النهي عن المنكر إذا ترتب عليه الوقوع في أنكر منه لا تصلح جواباً لمن سأل عن حكم الإنكار على من اتخذ المولد عيداً إذا ترتب على الإنكار الوقوع في أنكر منه.
كما فاته أن ما ذكره من جهة أغاني أم كلثوم وما عطفه عليها لا يعتبر مبرراً للابتداع، فإن الباطل إنما يزال بالحق لا بالباطل، قال تعالى:(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً)(سورة الإسراء: 81)، وليس النهي عن الاحتفال بالمولد من ناحية قراءة السيرة، بل من ناحية اعتقاد ما ليس مشروعاً مشروعاً، والتقرب إلى الله تعالى بما لم يقم دليل على التقرب به إليه، ومن أكبر دليل على عدم اعتبار ما ذكره الشنقيطي أن المواضع التي تقام فيها الاحتفالات بالموالد ما حالت بينها وبين الاستماع لأغاني أم كلثوم وما عطف عليها، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم أرفع من أن لا تقرأ في السنة إلا في أيام الموالد.
وأما دعوى الشنقيطي فتح شيخ الإسلام ابن تيمية باب الابتداع فيما يتعلق بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، فكتابات شيخ الإسلام ابن تيمية تدل أوضح دلالة على بطلانها، فقد قرر فيها أن كيفية التعظيم لا بد من التقيد فيها بالشرع، وأنه ليس كل تعظيم مشروعاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فإن السجود تعظيم، ومع ذلك لا يجوز لغير الله، وكذلك جميع التعظيمات التي هي من خصائص الألوهية لا يجوز تعظيم الرسول بها، كما قرر في غير موضع من كتبه أن الأعمال المضادة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن قصد فاعلها التعظيم، فهي غير مشروعة؛ لقوله تعالى:(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، ويستدل كثيراً بما جاء في النصوص من النهي عن الإطراء، وكلامه في ذلك كثير لا يحتاج إلى الإطالة بذكره ما دامت المراجع بحمد لله موجودة، هذا على سبيل العموم.
أما ما يخص مسألة اتخاذ المولد النبوي عيداً بدعوى التعظيم فقد تقدم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فيه: إنه لم يفعله السلف مع قيام المقتضي وعدم المانع منه، قال:(ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطناً وظاهراً، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان) اهـ.
وتمثيل الشنقيطي بـ: " الصارم المسلول " لدعواه فتح شيخ الإسلام ابن تيمية لباب الابتداع في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، إنما نشأ من عدم تدبر كلام شيخ الإسلام في مقدمته، فإنه قد بين فيها أن مضمون الكتاب " الصارم المسلول " بيان الحكم الشرعي الموجب لعقوبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر بياناً مقروناً بالأدلة، ومن نظر إلى الأدلة التي سردها شيخ الإسلام في هذا الكتاب من نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة ـ تبين له أن دفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحماية لجنابه من التعرض له بما لا يليق به، وهذا لا صلة له بالابتداع.
هذا وليت الشنقيطي فكر في تعذر الجمع بين الأمور التي استدل بها على تبرير الاحتفال بالمولد، فإن كون الشيء الواحد مشروعاً ومنكراً بدعة في آن واحد لا يتصور، لكن من تكلم فيما لا يحسنه أتى بالعجائب.
هذا ما لزم بيانه وبالله التوفيق
انتهى ملحق رسالة " حكم المولد والرد على من أجازه "
للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه.
نقله أبو معاذ السلفي
00000000000000(7/115)
(1) لكن هذا القدر لا يمنع كراهتها والنهي عنها والاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعة فيه، كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك، بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم أيضاً فوائد؛ وذلك لأنه لا بد أن تشتمل عباداتهم على نوع ما مشروع في جنسه، كما أن قولهم لا بد أن يشتمل على صدق مأثور عن الأنبياء، ثم ذلك لا يوجب أن تفعل عباداتهم أو تروى كلماتهم؛ لأن جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير، إذ لو كان خيرها راجحاً لما أهملتها الشريعة، فنحن نستدل بكونها بدعة على أن إثمها أكبر من نفعها، وذلك هو الموجب للنهي.
--------------------------
19. ... حوار حول الاحتفال بالمولد النبوي.. الشيخ الألباني
حوار حول الاحتفال بالمولد النبوي
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
دار الحوار التالي بين الإمام الألباني رحمه الله تعالى وبين أحد الإخوة:
الشيخ الألباني:
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هل هو خير أم شر؟
محاور الشيخ:
خير.
الشيخ الألباني: حسناً، هذا الخير هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجهلونه؟
محاور الشيخ:
لا.
الشيخ الألباني:
أنا لا أقنع منك الآن أن تقول لا بل يجب أن تبادر وتقول: هذا مستحيل أن يخفى هذا الخير إن كان خيراً أو غيره على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونحن لم نعرف الإسلام والإيمان إلا عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكيف نعرف خيراً هو لم يعرفه! هذا مستحيل.
محاور الشيخ:
إقامة المولد النبوي هو إحياء لذكره صلى الله عليه وسلم وفي ذلك تكريم له.
الشيخ الألباني:
هذه فلسفة نحن نعرفها، نسمعها من كثير من الناس وقرأناها في كتبهم؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دعا الناس هل دعاهم إلى الإسلام كله أم دعاهم إلى التوحيد؟
محاور الشيخ:
التوحيد.
الشيخ الألباني:
أول ما دعاهم للتوحيد، بعد ذلك فُرضت الصلوات، بعد ذلك فُرض الصيام، بعد ذل فُرض الحج، وهكذا؛ ولذلك امشِ أنت على هذه السنة الشرعية خطوة خطوة.
نحن الآن اتفقنا أنه من المستحيل أن يكون عندنا خيرٌ ولا يعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالخير كله عرفناه من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه لا يختلف فيها اثنان ولا ينتطح فيها كبشان، وأنا أعتقد أن من شك في هذا فليس مسلمًا.
ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تؤيد هذا الكلام:
1. قوله صلى الله عليه وسلم:((ما تركتُ شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به)).
فإذا كان المولد خيراً وكان مما يقربنا إلى الله زُلفى فينبغي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دلنا عليه.
صحيح أم لا؟ أنا لا أريد منك أن توافق دون أن تقتنع بكل حرف مما أقوله، ولك كامل الحرية في أن تقول: أرجوك، هذه النقطة ما اقتنعت بها.
فهل توقفت في شيء مما قلتهُ حتى الآن أم أنت ماشٍ معي تماماً؟
محاور الشيخ:
معك تماماً.
الشيخ الألباني:
جزاك الله خيراً.
إذاً((ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به))
نحن نقول لجميع من يقول بجواز إقامة هذا المولد:
هذا المولد خيرٌ – في زعمكم -؛ فإما أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دلنا عليه وإما أن يكون لم يدلنا عليه.
فإن قالوا: قد دلنا عليه.
قلنا لهم:(هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً أبداً.
ونحن قرأنا كتابات العلوي [1] وغير العلوي في هذا الصدد وهم لا يستدلون بدليل سوى أن هذه بدعة حسنة!! بدعة حسنة!!
فالجميع سواء المحتفلون بالمولد أو الذين ينكرون هذا الاحتفال متفقون على أن هذا المولد لم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة الكرام ولا في عهد الأئمة الأعلام.
لكن المجيزون لهذا الاحتفال بالمولد يقولون: وماذا في المولد؟ إنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلاة عليه ونحو ذلك.
ونحن نقول: لو كان خيراً لسبقونا إليه.
أنت تعرف حديث الرسول صلى الله عليه وسلم:((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) وهو في الصحيحين. وقرنه صلى الله عليه وسلم هو الذي عاش فيه وأصحابه، ثم الذين يلونهم التابعون، ثم الذين يلونهم أتباع التابعين. وهذه أيضاً لا خلاف فيها.
فهل تتصور أن يكون هناك خير نحن نسبقهم إليه علماً وعملاً؟ هل يمكن هذا؟
محاور الشيخ:
من ناحية العلم لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن كان معه في زمانه إن الأرض تدور.
الشيخ الألباني:(7/116)
عفواً، أرجو عدم الحيدة، فأنا سألتك عن شيئين علم وعمل، والواقع أن حيدتك هذه أفادتني، فأنا أعني بطبيعة الحال بالعلم العلم الشرعي لا الطب مثلاً؛ فأنا أقول إن الدكتور هنا أعلم من ابن سينا زمانه لأنه جاء بعد قرون طويلة وتجارب عديدة وعديدة جداً لكن هذا لا يزكيه عند الله ولا يقدمه على القرون المشهود لها؛ لكن يزكيه في العلم الذي يعلمه، ونحن نتكلم في العلم الشرعي بارك الله فيك. فيجب أن تنتبه لهذا؛ فعندما أقول لك: هل تعتقد أننا يمكن أن نكون أعلم؛ فإنما نعني بها العلم الشرعي لا العلم التجربي كالجغرافيا والفلك والكيمياء والفيزياء. وافترض مثلاُ في هذا الزمان إنسان كافر بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم لكن هو أعلم الناس بعلم من هذه العلوم هل يقربه ذلك إلى الله زُلفى؟
محاور الشيخ:
لا.
الشيخ الألباني:
إذاً نحن لا نتكلم الآن في مجال ذلك العلم بل نتكلم في العلم الذي نريد أن نتقرب به إلى الله تبارك وتعالى، وكنا قبل قليل نتكلم في الاحتفال بالمولد؛ فيعود السؤال الآن وأرجو أن أحضى بالجواب بوضوح بدون حيدة ثانية.
فأقول هل تعتقد بما أوتيت من عقل وفهم أنه يمكننا ونحن في آخر الزمان أن نكون أعلم من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين في العلم الشرعي وأن نكون أسرع إلى العمل بالخير والتقرب إلى الله من هؤلاء السلف الصالح؟
محاور الشيخ:
هل تقصد بالعلم الشرعي تفسير القرآن؟
الشيخ الألباني:
هم أعلم منا بتفسير القرآن، وهم أعلم منا بتفسير حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، هم في النهاية أعلم منا بشريعة الإسلام.
محاور الشيخ:
بالنسبة لتفسير القرآن ربما الآن أكثر من زمان الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فمثلاً الآية القرآنية((وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ))(النمل:88) فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأحد في زمانه إن الأرض تدور هل كان سيصدقه أحد؟! ما كان صدقه أحد.
الشيخ الألباني:
إذاً أنت تريدنا – ولا مؤاخذة – أن نسجل عليك حيدةً ثانية. يا أخي أنا أسأل عن الكل لا عن الجزء، نحن نسأل سؤالاً عاماً:
الإسلام ككل من هو أعلم به؟
محاور الشيخ:
طبعاُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته.
الشيخ الألباني:
هذا الذي نريده منك بارك الله فيك.
ثم التفسير الذي أنت تدندن حوله ليس له علاقة بالعمل، له علاقة بالفكر والفهم. ثم قد تكلمنا معك حول الآية السابقة وأثبتنا لك أن الذين ينقلون الآية للاستدلال بها على أن الأرض تدور مخطئون لأن الآية تتعلق بيوم القيامة ((يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). لسنا على كل حال في هذا الصدد.
وأنا أسلِّم معك جدلاً أنه قد يكون رجلاً من المتأخرين يعلم حقيقة علمية أو كونية أكثر من صحابي أو تابعي الخ؛ لكن هذا لا علاقة له بالعمل الصالح؛ فاليوم مثلاً العلوم الفلكية ونحوها الكفار أعلم منا فيها لكن ما الذي يستفيدونه من ذلك؟ لا شيء. فنحن الآن لا نريد أن نخوض في هذا اللا شيء، نريد أن نتكلم في كل شيء يقربنا إلى الله زلفى؛ فنحن الآن نريد أن نتكلم في المولد النبوي الشريف.
وقد اتفقنا أنه لو كان خيراً لكان سلفنا الصالح وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم به منا وأسرع إلى العمل به منا؛ فهل في هذا شك؟
محاور الشيخ:
لا، لا شك فيه.
الشيخ الألباني:
فلا تحد عن هذا إلى أمور من العلم التجريبي لا علاقة لها بالتقرب إلى الله تعالى بعمل صالح.
الآن، هذا المولد ما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم - باتفاق الكل – إذاً هذا الخير ما كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين،
كيف خفي هذا الخير عليهم؟!
لابد أن نقول أحد شيئين:
علموا هذا الخير كما علمناه – وهم أعلم منا –، أو لم يعلموه؛ فكيف علمناه نحن؟!؛ فإن قلنا: علموه؛ - وهذا هو القول الأقرب والأفضل بالنسبة للقائلين بمشروعية الاحتفال بالمولد - فلماذا لم يعملوا به؟! هل نحن أقرب إلى الله زلفى؟! –
لماذا لم يُخطيء واحدٌ منهم مرة صحابي أو تابعي أو عالم منهم أو عابد منهم فيعمل بهذا الخير؟!
هل يدخل في عقلك أن هذا الخير لا يعمل به أحدٌ أبداً؟! وهم بالملايين، وهم أعلم منا وأصلح منا وأقرب إلى الله زُلفى؟!
أنت تعرف قول الرسول صلى الله عليه وسلم _ فيما أظن _:
((لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفس محمد بيده لو أنفق أحدكم مثل جبل أُحدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصيفَهُ)).
أرأيت مدى الفرق بيننا وبينهم؟!(7/117)
لأنهم جاهدوا في سبيل الله تعالى، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقوا العلم منه غضاً طرياً بدون هذه الوسائط الكثيرة التي بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم، كما أشار صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا المعنى في الحديث الصحيح: ((من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً فليقرأهُ على قراءة ابن أم عبد)) يعني عبد الله بن مسعود.
" غضاً طرياً " يعنى طازج، جديد.
هؤلاء السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم لا يمكننا أن نتصور أنهم جهلوا خيراً يُقربهم إلى الله زلفى وعرفناه نحن وإذا قلنا إنهم عرفوا كما عرفنا؛ فإننا لا نستطيع أن نتصور أبداً أنهم أهملوا هذا الخير.
لعلها وضحت لك هذه النقطة التي أُدندنُ حولها إن شاء الله؟
محاور الشيخ:
الحمد لله.
الشيخ الألباني:
جزاك الله خيراً.
هناك شيء آخر، هناك آيات وأحاديث كثيرة تبين أن الإسلام قد كَمُلَ _ وأظن هذه حقيقة أنت متنبه لها ومؤمن بها ولا فرق بين عالم وطالب علم وعامِّي في معرفة هذه الحقيقة وهي: أن الإسلام كَمُلَ، وأنه ليس كدين اليهود والنصارى في كل يوم في تغيير وتبديل.
وأذكرك بمثل قول الله تعالى:((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً))
الآن يأتي سؤال: وهي طريقة أخرى لبيان أن الاحتفال بالمولد ليس خيراً غير الطريقة السابقة وهي أنه لو كان خيراً لسبقونا إليه وهم – أي السلف الصالح – أعلم منا وأعبد.
هذا المولد النبوي إن كان خيراً فهو من الإسلام؛ فنقول: هل نحن جميعاً من منكرين لإقامة المولد ومقرِّين له هل نحن متفقون - كالاتفاق السابق أن هذا المولد ما كان في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم – هل نحن متفقون الآن على أن هذا المولد إن كان خيراً فهو من الإسلام وإن لم يكن خيراً فليس من الإسلام؟
ويوم أُنزلت هذه الآية:((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)) لم يكن هناك احتفال بالمولد النبوي؛ فهل يكون ديناً فيما ترى؟
أرجو أن تكون معي صريحاً، ولا تظن أني من المشائخ الذين يُسكِّتون الطلاب، بل عامة الناس: اسكت أنت ما تعلم أنت ما تعرف، لا خذ حريتك تماماً كأنما تتكلم مع إنسان مثلك ودونك سناً وعلماً. إذا لم تقتنع قل: لم أقتنع.
فالآن إذا كان المولد من الخير فهو من الإسلام وإذا لم يكن من الخير فليس من الإسلام وإذا اتفقنا أن هذا الاحتفال بالمولد لم يكن حين أُنزلت الآية السابقة؛ فبديهي جداً أنه ليس من الإسلام.
وأوكد هذا الذي أقوله بأحرف عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس: قال:
" من ابتدع في الإسلام بدعة – لاحظ يقول بدعة واحدة وليس بدعاً كثيرة – يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة ".
وهذا شيء خطير جدًا، ما الدليل يا إمام؟
قال الإمام مالك: اقرؤا إن شئتم قول الله تعالى:
((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً))
فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً. انتهى كلامه.
متى قال الإمام مالك هذا الكلام؟ في القرن الثاني من الهجرة، أحد القرون المشهود لها بالخيرية!
فما بالك بالقرن الرابع عشر؟!
هذا كلامٌ يُكتب بماء الذهب؛ لكننا غافلون عن كتاب الله تعالى، وعن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أقوال الأئمة الذين نزعم نحن أننا نقتدي بهم وهيهات هيهات، بيننا وبينهم في القدوة بُعد المشرقين.
هذا إمام دار الهجرة يقول بلسانٍ عربيٍ مبين: "فما لم يكن يومئذٍ ديناً؛ فلا يكون اليوم ديناً".
اليوم الاحتفال بالمولد النبوي دين، ولولا ذلك ما قامت هذه الخصومة بين علماء يتمسكون بالسنة وعلماء يدافعون عن البدعة.
كيف يكون هذا من الدين ولم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة ولا في عهد التابعين ولا في عهد أتباع التابعين؟!
الإمام مالك من أتباع التابعين، وهو من الذين يشملهم حديث:
((خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)).
يقول الإمام مالك: " ما لم يكن حينئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً، ولا يَصلُح آخر هذه الأمة إلا بما صَلُح به أولها ".
بماذا صلح أولها؟ بإحداث أمور في الدين والُتقرب إلى الله تعالى بأشياء ما تقرب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
والرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل:
((ما تركتُ شيئاً يُقربكم إلى الله إلا وأمرتكم به)).
لماذا لم يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحتفل بمولده؟! هذا سؤال وله جواب:
هناك احتفال بالمولد النبوي مشروع ضد هذا الاحتفال غير المشروع, هذا الاحتفال المشروع كان موجوداً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعكس غير المشروع،مع بَون شاسع بين الاحتفالين:
أول ذلك: أن الاحتفال المشروع عبادة متفق عليها بين المسلمين جميعاً.
ثانياً: أن الاحتفال المشروع يتكرر في كل أسبوع مرة واحتفالهم غير المشروع في السنة مرة.(7/118)
هاتان فارقتان بين الاحتفالين: أن الأول عبادة ويتكرر في كل أسبوع بعكس الثاني غير المشروع فلا هو عبادة ولا يتكرر في كل أسبوع.
وأنا لا أقول كلاماً هكذا ما أنزل الله به من سلطان، وإنما أنقل لكم حديثاً من صحيح مسلم رحمه الله تعالى عن أبي قتادة الأنصاري قال:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله: ما تقول في صوم يوم الاثنين؟
قال:((ذاك يومٌ وُلِدتُ فيه، وأُنزل القرآن عليَّ فيه.))
ما معنى هذا الكلام؟
كأنه يقول: كيف تسألني فيه والله قد أخرجني إلى الحياة فيه، وأنزل عليَّ الوحي فيه؟!
أي ينبغي أن تصوموا يوم الاثنين شكراً لله تعالى على خلقه لي فيه وإنزاله الوحي عليَّ فيهِ.
وهذا على وزان صوم اليهود يوم عاشوراء، ولعلكم تعلمون أن صوم عاشوراء قبل فرض صيام شهر رمضان كان هو المفروض على المسلمين.
وجاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء؛ فسألهم عن ذلك؛ فقالوا هذا يوم نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون وجنده فصمناه شكراً لله؛ فقال صلى الله عليه وسلم:((نحن أحق بموسى منكم)) فصامه وأمر بصومه فصار فرضاً إلى أن نزل قوله تعالى:
((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه)). فصار صوم عاشوراء سنة ونسخ الوجوب فيه.
الشاهد من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم شارك اليهود في صوم عاشوراء شكراً لله تعالى أن نجى موسى من فرعون؛ فنحن أيضاً فَتَح لنا باب الشكر بصيام يوم الاثنين لأنه اليوم الذي وُلد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم واليوم الذي أُوحي إليه فيه.
الآن أنا أسألك: هؤلاء الذين يحتفلون بالمولد الذي عرفنا أنه ليس إلى الخير بسبيل أعرف أن كثيراً منهم يصومون يوم الاثنين كما يصومون يوم الخميس؛ لكن تُرى أكثر المسلمين يصومون يوم الاثنين؟
لا، لا يصومون يوم الاثنين، لكن أكثر المسلمين يحتفلون بالمولد النبوي في كل عام مرة! أليس هذا قلباً للحقائق؟!
هؤلاء يصدق عليهم قول الله تعالى لليهود:
((أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ))
هذا هو الخير: صيام متفق عليه بين المسلمين جميعاً وهو صيام الاثنين ومع ذلك فجمهور المسلمين لا يصومونه!!
نأتي لمن يصومه وهم قلة قليلة: هل يعلمون السر في صيامه؟ لا, لا يعلمون.
فأين العلماء الذين يدافعون عن المولد لماذا لا يبينون للناس أن صيام الاثنين هو احتفال مشروع بالمولد ويحثونهم عليه بدلاً من الدفاع عن الاحتفال الذي لم يُشرع؟!!
وصدق الله تعالى: ((أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ))
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:
((للتتبعنَّ سَنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه))
وفي رواية أخرى خطيرة:((حتى لو كان فيهم من يأتي أمه على قارعة الطريق لكان فيكم من يفعل ذلك)).
فنحن اتبعنا سنن اليهود؛ فاستبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير، كاستبدالنا المولد النبوي الذي هو كل سنة وهو لا أصل له بالذي هو خير وهو الاحتفال في كل يوم اثنين وهو احتفال مشروع بأن تصومه مع ملاحظة السر في ذلك وهو أنك تصومه شكراً لله تعالى على أن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وأنزل الوحي فيه.
وأختم كلامي بذكر قوله صلى الله عليه وسلم:
((أبى الله أن يقبل توبة مبتدع)).
والله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ))
وقد جاء في صحيح مسلم أن أحد التابعين جاء إلى السيدة عائشة
محاور الشيخ:
قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أليس تكريماً له؟
الشيخ الألباني:
نعم
محاور الشيخ:
فيه ثواب هذا الخير من الله؟
الشيخ الألباني:
كل الخير. ما تستفيد شيئاً من هذا السؤال؛ ولذلك أقاطعك بسؤال: هل أحد يمنعك من قراءة سيرته؟
أنا أسألك الآن سؤالاً: إذا كان هناك عبادة مشروعة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ما وضع لها زمناً معيناً، ولا جعل لها كيفية معينة؛ فهل يجوز لنا أن نحدد لها من عندنا زمناً معيناً، أو كيفية معينة؟ هل عندك جواب؟
محاور الشيخ:
لا، لا جواب عندي.
الشيخ الألباني:
قال الله تعالى:((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ))
وكذلك يقول الله تعالى:
((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) التوبة:31(7/119)
((لما سمع عدي بن حاتم رضي الله عنه هذه الآية – وقد كان قبل إسلامه نصرانياً – أشكلت عليه فقال: إنا لسنا نعبدهم قال:(أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلّون ما حرم الله، فتحلونه؟)، فقال: بلى. قال:(فتلك عبادتهم))).
وهذا يبيِّن خطورة الابتداع في دين الله تعالى.
=======
(*) مفرغ مع بعض الاختصار من أحد أشرطة سلسلة الهدى والنور للشيخ الألباني رحمه الله تعالى. رقم الشريط 94/1
والشريط موجود على الشبكة العنكبوتية في موقع طريق الإسلام
[1] المراد هو: محمد بن علوي المالكي. أحد القائلين بمشروعية الموالد.
-------------------------
20. ... ميلاد نبي.. مولد أمة
ميلاد نبي.. مولد أمة
د. عبد الستار إبراهيم الهيتي
في فترة من فترات التاريخ الغابرة، وعلى ثرى البقعة المباركة التي اختارها الله لتكون مثابة للناس وأمنا، وفي ظل أجواء مليئة بالجهل والظلم، وتحكم الغني بالفقير، وسيطرة القوي على الضعيف كان العالم كله يرقب ولادة جديدة تنتشل الأمة من وهدتها، وتطيح بالظلم والطغيان لتضع الأمور في نصابها وتعيد للإنسانية كرامتها وترتفع بالبشرية من حياة الذل والضياع متطلعة بها إلى حياة العزة والمجد.
وسط هذه الأجواء الملبدة بغيوم الجهل والشرك والوثنية كانت الولادة المرتقبة، فانتبهت مكة على إيقاع صوت الحق ينطلق من بين أزقتها، وأفاقت تلك المدينة المقدسة الوادعة على أنغام الترحاب بالوليد اليتيم الذي لم يكن يخطر ببال أحد أنه سيكون منقذا لأمة ومؤسسا لحضارة ومعلما للبشرية وقائدا لركب الإيمان والتوحيد.
إنه في صبيحة الثاني عشر من ربيع الأول كان العالم على موعد مع العلم والفضيلة والحضارة التي انطوت جميعها فتمثلت بالميلاد الميمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت كانت فيه البشرية بأمس الحاجة إلى تصحيح الأفكار وبناء العقائد وبرمجة الرؤى والتوجهات، بحيث أصبح ذلك الميلاد علامة مضيئة في التاريخ الإنساني ليس للمسلمين فحسب وإنما للإنسانية جمعاء على اختلاف مللها وتعدد نحلها، ويؤكد هذا المعنى ما أشار إليه أحد الشعراء المسيحيين بقوله:
أمحمد والمجد بعض صفاته مجّدت في تعليمك الأديانا
بعث الجهاد لدن بعثت وجردت أسياف صحبك تفتح البلدانا
رفعت ذكر الله في أمية وثنية ونفحتها الإيمانا
مرحا لأمي يعلم سفره نبغاء يعرب حكمة وبيانا
إني مسيحي أحب محمدا وأراه في فلك العلا عنوانا
لم يكن ميلاد محمد بن عبد الله العربي القرشي حدثا تاريخيا عابرا يمر عليه المؤرخون مرورا وإنما مثّل من خلال نبوته ورسالته أبرز دعوات الإصلاح والتربية في دنيا البشرية على الإطلاق، فقد استطاع أن يجعل من جزيرة العرب مصدر إشعاع فكري وثقافي وحضاري، قدمت الأمة من خلاله للعالم صياغة روحية ومادية حملت بين طياتها معالم البعد الرسالي لدعوة الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة، حيث تمكن محمد «صلى الله عليه وسلم» أن يتبوأ قمة الهرم ليكون على رأس المصلحين الذين كان لهم أثر بارز في توجيه البشرية نحو الفضيلة والرشاد، وفي هذا يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
المصلحون أصابع جمعت يدا هي أنت بل أنت اليد العصماء
ففي ميدان الإصلاح العقائدي والفكري كان لمحمد «صلى الله عليه وسلم» الفضل الكبير في ترسيخ معالم عقيدة التوحيد التي تعني إفراد العبودية لله تعالى ونبذ الشرك والوثنية والإطاحة بعبادة الأصنام لتخليص الفكر البشري من سفاهات العقائد الباطلة والترفع به عن عبادة البشر أو الحجر:
بك يا ابن عبد الله قامت سمحة للحق من ملل الهدى غراء
بنيت على التوحيد وهو حقيقة نادى بها سقراط والحكماء
وفي ميدان الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي كان لمحمد «صلى الله عليه وسلم» الباع الطويل في بناء نظرية اقتصادية ترعى الفقراء وتهتم بشؤونهم وتحافظ على حقوقهم من أن يتعدى عليها المتنفذون وأصحاب رءوس الأموال، كما كان له الفضل الكبير في تحقيق العدالة والمساواة بعيدا عن التمايز الطبقي أو التفاوت الاجتماعي:
جاءت فوحّدت الزكاة سبيله حتى التقى الكرماء والبخلاء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في حق الحياة سواء
فلو أن إنسانا تخيّر ملّة ما اختار إلا دينَك الفقراء
أما السياسة والقيادة عند محمد «صلى الله عليه وسلم» فلها نمط آخر وصيغة متقدمة لم يستطع العالم الذي يعيش اليوم أوج حضارته وقمة تقدمه الحضاري أن يصل إلى ذلك النهج السوي من حيث الوضوح في الطرح والصدق في التعامل والأمانة في العهود والعدل في الحكم، فمزج بذلك السياسة بالأخلاق والقيادة بالرحمة والإمارة بالمساواة، فتحقق بذلك حلم الفلاسفة القدماء وآمال المفكرين الحكماء:
والدين يسر والخلافة بيعة والأمر شورى والحقوق قضاء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء(7/120)
وعلى أساس هذه الثوابت شيّد «محمد النبي والرسول» قواعد حضارة عربية إسلامية، وبنى مجداً وعزاً وعلماً لا يزال العالم ينهل منه ويفيد من طروحاته ويرجع إليه عند اشتداد الأزمات واحتلاك الخطوب، فالمصدر رباني إلهي، والصياغة محمدية نبوية، وآلية التطبيق عربية إسلامية عاش العالم في ضلالها ردحا طويلا من الزمن ينعم بالأمن والأمان والخير والسلام، فلا ظلم ولا طغيان، ولا انتهاك ولا عدوان، الجميع تحت مظلة القانون سواسية، فكلكم لآدم وآدم من تراب، فلا ميزة لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولا فرق بين مسلم أو يهودي أو نصراني من حيث الحقوق والواجبات، فلهم مالنا وعليهم ما علينا، ومحمد يقول: من آذى ذميا فقد آذاني، ويقول: إنه قد أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له، وهكذا قدم «محمد» برنامج عمل وصياغة قانونية لدولة العدل والتسامح والمساواة قبل أن يعرف العالم بوادر النهضة الحديثة وقبل أن تبرز طلائع الثورة الفرنسية التي يفخر الغرب بها وبطروحاتها حتى كان ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم ميلاد أمة بكاملها شادت حضارة وأقامت دولة ونشرت في ربوع العالم العلم والمعرفة.
إذا كانت هذه هي المعاني السامية التي قدمها محمد للعالم كافة وللعرب والمسلمين خاصة، فإن الأمة اليوم مطالبة ببرمجتها على أرض الواقع وتقديمها كحلول ناجعة للخلاص من حالة الضياع والتشرذم الذي آلت إليه أحوالها في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإذا كان العامة من أبناء الأمة ملتزمين بالكثير من هذه المفاهيم والمعاني الكبيرة في علاقاتهم الدينية والأخلاقية، فإن خاصتها من المثقفين والسياسيين وأصحاب القرار يحتاجون إلى مراجعة حثيثة لأنفسهم ولخطواتهم ولقراراتهم لتأتي متفقة مع الإرث الحضاري الذي خلفه محمد بن عبد الله لهذه الأمة ولتحظى بالمكانة السامية التي حظي بها أسلافنا يوم سادوا العالم وقدموا له أفضل برامج الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وإلى أن يتحقق ذلك فإن أولي الأمر في هذه الأمة وعلماءها ومثقفيها مطالبون بجهد كبير وسعي حثيث لتصحيح علاقاتهم مع الله أولا ومع شعوبهم ثانيا عن طريق الحوار الهادف البناء والمرونة في الطرح والتعامل والمشاركة الحقيقية لشعوبهم في آمالهم وآلامهم ليكونوا جزءا من الأمة وليس في أبراج عالية بعيدة عنها
---------------------------
21. ... تعريف البدعة لغة وشرعًا
تعريف البدعة لغة وشرعًا
البدعة لغة: الشيء المخترع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]، ومنه قول عمر رضي الله عنه: (نعمت البدعة)([1])، وقول الشافعيّ: "البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنّة فهو مذموم"([2]).
قال ابن رجب: "وأمّا ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنّما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لمّا جمع النّاس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك، فقال: (نعمت البدعة هذه)"([3]).
والتعب والكلال ومنه أنّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أبدع بي فاحملني ([4])، فقال: ((ما عندي)) فقال رجل: يا رسول الله! أنا أدّله على من يحمله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله)) ([5]).
والبدعة شرعًا: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعيّة، يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى([6]).
(طريقة في الدين) الطريقة والطريق السبيل، وقيَّدت بالدين لأنَّها فيه تُخترع، وإليه يضيفها صاحبُها.
(مخترعة) أي طريقة ابتدعت على غير مثال سابق.
(تضاهي الشرعيّة) يعني: أنَّها تشابه الطريقة الشرعيَّة من غير أن تكون في الحقيقة كذلك؛ من التزام كيفيَّات وهيئات معيَّنة.
(يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى)؛ لأنّ أصل الدخول فيها يحثّ على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك([7]).
قال ابن رجب: "فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين منه بريء"([8]).
وقال: "والمراد بالبدعة: ما أحدث ممّا لا أصل له في الشريعة يدل عليه، فأمّا ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة"([9]).
قال ابن حجر: "والمراد بقوله: ((كل بدعة ضلالة)) ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام"([10]).
مقارنة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي للبدعة:
المعنى اللغوي أعمّ من المعنى الشرعي، فالعلاقة بينهما العموم والخصوص المطلق؛ إذ كل بدعة في الشرع يطلق عليها لغة أنها بدعة، وليس كل ما يطلق عليه في اللغة أنه بدعةٌ بدعةً في الشرع.(7/121)
والبدعة في الشرع ملازمة لصفة الضلالة؛ للحديث الوارد: ((كل بدعة ضلالة))([11])، وأما البدعة بمعناها اللغوي فليست كلها ملازمة لوصف الضلالة.
----------------
الهوامش:
([1]) أخرجه البخاري في صحيحه (2010).
([2]) انظر: فتح الباري (13/253).
([3]) جامع العلوم والحكم (2/128).
([4] ) جامع العلوم والحكم (2/128).
([5]) أخرجه مسلم (1893).
([6]) الاعتصام (1/37).
([7]) انظر: علم أصول البدع لعلي حسن (ص 24-25).
([8]) جامع العلوم والحكم (1/128).
([9]) جامع العلوم والحكم (2/127)
([10]) فتح الباري (13/254).
([11]) تقدم تخريجه (ص 1).
--------------------------
22. ... ملحقات بموضوع المولد النبوي
أوّل احتفال عُمِل لمولد للنبيّ صلى الله عليه وسلم:
قال المقريزي: "ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادًا ومواسم تتسع بها أحوال الرعيّة وتكثر نعمهم؛ كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعيادٌ ومواسمُ، وهي موسم رأس السنّة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه...) إلى آخر سرده لتلك الأعياد والمواسم([1]). وقد ذكر ذلك أيضًا القلقشندي في صبح الأعشى([2]).
وأكَّد هذه النسبة إلى الفاطميين من المعاصرين العلامة محمد بخيت المطيعي الحنفي مفتي الديار المصرية (المتوفى سنة 1354هـ)، بل ذكر أنّ أوّل من أحدثها بالتحديد منهم المعز لدين الله الفاطمي([3]).
واتفق العلامة محمد بخيت المطيعي الحنفي مع الأستاذ علي محفوظ على أنَّ الملك المظفر أبا سعيد إنما أحدث المولد النبوي بمدينة إربل في القرن السابع بعد الفاطميين([4]).
وهؤلاء الفاطميّون لم يعترف بنسبهم إلى أهل البيت أحد من أهل العلم الثقات، بل ألَّفوا في الطعن والقدح فيهم الكتب والمحاضر، وشهدوا عليهم بالإلحاد والزندقة والإباحيّة. قال الباقلاني: "هم قوم يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض"([5]).
وكانوا يُحدِثون في هذه الاحتفالات أمورًا شنيعة ذكرها المقريزي في خططه عقّب عليها العلامة محمد بخيت المطيعي بقوله: "وأنت إذا علمت ما كان يعمله الفاطميّون في المولد النبوي جزمت بأنّه لا يمكن أن يحكم عليه بالحلّ"([6]).
فهذا الاحتفال لا شكّ في أنّه محدث بعد القرون الثلاثة، وأنّ الذين أحدثوه هم من أخبث الفرق التي انتسبت إلى الإسلام إن لم تكن أخبثها.
قاموا على هذه الاحتفالات بُغية التأثير على العامة المحرومين، ظنًا منهم أنّ هذه الموالد ستؤكد نسبهم المزعوم، فوسعوا على الناس فيها، وصرفوا الأموال الطائلة عليها، فأقبل النّاس على تلك الموائد العظيمة التي كانت تُعَدُّ لهم، وصاروا ينتظرونها كلّ عام بنفس مستشرفة، وهكذا توالت السنوات، وتعارف الناس عليها؛ حتى صارت عقيدة يموت عليها الكبير، وينشأ عليها الصغير، ثم انتهت دولة بني عبيد ولكن الاحتفال بها استمر، وصار لها سلطان على العلماء لجريان عمل الناس عليها.
هل الحق يعرف بالرجال؟
إنَّ الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يعرفون بالحق، إنّ الحق مرتبط بالدليل، ولا تعلق له بذوات الخلق قلة أو كثرة، وهذا هو المذهب الحق الذي مشى عليه السلف الصالح، فلم يكن الحق عندهم يجري على لسان أحد غير النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقرّون إلا ما دلّ عليه الدليل.
يقول مالك بن أنس وهو يشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم: "كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر"([7])،وأخبر أبو حنيفة أن الحق لا يتعلق به فقال: "حرامٌ على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي؛ فإننا بشرٌ، نقول القول اليوم، ونرجع عنه غدًا"([8]).
وقال الشافعي: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"([9])، وقال: "أجمع المسلمون على أنَّ من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد"([10]).
وقال أحمد: "لا تقلدني، ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي والثوري، وخذ من حيث أخذوا"([11]).
وعليه؛ فما أعظم خيبة من يأتي إلى مجموعِ كلامٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية، الإمام الذي قمع الله به البدع والمحدثات، ويُلفِّق منه كلامًا يوهم به عامة الناس أن ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى يقول بمشروعية المولد ظنًا منه أنّ القائلين ببدعية المولد سيتركون قولهم؛ لقول شيخ الإسلام لكونه معظمًا عندهم.(7/122)
كالذي صنعه صاحب رسالة (حول الاحتفال) حينما عنون فيها لفصل بعنوان: رأي ابن تيمية في المولد، ثم ساق فيه كلامًا لابن تيمية بتر فيه أوَّله وآخره، لأنها قاضية على بطلان دعوته، ونصّ كلام ابن تيمية فيه كما نقله في رسالته "قد يثاب بعض الناس على فعل المولد، وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع. ثم قال: واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه أيضًا شر من بدعة وغيرها، فيكون ذلك العمل شرًا بالنسبة إلى الإعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين. هذا وقد ابتلي به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة، فعليك هنا بأدبين:
أحدهما: أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنًا وظاهرًا في خاصتك وخاصة من يطيعك، واعرف المعروف وأنكر المنكر.
الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا رأيت من يعمل هذا، ولا يتركه إلا إلى شرٍّ منه، فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه, ولكن إذا كان البدعة نوع من الخير فعوِّض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان إذ النفوس لا تترك شيئًا إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرًا إلا إلى مثله أو إلى خير منه، ثم قال: فتعظيم المولد، واتخاذه موسمًا قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمته لك؛ إنه يحسن من الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، ونحو ذلك، فقال: دع، فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب أو كما قال.
مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة، وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجديد الورق والخط، وليس مقصود أحمد هذا، وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضًا مفسدة كره لأجلها" ([12]).
ولنا مع هذا النقل الذي نقله عن شيخ الإسلام وقفتان:
الأولى: عدم الأمانة في النقل، وهذه تتمثل في نقطتين:
1 ـ إضافة جمل لم يقلها شيخ الإسلام مثل قوله في أول النقل: "قد يثاب بعض الناس على فعل المولد" فهذا الكلام غير موجود في النقل الذي نقله عن شيخ الإسلام.
2 ـ حذفه كلام شيخ الإسلام الذي هو نصٌ في بدعية المولد، فعند قوله في أول النقل: "والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع" بتر الناقل الكلام الذي بعده وهذا نصه: "من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشدَّ محبَّة لرسول الله وتعظيمًا له منّا، وهم على الخير أحرص وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان"([13]).
فهذا الذي حذفه صاحب رسالة (حول الاحتفال) هو رأي شيخ الإسلام في المولد، وأنها بدعة محدثة.
الثانية: قول شيخ الإسلام: "فتعظيم المولد واتخاذه موسمًا قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمته".
إنَّ البدعة لو كانت شرًا محضًا لما قبلها الناس، ولما انتشرت إلا عند المبطلين الزنادقة، ولكنها تروج ويقبلها النّاس لما فيها من الحق الذي اختلط بالباطل، فشيخ الإسلام يقول: (أن من يفعل قد يثاب) و(قد) هنا على بابها للتقليل فهو قد يثاب على ما في بدعة المولد من الأمور المشروعة كإطعام الطعام، وعلى ما في قلبه من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وقصد حسن، ولكنه أيضًا آثم بإحداثه هذا الأمر، وهذه المسألة مسألة أنه قد يكون مثابًا آثمًا في آن واحد لانفكاك الجهة لها نظائر، كالمصلي في الأرض المغصوبة.
والبدع والمحدثات ليست طريقًا لإظهار الحب والتعظيم، بل الحب والتعظيم كل التعظيم إنما يكون في الاتباع وهو الذي تحقق كماله لدى الصحابة الذين لم يزيدوا على هدي النبي صلى الله عليه وسلم قدر أنملة، فكانوا أكمل الناس محبة وتعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم.
هل المولد يخلو من المنكرات؟(7/123)
إن المولد لا يخلو أبدًا من المنكرات، قال السيد محمد رشيد رضا: "فالموالد أسواق الفسوق، فيها ضيام للعواهر، وخانات للخمور، ومراقص يجتمع فيها الرجال لمشاهدة الراقصات الكاسيات العاريات، ومواضع أخرى لضروب من الفحش في القول والفعل يقصد بها إضحاك الناس، وبعض هذه الموالد يكون في المقابر، ويرى كبار مشايخ الأزهر يتخطون هذا كله لحضور موائد الأغنياء في السرادقات والقباب العظيمة، التي يضربونها وينصبون فيها الموائد المرفوعة، ويوقدون الشموع الكثيرة احتفالاً باسم صاحب المولد، ويهنئ بعضهم بعضًا بهذا العمل الشريف في عرفهم"([14])، وإن خلا من اختلاط الرجال بالنساء، وارتكاب المحرمات، وكثرة الإسراف فإنه لا يخلو من أعظم المنكرات، وهو الشرك بالله، واتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالإخلال بالتبليغ، والشريعة بالقصور والنقص، فإذا قمنا باستعراض سريع للكتب المشهورة العمد نجد أنها لا تخلو أبدًا من الخرافات والاعتقادات الفاسدة والأحاديث الموضوعة الباطلة.
خذ مثلاً مولد ابن الديبع الذي قام على طبعه صاحب (حول الاحتفال) جاء فيه كما ينقل الشيخ محمد رشيد رضا: "فسبحانه تعالى من ملك، أوجد نور نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من نوره، قبل أن يخلق آدم من الطين اللازب، وعرض فخره على الأشياء وقال: هذا سيد الأنبياء، وأجل الأصفياء، وأكرم الحبائب".
علق الشيخ محمد رشيد قائلاً: "فهذا كذب صريح لم يروه المحدثون"([15])، قال السخاوي منبهًا على ما في تلك الموالد: "أكثر ما بأيدي الوعاظ منه ـ أي مما يقرأ في المولد ـ كذب واختلاق، بل لا يزالون يولدون ما هو أقبح وأسمج مما لا تحل روايته ولا سماعه، بل يجب على من علم بطلانه إنكاره، والأمر بترك قراءته"([16]) ، وقال الشيخ محمد رشيد رضا: "لم نطَّلع على قصة من قصص المولد النبوي الشريف إلا ورأينا فيها كثيرًا من الأخبار الموضوعة"([17]).
وفيما يقرأ أيضًا تلك الليلة الشرك الصراح، كقصيدة البوصيري المشتملة على الشرك الأكبر، كقوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلَّة القدم
فإنّ من جودك الدنيا وضرَّتها ومن علومك علم اللوح والقلم
ويقرأ أيضًا قول البكري:
ولذ به في كل ما ترتجي فإنه المأمن والمعقل
وناده إن أزمة أنشبت أظفارها واستحكم المعضل
يا أكرم الخلق على ربه وخير من فيهم به يسأل
قد مسني الكرب وكم مرة فرَّجت كربًا بعضه يعضل
عجل بإذهاب الذي أشتكي فإن توقفت فمن ذا أسأل
وفي المولد الذي ألَّفه ابن حجر الهيتمي من الشرك قوله: "ولا غاية لاستيعابه - أي خصائصه صلى الله عليه وسلم - وسيرة سيدنا ومولانا وذخرنا وملاذنا وملجئنا وممدنا ومنقذنا ومكملنا وناصحنا"([18])، فإذا كان صلى الله عليه وسلم هو الملاذ والملجأ فأين الله؟!
أما المنكرات الأخلاقية والاجتماعية فحدث ولا حرج، ودعوى أنه يمكن إقامة مولد خال منها ليس لها حقيقة. وهو الحق الذي شهد به أصحاب الموالد أنفسهم حيث قال ابن حجر الهيثمي في الموالد التي تفعل في زمانه: "أكثرها مشتمل على خير؛ كصدقة وذكر، وصلاة وسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه، وعلى شر، بل شرور لو لم يكن منها إلاَّ رؤية النساء للرجال الأجانب، وبعضها ليس فيه شر، لكنه قليل ونادر"([19]).
ومن طريف ما يذكر من منكرات هذا المولد أن السيوطي ذكر في كتابه الحاوي: أن الملك المظفر مبتدع بدعة المولد([20]) قد أعد سماطًا في أحد الموالد التي يقيمها، وضع عليه خمسة آلاف رأس غنم مشوي، وعشرة آلاف دجاجة، ومائة فرس، ومائة ألف زبديَّة، وثلاثين ألف صحن حلوى، وأنه أقام سماعًا للصوفية من الظهر إلى الفجر، وكان يرقص فيه بنفسه مع الراقصين([21]).
قال الشيخ أبو بكر الجزائري: "فكيف تحيا أمة ملوكها دراويش يرقصون في حفلات الباطل؟! وإنا لله وإنا إليه راجعون"([22]).
القيام في المولد:
القيام الذي يكون في المولد يسمّى بـ(الفزة) ومرادهم منه القيام بسرعة، وذلك عند ورود ذكر ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وخروجه إلى الدنيا، ويسمّى عندهم أيضاً بـ (الحضرة)؛ لأنّ كثيرًا منهم يزعم أنّ روح النبي صلى الله عليه وسلم تحضر عندها، ويقولون: (حضر، حضر)، ويتركون النافذة مفتوحة لتدخل روح النبي صلى الله عليه وسلم منها، فجمعوا بين البدعة وبين إساءة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ يجعلونه مخالفاً لما أمر الله به في كتابه قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا} [البقرة:189].
وهذا القيام قد استحبَّه صاحب رسالة (حول الاحتفال)([23]) مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حال حياته نهى عنه وكرهه من الصحابة، فكيف يقع استحبابه عليه في بدعة الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم.(7/124)
قال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئًا على عصا، فقمنا إليه، فقال: ((لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضًا))([24]).
وقال أنس رضي الله عنه: (ما كان شخص أحب إليهم من النبي صلى الله عليه وسلم،وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك)([25]).
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد كره القيام له، ونهى عنه وأخبر أنه من فعل الأعاجم، فكيف بالقيام عند ذكر ولادته وخروجه إلى الدنيا؟! فهذا أولى بالنهي لجمعه بين البدعة والتشبه بالأعاجم.
والقوم لا يقفون عند هذا الحد، بل يزعمون أن هذا القيام عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم لأجل أن روح النبي تحضر في ذلك الوقت، وأنه يصافح المجتمعين في المجلس، وهو اعتقاد ليس عليه كتاب ولا سنة ، ولا أثر عن خير القرون.
الأشعار الشركية التي تتلى في المولد:
إن الأشعار التي فيها الشرك الصراح؛ لا يرى القوم في روايتِها شيئًا من ذلك؛ لأنّهم يرون أنّ الكاف في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم)) للتمثيل، أي: لا تقولوا فيَّ قول النصارى في عيسى، وقولوا ما سوى ذلك؛ لذلك يقول البوصيري:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكم
فإن فضل رسول الله ليس له حدٌّ فيعرب عنه ناطق بنعم
والصحيح أن الكافَ في الحديث للتعليل وليست للتشبيه كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً} [البقرة:151]، وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة:191]، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينهى أمته عن إطرائه الموصل إلى الغلو؛ لأجل ما حصل للنصارى، فقالوا: عيسى ابن الله.
ويبين ذلك ويوضحه ما حكاه عبد الله بن الشخير، قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: ((السيد هو الله تبارك وتعالى)). قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً، فقال: ((قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان))([26]).
فهم يتقربون إلى الله بالشرك، ويمدحون الرسول صلى الله عليه وسلم بما حارب عليه المشركين، فما أشدّ ضلالهم وأبعدهم عن الهُدى.
أمور لا تشترط في البدعة:
1. لا يشترط في البدعة ألا يوجد لها بعض الفوائد، بل قد توجد لبعض البدع بعض الفوائد؛ إذ ليست البدع من قبيل الباطل الخالص الذي لا حق فيه، ولا من الشر المحض الذي لا خير فيه.
قال ابن تيمية: "لأنّ جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شرّ راجح على ما فيها من الخير؛ إذ لو كان خيرها راجحًا لما أهملته الشريعة، فنحن نستدل بكونها بدعة على أنّ إثمها أكثر من نفعها، وذلك هو الموجب للنهي، وأقول إنّ إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض؛ لاجتهاد أو غيره"([27]).
2. لا يشترط في البدعة أن تفعل على وجه المداومة والتكرار، بل إنّ الشيء قد يفعل مرّة واحدة دون تكرار ويكون بدعة، وذلك كالتقرب إلى الله بفعل المعاصي أو بالعادات.
3. لا يشترط في البدعة أن تفعل مع قصد القربة والتعبد، بل إنّ الشيء ربما كان بدعة دون هذا القصد، فلا يشترط ـ مثلاً ـ قصد التعبد في البدع الحاصلة من جهة الخروج على نظام الدين؛ كالتشبه بالكافرين، ولا في الذرائع المفضية إلى البدعة، إلا أنّ غالب البدع ـ خاصة في باب العبادات ـ تجري من جهة قصد القربة.
4. لا يشترط في البدعة أن يوصف فاعلها بسوء القصد وفساد النية، بل قد يكون المبتدع مريدًا للخير، ومع ذلك فعمله يوصف بأنه بدعة ضلالة، كما ورد ذلك في أثر ابن مسعود رضي الله عنه، قال: (وكم من مريد للخير لن يصيبه)([28]).
5. لا يشترط في البدعة أن تخلو من دلالة الأدلة العامّة عليها، بل قد تدل الأدلة العامة المطلقة عليها من جهة العموم، ولا يكون ذلك دليلاً على مشروعيتها من جهة الخصوص؛ إذ إنّ ما شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعًا بوصف الخصوص والتقييد، كقوله تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب: 41]، فإنه لا يقتضي بعمومه مشروعية الأذان للعيدين على وجه الخصوص.
الآثار الناتجة عن بدعة المولد:
1. التعبد لله تعالى بما لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما حكم بأنّه ضلالة.
2. القدح في كمال الشريعة الإسلامية، وردّ قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3].
3. الطعن في أمانة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يؤدِ الأمانة، ولم ينصح الأمة.
4. تصيير هذا اليوم عيدًا يحرم فيه الصوم ويُمنع، كما أفتى بذلك ابن عبَّاد وابن عاشر، كما بيَّنه الحطَّاب في مواهب الجليل (2/406).(7/125)
وقال أحمد بن بابا: (قال ابن عباد في رسائله: كنت قدمًا خرجت يوم مولده صلى الله عليه وسلم إلى ساحل البحر، فوجدت هناك السيد الحاج ابن عاشر رحمه الله وجماعة من أصحابه معهم طعام يأكلونه، فأراد منّي الآكل، فقلت: إني صائم، فنظر إلى السيد الحاج نظرة منكرة، وقال: هذا يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصوم، كالعيد، فتأملت مقاله فوجدته حقًا، وكأنه أيقظني من النوم) ([29]) .
5. الطعن في محبة الصحابة رضي الله عنهم له صلى الله عليه وسلم، حيث لم يقيموا له مولداً.
6. التشبه بالنصارى في احتفالهم بعيد ميلاد عيسى عليه السلام، جاء في التبر المسبوك في ذيل السلوك للسخاوي([30]) في معرض تقريره أن الاحتفال يوافق اليوم الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا كان أهل الصليب اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيدًا أكبر، فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر".
فتعقبه الملا علي قاري في المورد الروي في المولد النبوي بقوله: "مما يرد عليه أنّا أُمِرنا بمخالفة أهل الكتاب"([31]).
7. اعتقاد ليلة مولده صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر، وهو ما قرره القسطلاني([32])، فردَّ عليه الملا علي قاري بقوله: "أغرب القسطلاني، وقال: ليلة مولده صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة ذكرها، حيث لا يفيد الإطلاق مع أن الأفضلية ليست إلا لكون العبادة فيها أفضل بشهادة النص القرآني، {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]، ولا تعرف هذه الأفضلية لليلة مولده صلى الله عليه وسلم، لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا عن أحد من علماء الأمة"([33]).
8. الإسراف في المولد النبوي إسرافًا شديدًا جدًا، حتى قال محمد بخيت المطيعي الحنفي مفتي الديار المصرية: "وأنت إذا علمت ما كان يعمله الفاطميُّون ومظفر الدين في المولد النبوي جزمت بأنه لا يمكن أن يحكم عليه بالحل"([34]).
9. ما اشتملت عليه هذه البدعة من المنكرات الأخلاقية، مثل:
أ- استعمال الأغاني وآلات الطرب، قال ابن الحاج: "مضوا في ذلك على العوائد الذميمة في كونهم يشتغلون في أكثر الأزمنة التي فضلها الله، وعظمها ببدع ومحرمات"([35]).
يا عصبة ما ضرَّ أمَّة أحمد وسعى على إفسادها إلاَّ هي
طار ومزمارٌ ونغمة شادنٍ أرأيت قط عبادةً بملاهي؟!
ب- قلة احترام كتاب الله؛ فإنهم يجمعون بينه وبين الأغاني.
ج- الافتتان بالمردان؛ فإن الذي يغني في الاحتفالات ربما يكون شابًا جميل الصورة نظيف الكسوة حسن الهيئة.
د- اختلاط الرجال بالنساء.
10. تصيير المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، بسبب وقوعه في هذه الليلة.
11. رواية الأحاديث الموضوعة المنكرة، مما يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار))([36])، وقوله: ((من حدَّث عني بحديث يُرى أنّه كذب فهو أحد الكاذبين)) ([37]).
12. اعتقادهم أن في هذا اليوم ساعة لا يوافقها عبدٌ بالدعاء إلا أجيبت دعوته، قياسًا على يوم الجمعة.
13. تلاوة الأشعار في مدح النبي صلى الله عليه وسلم على ما فيها من معانٍ شركية صارخة.
مراجع للتوسع في الموضوع:
1. المورد في عمل المولد للإمام أبي حفص تاج الدين الفاكهانِي.
2. حكم الاحتفال بالمولد النبوي، والردّ على من أجازه للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ.
3. حكم الاحتفال بالمولد النبوي للشيخ عبد العزيز بن باز.
4. الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن العلوي، وبيان أخطائهم في المولد النبوي للشيخ حمود بن عبد الله التويجري.
5. الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف للشيخ أبي بكر الجزائري.
6. القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل للشيخ إسماعيل الأنصاري.
7. الاحتفال بالمولد بين الاتباع والابتداع لمحمد بن شقير البخاري([38]).
8. البدع الحوليَّة لعبد الله بن عبد العزيز التويجري.
9. اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام.
10. الاعتصام للشاطبي.
11. الإبداع في مضار الابتداع لعلي محفوظ.
12. أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنّة والبدعة من الأحكام لمحمد بخيت المطيعي الحنفي.
13. قواعد معرفة البدعة لمحمد بن حسين الجيزانِي.
14. حوار مع المالكي للشيخ عبد الله بن منيع.
0000000000000000
الهوامش:
([1]) الخطط (1/490).
([2]) (3/498).
([3]) انظر: أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام لمحمد بخيت (ص44، 45).
([4]) انظر أحسن الكلام (ص 52)، والإبداع في مضار الابتداع لعلي محفوظ (ص 126).
([5]) نقلاً عن ابن كثير في البداية والنهاية (11/387).
([6]) أحسن الكلام (ص 52).
([7]) انظر: منهاج السنة النبويّة (3/503).
([8]) تاريخ ابن معين، وانظر: صفة صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم للألباني (ص 46).
([9]) انظر: المجموع (1/136).
([10]) انظر: إعلام الموقعين (1/7).
([11]) انظر: إعلام الموقعين (2/182).
([12]) حول الاحتفال بالمولد المولد النبوي الشريف (ص 19ـ 21)، وأحال على الاقتضاء.(7/126)
([13]) الاقتضاء (1/294).
([14]) تفسير المنار (2/74-75).
([15]) انظر: فتاوى السيد محمد رشيد رضا (2/464).
([16]) نقلاً عن الملا علي قاري في المورد الروي (ص 32).
([17]) فتاوى السيد محمد رشيد رضا (4/1243).
([18]) مولد النبي صلى الله عليه وسلم، لابن حجر الهيتمي، (ص 33).
([19]) الفتاوى الحديثية (ص 109).
([20]) أخذها عن حكام بني عبيد.
([21]) انظر: مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي (681 ـ 682).
([22]) الإنصاف (ص 362) مطبوعة ضمن مجموعة رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي.
([23]) حول الاحتفال (ص 24-31).
([24]) أخرجه أحمد (21677)، وأبو داود (5230).
([25]) أخرجه أحمد (11936).
([26]) رواه أبو داود (4806)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4021).
([27]) الاقتضاء (1/290).
([28]) أخرجه الدارمي (1/68 ـ 69).
([29]) الديباج المذهب في أعيان المذهب (ص 71).
([30]) (ص 14).
([31]) (ص 29 ـ 30).
([32]) المواهب اللدنية (1/135، 136).
([33]) المورد الروي (ص 97).
([34]) سبقت الإشارة إليه.
([35]) انظر: القول الفصل (ص 654).
([36]) أخرجه البخاري (107)، ومسلم (2).
([37]) أخرجه مسلم في المقدمة (ص 9).
([38]) هذه الرسائل السبع طبعت مجموعة في مجلدين بدار العاصمة.
---------------------------
23. ... حوار مع شيخ الإسلام عن بدعية الاحتفال بالمولد النبوي
حوار مع شيخ الإسلام عن بدعية الاحتفال بالمولد النبوي
راشد بن عبد الرحمن البداح
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فإننا في هذه السطور تنشرح منا الصدور، لأننا أمام إمام همام، ومجاهد ببنانه وسنانه، قد قاتل أعداء الله وجاهد في الله حق جهاده بسلاحين حملهما بيده، أحدهم: السيف والرمح، وثانيهما القرطاس القلم، فكأن أحمد بن الحسين عناه بقوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
إنه شيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية الحراني.
وما يعنينا هنا هو أمر منافحته عن دين الله بقلمه ولسانه، ومناظرته ومقابلته للطوائف الضالة والمبتدعة، وقوة اطلاعه على مذاهب القوم، وقوة حجته، وتمكنه من الرد الرصين الذي يزهق معه الباطل.
ولقد قال فيه ابن الزملكاني إمام الشافعية في زمن ابن تيمية:
( كانت الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يُعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشرع أو غيرها إلا فاق فيه أهله).
ولنأخذ نموذجاً واحداً من قوة حجته وسرعه بديهته، واستحضار جوابه، حين يكون الموقف مستدعياً لذلك: جاء إنسان إلى الشيخ يوماً بخبز يابس فقال: يا سيدي قد جِبتُ هذا من صماط الخليل على اسمك فقال له: ( مالي به حاجة، أنا حاجتي إلى الدين الذي عليه الخليل، ومتابعة ملة الخليل الذي أمر الله أمه محمد بمتابعته، مالي حاجة بهذا الخبز، والخليل ما عمل هذا ! ولا أمر بهذا العدس ! ولا كان يطعم ويضيف غير اللحم، قال تعالى ( فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين )، وأما العدس فإنه شهوة اليهود وقد سئل عبد الله بن المبارك رضي الله عنه - فقيل له: جاء في الحديث أن العدس قدَّسه سبعون نبي، فقال: ( لن ولا نصف نبي) ( ص 139) من الجامع لسيرة ابن تيمية
ومواضع العجب في هذا الموقف القوي الذكي ما يلي:
1- قوله: أنا حاجتي إلى الدين الذي عليه الخليل ! لقوله تعالى (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) ( ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا).
2- قوله: والخليل ما عمل هذا لقوله تعالى ( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين )
3- قوله: وأما العدس فإنه شهوة اليهود، لقوله تعالى: (فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسه....)
4- قوله: ولا كان يطعم ويضيف غير اللحم، واستدلاله بقوله تعالى: (فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين)
5- إيراده لقول ابن المبارك ( لن، ولا نصف نبي) ليبين أن الحديث موضوع مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فهذه خمس حجج قابلة للزيادة من موقف يسير عابر لابن تيمية مع هذا الرجل الجاهل، فما بالك إذا استوفز واستعد للرد فسيكون - بلا شك - أكثر تمكناً وتنفيد.
وإن من البدع التي قام شيخ الإسلام بردِّها والاعتذار عما حصل من أهله، ما يسمى ببدعة الاحتفال بليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي يعتقد الجهال أنه يشرع الاحتفال به، وأنها توافق الليلة الثانية عشرة من ربيع الأول من كل سنة.
وقد صُغْتُ مقابلةً مع شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - فتصورت شيخ الإسلام جالساً على كرسي الإفتاء وهو بحرّان في الشام، وتحت كرسيه بعض الذين يحيون - بل يميتون - ليلة الثاني عشر من ربيع الأول، وتخيلت أنهم يسألونه أسئلة ويجيبهم عليه.(7/127)
علماً أنني ذكرت كلام شيخ الإسلام بنصه وفصِّه، ولم أغير منه شيئاً إلا ما استدعى الاختصار فقط وهو يسير، وإنما أنزلت على تقريرات شيخ الإسلام أسئلةً رأيتها تطابق ما قرره - رحمه الله تعالى -.
فما أسئلة أهل المولد النبوي، وما إجابات شيخ الإسلام المسددة الموفقة؟! فإلى ذلك اللقاء الحافل أذهب بكم وأترككم هناك مع المقدم للّقاء والمنسق له.
يبتدئ المقدم قائلاً: قد وردَتنا أسئلة كثيرة وشبهات من الذين يعتقدون سنية إحياء ليلة المولد النبوي، فنترككم أعزائي القراء ومع ما يطرحون من إشكالات واستفسارات.
س1: البدع التي يقع فيها الناس، ما سبب انتشارها وظهوره؟
أصل الضلال في أهل الأرض؛ إنما نشأ من هذين: إما اتخاذ دين لم يشرعه الله، أو تحريم ما لم يحرمه الله...فالأصل في العبادات: أن لا يشرع منها إلا ما شرع الله، والأصل في العادات: أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله، وهذه المواسم المحدثة؛ إنما نهى عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به(ص 369 )
س2: كيف تمنعوننا من إحياء ليلة المولد، وقد اعتدنا عليها في بلادنا وأفتى بها كثير من علمائنا وشارك فيها معظم عبادنا، فما ردّكم؟
المخصص هو الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع نصاً واستنباط، وأما عادة بعض البلاد أو أكثره، وقول كثير من العلماء أو العباد أو أكثرهم ونحو ذلك؛ فليس مما يصلح أن يكون معارضاً لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يعارض به.( ص 271 )
س3: نحن نسمع من مشايخنا أن ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ) ومادام أن ليلة المولد قد أجمع الناس عليها فهي إذاً أمر حسن، فما ردَّكم؟
ج: من اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليه، بناء على أن الأمة أقرَّتها ولم تنكره؛ فهو مخطئ في هذا الاعتقاد؛ فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة.ولا يجوز دعوى إجماع بلد أو بلدان من بلدان المسلمين فكيف بعمل طوائف منهم؟ !...
والاحتجاج بمثل هذه الحجج، والجواب عنها معلوم أنه ليس طريقة أهل العلم، لكن كثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس.( ص 271 + 272 )
س4: نعم ! نحن نقرأ أن ليلة المولد بدعة لم تفعل في عهد الصحابة رضي الله عنهم، لكنها بدعة حسنة؛ وليست قبيحة، فحينئذ لا ينهى عنه؟
ج: هَبْ أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح ! فهذا القدر لا يمنع أن يكون هذا الحديث(كل بدعة ضلالة) دالاً على قبح الجميع، لكن أكثر ما يقال: إنه أذا أثبت أن هذا حسن يكون مستثنى من العموم، وإلا فما الأصل أن كل بدعة ضلالة؟ ! ( ص 274 )
س5: هل يمكن أن تعطينا قاعدة منضبطة نقيس عليها هذه الأمر الذي تفتي بأنه بدعة وضلالة؟
جـ - كل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً لوكان مصلحة، ولم يفعل: أنه ليس بمصلحة.( ص 279)
س6: لو سلَّمنا يا إمام أن المولد النبوي بدعة، فما الضرر الحاصل من جراء ذلك؟
جـ - الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم بيق فيها فضل للسنن، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث..وفعل هذه البدع تناقض الاعتقادات الواجبة، وتُنازع الرسلَ ما جاءوا به عن الله، وأنها تورث نفاق، ولوكان نفاقاً ضعيف..فمن تدبر هذ: " علم يقيناً ما في حشو البدع من السموم المضعفة للإيمان.ولهذا قيل: إن البدع مشتقة من الكفر ( ص 281 و 289 )
س7: يا أيها الإمام: ولماذا نلام على فعلها وقد فعلها قوم كرام، وهم في الفضل والمكانة بالمقام الأرفع؟!
جـ - إذا فعلها قوم ذوو فضل؛ فقد تركها قوم في زمان هؤلاء معتقدين لكراهته، وأنكرها قوم كذلك.وهؤلاء التاركون والمنكرون إن لم يكونوا أفضل ممن فعله، فليسوا دونهم في الفضل.ولو فرضوا دونهم في الفضل، فتكون حينئذٍ قد تنازع فيها أولو الأمر؛ فترد إذاً إلى الله والرسول.وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها لا مع من رخص فيه، ثم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين مع هؤلاء التاركين المنكِرين.( ص 291 )
س8: لكن يا أيها الشيخ المبجل الموصوف بشيخ الإسلام: ألا ترى ما في إحياء هذه الليلة من المصالح والمنافع، ومنها كثرة الصلاة والسلام على رسول الله، وكثرة الصدقات على الفقراء، واجتماع كثير من المسلمين، ولقاء بعضهم ببعض، وغيرها من المصالح والمنافع؟
جـ - أما مافيها من المنفعة: فيعارضه ما فيها من مفاسد البدعة الراجحة، منها - مع ما تقدم - من المفسدة الاعتقادية والحالية -: أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن، حتى تجد كثيراً من العامة يحافظ عليها ما لا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس.( ص291 )
س9: إذ: هل نفهم من خلال كلامكم السابق كلِّه أن الذي يحيي هذه الليلة مأزور غير مأجور؟(7/128)
جـ - تعظيم المولد واتخاذه موسم، قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم؛ لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم..والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع ( ص 297 و 294 )
س10: إذاً لماذا تنكرون علينا هذا الإنكار، ولنا في عملنا بعض الأجر يا إمام؟
ج - أكثر هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع؛ مع مالهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يُرجى لهم به المثوبة: تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أُمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يُحلّي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه...
ويَحسن من بعض الناس ما يُستقبح من المؤمن المسدَّد، ولهذا (( قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك، فقال: دَعْهُ؛ فهذا أفضل ما أُنفق فيه الذهب )) أو كما قال، مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة...وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه مفسدة كره لأجله، فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا هذا الفساد الذي لا صلاح فيه.(ص297و296)
س11: هل يمكن أن توضح لنا - رحمك الله - كلامك الأخير: أهو موافقة لنا أم ماذا ؟
جـ - التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر، وجنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثير، فأما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل؛ بحيث تقدم عن التزاحم أعرف المعروفَين فتدعو إليه، وتنكر أنكر المنكَرَين، وترجح أقوى الدليلين؛ فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين....وهؤلاء خير ممن لا يعمل عملاً صالحاً مشروعاً ولا غير مشروع، أو من يكون عمله من جنس المحرم، كالكفر والكذب والخيانه والجهل.
س12: إذ: هل نحن أفضل أم الذين يعتقدون بدعية المولد النبوي؟
جـ- من تعبّد ببعض هذه العبادات المشتملة على نوع من الكراهة، كالوصال في الصيام..أو قصد إحياء ليالٍ لا خصوص له..؛ قد يكون حاله خيراً من حال البطّال الذي ليس فيه حرص على عبادة الله وطاعته، بل كثير من هؤلاء الذين ينكرون هذه الأشياء، زاهدون في جنس عبادة الله..لكن لا يمكنهم ذلك في المشروع، فيصرفون قوّتهم إلى هذه الأشياء، فهم بأحوالهم منكرون للمشروع وغير المشروع، وبأقوالهم لا يمكنهم إلا إنكار غير المشروع.
ومع هذ: فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر، ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له ظاهراً في الأمر بذلك المعروف، والنهي عن ذلك المنكر، ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين. ( ص 299 )
س13: لكن نرى من إخواننا الذين ينكرون علينا هذا الأمر نوعاً من الشدة والغلظة في الإنكار، فما وصيتكم لنا ولهم؟
جـ- هذا قد ابتلى به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة، فعليك هنا بأدبين: أحدهم: أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطناً وظاهراً في خاصتك وخاصة من يطيعك، واعرف المعروف وأنكر المنكر
الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدع إلى ترك منكر بفعل ماهو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضرّ من فعل ذلك المكروه، ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير؛ فعوِّض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان.إذ النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلا إلى مثله أو إلى خير منه.فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروه؛ فالتاركون أيضاً للسنن مذمومون..وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن..ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة..فتفطن لحقيقه الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد؛ بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند المزاحمة؛ فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل ( ص 296 - 298 ).
س14: هل معنى ما تقدم من تحذيركم من المولد، ألا نمدح الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نتذكر سيرته، ولا نجتمع على ذلك في أي ليلة من ليالي السنة؟
جـ- الاجتماع لصلاة تطوع، أو استماع قرآن، أو ذكر الله ونحو ذلك: إذا كان يُفعل ذلك أحياناً فهذا أحسن...فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع والشهور والأعوام، غير الاجتماعات المشروعة؛ فإن ذلك يضاهي الاجتماعات للصلوات الخمس وللجمعة والعيدين والحج، وذلك هو المبتدع المحدث. ففرق بين ما يتخذ سنة وعادة؛ فإن ذلك يضاهي المشروع..
عن الكوسج أنه قال لأبي عبد الله [الإمام أحمد]: يكره أن يجتمع القوم يدعون الله، ويرفعون أيديهم؟ قال: ما أكره للإخوان إذا لم يجتمعوا على عمد، إلا أن يكثروا)) وإنما معنى أن لا يكثروا: أن لا يتخذوها عادة حتى يكثروا.. فقيَّد أحمد الاجتماع على الدعاء بما إذا لم يُتخذ عادة..
فإذا أحدث اجتماع زائد على هذه الاجتماعات معتاد: كان ذلك مضاهاة لما شرعه الله وسنّه..وقد ذكرتُ فيما تقدم-: أنه يكره اعتياد عبادة في وقت إذا لم تجئ بها السنة، فكيف اعتياد مكان معين في وقت معين؟! ( ص 303و 304و 306 و 377 ).(7/129)
مقدم ومنسق اللقاء:
نشكر للإمام شيخ الإسلام ابن تيمية تفضله بهذا التبيين والتقعيد لهذه المسألة، والتي لم يدع بعدها شكاً لمرتاب يدّعي سُنِّيَّته، وإنما يخرج القارئ - بإذن الله - بأن إحياء ليلة المولد النبوي بدعة في الدين وضلالة يجب تركها وإنكارها والإنكار على من فعله.
فجزى الله شيخ الإسلام عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ورفع الله منزلته في عليين، وحشرنا في زمرته غير مغيرين ولا مبدلين ولا مبتدعين في الدين؛ بل متبعين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد
* ملحوظة مهمة: جميع ما نقلته عن شيخ الإسلام إنما هو موجود بنصه في كتاب الحافل العظيم: ((اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)) ط: الكتب العلمية ووضعت بعد كل نقل رقم الصفحة.
-----------------------------
24. ... المورد في حكم المولد للفاكهاني
للشيخ الإمام أبي حفص تاج الدين الفاكهاني رحمه الله . ت:734 هـ
الحمد لله الذي هدانا لا تباع سيد المرسلين ، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين ، ويسر لنا اقتفاء آثار السلف الصالحين ، حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين ، وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين .
أحمده على ما منَّ به من أنوار اليقين ، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، سيد الأولين والآخرين ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين ، صلاة دائمة إلى يوم الدين .
أما بعد : فقد تكرر سؤال جماعة من المُباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ، ويسمونه : المولد : هل له أصل في الشرع ؟ أو هو بدعة وحدث في الدين ؟
وقصدوا الجواب عن ذلك مٌبيَّناً ، والإيضاح عنه معيناً .
فقلت وبالله التوفيق : لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة ، الذين هم القدوة في الدين ، المتمسكون بآثار المتقدمين ، بل هو بِدعة أحدثها البطالون ، وشهوة نفسٍ اغتنى بها الأكالون ، بدليل أنَّا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا :
إما أن يكون واجباً ، أو مندوباً ، أو مباحاً ، أو مكروهاً ، أو محرماً .
وهو ليس بواجب إجماعاً ، ولا مندوباً ؛ لأن حقيقة المندوب : ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه ، وهذا لم يأذن فيه الشرع ، ولا فعله الصحابة ، ولا التابعون ولا العلماء المتدينون ـ فيما علمت ـ وهذا جوابي عنه بين يدي الله إن عنه سئلت .
ولا جائز أن يكون مباحاً ؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين .
فلم يبق إلا أن يكون مكروهاً ، أو حراماً ، وحينئذٍ يكون الكلام فيه في فصلين ، والتفرقة بين حالين :
أحدهما : أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله ، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام ، ولا يقترفون شيئاً من الآثام : فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة ، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة ، الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام ، سُرُجُ الأزمنة وزَيْن الأمكنة .
والثاني : أن تدخله الجناية ، وتقوى به العناية ، حتى يُعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه ، وقلبه يؤلمه ويوجعه ؛ لما يجد من ألم الحيف ، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى : أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف ، لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل ، من الدفوف والشبابات واجتماع الرجال مع الشباب المرد ، والنساء الغاتنات ، إما مختلطات بهم أو مشرفات ، والرقص بالتثني والانعطاف ، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف .
وكذا النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد ، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد ، غافلات عن قوله تعالى : ( إن ربك لبالمرصاد ) ( سورة الفجر : 14 ) .
وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان ، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان ، وإنما يَحِلُّ ذلك بنفوس موتى القلوب ، وغير المستقلين من الآثام والذنوب ، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات ، لا من الأمور المنكرات المحرمات ، فإن لله وإنا إليه راجعون ، بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ .
ولله در شيخنا القشيري حيث يقول فيما أجازَناه :
قد عرف المنكر واستنكر الـ ـمعروف في أيامنا الصعبة
وصار أهل العلم في وهدةٍ وصار أهل الجهل في رتبة
حادوا عن الحق فما للذي سادوا به فيما مضى نسبة
فقلت للأبرار أهل التقى والدين لما اشتدت الكربة
لا تنكروا أحوالكم قد أتت نوبتكم في زمن الغربة
ولقد أحسن أبو عمرو بن العلاء حيث يقول : لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب ، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو ربيع الأول ـ هو بعينه الشهر الذي توفي فيه ، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه .(7/130)
وهذا ما علينا أن نقول ، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول.
---------------------------
25. ... البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين
البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين
والرد على شبه المخالفين
جمع وإعداد/أبي معاذ السلفي
sasb@ayna.com
المقدمة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدصلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
فإنه لا يخفى على متمسك بالسنة أن من أهم ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بعد التوحيد التمسك بالسنة ومحاربة البدعة، ومن الأدلة على ذلك تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من البدع في خطبة الحاجة التي كان يبدأ بها خطبه عليه الصلاة والسلام، وهي التي بدأت بها مقدمتي لهذه الرسالة والحمد لله.
ورغم ذلك كله فإن الناظر في أحوال الأمة الإسلامية يجد أن البدع قد انتشرت فيها وللأسف في مجال العقيدة والعبادات والمعاملات المختلفة، ومن أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار تلك البدع اعتقاد الكثير أن البدع تنقسم إلى قسمين!!
بدع سيئة وبدع حسنة!!
وقد واجه كثير من أهل العلم جزاهم الله خيرًا تلك البدع فحذروا منها في خطبهم وكتبهم بل ألفوا كتب خاصة في التحذير من البدع عموماً، ومن بعض البدع خصوصًا.
وقد وفقني الله وله الحمد والمنة بجمع بعض الفوائد من بعض تلك الكتب في هذه الرسالة والتي رأيت من المفيد أن أجمعها حتى يسهل مراجعتها، وحرصت قدر الإمكان أن تكون سهلة العبارة، وسميت هذه الرسالة بـ"البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين والرد على شبه المخالفين".
وفي ختام هذه المقدمة أسأل الله أن ينفعني بهذه الرسالة؛ ومن يطلع عليها، كما أسأله أن يجعل جميع أعمالي خالصة لوجهه الكريم؛ موافقة لهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وصلى الله على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ملاحظة: قد عزوت بعض الأحاديث والآثار إلى مصادرها الأساسية بواسطة بعض المراجع، وذلك بسبب عدم توفر تلك المراجع الأصلية عندي أثناء جمع مادة هذه الرسالة، ورأيت أنه من الأمانة العلمية أن أبقيها كما هي.
مدخل:
معنى البدعة
(قال الإمام الطرطوشي- رحمه الله - في "الحوادث والبدع" (ص40): "أصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غيرِ أصلٍ سبق، ولا مثال احتذي، ولا ألف مثله.
ومنه قوله تعالى:(بدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) (البقرة: 117)، وقوله (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف:9)؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض".
أما تعريف البدعة شرعا فهي:
"طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية".
كذا اختاره الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (1/51)، وهو من أجمع تعاريف "البدعة" وأشملها)( 1 ).
وبهذا التعريف خرجت البدع الدنيوية كالسيارات، والطائرات، وأشباه ذلك، وهي التي تقبل التقسيم إلى الأحكام الخمسة "الوجوب - التحريم - الاستحباب - الكراهة- الإباحة" لا البدعة الدينية، وسيأتي زيادة بيان لذلك فيما بعد إن شاء الله.
الفصل الأول:
البراهين على أن كل بدعة ضلالة وليس فيها شيء حسن:
إن تقسيم البدع إلى حسنة وقبيحة، تقسيم لا مستند له في الشرع، وكيف يكون له أصل وهو ينافي صريح القرآن وصحيح الأحاديث؟!
وهاك البيان على وجه التفصيل:
أولاً: إن من أصول الدين الواجب اعتقادها، ولا يصح إيمان المرء دونها، أن الإِسلام دين أتقن الله بناءه وأكمله، فمجال الناس التطبيق والتنفيذ "السمع والطاعة" وهذا أمر أدلته ظاهرة) (1).
(يقول الله تعالى ممتناً على عباده:)الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً( ]المائدة:3[.
فهذه الآية الكريمة تدل على تمامِ الشريعة وكمالها، وكفايتها لكل ما يحتاجه الخلق الذين أنزل الله قوله فيهم: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)]الذاريات:56[.
يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" (2/19):
"هذه أ كبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليِه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلاَ ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه".
فأي إحداث أو ابتداع إنما هو استدراك على الشريعة، وجرأة قبيحة ينادي بها صاحبها أنَّ الشريعة لم تكف، ولم تكتمل!، فاحتاجت إلى إحداثه وابتداعه!!(7/131)
وهذا ما فهمه تمامًا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعدهم؛ فقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:"اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وكل بدعة ضلالة" (1). وروى البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال:"يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقًا بعيدًا، فإن أخذتم يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا".
وخلاصة القول:"إن المستحسِن للبدعِ يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد، فلا يكون لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم) معنى يعتبر به عندهم" ( 2 ).
"فإذا كان كذلك؛ فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وإنه بقي منها أشياء يجب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدًا لكمالها وتمامها من كل وجه؛ لم يبتدع، ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال الإمام الشوكاني في "القول المفيد" (ص38) مناقشاً بعض المبتدعين في شيء من آرائهم: (فإذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه؟!
إن كان من الدين في اعتقادهم؛ فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم (!) وهذا فيه رد للقرآن! وإن لم يكن من الدين؛ فأي فائدة في الاشتغال بما ليس من الدين؟!
وهذه حجة قاهرة، ودليل عظيم، لا يمكن لصاحب الرأي أن يدفعه بدافع أبدًا، فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي، وترغم به آنافهم، وتدحض به حججهم".
إذ " كل ما أحدث بعد نزول هذه الآية؛ فهو فضلة، وزيادة، وبدعة" (1)) (2).
ثانياً:(إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لزامًا عليه أن يقوم بحق الرسالة، فيبلغ الإسلام غير منقوص قال تعالى:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ( ]النحل:44[ ولقد فعل صلى الله عليه وسلم وإلا فما بلغ رسالته - وحاشاه - فما أنتقل إلى جوار ربه راضيًا مرضيًا إلا والدين كامل لا يحتاج إلى زيادة) ( 3 ).
وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:(إنه لم يكن نبي قبلي إلاَ كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم). رواه مسلم.
وأخرج الطبراني في "معجمه الكبير"(1647) بسند صحيح عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بقي شيء يقّرب من الجنة ويباعد من النار؛ إلا وقد بين لكم).
وقال أيضاً قال صلى الله عليه وسلم: "قد تركتكم على البيضاء،ليلها كنهارها،لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) رواه ابن ماجة ( 4 ).
وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"من حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فلا تصدقه، إن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَه) ]المائدة:67[" رواه البخاري مسلم.
ولهذا لما قال بعض المشركين لسلمان الفارسي رضي الله عنه:"إني أرى صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة؟
قال: أجل، أمرنا أن لا نستقبل القبلة، وأن لا نستنجي بأيماننا، ولا نكتفي بدون ثلاثة أحجار، ليس فيها رجيع ولا عظم" رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة.
وقال ابن الماجِشون: سمعت مالكا يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فما لم يكن يومئذ دينًا؛ فلا يكون اليوم دينًا"( 1 ).
ثالثاً: إنَّ التشريع حق لرب العالمين، وليس من حق البشر، (لأن الله الذي وضع الشرائع، ألزم الخلق الجري على سنتها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون.
ولو كان التشريع من مدركات الخلق لم تتنزل الشرائع، ولم تبعث الرسل، وهذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه ندا لله، حيث شرع مع الله، وفتح للاختلاف باباً ورد قصد الله في الانفراد بالتشريع)(2) قال الله عز وجل: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ َوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) ]الأعراف:3[.
وقال تعالى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) ]الشورى:21[.
وقال عز وجل: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ]الأنعام:153[.
قال الإمام مجاهد- رحمه الله - وهو من كبار التابعين في تفسير قول الله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ):"البدع والشبهات"(1).
وقال: "من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد" متفق عليه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" رواه مسلم.(7/132)
(والرسول صلى الله عليه وسلم وهو من هو معرفة وحكمة وعلمًا لم يكن يحكم باستحسانه ويشرع بنفسه؛ قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّه) ]النساء:105[،
وقال الله عز وجل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ]النحل:44[؛ وقال:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ]النجم:3- 4[)(2).
وقال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي...) ]الأعراف:203[.
وقال تعالى:(اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ]الأنعام: 106[.
وقد ذم رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يفعلون أموراً لم يأمرهم بها الله ولم يحثهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبل، إِلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره.ثم إِنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بِقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
(فمن ابتدع عبادة من عنده - كائنا من كان -؛ فهي ضلالة ترد عليه؛ لأن الله وحده هو صاحب الحق في إنشاء العبادات التي يتقرب بها إليه.
لذا؛ فإن صحة الاستدلال بالقواعد العلمية تقتضي أن نقول كما قال العلامة ابن القيم في كتابه العجاب "إعلام الموقعين" (1/344): "ومعلوم أ نه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمرِ، والأصل في العقود والمعاملات الصحة (1)حتى يقوم دليل على النهي".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "مجموع الفتاوى " (31/35):
"باب العبادات والديانات والتقربات متلقاة عن الله ورسوله، فليس لأحد أن يجعل شيئاً عبادة أو قربة؛ إلا بدليل شرعي".
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" (4/401) مناقشاً مسألة إهداء ثواب القراءة للموتى، حيث جزم بعدم وصولها، معللاً سبب المنع:"إنه ليس من عملهم، ولا كسبهم، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيراً؛ لسبقونا إليه.
وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء" وعلى هذا جرى السلَف الصالح رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين)(1): (فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:"لو كان الدين بالرأي، لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه" رواه أبو داود(2).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قبل الحجر الأسود:"إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك؛ ما قبلتك" رواه البخاري ومسلم.
وقالت امرأة لعائشة رضي الله عنها: أتقضي إحدانا صلاتها إذا طهرت؟
فقالت رضي الله عنها:"أحرورية أنت؟ كنا نحيض في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله" رواه البخاري ومسلم.
وروى الترمذي ( 2738)، والحاكم (4/265-266 وغيرهما بسند حسن عن نافع أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله، والسلام على رسوله! قال ابن عمر:"وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال" .
فهذه أحاديث نبوية وآثار سلفية من صحابة كرام، تبين المنهج الصحيح في تلَقي الشرع، وأنه لا مجال لتحسين العقل فيه، أو لتزيين الرأي به، وأن مورد ذلك كله النصوص الشرعية.
ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله في كلمته المشهورة التي نقلها عنه أئمة مذهبه وعلماؤه كالغزالي في "المنخول" (ص374)، والمحلي في "جمع الجوامع-2/395 بحاشيته": "من استحسن فقد شرع ") ( 1 ).
رابعاً: إنَّ الابتداع (اتباع للهوى لأن العقل إذا لم يكن متبعًا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة؛ وأنت تعلم ما في أتباع الهوى وأنه ضلال مبين.
ألا ترى قول الله تعالى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) ص:26[.(7/133)
فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده، وهو الحق والهوى، وعزل العقل مجرداً إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك.
وقال: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) ]الكهف:28[ فجعل الأمر محصوراً بين أمرين، اتباع الذكر؛ واتباع الهوى، وقال: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّه( ]القصص:50[)(2).
وقال الله عز وجل: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ]الجاثية:18[.
وعن عبد الله بن مسعود ٍرضي الله عنه قال:(خطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا خطًا، ثم قال: " هذا سبيل الله، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله وقال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إِليه ثم قرأ:(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)" رواه احمد والحاكم(1).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأمر" أخرجه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1/96).
خامساً: إنَّ الإخلاص لا يكفي في العمل حتى يكون متقبلاً لأن (دين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل)(2).
فشروط العمل الصالح المتقبل هي:
أولاً: الإخلاص.
وثانياً: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -:"إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً؛ لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل والخالص إذا كان لله عز وجل والصواب إذا كان على السنة"(3).
وقال الإمام ابن كثير- رحمه الله - في "تفسيره"(1/572) عند تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ]النساء:125[:()وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ َسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أي أخلص العمل لربه عز وجل فعمل إيماناً واحتساباً (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي اتبع في عمله ما شرعه الله له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي يكون خالصاً صواباً والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون متابعاً للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد... الخ)).
والأدلة على هذين الشرطين كثيرة: فمن أدلة وجوب إخلاص العبادة لله قوله تعالى:(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) ]البينة:5[.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر؛ ما له؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا شيء له " فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له". ثم قال: "إن الله لا يقبل من العمل؛ إلا ما كان له خالصاً، وابتغي به وجهه " رواه النسائي (1).
ومن أدلة وجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم:
قوله تعالى:(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ]آل عمران:31[.
وقال تعالى: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( ]الأعراف:158[.
وروى البخاري ومسلم عن انس رضي الله عنه أنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا بها، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا؛ فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله؛ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني".
وقد صح عن معاوية رضي الله عنه أنه كان يستلم أركان الكعبة الأربعة، فقال له ابن عباس رضي الله عنه (إنه لا يستلم هذان الركنان)، فقال معاوية: "ليس شيءٌ من البيت مهجوراً" رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
وزاد أحمد:فقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ) فقال معاوية رضي الله عنه:"صدقت".(7/134)
(ولا أدل على ذلك من قصة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما جاء إلى أولئك القوم المتحلقين في المسجد، ومعهم حصى، يعدون بها التكبير والتهليل والتسبيح، فقال لهم رضي الله عنه:"فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامنٌ أن لا يضيع من حسناتكم شيءٌ، ويحكم يا أمة محمدٍ! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرونَ، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملةٍ أهدى مِن ملةٍ محمدٍ أو مفتتحو باب ضلالةٍ". قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن؛ ما أردنا إلا الخير. قال:" وكم من مريدٍ للخيرِ لن يصيبه" رواه الدارمي في "سننه" (1/68-69) وأبو نعيم وغيرهما، وسنده صحيح.
قلت: فهذه قصة جليلة، ترى فيها بجلاء كيف كان علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم يتعاملون مع العبادات بوسائلها ومقاصدها ونيات أصحابها، وبيان ذلك فيما يلي:
أ - قوم يذكرون الله تعالى، تكبيراً، وتهليلاً، وتسبيحاً.
ب - استعملوا في ذكرهم حصى كـ (وسيلة) لعد هذا التكبير والتسبيح.
ج - نياتهم في عملهم هذا حسنة، يريدون به، عبادة الله، وذكره، وتعظيمه.
د - ومع ذلك؛ أنكر عليهم ابن مسعود هذا العمل ضمن هذه الوسيلة؛ لأنه لم يعهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ رغم وجود المقتضي له في عصره.
هـ - رتب على عملهم المحدث هذا الإثم لمخالفتهم السنة، ومواقعتهم البدعة.
و - لم يجعل - رضي الله عنه - حسن نياتهم سبيلاً للتغاضي عن عملهم، أو دليلاً على صحة فعلهم، إذ النية الحسنة لا تجعل البدعة سنة، ولا القبيح حسناً، بل لا بد أن يكون مع النية الحسنة والإخلاص: موافقة للسنة، ومتابعة للسلف) ( 1 ).
وعن سعيد ابن المسيب - رحمه الله -: أنه رأى رجلاً يصلي بعد طلوع الفجر أكثرَ من ركعتين، يكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه! فقال: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟ قال:"لا ولكن يعذبك على خلاف السنة" ( 2 ).
قال الألباني- رحمه الله- في"الإرواء"(2/236):"وهذا من بدائع أجوبة سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وهو سلاح قوي على المبتدعة الذين يستحسنون كثيراً من البدعِ باسم أنها ذكر وصلاة، ثم ينكرون على أهل السنة إنكار ذلك عليهم، ويتهمونهم بأنهم ينكرون الذكر والصلاة!! وهم في الحقيقة إنما ينكرون خلافهم للسنة في الذكر والصلاة ونحو ذلك" ا.هـ.
وقال ( 1 ) رجل للإمام مالك: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟
قال: من ذي الحلَيفة، من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر.
قال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة.
فقال: وأي فتنة في هذه؟! إنما هي أميال أزيدها!!
قال: وأي فتنةٍ أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلةٍ قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال تعالى:(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ]النور:63[.
فهذه الأدلة تدل على أن إخلاص أولئك في نيتهم لم يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين ومن تبعهم من الإنكار عليهم بسبب عدم متابعتهم في أعمالهم تلك للرسول صلى الله عليه وسلم.
سادساً: إن الأدلة الصحيحة جاءت بذم البدع مطلقاً، ولم تقسم البدع إلى بدع حسنة مستحبة و إلى بدع سيئة مكروهة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ، وشر الأمور محدَثاتها، وكل محدَثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة؛ "وكل ضلالةٍ في النار". أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي والزيادة له.
وقال صلى الله عليه وسلم: "فإن من يعش منكم؛ فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ،وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة" أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرِنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد " متفق عليه.
وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " رواه مسلم.
(فهذه الأحاديث لم تفرق في الحكم بين بدعةٍ وبين بدعةٍ أخرى، فالنكرة إذا أضيفت؛ أفادت العموم، والعموم لا يخص إلا باستثناء، و أين الاستثناء هنا؟! - وما قد يظنه البعض دليل على الاستثناء سيأتي الجواب عنه فيما بعد إن شاء الله - وهذا ما فهمه السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين: فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:" كل بدعةٍ ضلالة وإن رآها الناس حسنة "( 2 ).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة؛ فعليكم بالأمرِ الأول"(1). فكلاهما أخذ معنى (البدعة) على عمومه، دون تفريق بين ما يسمى بدعة حسنة أو بدعة سيئة! وهو الذي لا ينبغي سواه)(2).
(وقد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي؛ إذا تكررت في مواضع كثيرة وأوقات متفرقة وأحوال مختلفة، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها العام المطلق.(7/135)
وأحاديث ذم البدع والتحذير منها من هذا القبيل، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يردد من فوق المنبر على ملأ من المسلمين في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة أن " كل بدعةٍ ضلالة " ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية من العموم فيها، فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها.
وقد أجمع السلف الصالح على ذمها وتقبيحها والهروب عنها وعمن اتسم بشيء منها، ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا استثناء، فهو - بحسب الاستقراء - إجماع ثابت يدل دلالة واضحة على أن البدع كلها سيئة ليس فيها شيء حسن)(3).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في"مجموع الفتاوى" (10/370):(إن المحافظة على عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بدعةٍ ضلالة " متعين وأنه يجب العمل بعمومه).
سابعاً: (إن معرفة البدعة المدعى حسنها متعذرة، لأن الأمر قد يكون ظاهره طاعة وهو معصية وقد يكون الأمر بالعكس وقد يحسن كثير من العقول بمجردها أن تصلي الظهر خمساً عند النشاط والرغبة في مناجاة الله ويحسن أن تصلي ركعة عند التعب والإعياء وتراكم الأشغال وهكذا يقال في سائر الفروض.
فيقال لمحسني البدع أنتم في حاجة شديدة أن تميزوا البدعة الحسنة من القبيحة، ونحن على اتفاق أنه ليس كل ما ظاهره طاعة يكون في الواقع طاعة، ولا كل ما ظاهره معصية يكون في الواقع معصية، وغاية الأمر أن يكون هذا المحدث المبتدع دائراً بين أن يكون حسنًا مثابًا عليه، وأن يكون قبيحاً معاقباً عليه، وإذا كان كذلك فلا يجوز أن تدعوا أنه من القسم الأول إلا بدليل خارج، والدليل إذا كان من الكتاب؛ أو السنة الصحيحة؛ أو الإجماع؛ فما هو من البدعة، فظهر أن القول بالبدعة الحسنة باطل لتعذر معرفتها.
وسر البرهان أننا نقول لمن أشار إلى عمل محدث وقال هذه بدعة حسنة: من أين عرفت أنها حسنة ولعلها قبيحة؟
وكم نشاهد من الأعمال ما نظنه حسناً وهو قبيح، فمثلاً ما يدريك - لولا ما جاء في "صحيح مسلم"عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: (ثلاث ساعاتٍ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا؛ حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب) - أن الصلاة بعد صلاة الفجر وقبل غروب الشمس وفي وقت الظهيرة غير جائزة؟
وما يدريك - لولا ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر و أتمت صلاة الحضر"- أن إتمام الصلاة في السفر غير جائز، وأن الفاعل لذلك معذب؟ وقد قال بتعذيبه كثير من العلماء.
وما يدريك - لولا قول الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ ثلاثاً ثلاثاً: "هكذا الوضوء، فمن زاد علَى هذا فقد أساء وظلم" - أن الزيادة في الوضوء كأن يغسل المتوضئ خمساً لا تجوز،
وما يدريك - لولا ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا" - أن قراءة القرآن في الركوع والسجود غير جائزة بل مكروهة؛ والإمام أبو حنيفة قائل بذلك؟ وكثير في الشريعة ما نظنه طاعة يثاب عليه وهو معصية يعاقب عليه وكذلك العكس)(2).
قال عبد الله القصيمي في كتابه "شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" (20- 21):
(خاطبت يوما شيخاً من شيوخ الأزهر الذين يقولون: إن في الدين بدعة حسنة؛ قلت له: ما الفاصل بين البدعة الحسنة والبدعة القبيحة الذي يعتمد عليه المسلم فيأخذ الحسن ويترك القبيح؟
فامتقع لونه وقال (وليته ما قال): البدعة الحسنة هي الجائزة ديناً، والقبيحة هي الممنوعة ديناً!
قلت له: ما صنعت شيئاً، بأي شيء نعرف الجائزة والممنوعة؟ وهو سؤالي.
فامتقع أكثر وقال: الجائزة هي الحسنة، والممنوعة هي السيئة!!
قلت له: هذا هو الدور الممنوع لدى المعممين كافة، إذ لا نعرف الحسن إلا بكونه حلالاً، ولا الحلال إلا بكونه حسناً، ولا القبيح إلا بكونه حراماً، ولا الحرام إلا بكونه قبيحاً.
ثم نشط عقله من عقاله وقال: البدعة الحسنة التي لا ضرر فيها، والقبيحة هي ذات الضرر.
قلت له: ما تقصد بالضرر؟
أتقصد ضرر الدنيا أم ضرر الدنيا والأخرى، أم ضرر الأخرى فحسب؟
إن قصدت الأول: فأي ضرر في أن نصلي الظهر خمساً والمغرب أربعاً والفجر ستاً وأن نجعل السجود في الصلاة قبل الركوع، والركوع قبل القيام، والقيام قبل الجلوس، والتشهد قبل الاستفتاح، وأن نصوم شعبان بدل رمضان إذا خفنا أن لا يدركنا رمضان أو يشغلنا شاغل، وأن نصوم في الليل؟
هل في واحدة من هؤلاء ضرر دنيوي تراه؟ لا ضرر سوى مخالفة الشرع.
وإن قصدت الثاني والثالث فما العلامة أن هذه الحادثة فيها ضرر علينا في الدار الآخرة وعقاب لفاعليها؟ هذا وأنت من الذين ينفون التقبيح والتحسين العقليين، فانتهى هنا.
والنهاية أن من لم يأخذ بظواهر هذه الأخبار تحير وقال أقوالاً باطلة) ا.هـ.(7/136)
والدليل على هذا أن كثيراً من الذين قالوا بالبدع الحسنة قد أنكروا أعمالا في ظاهرها الحسن، بل إنك لتجد أحد العلماء يقول في بدعة ما أنها حسنة تجد عالماً آخر وهو ممن يقول بالبدع الحسنة ينكرها أشد الإنكار وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
1- العز بن عبد السلام وهو من أشهر من قال بتقسيم البدع إلى بدع حسنة وبدع سيئة يقول في كتابه "الفتاوى" (ص392):(ولا يستحب رفع اليد في القنوت كما لا ترفع في دعاء الفاتحة، ولا في الدعاء بين السجدتين، ولم يصح في ذلك حديث، وكذلك لا ترفع اليدان في دعاء التشهد؛ ولا يستحب رفع اليدين في الدعاء إلا في المواطن التي رفع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ولا يمسح وجهه بيديه عقيب الدعاء إلا جاهل، ولم تصح الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في القنوت، ولا ينبغي أن يزاد على صلاة رسول الله في القنوت بشيء ولا ينقص) اهـ.
وقال في"الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة"(ص7- 8):(فإن الشريعة لم ترِد بالتقرب إلى الله تعالى بسجدةٍ منفردةٍ لا سبب لها، فإن القرب لها أسباب، وشرائط، وأوقات، وأركان، لا تصح بدونها.
فكما لا يتقرب إلى الله تعالى بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة من غير نسكٍ واقعٍ في وقته بأسبابه وشرائطه؛ فكذلك لا يتقرب إليه بسجدةٍ منفردةٍ، وإن كانت قربةً، إذا لم يكن لها سبب صحيح.
وكذلك لا يتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة والصيام في كل وقتٍ وأوانٍ، وربما تقرب الجاهلون إلى الله تعالى بما هو مبعد عنه، من حيث لا يشعرون) اهـ.
وهذا الكلام صدر من العز بن عبد السلام - رحمه الله - أثناء إنكاره لصلاة الرغائب المبتدعة؛ وقد أنكر هذه الصلاة بالإضافة إلى العز بن عبد السلام كثير من العلماء القائلين بالبدعة الحسنة مثل الإمام النووي في "فتاوى الإمام النووي" (ص57) وعبد الله الغماري في "حسن البيان في ليلة النصف من شعبان"؛ مع العلم أن بعض العلماء قال باستحبابها مثل ابن الصلاح وأبو حامد الغزالي في "الإحياء" وأبو طالب المكي في "قوت القلوب" وعدوها من البدع الحسنة.
وقال أيضاً العز بن عبد السلام كما في "فتاوى العز بن عبد السلام" (ص289):(ومن فعل طاعة لله تعالى، ثم أهدى ثوابها إلى حي؛ أو ميت لم ينتقل ثوابها إليه إذ (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) ]النجم:39[ فإن شرع في الطاعة ناوياً أن يقع عن ميت لم يقع عنه إلا فيما استثناه الشرع كالصدقة، والصوم، والحج) انتهى كلامه، ومعروف أن كثيراً من العلماء قالوا بجواز إهداء كثير من الطاعات للأموات وإن لم يرد دليل على ذلك وإنما قياساً على ما ورد!.
وقال أيضاً في (ص197- 199):(أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلم بعض الناس الدعاء فقال في أوله: " قل اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة " وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصوراً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خُص به تنبيهاً على علو درجته ومرتبته) انتهى كلامه رحمه الله، وكثير ممن قلده في تقسيم البدع تجده يخالفه في هذه المسألة! فيقول بجواز الإقسام على الله بغير النبي صلى الله عليه وسلم مع العلم أن الراجح عدم جواز ذلك مطلقاً(1).
2- الإمام أبو شامة - رحمه الله - أنكر في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" كثيراً من بدع الجنائز مثل قول القائل أثناء حمل الجنازة: استغفروا له غفر الله لكم، كما أنكر أن يكون للجمعة سنة قبلية (ص258- 304)، وأنكر كذلك صلاة الرغائب (ص138- 196)، وأنكر كذلك صلاة ليلة النصف من شعبان (ص134- 138)، ومع كل ذلك قال (ص95) بأن الاحتفال بالمولد النبوي يعتبر بدعة حسنة!!.
3- وأما الإمام النووي - رحمه الله - وهو من القائلين بتقسيم البدع، فقد قال في"المجموع" (8/102):(قال الشيخ أبو محمد الجويني:رأيت الناس إذا فرغوا من السعي؛ صلوا ركعتين على المروة.
قال: وذلك حسن، وزيادة طاعة، ولكن لم يثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا كلام أبي محمد!!
وقال أبو عمرو بن الصلاح: ينبغي أن يكره ذلك؛ لأنه ابتداء شعار، وقد قال الشافعي - رحمه الله -: ليس في السعي صلاة. - ثم قال النووي - وهذا الذي قاله أبو عمرو أظهر، والله أعلم) اهـ.
وقال أيضاً في "الأذكار" (ص136):(قال الشافعي وأصحابنا رحمهم الله يكرهون الجلوس للتعزية؛ قالوا: يعني بالجلوس لها: أن يجتمع أهل الميت في بيتٍ ليقصدهم من أراد التعزية، بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم،ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها..الخ).(7/137)
4 - وأما السيوطي- رحمه الله - فقد أنكر في كتابه "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" الصلاة في المساجد المبنية على القبور! وكذلك إيقاد السرج على القبور والمزارات (ص134) وأنكر صلاة الرغائب (ص166) وأنكر الاجتماع للعزاء (ص288) وأنكر التلفظ بالنية قبل الصلاة (ص295) وغير ذلك من البدع مع أنه قرر في كتابه هذا بأن البدع تنقسم إلى بدع حسنة وبدع سيئة!.
5 - محمد متولي الشعراوي المفسر المصري أنكر رفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان كما يفعله كثير من المؤذنين في كثير من البلاد الإسلامية فقد وجه إليه سؤال كما في "الفتاوى"(ص487):(جرت العادة في معظم المساجد أن يؤذن المؤذن وعقب الانتهاء من الآذان يقول: الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله جهراً، فهل الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم جهراً عقب الآذان هي من صلب الآذان أم أن هذه زيادة عما ورد نرجو الإفادة؟
ج: هذا حب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكن أنت تحبه بمشقة، هو قال: "إذا سمعتم المؤذن وانتهى من أذانه فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ، وللمؤذن وللذي سمع نصلي عليه في سرنا، لكن المؤذن ليس له أن يوجد شيئاً بصوت الأذان الأصلي وبلهجة الأذان الأصلية؛ حتى لا يفهم الناس أن ذلك من صلب الأذان) انتهى كلامه، وفي المقابل نجده يقول بجواز الاحتفال بالمولد النبوي (ص544-545)!.
6 - أما حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقاً فيقول بمشروعية رفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من قبل المؤذنين بعد الأذان في كتابه "فتاوى شرعية وبحوث إسلامية"
(ص265-267)؛ مع أنه قال في (ص290) جواباً على سؤال: هل في الشريعة الغراء صلاة تسمى صلاة الشكر؟:(لم يرد في الكتاب ولا في السنة نص يفيد مشروعية هذه الصلاة لا فرادى ولا جماعة. وأمر العبادات يقتصر فيه على ما ورد عن الشارع، ولا سبيل فيه إلى القياس، ولا مجال فيه للرأي، وإنما الذي أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم السجود لله تعالى شكرا إذا أتاه ما يسره أو بُشر به.. الخ).
فظهر بهذه النقول أنه لا يوجد ضابط معين يميز بين البدعة الحسنة - المزعومة - والبدعة السيئة؛ حتى عند القائلين بهذا التقسيم، ولا يسلم الشخص من الوقوع في هذا الاضطراب إلا بمتابعة السنة وترك الابتداع في الدين.
ثامناً:(يستدل كثير من الناس بالنصوص العامة لتسويغ بدعهم، والتدليل على واقعهم!
وهذا خطأ كبير، يناقض قاعدة مهمةً في علم الأصول، سيأتي تقريرها - بعد -
فمثلاً: لو أن عدداً من الناس قَدِموا مسجداً للصلاة فيه، فما أن دخلوا؛ حتى اقترح أحدهم عليهم أن يصلوا تحية المسجد جماعة!! فجابهه بعض أصحابه بالإنكار والرد!! فاستدل عليهم المقترِح بحديث "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل)!! فافترقوا رأيين!! بعضهم وافق على هذا الاستدلال، والبعض الآخر خالف؛ لأن هذا الدليل إنما مورده في غير هذا المقام!
فما هو القول الفصل؟
قال الإمام ابن تيمية في "مقدمة في أصول التفسير" (ص8-9):(يجب أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ]النحل:44[ يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن - كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن و العلم جميعاً.
ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيننا. وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين - قيل ثمان سنين - ذكره مالك.
وذلك أن الله تعالى قال:(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ]ص:29[. وقال:(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ]النساء:82[ وقال:(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل) ]المؤمنون: 68[. وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.
وكذلك قال تعالى:(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ]يوسف:2[، وعقل الكلام متضمن لفهمه ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك.
وأيضاً فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه
فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟) اهـ.
وقال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (3/72) رداً على من يستدل بالأدلة العامة على خلاف فهم السلف والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه في العمل به(7/138)
ما ملخصه: "لو كان دليلاً عليه؛ لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارِض له، ولو كان ترك العمل.
فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماعِ الأولين، وكل من خالف الإجماع؛ فهو مخطئ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالةٍ، فما كانوا عليه من فعلٍ أو تركٍ؛ فهو السنة والأمر المعتبر، وهو الهدى، وليس ثم إلاَ صواب أو خطأ فكل من خالف السلف الأولين؛ فهو على خطأ، وهذا كافٍ …
ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي أنه الخليفة بعده؛ لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدمِ اعتباره؛ لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ.
وكثيراً ما تجد أهل البدعِ والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة؛ يحملونهما مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما على العامة، ويظَنون أنهم على شيء".
ثم قال (3/77):"فلهذا كله؛ يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه في العمل به؛ فهو أحرى بالصواب، وأقوم في العلم والعمل".
وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي - رحمه الله - في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" (ص318):(ولا يجوز إحداث تأويل في آيةٍ أو سنةٍ لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة؛ فإن هذا يتضمن أنهم جهِلوا الحق في هذا، وضلوا عنه، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر) اهـ.
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"
(2/128 مختصره):"إن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أحد أمرين: إما أن يكون خطأ في نفسه، أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط والخطأ من قول السلَف ".
إلا عند ساقطٍ رقيعٍ يقول في مثل هذا المقام:"نحن رجال وهم رجال"!!
فمثل هذا المغرور قد سقطَ معه الخطاب، وسد في وجهه الباب!!
والله الهادي إلى نهج الصواب!
قلت: فإذا وضحت هذه القاعدة ظهر لك أي الفريقين أهدى في المثال الذي صدرنا لك الكلام به!
إذ ذاك الدليل العام لم يجرِ عليه عمل السلف رضي الله عنهم أو فهمهم؛ استدلالاً به على الجماعة في غيرِ الوارد؛ كالفرائض أو التراويح ونحوهما. فهو جرى- إذاً - على جزءٍ من أجزاء عمومه لا على جميع أجزائه.
ومثال آخر تطبيقي سلفي:
روى أبو داود في "سننه" ( رقم 538) بسند حسن عن مجاهد؛ قال:" كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهرِ أو العصر، فقال: اخرج بنا؛ فإن هذه بدعة" !
و" معنى التثويب: هؤلاء الَذين يقومون على أبواب المساجد، فينادون: الصلاة؛ الصلاة" .
كما قال الطرطوشي في "الحوادث والبدع" (ص149).
فلو جاء أحد قائلاً: هل من ضيرٍ على من ذكر بالصلاة والله يقول:(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) ]الذريات:55[؟!
لما قبل قوله، بل رد عليه فهمه، إذ لم يفهم السلف رضي الله عنهم من هذه الآية هذا الإطلاق وهذا العموم، ومعلوم عن ابن عمر رضي الله عنهما شدة اتباعه، ودقة التزامه.
ومثال آخر وقد مر معنا فيما سبق: وهو ما رواه الترمذي، والحاكم وغيرهما عن نافع أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: الحمد لله، والسلام على رسوله قال ابن عمر:"وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حالٍ " فقد أنكر ابن عمر رضي الله عنهما على هذا الرجل مع أن عموم قولِ الله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً( ]الأحزاب:56[ تدخل فيه تلك الصلاة ولكن، ما هكذا فهمها الصحابة فمن بعدهم وما هكذا طبقها السلف الصالح رضي الله عنهم، وفهمهم أولى، ومرتبتهم أعلى.
ورحم الله الإمام الأوزاعي حيث قال:"اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك
ما وسعهم" ( 1 ).
وعليه نقول:"الحذر الحذر من مخالفة الأولين! فلو كان ثَمَّ فضل ما؛ لكان الأولون أحق به، والله المستعان")(1).
تاسعاً:(يستلزم من القول بالبدع الحسنة لوازم سيئة جدًا:
أحدها: أن تكون هذه البدع المستحبة - حسب زعمهم - من الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم. وهذا معلوم البطلان بالضرورة، لأن الله تعالى لم يأمر عباده بتلك البدع، ولم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفعلها ولا فعلها أحد من الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وعلى هذا فمن زعم أنه توجد بدع حسنة في الدين فقد قال على الله وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم.(7/139)
الثاني: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم قد تركوا العمل بسنن حسنة مباركة محمودة، وهذا مما ينزه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم.
الثالث: أن يكون القائمون بالبدع الحسنة المزعومة قد حصل لهم العمل بسنة حسنة مباركة محمودة لم تحصل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لأصحابه رضي الله عنهم، وهذا لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل و دين)(2).
الفصل الثاني:
ذكر الشبه التي يستدل بها من يقول بتقسيم البدع:
الشبهة الأولى: فهمهم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء " رواه مسلم.
والجواب عن هذه الشبه هو (ما قاله الإمام الشاطبي - رحمه الله - في "الاعتصام" (1/233- 236) مختصراً مع بعض الإضافات:
"ليس المراد بالحديث: الاستنان بمعنى الاختراع، وإنما المراد به العمل بما ثبت بالسنة النبوية، وذلك لوجهين:
أحدهما: أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة؛ بدليل ما في "صحيح مسلم" من حديث جرير بنِ عبد الله رضي الله عنه قال:" كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار؛ قال: فجاءه قوم حفاةً عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف. عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر. فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأَى بهم من الفاقة. فدخل ثم خرج. فأمر بلالا فأذن وأقام.
فصلى ثم خطب فقال:" (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) ]النساء:1[ إلى آخر الآية (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) والآية الَتي في الحشر:(اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) ]الحشر:18[ تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره حتى قال: "ولو بشق تمرةٍ قال:"فجاء رجل من الأنصار بصرةٍ كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس.حتى رأيت كومين من طعام وثياب.حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غيرِ أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنَة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده.من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
فتأملوا أين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة؛ تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه، حتى بتلك الصرة فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: "من سن في الإسلام سنة حسنة..إلخ. فدل على أن السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سنة.
فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعةٍ".
ووجه ذلك:(أن كل ما فعله الأنصاري إنما هو ابتداؤه بالصدقة في تلك الحادثة، والصدقة مشروعة من قبل بالنص أفترون هذا الصحابي أتى ببدعة حسنة؟!.
وحث عليها - أي على الصدقة - الرسول صلى الله عليه وسلم في القصة نفسها.
وعليه فالسنة الحسنة هي إحياء أمر مشروع لم يعهد العمل به بين الناس لتركهم السنن)( 1 ).
( ويدل على هذا حديث: (من أحيا سنة من سنتي فعمل بها الناس؛ كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعة فعمل بها، كان عليه أوزار من عمل بها لا ينقص من أوزار من عمل بها شيئاً) رواه ابن ماجة( 2 ).
مع ملاحظة أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف السنة إليه فقال:(من سنتي) بينما أطلق الكلام في البدعة فقال: (ومن ابتدع بدعة) ولم يقل بدعة سيئة.
ثانياً: أن قوله: (من سن في الإسلام سنةً حسنةً ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً)
لا يمكن حمله على الاختراع من أصلٍ؛ لأن كونها حسنةً أو سيئةً لا يعرف إلا من جهة الشرع؛ لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة، وإنما يقول به المبتدعة - أعني: التحسين والتقبيح بالعقل -.
فلزم أن تكون "السنة" في الحديث: إما حسنةً في الشرع، وإما قبيحةً بالشرعِ، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة وما أشبهها من السنن المشروعة.
وتبقى السنة السيئة منزلةً على المعاصي التي ثبت بالشرعِ كونها معاصي؛ كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم، حيث قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري ومسلم: (لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل)) وعلى البدع، لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع )( 2 ).
ثالثاً: (لا يمكن أن يكون معنى: (من سن في الإسلام سنةً حسنة) ً أي من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة" لأن بهذا يكون معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: كل بدعة ٍضلالة "كل سنة ضلالة ".
فمن جعل هذا هو معنى ذاك فقد أبعد النجعة وحرف الكلم عن مواضعه)( 1 ).(7/140)
رابعاً: (لو كان هذا الذي يفهمه الناس الفهم الصحيح للحديث لصار في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) تناقضاً واضحاً وتحريضاً على الإعراض عن السنة. وثناءً منه على من رغب عن سنته.
فبينما يقول: فعليكم بسنتي داعياً إلى التمسك بها والعض عليها بالنواجذ والقبض على الجمر يدعونا هنا إلى الأخذ بأي سنة يسنها من شاء من المسلمين لا بالتقيد بسنته صلى الله عليه وسلم وحده!)( 2 ).
الشبهة الثانية: فهمهم لأثر"ما رآه المسلمون حسناً؛ فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً؛ فهو عند الله سيئ " أخرجه أحمد وغيره.
الجواب:
أولاً:هذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو ثابت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
قال الزيلعي في"نصب الراية" (4/133) نقلاً من "اللمع" للسحيباني (ص28):
"غريب مرفوعًا، ولم أجده إلا موقوفًا على ابن مسعود".
(وقال ابن الجوزي في "الواهيات" (رقم452):"هذا الحديث إنما يعرف من كلام ابن مسعودٍ".
وقال ابن عبد الهادي كما في "كشف الخفاء" للعجلوني (2/188):
"(وروي) مرفوعاً عن أنس بإسنادٍ ساقطٍ، والأصح وقفه على ابن مسعودٍ".
وقال ابن القيم في "الفروسية" (ص61):"ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يضيفه إلى كلامه من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعودٍ")(1).
وقال الألباني في "السلسلة الضعيفة" (2/17):"لا أصل له مرفوعاً، وإنما ورد موقوفاً على ابن مسعود" اهـ.
ثانياً:(قال الشيخ الألباني في "السلسة الضعيفة" ( 2/17):
(إن من عجائب الدنيا أن يحتج بعض الناس بهذا الحديث على أن في الدين بدعةً حسنةً، وأن الدليل على حسنها اعتياد المسلمين لها!!
ولقد صار من الأمرِ المعهود أن يبادر هؤلاء إلى الاستدلال بهذا الحديث عندما تثار هذه المسألة، وخفي عليهم:
أ - أن هذا الحديث موقوف - أي على الصحابي - فلا يجوز أن يحتج به في معارضة النصوص المرفوعة - أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم - القاطعة في أن (كل بدعةٍ ضلالة) كما صح عنه صلى الله عليه وسلم.
ب - وعلى افتراض صلاحية الاحتجاجِ به، فإنه لا يعارِض تلك النصوص لأمور:
الأول: أن المراد به إجماع الصحابة واتفاقهم على أمر، كما يدل عليه السياق، ويؤيده استدلال ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه به على إجماع الصحابة على انتخاب أبي بكر خليفةً (حيث قال:"إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن وما رأوا سيئاً، فهو عند الله سيئ" أخرجه أحمد (1/379)، وروى الحاكم الجملة الأخيرة، وزاد: "وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر")( 1 ).
وعليه؛ فاللام في "المسلمون" ليس للاستغراق كما يتوهمون، بل للعهد.
الثاني: سلمنا أنه للاستغراق، ولكن ليس المراد به قطعاً كل فردٍ من المسلمين، ولو كان جاهلاً لا يفقه من العلم شيئاً؛ فلا بد إذن من أن يحمل على أهل العلم منهم، وهذا مما لا مفر لهم منه فيما أظن).
قلت: ومما يزيد كلامه - حفظه الله - وضوحاً الأمور التالية:
1 - أنه قد بوب له جماعةٌ من أهل الحديث في "باب الإجماع"، كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار" (1/81)، و "مجمع الزوائد" (1/177)، وغيرهما.
2 - استدل به كثير من العلماء على الإجماع:
قال ابن كثير:"وهذا الأثر فيه حكايةُ إجماعٍ عن الصحابة في تقديم الصديق، والأمر كما قاله ابن مسعودٍ".
وقال ابن القيم في "الفروسية"(ص60) بعد إيراده، رداً على المستدلين به:" في هذا الأثر دليل على أن ما أجمع عليه المسلمون ورأوه حسناً؛ فهو عند الله حسن، لا ما رآه بعضهم! فهو حجة عليكم".
وقال ابن قدامة في"روضة الناظر"(ص86):" الخبر دليل على أن الإجماع حجة، ولا خلف فيه".
وقال الشاطبي في "الاعتصام" (2/655):(إن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون بجملتهم حسناً؛ فهو حسنٌ، والأمة لا تجتمع على باطلٍ، فاجتماعهم على حسن شيءٍ يدل على حسنه شرعاً؛ لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعياً")(1).
وقال الإمام ابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (6/197):بعد أن ذكر أثر ابن مسعود رضي الله عنه: ( فهذا هو الإجماع الذي لا يجوز خلافه لو تيقن، وليس ما رآه بعض المسلمين أولى بالاتباع مما رآه غيرهم من المسلمين، ولو كان ذلك لكنا مأمورين بالشيء وضده، وبفعل شيء وتركه معاً، وهذا محال لا سبيل إليه) اهـ.
وقال العز بن عبد السلام في "فتاوى العز بن عبد السلام"(ص379):"إن صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بالمسلمين أهل الإجماع" اهـ.
(وهنا نقول لمن استدل بهذا الأثر على أن هناك بدعة حسنة: هل تستطيع أن تأتي ببدعة واحدة أجمع المسلمون على حسنها؟!(7/141)
إن هذا من المستحيل ولا شك، فليس هناك بدعة أجمع المسلمون على حسنها ولله الحمد.
ثالثاً: كيف يستدل بكلام هذا الصحابي الجليل على تحسين شيء من البدع، مع أنه رضي الله عنه كان من أشد الصحابة نهياً عن البدع وتحذيراً منها، وهو القائل كما مر معنا: "اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وكل بدعةٍ ضلالة" رواه الدارمي في سننه)(1).
الشبهة الثالثة: (يقولون: ليست (كل) في حديث:(كل بدعةٍ ضلالة) على عمومها، بدليل أن الله سبحانه يقول:(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) ]الأحقاف:25[ والريح لم تدمر (كل) شيءٍ، فدل على أن (كل) ليست على عمومها!.
الجواب: إن (كل) على عمومها هنا أيضاً، إذ هي دمرت (كل) شيءٍ أمرها به ربها، لا (كل) شيءٍ في الدنيا!!
وعلى هذا قول المفسرين:
قال ابن جريرٍ في "تفسيره" (13/26/27):(وإنما عنى بقوله:(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ)
مما أرسلت بهلاكه؛ لأنها لم تدمر هوداً ومن كان آمن به) اهـ.
وقال القرطبي في "تفسيره" (16/206):"أي كل شيءٍ مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها".
وكذا قال آخرون، وانظر "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص274-275).
فلا حجة في هذا الاستدلال ألبتة)( 1 ).
الشبهة الرابعة: فهمهم لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"نعمت البدعة هذه" رواه البخاري.
الجواب:
أولاً: (لو سلمنا جدلاً بصحة دلالته على ما أرادوا من تحسين البدع - مع أن هذا لا يسلم - فانه لا يجوز أن يعارض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل:(كل بدعةٍ ضلالة) بكلام أحد من الناس، كائنًا من كان.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر")(1).
ثانياً: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال هذه الكلمة حين جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح و (صلاةَ التراويح ليست بدعةً في الشريعة، بل هي سنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله في الجماعة.. ولا صلاتها جماعةً بدعةً، بل هي سنة في الشريعة، بل قد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين، بل ثلاثًا.
وقال:(من قام مع الإمام حتى يَنصرف، فإنه يعدل قيام ليلةٍ) رواه الترمذي وابن ماجة.
كما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح. رواه أهل السنن.
وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد.
وفي قوله هذا ترغيب لقيام رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة،
وكان الناس يصلونها جماعاتٍ في المسجد على عهده صلى الله عليه وسلم وهو يقرهم، وإقراره سنة منه صلى الله عليه وسلم).
بل إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون التراويح في عهد عمر رضي الله عنه قبل أن يقول كلمته هذه، فقد روى البخاري ومالك وغيرهما عن عبد الرحمن بن عبد القارى رضي الله عنه قال:(خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذَا الناس أوزاعاً متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصَلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحدٍ لَكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعبٍ. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارِئهم. قال عمر:"نعمت البدعة هذه").
ثالثاً:(إذا علمت - رحمك الله - ما تقدم، فمفهوم البدعة الشرعية لا ينطبق على فعل عمر، وإنما أراد - رضي الله عنه - بقوله المذكور البدعة اللغوية، فالبدعة في الشرع لا تستخدم إلا في موضع الذم، بخلاف اللغة فإن كل ما أحدث على غير مثال سابق بدعة، سواء أكان محموداً أو مذموماً)( 2 ).
(وعلى هذا حمل العلماء قول عمر رضي الله عنه فقد قال الإمام ابن كثير- رحمه الله- في "تفسيره" عند تفسير (سورة البقرة:117):"البدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة" وتارة تكون بدعة لغوية؛ كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارِهم: "نعمت البدعة هذه" .
وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص233):"وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية…" ثم ذكر رحمه الله قول عمر رضي الله عنه .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/592-593):
"وأما قول عمر رضي الله عنه :"نعمت البدعة هذه" فأكثر المحتجين بهذا؛ لو أردنا أن نثبت حكماً بقول عمر الذي لم يخالف فيه؛ لقالوا:"قول الصاحب ليس بحجةٍ!"، فكيف يكون حجةً لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة؛ فلا يعتقده إذا خالف الحديث.
فعلى التقديرين: لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب.(7/142)
ثم نقول: أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعةً، مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداءً من غير مثالٍ سابقٍ، وأما البدعة الشرعية؛ فما لم يدل عليه دليل شرعي.
فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعلٍ، أو إيجابه بعد موته، أو دل عليه مطلقاً، ولم يعمل به ألا بعد موته، ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر رضي الله عنه ، فإذا عمل ذلك العمل بعد موته، صح أن يسمى بدعة في اللغة؛ لأنه عمل مبتدأ، كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يسمى محدثاً في اللغة؛ كما قالت رسل قريشٍ للنجاشي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين إلى الحبشة:"إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك، وجاؤوا بدينٍ محدثٍ لا يعرف".
ثم ذلك العمل الذي دل عليه الكتاب والسنة ليس بدعةً في الشريعة، وإن سمي بدعة في اللغة.
وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعةٍ ضلالة) لم يرد به كل عمل مبتدأ؛ فإن دين الإسلام، بل كل دين جاءت به الرسل؛ فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم).
قلت: وقد سبق بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى بأصحابه في رمضان ثلاث ليالٍ، ثم خاف أن تفرض عليهم، فتركها.
"فلما كان في عهد عمر رضي الله عنه ؛ جمعهم على قارئ واحدٍ، وأسرج المسجد فصارت هذه الهيئة - وهي اجتماعهم في المسجد وعلى إمامٍ واحدٍ مع الإسراج - عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمي بدعةً؛ لأنه في اللغة يسمى بذلك، ولم يكن بدعةً شرعيةً، لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض زال بموته صلى الله عليه وسلم، فانتفى المعارض" (1)) (2).
الشبهة الخامسة: فهمهم لقول الله تعالى: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُم فاسقونْ) ]الحديد: 27[.
الجواب: (ليس في هذه الآية دليل على استحسان البدع من كل الوجوه المحتملة، فإذا كان قوله تعالى: (إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) يرجع إلى قوله تعالى:(ابْتَدَعُوهَا)؛ فمعناه أن الله لم يكتبها عليهم؛ إلا أنهم ابتدعوها بقصد زيادة التقرب إلى الله، وفي هذا ذم لها؛ لأن الله لم يفرضها عليهم، ويزداد التقبيح أنهم مع اختراعهم لها لم يرعوها حق رعايتها، وقصروا فيما ألزموا أنفسهم به، وهذا ضرب من التقبيح والتشنيع المضاعف.
وإذا كان راجعاً إلى قوله:(مَا كَتَبْنَاهَا)؛ فمعناه أنهم ألزموا أنفسهم بابتداعها، فكتبها الله عليهم، أي أصبحت ديناً مشروعاً من لدن أحكم الحاكمين، وهذا ضرب من التقرير، وقد حدث مثله في ديننا، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقر أصحابه على أقوال وأفعال يأتون بها، لم تكن مشروعة من قبل، وبتقريره لها تصبح شرعاً يعبد الله به، وأمثلة ذلك في السنة كثير.
أما بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الشرع لم يعد بحاجة إلى زيادة؛ لأن الله أتمه وأكمله، ولم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً مما يقربنا من الجنة إلا وقد أمرنا به، ولم يدع أمراً يقربنا من النار إلا وقد نهانا عنه صلى الله عليه وسلم.
وجملة القول أن هذه الآية من شرع ما قبلنا، والراجح في علم الأصول أنه ليس شرعاً لنا؛ لأدلة كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي... فذكرها، وآخرها: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة " أخرجه البخاري ومسلم.
وعلى فرض صحة قول من قال:"شريعة من قبلنا شريعة لنا" فذلك مشروط بشرطين:
الأول: أن يثبت أن ذلك شرع ارتضاه الله لهم بنقل موثوق.
الثاني:أن لا يكون في شرعنا ما يخالفه.
وعليه؛ فالآية لا حجة فيها لمحسني البدع، لأن الإسلام بين أن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)(1).
الشبهة السادسة: جمع القرآن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الجواب:
أولاً:(القرآن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مكتوباً في الصحف؛ لقوله تعالى:(يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً) ]البينة:2[ وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا تكتبوا عني.ومن كتب عني غير القرآن فليمحه" .أخرجه مسلم، لكنها كانت مفرقة، كما يدل على ذلك قول زيد بن ثابت رضي الله عنه في قصة جمع القرآن التي رواها البخاري: " فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال".
ثانياً: إن جمع القرآن لم يأت به الصحابة من تلقاء أنفسهم، بل هو تحقيق لوعد الله تعالى أيضاً بجمعه؛ كما وعد بحفظه:(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ]القيامة:17[.(7/143)
فإذا جمعنا بين الآيتين؛ تبين لنا يقيناً أصل عظيم وهو أن الذي شرع الغاية لم ينس الوسيلة، فكما أن حفظ القرآن غاية شرعها الله، كذلك جمعه وسيلة بينها الله، فكان على عهد النبوة مكتوباً في الصحف التي هي العسب واللخاف وكذلك صدور الرجال، فلما رأى الصحابة أن القتل استحرَّ بالقراء يوم اليمامة؛ لجؤوا إلى الوسائل الأخرى التي كان القرآن مكتوباً فيها، فجمعوها، وكان ذلك إيذاناً من الله بتحقيق جمع القرآن وحفظه.
ثالثاً: إن اتفاق الصحابة وقع على جمع القرآن وذلك إجماع منهم وهو حجة بلا ريب كيف وهم القوم لا يجتمعون على ضلالة؟!
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" رواه الترمذي.
رابعاً: إن حاصل ما فعله الصحابة وسائل لحفظ أمر ضروري، أو دفع ضرر اختلاف المسلمين في القرآن، والأمر الأول من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، والأمر الثاني من باب "درء المفاسد، وسد الذرائع" وهي قواعد أصولية مستنبطة من الكتاب والسنة)(1).
(فإن قيل: فلماذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لوجود المانع، وهو أن القرآن كان يتنزل عليه طيلة حياته، وقد ينسخ الله سبحانه منه ما يريد، فلما انتفى المانع؛ فعله الصحابة رضوان الله عليهم باتفاق)(2).
و"ما رأى المسلمونَ حسناً؛ فهو عند الله حسنٌ ".
الشبهة السابعة: يقول البعض أن قول الرسول:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد" مخصص لحديث (كل بدعة ضلالة) ومبين للمراد منها؛ إذ لو كانت البدعة ضلالة بدون استثناء؛ لقال الحديث: من أحدث في أمرنا هذا شيئاً؛ فهو رد!! لكن لما قال:(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد)؛ أفاد أن المحدث نوعان: ما ليس من الدين، بأن كان مخالفاً لقواعده ودلائله؛ فهو مردود، وهو البدعة الضلالة، وما هو من الدين، بأن شهد له أصل، وأيده دليل؛ فهو صحيح مقبول، وهو السنة الحسنة!!
الجواب:
(معلوم من قواعد العلم ومبادئه أن روايات الأحاديث النبوية يفسر بعضها بعضاً، ويشرح بعضها ما غمض من بعضها الآخر.
فهذه الرواية يوضحها ويزيل لبسها المتوهم فيها ما يلي:
أولاً: الرواية الأخرى للحديث نفسه، وهي:(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد).
فهذا إيضاح جلي للرواية ذاتها، يكشف صورة العمل المحدث المردود، ويبين أنه كل عمل ليس عليه الدين؛ فهذا شامل للكيفية والصفة والهيئة إذا لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذ إعراب (ليس عليه أمرنا) أنها في محل نصبِ صفةٍ لـ (عملاً)، فصفة المحدَثِ أنه ليس عليه أمرُ النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن تطبيق السلف وفهمهم - وهم القوم لا يشقى الآخذ بقولهم - لهذا الحديث لم يكن على هذا الوجه المستنكر، وإنما كان على الجادة الموافقة لأصول اللغة، وقواعد الاستدلال.
ففي روايات كثيرة عنهم - رحمهم الله - تراهم يستنكرون أعمالاً مشروعة الأصل محدثة الكيفية والصفة، ويصفونها بالابتداع) (1).
الشبهة الثامنة: استدلالهم بما جاء عن غضيف بن الحارث رضي الله عنه أنه قال: "بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال: يا أبا أسماء إنا قد جمعنا الناس على أمرين، قلت: وما هما؟
قال:رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر.
فقال: أما إنهما أمثل بدعكم عندي، ولست مجيبك إلى شيء منهما.
قال: لم؟
قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة" فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة" أخرجه أحمد.
الجواب:
(أولاً: إن هذا الأثر لا يثبت، بل هو ضعيف، لأن في إسناده أبا بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني وهو ضعيف، ضعفه أحمد، وأبو داود، وأبو حاتم، وابن معين وأبو زرعة، وابن سعد، وابن عدي، والدارقطني، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (12/28-29)، و"تقريب التهذيب" (2/398)، و"ميزان الاعتدال" (4/498)، و"سير أعلام النبلاء" (7/64))(1).
(ثانياً: على افتراض صحة هذا الأثر، فإنه قد سبق التنبيه على أنه لا يجوز أن يعارض كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلام أحد من الناس كائناً من كان.
ثالثاً: أن غضيف بن الحارث رضي الله عنه رفض الاستجابة لهذه البدع، وردها، ولو كانت حسنة، لما امتنع من الأخذ بها.
رابعاً: إن قوله:"أمثل بدعكم"، أمر نسبي، أي هي بالنسبة للبدع الأخرى أخف شراً، وأقل مخالفة.
خامساً: استدل غضيف رضي الله عنه - على فرض صحة الأثر والحديث- على ترك هذه البدع بحديث: (ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة) فلو كانت هذه البدعة حسنة، لم يرفع من السنة مثلها، لأن رفع السنة عقوبة، والحسن لا يعاقب عليه)(1).
الشبهة التاسعة: زيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه للأذان قبل الأذان الشرعي يوم الجمعة.
الجواب:(7/144)
أولاً:(لقد فعل عثمان ذلك لمصلحة، وهو أن الناس عندما كثروا؛ وتباعدت منازلهم عن المسجد؛ رأى هذا الأذان نافعاً لاتساعها وكثرة أهلها، فيدعوهم ذلك إلى الاستعداد)( 1 )، يدل على ذلك ما جاء في صحيح البخاري عن السائب بن يزيد أنه قال: "كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما. فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء".
(وقد نقل القرطبي في "تفسيره" (18/100) عن الماوردي قوله: (فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان رضي الله عنه ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها) انتهى كلامه - رحمه الله - فمن صرف النظر عن هذه العلة، وتمسك بأذان عثمان رضي الله عنه مطلقاً لا يكون مقتديا به، بل هو مخالف له حيث لم ينظر بعين الاعتبار إلى تلك العلة التي لولاها لما كان لعثمان رضي الله عنه أن يزيد على سنته عليه الصلاة والسلام وسنة الخليفتين من بعده.
ولهذا قال الإمام الشافعي في كتابه"الأم"(1/173):"وقد كان عطاء ينكر أن يكون عثمان أحدثه، ويقول: أحدثه معاوية، وأيهما كان فالأمر الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي، فإن أذن جماعة من المؤذنين والإمام على المنبر، وأذن كما يؤذن اليوم أذان قبل أذان المؤذنين إذا جلس الإمام على المنبر كرهت ذلك له، ولا يفسد شيء من صلاته" اهـ)(1).
ففعل عثمان رضي الله عنه يعتبر من المصلحة المرسلة (و"المصلحة المرسَلة" في تعريف الأصوليين هي:"الأوصاف التي تلائم تصرفات الشارع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحةٍ أو دفع مفسدةٍ عن الناس".
وسميت "مرسلة"؛ لعدم وجود ما يوافقها أو يخالفها في الشرع؛ أي: أرسلت إرسالاً وأطلقت إطلاقاً.
والضابط الذي تتميز به المصلحة المرسلة من البدع المحدثة هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/594):(والضابط في هذا- والله أعلم - أن يقال: إن الناس لا يحدثون شيئاً إلا لأنهم يرونه مصلحةً، إذ لو اعتقدوه مفسدةً؛ لم يحدثوه؛ فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين.
فما رآه الناس مصلحةً؛ نظر في السبب المحوج إليه:
فإن كان السبب المحوج إليه أمراً حدث بعد النبي لكن من غير تفريط منه؛ فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه.
وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمعارضٍ زال بموته وأما ما لم يحدث سبب يحوج إليه، أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث.
فكل أمرٍ يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً، لو كان مصلحةٍ ولم يُفْعَل: يُعْلم أنه ليس بمصلحةٍ.
وأما ما حدث المقتضي له بعد موته من غير معصية الخالق؛ فقد يكون مصلحةً..الخ).
وخلاصةُ القول: أن "حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمرٍ ضروري، أو رفع حرجٍ لازم في الدين".
وليست البدع - عند من يدعيها- هكذا بيقين)(1) لأن المبتدع إنما يفعل البدع بقصد زيادة التقرب إلى الله وإن لم يكن هناك حاجة لإحداث ذلك الفعل.
ثانياً: أن عثمان رضي الله عنه من الخلفاء الراشدين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن من يعش منكم؛ فسيرى اختلافاً كثِيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدَثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة " . رواه أحمد وأبو داود.
الشبهة العاشرة: قول الإمام الشافعي- رحمه الله -:"البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة، فهو محمود، وما خالف السنة، فهو مذموم" واحتج بقول عمر رضي الله عنه في قيام رمضان: "نعمت البدعة هذه" رواه أبو نعيم في"حلية الأولياء" (9/113).
وقوله: المحدثات من الأمور ضربان: ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً، فهذه بدعة ضلالة.وما أحدث من الخير لا خلاف لواحد من هذا، فهذه محدثة غير مذمومة.قد قال عمر في قيام رمضان: "نعمت البدعة هذه".
يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.أخرجه البيهقي في "مناقب الشافعي"(1/469).
الجواب:
قال الشيخ سليم الهلالي في "البدعة وأثرها السيئ في الأمة" راداً على من يستدل بقول الشافعي هذا (ص63- 66):
(أولاً: بالنسبة لما أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/113) ففي سنده عبدالله بن محمد العطشي، ذكره الخطيب البغدادي في "تاريخه" والسمعاني في"الأنساب" ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً.
وأما بالنسبة لما أخرجه البيهقي ففيه محمد بن موسى الفضل، لم أجد له ترجمة(1).
ثانياً: قول الشافعي إن صح لا يصح أن يكون معارضاً أو مخصصاً لعموم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.(7/145)
والشافعي نفسه - رحمه الله - نقل عنه أصحابه أن قول الصحابي إذا انفرد ليس حجة، ولا يجب على من بعده تقليده، ومع كون ما نسب إلى الإمام الشافعي فيه نظر بدليل ما في "الرسالة " للشافعي ( ص597- 598)، فكيف يكون قول الشافعي حجة، وقول الصحابي ليس بحجة؟!
ثالثاً: كيف يقول الشافعي رحمه الله بالبدعة الحسنة وهو القائل: "من استحسن فقد شرع".
والقائل في "الرسالة" ( ص507):"إنما الاستحسان تلذذ".
وعقد فصلاً في كتابه "الأم" (7/293- 304) بعنوان:"إبطال الاستحسان".
لذلك؛ من أراد أن يفسر كلام الشافعي- رحمه الله - فليفعل ضمن قواعد وأصول الشافعي، وهذا يقتضي أن يفهم أصوله، وهذا الأمر مشهود في كل العلوم، فمن جهل اصطلاحات أربابها جهل معنى أقاويلهم، وأبعد النجعة في تفسيرها.
إن المتأمل في كلام الشافعي- رحمه الله - لا يشك أنه قصد بالبدعة المحمودة البدعة في اللغة، وهذا واضح في احتجاج الشافعي- رحمه الله - بقول عمر رضي الله عنه، وعلى هذا الأصل يفسر كلام الشافعي، وأنه أراد ما أراده عمر بن الخطاب رضي الله عنه أي: البدعة اللغوية ( كما سبق بيانه) لا الشرعية؛ فإنها كلها ضلالة؛ لأنها تخالف الكتاب، والسنة، والإجماع، والأثر) انتهى كلامه بتصرف.
الشبهة الحادية عشر: أن بعض العلماء قسم البدعة إلى خمسة أقسام، واجبة كالرد على أهل الزيغ؛ وتعلم العلوم الشرعية وتصنيف الكتب في ذلك، ومندوبة كإحداث الربط والمدارس والأذان على المنائر وصنع إحسان لم يعهد في الصدر الأول، ومكروهة زخرفة المساجد، ومباحة كالتوسع في المأكل والمشرب، ومحرمة وهي ما أحدث لمخالفة السنة ولم تشمله أدلة الشرع العامة ولم يحتو على مصلحة شرعية.
الجواب:
أولاً: بالنسبة إلى تقسيم البدع إلى خمسة أقسام فالجواب عنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعةٍ ضلالة) وهذا الحديث عام لم يدخله التخصيص كما سبق بيان ذلك.
ثانياً: قال الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (1/246) عن هذا التقسيم:
(إن هذا التقسيم أمرٌ مخترع، لا يدل عليه دليلَ شرعي، بل هو في نفسه متدافع؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي؛ لا من نصوص الشرع ولا من قواعده، إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوبٍ أو ندبٍ أو إباحةٍ؛ لما كان ثَمَّ بدعةٌ، ولَكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخير فيها.
فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعاً، وبين كون الأدلَة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمعٌ بين متنافيين.
أما المكروه منها والمحرم؛ فمسلم من جهة كونها بدعاً لا من جهةٍ أخرى، إذ لو دل دليل على منع أمر ما أو كراهته؛ لم يثبت ذلك كونه بدعة؛ لإمكان أن يكون معصية كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها، فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم البتة، إلا الكراهية والتحريم حسبما يذكر في بابه).
هذا بالنسبة إلى التقسيم المذكور، أما بالنسبة إلى الأمثلة التي ذكروها لهذا التقسيم فالجواب عنها ما يلي:
(أما الرد على أهل الزيغ فإنه من إنكار المنكر لأن البدع هي أعظم المنكرات بعد الشرك بالله، وهو أيضاً من الجهاد في سبيل الله ومن النصيحة للمسلمين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبيً بعثه الله في أمةٍ قبلي، إِلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته و يقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ". رواه مسلم.
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلمعلى الثلاثة الذين قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أما والله؛ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني".
وأنكر ابن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما على الذين اجتمعوا للذكر بطريقة غير مشروعة؛ كما سبق بيانه، ولما خرج الخوارج وأظهروا بدعتهم أنكر ذلك الصحابة وقاتلوهم، ولم يخالف أحد من الصحابة رضي الله عنهم في إنكار بدعتهم ووجوب قتالهم. وقد وردت الأحاديث الكثيرة في ذمهم والأمر بقتالهم إذا خرجوا)(1).
وأما بالنسبة للتصنيف في جميع العلوم النافعة فالأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية" رواه البخاري، وقوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءًا سمع مقالتي فبلَغها، فرب حامل فقهٍ غير فقيهٍ، ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه" (2)، ومن وسائل التبليغ تصنيف الكتب الشرعية.(7/146)
( وقد كان بعض الصحابة يكتب الأحاديث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد جاء في سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب"، وذكر أهل السير أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب يكتبون له الوحي وغيره)(3).
بل قد حث النبي صلى الله عليه وسلم على كتابة العلم فقال: "قيدوا العلم بالكتابة" (4).
(أما بالنسبة لإحداث الربط فلا نقول بأنه ليس له عهد لدى سلفنا الصالح، فأين أنتم عن الصفة وأهل الصفة، فهي رباط على فقراء الصحابة، وهي أصل في مشروعية وقف الأربطة على الفقراء)(5).
(وأما المدارس؛ فلا يتعلق بها أمر تعبدي يقال في مثله: بدعة؛ إلا على فرض أن يكون من السنة أن لا يقرأ العلم إلا بالمساجد، وهذا لا يوجد، بل العلم كان في الزمان الأول يبث بكل مكان؛ من مسجد، أو منزل، أو سفر، أو حضر، أو غير ذلك، حتى في الأسواق فإذا أعد أحد من الناس مدرسة يعين بإعدادها الطلبة؛ فلا يزيد ذلك على إعداده له منزلا من منازله، أو حائطاً من حوائطه، أو غير ذلك فأين مدخل البدعة ها هنا؟!
وإن قيل: إن البدعة في تخصيص ذلك الموضع دون غيره والتخصيص ها هنا ليس بتخصيص تعبدي وإنما هو تعيين بالحبس كما تتعيَّن سائر الأمور المحبسة، وتخصيصها ليس ببدعة،فكذلك ما نحن فيه)(1).
(وأما الأذان على المنارة فلا يدخل في مسمى البدعة لأن البدعة في الأذان هي الزيادة في ألفاظه مثل قول الرافضة أشهد أن علياً ولي الله وقول بعضهم أشهد أن علياً حجة الله، وقولهم حي على خير العمل وتكريرهم قول لا إله إلا الله مرتين في آخر الأذان ورفعهم الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الآذان، فهذا هو المبتدع في الأذان. وأما الأذان على المكان المرتفع فهو مروي عن بلال رضي الله عنه فقد روى أبو داود والبيهقي عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت: "كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر"وقد ترجم له أبو داود بقوله: "الأذان فوق المنارة" وترجم له البيهقي بقوله: "الأذان في المنارة")(2).
( وأما صنع الإحسان فإنه من المعروف وليس من البدع سواء كان معهوداً في الصدر الأول أو لم يكن معهوداً فيه.
وقد قال الله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) ] النحل:90[ وقال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين) ]البقرة:195[ والآيات والأحاديث الصحيحة في الحث على الإحسان كثيرة جداً، ولم يحدد صور معينة للإحسان بحيث لا يجوز فعل غيرها، وإنما يذم منه ما تجاوز الحد وكان من التبذير)( 1 ).
(وأما زخرفة المساجد فكيف يقال أنها من البدع المكروهة، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على النهي عنها، وقد نهى عنها عمر أيضا، فهي منهي عنها نصاً.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت بتشييد المساجد" قال ابن عباس:"لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى" أخرجه أبو داود (2) وأمر عمر ببناء المسجد وقال:"أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس")( 3 ).
( وأما بالنسبة للتوسع في المأكل والمشرب فهذه من الأمور المباحة ولا يقصد باستعمالها أمر تعبدي، فهي مشمولة بالنص النبوي الكريم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم رواه مسلم؛ وقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) ]الأعراف:31[ فما استحدثه الناس في أمور حياتهم مما لا يتعارض مع النصوص العامة في مراعاة الاقتصاد والإباحة العامة، فلا يعتبر بدعًا، فقد عرف العلماء البدعة بأنها طريقة محدثة في الدين)(4).
وأما البدع المحرمة وهي حسب تعريفهم: ما أحدث لمخالفة السنة، ولم تشمله الأدلة العامة؛ ولم يحتو على مصلحة شرعية.
فالجواب عن ذلك: أن هذه الشروط مخالفة للأحاديث النبوية والآثار السلفية التي جاءت في التحذير من البدع عموماً دون تخصيص أو تفصيل بين ما أحدث خلاف السنة أو غيره وإليك البيان:
1 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة" وهذا الحديث عام في إنكار جميع البدع كما سبق بيان ذلك.(7/147)
2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن وقوع الاختلاف بعده فقال: "فإن من يعش منكم؛ فسيرى اختلاَفاً كثيراً" وارشد من يدرك هذا الاختلاف بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده فقال: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ" ولم يقل لهم: فعليكم بما يوافق سنتي وسنة الخلفاء الراشدين ولم يخالفها مثلاً، ثم حذرهم من المحدثات عموماً فقال: "وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة" ولم يقل: وإياكم ومحدثات الأمور المخالفة لسنتي، فإن كل محدثة مخالفة لسنتي وسنة الخلفاء بدعة؛ وكل بدعة مخالفة لذلك فهي ضلالة.
3 - قال الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "كل بدعةٍ ضلالة وإن رآها الناس حسنةً" ولم يخصص بدعة من أخرى.
4 - وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :"أيها الناس! إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدَثة؛ فعليكم بالأمرِ الأول".
5 - وقد مر معنا إنكار ابن عمر رضي الله عنهما زيادة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد العطاس! بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمهم ذلك؛ وكذلك إنكار عائشة رضي الله عنها على المرأة التي سألتها عن سبب أن المرأة الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بقضاء الصلاة وإنما أمرهم بقضاء الصيام.
وكذلك مر معنا إنكار الإمام النووي- رحمه الله - صلاة الركعتين بعد السعي!.
فهذه الأدلة وغيرها تبين فساد تلك الشروط التي اشترطوها في البدعة المنكرة حسب زعمهم.
(والحاصل من جميعِ ما ذكر فيه قد وضح منه أن البدع لا تنقسم إلى ذلك الانقسام بل هي من قبيل المنهي عنه إما كراهةً وإما تحريماً)( 1 ).
الشبهة الثانية عشر: يقول البعض: إن ترك الرسول صلى الله عليه وسلم للفعل لا يدل على التحريم إلا إذا جاء في ذلك دليل صريح، فكيف يحتج على إنكار البدع الحسنة - حسب زعمهم - بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك؟
الجواب:
(أولاً: أن الله تعالى قال فيما امتن به على عباده: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً) ]المائدة:3[ وفي هذه الآية دليل على أنه لا يجوز إحداث البدع لأنها ليست من الدين الذي أكمله الله تعالى لهذه الأمة في حياة نبيها ورضيه لهم.
ثانياً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتتن وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدةً " قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي" رواه الترمذي (1) وهذا الحديث يدل على أن إحداث البدع لا يجوز لأنها من الأعمال التي لم يكن عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم)(2).
ثالثاً:("من المقرر عند ذوي التحقيق من أهل العلم أن كل عبادةٍ مزعومةٍ لم يشرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله، ولم يتقرب هو بها إلى الله بفعله، فهي مخالفة لسنته.
لأن السنة على قسمين: سنة فعلية، وسنة تركية.
فما تركه صلى الله عليه وسلم من تلك العبادات؛ فمن السنة تركها.
ألا ترى مَثلاً أن الأذان للعيدين ولدفن الميت مع كونه ذكراً وتعظيماً لله عز وجل لم يجز التقرب به إلى الله عز وجل، وما ذاك إلا لكونه سنة تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد فهم هذا المعنى أصحابه صلى الله عليه وسلم، فكثر عنهم التحذير من البدع تحذيراً عاماً؛ كما هو مذكور في موضعه" .
ولتقرير قاعدة السنة التركية أقول: أصل قاعدة (السنة التركية) مأخوذ من عدة أدلةٍ؛ منها:
حديث الثلاثة نفر الذين جاؤوا إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم … الخ وقد ذكرته فيما سبق.
فقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم، ورد فعلهم، مع أن أصل العبادات التي أرادوا القيام بها مشروعة، ولكن لما كانت الكيفية والصفة التي قام بها هؤلاء الثلاثةُ في هذه العبادات ( متروكةً) في تطبيق رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير واردةٍ فيه، أنكر ذلك عليهم.
فهذه ترجمة عملية منه صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا (ولم يقل من عمل عملاً عليه نهينا) فهو رد".
فهذا عمل مشروع الأصل، لكن ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، فهو مردودٌ على صاحبه، غير مقبول منه.
وخلاصة القول:"إن الترك - مع حرصه عليه السلام على إحراز فضيلة النفل - دليل الكراهة" كما قاله الإمام العيني كما في "إعلام أهل العصر" للعظيم آبادي (ص95) ومن أمثلة ذلك ما سبقت الإشارة إليه في أول هذا المبحث: الأذان لصلاة العيد:
فالأذان مشروع في أصله، لكن لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وتركوه، فتركهم له سنة يجب اتباعهم فيها.
وكذا الأذان للاستسقاء والجنازة ونحوهما.(7/148)
فمن فعل من التعبديات والقربات ما تركوه؛ فقد واقع البدعة، وتلبس بها.
قال الحافظ ابن رجب في "فضل علم السلف" (ص31): "... فأما ما اتفق السلف على تركه؛ فلا يجوز العمل به؛ لأنهم ما تركوه إلا على علم أنه لا يعمل به".
وللشيخ العلامة الشنقيطي في "أضواء البيان" (6/317-320) مبحثاً ماتعاً في أن الترك فعل؛ فهذا يؤكد أن "الترك سنة" ، إذ تعريف السنة أنها: "ما وَرَدَ عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو صفةٍ ".
فتمام اتباع السنة يكون بترك ما وَرَدَ تركه، وفعل ما وَرَدَ فعله، وإلا فباب البدعة يفتح؛ عياذاً بالله تعالى.
ولابن القيم - رحمه الله - تفصيل بديع ماتع فيما نقله الصحابة رضي الله عنهم لتركه صلى الله عليه وسلم؛ قال رحمه الله: "أما نقلهم لتركه؛ فهو نوعان، وكلاهما سنة:
أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله؛ كقوله في شهداء أحد: "ولم يغسلهم،
ولم يصل عليهم"؛ وقوله في صلاة العيد: "لم يكن أذان، ولا إقامة، ولا نداء"، وقوله في جمعه صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين: "ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدةٍ منهم" ... ونظائره.
والثاني: عدم نقلهم لما لو فعله؛ لتوفرت هممهم ودواعيهم، أو أكثرهم أو واحد منهم، على نقله، فحيث لم ينقله واحدٌ منهم ألبتة، ولا حدث به في مجمعٍ أبداً؛ عُلم أنه لم يكن…".
ثم ذكر رحمه الله عدة أمثلةٍ على ذلك منها: تركه صلى الله عليه وسلم التلفظ بالنية عند دخول الصلاة، وترك الدعاء بعد الصلاة على هيئة الاجتماع … وغير ذلك، ثم قال:"… ومن ها هنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة؛ فإن تركه صلى الله عليه وسلم سنة كما أن فعله سنة، فإذا استحببنا فعل ما تركه؛ كان نظير استحبابنا ترك ما فعله، ولا فرق ")(1).
تنبيه: قال الشيخ علي الحلبي - حفظه الله - في "علم أصول البدع" (ص114- 118):
(كتب الغماري المبتدع رسالةً موجزةً سماها "حُسْنَ التفهم والدَّرْك لمسألةِ الترْك" ، تكلم فيها بكلامٍ غير سديدٍ، خالطاً بين المسائل الأصولية خلطاً قبيحاً، يترفع عنه صغار الطلبة.
ومجال تعقبه وتحقيقِ القول في المسائل التي أوردها في رسالته كبير جدًا، أفردت له رسالة خاصة، عنوانها "دفع الشك في تحقيق مسألة الترك" يسر الله إتمامها.
ولكي لا أخلي المقام هنا من إشارةٍ تكشف انحرافه وتناقضه أقول:
ذكر في مواضع من كتابه ( ص9) وغيرها تأصيل مسألة الترك؛ قائلاً:
"فمن زعم تحريم شيءٍ بدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله؛ فقد ادعى ما ليس عليه دليل، وكانت دعواه مردودةً".
وقال (ص124):"ترك الشيء لا يدل على منعه؛ لأنه ليس بنهي".
وقد ذكر (ص151) أمثلةً على الترك مستحسناً لها؛ منها:
1- الاحتفال بالمولد النبوي.
2- تشييع الجنازة بالذكر.
3- إحياء ليلة النصف من شعبان. وغيرها!
لكنه - من قبل و من بعد - ناقض نفسه، فعد بعض المحدثات التي هي جارية على أصوله مساق الحسن والاستحسان: بدعاً قبيحةً، ومحدثاتٍ سخيفةٍ!!
فقد قال ( ص37):"وأما المغاربة؛ فزادوا بدعةً أخرى، وهي إقامة الجمعة في المساجد على التوالي والترتيب... وهذا اتساع في الابتداع، لا يؤيده دليل!!
ولا تشمله قاعدة!!".
كذا قال ناقضاً ما أصله قبل!
وماذا؟! اتساع في الابتداع!!
فأين أدلة استحساناتك وقواعد محدثاتك؟!
وقال ( ص38):"بعض الأئمة الجهلة يخطب الجمعة ويصليها في مسجدٍ، ثم يذهب إلى مسجدٍ آخر، فيخطب فيه الجمعة، ويصليها أيضاً، فيرتكب بدعةً قبيحةً، ويصلي جمعةً باطلةً، يأثم عليها ولا يثاب".
كذا!! وهو تناقض عجاب!!
وقال ( ص38- 39):"شاع في المغرب الأذان للظهر مرتين، بينهما نحو ساعةٍ، والأذان للعصر مرتين بينهما عشر دقائق، وفي تطوان يؤذن للعشاء مرتين أيضاً، وهذه بدعةٌ سخيفةٌ، لا توجد إلا في المغرب، ولم يشرعِ الأذان؛ إلا عند دخول الوقت للإعلام بالصلاة، والأذان بعده لاغٍ غير مشروعٍ".
وغير هذا وذاك من أمثلةٍ تجعل كتابه كله عَلَى (شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ) ]التوبة: 109[.
فما هو الذي جعل هذه المحدثات منكرةً عندك وهي مستحسنة عند أصحابها؟!
فلماذا رفضتها أنت منهم بلا ضابطٍ؟!
ولماذا هم لا يرفضون - أيضاً - مستحسناتك؟!
ثم ألا تدخل هذه المحدَثات كلها التي أنكرتها تحت العمومات القرآنية التي أشرت إليها فيصدر رسالتك الشوهاء ( ص11) جاعلاً إياها الأصل في استحسان البدع؛ كمثل قوله تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ]الحج: 77[... وغيرها؟!
فلماذا تصف تلك الفعال - وهي خير - بالسخافة وتشنع على أصحابها بالإنكار؟!
وأنت القائل ( ص11):"فمن زعم في فعل خيرٍ مستحدثٍ أنه بدعةٌ مذمومةٌ؛ فقد أخطأ وتجرأ على الله ورسوله، حيث ذم ما ندبا إليه في عموميات الكتاب والسنة" !
فهذا حكم منه على نفسه أوقعه على أم رأسه! وإبطالٌ لكتابه من أسه وأساسه!(7/149)
وأوضح من السابق كله ما قاله ( ص39) في حكم إرسال اليدين في الصلاة، حيث صرح بقوله:"لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة؛ فهو بدعة لا شك".
ووصفَها (ص40) بأنها: "زلةٌ قبيحةٌ، حيث جعلوا البدعة مندوبة، والسنة مكروهةً!!" .
قلت - القائل الشيخ علي الحلبي -: وبيان كبير زلَله في هذا الموضعِ أن ( عدم الفعل) هو عين (الترك)!!
فاستدل بمجرد ( الترك) على الحكم بالبدعية والوصف بقبح الزلة!!
وهل غير هذا نقول؟!
أم أنه الانحراف عن الجادة؟ والخلط في تخريج الفروع على الأصول!!
وما أحسن كلامه ( ص51) مقلوباً على نفسه:"وأغلب أخطاء هؤلاء المبتدعة
- وما أكثرها- تأتي من جهة جهلهم بالأصول، وعدم تمكنهم من قواعده، مع ضيقِ باعهم، وقلة اطلاعهم" !!
فلا قوة إلا بالله، ولا رب سواه.
وصفوة القول في هذه المسألة العظيمة ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى تقعيداً وتأصيلاً كما في "فتح الباري" (3/475):"ولكنا نتبع السنة فعلاً أو تركاً" ) انتهى كلام الشيخ علي الحلبي جزاه الله خيراً.
الشبهة الثالثة عشر: أن بعض الصحابة قد فعلوا أمورا تعبدية ولم يكن فيها دليل خاص؛ ومع ذلك أقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولم ينكر عليهم ذلك، كقصة خبيب بن عدي رضي الله عنه التي رواها البخاري وفيها أن المشركين لما أرادوا أن يقتلوه طلب منهم أن يتركوه لكي يصلى ركعتين قبل القتل فقال أبو هريرة راوي القصة:" فكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبراً"، وقصة بلال رضي الله عنه عندما كان يصلي ركعتين بعد كل وضوء.
فدل ذلك على جواز إحداث أمور تعبدية وإن لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم.
الجواب:
(أن فعل الصحابة موقوفاً على إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له، وكان فعلهم قبل نزول آية كمال الدين وتمام النعمة.
وأما بعدها مما ابتدعه الخلف فمن أين لهم أن يعلموا إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يقره أو ينهى عنه؟
أبالكشف الصوفي؟!
ولئن أقر النبي صلى الله عليه وسلم فعل خبيب وبلال في الصلاة بعد كل وضوء فإنه لم يقر البراء بن عازب على خطئه في الدعاء الذي علمه إياه النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت) فقال البراء:"فجعلت استذكرهن: وبرسولك الذي أرسلت"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم" : لا، وبنبيك الذي أرسلت" رواه البخاري ومسلم.
ولم يقر النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون على التبتل وسماه رهبنة، ولم يقر الصحابة الذين سألوا عن عبادةِ النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا بها، كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟
قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا؛ فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله؛ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني" رواه البخاري وقد مر معنا سابقاً.
فمن أين تضمنون إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لبدعكم وقد مات؟ وقد بلغكم قبل موته أن كل بدعة في الدين مردودة؟)(1).
وكل هذا يدل على أن ما أحدثه بعض الصحابة من أمور تعبدية أصبح سنة بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلملا بمجرد فعل الصحابة.
وقد قال عبد الفتاح أبو غده(2)؛ بعد ذكره لقصة خبيب بن عدي رضي الله عنه :
( قال العلامة القسطلاني في "إرشاد الساري" (5/165):"وإنما صار فعل خبيب سنةً، لأنه فعل ذلك في حياة الشارع صلى الله عليه وسلم واستحسنه".
وقال أيضاً (5/261):"وإنما صار ذلك سنةً، لأنه فعل في حياته صلى الله عليه وسلم فاستحسنه و أقره".
وقال أيضاً(6/314):"واستشكل قوله: "أول من سن"، إذ السنة إنما هي أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله، وأجيب بأنه فعلهما في حياته صلى الله عليه وسلم واستحسنهما" انتهى كلام القسطلاني.
- ثم قال أبو غدة -: وواضح من حديث أبي هريرة وقصة قتل خبيب فيه:
"أن لفظ ( السنة) ولفظَ ( سن) معناه: الفعل المشروع المتبوع في الدين، وعلى هذا فلا يصح لمتفقهٍ أن يستدل على سنية صلاة الركعتين عند القتل، بأن الحديث جاء فيه لفظ "سن"، فتكون صلاتهما سنةً مستحبةً، لأن حكم السنية لصلاة ركعتين هنا استفيد من دليلٍ آخر خارج لفظ "سن" بلا ريب وهو إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لفعله)(1).
الخاتمة: وتحتوي على طريق الخلاص من البدع
(بعد أن ظهر جلياً أن "كل بدعة ضلالة"، فما هو طريق الخلاص من البدع التي هي مفتاح الضلال؟
فالجواب هو ما قاله الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: " تركت فيكم أمرين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي" رواه مالك في "الموطأ" والحاكم.(7/150)
وقال الموفق ابن قدامة في "ذم التأويل" (ص35) بعد أن ذكر أدلةً كثيرةً في لزوم اتباعِ السلف الصالح:"قد ثبت وجوب اتباع السلف رحمة الله عليهم بالكتاب والسنة والإجماع، والعبرة دلت عليه؛ فإن السلف لا يخلوا من أن يكونوا مصيبين أو مخطئين، فإن كانوا مصيبين؛ وجب اتباعهم؛ لأن اتباع الصواب واجبٌ وركوب الخطأ حرامٌ، ولأنهم إذا كانوا مصيبين كانوا على الصراطِ المستقيم ومخالفهم متبعٌ لسبيل الشيطان الهادي إلى صراط الجحيم،وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وصراطه، ونهى عن اتباع ما سواه، فقال: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ]الأنعام:153[.
وإن زعم زاعم أنهم مخطئون؛ كان قادحاً في حق الإسلام كله؛ لأنه إن جاز أن يخطئوا في هذا؛ جاز خطؤهم في غيره من الإِسلام كله، وينبغي أن لا تنقل الأخبار التي نقلوها، ولا تثبت معجزات النبي صلى الله عليه وسلم التي رووها، فتبطل الرسالة، وتزول الشريعةُ ولا يجوز لمسلم أن يقول هذا أو يعتقده".
إذن؛ "الطريق الوحيد للخلاص من البدع وآثارها السيئة هو الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقاداً وعِلماً وعملاً" محوطاً ذلك كله بالاهتداء بهدي السلف وفهمهم ونهجهم وتطبيقهم لهذين الوحيين الشريفين؛ فهم - رحمهم الله - أعظم الناس حباً وأشدهم اتباعاً، وأكثرهم حرصاً، وأعمقهم علماً، وأوسعهم درايةً.
بهذا الطريق - وحسب - يتمسك المسلم بدينه مبرءاً من كل شائبة، بعيداً عن كل محدثةٍ ونائبة.
فعضوا عليه بالنواجذ؛ تهتدوا وترشدوا.
وهذا الطريق يسيرً على من يسره الله له، وسهل على من سهله الله عليه، لكنه يحتاج إلى جهودٍ علميةٍ ودعويةٍ متكاتفةٍ متعاونةٍ، ساقها الصدق، وأساسها الحب والأخوة - بعيداً عن أي حزبيةٍ أو تكتلٍ أو تمحورٍ -، ومنطلقها العمل بأمرِه تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) ]المائدة:2[.
والله الهادي - وحدَه - إلى سواءِ السبيل)(1) والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع/
1- "الاعتصام" للإمام الشاطبي تحقيق سليم الهلالي. دار ابن عفان بالخبر ط1
2- "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية.تحقيق ناصر بن عبد الكريم العقل. مكتبة الرشد بالرياض ط5.
3- "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية.
4- "الباعث على إنكار البدع والحوادث" للإمام أبي شامة تحقيق مشهور حسن آل سلمان.دار الراية بالرياض ط.
5- "ما جاء في البدع" للإمام محمد بن وضاح القرطبي تحقيق بدر البدر. دار الصميعي بالرياض ط1.
6- "الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع" للسيوطي تحقيق مشهور حسن آل سلمان. دار ابن القيم بالدمام ط1.
7- "علم أصول البدع" للشيخ علي بن حسن الحلبي. طبعة دار الراية بالرياض ط2.
8- "البدعة وأثرها السيئ في الأمة" للشيخ سليم الهلالي.دار الهجرة بالدمام ط3.
9- "اللمع في الرد على محسني البدع" لعبد القيوم السحيباني. مكتبة الخضيري ط1.
10- "حقيقة البدعة وأحكامها" لسعيد الغامدي. مكتبة الرشد بالرياض ط2.
11- "شيوخ الأزهر والزيادة في الدين" لعبد الله القصيمي. مطبعة المنار بمصر ط1.
12- "الموقظة من السنة على ألا بدعة حسنة" لمحمد بن أحمد مود الشنقيطي. مكتبة الأقصى بالدوحة ط1.
13- "إشراقة الشرعة في الحكم على تقسيم البدعة" لأسامة القصاص.المكتب الإسلامي ببيروت
14- "الأجوبة النافعة عن أسئلة لجنة مسجد الجامعة" للعلامة الألباني.المكتب الإسلامي ببيروت ط2.
15- "مختصر كتاب الاعتصام" لعلوي بن عبد القادر السقاف.دار الهجرة بالرياض ط1.
16- "حوار مع المالكي في رد منكرته وضلالاته" للشيخ عبد الله بن منيع ط2.
17- "الرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي" للعلامة حمود التويجري. دار اللواء بالرياض ط1.
18- "القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل" للعلامة إسماعيل الأنصاري طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والدعوة والإرشاد بالسعودية الأولى.
19- "مساجلة علمية بين الإمامين الجليلين العز بن عبد السلام وابن الصلاح حول صلاة الرغائب المبتدعة" بتحقيق الألباني والشاويش.المكتب الإسلامي ببيروت ط2.
20- " موسوعة أهل السنة" للشيخ عبد الرحمن دمشقية. دار المسلم بالرياض ط1.
21- "مقدمة في أصول التفسير" لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق محب الدين الخطيب.المكتبة السلفية بالقاهرة ط5.
22- "الأذكار" للإمام النووي.طبعة المكتبة العلمية ببيروت ط2.
23- "تفسير القرآن العظيم" للإمام ابن كثير. دار المعرفة ببيروت ط9.
24- "المجموع شرح المهذب"للإمام النووي تحقيق محمد المطيعي دار إحياء التراث العربي.(7/151)
25- "السنة" للإمام محمد بن نصر المروزي تحقيق سالم بن أحمد السلفي.مؤسسة الكتب الثقافية ببيروت ط1.
26- "السنة" للإمام ابن أبي عاصم تحقيق الشيخ الألباني. المكتب الإسلامي ببيروت ط3.
27- "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للإمام اللالكائي تحقيق أحمد بن سعد الغامدي.دار طيبة بالرياض ط5.
28- "فتاوى الإمام النووي" تحقيق محمد الحجار دار البشائر الإسلامية ببيروت.
29-"فتاوى العز بن عبد السلام" للعز بن عبد السلام تحقيق محمد جمعة كردي.مؤسسة الرسالة ببيروت ط1.
30- "الإحكام في أصول الأحكام" للإمام ابن حزم. دار الكتب العلمية ببيروت.
31- "سلسلة الأحاديث الصحيحة" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض.
32- "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
33- "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" للعلامة الألباني. المكتب الإسلامي ببيروت ط2.
34- "صحيح سنن أبي داود" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
35- "صحيح سنن ابن ماجة" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
36- "صحيح سنن النسائي" للعلامة الألباني. مكتبة المعارف بالرياض ط1.
37- "السنة النبوية وبيان مدلولها الشرعي والتعريف بحال سنن الدارقطني" لعبد الفتاح أبو غدة.مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب ط1.
38- "فتاوى شرعية وبحوث إسلامية" حسنين محمد مخلوف. دار وهدان ط4.
39- "الفتاوى" لمحمد متولي الشعراوي. دار الندوة الجديدة ببيروت.
----------------------------
26. ... أدبُ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم
أدبُ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم
إعداد/ محمد زايد
قال الله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا،لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) (الفتح:8،9)فأوجب عز وجل تعزيره وتوقيره صلى الله عليه وسلم، وألزم إكرامه وتعظيمه، قال المبرد:( وَتُعَزِّرُوهُ): ((تبالغوا في تعظيمه))، ونهى عن التقدم بين يديه بالقول وسوء الأدب بسبقه بالكلام، فقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) في إهمال حقه، وتضييع حرمته (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
وقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (الحجرات:1-4)، إلى غير ذلك من آيات الذكر الحكيم الآمرة بالأدب العالي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد امتثل الصحابة رضوان الله عليهم تلك الأوامر الإلهية، فحفظوا حقوق سيد البرية، وتأدبوا معه صلى الله عليه وسلم بما يليق بمقامه الشريف، وفضله المنيف.
ففي قصة صلح الحديبية أن عروة بن مسعود (جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال ((فو الله! ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له))، فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: ((أي قوم! والله! لقد وفدت على الملوك؛ وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله! إن رأيت ملِكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا) الحديث.رواه البخاري (5/330- فتح)، وأبو داود (2765)، وأحمد (4/323-331)،وانظر: ((فتح الباري))(5/341).
وفي نفس القصة أن عروة بن مسعود دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يحدثه، ويشير بيده إليه، حتى تمسَّ لحيته، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى عليه وسلم بيده السيف، فقال له: ((اقبض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك!)) فقبض يده عروةُ. رواه البخاري (5/330- فتح)، وأبو داود (2765)، وأحمد (4/323-331)،وانظر: ((فتح الباري))(5/341).
وُروي أن عمر عمد إلى ميزابٍ للعباس على ممر الناس، فقلعه، فقال له: ((أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعه في مكانه))، فأقسم عمر: ((لتصعدنَّ على ظهري، ولتضعنه موضعه)).أخرجه أحمد (1/210)، وابن سعد (4/20)، وضعفه الشيخ أحمد شاكر لانقطاعه، رقم (1790) تحقيق ((المسند)).(7/152)
وعن أبي رزين قال: قيل للعباس))أنت أكبرُ أو النبي صلى الله عليه وسلم؟)) قال))هو أكبر، وأنا ولدتُ قبله)).عزاه الهيثمي في ((المجمع))(9/270)إلى الطبري، وقال))رجاله رجال الصحيح)).
ولما قدم رسول الله المدينة، نزل على أبي أيوب، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم السفل، ونزل أبو أيوب العلو، فلما أمسى، وبات؛ جعل أبو أيوب يذكر أنه على ظهر بيتٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل منه، وهو بينه وبين الوحي، فجعل أبو أيوب لا ينام يحاذر أن يتناثر عليه الغبار، ويتحرك فيؤذيه، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يارسول الله! ما جعلت الليلة فيها غمضًا أنا ولا أم أيوب))، فقال: " ومم ذاك يا أبا أيوب؟ " قال: ((ذكرت أني على ظهر بيتٍ أنت أسفل مني، فأتحرك، فيتنار عليك الغبار، ويؤذيك تحركي، وأنا بينك وبين الوحي)) الحديث.رواه أحمد (5/415)، ومسلم (2053)، والطبراني في ((الكبير))(3986)، والحاكم (3/460-461)، وصححه على شرط مسلم(!)، ووافقه الذهبي(!).
وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: ( لما نزل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: ((بأبي وأمي إني أكره أن أكون فوقك، وتكون أسفل مني))، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أرفق بنا أن نكون في السُّفل لما يغشانا من الناس "، فلقد رأيت جرَّة لنا انكسرت، فأهريق ماؤها، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة (القطيفة: كساء له خمل) لنا، وما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء فَرَقًَا (الفَرَق: الخوف) من أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منا شئ يؤذيه)الحديث.رواه مسلم (2053)، والطبراني في ((الكبير)) رقم (3855)، واللفظ له.
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ((.. وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عينيَّ منه، وما كنت أطيق أن أملأ عينيَّ منه إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقتُ، لأني لم أكن أملأ عينيَّ منه)).رواه مسلم رقم (121)(1/112).
ولما أذنت قريش لعثمان في الطواف بالبيت حين وجَّهه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في القضية أبى، وقال: ((ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم)).انظر:) (سير أعلام النبلاء))( 3ك290-291).
وفي حديث قَيْلَة: ((فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا القرفصاء أرْعِدتُ من الفَرَق، وذلك هيبةَ له وتعظيماً)).انظر: ((الإصابة))( 8/83-87).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((إن كان ليأتي عليَّ السنةُ، أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ، فأتهيَّبُ منه، وإن كنا لنتمنى الأعراب)).عزاه الحافظ في ((المطالب العالية))( 3/325) إلى أبي يعلى، وسكت عليه البوصيري في ((مختصر إتحاف السادة المهرة))(1/28).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تُقْرعُ بالأظافير)).رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) رقم(1080)، وصححه الألباني في ((الصحيحة)) رقم (2092).
وعن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أنه كان في مجلس قومه وهو يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقبل على بعض يتحدثون، فغضب، ثم قال: (انظر إليهم أحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضهم يقبل على بعض؟! أما والله، لأخرجن من بين أظهركم، ولا أرجع إليكم أبداً، فقلت له: ((أين تذهب؟))، قال: ((أذهب فأجاهد في سبيل الله)).رواه الطبراني في ((الكبير))(6/5656،5866).
كتاب: ((حرمة أهل العلم))، للشيخ الدكتور: محمد أحمد إسماعيل المقدم _عفا الله عنه_
----------------------------
27. ... مَوْلِدٌ جَدِيدٌ
مَوْلِدٌ جَدِيدٌ
السيد: حسن بن علي البار(7/153)
قام من نومه فزعاً!! إنها الساعة الثامنة صباحاً. ركض باتجاه خزانة ملابسه، وأخذ منها ملابس مُناسِبة. ثم توقف ونظر في المرآة، وأصلح من هندامه، واندفع نحو الباب يريد الخروج. يا الله! تذكَّر أنه كاد أن يخرج من البيت وهو لم يغسل وجهه بعد، نعم! فاليوم هو مستعجل ومشغول، يحتاج(محمد) في هذا اليوم أن يُنجز الكثير من الأعمال مبكراً كي يفرغ في المساء، فالليلة(مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-) ، وإن لم يُبكِّر في إنجاز أعماله. ربما حَلَّ عليه المساء وهو بعدُ في مشاغله فيفوته التبكير لحضور(المولد). رجع محمد فغسل وجهه ثم خرج واستقل سيارته متوجهاً إلى عمله، وانهمك في مهامِّه ومشاغله. وفي أثناء انشغاله بإنجاز أوراق كانت بين يديه جاءته رسالة جوال. ترك ما في يده، وفتح الرسالة فإذا فيها: «أخي! هل تحب الله، هل تحب الرسول؟» قال في نفسه: نعم! وماذا بعد؟ واصل القراءة: «إن محبةَ الله ومحبةَ رسوله أوثقُ عرى الإيمان». يا الله! ما أجملها من كلمات! تمضي الرسالة: «إن كانت محبتهما بهذه المنزلة؛ فهل يمكن أن يكون(المولد) من وسائل محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يتركنا دون أن يبيّنه لنا؟» علَّق قائلاً: ما هذا؟ ما أدري، ماذا يقول هذا الرجل؟ آهِ إنه(صالح) هداك الله يا صالح!
ترك محمد هاتفه الجوال متجاهلاً ما جاء في الرسالة وعاد لإكمال ما بيده.
وفجأة تذكر أنه لم يُصَلِّ الصبح. توقَّف قليلاً، وتعجَّب من نفسه ما الذي ذَكَّره بها الآن، مع أنه في أحيان كثيرة لا يصليها!! قام محمد مباشرة وترك ما في يده، ووجد في نفسه همة ونشاطاً لأنْ يصلي الصبح لم يكن يعرف مثلها من قبل.
وفي آخر اليوم أتم محمد جميع أعماله، واستعد للذهاب إلى(المولد) وعندما ركب سيارته أطلق لفكره العنان يتذكر ما مر به في يومه من أحداث. تذكر الرسالة، وتذكر صلاته للصبح، وتذكر استعجاله للخروج حتى إنه نسي أول الأمر أن يغسل وجهه. ضحك من نفسه، ووجد في صدره راحة وأُنساً وانشراحاً؛ فحمد الله على نعمته. رجع محمد إلى نفسه يحاسبها على هذا التقصير في سنواته الماضية في الصلوات، وخصوصاً صلاة الصبح. وبدأ يحدث نفسه: تُرى هل أجد هذا الاطمئنان وهذه الراحة باستمرار إن داومتُ على هذه الصلاة؟!
تذكَّر محمد الشيخ خالد الذي اتصل به وأكَّد عليه التبكير للمولد. وهذا ديدن الشيخ خالد ـ جزاه الله خيراً ـ يتصل بي سنوياً يذكِّرني بهذه المناسبة المهمة.
ـ نعم! ـ حدثته نفسه ـ: ولكنَّ الشيخ خالد هذا لم يذكِّرك مرةً بصلاة الفجر، أو يعرض عليك أن يصطحبك إليها مثلما يفعل في شأن(المولد)! إنه يظل طوال عامه مشغولاً، غير مهتم بك حتى إذا جاء هذا الوقت من كل سنة تذكَّرك!
ـ أعوذ بالله، ما هذه الخواطر المزعجة؟ إن الشيخ خالد رجل صالح، من أولياء الله، وهو يفعل ذلك حباً للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وتعظيماً لمقامه الشريف.
ـ حُبّاً... نعم حُباً! آه ما أجمل الكلمات التي قرأتها في الرسالة اليوم!
عاد محمد إلى هاتفه الجوال، واستخرج منه الرسالة التي جاءته اليوم من صديقه صالح وأعاد قراءة ما فيها: «أخي! هل تحب الله، هل تحب الرسول؟ إن محبةَ الله ومحبةَ رسوله أوثقُ عرى الإيمان».
نعم! ـ قال محمد ـ: ألم يقل -صلى الله عليه وسلم-: «أوثق عرى الإيمان الحُب في الله والبغض في الله؟»(1).
وواصل القراءة: «إنْ كانت محبتهما بهذه المنزلة؛ فهل يمكن أن يكون(المولد) من وسائل محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يتركنا دون أن يبيّنه لنا؟ ».
ـ(صالحٌ) هذا صديق قديم، عرفتُه منذ الصغر في أيام الدراسة، وكنت أعرف فيه دائماً الجدَّ والتعَقُّلَ في الأمور كلها، وهو مع احترامه للناس إلا أنه لا يوكل عقله ومهمة التفكير عنه لأحد!! نعم! أتذكر مرة لما قال لنا المدرس أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخرج يده من القبر الشريف لمصافحة أحد الأولياء، وكيف أنه لم يقتنع، وظل يناقش الأستاذ عن مصدر هذه المعلومة، ويؤكِّد أن ذلك لم يقع مع كبار الصحابة؛ فكيف يقع للأولياء بعدهم؟ وكنا نتعجب منه، ومن قوة رأيه وشخصيته.
ـ نعم! صالح رجل عاقل، ولكني أنا أيضاً عاقل، ولا أتابع صالحاً في كل ما يقول، صالح يمشي مع مشايخ متشددين لا يحبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.(7/154)
ـ عجباً والله! كيف أقول عن صالح وعن أصحابه: لا يحبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مَن أرسل لي هذه الرسالة الرقيقة عن حبه -صلى الله عليه وسلم-؟ وأتذكَّر في الشهر الماضي أني صليت الجمعة عند أحد هؤلاء الشيوخ فوجدته ينافح ويدافع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويطلب من الناس تحمُّل مسؤولياتهم في مقاطعة كل الدول التي تُسيء إليه -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن في ذلك الوقت أحدٌ من الناس يذكر هذه القضية إلا هؤلاء، ثم تتابع الناس من بعدهم في الاهتمام بهذه القضية. وحتى الشيخ خالد لمَّا زرته لم يعرِّج على هذه القضية أبداً. وكذلك أنا أرى صالحاً وأصحابه يهتمون بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى إنه مرة أشار لي إلى واحدٍ منهم، وأخبرني أنه كتب عن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاباً ليس فيه إلا الأحاديث الصحيحة، وكذلك أذكر صديقنا سليمان الذي كتب مجموعة من القصص النبوي على هيئة قصص ميسَّرٍ للأطفال.هل هؤلاء لا يحبون الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ هل يمكن لمسلم يفعل السنن ويجتنب البدع، ويجعلُ اتّباعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هاجسه وشاغله، ويقدِّر سنته وسيرته وشريعته حق قدرها ألا يُحبَّ هذا الرجلَ العظيمَ والرسولَ الكريمَ -صلى الله عليه وسلم-؟.. واللهِ إن صَدَّقتُ يوماً أن هناك من الناس من يكون بهذه الدرجة من القسوة وغلظ القلب فلا يمكن أن أصدِّق أن قاسياً من الناس يكون أقسى من أن تؤثِّر فيه سيرة الرسول العطرة، وأقسى من أن تُحمد عقباه إذا اتبع سننَه، وهديَه -صلى الله عليه وسلم-. إي واللهِ! فبركةُ صلاتي للصبح اليوم أعقبت لي هذا الرشد، وهذه السعادة؛ فكيف بمن هو مترسِّمٌ لما جاء به -صلى الله عليه وسلم- في ليله ونهاره.
ـ على كل حال الاحتفال بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- فِعلُ خير، وما هو إلا ذكرٌ، وصلاةٌ على النبي -صلى الله عليه وسلم-، واجتماع على الخير، وتحريمه، والقول بأنه بدعة تشددٌ لا داعي له.. تشدد لا داعي له.. تشدد لا داعي له... أخذ يكررها متأملاً في مضمونها.
ـ لحظة! هل الذي لا داعي له، فعلُ ما تركه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-، وخيارُ المسلمين من بعده فلم يفعلوه؛ أم أن فعلَ ما تركوه هو الذي لا داعي له؟
ـ آااه! أشعر والله بإرهاق من هذا التفكير.
توقف محمد، ونزل إلى حديقة عامة كي يُمضي فيها بعض الوقت، ويتناول مشروباً يُنعشه. جلس محمد جانباً، وطلب كوباً من عصير الليمون بالنعناع، وشعر بالاسترخاء، وأعجبته روعة المكان، وأعجبه جمال الحديقة وحُسن تنسيقها. ولم يكدِّر عليه صفوه إلا مجموعة من الأولاد ممن ناهز الاحتلام، وهم يقومون بأعمال مريبة.. نظر إليهم محمد وإذا السباب والشتائم هي تحية بعضهم لبعض. وبعد قليل وقع بينهم تشاجر ارتفعت فيه الأصوات، وانقسموا على إثره فريقين، ويا للعجب! أخرج بعضهم آلات حادة، وسكاكين للاعتداء على الآخرين، وكادت أن تقع مقتلة لولا لطف الله؛ حيث وقفت سيارة شرطة في مكان قريب، وترجل الشرطي منها قاصداً الحديقة ليشرب هو أيضاً كوباً من العصير؛ فلما رآه الصغار مقبلاً ولَّوْا مُدبرين.
ـ قال محمد لنفسه: الحمد لله... كادت أن تقع هنا مقتلة لولا أن الله سلّم. كان يجب أن يكون هنا مراقب لهذا المكان الجميل لئلا يقع فيه ما لا تُحمد عقباه، فإن لم يكن فإغلاق الحديقة خير من تركها لتكون مدرسة جريمة يتأذى المجتمع بخريجيها في مستقبل الأيام. نعم! الشيء الذي يغلب شره على خيره يجب أن يُنظر فيه إلى ما غلب عليه.
ـ وهنا عاد محمد يناقش نفسه: صحيح؛ وكذا الكثير من الموالد التي يكثر فيها الشر والفساد، واللهِ إنهم يشربون الخمر والحشيشة باسم مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكم يقع في بعض الموالد من هتك لحرمات الله: رقص واختلاط، واللهِ ما هذه بمحبة صادقة..
ولكن الحمد لله؛ فالمولد الذي أحضره، والذي يُقام عند أهلي وعشيرتي مولدٌ سالمٌ من كل هذه البدع!
ـ البدع.. ماذا قلتُ أنا؟ بدع!! كيف قلتُ هذه الكلمة!!.. نعم! والله إنها لبدع!
ـ ولكن يا محمد! ألا تظن أن مولدكم الخالي من هذه المنكرات، قد يتضمن منكرات أخرى لا تراها أنت بدافع إلفك لها، وتعوُّدِك عليها؟ ثم ألا يمكن أن يتطور مولدكم يوماً ليلحق بالموالد التي قلت عنها إنها موالد بدع؟
ـ بالطبع لا، وهذه موالدنا، نحن وشيوخنا وآباؤنا منذ سنين طويلة لم يتغير فيها شيء، ولم نصل إلى شيء من هذه البدع والحمد لله.
ـ ألا تذكر يا محمد المولد الذي يقيمه(عبد الله)؟ أتذكر ما الذي كان عليه، وأنه كان مثل مولدكم تماماً، أما تشعر أنهم صاروا الآن يستخدمون الدفوف ضمن احتفالهم بالمولد، ولقد سمعت أحد أقارب عبد الله يتحدث عن إدخال الناي في مراسم المولد..
ـ نعم! هذا صحيح أنا أذكر ذلك. هم مُخطئون في ذلك ولا شك.
ـ ولكن لماذا هم مخطئون؟ ألا يمكن أن نكون نحن المخطئين، وأنه كان يجب علينا أن نفعل مثلهم؟(7/155)
ـ لا، لا، هم المخطئون، لا أقولها تعصباً، ولكن الذي فعلوه تغييراً لما كان عليه أسلافنا.
ـ طيب أليس المولد كله تغيير لما كان عليه الأسلاف الأوائل؟!
ـ نعم! ـ قالها وقد ضاق بهذا النقاش ذرعاً ـ: هو كذلك، ولكنه فعل خير.
هنا بدأ محمد يشعر بالضيق، وعدم الرغبة في الذهاب مبكراً إلى المولد، وتمنى لو أنه يلقى صالحاً فيناقشه في الأمر. ولكن أين صالح وكيف يمكن الوصول إليه؟!
قلَّب محمد في رسائل هاتفه الجوال؛ فإذا رسالة قديمة كان صالح قد أرسلها له قبل أيام، وإذا فيها: «أنت لا تُوَكِّل غيرك في شراء سيارةٍ لك، ولا في اختيار بيت تستأجره مما تتجمَّل به ويعبِّر عن شخصيتك، بل تقوم بذلك بنفسك..». تواصِلُ الرسالة: «فلِمَ توكل إلى غيرك اختيار ما تتجمل به أمام الله ـ تعالى ـ من أمر دينك؟».
لا، والله! لا أريد أن أعمل أعمالاً أصرف فيها القليل من وقتي وعمري الذي أجعله للعبادة؛ ثم تكون هذه الأعمال لا نافعة، ولا مرضيَّةً عند الله!!
أليس في الواضح الأكيد، الصافي من كل كدر من العبادات أليس فيه غنية عن كل متشابه، قد يكون بدعة وقد يكون سنة؟
أما آن لي أن أسمع ممن اعتدت أن أسمع لهم من مشايخي، ولكن لا أُصِمُّ أُذنيَّ عن سماع غيرهم ممن قد يأتي بالحق بدليله فينشرح له صدري، وتقبله نفسي؟
وهنا بدأت معالم الصورة تتضح أمام محمد، وبدأ يرسم خطة جديدة لحياته، وإذا بالقرارات تنثال عليه وكأنه قد أعدها مسبقاً:
1 ـ أنا لن أعبد الله بالمتشابه، الذي لا أعلم أيرضاه مني أم لا؟ وفي الدين الواضح والمحجة البيضاء غنية وكفاية، وعسى أن أقوم بحقوقها وتكاليفها فإن في ذلك لَشُغلاً.
2 ـ لن أحضر احتفال المولد اليوم، ولا بعد اليوم، وقد أبدلني الله به مولداً جديداً هو مولدي أنا!! فأنا من اليوم إنسانٌ جديد، ومن اليوم سأحتفل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في كل حين؛ سأحتفل بتطبيق سنته، سأحتفل بالاقتداء به وبالمحافظة على صلاة الفجر في وقتها، وكذا بقية الفرائض، سأحتفل بتحكيمه -صلى الله عليه وسلم- في كل شؤون حياتي، و والله إني لأشعر بِلَذَّةِ ذلك من الآن، وكأنها حلاوة أتطعَّمُها في فمي، ونِعم المولد مولدٌ أعيشه وأتبع فيه حبيبي -صلى الله عليه وسلم-، وأحيا معه في كل حركةٍ وسكون.
3 ـ أهل العلم يجب أن نأخذ منهم، وأن نوقِّرهم، ولكن دون أن نُلغي عقولنا؛ فالحساب يوم القيامة سيكون فردياً، يجب أن أفهم أن ما أتَّبعهم فيه يجب أن يكون سنة لا بدعة، وأن يكون مقرِّباً إلى الله؛ فالعالم قد يُخطئ وقد يتبع العادة أو الهوى. ولا، واللهِ لا أُنزل أحداً من العالمين منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - في اتباعه في الأمر كله.
4 ـ أرجو أن ينفعني الله بقول نبيه - صلى الله عليه وسلم -: «ما من شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيّن لكم» فماذا بقي أرجو بعد هذا؟
ومضى محمد شاكراً لنعمة الله عليه بالتبصير في الدين، وركب سيارته وأدار المذياع؛ فإذا بالشيخ سعود الشريم ينساب صوته عذباً: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَإنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ * إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 115 - 117].
أخي الكريم! هذه قصة جرت لرجل من الناس جعل الله له نوراً بتحكيمه للسنة على نفسه، وبتعظيمه هدي المصطفى وجَعْلِهِ إماماً؛ فقد فاز ـ واللهِ ـ من اتخذ مع الرسول سبيلاً بطاعته واتباعه، وتجنب الإحداث في دينه.
إن معيار الحق والعدل الذي يحبه الله ويرضاه لا يُعرف باستحسانِ ذوق، ولا بتوارثِ أجيال، ولا بفعلِ الجم الغفير من الناس، ولا بالتحاكمِ إلى عقلٍ لم يستنر بنور الشريعة، ولا بتقليدٍ لمن لم يأتِ ببرهانٍ من الله على ما يقوله. ولكنْ مَنْ طَلَبَ الهداية بصدق، ثم سلك طريقها الذي أمر اللهُ به وأمر به رسولُه -صلى الله عليه وسلم- متبعاً لا مبتدعاً فأحرِ به أن ينال مراده؛ فالله يقول: «يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهْدِكم». ويقول عن اتِّباع الطرق غير الموصلة للحق: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153] ، ويقول عن قوم ذامّاً لهم: {إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23].(7/156)
إن شأن المولد إذا تأمل فيه مَنْ هو خالي الذهن غير مائلٍ لطرف من آراء الناس فيه إذا تأمل فيه وفي أدلة كمال الشريعة، علم أنه أي المولد ـ قَصْدُ خيرٍ، ولكنه ليس بهدى ولا خير؛ فإحداث هذا الاحتفال بحدِّ ذاته إحداثٌ في الدين، ثم إنه غالباً في أكثر بلدان المسلمين ينضاف إليه أنواع من الأمور المستنكرة والأفعال القبيحة. وأخفهم إحداثاً من يقوم أثناء الحضرة فجأة، وقد أعدوا العدة سابقاً لهذا القيام فيقومون قومة رجل واحد، ويُدخلون الطيب، ويُنشِدون بصوت مُنَغَّمٍ شجي: «مرحباً يا نور عيني.. مرحباً، مرحباً. مرحباً جد الحسين.. مرحباً مرحباً»، وفي موالد أخرى يقع ما أشارت إليه القصة من المنكرات، وفي بعضها يقع الكفر الصراح، كما نقل الشيخ عبد الرحمن الوكيل، وهو ممن كان له بالمتصوفة علاقة.
ولذا فهذه البدعة التي يعدُّها بعض الناس يسيرة ولا تستحق النقاش ـ تؤول إلى أن تكون مجمعاً لبدع كثيرة لا تقوم إلا بها، ويكون المولد هو الفلك الذي تدور حوله، وهو الموسم الذي تنتشر فيه، وهذا ما يسميه أهل العلم بالبدعة المركبة. ولمعرفة جانب مما يقع في الموالد يمكن مراجعة كتاب:(الموالد في مصر) ، وهو لجندي إنجليزي يُدعى(مكفرسون) نزل مصر واستوطنها، واهتم بقضية الموالد فزار كثيراً منها، وكتب عمَّا رأى، ووصف، وهو غير متَّهم فيما ينقل؛ إذ كان يتحدث عن ذلك كله حديث المُعجَب به ويعتبره من عادات المجتمعات الشرقية، وهو ليس له هوى في إثبات المولد ولا في نفيه، وإنما انحصر دوره في النقل والوصف. وقد ذكر موالد كثيرة شاهدها تستغرق بمجموعها أيام السنة بكمالها. وبمثل هذه الَّدرْوَشات تُستغرق الأعمار، ويرضى الشيطان، وتُضَيَّع حقائق الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يا أهل العلم! هذه دعوة للمراجعة والتصحيح، ولا يمنعنكم رأي ارتأيتموه فيما مضى من الأيام إن استبان لكم الحق في غيره أن تراجعوا الحق فإن الحق قديم، والحق أحق أن يُتَّبع. إن المحبة عمل قلبي تظهر آثاره بما تنبعث به الجوارح، وليست ادعاءات بأن قوماً يحبون الرسول أكثر من غيرهم، أو أن من لا يفعل فعلنا فهو غير مُحِبٍ للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد مضى الزمن الذي يُصدِّق الناس فيه ما يقال عن(أهل السنة) دون تمحيص، كيف وقد ملؤوا السهل والجبل، وأقاموا الدين في كل ناد، وقاموا في مقامات الصدق في نصرة دين الله وحبيب الله -صلى الله عليه وسلم-. وليس على هذا المعوَّل في التزكية، ولكنه على الاتباع، وحُسن التأسي، وإنما أردنا مخاطبة القوم بالطريقة التي يعرفون. وليس أضر على الإسلام من المنافحة بالباطل، والتعصُّب لما يحبه قوم، أو ضد ما يأمر به قوم آخرون، وأي لُعبة يفرح بها الشيطان ويتلعَّب بها بالإنسان أعظم من هذه؟! إنَّ مِن إخلاص العبودية لله أن تقبل الحق، وإن كان مُرّاً، وأن تأخذ به ولو جاء به أبغضُ الناس إليك؛ وكذا أن تردَّ الباطل ولو كانت لك فيه مصلحة أو شهوة، وأن لا تلتفت إليه وإن قام به أبوك وأخوك وأقربوك. وإياك أن تَضِن بهؤلاء أن يكونوا أخطؤوا الحق، وأن ذلك يُزري بك وبهم؛ فيحملك ذلك على أن تتابعهم في الباطل؛ فإن جدالك عَمّا هم عليه بعدما تبيَّن هو الذي يُزري بك وبهم، ويمد المستكبر في عمايته، ويزيده طغياناً كبيراً، والعياذ بالله. قال ـ جل شأنه ـ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 20 - 24].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإنْ تَأَمَّر عليكم عبد، وإنه مَنْ يعشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة»، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
وقال حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ: « كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا تتعبدوا بها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا الله يا معشر القراء! خذوا طريق من كان قبلكم »(2).
وقال ابن الماجشون: «سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- خان الرسالة؛ لأن اللّه يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، فما لم يكن يومئذٍٍ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً»(3).(7/157)
«اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل عالم الغيب والشهادة فاطر السماوات والأرض، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.. اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».
000000000000000000
(1) أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده 1/101، وهو حديث صحيح، صحيح الجامع للألباني، رقم 2539.
(2) الاعتصام للشاطبي 1/386.
(3) الاعتصام للشاطبي 1/23.
---------------------------
28. ... احتفاليات ربيع الأول!!
احتفاليات ربيع الأول!!
الدكتور رشاد لاشين**
يأتينا شهر ربيع الأول بعبق رائع ونفحات طيبة لطالما نشتاق إليها، ونَحِنُّ لقدومها والنهل من معينها والارتقاء إلى أهدافها وتحقيق مراميها على أرض الواقع، يأتينا ربيع الأول باحتفاليات رائعة على عدة محاور ما أعظمها وما أحوجنا إليها..
الاحتفال بأعظم الخلق صلى الله عليه وسلم
أتى رسول الله حاملا مشعل النور والهداية للعالم أجمع وبأعظم منهج وأشرف رسالة، أتى محمد صلى الله عليه وسلم فأنشأ خير أمة أخرجت للناس، أمة الرحمة والأخلاق والعدالة والإنسانية.
فهيا نحتفل بالحبيب صلى الله عليه وسلم بطريقة عملية تجلب لنا حبه ورضاه:
* نحتفل برسول الله بجعله لنا زعيمًا وقائدًا وقدوة ورائدًا في كل شئون حياتنا، فنعمل بسنته ونطبق تعليماته ونتبع هداه.
* نحتفل برسول الله صلى الله عليه وسلم بتعظيم العبادة لله، فقد كان رسولنا الحبيب أعبد الناس في كل نواحي الحياة.
* نحتفل برسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بأخلاقه الطيبة التي جمعت شمائل الخير كلها.
* نحتفل بإيجاد روابط إسلامية قوية على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول والأمة كلها، والاهتمام بشئون المسلمين ونصرتهم.
* نحتفل بالحبيب صلى الله عليه وسلم بنشر هداه والأخذ بيد العالم الحائر المضطرب الذي يموج بالغواية والضلال ويتعذب بنيران المادية والشهوات، ويغرق في مستنقع الفواحش والمنكرات إلى نهجه القويم وهديه العظيم.
* نحتفل بالحبيب صلى الله عليه وسلم بتأديب المجرمين، وتطهير ديار المسلمين من دنس المحتلين، وإجلاء يهود بني صهيون عن كل شبر من أرضنا الحبيبة، ونصرة المستضعفين في كل مكان.
الاحتفال بإجلاء الحصون المنيعة
ففي شهر ربيع الأول من العام الرابع الهجري تم إجلاء يهود بني النضير عن مدينة رسول الله بعد حصار ديارهم الحصينة من قبل جند الله تعالى، وخروجهم أذلة صاغرين بعد غطرسة القوة ونفشة الباطل المحتمي بتلك الحصون، التي طالما أبدع اليهود في إنشائها والتغني بقوتها.
لقد مثل هذا الجلاء درسًا كبيرًا على مدى التاريخ؛ ليعلم العالم أننا حينما نحتمي بالله تعالى ونأخذ بالأسباب فإنه يمكننا من تحقيق إنجازات تخالف كل التوقعات السياسية والحسابات العسكرية، وأن هذه الحصون المنيعة لبني صهيون لا بد أن يكون مصيرها كمصير بني النضير.
وقد ذكر لنا الله تبارك وتعالى التقديرات الإستراتيجية لموقف الحرب آنذاك على كلا الطرفين، بعد أن نسب الفعل إلى نفسه في تقدير النصر.. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا} هذا تقدير الموقف من جانب المسلمين، {وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ} (الحشر: 2)، وهذا تقدير الموقف من اليهود المجرمين؛ الاحتماء بالحصون المنيعة.
فماذا كانت النتيجة {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (ختام نفس الآية).
ما أحوجنا اليوم إلى هذا الدرس العظيم ونحن نرى غطرسة القوة اليهودية الأمريكية أن نكون على يقين من أن الله تعالى الذي بث الرعب في قلوب يهود بني النضير قادر على أن يبث الرعب في قلوب يهود بني صهيون فلسطين، شريطة أن ننصر الله في كل ميادين الحياة.
الاحتفال بتحريم الخمر وتطهير العقل
في ربيع الأول من العام الرابع الهجري حرم الله تعالي الخمر التحريم النهائي الحاسم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة: 90-91).
لذا يجب أن نحرص على أن يكون شهر ربيع الأول من كل عام هو المحطة التي ننطلق منها لمكافحة المكيفات بكافة أنواعها: (السجائر, الشيشة, القات, الخمور, والمخدرات،.. وغيرها)، وذلك عبر الآتي:
• توضيح أضرار المكيفات على كل مجالات الحياة سواء الصحية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.(7/158)
• توضيح الحكم الشرعي في المكيفات من خلال آراء الفقهاء والعلماء والمجامع الفقهية.
وأن نوظف هذه الحملة من خلال:
1- وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة.
2- خطب الجمعة ودروس المساجد.
3- عقد الندوات في النوادي والمدارس والجمعيات ومراكز الشباب.
4- توزيع الملصقات المحذرة في الأماكن العامة ووسائل المواصلات.
5- الرعاية النفسية والاجتماعية لأصحاب المكيفات، والأخذ بأيديهم نحو الإقلاع.
6- حسن تربية الأبناء ورعايتهم بالتربية الوقائية حتى لا ينجرفوا في هذا المستنقع الرهيب.
الاحتفال بتأصيل مبدأ الشورى
في 12 ربيع الأول 11هـ - 8-6-733م، وبعد تلقي المسلمين الخبر الفاجع بوفاة رسول الله لم يستمروا في مصابهم الجلل، ولم يفلت منهم زمام الأمور؛ فإذا بهم بعد سويعات قليلة يدبرون أمرهم ويسعون لشغل مقعد القيادة الذي شغر؛ وذلك قبل دفن أعز الخلق عليهم؛ ففي أقرب وقت اجتمعت مجموعة من صحابة رسول الله تمثل أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة للتشاور في اختيار قائد وخليفة للمسلمين بعد رسول الله.
ومن خلال المناقشة تبين أن المرشحين أربعة هم: سعد بن عبادة، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمر بن الخطاب، وأبو بكر الصديق، وبنتيجة الحوار والمناقشة والشورى تم اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
في اليوم الثاني دعي الشعب والأمة إلى المسجد لقبول أو رفض الخليفة الجديد؛ حيث لا تنعقد قيادته إلا بموافقة الشعب والأمة، فما كان منهم إلا أن قبلوه وبايعوه، وبذلك أصبح قيادة شرعية بترشيح أهل الحل والعقد وقبول واختيار الشعب بعيدًا عن القهر أو التسلط، وهذا أحد أنساق الشورى التي مورست عبر تاريخ المسلمين المشرف العظيم.
فهي دعوة للناشطين في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان أن يظهروا الوجه المشرق الرائع العظيم لإسلامنا الحنيف بتوضيح أهمية وقيمة الشورى في الإسلام؛ فريضة ومبدأ وممارسة وتطبيقًا.
الاحتفال بردع قوة التهديد واستثمار الشباب
في ربيع الأول 11هجرية وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولية قائد جديد لم تنكمش الأمة على نفسها أو تقف عاجزة عن مواجهة أعدائها؛ بل من أول قرارات القائد الجديد تحريك جيش عظيم إلى بلاد الشام كان قد شكله رسول الله صلى الله عليه وسلم لردع الروم إحدى القوتين الكبيرتين في المنطقة آنذاك؛ وذلك لتربصهم بالمسلمين وتهديدهم لمن يدخل في الدين الجديد.
كان لزامًا على القيادة الجديدة أن تقوم بعمل إستراتيجي؛ للحد من كبرياء هذه الدولة، وكسر غطرستها وتحطيم جبروتها من جانب ولإعادة الثقة إلى قلوب العرب المقيمين على حدود تلك الدولة من جانب آخر.
وهذا ما يعرف بـ (بعث أسامة)؛ جيش يقوده شاب لم يتجاوز عمره 18 عامًا؛ لتأديب وردع قوة كبرى تهدد المسلمين؛ ليتعلم شبابنا قيادة الأمة، وكيف يعتد الإسلام بالشباب ويتيح لهم الفرصة، وكيف كان الشباب جديرين بتحمل المسئولية في صغرهم.
لقد أصرت القيادة على إنفاذ بعث (أسامة بن زيد) في وقت حرج صعب بعد وفاة رسول الله وارتداد كثير من العرب عن الإسلام، والتهديدات تحيك بالأمة من الداخل والخارج، ولكنها النظرة الإستراتيجية الثاقبة المهتدية بنور الله.
فما أحوجنا اليوم إلى استثمار طاقة الشباب وتأهيله وإتاحة الفرصة له بعد أن عانت الشعوب العربية والإسلامية الأمرين بسبب تسلط الحكام وتوارث الحكم.
الاحتفال ببدء توحيد الأمة على يد صلاح الدين الأيوبي
في 29 من ربيع الأول 570هـ الموافق 29 من أكتوبر 1174م، وفي وقت خفتت فيه شمس الأمة وادلهم الظلام عليها بتفرق أهلها وتسلط أعدائها، يسطع نجم صلاح الدين الأيوبي فيبدأ في تبديد الظلام والعمل لبدء بزوغ شمس الإسلام من جديد؛ وتكون أول خطواته التي استمرت على مدى 18 عامًا لإصلاح الأمة وإعادة بنائها.
كانت أهم الخطوات توحيد صفوف الأمة وجمع شتاتها، وتأديب الشارد منها أو المتحالف مع أعدائها، وقد تحين صلاح الدين الفرصة لتوحيد الأمة؛ فحينما علم بوجود بعض الاضطرابات والمشاكل في الشام، استخلف أخاه "العادل" على مصر، واتجه على رأس جيشه إلى الشام فدخل دمشق في 29 من ربيع الأول 570هـ= 29 من أكتوبر 1174م، وكانت هذه أولى خطواته لتوحيد الأمة.
وقد تلت خطوته السابقة خطوات أخرى بضم وتوحيد مدن جديدة، مثل "حمص" و"حماة" و"حلب"، واستطاع بعد ذلك أن يحسن إدارة البلاد التي قام بتوحيد صفوفها، ثم مد جسور التواصل مع جسم الخلافة الأم، حتى اعترف به الخليفة العباسي وأقر له بالسيادة على مصر واليمن وبلاد الشام.
لقد استطاع صلاح الدين أن يحقق ضلعين من مثلث النصر؛ قوة الوحدة والارتباط بعد قوة العقيدة والإيمان، ثم نجح تباعًا في تحقيق الضلع الثالث ألا وهو قوة الساعد والسلاح، وبعد هذا الإعداد الرائع استطاع القائد الفذ العظيم أن يحقق النصر، وأن يحرر القدس الشريف، وأن يطهر الأمة من رجس لحق بها قرابة المائة عام.(7/159)
فما أحوج أمتنا اليوم إلى أن تعي درس الوحدة والارتباط، وأن تجمع صفوفها وتلملم شأنها وتعتصم بحبل ربها؛ حتى تقوم من كبوتها وتعود إلى سؤددها وسالف مجدها العظيم.
--------------
** ماجستير طب الأطفال - جامعة الزقازيق وليسانس الشريعة الإسلام
---------------------------
29. ... "مولد الهادي".. احتفال إيماني
"مولد الهادي".. احتفال إيماني
صبحي مجاهد**
ذكرى عطرة تعود علينا كل عام تنتظرها القلوب، وتهفو إليها النفوس، ونتلمس فيها النور النبوي، إنها ذكرى مولد سيد الأنام، ونور الهدى، وطبيب القلوب سيدنا ونبينا ومولانا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ويقف المسلم مع هذه الذكرى النورانية حائراً، في كيفية الاحتفال بها؟، وكيف يجعل من مجتمعه ساحة للاحتفال الإيماني بالنبي الهادي.. أسئلة حملناها إلى عدد من علماء الأمة الإسلامية في مختلف الأقطار، فأجابوا عنها بمشاعر فاضت بالنور والحب للرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فهناك العديد من المعاني الإيمانية التي تحييها هذه الذكرى العطرة؛ أهمها ما أوضحه الدكتور محمد البشاري- رئيس الفيدرالية العامة لمسلمي فرنسا، أمين عام المؤتمر الإسلامي الأوروبي؛ قائلا: "من المهم سؤال النفس عما قدمته في السنة الماضية؟ وماذا فعلت من أجل رضا الله ورسوله؟ لأنها ذكرى تحيي روح التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم.
ويعيب د. البشاري على من يجعل الاحتفال بمولد الهادي ليوم واحد في العام، ويقول: "ينساق عالمنا اليوم إلى إحياء اليوم الواحد في الذكريات العامة والدينية؛ حيث جعلنا يوما للمرأة ويوما للعمل، وصار الاحتفال بالرسول يوما في حين أنه يجب أن يكون يوميا؛ بالاقتداء به كل يوم في حياتنا، وجعله أحب إلينا من أنفسنا وأرواحنا وأزواجنا".
ولمسلمي الغرب وسائل متميزة في الاحتفال الإيماني بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما يوضحه د. البشاري بقوله: "لهم فرصة كبرى في عقد اللقاءات الروحية المستمرة احتفاءً بالنبي صلى الله عليه وسلم كل يوم؛ لأن الرموز الدينية تدعم الجانب الروحي لمسلمي أوروبا. وفي هذا العام سنعقد لقاءً إيمانيا في "تمبكتو" بدولة مالي حيث نحيي ذكرى المولد النبوي".
ويضيف البشاري: "يعد الاحتفال فرصة لجمع المسلمين على قلب رجل واحد، ويجب أن نستغل حادث الدانمارك، وما أفرزه من ثورة إيمانية في تحريك القلوب وتوجيه الغضب واستثماره بشكل إيجابي في واقعنا".
احتفال 5 مرات يوميًا
ويلتقط الدكتور إبراهيم أبو محمد- رئيس المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية- أطراف الحديث، فيرجع أهمية استمرار الاحتفال على الدوام؛ إلى اختلاف شخص الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل الشخصيات، خاصة أن الله تعالى جعل له احتفالًا ربانيًا يتم خمس مرات في اليوم والليلة، عندما نقول في صلواتنا "السلام عليك أيها النبي"، إذ جعلت صيغة الصلاة عليه بصيغة المخاطب الحاضر، لتؤكد أن النبي يجب أن يكون حاضرا في حياة الأمة والفرد والمجتمع خمس مرات في اليوم والليلة.
ولا يمكن أن يكون الاحتفال بكلمات تلهب المشاعر دون عمل حقيقي؛ وهذا ما أكد د. أبو محمد أمرا على أهمية تغييره، ويوضح أن خير احتفال برسول الله صلى الله عليه وسلم إحياء منهجه وسنته والعيش على ضربه، وجعله يعيش في حياتنا وكأنه السيد المطاع بين السادة الأتباع.
ويحتاج المؤمن إلى دائمًا إحياء حب الرسول في قلبه؛ وعن هذا يقول د. أبو محمد: "لا بد أن يعبر الاحتفال بالمولد عن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن القلب لا يموت وفيه حب الرسول، وإذا ماتت محبة الرسول من قلب المؤمن ضاع وتاه وضل الطريق".
وعليه فلابد وأن نفرق بين الحب والاتباع، حيث يقول تعالى لنبيه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران: 31).
فلم يقل "فأحبوني"؛ وكأن الاتباع الحقيقي للرسول صلى الله عليه وسلم هو ثمرة للحب، وكلما ازداد هذا الحب عمقا، وازداد شعاعه تألقا؛ اقترب المسلم من مرضات الله، وأصبح أهلا لرحماته".
وعن الاحتفال هذا العالم؛ يشير د. أبو محمد: "يشهد المسلمون إهانة نبيهم، وتطاولا لا يستند إلى قيم أو أخلاق، ومن ثم لابد أن يكون احتفالهم معبرا عن نصرة نبيهم".
ويرى الدكتور محمد فؤاد البرازي -رئيس الرابطة الإسلامية بالدانمرك- أن هذه النصرة يجب أن تبتعد عن بدع الاحتفال، وقصرها على الدروس والمحاضرات التي تثري المعرفة بشمائله وسيرته العطرة صلى الله عليه وسلم.
ويتابع البرازي: "تحيي ذكرى المولد النبوي في النفوس مشاعر الحب للرسول، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى بذل الوسع في تعريف صفاته بكل لغات العالم، وباستخدام كل الوسائل المسموعة والمقروءة والمرئية، كي يعرف العالم من هو رسول الله؟ وماذا يعني ميلاده من فضل ورحمة للبشرية جمعاء؟".
تدريب اجتماعي(7/160)
هناك حاجة إلى تدريب الأفراد على كيفية الاحتفال الجماعي بذكرى مولد الهادي. هذا ما توضحه الدكتورة سهير عبد العزيز- أستاذة علم الاجتماع وعميدة كلية الدراسات الإنسانية الأسبق بجامعة الأزهر بنات.
وتشير إلى أن الاحتفال الجماعي بذكرى المولد النبوي يكون من خلال التواصل الاجتماعي، واغتنام الفرصة في الترابط بين الناس، والتذكير بما كان عليه رسول الله من عطف على الفقير وإشعاره بالسعادة.
وتؤكد الدكتورة سهير: "من المهم أن يكون الاحتفال بالمولد النبوي فرصة لجمع الأهل، وتقريب صلة الرحم، وتوسيع المودة بين الأقارب والأصدقاء والجيران؛ في زمن تباعدت فيه المودة والتقارب بين الناس. كما يثري الاحتفال بالمولد حياتنا الاجتماعية عندنا نتذكر الرسول الإنسان، وكيف كان يتصرف في كل أموره، ويعمل بإخلاص، ويستثمر كل لحظة في الخير".
وترى الدكتورة سهير أن الاحتفال الجماعي بالمولد النبوي يحقق الاستقرار النفسي للإنسان، ويغذي مشاعر الفرد في هذا الزمن، كما يحمي من القلق الذي يعاني منه غير المسلمين؛ الذين لا يجتمعون على مشاعر إيمانية في احتفال جامع.
وتستطرد قائلة: "ينبغي أن تكون تحية الرسول صلى الله عليه وسلم اجتماعيا بطريقة يرضى عنها الله ورسوله، والبعد عن السلبيات الاجتماعية التي تحدث في الاحتفال بذكرى المولد النبوي، والتي تتمثل في نسيان الشخصية التي يتم الاحتفال بها، وجعل الاحتفال به صلى الله عليه وسلم مجرد مرح، ويوم إجازة نلهو ونلعب فيه".
---------------
**صحفي مصري
==================
الفهرس العام :
الباب السادس- دلائل ومعجزات النبوة ... 1
شبهات وأباطيل ... 1
1. ... آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثبات معجزاته الباهرة للعقول ... 12
2. ... شبهة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يأتِ بمعجزة ... 30
3. ... المعجزة الكبرى.. القرآن الكريم ... 31
4. ... عصمته صلى الله عليه وسلم من الناس ... 33
5. ... دلائل نبوته فيما يتعلق ببعض الحيوانات ... 39
6. ... تكثيره الماء ونبعه من بين أصابعه الشريفة ... 42
7. ... إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم ... 46
8. ... الإسراء والمعراج ... 55
9. ... مقدمة ... 59
10. ... إخباره صلى الله عليه وسلم عن المغيبات (1) ... 60
11. ... إخباره صلى الله عليه وسلم عن المغيبات (2) ... 69
12. ... إخباره صلى الله عليه وسلم عن المغيبات (3) ... 93
13. ... معجزاته صلى الله عليه وسلم في أنواع الجمادات ... 108
14. ... إفحام النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتاب ... 113
15. ... بركة النبي صلى الله عليه وسلم ... 115
16. ... الجذع يحن إليه!! ... 118
17. ... 1- القول الأقوم في معجزات النبي الأكرم.. المقدمة ... 126
18. ... وانشق القمر ... 133
19. ... القول الأقوم في معجزات النبي الأكرم(2).. معجزة القرآن ... 135
20. ... القول الأقوم في معجزات النبي الأكرم(3).. انشقاق القمر, نبع الماء من بين أصابعه ... 172
21. ... البرق بين العلم الحديث والكلام النبوي الشريف ... 208
22. ... القول الأقوم في معجزات النبي الأكرم(4). .تكثير الطعام ببركته، كلام الشجرة وشهادتها بالنبوة ... 228
23. ... القول الأقوم في معجزات النبي الأكرم(5) حنين الجذع وما شابهها ... 269
24. ... القول الأقوم في معجزات النبي الأكرم(6).. في الآيات في ضروب الحيوانات ... 302
25. ... القول الأقوم في معجزات النبي الأكرم(7).. إبراء المرضى ... 354
26. ... المعجزات النبوية بين الغلاة والمقصرين ... 399
27. ... القول الأقوم في معجزات النبي الأكرم(8).. في كرامته وبركاته ... 403
28. ... 9- القول الأقوم في معجزات النبي الأكرم(9) [اطلاعه على الغيبيات] ... 435
29. ... 10- القول الأقوم في معجزات النبي الأكرم(10) ... 496
30. ... القول الأقوم في معجزات النبي الأكرم(11) ... 521
31. ... القول الأقوم في معجزات النبي الأكرم(الخاتمة) ... 558
32- تعدد مصاحف القرآن ... 562
33- تعدد قراءات القرآن ... 566
34- الكلام الأعجمى ... 576
35- الكلام العاطل ... 579
36- الكلام المتناقض أ ... 584
37- الكلام المفكك ... 590
38- الكلام المكرر ... 592
39- الكلام المنسوخ ... 601
40- الكلام الغريب ... 607
41- الكلام المنقول عن غيره دعوى أن القرآن مقتبس من التوراة ... 614
42- رفع المعطوف على المنصوب ... 633
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف ... 633
منشأ هذه الشبهة: ... 633
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (1). ... 633
هذه الآية هى منشأ هذه الشبهة عندهم ، لأنهم نظروا فيما بعد " الواو " فى " الصابئون " وقارنوا بينه وبين " الذين آمنوا " الواقع بعد " إن " وهى حرف ناسخ ينصب " المبتدأ " ويرفع " الخبر " واسم " إن " هنا هو " الذين " وهو مبنى لأنه اسم موصول. ... 633(7/161)
وقد عطف عليه " الذين هادوا " أما " الصابئون " فجاءت مرفوعة ب"الواو" لأنها جمع مذكر سالم وجاء بعدها " النصارى ". ... 634
وكل من " الذين " فى الموضعين السابقين على " الصابئون " وكذلك " النصارى " إعرابها تقديرى لا يظهر لا فى الخط ولا فى النطق ، وذلك لأن الاسم الموصول " الذين " من المبنيات على حالة واحدة ، أما "النصارى" فهو اسم مقصور ، يتعذر ظهور حركة الإعراب عليه ، وهى هنا الفتحة ، و " الراء " مفتوحة أصالة ، ومحال أن تظهر فتحتان على موضع واحد. سواء كانت الحركتان مختلفتين ، كفتحٍ وضمٍ ، أو متجانستين ، كفتحتين وضمتين. ... 634
وخصوم القرآن نظروا فى نظم هذه الآية الحكيمة وقالوا إن فيها خطأ لغوياً (نحوياً) ؛ لأن " الصابئون " معطوفة على منصوب " إن الذين آمنوا " فكان حقها أن تنصب ، فيقال " والصابئين " لكنها جاءت مرفوعة ب " الواو " هكذا " والصابئون " وهدفهم من تصيد هذه الشبهات إثبات: ... 634
- أن فى القرأن تحريفاً لمخالفته بدهيات القواعد النحوية. ... 634
- أو هو ليس من عند الله ، لأن ما كان من عند الله لا يكون فيه خطأ. ... 634
الرد على الشبهة: ... 634
للنحاة والمفسرين فى توجيه رفع " الصابئون " فى هذه الآية عدة آراء ، منها ما هو قوى مشهود له فى الاستعمال اللغوى عند العرب الخلص ، ومنها ما هو دون ذلك ، وقد بلغت فى جملتها تسعة توجهات نذكر منها ما يلى: ... 634
الأول: ما قاله جمهور نحاة البصرة ، الخليل وسيبويه وأتباعهما ، قالوا: إن " الصابئون " مرفوع على أنه " مبتدأ " وخبره محذوف يدل عليه خبر ما قبله " إن الذين آمنوا " قالوا: والنية فيه التأخير ، أى تأخير " والصابئون " إلى ما بعد " والنصارى ". وتقدير النظم والمعنى عندهم: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون كذلك " (2). ... 634
ومن شواهد هذا الحذف عند العرب قول الشاعر: ... 634
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأى مختلف فقد حذف الخبر من المبتدأ الأول ، وتقديره " راضون " لدلالة الثانى عليه " راض ". ... 634
والمعنى: نحن بما عندنا راضون ، وأنت بما عندك راض. ... 635
وقول الآخر: ... 635
ومن بك أمسى بالمدينة رحله فإنى وقيَّار بها لغريب والتقدير: فإنى لغريب وقيار كذلك. ... 635
وقول الشاعر: ... 635
وإلا فاعلموا أنَّا وأنتم بغاة ما بقينا فى شقاق الشاعر يصف الفريقين أنهم " بغاة " إن استمروا فى الشقاق ، والتقدير: ... 635
اعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك. ... 635
وهكذا ورد فى الاستعمال اللغوى عند العرب ، أن الجملة الاسمية المؤكدة ب " إن " يجوز أن يذكر فيها مبتدأ آخر غير اسم " إن " وأن يذكر خبر واحد يكون لاسم " إن " ويحذف خبر المبتدأ الثانى لدلالة خبر اسم "إن " عليه ، أو يحذف خبر اسم " إن " ويكون الخبر المذكور للمبتدأ الثانى دليلاً على خبر اسم " إن " المحذوف ونظم الآية التى كانت منشأ الشبهة عندهم لا يخرج عن هذه الأساليب الفصيحة ، التى عرفناها فى الأبيات الشعرية الثلاثة ، وهى لشعراء فصحاء يستشهد بكلامهم. ... 635
الثانى: أن " إن " فى قوله تعالى: " إن الذين آمنوا " ليست هى " إنَّ " الناسخة ، التى تنصب المبتدأ وترفع الخبر ، بل هى بمعنى: نعم ، يعنى حرف جواب ، فلا تعمل فى الجملة الاسمية لا نصباً ، ولا رفعاً ، وعلى هذا فالذى بعدها مرفوع المحل ، لأن " الذين " اسم موصول ، وهو مبنى فى محل رفع ، وكذلك " الصابئون " فإنه مرفوع لفظاً ، وعلامة رفعه " الواو " لأنه جمع مذكر سالم ، مفرده " صابئ ". ... 635
وقد استعملها العرب كذلك. قال قيس بن الرقيات: ... 635
برز الغوانى من الشباب يلمننى ، وآلو مهنَّهْ ويقلن شيبٌ قد علاك وقد كبرتَ ، فقلت إنَّهْ (3) أى فقلت: نعم. ... 635
وعلى هذا فإن كلا من " الذين " و " الصابئون " والنصارى ، أسماء مرفوعة إما محلاً ، وهما: الذين " فهى مبنية فى محل رفع ، والنصارى مرفوعة بضمة مقدرة لأنها اسم مقصور لا تظهر على آخره حركات ، وإما لفظاً مثل: " الصابئون " فهى مرفوعة لفظاً بواو الجماعة. ... 635
وعليه كما كان فى المذهب الأول فلا خطأ فى الآية كما زعم خصوم القرآن. ... 635
أما المفسرون فقد اختار الزمخشرى منهم المذهب الأول المعزو إلى جمهور علماء البصرة ، ومن شيوخهم الخليل وسيبويه ، فقال: ... 636
" والصابئون " رفع على الابتداء ، وخبره محذوف والنية به (4) التأخير عما فى حيز إن من اسمها وخبرها كأنه قيل: ... 636
" إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا ، والصابئون كذلك " (5). ... 636
وقال الإمام الشوكانى: ... 636
" والصابئون " مرتفع على الابتداء ، وخبره محذوف والتقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصابئون والنصارى كذلك " (6). ... 636(7/162)
وقد ألمح الإمام الشوكانى إلى إضافة جديدة خالف بها كلا من الخليل وسيبويه والزمخشرى ؛ لأن هؤلاء جعلوا " الصابئون" مقدما من تأخير كما تقدم ، أما هو فجعله قاراًّ فى موضعه غير مقدم من تأخير بدليل قوله: ... 636
" والصابئون والنصارى كذلك " وهذه إضافة حسنة ومقبولة. وعليه يمكن جَعْل " النصارى " مرفوعة عطفاً على " الصابئون " ولا حاجة إلى جعلها منصوبة عطفاً على " إن الذين آمنوا " ، والواقع أن هذا المذهب على جملته الذى ذهب إليه جمهور علماء البصرة ، وتابعهم فيه الإمام الشوكانى هو أقوى ما أورده النحاة فى توجيه رفع " الصابئون " فى هذه الآية الكريمة. أما بقية الآراء ، فهى دون ذلك بكثير (7). ... 636
هذا هو توجيه رفع " الصابئون " عند جمهور النحاة والمفسرين ، أما توجيهه بلاغة فهو ما يأتى: ... 636
إن مخالفة إعراب " الصابئون " عما قبلها سواء كانت مقدمة من تأخير على رأى الجمهور أو غير مقدمة على رأى الإمام الشوكانى وآخرين (8) وعما بعدها إن قدرنا " والنصارى " معطوفاً على " إن الذين آمنوا والذين هادوا ، بأن هذه المخالفة لمحة بلاغية رائعة ؛ تشير إلى وجود فرق كبير بين هذه الطوائف الأربع: ... 636
- الذين آمنوا. ... 636
- الذين هادوا. ... 636
- النصارى. ... 636
- الصابئون. ... 636
فالطوائف الثلاث الأولى يربط بينها رابط قوى هو أن كل طائفة منها لها كتاب ورسول من عند الله عز وجل. ... 637
فالذين آمنوا لهم كتاب هو القرآن ، ورسول هو محمد صلى الله عليه وسلم . ... 637
والذين هادوا لهم كتاب هو التوراة ، ولهم رسول هو موسى عليه السلام. ... 637
والنصارى لهم كتاب هو الإنجيل ، ولهم رسول هو عيسى عليه السلام. ... 637
أما الصابئون ، فليس لهم كتاب ولا رسول ، وهم على ضلال مطبق لا ذرة من هداية فيه. ... 637
والمقام الذى تتحدث عنه الآية هو فتح باب القبول عند الله لكل من آمن إيماناً صحيحاً صادقاً وداوم على عمل الصالحات. فالإيمان يمحو ما قبله ولا ينظر الله إلى ماضيهم الذى كانوا عليه من كفر ومعاصٍ ، والآية بدأت بالذين آمنوا ليستمروا على إيمانهم الذى هم فيه ، ويلتزموا بعمل الصالحات والله سيجزيهم خير الجزاء على إيمانهم المستمر ، وصلاحهم الدائم (9). ... 637
ثم ثنت بالذين هادوا ، يعنى: اليهود ، وهم كانوا فى عصر نزول القرآن قد غالوا فى دينهم ، وحادوا عن الحق ، وغيَّروا وبدَّلوا فيما أنزله الله على أنبيائهم فوعدهم الله إذا آمنوا إيماناً صحيحاً صادقاً ، وتابوا إلى الله من كل ما ابتدعوه فى عقائدهم واتبعوا ما أنزل الله على خاتم رسله ؛ بأنهم سيكونون فى أمنٍ من عذاب الله ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ... 637
وكذلك النصارى حيث جعلوا لله صاحبة وولدا وغالوا كثيراً فى دينهم ، إذا آمنوا إيماناً صحيحاً صادقاً ، وبرئوا من عقائدهم التى ابتدعوها ، وأصلحوا شأنهم ، وآمنوا بما أنزله الله على خاتم رسله ، ولزموا العمل الصالح ، كان سعيهم عند الله مشكوراً ، ووقاهم الله عز وجل من الخوف والحزن يوم يقوم الناس لرب العالمين. ... 637
ثم زاد الله فى ترغيب هذه الفرق الثلاث فيما عنده بأن يجعل هذا الفضل للصابئين الذين خرجوا عن جميع الرسالات السماوية ، وإذا كان الله يقبل منهم إيمانهم إذا آمنوا ، ويثيبهم على عمل الصالحات. ... 637
فإن الذين آمنوا واليهود والنصارى أولى بالقبول عند الله ، إذا آمنوا وعملوا الصالحات. ... 637
ومن أجل هذا خولف إعراب و " الصابئون " ليلفت الأذهان عند قراءة هذه الآية أو سماعها إلى الوقوف أمام هذه المخالفة ، وليتساءل القارئ أو السامع ما سبب هذه المخالفة ، ثم يقوده هذا التساؤل إلى الحصول على هذا المعنى الذى تقدم. ... 638
فهذه المخالفة أشبه ما تكون بالنبر الصوتى فى بعض الكلمات ، التى يراد لفت الأنظار إليها عند السامعين ؛ قالوا: والواو فى " والصابئون " ليست لعطف المفردات على نظائرها ، وإنما هى لعطف " الجمل " و" الواو " التى تعطف جملة على أخرى لا تعمل فى مفردات الجملة المعطوفة ، لا رفعاً ولا نصباً ولا جراً. بل تربط بين الجملتين المعطوفة والمعطوف عليها فى المعنى دون الحركات الإعرابية. ... 638
ولهذه الآية نظائر فى مخالفة إعرابها لما قبلها اتخذ منها خصوم القرآن منشأ لشبهات مماثلة وسيأتى الحديث عنها كلا فى موضعه إذا شاء الله تعالى. ... 638
والخلاصة: ... 638(7/163)
إن هذه الآية: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر (تخلو من أى خطأ نحوى أو غير نحوى. بل هى فى غاية الصحة والإعجاز ، وقد بينا وجوه صحتها ، والمعانى البيانية التى ألمح إليها رفع " الصابئون " وهؤلاء الذين يلحدون فى آيات الله لا دراية لهم بالنحو ولا بالصرف ولا بالبلاغة ، وليسوا هم طلاب حق ، ولا باحثين عنه ، والذى سيطر على كل تفكيرهم هو البحث " عن العورات " فى كتاب لا عورات فيه بل هو أنقى وأبلغ وأفصح وأصح ، وأصدق بيان فى الكون كله ، ولا يأتوننا بمثل إلا جئناهم بالحق وما هم بسابقين. ... 638
(1) المائدة: 69. ... 638
(2) انظر: الدر المصون للسمين الحلبى (4/354). ... 638
(3) البيتان فى ديوانه (66) والكتاب لسيبويه (1/475). ... 638
(4) الضمير فى " به " عائد على " الصابئون " يعنى أن حقه أن يذكر بعد النصارى ، ولكنه قُدِّم من تأخير. ... 638
(5) الكشاف (1/630). ... 638
(6) فتح القدير (2/71). ... 638
(7) انظر: تفاصيل هذه الآراء وشواهدها ومناقشتها فى " الدر المصون " للسمين الحلبى (4/352) وما بعدها. ... 638
(8) انظر: المصدر السابق (4/360). ... 639
(9) بعض العلماء يفسر " الذين آمنوا " فى الآية بأنهم المنافقون لأنهم غير مؤمنين فى الباطن. والأصوب ما أثبتناه ، وهو أن المراد هم الذين آمنوا فعلاً ، ويكون المطلوب منهم أمرين ثباتهم على هذا الإيمان. ... 639
ثم إدامة عمل الصالحات. كما فى قوله تعالى:(يا أيها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله (النساء: 136. ... 639
أى: دوموا على إيمانكم. ... 639
------------------------- ... 639
43- نصب المعطوف على المرفوع ... 639
44- نصب الفاعل ... 645
45- تذكير خبر الاسم المؤنث ... 651
46- تأنيث العدد ، وجمع المعدود ... 654
47- جمع الضمير العائد على المثنى ... 656
48- الإتيان باسم الموصول العائد على الجمع مفرداً ... 658
49- جزم الفعل المعطوف على المنصوب ... 660
50- جَعْلُ الضمير العائد على المفرد جمعاً ... 662
51- الإتيان بجمع كثرة فى موضع جمع القلة ... 665
52- الإتيان بجمع قلة فى موضع جمع الكثرة ... 669
53- جَمْعُ اسمِ عَلَمٍ يجب إفراده ... 670
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف ... 670
منشأ هذه الشبهة: ... 670
هو قوله تعالى: (وإن إلياس لمن المرسلين * إذْ قال لقومه ألا تتقون * أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الأولين * فكذبوه فإنهم لمحضرون * إلا عباد الله المخلصين * وتركنا عليه فى الآخرين * سلام على إلياسين ) (1). ... 670
موضع الشاهد على الشبهة عندهم هو " إلياسين " ولكنهم ـ لسوء قصدهم ـ اتبعوا طريقة حذف مزرية فى هذه الآيات ، وكان يكفيهم بدل هذه الحذوفات أن يقتصروا على " إلياسين " وحدها ، وقد يكون الداعى إلى ذكر ما ذكروا هو أن يقولوا إن القرآن تحدث عن " إلياس " والضمائر العائدة عليه حديث المفرد ، ثم عاد فجمع " إلياس " وهو علم مفرد ، جمع المذكر السالم المجرور بـ " الياء " ، هكذا " إلياسين " ، ثم علقوا على هذا الذى فهموه بقولهم: ... 670
" فلماذا قال " إلياسين " بالجمع عن " إلياس " المفرد ؟ فمن الخطأ لغوياً تغيير اسم العَلَم حباً فى السجع المتكلف. ... 671
وجاء فى سورة " التين " (والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الآمين ) (2). ... 671
فلماذا قال سينين بالجمع عن سيناء ؟ فمن الخطأ لغوياً تغيير اسم العَلَمَ حباً فى السجع المتكلف " هذا قولهم ، ذكرناه بالحرف الواحد. وكما يرى القارئ الكريم أن هذه الشبهة شبهتان: إحداهما فى " إلياسين " ، والثانية فى " سينين " وإن كان المقصود لهم من الشبهتين واحداً. ... 671
الرد على الشبهة: ... 671
عرض المفسرون واللغويون عدة توجيهات لمجىء إلياس على إلياسين ، فالإمام الزمخشرى قال مرة إن زيادة الياء والنون ربما كان له معنى فى اللغة السريانية ، وقال مرة إن إلياسين لغة فى إلياس ، كما أن إدريسين لغة فى إدريس ، وعلى هذا فإن " إلياسين " ليس جمعاً. وإذا كان جمعاً فإن المراد إلياس مضموماً إليه من آمن به من قومه ، كما قالوا الخبيبون والمهلبون ، فى الخبيب والمهلب أى تسمية الاتباع اسم المتبوع (3). ... 671
ويقوى هذا قراءة نافع وابن عامر وعلى: آل ياسين ، وياسين ، وأن " ياسين " هو أبو " إيليا " واحد (4) من أنبياء بنى إسرائيل. ... 671
ويرى هذا الرأى آخرون غير من تقدم ذكرهم (5). ... 671
ويرى باحث حديث أن " إلياس " هو " إيليا " أحد أنبياء بنى إسرائيل ، المذكور فى سفر الملوك الأول بهذا الاسم " إيليا " (6). ... 671
وأن أصله فى اللغة العبرية " إلياهو " أى " إيل + ى + ياهو: ... 671
أى إيلى ياهو ، أو يهو. ومعناه: الله إلهى أو الله ربى. ... 671(7/164)
وأن مجيئه فى القرآن مرتين (إلياس) فى حالة المنع من الصرف للعلمية والعجمة. أما فى سورة الصافات فكان مجيئه مصروفاً هكذا " إلياسين " ، وأن علامة صرفه هى " التنوين " أما " الياء " فتولد عن إشباع الكسرة تحت " السين " أى أن أصله فى حالة الصرف " إلياسن " فلما أشبعت الكسرة صار " إلياسين " وأن المقتضى لصرفه هنا هو رؤوس الآى. ... 671
هذا فيما يختص بالشبهة الأولى. أما الشبهة الثانية وهى " طور سنين " فالرد عليها فى الآتى: ... 672
ليست " سينين " جمعاً كما توهم مثيرو هذه الشبهات ، الذين يقفون عند ظواهر الكلمات فإن وجدوا فيها ما يشبع رغبتهم فى التشفى من القرآن والتحامل عليه ملأوا الدنيا ضجيجاً ، وإن لم يجدوا ملأت قلوبهم الحسرة ، ورجعوا خائبين.. نعم ليست " سينين " جمعاً كما زعموا ، بل هى لغة فى "سيناء" بكسر السين ، كما أن " سَيناء " بفتح السين لغة فيها. وبهاتين اللغتين: سِيناء ، بالكسر ، وسَيناء بالفتح وردت القراءات ، فهى إذن فى القرآن لها ثلاثة لغات: ... 672
- سِيناء بكسر السين. ... 672
- سَيناء بفتح السين. ... 672
- وسِنيين ، بكسر السين وياءين ونونين. ... 672
كما أن البلد الحرام لها فى القرآن عدة أسماء(7): ... 672
- مكة - بكة - أم القرى - البلد الأمين. ... 672
(1) الصافات: 123-130. ... 672
(2) التين: 1-3. ... 672
(3) الكشاف (3/352). ... 672
(4) الدر المصون (9/328). ... 672
(5) معانى القرآن للفراء (2/391) وعلل القراءات (579). ... 672
(6) الإصحاح (16) الفقرات (31-33). ... 672
(7) انظر: من إعجاز القرآن ، العلم الأعجمى مفسراً بالقرآن (2/167) للأستاذ رؤوف سعد. ... 672
-------------------- ... 672
54- الإتيان بالموصول بدل المصدر ... 672
55- وضع الفعل المضارع موضع الماضى ... 676
56- عدم الإتيان بجواب " لمَّا " ... 679
57- الإتيان بتركيب أدى إلى اضطراب المعنى ... 681
58- صَرْفُ الممنوع من الصرف ... 684
59- الإتيان بتوضيح الواضح ... 685
60- الالتفات من المخاطب إلى الغائب قبل تمام المعنى ... 689
61- الإتيان بفاعلين لفعل واحد ... 691
62- الإتيان بالضمير العائد على المثنى مفردًا ... 696
63- الإتيان بالجمع مكان المثنى أ ... 699
64- صبُ المضاف إليه ! ... 702
65- هل تناقض القرآن فى مادة خلق الإنسان ... 703
66- حول موقف القرآن من الشرك بالله ... 707
67- حول عصيان إبليس وهو من الملائكة الذين لا يعصون الله ... 711
68- حول عصيان البشر: مع أنهم من المخلوقات الطائعة القانتة لله ... 712
69- حول مدة خلق السموات والأرض ... 714
70- حول خلاف القرآن للكتاب المقدس فى أسماء بعض الشخصيات التاريخية ... 718
71- حول تسمية القرآن الكريم مريم " أخت هارون " واختلافه فى ذلك مع الكتاب ... 721
المقدس ... 721
72- حول خلاف القرآن للكتاب المقدس فى عصر نمرود ... 723
73- حول الإسكندر ذى القرنين.. وهل كان عبدًا صالحًا ؟ أم من عبدة الأوثان ؟ ... 724
73- حول غروب الشمس فى عين حمئة ومخالفة ذلك للحقائق العلمية ... 726
74- حول حفظ الله للذكر وهل الذكر هو كل القرآن ؟ أم بعض القرآن؟ ... 727
75- حول تاريخية أو خلود أحكام القرآن الكريم ... 734
76-جمع القرآن الكريم ... 739
77- حول عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القرآن من العصمة ... 761
78- دعوى: خلو الكتب السابقة من البشارة برسول الإسلام ... 765
79- قوم النبى محمد صلى الله عليه وسلم زناة من أصحاب الجحيم ... 785
80- مات النبى صلى الله عليه وسلم بالسم ... 790
81- تعدد زوجات النبى محمد صلى الله عليه وسلم ... 791
82- محاولة النبى محمد صلى الله عليه وسلم الانتحار ... 803
83- ولادة النبى محمد صلى الله عليه وسلم عادية ... 805
84- يحتاج محمد صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة عليه ... 807
85- محمد صلى الله عليه وسلم أُمّى فكيف علّم القرآن ؟ ... 809
86- محمد صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحل الله ... 810
87- محمد صلى الله عليه وسلم يعظم الحجر الأسود ... 811
88- كاد محمد صلى الله عليه وسلم أن يفتن ... 813
89- قاتل محمد صلى الله عليه وسلم فى الشهر الحرام ... 813
90- محمد صلى الله عليه وسلم مذنب كما فى القرآن ... 815
91- تعلّم محمد صلى الله عليه وسلم من غيره ... 817
92- الشيطان يوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ... 819
93- حول الاستغناء بالقرآن عن السنة وعلاقة السنة بالقرآن ... 822
94- حول تناقض النقل - القرآن - مع العقل ... 825
95- الإسلام انتشر بالسيف ، ويحبذ العنف ... 831
96- هل الجبال تحفظ توازن الأرض ؟ والأرض تدور حول نفسها ؟ ... 867
97- هل النجوم رجوم الشياطين ؟ ... 867
98- القرآن يتناقض مع العلم ... 868
99- كيف يكون العلم كفرًا ... 870
100- رىّ مصر بالغيث ! ... 871
101- الرعد ملك من الملائكة ... 872
102- الوادى طوى ... 873(7/165)
102- هل الزيتون يخرج من طور سيناء ، وهو يخرج من فلسطين ، فكيف ذلك ؟ ... 874
104- جبل قاف المحيط بالأرض كلها ... 875
105- هامان وزير فرعون ... 875
106- قارون وهامان مصريان ... 877
107- العجل الذهبى من صنع السامرى ... 877
108- أبو إبراهيم آزر ... 878
109- مريم العذراء بنت عمران ... 878
110- يوسف همّ بالفساد ... 881
111- نوح يدعو للضلال ... 883
112- فرعون ينجو من الغرق ... 883
113- انتباذ مريم ... 885
114- مريم تلد فى البرية ووليدها يكلمها من تحتها ... 886
115- لكل أمة رسول منها إليها ... 888
116- خَلْط الأسماء ... 890
117- أخنوخ وليس إدريس ... 891
118- نوح لم يتبعه الأراذل ... 892
119- تهاويل خيالية حول برج بابل ... 893
الكاتب: أ.د محمود حمدى زقزوق، وزير الأوقاف ... 893
قال المؤلف: إنه جاء فى سورة النحل (قد مكر الذين من قبلهم..) (1) ثم قال: قال البيضاوى: قيل:المراد به نمرود بن كنعان فإنه بنى صرحاً ببابل. ... 894
الرد على الشبهة: ... 894
إنه وجه الشبهة على كلام مفسر. وهذا المفسر لم يجزم بأن تفسيره هو الصحيح بدليل قوله: " قيل " فكيف يورد شبهة على كلام مفسر ؟ (1) النحل: 26. ... 894
------------- ... 894
120- اختراع طفل ينطق بالشهادة ... 894
121- الكعبة بيت زحل ... 904
122- إسماعيل بين الأنبياء ... 905
123- أبناء يعقوب يطلبون أن يلعب يوسف معهم ... 906
124- وليمة نسائية وهمية ... 907
125- عدم سجن بنيامين ... 908
126- قميص سحرى ... 909
127- ابنة فرعون أو زوجته ... 910
128- طرح الأولاد فى النهر صدر قبل ولادة موسى لا بعد إرساليته ... 911
129- صَدَاق امرأة موسى ... 912
130- لم ترث إسرائيل مصر ... 913
131- ضربات مصر عشر لا تسع ... 914
132- الطوفان على المصريين ... 915
133- صخرة حوريب وليست آبار إيلّيم ... 915
134- لوحا الشريعة ... 927
135- هل طلبوا رؤية الله ... 928
136- سليمان أو أبشالوم ... 929
137- هاجر أو السيدة العذراء ... 930
138- لم تنزل مائدة من السماء ... 937
139- قصة ذى الكفل ... 938
140- أصحاب الرس ... 938
141- حتى لقمان نبى ... 939
142- الكعبة مقام إبراهيم ... 939
143- فرعون بنى برج بابل بمصر ... 941
144- شاول الملك أو جدعون القاضى ... 942
145- يتكلم فى المهد ... 943
146- يصنع من الطين طيراً ... 943
147- إنكار الصَّلب ... 943
148- تحليل إنكار الله ... 945
149- تحليل الحنث فى القَسَم ... 946
150- تحليل الإغراء بالمال ... 947
151- تحليل القتل ... 947
152- تحليل النهب ... 949
153- تحليل الحلف ... 950
154- تحليل الانتقام ... 950
155- تحليل الشهوات ... 951
156-الحدود في الإسلام ... 953
157-حد السرقة ... 954
158-حد الزنا ... 957
159-حد الردة ... 961
160- أن ميراث الأنثى نصف ميراث الذكر ... 988
161- أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ... 991
162- أن النساء ناقصات عقل ودين ... 1003
163- ما أفلح قوم ولُّوا أمرهم امرأة ... 1016
164- الرجال قوَّامون على النساء ... 1024
164- قضية الحِجاب ... 1034
165- الرِّق ... 1053
167-هل تحريم زواج المسلمة بغير المسلم يُعد نزعة عنصرية ؟ ... 1090
168- هل صحيح أن الإسلام ضد حرية الاعتقاد ؟ ... 1116
169- ما موقف الإسلام من الديمقراطية وحقوق الإنسان ؟ ... 1147
----------------- ... 1149
حقوق الإنسان التي كفلها له الإسلام ... 1150
ملفات متنوعة ... 1150
أضيفت بتاريخ : 17 - 06 - 2003 نقلا عن : خاص بإذاعة طريق الإسلام نسخة للطباعة القراء : 8529 ... 1150
إن شريعة الإسلام مبنية بناءً متيناً حكيماً لأنها من العزيز الحكيم الحميد فما من مصلحة في الدنيا والآخرة إلا وأرشدت إليه ودلت عليه ، ولذا اعتنت الشريعة بحفظ الضرورات الخمس: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ، فحياة البشر لا تستقيم وأمورهم لا تنتظم إلا بحفظ هذه الضرورات ، أليست هي من حقوق الإنسان التي كفلها له الإسلام. ... 1150
« فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله وكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه » كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم. ... 1150
وهذا موقف يبين قيمة الإنسان في الإسلام وأنه ليس بهيمة إنه إنسان سميع بصير جعل الله له حقاً ورأياً وكلمة: ... 1150
( أتت ثياب من اليمن فوزعها أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه على الناس لكل مسلم ثوب وبقي ثوب لأمير المؤمنين فلبسه فوصل الثوب إلى ركبتيه فقال لابنه عبد الله: أعطني ثوبك الذي هو حصتك فأعطاه إياه فوصل عمر ثوبه بثوب ابنه عبد الله ولبسهما وصعد يخطب في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس اسمعوا لما سوف أحدثكم عنه...فيصرخ سلمان الفارسي: والله لا نسمع ولا نعي – رجل يقاطع الخليفة أمير المؤمنين رجل فارسي ليس بقرشي ولا هاشمي ولا عربي ولا هو من قرابة الخليفة– ... 1150
فيقول عمر: ولم؟ ... 1150(7/166)
فيرد سلمان: لأنك تلبس ثوبين وتلبسنا ثوباً واحداً ، أين العدالة؟ ... 1150
فقال عمر: يا عبد الله: قم فأجب. ... 1150
فقام عبد الله والناس سكوت فقال: إن أبي رجل طويل لايكفيه ثوب فأعطيته ثوبي ، فوصله بثوبه ولبسهما. ... 1151
فهنا قال سلمان: يا أمير المؤمنين الآن قل نسمع وأمر تطع ). ... 1151
نعم إنها حقوق الإنسان إن من حقك أن تعيش محترماً في كلمتك وفي رأيك وفي بيتك وفي مالك لا تعيش خوفاً ولا بطشاً ولا إرهاباً ولا تخويفاً وهذا ما كفله الإسلام لجميع المسلمين على حد سواء لا فرق بين أبيض وأسود ولا غني وفقير ولا كبير وصغير ، الكل سواء في ميزان الإسلام. ... 1151
فالله تعالى لا يضيع حق كل ذي حق وقد بعث رسله فبينوا الحقوق والواجبات وهاهو نبينا صلى الله عليه وسلم يقف في حجة الوداع ليذكر الناس بحقوقهم وواجباتهم فيقول: « أيها الناس إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم » ، وهي وصية سيكررها صلى الله عليه وسلم في آخر خطبته تأكيداً لها وإبرازاً لخطورة الاعتداء على الأموال والدماء فيوم عرفة هو يوم الإعلان عن حقوق الإنسان فيه أعلن أبو القاسم صلى الله عليه وسلم حق الإنسان في الحياة وفي الملكية وفصَّل حقوق النساء وأنها إنسانة لها شأنها في المجتمع فهي تمثل نصف الأمة وتلد النصف الآخر إذاً هي أمة كاملة كفل لها الإسلام حقوقها فلها حق العشرة الحسنة وحق التعليم وحق اختيار الزوج .... وغيرها من الحقوق. ... 1151
إن الإسلام كفل للإنسان كل حقوقه فانظر لحرمة الكعبة فإن لها حرمة عظيمة ولكن حرمة المؤمن عند الله أشد حرمة من الكعبة. ... 1151
=============== ... 1151
حقوق الإنسان في الإسلام من التأصل إلى التقنين ... 1151
الأستاذ محمّد دكير[1] ... 1151
انتشار الوعي الحقوقي في العالم ... 1151
تعد قضية حقوق الإنسان من أهم القضايا التي احتلت الصدارة والاهتمام العالمي والمحلي. وذلك مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث ظهرت الحاجة للسلم العالمي، وضرورة خلق توازن دولي، إضافة إلى سعي عدد من الشعوب لتحقيق استقلالها، وشروعها في بناء الدولة الوطنية، هذه الدولة التي واجهتها عدة مشاكل وعقبات مهمة، كان على رأسها الاختيارات السياسية والاقتصادية والايديولوجية التي تبين أن لها علاقة مباشرة بموضوع حقوق الإنسان. ... 1151
هذه الاختيارات كان لها وقع مزدوج داخل العالم الإسلامي، فهي إلى جانب إسهامها في إحداث تغييرات جذرية في جميع البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التقليدية، أحدثت تطوراً ملموساً في مجال الحقوق الإنسانية، إلاّ أنها، في المقابل، فجرت مجموعة من الإشكاليات التي عولجت، وتمت مناقشتها بشكل واسع تحت عناوين مختلفة مثل: الأصالة والمعاصرة، الخصوصية والعالمية، الهوية والغزو الثقافي، وغيرها من العناوين التي تدل على فداحة التحديات التي تعرض لها العالم الإسلامي، بعدما فقد السيطرة على حدوده السياسية والثقافية بالخصوص. ... 1152
لقد وضع الإسلام في قفص الاتهام، مباشرة بعد الهزائم الحضارية التي توالت على العالم الإسلامي، واعتبر المسؤول الأول عن تخلف المسلمين. وطالبت فئات داخل العالم الإسلامي، منبهرة بالحضارة الغربية، بإبعاد الإسلام عن جميع مناحي الحياة، لأنه يشكل، من منظورها، عائقاً أمام التطور المطلوب. وقد وجدت هذه المطالبات من يدعمها على المستوى الفكري والأيديولوجي؛ إذ نجد أن مجموعة كبيرة من الكتابات التي أنجزت داخل مراكز البحث في الجامعات الغربية وخارجها، انصبت في إثارة الشبهات وتفجير القضايا الفكرية الحساسة، للتدليل على أن الإسلام يعد من أهم الأسباب في تخلف الأمة الإسلامية. وأن عدداً من تشريعاته ونظمه القانونية التقليدية المتوارثة، تسهم بشكل واضح في تكريس هذا التخلف عن ركب الحضارة. ... 1152
كانت ردود الفعل مختلفة ومتعددة، بعد تحقيق التحرر السياسي وانطلاق عملية تجديد شاملة لجميع البنى، مواكبة في أحد جوانبها المهمة، عملية الدفاع عن الإسلام ونظمه التشريعية في مجالات الاقتصاد والسياسية والاجتماع، وتبرئته من الخلل الذي أصاب العقل المسلم الذي توقف عن الفعل الحضاري. ... 1152
ومع التطور الذي عرفه مجال حقوق الإنسان، على المستوى العالمي، خلال العقود الخمسة الماضية، أضيف إلى التحديات السابقة تحد جديد، جعل الفكر الإسلامي الذي انشغل طويلاً بالدفاع عن النظم الإسلامية، يتوجه بسرعة نحو الإسهام بمعالجة قضايا حقوق الإنسان، لإبراز إسهام الإسلام في هذا المجال كذلك. وصولاً إلى تأكيد تفوق التشريع الحقوقي الإسلامي، وموافقة هذا التشريع ورؤاه الفكرية لحقوق الإنسان الشاملة. ... 1152
لذلك فقد عرفت السنوات العشرون الأخيرة حركة نشطة في مجال التأليف الإسلامي في محاولة لتأصيل الحقوق الإنسانية. والكشف عن إسهام الإسلام في هذا المجال الذي حظي باهتمام كبير في الآونة الأخيرة. ... 1153(7/167)
وجاءت سرعة الاستجابة، من طرف الفكر الإسلامي، رد فعل مباشراً للتحدي الذي طرحته المواثيق والإعلانات العالمية، من جهة، وتصاعد وتيرة الاهتمام بحقوق الإنسان في العالم من جهة أخرى. ... 1153
أهم التطورات العالمية في مجال حقوق الإنسان ... 1153
الاهتمام بمجال حقوق الإنسان ليس وليد الآونة التي تلت الحرب العالمية الثانية، كما لا يمكن أن نرجعه إلى " حقبة زمنية معينة أو مترتبة عن أيديولوجية واحدة، ومحددة، وإنما هي (الحقوق) نتاج تراكمات تاريخية متتالية ومتعاقبة[2]، و " ما خلفته العقائد الدينية من مبادئ تُبجَّل الإنسان وتعلي من قيمته وتنبذ العسف والظلم "[3]. ... 1153
إلاّ أن الاهتمام الغربي المعاصر، بهذا المجال، على مستوى التنظير والممارسة، وصولاً إلى تقنينه في مواثيق وإعلانات عالمية، جعل هذا الاهتمام يأخذ بعداً عالمياً لم يسبق له مثيل من قبل، وكان من نتائجه المهمة، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عن منظمة الأمم المتحدة سنة 1948م. ... 1153
إن التطور الذي عرفه مجال الحقوق الإنسانية، على المستوى النظري بالخصوص، يرجع بالأساس إلى التطور السياسي الذي عرفته أوروبا، ومحاولة عدد من المفكرين والفلاسفة، الوقوف في وجه الاستبداد السياسي للدولة والكنيسة، من دون إغفال الموروث اليوناني والروماني الذي شكل الخلفية الفكرية لهؤلاء المفكرين، وهم يضعون المباحث السياسية ويطورونها. لقد شهدت أوروبا آنذاك صراعات دامية وطويلة من أجل: " إسقاط بعض المفاهيم السياسية التي تؤسس للاستبداد السياسي والديني، وتنكر على الإنسان الفرد كيانه وحقوقه "[4]. كفكرة الحق الإلهي التي كانت الكنيسة تروج لها، أو فكرة العناية الإلهية التي قامت عليها الشرعية السياسية للملوك والأباطرة. ... 1153
من هنا بدأ الفكر الأوروبي، بعد صراع سياسي واجتماعي طويل ومضن، يصل إلى بعض النتائج، وكان من أهمها فصل الدين عن السياسة، ومحاولة وجود بدائل وأفكار تؤسس لعلاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، على أساس ديني أو غيبي، ولكن على أسس واضحة وموضوعية، وذلك ليس لتحجيم الاستبداد السياسي فحسب، ولكن لتحرير الإنسان من قوة الدولة وسيطرتها المجحفة والمنتهكة لحقوقه الذاتية والواقعية. ويمكن الحديث هنا عن ثلاث نظريات طورت المجال السياسي الغربي ودفعت به إلى الأمام، ما كان له التأثير الكبير، ليس على مجال حقوق الإنسان بشكل عام فحسب. ولكن على الواقع السياسي الغربي المعاصر الذي شكلت هذه النظريات خلفيته الفلسفية والفكرية. ... 1154
النظرية الأولى: فكرة القانون الطبيعي التي عرفها اليونان، وكانت تعني عندهم " وجود قانون ثابت لا يتغير مستمد من الطبيعة، ويتمثل بكشف العقل عن روح المساواة والعدل الكامنة في النفس "[5]. ثم انتقلت الفكرة إلى الرومان، لكنها ستعرف تطوراً على مستوى المضمون؛ وذلك عبر إضفاء طابع اللائكية عليها، مع فقهاء القرن السابع عشر الميلادي. ... 1154
النظرية الثانية: العقد الاجتماعي، وهي كما صاغها لوك (ت 1704م) وروسو (ت 1770م)، تقوم على مناهضة الحكم المطلق، في محاولة لترسيخ أسس الحكم الديمقراطي، وذلك باعتبارهما العقد الاجتماعي عقداً تبادلياً، يرتب حقوقاً وواجبات إزاء المحكومين والحاكمين[6]. وقد أسهمت هذه النظرية في تطور المذهب الفردي، بإقرار وجود حريات وحقوق طبيعية سابقة على المجتمع المنظم، يجب على السلطة عدم الاعتداء عليها. كما أسهمت في وضع الضمانات الدستورية والسياسية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وعموماً فقد جاءت الثورة الفرنسية معتمدة على مبادئ المذهب الفردي الحر. فأصدرت وثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789م، متضمنة النص على الحرية والمساواة والملكية وحق الأمن وحق مقاومة الظلم[7]. ... 1154
النظرية الثالثة: جاء منتسكيو، صاحب كتاب " روح القوانين "، ليعلن أن تحقيق العدل، داخل أي نظام سياسي، رهين بفصل السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. ... 1154
ومع هذه التجارب، وما واكبها من بحوث ودراسات فكرية، اهتمت بميدان الحريات العامة وحقوق الإنسان، تبلورت الرؤية الخاصة لدى الغرب (الرأسمالي) في مجال حقوق الإنسان. ... 1155(7/168)
استفاد المذهب الليبرالي (الرأسمالي) من الانتقادات التي وجهها له المذهب الاشتراكي الذي بدأ يتبلور تنظيراً وممارسة، ما دفع به نحو التطور والتوسع ليشمل ميادين جديدة، ظهرت أهميتها مع التطور الصناعي، كالحقوق الاقتصادية والاجتماعية المتعددة للطبقات العاملة، ما أضاف أبعاداً جديدة لمفاهيم حقوق الإنسان، وأعاد النظر في بعض الحقوق من حيث الأولوية والأهمية. وأدخل حقوقاً جديدة لم تكن معتبرة من قبل وبالتالي فالتطور الفكري والسياسي الذي عرفته أوروبا، بشطريها الرأسمالي والاشتراكي، إضافة إلى التجربة السياسية الأمريكية، قد نجم عنه تراكم هائل على مستوى التجربة والتنظير في مجال حقوق الإنسان. دفع به ـ أي هذا التراكم ـ ليفرض نفسه على المستوى العالمي، لتصبح المطالبة بحقوق الإنسان والدعوة إلى احترامها دعوة عالمية، تتبناها المؤسسات الدولية والوطنية وتسعى لاحترامها وفرضها[8]. ... 1155
أمامَ هذا التراكم، نجد أن مجال حقوق الإنسان قد عرف تطوراً لا مثيل له من قبل، وأن الوعي أصبح ذا بعد عالمي، يؤثر في جميع المشاريع والتشريعات والاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تقوم بها الدول في العالم ككل. وهذا مما وسع مجال التحدي أمام الفكر الإسلامي، الذي وجد نفسه مضطراً للدخول في معالجات وسجالات متعددة المناحي والأوجه، سنطلع على بعض ملامحها بعد قليل. ... 1155
أما في العالم الإسلامي، وعلاوة على أصالة الحقوق الإنسانية في الإسلام، فهذه الحقوق محل إجماع عدد لا بأس به من المفكرين المسلمين والعرب، كما أن الدعوة للاهتمام بالحقوق الإنسانية كانت قد واكبت عمليات التحرر السياسي، حيث كان شعار الدفاع عن الحقوق الإنسانية، من أهم الشعارات التي رفعتها الحركات التحررية في وجه الاستعمار. وبعيد الاستقلال، عرفت هذه المطالب نوعاً من التوسع، وفجرت مشاكل وقضايا جديدة. يقول المحامي حسين ضناوى: " أصبحت قضية حقوق الإنسان داخلية وطنية تهدف لضمان عدم استبداد الحكام، وقيام أنظمة ديمقراطية ذات شرعية حقيقية "[9] إلاّ أن الاهتمام بحقوق الإنسان في العالم الإسلامي، سواء على المستوى التنظيري أم على مستوى الممارسة، لم تتضح معالمه إلاّ خلال العقدين الأخيرين، وذلك مع انتشار موجه التأليف والتأصيل وتوسعها في هذا الميدان من جهة، وظهور منظمات وهيئات محلية تختص بالدفاع عن حقوق الإنسان من جهة أخرى. إضافة إلى تطور التشريعات القانونية المعمول بها. وحجم الضغوط الدولية التي كان من آثارها مصادقة عدد كبير من الدول الإسلامية على بعض المواثيق الحقوقية الدولية، وإدخال بنودها ضمن التشريعات والقوانين المحلية المعتبرة عند التطبيق[10]. ... 1155
لكن ما يلاحظ، وخصوصاً بالنسبة للعالم العربي، أن الاهتمام بهذا الميدان، وما أنتج، من مواثيق محلية، ومنظمات حقوقية[11]، جاء من طرف بعض الشخصيات العلمية والأكاديمية، من حقوقيين ومفكرين. ولم يكن للدولة أو الأجهزة الرسمية أي نشاط فعال في هذا المجال، باستثناء الاهتمام المتواضع الذي أبدته جامعة الدول العربية، والذي أثمر إنشاء اللجنة الدائمة لحقوق الإنسان. ... 1156
لكن، ومهما قيل عن تردي الوضع الحقوقي في العالمين العربي والإسلامي، فإن تطوراً إيجابياً يمكن تلمسه في صدور عدة بيانات حقوقية عربية وإسلامية، ومطالبة أصحابها بإدخالها ضمن التشريعات المحلية والنظم القانونية المعتبرة، وانتشار عدد كبير من المنظمات الحقوقية داخل العالم الإسلامي، وقد أخذت على عاتقها تطوير مجال الحقوق الإنسانية، بنشر الوعي الحقوقي، إلى جانب الكشف والتنديد بالخروقات التي تقع من طرف السلطات الحاكمة، أو غيرها من الجهات التي تملك وسائل القوة والقهر. ... 1156
هذه التطورات، على المستويين العالمي والمحلي التي عرضنا لها باقتضاب، شكلت الخلفية الموضوعية، لانطلاق عملية التأصيل الإسلامي للحقوق الإنسانية، وتأثرت بإشكالاته التي يفجرها بين الحين والآخر. ... 1156
ملاحظة لا يفوتنا ذكرها هنا، وتتعلق بالصحوة الإسلامية الشاملة التي اجتاحت العالم الإسلامي، منذ بداية هذا القرن، وصولاً إلى تشكل ملامحها الأساسية خلال العقدين الأخيرين. لأنها أسهمت إسهاماً فعلياً في تدعيم عملية التأصيل الحقوقي، وسرعت بتكاملها، لأن هذه الصحوة كانت قد عالجت عدداً من المواضيع في إطار دفاعها عن الإسلام والتبشير به، وتأكيد أفضليته من دون أن يكون العنوان الذي عولجت تحته هذه المواضيع حقوقياً. لكن توجه الفكر الإسلامي نحو التأصيل في مجال الحقوق، بخاصة، جعله يستفيد مما أنجز في مجالات فكرية إسلامية مختلفة. ... 1156
إن قضية حقوق الإنسان مركبة ومتعددة الأبعاد والمداخلات، باختلاف جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والدينية. ومن ثم يمكن أن تدخل ضمن دائرة اهتمام العديد من فروع المعرفة وتخصصاتها[12]. ... 1157(7/169)
لذلك فقد وجد الفكر الإسلامي نفسه، وهو يقوم بالتأصيل، يعرض للمذهب الإسلامي المتكامل في جميع مناحي الفعل الإنساني. لهذا كانت الصحوة الإسلامية التي سبقت هذا الاهتمام المتميز بهذا الحقل، رافداً مهماً ساعد، كما قلنا، في عملية التكامل السريع والشامل، وأنضج مبكراً عملية التنظير في هذا المجال. وصولاً إلى تقنين هذه الحقوق في مواثيق وإعلانات إسلامية، صدرت تباعاً خلال السنوات العشرين الماضية. وعليه لا بد من اعتبار الصحوة الإسلامية واقعاً موضوعياً داخلياً، أسهم إلى جانب التطور العالمي في بلورة المنظومة الحقوقية الإسلامية، التي سنعرض لأهم ملامحها بعد قليل. ... 1157
التأصيل الإسلامي لحقوق الإنسان: الملامح والمميزات ... 1157
قلنا، سابقاً، إن قضية حقوق الإنسان قضية مركبة ومتعددة الأبعاد، لذلك فقد وجد الفكر الإسلامي نفسه، وهو يقوم بعملية التأصيل لحقوق الإنسان، يعرض النظم الإسلامية في جميع المجالات. وهذه العملية فتحت عينيه على قضايا متعددة، وجعلته يتعرض لتحديات ذاتية جديدة. لأنه اصطدم، أثناء معالجة بعض القضايا الخاصة، بتجربة تاريخية طويلة، تعرض فيها تطبيق الإسلام، لمجموعة من الإخفاقات، إلى جانب بعض النجاحات بطبيعة الحال. ... 1157
وقد شكلت هذه التجربة وموروثها الفكري، زخماً ساعد من جهة المفكر الإسلامي على الإحاطة بأبعاد التشريع الإسلامي عند التطبيق أو التنظير. لكنه وقف، من جهة أخرى، عائقاً أمام الفصل في عدد من القضايا، التي تبين أن التجربة التاريخية فيها كانت بعيدة جداً عن مقاصد الإسلام وشريعته، بالرغم من ترسانة التبريرات التي أوجدها العقل الاجتهادي الذي عايش هذه التجربة. لذلك يمكننا أن نؤكد على أن عملية التأصيل كانت تسير إلى جانب إعادة النظر في عدد من الوقائع التأريخية، بالتحليل والدفاع عن اجتهاد معين تارة، باعتباره يمثل وجهة نظر الإسلام الحقيقية التي طبقها المسلمون، أو بالنقد والرفض تارة أخرى. وفي مرات عدة ساد الاختلاف وبقيت مجموعة من المواضيع معلقة تنتظر الحسم. ... 1157
لكن ظهرت بعض الكتابات التي انتهجت الموضوعية العلمية، لتؤكد على أن الانتقادات التي وجهت للإسلام، كان يجب في حقيقة الأمر أن توجه للتطبيقات الخاطئة التي وقعت، وإلى بعض الاجتهادات التي تأثرت بالظروف التاريخية الموضوعية. لذلك لا بد من التفريق هنا بين مبادىء النظام الإسلامي التي لا يشك أحد في أن مقاصدها تهدف إلى تحقيق واقع أفضل للإنسان في بعديه المادي والروحي، وبين وقائع التاريخ المحسوبة على الإسلام. ... 1158
هذه الحقيقة التي أفصح عنها الفكر الحقوقي الإسلامي كانت مهمة جداً، لأنها ساعدت على تعميق المراجعة الشاملة التي يقوم بها الفكر الإسلامي، وهو يجدد نفسه، لمواكبة التطورات الحضارية، وينفض عنه غبار التقليد وتجارب الماضي السلبية. ... 1158
نجد، مثلاً، أن البحث في الحقوق السياسية في الإسلام، يدفع بهذا الفكر إلى محاولة الكشف عن النظام السياسي في الإسلام بعيداً عن التجربة التاريخية، ومناقشة إشكالاته، كالحديث عن الشورى ومقارنتها بالديمقراطية الغربية، والتأكيد على ان نظام الشورى الإسلامي يضمن حقوق المشاركة السياسية للإنسان المسلم. إضافة إلى الحديث عن حجم الحريات السياسية وطبيعة علاقة الحاكم بالمحكومين، وحقوق المعارضة وإنشاء الأحزاب. وكما قلنا، سابقاً، أدت معالجة هذه القضايا إلى إعادة النظر في عدد من الاجتهادات والتطبيقات التاريخية، انتهت إلى رفض الاستبداد السياسي، وتفنيد مسوغاته الفكرية، وقطع صلته بمبادىء دينية تلبست بلباس القداسة، واتخذها أعداء الإسلام مطية للطعن فيه وفي تشريعاته. ... 1158
الحقوق الاقتصادية كان لها نصيب مهم في عملية التأصيل، لأنها ستكشف بدورها عن نظام الإسلام الاقتصادي، عند البحث في الحقوق الاقتصادية التي يقدمها الإسلام للإنسان فرداً وجماعة، وتشريعاته الاقتصادية التي تكفل الرخاء والرفاه للمجتمع المسلم. لكن التأصيل، في مجال الحقوق الاقتصادية، عانى من تحديات جمة لأن المذهب الاقتصادي في الإسلام غير متكامل من حيث التنظير والتفصيل، وملامحة تعاني من الغموض. مع قلة البحوث الاقتصادية المنجزة في الماضي، وتطور المجال الاقتصادي المعاصر وتعقيده وتفرعاته الكثيرة، التي جعلت المفكر الإسلامي يشعر بنوع من التخبط، لأنه لم يجد بين يديه سوى الأصول العامة، وبعض الأحكام الجزئية في قضايا اقتصادية متفرقة. لذلك كان عليه أن يفتح باب الاجتهاد على مصراعيه لعلاج نواقص هذا الموضوع بالذات. خصوصاً إذا علمنا أن المذاهب الاقتصادية التي تم استيرادها من الغرب، وطبقت في العالم الإسلامي، كان لها وقع سيء على الهوية الدينية، لأن هذه المذاهب حملت معها خلفيات عقائدية ومظاهر، على نقيض تام مع دين التوحيد، بل مناقضة لكل دين. لذلك فالتحدي في هذا المجال كان كبيراً. ... 1158(7/170)
إلى جانب البحث في الحقوق السياسية والاقتصادية، كان هناك اهتمام متميز وخاص بحقوق المرأة، تشهد على ذلك كثرة الكتابات والدراسات التي أنجزت في هذا الموضوع، سواء الكتابات العامة التي تحدثت عن موضوع المرأة في الإسلام، واهتمت بالرد على الشبهات والانتقادات التي يروج لها الغزو الفكري الغربي، وتجد بعض الآذان الصاغية لها داخل العالم الإسلامي، أم الكتابات المتخصصة في مجال الحقوق كما نصت عليها الكتابات الحقوقية الغربية، ومن ضمنها المواثيق والإعلانات الحقوقية العالمية. وموضوع المرأة في الإسلام، كان قد اكتسب صبغة ذات حساسية خاصة قبل التوجه الحقوقي، خلال العقود الأخيرة، لأن وضع المرأة بشكل عام كان من بين القضايا التي احتدم حولها النقاش مبكراً، مع وصول الجحافل الأولى للاستعمار الغربي وسيطرتها العسكرية على العالم الإسلامي. وبقي هذا الجدل محتدماً، وفي تصاعد مستمر، بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية، لأن الغزو الثقافي عبر وسائط الإعلام والتعليم، ما فتىء يركز على هذا الموضوع ويثيره بين الحين والآخر. لذلك فقد وجدت المرأة المسلمة نفسها تتقاذفها التيارات والايديولوجيات المختلفة، بين منتصر لما تدعو له الحضارة الغربية من قيم وحقوق تخص المرأة، وبين قيم الإسلام التي امتزجت مع تقاليد المجتمعات الإسلامية وأعرافها. وقد استطاعت عملية التأصيل لحقوق المرأة أن تميط اللثام عن عدد من المغالطات الأيديولوجية، ووضعت في بعض جوانبها المتميزة، حداً بين ما يريده الإسلام من المرأة وما قدمه لها من حقوق، وبين الواقع التاريخي، أو وضع المرأة المسلمة الحالي، الذي يحكمه التخلف وعدم الانسجام بين النظرة الإسلامية الحقوقية والواقع المعيش. لكن يمكن أن يقال إن عملية التأصيل في مجال حقوق المرأة قد بلغت شأواً من التقدم، تم فيه الاعتراف والانتباه لعدد كبير من الحقوق التي كانت، إلى عهد قريب، خارجة عن موضوع البحث أو المعالجة، بل كان النسيان والتجاهل يلفها ويلغيها من الوجود الواقعي. وبدأ الكلام عن حقوق تثير حساسية كبيرة داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وهكذا بدأ الحديث عن الحقوق السياسية للمرأة وحقها في الولاية مثلاً؟. ... 1159
لكن لا بد هنا من الإشارة إلى أن الفكر الإسلامي ما زال يتعامل مع الموروث الروائي المتعلق بالمرأة، بنوع من الحذر، وقلة الجرأة لمعالجته، لأنه مما لا شك فيه أن عدداً كبيراً من الأعراف والتقاليد قد استحالت عبر الوضع والكذب إلى أحاديث نبوية، كما أن التفسيرات التقليدية لكثير من الأحاديث، يجب إعادة النظر فيها، إذا أردنا فعلاً أن نكشف عن الوضع الحقوقي للمرأة كما جاء به الإسلام. وهذان الأمران: التردد والتخبط كثيراً ما يظهران في الكتابات العامة أو المختصة بحقوق المرأة في الإسلام. ... 1160
وتفرع مجال التأصيل كثيراً، باعتباره استجابة للتحديات الحضارية المعاصرة التي كان من أهم إنجازاتها الإعلانات والمواثيق العالمية والإقليمية والوطنية، والمطالبة بالعمل على وضعها موضع التنفيذ والتطبيق، لذلك نجد أن مواضيع كثيرة قد نوقشت وتم علاجها سواء بشكل مفصل وكبير، أم بدراسات محدودة. ومن العناوين التي عولجت وكثر حولها التأليف نذكر: الحقوق الاجتماعية والإعلامية، الحريات العامة، الدستورية، الزوجية، العائلية، الأقارب، العمال، حقوق الجنين، الآباء، المتهم، الطفل، الأقليات إضافة إلى عناوين أخرى تعالج مواضيع جديدة، طرحها التطور العالمي في هذا المجال. ... 1160
ومما لاحظناه، عند إنجازنا لببليوغرافيا خاصة بموضوع حقوق الإنسان[13] في الإسلام، أن الكتابات عن حقوق المرأة تأتي على رأس القائمة من حيث كثرتها وتفرعها، وهذا يؤكد حجم التحدي كما ذكرنا سابقاً، ثم تأتي الكتابات عن الحقوق السياسية، بعدها نجد أن موضوع الاقليات قد أخذ حيزاً كبيراً في مجال التأليف الحقوقي. وهذا يدل كذلك على حجم التحديات التي أثارها الإعلام الغربي حول الأقليات الدينية التي تعيش داخل العالم الإسلامي منذ قرون، وهو يروج أن التشريعات الإسلامية تضطهدها وتنتهك جملة من حقوقها. وأمام الهجمات المتكررة لهذا الاعلام، نجد أن الفكر الإسلامي استجاب بشكل إيجابي حينما عالج هذا الموضوع، وخصص له جهوداً محترمة في عملية التأصيل هذه. ... 1160(7/171)
هناك مواضيع حقوقية مهمة نلاحظ فيها بعض التقصير؛ إذ إن هذه العملية تعطيها حقها المطلوب، مع وجود موروث روائي لا بأس به يمكن أن يسهل هذه العملية، كموضوع حقوق الطفل، فالدراسات والبحوث قليلة جداً، وهذا يقلل من فرص وضع ميثاق حقوقي خاص بالطفل، لأن التراكم التنظيري متواضع جداً. لكننا نلاحظ أن العقل الإسلامي قد تحرر من محظوراته وكوابحه الذاتية والموضوعية، وانفتح على مصراعيه لمناقشة جميع القضايا التي لها علاقة بحقوق الإنسان وبحثها. وإن كنا نسجل نوعاً من السبق الوقائعي والتنظيري للفكر الغربي في هذا المجال، فالعقل المسلم، بشكل عام، يظل منفعلاً وليس فاعلاً في أغلب القضايا التي توصلها له وسائط الاعلام الغربية، فيهرع لمعرفتها والرد عليها سلباً أو إيجاباً. لكننا نثمن سرعة الاستجابة في كثير من الأحيان، وكذلك الكم المعرفي في ميدان الحقوق الذي نجم عنها، لأنه سيشكل الأرضية والقاعدة الفكرية المتينة لانطلاق الأجيال القادمة نحو الإبداع والإنتاج وبلورة النظرية الإسلامية في جميع المجالات. ... 1161
مميزات عملية التأصيل ... 1161
من خلال القراءات المتعددة، للكتابات الإسلامية الحقوقية، تظهر بوضوح بعض المميزات والخصائص التي تكاد تشترك فيها مجمل هذه الكتابات والبحوث، ليس في مجال معين، كالاقتصاد أو السياسة، ولكن في أغلب المواضيع المبحوثة. أولى هذه الخصائص، الحديث عن مفهوم الحق في المنظور الإسلامي، وذلك في قبالة الحديث عن الخلفيات الفكرية والفلسفية التي انطلق منها الوعي الحقوقي الغربي، وشكلت الأرضية العقائدية التي تتحكم في تعريفه للحق الإنساني. وقد تحدثنا من قبل عن النظريات الثلاث التي شكلت الخلفية الفلسفية للفكر الحقوقي الغربي. ... 1161
والحديث عن مفهوم الحق، لما له من أهمية كبرى يحتاج إلى شيء من التفصيل. إن الاختلاف الذي تبرزه بعض الحقوق المنصوص عليها في المواثيق العالمية، إنما يرجع في أساسه إلى النظرة الفلسفية والعقائدية للحق، من حيث مفهومه ومصادره. لذلك فمعالجة الفكر الإسلامي الحقوقي لهذه القضية تعد مهمة وأساسية. ... 1161
الميزة، أو الخاصية الثانية، تظهر في النقد الذي وجهه الفكر الإسلامي الحقوقي للحقوق الإنسانية في الفكر الغربي بشكل عام، عندما اتجه لنقد المذاهب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الغربية، مستعيناً بطبيعة الحال ببعض المظاهر، حيث الإخفاق في مجال الحقوق أدى إلى كوارث إنسانية، تجاوزت حدود تأمين الاحتياجات الضرورية للإنسان إلى تعريض وجوده الإنساني ككل للخطر، فظواهر الانتحار والتفسخ العائلي والتحلل الأخلاقي، وانتشار الإلحاد. هذه الظواهر التي تجتاح الواقع الغربي، تكاد تعصف بالمكتسبات الحقوقية التي تم تحقيقها بعد معاناة طويلة. ... 1162
طبعاً نحن، هنا، أمامَ إشكال له جانبه الحقوقي، لكنه قد يتجاوزه، ليتم الحديث عن الحاجة إلى الأديان السماوية، بوصفها بديلاً عن الأيديولوجيات الوضعية. وهذا ما نجد تلميحاً له أثناء معالجة الفكر الإسلامي لقضايا حقوقية جزئية، على اعتبار أن النظر إلى الظاهرة الإنسانية، لا يمكن معالجته بشكل جزئي، لأن النتائج النهائية لأي تطبيق ستفتقر إلى النظرة الكلية للإنسان، في إطار فلسفي عقائدي، لا يهمل المنطلقات، ويتحدث عن الغايات والمقاصد الوجودية الأساسية للإنسان، بشكل واضح ومفصل، ما يسهم بشكل فعال في تحقيق ما يصبو له الإنسان من حياة أفضل على الأرض. ... 1162
وهذه النظرة التكاملية تدفع بنا إلى الحديث عن الخاصية الثالثة، وهي شمولية الحقوق الإنسانية في الفكر الحقوقي الإسلامي، والتي نظر لها من خلال: التشريع الإلهي (الوحي) الذي يعلم يقيناً الاحتياجات الحقيقية للإنسان وحقوقه الأساسية، إضافة إلى نقطة مهمة تتلخص في كون التشريع الإلهي يمثل الحقيقة التي لا تتأثر بالمصالح الفردية أو الجماعية أو الفئوية، أو غيرها من التقسيمات التي يطغى تأثيرها في التشريعات الوضعية. وبالتالي فالحديث عن عالمية الحقوق، انطلاقاً من تشريعات وضعية، يعد تسويقاً لأيديولجيات غرضها الهيمنة لا غير. ... 1162
هذه المميزات الثلاث، سنعرض لها بنوع من التفصيل، لأنها من القضايا المهمة التي ركز عليها الفكر الإسلامي الحقوقي أثناء عملية التأصيل، ولأنها محطات يمكن من خلالها معرفة المدى الذي توصلت إليه هذه العملية. ... 1162
________________________________________ ... 1163
[1] كاتب من الغرب ... 1163
[2] الدكتور أحمد بلحاج السندك، حقوق الإنسان، رهانات وتحديات، الرباط، شركة بابل للطباعة، 1996، ص8. ... 1163
[3] أمينة البقالي، حركة حقوق الإنسان: من أجل أنسنة العمل السياسي، مجلة الوحدة، العدد 63/64، السنة السادسة، 89/1990، ص75. ... 1163
[4] المحامي حسين ضناوي، وعي حقوق الإنسان: جذور التطور والحماية، جريدة النهار البيروتية، بتاريخ 17/12/1990م، ص2. ... 1163(7/172)
[5] عمر ممدوح مصطفى، القانون الروماني، القاهرة، ط3، 1959م، ص16. ... 1163
[6] الدكتور محمّد خريف، حقوق الإنسان بالمغرب، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، 1994م، ص14. ... 1163
[7] أحمد البخاري وأمينة جبران، الحريات العامة وحقوق الإنسان، مراكش، وليلي للطباعة والنشر، ط1، 1996م، ص69. ... 1163
[8] مثل منظمة العفو الدولية التي لديها الآن ما يزيد عن (700ألف) عضو مشترك في نحو (150) بلداً في جميع أنحاء العالم، وما يزيد على (4200) مجموعة محلية في (63) بلداً، إضافة إلى عدد كبير من المنظمات الوطنية التي تهتم بالدفاع عن حقوق الإنسان وفضح الانتهاكات المختلفة. ... 1163
[9] جريدة النهار البيروتية، م.س.، ص90. ... 1163
[10] اعترضت عدد من الدول الإسلامية على بعض البنود الواردة في الإعلانات التي طلب منها المصادقة عليها، واعتبرتها مسوغاً كافياً لعدم التصديق على هذه الإعلانات العالمية. ... 1163
[11] ظهرت في العالم العربي مجموعة من المنظمات الحقوقية، وقد صدر مؤخراً كتاب عن المعهد العربي لحقوق الإنسان في تونس يعد أهم دليل لمعرفة هذه المنظمات وعناوينها. ... 1163
[12] حسين توفيق إبراهيم، حقوق الإنسان في الكتب والرسائل الجامعية وبعض الدوريات العربية، مجلة منبر الحوار، عدد9، السنة 3، ص73. ... 1164
[13] انظر: مجلة الكلمة، عدد 20، 1998م. ... 1164
================ ... 1164
حقوق الإنسان في الإسلام ... 1164
مقدمة: ... 1164
- تعريف الحقوق. ... 1164
- هل هذه الحقوق مستحقة للإنسان أم هي من تفضل الله تعالى عليه؟ ... 1164
- مظاهر التكريم الإلهي للإنسان. ... 1164
الفصل الأول: خصائص ومميزات حقوق الإنسان في الإسلام. ... 1164
1- حقوق الإنسان في الإسلام تنبثق من العقيدة الإسلامية. ... 1164
2- حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية. ... 1164
3- حقوق الإنسان في الإسلام شاملة لكل أنواع الحقوق. ... 1164
4- حقوق الإنسان في الإسلام ثابتة ولا تقبل الإلغاء أو التبديل أو التعطيل. ... 1164
5- حقوق الإنسان في الإسلام ليست مطلقة بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية. ... 1164
الفصل الثاني: أهم الحقوق التي كفلها الإسلام للإنسان. ... 1164
أولاً: حق الحياة. ... 1164
ثانياً: حق الكرامة. ... 1164
ثالثاً: حق الحرية. ... 1164
رابعاً: حق التدين. ... 1164
خامساً: حق التعليم. ... 1164
سادسا: حق معرفة الحق. ... 1164
سابعا: حق التملك والتصرف. ... 1164
ثامنا: حق العمل. ... 1164
الفصل الثالث: مقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وفي الوثائق الوضعية الدولية. ... 1164
أولاً: من حيث الأسبقية والإلزامية. ... 1164
ثانياً: من حيث العمق والشمول. ... 1165
ثالثاً: من حيث الحماية والضمانات. ... 1165
الفصل الرابع: مفهوم الغرب لحقوق الإنسان. ... 1165
1- حرية التدين. ... 1165
2- حرية إقامة العلاقات الأسرية. ... 1165
3- حق الحرية. ... 1165
4- حق التملك. ... 1165
مقدمة: ... 1165
- تعريف الحقوق: ... 1165
تعريف الحقوق لغة: ... 1165
قال الجوهري: "الحق: خلاف الباطل، والحق: واحد الحقوق، والحَقة أخص منه، يقال: هذه حقتي أي: حقي". ... 1165
وقال الفيروز آبادي: "الحق: من أسماء الله تعالى أو من صفاته، والقرآن، وضد الباطل، والأمر المقضي، والعدل، والإسلام، والمال، والملك، والموجود الثابت، والصدق، والموت، والحزم، وواحد الحقوق". ... 1165
وقال المناوي: "الحق لغة: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره". ... 1165
تعريف الحقوق اصطلاحاً: ... 1165
الحقوق لها معنيان أساسيان: ... 1165
1- فهي أولاً تكون بمعنى: مجموعة القواعد والنصوص التشريعية التي تنظم على سبيل الإلزام علائق الناس من حيث الأشخاص والأموال. ... 1165
فهي بهذا المفهوم قريبة من مفهوم خطاب الشارع المرادف لمعنى (الحكم) في اصطلاح علماء الأصول، أو لمعنى (القانون) في اصطلاح علماء القانون. ... 1165
وهذا المعنى هو المراد عندما نقول مثلاً: الحقوق المدنية، أو القانون المدني. ... 1165
2- وهي ثانياً تكون جمع حق بمعنى السلطة والمكنة المشروعة، أو بمعنى المطلب الذي يجب لأحد على غيره. ... 1165
وهذا هو المراد في مثل قولنا: إن للمغصوب منه حق استرداد عين ماله لو قائماً، وأخذ قيمته أو مثله لو هالكاً، وإن للمشتري حق الرد بالعيب، وإن التصرف على الصغير هو حق لوليه أو وصيه ونحو ذلك. ... 1166
ويمكن تعريف الحق بمعناه العام بأن يقال: الحق هو اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفاً. ... 1166
- هل هذه الحقوق مستحقة للإنسان أم هي من تفضل الله تعالى؟ ... 1166
قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} [الروم:47]. ... 1166
قال ابن كثير: "أي" حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً". ... 1166(7/173)
وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]. ... 1166
قال القرطبي: "أي: أوجب ذلك بخبره الصادق ووعده الحق". ... 1166
وقال ابن كثير: "أي: أوجبها على نفسه الكريمة تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً". ... 1166
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقاً زائداً على هذا كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ}. ... 1166
ولكن أهل السنة يقولون هو الذي كتب على نفسه الرحمة، وأوجب هذا الحق على نفسه، لم يوجبه عليه مخلوق، والمعتزلة يدّعون أنه واجب عليه بالقياس على الخلق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه القدرية والجبرية أتباع جهم والقدرية النافية". ... 1166
وقال ابن القيم: "وقد أخبر سبحانه عن نفسه أنه كتب على نفسه وأحق على نفسه، قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ}، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ} [التوبة:111]، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: ((أتدري ما حق الله على عباده؟)) وفيه: ((أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟))، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في غير حديث: من فعل كذا كان على الله أن يفعل به كذا وكذا في الوعد والوعيد، ونظير هذا ما أخبر سبحانه من قسمه ليفعلن ما أقسم عليه كقوله: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92]، {فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم:68]، وقوله: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:13]، وقوله: {لأمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85]، إلى أمثال ذلك من صيغ القسم المتضمن معنى إيجاب المقسِم على نفسه أو منعه نفسَه، وهو القسم الطلبي المتضمن للحظر والمنع، بخلاف القسم الخبري المتضمن للتصديق والتكذيب، قالوا: وإذا كان معقولاً من العبد أن يكون طالباً من نفسه فتكون نفسه طالبة منها لقوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوء} [يوسف:53]، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40]، مع كون العبد له آمر ونهاه فوقه، فالرب تعالى الذي ليس فوقه آمر ولا ناهٍ كيف يمتنع منه أن يكون طالباً من نفسه فيكتب على نفسه، ويحق على نفسه، ويحرم على نفسه؟! بل ذلك أولى وأحرى في حقه من تصوره في حق العبد، وقد أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وكتابة ما كتبه على نفسه وإحقاق ما حقه عليها متضمن لإرادته ذلك ومحبته له ورضاه به وأنه لا بد أن يفعله، وتحريمه ما حرمه على نفسه متضمن لبغضه لذلك وكراهته له وأنه لا يفعله، ولا ريب أن محبته لما يريد أن يفعله وبغضه له يمنع وقوعه منه مع قدرته عليه لو شاء، وهذا غير ما يحبه من فعل عبده ويكرهه منه، فذاك نوع وهذا نوع، ولما لم يميز كثير من الناس بين النوعين وأدخلوهما تحت حكم واحد اضطربت عليهم مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، وبهذا التفصيل سفر لك وجه المسألة وتبلج صبحها". ... 1166
- مظاهر التكريم الإلهي للإنسان: ... 1167
1- خلقه في أحسن تقويم: ... 1167
قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]. ... 1167
قال ابن عباس: (في أعدل خلق). ... 1167
قال ابن كثير: "إنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل، منتصب القامة سوي الأعضاء حسنها". ... 1167
2- نفخ فيه من روحه: ... 1168
قال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} [السجدة:9]. ... 1168
وقال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72]. ... 1168
قال الواحدي: "وأضاف روح آدم إليه إكراماً وتشريفاً". ... 1168
3- أمر الملائكة بالسجود لآدم: ... 1168
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]. ... 1168(7/174)
قال ابن كثير: "وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم، امتن بها على ذريته، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم". ... 1168
4- تعليم آدم الأسماء كلها: ... 1168
قال تعالى: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ e قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}. [البقرة:31، 32]. ... 1168
قال ابن كثير: "هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم". ... 1168
5- جعل الإنسان خليفة في الأرض: ... 1168
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]. ... 1168
قال البغوي: "والصحيح أنه خليفة الله في أرضه؛ لإقامة أحكامه وتنفيذ وصاياه". ... 1168
قال ابن عاشور: "وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار؛ ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما علم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس". ... 1168
6- تفضيل الإنسان على كثير من المخلوقات: ... 1168
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]. ... 1168
قال الشوكاني: "أجمل سبحانه هذا الكثير ولم يبين أنواعه، فأفاد ذلك أن بني آدم فضلهم سبحانه على كثير من مخلوقاته... والتأكيد بقوله {تَفْضِيلاً} يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين، فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من كفرانه". ... 1168
7- تسخير المخلوقات للإنسان: ... 1169
قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13]. ... 1169
قال ابن سعدي: "وهذا شامل لأجرام السماوات والأرض ولما أودع الله فيهما من الشمس والقمر والكواكب والثوابت والسيارات وأنواع الحيوانات وأصناف الأشجار والثمرات وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو معد لمصالح بني آدم ومصالح ما هو من ضروراته". ... 1169
الصحاح (4/1460). ... 1169
القاموس المحيط (3/221). ... 1169
التوقيف على مهمات التعاريف (ص 287). ... 1169
المدخل الفقهي العام (3/9-10) لمصطفى الزرقاء. ... 1169
تفسير القرآن العظيم (3/446). ... 1169
الجامع لأحكام القرآن (6/435). ... 1169
تفسير القرآن العظيم (2/140). ... 1169
أخرجه البخاري في الجهاد، باب اسم الفرس والحمار (48)، ومسلم في الإيمان (30). ... 1169
مفتاح دار السعادة (ص 430-431) ببعض اختصار. ... 1169
تفسير ابن أبي حاتم (10/3448). ... 1169
تفسير القرآن العظيم (4/527). ... 1169
الوسيط في تفسير القرآن المجيد (3/45). ... 1169
تفسير القرآن العظيم (1/80). ... 1169
تفسير القرآن العظيم (1/78). ... 1169
معالم التنزيل (1/79). ... 1169
تفسير التحرير والتنوير (1/400). ... 1169
فتح القدير (3/244-245). ... 1169
تيسير الكريم الرحمن (ص 776). ... 1169
الفصل الأول: خصائص ومميزات حقوق الإنسان في الإسلام: ... 1169
1- حقوق الإنسان في الإسلام تنبثق من العقيدة الإسلامية: ... 1170
إن حقوق الإنسان في الإسلام تنبع أصلاً من العقيدة، وخاصة من عقيدة التوحيد، ومبدأ التوحيد القائم على شهادة أن لا إله إلا الله هو منطلق كل الحقوق والحريات، لأن الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد خلق الناس أحراراً، ويريدهم أن يكونوا أحراراً، ويأمرهم بالمحافظة على الحقوق التي شرعها والحرص على الالتزام بها، ثم كلفهم شرعاً بالجهاد في سبيلها والدفاع عنها، ومنع الاعتداء عليها وهذا ما تكرر في القرآن الكريم في آيات القتال والجهاد. ... 1170
فحقوق الإنسان في الإسلام تنبع من التكريم الإلهي للإنسان بالنصوص الصريحة، وهو جزء من التصور الإسلامي والعبودية لله تعالى وفطرة الإنسان التي فطره الله عليها. ... 1170
2- حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية: ... 1170
إن حقوق الإنسان في الإسلام منح إلهية منحها الله لخلقه، فهي ليست منحة من مخلوق لمخلوق مثله، يمن بها عليه ويسلبها منه متى شاء، بل هي حقوق قررها الله للإنسان. ... 1170
3- حقوق الإنسان في الإسلام شاملة لكل أنواع الحقوق: ... 1170
من خصائص ومميزات الحقوق في الإسلام أنها حقوق شاملة لكل أنواع الحقوق، سواء الحقوق السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية. ... 1170
كما أن هذه الحقوق عامة لكل الأفراد الخاضعين للنظام الإسلامي دون تمييز بينهم في تلك الحقوق بسبب اللون أو الجنس أو اللغة. ... 1170
4- حقوق الإنسان في الإسلام ثابتة ولا تقبل الإلغاء أو التبديل أو التعطيل: ... 1170(7/175)
من خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها كاملة وغير قابلة للإلغاء؛ لأنها جزء من الشريعة الإسلامية. ... 1170
إن وثائق البشر قابلة للتعديل غير متأبية على الإلغاء مهما جرى تحصينها بالنصوص، والجمود الذي فرضوه على الدساتير لم يحمها من التعديل بالأغلبية الخاصة. ... 1170
وقضى الله أن يكون دينه خاتم الأديان وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ومن ثم فما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باق ما دامت السماوات والأرض. ... 1170
5- حقوق الإنسان في الإسلام ليست مطلقة بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية: ... 1171
ومن خصائص حقوق الإنسان في الإسلام أنها ليست مطلقة، بل مقيدة بعدم التعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وبالتالي بعدم الإضرار بمصالح الجماعة التي يعتبر الإنسان فرداً من أفرادها. ... 1171
حقوق الإنسان في الإسلام للدكتور محمد الزحيلي (ص 132-133) بتصرف. ... 1171
حقوق الإنسان في الإسلام للدكتور سليمان الحقيل (ص 53). ... 1171
حقوق الإنسان في الإسلام. د.سليمان الحقيل (ص 53). ... 1171
حقوق الإنسان للحقيل (ص 53). ... 1171
حرمات لا حقوق، لعلي جريشة. ... 1171
حقوق الإنسان للحقيل (ص 53). ... 1171
الفصل الثالث: مقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وفي الوثائق الوضعية الدولية: ... 1171
أولاً: من حيث الأسبقية والإلزامية: ... 1171
لقد كان للشريعة الإسلامية الغراء فضل السبق على كافة المواثيق والإعلانات والاتفاقيات الدولية في تناولها لحقوق الإنسان وتأصيلها لتلك الحقوق منذ أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وأن ما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية اللاحقة ومن قبلها ميثاق الأمم المتحدة ما هو إلا ترديد لبعض ما تضمنه الشريعة الإسلامية الغراء. ... 1171
فحقوق الإنسان المهددة اليوم والتي ندعو إلى حمايتها واحترامها قد أقرها الإسلام وقدسها منذ أربعة عشر قرناً فسبق بها سبقاً بعيداً عما قال به القرن الثامن عشر الذي عُد قرن حقوق الإنسان. ... 1171
وحقوق الإنسان كما جاء بها الإسلام حقوق أصيلة أبدية لا تقبل حذفاً ولا تعديلاً ولا نسخاً ولا تعطيلاً، إنها حقوق ملزمة شرعها الخالق سبحانه وتعالى، فليس من حق بشر كائناً من كان أن يعطلها أو يتعدى عليها، ولا تسقط حصانتها الذاتية لا بإرادة الفرد تنازلاً عنها ولا بإرادة المجتمع ممثلاً فيما يقيمه من مؤسسات أياً كانت طبيعتها وكيفما كانت السلطات التي تخولها. ... 1171
أما فيما يتعلق بالقيمة القانونية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان فهو ليس إلا مجرد تصريح صادر عن الأمم المتحدة غير ملزم. ... 1172
فيتضح أن حقوق الإنسان في المواثيق الدولية عبارة عن توصيات أو أحكام أدبية، أما في الإسلام فحقوق الإنسان عبارة عن فريضة تتمتع بضمانات جزائية وليست مجرد توصيات أو أحكام أدبية، فللسلطة العامة في الإسلام حق الإجبار على تنفيذ هذه الفريضة، خلافاً لمفهوم هذه الحقوق في المواثيق الدولية التي تعتبرها حقاً شخصياً مما لا يمكن الإجبار عليه إذا تنازل عنه صاحبه. ... 1172
ثانياً: من حيث العمق والشمول: ... 1172
حقوق الإنسان في الإسلام أعمق وأشمل من حقوق الإنسان في الوثائق الوضعية، فحقوق الإنسان في الإسلام مصدرها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما مصدر حقوق الإنسان في القوانين والمواثيق الدولية فهو الفكر البشري، والبشر يخطئون أكثر مما يصيبون، ويتأثرون بطبيعتهم البشرية بما فيها من ضعف وقصور وعجز عن إدراك الأمور والإحاطة بالأشياء، وقد أحاط الله بكل شيء علماً. ... 1172
إن الحقوق في الإسلام تبلغ درجة الحرمات وهي في هذا تمر بدرجات، فالحقوق مُسَلَّمة، ومن بعدها تدعمها الواجبات، ومن بعد الواجبات تحميها الحدود، ومن بعد الحدود ترتفع إلى الحرمات. ... 1172
وإذا كانت المواثيق البشرية قد ضمنت بعض الحقوق فإن الإسلام بمصدريه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة شملا جميع أنواع الحقوق التي تكرم الله بها على خلقه. ... 1172
ثالثاً: من حيث الحماية والضمانات: ... 1172
إن حقوق الإنسان في القوانين الوضعية لم توضع لها الضمانات اللازمة لحمايتها من الانتهاك. ... 1172
فبالرجوع إلى مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م نجده لم يحدد الوسائل والضمانات لمنع أي اعتداء على حقوق الإنسان وبخاصة ما يكون من هذه الوسائل والضمانات على المستوى العالمي. ... 1172
كما تضمن الإعلان تحذيراً من التحايل على نصوصه أو إساءة تأويلها دون تحديد جزاء للمخالفة، وتضمنت أيضاً تشكيل لجنة لحقوق الإنسان تقوم بدراسة تقارير الدول الأطراف عن إجراءاتها لتأمين الحقوق المقررة، كما تتسلم التبليغات المقدمة من إحدى الدول الأطراف ضد أخرى بشأن أدائها لأحد التزاماتها المقررة بمقتضى الاتفاقية وذلك بشروط معينة. ... 1172(7/176)
وبالنظر إلى الحماية الدولية لحقوق الإنسان نجدها محاولات لم تصل إلى حد التنفيذ، وهي تقوم على أمرين: ... 1173
1- محاولة الاتفاق على أساس عام معترف به بين الدول جميعاً. ... 1173
2- محاولة وضع جزاءات ملزمة تدين الدولة التي تنتهك حقوق الإنسان. ... 1173
إن كل ما صدر عن الأمم المتحدة والمنظمات والهيئات بخصوص حقوق الإنسان يحمل طابع التوصيات ولا يعدو كونه حبراً على ورق يتلاعب به واضعوه حسبما تمليه عليهم الأهواء والشهوات. ... 1173
أما في الإسلام فقد اعتمد المسلمون في مجال حماية حقوق الإنسان على أمرين أساسين، وهما: ... 1173
1- إقامة الحدود الشرعية، إذ إن من أهم أهداف إقامة الحدود الشرعية في الإسلام المحافظة على حقوق الأفراد. ... 1173
2- تحقيق العدالة المطلقة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم وحثا عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. ... 1173
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل:90]. ... 1173
قال ابن عطية: "والعدل هو فعل كل مفروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات وترك الظلم والإنصاف وإعطاء الحق". ... 1173
وقال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [النساء:58]. ... 1173
قال ابن كثير: "أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس". ... 1173
وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه في إقامة العدل فكانت حياته كلها عدل، وعلم أصحابه العدل وأوصى أمته به وحذرهم من الظلم، ووضع منهج الإسلام في إقرار العدل والمساواة والمحافظة على الحقوق وحمايتها. ... 1173
حقوق الإنسان للحقيل (ص 87). ... 1173
حقوق الإنسان للحقيل (ص 103). ... 1173
حقوق الإنسان للحقيل (88-89). ... 1173
حقوق الإنسان للحقيل (ص 89). ... 1173
حقوق الإنسان للحقيل. ... 1174
المحرر الوجيز (2/416). ... 1174
تفسير القرآن العظيم (1/528). ... 1174
حقوق الإنسان للحقيل (ص 103-104). ... 1174
الفصل الرابع: مفهوم الغرب لحقوق الإنسان: ... 1174
لم تظهر فكرة حقوق الإنسان جزئياً بشكل رسمي عند الغرب إلا في القرن الثالث عشر الميلادي، الموافق للقرن السابع الهجري، أي: بعد نزول الإسلام بسبعة قرون، وذلك نتيجة ثورات طبقية وشعبية في أوروبا، ثم في القرن الثامن عشر في أمريكا لمقاومة التميز الطبقي أو التسلط السياسي أو الظلم الاجتماعي. ... 1174
1- حرية التدين في الغرب: ... 1174
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن لكل شخص الحق في حرية الدين وحرية تغيير ديانته أو عقيدته وحرية الإعراب عنها بالتعليم والممارسة. ... 1174
فالإنسان عند الغرب حر في أن يختار الدين الذي يريده وحر في أن يغير دينه متى شاء. ... 1174
وهذا يتعارض مع تعاليم الإسلام الذي لا يجيز للمسلم تغيير ديانته، بل يعتبر ذلك ردة ويجب إقامة الحد فيها؛ لأن السماح بالردة يشكل خطراً على أمن الدولة الإسلامية، ويخالف ما قصده الإسلام من حفظ للضروريات الخمس التي على رأسها ضرورة حفظ الدين الذي تقوم الدولة الإسلامية أساساً عليه. ... 1174
2- حرية إقامة العلاقات الأسرية: ... 1174
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين. ... 1174
فيبيح للكافر التزوج بمسلمة وللمسلم التزوج بالكافرة بدون أي قيود على ذلك. ... 1174
وهذا يخالف تعاليم الإسلام التي لا تجيز للمرأة المسلمة أن تتزوج بغير المسلم، وذلك صيانة للأسرة من الانحلال بسبب الاختلاف في الدين عند احترام الزوج بموجب عقيدته لمقدسات زوجته لأن المرأة أحد عنصري الأسرة الأكثر حساسية في هذا الموضوع بسبب شعورها بالضعف أمام الرجل". ... 1174
3- حق الحرية: ... 1174
جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق". ... 1175
وفي اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية: "لكل فرد الحق في الحرية والسلامة الشخصية ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا على أساس من القانون وطبقاً للإجراءات المقررة". ... 1175
وهذا الحق يكاد أن يكون نظرياً اليوم، ويعاني الأفراد والشعوب الويلات من الإفراط والتفريط بحق الحرية، والمتاجرة بها والتغني فيها وعدم ضبط الممارسات فيها وحولها، حتى قالت إحدى نسائهم: "كم من الجرائم ارتكبت باسمك أيتها الحرية". ... 1175
4- حق التملك: ... 1175
تفاوت مفهوم حق التملك عند الغرب تفاوتاً هائلاً. ... 1175
فالرأسمالية أطلقت حرية التملك إلى أبعد الحدود وجردته من كل قيد حتى استبد الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال بمقدرات الأمم والشعوب واستنزفت خيرات البلاد وطبقات الفقراء والعمال. ... 1175(7/177)
بينما تمادت الشيوعية في الإفراط والغلو وألغت الملكية الفردية وفرضت ملكية الدولة الكاملة، واستولت على جميع وسائل الإنتاج، وأصبح العمال مجرد آلات للعمل. ... 1175
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،، ... 1175
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 101). ... 1175
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 181). ... 1175
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 155-156) بتصرف. ... 1175
حقوق الإنسان للحقيل (ص 82). ... 1175
حقوق الإنسان للحقيل (ص 161). ... 1175
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 169). ... 1175
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 169). ... 1175
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 170). ... 1175
حقوق الإنسان للزحيلي (ص 315). ... 1175
------------------- ... 1175
الإسلام والديمقراطية ... 1176
الشيخ فتحي منصور ... 1176
قاضي المحكمة الشرعية - القدس ... 1176
Sheikh Fathi Mansour, ... 1176
Judge, Islamic Shari’a Court- ... 1176
Jerusalem ... 1176
إن فكرة الديمقراطية في وقتنا الحاضر تغزو العالم عبر مساحات واسعة من النشاطات الإعلامية والثقافية سواء على مستوى الندوات أو المحاضرات أو اللقاءات المرئية أو صفحات الجرائد وغيرها، أو عبر الحملات العسكرية لغزو البلدان العربية والإسلامية لنشر (الديمقراطية) في هذه البلاد وقمع الأنظمة (الديكتاتورية). ... 1176
ولا شك أن في هذه الفكرة بريقاً قوياً خاصة بالنسبة للشعوب التي تعاني من القهر والاستبداد، وقد حول هذا البريق فكرة (الديمقراطية) من بُعد فكري ونظري لترتيب السياسة في المجتمع الى ممارسات عملية تتعلق بحريات أساسية منها حرية التعبير والتنقل والتنظيم وغيرها. ... 1176
فالناس عامة لا يكترثون في البحث عن الأسس الفلسفية أو الفكرية التي تنطلق منها الديمقراطية، بقدر ما يهتمون ببعض المظاهر والممارسات السياسية التي يرتاحون إليها ويثنون عليها ويودون أن تكون جزءاً من واقعهم لعلهم ينعمون ببعض (الخيرات) التي تنعم بها الشعوب التي أقامت نظماً سياسية ديمقراطية. ... 1176
وقد ساد هذا الانطباع الجماهيري العام عن الديمقراطية في العالم الإسلامي والوطن العربي حتى بات المفهوم الشعبي لها مرادفاً (للحرية). ولا ينتبه الكثيرون من الناس أن الحرية قد تكون أكثر شمولاً أو أقل اتساعاً من الديمقراطية، وأن لكل مفهوماً خاصاً ربما يتقاطع مع الآخر ولا يلتقي معه بالضرورة. وربما أن هذا الأمر هو الذي قاد بعض المفكرين والباحثين المسلمين إلى القول بأن الإسلام (ديمقراطي) وأن القيم الديمقراطية قيم إسلامية يجب الدفاع عنها، وبدلاً من أن يركزوا على البحث في مجال الحريات في الإسلام، انطلقوا يتحدثون عن الحداثة الإسلامية في ثوب ديمقراطي. ... 1176
* إذن ما المقصود بالديمقراطية: ... 1177
لقد عرفت الديمقراطية لغوياً أنها حكم الشعب. ... 1177
وقد نشأ هذا المفهوم في أثينا في الثقافة اليونانية القديمة ثم تجسدت هذه الفكرة في العصور اللاحقة في الفكر السياسي الغربي واتخذت نشاطاً نضالياً من أجل الديمقراطية بين الحكام والمحكومين بلغ أوجه خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر عندما استطاع البريطانيون من الحد من صلاحيات الملك بعد ثورتي 1649 و 1688. ... 1177
وكان ل (جون لوك) دور بارز في الدعوة للديمقراطية بالمفهوم الغربي والذي عرفها بأنها (حق الأكثرية التي اكتسبت سلطة الجماعة بالاتحاد في استخدام تلك السلطة لتشريع القوانين وتنفيذها بواسطة موظفين عينوا لذلك). ... 1177
أما الولايات المتحدة فلم تعرب النظام الديمقراطي إلا بعد الاستقلال (1776) وتجسدت في إعلان حقوق الإنسان وحريته. رغم أن الديمقراطية الأمريكية بقيت مشوهة إلى اليوم حيث لا يحق مثلاً الترشيح للرئاسة إلا لفئة معينة من الشعب كالبروتستانت أو البيض أو الانكلوسكسون، كما أن الثروة المالية للمرشح مقدمة على أن نوع من الكفاءات الأخرى. ... 1177
أما في فرنسا فقد انفجرت الثورة سنة 1789 معلنة حقوق الإنسان والمواطن، حيث عرف جان جاك روسو الديمقراطية بما يلي: ... 1177
"يستطيع صاحب السيادة في المقام الأول أن يعهد بأمانة الحكم إلى الشعب كله أو إلى الجزء الأكثر منه بحيث يكون هناك من المواطنين الحكام أكثر من المواطنين الأفراد ويطلق على هذا الشكل من الحكومة اسم ديمقراطية". ... 1177
أما (مونتسكيو) ففي معرض تقسيمه للحكومات اعتبر الحكم الديمقراطي شكلاً من أشكال الحكم الجمهوري. ... 1177
فالديمقراطية في راية تحكم على أساس الفضيلة السياسية وتعني حب الدولة وحب المساواة، وفي ظل النظام الديمقراطي فإن المواطنين يختارون وفقاً لبمدأ المساواة وإمكانياتهم وقدراتهم، والسلطة التشريعية يجب أن تكون بين الأفراد كما أن التصويت يجب أن يكون عاماً. ... 1177(7/178)
إذن، فالديمقراطية بالمعنى اللغوي (حكم الشعب): هي قاعدة لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع في حال من الأحوال، وهو الأمر الذي يؤكده (روسو) حيث يقول (وإذا أخذنا عبارة الديمقراطية بكل معناها الدقيق نجد أن الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبداً ولن توجد أبداً فيما يخالف النظام الطبيعية أن يحكم العدد الأكبر وأن يكون العدد الأصغر هو المحكوم ولا يمكن أن نتصور بقاء الشعب مجتمعاً على الدوام للنظر في الشؤون العامة ونستطيع أن نرى بسهولة أنه لا يمكن إقامة لجان من أجل ذلك دون تغيير في شكل الإدارة. ... 1178
أما المفهوم الاصطلاحي للديمقراطية فقد أصبح يشمل معان أخرى أضيفت إليه كإعطاء الحرية للناس في تشريع القانون واختيار من ينفذه من خلال الانتخابات العامة التي تكفل المساواة للأفراد في المشاركة في الحياة السياسية حيث يكون الرأي للأغلبية. ... 1178
ولا شك أن الحرية والمساواة مفاهيم تتوق إليها النفس الإنسانية التي بطبيعتها ترفض العبودية والظلم، ولذا نجد التغني بالديمقراطية واعتبارها الحكم المنشود لكل شعب مضطهد مظلوم تنطلق من هذين الشعارين اللذين ترفعهما. ... 1178
إذن فالديمقراطية تعتبر منهجاً في الحكم يرمي إلى وضع حد لثنائية الحاكم والمحكوم التي سادت تاريخ أوروبا القديم والوسيط، واقترنت بانتشار الحكم الفردي وسيطرة الكنيسة وغياب القانون. ... 1178
ويهدف هذا المنهج إلى استبدال هذا الوضع القديم بآخر جديد هو وضع الدولة الحديثة التي يحكمها القانون باعتبارها معبرّاً عن إرادة الشعب وملزماً للرئيس والمرؤوس معا. ... 1178
ولبلوغ هذا الهدف يعتمد المنهج الديمقراطي على جملة من المبادئ الأساسية التي تتولد عنها آليات وأجهزة دستورية تختلف صيغتها التفصيلية من نظام إلى آخر، ويمكن إجمالها فيما يلي: ... 1178
1. الشعب صاحب السيادة ومصدر السلطات والشرعية. ... 1178
2. انبثاق السلطات بواسطة الانتخابات ... 1179
3. الإقرار للأغلبية بأن تحكم وللأقلية بأن تعارض ... 1179
4. التعددية الحزبية ... 1179
5. التداول السلمي على السلطة ... 1179
6. مراقبة الحكام وممارسة التأثير عليهم ... 1179
7. فصل السلطات ... 1179
8. ضمان حريات المعتقد والتعبير والعمل النقابي ... 1179
9. حفظ مصالح الضعفاء والأقليات ... 1179
10.احترام حقوق الإنسان ... 1179
مقارنة عامة لبعض المفاهيم بين الديمقراطية والإسلام ... 1179
مصدر التشريع ... 1179
يمتاز نظام الحكم في الإسلام بخصائص أهمها: ... 1179
1- الحاكمية لله ... 1179
2- السيادة للأمة ... 1179
3- الدولة الإسلامية واحدة في المبادئ، متعددة في الأشكال حسب الزمان والمكان. ... 1179
? الحاكمية لله؛ تعني أن مصدر التشريع هو الله سبحانه وتعالى وحده وأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله تعالى بالوحي. ... 1179
? الحاكم منفذ لأحكام الله تعالى في الأمة مجتهد في استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأساسية. ... 1179
? طاعة الحاكم واجبة ما لم يخالف نصاً صريحاً. ... 1179
? قال تعالى: ( أيا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) ... 1179
وقال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم). ... 1180
وقال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك). ... 1180
قال تعالى( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) ... 1180
أما النظام الديمقراطي، فإن حق التشريع للشعب، فالدستور وسائر القوانين هي من صنع البشر ويمثل على أفضل تقدير وفي لحظات مثالية تحكم الأكثرية بالأقلية. ... 1180
وشتان بين نظام وضعه خالق الإنسان والعالم بخفايا نفسه والقادر على وضع ما يصلها من القوانين التي توصل الإنسان إلى سعادته الحقيقية وبين نظام يستمد من الإنسان الذي هو في أفضل حالات نزاهته وتجرده عن اللذات عرضة للخطأ الذي يذهب ضحيته البشر. ... 1180
اختيار الحاكم ... 1180
- حق اختيار الحاكم هو للأمة بواسطة أهل الحل والعقد، فالحكم بالإسلام هو عقد عن تراض بين الأمة والحاكم. ... 1180
- البيعة تعني الطاعة والقبول ... 1180
- الحاكم مقيد بتبني الأحكام الشرعية المستنبطة استنباطاً صحيحاً من الأدلة الشرعية ومقيد بالحلال والحرام. ... 1180
- لا يخرج على الحاكم أو يعزل إلا إذا أظهر كفراً بواحاً. ... 1180(7/179)
عن عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المكره والمنشط، فبايعناه، فقال: فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان). ... 1180
الشورى ... 1180
? الشورى ضرورة إنسانية في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلاقات الفردية. ... 1181
قال عليه الصلاة والسلام (إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه) ... 1181
وهي في النظام السياسي في الإسلام من لوازم الإيمان بالله تعالى. ... 1181
قال تعالى ( والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون). ... 1181
? النظام السياسي في الإسلام نظام شوري يرفض جميع أشكال الحكم الاستبدادي وكل الأنظمة السياسية الغوغائية والفوضوية. ... 1181
? قال تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين). ... 1181
? الحاكم يمارس تنفيذ هذا النظام من خلال الوقوف على رأي فئة من الأمة تتصف بالذكاء والحنكة والتجربة والإخلاص للنظام والأمة، وهذه الفئة تمثل الأمة تمثيلاً حقيقياً بجميع قطاعاتها وتحاسب الحاكم محاسبة من شأنها تسديد مسيرته ودعمه في اتجاهاته الخيرة وتعينه على اتخاذ القرارات المهمة والحسم في المواقف التي تواجهه. ... 1181
لما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر خرج فاستشار الناس فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه ثم استشارهم فأشار عليه عمر - رضي الله عنهم - عنه فسكت فقال رجل من الأنصار إنما يريدكم، فقالوا يا رسول الله، "والله لا نكون كما قالت بنوا إسرائيل لموسى عليه السلام (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)، ولكن والله لو ضربت أكباد الإبل، حتى تبلغ برك الغماد لكنا معك". ... 1181
المرأة ... 1181
? لقد وزع الإسلام الاختصاصات العملية توزيعاً يوافق طبائع الذكورة والأنوثة. ... 1181
? كفل الإسلام للمرأة حقوقاً عديدة في المجالات السياسية، فقد أقر لها حق المشاركة السياسية من حيث إبداء الرأي، وأن الآية الكريمة (وأمرهم شورى بينهم) لم تخص الرجال دون النساء. ... 1181
وقد شاركت أم سلمة في صلح الحديبة وهي التي أشارت على النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحلق رأسه. ... 1182
كما عارضت أسماء بنت أبي بكر بيعة بأنها عبد الله بن الزبير للأمويين. ... 1182
? منح الإسلام للمرأة حق التعبير عن الرأي أسوة بالرجال. ... 1182
فقد خطب عمر رضي الله فقال: (ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقالت إليه امرأة فقالت: يا عمر يعطينا الله وتحرمنا، أليس الله سبحانه وتعالى يقول (وآتيتم إحداهم قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً)، فقال عمر، أصابت امرأة وأخطأ عمر، وفي رواية فاطرق عمر ثم قال كل الناس افقه منك يا عمر، وفي رواية أخرى امرأة أصابت ورجل أخطأ وترك الإنكار. ... 1182
? ساوى الإسلام بين الذكور والإناث في حق التعليم والثقافة ... 1182
? فسح الإسلام أمام المرأة مجال العمل وراعى تركيبة المرأة البيولوجية وأنوثتها. ... 1182
================= ... 1182
يقول الأستاذ فهمي هويدي: "يظلم الإسلام مرتين: مرة عندما يقارن بالديمقراطية ومرة عندما يقال إنه ضد الديمقراطية، إذ المقارنة بين الاثنين خاطئة وادعاء التنافي خطيئة، الأمر الذي يحتاج إلى تحرير أولاً واستجلاء ثانياً". ... 1182
مفهوم الديمقراطية وتاريخها ... 1182
لقد عرفت الديمقراطية لغوياً أنها حكم الشعب. ... 1182
وقد نشأ هذا المفهوم في أثينا في الثقافة اليونانية القديمة ثم تجسدت هذه الفكرة في العصور اللاحقة في الفكر السياسي الغربي واتخذت نشاطاً نضالياً من أجل الديمقراطية بين الحكام والمحكومين بلغ أوجه خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر عندما استطاع البريطانيون من الحد من صلاحيات الملك بعد ثورتي 1649 و 1688. ... 1182
وكان لـ (جون لوك) دوراً بارزاً في الدعوة للديمقراطية بالمفهوم الغربي والذي عرفها بأنها (حق الأكثرية التي اكتسبت سلطة الجماعة بالاتحاد في استخدام تلك السلطة لتشريع القوانين وتنفيذها بواسطة موظفين عينوا لذلك). ... 1183
أما الولايات المتحدة فلم تعرف النظام الديمقراطي إلا بعد الاستقلال (1776) وتجسدت في إعلان حقوق الإنسان وحريته. رغم أن الديمقراطية الأمريكية بقيت مشوهة إلى اليوم حيث لا يحق عملياً الترشيح للرئاسة إلا لفئة معينة من الشعب كالبروتستانت أو البيض أو الانكلوسكسون، كما أن الثروة المالية للمرشح مقدمة على أن نوع من الكفاءات الأخرى. ... 1183(7/180)
أما في فرنسا فقد انفجرت الثورة سنة 1789 معلنة حقوق الإنسان والمواطن، حيث عرف جان جاك روسو الديمقراطية بما يلي: ... 1183
"يستطيع صاحب السيادة في المقام الأول أن يعهد بأمانة الحكم إلى الشعب كله أو إلى الجزء الأكثر منه بحيث يكون هناك من المواطنين الحكام أكثر من المواطنين الأفراد ويطلق على هذا الشكل من الحكومة اسم ديمقراطية". ... 1183
أما (مونتسكيو) ففي معرض تقسيمه للحكومات اعتبر الحكم الديمقراطي شكلاً من أشكال الحكم الجمهوري. ... 1183
فالديمقراطية في راية تحكم على أساس الفضيلة السياسية وتعني حب الدولة وحب المساواة، وفي ظل النظام الديمقراطي فإن المواطنين يختارون وفقاً لبمدأ المساواة وإمكانياتهم وقدراتهم، والسلطة التشريعية يجب أن تكون بين الأفراد كما أن التصويت يجب أن يكون عاماً. ... 1183
إذن، فالديمقراطية بالمعنى اللغوي (حكم الشعب): هي قاعدة لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع في حال من الأحوال، وهو الأمر الذي يؤكده (روسو) حيث يقول (وإذا أخذنا عبارة الديمقراطية بكل معناها الدقيق نجد أن الديمقراطية الحقيقية لم توجد أبداً ولن توجد أبداً فيما يخالف النظام الطبيعية أن يحكم العدد الأكبر وأن يكون العدد الأصغر هو المحكوم ولا يمكن أن نتصور بقاء الشعب مجتمعاً على الدوام للنظر في الشؤون العامة ونستطيع أن نرى بسهولة أنه لا يمكن إقامة لجان من أجل ذلك دون تغيير في شكل الإدارة. ... 1183
مفهوم الديمقراطية حالياً ... 1184
يقول الأستاذ راشد الغنوشي: مفهوم الديمقراطية مفهوم واسع يتسع لمعاني كثيرة، ولكنها قد تلتقي عند معنى أنها نظام سياسي يجعل السلطة للشعب، ويُمكِّن المحكومين من القدرة على التأثير في حكامهم، بل قبل ذلك يعطيهم الحق في اختيار حكامهم وفي التأثير فيهم والضغط عليهم، وعند الاقتضاء إلى تغييرهم عبر آليات قد تختلف من نظام ديمقراطي إلى آخر، ولكنها تلتقي أيضاً عند آلية الانتخاب أي الاقتراع الحر عبر خطوات كثيرة وأشكال، وبالتالي يحقق هذا النظام التداول على السلطة عبر صناديق الاقتراع، ويمكّن الناس- أي المحكومين- من حريات كالتعبير، وتكوين الأحزاب واستقلال القضاء، وبالتالي فالديمقراطية هي شكل يعلن عن أن هذا النظام السياسي يقوم على سيادة الشعب، ومن جهة أخرى جملة من المضامين والقيم تقر بكرامة الناس وبمساواتهم لبعضهم، ويقر لهم بجملة من الحقوق وجملة من الحريات تجعلهم قادرين على اختيار حكامهم والضغط عليهم وتغييرهم بالوسائل السلمية، تعطيهم الحق في المشاركة في السلطة، وتجعلهم آمنين من الجور أو من الاستبداد. ... 1184
الإسلام والديمقراطية ... 1184
يقول الدكتور يوسف القرضاوي : "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" ومن هنا كان لابد أن نعرف ما هي الديمقراطية ،الديمقراطية بجوهرها هذا لا تنافي الإسلام لأنها تقوم على عدة مبادئ: ... 1184
أولاً: أن يختار الناس من يحكمهم: لا أن يقود الناس من يكرهونه ولا يرضون عنه، فإذا كان الإسلام قال فيحق الإمامة الصغرى –المقصود إمامة الصلاة-: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شِبراً، أول هذه الثلاثة "رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون" (رواه ابن ماجه والترمذي والطبراني و إسناده حسن أو صحيح)فإذا كان هذا بالنسبة للإمامة الصغرى فما بالك بالإمامة الكبرى بقيادة الأمة وفي الحديث (الذي رواه مسلم وأحمد والطبراني): "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم ،وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم" ... 1184
ثانياً: المحاسبة: وهي أن أن يحاسب الناس هذا الشخص بعد اختياره إذ لا معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلابد إذاً أن يقوَّم الخطأ وأن يعان على الصواب، سيدنا أبو بكر يقول: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة عليكم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني"، وابن الخطاب يقول على المنبر: "رحم الله امرئ أهدى إلى عيوب نفسي، مرحباً بالناصح أبد الدهر، مرحباً بالناصح غدواً وعشياً، من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقومه"، وهكذا فمن حق الأمة يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: "الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم" . ... 1184(7/181)
ولذلك حمل القرآن حملة شعواء على المتألهين في الأرض، نمروذ الذي قال لإبراهيم (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، فرعون الذي قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)، ومن مع فرعون؟ هامان وقارون، هامان السياسي الوصولي الذي يسند الطاغية المتجبر، والرأسمالي الإقطاعي الذي يسند هذا وذاك قارون، الإسلام حمل على هؤلاء يعني جميعاً، وحمل على الشعوب التي تتبع هؤلاء، ولذلك قال عن قوم فرعون: (وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً) وقال عن عاد قوم هود: (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)، لا يجوز للأمة أن تتبع.. وقال عن فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) حمل الشعوب المسؤولية، لأن الشعوب يجب أن تتحمل تبعاتها في اختيار الحاكم ومساءلته، لا أن تكون قطيعاً يسوقه الحاكم بعصاه. ... 1185
ثالثاً: القيم الديمقراطية: كالحرية والكرامة وحقوق الإنسان ،هذه كلها مبادئ إسلامية، هي عندهم تسمى حقوقاً، عندنا تسمى فرائض، يعني ما يعتبر في الديمقراطية حقاً في الإسلام يعتبر فرضاً وليس حقاً يجوز التنازل عنه ومن أهم هذه الفرائض: ... 1185
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فرض عليك أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، وإلا دخلت في الذين لعنوا كما لعن بنو إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم.. لماذا؟ (كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ). ... 1185
- كرامة الإنسان في الإسلام : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) ... 1185
- المساواة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ... 1185
فكل المعاني التي قامت عليها الديمقراطية معاني يقرها الإسلام، فلذلك نحن في غنى أن نقول ديمقراطية، ولكن لأن الديمقراطية وصلت إلى صيغ وأساليب وضمانات لتحقيق هذه القيم السياسية التي جاء بها الإسلام، فنحن نقول البشرية في صراعها مع الطغاة والمستبدين طوال العصور استطاعت الوصول إلى تلك القيم فلماذا لا نستفيد منها. ... 1185
الإسلام والديمقراطية...هل يكتب التوفيق لهذا الزواج-الجزء1 ... 1186
________________________________________ ... 1186
الحاجة إلى الديمقراطية ... 1186
يقول الأستاذ راشد الغنوشي : غابت دولة الشورى في كل المستويات منذ القرن الأول (قال عليه الصلاة والسلام:الخلافة بعدي ثلاثون ثم تكون ملكاً)وأصبحنا نورَّثً إلى هؤلاء الملوك، و ساد التقليد وهو شكل من أشكال الاستبداد أيضاً ، وفي مجال التربية ساد التصوف الأعمى "المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي من يغسله"وهذا يلغي إرادة الناس يلغي إرادة من يسمون المريدين لصالح الشيخ. ... 1186
فأصبحنا إذاً مجتمعنا ينتج الاستبداد ويتحرك في إطار الاستبداد. ... 1186
فلما انفتحت النوافذ وجاء الهواء لم نستطع أن نتعايش مع الفكر الحديث، وبادرنا برفضه، على سبيل المثال انظر ما حصل في أفغانستان في التسعينات ، خرب البلد على يد مجاهدين، لماذا؟ لأنهم لو اتفقوا على الديمقراطية كآليات لحسم خلافاتهم لرجعوا للشعب الأفغاني واحتكموا له، ومن يرضى به الشعب يُقبل، ولكن هؤلاء كثير من مشايخهم يرفضون الديمقراطية لأنها حرام –بزعمهم- وأن الشعب ليس محل ثقة، ويقولون بنظام يتخيلونه واضحاً، ولكنها مجرد أسماء: يقولون نظام أهل الحل والعقد، من هم أهل أحل والعقد؟ كيف نختارهم؟ هؤلاء كانوا واضحين في مجتمع صغير كمجتمع المدينة، كيف نتوصل إليهم اليوم دون ممارسة الآليات الحديثة، آليات الديمقراطية في الانتخاب؟ فخرب البلد رغم أنهم قد يكونون صالحين ومجاهدين، لكنهم ورثوا هذا التخلف في فقهنا السياسي، فلم يتوفقوا إلى آليات لحسم خلافاتهم ... 1186
في الحركة الإسلامية جوانب كثيرة للتجديد ، فالإسلام أقر مبدأ الشورى، وأمرنا ألا يقرر الفرد ولاالنخبة المستبدة في القضايا الكبرى ، وإنما الأمة كلها تُشارك في صناعة القرار. ... 1186
فكرة المشاركة هذه فكرة أساسية جاء بها الإسلام، وأظن أن غيابها وإقصاء الأمة عن شأنها واستبداد الأفراد بالمجموع هو الذي أنهك حضارتنا وأسلمها إلى الانهيار، على حين توفق الغرب في أن يحول شورانا هذه- مبدأ الشورى المبدأ العظيم- أن يجعل له آليات تجعل من الشورى نظاماً يحقق التداول على السلطة، ويحقق الأمن من الجور، ويعطي للناس للشعب وسائل الضغط على الحكام، ويعطي وسائل النصح والتغيير، وبالتالي أمِن الغرب من الاستبداد، وبقينا نحن المسلمين لا أمل لنا في نصح حكامنا- فضلاً عن تغييرهم- إلا أن ننتظر زيارة ملك الموت لمستبد أو إعلان دبابة في الهزيع الأخير من الليل، وهذه كارثة على الحاكم والمحكوم بصراحة. ... 1186(7/182)
ويرى بعض المفكرين أن الابتعاد عن الديمقراطية يؤثر على الدور الرسالي للإسلام حيث يقول مراد هوفمان: إذا لم يتمكن العالم الإسلامي من تأكيد العنصر الديمقراطي الأصيل الكامن في تكوينه، وسيترتب على ذلك أن المسلمين لن يتمكنوا من تحقيق وتطوير إمكاناتهم في شتى المجالات: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وسيعقب ذلك تخلفه وعجزه السياسي. ... 1187
الشورى واجب إسلامي ... 1187
أوجب الإسلام الشورى، الحاكم يجب أن يستشير الناس ولا يستبد بالرأي، والشورى كما قال الإمام ابن عطية في تفسيره: "من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدين من الأمراء فعزله واجب، وهذا ما لا خلاف فيه". ... 1187
وبين الدكتور البوطي أن الشورى تمتاز عن الديمقراطية بأنها "واجب في الوقت ذاته، كلف الله به الأمة، وحمل سائر أفرادها مختلف تبعاته.." وأوضح أن الشورى الشرعية أو التشريعية تعتبر "عبادة تعاونية محضة يبتغى منها الوصول إلى مرضاة الله". ... 1187
و يقول الدكتور يوسف القرضاوي :إن الإسلام أقام الحياة السياسية على مبدأ الشورى، وهو مقرر في القرآن الكريم بقوله تعالى في وصف مجتمع المؤمنين (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) هذا في القرآن المكي، وفي القرآن المدني قال الله تعالى لرسوله (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وإذا كان الرسول مأموراً بالمشاورة فغيره أولى بأن يشاور يعني قطعاً، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر الناس مشاورة، كما جاء في صحيح البخاري، أكثر الناس مشاورة لأصحابه، هو النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا يعني معروف، شاور في غزوة بدر ، وشاور في غزوة أحد، وشاور في غزوة الخندق، وكثيراً ما نزل عن رأيه إلى رأي أصحابه. ... 1187
في غزوة بدر شاور قبل الغزوة، وشاور في أثناء الغزوة، وشاور بعد الغزوة في مسألة الأسرى، في غزوة أحد شاور أيضاً الصحابة في الخروج إلى المشركين أم البقاء في المدينة، وكان رأيه ورأي كبار الصحابة أن يبقوا في المدينة، ولكن الشباب وهم جمهور الناس رفضوا ذلك، وقالوا: يعني ما دخل علينا فيها في الجاهلية. أفي الإسلام يدخلون علينا؟! وأبوا إلا أن يخرجوا، فنزل على رأيهم، في غزوة الخندق أيضاً استشار السعود: سعد بن معاذ، وسعد بن الربيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود من الأنصار حينما عرض عليه قبيلة غطفان أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة أو نصف ثمار المدينة ويرجعوا وينفضوا عن قريش، وعرض الرسول عليهم هذا، وقال لهم: إن العرب رمتكم عن قوس واحدة، فلا مانع إن إحنا نقسم المهاجمين بأننا نصالح بعضهم وأن نتفرغ للبعض، ولكن هؤلاء السعود وهم يمثلون الأنصار رفضوا ذلك قالوا ما أخذوا منا تمرة في الجاهلية بعد أن أعزنا الله بالإسلام يأخذون منا؟ رفضوا ونزل النبي -صلى الله عليه وسلم- على رأيهم. ... 1188
و يقول مراد هوفمان معلقاً: إن آية الشورى (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) جعلت واجب الشورى يمتد إلى المؤمنين كافة وليس الرسول وحده، وقرنت واجب الشورى بفرض الصلاة. وهذه الصيغة ذات أهمية قصوى ،حتى وإن كان فرض الأخذ بالشورى - كما هو الحال في الغرب - قد عطل وانتهى الأخذ به في التاريخ الإسلامي الذي يتسم بالتسلط، ولم يعد الأخذ بالشورى موضع تنفيذ منذ حكم الأسرة الأموية في دمشق عام 750.انتهى ... 1188
ومنذ تلك اللحظة بدأ فشل المسلمين السياسي وقد صدق عليه الصلاة والسلام إذ يقول: "لينتقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة " ... 1188
وبهذا فلا يجوز للمسلمين أن يفتخروا بالممارسة السياسية التي مارسوها – أو بالأصح مارسها الملوك- بعد نهاية العقد الرابع للهجرة. ... 1188
آليات الديمقراطية الإسلامية ... 1188
يقول مراد هوفمان: أما أهم الشروط التي يجب توافرها في كيان حكم إسلامي صحيح، هو أن يسود فيه الإجماع على من يحكم وما يحكم، أي أن يتم الحكم بموافقة الغالبية، حتى يكون هناك عقد (بمفهوم روسو) يحكم العلاقة بين الشعب والحكومة، ويسمى العقد الاجتماعي، وهو في الإسلام البيعة. ... 1189
وفي الجزائر مثلاً اقترح الشيخ محفوظ نحناح زعيم الحركة الإسلامية الجزائرية تسمية الشكل الإسلامي للديمقراطية، شورى قراطية أي النظام الشوروي). ... 1189(7/183)
وأعتقد أن على المسلمين بدلاً من الوقوف عند مفردات منفرة، وإضاعة الجهد في مجادلات كلامية، أن يتبينوا أن أهم أهداف الديمقراطية ووظائفها، إنما هي تأمين وجود رقابة منظمة على الحكومات لمنع أي ظلم وتسلط وسوء استخدام للسلطة، وما هذا إلا جوهر الأهداف الإسلامية. ... 1189
ويتم تحقيق هذا في ديمقراطية إسلامية لها لبناتها. ... 1189
وقد استخرجت من كلام هوفمان أهم تلك اللبنات: ... 1189
- اللبنة الأولى: بجعل القرآن الكريم المصدر الأعلى للدستور ... 1189
- اللبنة الثانية: يجب أن توضع جميع القوانين المستمدة من القرآن الكريم موضع اعتبار وقياس من قبل قانونيين مسلمين. ... 1189
ملاحظة:وهذا لا يعارض ممارسة الديمقراطية فالديمقراطيات محكومة بالدساتير و الديمقراطية الإسلامية محكومة بدستور مستمد من شرع الله. ... 1189
- اللبنة الثالثة: قيام حياة نيابية إسلامية بناءً على التوجيه القرآني بوجوب الشورى إذ لا ينكر أي مسلم في يومنا هذا وجوب الأخذ بالشورى، ولا نفكر حقيقة أن الشورى لا يمكن أن تتم في المجتمعات الحديثة ذات الكثافة العالية من خلال كل الأفراد، بل من خلال مجلس منتخب يمثل ناخبيه كما فعل موسى عليه السلام من قبل " وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا" ... 1189
- اللبنة الرابعة (الاقتراع وسيلة الانتخاب): السؤال الذي يمكن أن يطرح من وجه نظر إسلامية ويكون موضع خلاف، ليس وجود مجلس للشورى، ولكن كيفية انتخاب أعضاء هذا المجلس. ... 1189
فإذا قام الحاكم _كما هو متبع في كثير من البلدان الإسلامية _ بتعيين أعضاء هذا المجلس، فكأنما يقوم الحاكم الذي يجب مراقبته بمراقبة نفسه بنفسه. ولذلك هناك تأييد متزايد للانتخابات العامة الحرة لممثلي الشعب، ويحظى هذا الاقتراح بموافقة غالبية المسلمين. ... 1189
هناك عقبة من المحتمل أن تعوض الممارسة الديمقراطية، وهي أنه يجب على المسلم أن يمتنع عن أن يطلب لنفسه منصباً سياسياً. ولقد كان هذا الأمر -أي أن يطلب المرء لنفسه منصباً سياسيا -موضع رفض بل ازدراء، حتى إن الرسول محمد لم يعين أحدا في منصب قيادي قد يكون طلبه لنفسه. (ولابد أن يصل المسلمون إلى اجتهاد مناسب لحل هذا الإشكال كأسلوب التزكية مثلاً الذي اقترحه د.القرضاوي) ... 1190
- اللبنة الخامسة(الشورى الملزمة):وهو أمر سنأتي إلى شرحه تفصيلاً في فقرة اعتراضات على الديمقراطية. ... 1190
- اللبنة السادسة( الإقرار بالتعددية): يذكر القرآن إمكانية اختلاف آراء ووجهات نظر المسلمين" فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا" ولكن للأسف يؤمن بعض المسلمين أن اختلاف وجهات النظر ما هو إلا دليل لسوء النوايا . ... 1190
- اللبنة السابعة( السلطة التشريعية): هناك ضرورة لإصدار تشريعات لا تنظم فقط الجوانب الفنية لبناء الشوارع والتعريفة الجمركية والمسائل الصحية وضمانات العمل وغيرها ، بل أيضاً هناك ضرورة لإصدار أحكام تكميلية في مجال التعزير مثلاً. حدث هذا في عهد الخلافة العباسية، حيث وجد نظامان للأحكام، تزامنا معاً: أحكام الشريعة من ناحية، ومن ناحية أخرى نظام إدارة وأحكام متحرز نسبياتهم من خلاله استحداث عقوبات لم يذكرها القرآن، مثل دفع الغرامة نقداً، والسجن. ... 1190
أما الأمور التي لا تقبل التأويل فيجب في النظام الإسلامي التنبيه أن "لا اجتهاد في مورد النص" ... 1190
- اللبنة الثامنة : فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية . ... 1190
---------------------- ... 1190
الحرية بين الإسلام والديمقراطية ... 1190
[الكاتب: أبو بصير الطرطوسي] ... 1190
بسم الله الرحمن الرحيم ... 1190
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين. ... 1191
وبعد... ... 1191
لا توجد كلمة تغنت بها الشعوب، واستهوتها قلوبهم ككلمة "الحرية"! ... 1191
تنادوا بها في كل وادٍ ونادٍ، وفي كل خطبة ومقالٍ أو كتاب، ورفعوها شعاراً، وجعلوها غاية يرخص في سبيلها كل غالٍ ونفيس! ... 1191
وفي كثير من الأحيان ينادون بها ولا يعرفون ما الذي يريدونه منها؟! ... 1191
إلى أن أصبحت هذه الكلمة - لشدة فتنة الناس بها - مطية دهاقنة الحكم والسياسة إلى أهدافهم ومآربهم ومصالحهم الخاصة، وليصرفوا إليهم وجوه الناس! ... 1191
وأصبحت الحرية - في كثير من الأحيان - ذريعة وسبباً لوأد الحرية، والحريات، وإعلان الحروب على كثير من الشعوب! ... 1191(7/184)
وصوروا أن الديمقراطية هي التي تحقق لهم الحرية، لأنها تقوم على الحرية، لذا جعلوا من لوازم مناداتهم بالحرية التنادي بالديمقراطية، وكأن كل واحدة منهما لازمة للأخرى ومؤدية إليها ولا بد، فمن كان محباً للحرية والتحرر لا بد من أن ينادي بالديمقراطية، ويكون محباً لها والعكس كذلك، وكل من كان عدواً للديمقراطية فهو عدو للحرية، كما زعموا! ... 1191
والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة: ... 1191
هل الديمقراطية - كما تمارس في أرقى الدول الغربية الديمقراطية - فعلاً تحقق الحرية التي يحتاجها ويريدها الإنسان، وترقى به إلى المستوى المطلوب والمنشود من الحرية؟! ... 1191
وما هي نوعية وصفة وحدود الحرية التي تحققها الديمقراطية للشعوب؟! ... 1191
وهل الإنسان الأمريكي أو الأوربي فعلاً هو حر، وهل الحرية التي يعيشها في بلاده ومجتمعاته فعلاً هي الحرية، أو من الحرية؟! ... 1191
وهل الإسلام يتعارض مع مبدأ الحرية، أم أنه يقرها ويدعو إليها؟! ... 1191
ثم - إن كان يقرها - كيف ينظر للحرية، وكيف يمارسها، وما هو الممنوع منها وما هو المسموح؟! ... 1191
وهل الحرية التي يريدها الإسلام هي ذات الحرية التي تريدها الديمقراطية، أم يوجد فارق بينهما؟! ... 1191
ثم أيهما أصدق لهجة وواقعاً مع الحرية المنشودة، الإسلام أم الديمقراطية؟! ... 1192
هذه الأسئلة وغيرها تحملنا على المقارنة بين الحرية كما يريدها الإسلام، وكما مارسها لأكثر من ألفٍ وأربعمائة سنة خلت، ولا يزال يمارسها ويدعو إليها، وبين الحرية كما تريدها الديمقراطية، وكما تمارس في واقع أرقى الدول والمجتمعات الديمقراطية المعاصرة، لنرى أيهما أجدى نفعاً، وأصدق لهجة، وأولى بالسلامة، وأقرب للحق والصواب! ... 1192
فأقول: ... 1192
الحرية في الديمقراطية، يقوم بتحديدها، وتحديد المسموح منها من الممنوع الإنسان القاصر الضعيف، وفق ما تملي عليه أهواؤه ونزواته وشهواته، وهذا يعني أن مساحة الحرية في الديمقراطية تتسع أحياناً وتضيق أحياناً، بحسب ما يرتئيه الإنسان المشرِّع في كل يوم أو ظرف، بحسب ما يظن فيه المصلحة! ... 1192
وهذا يعني أن الشعوب تكون حقل تجارب، وهي في حالة تغيير وتقلب مستمر مع ما يجوز لهم ومالا يجوز لهم من الحرية! ... 1192
بينما الحرية في الإسلام، الذي يقوم بتحديدها، وتحديد المسموح منها من الممنوع، هو الله تعالى وحده، خالق الإنسان المنزه عن صفات النقص أو الضعف والعجز، العالم بأحوال عباده وما يُناسبهم وما يحتاجون إليه، وبالتالي فالحرية في الإسلام تمتاز بالثبات والاستقرار، فالذي يجوز من الحرية للإنسان قبل ألف وأربعمائة سنة يجوز له إلى قيام الساعة، فكل امرئٍ يعرف ما له وما عليه، والمساحة التي يمكن أن يتحرك بها كحق وهبه الله إياه! ... 1192
كما أنها تمتاز بالحق المطلق والعدالة المطلقة؛ لأنها صادرة عن الله عز وجل، وهذا بخلاف الحرية في الديمقراطية الصادرة عن الإنسان الذي يحتمل الوقوع في الظلم والخطأ، والقصور! ... 1192
الحرية في الديمقراطية، يكون الإنسان حراً في دائرة المباحات التي أذن له المشرعون من البشر أن يتحرك بها! ... 1192
بينما الحرية في الإسلام، يكون الإنسان حراً في دائرة المباحات والمسموحات التي أذن الله بها، وأذن لعبده استباحتها والتنعم بها، والتحرك فيها! ... 1192
الحرية في الديمقراطية، تحارب وتنكر الشر الذي يتفق عليه المشرعون من البشر بأنه شرٌّ، وهذا من لوازمه - بحكم جهلهم وقصورهم وعجزهم - أن يدخلوا كثيراً من الشر في دائرة الخير الجائز والمباح، كما من لوازمه أن يدخلوا كثيراً من الخير في دائرة الشر الممنوع والمحظور، عقلاً وشرعاً! ... 1193
كم من أمر يجيزونه تحت عنوان الحرية ثم بعد ذلك يظهر لهم خطؤهم وظلمهم فينقضونه ويمنعونه، وكذلك كم من أمر يحرمونه ويمنعونه ثم يظهر لهم نفعه، فيجيزونه ويُبيحونه، وهذا كله يقلل من قيمة الحرية التي يدعونها! ... 1193
بينما الحرية في الإسلام، تحارب وتنكر الشرَّ الذي حكم الله تعالى عليه بأنه شرٌّ، الذي ما بعده إلا الخير، وذلك لما ذكرناه آنفاً أن الله تعالى منزه عن الخطأ أو الزلل سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى لا يجيز إلا الخير والنافع، كما أنه لا يحرم إلا كل شرٍّ وقبيح! ... 1193
فالله تعالى جميل يحب الجمال، وبالتالي فهو لا يُشرِّع إلا الجميل والجمال، فحاشاه سبحانه وتعالى أن يشرع القبيح أو يأذن به! ... 1193
ومنه نعلم أن الحرية في الإسلام، تتحرك في جميع ميادينها مع الجميل والجمال، وتبتعد كل البعد عن الخبائث والقبائح! ... 1193
الحرية في الديمقراطية، تعبد العبيد للعبيد، فتجعل العبيد منقادين لعبيد ربما يكونون أقل منهم شأناً، يُشرعون ويُقننون لهم، يُحرمون ويُحلون لهم، وليس على الآخرين إلا الطاعة والاستسلام والانقياد، والخضوع! ... 1193
فأي حرية هذه، مع العبودية للمخلوق هذه؟! ... 1193(7/185)
بينما الحرية في الإسلام، فإنها تعمل على تحرير العباد - كل العباد - من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وحده سبحانه وتعالى! ... 1193
فإن قيل: هي في نهاية المطاف عبادة وعبودية، فأين الحرية؟! ... 1193
أقول: أجيب على هذا السؤال الساقط من أوجه: ... 1193
منها: أن الله تعالى هو الذي خلق الإنسان، وأنشأه ورباه، وهداه النجدين، وسخر له الكون كله، وبالتالي من حقه سبحانه وتعالى أن يُعبد، ومن الواجب على عباده أن يعبدوه ويُخلصوا في عبادته سبحانه وتعالى، وشكره، واتباع أوامره! ... 1193
فعبادة العبد لخالقه وحده، عز، وفخر، ورفعة، وشرف ما بعده شرف، بينما عبادته للمخلوق العاجز الضعيف، ظلم، وذل، وضياع، وعذاب ما بعده عذاب! ... 1194
ومنها: أن المرء فُطر على العبودية والتدين، فهو إن لم يكن عبداً لخالقه، فسيكون لا محالة عبداً للمخلوق وفي الباطل، أياً كانت صورة ونوعية هذا المخلوق! ... 1194
ومنها: أن إفراد الله تعالى وحده بالعبادة، هو عين التحرر من عبادة الآلهة الأخرى الوضيعة المكذوبة المزعومة! ... 1194
الحرية في الديمقراطية، تُخضع الإنسان لكثير من المؤثرات والضغوط الخارجية التي تفقده كثيراً من حرية الاختيار والتفكير: ضغط الإعلام بجميع فروعه وتخصصاته ووسائله، ضغط إثارة الشهوات ووسائل اللهو بجميع أصنافها وألوانها، وما أضخمها، ضغط الحاجة والسعي الدؤوب وراء الرزق والكسب، ضغط سحرة الساسة والأحبار والرهبان ومدى تزويرهم للحقائق، ضغط المخدرات والمسكرات المنتشرة في كل مكان، وأخيراً التلويح باستخدام عصا الإرهاب والتهديد الجسدي والمادي لمن يستعصي على جميع تلك الوسائل والضغوطات، ولا يستعصي عليها إلا من رحمه الله، وما أقلهم! ... 1194
فهذه الضغوط والمؤثرات تُسلب المرء صفة حرية الاختيار، والتفكير، واتخاذ المواقف التي يريدها ويرضاها بعيداً عن تلك المؤثرات الخارجية المصطنعة! ... 1194
هذه الضغوط والمؤثرات التي يصعب الفكاك منها، تُسلب المرء حريته، وإن زعم بلسانه أنه حرٌّ، وظهر للآخرين بأنه حر! ... 1194
لذلك نجد طغاة القوم ومستكبريهم، وأحبارهم ورهبانهم، لا يحتاجون إلى مزيد عناء عندما يريدون من شعوبهم أن تسير في اتجاه دون اتجاه، أو يريدون حملهم على استعداء جهة دون جهة، أو على اختيار شيء دون شيء، يكفي لتحقيق ذلك أن يُسلطوا عليهم قليلاً من تلك المؤثرات والضغوطات الآنفة الذكر، ولفترة وجيزة من الوقت! ... 1194
هذه الضغوط والمؤثرات التي تسلب المرء حريته، هي المعنية من قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ... 1194
ليس مكر الليل وحسب، أو مكر النهار وحسب، بل هو مكر الليل والنهار وعلى مدار الوقت، بحيث لا يُعطى المرء منهم لحظة واحدة يخلد فيها للراحة والهدوء والتفكير، حتى لا يهتدي إلى الحق، ويعرف أين هو من الصواب! ... 1195
بينما الحرية في الإسلام، تحرر المرء من جميع تلك المؤثرات الخارجية التي تقلل من حريته وحرية اختياره وقراره، وربما تسلبها كلها، لتعيد له جميع قواه النفسية والجسدية والمعنوية، وترفع عنه جميع الأغلال والقيود، ثم تقول له بعد ذلك: اختر الذي تريده، {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}. ... 1195
الحرية في الديمقراطية، تمر بصاحبها على الجيف المتآكلة، وعلى القبائح، وعلى الأمراض، وعلى الفساد، وعلى كل ما يُفسد الذوق الجميل، والطبائع السوية، فتجرئه على الشذوذ والاعتداء، والإدمان على ذلك! ... 1195
ومثله كمثل الذي يقود سيارة بلا كوابح، ولا ضوابط، ولا مراعاة لحقوق طريق أو مار، فيصطدم بالجميع، ويمر على الجميع، ويعتدي على الجميع! ... 1195
بينما الحرية في الإسلام، تمر بصاحبها على كل ما هو جميل أو طيب، كما أنها لا تسمح له أن يتعدى ذلك، ليمر على الخبائث والجيف والأمراض، لتحافظ على سلامة ذوقه، وتفكيره، وصحته، وإيمانه! ... 1195
ومثله كمثل الذي يقود سيارة بكوابح وضوابط، ينطلق حيث ينبغي الانطلاق، ويقف حيث ينبغي التوقف، ويُعطي كل ذي حقٍّ حقه، من غير إفراطٍ ولا تفريط! ... 1195
الحرية في الديمقراطية، تظهر وكأنها منحة يمن بها الإنسان على أخيه الإنسان، يعطيه منها ما يشاء ويسلبها منه متى يشاء! ... 1195
بينما الحرية في الإسلام، حق وهبه الله تعالى لعباده، وفطرهم عليه، لا منة فيه لمخلوق على مخلوق، لا يجوز أن يُسلب أو يُنتقص منه شيء إلا بإذن الله، وبسلطانٍ بينٍ منه سبحانه وتعالى، يتجسد هذا المعنى في مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض أمرائه: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً). ... 1195(7/186)
هذه هي الحرية في الديمقراطية، وهذه هي الحرية في الإسلام، فأي الفريقين أولى بالحرية، والسلامة، والحق؟! ... 1195
الحرية في الديمقراطية أم الحرية في الإسلام؟! ... 1195
{وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}. ... 1195
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ... 1196
عبد المنعم مصطفى حليمة؛ أبو بصير ... 1196
8/3/1423 هـ ... 1196
--------------------- ... 1196
170- ما موقف الإسلام من الفنون ؟ ... 1196
171-ما أسباب تفرق المسلمين رغم دعوة الإسلام للوحدة ؟ ... 1198
172- هل الإسلام مسئول عن تخلف المسلمين ؟ ... 1200
173- هل صحيح أن الصوم يقلل حركة الإنتاج ؟ ... 1201
174- هل صحيح أن الزكاة تتيح للغنى فرصة عند الله أفضل من فرصة الفقير ؟ ... 1202
175-لماذا حرّم الإسلام أكل لحم الخنزير ؟ ... 1204
176- لماذا حرّم الإسلام الحرير والذهب على الرجال ؟ ... 1205
الباب السابع -الاحتفال بالمولد النبوي ... 1207
1. ... منهج أهل السنة في تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - ... 1207
2. ... في ذكرى المولد النبوي ... 1218
3. ... هل أنت تحب النبي صلى الله عليه وسلم؟! ... 1231
4. ... هل احتفلوا؟! ... 1234
5. ... 12 وقفة.. مع المحتفلين بيوم 12 ربيع الأول ... 1237
6. ... المولد النبوي، ما وراءه؟! ... 1244
7. ... الاحتفال بالمولد النبوي ... 1254
8. ... شهر ربيع الأول ... 1273
9. ... المولد النبوي بين المشروعية والبدعية ... 1278
10. ... مجموعة فتاوى عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي وما يتصل به ... 1302
11. ... بمناسبة شهر ربيع: هذا بيان منزلة النبي.. وأهل الغلو فيه.. ... 1323
12. ... حول المولد النبوي ... 1328
13. ... دلائل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بين السنة والبدعة ... 1342
14. ... ظاهرة الاحتفال بالمولد النبوي وآثارها.. مصر أنموذجًا ... 1350
15. ... الأعياد والمناسبات..المعتبرة في الإسلام ... 1358
16. ... قوادح عقدية في بردة البوصيري ... 1365
17. ... رسالة "حكم الاحتفال بالمولد والرد على من أجازه" ... 1375
18. ... ملحق رسالة "حكم المولد والرد على من أجازه" ... 1392
19. ... حوار حول الاحتفال بالمولد النبوي.. الشيخ الألباني ... 1398
20. ... ميلاد نبي.. مولد أمة ... 1408
21. ... تعريف البدعة لغة وشرعًا ... 1411
22. ... ملحقات بموضوع المولد النبوي ... 1413
23. ... حوار مع شيخ الإسلام عن بدعية الاحتفال بالمولد النبوي ... 1426
24. ... المورد في حكم المولد للفاكهاني ... 1432
25. ... البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين ... 1434
26. ... أدبُ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ... 1484
27. ... مَوْلِدٌ جَدِيدٌ ... 1487
28. ... احتفاليات ربيع الأول!! ... 1495
29. ... "مولد الهادي".. احتفال إيماني ... 1500(7/187)
فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقبه وحقوقه(6)
الباب الثامن – شبهات وردود
(1) زواج الرسول صلى الله عليه وسلم
أ.د. بكر بن زكي عوض
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حدثني أحد الأصدقاء الثقات أنه دخل على إحدى غرف الدردشة الصوتية ووجد فيها مسلمين ونصارى يتناقشون عن الديانتين, ولاحظ أن أكثر موضوع كان يحرج المسلمين هو زواج الرسول – صلى الله عليه وسلم - من تسع نساء، وسؤالي هو: هل يمكن أن أجد لديكم شرحاً مفصلاً لهذه الزيجات وظروفها والحكمة منها؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب:
الحمد لله، وبعد:
أخي السائل: إن تعدد الزوجات معروف في الرسالات السابقة كما هو معروف في رسالة الإسلام وحياة الرسول –عليه الصلاة والسلام-.
وإذا كنت تناقش نصرانياً أو تريد أن تناقشه فإليك الآتي:
(1) إن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وغيرهم قد عددوا الزوجات ووصل الأمر بهم إلى الزواج من مئة مثل داود الذي لم يكتف بتسع وتسعين حتى تزوج تمام المئة بعد موت زوجها، وسليمان كانت له ثلاثمائة زوجة وأربعمائة جارية كما في العهد القديم مصدر التشريع الأول عند النصارى(ما جئت لأنقص بل لأكمل).
(2) كافة نصوص العهد القديم تأذن بالتعدد وتبيحه للأفراد رسلاً أو بشراً.
(3) لم يرد نص واحد يحرم التعدد في النصرانية وقد تأثر النصارى بالبلاد التي نشروا فيها النصرانية، ففي أفريقيا يأذنون بالتعدد ويبيحون الزواج للقساوسة، وفي أوروبا يحرمون التعدد ويحرمون الزواج على القساوسة ويبيحون الصداقة.
(4) النص الذي يستشهد به النصارى على تحريم التعدد هو(أما علمتم أن الخالق منذ البدء جعلهما ذكراً وأنثى وقال لهذا يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته فما جمعه الله لا يفرقه إنسان). فجعلوا من ضمير الإفراد في قوله: "امرأته" أن الرجل لا يتزوج إلا بامرأة واحدة. والنص قد فهم على غير وجهه، فالمسيح حين سئل "أيحل لأحدنا أن يطلق امرأته لأي علة كانت..." كانت إجابته كما سبق.
(5) أن الإجابة لا صلة لها بالتعدد بل بالنهي عن الطلاق لا التزوج.
(6) المسيحية تأذن بالتعدد بالتتابع ولكنها ترفضه بالجمع وينتهي التعدد عند الرابعة متتابعاً حتى لا يكون الإنسان غاوياً، وتسمح بالخلة والصديقة بدون حد ولا عد.
(7) كان العرب يجمعون بين أربعين امرأة في وقت واحد كدليل على الرجولة وطلب للولد.
(8) بالنسبة لتعدد زوجات الرسول –صلى الله عليه وسلم- فإنه يرجع إلى أسباب اجتماعية وتشريعية وسياسية يمكن بيانها –والله أعلم- على النحو التالي:
أولاً: الأسباب الاجتماعية:
(1) زواجه من خديجة – رضي الله عنها- وهذا أمر اجتماعي أن يتزوج البالغ العاقل الرشيد وكان – عليه الصلاة والسلام - في سن الخامسة والعشرين وظلت معه وحدها حتى توفيت وهو في سن الخمسين.
(2) تزوج بعدها بالسيدة سودة بنت زمعة وكانت أرملة لحاجة بناته الأربع إلى أم بديلة ترعاهن وتبصرهن بما تبصر به كل أم بناتها.
(3) حفصة بنت عمر بن الخطاب تزوجها بعد وفاة زوجها إكراماً لأبيها سـ3هـ.
(4) زينب بنت خزيمة استشهد زوجها في أحد فتزوجها سـ 4هـ.
(5) أم سلمة هند بنت أمية توفى زوجها ولها أولاد فتزوجها سـ4هـ.
ثانيا: الأسباب التشريعية:
(1) زواجه من عائشة – رضي الله عنها - فلقد كان بوحي، حيث رآها في المنام ورؤيا الأنبياء وحي.
(2) زينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة الذي كان يدعى زيد بن محمد بالتبني فنزل قول الله تعالى: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) [الأحزاب: 4] (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) [الأحزاب: 5] وبعد خلاف مع زوجها طلقت منه وأمر الرسول – صلى الله عليه وسلم - أن يتزوجها لإقامة الدليل العملي على بطلان التبني، وذلك سنة خمسة للهجرة.
ثالثاً: الأسباب السياسية:
- كان لبعض زيجات الرسول – صلى الله عليه وسلم - بعداً سياسياً من حيث ائتلاف القلوب والحد من العداوة وإطلاق الأسرى... إلخ، ومن هن:
(1) جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق من خزاعة وقعت في الأسر، تزوجها سنة 6 هـ.
(2) أما حبيبة رملة بنت أبي سفيان، تنصر زوجها وبقيت على إسلامها، وكان للزواج منها كبير الأثر في كسر حدة أبي سفيان في العداء للإسلام، حتى هداه الله.
(3) صفية بنت حيي بن أخطب كانت من سبي خيبر أعتقها الرسول وتزوجها سـ7هـ.
(4) ميمونة بنت الحارث تزوجها سـ 7هـ.
مات من هؤلاء اثنتان في حياة الرسول وهما خديجة وزينب بنت خزيمة وتوفى الرسول – صلى الله عليه وسلم - عن تسع.
وأما الجواري فهما مارية القبطية التي ولدت إبراهيم وتوفى صغيراً، وريحانة بنت زيد القرطية.
إذن التعدد بدأ في سن الثالثة والخمسين من عمره فهل هذا دليل الشهوة، ومن يشتهِ هل يتزوج الثيبات وأمهات الأولاد والأرامل، كيف وقد عرض عليه خيرة بنات قريش فأبى!(8/1)
إن التعدد كله لحكم منها – فضلاً عما سبق - بيان كل ما يقع في بيت النبوة من أحكام عملاً بقوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) [الأحزاب: 34], وإذا كان الحكم الشرعي لا يثبت بخبر الواحد غالباً فإن للتعدد أثره في إثبات الأحكام بالتواتر، كما أن زوجات الرسول – صلى الله عليه وسلم - اختلفت أحوالهن بين غنى وفقرٍ وحسب ونسب وبساطة لكل من يتزوج بأي صورة من هذه الصور قدوة في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم - مع زوجته التي تطابق حال زوجه وتعددهن فيه بيان لكل ما يمكن أن يقع من النساء داخل البيت كالغيرة والصبر والتآمر وطلب الدنيا؟ والتواضع ونشر العلم والرضى... إلخ.
إن بسط الكلام في هذا الأمر متعذر في هذه العجالة واقرأ زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم - لبنت الشاطئ. تعدد الزوجات لأحمد عبد الوهاب. الرحيق المختوم (الجزء الثاني) للمباركفوري.
---------------
(2) حول عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف القرآن من العصمة
أ.د محمود حمدي زقزوق
هناك من لا يعترفون بأن الرسول معصوم عن الخطأ ، ويقدمون الأدلة على ذلك بسورة [عبس وتولى] وكذلك عندما جامل الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته، ونزلت الآية الكريمة التي تنهاه عن ذلك (انتهى).
الرد على الشبهة:
إن عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك عصمة كل الرسل - عليهم السلام - يجب أن تفهم في نطاق مكانة الرسول.. ومهمة الرسالة.. فالرسول: بشر يُوحَى إليه.. أي أنه - مع بشريته - له خصوصية الاتصال بالسماء ، بواسطة الوحي.. ولذلك فإن هذه المهمة تقتضى صفات يصنعها الله على عينه فيمن يصطفيه ، كي تكون هناك مناسبة بين هذه الصفات وبين هذه المكانة والمهام الخاصة الموكولة إلى صاحبها.
والرسول مكلف بتبليغ الرسالة، والدعوة إليها، والجهاد في سبيل إقامتها وتطبيقها.. وله على الناس طاعة هي جزء من طاعة الله - سبحانه وتعالى-(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول), (قل أطيعوا الله والرسول), (من يطع الرسول فقد أطاع الله), (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، ولذلك كانت عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله ضرورة من ضرورات صدقهم والثقة في هذا البلاغ الإلهي الذي اختيروا ليقوموا به بين الناس.. وبداهة العقل - فضلاً عن النقل - تحكم بأن مُرْسِل الرسالة إذا لم يتخير الرسول الذي يضفى الصدق على رسالته ، كان عابثًا.. وهو ما يستحيل على الله، الذي يصطفى من الناس رسلاً تؤهلهم العصمة لإضفاء الثقة والصدق على البلاغ الإلهي.. والحُجة على الناس بصدق هذا الذي يبلغون.
وفى التعبير عن إجماع الأمة على ضرورة العصمة للرسول فيما يبلغ عن الله، يقول الشيخ محمد عبده عن عصمة الرسل - كل الرسل-: "... ومن لوازم ذلك بالضرورة: وجوب الاعتقاد بعلو فطرتهم، وصحة عقولهم، وصدقهم في أقوالهم، وأمانتهم في تبليغ ما عهد إليهم أن يبلغوه، وعصمتهم من كل ما يشوه السيرة البشرية، وسلامة أبدانهم مما تنبو عنه الأبصار وتنفر منه الأذواق السليمة، وأنهم منزهون عما يضاد شيئًا من هذه الصفات، وأن أرواحهم ممدودة من الجلال الإلهي بما لا يمكن معه لنفس إنسانية أن تسطو عليها سطوة روحانية.. إن من حكمة الصانع الحكيم - الذي أقام الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم - أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يُعدُّ لها، بمحض فضله، بعض مَنْ يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطرة السليمة، ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه ، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين، نهاية الشاهد وبداية الغائب ، فهم في الدنيا كأنهم ليسو من أهلها ، هم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها.. أما فيما عدا ذلك - [أي الاتصال بالسماء والتبليغ عنها] - فهم بشر يعتريهم ما يعترى سائر أفراده ، يأكلون ويشربون وينامون ويسهون وينسون فيما لا علاقة له بتبليغ الأحكام ، ويمرضون وتمتد إليهم أيدي الظلمة ، وينالهم الاضطهاد ، وقد يقتلون".
فالعصمة - كالمعجزة - ضرورة من ضرورات صدق الرسالة ، ومن مقتضيات حكمة من أرسل الرسل - عليهم السلام -..(8/2)
وإذا كان الرسول - كبشر - يجوز على جسده ما يجوز على أجساد البشر.. وإذا كان الرسول كمجتهد قد كان يمارس الاجتهاد والشورى وإعمال العقل والفكر والاختيار بين البدائل في مناطق وميادين الاجتهاد التي لم ينزل فيها وحى إلهي.. فإنه معصوم في مناطق وميادين التبليغ عن الله - سبحانه وتعالى - لأنه لو جاز عليه الخطأ أو السهو أو مجانبة الحق والصواب أو اختيار غير الأولى في مناطق وميادين التبليغ عن الله لتطرق الشك إلى صلب الرسالة والوحي والبلاغ ، بل وإلى حكمة من اصطفاه وأرسله ليكون حُجة على الناس.. كذلك كانت العصمة صفة أصيلة وشرطًا ضروريًا من شروط رسالة جميع الرسل - عليهم السلام -.. فالرسول في هذا النطاق - نطاق التبليغ عن الله - (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى). وبلاغة ما هو بقول بشر، ولذلك كانت طاعته فيه طاعة لله، وبغير العصمة لا يتأتى له هذا المقام.
أما اجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم فيما لا وحى فيه، والتي هي ثمرة لإعماله لعقله وقدراته وملكاته البشرية، فلقد كانت تصادف الصواب والأولى ، كما كان يجوز عليها غير ذلك.. ومن هنا رأينا كيف كان الصحابة، رضوان الله عليهم في كثير من المواطن وبإزاء كثير من مواقف وقرارات وآراء واجتهادات الرسول صلى الله عليه وسلم يسألونه - قبل الإدلاء بمساهماتهم في الرأي - هذا السؤال الذي شاع في السُّنة والسيرة:
"يا رسول الله، أهو الوحي؟ أم الرأي والمشورة؟.." فإن قال: إنه الوحي. كان منهم السمع والطاعة له ، لأن طاعته هنا هي طاعة لله.. وهم يسلمون الوجه لله حتى ولو خفيت الحكمة من هذا الأمر عن عقولهم، لأن علم الله - مصدر الوحي - مطلق وكلى ومحيط، بينما علمهم نسبى، قد تخفى عليه الحكمة التي لا يعلمها إلا الله.. أما إن قال لهم الرسول - جوابًا عن سؤالهم -: إنه الرأي والمشورة.. فإنهم يجتهدون ، ويشيرون ، ويصوبون.. لأنه صلى الله عليه وسلم هنا ليس معصومًا ، وإنما هو واحد من المقدمين في الشورى والاجتهاد.. ووقائع نزوله عن اجتهاده إلى اجتهادات الصحابة كثيرة ومتناثرة في كتب السنة ومصادر السيرة النبوية - في مكان القتال يوم غزوة بدر.. وفى الموقف من أسراها.. وفى مكان القتال يوم موقعة أُحد.. وفى مصالحة بعض الأحزاب يوم الخندق.. إلخ.. إلخ.
ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أراد الله له أن يكون القدوة والأسوة للأمة: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا).
وحتى لا يقتدي الناس باجتهاد نبوي لم يصادف الأولى، كان نزول الوحي لتصويب اجتهاداته التي لم تصادف الأولى، بل وعتابه - أحيانًا - على بعض هذه الاجتهادات والاختيارات من مثل: (عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى). ومن مثل: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثًا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير). ومن مثل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
وغيرها من مواطن التصويب الإلهي للاجتهادات النبوية فيما لم يسبق فيه وحى، وذلك حتى لا يتأسى الناس بهذه الاجتهادات المخالفة للأولى.
فالعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم ، فيما يبلغ عن الله شرط لازم لتحقيق الصدق والثقة في البلاغ الإلهي، وبدونها لا يكون هناك فارق بين الرسول وغيره من الحكماء والمصلحين، ومن ثم لا يكون هناك فارق بين الوحي المعصوم والمعجز وبين الفلسفات والإبداعات البشرية التي يجوز عليها الخطأ والصواب.. فبدون العصمة تصبح الرسالة والوحي والبلاغ قول بشر، بينما هي - بالعصمة - قول الله - سبحانه وتعالى - الذي بلغه وبينه المعصوم - عليه الصلاة والسلام -.. فعصمة المُبَلِّغ هي الشرط لعصمة البلاغ.. بل إنها - أيضًا - الشرط لنفى العبث وثبوت الحكمة لمن اصطفى الرسول وبعثه وأوحى إليه بهذا البلاغ
----------------------
(3) دعوى: خلو الكتب السابقة من البشارة برسول الإسلام
أ.د محمود حمدي زقزوق
زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس برسول. وبنوا هذا الزعم على أربع شعب هي:
1. إن العهد والنبوة والكتاب محصورة في نسل إسحق لا إسماعيل.؟!
2. إن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يأت بمعجزات.؟!
3. إن القرآن من نوادر الأعمال الإنسانية ، فليس هو معجزاً(1)؟!
4. إن الكتب السابقة - التوراة وملحقاتها والأناجيل - خلت من البشارة برسول الإسلام؟!
الرد على الشبة:(8/3)
ولكن قبل أن نواجهها مواجهة مباشرة أريد أن أقدم كلمة موجزة بين يدي هذه المواجهة ، رأيت أن تقديمها من أوجب الواجبات في هذا المجال.
وجود "البشارات" وعدمها سواء.. أجل: إن وجود البشارات وعدمها في الكتب المشار إليها آنفًا سواء، وجودها مثل عدمها، وعدمها مثل وجودها. فرسالة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ليست في حاجة إلى دليل يقام عليها من خارجها، بحيث إذا لم يوجد ذلك الدليل "الخارجي" بطلت - لا سمح الله - تلك الرسالة؛ فهي رسالة دليلها فيها، ووجود البشارات بها في كتب متقدمة - زمنا - عليها لا يضيف إليها جديداً، وعدم وجود تلك البشارات لا ينال منها شيئاً قط.
فهي حقيقة قائمة بذاتها لها سلطانها الغني عما سواها. ودليلها قائم خالد صالح للفحص في كل زمان ومكان، باق بقاء رسالته أبد الدهر أشرق ولم يغب، ظهر ولم يختف، قوى ولم يضعف. علا ولم يهبط، إنه دليل صدق الأنبياء كلهم. فكل الأنبياء مضوا ولم يبق من أدلة صدقهم إلا ما جاء في هذا الدليل "القرآن العظيم" حيث شهد لهم بالصدق والوفاء وأنهم رسل الله المكرمون..
فلا يظنن أحدُ أننا حين نتحدث عن بشارات الكتب السابقة برسول الإسلام إنما نتلمس أدلة نحن في حاجة إليها لإثبات صدق رسول الإسلام في دعواه الرسالة. فرسول الإسلام ليس في حاجة إلى "تلك البشارات" حتى ولو سلم لنا الخصوم بوجودها فله من أدلة الصدق ما لم يحظ به رسول غيره.
وستعالج البشارة به صلى الله عليه وسلم على قسمين:
1- بشاراته صلى الله عليه وسلم في التوراة.
2- بشاراته صلى الله عليه وسلم في الإنجيل.
أولاً: البشارات في التوراة تعددت البشارات برسول الإسلام في التوراة وملحقاتها، ولكن اليهود أزالوا عنها كل معنى صريح، وصيروها نصوصاً احتمالية تسمح لهم بصرفها عنه صلى الله عليه وسلم ومع هذا فقد بقيت بعد تعديلها وتحريفها قوية الدلالة على معناها "الأصلي" من حملها على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم لأن حملها على غيره متعذر أو متعسر أو محال.
فهي أشبه ما تكون برسالة مغلقة محي "عنوانها" ولكن صاحب الرسالة قادر - بعد فضها - أن يثبت اختصاصها به ، لأن الكلام " الداخلي " الذي فيها يقطع بأنها " له " دون سواه؛ لما فيها من "قرائن" وبينات واضحة ونعرض - فيما يلى - بعضاً منها:
"وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته".
فقال: "جاء الرب من سيناء ، وأشرق لهم من ساعير ، وتلألأ من جبل فاران"(2).
في هذا النص إشارة إلى ثلاث نبوات:
الأولى: نبوة موسى عليه السلام التي تلقاها على جبل سيناء.
الثانية: نبوة عيسى عليه السلام وساعير هي قرية مجاورة لبيت المقدس ، حيث تلقى عيسى عليه السلام أمر رسالته.
الثالثة: نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وجبل فاران هو المكان الذي تلقى فيه - عليه الصلاة والسلام - أول ما نزل عليه من الوحي وفاران هي مكة المكرمة مولد ومنشأ ومبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذه العبارة - مرة أخرى - تضمنت خبراً وبشارتين:
فالخبر هو تذكير موسى بفضل الله عليه حيث أرسله إليهم رسولاً.
والبشارتان:
الأولى: خاصة بعيسى عليه السلام.
والثانية: خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وموقف اليهود منهما النفي: فلا الأولى بشارة بعيسى ابن مريم ولا الثانية بشارة برسول الإسلام.
أما موقف النصارى فإن النفي - عندهم - خاص ببشارة رسول الإسلام. ولهم في ذلك مغالطات عجيبة ، حيث قالوا إن "فاران" هي "إيلات" وليست مكة. وأجمع على هذا "الباطل" واضعو كتاب: قاموس الكتاب المقدس. وهدفهم منه واضح إذ لو سَلَّمُوا بأن "فاران" هي مكة المكرمة ، للزمهم إما التصديق برسالة رسول الإسلام ، وهذا عندهم قطع الرقاب أسهل عليهم من الإذعان له!! أو يلزمهم مخالفة كتابهم المقدس ، ولم يقتصر ورود ذكر "فاران" على هذا الموضع من كتب العهد القديم ، فقد ورد في قصة إسماعيل عليه السلام مع أمه هاجر حيث تقول التوراة: إن إبراهيم عليه السلام استجاب لسارة بعد ولادة هاجر ابنها إسماعيل وطردها هي وابنها فنزلت وسكنت في "برية فاران"(3). على أنه يلزم من دعوى واضعي قاموس الكتاب المقدس من تفسيرهم فاران بإيلات أن الكذب باعترافهم وارد في التوراة. لأنه لم يبعث نبي من "إيلات" حتى تكون البشارة صادقة. ومستحيل أن يكون هو عيسى عليه السلام ؛ لأن العبارة تتحدث عن بدء الرسالات وعيسى تلقى الإنجيل بساعير وليس بإيلات.
فليست " فاران " إلا " مكة المكرمة " وباعتراف الكثير منهم ، وجبل فاران هو جبل " النور " الذي به غار حراء ، الذي تلقى فيه رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بدء الوحي.
وهجرة إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة المكرمة " فاران " أشهر من الشمس.
وترتيب الأحداث الثلاثة في العبارة المذكورة:
جاء من سيناء وأشرق من ساعير وتلألأ من فاران. هذا الترتيب الزمنى دليل ثالث على أن " تلألأ من جبل فاران " تبشير قطعى برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.(8/4)
وفي بعض " النسخ " كانت العبارة: "واستعلن من جبل فاران" بدل "تلألأ".
وأياً كان اللفظ فإن "تلألأ" و"استعلن" أقوى دلالة من "جاء" و"أشرق" وقوة الدلالة هنا ترجع إلى "المدلولات " الثلاثة. فالإشراق جزء من مفهوم "المجيء" وهكذا كانت رسالة عيسى بالنسبة لرسالة موسى (عليهما السلام).
أما تلألأ واستعلن فهذا هو واقع الإسلام ، رسولا ورسالة وأمة ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
هذه المغالطة (فاران هي إيلات) لها مثيل حيث تزعم التوراة أن هاجر أم إسماعيل عندما أجهدها العطش هي وابنها إسماعيل بعد أن طردا من وجه "سارة" طلبت الماء فلم تجده إلا بعد أن لقيا ملاك " الرب " في المكان المعروف الآن " ببئر سبع " ؟! وأنها سميت بذلك لذلك..؟! وكما كذبت فاران دعوى "إيلات" كذَّبت "زمزم الطهور" دعوى "بئر سبع"؟ وستظل فاران - مكة المكرمة - وزمزم الطهور "عملاقين" تتحطم على صخورهما كل مزاعم الحقد والهوى.
ويجيء نص آخر في التوراة لا محمل له إلا البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم مهما غالط المغالطون.
وهو قول الله لموسى حسب ما تروى التوراة:
"أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه"(4).
حدث هذا حسب روايات التوراة وعداً من الله لموسى في آخر عهده بالرسالة ، وكان يهمه أمر بني إسرائيل من بعده ، فأعلمه الله - حسب هذه الرواية التوراتية - أنه سيبعث فيهم رسولا مثل موسى عليه السلام.
ولقوة دلالة النص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد وقف أهل الكتابين - اليهود والنصارى - موقفين مختلفين هدفهما واحد ، وهو أن النص ليس بشارة برسول الإسلام.
أما اليهود فلهم فيه رأيان:
الأول: أن العبارة نفسها ليست خبراً بل هي نفي ، ويقدرون قبل الفعل "أقيم" همزة استفهام يكون الاستفهام معها "إنكارياً" وتقدير النص عندهم هكذا " أأقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك؟!
بطلان هذا الرأي وهذا الرأي باطل ولن نذهب في بيان بطلانه إلى أكثر من كلام التوراة نفسها. وذلك ؛ لأنه لو كان النص كما ذكروا بهمزة استفهام إنكاري محذوفة هي في قوة المذكور لكان الكلام نفياً فعلاً.. ولو كان الكلام نفياً لما صح أن يعطف عليه قوله بعد ذلك:
"ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه " ؟! فهذا المقطع إثبات قطعاً فهو مرتب على إقامة النبي الذي وعد به المقطع الذي قبله. فدل هذا " العطف " على أن المقطع السابق وعد خبرى ثابت لا نفي. ويترتب على ذلك بطلان القول الذاهب إلى تقدير الاستفهام..؟!
الثاني: وقد أحس اليهود ببطلان القول بالاستفهام فاحتاطوا للأمر وقالوا لا مانع أن يكون النص خبراً ووعداً مثبتاً ، ولكنه ليس المقصود به عيسى ابن مريم عليه السلام ولا محمد بن عبد الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، بل المراد به نبى من أنبياء إسرائيل يوشع بن نون فتى موسى، أو صموئيل..؟!
موقف النصارى:
أما النصارى فيحملون البشارة في النص على عيسى عليه السلام وينفون أن يكون المراد بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ، وقد علمنا قبلا أن اليهود ينفون أن تكون لعيسى عليه السلام.
وللنصارى مغالطات عجيبة في ذلك إذ يقولون إن النبي الموعود به ليس من بنى إسماعيل بل من بنى إسرائيل. ومحمد إسماعيلي فكيف يرسل الله إلى بنى إسرائيل رجلاً ليس منهم.؟! كما قالوا إن موسى أتى بمعجزات ومحمد لم يأت بمعجزات فكيف يكون مثله. وقد رددنا على هذه الفرية فيما تقدم.
الحق الذي لا جدال فيه:
والواقع أن كل ما ذهب إليه اليهود والنصارى باطل. باطل. ولن نذهب في بيان بطلانه إلى أبعد من دلالة النص المتنازع عليه نفسه. أما الحق الذي لا جدال فيه فإن هذا النص ليس له محمل مقبول إلا البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وإليكم البيان:
إن النص المتنازع عليه يقيد البشارة بالنبي الموعود به فيه بشرطين:
أحدهما: أنه من وسط إخوة بنى إسرائيل.
وثانيهما: أنه مثل موسى عليه السلام صاحب شريعة وجهاد لأعداء الله وهذان الشرطان لا وجود لهما لا في يوشع بن نون ، ولا في صموئيل كما يدعى اليهود في أحد قوليهم.
ولا في عيسى عليه السلام كما يدعى النصارى.
أما انتفاء الشرط الأول فلأن يوشع وصموئيل وعيسى من بنى إسرائيل وليسو من وسط إخوة بنى إسرائيل.
ولو كان المراد واحداً منهم لقال في الوعد: أقيم لهم نبياً منهم.. ؟! هذا هو منهج الوحي في مثل هذه الأمور كما قال في شأن النبي صلى الله عليه وسلم:
(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم...)(5). وكما جاء على لسان إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم...)(6).
وأما انتفاء الشرط الثاني ، فلأن: لا صموئيل ولا يوشع ولا عيسى ابن مريم كانوا مثل "موسى" عليه السلام.(8/5)
فموسى كان صاحب شريعة ، ويوشع وصموئيل وعيسى وجميع الرسل الذين جاءوا بعد موسى عليه السلام من بنى إسرائيل لم يكن واحداً منهم صاحب شريعة ، وإنما كانوا على شريعة موسى عليه السلام.
وحتى عيسى ما جاء بشريعة ولكن جاء متمماً ومعدلاً فشريعة موسى هي الأصل. إن عيسى كان مذكراً لبنى إسرائيل ومجدداً الدعوة إلى الله على هدى من شريعة موسى عليه السلام !! فالمثلية بين هؤلاء - وهي أحد شرطيْ البشارة - وبين موسى عليه السلام لا وجود لها؟!
الشرطان متحققان في رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وبنفس القوة والوضوح اللذين انتفي الشرطان بهما عمن ذكروا من الأنبياء ثبت ذلك الشرطان لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم:
فهو من نسل إسماعيل ، وإسماعيل أخو إسحق ، الذي هو أبو يعقوب المسمى إسرائيل. فهو من وسط إخوة بنى إسرائيل - بنو عمومتهم - وليس من إسرائيل نفسها. وبهذا تحقق الشرط الأول من شرطيْ البشارة:
ومحمد - عليه الصلاة والسلام - صاحب شريعة جليلة الشأن لها سلطانها الخاص بها - جمعت فأوعت - مثلما كان موسى - أكبر رسل بنى إسرائيل - صاحب شريعة مستقلة كانت لها منزلتها التي لم تضارع فيما قبل من بدء عهد الرسالات إلى مبعث عيسى عليه السلام.
وبهذا يتحقق الشرط الثاني من شرطى البشارة وهو " المثليه " بين موسى ومحمد (عليهما صلوات الله وسلامه) ، فعلى القارئ أن يتأمل ثم يحكم.
في المزامير المنسوبة إلى داود عليه السلام وردت كثير من العبارات التي لا يصح حمل معناها إلا على رسول الإسلام. ومن ذلك قول داود كما تروى التوراة:
" أنت أبرع جمالاً من بنى البشر. انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد. تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار ، جلالك وبهاؤك. وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة.. بتلك المسنونة في قلب أعداء الملك - يعنى الله - شعوب تحتك يسقطون.. من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك " (7).
اسمعي يانيت وأميلي أذنك ، وانسي شعبك وبيت أبيك ، فيشتهي الملك الملك حسنك ؛ لأنه هو سيدك فاسجدي له. وبنت صور أغنى الشعوب تترضى وجهك بهدية. كلها مجد ابنة الملك في خدرها. منسوجة بذهب ملابسها مطرزة ، تحضر إلى الملك في إثرها عذارى صاحباتها مقدمات إليك يحضرن بفرح وابتهاج يدخلن إلى قصر الملك. عوضاً عن آبائك يكون بنوك نقيمهم رؤساء في كل الأرض اذكر اسمك في كل دور فدور من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والآبد " وقفة مع هذا الكلام في المقطع الأول (أ) لا تنطبق الأوصاف التي ذكرها داود إلا على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فهو الذي قاتل بسيفه في سبيل الله وسقطت أمامه شعوب عظيمة كالفرس والروم.
وهو الممسوح بالبركة أكثر من رفقائه الأنبياء ؛ لأنه خاتم النبيين ، ورسالته عامة خالدة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )(8).
ولم يترك رسول هدى وبيانا مثلما ترك رسول الإسلام في القرآن الحكيم ، وفي أحاديثه وتوجيهاته ، التي بلغت مئات الآلاف ، وتعددت المصادر التي سجلتها ، وفيها من روائع البيان ، وصفاء الألفاظ ، وشرف المعاني ما ليس في غيرها.
أما المقطع الثاني (ب) فهو أوصاف للكعبة الشريفة. فهي التي تترضاها الأمم بالهدايا. وهي ذات الملابس المنسوجة بالذهب والمطرزة ، وهي التي يذكر اسمها في كل دور فدور وتأتيها قوافل" الحجيج " رجالاً ونساءً من كل مكان فيدخل الجميع في " قصر الملك " ويحمدها الناس إلى الأبد؛ لأن الرسالة المرتبطة بها رسالة عامة: لكل شعوب الأرض الإنس والجن. بل والملائكة. وفي مواسم الحج يأتيها القاصدون من جميع بقاع الأرض مسلمين، ورعايا مسلمين من بلاد ليست مسلمة. خالدة: لم ينته العمل بها بوفاة رسولها، كما هو الحال فيما تقدم. وإنما هي دين الله إلى الأبد الأبيد.
وأشعيا وسفره من أطول أسفار العهد القديم ملئ بالإشارات الواضحة التي تبشر برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، ولولا المنهج الذي أخذنا به هنا وهو عدم التطويل لذكرنا من ذلك الكثير؛ ولذا فإننا نكتفي بهذا المقطع لدلالته القوية على ما نقول:
" قومي استنيري؛ لأنه قد جاء نورك ، ومجد الرب أشرق عليك.. لأنه ها هي الظلمة تغطى الأرض والظلام الدامس الأمم. أما عليك فيشرق الرب ، ومجده عليك يرى. فتسير الأمم في نورك ، والملوك في ضياء إشراقك.
ارفعي عينيك حوالي وانظري. قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك. يأتي بنوك من بعيد، وتحمل بناتك على الأيدي ، حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبك ويتسع ؛ لأنه تحول إليك ثروة البحر ، ويأتي إليك غنى الأمم تغطيك كثرة الجمال بكران مديان ، وعيفة كلها تأتي من شبا. تحمل ذهبًا ولبانًا ، وتبشر بتسابيح الرب. كل غنم قيدار تجتمع إليك. كباش نبايوت تخدمك تصعد مقبولة على مذبحي، وأزين بيت جمالي.
من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها. إن الجزائر تنتظرني وسفن ترشيش في الأول لتأتى من بعيد ، وفضتهم وذهبهم معهم لا سم الرب إلهك…(9).(8/6)
وبنو الغريب يبنون أسوارك، وملوكهم يخدمونك.. وتفتح أبوابك دائما نهاراً وليلاً لا تغلق ، ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملوكهم...(10).
دلالة هذه النصوص:
بلا أدنى ريب فإن هذا الكلام المنسوب إلى أشعيا وصف لمكة المكرمة وكعبتها الشامخة.
فالمقطع الأول إنما هو حديث عن موسم الحج المبارك فيه يجتمع بنوها حولها من كل مكان وفيه لمحة قوية جداًُ إلى نحر الهدى صبيحة العيد. ألم يشر النص إلى غنم قيدار، وقيدار هوولد إسماعيل عليه السلام الذي تشعبت منه قبائل العرب. ثم ألم ينص على المذبح الذي تنحر عليه الذبائح؟ كما أشار النص ثلاث إشارات تعد من أوضح الأدلة على أن المراد بهذا النص مكة المكرمة. وتلك الإشارات هي طرق حضور الحجاج إليها. ففي القديم كانت وسائل النقل: ركوب الجمال. ثم السفن. أما في العصر الحديث فقد جدت وسيلة النقل الجوى "الطائرات" وبشارة أشعيا تضمنت هذه الوسائل الثلاث على النحو الآتي:
1- الجمال ، قال فيها: تغطيك كثرة الجمال!!
2- السفن ، قال فيها: وسفن ترشيش تأتي ببنيك من بعيد!
3- النقل الجوى، وفيه يقول: من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها؟!!
أليس هذا أوضح من الشمس في كبد السماء.
على أن النص ملئ بعد ذلك بالدقائق والأسرار ، ومنها أن مكة مفتوحة الأبواب ليلاً ونهاراً لكل قادم في حج أو عمرة!!
ومنها أن خيرات الأمم تجبى إليها من كل مكان ، والقرآن يقرر هذا المعنى في قول الله تعالى: (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء)(11).
ومنها أن بنى الغريب (يعنى غير العرب) يبنون أسوارها. وكم من الأيدي العاملة الآن، وذوي الخبرات يعملون فيها ويشيدون قلاعها فوق الأرض وتحت الأرض ومنها أنه ما من عاصمة من عواصم العالم إلا دخلت في محنة من أهلها أو من غير أهلها إلا هذه "العاصمة المقدسة", فظلت بمأمن من غارات الغائرين وكيد الكائدين، ومثلها المدينة المنورة.
ومنها كثرة الثروات التي مَنَّ الله بها عليها. أليس البترول من ثروات البحر العظمى التي تفجرت أرض الحجاز وشبه الجزيرة منه عيوناً دفاقة بمعدل لم تصل إليه أمة من الأمم. أضف إلى ذلك سبائك الذهب والفضة.
والحديث عن مكة المكرمة حديث عن رسول الإسلام ؛ لأن مجدها لم يأت إلا على يدي بعثته صلى الله عليه وسلم.
هذه الحقائق لا تقبل الجدل. ومع هذا فإن أهل الكتاب (وخاصة اليهود) يحملون هذه الأوصاف على مدينة "صهيون" ولهذا فإنهم عمدوا إلى النص وعدلوه ليصلح لهذا الزعم. ولكننا نضع الأمر بين يدي المنصفين من كل ملة. أهذه الأوصاف يمكن أن تطلق على مدينة "صهيون".
لقد خرب " بيت الرب " في القدس مراراً وتعرض لأعمال شنيعة على كل العصور. أما الكعبة الشريفة والمسجد الحرام فلم يصل أحد إليهما بسوء ، ثم أين ثروات البحر والبر التي تجبى إلى تلك المدينة وأهلها (إلى الآن) يعيشون عالة على صدقات الأمم.
وأين هي المواكب التي تأتى إليها براً وبحراً وجَوّاً ، وهل أبوابها مفتوحة ليلاً ونهاراً ، وأين هم بنوها الذين اجتمعوا حولها.
وما صلة غنم قيدار وكباش مدين بها. وأين هو التسبيح الذي يشق عنان السماء منها.. وأين.. وأين..؟ إن هذه المغالطات لا تثبت أمام قوة الحق ، ونحن يكفينا أن نقيم هذه الأدلة من كتبهم على صدق الدعوى ، ولا يهمنا أن يذعن القوم لما نقول فحسبك من خصمك أن تثبت باطل ما يدعيه أمام الحق الذي تدافع عنه.
والفاصل بيننا ـ في النهاية ـ هو الله الذي لا يُبدل القول لديه.
وتنسب التوراة إلى نبي يدعى "حبقوق" من أنبياء العهد القديم ، وله سفر صغير قوامه ثلاثة إصحاحات.
تنسب إليه التوراة نصوصاً كان يصلي بها. تضمنها الإصحاح الثالث من سفره. وهذا الإصحاح يكاد يكون كله بشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. وإليكم مقاطع منه: "الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران ـ سلاه ـ جلاله غطى السماوات. والأرض امتلأت من تسبيحه وكان لمعان كالنور له من يديه شعاع ، وهناك استتار قدرته. قدامه ذهب الوبأ. وعند رجليه خرجت الحمى. وقف وقاس الأرض، نظر فرجف الأمم ودكت الجبال الدهرية، وخسفت آكام القوم.
مسالك الأزل يسخط دست الأمم ، خرجت لخلاص شعبك... سحقت رأس بيت الشرير معرياً الأساس حتى العنق... سلكت البحر بخيلك..(12).
دلالات هذه الإشارات:
لا يستطيع عاقل عالم بتاريخ الرسالات ومعاني التراكيب أن يصرف هذه النصوص على غير البشارة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. فالجهتان المذكورتان في مطلع هذا المقطع وهما: تيمان: يعنى اليمن، وجبل فاران: يعنى جبل النور الذي بمكة المكرمة التي هي فاران. هاتان الجهتان عربيتان. وهما رمز لشبه الجزيرة العربية التي كانت مسرحاً أولياً لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.(8/7)
فليس المراد إذن نبياً من بنى إسرائيل؛ لأنه معلوم أن رسل بنى إسرائيل كانت تأتى من جهة الشام شمالاً. لا من جهة بلاد العرب. وهذه البشارة أتت مؤكدة للبشارة المماثلة ، التي تقدم ذكرها من سفر التثنية ، وقد ذكرت أن الله: تلألأ أو استعلن من جبل فاران.
بيد أن بشارة التثنية شملت الإخبار بمقدم موسى عليه السلام والتبشير بعيسى عليه السلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم أما بشارة حبقوق فهي خاصة برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. ولو لم يكن في كلام حبقوق إلا هذا "التحديد" لكان ذلك كافياً في اختصاص بشارته برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم, ومع هذا فقد اشتمل كلام حبقوق على دلائل أخرى ذات مغزى:
• منها: الإشارة إلى كثرة التسبيح حتى امتلأت منه الأرض.. ؟!
• ومنها: دكه صلى الله عليه وسلم لعروش الظلم والطغيان وقهر الممالك الجائرة.
• ومنها: أن خيل جيوشه ركبت البحر ، وهذا لم يحدث إلا في ظل رسالة الإسلام.
على أن كلام حبقوق ملئ بالرمز والإشارات مما يفيدنا في هذا المجال ولكننا نتجاوزه لأمرين:
أحدهما: أن في الإشارات الصريحة غناء عنها.
وثانيهما: عدم التطويل ـ هنا ـ كما اتفقنا.
بشاراته صلى الله عليه وسلم في العهد الجديد أسفار العهد الجديد (الأناجيل والرسائل) حافلة بالنصوص التي يتعين أن تكون "بشارات" برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
تلك البشارات تعلن أحياناً في صورة الوعد بملكوت الله أو ملكوت السماوات. وأحيانا أخرى بالروح القدس. ومرات باسم المعزى أو الفارقليط ، وهي كلمة يونانية سيأتي فيما بعد معناها ، تلك هي صورة البشارات في الأناجيل في صيغها المعروفة الآن.
ففي إنجيل متى وردت هذه العبارة مسندة إلى يحيى عليه السلام المسمى في الأناجيل: يوحنا المعمدان. وفيها يقول: "توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات"(13).
فمن هو ملكوت السماوات الذي بشر به يحيى؟! هل هو عيسى عليه السلام ـ كما يقول النصارى؟!
هذا احتمال.. ولكن متَّى نفسه يدفعه حيث روى عن عيسى عليه السلام نفس العبارة: "توبوا ؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات"(14).
فلو كان المراد بملكوت السماوات ـ هذه ـ عيسى عليه السلام لما وردت هذه "البشارة" على لسان عيسى؛ إذ كيف يبشر بنفسه ، وهو قائم موجود ، والبشارة لا تكون إلا بشئ محبوب سيأتي، كما أن الإنذار ـ قسيمه ـ لا يكون إلا بشيء "مكروه" قد يقع.
فكلاهما: التبشير والإنذار ـ أمران مستقبلان.
إن ورود هذه العبارة عن عيسى نفسه تخصيص لذلك العموم المستفاد من عبارة يحيى عليهما السلام.
فدل ذلك على أن المراد بملكوت السماوات رسول آخر غير عيسى. ولم يأت بعد عيسى ـ باعتراف الجميع ـ رسول غير رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فدل ذلك على أنه هو المراد بملكوت السماوات في عبارة عيسى عليه السلام ـ قولاً واحداً ـ وباحتمال أرجح في عبارة يحيى؛ إذ لا مانع عندنا ـ أن يكون يحيى عليه السلام قد بشر بها بعيسى عليه السلام.
أما بشارة عيسى فلا موضع لها إلا الحمل ـ القطعي ـ على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
وفي صيغة الصلاة التي علمها المسيح لتلاميذه ـ كما يروي مَتَّى نفسه ـ بشارة أخرى بنبي الإسلام. وهذا هو نص مَتَّى في هذا "فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك"(15).
ووردت هذه الصيغة في إنجيل لوقا هكذا: "متى صليتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك.."(16).
ويذكر لوقا أن المسيح جمع تلاميذه، وعلمهم كيف يقهرون الشياطين، ويشفون الأمراض ثم قال: "وأرسلهم ليكرزوا ـ أي يبشروا ـ بملكوت الله"(17).
أما مرقس فيسند هذه البشارة إلى المسيح نفسه إذ يقول: "جاء يسوع إلى الجبل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله " (18).
فهؤلاء ثلاثة من التلامذة يتفقون على أن يحيى وعيسى (عليهما السلام) قد بشرا بملكوت الله الذي اقترب.
فمن المراد بملكوت الله إذا لم يكن هو رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم؟! وأكاد أجزم بأن عبارة "المسيح ، قد كمل الزمان" لا تعني سوى انتهاء عصر الرسالات الموقوتة وإقبال الرسالة الخالدة!!
أما يوحنا صاحب رابع الأناجيل. فإنه يذكر هذه البشارات في مواضع متعددة من إنجيله. ومن ذلك ما يرويه عن المسيح عليه السلام " الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للأب الذي أرسلني. بهذا كلمتكم وأنا عندكم. وأما المعزى (اسم فاعل من الفعل المضعف العين عزى)(19) الروح القدس، الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بما قلته لكم"(20).
كما يروي يوحنا قول المسيح ـ الآتي ـ مع تلاميذه: "إنه خير لكم أن انطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية، وعلى بر وعلى دينونة"(21).(8/8)
ويروي كذلك قول المسيح لتلاميذه: "وأما إذا جاء ذاك روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه. بل كل ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور آتية ".. ؟!(22).
فمن هو المعزى أو روح القدس أو روح الحق الذي بشر به المسيح عليه السلام حسبما يروى يوحنا؟!
إن المسيح يقول: إن ذلك المُعَرِّى أو الروح القدس لا يأتي إلا بعد ذهاب المسيح، والمسيح ـ نفسه ـ يُقِرُّ بأن ذلك المُعَرِّى أو الروح أَجَلُّ منه شأنا، وأعم نفعاً وأبقى أثراً، ولذلك قال لتلاميذه: خير لكم أن أنطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَرِّى.
وكلمة "خير" أفعل تفضيل بمعنى أكثر خيراً لكم ذهابي ليأتيكم المعزى ولو كان "المُعَزَّى" مساويًا للمسيح في الدرجة لكانا مستويين في الخيرية ولما ساغ للمسيح أن يقول خير لكم أن أنطلق.
ومن باب أولى لو كان "المعزَّى" أقل فضلاً من المسيح. فعبارة المسيح دليل قاطع على أنه بشر بمن هو أفضل منه ، لا مساوٍ له ولا أقل.
ثم يصف المسيح ذلك المُعَرَّى أو الروح بأوصاف ليست موجودة في المسيح نفسه عليه السلام.
ومن تلك الأوصاف:
أ ـ إنه يعلم الناس كل شيء. وهذا معناه شمول رسالته لكل مقومات الإصلاح في الدنيا والدين. وذلك هو الإسلام.
ب ـ إنه يبكت العالم على خطية. والشاهد هنا كلمة " العالم " وهذا معناه شمول الإسلام لكل أجناس البشر ، عربا وعجماً ، في كل زمان ومكان. ولم توصف شريعة بهذين الوصفين إلا الإسلام.
جـ ـ إنه يخبر بأمور آتية ، ويذكر بما مضى. وقد تحقق هذا في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
فأخبر بأمور آتية لم يخبر بها من سبقه أو أخبروا ولكن ليس على وجه التفصيل والتأكيد الذي كان على يديه صلى الله عليه وسلم فكم في القرآن من أمور أخبر بها قبل أن تقع فوقعت كما أخبر ، وكم فيه من الإخبار بما سيكون في الحياة الآخرة من أوصاف الجنة ، والنار ، والبعث ، وعلامات الساعة ، وتخاصم أهل النار ، وحوار أصحاب الجنة مع " رجال الأعراف " ، وندم من باعوا دينهم بدنياهم... إلخ.
وذكر بما مضى من أحوال الأمم ، وقيام الحضارات ثم سقوطها وأحوال المرسلين وما بلغوا به أقوامهم والشهادة لهم بالصدق والأمانة والإخلاص والوفاء ، ومسلك بعض الأقوام من رسلهم والصراع الذي دار بين المحقين وأهل الباطل ، وعاقبة بعض المكذبين... إلخ.
ثم استوعبت رسالته الحياة كلها فأرست قواعد الاعتقاد الصحيح وسنت طرق العبادة المثمرة ، ووضعت أصول التشريع في كل ما هو متعلق بالحياة عاجلها وآجلها ، ووضحت العلاقة السليمة بين المخلوق والخالق ، وبين الناس بعضهم بعضاً. وحررت العقول ، وطهرت القلوب ورسمت طريق الهدى لكل نفس ولكل جماعة ولكل أمة. أي أنها أرشدت إلى كل شيء. وعلمت كل شيء مما يحتاج تعلمه إلى وحي وتوقيف..!
ذلك هو الإسلام ، ولا شيء غير الإسلام.
وشهدت ـ فيما شهدت ـ للمسيح عليه السلام بأنه رسول كريم أمين أدى رسالته وبشر وأنذر بنى إسرائيل, وأنه عبده ورسوله (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون)(23).
وشهادة رسول الإسلام لعيسى عليه السلام منصوص عليها في بشارات عيسى نفسه به (صلى الله عليه وسلم). فاسمع إلى يوحنا وهو يروى عن المسيح عليه السلام قوله الآتي: "ومتى جاء المعزَّى الذي سأرسله " أنا " إليكم من الأب روح الحق من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي.. وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء"(24).
روح القدس هذا، أو المعزَّى ، أو روح الحق لا يمكن أن يكون عيسى ؛ لأن عيسى لم يبشر بنفسه ، وهو كان موجوداً ساعة قال هذا ولا يمكن أن يكون المراد به نبياً بعد عيسى غير محمد (صلى الله عليه وسلم) لأننا متفقون على أن عيسى لم يأت بعده نبي قبل رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
فتعين أن يكون روح القدس ، أو المعزَّى ، أو روح الحق تبشيرا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذ فيه تجتمع تلك الأوصاف ، كما يتحقق فيه معنى "الأفضلية" إذ هو خاتم النبيين، الذي جاء بشريعة خالدة عامة، وعلى هذا حملنا قبلا قول عيسى: خير لكم أن أنطلق. إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزِّى " وهذا إقرار من عيسى بأن المبشر به أفضل من المُبَشِّر وكفي بذلك شواهد.
أما البشارة باسم "الفارقليط" فقد خلت منها الترجمات العربية المعاصرة للكتاب المقدس.
ومعلوم أن الكتاب المقدس خضع للترجمات وطبعات متعددة ؛ لدرجة أن الترجمات العربية لتختلف من نسخة إلى أخرى اختلافا بيناً.
وتحت يدي ـ الآن ـ نسختان من الطبعات العربية كلتاهما خاليتان من كلمة الفارقليط، وموضوع مكانها كلمة المعزى.
بيد أنني وجدت أن ابن القيم ، وابن تيمية ، كل منهما قد نقل عن نسخ خطية كانت معاصرة لهما نصوصاً فيها التصريح باسم "الفارقليط" كما أن الشيخ رحمت الله الهندي (رحمه الله) نقل في كتابه "إظهار الحق" نصوصاً "عن ترجمات عربية ترجع إلى أعوام: 1821 ـ 1831 ـ 1844م وتمت في لندن معنى "الفارقليط": كلمة يونانية معناها واحد مما يأتي:(8/9)
الحامد ـ الحماد ـ المحمود ـ الأحمد. أو معناها كل ما تقدم. فمعنى "فارقليط" يدور حول الحمد وجميع مشتقاته المشار إليها.
وكل واحد منها يصح إطلاقه على رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم فهو الحامد والحمّاد والمحمود والأحمد ، والمحمد.
وفي الطبعات ـ اللندنية ـ المتقدم ذكرها ورد النص هكذا: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الآب فيعطيكم فارقليط آخر، ليثبت معكم إلى الأبد".
"الفارقليط" روح القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم"(25).
ومقارنة هذين النصين بالنص المقابل لهما الذي نقلناه آنفا عن إنجيل يوحنا من الطبعات العربية الحديثة تريك أن الطبعات الحديثة حذفت كلمة " الفارقليط " ووضعت مكانها كلمة " المعزى " كما تريك أن الطبعات الحديثة حذفت جملة: " ليثبت معكم إلى الأبد " وهو نص على خلود الإسلام على أنهم عادوا واعترفوا بأن كلمة " المعزى " التي في الطبعات الحديثة للكتاب المقدس أصلها مترجم عن كلمة يونانية لفظاً ومعنى وهي " باراكليتس " ومعناها المعزى ، وليست " فارقليط " أو " بارقليط " التي معناها الحماد والحامد... والتي يتمسك بها المسلمون!
وهذه المحاولات مردودة لسببين:
أولهما: ليس نحن ـ المسلمين ـ الذين قاموا بعمل بالطبعات القديمة التي فيها " الفارقليط " وإنما طبعها النصارى قديماً. فعملهم حجة على الطبعات الحديثة, وهم غير متهمين في عملهم هذا.
وثانيهما: ولو كانت الكلمة "هي: الباراكليتس" فلماذا خلت منها الطبعات القديمة والنسخ المخطوطة؟!
بل ولماذا خلت منها الطبعات الحديثة؟!
وأيًا كان المدار: فارقليط ، أو باراكليتس ، أو المعزى ، أو الروح القدس فنحن لا نعول على الكلمة نفسها بقدر ما نعول على الأوصاف التي أجريت عليها. مثل يعلمكم كل شيء ـ يمكث معكم إلى الأبد.
فهذه الأوصاف هي لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ومهما اجتهدتم في صرفها عنه فلن تنصرف.
ولهم " شبهة " أخرى يحلو لهم تردادها وهي: محمد صلى الله عليه وسلم عربي الجنس واللسان ، فكيف يرسله الله إلى أمم وأجناس غير عربية.. وكيف يكلف الله الناس برسالة لا يعرفون لغتها ولا عهد لهم بالتحدث معها. وكيف يستطيعون أن يفهموا القرآن ، وتوجيهات رسول الإسلام ، وهما باللغة العربية؟!
رد الشبهة:
نرد عليها من طريقين:
الأول: وهو مستمد من واقع القوم أنفسهم. فهم يدعون تبعاً لما قال "بولس" أن عيسى عليه السلام مرسل لخلاص العالم كله. وأنه أمر حوارييه أن يكرزوا كل العالم برسالة الخلاص ، وفي أيامنا هذه كثرت المنشورات التي تقول: المسيح مخلص العالم. وهنا نسأل القوم سؤالاً: أية لغة كانت لغة المسيح عليه السلام وحوارييه ؟! هل هي العبرانية أم اليونانية؟! وأيا كان الجواب فإن المسيح كان يتكلم لغة واحدة. وأوحى إليه الإنجيل بلغة واحدة.. فعلى أي أساس إذن قلتم: إنه منقذ لكل العالم؟! هل كل العالم كان وما يزال يعرف لغة المسيح ؟! أم أن العالم أيام المسيح كان يتكلم بعدة لغات.. والآن يتكلم بمئات اللغات؟!
فإن كنتم قد ادعيتم أن المسيح هو منقذ كل العالم مع تسليمكم بأنه كان يتكلم بلغة واحدة فلماذا تنكرون على رسول الإسلام أن يكون مرسلاً لكل العالم.؟! وما الفرق بين رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم والمسيح عليه السلام حتى تحظروا عليه ما استبحتموه للمسيح؟! أهذا عدل.. أهذا إنصاف!!
وإن تنازلتم عن عالمية المسيح فأنتم مدينون!!
الثاني: وهو مستمد من طبيعة الإسلام. ومن تاريخه الطويل الحافل بكل عجيب.
نعم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم عربي اللسان ، والجنس ، والقرآن العظيم الذي جاء به عربي اللسان، عالمي التوجيه والتشريع والسلطان. ووحدة اللغة في الإسلام مثل وحدة العقيدة فيه. ولم يحل دون انتشار الإسلام بين الأمم والشعوب غير العربية أن لغة رسالته عربية ورسوله عربي ورواده الأوائل عرب. هذه الاعتبارات لم تحل دون نشر الإسلام لجميع شعوب الأرض باختلاف لغاتها وعقائدها وأجناسها.
وكان سلوك الدعوة إلى الإسلام حكيمًا، وهذه أبرز ملامحه:
أولاً: إن صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم أرسل رسله يحملون رسائله وكتبه إلى كل رؤساء القبائل وملوك الأمم والشعوب ، وقد بدأت هذه الطريقة بعد وقوع صلح الحديبية ، وكل حامل رسالة أو كتاب إلى رئيس أو ملك كان على علم بلغة من هم المبعوث إليهم.
فقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل دحية بن خليفة الكلبي.
وأرسل إلى المقوقس عظيم القبط بمصر حاطب بن أبى بلتعة. وأرسل إلى كسرى عبد الله بن حذافة السهمي.
وأرسل إلى الحارث بن أبى شمر الغساني شجاع بن ذهب الأسدى. وكان هؤلاء الرسل عالمين بلغات من أرسلوا إليهم.
كما كان صلى الله عليه وسلم يحتفظ بمترجمين يترجمون له ما يرد من رسائل لغتها غير العربية.(8/10)
ثانياً: إن الملوك والرؤساء كان لديهم مترجمون ـ كذلك ـ يترجمون لهم ما يرد من رسول الإسلام أو يقومون بالترجمة من العربية إلى غيرها ، ومن غير العربية إلى العربية في حالة ما إذا كان " المرسل " وفداً يحمل رسائل شفوية للتبليغ.
ثالثاً: إن اليهود وكثيراً من النصارى كانوا يعرفون اللسان العربي ، ومن النصارى من هم عرب خلص كنصارى نجران ، كما أن العجم من الفرس والروم كان من بينهم عرب يعايشونهم ويقيمون بينهم.
رابعاً: كان صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم يحض أصحابه على تعلم لغات الأمم ومما يروى عنه ـ عليه الصلاة السلام ـ قوله: من تعلم لغة قوم أمن غوائلهم.
خامساً: لما اجتازت الدعوة مرحلة الدعوة بالرسالة والكتاب والوفد ، والبعث ، ودخلت في مرحلة الفتح كان الجنود المسلمون ينشرون اللغة العربية كما ينشرون الإسلام نفسه. وما من أرض حل بها الإسلام إلا وقد حلت بها اللغة العربية تعضده ، وتؤازره في انسجام عجيب ، فقضت اللغة العربية على لغات الأمم والشعوب وحلت هي محلها. قضت على القبطية في مصر وعلى الفارسية في الشام وعلى البربرية في شمال غرب أفريقيا كما قضت على السريانية وغيرها من اللغات ، وأصبحت هي لغة الحياة والإدارة والكتابة والنشر والتأليف.
سادساً: قام العرب المسلمون بترجمة ما دعت إليه المصلحة من تراث الأمم المفتوحة ، ففتحوا نوافذ الفكر ، والثقافة ، والمعرفة لمن لا يعرف غير العربية من العرب المسلمين. كما ترجموا من الفكر الإسلامي ما يصلح ضرورة لغير العرب من المسلمين فنقلوه من العربية إلى غير العربية وفاءً بحق الدعوة والتبليغ.
سابعاً: أقبل غير العرب من الذين دخلوا الإسلام على تعلم العربية وتركوا لغاتهم الأصلية وأصبحوا عربي اللسان واللغة. ومن هؤلاء أعلام لا يحصون كان لهم فضل عظيم في إنماء الفكر الإسلامي منهم اللغويون ، والنحويون ، والبيانيون ، والفقهاء ، والأصوليون ، والمفسرون ، والمحدثون ، والمتكلمون ، والفلاسفة ، والمناطقة ، والرياضيون ، والأطباء ، والفلكيون ، بل والشعراء والأدباء والرحالة والجغرافيون ، وغيرهم ، وغيرهم.
إن كل مجال من مجالات النشاط العلمي في الإسلام نبغ فيه كثير من غير العرب بعد تعلمهم اللغة العربية التي كانوا فيها مثل أنجب وأحذق وأمهر أبنائها. ولو رحنا نحصى هؤلاء لضاق بنا السهل والوعر ، فلتكن الإشارة إليهم نائباً عن ذلك التفصيل غير المستطاع.
إن وحدة اللغة في الإسلام لم تحل دون نشر الإسلام ، فلم يمض طويل من الزمن حتى بلغت الدعوة مشارق الأرض ومغاربها.
وصلت إلى الهند والصين في أقصى الشرق ، وإلى شواطئ المحيط الأطلسي في أقصى الغرب وإلى بلاد النوبة جنوباً وإلى جبال البرانس جنوبي فرنسا شمالاً. وتوطدت في قلب الكون:
الحجاز واليمن والشام وفارس وبلاد ما بين النهرين وما وراء النهرين ومصر وجنوب الوادي، وتركت اللغة العربية الواحدة آثارها في كل قطر أشرقت فيه شمس الإسلام ، وحتى ما فارقه الإسلام ـ كأسبانيا ـ ما تزال حضارة الإسلام وآثار العربية تغزو كل بيت فيها.
وكما استوعب الإسلام مناهج الإصلاح في كل مجالات الحياة الإنسانية استوعبت شقيقته الكبرى " اللغة العربية " كل أنماط التعبير ووسعت بسلطانها كل وسائل التسجيل والتدوين.. وامتلكت ناصية البيان الرائع الجميل ، فهي لغة علم ، ولغة فن ومشاعر ، ووجدان. وقانون وسلام وحرب ، ودين ودنيا.
إن أكثر من ألف مليون مسلم ينتشرون في ربوع الأرض الآن لم يعجز الكثير منهم من غير العرب عن حفظ كتاب الله " القرآن العظيم " ويتلونه كما أنزل بلسان عربي فصيح. فإذا عاد إلى حديثه اليومي لجأ إلى لغة أمه وأبيه وبيئته.
ومسلم غير عربي استطاع أن يحفظ أو يقرأ القرآن بلغته العربية الفصحى لهو قادر ـ لو أدى المسلمون العرب واجبهم نحو لغة التنزيل ـ أن يقرأ بها كتب الحديث، والفقه، والتشريع، والنحو، والصرف ، والبلاغة ، والأدب وسائر العلوم والفنون.
ولكنه ذنب العرب المسلمين لا ذنب اللغة. فهي مطواعة لمن يريد أن يتقنها إن وجد معلماً مخلصاً. والأمل كبير ـ الآن ـ في أن يلتقي كل المسلمين على لغة واحدة ، كما التقوا على عقيدة واحدة.
إن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم عالمي الدعوة وإن كان عربي اللسان والجنس.
وإن الإسلام الحنيف عالمي التوجيه والسلطان وإن كانت لغة تنزيله عربية ورسوله عربياً ، ورواده الأوائل عرباً.
------------------
(1) رددنا على هذه الادعاءات في " الإسلام في مواجهة الاستشراق في العالم " مرجع سبق ذكره.
(2) سفر التثنية: الإصحاح (33) الفقرات (1-2).
(3) سفر التكوين (21 - 21).
(4) سفر التثنية: الإصحاح (18) الفقرات (18 - 19).
ويكون المعنى عليه: كيف أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم ؟ أي لا أفعل هذا.
(5) الجمعة: 2.
(6) البقرة: 129.
(7) المزمور (45) الفقرات (2 - 17) مع الحذف اليسير. (8) الأنبياء: 107.(8/11)
(9) مكان النقط هنا كلام لم نذكره هو " قدوس إسرائيل لأنه مجدك " ؟! وهذا مقطع مضاف بكل تأكيد والهدف منه صرف الكلام عن معناه الظاهر!!
(10) سفر أشعياء الأصحاح (60) الفقرات (4-12) مع حذف يسير.
(11) القصص: 57.
(12) (3 ـ3 ـ15) مع الحذف.
(13) الإصحاح (3) الفقرة (2).
(14) الإصحاح (4) الفقرة (17).
(15) الإصحاح (6) الفقرة (9ـ10).
(16) الإصحاح (11) الفقرة (2).
(17) الإصحاح (9) الفقرة (2).
(18) الإصحاح (1) الفقرة (14 ـ15).
(19) هذا إيضاح وليس من النص.
(20) الإصحاح (14) الفقرات (24 ـ 26).
(21) الإصحاح (16) الفقرتان (7 ـ8).
(22) الإصحاح (16) الفقرة (13).
(23) مريم: 34.
(24) الإصحاح (15) فقرتا (26 ـ 27).
(25) انظر كتاب " إظهار الحق " ص 528 للشيخ رحمت الله الهندي تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا. نشر دار التراث.
------------------------
(4) قوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم زناة من أصحاب الجحيم!
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
ما ذنب النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يقع قومه ومن أرسل إليهم في خطيئة الزنا أو أن يكونوا من أصحاب الجحيم؟!! مادام هو صلوات الله وسلامه عليه قد برئ من هذه الخطيئة ولاسيما في مرحلة ما قبل النبوة، وكانت مرحلة الشباب التي يمكن أن تكون إغراءً له ولأمثاله أن يقعوا في هذه الخطيئة؛ لاسيما وأن المجتمع الجاهلي كان يشجع على ذلك, وكان الزنا فيه من الأمور العادية التي يمارسها أهل الجاهلية شبانًا وشيبًا أيضًا. وكان للزنا فيه بيوت قائمة يعترف المجتمع بها، وتُعلق على أبوابها علامات يعرفها بها الباحثون عن الخطيئة، وتعرف بيوت البغايا باسم أصحاب الرايات.
ومع هذا الاعتراف العلني من المجتمع الجاهلي بهذه الخطيئة، ومع أن ممارستها للشباب وحتى للشيب لم تكن مما يكره المجتمع أو يعيب من يمارسونه؛ فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يقع فيها أبدًا, بل شهدت كل كتب السير والتواريخ له صلى الله عليه وسلم بالطهارة والعفة وغيرهما من الفضائل الشخصية التي يزدان بها الرجال وتحسب في موازين تقويمهم وتقديرهم، وأرسله الله سبحانه ليغير هذا المنكر.
هذه واحدة, والثانية: أن الرسالة التي دعا بها ودعا إليها محمد صلى الله عليه وسلم حرّمت الزنا تحريماً قاطعاً وحملت آياتها في القرآن الكريم عقاباً شديداً للزاني والزانية يبدأ بعقوبة بدنية هي أن يجلد كل منهما مائة جلدة قاسية يتم تنفيذها علناً بحيث يشهدها الناس لتكون عبرة وزجراً لهم عن التورط فيها كما تقول الآية الكريمة: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) (1).
فإذا كان الزانيان محصنين أي كل منهما متزوج ارتفعت العقوبة إلى حدّ الإعدام رمياً بالحجارة حتى الموت.
ولا تقف العقوبة عند ذلك, بل نرى أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تضع مَنْ يمارسون هذه الخطيئة في مرتبة دونية من البشر حتى لكأنهم صنف منحط وشاذ عن بقية الأطهار الأسوياء فتقول الآية الكريمة عنهم: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) (2).
من الذي يحمل المسئولية عن الخطيئة؟ فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد طهر من هذه الخطيئة في المجتمع الذي كان يراها عادية ومألوفة، ثم كانت رسالته صلى الله عليه وسلم تحرمها التحريم القاطع والصريح، وتضع مرتكبيها في مرتبة الانحطاط والشذوذ عن الأسوياء من البشر..
فلِمَ يُعَيّر محمد صلى الله عليه وسلم بأن بعض قومه زناة؟ وهل يصح في منطق العقلاء أن يعيبوا إنساناً بما في غيره من العيوب؟!! وأن يحملوه أوزار الآخرين وخطاياهم؟!!
وهنا يكون للمسألة وجه آخر يجب التنويه إليه وهو خاص بالمسئولية عن الخطيئة أهي فردية خاصة بمن يرتكبونها؟ أم أن آخرين يمكن أن يحملوها نيابة عنهم ويؤدون كفارتها؟!
إن الإسلام يمتاز بأمرين مهمين:
أولهما: أن الخطيئة فردية يتحمل من وقع فيها وحده عقوبتها, ولا يجوز أن يحملها عنه أو حتى يشاركه في حملها غيره وصريح آيات القرآن يقول: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليه ما اكتسبت)(3). ثم: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى)(4). وورد هذا النص في آيات كثيرة.
أما الأمر الثاني: فيما أقره الإسلام في مسألة الخطيئة فهو أنها لا تورث، ولا تنقل من مخطئ ليتحمل عنه وزره آخر حتى ولو بين الآباء وأبنائهم وفي هذا يقول القرآن الكريم: (واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً)(5).
(هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت)(6).
(ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب)(7).
(يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها)(8).
(ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون)(9).
(كل نفس بما كسبت رهينة)(10).(8/12)
وغير هذا كثير مما يؤكد ما أقرَّه الإسلام من أن الخطايا فردية وأنها لا تورث ولا يجزى فيها والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً.
وما دام الأمر كذلك فلِمَ يُلام محمد صلى الله عليه وسلم ويعاب شخصه أو تعاب رسالته بأن بعض أهله أو حتى كلهم زناة مارسوا الخطيئة التي كان يعترف بها مجتمعه ولا يجزى فيها شيئاً أو ينقص الشرف والمروءة أو يعاب بها عندهم من يمارسها؟!
وحسب محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يقع أبداً في هذه الخطيئة لا قبل زواجه ولا بعده، ثم كانت رسالته دعوة كبرى إلى التعفف والتطهر وإلى تصريف الشهوة البشرية في المصرف الحلال الذي حض الإسلام عليه وهو النكاح الشرعي الحلال، ودعا المسلمين إلى عدم المغالاة في المهور تيسيراً على الراغبين في الحلال، حتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزوج الرجل بأقل وأيسر ما يملك من المال، وأثر عنه صلى الله عليه وسلم أن شاباً جاءه يرغب إليه في الزواج وما كان معه ما يفي بالمراد فقال له صلى الله عليه وسلم: [التمس ولو خاتماً من حديد](11).
أكثر من هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان يزوج بعض الصحابة بما يحفظ من القرآن الكريم.
لهذا لم تقع خطايا الزنا في المجتمع في العهد النبوي كله إلا في ندرة نادرة، ربما لأن الحق سبحانه شاء أن تقع وأن يقام فيها الحد الشرعي ليسترشد بها المجتمع في مستقبل الأيام؛ كتشريع تم تطبيقه في حالات محددة يكون هادياً ودليلاً في القضاء والحكم.
هذا عن اتهام محمد صلى الله عليه وسلم بأن أهله زناة، وهو كما أوضحنا اتهام متهافت لا ينال من مقام النبوة ولا يرتقى إلى أقدام صاحبها صلى الله عليه وسلم. وقد أتينا عليه بما تستريح إليه ضمائر العقلاء وبصائر ذوى القلوب النقية.
أما عن اتهامه صلى الله عليه وسلم بأن أهله من أصحاب الجحيم، فهي شهادة لجلال التشريع الذي أنزله الحق - على محمد فأكمل به الدين وأتم به النعمة.
بل إن ما يعيبون به محمداً صلى الله عليه وسلم من أن أهله من أصحاب الجحيم ليس أبداً عيبًا في منطق العقلاء ذوى النصفة والرشد؛ بل إنه وسام تكريم لمحمد صلى الله عليه وسلم ولرسالته الكاملة والخاتمة في أن التشريع الذي نزلت به سوَّى بين من هم أقرباء محمد صلى الله عليه وسلم وبين من هم غرباء عنه في جميع الأحكام ثواباً وعقوبة.
بل إن التشريع الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم نص صراحة على التزام العدل خاصة حين يكون أحد أطرافه ذا قربى فقال القرآن: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم)(12). وقوله: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى)(13).
أما في السنة النبوية فحديث المرأة المخزومية ـ من بني مخزوم ذوى الشرف والمكانة ـ التي ارتكبت جريمة السرقة وهى جريمة عقوبتها حدّ السرقة وهو قطع يد السارق كما تنص عليه آيات القرآن، وشغل بأمرها مجتمع المدينة لئلا يطبق عليها الحدّ فتقطع يدها وهى ذات الشرف والمكانة فسعوا لدى أسامة بن زيد – حبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يشفع لها لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها](14).
وعليه فكون بعض آل محمد وذوي قرباه من أصحاب الجحيم كأبي لهب عمه الذي نزلت فيه سورة المسد: (تبت يدا أبى لهب وتب)(15) وغيره ممن كان نصيرًا لهم مع بقائه على شركه..
كون هؤلاء من أصحاب الجحيم لأنهم بقوا على شركهم ولم تنفعهم قرابتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم هو في الواقع شهادة تقدير تعطى لمحمد ورسالته التي سوَّت في العدل بين القريب وبين الغريب، ولم تجعل لعامل القرابة أدنى تأثير في الانحياز ضد الحق لصالح القريب على الغريب. وما قاله المبطلون هو في الحق وسام وليس باتهام.
وصلى الله وسلم على النبي العظيم.
--------------------------
(1) النور: 2.
(2) النور: 3.
(3) البقرة: 286.
(4) الأنعام: 164.
(5) البقرة 48.
(6) يونس: 30.
(7) إبراهيم: 51.
(8) النحل: 111.
(9) الجاثية: 22.
(10) المدثر: 38.
(11) رواة البخاري [كتاب النكاح].
(12) التوبة: 113.
(13) الأنعام: 152.
(14) رواة البخاري [كتاب أحاديث الأنبياء].
(15) المسد: 1.
-------------------
(5) مات النبي صلى الله عليه وسلم بالسم
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:(8/13)
حين تصاب القلوب بالعمى بسبب ما يغشاها من الحقد والكراهية يدفعها حقدها إلى تشويه الخصم بما يعيب، وبما لا يعيب، واتهامه بما لا يصلح أن يكون تهمة، حتى إنك لترى من يعيب إنساناً مثلاً بأن عينيه واسعتان, أو أنه أبيض اللون طويل القامة، أو مثلاً قد أصيب بالحمى ومات بها، أو أن فلاناً من الناس قد ضربه وأسال دمه؛ فهذا كأن تعيب الورد بأن لونه أحمر مثلاً؛ وغير ذلك مما يستهجنه العقلاء ويرفضونه ويرونه إفلاسًا وعجزًا.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم قدمت له امرأة من نساء اليهود شاة مسمومة فأكل منها فمات صلى الله عليه وسلم.
وينقلون عن تفسير البيضاوي: أنه لما فتحت خيبر واطمأن الناس سألت زينب بنت الحارس - وهى امرأة سلام بن مشكم (اليهودي) - عن أي الشاة أحب إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: إنه يحب الذراع لأنه أبعدها عن الأذى, فعمدت إلى عنزة لها فذبحتها, ثم عمدت إلى سمّ لا يلبث أن يقتل لساعته فسمَّت به الشاة، وذهبت بها جارية لها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت له: يا محمد هذه هدية أهديها إليك.
وتناول محمد الذراع فنهش منها.. فقال صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم فإن هذه الذراع والكتف تخبرني بأنها مسمومة؛ ثم سار إلى اليهودية فسألها: لم فعلت ذلك؟ قالت: نلت من قومي ما نلت... وكان ذلك بعد فتح "خيبر" أحد أكبر حصون اليهود في المدينة, وأنه صلى الله عليه وسلم قد عفا عنها.
ثم يفصحون عن تفسير البيضاوي: أنه صلى الله عليه وسلم لما اقترب موته قال لعائشة ـ رضي الله عنهاـ: "يا عائشة هذا أوان انقطاع أبهري(1).
فليس في موته صلى الله عليه وسلم بعد سنوات متأثرًا بذلك السُّم إلا أن جمع الله له بين الحسنيين، أنه لم يسلط عليه من يقتله مباشرة, وعصمه من الناس, وأيضًا كتب له النجاة من كيد الكائدين, وكذلك كتب له الشهادة ليكتب مع الشهداء عند ربهم, وما أعظم أجر الشهيد.
وأيضًا.. لا شك أن عدم موته بالسم فور أكله للشاة المسمومة وحياته بعد ذلك سنوات يُعد معجزة من معجزاته، وعَلَمًا من أعلام نبوته يبرهن على صدقه، وعلى أنه رسول من عند الله حقًا ويقينًا.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يموت في الأجل الذي أجّله له رغم تأثره بالسم من لحظة أكله للشاة المسمومة حتى موته بعد ذلك بسنوات.
000000000000000000000000
(1) الأبهران: عرقان متصلان بالقلب, وإذا قطعا كانت الوفا
---------------------------
(6) تعدد زوجات النبي محمد صلى الله عليه وسلم
أ.د محمود حمدي زقزوق
قالوا إنه صلى الله عليه وسلم:
• تزوج زوجة ابنه بالتبني (زيد بن حارثة).
• أباح لنفسه الزواج من أي امرأة تهبه نفسها (الخلاصة أنه شهواني).
الرد على الشبهة:
الثابت المشهور من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يتزوج إلا بعد أن بلغ الخامسة والعشرين من العمر.
والثابت كذلك أن الزواج المبكر كان من أعراف المجتمع الجاهلي رغبة في الاستكثار من البنين خاصة ليكونوا للقبيلة عِزًّا ومنعة بين القبائل.
ومن الثابت كذلك في سيرته الشخصية صلى الله عليه وسلم اشتهاره بالاستقامة والتعفف عن الفاحشة والتصريف الشائن الحرام للشهوة، رغم امتلاء المجتمع الجاهلي بشرائح من الزانيات اللاتي كانت لهن بيوت يستقبلن فيها الزناة ويضعن عليها " رايات " ليعرفها طلاب المتع المحرمة.
ومع هذا كله ـ مع توفر أسباب الانحراف والسقوط في الفاحشة في مجتمع مكة ـ لم يُعرَف عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إلا التعفف والطهارة بين جميع قرنائه؛ ذلك لأن عين السماء كانت تحرسه وتصرف عنه كيد الشيطان.
ويُرْوَى في ذلك أن بعض أترابه الشباب أخذوه ذات يوم إلى أحد مواقع المعازف واللهو فغشَّاه الله بالنوم فما أفاق منه إلا حين أيقظه أترابه للعودة إلى دورهم.
هذه واحدة..
أما الثانية فهي أنه حين بلغ الخامسة والعشرين ورغب في الزواج لم يبحث عن "البكر" التي تكون أحظى للقبول وأولى للباحثين عن مجرد المتعة. وإنما تزوج امرأة تكبره بحوالي خمسة عشر عامًا، ثم إنها ليست بكرًا بل هي ثيب، ولها أولاد كبار أعمار أحدهم يقترب من العشرين؛ وهي السيدة خديجة وفوق هذا كله فمشهور أنها هي التي اختارته بعد ما لمست بنفسها ـ من خلال مباشرته لتجارتها ـ من أمانته وعفته وطيب شمائله صلى الله عليه وسلم.
والثالثة أنه صلى الله عليه وسلم بعد زواجه منها دامت عشرته بها طيلة حياتها ولم يتزوج عليها حتى مضت عن دنياه إلى رحاب الله. وقضى معها - رضي الله عنها - زهرة شبابه وكان له منها أولاده جميعًا إلا إبراهيم الذي كانت أمه السيدة "مارية" القبطية.(8/14)
والرابعة أنه صلى الله عليه وسلم عاش عمره بعد وفاتها - رضي الله عنها - محبًّا لها يحفظ لها أطيب الذكريات ويعدد مآثرها وهي مآثر لها خصوص في حياته وفي نجاح دعوته فيقول في بعض ما قال عنها: [ صدقتني إذ كذبني الناس وأعانتني بمالها ]. بل كان صلى الله عليه وسلم لا يكف عن الثناء عليها والوفاء لذكراها والترحيب بمن كن من صديقاتها، حتى أثار ذلك غيرة السيدة عائشة - رضي الله عنها.
أما تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم فكان كشأن غيره من الأنبياء له أسبابه منها:
أولاً: كان عُمْرُ محمد صلى الله عليه وسلم في أول زواج له صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة تجاوز الخمسين وهي السنّ التي تنطفئ فيها جذوة الشهوة وتنام الغرائز الحسية بدنيًّا، وتقل فيها الحاجة الجنسية إلى الأنثى وتعلو فيها الحاجة إلى من يؤنس الوحشة ويقوم بأمر الأولاد والبنات اللاتي تركتهم خديجة - رضي الله عنها -.
وفيما يلي بيان هذا الزواج وظروفه.
الزوجة الأولى: سودة بنت زمعة: كان رحيل السيدة خديجة - رضي الله عنها - مثير أحزان كبرى في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي محيط الصحابة - رضوان الله عليهم - إشفاقًا عليه من الوحدة وافتقاد من يرعى شئونه وشئون أولاده. ثم تصادف فقدانه صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب نصيره وظهيره وسُمِّىَ العام الذي رحل فيه نصيراه خديجة وأبو طالب عام الحزن.
في هذا المناخ.. مناخ الحزن والوحدة وافتقاد من يرعى شئون الرسول وشئون أولاده سعت إلى بيت الرسول واحدة من المسلمات تُسمى خولة بنت حكيم السلمية وقالت: له يا رسول الله كأني أراك قد دخلتك خلّة لفقد خديجة فأجاب صلى الله عليه وسلم: [ أجل كانت أم العيال وربة البيت]، فقالت يا رسول الله: ألا أخطب عليك ؟.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ولكن – من بعد خديجة ؟! فذكرت له عائشة بنت أبى بكر فقال الرسول: لكنها ما تزال صغيره فقالت: تخطبها اليوم ثم تنتظر حتى تنضج.. قال الرسول ولكن من للبيت ومن لبنات الرسول يخدمهن ؟ فقالت خولة: إنها سودة بنت زمعة، وعرض الأمر على سودة ووالدها: فتم الزواج ودخل بها صلى الله عليه وسلم بمكة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن سودة هذه كانت زوجة للسكران بن عمرو وتوفي عنها زوجها بمكة فلما حلّت تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت أول امرأة تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد خديجة، وكان ذلك في رمضان سنة عشر من النبوة.
وعجب المجتمع المكي لهذا الزواج لأن "سودة" هذه ليست بذات جمال ولا حسب ولا تصلح أن تكون خلفًا لأم المؤمنين خديجة التي كانت عند زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بها جميلة وضيئة وحسيبة تطمح إليها الأنظار.
وهنا أقول للمرجفين الحاقدين: هذه هي الزوجة الأولى للرسول بعد خديجة، فهي مؤمنة هاجرت الهجرة الأولى مع من فرّوا بدينهم إلى الحبشة وقد قَبِلَ الرسول زواجها حماية لها وجبرًا لخاطرها بعد وفاة زوجها إثر عودتهما من الحبشة.
وليس الزواج بها سعارَ شهوة للرسول ولكنه كان جبرًا لخاطر امرأة مؤمنة خرجت مع زوجها من أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة ولما عادا توفي زوجها وتركها امرأة تحتاج هي وبنوها إلى من يرعاهم.
الزوجة الثانية بعد خديجة: عائشة بنت أبى بكر الذي يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من آمن الناس علىّ في ماله وصحبته أبا بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام..".
ومعروف من هو أبو بكر الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم متحدثاً عن عطائه للدعوة " ما نفعني مالٌ قط ما نفعني مال أبى بكر "، وأم عائشة هي أم رومان بنت عامر الكناني من الصحابيات الجليلات، ولما توفيت نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبرها واستغفر لها وقال: "اللهم لم يخف عليك ما لقيت أم رومان فيك وفي رسولك صلى الله عليه وسلم"، وقال عنها يوم وفاتها:
"من سرّه أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان" ولم يدهش مكة نبأ المصاهرة بين أعز صاحبين؛ بل استقبلته كما تستقبل أمرًا متوقعاً؛ ولذا لم يجد أي رجل من المشركين في هذا الزواج أي مطعن - وهم الذين لم يتركوا مجالاً للطعن إلا سلكوه ولو كان زورًا وافتراء.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بفتاة بينه وبينها قرابة خمسين عامًا ليس بدعا ولا غريبًا لأن هذا الأمر كان مألوفًا في ذلك المجتمع. لكن المستشرقين ومن تحمل قلوبهم الحقد من بعض أهل الكتاب - على محمد صلى الله عليه وسلم - جعلوا من هذا الزواج اتهامًا للرسول وتشهيرًا به بأنه رجل شهواني غافلين بل عامدين إلى تجاهل ما كان واقعًا في ذلك المجتمع من زواج الكبار بالصغيرات كما في هذه النماذج:
- فقد تزوج عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم من هالة بنت عم آمنة التي تزوجها أصغر أبنائه عبد الله ـ والد الرسول صلى الله عليه وسلم.
- وتزوج عمر بن الخطاب ابنة على بن أبى طالب وهو أكبر سنًّا من أبيها.(8/15)
- وعرض عمر على أبى بكر أن يتزوج ابنته الشابة " حفصة " وبينهما من فارق السن مثل الذي بين المصطفي صلى الله عليه وسلم وبين " عائشة " (1).
كان هذا واقع المجتمع الذي تزوج فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة. لكن المستشرقين والممتلئة قلوبهم حقدًا من بعض أهل الكتاب لم ترَ أعينهم إلا زواج محمد بعائشة والتي جعلوها حدث الأحداث - على حد مقولاتهم - أن يتزوج الرجل الكهل بالطفلة الغريرة العذراء (2).
قاتل الله الهوى حين يعمى الأبصار والبصائر!
الزوجة الثالثة: حفصة بنت عمر الأرملة الشابة: توفي عنها زوجها حنيس بن حذافة السهمي وهو صحابي جليل من أصحاب الهجرتين - إلى الحبشة ثم إلى المدينة - ذلك بعد جراحة أصابته في غزوة أُحد حيث فارق الحياة وأصبحت حفصة بنت عمر بن الخطاب أرملة وهي شابة.
وكان ترمّلها مثار ألم دائم لأبيها عمر بن الخطاب الذي كان يحزنه أن يرى جمال ابنته وحيويتها تخبو يومًا بعد يوم..
وبمشاعر الأبوة الحانية وطبيعة المجتمع الذي لا يتردد فيه الرجل من أن يخطب لابنته من يراه أهلاً لها..
بهذه المشاعر تحدث عمر إلى الصديق " أبى بكر " يعرض عليه الزواج من حفصة لكن أبا بكر يلتزم الصمت ولا يرد بالإيجاب أو بالسلب.
فيتركه عمر ويمضى إلى ذي النورين عثمان بن عفان فيعرض عليه الزواج من حفصة فيفاجئه عثمان بالرفض..
فتضيق به الدنيا ويمضى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره بما حدث فيكون رد الرسول صلى الله عليه وسلم عليه هو قوله: [يتزوج حفصةَ خيرٌ من عثمان ويتزوج عثمان خيرًا من حفصة] (3).
وأدركها عمر - رضي الله عنه - بفطرته إذ معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما استشعره عمر هو أن من سيتزوج ابنته حفصة هو الرسول نفسه وسيتزوج عثمان إحدى بنات الرسول صلى الله عليه وسلم.
وانطلق عمر إلى حفصة والدنيا لا تكاد تسعه من الفرحة وارتياح القلب إلى أن الله قد فرّج كرب ابنته.
الزوجة الرابعة: أم سلمة بنت زاد الراكب: من المهاجرين الأولين إلى الحبشة وكان زوجها (أبو سلمة) عبد الله ابن عبد الأسد المخزومي أول من هاجر إلى يثرب (المدينة) من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. جاءت إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم كزوجة بعد وفاة " أم المساكين زينب بنت خزيمة الهلالية " بزمن غير قصير.
سليلة بيت كريم، فأبوها أحد أجواد قريش المعروفين بلقب زاد الراكب؛ إذ كان لا يرافقه أحد في سفر إلا كفاه زاده.
وزوجها الذي مات عنها صحابي من بني مخزوم ابن عمة المصطفي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة ذو الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة. وكانت هي و زوجها من السابقين إلى الإسلام. وكانت هجرتهما إلى المدينة معًا وقد حدث لها ولطفلها أحداث أليمة ومثيرة ذكرتها كتب السير. رضي الله عن أم سلمة..
ولا نامت أعين المرجفين.
الزوجة الخامسة: زينب بنت جحش: لم أرَ امرأة قط خيرًا في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثًا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد تبديلا إلا لنفسها في العمل الذي تتصدق وتتقرب به إلى الله عز وجل؟(4).
هكذا تحدثت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها– عن " ضرّتها " زينب بنت جحش. أما المبطلون الحاقدون من بعض أهل الكتاب فقالوا: أُعْجِب محمد صلى الله عليه وسلم ـ وحاشا له - بزوجة متبناه " زيد بن حارثة " فطلقها منه وتزوجها.
ويرد الدكتور هيكل في كتابه "حياة محمد"(5) صلى الله عليه وسلم على هذا فيقول: إنها شهوة التبشير المكشوف تارة والتبشير باسم العلم تارة أخرى، والخصومة القديمة للإسلام تأصلت في النفوس منذ الحروب الصليبية هي التي تملى على هؤلاء جميعًا ما يكتبون.
والحق الذي كنا نود أن يلتفت إليه المبطلون الحاقدون على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم.. هو أن زواج محمد صلى الله عليه وسلم من زوجة ابنه بالتبني زيد بن حارثة إنما كان لحكمة تشريعية أرادها الإسلام لإبطال هذه العادة ـ عادة التبني ـ التي هي في الحقيقة تزييف لحقائق الأمور كان لها في واقع الناس والحياة آثار غير حميدة.
ولأن هذه العادة كانت قد تأصلت في مجتمع الجاهلية اختارت السماء بيت النبوة بل نبي الرسالة الخاتمة نفسه صلى الله عليه وسلم ليتم على يديه وفي بيته الإعلان العلمي عن إبطال هذه العادة.
وتجدر الإشارة هنا إلى مجموعة الآيات القرآنية التي جاءت إعلاناً عن هذا الحكم المخالف لعادات الجاهلية وتفسيرًا للتشريع الجديد في هذه ـ المسألة و في موضوع الزواج بزينب حيث تقول: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين)(6).
(ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم )(7).
(وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولاً)(8).(8/16)
مرة أخرى نذكر بأن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب لم تكن وراءه أبدًا شهوة أو رغبة جنسية وإنما كان أمرًا من قدر الله وإرادته لإبطال عادة التبني من خلال تشريع يتردد صداه بأقوى قوة في المجتمع الجاهلي الذي كانت عادة التبني أصلاً من أصوله وتقليدًا مستقرًا فيه، فكان السبيل لأبطالها أن يتم التغيير في بيت النبوة وعلى يد الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم.
وقد فطنت السيدة " زينب بنت جحش " نفسها إلى هذا الأمر فكانت تباهي به ضراتها وتقول لهن:" زوجكن أهاليكن وزوجني ربي من فوق سبع سمَاوات"(9).
أما لماذا كان زيد بن حارثة نفسه يتردد على الرسول معربًا عن رغبته في تطليق زينب؛ فلم يكن - كما زعم المرجفون - أنه شعر أن الرسول يرغب فيها فأراد أن يتنازل عنها له..
ولكن لأن حياته معها لم تكن على الوفاق أو التواد المرغوب فيه؛ ذلك أن زينب بنت جحش لم تنس أبدًا ـ وهي الحسيبة الشريفة والجميلة أيضًا أنها أصبحت زوجًا لرجل كان رقيقًا عند بعض أهلها وأنه ـ عند الزواج بها ـ كان مولىً للرسول صلى الله عليه وسلم أعتقه بعد ما اشتراه ممن أسره من قريش وباعه بمكة.
فهو ـ وإن تبناه محمد وبات يسمى زيد بن محمد في عرف المجتمع المكي كله، لكنه عند العروس الحسيبة الشريفة والجميلة أيضا ما يزال ـ كما كان بالأمس - الأسير الرقيق الذي لا يمثل حُلم من تكون في مثل حالها من الحسب والجمال وليس هذا بغريب بل إنه من طبائع الأشياء.
ومن ثم لم تتوهج سعادتها بهذا الزواج، وانعكس الحال على زيد بن حارثة فانطفأ في نفسه توهج السعادة هو الآخر، وبات مهيأ النفس لفراقها بل لقد ذهب زيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو زينب إليه كما جاء في البخاري من حديث أنس قال: جاء زيد يشكو إلى الرسول فجعل صلى الله عليه وسلم يقول له: [أمسك عليك زوجك واتق الله](10) قال أنس: لو كان النبي كاتمًا شيئًا لكتم هذا الحديث.
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول له كما حكته الآية: أمسك عليك زوجك ولا تسارع بتطليقها.
وزينب بنت جحش هي بنت عمة الرسول صلى الله عليه وسلم - كما سبقت الإشارة – وهو الذي زوجها لمولاه "زيد" ولو كانت به رغبة فيها لاختارها لنفسه؛ وخاصة أنه رآها كثيراً قبل فرض الحجاب، وكان النساء في المجتمع الجاهلي غير محجبات فما كان يمنعه – إذًا – من أن يتزوجها من البداية؟! ولكنه لم يفعل.
فالأمر كله ليس من عمل الإرادة البشرية لهم جميعًا: لا لزينب ولا لزيد ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه أمر قدري شاءته إرادة الله لإعلان حكم وتشريع جديدين في قضية إبطال عادة "التبني" التي كانت سائدة في المجتمع آنذاك.
يؤكد هذا ويدل عليه مجموع الآيات الكريمة التي تعلقت بالموضوع في سورة الأحزاب.
أما الجملة التي وردت في قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)(11). فإن ما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم هو كتم ما كان الله قد أخبره به من أن زينب ـ يومًا ما ـ ستكون زوجًا له؛ لكنه لم يصرح به خشية أن يقول الناس: إنه تزوج زوجة ابنه بالتبني(12).
الزوجة السادسة: جويرية بنت الحارث الخزاعية: الأميرة الحسناء التي لم تكن امرأة أعظم بركة على قومها منها فقد أعتق الرسول صلى الله عليه وسلم بعد زواجه بها أهل مائة بيت من بني المصطلق (التي هي منهم).
كانت ممن وقع في الأسر بعد هزيمة بني المصطلق من اليهود في الغزوة المسماة باسمهم. وكاتبها من وقعت في أسره على مال فذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لها: "أو خير من ذلك؟ قالت: وما هو؟ قال: أقضى عنك كتابتك وأتزوجك. قالت: وقد أفاقت من مشاعر الهوان والحزن: نعم يا رسول الله. قال: قد فعلت"(13).
وذاع الخبر بين المسلمين: أن رسول صلى الله عليه وسلم قد تزوج بنت الحارث بن ضرار زعيم بني المصطلق وقائدهم في هذه الغزوة..
معنى هذا أن جميع من بأيديهم من أسرى بني المصطلق قد أصبحوا بعد هذا الزواج كأنهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا تيار من الوفاء والمجاملة من المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم تجسد في إطلاق المسلمين لكل من بأيديهم من أسرى بني المصطلق وهم يقولون: أصهار رسول الله، فلا نبقيهم أسرى.
ومع أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأسيرة بنت سيد قومها والذي جاءته ضارعة مذعورة مما يمكن أن تتعرض له من الذل من بعد عزة.. فإذا هو يرحمها بالزواج، ثم يتيح لها الفرصة لأن تعلن إسلامها وبذا تصبح واحدة من أمهات المؤمنين.
ويقولون: إنه نظر إليها.
وأقول: أما أنه نظر إليها فهذا لا يعيبه ـ وربما كان نظره إليها ضارعة مذعورة – هو الذي حرك في نفسه صلى الله عليه وسلم عاطفة الرحمة التي كان يأمر بها بمن في مثل حالتها ويقول: [ارحموا عزيز قوم ذل]، فرحمها وخيرها فاختارت ما يحميها من هوان الأسر ومذلة الأعزة من الناس.(8/17)
على أن النظر شرعًا مأذون به عند الإقدام على الزواج - كما في هذه الحالة - وكما أمر به صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه عند رغبته في الزواج - قائلاً له: [انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما](14).
وقد توفيت في دولة بنى أمية وصلى عليها عبد الملك بن مروان وهي في السبعين من العمر - رضي الله عنها.
الزوجة السابعة: صفية بنت حُيىّ ـ عقيلة بنى النضير: إحدى السبايا اللاتي وقعن في الأسر بعد هزيمة يهود بني النضير أمام المسلمين في الوقعة المسماة بهذا الاسم، كانت من نصيب النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها: فماذا في ذلك؟! ولم يكن عتقه إياها وتزوجها بدعًا في ذلك؛ وإنما كان موقفًا جانب الإنسانية فيه هو الأغلب والأسبق.
فلم يكن هذا الموقف إعجابًا بصفية وجمالها؛ ولكنه موقف الإنسانية النبيلة التي يعبر عنها السلوك النبيل بالعفو عند المقدرة والرحمة والرفق بمن أوقعتهن ظروف الهزيمة في الحرب في حالة الاستضعاف والمذلة, لا سيما وقد أسلمن وحسن إسلامهن.
فقد فعل ذلك مع "صفية بنت حُيىّ" بنت الحارس عقيلة بني النضير (اليهود) أمام المسلمين في الموقعة المعروفة باسم (غزوة بني قريظة) بعد انهزام الأحزاب وردّهم مدحورين من وقعة الخندق.
الزوجة الثامنة: أم حبيبة بنت أبى سفيان نجدة نبوية لمسلمة في محنة: إنها أم حبيبة "رملة" بنت أبى سفيان كبير مشركي مكة وأشد أهلها خصومة لمحمد صلوات الله وسلامه عليه.
كانت زوجًا لعبيد الله بن جحش وخرجا معًا مهاجرين بإسلامهما في الهجرة الأولى إلى الحبشة، وكما هو معروف أن الحبشة في عهد النجاشي كانت هي المهجر الآمن للفارين بدينهم من المسلمين حتى يخلصوا من بطش المشركين بهم وعدوانهم عليهم؛ فإذا هم يجدون في – ظل النجاشي – رعاية وعناية لما كان يتمتع به من حس إيماني جعله يرحب بأتباع النبي الجديد الذي تم التبشير بمقدمه في كتبهم على لسان عيسى بن مريم– عليه السلام – كما تحدث القرآن عن ذلك في صورة الصف في قوله: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بنى إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد)(15).
لكن أم حبيبة بنت أبى سفيان كانت وحدها التي تعرضت لمحنة قاسية لم يتعرض لمثلها أحد من هؤلاء المهاجرين الأوائل إلى الحبشة؛ ذلك أن زوجها عبيد الله بن جحش قد أعلن ارتداده عن الإسلام ودخوله في النصرانية وما أصعب وأدق حال امرأة باتت في محنة مضاعفة: محنتها في زوجها الذي ارتد وخان..
ومحنتها السابقة مع أبيها الذي فارقته مغاضبة إياه في مكة منذ دخلت في دين الله (الإسلام)..
وفوق هاتين المحنتين كانت محنة الاغتراب حيث لا أهل ولا وطن ثم كانت محنة حملها بالوليدة التي كانت تنتظرها والتي رزقت بها من بعد وأسمتها "حبيبة".. كان هذا كله أكبر من عزم هذه المسلمة الممتحنة من كل ناحية والمبتلاة بالأب الغاضب والزوج الخائن!!
لكن عين الله ثم عين محمد صلى الله عليه وسلم سخرت لها من لطف الرعاية وسخائها ما يسّر العين ويهون الخطب، وعادت بنت أبى سفيان تحمل كنية جديدة، وبدل أن كانت " أم حبيبة " أصبحت " أم المؤمنين " وزوج سيد المسلمين - صلوات الله وسلامه عليه.
والحق أقول: لقد كان نجاشي الحبشة من خلّص النصارى فأكرم وفادة المهاجرين عامة وأم المؤمنين بنت أبى سفيان بصفة خاصة. فأنفذ في أمرها مما بعث به إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطبها له.
وكانت خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة بنت أبى سفيان نعم الإنقاذ والنجدة لهذه المسلمة المبتلاة في الغربة؛ عوضتها عن الزوج الخائن برعاية سيد البشر صلى الله عليه وسلم؛ وعوضتها عن غضب الأب "أبى سفيان" برعاية الزوج الحاني الكريم صلوات الله عليه.
كما كانت هذه الخطبة في مردودها السياسي ـ لطمة كبيرة لرأس الكفر في مكة أبى سفيان بن حرب الذي كان تعقيبه على زواج محمد لابنته هو قوله: "إن هذا الفحل لا يجدع أنفه"؛ كناية عن الاعتراف بأن محمدًا لن تنال منه الأيام ولن يقوى أهل مكة - وهو على رأسهم - على هزيمته والخلاص منه لأنه ينتقل كل يوم من نصر إلى نصر.
كان هذا الاعتراف من أبى سفيان بخطر محمد وقوته كأنه استشفاف لستر الغيب أو كما يقول المعاصرون: تنبؤ بالمستقبل القريب وتمام الفتح.
فما لبث أن قبل أبو سفيان دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إياه إلى الإسلام وشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وتقدم أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله قائلاً: " إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فهلا جعلت له ما يحل عقدته ويسكن حقده وغيظه، فقال صلوات الله وسلامه عليه في ضمن إعلانه التاريخي الحضاري العظيم لأهل مكة عند استسلامهم وخضوعهم بين يديه:
• من دخل داره فهو آمن.
• ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن.
• ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن "(16).(8/18)
وانتصر الإسلام وارتفع لواء التوحيد ودخل الناس في دين الله أفواجًا. وفي مناخ النصر العظيم.. كانت هي سيدة غمرتها السعادة الكبرى بانتصار الزوج ونجاة الأب والأهل من شر كان يوشك أن يحيط بهم.
تلكم هي أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبى سفيان التي أحاطتها النجدة النبوية من خيانة الزوج وبلاء الغربة ووضعتها في أعز مكان من بيت النبوة.
الزوجة التاسعة: ميمونة بنت الحارث الهلالية أرملة يسعدها أن يكون لها رجل: آخر أمهات المؤمنين.. توفي عنها زوجها أبو رهم بن عبد العزّى العامري؛ فانتهت ولاية أمرها إلى زوج أختها العباس الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث بنى بها الرسول ـ في " سرف " قرب " التنعيم" على مقربة من مكة حيث يكون بدء الإحرام للمعتمرين من أهل مكة والمقيمين بها.
وقيل: إنه لما جاءها الخاطب بالبشرى قفزت من فوق بعيرها وقالت: البعير وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنها هي التي وهبت نفسها للنبي والتي نزل فيها قوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين..)(17).
كانت آخر أمهات المؤمنين وآخر زوجاته صلوات الله وسلامه عليه.
----------------
(1) تراجم لسيدات بيت النبوة للدكتورة بنت الشاطئ: ص 250 وما بعدها.
(2) المصدر السابق.
(3) انظر سيدات بيت النبوة للدكتورة بنت الشاطئ ص 324 (4) صحيح مسلم كتاب الفضائل.
(5) حياة محمد ص 29.
(6) الأحزاب: 40.
(7) الأحزاب: 5.
(8) الأحزاب: 37.
(9) رواه البخاري (كتال التوحيد 6108).
(10) رواه البخاري (كتاب التوحيد).
(11) الأحزاب: 37.
(12) انظر فتح الباري 8 / 371 عن سيدات بيت النبوة لبنت الشاطئ ص 354.
(13) رواه البخاري: فتح الباري _ كتال النكاح باب 14.
(14) رواه البخاري: فتح الباري ـ كتاب النكاح باب 36.
(15) الصف: 6.
(16) رواه البخاري – فتح الباري – " كتاب المغازي ".
(17) الأحزاب: 50.
---------------------
(7) محاولة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الانتحار
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
الحق الذي يجب أن يقال.. أن هذه الرواية التي استندتم إليها ـ يا خصوم الإسلام ـ ليست صحيحة رغم ورودها في صحيح البخاري ـ رضي الله عنه ـ؛ لأنه أوردها لا على أنها واقعة صحيحة، ولكن أوردها تحت عنوان "البلاغات" يعني أنه بلغه هذا الخبر مجرد بلاغ، ومعروف أن البلاغات في مصطلح علماء الحديث: إنما هي مجرد أخبار وليست أحاديث صحيحة السند أو المتن(1).
وقد علق الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري(2) بقوله: "إن القائل بلغنا كذا هو الزهري، وعنه حكى البخاري هذا البلاغ، وليس هذا البلاغ موصولاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الكرماني: وهذا هو الظاهر".
هذا هو الصواب، وحاشا أن يُقدم رسول الله ـ وهو إمام المؤمنين ـ على الانتحار، أو حتى على مجرد التفكير فيه.
وعلى كلٍ فإن محمداً صلى الله عليه وسلم كان بشراً من البشر ولم يكن ملكاً ولا مدعيًا للألوهية.
والجانب البشرى فيه يعتبر ميزة كان صلى الله عليه وسلم يعتني بها، وقد قال القرآن الكريم في ذلك: (قل سبحان ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً)(3).
ومن ثم فإذا أصابه بعض الحزن أو الإحساس بمشاعر ما نسميه - في علوم عصرنا - بالإحباط أو الضيق فهذا أمر عادى لا غبار عليه؛ لأنه من أعراض بشريته صلى الله عليه وسلم.
وحين فتر (تأخّر) الوحي بعد أن تعلق به الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى المكان الذي كان ينزل عليه الوحي فيه يستشرف لقاء جبريل، فهو محبّ للمكان الذي جمع بينه وبين حبيبه بشيء من بعض السكن والطمأنينة، فماذا في ذلك أيها الظالمون دائماً لمحمد صلى الله عليه وسلم في كل ما يأتي وما يدع؟ وإذا كان أعداء محمد صلى الله عليه وسلم يستندون إلى الآية الكريمة: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) (4).
فالآية لا تشير أبداً إلى معنى الانتحار، ولكنها تعبير أدبي عن حزن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بسبب صدود قومه عن الإسلام، وإعراضهم عن الإيمان بالقرآن العظيم؛ فتصور كيف كان اهتمام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى الله، وحرصه الشديد على إخراج الكافرين من الظلمات إلى النور.
وهذا خاطر طبيعي للنبي الإنسان البشر الذي يعلن القرآن على لسانه صلى الله عليه وسلم اعترافه واعتزازه بأنه بشر في قوله - رداً على ما طلبه منه بعض المشركين-: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتى بالله والملائكة قبيلاً * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه). فكان رده: (سبحان ربى) متعجباً مما طلبوه ومؤكداً أنه بشرٌ لا يملك تنفيذ مطلبهم: (هل كنت إلا بشراً رسولاً)(5).(8/19)
أما قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليست له معجزة فهو قول يعبر عن الجهل والحمق جميعاً.
حيث ثبت في صحيح الأخبار معجزات حسية تمثل معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاءت الرسل بالمعجزات من عند ربها؛ منها نبع الماء من بين أصابعه، ومنها سماع حنين الجذع أمام الناس يوم الجمعة، ومنها تكثير الطعام حتى يكفي الجم الغفير، وله معجزة دائمة هي معجزة الرسالة وهى القرآن الكريم الذي وعد الله بحفظه فَحُفِظَ، ووعد ببيانه؛ لذا يظهر بيانه في كل جيل بما يكتشفه الإنسان ويعرفه.
(1) انظر صحيح البخاري ج9 ص 38، طبعة التعاون.
(2) فتح الباري ج12 ص 376.
(3) الإسراء: 93.
(4) الشعراء: 3.
(5) الإسراء: 93.
-------------------
(8) ولادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عادية
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
لأن ولادة السيد المسيح ـ عليه السلام ـ تمت على هبة من الله تبارك وتعالى للسيدة العذراء مريم ـ عليها السلام ـ وليس من خلال الزواج بينها وبين رجل. فبعض أهل الكتاب (النصارى منهم خاصة) يتصورون أن كل نبي لا بد أن يولد بمثل هذه الطريقة.
وإذا كانت ولادة محمد صلى الله عليه وسلم مثل غيره من ملايين خلق الله فإن هذا عندهم مما يعيبونه به صلى الله عليه وسلم ويطعنون في صحة نبوته.
1- فلم يدركوا أن بشرية محمد صلى الله عليه وسلم هي واحدة من القسمات التي شاركه فيها كل رسل الله تعالى منذ نوح وإبراهيم وغيرهما من بقية رسل الله إلى موسى ـ عليه السلام ـ الذين ولدوا جميعاً من الزواج بين رجل وامرأة. ولم يولد من غير الزواج بين امرأة ورجل إلا عيسى ـ عليه السلام ـ وكان هذا خصوصية له لم تحدث مع أي نبي قبله، ولم تحدث كذلك مع محمد صلى الله عليه وسلم.
2- كانت ولادة محمد صلى الله عليه وسلم إعلاناً لكونه بشراً من البشر يولد كما يولد البشر ويجرى عليه من الأحوال في أكله وشربه، وفي نومه وصحوه، وفي رضاه وغضبه وغير ذلك مما يجرى على البشر كالزواج والصحة والمرض والموت أيضاً.
3- كان محمد صلى الله عليه وسلم يعتز بهذه البشرية ويراها سبيله إلى فهم الطبيعة البشرية وإدراك خصائصها وصفاتها فيتعامل معها بما يناسبها، وقد اعتبر القرآن ذلك ميزة له في قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم)(1).
4- كما أعلن محمد صلى الله عليه وسلم اعتزازه بهذه البشرية وعجزها حين أعلن قومه أنهم لن يؤمنوا به إلا إذا فجّر لهم ينابيع الماء من الأرض، أو أن يكون له بيت من زخرف، أو أن يروه يرقى في السماء وينزل عليهم كتاباً يقرأونه، فكان رده صلى الله عليه وسلم كما حكاه القرآن: (قل سبحان ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً)(2).
5- لقد قرر القرآن قاعدة كون الرسل من جنس من يرسلون إليهم؛ بمعنى أن يكون المرسلون إلى الناس بشراً من جنسهم، ولو كان أهل الأرض من جنس غير البشر لكانت رسل الله إليهم من نفس جنسهم وذلك في قوله تعالى: (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً)(3).
وعلى المعنى نفسه جاءت دعوة إبراهيم عليه السلام: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك)(4). وقوله تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا)(5). وقوله تعالى: (لقد مَنّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم)(6). وقوله تعالى: (فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله..)(7). وقوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم)(8).
وغير هذا كثير مما أكده القرآن وهو المنطق والحكمة التي اقتضتها مشيئته ـ تعالى ـ لما هو من خصائص الرسالات التي توجب أن يكون المرسل إلى الناس من جنسهم حتى يحسن إبلاغهم بما كلفه الله بإبلاغه إليهم وحتى يستأنسوا به ويفهموا عنه.
ومن هنا تكون "بشرية الرسول" بمعنى أن يجري عليه ما يجري على الناس من البلاء والموت ومن الصحة والمرض وغيرها من الصفات البشرية فيكون ذلك أدعى لنجاح البلاغ عن الله.
-------------------------------
(1) التوبة: 128.
(2) الإسراء: 93.
(3) الإسراء: 95.
(4) البقرة: 195.
(5) البقرة 151.
(6) آل عمران: 164.
(7) المؤمنون: 32.
(8) الجمعة: 2.
---------------------
(9) يحتاج محمد صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة عليه
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
الحق أن الصلاة على محمد، صلى الله عليه وسلم، من ربه ومن المؤمنين ليست دليل حاجة، بل هي مظهر تكريم واعتزاز وتقدير له من الحق سبحانه، وتقديرًا له من أتباعه، وليست كما يزعم الظالمون لسد حاجته عند ربه؛ لأن ربه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.(8/20)
لأن أية مقارنة منصفة بين ما كان عليه، صلى الله عليه وسلم، وبين غيره من أنبياء الله ورسله ترتفع به ليس فقط إلى مقام العصمة؛ بل إلى مقام الكمال الذي أتم به الله الرسالات، وأتم به التنزيل، وأتم به النعمة، فلم تعد البشرية بعد رسالته، صلى الله عليه وسلم، بحاجة إلى رسل ورسالات.
لذلك فإن رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي الخاتمة والكاملة حملت كل احتياجات البشرية وما يلزمها من تشريعات ونُظم ومعاملات، وما ينبغي أن تكون عليه من أخلاق وحضارة مما افتقدت مثل كماله كل الرسالات السابقة.
وحسبُ رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، أنها جاءت رحمة عامة للبشرية كلها، كما قال القرآن: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(1).
فلم تكن كما جاء ما قبلها رسالة خاصة بقوم رسولهم، كما قال تعالى:
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ)(2).
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ)(3).
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ)(4).
وهكذا كل رسول كان مرسلاً إلى قومه..
وكانت رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى العالمين وإلى الناس كافة، كما جاء في قوله تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(5).
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيرًا)(6).
ورسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت فوق كونها عالمية، فقد كانت هي الخاتمة والكاملة التي ـ كما أشرنا ـ تفي باحتياجات البشر جميعاً، وتقوم بتقنين وتنظيم شئونهم المادية والمعنوية عبر الزمان والمكان بكل ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة.
وفي هذا قال الله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)(7).
وقال في وصفه لإكمال الدين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم (الإسلام): (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً)(8).
إن عموم رسالة محمد إلى العالمين، وباعتبارها الرسالة الكاملة والخاتمة؛ يعني امتداد دورها واستمرار وجودها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ مصداقاً لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)(9).
-------------------------------
(1) الأنبياء: 107.
(2) الأعراف: 65.
(3) الأعراف: 72.
(4) الأعراف: 85.
(5) الأنبياء: 107.
(6) سبأ: 28.
(7) الأحزاب: 40.
(8) المائدة: 3.
(9) التوبة: 33 ، الفتح: 28 ، والصف: 9.
----------------------
(10) محمد صلى الله عليه وسلم أُمّي فكيف علّم القرآن؟!
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
والأمّي إما أن يكون المراد به من لا يعرف القراءة والكتابة أخذًا من " الأمية "، وإما أن يكون المراد به من ليس من اليهود أخذًا من " الأممية "؛ حسب المصطلح اليهودي الذي يطلقونه على من ليس من جنسهم.
فإذا تعاملنا مع هذه المقولة علمنا أن المراد بها من لا يعرف القراءة والكتابة فليس هذا مما يعاب به الرسول، بل لعله أن يكون تأكيدًا ودليلاً قويًا على أن ما نزل عليه من القرآن إنما هو وحي أُوحي إليه من الله لم يقرأه في كتاب ولم ينقله عن أحد ولا تعلمه من غيره. بهذا يكون الاتهام شهادة له لا عليه.
وقد ردّ القرآن على هذه المقولة ردًا صريحًا في قوله:
(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً)(1).
وحسبُ النبي الأمي ـ الذي لا يعرف القراءة ولا الكتابة ـ أن يكون الكتاب الذي أُنزل عليه معجزًا لمشركي العرب وهم أهل الفصاحة والبلاغة؛ بل ومتحديًا أن يأتوا بمثله أو حتى بسورة من مثله.
كفاه بهذا دليلاً على صدق رسالته وأن ما جاء به ـ كما قال بعض كبارهم ـ " ليس من سجع الكهان، ولا من الشعر، ولا من قول البشر ".
أما إذا تعاملنا مع مقولتهم عن محمد (إنه " أمّي " على معنى أنه من الأمميين ـ أي من غير اليهود ـ فما هذا مما يعيبه. بل إنه لشرف له أنه من الأمميين أي أنه من غير اليهود.
ذلك لأن اعتداد اليهود بالتعالي على من عداهم من " الأمميين "، واعتبار أنفسهم وحدهم هم الأرقى والأعظم وأنهم هم شعب الله المختار ـ كما يزعمون. كل هذا مما يتنافي تمامًا مع ما جاء به محمد (من المساواة الكاملة بين بني البشر رغم اختلاف شعوبهم وألوانهم وألسنتهم على نحو ما ذكره القرآن؛ الذي اعتبر اختلاف الأجناس والألوان والألسنة هو لمجرد التعارف والتمايز؛ لكنه ـ أبدًا ـ لا يعطي تميزًا لجنس على جنس، فليس في الإسلام ـ كما يزعم اليهود ـ أنهم شعب الله المختار.(8/21)
ولكن التمايز والتكريم في منظور الإسلام إنما هو بالتقوى والصلاح؛ كما في الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(2).
00000000000000000
(1) الفرقان: 5 – 6.
(2) الحجرات: 13.
-----------------------
(11) تعلّم محمد صلى الله عليه وسلم من غيره
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
وهى من أسوأ المفتريات على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال ربه عز وجل عنه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(1).
لكن الحقد حين يتمكن من قلوب الحاقدين يدفعهم إلى المنكر من القول ومن الزور؛ حتى إنهم ليتجرءون على قولٍ لا يقبله عقل عاقل، ولا يجرؤ على مثله إلا المفترون.
في هذه المقولة زعموا أنه حين كان ينزل عليه الوحي بالآيات التي أثبت العلم الحديث المعاصر أنها من أبرز آيات الإعجاز العلمي في القرآن فيما تتصل بمراحل خلق الإنسان من سلالة من طين ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلقة ثم يكون إنشاؤه خلقًا آخر..
زعموا أن كاتب وحيه قال مادحًا مَنْ هذا خلقه: ( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)(2).
ثم أفرطوا في زعمهم؛ فقالوا إن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: اكتبها فهكذا نزلت علىّ..
وهنا لابد من وقفة:
فأولاً: مما هو ثابت أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا نزل عليه الوحي يأخذ العرق يتصبب من جسده، ويكون في غيبة عمن حوله.. فإذا انقضى الوحي أخذ في ذكر وتلاوة ما نزل عليه من القرآن، وهذا ما تقرّره كل كتب السيرة.
ثانياً: معنى ما سبق أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يأخذ في الإملاء على كاتب وحيه إلا بعد اكتمال نزول الوحي، واكتمال نزول الآيات المتعلقة بمراحل خلق الإنسان في سورة " المؤمنون ".
ثالثًا: وبهذا يتضح كذب المقولة أن كاتب وحيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي أملاها عليه وأنه أمر بإثباتها.
رابعًا: إن لفظة " تبارك الله " تكررت في القرآن الكريم تسع مرات، تلتقي جميعها في مواضع يكون الحديث فيها عن قدرة الخالق فيما خلق من مثل قوله تعالى:
(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(3).
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً)(4).
(تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً)(5).
(وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا)(6).
(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(7).
فلماذا تعلّم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من كاتب وحيه آية " المؤمنون " دون غيرها مما جاء في بقية السور؟!!
0000000000000000000
(1) النجم: 3 ـ 4.
(2) المؤمنون: 14.
(3) الأعراف: 55.
(4) الفرقان: 1.
(5) الفرقان: 61.
(6) الزخرف: 85.
(7) الملك: 1.
-----------------------
(12) محمد صلى الله عليه وسلم يُعظّم الحجر الأسود
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
إنهم في هذه المقولة ـ يريدون أن يتهموه بأنه كان يُعظّم الحجر الأسود ـ بل ويُعظّم الكعبة كلها بالطواف حولها، وهي حجر لا يختلف ـ في زعمهم ـ عن الأحجار التي كانت تُصنع منها الأوثان في الجاهلية، وكأن الأمر سواء!!
وحقيقة الأمر أن من بعض ما استبقاه الإسلام من أحوال السابقين ما كان فيه من تعاون على خير أو أمر بمعروف ونهي عن منكر، من ذلك ثناء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حِلف كان في الجاهلية يسمى " حِلف الفضول "، وهو عمل إنساني كريم كان يتم من خلاله التعاون على نصرة المظلوم، وفداء الأسير، وإعانة الغارمين، وحماية الغريب من ظلم أهل مكة، وهكذا..
وقد أثنى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على هذا الحلف، وقال: "لو دعيت إلى مثله لأجبت".
وأيضًا كان مما استبقاه الإسلام من فضائل السابقين مما ورثوه عن إبراهيم - عليه السلام - تعظيمهم للبيت الحرام وطوافهم به؛ بل وتقبيلهم للحجر الأسود.
وهناك بعض مرويات تقول إن هذا الحجر من أحجار الجنة.
وهنا فقط لا يكون أمامنا إلا ما ثبت من أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُقبل الحجر الأسود عند طوافه بالبيت، وهو ما تنطق به الرواية عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال عن تقبيله لهذا الحجر: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبلك ما قبلتك).
وهنا نقول:
من المستحيل أن يكون تقبيل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للحجر الأسود من باب المجاراة أو المشاكلة لعبدة الأصنام فيما كانوا يفعلون.(8/22)
ومستحيل أيضًا أن يكون ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد فعل ذلك - أي تقبيل الحجر الأسود - دون وحي أو إلهام وجّهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى تقبيل الحجر بعيدًا بعيدًا عن أية شبهة وثنية أو مجاراة لعبدة الأصنام.
ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: [خذوا عنى مناسككم]؛ فقد أصبح تقبيل الحجر الأسود من بعض مناسك الحجاج والعمّار للبيت الحرام.
كما أن تعظيم الحجر الأسود هو امتثال لأوامر الله الذي أمر بتعظيم هذا الحجر بالذات، وهو سبحانه الذي أمر برجم حجر آخر كمنسك من مناسك الحج؛ فالأمر بالنسبة للتعظيم أو الرجم لا يعدو كونه إقرارًا بالعبودية لله تعالى وامتثالاً لأوامره عز وجل واستسلامًا لأحكامه.
-----------------------
(13) كاد محمد صلى الله عليه وسلم أن يفتن
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
أخذوا ذلك من فهم مغلوط لآيات سورة الإسراء: ( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً )(1).
بعض ما قيل في سبب نزول هذه الآية أن وفد ثقيف قالوا للرسول، صلى الله عليه وسلم، أجّلنا سنة حتى نقبض ما يُهدى لآلهتنا من (الأصنام)، فإذا قبضنا ذلك كسّرناها وأسلمنا؛ فهَمّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقبول ذلك فنزلت الآية.
قوله تعالى: " كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ " أي هممت أو قاربت أن تميل لقبول ما عرضوه عليك؛ لولا تثبيت الله لك بالرشد والعصمة، ولو فعلت لعذبناك ضعف عذاب الحياة وعذاب الممات؛ يعني: قاربت أن تستجيب لما عرضوه، لكنك بتثبيت الله لم تفعل لعصمة الله لك.
وكل مَنْ هُمْ على مقربة من الثقافة الإسلامية يعرفون أن " الهمّ " ـ أي المقاربة لشيء دون القيام به أو الوقوع فيه ـ لا يُعتبر معصية ولا جزاء عليه، وهو مما وضِع عن الأمة وجاء به ما صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قوله:
(وضِع عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به)؛ وعليه.. فإنه لا إثم ولا شيء يُؤخذ على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك.
000000000000000000
(1) الإسراء: 73-75.
------------------------
(14) قَاتَلَ محمد صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
وذلك لما ورد في آيات سورة البقرة:
(يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (1).
والمسلمون جميعاً وعلى رأسهم إمامهم ورسولهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم أحفظ الناس لحرمة الأشهر الحرم وعدم القتال فيها، واعتبار القتال فيها حدثًا كبيرًا أو كأنه كبيرة من الكبائر..
لكن ما الذي يفعله المسلمون إذا ما ووجِهوا من أعدائهم من المشركين بالقتال والعدوان على الأنفس والأموال والأعراض، ليس هذا فحسب بل ماذا يفعل المسلمون إذا فوجئوا بمن يخرجهم من المسجد الحرام وهم أهله وهم أولى به من غيرهم ؟!
إن قانون " الدفع الحضاري " الذي يقره القرآن الكريم لحماية الكون من إفساد المتجبرين والظلمة، ثم لحماية بيوت العبادة للمسلمين والنصارى واليهود أيضًا، والذي عبّرت عنه الآيتان الكريمتان: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)(2). وقوله: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(3). هذا القانون القرآني ـ وليس قانون من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر ـ هو وحده الذي يحمي الكون والناس من إفساد المتجبرين وظلم الظالمين.
وذلك على أساس أن من يمكّن الله لهم في الأرض بما يمنحهم من القوة والثروة والعلم يجب - وبحسب القانون القرآني - أن يكونوا صالحين وأخيارًا؛ بمعنى: أن يستخدموا قوتهم وثروتهم وعلمهم لا في الطغيان والتجبر، ولكن في حماية القيم النبيلة التي يُحمى بها العدل والحق وتمكّن لكل ما هو خير، وتنفي كل ما هو شر حتى تنعم البشرية بالأمن والاستقرار، وتعتدل أمور الحياة والناس.(8/23)
وهذا ما جاءت الآية التالية للآيتين السابقتين لتقره؛ حيث يقول الله عز وجل: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(4).
ولأن إقرار حقوق عباد الله في أرض الله وحماية المستضعفين من بطش المتجبرين لا يقل حرمة عند الله من حرمة الأشهر الحرم؛ فقد أبيح القتال فيها لمن ظُلموا من المسلمين ومن فُتنوا في دينهم وأُخرجوا من ديارهم ظلمًا وعدوانًا.
وهذا ما تقرره الآية: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)(5).
0000000000000000
(1) البقرة: 217.
(2) البقرة: 251.
(3) الحج: 40.
(4) الحج: 41.
(5) البقرة: 217.
------------------------
(15) محمد صلى الله عليه وسلم مذنب كما في القرآن
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
أخذوها من فهمهم الخاطئ في مفتتح سورة "الفتح": (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطًا مستقيمًا)(1). فقالوا: كتاب محمد يعترف عليه ويصفه بأنه مذنب!!
وسيرة محمد سيد الخلق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم كتاب كبير مفتوح استوفي فيه كُتَّاب سيرته كل شيء في حياته. في صحوه ونومه وفي حربه وسلمه، وفي عبادته وصلواته، في حياته مع الناس بل وفي حياته بين أهله في بيته.
ليس هذا فحسب, بل إن صحابته حين كانوا يروون عنه حديثًا أو يذكرون له عملاً يصفونه صلى الله عليه وسلم وصفًا بالغ الدقة وبالغ التحديد لكافة التفاصيل حتى ليقول أحدهم: قال صلى الله عليه وسلم كذا وكان متكئاً فجلس، أو قال كذا وقد امتلأ وجهه بالسرور وهذا ما يمكن وصفه بلغة عصرنا: إنه تسجيل دقيق لحياته صلى الله عليه وسلم بالصوت والصورة..
ثم جاء القرآن الكريم فسجّل له شمائله الكريمة فقال عنه: إنه الرحمة المهداة إلى عباد الله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(2). ووصفه بأنه الرؤوف الرحيم بمن أرسل إليهم: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)(3). ثم لخص القرآن مجمل شمائله صلى الله عليه وسلم في قوله: (وإنك لعلى خلق عظيم)(4).
أكثر من هذا أن تكفل القرآن بإذاعة حتى ما هو من خلجات الرسول وحديث نفسه الذي بينه وبين الله مما لا يطلع الناس عليه على نحو ما جاء في سورة الأحزاب في أمر الزواج بزينب بنت جحش, والذي كان القصد التشريعي فيه إبطال عادة التبني من قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذ قضوا منهن وطرًا و كان أمر الله مفعولاً)(5).
أقول: مع أن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم هي كتاب مفتوح لم يخفِ التاريخ منه شيئاً, بل وتدخل القرآن ليكشف حتى ما يحدث به نفسه صلى الله عليه وسلم مما لا يطلع عليه الناس، ولم يذكر له صلى الله عليه وسلم ذلةً ولا ذنبًا في قول أو عمل.
أفبعد هذا لا يتورع ظالموه من أن يقولوا: إنه "مذنب"؟!!!
ولو كان هؤلاء الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم على شيء من سلامة النظر وصفاء القلوب لانتبهوا إلى بقية سورة الفتح، والتي كانت كلها تثبيتاً للمؤمنين وللرسول وتبشيرًا لهم بالتأييد والنصر.. لو كان محمد صلى الله عليه وسلم - كما ادعيتم – من المذنبين والعاصين لكان من المستحيل أن يجعله الله تعالى ممن يؤيدهم بنوره ويتم عليهم نعمته ويهديهم صراطًا مستقيماً؛ لأن النصر يكون للصالحين لا للمذنبين.
ونقف أمام الذنب في منطوق الآية: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر), فالذنب هنا ليس مما تعارف عليه الناس من الخطأ والآثام؛ لأن سنة الله تبارك وتعالى هي عصمة جميع أنبيائه وفي قمتهم خاتمهم صلى الله عليه وسلم. وهذا مما يعرفه ويقرّه ويقرره أتباع كل الرسالات إلا قتلة الأنبياء ومحرّفي الكلم عن مواضعه من اليهود الذين خاضوا في رسل الله وأنبيائه بما هو معروف.
فالذنب هو ما يمكن اعتباره ذنباً على مستوى مقام نبوته صلى الله عليه وسلم ذنبًا مما تقدره الحكمة الإلهية, لا ما تحدده أعراف الناس.
ومع هذا كله فإن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كانت محل تقدير قومه وإكبارهم له لما اشتهر به صلى الله عليه وسلم من العفة والطهر والتميز عن جميع أترابه من الشباب, حتى كان معروفًا بينهم بالصادق الأمين.(8/24)
أفبعد هذا لا يستحي الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم والحاقدون عليه من أهل الكتاب أن يقولوا: إنه مذنب؟!! (كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا)(6).
000000000000000
(1) الفتح: 2.
(2) الأنبياء 117.
(3) التوبة: 128.
(4) القلم: 5.
(5) الأحزاب: 37.
(6) الكهف: 5.
-------------------------
(16) محمد صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحل الله
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
استند الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم في توجيه هذا الاتهام إلى ما جاء في مفتتح سورة التحريم من قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم)(1).
وهذه الآية وآيات بعدها تشير إلى أمر حدث في بيت النبي صلى الله عليه وسلم عاتبته نساؤه وتظاهرن عليه بدوافع الغيرة المعروفة عن النساء عامة؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم قد دخل عند إحداهن وأكل عندها طعامًا لا يوجد في بيوتهن، فأسر إلى إحداهن بالأمر فأخبرت به أخريات فعاتبنه فحرّم صلى الله عليه وسلم تناول هذا الطعام على نفسه ابتغاء مرضاتهن. والواقعة صحيحة لكن اتهام الرسول بأنه يحرّم ما أحل الله هو تصيّد للعبارة وحمل لها على ما لم ترد له..
فمطلع الآية (لم تحرم ما أحل الله لك) (هو فقط من باب "المشاكلة" لما قاله النبي لنسائه ترضية لهن؛ والنداء القرآني ليس اتهامًا له صلى الله عليه وسلم بتحريم ما أحل الله؛ ولكنه من باب العتاب له من ربه سبحانه الذي يعلم تبارك وتعالى أنه صلى الله عليه وسلم يستحيل عليه أن يحرّم شيئًا أو أمرًا أو عملاً أحلّه الله؛ ولكنه يشدد على نفسه لصالح مرضاة زوجاته من خلقه العالي الكريم.
ولقد شهد الله للرسول بتمام تبليغ الرسالة فقال: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين)(2).
وعليه فالقول بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم يحرّم ما أحل الله من المستحيلات على مقام نبوته التي زكّاها الله تبارك وتعالى وقد دفع عنه مثل ذلك بقوله: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى)(3).
فمقولة بعضهم أنه يحرّم هو تحميل اللفظ على غير ما جاء فيه، وما هو إلا وعد أو عهد منه صلى الله عليه وسلم لبعض نسائه, فهو بمثابة يمين له كفارته ولا صلة له بتحريم ما أحل الله.
00000000000
(1) التحريم: 1.
(2) الحاقة: 44- 47.
(3) النجم: 3- 4.
-------------------------
(17) الشيطان يوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم
أ.د محمود حمدي زقزوق
الرد على الشبهة:
الظالمون لمحمد صلى الله عليه وسلم يستندون في هذه المقولة إلى أكذوبة كانت قد تناقلتها بعض كتب التفسير من أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصلاة بالناس سورة "النجم", فلما وصل صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى* ومناة الثالثة الأخرى)(1)؛ تقول الأكذوبة:
إنه صلى الله عليه وسلم قال: ـ حسب زعمهم ـ تلك الغرانيق(2) العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
ثم استمر صلى الله عليه وسلم في القراءة ثم سجد وسجد كل من كانوا خلفه من المسلمين, وأضافت الروايات أنه سجد معهم من كان وراءهم من المشركين!!
وذاعت الأكذوبة التي عرفت بقصة "الغرانيق" وقال - من تكون إذاعتها في صالحهم-: إن محمداً أثنى على آلهتنا وتراجع عما كان يوجهه إليها من السباب. وإن مشركي مكة سيصالحونه وسيدفعون عن المؤمنين به ما كانوا يوقعونه بهم من العذاب.
وانتشرت هذه المقولة حتى ذكرها عدد من المفسرين؛ حيث ذكروا أن المشركين سجدوا كما سجد محمد صلى الله عليه وسلم, وقالوا له: ما ذكرت آلهتنا بخير قبل اليوم. ولكن هذا الكلام باطل لا أصل له.
وننقل هنا عن الإمام ابن كثير في تفسيره الآيات التي اعتبرها المرتكز الذي استند إليه الظالمون للإسلام ورسوله وهي في سورة الحج حيث تقول: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم)(3), وبعد ذكره للآيتين السابقتين يقول: "ذكر كثير من المفسرين هنا قصة الغرانيق وما كان من رجوع كثير ممن هاجروا إلى الحبشة, ظنًّا منهم أن مشركي مكة قد أسلموا".(8/25)
ثم أضاف ابن كثير يقول: "ولكنها - أي قصة "الغرانيق" - من طرق كثيرة مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح، ثم قال ابن كثير(4): عن ابن أبى حاتم بسنده إلى سعيد بن جبير قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة "سورة النجم", فلما بلغ هذا الموضع: (أفرأيتم اللات والعزّى * ومناة الثالثة الأخرى). قال ابن جبير: فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم.. فأنزل الله هذه الآية: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عزيز حكيم) ليقرر العصمة والصون لكلامه سبحانه من وسوسة الشيطان".
وربما قيل هنا: إذا كان الله تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم آياته فلماذا لم يمنع الشيطان أصلاً من إلقاء ما يلقيه من الوساوس في أمنيات الأنبياء؟! والجواب عنه قد جاء في الآيتين اللتين بعد هذه الآية مباشرة:
أولاً: ليجعل ما يلقيه الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض من المنافقين والقاسية قلوبهم من الكفار, وهو ما جاء في الآية الأولى منهما: (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض)(5).
ثانياً: ليميز المؤمنين من الكفار والمنافقين, فيزداد المؤمنون إيمانًا على إيمانهم؛ وهو ما جاء في الآية الثانية: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم)(6).
هذا: وقد أبطل العلماء قديمًا وحديثًا قصة الغرانيق. ومن القدماء الإمام الفخر الرازي الذي قال ما ملخصه(7): "قصة الغرانيق باطلة عند أهل التحقيق, وقد استدلوا على بطلانها بالقرآن والسنة والمعقول؛ أما القرآن فمن وجوه: منها قوله تعالى: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين)(8), وقوله سبحانه: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى)(9), وقوله سبحانه حكاية عن رسوله صلى الله عليه وسلم: (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليّ)(10).
وأما بطلانها بالسنة فيقول الإمام البيهقى: روى الإمام البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة "النجم" فسجد وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيها حديث "الغرانيق", وقد روى هذا الحديث من طرق كثيرة ليس فيها البتة حديث الغرانيق.
فأما بطلان قصة "الغرانيق" بالمعقول فمن وجوه منها:
أ ـ أن من جوّز تعظيم الرسول للأصنام فقد كفر؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه صلى الله عليه وسلم كان لنفي الأصنام وتحريم عبادتها؛ فكيف يجوز عقلاً أن يثني عليها؟!
ب ـ ومنها: أننا لو جوّزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا فرق - في منطق العقل - بين النقصان في نقل وحى الله وبين الزيادة فيه.
0000000000000000
(1) النجم: 19 -20.
(2) المراد بالغرانيق: الأصنام؛ وكان المشركون يسمونها بذلك تشبيهًا لها بالطيور البيض التي ترتفع في السماء.
(3) الحج: 52.
(4) عن: التفسير الوسيط للقرآن لشيخ الأزهر د. طنطاوى ج9 ص 325 وما بعدها.
(5) الحج: 53.
(6) الحج: 54.
(7) التفسير السابق: ص 321.
(8) الحاقة: 44 ـ 47.
(9) النجم: 3- 4.
(10) يونس: 15.
------------------------
(18) عصمة الرسول – صلى الله عليه وسلم –
د. سلمان بن فهد العودة
السؤال:
لقد تناقشت مع أحد الإخوة في مسألة عصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان مما قلته له: إنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من كل زلل، وذلك الأخ - غفر الله لنا وله - أنكر عليَّ هذا، وأورد عليَّ قصته - صلى الله عليه وسلم - مع (ابن أم مكتوم) في (عبس وتولّى). حقيقة يا شيخي لم أجد جواباً، فأسعفنا بعلمك - دلنا الله وإياك إلى سبيل الرشاد - وأفتنا في هذا الأمر الذي أشكل علينا!!
الجواب:(8/26)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - معصوم فيما يبلغ عن الله؛ لقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) [النجم : 3-4]. ولهذا قال تعالى: (ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين)، [الحاقة : 44-47]. والأدلة في هذا المعنى متوافرة متكاثرة متواترة على أنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم فيما يبلغ عن ربه - عز وجل - لا يقع منه خلاف ذلك لا عمداً ولا سهواً. ولا يشكل على هذا ما ورد في قصة الغرانيق المشهورة – التي أخرجها الضياء في المختارة (247) فهو إفك مفترى، وباطل مفتعل، والكلام في سورة الحج، وبيان حقيقة معناها له موضع آخر غير هذا، ولا يشكل عليه أيضاً كونه - صلى الله عليه وسلم - ينسى الآية أحيانًا، فإن هذا ليس نسياناً مطبقاً مطلقاً، بمعنى أنه لا يتذكرها، كلا، بل هو قد قرأها وحفّظها أصحابه، ودونها الكُتّاب، ولكنها عزبت عنه تلك اللحظة فأسقطها، أو وقف يتذكرها، وهذه جِبلّة بشرية، ولهذا قال تعالى: (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى) [الأعلى: 6-7]. فهذا مما شاء الله، ومما شاء الله أن ينساه - صلى الله عليه وسلم-. ما نسخت تلاوته من آي القرآن الكريم.
أما ما اجتهد فيه -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يقر إلا على صواب، ولذلك "عوتب في شأن الأسرى ببدر (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض...) الآية، [الأنفال 67]). انظر الترمذي (3084) عن عبد ا لله بن مسعود، وأبو داود (2690) عن عبد الله بن عباس.
وعوتب في شأن ابن أم مكتوم: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) [عبس: 1-2]. انظر الترمذي (3331) عن عائشة.
وعوتب في شأن زيد بن حارثة وزينب بنت جحش (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه...) الآية، [الأحزاب: 37]، انظر البخاري (4887) عن أنس.
فكان - صلى الله عليه وسلم - يعلن ذلك لأصحابه، ويحفظه لهم، ويتلوه عليهم، ويتعبدهم بتلاوته، ولم يعبأ بمقالة اليهود والمنافقين، ولا باضطراب ضعفاء النفوس؛ لأن دين الله أعظم من ذلك كله، وهذا من أعظم كمالاته التي حلاّه الله بها، وقال: (وإنك لعلى خلق عظيم) [القلم: 4].
فصلى الله وسلم وبارك عليه، وأدخلنا في شفاعته، وأوردنا حوضه، وارزقنا اتباعه ومحبته وإياكم وجميع المسلمين.
--------------------------
(19) عصمة الرسول – صلى الله عليه وسلم
د.مساعد بن سليمان الطيار
السؤال:
فيما يتعلق بعصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم-، هل هو معصوم من الخطأ؟ أو معنى العصمة هنا أن الله عصمه من الناس -صلى الله عليه وسلم-، وإذا كان معصوماً من الخطأ صلوات ربي وسلامه عليه، فما هو التفسير الصحيح لحادثة الأعمى التي نزل فيها قول الله –تعالى- "عبس وتولى" وجزاكم الله خير ونفع بكم.
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد:(8/27)
فإنَّ القول بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقع منه خطأ، مخالف لظاهر القرآن؛ لأن الله سبحانه ـ الذي أرسله بالحق، وهو أعلم به ـ قد عاتبه في غير ما آية، ولا يكون العتاب إلا بسبب وقوع خطأ منه -صلى الله عليه وسلم- وقد يستعظم بعض الناس القول بهذا، زاعمًا أن ذلك ينقص من قدر النبي -صلى الله عليه وسلم- وليس الأمر كذلك؛ فحق الله أعظم، والإيمان بكلامه الذي نقله الرسول -صلى الله عليه وسلم- أولى من هذا الزعم، ولو كان في هذه العتابات الإلهية له ما ينقص من قدره لما ذكرها الله –سبحانه- في حقِّ خليله محمد -صلى الله عليه وسلم- والمسلم مطالب بالأخذ بظاهر القرآن، ومن تأول مثل هذه العتابات الإلهية فإنه سيقع في التحريف والتكذيب بخبر الله –سبحانه- وقد ذكرت في كتابي "تفسير جزء عمَّ" تعليقًا على قوله –تعالى- :"وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ" [الشرح: 2 ـ 3] ما يتعلق بأمر العصمة، وهذا نصُّه : "قال : مجاهد من طريق ابن أبي نجيح : "ذنبك"، قال قتادة من طريق سعيد ومعمر: (كانت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ذنوب قد أثقلته، فغفرها الله له)، وكذا قال ابن زيد. وهذه مسألة تتعلق بالعصمة، وللناس فيها كلام كثير، وأغلب الكلام فيها عقلي لا يعتمد على النصوص، وهذا النص صريح في وقوع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في شيء من الذنوب التي قد غفرها الله له، ولكن لم يبيِّن الله نوع هذه الذنوب، ولذا فلا تتعدى ما أجمله الله في هذه النصِّ، وقُلْ به تسلمْ .ولا تفترض مصطلحاً للعصمة من عقلك تحمل عليه أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتدخل بذلك في التأويلات السمجة التي لا دليل عليها من الكتاب ولا السنة؛ كما وقع من بعضهم في تأويل قوله –تعالى-: "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" [الفتح : 2 ]، قال : ما تقدم : ذنب أبيك آدم، وما تأخر: من ذنوب أمتك، وانظر الشبه بين هذا القول وبين قول النصارى في الخطيئة، فالله يقول: "ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك"، وهذا يقول هو ذنب غيره ! والله المستعان". واعلم أنَّ في الرسول جانبان : جانب بشري، وجانب نبوي، أمّا الجانب البشري فهو فيه كالبشر: يحب ويكره، ويرضى ويغضب، ويأكل ويشرب، ويقوم وينام … إلخ، مع ما ميَّزه الله به في هذا الجانب في بعض الأشياء؛ كسلامة الصدر، والقوة في النكاح، وعدم نوم القلب، وغيرها من الخصوصات التي تتعلق بالجانب البشري. ومن هذا الجانب قد يقع من النبي – صلى الله عليه وسلم - بعض الأخطاء التي يعاتبه الله عليها، ولك أن تنظر في جملة المعاتبات الإلهية للنبي – صلى الله عليه وسلم -؛ كعتابه بشأن أسرى بدر، وعتابه بشأن زواجه من زينب – رضي الله عنها -، وعتابه في عبد الله بن أم مكتوم – رضي الله عنه -، وغيرها، وقد نصَّ الله على هذا الجانب في الرسل جميعهم صلوات الله وسلامه عليهم، ومن الآيات في ذلك : "قل سبحان ربي هل كنت إلاَّ بشراً رسولاً " [الإسراء : 93]، ومن الأحاديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، من حق له أخيه شيئاً، فلا يأخذ، فإنما أقطع له من النار" (رواه البخاري (6967)، ومسلم (1713)من حديث أم سلمة –رضي الله عنها-. وتكمن العصمة في هذا الجانب في أنَّ الله يُنبِّه نبيه – صلى الله عليه وسلم - على ما وقع منه من خطأ، وهذا ما لا يتأتَّى لأحد من البشر غيره، فتأمله فإنه من جوانب العصمة المُغفلة . وأما الجانب النبوي، وهو جانب التبليغ، فإنه لم يرد البتة أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم - خالف فيه أمر الله؛ كأن يقول الله له: قل لعبادي يفعلوا كذا فلا يقول لهم، أو يقول لهم خلاف هذا الأمر، وهذا لو وقع فإنه مخالف للنبوة، ولذا لما سُحِرَ النبي – صلى الله عليه وسلم - لم يُؤثِّر هذا السِّحْرُ في الجانب النبوي، بل أثَّر في الجانب البشري انظر ما رواه البخاري (3268)، ومسلم (2189) من حديث عائشة – رضي الله عنها-، ومن ثَمَّ فجانب التبليغ في النبي – صلى الله عليه وسلم - معصوم، ويدل على هذا الجانب قوله تعالى : "وما ينطق عن الهوى، إن هو إلاَّ وحي يوحى" [النجم: 3-4] الله أعلم.
--------------------------
(20) شبهةٌ تعري النبي صلى الله عليه وسلم أثناء بناءِ الكعبةِ
أبو عبد العزيز سعود الزمانان
في الصحيحين من حديث جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يُحَدِّثُ: "أَنَّ رَسُولَ اللّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ، وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ. فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ، عَمَّهُ: يَا ابْنَ أَخِي! لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ، فَجَعَلْتَهُ عَلَى مَنْكِبِكَ، دُونَ الْحِجَارَة. قَالَ: فَحَلَّهُ، فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبِهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ. قَالَ فَمَا رُؤيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ عُرْيَاناً".(8/28)
وبدأ أهل البدع يشنعون؛ كيف تعرى النبي – صلى الله عليه وسلم – فهذا كذب على النبي – صلى الله عليه وسلم – كما يزعمون, والرد على هؤلاء يكون بما يأتي:
أولاً: هذا الحديث صحيح الإسناد لا غبار عليه, فقد أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (364) كتاب الصلاة – باب كراهية التعري في الصلاة وغيرها.
فهذا الحديث قبل بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال الزهري – رحمه الله-: "لما بنت قريش الكعبة لم يبلغ النبي عليه الصلاة والسلام الحلم".
ثانياً: التعري عند أهل العلم يجوز إن كان لمصلحة شرعية راجحة، كجواز التعري أثناء العلاج, بل لا خلاف على جواز أن ينظر الطبيب إلى موضع المرض من المرأة عند الحاجة ضمن ضوابط شرعية مع تقوى الله وصلاح النية، والضرورات تقدر بقدرها، فتعري النبي – صلى الله عليه وسلم – كان قبل البعثة أولاً, وثانياً كان لمصلحة لكي يضع ثوبه على عاتقه لكي يتقوى بها على حمل الحجارة, وعلى قربة يتقرب بها لله جل وعلا وهي بناء الكعبة.
كما حدث لنبي الله موسى عليه السلام لما اتهمه قومه برجولته فبرّأه الله مما قالوا, وهذا كما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: "كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى سوأة بَعْضٍ, وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلا أَنَّهُ آدَرُ (أي ذو فتق) قال: فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ! فَجَمعَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُول:ُ ثَوْبِي حَجَرُ! ثَوْبِي حَجَرُ! حَتَّى نَظَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى سوأة مُوسَى فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ, فقام الحجر بعد حتى نظر إليه فأخذ مُوسَى فطفق ثَوْبَهُ بِالْحَجَر ِضرباً؟ فوالله إِنَّ بِالْحَجَر َِنَدَباً سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ"(1).
وقد ثبت هذا الحديث عند الرافضة ورواه إمامهم ووصيهم السادس المعصوم كما يزعمون، وقد أخرجه مفسرو الشيعة في تفاسيرهم أيضًا:
- ففي تفسير القمي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع): "أن بني إسرائيل كانوا يقولون: ليس لموسى ما للرجال, وكان موسى إذا أراد الاغتسال ذهب إلى موضع لا يراه فيه أحد من الناس, فكان يوماً يغتسل على شط نهر وقد وضع ثيابه على صخرة فأمر الله الصخرة فتباعدت عنه حتى نظر بنو إسرائيل إليه, فعلموا أنه ليس كما قالوا, فأنزل الله: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَاللهِ وَجِيهًا) [الأحزاب/69](2).
ثم إن مفسرهم الطبرسي في مجمع البيان أثبت هذا الحديث فقال: "إن موسى عليه السلام كان حيياً ستيراً يغتسل وحده, فقال ما يتستر منّا إلا لعيب بجلده إما برص وإما أدرة, فذهب مرة يغتسل فوضع ثوبه على حجر, فمر الحجر بثوبه, فطلبه موسى عليه السلام, فرآه بنو إسرائيل عرياناً كأحسن الرجال خلقًا, فبرأه الله مما قالوا"(3).
قال رئيس علمائهم نعمة الله الجزائري في قصصه (ص 250): "قال جماعة من أهل الحديث: لا استبعاد فيه بعد ورود الخبر الصحيح, وإن رؤيتهم له على ذلك الوضع لم يتعمده موسى عليه السلام, ولم يعلم أن أحدًا ينظر إليه أم لا, وإن مشيه عرياناً لتحصيل ثيابه مضافاً إلى تبعيده عما نسبوه إليه، ليس من المنفرات".
ثالثاً: ونقول نحن كذلك أهل السنة والجماعة كما قال: لا استبعاد فيه بعد ورود الخبر الصحيح, وإن رؤيته له على ذلك الوضع لم يتعمده النبي – صلى الله عليه وسلم - فليس ذلك من المنفرات.
رابعاً: ليس في الحديث أنه تعرى أمام الناس – صلوات ربي وسلامه عليه – فالتعري أمام الناس متعمداً من خوارم المروءة، فأين الدليل أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مشى أمام الناس عارياً لا لشيء وإنما من أجل التعري فقط وأن الكل ينظر إليه!!
فليس في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مشى وتعرى أمام الناس، وهذا القول له شاهد عند الطبراني في كما ذكر ذلك الحافظ في "الفتح": "لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي، جعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة، فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، فبينما هو أمامي إذ صرع, فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء قال فقلت لابن أخي: ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانًا, قال: فكتمته حتى أظهر الله نبوته".
خامساً: على افتراض أن التعري لمصلحة ظهرت لمن تعرى أنه ذنب، ولكنه ليس من الكبائر، وعقيدتنا أن الأنبياء معصومون من كبائر الذنوب ومن خوارم المروءة، لذلك حينما تعرى أمام عمه فقط لم يقر على ذلك وأغشي عليه وما رؤي عريانًا بعد ذلك.
سادساً: نقول للرافضة: ما شأنكم وشأن كشف العورات؟! فدينكم دين جنس ودعوة للتعري والفاحشة وهذه حقيقة.
وسأذكر بعض الأمور التي تؤكد هذا الادعاء:(8/29)
1 - يتهمون النبي بأنه كان ينظر إلى عورات النساء ويخون المؤمنين، وينظر إلى امرأة رجل مسلم وهي تغتسل عريانة!!!
ففي بحار الأنوار(22/217): "قال الرضا: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قصد دار زيد بن حارثة في أمر أراده, فرأى امرأته تغتسل فقال لها: "سبحان الذي خلقك"!!!
2 - يروون عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال: "كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا ينام حتى يضع وجهه بين ثديي فاطمة", وفاطمة امرأة كبيرة بالغة, فكيف يضع النبي – صلى الله عليه وسلم – وجهه بين ثدييها – رضي الله عنها-.
3 - يزعمون أن إمامهم المعصوم الثاني عشر الغائب عندما يظهر أنه سيكون عارياً بدون ثياب!! وهذا ما رواه الشيخ الطوسي والنعماني عن الإمام الرضا: "أن من علامات ظهور المهدي أنه سيظهر عارياً أمام قرص الشمس". حق اليقين (ص 347).
4 - الرافضة عندهم الدبر ليس من العورة, وهذا ما رواه الكليني في الكافي (6/512) عن أبي الحسن عليه السلام قال: "العورة عورتان القبل والدبر، فأما الدبر مستور بالإليتين, فإذا سترت القضيب والبيضتين فقد سترت العورة".
5 - جواز النظر إلى العورات من غير المسلمين, فعن جعفر الصادق قال: "النظر إلى عورة من ليس بمسلم مثل نظرك إلى عورة الحمار". الكافي (6/512).
6 - يزعمون أن إمامهم المعصوم الخامس محمد الباقر كان يدخل الحمام ويكشف عورته أمام الناس، فعن عبيد الله الدابقي قال: "دخلت حمامًا بالمدينة... فقلت: لمن هذا الحمام؟ فقال لأبي جعفر محمد بن علي عليه السلام فقلت: كان يدخله؟ قال: نعم, فقلت: كيف كان يصنع؟ قال: كان يدخل يبدأ فيطلي عانته وما يليها ثم يلف على طرف إحليله ويدعوني فأطلي سائر بدنه، فقلت له يوماً من الأيام: الذي تكره أن أراه قد رأيته" - يقصد عورته المغلظة-. (الكافي 6/508).
--------------------------
(21) الرد على شبهة أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل طعامًا ذبح على الصنم والنصب
أبو عبد العزيز سعود الزمانا
الرد على شبهة أن النبي – صلى الله عليه وسلم - أكل طعاما ذبح على الصنم والنصب:
تعريف النصب: هي الأصنام والحجارة التي كان الكفار يذبحون عليها.
أخرج الإمام أحمد (1/190) قال: حدثنا يزيد حدثنا المسعودي عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عن أبيه عن جده قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة هو وزيد بن حارثة فمر بهما زيد بن عمرو بن نفيل فدعواه إلى سفرة لهما فقال يا ابن أخي إني لا آكل مما ذبح على النصب قال فما رئي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أكل شيئًا مما ذبح على النصب قال قلت يا رسول الله إن أبي كان كما قد رأيت وبلغك ولو أدركك لآمن بك واتبعك فاستغفر له قال نعم سأستغفر له فإنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة".
الشبهة:
قال المبتدعة والزنادقة كيف يذبح الرسول على النصب والأصنام، وكيف يأكل مما ذبح عليها؟
الرد:
- أولاً: رواية (إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم قال: فما رؤي النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب) منكرة ولا تصح.
- قال الشيخ الألباني – رحمه الله-: "أخرجه الإمام أحمد (رقم 5369) من حديث ابن عمر، وقد رواه أيضا من حديث سعيد بن زيد بن عمرو (1648) وفيه زيادة منكرة، وهي تتنافي مع التوجيه الحسن الذي وجه به الحديث المؤلف وهي قوله بعد: (إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم) قال: فما رؤي النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب, وعلة هذه الزيادة أنها من رواية المسعودي وكان قد اختلط وراوي هذا الحديث عنه يزيد بن هارون سمع منه بعد اختلاطه، ولذلك لم يحسن صنعا حضرة الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر حيث صرح في تعليقه على المسند أن إسناده صحيح، ثم صرح بعد سطور أنه إنما صححه مع اختلاطه لأنه ثبت معناه من حديث ابن عمر بسند صحيح يعني هذا الذي في الكتاب، وليس فيه الزيادة المنكرة، فكان عليه أن ينبه عليها حتى لا يتوهم أحد أن معناها ثابت أيضاً في حديث ابن عمر".
- ثانياً: حكم على هذه الزيادة بالنكارة الإمام الذهبي أيضا، فالرواية أخرجها البزار(2755) والنسائي في الكبرى (8188) والطبراني (4663) وأبو يعلى (7211) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة عن أسامة بن زيد عن زيد بن حارثة قال خرجت مع رسول الله... الحديث.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (1/221-222):" في سنده محمد – يعني ابن عمرو بن علقمة - لا يحتج به، وفي بعضه نكارة بينة ".(8/30)
- ثالثاً: وهذا العبارة منكرة: "شاة ذبحناها لنصب كذا وكذا..." وهي نكارة بينة كما قال الذهبي، وهذا نص في أنهم ذبحوها للنصب لا عليه فقط، وهذه الجملة لا تحتمل ولا تليق بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وفي سندها محمد بن عمرو بن علقمة قال فيه الحافظ:" صدوق له أوهام " وقال الجوزجاني وغيره:" ليس بقوي"[1] وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (1/221-222): "لا يحتج به".
- رابعاً: الرواية الصحيحة هي كما جاءت في صحيح البخاري، قال البخاري ( 5499) حدثنا معلَّى بن أسد قال: حدثنا عبد العزيز يعني ابن المختار قال: أخبرنا موسى بن عقبة قال: أخبرني سالم: أنه سمع عبد الله يحدث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه لقي زيد بن عمرو بن نُفَيل بأسفل بَلْدَحَ،-( مكان في طريق التنعيم، ويقال: هو واد) - وذاك قبل أن يُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقُدِّم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال: "إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا مما ذُكر اسم الله عليه".
وقال البخاري( 3826) حدثني محمد بن أبي بكر قال: حدثنا فضيل بن سليمان قال: حدثنا موسى بن عقبة قال: حدثنا سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:" أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه. وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله. إنكارا لذلك وإعظامًا له".
- قال ابن بطال – رحمه الله -:" كانت السفرة لقريش فقدموها للنبي – صلى الله عليه وسلم – فأبى أن يأكل منها، فقدمها النبي – صلى الله عليه وسلم – لزيد بن عمرو، فأبى أن يأكل منها، وقال مخاطباً لقريش الذين قدموها أولاً: "إنا لا نأكل ما ذبح على أنصابكم "( عمدة القاري 11/540).
- خامساً: أين ما يدل في الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أكل من هذه السفرة؟ فليس في الحديث أنه – صلى الله عليه وسلم – أكل منها، وإنما غاية ما في الحديث أن السفرة قدمت للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولزيد ولم يأكلا منها.
- سادساً: فهذا هو الثابت في الصحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – عرضت وقدمت له السفرة فامتنع أن يأكل منها، نعم جاء عند أحمد (2/69) من طريق عفان عن وهيب عن موسى. وأخرجه أحمد (2/90) من طريق يحيى بن آدم عن زهير عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر بلفظ:" فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثم قال: "إني لا آكل ما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه ".
فمما سبق بيانه يتضح أن رواية صحيح البخاري أن السفرة قدمت للنبي – صلى الله عليه وسلم – فرفض أن يأكل منها، ثم قدمت لزيد ولم يأكل منها، فلا وجه لطعن طاعن أو لمز لامز ولله الحمد.
ولو افترضنا صحة الرواية التي جاءت عند أحمد، وأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قدم السفرة لزيد، فكذلك لا يوجد دليل على أنها ذبحت على نصب أو ذبحت لصنم، وإن كان قد يفهم منها هذا ولكنها ليست صريحة.
- سابعاً: قال الخطابي في " أعلام الحديث " 3/1657:" امتناع زيد بن عمرو من أكل ما في السفرة إنما كان من أجل خوفه أن يكون اللحم الذي فيها مما ذبح على الأنصاب فتنزه من أكله، وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يأكل من ذبائحهم التي كانوا يذبحونها لأصنامهم، فأما ذبائحهم لمأكلتهم فإنا لم نجد في شيء من الأخبار أنه كان يتنزه منها، ولأنه كان لا يرى الذكاة واقعة إلا بفعلهم قبل نزول الوحي عليه، وقبل تحريم ذبائح أهل الشرك، فقد كان بين ظهرانيهم، مقيماً معهم، ولم يُذكر أنه كان يتميز عنهم إلا في أكل الميتة، وكانت قريش وقبائل من العرب تتنزه في الجاهلية عن أكل الميتات، ولعله – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يتّسع إذ ذاك لأن يذبح لنفسه الشاة ليأكل منها الشلو أو البضعة، ولا كان فيما استفاض من أخباره أنه كان يهجر اللحم ولا يأكله، وإذا لم يكن بحضرته إلا ذكاة أهل الشرك ولا يجد السبيل إلى غيره، ولم ينزل عليه في تحريم ذبائحهم شيء، فليس إلا أكل ما يذبحونه لمأكلتهم بعد أن تنزه من الميتات تنزيهاً من الله عز وجل له، واختياراً من جهة الطبع لتركها استقذاراً لها، وتقززاً منها، وبعد أن يجتنب الذبائح لأصنامهم عصمة من الله عز وجل له لئلا يشاركهم في تعظيم الأصنام بها".(8/31)
- ثامناً: قال السهيلي:" فإن قيل: فالنبي – صلى الله عليه وسلم – كان أولى من زيد بهذه الفضيلة، فالجواب أنه ليس في الحديث أنه – صلى الله عليه وسلم – أكل منها، وعلى تقدير أن يكون أكل، فزيد إنما كان يفعل ذلك برأي يراه لا بشرع بلغه، وإنما كان عند أهل الجاهلية بقايا من دين إبراهيم، وكان في شرع إبراهيم تحريم الميتة، لا تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، وإنما نزل تحريم ذلك في الإسلام، والأصح أن الأشياء قبل الشرع لا توصف بحل ولا بحرمة، مع أن الذبائح لها أصل في تحليل الشرع واستمر ذلك إلى نزول القرآن... ".
- وقال القاضي عياض في عصمة الأنبياء قبل النبوة:" إنها كالممتنع، لأن النواهي إنما تكون بعد تقرير الشرع، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن متعبداً قبل أن يوحى إليه بشرع من قبله على الصحيح...".
- تاسعاً: ومن التوجيهات كذلك كما قال الشيخ الألباني – رحمه الله -:" توهم زيد أن اللحم المقدم إليه من جنس ما حرم الله، ومن المقطوع به أن بيت محمد – صلى الله عليه وسلم – لا يطعم ذبائح الأصنام، ولكن أراد الإستيثاق لنفسه والإعلان عن مذهبه، وقد حفظ محمد له ذلك وسرّ به"[2].
- عاشراً: قال الذهبي – رحمه الله-:" لو افترض أن زيد بن حارثة هو الذي ذبح على النصب فقد فعله من غير أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أنه كان معه، فنسب ذلك إليه، لأن زيداً لم كن معه من العصمة والتوفيق ما أعطاه لنبيه، وكيف يجوز ذلك وهو عليه السلام قد منع زيداً أن يمس صنماً، وما مسه هو قبل نبوته، فكيف يرضى أن يذبح للصنم، هذا محال".
وقال أيضا: "أن يكون ذبح لله واتفق ذلك عند صنم كانوا يذبحون عنده"[3]
- نتيجة البحث:
- 1-: ليس في الحديث أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ذبح على النصب أو أكل مما ذبح على النصب، وغاية ما في الحديث أن السفرة قدمت للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولزيد ولم يأكلا منها.
2-: الرواية التي في صحيح البخاري أن السفرة قدمت للنبي – صلى الله عليه وسلم – فرفض أن يأكل منها، ثم قدمت لزيد ولم يأكل منها، فلا وجه لطعن طاعن أو لمز لامز ولله الحمد.
3-: جاءت رواية عند أحمد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قدم السفرة لزيد، وامتنع زيد أن يأكل منها، وكذلك لا يوجد أي دليل على الذبح للنصب أو للصنم، وإن كان يفهم منها هذا ولكنها ليست صريحة.
4-: امتناع زيد بن عمرو من أكل ما في السفرة إنما كان من أجل خوفه أن يكون اللحم الذي فيها مما ذبح على الأنصاب فتنزه من أكله، وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لا يأكل من ذبائحهم التي كانوا يذبحونها لأصنامهم.
5-: قال الذهبي – رحمه الله-: "لو افترض أن زيد بن حارثة هو الذي ذبح على النصب فقد فعله من غير أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا أنه كان معه، فنسب ذلك إليه، لأن زيداً لم يكن معه من العصمة والتوفيق ما أعطاه الله لنبيه، وكيف يجوز ذلك وهو عليه السلام قد منع زيداً أن يمس صنماً، وما مسه هو قبل نبوته، فكيف يرضى أن يذبح للصنم، هذا محال".
6-: أما ما جاء في بعض الروايات التي فيها (إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم) قال: فما رؤي النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد ذلك أكل شيئاً مما ذبح على النصب) وهذه الرواية منكرة، حكم عليها بالنكارة الإمام الذهبي والإمام الألباني – رحمهما الله -.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
00000000000000000
[1] المغني في الضعفاء ترجمة رقم 5879.
[2]( فقه السيرة ص 82).
[3]( سير أعلام النبلاء 1/135).
--------------------------
(22)شبهة حول زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش والرد عليها
أبو عبد الله الذهبي
الحمد لله والصلاة و الصلاة و السلام على رسول الله، ثم أما بعد:
أحبتي في الله شاء الله عز وجل ولا مرد لمشيئته أن يطلق زيد بن حارثة زوجته حينما تعذر بقاء الحياة الزوجية بينه و بينها على الوجه المطلوب، و مضت سنة الله في خلقه أن ما رسخ في النفوس بحكم العادة لا يسهل التخلص منه، فقد كانت عادة التبني لا تزال قائمة في نفوس الناس، و ليس من السهل التغلب على الآثار المترتبة عليها، و من أهم هذه الآثار أن الأب لا يتزوج امرأة من تبناه بعد وفاته أو طلاقه لزوجته، فاختار الله تعالى لهذه المهمة صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم و أمره بالزواج من زينب بنت جحش بعد طلاقها من زيد.
و بعد أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب رضي الله عنها، أثار هذا الزواج أحاديث همز و لمز و أقاويل كثيرة من قبل المشركين والمنافقين، فقد قالوا: تزوج محمد حليلة ابنه زيد بعد أن طلقها، كما وأن للمستشرقين و من شايعهم في العصر الحاضر، أحاديث في هذا الموضوع، فاتخذوا من هذه الحادثة ذريعة للطعن في رسول الله صلى الله عليه و سلم.(8/32)