قال ابن عباس رضي الله عنهما: "رفع الله ذكره، فلا يذكر إلا ذكر معه. وفي هذا الدليل نظر، لأن ذكره صلى الله عليه وسلم مع ذكر ربه هو الشهادة له بالرسالة إذا شهد لمرسله بالوحدانية، وهذا هو الواجب في الخطبة قطعا بل هو ركنها الأعظم، وقد روى أبو داود، وأحمد وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل خطة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء"[132] واليد الجذماء: المقطوعة، فمن أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطة دون التشهد فقوله في غاية الضعف.
وقد روى ابن جرير في تفسيره بسنده عن قتادة {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطب ولا متشهد، ولا صاحب صلاة إلا ينادى بها: أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله[133].
وعن الضحاك {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال إذا ذكرت ذكرت معي ولا يجوز خطبة ولا نكاح إلا بذكرك[134] معي.
وعن مجاهد {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال: لا أذكر إلا ذكرت معي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله[135].
فهذا هو المراد من الآية، وكيف لا يجب التشهد الذي هو عقد الإسلام في الخطبة، وهو أفضل كلماتها وتجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
والدليل على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ما رواه الإمام أحمد في المسند بسنده عن عون بن أبي جحيفة[136] قال: كان أبي[137] من شرط علي، وكان تحت المنبر، فحدثني: أنه صعد المنبر- يعني عليا- رضي الله عنه فحمد الله وأثني عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر والثاني عمر، وقال يجعل الله الخير حيث شاء[138].
قال ابن القيم: "وقد كانت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطب أمرا مشهورا معروفا عند الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
أما وجوبها فيعتمد دليلا يجب المصير إليه وإلى مثله[139].
الموطن السادس من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: الصلاة عليه بعد إجابة المؤذن وعند الإقامة
لما روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله تعالى، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي"[140].
الموطن السابع من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: عند الدعاء:
والدليل على ذلك حديث فضالة بن عبيد[141] رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاة لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجل هذا" ثم دعاه، فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء"[142].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عند قال: "إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم"[143].
الموطن الثامن من مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: عند دخول المسجد وعند الخروج منه
لما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله لمج!ا قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم"[144].
وعن فاطمة بنت الحسين[145] عن جدتها فاطمة الكبرى[146] قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم، وقال: "رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال: "رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك"[147].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية "والصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد مأثور عنه صلى الله عليه وسلم وعن غير واحد من الصحابة والتابعين"[148].
وقال القاضي عياض: "ومن مواطن الصلاة والسلام عند دخول المسجد" وذكرا عددا من الآثار عن بعض الأئمة[149].
الموطن التاسع من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: على الصفا والمروة
لما روى إسماعيل بن إسحاق القاضي بسنده عن نافع[150] أن عمر رضي الله عنه كان يكبر على الصفا ثلاثا، ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدر، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو ويطل القيام والدعاء، ثم يفعل على المروة نحو ذلك[151].(4/380)
وعن وهب بن الأجدع[152] قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس بمكة يقول إذا قدم الرجل منكم حاجا فليطف بالبيت سبعا وليصل عند المقام ركعتين ثم يستلم الحجر الأسود، ثم يبدأ بالصفا، فيقوم عليها ويستقبل البيت فيكبر سبع تكبيرات يين كل تكبيرتين حمد الله عز وجل وثناء عليه عزوجل، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومسألة لنفسه وعلى المروة مثل ذلك[153].
الموطن العاشر من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم: عند اجتماع القوم قبل تفرقهم:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جلس قوم مجلسا فلم يذكروا الله ولم يصلوا على نبيه صلى الله عليه وسلم إلا كان مجلسهم عليهم ترة[154] يوم القيامة، إن شاء عفا عنهم، وإن شاء أخذهم"[155].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "ما جلس قوم مجلسا لم يصل فيه على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كانت عليهم حسرة وإن دخلوا الجنة"[156].
وعن جابرأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما جلس قوم مجلسا ثم تفرقوا من غير صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلا تفرقوا على أنتن من ريح جيفة"[157].
الموطن الحادي عشر: من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره
قال ابن القيم: "وقد اختلفت في وجوبها كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم فقال أبو جعفر الطحاوي[158] وأبو عبيد الله الحليمي: تجب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذكر اسمه. وقال غيرهما إن ذلك مستحب، وليس بفرض يأثم تاركه. ثم اختلفوا: فقالت فرقة: تجب الصلاة عليه في العمر مرة واحدة، لأن الأمر مطلق لا يقتضي تكرارا، والماهية تحصل بمرة، وهذا محكي عن أبي حنيفة ومالك، والثوري، والأوزاعي[159].
قال القاضي عياض وابن عبد البر: وهو قول جمهور الأمة.
وقالت فرقة: بل تجب في كل صلاة في تشهدها الأخير كما تقدم، وهو قول الشافعي وأحمد في آخر الروايتين عنه، وغيرهما.
وقالت فرقة: الأمر بالصلاة عليه أمر استحباب لا أمر إيجاب، وهذا قول ابن جرير وطائفة، وادعى ابن جرير فيه الإجماع، وهذا على أصله فإنه إذا رأي الأكثرين على قول، جعله إجماعا يجب اتباعه.
واحتج الموجبون بحجج:
الحجة الأولى: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة"[160].
ورغم أنفه: دعاء عليه وذم له، وتارك المستحب لا يذم ولا يدعى عليهز.
الحجة الثانية: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صعد المنبر فقال: "آمين، آمين، آمين، فقيل له يارسول الله، ما كنت تصنع هذا؟ فقال: "قال لي جبريل رغم أنف عبد دخل عليه رمضان ولم يغفر له، فقلت: آمين، ثم قال: رغم أنفه عبد أدرك أبويه أو أحدهما الكبر لم يدخل الجنة، فقلت: آمين ثم قال: رغم أنف عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين"[161]
الحجة الثالثة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذكرت عنده فليصل علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا"[162]. وهذا إسناد صحيح والأمر ظاهره الوجوب.
الحجة الرابعة: حديث الحسين بن علي[163] رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي"[164] .
وعن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قعد أو قعد أبو ذر- فذكر حديثا طويلا- وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل علي"[165].
قالوا: فإذا ثبت أنه بخيل فوجه الدلالة به من وجهين:
أحدها: أن البخل اسم ذم، وتارك المستحب لا يستحق اسم الذم قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ}[166] فقرن البخل بالاختيال والفخر، والآمر بالبخل، وذم على المجموع، فدل على أن البخل صفة ذم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأي داء أدوأ من البخل"[167].
الثاني: أن البخيل هو مانع ما وجب عليه، فمن أدى الواجب عليه كله لم يسم بخيلا، وإنما البخيل مانع ما يستحق عليه إعطاؤه وبذله.
الحجة الخامسة: أن الله سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والتسليم عليه، والأمر المطلق للتكرار، ولا يمكن أن يقال: التكرار هو كل وقت، فإن الأوامر المكررة إنما تتكرر في أوقات خاصة، أو عند شروط وأسباب تقتضي تكرارها، وليس وقت أولى من وقت، فتكرار المأمور بتكرار ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أولى لما تقدم من النصوص، فهنا ثلاث مقدمات:
الأولى: أن الصلاة مأمور بها أمرا مطلقا، وهذه معلومة.(4/381)
المقدمة الثانية: أن الأمر المطلق يقتضي التكرار، وهذا مختلف فيه فنفاه طائفة من الفقهاء والأصوليين. وأثبته طائفة. وفرقت طائفة يين الأمر المطلق والمعلق على شرط أو وقت، فأثبتت التكرار في المعلق دون المطلق. والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد والشافعي، وغيرهما.
ورجحت هذه الطائفة التكرار بأن عامة أوامر الشرع على التكرار كقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}[168] وقوله {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ}[169] وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}[170] وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ}[171] وقوله تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[172] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ}[173] وقوله تعالى: {وَخَافُونِ}[174].
وقوله: {وَاخْشَوْنِي}[175]، وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ}[176]، وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً}[177].
وذلك في القرآن أكثر من أن يحصر، وإذا كات أوامر الله ورسوله على التكرار حيث وردت إلا في النادر، علم أن هذا عرف خطاب الله ورسوله للأمة، والأمر وإن لم يكن في لفظه المجرد ما يؤذن بتكرار ولا فور فلا ريب أنه في عرف خطاب الشارع للتكرار، فلا يحمل كلامه إلا على عرفه والمألوف من خطابه، وإن لم يكن ذلك مفهوما من أصل الوضع في اللغة، وهذا كما قلنا: ان الأمر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي الفساد، فإن هذا معلوم من خطاب الشارع وإن كان لا تعرض لصحة المنهي ولا لفساده في أصل موضوع اللغة، وكذا خطاب الشارع لواحد من الأمة يقتضي معرفة الخاص أن يكون اللفظ متناولا له ولأمثاله، وإن كان موضوع اللفظ لغة لا يقتضي ذلك، فإن هذا لغة صاحب الشرع وعرفه في مصادر كلامه وموارده، وهذا معلوم بالاضطرار من دينه قبل أن يعلم صحة القياس واعتباره وشروطه، وهكذا الفرق يين اقتضاء اللفظ وعدم اقتضائه لغة، ويين اقتضائه في عرف الشارع وعادة خطابه.
المقدمة الثالثة: أنه إذا تكرر المأمور به، فإنه لا يتكرر إلا بسبب أو وقت، وأولى الأسباب المقتضية لتكراره ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم، لإخباره برغم أوف من ذكر عنده فلم يصل عليه، وللإسجال عليه بالبخل وإعطائه اسمه.
قالوا: ومما يؤيد ذلك أن الله سبحانه أمر عباده المؤمنين بالصلاة عليه عقب إخباره لهم بأنه وملائكته يصلون عليه، لم يكن مرة وانقطعت. بل في صلاة متكررة، ولهذا ذكرها مبينا بها فضله وشرفه وعلو منزلته عنده، ثم أمر المؤمنين بها، فتكرارها في حقهم أحق وآكد لأجل الأمر.
قالوا: ولأن الله أكد السلام بالمصدر الذي هو التسليم، وهذا يقتضي المبالغة والزيادة في كميته، وذلك بالتكرار.
قالوا: ولأن لفظ الفعل المأمور به يدل على التكثير وهو "صلى وسلم" فإن "فعَّل" المشدد، يدل على تكرار الفعل، كقولك كسّر الخبرز وقطَّع اللحم، وعلّم الخير، وشدّد في كذا، ونحوه.
قالوا: ولأن الأمر بالصلاة عليه في مقابل إحسانه إلى الأمة، وتعليمهم وإرشادهم وهدايتهم، وما حصل لهم ببركته من سعادة الدنيا والآخرة، ومعلوم أن مقابلة مثل هذا النفع العظيم لا يحصل بالصلاة عليه مرة واحدة في العمر، بل لو صلى العبد عليه بعدد أنفاسه لم يكن موفيا لحقه ولا مؤديا لنعمته، فجعل ضابط شكر هذه النعمة بالصلاة عليه عند ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم.
قالوا: ولهذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بتسميته من لم يصل عليه عند ذكره بخيلا، لأن من أحسن إلى العبد الإحسان العظيم، وحصل له به هذا الخير الجسيم، ثم يذكر عنده ولا يثني عليه ولا يبالغ في حمده ومدحه وتمجيده، ويبدي ذلك ويعيده، ويعتذر من التقصير في القياع بشكره وحقه، عده الناس بخيلا لئيما كفورا فكيف بمن أدنى إحسانه إلى العبد يزيد على أعظم إحسان المخلوقين بعضهم لبعض الذي بإحسانه حصل للعبد خير الدنيا والآخرة، ونجا من شر الدنيا والآخرة، الذي لا تتصور القلوب حقيقة نعمته وإحسانه، فضلا عن أن تقوم بشكره، أليس هذا المنعم المحسن أحق بأن يعظم ويثنى عليه، ويستفرغ الوسع في حمده ومدحه إذا ذكر بين الملأ، فلا أقل من أن يصلى عليه مرة إذا ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم.
قالوا: ولهذا دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم برغم أنفه، وهو أن يلصق أنفه بالرغام وهو التراب، لأنه لما ذكر عنده فلم يصل عليه استحق أن يذله الله ويلصق أنفه بالتراب.(4/382)
قالوا: ولأن الله سبحانه نهى الأمة أن يجعلوا دعاء الرسول بينهم كدعاء بعضهم بعضا، فلا يسمونه إذا خاطبوه باسمه، كما يسمى بعضهم بعضا بل يدعونه برسول الله ونبي الله، وهذا من تمام تعزيره وتوقيره وتعظيمه، فهكذا ينبغي أن يخص باقتران اسمه بالصلاة عليه، ليكون ذلك فرقا بينه وبين ذكر غيره، كما كان الأمر بدعائه بالرسول والنبي فرقا بينه ويين خطاب غيره، فلو كان عند ذكره لا تجب الصلاة عليه كان ذكره كذكر غيره في ذلك، هذا على أحد التفسيرين في الآية، وأما على التفسير الآخر وهو أن المعنى لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم بعضا فتؤخروا الإجابة بالاعتذار والعلل التي يؤخر بها بعضكم إجابة بعض ولكن بادروا إليه إذا دعاكم بسرعة الإجابة ومعاجلة الطاعة حتى لم يجعل اشتغالهم بالصلاة عذرا لهم في التخلف عن إجابته والمبادرة إلى طاعته فإذا لم تكن الصلاة التي فيها شغل عذرا يستباح بها تأخير إجابته فكيف ما دونها من الأسباب والأعذار؟ فعلى هذا يكون المصدر مضافا إلى الفاعل، وعلى القول الأول يكون مضافا إلى المفعول.
وقد يقال- وهو أحسن من القولين- إن المصدر هنا لم يضف إضافته إلى فاعل ولا مفعول، وإنما أضيف إضافة الأسماء المحضة، ويكون المعنى: لا تجعلوا الدعاء المتعلق بالرسول المضاف إليه كدعاء بعضكم بعضا، وعلى هذا فيعم الأمرين معا، ويكون النهي عن دعائهم له باسمه كما يدعو بعضهم بعضا، وعن تأخير إجابته صلى الله عليه وسلم، وعلى كل تقدير فكما أمر الله سبحانه أن يميز في خطابه ودعائهم إياه قياما للأمة بما يجب عليه من تعظيمه وإجلاله فتمييزه بالصلاة عليه عند ذكر اسمه من تمام هذا المقصود.
قالوا: وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن من ذكر عنده فلم يصل عليه خطىء طريق الجنة"[178] فلولا أن الصلاة عليه واجبة عند ذكره لم يكن تاركها مخطئا لطريق الجنة. قالوا: وأيضا فمن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر عنده فلم يصل عليه فقد جفاه، ولا يجوز لمسلم جفاؤه صلى الله عليه وسلم.
فالدليل على المقدمة الأولى: ما روي عن قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من الجفاء أن أذكر عند الرجل فلا يصلي علي"[179]
ولو تركنا وهذا المرسل وحده لم نحتج به، ولكن له أصول وشواهد قد تقدمت من تسمية تارك الصلاة عليه عند ذكره بخيلا وشحيحا، والدعاء عليه بالرغم، وهذا من مرجبات جفائه.
والدليل على المقدمة الثانية: أن جفاءه مناف لكمال حبه، وتقديم محبته على النفس والأهل والمال، وأنه أولى بالمؤمن من نفسه فإن العبد لا يؤمن حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه ومن ولده ووالده والناس أجمعين، كما ثبت عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا رسول الله، والله لأنت أحب ألي من كل شيء إلا من نفسي، قال: "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك" قال: فوالله لأنت الآن أحب إلي من نفسي، قال: "الآن يا عمر"[180] وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"[181] فذكر هذا الحديث أنواع المحبة الثلاثة فإن المحبة إما محبة إجلال وتعظيم، كمحبة الوالد، وإما محبة تحنن وود ولطف كمحبة الولد، وإما محبة لأجل الإحسان وصفات الكمال، كمحبة الناس بعضهم بعضا، ولا يؤمن العبد حتى يكون حب الرسول صلى الله عليه وسلم عنده أشد من هذه المحاب كلها.
ومعلوم أن جفاءه صلى الله عليه وسلم ينافي ذلك
قالوا: فلما كانت محبته فرضا، وكانت توابعها من الإجلال والتعظيم والتوقير والطاعة والتقديم على النفس، وإيثاره بنفسه بحيث يقي نفسه فرضا، كانت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم إذا ذكر من لوازم هذه الأحبية وتمامها.
قالوا: وإذا ثبت بهذه الوجوه وغيوها وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على من ذكر عنده، فوجوبها على الذاكر نفسه أولى، ونظير هذا أن سامع السجدة إذا أمر بالسجود إما وجوبا أو استحبابا، فوجوبها على التالي أولى، والله أعلم.
قال نفاة الوجوب: الدليل على قولنا من وجوه:
أحدها: أن من المعلوم الذي لا ريب فيه أن السلف الصالح الذين هم القدوة لم يكن أحدهم كلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يقرن الصلاة عليه باسمه، وهذا في خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أن يذكر فإنهم كانوا يقولون يارسول الله، مقتصرين على ذلك وربما كان يقول أحدهم "صلى الله عليك" وهذا في الأحاديث ظاهر كثير، فلو كانت الصلاة عليه واجبة عند ذكره لأنكر عليهم تركها.
الثاني: أن الصلاة عليه لو كانت واجبة كلما ذكر لكان هذا من أظهر الواجبات، ولبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بيانا يقطع العذر وتقوم به الحجة.(4/383)
الثالث: أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم هذا القول، ولا يعرف أحد منهم قال به، وأكثر الفقهاء – بل قد حكى الإجماع - على أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ليست من فروض الصلاة، وقد نسب القول بوجوبها إلى الشذوذ ومخالفة الإجماع السابق، فكيف تحب خارج الصلاة.
الرابع: أنه لو وجبت الصلاة عليه عند ذكره دائما، لوجب على المؤذن أن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، وهذا لا يشرع له في الأذان على أن يجب عليه.
الخامس: أنه كان يجب على من سمع النداء وأجابه أن يصلي عليه صلى الله عليه وسلم، اقتصاره على قوله "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله" فإن هذا مثل ما قال المؤذن.
السادس: أن التشهد الأول ينتهي عند قوله "وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" اتفاقا، واختلف هل يشرع أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله فيه، على ثلاثة أقوال:
• أحدها: لا يشرع ذلك إلا في الأخير.
• والثاني: يشرع.
• والثالث: تشرع الصلاة عليه خاصة دون آله، ولم يقل أحد بوجوبها في الأول عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
السابع: أن المسلم إذا دخل في الإسلام بتلفظه بالشهادتين لم يحتج أن يقول أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثامن: أن الخطب في الجمع والأعياد وغيرهما لا يحتاج أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الشهد، ولو كانت الصلاة واجبة عليه عند ذكره لوجب عليه أن يقرنها بالشهادة، ولا يقال تكفي الصلاة عليه في الخطبة فإن تلك الصلاة لا تنعطف على ذكر اسمه عند الشهادة، ولا سيما مع طول الفصل، والموجبون يقولون: تجب الصلاة عليه كلما ذكر ومعلوم أن ذكره ثانيا غير ذكره أولا.
التاسع: أنه لو وجبت الصلاة عليه كلما ذكر لوجب على القارئ كلما مر ذكر اسمه أن يصلي عليه، ويقطع لذلك قراءته ليؤدي هذا الواجب، وسواء كان في الصلاة أو خارجها، فإن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم لا تبطل الصلاة، وهي واجب قد تعين فلزم أداؤه، ومعلوم أن ذلك لو كان واجبا لكان الصحابة والتابعون أقوم به وأسرع إلى أدائه وترك إهماله.
العاشر: أنه لو وجبت الصلاة عليه كلما ذكر لوجب الثناء على الله عز وجل كلما ذكر اسمه، فكان يجب على من ذكر اسم الله أن يقرنه بقوله: "سبحانه وتعالى" أو "عز وجل" أو "تبارك وتعالى" أو "جلت عظمته" أو "تعالى جده" ونحو ذلك، بل كان ذلك أولى وأحرى فإن تعظيم الرسول وإجلاله ومحبته وطاعته تابع لتعظيم مرسله سبحانه وإجلاله ومحبته وطاعته، فمحال أن تثبت المحبة والطاعة والتعظيم والإجلال للرسول صلى الله عليه وسلم دون مرسله، بل انما يثبت ذلك له تبعا لمحبة الله وتعظيمه وإجلاله، ولهذا كانت طاعة الرسول طاعة لله، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، ومبايعته مبايعة لله {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}[182] ومحبته محبة لله قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[183]، وتعظيمه تعظيم للهه، ونصرته نصرة لله، فإنه رسوله وعبده الداعي إليه وإلى طاعته ومحبته وإجلاله، وتعظيمه وعبادته وحده لا شريك له، فكيف يقال تجب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه، وهي ثناء وتعظيم كما تقدم، ولا يجب الثناء والتعظيم للخالق سبحانه وتعالى كلما ذكر اسمه؟ هذا محال من القول.
الحادي عشرة: لو جلس إنسان ليس له هجيرى[184] إلا قوله: محمد رسول الله، أو اللهم صل على محمد، وبشر كثير يسمعونه، فإن قلتم تجب على كل أولئك السامعين أن يكون هجيراهم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، ولو طال المجلس ما طال، كان ذلك حرجا ومشقة وتركا لقراءة قارئهم، ودراسة دارسهم، وكلام صاحب الحاجة منهم، ومذاكرته في العلم، وتعليمه القرآن وغيره، وإن قلتم لا تحب عليهم الصلاة عليه في هذه الحال، نقضتم مذهبكم، وإن قلتم: تجب عليه مرة أو أكثر، كان تحكما بلا دليل مع أنه مبطل لقولكم.
الثاني عشر: أن الشهادة له بالرسالة أفرض وأوجب من الصلاة عليه بلا ريب، ومعلوم أنه لا يدخل في الإسلام إلا بها، فإذا كانت لا تجب كلما ذكر اسمه، فكيف تحب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه، وليصر من الواجبات بعد كلمة الاخلاص أفرض من الشهادة له بالرسالة، فمتى أقر له بوجوبها عند ذكر اسمه تذكر العبد الإيمان وموجبات هذه الشهادة فكان يجب على كل من ذكر اسمه أن يقول محمد رسول الله، ووجوب ذلك أظهر بكثير من وجوب الصلاة عليه كلما ذكر اسمه.
ولكل فرقة من هاتين الفرقتين أجوبة عن حجج الفرقة المنازعة لها، بعضها ضعيف جدا وبعضها محتمل، وبعضها قوي، ويظهر ذلك لمن تأمل حجج الفريقين، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب"[185].
الموطن الثاني عشر: من مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة(4/384)
فعن أوس بن أوس[186] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة، فاكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي".
قالوا: يا رسول الله كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟- يعني وقد بليت- فقال: "إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"[187]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا هي مصيخة[188] يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقا من الساعة، إلا الجن والانس، وفيها ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي، يسأل الله شيئا إلا أعطاه الله إياه"[189].
قال ابن القيم: "فهذا الحديث الصحيح مؤيد لحديث أوس بن أوس، دال على مثل معناه"[190].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "قال رسول صلى الله عليه وسلم: "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدا لا يصلي عليّ إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها" قال: قلت بعد الموت؟ قال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" فنبي الله حي يرزق"[191].
وعن أبي أمامة[192] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا علي من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتى تعرض علي في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم صلاة كان أقربهم مني منزلة"[193].
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا الصلاة على يوم الجمعة، فإنه أتاني جبريل آنفا من ربه عز وجل فقال: ما على الأرض من مسلم يصلي عليك مرة واحدة إلا صليت أنا وملائكتي عليه عشرا"[194]. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإن صلاتكم تعرض علي"[195].
قال ابن القيم: "هذان وإن كانا ضعيفين فيصلحان للاستشهاد"[196]
وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة"[197] وكان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون إكثار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة. وعن زيد بن وهب[198] قال: قال لي ابن مسعود رضي الله عنه: "يا زيد بن وهب لا تدع- إذا كان يوم الجمعة- أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ألف مرة تقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي"[199].
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة، فإنه ليس أحد يصلي علي يوم الجمعة إلا عرضت علي صلاته"[200].
وفي مراسيل الحسن[201] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنها تعرض علي"[202].
وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: "أن انشروا العلم يوم الجمعة فإن غائلة العلم النسيان، وأكثروا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة"[203].
وهناك مواطن أخرى غير ما ذكرنا ذكرها ابن القيم في كتابه جلاء الأفهام[204]
وكذلك السخاوي في كتابه القول البديع، والفيروز أبادي في الصلات والبشر ممن أراد الاستزادة فليرجع إليها، وحسبي أني أشرت لأشهرها.
المطلب الرابع: فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم: "إن طلب الصلاة من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم هو من أجل أدعية العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته"[205] يدلك على ذلك ما جاء في فضلها من الأحاديث.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى على واحدة صلى عليه عشرا" رواه مسلم[206].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة" رواه مسلم[207].
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قلت: "يارسول الله، إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: "ما شئت". قلت: الربع؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير. قلت: النصف؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير". قلت: الثلثين؟ قال: "ما شئت وإن زدت فهو خير".قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: "إذا تكفي همك ويغفر لك ذنبك"[208]
وللحديث طريق آخر عن يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي[209] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني آت من ربي فقال: ما من عبد يصلي عليك صلاة إلا صلى الله عليه بها عشرا" فقام إليه رجل فقال: يارسول الله أجعل نصف دعائي لك؟ قال: "إن شئت" قال: ألا أجعل ثلثي دعائي لك؟ قال: "إن شئت" قال: ألا أجعل دعائي كله؟ قال: "إذن يكفيك الله هم الدنيا وهم الآخرة"[210](4/385)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذكرت عنده فليصل علي ومن صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا"[211].
وفي رواية "من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات"[212].
وفي رواية "من صلّى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات"[213].
وفي رواية: " خرج النبي صلى الله عليه وسلم يتبرز، فلم يجد أحدا يتبعه فهرع عمر فاتبعه بمطهرة- يعني إداوة- فوجده ساجدا في شربة، فتنحى عمر فجلس وراءه حتى رفع رأسه قال: فقال: "أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدا فتنحيت عني إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من صلى عليك واحدة صلى الله عليه عشرا، ورفعه عشر درجات"[214].
وأخرج هذا الحديث عن عمر بن الخطاب قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يتبرز، فاتبعته بإداوة، فوجدته قد فرغ، ووجدته ساجدا لله في شربة، فتنحيت عنه فلما فرغ، رفع رأسه فقال: "أحسنت يا عمر حين تنحيت عني إن جبريل أتاني فقال: من صلى عليك صلاة صلى الله عليه عشرا ورفعه عشر درجات"[215].
وعن عبد الرحمن بن عوف[216] قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فأطال السجود قال: "أتاني جبريل قال: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله شكرا"[217].
وفي رواية " كان لا يفارق فيء النبي صلى الله عليه وسلم بالليل والنهار خمسة نفر من أصحابه أو أربعة لما ينوبه من حوائجه قال: فجئت فوجدته قد خرج فتبعته، فدخل حائطا من حيطان الأسواف[218] فصلى فسجد سجدة أطال فيها، فحزن وبكيت فقلت: لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض الله روحه، قال: فرفع رأسه، وتراءيت له، فدعاني، فقال: مالك؟ قلت: يا رسول الله سجدت سجدة أطلت فيها فحزنت، وبكيت، وقلت: لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض الله روحه.
قال: "هذه سجدة سجدتها شكرا لربي فيما آتاني في أمتي، من صلى علي صلاة كتب الله له عشر حسنات"[219].
وفي رواية "إني سجدت هذه السجدة شكرا لله عز وجل في أبلاني في أمتي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا"[220].
وعن أبي طلحة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم يوما يعرفون البشر في وجهه فقالوا: إنا نعرف الآن في وجهك البشر يا رسول الله. قال: أجل أتاني الآن آت من ربي فأخبرني أنه لن يصلي علي أحد من أمتي إلا ردها الله عليه عشر أمثالها"[221].
وفي رواية "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يوما والبشر يرى في وجهه فقالوا: يا رسول الله إنا نرى في وجهك بشرا لم نكن نراه، قال: أجل إنه أتاني ملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك ألا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، ولا سلم عليك إلا سلمت عليه عشرا"[222].
وفي رواية "أصبح رسول لله صلى الله عليه وسلم يوما طيب النفس يرى في وجهه البشر. قالوا: يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر. قال: أجل أتاني آت من ربي عز وجل فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات ورد عليه مثلها"[223].
وعن أبي بردة بن نيار[224] قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم "من صلى علي من أمتي صلاة مخلصا من قلبه، صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر دارجات، كتب له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات"[225].
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله لجمحا: عجل هذا"
ثم دعاه فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد الله والثناء عليه ثم يصلي علي، ثم يدعو بما شاء"[226].
وفي رواية: "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عجلت أيها المصلي" ثم علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي فمجد الله وحمده وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ادع تجب وسل تعط"[227].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"[228]
فالمتأمل في هذه الأحاديث يعرف عظم فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في الباب الرابع من كتابه القيم جلاء الأفهام عددا من الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أنتقى منها ما يلي:
الفائدة الأولى: امتثال أمر الله تعالى.
الثانية: موافقته سبحانه في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وإن اختلفت الصلاتان، فصلاتنا عليه دعاء وسؤال، وصلاة الله تعالى عليه ثناء وتشريف.
الثالثة: موافقة ملائكته فيها.
الرابعة: حصول عشر صلوات من الله على المصلي مرة.
الخامسة: أنه يرفع عشر درجات.(4/386)
السادسة: أنه يكتب له عشر حسنات.
السابعة: أنه يمحي عنه عشر سيئات.
الثامنة: أنه يرجى إجابة دعائه إذا قدمها أمامه، فهي تصاعد الدعاء إلى عند رب العالمين.
التاسعة: أنها سبب لشفاعته صلى الله عليه وسلم إذا قرنها بسؤال الوسيلة له.
العاشرة: أنها سبب لغفران الذنوب.
الحادية عشرة: أنها سبب لكفاية الله العبد ما أهمه.
الثانية عشرة: أنها سبب لقرب العبد منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
الثالثة عشرة: أنها سبب لدوام محبته للرسول صلى الله عليه وسلم وزيادتها وتضاعفها، وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به، لأن العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب، واستحضاره في قلبه، واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه، تضاعف حبه له وتزايد شوقه إليه، واستولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكره وإحضار محاسنه بقلبه، نقص حبه من قلبه، ولا شيء أقر لعين المحب من رؤية محبوبه، ولا أقر لقلبه من ذكره وإحضار محاسنه فإذا قوي هذا في قلبه جرى لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه، والحس شاهد بذلك. فقلب المؤمن توحيد الله وذكر رسوله مكتوبان فيه لا يتطرق إليهما محو ولا إزالة ودوام الذكر سبب لدوام المحبة، فالذكر للقلب كالماء للزرع، بل كالماء للسمك، لا حياة له إلا به...
الرابعة عشرة: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم سبب لمحبته للعبد، فإنها إذا كانت سببا لزيادة محبة المصلي عليه له، فكذلك هي سبب لمحبته هو للمصلى عليه صلى الله عليه وسلم.
الخامسة عشرة: أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه، فإنه كلما أكثر الصلاة عليه وذكره، استولت محبته على قلبه، حتى لألقى في قلبه معارضة لشيء من أوامره ولاشك في شيء مما جاء به، بل يصير ما جاء به مكتوبا مسطورا في قلبه لا يزال يقرؤه على تعاقب أحواله، ويقتبس الهدى والفلاح وأنواع العلوم منه، وكلما ازداد في ذلك بصيرة وقوة ومعرفة ازدادت صلاته عليه صلى الله عليه وسلم.
ولهذا كانا صلاة أهل العلم- العارفين بسنته وهديه المتبعين له عليه، خلاف صلاة العوام عليه الذين حظهم منها إزعاج أعضائهم بها ورفع أصواتهم.
وأما أتباعه العارفون بسنته العالمون بما جاء به فصلاتهم عليه نوع آخر، فكلما ازدادوا فيما جاء به معرفة ازدادوا له محبة ومعرفة بحقيقة الصلاة المطوبة له من الله.
وهكذا ذكر الله سبحانه، كلما كان العبد به أعرف وله أطوع وإليه أجل كان ذكره غير ذكر الغافلين واللاهين، وهذا أمر إنما يعلم بالخبر لا بالحبر وفرق بين من يذكر صفات محبوبه الذي قد ملك حبه جميع قلبه ويثني عليه بها ويمجده بها، وبين من يذكرها إما إمارة وإما لفظا، لا يدري ما معناه، ولا يطابق فيه قلبه لسانه، كما أنه فرق يين بكاء النائحة وبكاء الثكلى.
فذكره وذكر ما جاء به، وحمد الله تعالى على إنعامه علينا ومنته بإرساله هو حياة الوجود وروحه، كما قيل:
روح المجالس ذكره وحديثه*** وهدى لكل ملدد حيران
وإذا أخل بذكره في مجلس*** فأولئك الأموات في الحيان
السادسة عشرة: أنها سبب لعرض اسم المصلي عليه صلى الله عليه وسلم وذكره عنده، كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم "إن صلاتكم معروضة علي" وكفى بالعبد نبلا أن يذكر اسمه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السابعة عشرة: أن الصلاة عليه لا أداء لأقل القليل من حقه، وشكر له على نعمته التي أنعم الله لا علينا، مع أن الذي يستحقه من ذلك لا يحصى علما ولا قدرة ولا إرادة، ولكن الله سبحانه لكرمه رضي من عباده باليسير من شكره وأداء حقه.
الثامنة عشرة: أنها متضمنة لذكر الله وشكره، ومعرفة إنعامه على عبده بإرساله، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد تضمنت صلاته عليه ذكر الله وذكر رسوله، وسؤاله أن يجزيه بصلاته عليه ما هو أهله، كما عرفنا ربنا أسماءه وصفاته، وهدانا إلى طريق مرضاته، وعرفنا ما لنا بعد الوصول إليه والقدوم عليه، فهي متضمنة لكل الإيمان، بل هي متضمنة للإقرار بوجود الرب المدعو وعلمه وسمعه وقدرته وإرادته وصفاته وكلامه، وإرسال رسوله وتصديقه في أخباره كلها، وكمال محبته، ولا رضا أن هذه هي أصول الإيمان، فالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم متضمنة لعلم العبد ذلك، وتصديقه به، ومحبته له، فكانت من أفضل الأعمال.
التاسعة عشرة: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من العبد هي دعاء، ودعاء العبد وسؤاله من ربه نوعان:
أحدهما: سؤاله حوائجه ومهماته، وما ينوبه في الليل والنهار فهذا دعاء وسؤال، وإيثار لمحبوب العبد ومطلوبه.
الثاني: سؤاله أن يثني على خليله وحبيبه، ويزيد في تشريفه وتكريمه.(4/387)
وإيثار ذكره، ورفعه، ولا ريب أن الله تعالى يحب ذلك ورسوله يحبه، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد صرف سؤاله ورغبته وطلبه إلى محاب الله ورسوله، وآثر ذلك على طلبه وحوائجه ومحابه هو، بل كان هذا المطلوب من أحب الأمور إليه وآثرها عنده، فقد آثر ما يحبه الله ورسوله على ما يحبه هون وقد آثر الله ومحابه على سواه، والجزاء من جنس العمل، فمن آثر الله على غيره آثره الله على غيره.
واعتبر هذا بما تجد الناس يعتمدونه عند ملوكهم ورؤسائهم إذا أرادوا التقرب والمنزلة عندهم، فإنهم يسألون المطاع أن ينعم على من يعلمونه أحب رعيته إليه، وكلما سألوه أن يزيد في حبائه وإكرامه وتشريفه، علت منزلتهم عنده، وازداد قربهم منه، وحظوا به لديه، لأنهم يعلمون منه إرادة الإنعام والتشريف والتكريم لمحبوبهم، فأحبهم إليه أشدهم له سؤالا ورغبة أن يتم عليه إنعامه وإحسانه، وهذا أمر مشاهد بالحس، ولا تكون منزلة هؤلاء ومنزلة من سأل المطاع حوائجه هو – وهو فارغ من سؤاله تشريف محبوبه والإنعام عليه – واحدة.
فكيف بأعظم محب وأله لأكرم محبوب وأحقه بمحبه ربه له.؟ ولو لم يكن من قفوائد الصلاة عليه إلا هذا المطلوب وحده لكفى المؤمن به شرفا[229].
وكما وردت أحاديث تذم تارك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة"[230] وعن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي"[231].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من نسي الصلاة عليّ خطئ طريق الجنة"[232].
000000000000000
[1] الآية (56) من سورة الأحزاب.
[2] محمد بن عبد الرحمن بن محمد شمس الدين السخاوي،. مؤرخ حجة وعالم بالحديث والتفسير والأدب، وصنف زهاء مئتي كتاب، توفي بالمدينة. الأعلام (6/ 194).
[3] انظر: القول البديع (ص 258- 259).
[4] الخليل بن أحمد الفراهيدي من أئمة اللغة والأدب، وواضع علم العروض، وهو أستاذ سيبويه النحوي، ومن أشهر كتبه كتاب العين، ترفي سنة 170هـ بالبصرة. الأعلام (2/ 314).
[5] كتاب العين (7/ 153).
[6] الصلات والبشر (ص 6).
[7] كتاب العين (7/ 153).
[8] تهذيب اللغة (12/ 237).
[9] المنهاج (2/ 133).
[10] كتاب العين (7/ 154).
[11] معجم مقاييس اللغة (3/ 300).
[12] محمد بن يعقوب بن محمد بن الفيروز أبادي، من أئمة اللغة والأدب وكان مرجع عصره في اللغة والحديث والتفسير، توفي سنة 817 هـ في زبيد باليمن وأشهر مؤلفاته القاموس المحيط.
الأعلام (7/ 146- 147).
[13] الصلات والبشر (ص 5- 6)
[14] تهذيب اللغة (2 1/ 238).
[15] الآية (4) من سورة الغاشية.
[16] الآية (3) من سورة المسد.
[17] الصلاة والبشر (ص 6).
[18] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة (4/153).
[19] اسمه ميمون بن قيس بن جندل من بني قيس بن ثعلبة الوائلي من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات أدرك الإسلام ورحل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليؤمن به، ولكن قريشا صرفته بمئة من الإبل. الأعلام (7/ 341).
[20] ديوان الأعشى (73).
[21] المصدر السابق (29).
[22] معجم مقاييس اللغة (3/ 300).
[23] تهذيب اللغة (12/ 237).
[24] (12/ 136).
[25] الآية (103) من سورة التوبة.
[26] الآية (84) من سورة التوبة.
[27] الآية (60) من سورة غافر.
[28] الآية (186) من سورة البقرة.
[29] الألفاظ على أربعة أقسام:
ا- الألفاظ المترادفة: وهي ما اختلفت ألفاظها واتحدت معانيها مثل: الليث، الأسد، الغضنفر ألفاظ مختلفة ولكنها جميعها دلت على معنى واحد وهو الحيوان المعروف.
2- الألفاظ المشتركة: وهي ما اتحدت ألفاظها واحتلفت معانيها مثل: العين: تطلق على العين الباصرة، والعين الجارية، والجاسوس.
3- الألفاظ المتباينة: ما اختلفت ألفاظها ومعانيها.مثل: السماء والأرض- الجدار والسقف.
4- الألفاظ المتواطئة: ما اتفقت ألفاظها ومعانيها.
فإذا كان المعنى متساويا في الجميع فهو التواطؤ المطلق ومثاله: "الرجل": لزيد وعمرو.
وإذا كان المعنى متفاضلا فهو التواطؤ المشكك ومثاله "النور"، للشمس والسراج. التحفة المهدية (1/ 209).
[30] الآية (22) من سورة سبأ.
[31] الآية (20) من سورة النحل.
[32] الآية (77) من سورة الفرقان.
[33] الآيتان (55، 56) من سورة الأعراف.
[34] الآية (90) من سورة الأنبياء.
[35] جلاء الأفهام (ص 73- 74).
[36] الآية (43) من سورة الأحزاب.
[37] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة. فتح الباري (3/ 361) ح 1497، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته (3/ 121).(4/388)
[38] جلاء الأفهام (ص 74).
[39] فتح الباري (11/ 156).
[40] إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الجهضمي الأزدي فقيه على مذهب الإمام مالك، جليل التصانيف، من بيت علم وفضل توفر، سنة 282 هـ. الأعلام (1/ 310).
[41] الضحاك بن مزاحم الهلالي أبو القاسم أو أبو محمد. الخراساني، مفسر ولم يثبت له سماع من أحد من الصحابة ترفي سنة 105 هـ. تهذيب التهذيب (4/ 453- 454)
[42] كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 40)
[43] محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي الأزدي، المعروف بالمبرد إمام العربية ببغداد في زمانه، وأحد أئمة الأدب والأخبار، توفي ببغداد سنة 286 هـ. الأعلام (7/ 144).
[44] فتح الباري (11/ 156) وجلاء الأفهام (ص 75).
[45] جلاء الأفهام (ص 75).
[46] كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 41)
[47] مقاتل بن حيان النبطي (بفتح النون والموحدة) أبو بسطام البلخي، صدوق، وكان ناسكا فاضلا خرج له الجماعة إلا البخاري، مات بكابل قبيل الخمسين ومائة. تهذيب التهذيب (10/ 277- 279).
[48] ذكره ابن حجر في فتح الباري (11/ 155- 156).
[49] جلاء الأفهام (ص 75).
[50] المنهاج (2/ 134).
[51] رفيع (بالتصغير) بن مهران أبو العالية الرياحي مولاهم، البصري أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ودخل على أبي بكر وصلى خلف عمر، ثقة، توفي سنة تسعين وقيل بعد ذلك. تهذيب التهذيب (3/ 284- 286).
[52] ذكره تعليقا البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب تفسير قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ...} الآية. انظر: فتح الباري (8/ 532).
[53] الروح بن أنس البكري ويقال الحنفي البصري ثم الخرساني روى عن أنس بن مالك وأبي العالية والحسن البصري وغيرهم، مات في خلافة أبي جعفر المنصور.تهذيب التهذيب (3/ 238- 239).
[54] كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 40) القول البديع (ص 19). وأورده ابن حجر في الفتح وعزاه لابن أبي حاتم. فتح الباري (8/533).
[55] العين (7/ 154).
[56] جلاء الأفهام (ص 78).
[57] بكر بن محمد بن العلاء القشيري، قاض من علماء المالكية من أهل البصرة، انتقل إلى مصر قبل سنة (330 هـ) وتوفي بها سنة 344هـ. الأعلام (2/ 69).
[58] فتح الباري (11/ 156)
[59] الآيات (155 إلى 157) من سورة البقرة.
[60] أخرجه أحمد في المسند (4/ 353).
[61] الآية (156) من سورة الأعراف.
[62] الآية (56) من سورة الأعراف.
[63] الآية (43) من سورة الأحزاب.
[64] الآية (117) من سورة التوبة.
[65] أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأدب، باب رحمة الولد. فتح الباري (10/ 467) ح 5998، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (8/ 97).
[66] أخرجه الترمذي في السنن، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين (4/ 323- 324) ح 1924، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
[67] جلاء الأفهام (ص 75- 82) بتصرف.
[68] القول البديع (ص 20).
[69] الآية (56) من سورة الأحزاب.
[70] المنهاج للحليمي (2/ 143).
[71] القول البديع (ص 21).
[72] جلاء الأفهام (ص 174- 175).
[73] تفسير ابن كثير (3/ 507).
[74] تفسير القرطبي (14/ 232) بتصرف
[75] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي (6/120-121).
[76] المنهاج للحليمي (2/ 131).
[77] تقدم تخريجه (ص 480).
[78] فتح الباري (11/ 155).
[79] تقدم تخريجه (ص 348).
[80] واسمه سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي أبو سعيد الخدري، مشهور بكنيته استصغر بأحد واستشهد أبوه بها، وشهد هو ما بعدها، كان من أفاضل الصحابة وحفظ حديثا كثيرا، مات بعد الستين من الهجرة. الإصابة (2/ 32- 33).
[81] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم انظر: فتح الباري (11/ 152) ح 6358
[82] عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري أبو مسعود البدري، مشهور بكنيته شهد العقبة، والمشاهد كلها، مات بعد سنة أربعين للهجرة. الإصابة (2/ 483- 484).
[83] بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري البدري شهد العقبة وشهد بدرا والمشاهد بعدها، استشهد بعين التمر مع خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر سنة اثنتي عشرة.الإصابة (1/ 162) والاستيعاب (1/ 155- 156).
[84] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بمد التشهد (2/17).
[85] أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 262). وأخرجه النسائي في السنن، كتاب السهو، باب كيف الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (3/ 48) وإسناده حسن.
[86] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف. فتح الباري (9 / 23) ح 4992، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (2/ 202).(4/389)
[87] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، فتح الباري (3/ 48) ح 1162 وقد جاءت رواية البخاري على الشك الذي ذكره ابن القيم.
[88] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي (2/ 199) وذكر مسلم أيضا هذا الاختلاف فقال قال شعبة من آخر الكهف، وقال "همام من أول الكهف كما قال هشام
[89] النواس في سمعان بن خالد بن عمرو العامري الكلابي له ولأبيه صحبة وحديثه عند مسلم فى صحيحه الإصابة (3/ 546).
[90] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه (8/196-197)
[91] جلاء الأفهام (177- 179) بتصرف.
[92] جلاء الأفهام ص (251).
[93] جلاء الأفهام ص (251).
[94] مجموع الفتاوى (27/ 408) والمغني (1/ 542) وجلاء الأفهام ص(251)
[95] مجموع الفتاوى (27/ 408) والمغني (1/ 542) وجلاء الأفهام ص(251)
[96] المغني (1/541).
[97] محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، من فقهاء أهل المدينة من التابعين، توفي سنة أربع عشرة ومائة. تهذيب التهذيب (9/350-352).
[98] المغني (1/ 542) جلاء الأفهام (253- 255) والقول البديع (180- 183).
[99] انظر جلاء الأفهام (ص 251- 276).
[100] صرفت النظر عن إيراد أدلة كل فريق نظرا:
ا- كثرة الأدلة والاعتراضات الواردة في هذه المسألة.
2- كون المسألة تتعلق بالنواحي الفقهية فهذا مما يتعارض مع منهجية البحث الذي يتناول النواحي العقدية.
[101] الأم للشافعي (1/ 117).
[102] إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل، أبو إبراهيم المزني، صاحب الإمام الشافعي، كان زاهدا عالما مجتهدا قوي الحجة، توفي سنة 264 هـ. الأعلام (1/ 329).
[103] أخرجه الدارقطنى فى السنن، كتاب الصلاة، باب صفة التشهد ووجوبه واختلاف الروايات فيه (1/ 351) وإسناده ضعيف جدا لأن فيه خارجة بن مصعب: متروك، وموسى بن عبيدة: ضعيف.
[104] أخرجه الدارقطنى في السنن، كتاب الصلاة، باب ذكر وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد (1/ 355) وإسناده ضعيف فيه عبد المهيمن بن عباس لا يحتج به.
[105] أخرجه أحمد في المسند (4/119) والحاكم في المستدرك (1/ 268).
[106] الرضف: الحجارة المحماة على النار، واحدتها: رضفة. النهاية (2/ 231)
[107] أخرجه أحمد في المسند (1/386، 410، 428، 436، 460).وأخرجه أبو داود فى السنن، كتاب الصلاة، باب تخفيف القعود (1/ 606).ح 995 وأخرجه الترمذي في السنن، أبواب الصلاة، باب ما جاء في مقدار القعود في الركعتين الأوليين (2/202) ح 366. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. والعمل على هذا عند أهل العلم يختارون أن لا يطيل الرجل القعود في الركعتين الأوليين ولا يزيد على الثشهد شيئا" انتهى كلامه.
[108] جلاء الأفهام (ص 277- 279).
[109] الحسن بن علي بن أب ي طالب، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته في الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، وكان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم بويع بالخلافة بعد مقتل أبيه ثم تنازل عنها لمعاوية حقنا لدماء المسلمين، ومات سنة تسع وأربعين وقيل بعدها.الإصابة (1/ 327- 330).
[110] الحديث إلى قوله "وتعاليت"، أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب القنوت في الوتر (2/ 133-134). وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في قنوت الوتر (1/ 328) ح 464. وأخرجه ابن ماجه في السنن، أبواب إقامة الصلاة، باب ما جاء في قنوت الوتر (1/ 213) ح 1167، وقال الحافظ ابن حجر: الحديث-حسن صحيح. التلخيص (ص 94- 95).
[111] أخرجه النسائي في السنن (3/ 248) وقد انفرد النسائي بهذه الزيادة "وصلى الله على النبي"، وروايته ضعيفة، قال الحافظ ابن حجر هذه الزيادة في هذا السند غريبة لا تثبت وإن سنده لا يخلو إما من راو مجهول، أو انقطاع في السند.
[112] عروة بن الزبير بن العوام الأسدي أبو عبد الله المدني، تابعي ثقة فقيه مشهور، ولد في أوائل خلافة الفاروق، وتوفي سنة أربع وتسعين على الصحيح. تهذيب التهذيب (8/ 180- 185).
[113] عبد الرحمن بن عبد من غير إضافة القارئ بتشديد الياء من ولد القارة ابن الديش، ذكره العجلي في ثقات التابعين واختلف قول الواقدي فيه قال تارة له صحبة، وتارة تابعي، مات سنة ثمان وثمانين تقريب التهذيب (206).
[114] عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوق بن وهب القرشي الزهري، صحابي أسلم يوم الفتح، وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وكان على بيت المال أيام عمر، وتوفي في خلافة عثمان. الإصابة (2/ 265).
[115] وإليك نسعى ونحفد أي نسرع في العمل والخدمة. النهاية (1/ 406).
[116] أخرجه الشافعي في الأم (1/ 239- 240) والبيهقي في السنن (4/ 39) ورجاله كلهم ثقات.
[117] عبد الله بن الحارث الأنصاري أبو الوليد البصري، ثقة من رجال الشيخين. تهذيب التهذيب (5/ 181- 182).(4/390)
[118] معاذ بن الحارث الأنصاري النجاري أبو حليمة ويقال أبو الحارث المدني القاري، قال ابن عبد البر شهد الخندق، ويقال لم يدرك من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ست سنين، وهو الذي أقامه عمر فيمن أقام في رمضان ليصلي التراويح، يقال إنه قتل يوم الحرة. تهذيب التهذيب (10/ 188- 189).
[119] فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 45) رقم 107، قال الألباني: "إسناده موقوف صحيح، وأبو حليمة معاذ هو أبن الحارث الأنصاري القاري قال ابن أبي حاتم: (4/ 1/ 246) "وهو الذي أقامه عمر يصلي بهم في. شهر رمضان صلاة التراويح وعبد الله بن الحارث هو أبو الوليد البصري ثقة من رجال الشيخين،. ورواه ابن نصر في "قيام الليل" (ص 136) بلفظ "كان يقوم في القنوت في رمضان يدعو ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويستسقي الغيث".
[120] جلاء الأفهام (ص 279- 281).
[121] الأم (1/ 239- 240) والبيهقي في السنن الكبرى (4/ 39).
[122] أبو أمامة بن سهل بن حنيف الأنصاري، ولد في حياة النبي علما وسمي باسم جده لأمه أسعد بن زرارة وكني بكنيته، وكان من أكابر الأنصار وعلمائهم، توفي سنة مائة للهجرة. تهذيب التهذيب (1/ 263- 264).
[123] سعيد بن المسيب بن حزن الخزومي القرشي، وسيد التابعين وأحد فقهاء المدينة السبعة، وكان زاهدا ورعا يعيش من كسب يده توفي سنة 94 هـ. تهذيب التهذيب (4/ 84- 88).
[124] فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 39) رقم 94. و قال الألباني في تعليقه على هذا الكتاب: اسناده صحيح، وأبو أمامة هذا صحابي صغير كما قال ابن القيم، وقد رواه عن جماعة من الصحابة، فقال يونس عن ابن شهاب، قال أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف- وكان من كبراء الأنصار وعلمائهم، وأبناء الذين شهدوا بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أخبره رجال من أصحاب رسول الله في الصلاة على الجنازة أن يكبر الامام ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم الحديث نحوه وزاد: قال الزهري: حدثنا بذلك أبو أمامة وابن المسيب يسمع فلم ينكر ذلك عليه. قال ابن شهاب: فذكرت الذي أخبرني أبو أمامة من السنة في الصلاة على الميت لمحمد بن سويد فقال وأنا سمعت الضحاك بن قيمة يحدث عن حبيب بن مسلمة في صلاة صلاها على الميت مثل الذي حدثنا أبو أمامة.
أخرجه الحاكم (1/ 360) وعنه البيهقي (4/ 39، 40) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، ورواه النسائي (1/ 281) من طريق الليث عن ابن شهاب به مختصرا " انتهي.
[125] (2/ 486).
[126] يحى بن يحى بن أبي عيسى كثير بن وسلاس الليثي بالولاء، أبو محمد عالم الأندلس في عصره بربري الأصل، سمع الموطأ من مالك قال عنه الإمام مالك هذا عاقل أهل الأندلس، توفي بقرطبة سنة 234 هـ. الأعلام (8/ 176).
[127]سعيد بن كيسان المقبري أبو سعد المدني، ثقة جليل تغير قبل موته بأربع سنين، مات في حدود العشرين ومائة وقيل قبلها وقيل بعدها. تهذيب التهذيب (4/ 38- 40).
[128] كيسان أبو سعيد المقبري مولى أم شريك، تابعي ثقة كثير الحديث توفي سنة مائة للهجرة. تهذيب التهذيب (8/ 453- 454)
[129] الموطأ (ص 151- 152) ح 535، وأخرجه إسماعيل القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 39) ح 93. وقال الألباني المحقق عند تعليقه عليه: إسناده موقوف صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه البيهقي في السق (4/ 40).
[130] جلاء الأفهام (ص 281- 284).
[131] الآيات (1- 4) من سورة الشرح.
[132] أخرجه أحمد في المسند (2/ 302، 343). وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في الخطبة (5/ 173) ح 4841 وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب النكاح، باب ما جاء في خطبة النكاح (3/ 414) ح 1106 وقال هذا حديث حسن صحيح غريب.
[133] تفسير الطبري (30/ 235).
[134] أورده السيوطي في الدر المنثور وعزاه لعبد بن حميد (6/ 363)
[135] أخرجه ابن جرير في تفسيره (30/ 235).
[136] عون بن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي الكوفي، ثقة من الرابعة، مات سنة ست عشرة ومائة. تهذيب التهذيب (8/170).
[137] واسمه وهب بن عبد الله السرائي (بضم المهملة) ويقال اسم أبيه وهب أيضا، أبو جحيفة مشهور بكنيته، ويقال له وهب الخير، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر عمره وحفظ عنه ثم صحب عليا بعده وولاه شرطة الكوفة. مات سنة أربع رستين. الإصابة (3/ 606).
[138] المسند (1/106).
[139] جلاء الأفهام (ص 286).
[140] تقدم تخريجه ص 326
[141] فضالة بن عبيد بن نافذ بن قيس الأنصاري الأوسي، صحابي جليل أسلم قديما ولم يشهد بدرا، وشهد أحدا فما بعدها وشهد فتح مصر والشام قبلها، مات في خلافة معاوية. الإصابة (3/ 251).(4/391)
[142] أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/ 17).، وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب الدعاء ( 2/ 162) ح 481 1، وأخرجه الترمذي في سننه كتاب الدعوات، باب ادع تجب (5/ 517) ح 3473، 3475 وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي في سننه (3/ 44) باب التمجيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والحاكم في المستدرك (1/ 232) وصححه ووافقه الذهبي.
[143] أخرجه الترمذي في سننه، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ( 2/ 356). وقال أحمد شاكر بهامشه: "هذا موقوف بحكم المرفوع" وذكره الألباني في صحيح سنن الترمذي (1/ 150، 151). وقال: حسن- الصحيحة 2035.
[144] صحيح ابن خزيمة (452) وابن حبان (321) موارد.
[145] فاطمة بنت الحسين بن على بن أبي طالب الهاشمية المدنية روت عن أبيها وأخيها زين العابدين وغيرهم، وزوجها هو ابن عمها الحسن بن الحسن بن على، وتزوجها بعده عبد الله بن عمرو بن عثمان. وذكرها ابن حبان في الثقات، وقال: ماتت وقد قاربت التسعين. تهذيب التهذيب (12/ 442- 443).
[146] فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم الحسنين سيدة نساء هذه الأمة، تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في السنة الثانية للهجرة، وماتت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر وقد جاوزت العشرين بقليل. تقريب التهذيب (ص 471).
[147] أخرجه بهذا اللفظ: الإمام أحمد في المسند (6/ 272). والترمذي في السنن أبواب الصلاة باب ما جاء ما يقول عند دخول المسجد (2/ 127، 128) ح 314، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أبي حميد، وأبي أسيد، وأبي هريرة ، وقال: "حديث فاطمة حديث حسن، وليس إسناده بمتصل وفاطمة بنت الحسين لم تدرك فاطمة الكبرى، وإنما عاشت فاطمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أشهرا". وأخرجه بلفظ: "إذا دخل المسجد يقول "بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال "بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك". الإمام أحمد في المسند (6/ 283). وابن ماجه في السنن، أبواب المساجد، الدعاء عند دخول المسجد (1/ 139) ح 755 وله شاهد من حديث أبي حميد وأبي أسيد الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي ا صلى الله عليه وسلم ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك. أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد (1/ 317، 318) ح 465 وهو عند مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين باب ما يقول إذا دخل المسجد (2/ 155) بلفظ إذا دخل المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل: اللهم افتح لي أبواب فضلك وهو عند أحمد بهذا اللفظ (5/ 425). وهو عند النسائي بهذا اللفظ أيضا، انظر السنن كتاب المساجد باب القول عند دخول المسجد والخروج منه (2/ 53) وفي سنن ابن ماجه، أبواب المساجد، باب الدعاء عند دخول المسجد (1/ 139) ح 756، قال رسول صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم ثم ليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك. وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم" أخرجه ابن ماجة في سننه، أبواب المساجد، باب الدعاء عند دخول المسجد (1/ 131) ح 757، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، باب ما يقول إذا دخل المسجد ح 90 وفيه: فليقل: اللهم باعدني من الشيطان بدل قوله: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم. وأخرجه من طريق آخر عن أبي هريرة ولم يذكر فيه السلام ح 91، 92 وتعرض النسائي هنا لاختلاف ألفاظ الحديث فليراجع.
والحديث أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (452). وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 207) كتاب الصلاة ولفظه عند الحاكم إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع (528).
[148] الرد على الأخنائي (ص 147).
[149] الشفا (2/ 637).
[150] نافع الفقيه مولى ابن عمر أبو عبد الله المدني، ثقة ثبت فقيه مشهور قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمره مات سنة سبع عشرة ومائة أو بعد ذلك. تهذيب التهذيب (10/ 412- 414).(4/392)
[151] كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 36- 37) ح 87. وقال الألباني في تعليقه عليه: "إسناده موقوف منقطع فإن نافعا لم يدرك عمر، ولكن في إجلاء الأفهام نقلا عن المصنف أن ابن عمر فإن صح هذا فيكون قد سقط من نسختنا لفظة (ابن) ويكون السند حينئذ متصلا صحيحا، وهذا مما أستبعده، والله أعلم، انثهي كلامه.
[152] وهب بن الأجدع الهمداني الخارفي الكرفي، تابعي ثقة، روي عن عمر وعلي وعنه هلال بن سياف والشعبي، وكان قليل الحديث. تهذيب التهذيب (1/ 158).
[153] أخرجه إسماعيل بن اسحاق القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 34) ح 81 وأورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 292- 293) وعزاه لجعفر بن عون وأبي ذر الهروي. وأورده السخاوي في القول البديع (ص 209) وعزاه للبيهقي وإسماعيل القاضي وأبي ذر الهروي وقال- أي السخاوي- اسناده قوي
[154] "ترة": النقص، وقيل التبعة. النهاية (1/ 189)
[155] أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 446، 453، 481، 484) وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب الدعاء، باب في القوم يجلسون لا يذكرون الله (5/ 1 46) ح 0 338 وقال حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 159) ح 449 وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 496) وقال هذا حديث صحيح الأسناد ولم يخرجاه وصالح ليس بالساقط وتعقبه الذهبي بقوله صالح ضعيف. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (2322).
[156] أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 314) ح 410 وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 22) ح 55
وقال الألباني في تعليقه عليه: إسناده صحيح موقوف ولكنه في حكم المرفرع.
[157] أخرجه النساثي في عمل اليوم والليلة (ص 314) ح 411.
[158] أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي، أبو جعفر، فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، وهو أحد الثقات الأثبات الحفاظ، توفي سنة 321 ص. الأعلام (1/ 206).
[159] عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، أهله من سبي السند استقر بدمشق وهو من شيوخ الإسلام كان عابدا مجاهدا، قال عنه الحاكم: الأوزاعي إمام عصره عموما وإمام أهل الشام خصوصا، توفي ببيروت عام 157 ص. البداية والنهاية (10/ 115- 120).
[160] أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الدعوات، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: رغم أنف رجل" (5/ 550) ح 3545 وقال: "وهذا حديث حسن غريب من هذا الرجه. وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 549) وصححه ووافقه الذهبي. وأخرجه إسماعيل بن اسحاق القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي على (ص 9) ح 16 وقال الألباني في تعليقه عليه إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح.
[161] أخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 9) ح 18 وقال الألباني في تعليقه عليه إسناده حسن. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (2387) والحديث روي كذلك من طرق أخرى عن كل من:
ا- كعب بن عجرة رضي الله عنه:
أخرجه إسماعيل بن إسحاق في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 15) ح 19. وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 153، 154) وصححه ووافقه الذهبي.
2- أنس بن مالك رضي الله عنه:
قال السخاوي في القول البديع (ص 148) أخرجه ابن أبي شيبة والبزار في مسنديهما.
3- مالك بن الحويرث رضي الله عنه:
أخرجه ابن حبان في صحيحه (2386) موارد، وقال السخاوي (ص 148) أخرجه ابن حبان في صحيحه وثقاته معا، والطبراني ورجاله ثقات لكن فيهم عمران بن أبان الراسطي وهو وإن وثقه ابن حبان وأخرج حديثه هذا في صحيحه فقد ضعفه غير واحد.
4- جابر بن عبد الله رضي الله عنه:
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 95). وقال السخاري في كتابه القول البديع (ص 148): رواه البخاري في الأدب المفرد والطبري في تهذيبه والدارقطي في الأفراد وهو حديث حسن ونحوه من وجه آخر عند الطبراني في الأوسط وابن السني في عمل اليوم والليلة، وأشار إليه الترمذي في جامعه بقوله وفي الباب عن جابر وقد أخرجه النسائي وساقه الضياء في المختارة من طريق الطيالسي وقال هذا عندي على شرط مسلم. انتهي وفي ذلك نظر والله أعلم. 5- جابر بن سمرة:
قال السخاوي: أخرجه الدارقطني في الأفراد والبزار في مسنده، والطبراني في الكبير والدقيقي في أماليه. وللحديث طرق أخرى ذكرها السخاوي في القول البديع (ص 147- 151) ولا يتسع المجال هنا لذكرها. قال ابن القيم (ولا ريب أن الحديث بتلك الطرق المتعددة تفيد الصحة، جلاء الأفهام (ص 295).
[162] أخرجه النسائبي في اليوم والليلة رقم (61) وابن السني (383) وإسناده صحيح. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (643).
[163] الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي أبو عبد الله المدني سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته من الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، استشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسرن سنة. الاصابة (1/ 1 33- 334).(4/393)
[164] أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/ 201). والترمذي في سننه، كتاب الدعوات، باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنف رجل (5/ 551) ح 3546 وقال: حديث حسن صحيح غريب والنسائي في اليوم والليلة (55). وابن حبان في صحيحه (2388) موارد. والحاكم في المستدرك (1/ 549) وصححه ووافقه الذهبي. وأخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 15) ح 33.
[165] أخرجه إسماعيل بن إسحاق القاضي (ص 16) رقم 37 وقال الألباني في تعليقه عليه: حديث صحيح بشاهده المتقدم والآتي بعده، ورجال إسناده ثقات لولا الرجل الذي لم يسم. وقد رواه ابن أبي عاصم في "كتاب الصلاة" من طريتى أخرى عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي ذر، فأحد الطريقين يقوى الآخر.
[166] الآيتان (23- 24) من سورة الحديد.
[167] أخرجه البخاري في الأدب المفرد رقم (296) عن جابر رضي الذ عنه والإمام أحمد في المسند (3/307).
[168] الآية (7) من سورة الحديد.
[169] الآية (208) من سورة البقرة.
[170] الآية (59) من سورة النساء.
[171] الآية (194) من سورة البقرة.
[172] الآية (43) من سورة البقرة.
[173] الآية (200) من سورة آل عمران.
[174] الآية (175) من سورة آل عمران.
[175] الآية (150) من سورة البقرة.
[176] الآية (78) من سورة الحج.
[177] الآية (103) من سورة آل عمران.
[178] أخرجه ابن ماجة في السنن، أبواب إقامة الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (1/ 164) ح 895 وقال الألباني حسن صحيح (صحيح ابن ماجة 1/ 150). وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 17- 18) ح 41- 42- 43- 44. وقال الألباني في تعليقه عليه: "إسناده مرسل صحيح، والحديث له طرق وإن كانت لا تخلو من ضعف فبعضها يقوي بعضا فالحديث وتقي بها إلى درجة الحسن على أقل الدرجات" انتهي كلامه. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1/ 418) مرسلا عن محمد بن الحنفية. وأخرجه الطبراني في الكبير (3/ 138) رقم 2887 موصولا عن الحسين بن علي من طريق بشر بن محمد الكندي وهو ضعيف. انظر: مجمع الزوائد (10/ 164). وأخرجه البيهقي في الشعب (1/ 419) عن أبي هريرة.
[179] أورده ابن القيم وعزاه لسعيد بن الأعرابي " جلاء الأفهام (ص 301) وأورده السخاوي في القول البديع (ص 152) وقال أخرجه النميري من وجهين من طريق عبد الرزاق وهو في جامعه ورواته ثقات.
[180] تقدم تخريجه ص 307
[181] تقدم تخريجه ص 308
[182] الآية (10) من سورة الفتح.
[183] الآية (31) من سورة آل عمران.
[184] هجيرى: الدأب والشأن.
[185] جلاء الأفهام (ص 294 الى 305).
[186] أوس بن أوس الثقفي، صحابي، سكن الشام ومات بها. الأصابة (1/ 92) وتهذيب التهذيب (1/ 381).
[187] أخرجه الإمام أحمد في المسند (4/ 8) وأخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي (ص 11) رقم 22. وأخرجه أبو داود في سننه (1/ 635) كتاب الصلاة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة ح 1047. وأخرجه النسائي في السنن (3/ 91) كتاب الجمعة، باب ذكر فضل الجمعة. وأخرجه ابن ماجة في سننه (1/ 195) أبواب إقامة الصلاة، باب فضل الجمعة ح 1071 وفي أبواب ما جاء في الجنائز باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم (1/ 300) ح 1637. وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 60) وصححه ووافقه الذهبي. ورواه ابن حبان في صحيحه. انظر الموارد (550). قال ابن القيم: "وقد أعله بعض الحفاظ بأن حسينا الجعفي حدث به عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن أبي الأشعت الصنعاني، عن أوس بن أوس، قال ومن تأمل هذا الإسناد لم يشك في صحته، لثقة رواته وشهرتهم وقبول الأئمة أحاديثهم وعلته: أن حسينا الجعفي لم يسمع من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وإنما سمع من عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، وعبد الرحمن بن يزيد ابن تميم لا يحتج به، فلما حدث به حبن الجعفي غلط في اسم الجد، فقال ابن جابر، وقد بين ذلك الحفاظ ونبهوا عليه.
فقال البخاري في التاريخ الكبير "(5/ 1365) عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمي الشامى عن مكحول، سمع منه الوليد بن مسلم، عنده مناكير، ويقال: هو الذي روى عنه أبو أسامة وحسين الجعفي، وقالا: هو يزيد بن جابر، وغلطا في نسبه ونريد بن تميم أصح، وهو ضعيف الحديث. وقال الخطيب: روى الكوفيون أحاديث عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ووهموا في ذلك، والحمل عليهم في تلك الأحاديث. وقال موسى بن هارون الحافظ: روى أبو أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وكان ذلك وهنا منه، وهو لم يلق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وإنما لقي عبد الرحمن بن يزيد بن تميم، فظن أنه ابن جابر نفسه، وابن تميم ضعيف. وقد أشار غير واحد من الحفاظ إلى ما ذكره هؤلاء الأئمة. وجواب هذا التعليل من وجوه:(4/394)
أحدها: أن حسينا الجعفي قد صرح بسماعه له من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. قال ابن حبان في صحيحه: حدثنا ابن خزيمة، حدثنا أبو كريب، حدثنا حسين بن علي حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، فصرح بالسماع منه.
وقولهم: إنه ظن أنه ابن جابر وإنما هو ابن تميم، فغلط في اسم جده بعيد، فإنه لم يكن يشببه على حسين هذا بهذا، مع نقده وعلمه بهما وسماعه منهما.
فإن قيل: فقد قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب "العلل" سمعت أبي يقول عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر، لا أعلم أحدا من أهل العراق يحدث عنه، والذي عندي أن الذي يروي عنه أبو أسامة وحسين الجعفي واحد، وهو عبد الرحمن بن يزيد بن تميم لأن أبا أسامة روى عن عبد الرحمن بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة خمسة أحاديث أو ستة أحاديث منكرة، لا يحتمل أن يحدث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بمثله، ولا أعلم أحدا من أهل الشام روى عن ابن جابر من هذه الأحاديث شيئا. وأما حسين الجعفي فإنه يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث، عن أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة أنه قال: "أفضل الأيام يوم الجمعة، فيه الصعقة وفيه النفخة، وفيه كذا" وهو حديث منكر لا أعلم أحدا رواه غير حسين الجعفي، وأما عبد الرحمن بن-نريد بن تميم فهو ضعيف الحديث، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثقة، تم كلامه. قيل: وقد تكلم في سماع حسين الجعفي، وأبي أسامة من ابن جابر فأكثر أهل الحديث أنكروا سماع أبي أسامة منه. قال شيخنا (أبو الحجاج المزي) في التهذيب: قال ابن نمير- وذكر أبا أسامة- فقال: الذي-يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر يرى أنه ليس بابن جابر المعروف، ذكر لي أنه رجل يسمى باسم ابن جابر، قال يعقوب: صدق، هو عبد الرحمن ابن فلان بن تميم، فدخل عليه أبو أسامة فكتب عنه هذه الأحاديث فروى عنه، وإنما هو إنسان يسمى بابن جابر. قال يعقوب: وكأني رأيت ابن نمير يتهم أبا أسامة أنه علم ذلك وعرف ولكن تغافل عن ذلك قال: وقال لي ابن نمير أما ترى روايته لا تشبه سائر حديثه الصحاح الذي روى عنه أهل الشام وأصحابه؟ وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سكت محمد بن عبد الرحمن ابن أخي حسين الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، فقال قدم الكوفة عبد الرحمن بن يزيد بن تميم وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثم قدم عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بعد ذلك بدهر والذي يحدث عنه أبو أسامة ليس هو ابن جابر، بل هو ابن تميم وقال ابن داود سمع أبو أسامة من ابن المبارك عن ابن جابر وجميعا يحدثان عن مكحول، وابن جابر أيضا دمشقي، فلما قدم هذا قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد الدمشقي، وحدث عن مكحول، فظن أبو أسامة أنه ابن يزيد ابن جابر الذي روى عنه ابن المبارك وابن جابر ثقة مأمون يجمع حديثه، وابن تميم ضعيف.
وقال أبو داود: متروك الحديث، حدث عنه أبو أسامة وغلط في اسمه، وقال: حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الشامي وكل ما جاء عن أبي أسامة عن عبد الرحمن بن يزيد، فإنما هو ابن تميم.
وأما رواية حسين الجعفي عن ابن جابر، فقد ذكر شيخنا في التهذيب وقال: روى عنه حسين بن علي الجعفي، وأبو أسامة حماد بن أسامة إن كان محفوظا فجزم برواية حسين عن ابن جابر، وشك في رواية حماد فهذا ما ظهر في جواب هذا التعليل.
ثم بعد أن كتبت ذلك رأيت الدارقطني قد ذكر ذلك نصا فقال في كلامه على كتاب أبي حاتم في "الضعفاء" قوله: حسين الجعفي روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وأبو أسامة- روى عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم. فيغلط في اسم جده، تم كلامه.
وللحديث علة أخرى: وهي أن عبد الرحمن بن يزيد لم يذكر سماعه من أبي الأشعث.
قال علي بن المديني،: حدثنا الحسين بن علي بن الجعفي، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر سمعته يذكر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس... فذكره.
وقال إسماعيل بن إسحاق في كتابه (ص 11) رقم 22 حدثنا على بن عبد الله... فذكره. وليست هذه بعلة قادحة فإن للحديث شواهد من حديث أبي هريرة وأبي الدرداء، وأبي أمامة، وأبي مسعود الأنصاري، وأنس بن مالك والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى كلام ابن القيم جلاء الأفهام (ص 69- 71).
[188] مصيخة: أي مستمعة، مصغية.
[189] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب فضل يوم الجمعة (3/ 6) وأخرجه الترمذي في سننه، أبواب الجمعة، باب ما جاء في فضل يوم الجمعة (2/ 359) ح 488. وأخرجه النسائي في سننه، كتاب الجمعة، باب ذكر فضل يوم الجمعة (3/ 89). وأخرجه مالك في الموطأ (1/ 108).
[190] جلاء الأفهام (ص 71).(4/395)
[191] أخرجه ابن ماجة في سننه، أبواب ما جاء في الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم (1/ 300) 1638، وقال في الزوائد: هذا حديث صحيح، إلا أنه منقطع في موضعين لأن عبادة روايته عن أبي الدرداء مرسلة، قاله العلاء، وزيد بن أيمن عن عبادة مرسلة قاله البخاري. وقال السخاوي: أخرجه ابن ماجه ورجاله ثقات لكنه منقطع. وأخرجه الطبراني في الكبير بلفظ: "أكثروا الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة ليس من عبد يصلي علي إلا بلغتني صلاته حيث كان" قلنا وبعد وفاتك قال: "وبعد وفاتي إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". وقال العراقي إن إسناده لا يصح. القول البديع (ص 164).
[192] صدي (بالتصغير) ابن عجلان بن الحارث الباهلي، أبو أمامة صحابي مشهور يكنيه، سكن الشام ومات بها سنة ست وثمانين. الأصابة (2/ 175- 176).
[193] أخرجه البيهقي في السنن (3/ 249). وقال السخاوي: رواه البيهقي بسند حسن لا بأس به، إلا أن مكحولا قيل إنه لم يسمع من أبي أمامة في قول الجمهور. وقد رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس له فأسقط منه ذكر مكحول وسنده ضعيف القول البديع (ص 164). وقال ابن القيم: ولكن لهذا الحديث علتان:
إحداهما: أن برد بن سنان قد تكلم فيه، وقد وثقه يحى بن معين وغيره.
العلة الثانية: أن مكحولا قد قيل إنه لم يسمع من أبي أمامة والله أعلم. جلاء الأفهام (ص 72- 73).
[194] قال السخاوي: رواه الطبراني بسند لا بأس به في المتابعات، القول البديع (ص 162).
[195] أخرجه ابن عدي في الكامل (3/ 144) وسنده ضعيف، كما ذكر السخاوي فيه ثلاثة رواة ضعفاء هم: جبارة بن مغلس، وأبو إسحاق خازم، ويزيد الرقاشي. القول البديع (ص 162).
[196] جلاء الأفهام (ص 73).
[197] الكامل لابن عدي (3/ 1039).
[198] زيد بن وهب الجهني أبو سليمان الكوفي، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبض وهو في الطريق، ثقة جليل، كثير الحديث، توفي سنة ست وتسعين وقيل قبلها. تهذيب التهذيب (3/427).
[199] جلاء الأفهام (ص 73، 74) والقول البديع (ص 159).
[200] أورده السخاوي في القول البديع وقال: رواه الحاكم، وقال صحيح الإسناد والبيهقي في شعب الإيمان وحياة الأنبياء في قبورهم له، وابن أبي عاصم في فضل الصلاة له، وفي سنده أبو رافع وهو إسماعيل بن رافع وثقه البخاري وقال يعقوب بن سفيان يصلح حديثه للشواهد والمتابعات لكن قد ضعفه النسائي ويحي بن معين وقيل إنه منكر الحديث (ص 164). وأورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 310) وقال: وفيه إسماعيل بن رافع قال يعقوب بن سفيان: يصلح حديثه للشواهد والمتابعات.
[201] الحسن البصري وقد تقدم ترجمته ص 269
[202] أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين انظر (ص 13) ح 28، ح 29، قال الألباني: حديث صحيح بشاهده عن أوس بن أوس.
[203] أورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 311) وعزاه لابن وضاح، والسخاوي في القول البديع (ص 199- 200) وعزاه لابن وضاح وابن بشكوال.
[204] من المواطن التي ذكرها ابن القيم غير ما تقدم ما يلي:
1- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند استلام الحجر الاسود.
2- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند قبره.
3- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى السوق أو إلى دعوة أو غيرها.
4- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم إذا قام الرجل من نوم الليل.
5- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب ختم القرآن.
6- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند القيام من المجلس.
7- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند المرور على المساجد ورؤيتها.
8- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند الهم، والشدائد وطلب المغفرة.
9- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند كتابة اسمه صلى الله عليه وسلم
10- الصلاة عليه في عند تبليغ العلم إلى الناس، والتذكير والقصص.
11- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في أول النهار وآخره.
12- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب الذنب إذا أراد أن يكفر عنه.
13- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند العطاس.
14- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الوضوء.
15-- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند دخول المنزل.
16- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في كل موطن يجتمع فيه لذكر الله سبحانه وتعالى.
17- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب الصلوات.
18- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند النوم.
19- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في أثناء صلاة العيد.
[205] بدائع الفوائد (2/ 190).
[206] تقدم تخريجه ص 381.
[207] تقدم تخريجه ص 326.
[208] تقدم تخريجه.
[209] يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي، أبو يوسف المدني، قاضي المدينة، ثقة قليل الحديث و مات في ولاية أبي جعفر. تهذيب التهذيب (11/ 385).(4/396)
[210] أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 87) ح رقم 13 وقال: قال شيخ كان بمكة يقال له منيع لسفيان: عمن أسنده؟ قال: لا أدري، وقال الألباني في تعليقه: هذا مرسل صحيح الإسناد، ويشهد له الحديث الذي بعده- يعني الحديث الذي تقدم ذكره.
[211] أخرجه النسائي في عمل أليوم والليلة (ص 165) ح رقم 61 باب ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وابن السني في، عمل أليوم والليلة (ص135، 136) ح رقم 380
[212] أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 102، 261). والبخاري في الأدب المفرد (ص 94، 95) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص 166) ح 63 باب ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (2395).
[213] أخرجه النسائي في السنن (3/ 50) باب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك في عمل اليوم والليلة (ص 165، 166) ح 62، ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 550) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وكل من رواية "صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات".
ورواية "صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه بها عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات" جاءت من طريق بريد بن أبي مريم وقد جاء في بعفى الروايات عن بريد بن أبي مريم عن الحسن عن أنس وفي بعضها عن بريد بن أبي مريم عن أنس، وقد ذكر ابن القيم أن هذه العلة لا تقدح فيه شيئا، لأن الحسن لاشك في سماعه من أنس، وقد صح سماع بريد بن أبي مريم من أنس أيضا هذا الحديث، فرواه ابن حبان في صحيحه موارد 2390 والحاكم في المستدرك (1/ 550) من حديث يونس بن أبي إسحاق، عن بريد بن أبي مريم، قال سمعت أنس بن مالك... نذكره. ولعل بريدا سمعه من الحسن ثم سمعه من أنس، فحدث به على الوجهين، فإنه قال: كنت أزامل الحسن بن محمد، فقال حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، ثم إنه حدثه به أنس فرواه عنه كما تقدم". جلاء الأفهام (ص 56).
[214] أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 4) ح 4. وقال الألباني: إسناده ضعيف، ولكن المرفوع من الحديث صحيح له شواهد كثيرة.
وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 94) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
[215] أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 5) ح رقم 5. وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 94) عن أوس بن الحدثان عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكره. وهذا الحديث والذي قبله هما من طريق سلمة بن وردان وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحه (2/ 503) ح رقم 829 وسلمة بن وردان ضعيف بغير تهمة، فيصلح للاستشهاد به وللحديث شاهد آخر من حديث عبد الرحمن بن عرف.
[216] عبد الرحمن بن عوف الزهري، ولد بعد الفيل بعشر سنين وأسلم قبل دخول دار الأرقم، وهاجر الهجرتين وشهد المشاهد كلها، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد رجال الشورى الستة، توفي سنة 31 ص وقيل سنة 32 ص وهو الأشهر. الإصابة (2/408-410).
[217] أخرجه بهذا اللفظ إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 5) ح 7 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/191)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (2/ 287) (رواه أحمد ورجاله ثقات). وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 222) وقال هذا حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
[218] الأسراف بالفتح آخره "فاء" موضع شامي البقيع. وفاء الوفاء (4/ 1125).
[219] أخرجه بهذا اللفظ إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبوي صلى الله عليه وسلم (ص 6- 7) ح 10.
[220] أورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 64) وعزاه لابن أبي الدنيا والسخاوي في القول البديع (ص 112) وعزاه لابن أبي عاصم وابن أبي الدنيا.
[221] أخرجه إسماعيل القاضي فى فضل الصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم ص 3 ح رقم 1
[222] أخرجه الأمام أحمد في المسند (4/ 30). وإسماعيل القاضي، في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 3- 4) ح 2، والنسائي في السنن (3/ 44 و 50) كتاب الصلاة، باب فضل التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، وباب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، باب ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقال الحافظ ابن حجر (رواته ثقات) فتح الباري (11/167) وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 550) وابن حبان في صحيحه (2391) موارد.
[223] أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في المسند (4/ 29).
قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 503) ح رقم 829 عن رواية أحمد هذه "وهذا إسناد ضعيف، لسوء حفظ أبي معشر، وإسحاق بن كعب مجهول الحال فهر إسناد لا بأس به في الشواهد والمتابعات" انتهي كلامه والحديث له شواهد متعددة سبق ذكر بعضها.(4/397)
[224] هانىء بن نيار بن عمرو البلوي أبو بردة بن نيار حليف الأنصار، خال البراء بن عازب مشهور بكنيته وقيل اسمه الحرث وقيل مالك والأول أشهر، صحابي جليل شهد بدرا وما بعدها، مات في أول خلافة معاوية. الإصابة (3/ 565) – (4/19).
[225] أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 166، 167) ح رقم 64، باب ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن حجر: رواته ثقات. فتح الباري (11/ 167). وأورده ابن القيم في جلاء الأفهام (ص 83، 84) وعزاه للطبراني في المعجم الكبير وابن أبي عاصم في كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
[226] تقدم تخريجه (ص 535).
[227] سنن النسائي (3/ 44) باب التمجيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال الألباني في صحيح سنن النسائي، صحيح الترمذي (3724)
[228] أخرجه الترمذي في سننه (2/ 354) باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رقم 484 وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. انظر موارد الظمآن (2389). وأورده ابن القيم في جلاء الأفهام وعزاه كذلك إلى البزار والبغوي جلاء الأفهام (ص 53). وقال ابن حجر في الفتح (11/ 167) وله شاهد عند البيهقي عن أبي أمامة بلفظ "صلاة أمتي تعرض على في كل يوم جمعة فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة" ولا بأس بسنده انتهي كلامه.
[229] جلاء الأفهام (ص 335، 344) بتصرف.
[230] تقدم تخريجه ص 472
[231] تقدم تخريجه ص 328
[232] تقدم تخريجه ص 548
34. ... 11- حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة [الشفاعة - الاستغاثة به - أمور مبتدعة]
المطلب الثاني: الكلام على مسألة الشفاعة
أ- أما الشفاعة فمعناها في اللغة:
قال صاحب اللسان: "شفع لي يشفع، شفاعة، وتشفع: طلب.
وروي عن المبرد وثعلب [1] أنهما قالا في قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [2] قالا: الشفاعة الدعاء ههنا.
والشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره.
وشفع إليه: في معنى طلب إليه.
والشافع: الطالب لغيره يتشفع به إلى المطلوب.
يقال: تشفعت بفلان إلى فلان فشفعني فيه.
واسم الطالب: شفيع.
واستضفعته إلى فلان: أي سألته أن يشفع لي إليه.
وتشفعت إليه في فلان: فشفعني فيه تشفيعًا" [3].
ويتضح من النقل السابق ما يلي:
1- أن معنى الشفاعة في اللغة: الدعاء والطلب.
2- أن الشفاعة لها أركان أربعة:
1- الطلب 2- المشفع فيه أي صاحب الحاجة، 3- الشافع أو الشفيع، 4- المشفوع إليه.
وهذه الأركان الأربعة مذكورة في كلام صاحب اللسان حيث قال:
"الشفاعة، كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها للغير" فهناك:
1- شفيع، 2- ملك، 3- حاجة، 4- وغير.
3- أن الشفاعة في لغة العرب لابد فيها من طلب الشافع للسائل، فيطلب له ما يطلب من المسئول المدعو المشفوع إليه.
قال صاحب اللسان: "الشافع الطالب لغيره، واسم الطالب: شفيع. وهذا لا يكون إلا بوجود الشافع وحضوره. وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة ليس هذا استشفاعا في اللغة".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كثير من العامة يقولون لمن توسل في دعائه بنبي أو غيره: قد تشفع به. من غير أن يكون المتشفع به شفع له ولا دعا له، بل قد يكون غائبا لم يسمع كلام ولا شفع له. وهذا ليس هو لغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء الأمة بل ولا هو لغة العرب. فان الاستشفاع: طلب الشفاعة. والشافع: هو الذي يشفع للسائل فيطلب له ما يطلب من المسئول المدعو المشفوع إليه. وأما الاستشفاع بمن لم يشفع للسائل ولا طلب له حاجة بل وقد لا يعلم بسؤاله، فليس هذا استشفاعا لا في اللغة ولا في كلام من يدري ما يقول. نعم هذا سؤال به، ودعاؤه، ليس هو استشفاعا به" [4].
فالشفاعة في لغة العرب ولغة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، لابد فيها من "طلب الشافع" وهذا لا يكون إلا بوجوده وحضوره.
وأما توسل الشخص في دعائه بنبي أو غيره، وتسمية بعض المبتدعة لهذا استشفاعا أي سؤالا بالشافع، وصاروا يقولون: استشفع به فيشفعك، أي يجيب سؤالك به، فهذا من تغيير معني الشفاعة في اللغة والشرع، وأصحابه أرادوا أن يغيروا اللغة كما غيروا الشريعة.
ب- معنى الشفاعة في خطاب الشارع:
معنى الشفاعة في استعمال الشارع هو الدعاء كما ورد في وضع اللغة فمما ورد في ذلك مما رواه أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته على الجنازة: "اللهم أنت ربها وأنت خالقها وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها جئنا شفعاء فاغفرلها" [5].
وعن أنس وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه" [6].
هذا وقد جاءت النصوص الشرعية بذكر نوعين من الشفاعة:
النوع الأول: الشفاعة المنفية.
النوع الثاني: الشفاعة المثبتة.
أما النوع الأول: أي الشفاعة المنفية.(4/398)
فإنه لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة كما قال تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [7].
وقال تعالى: {اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [8].
فقد نفي الله هذه الشفاكة رنزه نفسه عنها، ونفي أن يكون للخلق من دونه من ولى أو شفيع كما قال تعالى {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [9].
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [10].
وهذه الشفاعة المنفية هي الشفاعة المعروفة عند الناس عند الإطلاق وهي أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء فيقبل شفاعته" [11].
وأصحاب هذه الشفاعة المنفية جعلوا وسائط بين الله وبين خلقه -كالحجاب الذي لن الملك ورعيته- بحيث يكون أولئك الوسائط هم الذين يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فهم يعتقدون أن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم، فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك: يسألون الملوك حوائج الناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبًا منهم أن يباشروا سؤال الملك أو لأن طلبه من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج.
فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه: فهو مشرك، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وهؤلاء مشبهون لله، شبهوا المخلوق بالخالق، وجعلوا لله أندادًا وفي القرآن الكريم من الرد على هؤلاء ما لا يتسع المجال لذكره ههنا.
ومعلوم أن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس، يكونون على أحد وجوه ثلاثة:
1- إما لإخبارهم من أحوال الناس مما لا يعرفونه.
أو أن يكون الملك عاجزا عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان يعينونه، فلابد له من أنصار وأعوان لذله وعجزه.
2- وإما أن يكون الملك ليس مريدا لنفع رعيته، والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من خارج.
فإذا خاطب الملك من ينصحه، ويعظمه، أو من يدل عليه، بحيث يكون يرجوه أو يخافه: تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته إما لما حصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير، وإما لما يحصل من الرغبة أو الرهبة من كلام المدل عليه.
وكل هذه الأمور ممتنعة في حق الله تعالى.
فمن قال إن الله لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بذلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر.
بل هو سبحانه يعلم السر وأخفي، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [12] وقال تعالى: {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [13]. والله سبحانه ليس له ظهير، ولا ولى من الذل.
قال تعالى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [14].
وقال تعالى {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [15].
وكل ما في الوجود من الأسباب فهو خالقه، وربه ومليكه، فهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم في الملك.
والله تعالى ليس له شريك في الملك، بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وهو سبحانه رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأشياء إنما تكون بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وهو سبحانه لا يرجو أحدا ولا يخافه، ولا يحتاج إلى أحد بل هو الغني قال تعالى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [16].
فالمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة عند ملوكهم.(4/399)
قال تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [17].
وقال تعالى {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [18].
وأخبر عن المشركين أنهم قالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [19] [20] فالمشرك يقصد فيما يشرك به:
1- أن يشفع له عند الله.
2- أن يتقرب بعبادته إلى الله.
وهذا بعينه هو ما يوجد عند عباد القبور نعوذ بالله من حالهم.
وأما الشفاعة المثبتة: فهي الشفاعة الشرعية المخالفة لما عليه المشركون.
وهي التي أخبر الله تعالى أنها لا تنفع إلا بشرطين:
• الأول: إذنه سبحانه للشافع أن يشفع.
• الثاني: رضاه سبحانه عن المشفوع له.
قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [21].
وقال تعالى: {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [22].
وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} [23].
وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [24].
وهذه الشفاعة منها ما هو في الدنيا. ومنها ما هو في يوم القيامة. والشفاعة كما سبق وأن ذكرنا هي: الدعاء.
ولا يرب أن دعاء الخلق بعضهم لبعض نافع والله قد أمر بذلك.
فمشروع أن يدعو الأعلى للأدنى والأدنى للأعلى.
ولقد كان الصحابة يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ويطلبون منه الدعاء، بل وكذلك بعده استسقى عمر والمسلمون بالعباس عمه، وهذا من الشفاعة في الدنيا.
وفي يوم القيامة يطلب الناس الشفاعة من الأنبياء ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وله شفاعات يختص بها.
ولكن لابد في هذه الشفاعة من الشرطين السابقين أي إذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع له.
فالداعي الشافع ليس له أن يدعو ويشفع إلا بإذن الله في ذلك، فلا يشفع شفاعة نهي عنها: كالشفاعة للمشركين والدعاء لهم بالمغفرة قال تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [25].
وقال تعالى في حق المنافقين {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [26].
وقال تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [27].
وشرط الرضي غير متحقق في المشفوع له مع أن الشافع هنا هو خير الخلق وأعظمهم قدرا عند الله تعالى. وقد قال تعالى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [28] أي المعتدين في الدعاء.
ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبد ما لم يكن الرب ليفعله مئل: أن يسأله منازل الأنبياء وليس منهم، أو مغفرة المشركين ونحو ذلك، أو يسأله ما فيه معصية الله كإعانته على الكفر والفسوق والعصيان.
فالشفيع الذي أذن الله له في الشفاعة: شفاعته في الدعاء الذي ليس فيه عدوان.
والأنبياء لو سأل أحدهم دعاء لا يصلح له لا يقر عليه، فإنهم معصومون أن يقروا على ذلك.
كما قال نوح {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [29] قال تعالى {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [30].
{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [31].
وكل داع شافع، دعا الله سبحانه وشفع: فلا يكون دعاؤه وشفاعته إلا بقضاء الله وقدره ومشيئته، فهو الذي يجيب الدعاء من جملة الأسباب التي قدرها الله سبحانه وتعالى.
وإذا كان كذلك: فالالتفات إلى الأسباب بالكلية شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل.
والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، بل العبد يجب أن يكون توكله ودعاؤه وسؤاله ورغبته إلى الله سبحانه وتعالى والله يقدر له من الأسباب من دعاء الخلق وغيرهم ما شاء.
فالدعاء للغير، ينتفع به الداعي، والمدعو له، وإن كان الداعي دون المدعو في الدرجة والمنزلة.
فدعاء المؤمن لأخيه ينتفع به الداعي والمدعو له.(4/400)
فمن قال لغيره أدع لي وقصد انتفاعهما جميعا بذلك كان هو وأخوه متعاونين على البر والتقوى. فهو نبه المسئول وأشار عليه بما ينفعهما، بمنزلة من يأمر غيره ببر وتقوى، فيثاب المأمور على فعله، والآمر أيضا يثاب مثل ثوابه لكونه دعا إليه. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به آمين ولك بمثل" [32].
وعند النظر في نصوص الشرع الواردة في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أن هناك شفاعة أخروية له في يوم القيامة، وشفاعة دنيوية في حياته.
أما الشفاعة الأخروية: فقد أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة.
ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، واستفاضت به السنن من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته ويشفع لعموم الخلق.
فله صلى الله عليه وسلم شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات فيها وغيره من الأنبياء والصالحين سواء، ولكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التي ميزه الله بها على سائر النبيين ومن ذلك المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وأحاديث الشفاعة كثيرة متواترة منها في الصحيح أحاديث متعددة، وفي السنن والمسانيد مما يكثر عدده.
أما الشفاعة الدنيوية (التي كانت في حياته)، فقد أجمع أهل العلم على أن
الصحابة كانوا يستشفعون به ويتوسلون به في حياته بحضرته. كما ثبت في أحاديث الاستسقاء، وهذا الاستشفاع هو طلب للدعاء منه، فإنه كان يدعو للمستشفع والناس يدعون معه، كما جاء في الحديث الثابت في الاستسقاء أن المسلمين لما أجدبوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابي فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا" [33].
فهذا يبين أن معنى الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم هو استشفاع بدعائه وشفاعته. وهذا ما فهمه الصحابة وعملوا به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فعمر بن الخطاب استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" [34]. وكذلك معاوية بن أبي سفيان -لما أجدب الناس بالشام- استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي [35] فقال: "اللهم إنا نستشفع ونتوسل بخيارنا، يا يزيد ارفع يديك "فرفع يديه ودعا، ودعا الناس حتى سقوا" [36].
فهم لم يستسقوا ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا في هذه الحال بالنبي صلى الله عليه وسلم لا عند قبره ولا غير قبره، بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد.
فجعلوا هذا بدلا عن ذلك لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه.
وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا ويستشفعوا به ويقولوا في دعائهم في الصحراء بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم بالمخلوق على الله عز وجل أو السؤال به، فيقولون نسألك أو نقسم عليك أو نستشفع عليك أو نستشفع بنبيك أو جاه نبيك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس.
ولكنهم لم ينقل عنهم أنهم توسلوا أو استشفعوا بمثل هذه العبارات فهذا يؤكد ويبرهن على أن التوسل بالذات في حضور الشخص أو مغيبة أو بعد موته أمر لم يشرعه لهم الشارع ولم يكن معروفا عندهم.
المطلب الثالث: الكلام على مسألة الاستغاثة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الاستغاثة: طلب الإغاثة والتخليص من الكربة والشدة. والنبي صلى الله عليه وسلم في حياته يجوز أن يستغاث به، فيطلب منه أن ينصر المظلوم، ويطعم الجائع، ويسقى الظمآن، ويخلص الأسرى، ويقضي الدين عن المدين، ويبين الدين، ويزيح شبهات المعارضين ويجب السائلين ونحو ذلك.
ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الناس عملاً، وأعظمهم حرصًا على البر والتقوى، بل كل خير في الوجود فهو معين عليه بل له مثل أجر كل عامل خير من أمته فإنه هو الذي دعا إلى ذلك "من دعا إلى الهدى كان له مثل أجور من تبعه من غير أن يتقص من أجورهم شيئا" [37] [38].
واستغاثة الصحابة به في القحط، إنما به استغاثوا به ليدعو لهم كما يستغيث الناس به يوم القيامة ليشفع لهم.
والاستغاثة بالمخلوق ليدعو للعبد أو ليعينه بما يقدر عليه ليس بممنوع منه. وإنما الممنوع أن يستغاث به فيما لا يقدر عليه، وأن يقسم على الله به ولاسيما إذا كان المخلوق ميتًا أو غائبًا فلا يجوز أن يستغاث به فيما يقدر عليه حيًا، ولا فيما لا يقدر عليه.(4/401)
(وأما قول من يقول إن الاستغاثة به بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته فهو كلام باطل قطعا لأنه يلزم من ذلك أن يطلب منه أن يخرج إلى الغزوات ويقيم الحدود ويعود المريض فاعلاً ذلك ببدنه كما كان يفعل ذلك في حياته فهل يقول هذا إنسان؟ أو يحتاج رد هذا إلى برهان" [39].
فليس عليه بعد الموت فعل من الأفعال لا واجبًا ولا مستحب كما ليس ذلك على غيره من الناس، بل الموت ينتهي به التكليف الثابت في الحياة بإجماع الخلق، فليس على نبي ولا غيره بعد موته أن يفعل ما كان يؤمر به في حال الحياة من واجب ومستحب.
ولا يستطع أحد أن ينقل عن أحد من الصحابة ولا من السلف أنهم بعد موته طلبوا منه إغاثةً ولا نصرًا ولا إعانة ولا استسقوا بقبره ولا استنصروا به كما كانوا يطلبون ذلك منه في حياته" [40].
ويفهم من كلام شيخ الإسلام المتقدم أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها تفصيل. فهناك استغاثة جائزة مشروعة وهي:
1- إما بالطلب منه في حياته فيما يقدر عليه وهذه لم ينازع فيها أحد.
2- وإما بالطلب منه في عرصات يوم القيامة أن يشفع لهم وهذه ما دلت عليه النصوص الثابتة.
وهناك استغاثة غير مشروعة بل هي شركية وهي عائدة إلى شيئين:
1- الاستغاثة به بعد موته.
2- أن يطلب منه ما لا يقدر عليه.
وكلا الأمرين يجتمعان فيمن استغاث به بعد موته.
ومن تلفظ بهذه العبارة من المبتدعة فهو يريد بها أحد أمرين إما أن يطلب الإغاثة من الرسول نفسه لاعتقاده أن له تصرفا في هذه الأمور وقدرة على تحصيلها وهذا هو اعتقاد كثير من العوام وهو ما يدل عليه استعمال الكلمة في لغة العرب.
وإما أن يكون مراده بهذه العبارة الطلب من الله بواسطة الرسول أي أنه متوسل به إلى الله تعالى وهذا المعني يأباه استعمال العرب لهذه اللفظة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن ظن أن الباب في التوسل كالباب في الاستغاثة فقد أخطأ فالمستغاث به هو المسئول.
وأما المتوسل به فهو الذي يتسبب به إلى المسئول [41].
(والفرق واضح بين السؤال بالشخص والاسغاثة به.
وأريد أن أُعرف من أين دخل اللبس على هؤلاء الجهال، فإن معرفة المرض وسببه يعين على مداواته وعلاجه، ومن لم يعرف أسباب المقالات وإن كانت باطلة، لم يتمكن من مداواة أصحابها، وإزالة شبهاتهم، فوقع لي أن سبب هذا الضلال والاشتباه عليهم أنهم عرفوا أين يقال سألت الله بكذا كما في الحديث "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان" [42].
ورأى أن الاستغاثة تتعدى بنفسها كما يتعد السؤال كقوله {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [43].
وقوله {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [44].
فظنوا أن قول القائل استغثت بفلان كقوله، سألت بفلان.
والمتوسل إلى الله بغائب أو ميت تارة يقول: أتوسل إليك بفلان، وتارة يقول أسألك بفلان.
فإذا قيل ذلك بلفظ الاستغاثة فإما أن يقول أستغيثك بفلان، أو أستغيث إليك بفلان. ومعلوم أن كلا هذين القولين ليس من كلام العرب.
وأصل الشبهة على هذا التقدير، أنهم لم يفرقوا بين الباء في استغثت به التي يكون المضاف بها مستغاثا مدعوًا مسؤلاً مطلوبًا منه.
فإذا قيل توسلت به، أو سألت به، أو توجهت به فهي الاستغاثة كما تقول كتبت بالقلم. وهم يقولون استغيثه به من الإغاثة كما يقولون استغثت الله واستغثت به من الغوث، فالله في كلا الموضعين مسؤول مطلوب منه.
وإذا قالوا لمخلوق استغثته واستغثت به من الغوث كان المخلوق مسؤلاً مطلوبًا منه.
وأما إذا قالوا استغثت به من الإغاثة فقد يكون مسؤلاً وقد لا يكون مسؤلاً.
وكذلك استنصرته، واستنصرت به، فإن المستنصر يكون مسؤلاً مطلوبًا.
وأما المستنصر به فقد يكون مسؤلاً وقد لا يكون مسؤلاً. فلفظ الاستغاثة في الكتاب والسنة وكلام العرب إنما هو مستعمل بمعنى الطلب من المستغاث به.
وقول القائل: استغثت فلانا واستغثت به بمعنى طلبت منه الإغاثة لا بمعنى توسلت به.
فلا يجوز للإنسان الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله" [45].
فإذا كان معنى الاستغاثة هو الطلب منه، فما الدليل على أن الطلب منه ميتًا كالطلب منه حيًا.
ولا يمكن لأحد أن يذكر دليلا شرعيًا على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع. بل الأدلة على تحريم ذلك كثيرة جدًا، فهذه الاستغاثة وتوجه القلب إلى المسئول بالسؤال والإنابة محظورة على المسلمين لم يشرعها لأحد من أمته رسول رب العالمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "سؤال الميت والغائب نبيًا كان أو غيره من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين لم يأمر الله به ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، لا استحبه أحد من أئمة المسلمين.
وهذا مما يعلم بالاضطرار من المسلمين أن أحدا منهم ما كان يقول إذا نزلت به نازلة أو عرضت له حاجة لميت يا سيدي فلان أنا في حسبك أو اقضي حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين، لمن يدعونهم من الموتى والغائبين.(4/402)
ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولا بغيره من الأنبياء لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، وقد كانوا يقفون تلك المواقف العظام في مقابلة المشركين في القتال ويشتد البأس بهم ويظنون الظنون ومع هذا لم يستغث أحد منهم بنبي ولا غيره من المخلوقين ولا أقسموا بمخلوق على الله أصلا ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء ولا قبور غير الأنبياء ولا الصلاة عندها.
وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف.
وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر فلان الترياق المجرب، وقول بعضهم فلان يدعى عند قبره، وقول بعض الشيوخ لمريده: إذا كانت لك حاجة فاستغث بي، أو قال: استغث عند قبري، ونحو ذلك فإن هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم.
وكثير من هؤلاء إذا استغاث بالشيخ رأى صورته، وربما قضى بعض حاجته فيظن أنه الشيخ نفسه، أو أنه ملك تصور على صورته، وأن هذا من كراماته فيزداد به شركا وفيه مغالاة، ولا يعلم أنا هذا من جنس ما تفعله الشياطين بعباد الأوثان، حيث تتراءى أحيانا لمن تعبدها وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة وتقضي لهم بعض الطلبات.
لكن هذه الأمور كلها محدثة في الإسلام بعد القرون الثلاثة المفضلة.
وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثة في الإسلام والسفر إليها محدث في الإسلام لم يكن شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة، بل ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعالوا قالت عائشة رضي الله عنها: "لولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدًا" [46].
وثبت في الصحيح عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا ا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" [47].
ولما أجدبوا في خلافة عمر رضي الله عنه استسقى عمر بالعباس وقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك نبينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" [48].
فلم يذهبوا إلى القبور، ولا توسلوا بميت ولا غائب، بل توسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان توسلهم به توسلهم بدعائه كالإمام مع المأموم، وهذا تعذر بموته.
فأما قول القائل عند ميت من الأنبياء والصالحين: اللهم إني أسألك بفلان أو بجاه فلان أو بحرمة فلان، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز.
فكيف يقول القائل للميت أنا أستغيث بك، وأستجير بك وأنا في حسبك وسل لي الله ونحو ذلك، فتبين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة ولو قدر أنَّ لما يفعلونه تأثيرا، فليس هو من الأسباب المشروعة، ولا له تأثير صالح بل مفسدته راجحة على مصلحته كأمثاله من دعاء غير الله تعالى، وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب ميت من تتمثل له الشياطين، وربما كانت على صورة ذلك الغائب، وربما كلمته، وربما قضت له أحيانا بعض حوائجه كما تفعل شياطين الأصنام بعبادها، وهذا مما قد جرى لغير واحد فينبغي أن يعرف هذا" [49].
وقال أيضا: "وسؤال الخلق هو في الأصل محرم لأن فيه أنواع الظلم الثلاثة:
1- الظلم في حق الله بالشرك.
2- الظلم للمسؤول، فإن فيه إيذاء له.
3- وظلم الإنسان نفسه لما فيه من تعبيدها لغير الله.
وقد ألح من ذلك من سؤال الحي ما دل الشرع على إباحته وأما سؤال الميت والغائب فلم يأذن الله به قط.
ومن عدل عما أمر به الرسول من عبادة الله وحده والتوكل عليه والرغبة إليه وطاعته فيما أمر به من الإحسان والخير الذي ينتفع به هو وهم وغيره من المخلوقين، فإن العبد كلما عمل بما أمرت به الرسل كان لهم مثل أجره وحصل له هو من الخير من إجابة دعائه ونفعه وغير ذلك.
فمن عدل عن هذه الرحمة والخير وسعادة الدنيا والآخرة إلى أن يفعل ما لم تأمر به الرسل بل اتخذهم أربابا يسألهم ويستغيث بهم في مماتهم ومغيبهم وغير ذلك كان مثله مثل النصارى فإن المسيح قال لهم: {عْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [50] وقال {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [51].
فلو امتثلوا أمره كانوا مطعين لرسل الله موحدين لله، ونالوا بذلك السعادة من الله تعالى في الدنيا والآخرة.
ولكنهم غلوا فيه واتخذوه وأمه إلهين من دون الله، يستغيثون بهم، وكذبوا بالرسول الذي بشر به، وحرفوا التوراة التي صدق بها، فظنوا في ذلك أنهم معظمون للمسيح، وكان هذا من جهلهم وضلالهم" [52].(4/403)
فخلاصة القول: إن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وسؤاله والاستغاثة به وغير ذلك مما يفعل عند قبره أو بعيدًا عنه هو من الدين الذي لم يشرعه الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين [53].
وأما ما يحتج به أهل البدع الذين يفعلون مثل هذه الأمور ويدعون الناس إليها فشبههم لا تخرج عن أحد الأمور التالية:
1- إما آيات وأحاديث صحيحة يتأولونها ويتعسفون في تفسيرها حتى توافق ما جاءوا به من الباطل مع أنه ليس فيهات دلالة على ما يزعمون ويدعون.
2- وإما أحاديث واهية أو موضوعة لا يحتج بها ولا يعتمد عليها بل هي مخالفة لأهم قواعد هذا الدين المبنية على الآيات والأحاديث الثابتة الصحيحة.
وهذا الصنف هو أغلب بضاعتهم، بل وأكثر ما يستدلون به عند عرض بدعههم، إما جهلا منهم بحكم هذه الأحاديث، أو لعلمهم بأن هذا النوع من الأدلة هو مما يسهل ترويج باطلهم عند العوام الذين لا يستطيعون أن يميزوا لون الصحيح والضعيف من الأحاديث.
3- وإما بحكايات مكذوبة منسوبة لبعض أئمة هذا الدين الذين لهم في نفوس الناس منزلة ومكانة.
وتلك الحكايات مروية بأسانيد مظلمة عن رجال مجهولين وهي مردودة بما اشتهر عن أولئك الأئمة من أقوال ذكرت في كتبهم أو رويت عن طريق تلاميذهم بأسانيد صحيحة تؤكد زيف تلك، الحكايات المنسوبة إليهم وتبرهن على بطلانها.
4- أو بمنامات لا تخلو من أحد أمرين إما كذب صاحبها أو تلبيس الشياطين عليه، ويشهد لهذا ويؤكده مخالفتها لقواعد هذا الدين وأصوله.
ويا سبحان الله كيف يتصور أن يترك ا، وسلم شرع الله من أجل أحلام ومنامات.
5- أو أقوال من تكلم في الدين بلا علم، وليس معه فيما يقول ويدعى دليل شرعي، ويجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
6- أو بحجج هي من جهة الرأي والذوق هي أوهن من بيوت العنكبوت ولا يخفى ضعفها وفسادها ومخالفتها لقواعد هذا الدين وأصوله إلا على الجهلة وأصحاب الهوى أتباع كل ناعق الذين لم يستضيئوا بنور العلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما أولئك الضلال أشباه المشركين والنصارى فعمدتهم: إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو منقولات عمن لا يحتج بقوله إما أن يكون كذبا عليه وإما أن يكون غلطا منه إذ هي نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حرفوا الكلم عن مواضعه وتمسكوا بمتشابهه وتركوا محكمه كما يفعل النصارى" [54].
والمقام هنا لا يتسع لعرض تلك الشبه والرد عليها، فمن أراد الاستزادة في هذا الشأن فعليه بمظان ذلك في كتب علماء السلف [55].
المبحث الثالث: حكم ما يفعل عند حجرته التي دفن فيها من الأمور المبتدعة
ومن ذلك سؤاله الاستغفار والشفاعة والتوسل والاستغاثة والسجود إلى حجرته والطواف بها والتمسح بالجدران المحيطة بها وإلصاق البطن بها.
وجميع هذه الأمور وما شاكلها هي أمور مبتدعة أحدثها بعض المتأخرين ولم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هي منهي عنها.
وقد سبق بيان حكم دعائه واستغاثته والاستشفاع والتوسل به وأما السجود للحجرة والطواف بها فهو محرم أو كفر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وزاد بعض جهال العامة ما هو محرم أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها وأمثال ذلك" [56].
"فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم شيء يطاف به، ولا فيه ما يتمسح به، ولا ما يقبل.
بل ليس في الأرض مكان يطاف به إلا الكعبة، ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة" [57].
وقال أيضا: "وقد اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الطواف إلا بالبيت المعمور، فلا يجوز الطواف بصخرة بيت المقدس ولا بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا غير ذلك. وكذلك اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الاستسلام ولا التقبيل إلا للركنين اليمانيين، فالحجر الأسود يستلم ويقبل، واليماني يستلم. وقد قيل إنه يقبل وهو ضعيف. وأما غير ذلك فلا يشرع استلامه ولا تقبيله، كجوانب البيت، والركنين الشاميين، ومقام إبراهيم، والصخرة والحجرة النبوية وسائر قبور الأنبياء والصالحين [58].
فالطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحال [59] ولا يفعل في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما يفعل في سائر المساجد [60]. وكذا الحال بالنسبة للسجود للحجرة، فلقد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له في حياته.
فعن عبد الله بن أبي أوفى قال: قدم معاذ اليمن أو قال الشام فرأى النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها فرأى في نفسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم فلما قدم قال يا رسول الله رأيت النصارى تسجد لبطارقتها وأساقفتها فرأيت في نفسي أنك أحق أن تعظم. فقال: "لو كنت آمرا أحذا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ... " الحديث.(4/404)
وفي رواية: "فقلت لأي شيء تصنعون هذا؟ قالوا هذا كان تحية الأنبياء قبلنا. فقلت: نحن أحق أن نصنع هذا بنبينا.
فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "إنهم كذبوا على أنبيائهم كما حرفوا كتابهم إن الله عز وجل أبدلنا خيرًا من ذلك السلام تحية أهل الجنة" [61].
وعن قيس بن سعد [62] قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم
فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك.
قال: "أرأيت لو مررت بقبري أكنت نسجد له؟" قال: قلت: لا. قال: "فلا تفعلوا، لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل الله لهم عليهن من الحق" [63].
فتأمل وجوب الصحابي عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ فقال: لا فالسجود حق لله تعالى، وما كان حقا خالصا لله لم يكن لغيره فيه نصيب" [64].
ونبينا صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرك دقه وجله وحقيرة وكبيره فالسجود حق للواحد المعبود خالق السموات والأرض سبحانه وتعالى.
وكذا الحال بالنسبة للتمسح بالجدران المحيطة بالحجرة وإلصاق البطن بها فليس شيء من هذا من الدين الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين.
ومن اعتقد أن هذا من الدين وفعله وجب أن ينهى عنه، ولم يستحب هذا أحد من الأئمة الأربعة، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. والأجر والثواب إنما يكون على الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي ما أوجبه الشارع أو استحبه، وهذه الأمور من جملة ما نهي عنه من أسباب الشرك ودواعيه وأجزائه [65] وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" [66] وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا" [67].
فالتمسح بالقبر -أي قبر كان- وتقبيله وتمريغ الخد عليه منهي عنه باتفاق المسلمين، ولو كان ذلك من قبور الأنبياء؛ ولم يفعل هذا أحد من سلف الأمة وأئمتها بل هذا شرك" [68].
فإن كان هذا حكم من تمسح بالقبر فمن تمسح بالجدران المحيطة من باب أولى.
المبحث الرابع: حكم الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "تنازع الناس هل يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ مع اتفاقهم بأنه لا يحلف بشيء من المخلوقات المعظمة كالعرش والكرسي والكعبة والملائكة. فذهب جمهور العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في أحد قوليه إلى أنه لا يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا تنعقد اليمين، كما لا يحلف بشيء من المخلوقات، ولا تجب الكفارة على من حلف بشيء من ذلك وحنث. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" [69].
وفي رواية: " ألا من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله " [70]. وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" [71]. وفي رواية: "فقد كفر".
وعن أحمد بن حنبل رواية: أنه يحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه يجب الإيمان به خصوصًا، ويجب ذكره في الشهادتين والأذان فلإيمان به اختصاص لا يشركه فيه غيره، واختار هذا طائفة من أصحاب الإمام أحمد كالقاضي أبي يعلى [72] وغيره خصوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عقيل [73]: بل هذا كونه نبيًا وطرد ذلك في سائر الأنبياء.
والصواب: قول الجمهور وأنه لا تنعقد اليمين بمخلوق لا بنبي ولا غيره، بل ينهى عن الحلف به. وإيجاب الكفارة بالحف بمخلوق وإن كان نبيًا قول ضعيف في الغاية مخالف للأصول والنصوص. فالذي عليه عامة علماء المسلمين سلفهم وخلفهم أنه لا يحلف بمخلوق، لا نبي ولا غير نبي، ولا ملك من الملائكة، ولا ملك من الملوك، ولا شيخ من الشيوخ. والنهي عن ذلك نهي تحريم عند أكثرهم. وروي عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر: لئن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أحلف بغير الله صادقًا [74] وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أ-تظم من الكذب [75].
المبحث الخامس: حكم الاحتفال بمولده وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم فعل المولد
إن من جملة ما نهي النبي صلى الله عليه وسلم أمته عنه، وحذرهم منه:
1- الابتداع في الدين.
2- التشبه باليهود والنصارى.
والمقيم للمولد والمشارك فيه واقع في المحظورين معا.
فإقامة المولد من الأمور المحدثة المبتدعة التي لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ولم يفعله أصحابه من بعده بل ولا أهل القرون المفضلة.
فما ظنك بعمل لم يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، ولا حث عليه ولا رغب فيه، وهو المشهود له بأنه ما ترك أمر خير إلا وحث الأمة عليه ورغبهم فيه.
وما ظنك بعمل لم يفعله سلف الأمة، "ولو كان خيرًا محضًا، أو راجحًا لكانوا رضوان الله عليهم أحق منا به، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعطشا له منا، وهم على الخير أحرص" [76].(4/405)
وما أحسن أن يستشهد المرء هنا بقول الإمام مالك رحمه الله تعالى "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [77] فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا" [78].
وقال أيضا: "قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نتبع الرأي" [79].
هذا وإن أصل الاحتفال بالمولد يرجع إلى العبيدين [80] الذين يتسمون (بالفاطميين) فهم أول من أحدث هذه البدعة في الأمة وما كانت الموالد تعرف في دولة سلام قبل هؤلاء.
فقد جاء في كتاب الخطط المسمى كتاب المواعظ والاعتبار والآثار تحت عنوان (ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادًا ومواسم ...).
قال: " كان للخلفاء في طول السنة أعيادًا ومواسم:
رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم" [81].
فكانت الموالد من الآثار التي خلفها هؤلاء العبيديون الباطنيون مع غيرها من البدع والمنكرات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
قد حمل راية هذه البدعة من بعدهم المتصوفة، الذين وجدوا في إحياء هذه البدعة متنفسًا لنشر باطلهم وبدعهم، وما الطقوس التي تعمل أثناء إقامة المولد إلا أكبر شاهد على حمل الصوفية لراية هذه البدعة
فقد وجدوا في هذه البدعة مرتعًا خصبًا لنشر غلوهم ورقصهم وطقوسهم وشطحهم وذلك تحت ستار ما يدعونه من محبة النبي صلى الله عليه وسلم {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [82].
وقد كان أول تأكد رسمي ناله المتصوفة لإحياء هذه البدعة على يد الملك المظفر ملك إربل، الذي كان يحتفل بالمولد احتفالا هائلاً ينفق فيه ثلاثمائة ألف دينار، ويعمل فيه للصوفية سماعًا من الظهر إلى الفجر، ويرقص بنفسه معهم [83].
وفد استمرت هذه الاحتفالات بهذه البدعة إلى زماننا هذا وحسبك ببدعة أنشأها ملاحدة باطنيون معروفون بالبدع والمنكرات، وتولاها من بعدهم متصوفة ضالون مضلون لم يتركوا شيئا من باطلهم وبدعهم إلا وأدخلوه فيما يسمى بالمولد النبوي.
ولا عجب في اتفاق الطائفتين على هذا الأمر فهم يجمعهم مشرب واحد إذ الكل يزعم أن الشريعة لها ظاهر وباطن.
فمما لا شك فيه أن فعل ما يسمى بالمولد بدعة من البدع التي لا أساس لها في القرآن ولا في السنة ولا في عمل السلف الصالح وهي بالإضافة إلى ذلك لا تحقق المراد من حب الرسول صلى الله عليه وسلم فتحقيق محبته وتعظيمه كما سبق وأن بينا، هو في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد في ذلك بالقلب واليد واللسان، فهذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان.
ويضاف إلى كون فعل هذا الأمر من البدع التي نهى الشارع عنها ما فيه كذلك من مضاهاة ومشابهة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام فإن النصارى تحتفل بيوم مولد عيسى ويتخذونه عيدا وذلك بإيقاد الشموع وصنع الطعام وارتكاب المحرمات وفعل الموبقات من شرب للخمور وفعل الفواحش وغير ذلك من المهازل والقبائح، وفي هذا يقول بعضهم معللا مشروعية الاحتفال بفعل المولد "إذا كان أهل الصليب اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيدًا أكبر فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر" [84].
ونسى هذا القائل أو تناسى تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من مشابهة اليهود والنصارى فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرا وذراعًا ذراعًا حتى لو دخلوا حجر ضب تبعتموهم" [85].
قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟
قال: "فمن" [86] أي فمن هم غير أولئك.
المطلب الثاني: بيان ما يفعل في الموالد من الغلو والمنكرات
لقد اتخذ أصحاب الطرق الصوفية من المولد ستارا لترويج باطلهم ونشر بدعتهم عند الجهلة من عوام الناس.
فهم باسم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم يقيمون مثل هذه الاحتفلات، وبذكر شيء من سيرته يفتتحونها، ولكن سرعان ما يظهر الباطل وتنجلي الغشاوة فيرى صاحب البصيرة ألوانًا وأشكالاً من الغلو والبدع المنكرة تظهر من خلال ما يتلفظ به من أقوال، وما ينشد فيه من أشعار، وما يقام من حركات وأفعال، مبدية بذلك الوجه الحقيقي والهدف الرئيسي من إقامة مثل هذه الموالد.
ومن عجيب حال هؤلاء أنهم سموا كل اجتماعاتهم التي تقام فيها هذه الأباطيل مولدا مع أن التسمية لا تساعدهم على هذا الإطلاق، وما ذاك إلا أنهم عرفوا أن رواج باطلهم لا يتحقق إلا تحت هدا الستار ليروج أمرهم على خفافيش الأبصار إتباع كل ناعق.(4/406)
فمن البدع والمنكرات التي تقام في هذه الموالد -وما أكثرها- ما يحصل من الغلو في حق النبي صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال القصائد التي يطلقون عليها اسم المدائح النبوية، والتي لا تخلوا من ألفاظ الغلو في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم والتجاوز عما حدده الشارع مما يليق بمقامه الكريم من الإجلال والتقدير.
فالمتأمل لتلك القصائد يجدها مرصوفة بعبارات التوسل والاستشفاع والاستغاثة، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم هو المتصرف في هذا الكون وجعله أول الموجودات والقطب الذي تدور عليه الأفلاك، وجعله الغاية التي من أجلها هذا الكون إلى غير ذلك الافتراءات والأباطيل التي شحنت بها تلك القصائد.
وهذه مقتطفات من بردة البوصيري [87] تمثل جانبا من مظاهر الغلو التي يتردد في عبارات ما يسمونه بالمدائح النبوية:
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا إلى العدم
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم
وكلهم من رسول الله ملتمس ... غرفا من البحر أو رشفا من الديم
لا طيب يعدل تربا ضم أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتئم
أقسمت بالقمر المنشق أن له ... من قلبه نسبة مبرورة القسم
ما سامني الدهر ضيما واستجرت به ... إلا ونلت جوارا منه لم يضم
ولا التمست غني الدارين من يده ... إلا استلمت الندى من خير مستلم
يا خير من يمم العافون ساحته ... سعيا وفوق متون الأينق الرسم
خدمته بمديح استقيل به ... ذنوب عمر مضى في الشعر والخدم
إن آت ذنبا فما عهدي بمنتقض ... من النبي ولا حبلى بمنصرم
فإن لي ذمة منه بتسميتى ... محمدا وهو أوفى الخلق بالذم
إن لم تكن في معادى آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه ... أو يرجع الجار منه غير محترم
ومنذ ألزمت أفكاري مدائحه ... وجدته لخلاصي خير ملتزم
ولن يفوت الغني منه يدا تربت ... إن الحيا ينبت الأزهار في الأكم
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حدوث الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تجلى باسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم [88].
فتأمل هذه الأبيات وما فيها من غلو وإطراء ومظاهر شركية تجاوز فيها الشاعر كل الحدود.
حيث جعل الرسول عليه الصلاة والسلام هو الغاية في خلق الدنيا وعلة وجودها "وجعله بمنزلة الإله فهو يغني ويفقر ويغفر الذنوب ويقيل العثرات وهو الملاذ والملجأ في الدنيا والآخر بل انتهى به الأمر إلى أن جعل تصريف الكون كله بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم" [89].
فماذا أبقى للخالق عز وجل وخاصة عند قوله:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
"فإذا كانت الدنيا وضرتها من جود الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعض علومه علم اللوح والقلم، لأن "من" للتبغيض، فماذا للخالق جل وعلا" [90].
فهذا هو بعينه الغلو والإطراء الذي حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته منه.
وبالإضافة إلى ألفاظ الشرك وعبارات الغلو التي تحملها جل القصائد والمدائح "فإن الاحتفال عادة ما يختم بدعوات تحمل ألفاظ التوسلات المنكرة والكلمات الشركية المحرمة، لأن جل الحاضرين عوام أو غلاة في حب التوسلات الباطلة التي نهى عنها الشارع" [91].
أضف إلى ذلك ما يدعونه من أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر هذه الموالد إما بجسده كما يدعيه بعضهم أو بروحه كما يدعيه البعض الآخر منهم، وسوف أتعرض لهذه النقطة في المبحث القادم بإذن الله.
هذا فيما يتعلق بما يحصل في هذه الموالد من غلو في حق صلى الله عليه وسلم.
ويضاف إلى هذا الأمر ما قد يحصل في بعض الموالد من منكرات وبدع أخرى كالرقص الصوفي، والذكر البدعي، وضرب الدفوف، والتزمير بالمزامير [92].
وقد يحصل فيها اختلاط الرجال بالنساء وشيء من الفجور وشرب الخمور ولكن لا يطرد لا في كل البلاد ولا في كل الموالد [93].
فنعوذ بالله من حال أهل الزيغ والضلال.
المبحث السادس: حكم القول بحضوره في مجالس المحتفلين ورؤيته بالعين الباصرة
إن من يتأمل في كلام الصوفية فيما يتعلق بشأن غلوهم في حق النبي صلى الله عليه وسلم بما في ذلك التوسل والاستشفاع والاستغاثة وطلب تفريج الكروب ومغفرة الذنوب وغير ذلك مما تقدم الإشارة إليه يجد أن محور دعواهم يقوم على دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم حي بجسده وروحه [94] وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي، كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما في ببت الملائكة -مع كونهم أحياء بأجسادهم- فإذا أراد الله تعالى رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليها، لا مانع من ذلك [95].(4/407)
والصوفية ليسوا على رأي واحد في هذا ا الأمر بل هم مختلفون مضطربون وفي حالهم هذا يتذكر المرء قول الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [96].
فهم مختلفون في حقيقة المرئي:
فقال بعضهم المرئي ذات المصطفى بجسمه وروحه كما تقدم في النقل السابق.
وبعضهم يقول ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه، بل مثالا له، وصار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه.
وقالوا: والآلة تارة تكون حقيقة، وتارة تكون خيالية، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه في الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا شخصه، بل هو مثال له على التحقيق.
وفصل بعضهم فقال: رؤية [97] النبي صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك له على الحقيقة. ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال [98].
وقال بعضهم: ومنهم من يرى روحه في اليقظة متشكلة بصورته الشريفة.
ومنهم من يرى حقيقة ذاته الشريفة وكأنه معه في حياته صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم أهل المقام الأعلى في رؤيته صلى الله عليه وسلم [99].
وأعجب من ذلك كله ما ذكر عن بعضهم من أنه رأى السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وزعم من زعم أن السؤال عن كيفية رؤية المتعددين له عليه الصلاة والسلام في زمن واحد في أقطار متباعدة ينحل به، ولا يحتاج معه إلى ما أشار إليه بعضهم وقد سئل عن ذلك فأنشد
كالشمس في كبد السماء وضؤها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا [100]
فانظر إلى هذا الغلو عندهم، نعوذ بالله من حال أهل الزيغ والضلال.
ويحسن قبل الشروع في تفنيد هذا الباطل وكان فساده أن أشير إلى الوجه الآخر لهذه الدعوى.
فهذه الطائفة لم تكن لتدعى هذه الدعوى إلا لما فيها من المكاسب والأهداف والغايات التي يتحصلون عليها كل من وراء ذلك.
فمنهم من يستغل هذه الدعوى ليحصل على إجازة من الرسول صلى الله عليه وسلم للطريقة التي ابتدعها والأذكار والأوراد التي اخترعها لتصبح بعد ذلك شرعا لأتباعه.
ومنهم من يستغل ذلك لإيهام الناس بأن ذلك من كراماته ليحظى لديهم بالمنزلة والمكانة إلى غير ذلك من الغايات والمأرب.
هذا وإن لموضوع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم جوانب متعددة بخصنا منها ما يتعلق بعنوان المبحث وهو دعوى رؤيته يقظة بعيني الرأس.
فهذه الدعوى مخالفة للشرع والعقل.
أما من جهة الشرع فليس هناك دليل شرعي يثبت حصول ذلك وغاية ما دلت عليه النصوص إمكانية الرؤيا المنامية، فحملها أهل الباطل على الرؤية البصرية، ومما يؤكد فساد هذا التأويل للرؤيا واقع القرون المفضلة المشهود لهم بالخيرية من المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلم ينقل عن أحد من أهل هذه القرون الثلاثة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته.
مع أنه قد حدثت في أزمانهم حوادث كان الحاجة إلى ظهوره شديدة جدا لو كان ذلك ممكنا.
فالصحابة قد وقع بينهم اختلاف في عدد من المسائل الدينية والدنيوية وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم يبلغنا أنا أحدا منهم ادعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره.
"وقد قال ابن عبد البر لمن ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد كلم بعض الناس بعد وفاته عند حجرته.
فقال له ابن عبد البر: ويحك هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ فهل من هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأجابه؟
وقد تنازع الصحابة في أشياء، فهلا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم، وهذه بنته فاطمة تنازع في ميراثه فهلا سألته فأجابه؟ [101].
وأما من جهة العقل فلما يترتب على هذه الدعوى من اللوازم الباطلة فليزم منها:
1- أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى في قبره منه شيء فيكون من يزوره في ذلك الوقت يزور مجرد القبر ويسلم على الغائب.
2- أن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه.
3- أن يكون الشخص الذي رأه يقظة له حكم الصحابة رضوان الله عليهم.
4- أن يكون الكلام الذي تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم تشريعًا جديدًا لهذه الأمة وهذا لاشك فيه، طعن في كمال هذا الدين وكونه عرضة للتبديل والتغيير.
وهذه الجهالات لا يلتزم بها من كان له أدنى مسكة عقل.
ومن ظن أن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم المودع في المدينة خرج من القبر وحضر في المكان الذي رآه فيه فهذا جهل لا جهل يشبهه.
فقد يراه في وقت واحد ألف شخص في ألف مكان على صور مختلفة. فكيف يتصور هذا في شخص واحد؟" [102].(4/408)
هذا وأن الذي يعتقده علماء السلف هو أن الأنبياء أحياء في قبورهم حياة برزخية الله أعلم بكيفيتها، وقد حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم، وأن هذه الأجساد لا تخرج من القبور حتى يبعث الله الخلائق كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم "فإن الناس يصعقون فأكون أول من تنشق عنه الأرض" [103].
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر" الحديث [104].
فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ولا يتصل بأحد من الناس. بل هو منعم في قبره وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة.
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
الخاتمة
جريا على عادة الباحثين في ذكر النتائج التي توصلوا إليها في نهاية أبحاثهم ونظرا لأهمية ذلك في الرسائل العلمية فإني ألخص أهم النتائج التي توصلت إليها في بحثي بما يلي:
1- هذه الحقوق المذكورة في ثنايا هذه الرسالة تشكل بمجموعها أحد أصلي الدين، وهي معني "شهادة أن محمدا رسول الله".
2- هذه الحقوق لا يدخل فيها ما هو حق خالص لله عز وجل من أمور الألوهية أو الربوية.
فما كان حقا لله عز وجل فلا يجوز صرفه لغير الله لا للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره، وهذا ما أكدته نصوص القرآن والسنة.
3- أن أمور هذا الدين لا تقوم على التحلي والتمني والدعاوى الزائفة وإنما تقوم على الاعتقاد الصحيح الذي يصدقه قول اللسان وعمل الجوارج.
4- أن النصوص من آيات وأحاديث وآثار قد وضحت ما يجب على هذه الأمة في هذا الجانب فقد أرشدت ودلت وبينت وفصلت وهذا هو الشأن في جميع جوانب هذا الدين، فقد أكمل الله عز وجل لنا هذا الدين، وقد بلغ رسوله صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه من رب العالمين البلاغ المبين.
فلسنا في حاجة بعد ذلك إلى من يزيد على هذه الحقوق أو ينقص منها، وإنما علينا أن نتبع ونقتدي ولا نبتدع.
5- أن على الأمة أن تعرف ما أوصى الله عليها من حقوق تجاه نبيها صلى الله عليه وسلم فذلك عقد من عقود الإيمان لا يتم إيمان العبد إلا به.
وعلى المسلم بذل الوسع في تعلم هذه الحقوق وتعليمها ونشرها بين الناس.
6- وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، كما لا تحصل نجاة ولا سعادة بدون الإيمان به، لأنه هو الطريق إلى الله سبحانه وتعالى ولذلك كان أول أركان الإسلام "شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله".
7- أن برهان الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وتعظيمه يرتكز على محور الاتباع والتأسي، ولذلك كان السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن سار على نهجهم أشد الناس حرصا على ذلك.
8- خص الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بحقوق مما يزيد على لوازم الرسالة تفضلا من الله عز وجل وتكريما فعلينا حفظ تلك الحقوق والقيام بها.
9- على الأمة أن تحفظ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته في خاصة نفسه وفي آله وأزواجه أمهات المؤمنين وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وفي كل ما له صلة بأمر هذا الدين.
10- على المسلم أن يحذر أشد الحذر من مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم لما في ذلك من الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة.
11- الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم لا يزيد إلا بعدا عن شرع المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا يحقق لصاحبه محبة ولا تعظيمًا.
وفي الختام أسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن التأسي والاقتداء والثبات على الحق، وأن يحشرنا في زمرة نبيه صلى الله عليه وسلم إنه جواد كريم وعلى كل شيء قدير. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع
1- الإبداع في مضار الابتداع: للشيخ الأستاذ علي محفوظ (ت 1361هـ) ط دار المعرفة بيروت.
2- الإحكام في أصول الأحكام: للآمدي، سيف الدين على بن محمد دار الفكر الطبعة الأولى 1401هـ.
3- آداب الشافعي ومناقبه: للرازي أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم (ت327هـ) دار الكتب ا لعلمية، بيروت.
4- الأدب المفرد: للبخاري محمد بن إسماعيل (ت256هـ) دار الكتب العلمية بيروت.
5- إرشاد الطالب: للشيخ سليمان بن سحمان، مطبعة المنار، مصر الطبعة الأولى 1345 هـ.
6- الاستيعاب في أسماء الأصحاب: لابن عبد البر، أبو عمر يرسف بن عبد الله بن محمد (ت 463 هـ) الناشر: دار الكتاب العربي.
7- أسد الغابة في معرفة الصحابة: لعز الدين على بن أحمد بن الأثير الجزري ط دار الشعب- القاهرة 1390 هـ.
8- الأصول الثلاثة وأدلتها: لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ) مطبعة الكيلاني.
9- الإصابة في تمييز الصحابة: لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) دار الكتاب العربي، بيروت
10- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجنكى الشنقيطى (ت 1393هـ) ط عالم الكتب، بيروت.
11- أطلس العلم: لعدد من الأساتذة- الناشر مكتبة لبنان.(4/409)
12- الاعتصام: للعلامة أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت لبنان 1402 هـ.
13- الأعلام: لخير الدين الزركلي دار العلم للملايين، بيروت، لبنان الطبعة السادسة 1984 م.
14- أعلام الموقعين: لمحمد بن أبي بكر المشهور بابن قيم الجوزبة (ت 751هـ) مكتبة الكليات الأزهرية 1388هـ.
15- إغاثة اللهفان لمحمد بن أبي بكر المشهور بابن قيم الجوزية (ت 751هـ) دار المعرفة بيروت، لبنان.
16- كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم: لابن تيمية، أبو العباسي تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (ت 728 هـ) مطابع المجد التجارية.
17- الأم: للإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 1104هـ) مطبعة كتاب الشعب.
18- الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف لأبي بكر بن جابر الجزائري مطابع الرشيد بالمدينة المنورة 1402هـ.
19- الأنوار المحمدية من المواهب اللدنية: ليوسف بن إسماعيل النبهاني دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت.
20- إيضاح الدلالة في عموم الرسالة: لشيخ الإسلام ابن تيمية أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (ت 728 هـ) ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (الجزء الثاني) ط إدارة الطباعة المنيرية، الناشر محمد أمين دمج، بيروت 1970 م.
21- كتاب الإيمان: لابن تيمية، أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (ت728 هـ) ط المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة.
22- بداية السول في تفضيل الرسول: للعلامة العز عبد العزيز بن عبد السلام السلمي المكتب الإسلامي الطبعة الرابعة 1406 هـ
23- البداية والنهاية: لابن كثير، عماد الدين أبو الفداء، إسماعيل بن كثير القرشي (ت 774 هـ) مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة الرابعة 1401 هـ.
24- البدع والنهي عنها: للإمام محمد بن وضاح القرطبي الأندلسي دار الرائد العربي بيروت- الطبعة الثانية 1402هـ.
25- بدائع الفوائد: لمحمد بن أبي بكر المشهور بابن قيم الجوزية (ت 751هـ) دار الكتاب العربي بيروت.
26- تاج العروس من جواهر القاموس: للزبيدي محمد بن عبد الرازق ط المطبعة الخيرية مصر الطبعة الأولى.
27- تاريخ البغدادى أبو بكر أحمد بن على (ت 463 هـ) ط دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
28- تاريخ الجهمية والمعتزلة: جمال الدين القاسمي الدمشقي مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الثانية 1401هـ.
29- تاريخ الرسل والملوك (تاريخ الطبري): للطبري محمد بن جرير (ت310 هـ) دار المعارف القاهرة 1968 م.
30- التاريخ الكبير: للبخاري محمد بن إسماعيل (ت2501هـ) دار الكتب العلمية المصورة على نسخة حيدر آباد.
31- التيجانية: لعلي بن محمد الدخيل الله الناشر دار طيبة الرياض.
32- تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن: للأسعردي، إسماعيل بن إبراهيم الخطيب الحسني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية (الجزء الأول) ط إدارة الطباعة المنيرية.
33- تأويل مختلف الحديث: ابن قتيبة: أبو محمد عبد الله بن مسلم (ت 276 هـ) الناشر دار الكتاب العربي بيروت لبنان.
34- التحفة العراقية في الأعمال القلبية: لشيخ الإسلام ابن تيمية تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (ت 728 هـ) ضن مجموعة الرسائل المنيرية (الجزء الرابع) ط (دارة الطباعة المنيرية. الناشر محمد أمين دمج، بيروت 1970 م.
35- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: للسيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) بتحقيق عبد الوهاب بن عبد اللطف الناشر دار الكتب الحديثة، القاهرة مصر. ط الثانية 1385 هـ.
36- تذكرة الحفاظ: للذهبي، أبو عبد الله شمس الدين (ت 748هـ) دار إحياء التراث العربي- طبعة مصورة عن مطبعة دائرة المعارف بالهند.
37- تعظيم قدر الصلاة: لمحمد بن نصر المروزى (ت 394 هـ) ط دار الأرقم للطباعة والنشر، استانبول تركيا الناشر مكتبة الدار المدينة المنورة الطبعة الأولى 1406هـ.
38- تفسير ابن كثير: "تفسير القرآن العظيم" ابن كثير: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي (ت 774 هـ) ط دار المعرفة، بيروت، لبنان عام 1402هـ.
39- تفسير البغوى "معالم التنزيل": للبغوى الحسن بن مسعود (ت 516 هـ) ط مطبع المنار ط الأولى.
40- تفسير الطري "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" الطري: أبر جعفر محمد بن جرير (ت 310هـ) ط شركة ومكتبة مصطفى الحلبي وأولاده، مصر الطبعة الثالثة.
41- تفسبر القرطبي "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (ت 671 هـ) ط دار إحياء التراث العربي.
42- تلخيص كتاب الاستغاثة المعروف بالرد على البكري: لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط الدار العلمية للطباعة والنشر دلهي الهند.
43- تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار: للدكتور صالح بن سعد السحيمي، الناشر دار ابن حزم للنشر والتوزيع الرياض الطبعة الأولى 1410هـ.(4/410)
44- تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق: لمحمد أحمد عبد القادر الشنقيطي المدني مطابع الجامعة الإسلامية، الطبعة الثانية.
45- تهذيب التهذيب: لابن حجر العسقلاني طبعة مصورة من طبعة دائرة المعارف بالهند.
46- تهذيب اللغة: للأزهري، أبي منصور محمد بن أحمد (ت 375هـ) المؤسسة المصرية للتأليف والترجمة (تحقيق عبد السلام هارون).
47- توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم: لأحمد بن إبراهيم بن عيسى- بتحقيق زهير الشاويش المكتب الإسلامي.
48- تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد: للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ت 1233 هـ) الناشر المكتبة السلفية.
49- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ط مؤسسة مكة للطباعة والإعلام.
50- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي روايته وحمله: لأبي عمر يوسف بن عبد البر النصري القرطبي (ت 463 هـ)، ط دار الكتب العلمية، ط دار الفكر بيروت.
51- الجامع لشعب الأيمان: للبيهقي أبي بكر أحمد بن الحسين (ت 458هـ) رسالة ماجستير بتحقيق فلاح بن ثاني بن شامان تتضمن أول الكتاب إلى نهاية الشعبة السابعة. وقسم آخر بتحقيق محمد بن عبد الوهاب العقيل وتتضمن الباب الرابع عشر إلى نهاية الثامن عشر.
52- جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم: لابن رجب: زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد ط دار المعرفة بيروت.
53- الجامع الفريد: ويحتوى على كتب ورسائل لأئمة الدعوة الإسلامية ط مطبعة المدينة، الرياض.
54- جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام: لابن القيم: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر (ت 751هـ) تحقيق محي الدين مستو. دار ابن كثير للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1408 هـ. ونسخة أخرى ط دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
55- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: لشيخ الإسلام ابن تيمية- ط مطابع المجد.
56- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: لابن القيم الجوزية، دار الكتب العلمية- بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1405 هـ.
57- حقوق آل البيت: لشيخ الإسلام ابن تيمية- ط دار الكتب العلمية، بيروت.
58- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 435 هـ) الناشر دار الكتاب العربي.
59- الخصائص الكبرى كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب للسيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) ط: دار الكنب العلمية بيروت لبنان ط الأولى 1405 هـ
60- درء تعارض العقل والنقل: لشيخ الإسلام ابن تيمية- بتحقيق محمد رشاد سالم ط مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة الأولى.
61- كتاب دراسة حديث نضر الله امرأ: للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد مطابع الرشيد بالمدينة المنورة.
62- الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ) ط دار المعرفة.
63- دلائل النبوة: للحافظ ابن نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430 هـ) ط بدون.
64- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: للبيهقي: أحمد بن الحسين (ت 458هـ) بتحقيق د/ عبد المعطي قلعجى، ط دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1405 هـ.
65- ديوان الأعشى: ط القاهرة، عام 1950 م.
66- ديوان أبي الطيب المتنبي: ط. دار صادر، بيروت.
67- ديوان البوصيري: محمد بن سعيد بن حماد بتحقيق سيد كيلاني ط مطبعة الحلبي القاهرة (1993 م).
68- الرد على الأخنائي: لشيخ الإسلام ابن تيمية ط الدار العلمية للطاعة والنشر، دلهي، الهند.
69- الرد على الزنادقة والجهمية: للإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) ط المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة 1393هـ.
70- رسالة التقليد: لابن القيم: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر (ت751هـ) بتحقيق محمد عفيفي ط المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة الثانية 1403هـ.
71- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: للألوسي أبي الفضل شهاب الدين محمد البغدادي (ت 1270هـ) دار إحياء التراث العربي، بيروت.
72- الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء: لابن القيم شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر (ت 751 هـ) بتحقيق د/ بسام على سلامة العموش الناشر دار ابن تيمية للنشر الطبعة الأولى.
73- روضة المحبين ونزهة المشتاقين: لابن القيم: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر (ت 751 هـ) ط دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
74- رياض الصالحين: للنووي يحيى بن شرف (ت 676 هـ) ط مؤسسة الرسالة.
75- زاد المعاد في هدى خير العباد: لابن القيم الجوزية- بتحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط الناشر مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان- الطبعة الثالثة عشر 1406هـ.
76- زاد المهاجر إلى ربه الرسالة التبوكية لابن القيم الجوزية- الناشر مكتبة المدني ومطبعتها.(4/411)
77- الزهد: لعبد الله بن المبارك المروزي (ت 181هـ) بتحقيق حبيب الرحمن الأعظمي دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
78- سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ط المكتب ط الإسلامي.
79- سلسلة الأحاديث الضعيفة وأثرها السيء على الأمة: للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ط المكتب الإسلامي.
80- السنن: لأبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ) بتعليق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد نشر وتوزيع دار الحديث، حمص، الطبعة الأولى 1388هـ.
81- السنن: للترمذي، أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة (ت 279 هـ) بتحقيق أحمد شاكر ط دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان.
82- السنن: للنسائي أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن على بن بحر (353 هـ) دار الكتب ا لعلمية، بيروت.
83- السنن: لابن ماجه أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت275 هـ) بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ط دار إحياء التراث العربي ونسخة أخرى بتحقيق محمد مصطفى الأعظمي ط شركة الطباعة العربية السعودية، الرياض، الطبعة الأولى 1403 هـ.
84- السنن: للدارقطي علي بن عمر الدارقطي (ت 385 هـ) من مطبوعات السيد عبد الله هاشم اليماني 1386 هـ بالمدينة المنورة.
85- سنن الدارمي: للدارمي عبد الله بن عبد الرحمن (ت 255 هـ) ط دار الكتب العلمية، بيروت لبنان.
86- السنن الكبرى: للبيهقي أحمد بن الحسين بن على (ت 458هـ) مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر أباد.
87- السنة: للحافظ أبي بكر عمرو بن عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني (ت 287هـ) بتحقيق ناصر الدين الألباني ط المكتب الإسلامي الطبعة الأولى 1405هـ.
88- السيرة النبوية: لابن هشام أبي محمد عبد الملك بن هشام المعافري (ت 213هـ) بتحفيق طه عبد الرؤوف سعد ط شركة الطباعة الفنية المتحدة القاهرة.
89- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لابن العماد الحنبلي، أبي، الفلاح عبد الحي بن العماد(ت 1089 هـ) دار إحياء الكتاب العربي، بيروت.
90- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: للالكائي: هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري (ت 418 هـ) بتحقيق د/ أحمد بن سعد الغامدي، الناشر دار طيبة للنشر والتوزيع.
91- شرح العقيدة الأصفهانية: لشيخ الإسلام ابن تيمية الناشر دار الكتب الإسلامية مصر.
92- شرح العقيدة الطحاوية ط المكتب الإسلامي الطبعة الرابعة.
93- شرح النحوي لصحيح مسلم: للنووي أبي زكريا يحيى بن شرف (ت676هـ) الناشر دار الفكر للطاعة والنشر.
94- الشفا بتعريف. حقوق المصطفى: للقاضي عياض أبي الفضل عياض بن موسى بن عباس اليحصبي (ت 544هـ) بتحقيق على محمد البجاوي الناشر دار الكتاب العربي 1404 هـ.
95- الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية: لمرعى بن يوسف الكرمي الحنبلي (ت 1033هـ) بتحقيق نجم عبد الرحمن خلف الناشر دار الفرقان، ومؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 1454 هـ.
96- الشريعة: للآجري أبي بكر محمد بن الحسين (ت 360هـ) بتحقيق محمد حامد الفقي الناشر حديث أكادمي، باكستان ط الأولى 1453 هـ.
97- الصارم المسلول على شاتم الرسول: لشيخ الإسلام ابن تيمية ط مطابع الحرس الوطني.
98- صحيح الجامع الصغير وزياداته: للألباني محمد ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي.
99- صحيح ابن خزيمة: للإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311هـ) بتحقيق الدكتور محمد مصطفى عظمى المكتب الإسلامي.
100- صحيح مسلم "الجامع الصحيح" للإمام مسلم بن الحجاج القشيري (ت261هـ) دار المعرفة بيروت لبنان.
101- صيد الخاطر: لابن الجوزي أبي الفرج عبد الرحمن بن علي (ت 597هـ) المكتبة العلمية، بيروت.
102- طبقات الحنابلة: للقاضي أبي الحسن محمد بن أبي يعلى تصحيح محمد حامد الفقي ط السنة المحمدية، القاهرة.
103- الطبقات الكبرى: لابن سعد محمد بن عبد الله بن سعد البصري (ت230هـ) دار صادر بيروت.
104- طبقات المفسرين للداودي شمس الدين محمد بن علي بن أحمد (ت945هـ) الناشر دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
105- طريق الهجرتين وباب السعادتين: للإمام ابن القيم الجوزية دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الأولى 1402هـ.
106- عصمة الأنبياء: للرازي محمد بن عمر بن الحسن (ت 606 كل) الناشر دار المطبوعات الحديثة، جدة، الطبعة الأولى 1406هـ.
107- عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية: لأحمد بن سعد الغامدي الناشر دار طيبة، الرياض، 1405هـ.
108- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية: لابن الجوزي أبي الفرج عبد الرحمن بن على (ت 597 هـ) بتحقيق إرشاد الحق الأثري الناشر إدارة العلوم الأثرية، فيصل آباد باكستان.
109- عمل اليوم والليلة: للنسائي أحمد بن شعيب النسائي (ت 303هـ) بتحقيق د/ فاروق حمادة الناشر مؤسسة الرسالة، بيروت، الطعة الثانية.
110- عمل اليوم والليلة: لابن السني: أحمد بن محمد بن إسحاق الدينوري (ت364هـ) بتحقيق سالم بن أحمد السلفي الناشر مؤسسة الكتب الثقافية ط الأولى 1408هـ.(4/412)
111- كتاب العين: للخليل بن أحمد الفراهيدى ط وزارة الثقافة والإعلام بالجمهورية العراقية.
112- غاية الأماني في الرد على النبهاني: الألوسي محمود شكري (ت 1342هـ) دار إحياء السنة النبرية.
113- غريب الحديث: للخطابي: حمد بن محمد بن إبراهيم (ت388هـ) بتحقيق عبد الكريم إبراهيم العزباوي ط دار الفكر دمشق 1402هـ.
114- فتح الباري: لابن حجر العسقلاني: محمد بن على بن حجر (ت 852هـ) ط دار الفكر.
115- فتح القدير: الشوكاني محمد بن على بن محمد (ت 1250هـ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي- الطبعة الثانية 1383هـ.
116- فتح المغيث بشرح ألفية الحديث. للسخاوي محمد بن عبد الرحمن بتحقيق عبد الرحمن عثمان المكتبة السلفية بالمدينة المنررة.
117- الفرق بين الفرق: عبد القاهر طاهر البغدادي- تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد نشر دار ا لمعرفة، بيروت، لبنان.
118- الفصل في الملل والأهواء والنقل: لابن حزم الظاهري، أبي محمد على بن أحمد (ت 456هـ) الناشر مكتبة الخانجي بمصر.
19 ا- فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: للإمام إسماعيل بن إسحاق القاضي (ت 282 كل) بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني- منشورات المكتب الإسلامي بدمشق الطبعة الأولى 1383هـ.
120- الفوائد: لابن القيم الجوزية ط دار الكتب العلمية، بيروت.
121- الفوئد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: للشوكاني محمد بن على (ت 1250هـ) تحقيق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
122- في ظلال القرآن: لسيد قطب ط دار العلم.
123- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: لشيخ الإسلام ابن تيمية بتحقيق د/ ربيع بن هادى عمير المدخلي الناشر: مكتبة لينة للنشر والتوزيع الطبعة الأولى 1409 هـ
124- قاعدة في المحبة: لشيخ الإسلام ابن تيمية بتحقيق د/ محمد رشاد سالم الناشر مكتبة التراث الإسلا مي.
125- القاموس المحيط: للفيروزآبادي ط عيسى البابي الحلبي، الطبعة الثانية.
126- القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع: للسخاوي شمس الدين محمد بن عبد الرحمن (ت 952 هـ) الناشر دار الكتب العربي، بيروت، الطبعة الأولى.
127- الكامل في التاريخ: لابن الأثير: على بن محمد بن عبد الكريم الجزري (ت 630هـ) ط دار صادر، بيروت 1385 هـ.
128- الكامل في ضعفاء الرجال: لابن عدى: عبد الله بن عدى الجرجاني (ت 365 هـ) دار الفكر للطاع والنشر، بيروت، الطعة الأولى 1303 هـ
129- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: للزمخشري أبي القاسم جار الله محمود بن الخوارزمي (ت 538هـ) مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1385 هـ.
130- الكفاية في علم الرواية: للخطب: أحمد بن على بن ثابت المعروف بالخطب (ت 463هـ) الناشر دار الكتب الحديثة، القاهرة، الطبعة الثانية.
131- الكواشف الجلية عن معاني الواسطة: لعبد العزيز بن محمد السلمان مطابع المجد التجارية الطبعة العاشرة.
132- لسان العرب: لابن منظور: أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ط دار صادر، بيروت.
133- لسان الميزان: لابن حجر العسقلاني أحمد بن حجر (852هـ) طبعة مصورة عن طبعة دائرة المعارف بالهند مؤسسة الأعلمي للمطوعات، بيروت الطبعة الثانية 1390هـ.
134- اللباب في تهذيب الأنساب: لابن الأثير الجزري (ت 630هـ) دار صادر، بيروت 1400هـ.
135- الماسونية ذلك العالم المجهول: صابر طعبمة دار الجيل، ببروت، الطبعة الخامسة عام 1406 هـ.
136- مجلة البحوث الإسلامية: العدد التاسع.
137- مجلة الجامعة الإسلامية: العدد الثاني السنة الرابعة.
138- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: للهيثمي علي بن أبي بكر (ت 807هـ) دار الكتاب، بيروت الطعة الثانية.
139- مجموع الفتاوى: لشيخ الإسلام ابن تبمية جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ط دار العربية، بيروت.
140- كتاب: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج ورسالة: تأليف محمد الصادق إبراهيم عرجون ط دار القلم، دمشق.
141- مدارج السالكين: لابن القيم الجوزية بتحقيق محمد حامد الفقي ط الكتاب العربي، بيروت لبنان 1972 م.
142- المدخل إلى السنن الكبرى: للبيهقي أبي بكر أحمد بن الحسين، (ت 458 هـ) بتحقيق د/ محمد ضياء الرحمن الأعظمي الناشر دار الخلفاء للكتاب الإسلامي.
143- المستدرك على الصحيحين: للحاكم محمد بن عبد الله (ت 455 هـ) مطبعة دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد.
144- المسند: للإمام أحمد بن حنبل الشيباني (ت 241هـ) ط دار صادر بيروت.
145- مشكاة المصابيح: للتبريزى محمد بن عبد الله الخطيب تحقيق محمد بن ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي بيروت 1399هـ.
146- معارج القبول: للشيخ حافظ بن أحمد حكمي ط المطبعة السلفية ومكتبتها.
147- المعجم الكبير: للطبراني: أبي القاسم سليمان بن أحمد (ت 365هـ) تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي الدار العربية، بغداد ط الأولى.(4/413)
148- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: لمحمد فؤاد عبد الباقي الناشر المكتبة الإسلامية استانبول تركيا.
149- معجم مقاييس اللغة: لابن فارس: أحمد. بن فارس بتحقق عبد السلام هارون ط مكتبة مصطفى الحلبي، الطبعة الثانية.
150- معرفة علوم الحديث: لاحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري (ت 455 هـ) المكتب التجاري للطاعة والتوزيع والنشر، بيروت.
151- المغني: لابن قدامة عبد الله بن أحمد بن محمد (ت 620 هـ) الناشر مكتبة الرياض الحديثة، الرياض 1405 هـ.
152- مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة: للسيوطي عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911هـ) ط مطابع الرشيد، الطبعة الثالثة 1399هـ.
153- المفردات في غريب القرآن: لحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت 502هـ) ط دار المعرفة بيروت.
154- مقالات الإسلاميين: لأبي الحسن الأشعري: على بن إسماعيل (ت 324 هـ) ط دار إحياء التراث العربي بيروت.
155- الملل والنحل: للشهرستاني محمد بن عبد الكريم (ت 548هـ) تحقيق محمد سيد الكيلاني ط مصطفى الحلبي.
156- مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا: للسيوطي عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911هـ) بتحقيق سمير القاضي الناشر مؤسسة الكتب الثقافية.
157- منزلة السنة في التشريع الإسلامي: للدكتور محمد أمان بن على الجامي مطابع الجامعة الإسلامية الطبعة الثالثة.
158- منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية بتحقيق محمد رشاد سالم ط جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
159- المنهاج في شعب الإيمان: للحليمي أبي عبد الله الحسين بن الحسن (ت 403هـ) بتحقيق حلمي محمد فوده- دار الفكر.
160- منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان: للدكتور على بن محمد ناصر فقيهي الطبعة الأولى 1405هـ.
161- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: للهيثمي على بن أبي بكر بتحقيق محمد عبد الرزاق حمزة الناشر دار الكتب العلمية بيروت.
162- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف "بخطط المقريزي" لتقي الدين أبي العباس أحمد بن على المقريزى (ت 845هـ) الناشر: مكتبة الثقافة الدينية القاهرة الطبعة الثانية.
163- الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي: للإمام مالك بن أنس الأصبحي (ت 179 هـ) دار النفائس الطبعة العاشرة 1407هـ.
164- ميزان الاعتدال: للذهبي محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748هـ) بتحقيق على البجاوى دار المعرفة، بيروت.
165- كتاب النبوات: لشيخ الإسلام ابن تيمية ط دار الكتب بيروت.
166- نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض: للخفاجي أحمد شهاب الدين الناشر دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
167- النهاية في غريب الحديث: لابن الأثير: مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري (ت 606هـ) بتحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي الناشر المكتبة العلمية بيروت.
168- هذه هي الصرفية: لعبد الرحمن الوكيل دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة.
169- الوافي بالوفيات: للصفدي طبع سنة 1381هـ.
170- وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى: للسهمودي على بن أحمد (ت 911هـ) بتحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد الناشر دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الرابعة.
171- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: لابن خلكان أبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد (ت 681هـ) بتحقيق د/ إحسان عباس دار صادر بيروت.
172- الولاء والبراء في الإسلام: لمحمد بن سعيد بن سالم القحطاني الناشر دار طيبة.
________________________________________
[1] واسمه أحمد بن يحيى بن زيد الشيباني بالولاء، أبو العباس المعروف بثعلب، إمام الكوفيين في النحو واللغة، كان راوية للشعر، ثقة حجة، مات ببغداد سنة 291هـ.
الأعلام (1/267).
[2] الآية (255) من سورة البقرة.
[3] لسان العرب (8/ 184) مادة شفع.
[4] قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 151- 152).
[5] أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 345، 363).
[6] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب من صلى عليه مائة شفعوا فيه: (3/52، 53).
[7] الآية (18) من سورة يونس.
[8] الآية (3) من سورة الزمر.
[9] الآيتان (43، 44) من سورة الزمر.
[10] الآية (4) من سورة السجدة.
[11] مجموع الفتاوى (1/ 118).
[12] الآية (5) من سورة آل عمران.
[13] الآية (38) من سورة إبراهيم.
[14] الآية (22) من سورة سبأ.
[15] الآية (111) من سورة الإسراء.
[16] الآية (66) من سورة يونس.
[17] الآية (18) من سورة يونس.
[18] الآية (28) من سورة الأحقاف.
[19] الآية (3) من سورة الزمر.
[20] مجموع الفتاوى (1/ 126- 129) بتصرف.
[21] الآية (255) من سورة البقرة.
[22] الآية (26) من سورة النجم.
[23] الآية (28) من سورة الأنبياء.
[24] الآية (109) من سورة طه.
[25] الآية (113) من سورة التوبة.
[26] الآية (6) من سورة المنافقون.
[27] الآية (80) من سورة التوبة.
[28] الآية (55) من سورة الأعراف.
[29] الآية (45) من سورة هود.
[30] الآية (46) من سورة هود.(4/414)
[31] الآية (47) من سورة هود.
[32] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب (8/ 86).
[33] تقدم تخريجه ص 737
[34] تقدم تخريجه ص 737
[35] يزيد بن الاسود الجرشي أبو الأسود، من سادة التابعين أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من العباد الخشن وقصته مع معاوية تدل على فضله وصلاحه، توفي سنة 71 هـ.
الإصابة (3/634) وسبر أعلام النبلاء (4/ 136- 137).
[36] أورده ابن حجر في الإصابة (3/ 634) وقال: "أخرجه أبو زرعة الدمشقي ويعقوب بن سفيان في تاريخيهما بسند صحيح" وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/137) وابن كثير في البداية (8/ 324).
[37] تقدم تخريجه ص 445.
[38] الرد على البكري (ص 88) بتصرف.
[39] الرد على البكري (ص 90).
[40] الرد على البكري (90، 91) بتصرف.
[41] الرد على البكري (261، 262).
[42] أخرجه النسائي في سننه، كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر (3/ 52).
[43] الآية (9) من سورة الأنفال.
[44] الآية (15) من سورة القصص.
[45] الرد على البكري (ص 80- 82).
[46] تقدم تخريجه ص 588
[47] تقدم تخريجه ص 589
[48] تقدم تخريجه ص 737
[49] الرد على البكري (ص 231- 233) بتصرف يسير.
[50] الآية (72) من سورة المائدة.
[51] الآية (6) من سورة الصف.
[52] الرد على البكري (ص 103).
[53] مجموع الفتاوى 11/ 159) بتصرف.
[54] الرد على البكري (ص 352).
[55] انظر:
أ- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية.
ب- الرد على الأخنائي لشيخ الإسلام ابن تيمية.
ج- الرد على البكري لشيخ الإسلام ابن تيمية.
د- صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان للشيخ محمد بشير السهسواني.
هـ- الصواعق المرسلة الشهابية للشبح سليمان بن سحمان.
و- غاية الأماني في الرد على النبهاني للشيخ محمود شكري الألوسي.
[56] الرد على البكري (ص 215).
[57] مجموع الفتاوى (27/ 10).
[58] مجموع الفتاوى (4/ 521).
[59] مجموع الفتاوى (27/ 11).
[60] مجموع الفتاوى (26/ 150).
[61] تقدم تخريجه ص 686.
[62] قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي الأنصاري، صحابي جليل، شهد المشاهد مع رسول صلى الله عليه وسلم وكان أحد الفضلاء الجلة من دهاة العرب، مات في آخر خلافة معاوية بالمدينة. الإصابة (3/ 239).
[63] أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب في حق الزوج على المرأة (2/ 604، 605) ح 2140
[64] مجموع الفتاوى (27/ 93).
[65] مجموع الفتاوى (158، 101) بتصرف.
[66] تقدم تخريجه ص 591.
[67] تقدم تخريجه ص 580
[68] الجامع الفريد (ص 444).
[69] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم حديث (66646) انظر فتح الباري (11/ 530). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى (5/ 80).
[70] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية.
انظر فتح الباري (7/ 48 1) ح 3836 واللفظ له. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى (5/ 81).
[71] أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 34، 86، 25 1). وأخرجه الترمذي في سننه، كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله وقال: حديث حسن (4/ 110) ح 1535، وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهة الحلف بالآباء (3/ 0 57) ح 1 325 وأخرجه ابن حبان كما في الموارد (ص 286) ح 1177
والحاكم في المستدرك (1/ 18) كتاب الأيمان (4/279) كتاب الأيمان والنذور وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافق الذهبي".
[72] هو: محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء،؟ أبو يعلى عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون، ومن كبار الحنابلة ولد سنة 380 هـ، وتوفي سنة 458 هـ.
الأعلام (6/99 - 100).
[73] هو: على بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي، عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته، ولد سنة 431هـ وتوفي سنة 513 هـ. الأعلام (4/ 313).
[74] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/ 469).
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 177) وقال رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح وهو في الطبراني (9/05 2) ح 8902
[75] انظر قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 84- 86) ومجموع الفتاوى (27/349) والرد على الأخنائي (106، 107).
[76] اقتضاء الصراط المستقيم (ص 295).
[77] الآية (3) من سورة المائدة.
[78] تقدم تخريجه.
[79] تقدم تخريجه ص 247.
[80] العبيديون ص م أبناء عبيد الله بن ميمون بن ديصان المشهور بالقداح اليهودي قامت دولتهم في مصر (362- 564 هـ) وكانوا من أجرأ الناس على استحداث البدع والمنكر كتاب ولا سنة. انظر كتاب قصة نسب الفاطميين للدكتور عبد الحليم عويس، والبداية والنهاية لابن كثير (12/ 267).
[81] المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (1/490).
[82] الآية (79) من سورة البقرة.
[83] البداية لابن كثير (13/ 137).(4/415)
[84] التبر المسبوك للسخاوي (ص 14).
[85] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "لتتبعن سنن من كان قبلكم". انظر: فتح الباري (3 1/305) ح 0 732، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى (8/57).
[86] هو: محمد بن سعيد بن حماد البوصيري، شاعر صوفي غال، له عدد من القصائد في المدائح النبوية، وقد عرف عنه قلة علمه، وسلاطة لسانه، وتكففه للناس وقد ذكر محقق ديوانه عددا من الخصال التي تدل على حقيقة الرجل وقدره.
انظر: مقدمة ديوان البوصيري بتحقيق محمد سيد كيلاني.
[87] هو: محمد بن سعيد بن حماد البوصيري، شاعر صوفي غال، له عدد من القصائد في المدائح النبوية، وقد عرف عنه قلة علمه، وسلاطة لسانه، وتكففه للناس وقد ذكر محقق ديوانه عددا من الخصال التي تدل على حقيقة الرجل وقدره.
انظر: مقدمة ديوان البوصيري بتحقيق محمد سيد كيلاني.
[88] ديوان البوصيري (ص 240- 248) وهذه الأبيات منتقاة من قصيدته المعروفة بالبردة..
[89] تنبيه أولى الأبصار (ص 249).
[90] منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان (ص 163).
[91] الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإحجاف (ص 31).
[92] الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإحجاف (ص 28).
[93] الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإحجاف (ص 28).
[94] لا يقصد هؤلاء بالحياة هنا الحياة البرزخية وهذا يتضح من سياق العبارات التالية لهذه العبارة، فهم يرون أن النبي صلى اله عليه وسلم يخرج من قبره وله التصرف الملكوت العلوي والسفلي.
[95] غاية الأماني في الرد على النبهاني (1/ 52).
[96] الآية (82) من سورة النساء.
[97] لا يقصدون هنا الرؤيا المنامية وإنما يقصدون رؤية اليقظة فهم يقولون: إن رؤيته أكثر ما تقع بالقلب ثم يترقى الحال إلى أن يرى بالبصر على ما زعموا.
[98] غاية الأماني (1/51).
[99] التيجانية (ص 127).
[100] غاية الأماني (1/52).
[101]مجموع الفتاوى (10/ 407).
[102] صيد الخاطر (ص 429).
[103] أخرجه بهذا اللفظ البخاري في صحيحه، كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي. انظر: فتح الباري (5/70).
[104] تقدم تخريجه (ص 457).
35. ... من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة والسلام عليه
36. ... شأنُ النبي صلى الله عليه وسلم عند المسلمين: [حديث صلح الحديبية]
37. ... محبة النبيً صلى الله عليه وسلم وتعظيمه
بقلم /فهد عبد الله الحبيشي
alfhdabd@maktoob.com
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد ابن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.
لقد صدق ربي حين قال: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}(البقرة120)
ففي حين يحاول بعض العلمانيين أن يشككوا بمصداقية القرآن والنبوات والغيبيات والآخرة والقدر وكل ما هو إسلامي، حاولوا التشكيك في هذه الآية قصدًا منهم لضرب الإسلام في كتابه ثم تثبت الأيام خطأ ما قالوه وما روجوا لها وضاعت تفاهاتهم وذهبت أدراج الرياح حين قام ثلة ممن امتلأت قلوبهم حقدًا وحنقًا على خير خلق الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بعملهم الشائن والذي يستنكره كل ذي لب فضلاً عمن يكن لهذا النبي الكريم كل تعظيم وتبجيل واحترام، نعم لقد صدق الله وكذب هؤلاء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال: فمن([1]).
وعلى النقيض من أولئك حاول آخرون تزوير حقائق الدين بالدعاوى العريضة الباطلة وجعلوا من المخلوق شريكًا للخالق وناقضوا أصل ما جاء به الرسل وأصلت له الكتب السماوية فادعوا في النبي صلى الله عليه وسلم الخالقية سواء صرحوا بهذا أم أتوا بمعناه مما ستراه في هذه الرسالة، وهم بهذا لم يأتوا بجديد إذ قد سبقهم سابقون, فهاهم اليهود يدعون في عزير أنه ابن الله ويدعي النصارى أن المسيح ابن الله, كذبوا جميعًا فما هؤلاء إلا عبيده له سبحانه.
لقد وقف الناس في شأن الأنبياء وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على طرفين: الجحود والغلو وكلا القولين منبوذان ذميمان تردهما الحقائق القرآنية والنبوية والتاريخية والواقعية، ودين الله وسط بين الغالي والجافي، وهذه الوسطية في شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو ما تتحدث عنه هذه الرسالة مبينة ما يتعلق بها من جوانب مهمة ينبغي أن يتنبه لها المسلم وأن يتذكرها دومًا، محذرة من الغلو الذي وقع فيه البعض جهلًا أو تجاهلًا، كما أبغي من كل من طالع هذه الرسالة أن يدعو لي في ظهر الغيب والله المستعان.
تمهيد(4/416)
تعريف المحبة لغة واصطلاحًا
المحبة لغة:-
ذهب ابن القيم إلى أن مادة كلمة حب تدور في اللغة على خمسة أشياء هي:-
1. الصفاء والبياض ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حبب الأسنان.
2. العلو و الظهور ومنه "حبب الماء وحبابه" وهو ما يعلوه عند المطر الشديد.
3. اللزوم و الثبات و منه حب البعير وأحب إذا برك و لم يقم.
4. اللب ومنه حبه القلب للبه وداخله.
5. الحفظ والإمساك و منه حب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه ويمسكه وفيه معنى الثبوت أيضًا.
ثم قال: ولا ريب أن هذه الخمسة من لوازم المحبة فإنها صفاء المودة وهيجان إرادة القلب للمحبوب وعلوها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد، وثبوت إرادة القلب للمحبوب ولزومها لزومًا لا تفارقه ولإعطاء المحب محبوبه لبه وأشرف ما عنده وهو قلبه ولاجتماع عزماته وإرداته وهمومه على محبوبه([2])
المحبة اصطلاحًا:
قال ابن حجر: وحقيقة المحبة عند أهل المعرفة من المعلومات التي لا تحد وإنما يعرفها من قامت به وجدانًا ولا يمكن التعبير عنها([3]) ونحو هذا قال ابن القيم: لاتحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف اظهر من المحبة([4]).
المبحث الأول :وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الواجبات في الدين ومن أعظم الحقوق الواجبة علينا تجاهه صلى الله عليه وسلم على هذا دل القران والسنة من هذه الأدلة:
1- قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(التوبة24)دلت هذه الآية على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وليس كذلك فقط بل يجب أن تكن هذه المحبة مقدمه على كل محبوب([5]) كالأب والابن والأخ...الخ
قال القاضي عياض: "كفى بهذه الآية حظًا وتنبيهًا ودلالة وحجة على لزوم محبته ووجوب فرضها واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم؛ إذ قرع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله تعالى: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) ثم فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله"([6])
2- ثبت في البخاري من حديث عمر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شي إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له: عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر"([7])
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم قال: "فو الذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده"([8]).
4- عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"([9]).
5- عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار" ([10])
6- عن أنس بن مالك قال:جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة ؟ قال: وما أعددت للساعة؟ قال: حب الله ورسوله قال: "فإنك مع من أحببت".
قال أنس فما فرحنا بعد الإسلام فرحًا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: فإنك مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم([11])
هذه الأحاديث وغيرها تدل على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وعظمها في الدين ولهذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس حبًا له صلى الله عليه وسلم فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه([12])
وسئل علي ابن أبي طالب رضي الله عنه كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الضمأ([13]).
والمطالع في كتب السير يجد صورا كثيرة رائعة تدل على مدى حب الصحابة له صلى الله عليه وسلم وإيثارهم له وتقديم أرواحهم رخيصة فداء له صلى الله عليه وسلم.
أما الناس بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد انقسموا في محبته إلى ثلاثة أقسام:
1- أهل إفراط
2- أهل تفريط.
3- الذين توسطوا بين الإفراط والتفريط.(4/417)
فأهل الإفراط منهم الذين بالغوا في محبته صلى الله عليه وسلم بابتداعهم أمورًا لم يشرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ظنا منهم أن فعل هذه الأمور علامة المحبة وبرهانها كالاحتفال بمولده والمبالغة في مدحه لدرجة إشراكه في صفات خاصة لله عز وجل كما سأذكر نماذج منه لاحقًا، وهؤلاء ينبغي أن يعلموا أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون بالغلو فيه بل بتصديقه فيما اخبر به عن الله، وطاعته فيما أمر به ومتابعته ومحبته وموالاته.
أما أهل التفريط وهم المقصرون في حق النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقدموا حبه على حب النفس والأهل و المال والولد ولم يعزروه ويوقروه ويتبعوا سنته والسبب في ذلك يعود إلى:
1- جهل الكثير منهم بأمور دينهم بما فيها الحقوق الواجبة له صلى الله عليه وسلم والتي من ضمنها محبته فهؤلاء يجب عليهم أن يتعلموا أمور دينهم بما فيها الحقوق الواجبة له صلى الله عليه وسلم.
2- إعراض هؤلاء عن سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وعن اتباع شرعه بسبب ما هم عليه من المعاصي وإسرافهم على أنفسهم وتقديمهم شهوات أنفسهم وأهوائهم على ما جاء في الشرع من الأوامر والنواهي.
فالواجب على هؤلاء الإقلاع عن الذنوب والمعاصي التي هي سبب نقصان إيمانهم وضعف محبتهم وبعدهم عما يقربهم إلى الله تعالى.
وأما الذين توسطوا بين الإفراط والتفريط فهؤلاء هم السلف الصالحين من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم من الذين آمنوا بوجوب هذه المحبة حكماً وقاموا بمقتضاها اعتقادًا وقولاً وعملاً فأحبوا النبي صلى الله عليه وسلم فوق محبة النفس والولد والأهل وجميع الخلق امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فجعلوه أولى بهم تصديقًا لقوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وقاموا بمقتضى هذه المحبة فآمنوا وصدقوا بنبوته ورسالته وما جاء به عن ربه عز وجل، واعتقدوا أنه ليس من المحبة فيء شيء الغلو في حقه وقدره ووصفه بأمور اختص الله بها وحده بل علموا أن في هذا مخالفة ومضادة لتلك المحبة ومناقضة لما أخبر به سبحانه وتعالى([14]).
أقسام محبته- صلى الله عليه وسلم -:-
وهنا يذكر ابن رجب أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم على درجتين:
أحداهما: فرض، وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الله وتلقيه بالمحبة والرضا والتعظيم والتسليم، وعدم طلب الهدى من غير طريقه بالكلية ثم حسن الاتباع له فيما بلغه عن ربه من تصديق في كل ما أخبر به وطاعته فيما أمر به من الواجبات والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات ونصرة دينه والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة فهذا القدر لابد منه ولا يتم الإيمان يدونه.
والدرجة الثانية: فضل، وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به، وتحقيق الإقتداء بسنته وأخلاقه وآدابه ونوافله وتطوعاته، وأكله وشربه ولباسه وحسن معاشرته لأزواجه وغير ذلك من آدابه الكاملة وأخلاقه الطاهرة([15]).
وفي فتح الباري عن بعض العلماء أنه قال: محبة الله على قسمين فرض وندب،
فالفرض: المحبة التي تبعث على امتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه والرضا بما يقدره فمن وقع في معصية من فعل محرم أو ترك واجب فلتقصيره في محبة الله حيث قدم هوى نفسه، والتقصير تارة يكون مع الاسترسال في المباحات والاستكثار منها فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء فيقدم على المعصية أو تستمر الغفلة فيقع، كذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على قسمين كما تقدم، ويزداد: ألا يتلقى شيئًا من المأمورات والمنهيات إلا من مشكاته، ولا يسلك إلا طريقته ويرضى بما شرعه حتى لا يجد في نفسه حرجًا مما قضاه ويتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار والحلم والتواضع وغيرها([16]).
بواعث محبة النبي صلى الله عليه وسلم:-
يدعو المسلم إلى محبة النبي صلى الله عليه وسلم أمور عدة منها:-
1- موافقة مراد الله عز و جل في محبته لنبيه وتعظيمه له فقد أقسم بحياته تعظيما له في قوله (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) كما أثنى عليه فقال:(وانك لعلى خلق عظيم)(القلم4) وقال: (ورفعنا لك ذكرك).
قال ابن القيم: وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما تجوز تبعا لمحبة الله وتعظيمه كمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه، فإن أمته يحبونه لمحبة الله له ويعظمونه ويجلونه لإجلال الله له فهي محبه لله من موجبات محبة الله، وكذلك محبة أهل العلم والإيمان ومحبة الصحابة رضي الله عنهم – وإجلالهم تابع لمحبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ([17])
2- أن محبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم من شرط إيمان العبد بل الأمر كما قال ابن تيمية: "إن قيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله وسقوط ذلك سقوط الدين كله"([18]).
3- ما ميزه الله تعالى به من شرف النسب وكرم الحسب وصفاء النشأة وكمال الصفات والأخلاق والأفعال.(4/418)
4- شدة محبته صلى الله عليه وسلم لأمته وشفقته عليها ورحمته بها قال الله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)(التوبة125) وكم كان يسأل الله تعالى الخير لأمته ويفرح بفضل الله عليها وكم تحمل من مشاق نشر الدعوة وأذى المشركين بالقول والفعل حتى أتم الله به الدين وأكمل به النعمة([19]).
علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم:-
اعلم أن من أحب شيئًا آثره وآثر موافقته وإلا لم يكن صادقًا في حبه وكان مدعياً([20]) ولا يوافق قوله فعله، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم لا تخرج عن هذا الإطار، ولا شك أن لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم علامات ودلائل تدل على حقيقة صدق هذه المحبة، ولهذا كان لزاماً على المسلم أن يعرفها ليحققها ويعمل بها وأهم هذه العلامات ما يلي:-
1- الإقتداء به صلى الله عليه وسلم واستعمال سنته وسلوك طريقته والاهتداء بهديه وسيرته والوقوف عندما حد لنا من أحكام شريعته ومحبته صلى الله عليه وسلم من مهماتها وهذه أعظمها([21]) فعن أنس بن مالك قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل ثم قال لي يا بني وذلك من سنتي ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة([22]).
وتأمل قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) أي الشأن في أن الله يحبكم، لا في أنكم تحبونه وهذا لا ينالونه إلا بإتباع الحبيب صلى الله عليه وسلم ([23]) قال المحاسبي: وعلامة محبة العبد لله عز و جل اتباع مرضاة الله، والتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان، ووجد طعمه ظهرت ثمرة ذلك على جوارحه ولسانه([24])
وقال غيره: من الزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب في أوامره ونواهيه وأفعاله وأخلاقه و قال أبو إسحاق الرقي: علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال غيره: لا يظهر على أحد شئ من نور الإيمان إلا بإتباع السنة ومجانبة البدعة([25])
2- أن يرضى مدعيها بما شرعه الله حتى لا يجد في نفسه حرجا مما قضى([26]) قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}(النساء65) فسلب الإيمان عمن وجد في صدره حرجًا من قضائه و لم يسلم له.
3- وهي داخله فيما قبلها :إيثار ما شرعه وحض عليه على هدى نفسه وموافقة شهوته قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الحشر9) وإسخاط العبد في رضا الله تعالى([27])
4- كثرة ذكره له فمن أحب شيئا أكثر ذكره([28]) و لبعضهم : المحبة دوام ذكر المحبوب([29]) قال ابن القيم في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: إنها سبب لدوام محبته للرسول صلى الله عليه وسلم وزيادتها و تضاعفها، و ذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به، لان العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه تضاعف حبه له وتزايد شوقه إليه و استولى على جميع قلبه، وإذا أعرض عن ذكره و إحضاره، و إحضار محاسنه بقلبه نقص حبه من قلبه، ولا شئ أقر لعين العبد المحب من رؤية محبوبه، ولا أقر لقلبه من ذكره و إحضار محاسنه، فإذا قوى هذا في قلبه جرى لسانه بمدحه والثناء عليه وذكر محاسنه، و تكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه([30]).
و ذكره صلى الله عليه وسلم يكون بالصلاة عليه وبهذا يعلم فضيلة الحديث و أهله لذكرهم له صلى الله عليه وسلم كثيرًا ([31])و صح في السنة قوله صلى الله عليه وسلم:البخيل من ذكرت عنده فلم يصلي على([32]).
وقد شرع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لإظهار محبته واحترامه وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم و هذا من علامات محبته، ولقد ورد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا يذكرونه إلا خشعوا و اقشعرت جلودهم وبكوا، وكذلك كان كثير من التابعين من يفعل ذلك محبة له و شوقًا إليه([33]).
و يدخل ضمن الذكر المشروع تعداد فضائله وخصائصه وما وهبه الله من الصفات و الأخلاق والخلال الفاضلة، وما أكرمه به من المعجزات و الدلائل و ذلك من أجل التعرف على مكانته ومنزلته والتأسي بصفاته وأخلاقه و تعريف الناس وتذكيرهم بذلك ليزدادوا إيمانًا ومحبه له صلى الله عليه وسلم ولكي يتأسوا به، ولا محظور في التمدح بذلك نثرًا وشعرًا مادام ذلك في حدود المشروع الذي أمر به الشارع الكريم([34]).(4/419)
5- نصر دينه بالقول والفعل والذب عن شريعته والتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار والحلم والصبر والتواضع وغيرها، فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذ الطاعات و تحمل المشاق في الدين، واثر ذلك على أغراض الدنيا الفانية([35]).
6- كثرة الشوق إلى لقائه فكل حبيب يحب لقاء حبيبه([36])، أما في حياته صلى الله عليه وسلم فمعروف وأما بعد موته فبأن يشتاق إلى لقائه في الآخرة ويشاهد ذاته الكريم صلى الله عليه وسلم ([37]).
و قد نص النبي صلى الله عليه وسلم على هذه العلامة فقال: "من أشد أمتي لي حبًا ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله و ماله"([38]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي محمد في يده ليأتيني على أحدكم يوم لا يراني ثم لأن يراني معهم أحب إليه من أهله و ماله"([39]).
ومن الأمثلة التطبيقية لهذه العلامة أن الأشعريين عند قدومهم المدينة كانوا يرتجزون: غدًا نلقى الأحبة... محمدًا و حزبه([40])
و روي إن بلالاً و حذيفة بن اليمان و عمار بن ياسر كانوا يقولون لما حضرتهم الوفاة: غدًا ألقى الأحبة محمدًا و حزبه([41])
7- حب القرآن الذي أتى به صلى الله عليه وسلم ، وهدى به واهتدى و تخلق به حتى قالت عائشة: رضي الله عنها: إن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن([42]) أي كان دأبه صلى الله عليه وسلم التمسك به والتأدب بآدابه والعمل بما فيه من مكارم الأخلاق فجعلت عائشة رضي الله عنها القرآن نفس خلقه مبالغة في شدة تمسكه به، وأنه صار سجية له وطبيعة كأنه طبع عليها([43]).
وتمثيل حب القران بكثرة تلاوته له على الوجه المرضي فيها عند أهل الأداء، و ليس المراد مطلق القراءة كذا قال الخفاجي([44]) و الصواب أن كثرة تلاوته تدل على حب القرآن و الشغف به، و قد صح أن من يتعتع في قراءته له أجران فلا وجه لقصر محب القرآن على المقرئين فقط، وإضافة إلى كثرة تلاوته ودوام قرأته، العمل بما فيه من أحكام و مواعظ، و تفهمه أي طلب فهمه في مواعظه و قصصه ووعده ووعيده و بيان أحوال أنبيائه وأوليائه و عاقبة أعدائه([45]) وكذا التقيد بفهم معانيه([46]).
هذا والسنة مليئة بالحث على تعلم القران وإتباعه، فصح عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيركم من تعلم القران وعلمه"([47]).
و صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كتاب الله عز وجل هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة"([48]).
و لهذا إذا أردت إن تعرف ما عندك وعند غيرك من محبة الله و رسوله فانظر محبة القرآن من قلبك، والتذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي والغناء المطرب بسماعهم، فإنه من المعلوم أن من أحب محبوبًا كان كلامه وحديثه أحب شئ إليه كما قيل:
إن كنت تزعم حبي... فلم هجرت كتابي
أما تأملت ما فيـ... ـه من لذيد خطابي
و يروى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله([49]).
8- محبة سنته صلى الله عليه وسلم، والذي يشمل: طريقه وهديه بالإقتداء به قولاً وفعلاً، وأحاديثه فيقف عند حدودها، وهي أوامرها ونواهيها([50]) وأن يكثر من قراءتها فإن من دخلت حلاوة الإيمان في قلبه إذا سمع كلمه من كلام الله تعالى أو من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم تشربتها روحه وقلبه ونفسه([51]) قال سهل بن عبد الله: علامة حب الله حب القران وعلامة حب القران حب النبي صلى الله عليه وسلم وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة وعلامة حب السنة حب الآخرة([52])
9- محبته لمن أحب النبي صلى الله عليه وسلم ومن هو بسببه من آل بيتة وحمايته من المهاجرين والأنصار، وعداوة من عاداهم، وبغض من يبغضهم وسبهم، فمن أحب سيئاً أحب من يحب([53]) فعن زيد بن رقمه رضي الله عنة قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً بما يدعي ((ضمًا)) بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر ثم قال: "أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به،فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال : وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي،أذكركم الله في أهل بيتي"([54]).
ومن آل بيته أزواجه صلى الله عليه وسلم قال البهيقي: ويدخل في جمله حب النبي صلى الله عليه وسلم حب أصحابه؛ لأن الله عز وجل أثنى عليهم ومدحهم فقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ...}(الفتح29) وغيرها من الآيات([55]) وصح في السنة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنة قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغضهم([56])(4/420)
10- بغض من أبغض الله ورسوله، ومعاداة من عاداه، ومجانبة من خالف سنته وابتدع في دينة واستثقاله كل أمر يخالف شريعته([57]) قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }المجادلة22
وهؤلاء أصحابه صلى الله عليه وسلم قد قتلوا أحباءهم وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاته، وقال له عبد الله بن عبد الله بن أبي: لو شئت لأتيتك برأسه –يعني أباه-"([58]).
11- شفقته على الأمة بأن يحبهم ويتلطف بهم ويرقق قلبه عليهم ونصحه لهم في أمرهم ونهيهم وموعظتهم وبيان ما يصلحهم من أمورهم وسعيه في مصالحهم الدينية والدنيوية بشفاعته ومعاونته وقضاء حوائجهم ورفع المضار عنهم بدفع المظالم وإزالة مضايقتهم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا"([59]).
ثواب محبته- صلى الله عليه وسلم -:
لقد صحت أحاديث تبين عظم ثواب محبة النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: وما أعددت للساعة؟ قال: حب الله ورسوله، قال: فإنك مع من أحببت.
قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحًا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم فإنك مع من أحببت.. قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم.([60])
ففي هذا الحديث بشارة عظيمة للسائل ولكل من أحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وليس المراد بالمعية هنا المساواة في المنزلة وعلو الرتبة وإنما المراد أنه يدخل الجنة في زمرة المؤمنين وإن كانت مراتبهم متفاوته([61]).
ونحو الحديث السابق جاء عن عبد الله بن مسعود: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب"([62]).
ومعلوم أن المحبة القلبية لابد أن تنعكس على الجوارح ويكون لها الأثر الواقعي الذي يدل على تلك الصفة الإيمانية، فدعوى المحبة القلبية دون برهان واقعي يجسد معانيها ويدل عليها تبقى دعوى، إذ إن المحبة تعني الاتباع والمتابعة له صلى الله عليه وسلم والاجتهاد في الطاعة لكي يصل إلى مرتبة عالية في الجنة والتي يتيسر لها من خلالها معيته صلى الله عليه وسلم ومما يدل على هذا حديث ربيعة بن كعب الأسلمي قال:كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: سل فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك ؟ قلت هو ذاك قال فأعني على نفسك بكثرة السجود([63])
ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: " {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}(النساء69).
ومما يدخل في ثواب محبته صلى الله عليه وسلم ثواب كل طاعة من الطاعات ذلك لأنها في الحقيقة ثمرة للمحبة لأن المحبة أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين([64]).
المبحث الثاني: وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم
إن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وإجلاله شعبة عظيمة من شعب الإيمان وهذه الشعبة غير شعبة المحبة بل إن منزلتها ورتبتها فوق منزلة ورتبة المحبة ذلك لأنه ليس كل محب معظمًا ألا ترى أن الوالد يحب ولده ولكن حبه إياه يدعوه إلى تكريمه ولا يدعوه إلى تعظيمه والولد يحب والده فيجمع له بين التكريم والتعظيم فعلمنا بذلك أن التعظيم رتبته فوق رتبة المحبة([65]).
وفي تعظيمه صلى الله عليه وسلم يقول سبحانه: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه) أي تعظموه وتفخموه، وقال قتادة: تنصروه وتمنعوا منه([66])، فأوجب سبحانه تعزيره وتوقيره وإلزام إكرامه وتعظيمه([67])، وأخبر سبحانه أن الفلاح إنما يكون لمن جمع بين الإيمان به وتعزيره ولا خلاف أن التعزير هاهنا التعظيم([68]) فقال تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف157) وفي القرآن ما يبين بعضًا من مظاهر تعظيمه منها:(4/421)
1- قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً}(النور63) أي لا تغلظوا له بالخطاب أو رفع الصوت ولا تنادوه باسمه نداء بعضكم لبعض أو تجعلوا دعوته إياكم كالدعاء من بعضكم لبعض في التساهل في بعض الأحوال عن الإجابة أو الرجوع بغير استئذان ولكن عظموه ووقروه ونادوه بأشرف ما يحب أن ينادى به نحو يا رسول الله، يا نبي الله([69])، وقال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى قولوا يا رسول الله في رفق ولين ولا تقولوا يا محمد بتجهم وقال قتادة: أمرهم أن يشرفوه ويفخموه([70]).
2- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ () يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ()إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ()وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{(الحجرات5:1) لقد بين الله سبحانه في هذه الآيات جملة آداب مع النبي صلى الله عليه وسلم وهي:
أ - حرمة المسارعة ومسابقته صلى الله عليه وسلم قولًا أو فعلاً.
ب -حرمة رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم.
ت -حرمة الغلظة له بالخطاب ومناداته باسمه.
ث -ذم الله سبحانه الذين ينادونه من وراء حجرات نسائه إذ هو منافي للأدب معه صلى الله عليه وسلم وبين لهم أن يصبروا حتى يخرج إليهم.
3- قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ}(التوبة120) قال الحليمي: "فأعلمهم أن نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أكرم وأشرف وأزكى وأجمل من أنفسهم، فلا يسعهم من ذلك أن يصرفوا أنفسهم عما لا يصرف نفسه عنه فيتخلفوا عنه إذا خرج لجهاد أعداء الله معتذرين من شدة حر أو طول طريق أو عوز ماء أو قلة زاد بل يلزمهم متابعته ومشايعته على أي حال رضيها لنفسه وفي هذا أعظم البيان لمن عقل وأبين الدلالة على وجوب تعظيمه وإجلاله وتوقيره"([71]).
4- قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً()وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً}(الأحزاب57،58) فالله تعالى من تعظيمه لنبيه حفظ له كرامته وصان له حقه ففرق بين أذاه وأذى المؤمنين فأوجب على من آذى النبي صلى الله عليه وسلم اللعن والطرد من رحمته وهذا حكم على من آذاه بالكفر وفي الآخرة له العذاب المهين ومصيره إلى جهنم وبئس المصير بينما حكم على من آذى المؤمنين بالبهتان والإثم والفرق بين الحكمين ناتج عن الفرق بين حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق غيره([72]).
هذا وتذكر لنا كتب الآثار نماذج رائعة لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم من خير الناس صحابة رسول الله منها ما جاء عن عمرو بن العاص السابق الذكر والذي فيه "وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت".
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتوضأ إلا ابتدر الصحابة وضوءه وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقا ولا يتنخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يمدون إليه النظر تعظيما له([73]).
تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم محله القلب واللسان والجوارح:
أما تعظيم القلب فهو ما يتبع اعتقاد كونه عبدًا رسولاً من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين والتي من لوازمها الإكثار من ذكره وتعظيم القلب له صلى الله عليه وسلم واستشعاره لهيبته وجلالة قدره وعظيم شأنه.(4/422)
وأما تعظيم اللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه وأثنى على نفسه من غير غلو ولا تقصير ومن أعظم ذلك الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم كما أمر الله تعالى حين قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب56) ذلك أن معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه فمعنى قولنا: اللهم صل على محمد عظم محمدا والمراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته وإبداء فضيلته بالمقام المحمود وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى: (صلوا عليه) ادعوا ربكم بالصلاة عليه"([74]).
ومن تعظيم اللسان ألا نذكره باسمه فقط بل لابد من زيادة ذكر النبوة والرسالة والصلاة والسلام عليه لقوله تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا).
ومن تعظيم اللسان تعداد فضائله وخصائصه ومعجزاته ودلائل نبوته وتعريف الناس بسنته وتعليمهم إياها وتذكيرهم بمكانته ومنزلته وحقوقه وذكر صفاته وأخلاقه وخلاله وما كان من أمر دعوته وسيرته وغزواته والتمدح بذلك شعرًا ونثرًا بشرط أن يكون ذلك في حدود ما أجازه الشرع بعيدا عن مظاهر البدعة والغلو والإطراء المحظور.
وأما تعظيم الجوارح له صلى الله عليه وسلم فهو العمل بشريعته والتأسي بسنته ظاهرًا وباطنًا والتمسك بها والحرص عليها وتحكيم ما جاء به في الأمور كلها والسعي في إظهار دينه ونصر ما جاء به والاجتناب عما نهى عنه([75]).
المبحث الثالث: النهي عن الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم
الغلو في اللغة: هو مجاوزة الحد.
وشرعًا: مجاوزة حدود ما شرع الله سواء كان ذلك التجاوز في جانب الاعتقاد أو القول أو العمل([76]).
وقد نهى عز وجل عن الغلو فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ}(النساء171) وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ}(المائدة77).
قال ابن القيم: " ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق وإعطاؤه فوق منزلته حتى جعل فيه حظ من الإلهية وشبهوه بالله سبحانه وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله سبحانه وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله"([77]).
وعن بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"([78]).
وهذا التحذير من الغلو عام في جميع أنواع الغلو فيشمل الاعتقادات والأعمال كما قال شيخ الإسلام، ولهذا كانت الوسطية مما تميز به هذا الدين عن غيره من الأديان التي دخلها التحريف فسار بعضها مشرقا وبعضه الآخر مغربًا، ونرى بجلاء هذا التوسط والاعتدال في جوانب شتى منها عقيدة الإيمان بالأنبياء، فاليهود كذبوا الرسل وعذبوهم وقتلوهم، والنصارى غالوا فيهم لدرجة رفع بعضهم إلى مرتبة الإلهية، ولهذا حذر الله من هذا الغلو ونسبه إلى أهل الكتاب كما في الآيات السابقة.
ولخطر الغلو في الأنبياء وخاصة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد امتلأ القرآن ببيان بشريته صلى الله عليه وسلم وعبوديته لخالقه سبحانه، فقال تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي)(الكهف110) وذكره سبحانه بصفة العبودية في عدة آيات فقال: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)(الإسراء1) وقال: (فأوحى إلى عبده ما أوحى)(النجم10).
وبين سبحانه أن الرسل لا يملكون شيئا من خصائص الألوهية والربوبية فقال سبحانه: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ}(الأنعام50) وقال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }(الأعراف188) وقال سبحانه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}(آل عمران128) وبين سبحانه كفر من يرفع النبيين فوق مقامهم قال تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}(آل عمران80) أي كما اتخذت الصابئة الملائكة واليهود عزيراً والنصارى عيسى.(4/423)
ووصف الأنبياء بما سبق لا يعني البتة الانتقاص من قدرهم أو مكانته بل لهم المقام الرفيع والمكانة السامية كيف لا وهم مبلغوا دين الله إلى البشر والدعاة الأول إلى الإيمان، يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً}(النساء150) فحكم سبحانه بكفر من يرفع النبيين فوق قدرهم بحيث يضفي عليهم صفات اختص بها الله سبحانه كما حكم بكفر من كذب بنبي واحد إذ الكفر بواحد "كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض"([79]).
وفي النهي عن الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله"([80]).
وصح عنه أيضا قوله: "لا تتخذوا قبري عيدًا"([81]).
وقال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله عدلا –أي ندا- بل ما شاء الله وحده "([82]).
نماذج من الغلو:
رغم النهي الوارد في القرآن والسنة عن الغلو فيه بما يجعله ندا لله أو إضفاء صفات أو بعض صفات الألوهية عليه صلى الله عليه وسلم رغم ذلك فقد وجد من لم يفقه ذلك كله، ورفضه قولًا وعملًا، ولم يكتف بهذا بل جادل وناظر وألف حاضر في سبيل بث هذه الروح والرؤية المنحرفة التي لا تمت إلى شريعة الإسلام الحقة النقية بأدنى صلة، وقد تنوعت أساليب الغلو وأخذت أشكالا عقدية عدة ورغم أنها بدأت بذرات وأفكار متناثرة هنا وهناك إلا أن فترة الجمود والتقليد والتي خيم ظلامها على الأمة في الأعصر المتأخرة كانت كفيلة بأن ترعى تلك البذرة بالري كي تنمو وتزداد مع مرور الأيام، فكان لا يأتي عصر إلا وقد زادت البدعة بدعًا والظلام حلوكًا، وكان كل من يريد أن يجعل لنفسه موطئ قدم في هذا الفكر البدعي أضاف بدعًا، لتغدو هذه البدع ككرة الثلج المتدحرجة التي تبدأ أول الجبل صغيرة خفيفة لتصل نهايته ضخمة كبيرة، وإنك لتقرأ لبعض هؤلاء الغلاة فتجد العجب لدرجة أنك ربما لا تستطيع المواصلة لما تجد من ضلالات هي أقرب إلى الحماقات ومضادة الشرع، وليصبح هذا الغلو مجالا للمزايدات فكل من أراد تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب ظنه زاد على غيره وكل من أراد أن يصل إلى مرتبة الولاية والمعرفة اللدنية سحب من الصفات الإلهية وألقاها على رسول الله، وفي النهاية لا يصبح لهذا الغلو حدود يقف عنده، وبموجبه يزال الحاجز بين الخالق والمخلوق، أو أن يصبح الله عز وجل خالقا بلا خلق فليس له الأمر والنهي وكل متعلقات الألوهية والربوبية كما سيظهر هذا مما يأتي.
لغد غدا الغلو فلسفة ليس فقط في جانبه الكلامي بل والصوفي كذلك، ولم يسلم من هذه الفلسفة خير ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم ، وبدون حياء من البعض يتبنى مناهج فلسفية مغايرة تمام المغايرة لشرعه صلى الله عليه وسلم ولما جاء به لينزلها بعد ذلك عليه صلى الله عليه وسلم ومن المعلوم أن هناك تيارات عقدية اغترفت من العلوم والمعتقدات الفلسفية الآسنة والتي تنوعت بين إغريقية وفارسية وهندية وتمثلت في مدارس شتى مشائية وغنوصية وإشراقية وأفلوطنية محدثة وصاغتها صياغة توحي بإسلاميتها حيث استبدلت الأسماء الأجنبية بأخرى إسلامية، وسمت بعض تلك الجهالات بأسماء عربية لتخفي الأسماء الحقيقية وليبدو لمن لا يعلم أن ما قيل نابع من القرآن والسنة والحقيقة أن الأمر ليس كذلك.
وهنا أسوق هنا بعض الأمثلة على الغلو الممقوت والذي يتعارض مع الشرع الحنيف مهما حاول قائلوه أن يأسلموه فالماء والنار لا يجتمعان:
1- الحقيقة المحمدية:
يقول النبهاني وهو من المنظرين لهذا الفكر الغريب عن الأمة مبينا معنى هذا المصطلح الغريب عن عقيدة الأمة والذي ظهر متأخرًا تأثرًا بالفكر الوافد يقول: "اعلم أنه لما تعلقت إرادة الحق تعالى بإيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من أنواره ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها...ثم ابجست منه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح فهو الجنس العالي على جميع الأجناس والأب الأكبر لجميع الموجودات"([83]).(4/424)
معنى هذا أن الله سبحانه خلق محمدًا صلى الله عليه وسلم من نوره، وأنه خلقه قبل آدم بل قبل خلق العوالم جميعًا، بل إن الأشياء جميعها خلقت من نوره صلى الله عليه وسلم وهذه دعاوى باطلة لا دليل عليها لا من قرآن ولا من سنة وما احتج به قائلوا هذه الكلام من أحاديث كلها موضوعة كحديث "كنت نبيًا وآدم ولا آدم ولا ماء ولا طين" وحديث "إنه كان نورًا حول العرش فقال: يا جبريل أنا كنت ذلك النور" وغيرها من الأحاديث الموضوعة والمنكرة سندًا ومتنًا، ومن المعلوم أن الاستدلال لا يكون إلا بالأحاديث الصحيحة والتي بذل حفاظ الإسلام جهودًا جبارة في بيانها وتنقيتها، ولكن هؤلاء لجئوا إلا هذه الموضوعات لأنهم لم يجدوا دليلاً يؤيد رأيهم من القرآن أو صحيح السنة، كما أن منهج هؤلاء الاستدلال بالمتواتر فيما يتعلق بالعقديات وقد أقام أسلافهم الدنيا وأقعدوها في قبول صحيح أحاديث الآحاد في هذا المجال وتفريقهم بين الأصول والفروع العقدية في هذا المجال غير مقبول، وإذا بهم يدعمون بدعًا مخالفة للنصوص الثابتة مثل قوله سبحانه: (سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) وقوله سبحانه: (قل ما كنت بدعا من الرسل).
2- زعم بعضهم أن الدنيا خلقت من أجل النبي صلى الله عليه وسلم ويقول أحد هؤلاء تعبيرًا عن هذه العقيدة:
لولاه ما خلقت شمس ولا قمر... ولا نجوم ولا لوح ولا قلم([84])
وعندما يطالب هؤلاء بالدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة يحتجون بحديث موضوع وهو: "لولاك ما خلقت الأفلاك" فهل يصح هذا دليلا في دين الله، كيف يستدل بحديث مكذوب من يريد رضا الله عز وجل دنيا وأخرى، كيف يستحق هذا القائل محبة الله ومغفرته وجنته وهو يكذب عليه ويعارض قوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) لقد بين الله سبحانه في هذه الآية أنه ما خلق الجن والإنس جميعًا بما فيهم رسوله صلى الله عليه وسلم إلا لعبادته وحده ثم يأتي هؤلاء ويحرفون مسار العقيدة الإسلامية والتي هي توحيده سبحانه ليصبح سبب خلق المخلوقات جميعا إنما هو لكي يرسل رسول الله إليهم!!! وهم انتحوا هذا الضلال ليضيعوا معنى التوحيد وليعبدوا الناس لأهوائهم وشهواتهم وقبورهم وليدخلوا من هذه البدعة الكثير والكثير من البدع، ولست أدري كيف مررت هذه العقيدة على بعض المسلمين وكأنهم لم يقرؤوا الآية السابقة ربما كان للجهل المطبق دوره الفعال.
3- وصف بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم واستغاثتهم به بما لا يجوز إلا لله سبحانه والأمثلة على هذا كثيرة في كلامهم منها قول أحدهم:
ألا بأبي من كان ملكا وسيدا... وآدم بين الماء والطين واقف
إذا رام أمرا لا يكون خلافه... وليس لذاك الأمر في الكون صارف([85])
وقال آخر:
يا ملاذي يا منجدي يا منائي... يا معاذي يا مقصدي يا رجائي
يا نصير يا عمدتي يا مجيري... يا خفيري يا عدتي يا شفائي
أدرك أدرك أغث أغث يا شفيعي.. عند ربي واعطف وجد بالرضاء
أنت غوثي وملجئي وغياثي... وجلا كربتي وأنت غنائي([86])
وقال آخر:
يا رسول الله إني ضعيف... فاشفني أنت مقعد للشفاء([87])
وقال النبهاني:
سيدي أبا البتول أغثني... أنت أدرى بما حواه الضمير([88])!!!
ويقول صاحب البردة:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به... سواك عند حلول الحادث العمم
ويقول آخر: "إن مفاتيح الكون كلها في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مالك الكل وإنه النائب الأكبر للقادر وهو الذي يملك كلمة كن"([89])
وقال أيضًا : "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبرئ من السقم والآلام والكاشف عن الأمة كل خطب، وهو المحيي وهو الدافع للمعضلات والنافع للخلق والرافع للرتب وهو الحافظ والناصر وهو دافع البلاء وهو الذي برد على الخليل النار وهو الذي يهب ويعطي وحكمه نافذ وأمره جار في الكونين"([90]) فماذا أبقى لله؟!!!
إن المقالات الشركية التي تنحو هذا المنحى كثيرة([91]) وهي من مخلفات عصور الانحطاط، مع أن القرآن قد رد هذه المزاعم جميعها وقد أوردنا سابقًا بعضًا من البيان القرآني والنبوي لعقيدة الإسلام والداعية إلى توحيده سبحانه، ونزيد هنا آيات لها تعلق بما قال هؤلاء فنقول:
لقد بين الله سبحانه في القرآن أنه :
هو الذي ينجي من كل كرب فقال: {قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ }الأنعام64
وأن النعم كلها منه سبحانه فقال: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}النحل53
وأنه هو كاشف الضر فقال: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ}الأنعام17(4/425)
وأن كل ما سوى الله لا يملك مثقال ذرة فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ}سبأ22) وأمر نبيه أن يبين أن الإضرار والإرشاد بيد الله وحده {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً () قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً}(الجن21،22) والمعنى كما يقول ابن كثير: " أي إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي وعبد من عباد الله ليس إلي من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم بل المرجع في ذلك كله إلى الله عز وجل ثم أخبر عن نفسه أيضا أنه لا يجيره من الله أحد أي لو عصيته فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي من عذابه"([92]).
ويلاحظ بجلاء من الآيات مقدار التشنيع والتقريع والتوبيخ لمن يدعو مع الله غيره ويرجوه، ولمن دعا الله في الضراء والكرب فلما نجاه مما هو فيه إذا به يشرك مع الله غيره، فكيف بالله عليك من يدعو غير الله في كلتا الحالتين الضراء والسراء أليس أتعس حالًا.
كما بين سبحانه بأنه القادر وحده والمالك وحده والمجيب دعوة المطر وكاشف السوء وأن من يضفي هذه الصفات على غيره سبحانه يكون مشركا ويكون قد اتخذ إلها من دون الله يقول سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}(النمل62)
وصدق ربي فقليلا ما يتذكر هؤلاء أن الله هو الخالق البارئ الذي بيده مقاليد السموات والأرض وأن الأمر كله له (قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)(آل عمران 154) {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(هود123).
إن من يغلو بالباطل في حق النبي صلى الله عليه وسلم لهو ممن يعارض ويضاد شرعه، فلا يحسبن أنه بعمله هذا يحسن صنعا، بل هو جرأة عظيمة في القول على الله بالباطل وزيغ عن الطريق، وهو لا يقل فداحة عن أولئك الذين يتنقصون من قدره صلى الله عليه وسلم ممن كان بعضهم أبناء لهذا الفكر أو قريبين منه أو ممن ـاثروا بالثقافات الوافدة ألا فاليعلموا جميعًا أنهم قد سلكوا الطريق الخطأ وأنهم سيدركون الحق عما قريب ولكن أخشى أن يكون بعد فوات الأوان.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
00000000000000000000
[1])) البخاري 6/2669، ومسلم 4/2054
[2])) انظر لسان العرب.
[3])) الفتح 10/463
[4])) انظر مدارج السالكين 3/9
[5])) انظر تفسير القرطبي 8/95
[6])) الشفاء للقاضي عياض
[7])) البخاري 11/523 مع الفتح
[8])) البخاري 1/58 مع الفتح
[9])) البخاري 1/58 مع الفتح ومسلم 1/48
[10])) البخاري 1/72 مع الفتح ومسلم 8/42
[11])) مسلم 8/145
[12])) مسلم 8/145
[13])) الشفاء
[14])) انظر هذه الأقسام في حقوق النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد التميمي
[15])) استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس 35،34
[16])) فتح الباري 1/61
[17])) جلاء الأفهام 297
[18])) انظر الصارم المسلول 72
[19])) انظر حقوق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإجلال والإخلال 72
[20])) الشفاء 2/24
[21])) المواهب اللدنية مع الشرح 9/117
[22])) الترمذي5/46
[23])) المواهب اللدنية 9/120 مع شرح الزرقاني
[24])) المصدر السابق
[25])) المصدر السابق 9/121
[26])) المصدر السابق 9/124
[27])) الشفاء 2/24
[28])) المصدر السابق 2/25
[29])) المواهب 9/132
[30])) جلاء الأفهام 248
[31])) انظر نسيم الرياض للخفاجي 3/361
[32])) أخرجه الترمذي 5/551 وصححه، كما صححه ابن حبان 3/189 والحاكم 1/549 ووافقه الذهبي
[33])) الشفاء
[34])) حقوق النبي صلى الله عليه وسلم 1/328
[35])) المواهب 9/129
[36])) الشفاء 2/20
[37])) انظر نسيم الرياض 3/361
[38])) مسلم 8/145
[39])) مسلم 7/96
[40])) أحمد 3/105 وانظر الشفاء 2/25
[41])) انظر الشفاء
[42])) مسلم 2/168
[43])) نسيم الرياض 3/368
[44])) المصدر السابق
[45])) شرح الشفاء للقاري بهامش نسيم الرياض 3/368
[46])) نسيم الرياض 3/369
[47])) أخرجه البخاري 4/1919
[48])) أخرجه مسلم 4/1873
[49])) المواهب 9/143،142
[50])) انظر المصدر السابق 9/146، والشفاء 2/28، وشرحه للقاري والخفاجي 3/369
[51])) المواهب 9/147،146
[52])) الشفاء 2/28
[53])) المرجع السابق 2/26
[54])) مسلم 4/1873
[55])) انظر شعب الإيمان 1/287
[56])) البخاري 1/14، ومسلم 1/85
[57])) الشفاء 2/27
[58])) المرجع السابق 2/28،27
[59])) انظر الشفاء وشرحيه 3/369
[60])) سبق تخريجه
[61])) انظر عمدة القاري 22/196 ونسيم الرياض 3/348
[62])) البخاري 5/2283 ومسلم 4/2034
[63])) مسلم 1/353(4/426)
[64])) انظر حقوق النبي صلى الله عليه وسلم 1/382
[65])) انظر المنهاج في شعب الإيمان للحليمي 2/124 نقلا عن المرجع السابق 2/423
[66])) فتح القدير للشوكاني 5/56
[67])) الشفاء 2/34
[68])) انظر فتح القدير 5/56
[69])) المرجع السابق
[70])) انظر المنهاج في شعب الإيمان 2/125 نقلا عن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم 2/424
[71])) المنهاج في شعب الإيمان 2/128 نقلا عن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته 2/436
[72])) حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته2/439
[73])) البخاري 2/974
[74])) انظر المنهاج للحليمي 1/134
[75])) انظر حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته 2/466 وما بعدها
[76])) المصدر السابق 2/643
([77]) إغاثة اللهفان2/226
([78]) سنن النسائي 5/268، وصححه ابن حبان9/183
([79]) تفسير ابن كثير 1/342
([80])البخاري 3/1271
([81]) أبو داود 1/622 وصححه الألباني
([82]) المسند 1/214وصححه الأرنؤوط في تحقيقه للمسند.
([83]) الأنوار المحمدية 9
([84]) تنبيه الحذاق 27 نقلا عن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم 2/714
([85]) المواهب 1/3
([86]) شواهد الحق للنبهاني 355 نقلا عن الشرك في القديم والحديث لمحمد زكريا 2/893
([87]) المصدر السابق 352
([88]) المرجع السابق 362
([89]) الاستمداد على أجيال الارتداد للبريلوي 32
([90]) المرجع السابق 352
([91]) انظر الكثير من هذه الشركيات في كتاب الشرك بين القديم والحديث 2/893 وما بعدها
[92])) تفسير ابن كثير4/555
38. ... حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم
فهد عبد الله
الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وحمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.
فلا شك أن للنبي صلى الله عليه وسلم حقوقًا على أمته ومن هذه الحقوق الصلاة والسلام عليه, وكلامنا هنا سيدور حول هذا الموضوع مبينًا حكم الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وصيغها ومواضعها وجمل مما له علاقة بما نحن فيه.
أولًا: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
قال علماء اللغة: الصلاة وسط الظهر لكل ذي أربع وللناس وكل أنثى إذا ولدت انفرج صلاها"(1).
والصلاة في اللغة الدعاء.
قال ابن القيم: "وأصل هذه اللفظة في اللغة يرجع إلى معنيين:
أحدهما: الدعاء والتبريك.
والثاني: العبادة.
فمن الأول قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)(التوبة 103) وقوله تعالى في حق المنافقين (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره)(التوبة 84).
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى الطعام فليجب فإن كان صائمًا فليصل"(2) فسر بهما قيل: فليدع لهم بالبركة، وقيل: يصلي عندهم بدل أكله.
وقيل: إن الصلاة في اللغة معناها الدعاء،
والدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة، والعابد داع كما أن السائل داع، وبهما فسر قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)(غافر60) قيل: أطيعوني أثبكم، وقيل سلوني أعطكم، وفسر بهما قوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)(البقرة186).
والصواب أن الدعاء يعم النوعين، وهذا لفظ متواطئ لا اشتراك فيه، فمن استعماله في دعاء العبادة قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض)(سبأ22) وقوله تعالى: (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون)(النحل20) وقوله تعالى: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) (الفرقان77) .
والصحيح من القولين لولا أنكم تدعونه وتعبدونه أي: أي شيء يعبأ بكم لولا عبادتكم إياه، فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل.
وقال تعالى: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفًا وطمعًا)(الأعراف 55،56) وقال تعالى إخباراً عن أنبيائه ورسله: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً)(الأنبياء90)وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى ودعوى الاختلاف في مسمى الدعاء وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية هل هو منقول عن موضعه في اللغة فيكون حقيقة شرعية أو مجازًا شرعيًا، فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة وهو الدعاء، والدعاء دعاء عبادة ودعاء مسألة والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة، فهو في صلاة حقيقية لا مجازاً ولا منقولة، لكن خص اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة والعرف ببعض مسماها كالدابة والرأس ونحوهما، فهذا غايته تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعه، ولهذا لا يوجب نقلاً ولا خروجاً عن موضوعه الأصلي والله أعلم"(3).
وجاء لفظ الصلاة في الاصطلاح الشرعي على عدة معاني بحسب ما تقترن به وهي كما يلي:-
1- صلاة الله على رسوله رحمته له وحسن ثنائه عليه، ومنه قوله عز وجل (إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).(4/427)
2- الصلاة من الملائكة دعاء واستغفار.
3- ومن الله رحمة وبه سميت الصلاة، لما فيها من الدعاء والاستغفار وفي الحديث: "التحيات والصلوات" والصلوات معناها الترحم وقوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) أي يترحمون
4- الصلاة بمعنى الدعاء، وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطراً فليطعم وإن كان صائماً فليصل" فقوله "فليصل" يعني فليدع لأرباب الطعام بالبركة والخير والصائم إذا أكل عنده الطعام صلت عليه الملائكة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي صلاة صلت عليه الملائكة عشراً"(4) وكل داع فهو مصل.
5- والصلاة بمعنى الاستغفار كحديث سودة أنها قالت: يا رسول الله إذا متنا صلى لنا عثمان بن مظعون حتى تأتينا؟
فقال لها: "إن الموت أشد مما تقدرين"(5).
6- وأما قوله تعالى: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) فمعنى الصلوات ههنا الثناء عليهم من الله تعالى.
وقال بعضهم:
1- الصلاة من الله رحمة.
2- ومن المخلوقين الملائكة والإنس والجن القيام والركوع والسجود والدعاء والتسبيح
3- و الصلاة من الطير والهوام التسبيح(6).
وقال ابن القيم: وأما صلاة الله سبحانه على عبده فنوعان: عامة وخاصة.
أما العامة فهي صلاته على عباده المؤمنين قال تعالى: (هو الذي يصلي عليكم وملائكته)(الأحزاب43) ومنه دعاء النبي بالصلاة على آحاد المؤمنين.
النوع الثاني: صلاته الخاصة على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وخيرهم محمد فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال:
أحدها: أنها رحمته فعن الضحاك قال: صلاة الله رحمته، وصلاة الملائكة الدعاء.
وقال بض علماء اللغة: أصل الصلاة الرحمة، فهي من الله رحمة ومن الملائكة رقة واستدعاء للرحمة من الله، وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين.
والقول الثاني: أن صلاة الله مغفرته فعن الضحاك في قوله تعالى: (هو الذي يصلي عليكم) قال: صلاة الله مغفرته، وصلاة الملائكة الدعاء.
وهذا القول من جنس الذي قبله وهما ضعيفان؛ لأن الله سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته فقال تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)(البقرة157) فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى ذلك تغايرهم(7)..
القول الثالث: أن معنى صلاة الله تعالى على نبيه ثناؤه وتعظيمه وإظهار شرفه وفضله وحرمته، قال أبو العالية: "صلاة الله عليه ثناؤه عليه عند الملائكة"(8).
قال ابن القيم: "الصلاة المأمور بها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته، وهي ثناء عليه وإظهار لفضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه، فهي تتضمن الخبر والطلب، وسمي هذا السؤال والدعاء منا نحن صلاة عليه لوجهين:
أحدهما: أنه يتضمن ثناء المصلي عليه، والإشادة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبة لذلك من الله تعالى، فقد تضمنت الخبر والطلب.
والوجه الثاني: أن ذلك سمي منا صلاة لسؤالنا من الله أن يصلي عليه فصلاة الله عليه ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به"(9).
صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:-
وردت الصلاة على النبي بصيغ عدة وهي كما يلي:-
1- عن أبي مسعود(10) قال: أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول الله ونحن عنده فقال: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟
قال: فصمت رسول الله حتى أحببنا أن الرجل لم يسأله.
فقال: "إذا أنتم صليتم علي فقولوا: "اللهم صل على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم"(11).
2- عن ابن أبي ليلى(12)قال لقيني كعب بن عجرة(13) فقال: ألا أهدي لك هدية: خرج علينا رسول الله فقلنا: قد عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك.
قال: "قولوا اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" (14).
3- عن أبي حميد الساعدي(15) أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال رسول الله: "قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" (16).
4- أبي سعيد الخدري(17) رضي الله عنه قال: قلنا: يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك؟
قال: "قولوا: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على آل إبراهيم(18).
5- عن طلحة بن عبيد الله(19) قال: قلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟
قال: "قل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" قال ابن القيم إسناده صحيح(20).
حكم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم:-(4/428)
ورد الأمر بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيا الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا)(الأحزاب56).
قال سهل بن عبد الله(21): الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أفضل العبادات؛ لأن الله تعالى تولاها هو وملائكته ثم أمر بها المؤمنين وسائر العبادات ليس كذلك.
قال ابن كثير: "والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه؛ ليجمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا"(22).
قال الحليمي(23): "وقد أمر الله تعالى في كتابه بالصلاة والتسليم عليه جملة فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا) فأمر الله عباده أن يصلوا عليه ويسلموا، وقدم قبل أمرهم بذلك إخبارهم بأن ملائكته يصلون عليه، لينبئهم بذلك على ما في الصلاة عليه من الفضل؛ إذ كانت الملائكة مع انفكاكهم من شريعته تتقرب إلى الله بالصلاة والتسليم عليه ليعلموا أنهم بالصلاة والتسليم عليه أولى وأحق"(24).
وقد اختلف الفقهاء في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على أقوال أجملها فيما يلي:-
1- مستحبة.
2- واجبة بغير حصر، لكن أقل ما يحصل به الإجزاء مرة، وادعى بعض العلماء الإجماع عليه.
3- تجب مرة في العمر في صلاة أو في غيرها وهي مثل كلمة التوحيد.
4- تجب في القعود آخر الصلاة بين قول التشهد وسلام التحليل.
5- يجب في التشهد.
6- تجب في الصلاة من غير تعيين المحل.
7- يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد.
8- يجب كلما سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من غيره، أو ذكره هو بنفسه
9- في كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره مرارا.
10- في كل دعاء(25).
والراجح أنها تجب مرة واحدة في العمر، وكذلك في المواطن التي يجب الصلاة والسلام عليه فيها.
** ومن أدلة وجوبها ما يلي:
قال تعالى: [إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً] ( الأحزاب 56 ).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص (26) رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً" (27)
وعن ابن مسعود t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة "(28)
وعن فضالة بنى عبيد(29) قال: "سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله، ولم يصل على النبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد الله عز وجل والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي ثم ليدع بما شاء"(30)
وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصلي علي"(31).
أما ابن القيم فقد عدد المواطن التي يجب أو يستحب فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي:-
1- في الصلاة في آخر التشهد، وهو أهمها وآكدها في الصلاة في آخر التشهد، وقد أجمع المسلمون على مشروعيته واختلفوا في وجوبه فيها فقالت: طائفة ليس يواجب فيها وهو قول أبي حنيفة، وقال الشافعي بوجوبه(32).
2- في التشهد الأول وهذا قد اختلف فيه فقال الشافعي رحمه الله في الأم: "يصلى على النبي في التشهد الأول"(33) هذا هو المشهور من مذهبه وهو الجديد، لكنه يستحب وليس بواجب، وقال في القديم لا يزيد على التشهد، وبهذا قال احمد أبو حنيفة ومالك وغيرهم(34).
1- آخر القنوت استحبه الشافعي ومن وافقه(35).
2- الصلاة عليه في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية ولا خلاف في مشروعيتها فيها، واختلف في توقف صحة الصلاة عليها فقال الشافعي وأحمد في المشهور من مذهبهما إنها واجبة في الصلاة لا تصح إلا بها، وقال مالك وأبو حنيفة تستحب وليست بواجبة وهو وجه لأصحاب الشافعي(36).
3- الصلاة عليه في الخطبة، وقد اختلف في اشتراطها لصحة الخطبة، فقال الشافعي وأحمد في المشهور من مذهبهما لا تصح الخطبة إلا بالصلاة عليه، وقال أبو حنيفة ومالك تصح بدونها، وهو وجه في مذهب أحمد(37)
4- الصلاة عليه بعد إجابة المؤذن وعند الإقامة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة"(38).
5- عند الدعاء لحديث فضالة عن عبيد وقول النبي فيه: "إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم يدعو بما شاء"(39).(4/429)
6- عند دخول المسجد وعند الخروج منه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم"(40).
7- عند اجتماع القوم قبل تفرقهم، قال صلى الله عليه وسلم : "ما جلس قوم مجلسًا، ثم تفرقوا ولم يذكروا الله، ولم يصلوا على النبي إلا كان عليهم من الله ترة إن شاء عذبهم وان شاء غفر لهم"(41).
8- الصلاة عليه عند ذكره فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن البخيل من ذكرت عنده ولم يصل علي"(42)(43).
ومواطن الصلاة فيها على النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة ذكرها أهل العلم في كتبهم وسأجملها اختصاراً فيما يلي:
* على الصفا والمروة.
* عند الاجتماع في المجالس.
* عند الفراغ من التلبية.
* عند استلام الحجر الأسود في الطواف.
* عند إلقاء الدروس والمحاضرات والندوات.
* عقب ختم القرآن.
* عند القيام من المجلس.
* عند المرور على المساجد ورؤيتها.
* عند الهم والغم والشدائد.
* عند طلب المغفرة والرحمة من الله عز وجل.
* في أول النهار وآخره.
* عقب الذنب أو المعصية إذا أراد المذنب أو العاصي أن يكفر الله عنه.
* عند خطبة الرجل المرأة.
* عند دخول المنزل.
* كلما ذكر الله عز وجل.
* إذا نسي الشيء وأراد ذكره.
* عند النوم.
* عقب الصلوات.
* عند طنين الأذن.
كان هذا بعض ما ذكره أهل العلم من مواطن ذكره صلى الله عليه وسلم , وإلاّ فذكره في كل وقت وحين فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلّى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً) (44).
ثانيًا: السلام عليه صلى الله عليه وسلم:
اشتملت الآية السابقة الآمرة بالصلاة على التسليم عليه صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: (وسلموا تسليمًا).
وفي معنى السلام عليه صلى الله عليه وسلم ثلاثة أوجه:-
أحدها: السلامة من النقائص والآفات لك ومعك، أي مصاحبة وملازمة، فيكون السلام مصدراً بمعنى السلامة كاللذاذ واللذاذة، والملام والملامة، ولما في السلام من الثناء عدى بعلى لاعتبار معنى القضاء أي قضى الله تعالى عليك السلام، لأن القضاء كالدعاء لا يتعدى بعلى للنفع ولا لتضمنه معنى الولاية والاستيلاء لبعده في هذا الوجه.
ثانيها: السلام مداوم على حفظك ورعايتك، ومتول له وكفيل به ويكون السلام هنا اسم الله تعالى، ومعناه على ما اختاره بعضهم من عدة أقوال: ذو السلامة من كل آفة ونقيصة ذاتا وصفة وفعلا.
وقيل: إذا أريد بالسلام ما هو من أسمائه تعالى فالمراد لا خلوت من الخير والبركة، وسلمت من كل مكروه؛ لأن اسم الله تعالى إذا ذكر على شيء أفاده ذلك، وقيل: الكلام على هذا التقدير على حذف المضاف أي حفظ الله تعالى عليك، والمراد الدعاء بالحفظ.
وثالثها: الانقياد عليك، على أن السلام من المسالمة، وعدم المخالفة والمراد الدعاء بأن يصير الله تعالى العباد منقادين مذعنين له عليه الصلاة والسلام ولشريعته(45)
- صيغة السلام:-
وصيغة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم هو قولنا في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وحكى ابن عبد البر(46) احتمالاً آخر وهو أنه السلام الذي يعقبه التحلل، واستظهر الأول وهو كذلك (47).
- حكم السلام عليه صلى الله عليه وسلم:-
قال العلماء الأصل في السلام عليه صلى الله عليه وسلم الندب، ولكن قد يرتقي إلى درجة الوجوب في مواضع:-
1- في التشهد الأخير.
2- كلما ذكر ذهب إلى هذا بعض السلف.
3- يجب بالنذر لأنه قربة(48).
والحمد لله رب العالمين
------------------------------
(1) كتاب العين 7/153
(2) صحيح مسلم2/1054
(3) جلاء الأفهام155
(4) الأحاديث المختارة8/189، وشعب الإيمان2/211
(5) المعجم الكبير للطبراني24/34 تحقيق: حمدي السلفي،مكتبة العلوم والحكم، الموصل، الثانية، 1983م.
(6) انظر لسان العرب 14/465
(7) المرجع السابق
(8) انظر جلاء الافهام 161
(9) المرجع السابق
(10) عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري أبو مسعود البدري مشهور بكنيته، اتفقوا على أنه شهد العقبة، واختلفوا في شهوده بدرا نزل الكوفة، وكان من أصحاب علي واستخلف مرة على الكوفة مات قبل سنة أربعين، مات بعد الأربعين. الإصابة4/524
(11) صحيح البخاري3/1232 وصحيح مسلم 1/305
(12) عبد الرحمن بن أبي ليلى ، مات سنة ثلاث وثمانين في وقعة الجماجم. طبقات الحفاظ 1/26
(13) كعب بن عجرة بن أمية البلوي حليف الأنصار، قطعت يده في بعض المغازي، ثم سكن الكوفة قيل مات بالمدينة سنة إحدى وقيل ثنتين، وقيل ثلاث وخمسين وله خمس وقيل سبع وسبعون سنة. الإصابة5/599
(14) صحيح البخاري3/ 1233، وصحيح مسلم1/305
(15) عبد الرحمن بن سعد ، شهد أحدا وما بعده، توفي في آخر خلافة معاوية أو أول خلافة يزيد بن معاوية. الإصابة7/94
(16) صحيح البخاري 3/1232، وصحيح مسلم1/306(4/430)
(17) سعد بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي أبو سعيد الخدري ، وهو مكثر من الحديث، كان من أفقه أحداث الصحابة، مات سنة ثلاث وستين.الإصابة 3/78
(18) صحيح البخاري 3/1232،
(19) طلحة بن عبيد الله بن عثمان القرشي التيمي، أبو محمد أحد العشرة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وأحد الستة أصحاب ، مات في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين من الهجرة. الإصابة3/592
(20) سنن النسائي3/48،والسنن الكبرى للبيهقي1/383، والمعجم الأوسط للطبراني2/181
(21) سهل بن عبد الله ابن يونس أبو محمد التستري الصوفي له كلمات نافعة ومواعظ حسنة وليس بشيء بل الصواب موته في المحرم سنة ثلاث وثمانين ومئتين ويقال عاش ثمانين سنة أو أكثر. سير أعلام النبلاء13/330
(22) تفسير القرآن العظيم3/508
(23) هو أبو عبد الله الحسن بن الحسين بن محمد بن حليم المعروف بالحليمي منسوبا إلى جده كان شيخ الشافعية بما وراء النهر ومات سنة ست وأربعمائة، قيل في جمادى الآخر وقيل في ربيع الأول. طبقات الفقهاء221
(24) المنهاج للحليمي 2/131 نقلا عن حقوق النبي للتميمي 2/516
(25) انظر القول البديع للسبكي 22دار الكتب العلمية، بيروت،الأولى،1989م
(26)عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي السهمي، كنيته أبو محمد، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، مات بالشام سنة خمس وستين وهو يومئذ بن اثنتين وسبعين. الإصابة4/193
(27) صحيح مسلم 1/288
(28) سنن الترمذي 2/354، وصححه ابن حبان 3/192
(29)فضالة بن عبيد بن نافذ الأنصاري الأوسي أبو محمد، أسلم قديما ولم يشهد بدرا وشهد أحدا فما بعدها ، مات سنة ثلاث وخمسين. الإصابة 5/371
(30) شعب الإيمان3/143
(31) سنن الترمذي 5/551 وصححه ابن حبان 2/140
(32) انظر الأم1/130 دار المعرفة، بيروت، الثانية 1393هـ، وبداية المجتهد لابن رشد 1/94 دار الفكر، بيروت.
(33) انظر الأم1/130
(34) انظر المغني لابن قدامة 1/367 دار الفكر، بيروت، الأولى،1405هـ.
(35) انظر الأم7/248
(36) انظر المغني 2/181،
(37) انظر المرجع السابق 2/75
(38) صحيح مسلم 1/288
(39) سنن الترمذي5/517، صحيح ابن حبان5/290
(40) سنن ابن ماجه1/254، وصحيح ابن حبان5/369.
(41) سنن الترمذي5/461، وصححه ابن حبان3/133
(42) السنن الكبرى6/19 المستدرك1/734، وصحيح ابن حبان3/188
(43) انظر جلاء الأفهام361 وما بعدها.
(44) صحيح مسلم 1/288، وانظر هذه المواطن في جلاء الأفهام.
(45) انظر روح المعاني22/79، والجامع لأحكام القرآن14/235 والقول البديع 65
(46)يوسف بن عمر بن عبد البر بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الحافظ شيخ علماء الأندلس، وكبير محدثيها. الديباج المذهب 357
(47)انظر روح المعاني22/79، والجامع لأحكام القرآن14/235 والقول البديع 65
(48) القول البديع 65
39. ... برنامج عملي لمعرفة مكانة النبي في قلبك
برنامج عملي لمعرفة مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في قلبك
لا يخفى على مسلم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام ويعلم كل مسلم أن أول ركن من أركان الإسلام يقتضي الإيمان برسالته والتصديق بنبوته.
كما يعلم جميع المسلمين أنه لا يصح إيمان عبد ما لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين.
ومن أوجب واجباتنا أن نعظم نبينا عليه الصلاة والسلام ونرفع قدره وننزله المنزلة التي أنزله إياها ربه تبارك وتعالى...
وهذا البرنامج العملي إنما هو محاولة لمعرفة مكانة النبي صلى الله عليه وسلم من قلبك.. وعليك بالإجابة على الأسئلة المطروحة أمامك لتعرف مكانته صلى الله عليه وسلم في قلبك.
- هل تحب الاقتداء به في الملبس والهيئة؟
- هل تحب قراءة سيرته ومعرفة قصص بعثته؟
- إذا ترددت في أمر من الأمور فهل تبحث عن حكمه وأمره ونهيه لتعرف الحلال والحرام؟
- هل لديك استعداد لترك شيء من الأشياء التي تحبها طاعة للنبي صلى الله عليه وسلم؟
- هل تشتاق لرؤيته صلى الله عليه وسلم وتتمنى لو أنك رأيته وصحبته؟
- هل تغضب حينما تسمع أحداً يسبه أو يستهزئ بشيء من سنته؟ وتدافع عنه؟
- إذا كانت إجابتك بنعم فأنت محب للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى خير نأمل أن تزداد منه.
وإذا كانت إجابتك بلا ! فأنت على خطر ويحب عليك أن تراجع نفسك وإيمانك.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلني وإياك من حزب نبيه الكريم وأن يحشرنا في زمرته آمين.. آمين.
40. ... رسالة إلى الحبيب
د.خالد الطراولي**
هل نحن أهل لمحبته؟
من وراء اللحود، من وراء الحدود، بعيدا في الزمان والمكان، تفصلني عنك يا سيدي الكريم البحار والأخاديد، ولكن قلبي عنك ما انفصل.. أردت مناجاتك أردت مخاطبتك، مساررتك وأنت من أنت في مكانته، وأنا الفقير في أرض الله وتحت سمائه، أهنئ نفسي أم أعزيها؟ بماذا أبدأ شكواي وعن ماذا أحدثك.(4/431)
تركت يا سيدي بلاد بلقيس واحدة، فصار لعقود طوال اليمن يمنين، وكاد لبنان أن يصبح لبنانين، والسودان في الطريق إلى سودانين، حتى "بلغ الإعجاز لدينا أن الواحد منا يستطيع أن يكون من نفس فرقة ناجية، ثم لا يلبث نصفه الأيمن أن يعلن انشقاقه على نصفه الأيسر"!!.
أذلة مستضعفين!
هل تعلم يا سيدي أننا أصبحنا كثرة حتى إنك تجد آثارنا في كل ناحية من هذه الأرض، لكننا لم يُجْدِ كمّنا، فالكيف قد انحسر وغاب..، أصبحنا أذلة مستضعفين، نمشي الهوينا، نحاذي الجدران على استحياء، حتى لا نوقظ الجيران أو نستثير غضبهم وويلاتهم...
وضعنا المشانق ومحاكم التفتيش لمن خالفنا الرأي من أبناء جلدتنا، من بين أحفادك، وكثرت جرائمنا، وانتزعنا الرأفة والرحمة من قلوبنا، حتى حفرنا المقابر الجماعية لأبناء وطننا، ورششنا المواد السامة على أطفالنا وعجائزنا، ونسينا ما تركته فينا... حتى قيل فينا: "إن امتيازنا الوحيد هو أننا شعب بإمكان أي مواطن فيه أن يكفّر جميع المواطنين، ويحجز الجنة التي عرضها السماوات والأرض له وحده"!!.
عن أبي هريرة أن أعرابيًا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فصلى، قال ابن عبدة ركعتين، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد تحجرت واسعا"، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد فأسرع الناس إليه فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: " إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين صبوا عليه سجلا من ماء أو قال ذنوبا من ماء". (صححه الألباني).
وأرهبنا الناس يا سيدي... حتى ضاقوا ذرعا بنا، ولولا أن دينك سمح معقول، وسهل الاستساغة والقبول، لنبذه الناس من حالنا، فقد فتناهم بضعفنا وفقرنا وتخلفنا، وكادوا يربطون دينك بسلوكنا وتصرفاتنا، ونسينا أننا أصحاب مشروع رحمة ورفق ولطف وإنسانية.. قيل لك يا رسول الله ادع على المشركين، فقلت: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً" رواه مسلم.
لعلك يا سيدي تسأل عن أحفاد حمزة وخالد وعلي والقعقاع وسعد وعقبة وطارق، لعلك تسأل عمن خلف ابن الخطاب وابن عبد العزيز في حكمهم وعدلهم وسؤددهم، إني لأستحي حياء العذراء عن إجابتك! هل أقول لك عجزت النساء أن يلدن أمثالهم؟ أم أقول لك عجزنا أن نكون أتباعهم؟ هل أقول ظلمنا الناس وما كنا لأنفسنا ظالمين؟ أم أقول لك... بأيد مرتعشة، وألسنة مضطربة... حتى لا تفهم قولي.. حتى لا أجرح مشاعرك.. حتى لا أبخس آمالك فينا.. حتى لا تقول عنا يوم نلقاك سحقا سحقا، فما هم أصحابي، ما هم أحبابي، ما هم من أمتي.. عذرا يا سيدي لن أجيب، لن أجيب، لن أجيب...
هذا حالنا يا سيدي ولكن بشائرك لم ننسها ولن ننساها، وهي آمالنا وأحلام يقظتنا، ودافعنا إلى النهوض والتوكل وعدم التواكل... "إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الأرْضَ أَوْ قَالَ إِنَّ رَبِّي زَوَى لِي الأرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأحْمَرَ والأبْيَضَ وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتِي أَنْ لا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ ولا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ".
حملت يا سيدي هموم الأمة وأردتها عالية بين الأمم، وتركتها وأنت راض عنها، فكان الأجداد وبنوا حضارة، ثم خلف الأحفاد وأضحوا أجلافا إلا من رحم ربك وهم قليل، يتذللون على موائد الغير ويأكلون الفتات ويعيشون مع الأموات. كان مشروعك مشروع أمة سهرت عليه الليالي، كنت منتصبا بالليل قائما بالنهار.
ما أنصفناك..!
عذرًا يا سيدي فقد أنصفك الغير وما أنصفك قومك، وهذا ملاذي وخلاصي؛ فاسمع يا سيدي هذه الكلمات على حياء من تقصيري وجهلي لعلها أن تزيد أملي وتنزع إحباطي وتفتح عيني على عظمتك ورحمتك...
فهذا الإنكليزي "برناردشو" يُحيي ذكراك وهو من غير ملتك، اعتبارا لشأنك واحتراما لمشروعك: "إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضع دينه دائما موضع الاحترام والإجلال فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالدا خلود الأبد، وإني أرى كثيرا من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة"!!.
وهذا الأمريكي "مايكل هارت" يجعلك الأول بين العظام في التاريخ وقد غفلنا عن عظمتك وتجاهلنا مركزك ومكانتك: "إن اختياري محمدا ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي"!!!.(4/432)
وهذا الفرنسي "لا مرتين" لا يهضمك حقك ولعله قد هضمناه لما تنكرنا لإرثك واستحيينا من حمله عاليا بين الأمم: "إذا كانت الضوابط التي نقيس بها عبقرية الإنسان هي سمو الغاية والنتائج المذهلة لذلك رغم قلة الوسيلة، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أيا من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد"!!!.
ولم يسع رجلاً في سماحته كـ"غاندي" إلا أن يبادلك لطفه وتقديره، وقد تناسينا سلوكك ويومك وليلك ورفقك وزهدك: "لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته".
وهذا الروسي "تولستوي" يتنبأ لك ولمشروعك بالسيادة رغم هناتنا وضعفنا وكأننا قد استبدلنا الله وجعل شرف الحمل لغيرنا: "يكفي محمدا فخرا أنه خلّص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم، وأن شريعة محمد ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة"!!!.
عذرًا يا سيدي على الإطالة، أعلم أني لم أطيب خاطرك ولكن هذا حالي وحال أمتك. ورغم المطبات والأزقة، رغم المنافي والأخاديد؛ فما زلت متفائلًا بأن إرهاصات النهوض قد غلبت وداعات المثوى الأخير، وأن المارد قد تمدد، والرماد قد تمرد، والأفق قد تلبد، والضمير قد تنهد، والسيد قد تسيد، وإن الصبح لقريب...!.
00000000000
** كاتب تونسي مقيم بباريس،
41-الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم
أ.د جاد المولى عبد العزيز جاد- أستاذ بطب المنصورة
elmawla@hotmail.com
الله وملائكته يصلون علي النبي صلى الله عليه وسلم:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}الأحزاب56
الله وملائكته يصلون علي المؤمنين:
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً{41} وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً{42} هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً{43} الأحزاب.
}وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ{156} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ{157} البقرة.
" إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف" ابن حبان وأبو داود وابن ماجة والبيهقي.
" إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف" البيهقي.
معنى صلاة الله علي النبي صلى الله عليه وسلم وعلي المؤمنين:
- قال أبو العالية: صلاة الله علي النبي صلى الله عليه وسلم ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة علي النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء له. عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
- روي عن سفيان الثوري: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار.
- عن عطاء بن أبي رباح: أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى المؤمنين بالصلاة والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل السماء وأهل الأرض. ابن كثير.
- عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام: هل يصلي ربك؟ فناداه ربه عز وجل: يا موسى سألوك هل يصلي ربك؟ فقل: نعم، أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي، فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه.
- إذا أضيفت الصلاة إلى الله تعالى فمعناها المدح والثناء والرحمة والبركة، وإذا أضيفت إلى الملائكة فمعناها الاستغفار وطلب الشفاعات، وإذا أضيفت إلى المؤمنين فالمراد الدعاء، فصلاة الله عز وجل إظهاره رحمته ومدحه وثناؤه، وصلاة الملائكة استغفارهم وسؤالهم الفضل والدرجة لمن يصلون عليه، وصلاة المؤمنين دعاؤهم ربهم بإنزال البركات والرحمة على من يصلون عليه.
- ومن صلى الله تعالى عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح وفاز كل الفوز، وإذا حصلت لهم الصلاة من الله تبارك وتعالى وملائكته فأي خير فاتهم وأي شر لم يدفع عنهم.
النبي صلى الله عليه وسلم يصلي علي المؤمنين:
قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} التوبة103(4/433)
عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بصدقة قال: " اللهم صل على آل فلان " فأتاه أبي بصدقة فقال: " اللهم صل على آل أبي أوفي" ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
عن جابر بن عبد الله قال: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له امرأتي: يا رسول الله صل علي وعلى زوجي، فقال: " صلى الله عليك وعلى زوجك" ابن أبي شيبة.
عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا لرجل أصابته وأصابت ولده وولد ولده. أحمد.
وعن حذيفة أيضًا: إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتدرك الرجل وولده وولد ولده. أحمد.
معنى صلاة النبي علي المؤمنين:
- عن ابن عباس في قوله: " وصل عليهم" قال: استغفر لهم من ذنوبهم التي أصابوها، "إن صلاتك سكن لهم" قال: رحمة لهم، وقال أيضا: أمن لهم. ابن أبي حاتم وابن حبان.
- عن السدي في قوله: " وصل عليهم" يقول: ادع لهم " إن صلاتك سكن لهم" قال: استغفارك يسكن قلوبهم ويطمن لهم. ابن أبي حاتم وابن حبان.
فضل الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم:
1- لا تزال الملائكة تصلي علي الذي يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عامر بن ربيعة عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول: " من صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي، فليقل عبد من ذلك أو ليكثر" أحمد وابن أبي شيبة وابن ماجه.
2- الذين يصلون علي النبي صلى الله عليه وسلم هم أولى الناس به وبشفاعته يوم القيامة:
- " إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة" رواه الترمذي وابن حبان.
- " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة من الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة" مسلم وأبو داود والترمذي. 3- الذي يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم يصلى الله عليه:
عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته حتى دخل نخلاً فسجد فأطال السجود حتى خفت أو خشيت أن يكون الله قد توفاه أو قبضه، قال: فجئت أنظر فرفع رأسه فقال: " ما لك يا عبد الرحمن؟ " قال: فذكرت ذلك له، فقال: " إن جبريل عليه السلام قال لي ألا أبشرك؟ أن الله عز وجل يقول: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه" (زاد في رواية: " فسجدت لله شكرًا") أحمد والحاكم.
" من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحط عنه عشر خطيئات" أحمد.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة فلم يجد أحدًا يتبعه ففزع عمر فأتاه بمطهرة من خلفه فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ساجدًا في مشربة (غرفة) فتنحى عنه من خلفه حتى رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال: " أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدًا فتنحيت عني، إن جبريل أتاني فقال: من صلى عليك من أمتك واحدة صلى الله عليه عشر صلوات ورفعه عشر درجات" الطبراني.
عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه فقالوا: يا رسول الله إنا لنرى السرور في وجهك؟ فقال: " إنه أتاني الملك فقال: يا محمد أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرًا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرًا؟ قلت: بلى" أحمد وابن حبان.
عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا طيب النفس يرى في وجهه البشر، قالوا: يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر، قال: " أجل، أتاني آت من ربي عز وجل فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها" أحمد والنسائي.
" إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة من الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة" مسلم وأبو داود والترمذي.
" من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشرًا" مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان.
" من ذكرت عنده فليصل علي، ومن صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرًا " أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم.
" من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه" حديث قدسي- أحمد والحاكم.
4- الذي يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم تكثر حسناته وتمحى سيئاته وترفع درجاته:
" من صلى علي من أمتي صلاة مخلصًا من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات، ومحا عنه بها عشر سيئات" النسائي والطبراني والبزار.
5- الذي يجعل صلاته كلها للنبي صلى الله عليه وسلم يكفيه الله همه ويغفر له ذنبه:(4/434)
" سأل أبي بن كعب رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كم أجعل لك من صلاتي؟ قال: " ما شئت، قلت: الربع؟ قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك، فقلت: النصف؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذا يُكفي همك ويغفر ذنبك" أحمد والترمذي والحاكم.
عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: " يا أيها الناس اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه " قال أبي قلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: " ما شئت" قلت: الربع؟ قال: " ما شئت، فإن زدت فهو خير لك" قلت: فالنصف؟ قال: " ما شئت فإن زدت فهو خير لك" قلت: فالثلثين؟ قال: " ما شئت فان زدت فهو خير لك" قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: " إذن تكفى همك، ويغفر لك ذنبك" الترمذي.
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله، اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه" قال أبي بن كعب: فقلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: " ما شئت" قال: قلت الربع؟ قال: " ما شئت وإن زدت فهو خير لك" قال: فقلت فثلث؟ قال: " ما شئت فإن زدت فهو خير لك" قلت: النصف؟ قال: " ما شئت وإن زدت فهو خير لك" قال: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: " إذا يكفى همك ويغفر لك ذنبك" أحمد والترمذي والحاكم. (قوله أكثر الصلاة فكم أجعل لك من صلاتي: معناه أكثر الدعاء فكم أجعل لك من دعائي صلاة عليك).
قال رجل: يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: " إذا يكفيك الله تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك" أحمد.
6- الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم زكاة للمصلي:
" صلوا علي فإنها زكاة لكم، وسلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في أعلى الجنة ولا ينالها إلا رجل وأرجو أن أكون أنا هو" أحمد.
" أيما رجل مسلم لم يكن عنده صدقة فليقل في دعائه: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، وصل على المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات فإنها له زكاة" البخاري وابن حبان.
7- الصلاة والسلام علي النبي صلى الله عليه وسلم تبلغه مهما كان مكان المصلي والمسلم:
" إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام" النسائي وابن حبان.
" حيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني" الطبراني.
" من صلى علي بلغتني صلاته وصليت عليه وكتب له سوى ذلك عشر حسنات" الطبراني.
" ما من أحد يسلم علي إلا رد الله إلي روحي حتى أرد عليه السلام" أحمد وأبو داود.
" من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي" قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ (يعني وقد بليت) قال: " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" أحمد وابن حبان.
" أكثروا علي من الصلاة كل يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدا لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها" قيل وبعد الموت؟ قال: " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام" ابن ماجه.
8- الصلاة والسلام علي النبي صلى الله عليه وسلم تجعل الدعاء مقبول:
عن علي رضي الله عنه قال: " كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد صلى الله عليه وسلم " الطبراني- موقوفا ورفعه بعضهم.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم " الترمذي.
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عجل هذا" ثم دعاه فقال له أو لغيره: " إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه سبحانه والثناء عليه، ثم يصلي على صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بعد بما شاء" أبو داود والترمذي أحمد والنسائي والحاكم.(وفي رواية: فليبدأ بتحميد ربه عز وجل).
عن عبد الله بن مسعود قال: كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعوت لنفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سل تعطه، سل تعطه" الترمذي.
9- الذي يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم يشهد له بالشهادة ويشفع له:
" من قال: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، وترحم على محمد وعلى آل محمد كما ترحمت على إبراهيم وآل إبراهيم، شهدت له يوم القيامة بالشهادة وشفعت له" البخاري.
10- أكثر الناس صلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم أقربهم منه منزلة يوم القيامة:(4/435)
" أكثروا علي من الصلاة في كل يوم الجمعة فإن صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة" البيهقي.
11- النجاة من أهوال يوم القيامة:
" إن أنجاكم يوم القيامة من أهوالها ومواطنها أكثركم علي في دار الدنيا صلاة، إنه قد كان في الله وملائكته كفاية ولكن خص المؤمنين بذلك ليثيبهم عليه" الأصفهاني والديلمي.
12- البراءة من النفاق والبراءة من النار:
" من صلى على صلاة واحدة صلى الله عليه عشرا، ومن صلى على عشرا صلى الله عليه مائة، ومن صلى على مائة كتب الله بين عينيه براءة من النفاق وبراءة من النار، وأسكنه الله يوم القيامة مع الشهداء" الطبراني.
جزاء الغافل عن الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم
1- أبعده الله:
صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فلما رقي عتبة قال: " آمين" ثم رقي أخرى فقال: " آمين" ثم رقي عتبة ثالثة فقال: " آمين" ثم قال: " أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله، فقلت: آمين، قال: ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده الله، فقلت: آمين، قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله قل آمين، فقلت: آمين" ابن حبان.
" احضروا المنبر" فحضرنا فلما ارتقى درجة قال: " آمين" فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: " آمين" فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: " آمين" فلما نزل قلنا: يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه, قال: " إن جبريل عرض لي فقال: بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له، قلت: آمين، فلما رقيت الثانية قال: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين، فلما رقيت الثالثة قال: بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قلت: آمين" الحاكم.
عن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصعد المنبر فقال: " آمين، آمين، آمين" فلما انصرف قيل: يا رسول الله رأيناك صنعت شيئا ما كنت تصنعه، فقال: " إن جبريل تبدى لي في أول درجة فقال: يا محمد من أدرك والديه فلم يدخلاه الجنة فأبعده الله ثم أبعده، فقلت: آمين، ثم قال لي في الدرجة الثانية: ومن أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده الله ثم أبعده، فقلت: آمين، ثم تبدى لي في الدرجة الثالثة فقال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله ثم أبعده، فقلت: آمين" البزار والطبراني.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: آمين، آمين، آمين" قيل: يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين، فقال: " إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين، فقلت: آمين، ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين، فقلت: آمين، ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين، فقلت: آمين" ابن خزيمة وابن حبان.
2- رغم أنفه:
" رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة" الترمذي والبخاري. (رغم أي لصق بالرغام وهو التراب ذلا وهوانا).
3- يكون بخيلاً:
" البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي" (وفي رواية: ثم لم يصل علي) النسائي وابن حبان والحاكم والترمذي.
" إن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل علي" الترمذي.
4- يكون عليه حسرة يوم القيامة:
" ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة يوم القيامة فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم" الترمذي والطبراني. (الترة هي النقص وقيل التبعة)
" ما من قوم يقعدون ثم يقومون ولا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم يوم القيامة حسرة وإن دخلوا الجنة لما يرون من الثواب" البيهقي.
" أيما قوم جلسوا فأطالوا الجلوس (وفي رواية: فطال مجلسهم) ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله عز وجل ويصلوا على نبيهم إلا كانت عليهم من الله عز وجل ترة، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم" الطبراني.
" ما اجتمع قوم ثم تفرقوا عن غير ذكر الله وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلا قاموا عن أنتن جيفة" البيهقي والطيالسي والمناوي.
5- يخطأ طريق الجنة:
" من نسي الصلاة عليّ أخطأ طريق الجنة" ابن ماجه والبيهقي.
" من نسى الصلاة علىّ أخطأ (خطئ) طريق الجنة" ابن ماجة.
" من ذكرت عنده فخطئ الصلاة على خطئ طريق الجنة" الطبراني.
كيفية الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم(4/436)
عن كعب بن عجرة قال: قيل يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة؟ قال: " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" متفق عليه. (ومعنى قولهم أما السلام عليك فقد عرفناه هو الذي في التشهد الذي كان يعلمهم إياه كما كان يعلمهم السورة من القرآن وفيه السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)
قال ابن أبي ليلى: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية؟ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله قد علمنا أو عرفنا كيف السلام عليك، فكيف الصلاة؟ فقال: " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" أخرجه الجماعة.
عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}الأحزاب56 قال: قلنا يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال: " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول وعلينا معهم. الترمذي.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم" البخاري. (وفي رواية: كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم).
قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" النسائي وابن ماجة وأحمد.
عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم" أبو داود والترمذي والنسائي.
" من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صل على محمد النبي وأزواجه وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم انك حميد مجيد" أبو داود وابن مردويه والبيهقي.
مواطن الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم
1- كلما ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم :
" رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة" الترمذي والبخاري.
" البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي" (وفي رواية: ثم لم يصل علي) النسائي وابن حبان والحاكم والترمذي.
2- مع أذكار الصباح والمساء:
" من قال إذا أصبح وإذا أمسى: رضينا بالله، ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا- إلا كان حقا على الله أن يرضيه" أبو داود والترمذي وأحمد. (وفي رواية: وبمحمد نبيا- فينبغي أن يجمع بينهما فيقال: وبمحمد نبيا ورسولا، وعند أحمد أنه يقول ذلك ثلاث مرات حين يمسي وحين يصبح)
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: " أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا (مسلما) وما كان من المشركين" وإذا أمسى قال مثل ذلك. النسائي وأحمد وابن حبان.
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا إذا أصبح أحدنا أن يقول: " أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، وعلي دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ووعلي ملة أبينا إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين" الطبراني.
3- مع الدعاء:
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عجل هذا" ثم دعاه فقال له أو لغيره: " إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه سبحانه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بعد بما شاء" أبو داود والترمذي أحمد والنسائي والحاكم.(وفي رواية: فليبدأ بتحميد ربه عز وجل)(4/437)
عن عبد الله بن مسعود قال: كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر معه، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعوت لنفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سل تعطه، سل تعطه" الترمذي.
عن علي رضي الله عنه قال: " كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد صلى الله عليه وسلم " الطبراني- موقوفا ورفعه بعضهم.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم " الترمذي.
4- بعد الآذان:
" إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة" مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
" من قال حين يسمع المؤذن وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا غفر الله له ذنوبه" مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود.(وفي رواية: غفر له ذنبه، وفي أخرى: غفر الله له)
5- عند دخول المسجد وعند الخروج منه:
عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ثم قال: اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال: اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك" أحمد والترمذي وابن ماجة.
6- في التشهد:
عن عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفى بين كفيه كما يعلمني السورة من القران: " التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، اشهد أن لا اله إلا الله واشهد أن محمدا عبده ورسوله" متفق عليه.
عن كعب بن عجرة قال: قيل يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة؟ قال: " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" متفق عليه. (ومعنى قولهم أما السلام عليك فقد عرفناه هو الذي في التشهد الذي كان يعلمهم إياه كما كان يعلمهم السورة من القرآن وفيه السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته).
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم" البخاري. (وفي رواية: كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم).
قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال: " قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" النسائي وابن ماجة وأحمد.
7- الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة:
فإن السنة أن يقرأ في التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب وفي الثانية أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وفي الثالثة يدعو للميت وفي الرابعة يقول اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده.
- عن أبو أمامة قال: من السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة وفي التكبيرات لا يقرأ في شيء منها ثم يسلم سرا في نفسه. النسائي.
ملحوظة: عن أبي أمامة أنه قال من السنة - وهذا من الصحابي في حكم المرفوع على الصحيح.
8- الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد:
عن علقمة أن عبد الله بن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل العيد يوما فقال لهم: إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه؟ فقال عبد الله: تبدأ فتكبر تكبيرة تفتح بها الصلاة وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تكبر وتفعل مثل ذلك، ثم تركع. فقال حذيفة وأبو موسى: صدق أبو عبد الرحمن. الأثرم في سننه والمغني لابن قدامة.(4/438)
قال أبو عبد الله يكبر في الأولى سبعًا مع تكبيرة الإحرام ولا يعتد بتكبيرة الركوع لأن بينهما قراءة ويكبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات ولا يعتد بتكبيرة النهوض ثم يقرأ في الثانية ثم يكبر ويركع. ويستفتح في أولها ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين وإن أحب قال: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلا وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، وإن أحب قال غير ذلك ويكبر في الثانية خمس تكبيرات سوى التكبيرة التي يقوم بها من السجود ويرفع يديه مع كل تكبيرة- المغني لابن قدامة. (يستفتح يعني يدعو بدعاء الاستفتاح عقيب التكبيرة الأولى).
9- مع صلاة الحاجة:
" من كانت له حاجة إلى الله تعالى أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن وضوءه ثم ليصل ركعتين, ثم يثني على الله تعالى, وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم, سبحان الله رب العرش العظيم, الحمد لله رب العالمين, أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك, والعصمة من كل ذنب, والغنيمة من كل بر, والسلامة من كل إثم, لا تدع لي ذنبا إلا غفرته, ولا هما إلا فرجته, ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين, ثم يسأل من أمر الدنيا والآخرة ما شاء فإنه يقدر" الترمذي والنسائي.
10- مع دعاء القنوت:
عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: " اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت" أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم. (وفي رواية: " وصلى الله على محمد" النسائي )
11- يستحب الإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة وليلة الجمعة:
" أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لا يصلي علي فيه إلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها" قلت: وبعد الموت؟ قال: " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فنبي الله حي يرزق" أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني.
" من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصفقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي" قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ (يعني بليت) فقال: " إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم.
" أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه أتاني جبريل آنفا عن ربه عز وجل فقال: ما على الأرض من مسلم يصلي عليك مرة واحدة إلا صليت أنا وملائكتي عليه عشرا" الطبراني.
12- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة في الخطبتين:
- يجب على الخطيب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر في الخطبتين ولا تصح الخطبتان إلا بذلك لأنها عبادة وذكر الله شرط فيها فوجب ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كالأذان والصلاة هذا مذهب الشافعي وأحمد.
13- الصلاة والسلام عليه عند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم:
" ما منكم من أحد يسلم علي إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام" أبو داود.
" لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" أبو داود.
" لا تجعلوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم فتبلغني صلاتكم وسلامكم" أحمد.
" صلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" الطبراني.
" إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام" أحمد والنسائي.
عن العتبي قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} النساء64, وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه، فطاب من طيبهن القاع والأكم، نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه، فيه العفاف وفيه الجود والكرم، ثم انصرف الأعرابي فحملتني عيني فنمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: " يا عتبي الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له. المغني لابن قدامة.(4/439)
عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمها أن تأتي القبر فتولي ظهرها القبلة وتستقبل وسطه وتقول: " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فصلى الله عليك كثيرًا كما يحب ربنا ويرضى، اللهم اجز عنا نبينا أفضل ما جزيت أحدًا من النبيين والمرسلين، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم إنك قلت وقولك الحق: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} النساء64 - وقد أتيتك مستغفرا من ذنوبي ومستشفعًا بك إلى ربي، فأسألك يا رب أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم اجعله أول الشافعين وأنجح السائلين وأكرم الآخرين والأولين، برحمتك يا أرحم الراحمين- ثم يدعو لوالديه ولإخوانه وللمسلمين أجمعين. المغني لابن قدامة.
14- يستحب للمحرم إذا لبى وفرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم:
عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: كان يؤمر الرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم على كل حال. الشافعي والدارقطني.
15- علي الصفا والمروة:
عن وهب بن الأجدع قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إذا قدمتم فطوفوا بالبيت سبعا، وصلوا عند المقام ركعتين، ثم ائتوا الصفا فقوموا عليه من حيث ترون البيت فكبروا سبع مرات تكبيرا بين حمد الله وثناء عليه وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومسألة لنفسك، وعلى المروة مثل ذلك. فضل الصلاة علي النبي- تحقيق الألباني.
16- عند طنين الأذن:
- يستحب الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم عند طنين الأذن إن صح الخبر في ذلك.
" إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني وليصل علي وليقل ذكر الله من ذكرني بخير" ابن خزيمة.
17- عند التقاء الأخَوَان المتحابان:
" ما من عبدين متحابين يستقبل أحدهما صاحبه ويصليان على النبي صلى الله عليه وسلم لم يتفرقا حتى يغفر لهما ذنوبهما ما تقدم منهما وما تأخر" أبو يعلى.
الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد لنفسه بالرسالة
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}الأعراف158
عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعمر بن الخطاب معه فعرضت امرأة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ادعي زوجك فدعته وكان ضرارا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما تقول امرأتك يا عبد الله؟" فقال الرجل: والذي أكرمك ما جف رأسي منها، فقالت امرأته: ما مرة واحدة في الشهر، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " أتبغضيه؟" قالت: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ادنيا رأسيكما" فوضع جبهتها على جبهة زوجها ثم قال: " اللهم ألف بينهما، وحبب أحدهما إلى صاحبه" ثم مر رسول الله بسوق النمط ومعه عمر بن الخطاب فطلعت امرأة تحمل إدما على رأسها فلما رأت النبي طرحته وأقبلت فقبلت رجليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف أنت وزوجك؟" فقالت: والذي أكرمك ما طارف ولا تالد ولا ولد بأحب إلي منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشهد أني رسول الله" فقال عمر: وأنا أشهد أنك رسول الله. البيهقي.(4/440)
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان بالمدينة يهودي وكان يسلفني في تمري إلى الجذاذ- وكانت لجابر الأرض التي بطريق رومة- فجلست فخلا عاما فجاءني اليهودي عند الجذاذ ولم أجد منها شيئا، فجعلت أستنظره إلى قابل فيأبى، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: " امشوا نستنظر لجابر من اليهودي" فجاءوني في نخلي فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلم اليهودي فيقول: أبا القاسم لا أنظره، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قام فطاف في النخل ثم جاءه فكلمه فأبى، فقمت فجئت بقليل رطب فوضعته بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأكل ثم قال: " أين عريشك يا جابر؟" فأخبرته فقال: " افرش لي فيه" ففرشته فدخل فرقد ثم استيقظ فجئته بقبضة أخرى فأكل منها ثم قام فكلم اليهودي فأبى عليه، فقام في الرطاب في النخل الثانية ثم قال: " يا جابر جذ واقض" فوقف في الجذاذ فجذذت منها ما قضيته وفضل مثله، فخرجت حتى جئت النبي صلى الله عليه وسلم فبشرته فقال: " أشهد أني رسول الله" البخاري (استنظره: اطلب منه أن ينظرني إلى قابل أي عام آت، عريشك، العريش: ما يستظل به عند الجلوس تحته، وقيل البناء، أي أين المكان الذي اتخذته في بستانك لتستظل به، فقام في الرطاب في النخل الثانية أي المرة الثانية، وأقض أي اقض الدين الذي عليك يعني أوفه لليهودي، وفضل مثله أي مثل الدين، ويروى وفضل منه، قوله أشهد أني رسول الله إنما قال ذلك لأن فيه خرق العادة الظاهرة وهو دليل من أدلة النبوة وعلم من أعلامها حيث قضى بالقليل الذي لم يكن يفي بدينه تمام الدين وفضل منه مثله).
عن أبي هريرة: أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما لا يكاد يفارقه ولا يعرف له كبير عمل، وكان الآخر لا يكاد يرى ولا يعرف له كبير عمل، فقال الذي لا يكاد يفارقه: يا رسول الله بأبي وأمي ذهب المصلون بالأجر، بأجر الصلاة، والصائمون بأجر الصيام، فذكر أعمال الخير فقال: " ويحك ماذا عندك؟" قال: لا والذي بعثك بالحق إلا حب الله ورسوله، قال: " لك ما احتسبت وأنت مع من أحببت" قال: وأما الآخر فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه: " هل علمتم أن الله قد أدخل فلانا الجنة؟" فعجب القوم أنه كان لا يكاد يرى، فقام بعضهم إلى أهله فسأل امرأته عن عمله، قالت: ما كان له كبير عمل إلا ما قد رأيتم غير أنه قد كانت له خصلة، قالوا: وما هي؟ قالت: ما كان يسمع المؤذن من ليل ولا نهار ولا على أي حال إلا كان يقول أشهد أن لا إله إلا الله مثل قوله أقر بها وأكفر من أباها، قالت: فإذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله قال: أشهد أن محمدًا رسول الله أقربها وأكفر من أبى، قال الرجل: دخل الجنة، فأقبل حتى إذا كان من النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه حيث يسمعه الصوت نادى النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته: أتيت أهل فلان فسألتهم عن عمله فأخبروني بكذا وكذا، قال الرجل: أشهد أنك رسول الله، قال: " وأنا أشهد أني رسول الله" الأصبهاني.
قال رجل للبراء بن عازب رضي الله عنهما: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال: لكن رسول الله لم يفر إن هوازن كانوا قوما رماة، وإنا لما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا فأقبل المسلمون على الغنائم واستقبلونا بالسهام، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفر فلقد رأيته وإنه لعلي بغلته البيضاء وإن أبا سفيان آخذ بلجامها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أنا النبي لا كذب، أنا بن عبد المطلب" البخاري ومسلم وابن حبان والنسائي والترمذي.
القرآن والشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة
{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}الأحزاب40
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}الفتح29
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ }الحجرات7(4/441)
{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } المنافقون1
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } الأحزاب45
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } المائدة67
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } التوبة33
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } الفتح8
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } الفتح28
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } الصف9
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } البقرة119
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } الأحزاب45
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ }فاطر24
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } الفتح8
{مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً } النساء79
}يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر{1} قُمْ فَأَنذِرْ{2} المدثر.
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } البقرة151
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} الرعد30
{وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} الإسراء105
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } الأنبياء107
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً } الفرقان56
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } سبأ28
{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } المزمل15
الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة في الكتب السماوية وعلي لسان الأنبياء
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } الصف6
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }الفتح29
{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ }آل عمران81(4/442)
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الأعراف157
" قال موسى: رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة، الآخرون في الخلق والسابقون في دخول الجنة فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ويقاتلون فضول الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في قلوبهم يقرأونها فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ويؤجرون عليها فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها فإن عملها كتبت سيئة واحدة فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد، فألقى موسى عليه السلام الألواح وقال: رب فاجعلني من أمة أحمد" عبد بن حميد وابن حبان. (قال قتادة: وكان من قبلكم إنما يقرؤون كتابهم نظرًا فإذا رفعوها لم يحفظوا منه شيئا ولم يعوه وإن الله أعطاكم أيتها الأمة من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم قبلكم فالله خصكم بها وكرامة أكرمكم بها، وكان من قبلكم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله عليها نارا فأكلتها وإن ردت تركت فأكلتها السباع والطير وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم رحمة رحمكم بها وتخفيفا خفف به عنكم)
تعريف النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه
" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع" مسلم وأبو داود.
" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر" الترمذي وابن ماجة.
" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع ومشفع، بيدي لواء الحمد تحتي آدم فمن دونه" أبو يعلى والطبراني وابن ماجة.
" أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر" الطبراني.
" أنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يحرك بحلق الجنة ولا فخر فيفتح الله فيدخلبيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين ولآخرين علي الله ولا فخر" الدارمي.
" أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" مسلم والبخاري والنسائي والطبراني وأحمد.
أتي رجل النبي صلى الله عليه وسلم من بين يديه فاستقبلته رعدة فقال البني صلى الله عليه وسلم "هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" الطبراني والحاكم.
"خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلي أن ولني أبي وأمي" الطبراني.
" إن الله عز وجل خلق السموات سبعا فاختار العليا منها فسكنها وأسكن سماواته من شاء من خلقه وخلق الخلق فاختار نم الخلق بني آدم واختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر قرشيا واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم فأنا من خيار إلي خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم" الطبراني.
" إن الله خلق خلقه فجعلني من خير خلقه ثم فرقهم فرقتين فجعلني من الفرقتين ثم جعلهم فبائل فجعلني من خيرهم قبيلة ثم جعلهم بيوتا فجعلني من خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا" ابن أبي شيبة.
" إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم، فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع" ابن حبان.
أحوال المحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أنس رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وقد أطاف به أصحابه، ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل.(4/443)
خرج بلال رضي الله عنه يوماً بوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا بالناس يتدبرون ذلك الوضوء فمن أصاب منه شيئا ً تمسح به ومن لم يصب أخذ من بلل يد صاحبه، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقام الناس وجعلوا يتمسحون بيده، فكانت لهم أبرد من الثلج وأطيب من ريح المسك.
لما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة رضي الله عنه من الحرم ليقتلوه فقال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدا ً الآن عندنا نضرب عنقه وأنك الآن في أهلك، فقال زيد: والله ما أحب أن محمدا ً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإني جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدا ً من الناس يحب أحدا ً كما يحب أصحاب محمد محمدا ً.
لما كانت ليلة الغار قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله دعني أدخل قبلك فإن كان حية أو شيء كانت لي قبلك، قال صلى الله عليه وسلم : " ادخل" فدخل أبو بكر فجعل يتلمس بيديه كلما رأى جحرا ً أخذ بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر، حتى فعل ذلك بثوبه أجمع . فبقي جحر فوضع عقبه عليه، ثم أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لما كان يوم أحد وقد انهزم عنه الناس وقف أبو طلحة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم يحميه بترس له، فأشرف النبي يريد أن ينظر إلى القوم فقال له أبو طلحة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ،لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك.
في أحد أيضا ً كان شماس بن عثمان المخزومي رضي الله عنه لا يتلفت رسول الله يمينا ً ولا شمالاً إلا رآه أمامه يزود عنه بسيفه، حتى غشي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فترس بنفسه دونه حتى استشهد رحمه الله . وترس عنه أبو دجانة أيضا ًبنفسه فجعل النبل يقع في ظهره وهو منحن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى كثر فيه النبل.
روي أن امرأة من لأنصار(من بني دينار) قتل أبوها وزوجها وأخوها يوم أحد ، فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: خيرا ً هو بحمد الله كما تحبين، فقالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك تهون .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما ً للرسول صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيده -: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شئ إلا نفسي، فقال: " لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الآن يا عمر".
كان ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحب له، قليل الصبر عنه، أتاه يوما ً وقد تغير لونه، والحزن باد على وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما غير لونك؟" فقال: يا رسول الله ما بي مرض أو وجع غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك.
كان أسيد بن حضير رضي الله عنه يوما ً يحدث القوم ويضحكهم ، فيضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغمزه بيده الشريفة في خاصرته استحسانًا لما قال، فقال أسيد: أوجعتني!!..فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: " اقتص" فقال: يا رسول الله عليك قميص ولم يكن علي قميص، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فقام أسيد واحتضنه وجعل يقبله وهو يقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أردت هذا.
لما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب الأنصاري، كان يصنع له العشاء وينتظر حتى يفرغ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل منه هو وزوجته، متيممين موضع يده ابتغاء بركته صلى الله عليه وسلم.
كان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه شديد الحب والحرص على رسول الله ، فحين رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر ومعه أم المؤمنين صفية، رضي الله عنها وقد كانت يهودية أسرت ثم أعتقها الرسول صلى الله عليه وسلم وتزوجها فبات أبو أيوب تلك الليلة كلها متوشحًا سيفه يحرس الرسول ويطوف بقبته خوفا ً منها (أي أم المؤمنين).
بعد أن ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، أبى بلال أن يؤذن لأحد بعده، وقد توسل المسلمون إليه مرة أن يؤذن لهم، فلم يكن ينطق أشهد أن محمدا ً رسول الله حتى يختفي صوته تحت وقع أساه، وتغلبه دموعه وعبراته، وقد بكى الصحابة يومها كما لم يبكوا من قبل.
أصاب خالد بن الوليد رضي الله عنه في حجة الوداع شعرات من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلها في قلنسوة له وأصبحت هذه القلنسوة لا تفارقه أينما ذهب.
كانت أم سليم رضي الله عنها ترقب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينام، ويعرق على بساط لها فتسرع لجمع قطرات هذا العرق الشريف، فتمزجه في طيبها، تبتغي بذلك بركته صلى الله عليه وسلم.
روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" البخاري.
من علامات محبته النبي صلى الله عليه وسلم
1- الإقتداء به والتخلق بأخلاقه وحب سنته والعمل علي تطبيقها.
2- حب آل بيته وصحابته .
2- نصرة دين الله بالقول والفعل.
3- كثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.(4/444)
4- كثرة الشوق إلى لقاءه.
5- العمل على إحياء سنته و قراءة سيرته وأحاديثه والاهتداء بها.
6- الدعوة إلي الله علي بصيرة، وبالحكمة والموعظة الحسنة مهتدين بسنته.
نسأل الله أن يرزقنا حبه وحب رسوله وحب عمل صالح يقربنا إليه تعالى.
أ.د جاد المولى عبد العزيز جاد- أستاذ بطب المنصورة
42- شأنُ النبي عند المسلمين: [حديث صلح الحديبية]
د/ السيد العربى بن كمال
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.......وبعد:
* أخرج البخاري في كتاب الشروط من حديث:عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ..{وهي بئر سمي المكان بها, وقيل شجرة حدباء صغرت وسمي المكان بها. وقال المحب الطبري. الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم}.. حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيق..{في رواية: حتى إذا كانوا بغدير الأشطاط قريبا من عسفان.. وهو جانب الوادي}..ِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ..{وهو موضع بين مكة والمدينة}.. فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٌ فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ, فَوَ اللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْش..{القترة الغبار الأسو}..ِ فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يُهْبَطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَقَالَ النَّاسُ حَلْ حَلْ..{كلمة تقال للناقة للزجر إذا تركت السير}.. فَأَلَحَّت..{أي تمادت على عدم القيام }ْ فَقَالُوا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ..{والخلاء للإبل كالحران للخيل}.. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ..{أي حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها.. ومناسبة ذكرها أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال كما لو قدر دخول الفيل وأصحابه مكة, لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين أنه سيدخل في الإسلام خلق منهم, ويستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون, وكان بمكة في الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان, فلو طرق الصحابة مكة لما أمن أن يصاب ناس منهم بغير عمد كما أشار إليه تعالى في قوله: (ولولا رجال مؤمنون) الآية..
وفي هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة الخاصة, لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض, لكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحرم مطلقا, أما من أهل الباطل فواضح, وأما من أهل الحق فللمعني الذي تقدم ذكره.}.. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا..{قال الخطابي: معني تعظيم حرمات الله في هذه القصة ترك القتال في الحرم, والجنوح إلى المسالمة والكف عن إراقة الدماء.}.. ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ قَالَ فَعَدَلَ عَنْهُمْ..{ في رواية فولى راجعا}.. حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاء..{أي حفيرة فيها ماء مثمود أي قليل }ِيَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا..{هو الأخذ قليلا قليلاً}.. فَلَمْ يُلَبِّثْهُ النَّاسُ..{ أي لم يتركوه يلبث}.. حَتَّى نَزَحُوهُ وَشُكِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطَشُ فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ..{وفى رواية: أنه صلى الله عليه وسلم جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض ودعا الله ثم صبه فيها ثم قال: دعوها ساعة. ثم أنهم ارتووا بعد ذلك}.. فَوَ اللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرِّيِّ حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ..{ أي رجعوا رواء بعد وردهم. زاد ابن سعد " حتى اغترفوا بآنيتهم جلوسا على شفير البئر "}..(4/445)
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..{والعيبة: ما توضع فيه الثياب لحفظها أي أنهم موضع النصح له والأمانة على سره, كأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب..وفى رواية: وكانت خُزاعة عَيبَة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلُمها ومشركُها لا يُخفون عليه شيئاً كان بمكة }.. مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ..{وتِهامة بالكسر هي مكة وما حولها}.. فَقَالَ إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَي..{ذَكر هَذين لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمَع ترجعُ أنسابُهم إليهما}..نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ..{الأعداد بالفتح جمع عِد بالكسر والتشديد وهو الماء الذي لا انقطاع له}.. وَمَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيل..{العوذ بالضم جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن, والمطافيل الأمهات اللاتي معها أطفالها, يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها ولا يرجعوا حتى يمنعوه, أو كنى بذلك عن النساء معهن الأطفال, والمراد أنهم خرجوا منهم بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام وليكون أدعى إلى عدم الفرار}..وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهِكَتْهُمْ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بِهِمْ فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً..{ أي جعلت بيني وبينهم مدة يُترك الحرب بيننا وبينهم فيها}.. وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ فَإِنْ أَظْهَر..{وإنما ردد الأمر مع أنه جازم بأن الله تعالى سينصره ويظهره لوعد الله تعالى له بذلك, على طريق التنزل مع الخصم وفرض الأمر على ما زعم الخصم }..ْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا..{ أي استراحوا}.. وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي..{ السالفة صفحة العنق, وكنى بذلك عن القتل}.. وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَه"ُ.(4/446)
فَقَالَ بُدَيْلٌ سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا قَالَ إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ وَقَالَ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ, قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ قَالُوا بَلَى قَالَ أَوَلَسْتُ بِالْوَلَد..{يعنى أنتم أهلى وأبائى وفيكم أبنائى}ِ قَالُوا بَلَى قَالَ فَهَلْ تَتَّهِمُونِي قَالُوا لَا قَالَ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظَ..{ أي دعوتهم إلى نصركم}.. فَلَمَّا بَلَّحُوا..{ أي امتنعوا}..عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي قَالُوا بَلَى قَالَ فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ لَكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ..{ أي خصلة خير وصلاح وإنصاف} اقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِيهِ قَالُوا ائْتِهِ فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْ مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنْ اسْتَأْصَلْتَ أَمْرَ قَوْمِكَ هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ..{ أي أهلك أهله بالكلية}.. قَبْلَكَ, وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى..{والمعني وإن تكن الغلبة لقريش لا آمنهم عليك مثلا-- والحاصل أن عروة ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين عادة وهو هلاك قومه إن غلب, وذهاب أصحابه إن غلب, لكن كل من الأمرين مستحسن شرعا كما قال تعالى: ( قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين)الآية}.. فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا وَإِنِّي لَأَرَى أَوْشَابًا مِنْ النَّاس..{أى الأخلاط من أنواع شتى }..ِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ امْصُصْ بِبَظْرِ اللاّت..{ في قول أبي بكر تخسيس للعدو وتكذيبهم..وإن كان مما يستفحش, وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار }ِ.. أَنَحْنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ فَقَالَ مَنْ ذَا قَالُوا أَبُو بَكْرٍ قَالَ أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَد..{ أي نعمة..وهى انه كان قد تحمل بدية فأعانه أبو بكر فيها بعون حسن }..ٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ..{ أي لم أكافئك بها.. أي جازاه بعدم إجابته عن شتمه بيده التي كان أحسن إليه بها}..(4/447)
قَالَ وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ..{وفى رواية: فكلما كلمه أخذ بلحيته".. وكانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه ولا سيما عند الملاطفة وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير, لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضي لعروة عن ذلك استمالة له وتأليفا}.. وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ..{ وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها}..وَقَالَ لَهُ أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَة..{ وفى رواية: قال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة }َ فَقَالَ أَيْ غُدَرُ..{ مبالغة في وصفه بالغدر}.. أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غَدْرَتِكَ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ.. {أشار عروة بهذا إلى ما وقع للمغيرة قبل إسلامه, وذلك أنه خرج مع ثلاثة عشر نفرًا من ثقيف من بني مالك فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم, فتهايج الفريقان بنو مالك والأحلاف رهط المغيرة, فسعى عروة بن مسعود عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفسا واصطلحوا}.. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ أَمَّا الْإِسْلَامَ فَأَقْبَلُ وَأَمَّا الْمَالَ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ.. {أي لا أتعرض له لكونه أخده غدرا-- ويستفاد منه أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدرا لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة والأمانة تُؤَدى إلى أهلها مسلما كان أو كافرا, وأن أموال الكفار إنما تحِلُ بالمحاربة والمغالبة, ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك المال في يده لإمكان أن يُسلم قومُه فيرُد إليهم أموالهم }.. ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ..{ أي يلحظ}.. أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ قَالَ فَو َاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ..{وفى رواية" ولا يسقط من شعره شيء إلا أخدوه "} وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ..{ أي يديمون}.. إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ..{ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة وبالغوا في ذلك إشارة منهم إلى الرد على ما خشيه من فرارهم, وكأنهم قالوا بلسان الحال: من يحب إمامه هذه المحبة ويعظمه هذا التعظيم كيف يظن به أنه يفرعنه ويسلمه لعدوه ؟ بل هم أشد اغتباطًا به وبدينه وبنصره من القبائل التي يُراعي بعضُها بعضا بمجرد الرحِم}..
فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ..{وذكر الثلاثة لكونهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان}..وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا..{وفى رواية: وما أراكم إلا ستصيبكم قارعة, فانصرف هو ومن اتبعه إلى الطائف"}..(4/448)
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ دَعُونِي آتِيهِ فَقَالُوا ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا فُلَانٌ وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ..{ أي أثيروها دفعة واحدة}.. فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ..{ وفى رواية: رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم }..قَالَ رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْتِ..{وفى رواية: وغضب وقال: يا معشر قريش ما على هذا عاقدناكم, أيصد عن بيت الله من جاء معظما له ؟ فقالوا: كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى}.. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ دَعُونِي آتِيهِ فَقَالُوا ائْتِهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا مِكْرَزٌ وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ.
فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ قَالَ مَعْمَرٌ قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَاتِبَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ سُهَيْلٌ أَمَّا الرَّحْمَنُ فَو َاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاللَّهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً..{ أي قهرا}..وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ.(4/449)
فَقَالَ سُهَيْلٌ وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا قَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ..{ أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد }..فِي قُيُودِهِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِين..{ " وكان سهيل أوثقه وسجنه حين أسلم, فخرج من السجن وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ففرح به المسلمون وتلقوه " }..َ فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ قَالَ فَوَ اللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجِزْهُ لِي..{ أي أمض لي فعلي فيه فلا أرده إليك}..قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ قَالَ بَلَى فَافْعَلْ قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ قَالَ مِكْرَزٌ بَلْ قَدْ أَجَزْنَاهُ لَكَ..{ والمعنى إنه لم يجزه بأن يقره عند المسلمين بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه}..قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ..{ وفى رواية" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل, اصبر واحتسب فإنا لا نغدر, وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا " وفي رواية" فأوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال فوثب عمر مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر, فإنما هم مشركون, وإنما دم أحدهم كدم كلب, قال ويدني قائمة السيف منه, يقول عمر: رجوت أن يأخذه مني فيضرب به أباه, فضن الرجل - أي بخل - بأبيه ونفذت القضية " }..
قَالَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا..{وفى رواية: " قال عمر: لقد دخلني أمر عظيم, وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط "..وفى رواية" كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله, فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون " }-- قَالَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي قُلْتُ أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى فَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ قَالَ قُلْتُ لَا قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا قَالَ بَلَى قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ قَالَ بَلَى قُلْتُ فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا -- قَالَ أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِه..{ والمراد به التمسك بأمره وترك المخالفة له كالذي يمسك بركب الفارس فلا يفارقه }ِ..فَوَ اللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قُلْتُ أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ قَالَ بَلَى أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ قُلْتُ لَا قَالَ فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ..{ وفي جواب أبي بكر لعمر بنظير ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم سواء دلالة على أنه كان أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمهم بأمور الدين وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى. }-- قَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا..{ فى رواية" فقال عمر: اتهموا الرأي على الدين, فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي, وما ألوم عن الحق "وفى رواية: " وكان عمر يقول مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ, مخافة كلامي الذي تكلمت به " }—(4/450)
قَالَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ..{ في رواية:" فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرى بينهما القول حتى وقع بينهما الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين وأن يأمن الناس بعضهم بعضا, وأن يرجع عنهم عامهم هذا "... ولما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس كلم بعضهم بعضا والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة ولم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا في تلك المدة إلا دخل فيه, ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر, يعني من صناديد قريش-- وكان في الصورة الظاهرة ضيما للمسلمين وفي الصورة الباطنة عزا لهم, فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير, وأسمع المسلمون المشركين القرآن, وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين, وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية, وظهر من كان يخفي إسلامه فذل المشركون من حيث أرادوا العزة وأقهروا من حيث أرادوا الغلبة }..قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا قَالَ فَو َاللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ..{ قيل كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب, أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور, أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم, وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمان وقوع النسخ }..
فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاسِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ..{ قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة.}..فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ..{ وإنما جئن إليه بعد في أثناء المدة }..فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ حَتَّى بَلَغَ بِعِصَمِ الْكَوَافِر"..ِ فَطَلَّقَ عُمَرُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَالْأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ فَقَالُوا الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ..{ وفى رواية:" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير إن هؤلاء القوم صالحونا على ما علمت, وإنا لا نغدر, فالحق بقومك. فقال: أتردني إلى المشركين يفتنوني عن ديني ويعذبونني؟ قال: اصبر واحتسب, فإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا " وفي رواية " فقال له عمر: أنت رجل وهو رجل ومعك السيف "}..فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا يَا فُلَانُ جَيِّدًا فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَجَيِّدٌ لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْهِ فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ..{ أي خمدت حواسه}..(4/451)
وَفَرَّ الْآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي وَإِنِّي لَمَقْتُولٌ..{أي إن لم تردوه عني}..فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ وَاللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيْلُ أُمِّهِ..{ وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم}..مِسْعَرَ حَرْبٍ..{ كأنه يصفه بالإقدام في الحرب والتسعير لنارها }..لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ..{وفى رواية: " فلقنها أبو بصير فانطلق", وفيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين, ورمز إلى من بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به, }..فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ..{ أي ساحله }..قَالَ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ..{ أي من أبيه وأهله}.. فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ..{ وفي رواية:" وانفلت أبو جندل في سبعين راكبا مسلمين فلحقوا بأبي بصير فنزلوا قريبا من ذي المروة على طريق عير قريش فقطعوا مادتهم " }..فَجَعَلَ لَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إِلَّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ حَتَّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ فَوَ اللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّأْمِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ لَمَّا أَرْسَلَ فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ..{ في رواية "يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي جندل ومن معه وقالوا: ومن خرج منا إليك فهو لك حلال غير حرج " }.. فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:"وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَلَغَ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ "-- وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ وَلَمْ يُقِرُّوا بِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ........[خ..ك..الشروط..2734].
** هذا وصلى اللهم على محمد وصحبه أجمعين....والحمد لله رب العالمين
جمعه ورتبه وكتبه الفقير
د/ السيد العربي بن كمال
فتح الباري لابن حجر - (ج 8 / ص 283)
قَوْله : ( عَنْ الْمِسْوَر بْن مَخْرَمَةَ وَمَرْوَان )
أَيْ اِبْن الْحَكَم
( قَالَا خَرَجَ )
هَذِهِ الرِّوَايَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَرْوَان مُرْسَلَة لِأَنَّهُ لَا صُحْبَة لَهُ ، وَأَمَّا الْمِسْوَر فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَيْضًا مُرْسَلَة لِأَنَّهُ لَمْ يَحْضُر الْقِصَّة ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل الشُّرُوط مِنْ طَرِيق أُخْرَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَة " أَنَّهُ سَمِعَ الْمِسْوَر وَمَرْوَان يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَذَكَرَ بَعْض هَذَا الْحَدِيث ، وَقَدْ سَمِعَ الْمِسْوَر وَمَرْوَان مِنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة شَهِدُوا هَذِهِ الْقِصَّة كَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ وَالْمُغِيرَة وَأُمّ سَلَمَة وَسَهْل بْن حُنَيْفٍ وَغَيْرهمْ ، وَوَقَعَ فِي نَفْس هَذَا الْحَدِيث شَيْء يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ عَنْ عُمَر كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيه عَلَيْهِ فِي مَكَانه ، وَقَدْ رَوَى أَبُو الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة هَذِهِ الْقِصَّة فَلَمْ يَذْكُر الْمِسْوَر وَلَا مَرْوَان لَكِنْ أَرْسَلَهَا ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي " مَغَازِي عُرْوَة بْن الزُّبَيْر " أَخْرَجَهَا اِبْن عَائِذ فِي الْمَغَازِي لَهُ بِطُولِهَا ، وَأَخْرَجَهَا الْحَاكِم فِي " الْإِكْلِيل " مِنْ طَرِيق أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة أَيْضًا مُقَطَّعَة .
قَوْله : ( زَمَن الْحُدَيْبِيَة )(4/452)
تَقَدَّمَ ضَبْط الْحُدَيْبِيَة فِي الْحَجّ ، وَهِيَ بِئْر سُمِّيَ الْمَكَان بِهَا ، وَقِيلَ شَجَرَة حَدْبَاء صُغِّرَتْ وَسُمِّيَ الْمَكَان بِهَا . قَالَ الْمُحِبّ الطَّبَرِيُّ . الْحُدَيْبِيَة قَرْيَة قَرِيبَة مِنْ مَكَّة أَكْثَرهَا فِي الْحَرَم ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيِّ " خَرَجَ عَام الْحُدَيْبِيَة يُرِيد زِيَارَة الْبَيْت لَا يُرِيد قِتَالًا " وَوَقَعَ عِنْد اِبْن سَعْد " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْم الِاثْنَيْنِ لِهِلَالِ ذِي الْقِعْدَة " زَادَ سُفْيَان عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي الرِّوَايَة الْآتِيَة فِي الْمَغَازِي وَكَذَا فِي رِوَايَة أَحْمَد عَنْ عَبْد الرَّزَّاق " فِي بِضْع عَشْرَة مِائَة ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَة قَلَّدَ الْهَدْي وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ ، وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَة " وَرَوَى عَبْد الْعَزِيز الْإِمَامِيّ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيث عِنْد اِبْن أَبِي شَيْبَة " خَرَجَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَلْف وَثَمَانمِائَةٍ ، وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَة يُدْعَى نَاجِيَة يَأْتِيه بِخَبَرِ قُرَيْش " كَذَا سَمَّاهُ نَاجِيَة ، وَالْمَعْرُوف أَنَّ نَاجِيَة اِسْم الَّذِي بَعَثَ مَعَهُ الْهَدْي كَمَا صَرَّحَ بِهِ اِبْن إِسْحَاق وَغَيْره ، وَأَمَّا الَّذِي بَعَثَهُ عَيْنًا لِخَبَرِ قُرَيْش فَاسْمه بُسْر بْن سُفْيَان كَذَا سَمَّاهُ اِبْن إِسْحَاق ، وَهُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَة وَسُكُون الْمُهْمَلَة عَلَى الصَّحِيح ، وَسَأَذْكُرُ الْخِلَاف فِي عَدَد أَهْل الْحُدَيْبِيَة فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيق )(4/453)
اِخْتَصَرَ الْمُصَنِّف صَدْر هَذَا الْحَدِيث الطَّوِيل مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسُقْهُ بِطُولِهِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِع ، وَبَقِيَّته عِنْده فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيق سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : " وَنَبَّأَنِيهِ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيِّ : وَسَارَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ أَتَاهُ عَيْنه فَقَالَ : إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا جُمُوعًا وَقَدْ جَمَعُوا لَك الْأَحَابِيش ، وَهُمْ مُقَاتِلُوك وَصَادُّوك عَنْ الْبَيْت وَمَانِعُوك . فَقَالَ : أَشِيرُوا أَيّهَا النَّاس عَلَيَّ ، أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيل إِلَى عِيَالهمْ وَذَرَارِيّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنْ الْبَيْت ، فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَطَعَ عَيْنًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، وَإِلَّا تَرَكْنَاهُمْ مَحْرُوبِينَ . قَالَ أَبُو بَكْر : يَا رَسُول اللَّه خَرَجْت عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْت لَا تُرِيد قَتْل أَحَد وَلَا حَرْب أَحَد ، تَوَجَّهَ لَهُ ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ . قَالَ : اِمْضُوا عَلَى اِسْم اللَّه " إِلَى هَاهُنَا سَاقَ الْبُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي مِنْ هَذَا الْوَجْه ، وَزَادَ أَحْمَد عَنْ عَبْد الرَّزَّاق وَسَاقَهُ اِبْن حِبَّانَ مِنْ طَرِيقه قَالَ : " قَالَ مَعْمَر قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول : مَا رَأَيْت أَحَدًا قَطّ كَانَ أَكْثَر مُشَاوَرَة لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا ه وَهَذَا الْقَدْر حَذَفَهُ الْبُخَارِيّ لِإِرْسَالِهِ لِأَنَّ الزُّهْرِيَّ لَمْ يَسْمَع مِنْ أَبِي هُرَيْرَة ، وَفِي رِوَايَة أَحْمَد الْمَذْكُورَة " حَتَّى إِذَا كَانُوا بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ قَرِيبًا مِنْ عُسْفَان " ا ه وَغَدِير بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَالْأَشْطَاط بِشِينٍ مُعْجَمَة وَطَاءَيْنِ مُهْمَلَتَيْنِ جَمْع شَطّ وَهُوَ جَانِب الْوَادِي كَذَا جَزَمَ بِهِ صَاحِب " الْمَشَارِق " ، وَوَقَعَ فِي بَعْض نُسَخ أَبِي ذَرّ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَة فِيهِمَا ، وَفِي رِوَايَة أَحْمَد أَيْضًا " أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيل إِلَى ذَرَارِيّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ فَنُصِيبهُمْ فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْرُوبِينَ ، وَإِنْ يَجِيئُوا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّه " وَنَحْوه لِابْنِ إِسْحَاق فِي رِوَايَته فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيِّ ، وَالْمُرَاد أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِسْتَشَارَ أَصْحَابه هَلْ يُخَالِف الَّذِينَ نَصَرُوا قُرَيْشًا إِلَى مَوَاضِعهمْ فَيَسْبِي أَهْلهمْ ، فَإِنْ جَاءُوا إِلَى نَصْرهمْ اِشْتَغَلُوا بِهِمْ وَانْفَرَدَ هُوَ وَأَصْحَابه بِقُرَيْشٍ ، وَذَلِكَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ : " تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّه " فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق بِتَرْكِ الْقِتَال وَالِاسْتِمْرَار عَلَى مَا خَرَجَ لَهُ مِنْ الْعُمْرَة حَتَّى يَكُون بَدْء الْقِتَال مِنْهُمْ ، فَرَجَعَ إِلَى رَأْيه . وَزَادَ أَحْمَد فِي رِوَايَته " فَقَالَ أَبُو بَكْر : اللَّه وَرَسُوله أَعْلَم يَا نَبِيّ اللَّه ، إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ إِلَخْ " وَالْأَحَابِيش بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة وَالْمُوَحَّدَة وَآخِره مُعْجَمَة وَاحِدهَا أُحْبُوش بِضَمَّتَيْنِ وَهُمْ بَنُو الْهَوْن بْن خُزَيْمَةَ بْن مُدْرِكَة وَبَنُو الْحَارِث بْن عَبْد مَنَاة بْن كِنَانَة وَبَنُو الْمُصْطَلِق مِنْ خُزَاعَة كَانُوا تَحَالَفُوا مَعَ قُرَيْش قِيلَ تَحْت جَبَل يُقَال لَهُ الْحَبَشِيّ أَسْفَل مَكَّة ، وَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِتَحَبُّشِهِمْ أَيْ تَجَمُّعهمْ وَالتَّحَبُّش التَّجَمُّع وَالْحُبَاشَة الْجَمَاعَة . وَرَوَى الْفَاكِهِيّ مِنْ طَرِيق عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي ثَابِت أَنَّ اِبْتِدَاء حِلْفهمْ مَعَ قُرَيْش كَانَ عَلَى يَد قُصَيّ بْن كِلَاب ، وَاتَّفَقَ الرُّوَاة عَلَى قَوْله : " فَإِنْ يَأْتُونَا " مِنْ الْإِتْيَان إِلَّا اِبْن السَّكَن فَعِنْده " فَإِنْ بَاتُّونَا " بِمُوَحَّدَةٍ ثُمَّ مُثَنَّاة مُشَدَّدَة وَالْأَوَّل أَوْلَى ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة أَحْمَد بِلَفْظِ الْمَجِيء ، وَوَقَعَ عِنْد اِبْن سَعْد " وَبَلَغَ الْمُشْرِكِينَ خُرُوجه فَأَجْمَعَ رَأْيهمْ عَلَى صَدّه عَنْ مَكَّة وَعَسْكَرُوا بِبَلْدَحَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَة بَيْنهمَا لَام سَاكِنَة ثُمَّ حَاء مُهْمَلَة مَوْضِع خَارِج مَكَّة " .
قَوْله : ( قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ خَالِد بْن الْوَلِيد بِالْغَمِيمِ فِي خَيْل لِقُرَيْشٍ طَلِيعَة )(4/454)
فِي رِوَايَة الْإِمَامِيّ " فَقَالَ لَهُ عَيْنه : هَذَا خَالِد بْن الْوَلِيد بِالْغَمِيمِ " وَالْغَمِيم بِفَتْحِ الْمُعْجَمَة وَحَكَى عِيَاض فِيهَا التَّصْغِير ، قَالَ الْمُحِبّ الطَّبَرِيُّ . يَظْهَر أَنَّ الْمُرَاد كُرَاع الْغَمِيم وَهُوَ مَوْضِع بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة ا ه ، وَسِيَاق الْحَدِيث ظَاهِر فِي أَنَّهُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْحُدَيْبِيَة فَهُوَ غَيْر كُرَاع الْغَمِيم الَّذِي وَقَعَ ذِكْره فِي الصِّيَام وَهُوَ الَّذِي بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة ، وَأَمَّا الْغَمِيم هَذَا فَقَالَ اِبْن حَبِيب . هُوَ قَرِيب مِنْ مَكَان بَيْن رَابِغ وَالْجُحْفَة ، وَقَدْ وَقَعَ فِي شِعْر جَرِير وَالشَّمَّاخ بِصِيغَةِ التَّصْغِير وَاَللَّه أَعْلَم . وَبَيَّنَ اِبْن سَعْد أَنَّ خَالِدًا كَانَ فِي مِائَتَيْ فَارِس فِيهِمْ عِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل ، وَالطَّلِيعَة مُقَدِّمَة الْجَيْش .
قَوْله : ( فَخُذُوا ذَات الْيَمِين )
أَيْ الطَّرِيق الَّتِي فِيهَا خَالِد وَأَصْحَابه .
قَوْله : ( حَتَّى إِذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْش فَانْطَلَقَ يَرْكُض نَذِيرًا )
الْقَتَرَة بِفَتْحِ الْقَاف وَالْمُثَنَّاة الْغُبَار الْأَسْوَد .
قَوْله : ( وَسَارَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ )
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ يُخْرِجنَا عَلَى طَرِيق غَيْر طَرِيقهمْ الَّتِي هُمْ بِهَا ؟ قَالَ : فَحَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر بْن حَزْم أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ : أَنَا يَا رَسُول اللَّه ، فَسَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا وَعْرًا فَأُخْرِجُوا مِنْهَا بَعْد أَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ ، وَأَفْضَوْا إِلَى أَرْض سَهْلَة ، فَقَالَ لَهُمْ : اِسْتَغْفِرُوا اللَّه ، فَفَعَلُوا . فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لِلْحِطَّةِ الَّتِي عَرَضَتْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل فَامْتَنَعُوا " قَالَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي حَدِيثه " فَقَالَ : اُسْلُكُوا ذَات الْيَمِين بَيْن ظَهْرَيْ الْحَمْض فِي طَرِيق تُخْرِجهُ عَلَى ثَنِيَّة الْمِرَار مَهْبِط الْحُدَيْبِيَة " ا ه . وَثَنِيَّة الْمِرَار بِكَسْرِ الْمِيم وَتَخْفِيف الرَّاء هِيَ طَرِيق فِي الْجَبَل تُشْرِف عَلَى الْحُدَيْبِيَة . وَزَعَمَ الدَّاوُدِيّ الشَّارِح أَنَّهَا الثَّنِيَّة الَّتِي أَسْفَل مَكَّة ، وَهُوَ وَهْم ، وَسُمِّيَ اِبْن سَعْد الَّذِي سَلَكَ بِهِمْ حَمْزَة بْن عَمْرو الْأَسْلَمِي ، وَفِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة فَقَالَ " مَنْ رَجُل يَأْخُذ بِنَا عَنْ يَمِين الْمَحَجَّة نَحْو سَيْف الْبَحْر لَعَلَّنَا نَطْوِي مُسَلَّحَة الْقَوْم ، وَذَلِكَ مِنْ اللَّيْل ، فَنَزَلَ رَجُل عَنْ دَابَّته " فَذَكَرَ الْقِصَّة .
قَوْله : ( بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَته ، فَقَالَ النَّاس : حَلْ حَلْ )
بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون اللَّام . كَلِمَة تُقَال لِلنَّاقَةِ إِذَا تَرَكَتْ السَّيْر ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : إِنْ قُلْت حَلْ وَاحِدَة فَالسُّكُون ، وَإِنْ أَعَدْتهَا نَوَّنْت فِي الْأُولَى وَسَكَّنْت فِي الثَّانِيَة ، وَحَكَى غَيْره السُّكُون فِيهِمَا وَالتَّنْوِين كَنَظِيرِهِ فِي بَخٍ بَخٍ ، يُقَال حَلْحَلْت فُلَانًا إِذَا أَزْعَجْته عَنْ مَوْضِعه .
قَوْله : ( فَأَلَحَّتْ )
بِتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَة أَيْ تَمَادَتْ عَلَى عَدَم الْقِيَام وَهُوَ مِنْ الْإِلْحَاح .
قَوْله : ( خَلَأَتْ الْقَصْوَاء )
الْخَلَاء بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمَدّ لِلْإِبِلِ كَالْحِرَانِ لِلْخَيْلِ ، وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة : لَا يَكُون الْخَلَاء إِلَّا لِلنُّوقِ خَاصَّة . وَقَالَ اِبْن فَارِس : لَا يُقَال لِلْجَمَلِ خَلَأَ لَكِنْ أَلَحَّ . وَالْقَصْوَاء بِفَتْحِ الْقَاف بَعْدهَا مُهْمَلَة وَمَدّ . اِسْم نَاقَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقِيلَ كَانَ طَرَف أُذُنهَا مَقْطُوعًا ، وَالْقَصْو قَطْع طَرَف الْأُذُن يُقَال : بَعِير أَقْصَى وَنَاقَة قُصْوَى ، وَكَانَ الْقِيَاس أَنْ يَكُون بِالْقَصْرِ ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي بَعْض نُسَخ أَبِي ذَرّ ، وَزَعَمَ الدَّاوُدِيّ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُسْبَق فَقِيلَ لَهَا الْقَصْوَاء لِأَنَّهَا بَلَغَتْ مِنْ السَّبْق أَقْصَاهُ .
قَوْله : ( وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ )(4/455)
أَيْ بِعَادَةٍ ، قَالَ اِبْن بَطَّال وَغَيْره : فِي هَذَا الْفَصْل جَوَاز الِاسْتِتَار عَنْ طَلَائِع الْمُشْرِكِينَ وَمُفَاجَأَتهمْ بِالْجَيْشِ طَلَبًا لِغِرَّتِهِمْ ، وَجَوَاز السَّفَر وَحْده لِلْحَاجَةِ وَجَوَاز التَّنْكِيب عَنْ الطَّرِيق السَّهْلَة إِلَى الْوَعِرَة لِلْمَصْلَحَةِ ، وَجَوَاز الْحُكْم عَلَى الشَّيْء بِمَا عُرِفَ مِنْ عَادَته وَإِنْ جَازَ أَنْ يَطْرَأ عَلَيْهِ غَيْره ، فَإِذَا وَقَعَ مِنْ شَخْص هَفْوَة لَا يُعْهَد مِنْهُ مِثْلهَا لَا يُنْسَب إِلَيْهَا وَيُرَدّ عَلَى مَنْ نَسَبَهُ إِلَيْهَا ، وَمَعْذِرَة مَنْ نَسَبَهُ إِلَيْهَا مِمَّنْ لَا يَعْرِف صُورَة حَاله ، لِأَنَّ خَلَاء الْقَصْوَاء لَوْلَا خَارِق الْعَادَة لَكَانَ مَا ظَنَّهُ الصَّحَابَة صَحِيحًا وَلَمْ يُعَاتِبهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ لِعُذْرِهِمْ فِي ظَنّهمْ ، قَالَ : وَفِيهِ جَوَاز التَّصَرُّف فِي مِلْك الْغَيْر بِالْمَصْلَحَةِ بِغَيْرِ إِذْنه الصَّرِيح إِذَا كَانَ سَبَقَ مِنْهُ مَا يَدُلّ عَلَى الرِّضَا بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا حَلْ حَلْ فَزَجَرُوهَا بِغَيْرِ إِذْن ، وَلَمْ يُعَاتِبهُمْ عَلَيْهِ .
قَوْله : ( حَبَسَهَا حَابِس الْفِيل )
زَادَ إِسْحَاق فِي رِوَايَته " عَنْ مَكَّة " أَيْ حَبَسَهَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ دُخُول مَكَّة كَمَا حَبَسَ الْفِيل عَنْ دُخُولهَا . وَقِصَّة الْفِيل مَشْهُورَة سَتَأْتِي الْإِشَارَة إِلَيْهَا فِي مَكَانهَا ، وَمُنَاسَبَة ذِكْرهَا أَنَّ الصَّحَابَة لَوْ دَخَلُوا مَكَّة عَلَى تِلْكَ الصُّورَة وَصَدَّهُمْ قُرَيْش عَنْ ذَلِكَ لَوَقَعَ بَيْنهمْ قِتَال قَدْ يُفْضِي إِلَى سَفْك الدِّمَاء وَنَهْب الْأَمْوَال كَمَا لَوْ قُدِّرَ دُخُول الْفِيل وَأَصْحَابه مَكَّة ، لَكِنْ سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه تَعَالَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّهُ سَيَدْخُلُ فِي الْإِسْلَام خَلْق مِنْهُمْ ، وَيُسْتَخْرَج مِنْ أَصْلَابهمْ نَاس يُسْلِمُونَ وَيُجَاهِدُونَ ، وَكَانَ بِمَكَّة فِي الْحُدَيْبِيَة جَمْع كَثِير مُؤْمِنُونَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَان ، فَلَوْ طَرَقَ الصَّحَابَة مَكَّة لَمَا أَمِنَ أَنْ يُصَاب نَاس مِنْهُمْ بِغَيْرِ عَمْد كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَعَالَى فِي قَوْله : ( وَلَوْلَا رِجَال مُؤْمِنُونَ ) الْآيَة ، وَوَقَعَ لَلْمُهَلَّب اِسْتِبْعَاد جَوَاز هَذِهِ الْكَلِمَة وَهِيَ " حَابِس الْفِيل " عَلَى اللَّه تَعَالَى فَقَالَ : الْمُرَاد حَبَسَهَا أَمْر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَجُوز إِطْلَاق ذَلِكَ فِي حَقّ اللَّه فَيُقَال حَبَسَهَا اللَّه حَابِس الْفِيل وَإِنَّمَا الَّذِي يُمْكِن أَنْ يَمْنَع تَسْمِيَته سُبْحَانه وَتَعَالَى حَابِس الْفِيل وَنَحْوه ، كَذَا أَجَابَ اِبْن الْمُنِير ، وَهُوَ مَبْنِيّ عَلَى الصَّحِيح مِنْ أَنَّ الْأَسْمَاء تَوْقِيفِيَّة . وَقَدْ تَوَسَّطَ الْغَزَالِيّ وَطَائِفَة فَقَالُوا : مَحَلّ الْمَنْع مَا لَمْ يَرِد نَصّ بِمَا يُشْتَقْ مِنْهُ ، شَرْط أَنْ لَا يَكُون ذَلِكَ الِاسْم الْمُشْتَقّ مُشْعِرًا بِنَقْصٍ ، فَيَجُوز تَسْمِيَته الْوَاقِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ فَقَدْ رَحِمْته ) وَلَا يَجُوز تَسْمِيَته الْبِنَاء وَإِنْ وَرَدَ قَوْله تَعَالَى : ( وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ) .
وَفِي هَذِهِ الْقِصَّة جَوَاز التَّشْبِيه مِنْ الْجِهَة الْعَامَّة وَإِنْ اِخْتَلَفَتْ الْجِهَة الْخَاصَّة ، لِأَنَّ أَصْحَاب الْفِيل كَانُوا عَلَى بَاطِل مَحْض وَأَصْحَاب هَذِهِ النَّاقَة كَانُوا عَلَى حَقّ مَحْض ، لَكِنْ جَاءَ التَّشْبِيه مِنْ جِهَة إِرَادَة اللَّه مَنْع الْحَرَم مُطْلَقًا ، أَمَّا مِنْ أَهْل الْبَاطِل فَوَاضِح ، وَأَمَّا مِنْ أَهْل الْحَقّ فَلِلْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْره . وَفِيهِ ضَرْب الْمَثَل وَاعْتِبَار مَنْ بَقِيَ بِمَنْ مَضَى ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ : مَعْنَى تَعْظِيم حُرُمَات اللَّه فِي هَذِهِ الْقِصَّة تَرْك الْقِتَال فِي الْحَرَم ، وَالْجُنُوح إِلَى الْمُسَالَمَة وَالْكَفّ عَنْ إِرَاقَة الدِّمَاء . وَاسْتَدَلَّ بَعْضهمْ بِهَذِهِ الْقِصَّة لِمَنْ قَالَ مِنْ الصُّوفِيَّة : عَلَامَة الْإِذْن التَّيْسِير وَعَكْسه ، وَفِيهِ نَظَر .
قَوْله : ( وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ )
فِيهِ تَأْكِيد الْقَوْل بِالْيَمِينِ فَيَكُون أَدْعَى إِلَى الْقَبُول ، وَقَدْ حُفِظَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَلِف فِي أَكْثَر مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا قَالَهُ اِبْن الْقَيِّم فِي الْهَدْي .
قَوْله : ( لَا يَسْأَلُونَنِي خُطَّة )
بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة أَيْ خَصْلَة(4/456)
( يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَات اللَّه )
أَيْ مِنْ تَرْك الْقِتَال فِي الْحَرَم ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَة الرَّحِم " وَهِيَ مِنْ جُمْلَة حُرُمَات اللَّه ، وَقِيلَ الْمُرَاد بِالْحُرُمَاتِ حُرْمَة الْحَرَم وَالشَّهْر وَالْإِحْرَام ، قُلْت : وَفِي الثَّالِث نَظَر لِأَنَّهُمْ لَوْ عَظَّمُوا الْإِحْرَام مَا صَدُّوهُ .
قَوْله : ( إِلَّا أَعْطَيْتهمْ إِيَّاهَا )
أَيْ أَجَبْتهمْ إِلَيْهَا ، قَالَ السُّهَيْلِيّ : لَمْ يَقَع فِي شَيْء مِنْ طُرُق الْحَدِيث أَنَّهُ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّه مَعَ أَنَّهُ مَأْمُور بِهَا فِي كُلّ حَالَة ، وَالْجَوَاب أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا وَاجِبًا حَتْمًا فَلَا يَحْتَاج فِيهِ إِلَى الِاسْتِثْنَاء ، كَذَا قَالَ . وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّة : ( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِد الْحَرَام إِنْ شَاءَ اللَّه آمِنِينَ ) فَقَالَ : ( إِنْ شَاءَ اللَّه ) مَعَ تَحَقُّق وُقُوع ذَلِكَ تَعْلِيمًا وَإِرْشَادًا ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَل عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاء سَقَطَ مِنْ الرَّاوِي أَوْ كَانَتْ الْقِصَّة قَبْل نُزُول الْأَمْر بِذَلِكَ ، وَلَا يُعَارِضهُ كَوْن الْكَهْف مَكِّيَّة إِذْ لَا مَانِع أَنْ يَتَأَخَّر نُزُول بَعْض السُّورَة .
قَوْله : ( ثُمَّ زَجَرَهَا )
أَيْ النَّاقَة
( فَوَثَبَتْ )
أَيْ قَامَتْ .
قَوْله : ( فَعَدَلَ عَنْهُمْ )
فِي رِوَايَة اِبْن سَعْد " فَوَلَّى رَاجِعًا " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَقَالَ لِلنَّاسِ اِنْزِلُوا . قَالُوا يَا رَسُول اللَّه مَا بِالْوَادِي مِنْ مَاء نَنْزِل عَلَيْهِ " .
قَوْله : ( عَلَى ثَمَد )
بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَة وَالْمِيم أَيْ حُفَيْرَة فِيهَا مَاء مَثْمُود أَيْ قَلِيل ، وَقَوْله : " قَلِيل الْمَاء " تَأْكِيد لِدَفْعِ تَوَهُّم أَنْ يُرَاد لُغَة مَنْ يَقُول إِنَّ الثَّمَد الْمَاء الْكَثِير ، وَقِيلَ الثَّمَد مَا يَظْهَر مِنْ الْمَاء فِي الشِّتَاء وَيَذْهَب فِي الصَّيْف .
قَوْله : ( يَتَبَرَّضهُ النَّاس )
بِالْمُوَحَّدَةِ وَالتَّشْدِيد وَالضَّاد الْمُعْجَمَة هُوَ الْأَخْذ قَلِيلًا قَلِيلًا ، وَالْبَرْض بِالْفَتْحِ وَالسُّكُون الْيَسِير مِنْ الْعَطَاء ، وَقَالَ صَاحِب الْعَيْن : هُوَ جَمْع الْمَاء بِالْكَفَّيْنِ ، وَذَكَرَ أَبُو الْأَسْوَد فِي رِوَايَته عَنْ عُرْوَة " وَسَبَقَتْ قُرَيْش إِلَى الْمَاء فَنَزَلُوا عَلَيْهِ ، وَنَزَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُدَيْبِيَة فِي حَرّ شَدِيد وَلَيْسَ بِهَا إِلَّا بِئْر وَاحِدَة " فَذَكَرَ الْقِصَّة .
قَوْله : ( فَلَمْ يُلْبِثهُ )
بِضَمِّ أَوَّله وَسُكُون اللَّام مِنْ الْإِلْبَاث ، وَقَالَ اِبْن التِّين : بِفَتْحِ اللَّام وَكَسْر الْمُوَحَّدَة الثَّقِيلَة أَيْ لَمْ يَتْرُكُوهُ يَلْبَث أَيْ يُقِيم .
قَوْله : ( وَشُكِيَ )
بِضَمِّ أَوَّله عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجْهُولِ .
قَوْله : ( فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَته )
أَيْ أَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ جَعْبَته .
قَوْله : ( ثُمَّ أَمَرَهُمْ )(4/457)
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم عَنْ رِجَال مِنْ أَسْلَمَ أَنَّ نَاجِيَة بْن جُنْدُب الَّذِي سَاقَ الْبُدْن هُوَ الَّذِي نَزَلَ بِالسَّهْمِ ، وَأَخْرَجَهُ اِبْن سَعْد مِنْ طَرِيق سَلَمَة بْن الْأَكْوَع ، وَفِي رِوَايَة نَاجِيَة بْن الْأَعْجَم ، قَالَ اِبْن إِسْحَاق " وَزَعَمَ بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّهُ الْبَرَاء بْن عَازِب " وَرَوَى الْوَاقِدِيّ مِنْ طَرِيق خَالِد بْن عُبَادَةَ الْغِفَارِيِّ قَالَ : " أَنَا الَّذِي نَزَلْت بِالسَّهْمِ " وَيُمْكِن الْجَمْع بِأَنَّهُمْ تَعَاوَنُوا عَلَى ذَلِكَ بِالْحَفْرِ وَغَيْره ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي مِنْ حَدِيث الْبَرَاء بْن عَازِب فِي قِصَّة الْحُدَيْبِيَة " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى الْبِئْر ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فَمَضْمَضَ وَدَعَا اللَّه ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا ثُمَّ قَالَ : دَعُوهَا سَاعَة . ثُمَّ إِنَّهُمْ اِرْتَوَوْا بَعْد ذَلِكَ " وَيُمْكِن الْجَمْع بِأَنْ يَكُون الْأَمْرَانِ مَعًا وَقَعَا . وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيّ مِنْ طَرِيق أَوْس بْن خَوْلِيّ " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فِي الدَّلْو ثُمَّ أَفْرَغَهُ فِيهَا وَانْتَزَعَ السَّهْم فَوَضَعَهُ فِيهَا " وَهَكَذَا ذَكَرَ أَبُو الْأَسْوَد فِي رِوَايَته عَنْ عُرْوَة " أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَضْمَضَ فِي دَلْو وَصَبَّهُ فِي الْبِئْر وَنَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَته فَأَلْقَاهُ فِيهَا وَدَعَا فَفَارَتْ " وَهَذِهِ الْقِصَّة غَيْر الْقِصَّة الْآتِيَة فِي الْمَغَازِي أَيْضًا مِنْ حَدِيث جَابِر قَالَ : " عَطِشَ النَّاس بِالْحُدَيْبِيَةِ وَبَيْن يَدَيْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْوَة فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَوَضَعَ يَده فِيهَا ، فَجَعَلَ الْمَاء يَفُور مِنْ بَيْن أَصَابِعه " الْحَدِيث ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْل قِصَّة الْبِئْر وَاَللَّه أَعْلَم . وَفِي هَذَا الْفَصْل مُعْجِزَات ظَاهِرَة ، وَفِيهِ بَرَكَة سِلَاحه وَمَا يُنْسَب إِلَيْهِ ، وَقَدْ وَقَعَ نَبْع الْمَاء مِنْ بَيْن أَصَابِعه فِي عِدَّة مَوَاطِن غَيْر هَذِهِ ، وَسَيَأْتِي فِي أَوَّل غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة حَدِيث زَيْد بْن خَالِد " أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَطَر بِالْحُدَيْبِيَةِ " الْحَدِيث ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ بَعْد الْقِصَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( يَجِيش )
بِفَتْحِ أَوَّله وَكَسْر الْجِيم وَآخِره مُعْجَمَة أَيْ يَفُور ،
وَقَوْله : ( بِالرِّيِّ )
بِكَسْرِ الرَّاء وَيَجُوز فَتْحهَا .
وَقَوْله : ( صَدَرُوا عَنْهُ )
أَيْ رَجَعُوا رُوَاء بَعْد وِرْدهمْ . زَادَ اِبْن سَعْد " حَتَّى اِغْتَرَفُوا بِآنِيَتِهِمْ جُلُوسًا عَلَى شَفِير الْبِئْر " وَكَذَا فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة .
قَوْله : ( فَبَيْنَمَا هُمْ )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " فَبَيْنَا هُمْ "
( كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ بُدَيْل )
بِالْمُوَحَّدَةِ وَالتَّصْغِير أَيْ اِبْن وَرْقَاء بِالْقَافِ وَالْمَدّ صَحَابِيّ مَشْهُور .
قَوْله : ( فِي نَفَر مِنْ قَوْمه )
سَمَّى الْوَاقِدِيّ مِنْهُمْ عَمْرو بْن سَالِم وَخِرَاش بْن أُمَيَّة ، وَفِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " مِنْهُمْ خَارِجَة بْن كُرْز وَيَزِيد بْن أُمَيَّة " .
قَوْله : ( وَكَانُوا عَيْبَة نُصْح )
الْعَيْبَة بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا مُوَحَّدَة مَا تُوضَع فِيهِ الثِّيَاب لِحِفْظِهَا ، أَيْ أَنَّهُمْ مَوْضِع النُّصْح لَهُ وَالْأَمَانَة عَلَى سِرّه ، وَنُصْح بِضَمِّ النُّون وَحَكَى اِبْن التِّين فَتْحهَا كَأَنَّهُ شَبَّهَ الصَّدْر الَّذِي هُوَ مُسْتَوْدَع السِّرّ بِالْعَيْبَةِ الَّتِي هِيَ مُسْتَوْدَع الثِّيَاب .
وَقَوْله : ( مِنْ أَهْل تِهَامَة )(4/458)
لِبَيَانِ الْجِنْس ، لِأَنَّ خُزَاعَة كَانُوا مِنْ جُمْلَة أَهْل تِهَامَة وَتِهَامَة بِكَسْرِ الْمُثَنَّاة هِيَ مَكَّة وَمَا حَوْلهَا ، وَأَصْلهَا مِنْ التَّهَم وَهُوَ شِدَّة الْحَرّ وَرُكُود الرِّيح وَزَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته " وَكَانَتْ خُزَاعَة عَيْبَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمهَا وَمُشْرِكهَا لَا يُخْفُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا كَانَ بِمَكَّة " وَوَقَعَ عِنْد الْوَاقِدِيّ " أَنَّ بُدَيْلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ غَزَوْت وَلَا سِلَاح مَعَك ، فَقَالَ : لَمْ نَجِئْ لِقِتَالٍ . فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْر ، فَقَالَ لَهُ بُدَيْل : أَنَا لَا أَتَّهِم وَلَا قَوْمِي ا ه " وَكَانَ الْأَصْل فِي مُوَالَاة خُزَاعَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَنِي هَاشِم فِي الْجَاهِلِيَّة كَانُوا تَحَالَفُوا مَعَ خُزَاعَة فَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي الْإِسْلَام . وَفِيهِ جَوَاز اِسْتِنْصَاح بَعْض الْمُعَاهَدِينَ وَأَهْل الذِّمَّة إِذَا دَلَّتْ الْقَرَائِن عَلَى نُصْحهمْ وَشَهِدَتْ التَّجْرِبَة بِإِيثَارِهِمْ أَهْل الْإِسْلَام عَلَى غَيْرهمْ وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْل دِينهمْ ، وَيُسْتَفَاد مِنْهُ جَوَاز اِسْتِنْصَاح بَعْض مُلُوك الْعَدُوّ اِسْتِظْهَارًا عَلَى غَيْرهمْ ، وَلَا يُعَدّ ذَلِكَ مِنْ مُوَالَاة الْكُفَّار وَلَا مُوَادَّة أَعْدَاء اللَّه بَلْ مِنْ قَبِيل اِسْتِخْدَامهمْ وَتَقْلِيل شَوْكَة جَمْعهمْ وَإِنْكَاء بَعْضهمْ بِبَعْضٍ ، وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ جَوَاز الِاسْتِعَانَة بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْإِطْلَاق .
قَوْله : ( فَقَالَ : إِنِّي تَرَكْت كَعْب بْن لُؤَيّ وَعَامِر بْن لُؤَيّ )
إِنَّمَا اِقْتَصَرَ عَلَى ذِكْر هَذَيْنِ لِكَوْنِ قُرَيْش الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّة أَجْمَع تَرْجِع أَنْسَابهمْ إِلَيْهِمَا ، وَبَقِيَ مِنْ قُرَيْش بَنُو سَامَة بْن لُؤَيّ وَبَنُو عَوْف بْن لُؤَيّ وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّة مِنْهُمْ أَحَد ، وَكَذَلِكَ قُرَيْش الظَّوَاهِر الَّذِينَ مِنْهُمْ بَنُو تَيْم بْن غَالِب وَمُحَارِب بْن فِهْر . قَالَ هِشَام بْن الْكَلْبِيّ : بَنُو عَامِر بْن لُؤَيّ وَكَعْب بْن لُؤَيّ هُمَا الصَّرِيحَانِ لَا شَكَّ فِيهِمَا ، بِخِلَافِ سَامَة وَعَوْف أَيْ فَفِيهِمَا الْخَلَف . قَالَ وَهُمْ قُرَيْش الْبِطَاح ، أَيْ بِخِلَافِ قُرَيْش الظَّوَاهِر . وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح " وَجَمَعُوا لَك الْأَحَابِيش " بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَمُوَحَّدَة ثُمَّ شِين مُعْجَمَة وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ التَّحَبُّش وَهُوَ التَّجَمُّع .
قَوْله : ( نَزَلُوا أَعْدَاد مِيَاه الْحُدَيْبِيَة )
الْأَعْدَاد بِالْفَتْحِ جَمْع عِدّ بِالْكَسْرِ وَالتَّشْدِيد وَهُوَ الْمَاء الَّذِي لَا اِنْقِطَاع لَهُ ، وَغَفَلَ الدَّاوُدِيّ فَقَالَ هُوَ مَوْضِع بِمَكَّة ، وَقَوْل بُدَيْل هَذَا يُشْعِر بِأَنَّهُ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ مِيَاه كَثِيرَة وَأَنَّ قُرَيْشًا سَبَقُوا إِلَى النُّزُول عَلَيْهَا فَلِهَذَا عَطِشَ الْمُسْلِمُونَ حَيْثُ نَزَلُوا عَلَى الثَّمَد الْمَذْكُور .
قَوْله : ( وَمَعَهُمْ الْعُوذ الْمَطَافِيل )
الْعُوذ بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْوَاو بَعْدهَا مُعْجَمَة جَمْع عَائِذ وَهِيَ النَّاقَة ذَات اللَّبَن ، وَالْمَطَافِيل الْأُمَّهَات اللَّاتِي مَعَهَا أَطْفَالهَا ، يُرِيد أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَهُمْ بِذَوَاتِ الْأَلْبَان مِنْ الْإِبِل لِيَتَزَوَّدُوا بِأَلْبَانِهَا وَلَا يَرْجِعُوا حَتَّى يَمْنَعُوهُ ، أَوْ كَنَّى بِذَلِكَ عَنْ النِّسَاء مَعَهُنَّ الْأَطْفَال ، وَالْمُرَاد أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْهُمْ بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلَادهمْ لِإِرَادَةِ طُول الْمَقَام وَلِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى عَدَم الْفِرَار ، وَيَحْتَمِل إِرَادَة الْمَعْنَى الْأَعَمّ ، قَالَ اِبْن فَارِس . كُلّ أُنْثَى إِذَا وَضَعَتْ فَهِيَ إِلَى سَبْعَة أَيَّام عَائِذ وَالْجَمْع عُوذ كَأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَعُوذ وَلَدهَا وَتَلْزَم الشُّغْل بِهِ ، وَقَالَ السُّهَيْلِيّ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْوَلَد هُوَ الَّذِي يَعُوذ بِهَا لِأَنَّهَا تَعْطِف عَلَيْهِ بِالشَّفَقَةِ وَالْحُنُوّ ، كَمَا قَالُوا تِجَارَة رَابِحَة وَإِنْ كَانَتْ مَرْبُوحًا فِيهَا . وَوَقَعَ عِنْد اِبْن سَعْد " مِنْهُمْ الْعُوذ الْمَطَافِيل وَالنِّسَاء وَالصِّبْيَان " .
قَوْله : ( نَهِكَتْهُمْ )
بِفَتْحِ أَوَّله وَكَسْر الْهَاء ، أَيْ أَبْلَغَتْ فِيهِمْ حَتَّى أَضْعَفَتْهُمْ ، إِمَّا أَضْعَفَتْ قُوَّتهمْ وَإِمَّا أَضْعَفَتْ أَمْوَالهمْ .
قَوْله : ( مَادَدْتهمْ )(4/459)
أَيْ جَعَلْت بَيْنِي وَبَيْنهمْ مُدَّة يُتْرَك الْحَرْب بَيْننَا وَبَيْنهمْ فِيهَا .
قَوْله : ( وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْن النَّاس )
أَيْ مِنْ كُفَّار الْعَرَب وَغَيْرهمْ .
قَوْله : ( فَإِنْ أَظْهَر فَإِنْ شَاءُوا )
هُوَ شَرْط بَعْد الشَّرْط وَالتَّقْدِير فَإِنْ ظَهَرَ غَيْرهمْ عَلَيَّ كَفَاهُمْ الْمَئُونَة ، وَإِنْ أَظْهَر أَنَا عَلَى غَيْرهمْ فَإِنْ شَاءُوا أَطَاعُونِي وَإِلَّا فَلَا تَنْقَضِي مُدَّة الصُّلْح إِلَّا وَقَدْ جَمُّعُوا ، أَيْ اِسْتَرَاحُوا ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيم وَتَشْدِيد الْمِيم الْمَضْمُومَة أَيْ قَوُوا . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوَّة " وَإِنَّمَا رَدَّدَ الْأَمْر مَعَ أَنَّهُ جَازِم بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى سَيَنْصُرُهُ وَيُظْهِرهُ لِوَعْدِ اللَّه تَعَالَى لَهُ بِذَلِكَ ، عَلَى طَرِيق التَّنَزُّل مَعَ الْخَصْم وَفَرْض الْأَمْر عَلَى مَا زَعَمَ الْخَصْم ، وَلِهَذِهِ النُّكْتَة حَذَفَ الْقِسْم الْأَوَّل وَهُوَ التَّصْرِيح بِظُهُورِ غَيْره عَلَيْهِ ، لَكِنْ وَقَعَ التَّصْرِيح بِهِ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق وَلَفْظه " فَإِنْ أَصَابُونِي كَانَ الَّذِي أَرَادُوا " وَلِابْنِ عَائِذ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ الزُّهْرِيِّ " فَإِنْ ظَهَرَ النَّاس عَلَيَّ فَذَلِكَ الَّذِي يَبْتَغُونَ " فَالظَّاهِر أَنَّ الْحَذْف وَقَعَ مِنْ بَعْض الرُّوَاة تَأَدُّبًا .
قَوْله : ( حَتَّى تَنْفَرِد سَالِفَتِي )
السَّالِفَة بِالْمُهْمَلَةِ وَكَسْر اللَّام بَعْدهَا فَاء صَفْحَة الْعُنُق ، وَكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ الْقَتْل لِأَنَّ الْقَتِيل تَنْفَرِد مُقَدِّمَة عُنُقه . وَقَالَ الدَّاوُدِيّ : الْمُرَاد الْمَوْت أَيْ حَتَّى أَمُوت وَأَبْقَى مُنْفَرِدًا فِي قَبْرِي . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَرَادَ أَنَّهُ يُقَاتِل حَتَّى يَنْفَرِد وَحْده فِي مُقَاتَلَتهمْ . وَقَالَ اِبْن الْمُنِير : لَعَلَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى ، أَيْ إِنَّ لِي مِنْ الْقُوَّة بِاَللَّهِ وَالْحَوْل بِهِ مَا يَقْتَضِي أَنْ أُقَاتِل عَنْ دِينه لَوْ اِنْفَرَدْت ، فَكَيْفَ لَا أُقَاتِل عَنْ دِينه مَعَ وُجُود الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَتهمْ وَنَفَاذ بَصَائِرهمْ فِي نَصْر دِين اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( وَلَيُنْفِذَنَّ )
بِضَمِّ أَوَّله وَكَسْر الْفَاء أَيْ لَيُمْضِيَنَّ
( اللَّه أَمْره )
فِي نَصْر دِينه . وَحَسُنَ الْإِتْيَان بِهَذَا الْجَزْم - بَعْد ذَلِكَ التَّرَدُّد - لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُورِدهُ إِلَّا عَلَى سَبِيل الْفَرْض . وَفِي هَذَا الْفَصْل النَّدْب إِلَى صِلَة الرَّحِم ، وَالْإِبْقَاء عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلهَا ، وَبَذْل النَّصِيحَة لِلْقَرَابَةِ ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقُوَّة وَالثَّبَات فِي تَنْفِيذ حُكْم اللَّه وَتَبْلِيغ أَمْره .
قَوْله : ( فَقَالَ بُدَيْل سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُول )
أَيْ فَأَذِنَ لَهُ .
قَوْله : ( فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ )
سَمَّى الْوَاقِدِيّ مِنْهُمْ عِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل وَالْحَكَم بْن أَبِي الْعَاصِ .
قَوْله : ( فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ )
زَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته " فَقَالَ لَهُمْ بُدَيْل : إِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمَّد ، إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ ، إِنَّمَا جَاءَ مُعْتَمِرًا . فَاتَّهَمُوهُ - أَيْ اِتَّهَمُوا بُدَيْلًا ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ مَيْله إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا إِنْ كَانَ كَمَا تَقُول فَلَا يَدْخُلهَا عَلَيْنَا عَنْوَة " .
قَوْله : ( فَقَامَ عُرْوَة )(4/460)
فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة عِنْد الْحَاكِم فِي " الْإِكْلِيل " وَالْبَيْهَقِيِّ فِي " الدَّلَائِل " وَذَكَرَ ذَلِكَ اِبْن إِسْحَاق أَيْضًا مِنْ وَجْه آخَر " قَالُوا لَمَّا نَزَلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ أَحَبَّ أَنْ يَبْعَث رَجُلًا مِنْ أَصْحَابه إِلَى قُرَيْش يُعْلِمهُمْ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَدِمَ مُعْتَمِرًا ، فَدَعَا عُمَر فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ لَا عَشِيرَة لَهُ بِمَكَّة ، فَدَعَا عُثْمَان فَأَرْسَلَهُ بِذَلِكَ . وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْلِم مَنْ بِمَكَّة مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الْفَرَج قَرِيب ، فَأَعْلَمهُمْ عُثْمَان بِذَلِكَ ، فَحَمَلَهُ أَبَان بْن سَعِيد بْن الْعَاصِ عَلَى فَرَسه - فَذَكَرَ الْقِصَّة - فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : هَنِيئًا لِعُثْمَان ، خَلَصَ إِلَى الْبَيْت فَطَافَ بِهِ دُوننَا ، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ ظَنِّي بِهِ أَنْ لَا يَطُوف حَتَّى نَطُوف مَعًا . فَكَانَ كَذَلِكَ . قَالَ : ثُمَّ جَاءَ عُرْوَة بْن مَسْعُود " فَذَكَرَ الْقِصَّة . وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق أَنَّ مَجِيء عُرْوَة كَانَ قَبْل ذَلِكَ ، وَذَكَرَهَا مُوسَى بْن عُقْبَةَ فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيِّ ، وَكَذَا أَبُو الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة قَبْل قِصَّة مَجِيء سُهَيْل بْن عَمْرو ، فَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( فَقَامَ عُرْوَة بْن مَسْعُود )
أَيْ اِبْن مُعَتِّب بِضَمِّ أَوَّله وَفَتْح الْمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الْمُثَنَّاة الْمَكْسُورَة بَعْدهَا مُوَحَّدَة الثَّقَفِيّ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق عِنْد أَحْمَد عُرْوَة بْن عَمْرو بْن مَسْعُود ، وَالصَّوَاب الْأَوَّل وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي السِّيرَة .
قَوْله : ( أَلَسْتُمْ بِالْوَلَدِ وَأَلَسْتُ بِالْوَالِدِ ؟ قَالُوا : بَلَى )
كَذَا لِأَبِي ذَرّ ، وَلِغَيْرِهِ بِالْعَكْسِ " أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ وَأَلَسْتُ بِالْوَلَدِ " وَهُوَ الصَّوَاب وَهُوَ الَّذِي فِي رِوَايَة أَحْمَد وَابْن إِسْحَاق وَغَيْرهمَا ، وَزَادَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أُمّ عُرْوَة هِيَ سُبَيْعَة بِنْت عَبْد شَمْس بْن عَبْد مَنَافٍ ، فَأَرَادَ بِقَوْلِهِ : " أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ " أَنَّكُمْ حَيّ قَدْ وَلَدُونِي فِي الْجُمْلَة لِكَوْنِ أُمِّي مِنْكُمْ . وَجَرَى بَعْض الشُّرَّاح عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي ذَرّ فَقَالَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : " أَلَسْتُمْ بِالْوَلَدِ " أَيْ أَنْتُمْ عِنْدِي فِي الشَّفَقَة وَالنُّصْح بِمَنْزِلَةِ الْوَلَد ، قَالَ : وَلَعَلَّهُ كَانَ يُخَاطِب بِذَلِكَ قَوْمًا هُوَ أَسَنّ مِنْهُمْ .
قَوْله : ( اِسْتَنْفَرْت أَهْل عُكَاظ )
بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَتَخْفِيف الْكَاف وَآخِره مُعْجَمَة أَيْ دَعَوْتهمْ إِلَى نَصْركُمْ .
قَوْله : ( فَلَمَّا بَلَّحُوا )
بِالْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيد اللَّام الْمَفْتُوحَتَيْنِ ثُمَّ مُهْمَلَة مَضْمُومَة أَيْ اِمْتَنَعُوا ، وَالتَّبَلُّح التَّمَنُّع مِنْ الْإِجَابَة ، وَبَلَّحَ الْغَرِيم إِذَا اِمْتَنَعَ مِنْ أَدَاء مَا عَلَيْهِ زَادَ اِبْن إِسْحَاق " فَقَالُوا صَدَقْت ، مَا أَنْتَ عِنْدنَا بِمُتَّهَمٍ " .
قَوْله : ( قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " لَكُمْ " .
( خُطَّة رُشْد )
بِضَمِّ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْدِيد الْمُهْمَلَة ، وَالرُّشْد بِضَمِّ الرَّاء وَسُكُون الْمُعْجَمَة وَبِفَتْحِهِمَا ، أَيْ خَصْلَة خَيْر وَصَلَاح وَإِنْصَاف ، وَبَيَّنَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته أَنَّ سَبَب تَقْدِيم عُرْوَة لِهَذَا الْكَلَام عِنْد قُرَيْش مَا رَآهُ مِنْ رَدّهمْ الْعَنِيف عَلَى مَنْ يَجِيء مِنْ عِنْد الْمُسْلِمِينَ .
قَوْله : ( وَدَعُونِي آتِهِ )
بِالْمَدِّ ، وَهُوَ مَجْزُوم عَلَى جَوَاب الْأَمْر وَأَصْله أَئْتِهِ أَيْ أَجِيء إِلَيْهِ
( قَالُوا اِئْتِهِ )
بِأَلِفِ وَصْل بَعْدهَا هَمْزَة سَاكِنَة ثُمَّ مُثَنَّاة مَكْسُورَة ثُمَّ هَاء سَاكِنَة وَيَجُوز كَسْرهَا .
قَوْله : ( نَحْوًا مِنْ قَوْله لِبُدَيْلٍ )
زَادَ اِبْن إِسْحَاق " وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيد حَرْبًا " .
قَوْله : ( فَقَالَ عُرْوَة عِنْد ذَلِكَ )
أَيْ عِنْد قَوْله : لَأُقَاتِلَنهُمْ .
قَوْله : ( اِجْتَاحَ )
بِجِيمٍ ثُمَّ مُهْمَلَة أَيْ أَهْلَكَ أَصْله بِالْكُلِّيَّةِ ، وَحَذَفَ الْجَزَاء مِنْ قَوْله : " وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى " تَأَدُّبًا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمَعْنَى وَإِنْ تَكُنْ الْغَلَبَة لِقُرَيْشٍ لَا آمَنهُمْ عَلَيْك مَثَلًا .
وَقَوْله : ( فَإِنِّي وَاَللَّه لَا أَرَى وُجُوهًا إِلَخْ )(4/461)
كَالتَّعْلِيلِ لِهَذَا الْقَدْر الْمَحْذُوف ، وَالْحَاصِل أَنَّ عُرْوَة رَدَّدَ الْأَمْر بَيْن شَيْئَيْنِ غَيْر مُسْتَحْسَنَيْنِ عَادَة وَهُوَ هَلَاك قَوْمه إِنْ غَلَبَ ، وَذَهَاب أَصْحَابه إِنْ غُلِبَ ، لَكِنْ كُلّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مُسْتَحْسَن شَرْعًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ) .
قَوْله : ( أَشْوَابًا )
بِتَقْدِيمِ الْمُعْجَمَة عَلَى الْوَاو كَذَا لِلْأَكْثَرِ وَعَلَيْهَا اِقْتَصَرَ صَاحِب الْمَشَارِق ، وَوَقَعَ لِأَبِي ذَرّ عَنْ الْكُشْمِيهَنِيّ " أَوْشَابًا " بِتَقْدِيمِ الْوَاو ، وَالْأَشْوَاب الْأَخْلَاط مِنْ أَنْوَاع شَتَّى ، وَالْأَوْبَاش الْأَخْلَاط مِنْ السَّفَلَة ، فَالْأَوْبَاش أَخَصّ مِنْ الْأَشْوَاب .
قَوْله : ( خَلِيقًا )
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالْقَاف أَيْ حَقِيقًا وَزْنًا وَمَعْنًى ، وَيُقَال خَلِيق لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْع وَلِذَلِكَ وَقَعَ صِفَة لِأَشْوَابٍ .
قَوْله : ( وَيَدَعُوك )
بِفَتْحِ الدَّال أَيْ يَتْرُكُوك ، فِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح عَنْ الزُّهْرِيِّ عِنْد مَنْ سَمَّيْته " وَكَأَنَّ بِهِمْ لَوْ قَدْ لَقِيت قُرَيْشًا قَدْ أَسْلَمُوك فَتُؤْخَذ أَسِيرًا فَأَيّ شَيْء أَشَدّ عَلَيْك مِنْ هَذَا " وَفِيهِ أَنَّ الْعَادَة جَرَتْ أَنَّ الْجُيُوش الْمُجَمَّعَة لَا يُؤْمَن عَلَيْهَا الْفِرَار بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مِنْ قَبِيلَة وَاحِدَة فَإِنَّهُمْ يَأْنَفُونَ الْفِرَار فِي الْعَادَة . وَمَا دَرَى عُرْوَة أَنَّ مَوَدَّة الْإِسْلَام أَعْظَم مِنْ مَوَدَّة الْقَرَابَة ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ مُبَالَغَة الْمُسْلِمِينَ فِي تَعْظِيم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي .
قَوْله : ( فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق )
زَادَ اِبْن إِسْحَاق " وَأَبُو بَكْر الصِّدِّيق خَلْف رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِد فَقَالَ " .
قَوْله : ( اِمْصَصْ بِبَظْرِ اللَّاتِي )
زَادَ اِبْن عَائِذ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ الزُّهْرِيِّ " وَهِيَ - أَيْ اللَّاتِي - طَاغِيَته الَّتِي يَعْبُد " أَيْ طَاغِيَة عُرْوَة . وَقَوْله اُمْصُصْ بِأَلِفِ وَصْل وَمُهْمَلَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَة بِصِيغَةِ الْأَمْر ، وَحَكَى اِبْن التِّين عَنْ رِوَايَة الْقَابِسِيّ ضَمّ الصَّاد الْأُولَى وَخَطَّأَهَا ، وَالْبَظْر بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَة وَسُكُون الْمُعْجَمَة قِطْعَة تَبْقَى بَعْد الْخِتَان فِي فَرْج الْمَرْأَة ، وَاَللَّاتِي اِسْم أَحَد الْأَصْنَام الَّتِي كَانَتْ قُرَيْش وَثَقِيف يَعْبُدُونَهَا ، وَكَانَتْ عَادَة الْعَرَب الشَّتْم بِذَلِكَ لَكِنْ بِلَفْظِ الْأُمّ فَأَرَادَ أَبُو بَكْر الْمُبَالَغَة فِي سَبّ عُرْوَة بِإِقَامَةِ مَنْ كَانَ يَعْبُد مَقَام أُمّه ، وَحَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَغْضَبَهُ بِهِ مِنْ نِسْبَة الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْفِرَار ، وَفِيهِ جَوَاز النُّطْق بِمَا يُسْتَبْشَع مِنْ الْأَلْفَاظ لِإِرَادَةِ زَجْر مَنْ بَدَا مِنْهُ مَا يَسْتَحِقّ بِهِ ذَلِكَ . وَقَالَ اِبْن الْمُنِير : فِي قَوْل أَبِي بَكْر تَخْسِيس لِلْعَدُوِّ وَتَكْذِيبهمْ وَتَعْرِيض بِإِلْزَامِهِمْ مِنْ قَوْلهمْ إِنَّ اللَّاتِي بِنْت اللَّه ، تَعَالَى اللَّه عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ، بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِنْتًا لَكَانَ لَهَا مَا يَكُون لِلْإِنَاثِ .
قَوْله : ( أَنَحْنُ نَفِرّ )
اِسْتِفْهَام إِنْكَار .
قَوْله : ( مَنْ ذَا ؟ قَالُوا أَبُو بَكْر )
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَقَالَ : مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّد ؟ قَالَ : هَذَا اِبْن أَبِي قُحَافَة " .
قَوْله : ( أَمَا )
هُوَ حَرْف اِسْتِفْتَاح ، وَقَوْله : " وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ " يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْقَسَم بِذَلِكَ كَانَ عَادَة لِلْعَرَبِ .
قَوْله : ( لَوْلَا يَد )
أَيْ نِعْمَة ،
وَقَوْله : ( لَمْ أَجْزِك بِهَا )
أَيْ لَمْ أُكَافِئك بِهَا ، زَادَ اِبْن إِسْحَاق " وَلَكِنَّ هَذِهِ بِهَا " أَيْ جَازَاهُ بِعَدَمِ إِجَابَته عَنْ شَتْمه بِيَدِهِ الَّتِي كَانَ أَحْسَنَ إِلَيْهِ بِهَا ، وَبَيَّنَ عَبْد الْعَزِيز الْإِمَامِيّ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْيَد الْمَذْكُورَة أَنَّ عُرْوَة كَانَ تَحَمَّلَ بِدِيَةٍ فَأَعَانَهُ أَبُو بَكْر فِيهَا بِعَوْنٍ حَسَن ، وَفِي رِوَايَة الْوَاقِدِيّ عَشْر قَلَائِص .
قَوْله : ( قَائِم عَلَى رَأْس النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ )(4/462)
فِيهِ جَوَاز الْقِيَام عَلَى رَأْس الْأَمِير بِالسَّيْفِ بِقَصْدِ الْحِرَاسَة وَنَحْوهَا مِنْ تَرْهِيب الْعَدُوّ ، وَلَا يُعَارِضهُ النَّهْي عَنْ الْقِيَام عَلَى رَأْس الْجَالِس لِأَنَّ مَحَلّه مَا إِذَا كَانَ عَلَى وَجْه الْعَظَمَة وَالْكِبْر .
قَوْله : ( فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ )
فِي رِوَايَة السَّرَخْسِيّ وَالْكُشْمِيهَنِيّ " فَكُلَّمَا كَلَّمَهُ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَجَعَلَ يَتَنَاوَل لِحْيَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُكَلِّمهُ " .
قَوْله : ( وَالْمُغِيرَة بْن شُعْبَة قَائِم )
فِي مَغَازِي عُرْوَة بْن الزُّبَيْر رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْهُ " أَنَّ الْمُغِيرَة لَمَّا رَأَى عُرْوَة بْن مَسْعُود مُقْبِلًا لَبِسَ لَأْمَته وَجَعَلَ عَلَى رَأْسه الْمِغْفَر لِيَسْتَخْفِيَ مِنْ عُرْوَة عَمّه " .
قَوْله : ( بِنَعْلِ السَّيْف )
هُوَ مَا يَكُون أَسْفَل الْقِرَاب مِنْ فِضَّة أَوْ غَيْرهَا .
قَوْله : ( أَخِّرْ )
فِعْل أَمْر مِنْ التَّأْخِير ، زَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته " قَبْل أَنْ لَا تَصِل إِلَيْك " وَزَادَ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر " فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمُشْرِكٍ أَنْ يَمَسّهُ " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَيَقُول عُرْوَة : وَيْحك مَا أَفَظّك وَأَغْلَظَك " وَكَانَتْ عَادَة الْعَرَب أَنْ يَتَنَاوَل الرَّجُل لِحْيَة مَنْ يُكَلِّمهُ وَلَا سِيَّمَا عِنْد الْمُلَاطَفَة وَفِي الْغَالِب إِنَّمَا يَصْنَع ذَلِكَ النَّظِير بِالنَّظِيرِ ، لَكِنْ كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُغْضِي لِعُرْوَةَ عَنْ ذَلِكَ اِسْتِمَالَة لَهُ وَتَأْلِيفًا ، وَالْمُغِيرَة يَمْنَعهُ إِحْلَالًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمًا .
قَوْله : ( فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ الْمُغِيرَة )
وَفِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " فَلَمَّا أَكْثَرَ الْمُغِيرَة مِمَّا يَقْرَع يَده غَضِبَ وَقَالَ : لَيْتَ شِعْرِي مَنْ هَذَا الَّذِي قَدْ آذَانِي مِنْ بَيْن أَصْحَابك ؟ وَاَللَّه لَا أَحْسَب فِيكُمْ أَلْأَم مِنْهُ وَلَا أَشَرّ مَنْزِلَة " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ عُرْوَة : مَنْ هَذَا يَا مُحَمَّد ؟ قَالَ : هَذَا اِبْن أَخِيك الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة " وَكَذَا أَخْرَجَهُ اِبْن أَبِي شَيْبَة مِنْ حَدِيث الْمُغِيرَة بْن شُعْبَة نَفْسه بِإِسْنَادٍ صَحِيح ، وَأَخْرَجَهُ اِبْن حِبَّانَ .
قَوْله : ( أَيْ غُدَر )
بِالْمُعْجَمَةِ بِوَزْنِ عُمَر مَعْدُول عَنْ غَادِر مُبَالَغَة فِي وَصْفه بِالْغَدْرِ .
قَوْله : ( أَلَسْت أَسْعَى فِي غَدْرَتك )
أَيْ أَلَسْت أَسْعَى فِي دَفْع شَرّ غَدْرَتك ؟ وَفِي مَغَازِي عُرْوَة " وَاَللَّه مَا غَسَلْت يَدَيَّ مِنْ غَدْرَتك ، لَقَدْ أَوْرَثْتنَا الْعَدَاوَة فِي ثَقِيف " وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَهَلْ غَسَلْت سَوْأَتك إِلَّا بِالْأَمْسِ " قَالَ اِبْن هِشَام فِي السِّيرَة : أَشَارَ عُرْوَة بِهَذَا إِلَى مَا وَقَعَ لِلْمُغِيرَةِ قَبْل إِسْلَامه ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ ثَلَاثَة عَشَر نَفَرًا مِنْ ثَقِيف مِنْ بَنِي مَالِك فَغَدَرَ بِهِمْ وَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالهمْ ، فَتَهَايَجَ الْفَرِيقَانِ بَنُو مَالِك وَالْأَحْلَاف رَهْط الْمُغِيرَة فَسَعَى عُرْوَة بْن مَسْعُود عَمّ الْمُغِيرَة حَتَّى أَخَذُوا مِنْهُ دِيَة ثَلَاثَة عَشَر نَفْسًا وَاصْطَلَحُوا . وَفِي الْقِصَّة طُول . وَقَدْ سَاقَ اِبْن الْكَلْبِيّ وَالْوَاقِدِيّ الْقِصَّة ، وَحَاصِلهَا أَنَّهُمْ كَانُوا خَرَجُوا زَائِرِينَ الْمُقَوْقِس بِمِصْرَ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَعْطَاهُمْ وَقَصَّرَ بِالْمُغِيرَةِ فَحَصَلَتْ لَهُ الْغَيْرَة مِنْهُمْ ، فَلَمَّا كَانُوا بِالطَّرِيقِ شَرِبُوا الْخَمْر ، فَلَمَّا سَكِرُوا وَنَامُوا وَثَبَ الْمُغِيرَة فَقَتَلَهُمْ وَلَحِقَ بِالْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ .
قَوْله : ( أَمَّا الْإِسْلَام فَأَقْبَل )
بِلَفْظِ الْمُتَكَلِّم أَيْ أَقْبَلهُ .
قَوْله : ( وَأَمَّا الْمَال فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْء )(4/463)
أَيْ لَا أَتَعَرَّض لَهُ لِكَوْنِهِ أَخَذَهُ غَدْرًا . وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَحِلّ أَخْذ أَمْوَال الْكُفَّار فِي حَال الْأَمْن غَدْرًا لِأَنَّ الرُّفْقَة يُصْطَحَبُونَ عَلَى الْأَمَانَة وَالْأَمَانَة تُؤَدَّى إِلَى أَهْلهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ، وَأَنَّ أَمْوَال الْكُفَّار إِنَّمَا تَحِلّ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَة ، وَلَعَلَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ الْمَال فِي يَده لِإِمْكَانِ أَنْ يُسْلِم قَوْمه فَيَرُدّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالهمْ ، وَيُسْتَفَاد مِنْ الْقِصَّة أَنَّ الْحَرْبِيّ إِذَا أَتْلَفَ مَال الْحَرْبِيّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَان ، وَهَذَا أَحَد الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ .
قَوْله : ( فَجَعَلَ يَرْمُق )
بِضَمِّ الْمِيم أَيْ يَلْحَظ .
قَوْله : ( فَدَلَّك بِهَا وَجْهه وَجِلْده )
زَادَ اِبْن إِسْحَاق " وَلَا يَسْقُط مِنْ شَعْره شَيْء إِلَّا أَخَذُوهُ "
وَقَوْله : " وَمَا يُحِدُّونَ "
بِضَمِّ أَوَّله وَكَسْر الْمُهْمَلَة أَيْ يُدِيمُونَ ، وَفِيهِ طَهَارَة النُّخَامَة وَالشَّعْر الْمُنْفَصِل وَالتَّبَرُّك بِفَضَلَاتِ الصَّالِحِينَ الطَّاهِرَة ، وَلَعَلَّ الصَّحَابَة فَعَلُوا ذَلِكَ بِحَضْرَةِ عُرْوَة وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ إِشَارَة مِنْهُمْ إِلَى الرَّدّ عَلَى مَا خَشِيَهُ مِنْ فِرَارهمْ ، وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا بِلِسَانِ الْحَال : مَنْ يُحِبّ إِمَامه هَذِهِ الْمَحَبَّة وَيُعَظِّمهُ هَذَا التَّعْظِيم كَيْفَ يَظُنّ بِهِ أَنَّهُ يَفِرّ عَنْهُ وَيُسَلِّمهُ لِعَدُوِّهِ ؟ بَلْ هُمْ أَشَدّ اِغْتِبَاطًا بِهِ وَبِدِينِهِ وَبِنَصْرِهِ مِنْ الْقَبَائِل الَّتِي يُرَاعِي بَعْضهَا بَعْضًا بِمُجَرَّدِ الرَّحِم ، فَيُسْتَفَاد مِنْهُ جَوَاز التَّوَصُّل إِلَى الْمَقْصُود بِكُلِّ طَرِيق سَائِغ .
قَوْله : ( وَوَفَدْت عَلَى قَيْصَر )
هُوَ مِنْ الْخَاصّ بَعْد الْعَامّ ، وَذَكَرَ الثَّلَاثَة لِكَوْنِهِمْ كَانُوا أَعْظَم مُلُوك ذَلِكَ الزَّمَان . وَفِي مُرْسَل عَلِيّ بْن زَيْد عِنْد اِبْن أَبِي شَيْبَة " فَقَالَ عُرْوَة : أَيْ قَوْم إِنِّي قَدْ رَأَيْت الْمُلُوك ، مَا رَأَيْت مِثْل مُحَمَّد ، وَمَا هُوَ بِمَلِكٍ ، وَلَكِنْ رَأَيْت الْهَدْي مَعْكُوفًا ، وَمَا أَرَاكُمْ إِلَّا سَتُصِيبُكُمْ قَارِعَة ، فَانْصَرَفَ هُوَ وَمَنْ اِتَّبَعَهُ إِلَى الطَّائِف " وَفِي قِصَّة عُرْوَة بْن مَسْعُود مِنْ الْفَوَائِد مَا يَدُلّ عَلَى جَوْدَة عَقْله وَيَقَظَته ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَة مِنْ الْمُبَالَغَة فِي تَعْظِيم النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوْقِيره وَمُرَاعَاة أُمُوره وَرَدْع مَنْ جَفَا عَلَيْهِ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْل وَالتَّبَرُّك بِآثَارِهِ .
قَوْله : ( فَقَالَ رَجُل مِنْ بَنِي كِنَانَة )
فِي رِوَايَة الْإِمَامِيّ " فَقَامَ الْحُلَيْس " بِمُهْمَلَتَيْنِ مُصَغَّر ، وَسَمَّى اِبْن إِسْحَاق وَالزُّبَيْر بْن بَكَّار أَبَاهُ عَلْقَمَة ، وَهُوَ مِنْ بَنِي الْحَارِث بْن عَبْد مَنَاة بْن كِنَانَة وَكَانَ مِنْ رُءُوس الْأَحَابِيش ، وَهُمْ بَنُو الْحَارِث بْن عَبْد مَنَاة بْن كِنَانَة ، وَبَنُو الْمُصْطَلِق بْن خُزَاعَة ، وَالْقَارَّة وَهُمْ بَنُو الْهَوْن بْن خُزَيْمَةَ . وَفِي رِوَايَة الزُّبَيْر بْن بَكَّار " أَبَى اللَّه أَنْ تَحُجّ لَخْم وَجُذَام وَكِنْدَة وَحِمْيَر ، وَيُمْنَع اِبْن عَبْد الْمُطَّلِب " .
قَوْله : ( فَابْعَثُوهَا لَهُ )
أَيْ أَثِيرُوهَا دَفْعَة وَاحِدَة ، وَزَادَ اِبْن إِسْحَاق " فَلَمَّا رَأَى الْهَدْي يَسِيل عَلَيْهِ مِنْ عَرْض الْوَادِي بِقَلَائِدِهِ قَدْ حُبِسَ عَنْ مَحِلّه رَجَعَ وَلَمْ يَصِل إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَكِنْ فِي مَغَازِي عُرْوَة عَنْ الْحَاكِم " فَصَاحَ الْحُلَيْس فَقَالَ : هَلَكَتْ قُرَيْش وَرَبّ الْكَعْبَة ، إِنَّ الْقَوْم إِنَّمَا أَتَوْا عَمَّارًا ، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَل يَا أَخَا بَنِي كِنَانَة فَأَعْلِمهمْ بِذَلِكَ " فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون خَاطَبَهُ عَلَى بُعْد .
قَوْله : ( فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ الْبَيْت )(4/464)
زَادَ اِبْن إِسْحَاق " وَغَضِبَ وَقَالَ : يَا مَعْشَر قُرَيْش مَا عَلَى هَذَا عَاقَدْنَاكُمْ ، أَيُصَدُّ عَنْ بَيْت اللَّه مَنْ جَاءَ مُعَظِّمًا لَهُ ؟ فَقَالُوا : كُفَّ عَنَّا يَا حُلَيْس حَتَّى نَأْخُذ لِأَنْفُسِنَا مَا نَرْضَى " وَفِي هَذِهِ الْقِصَّة جَوَاز الْمُخَادَعَة فِي الْحَرْب وَإِظْهَار إِرَادَة الشَّيْء وَالْمَقْصُود غَيْره ، وَفِيهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُعَظِّمُونَ حُرُمَات الْإِحْرَام وَالْحَرَم ، وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَصُدّ عَنْ ذَلِكَ تَمَسُّكًا مِنْهُمْ بِبَقَايَا مِنْ دِين إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام .
قَوْله : ( فَقَامَ رَجُل مِنْهُمْ يُقَال لَهُ مِكْرَز )
بِكَسْرِ الْمِيم وَسُكُون الْكَاف وَفَتْح الرَّاء بَعْدهَا زَاي اِبْن حَفْص ، زَادَ اِبْن إِسْحَاق " اِبْن الْأَخْيَف " وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ تَحْتَانِيَّة ثُمَّ الْفَاء ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِر بْن لُؤَيّ . وَوَقَعَ بِخَطِّ اِبْن عَبْدَة النَّسَّابَة بِفَتْحِ الْمِيم وَبِخَطِّ يُوسُف بْن خَلِيل الْحَافِظ بِضَمِّهَا وَكَسْر الرَّاء ، وَالْأَوَّل الْمُعْتَمَد .
قَوْله : ( وَهُوَ رَجُل فَاجِر )
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " غَادِر " وَهُوَ أَرْجَح ، فَإِنِّي مَازِلْت مُتَعَجِّبًا مِنْ وَصْفه بِالْفُجُورِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقَع مِنْهُ فِي قِصَّة الْحُدَيْبِيَة فُجُور ظَاهِر ، بَلْ فِيهَا مَا يُشْعِر بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَامه فِي قِصَّة أَبِي جَنْدَل ، إِلَى أَنْ رَأَيْت فِي مَغَازِي الْوَاقِدَيّ فِي غَزْوَة بَدْر أَنَّ عُتْبَة بْن رَبِيعَة قَالَ لِقُرَيْشٍ " كَيْفَ نَخْرُج مِنْ مَكَّة وَبَنُو كِنَانَة خَلْفنَا لَا نَأْمَنهُمْ عَلَى ذَرَارِيّنَا ؟ قَالَ : وَذَلِكَ أَنَّ حَفْص بْن الْأَخْيَف يَعْنِي وَالِد مِكْرَز كَانَ لَهُ وَلَد وَضِيء فَقَتَلَهُ رَجُل مِنْ بَنِي بَكْر بْن عَبْد مَنَاة بْن كِنَانَة بِدَمٍ لَهُ كَانَ فِي قُرَيْش ، فَتَكَلَّمَتْ قُرَيْش فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ اِصْطَلَحُوا ، فَعَدَا مِكْرَز بْن حَفْص بَعْد ذَلِكَ عَلَى عَامِر بْن يَزِيد سَيِّد بَنِي بَكْر غِرَّة فَقَتَلَهُ ، فَنَفَرَتْ مِنْ ذَلِكَ كِنَانَة ، فَجَاءَتْ وَقْعَة بَدْر فِي أَثْنَاء ذَلِكَ ، وَكَانَ مِكْرَز مَعْرُوفًا بِالْغَدْرِ " وَذَكَرَ الْوَاقِدِيّ أَيْضًا أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّت الْمُسْلِمِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَخَرَجَ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا فَأَخَذَهُمْ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة وَهُوَ عَلَى الْحَرَس وَانْفَلَتَ مِنْهُمْ مِكْرَز ، فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ .
قَوْله : ( إِذْ جَاءَ سُهَيْل بْن عَمْرو )
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَدَعَتْ قُرَيْش سُهَيْل بْن عَمْرو فَقَالُوا : اِذْهَبْ إِلَى هَذَا الرَّجُل فَصَالِحه ، قَالَ : فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ أَرَادَتْ قُرَيْش الصُّلْح حِين بَعَثَتْ هَذَا " .
قَوْله : ( قَالَ مَعْمَر : فَأَخْبَرَنِي أَيُّوب عَنْ عِكْرِمَة أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ سُهَيْل إِلَخْ )
هَذَا مَوْصُول إِلَى مَعْمَر بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور أَوَّلًا وَهُوَ مُرْسَل ، وَلَمْ أَقِف عَلَى مَنْ وَصَلَهُ بِذِكْرِ اِبْن عَبَّاس فِيهِ ، لَكِنْ لَهُ شَاهِد مَوْصُول عِنْد اِبْن أَبِي شَيْبَة مِنْ حَدِيث سَلَمَة بْن الْأَكْوَع قَالَ : " بَعَثَتْ قُرَيْش سُهَيْل بْن عَمْرو وَحُوَيْطِب بْن عَبْد الْعُزَّى إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَالِحُوهُ ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُهَيْلًا قَالَ : قَدْ سَهَّلَ لَكُمْ مِنْ أَمْركُمْ " وَلِلطَّبَرَانِيِّ نَحْوه مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن السَّائِب .
قَوْله : ( قَالَ مَعْمَر قَالَ الزُّهْرِيُّ )
هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْأَوَّل إِلَى مَعْمَر ، وَهُوَ بَقِيَّة الْحَدِيث ، وَإِنَّمَا اِعْتَرَضَ حَدِيث عِكْرِمَة فِي أَثْنَائِهِ .
قَوْله : ( فَقَالَ هَاتِ اُكْتُبْ بَيْننَا وَبَيْنكُمْ كِتَابًا )
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَلَمَّا اِنْتَهَى إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرَى بَيْنهمَا الْقَوْل حَتَّى وَقَعَ بَيْنهمَا الصُّلْح عَلَى أَنْ تُوضَع الْحَرْب بَيْنهمَا عَشْر سِنِينَ وَأَنْ يَأْمَن النَّاس بَعْضهمْ بَعْضًا ، وَأَنْ يَرْجِع عَنْهُمْ عَامهمْ هَذَا " .
( تَنْبِيه ) :(4/465)
هَذَا الْقَدْر الَّذِي ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَاق أَنَّهُ مُدَّة الصُّلْح هُوَ الْمُعْتَمَد ، وَبِهِ جَزَمَ اِبْن سَعْد ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِم مِنْ حَدِيث عَلِيّ نَفْسه . وَوَقَعَ فِي مَغَازِي اِبْن عَائِذ فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس وَغَيْره أَنَّهُ كَانَ سَنَتَيْنِ ، وَكَذَا وَقَعَ عِنْد مُوسَى بْن عُقْبَةَ ، وَيُجْمَع بَيْنهمَا بِأَنَّ الَّذِي قَالَهُ اِبْن إِسْحَاق هِيَ الْمُدَّة الَّتِي وَقَعَ الصُّلْح عَلَيْهَا ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ اِبْن عَائِذ وَغَيْره هِيَ الْمُدَّة الَّتِي اِنْتَهَى أَمْر الصُّلْح فِيهَا حَتَّى وَقَعَ نَقْضه عَلَى يَد قُرَيْش كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي غَزْوَة الْفَتْح مِنْ الْمَغَازِي . وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي " كَامِل اِبْن عَدِيّ " وَ " مُسْتَدْرَك الْحَاكِم " وَ " الْأَوْسَط لِلطَّبَرَانِيِّ " مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر أَنَّ مُدَّة الصُّلْح كَانَتْ أَرْبَع سِنِينَ فَهُوَ مَعَ ضَعْف إِسْنَاده مُنْكَر مُخَالِف لِلصَّحِيحِ .
وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْمُدَّة الَّتِي تَجُوز الْمُهَادَنَة فِيهَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ : فَقِيلَ لَا تُجَاوِز عَشْر سِنِينَ عَلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيث وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيّ وَالْجُمْهُور . وَقِيلَ تَجُوز الزِّيَادَة ، وَقِيلَ لَا تُجَاوِز أَرْبَع سِنِينَ ، وَقِيلَ ثَلَاثًا ، وَقِيلَ سَنَتَيْنِ ، وَالْأَوَّل هُوَ الرَّاجِح وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( فَدَعَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَاتِب )
هُوَ عَلِيّ بَيَّنَهُ إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَده مِنْ هَذَا الْوَجْه عَنْ الزُّهْرِيِّ ، وَكَذَا مَضَى فِي الصُّلْح مِنْ حَدِيث الْبَرَاء بْن عَازِب ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ عُمَر بْن شَبَّة مِنْ حَدِيث سَلَمَة بْن الْأَكْوَع فِيمَا يَتَعَلَّق بِهَذَا الْفَصْل مِنْ هَذِهِ الْقِصَّة . وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى ، وَأَخْرَجَ عُمَر بْن شَبَّة مِنْ طَرِيق عَمْرو بْن سُهَيْل بْن عَمْرو عَنْ أَبِيهِ " الْكِتَاب عِنْدنَا ، كَاتِبه مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة " اِنْتَهَى ، وَيُجْمَع بِأَنَّ أَصْل كِتَاب الصُّلْح بِخَطِّ عَلِيّ كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيح ، وَنَسَخَ مِثْله مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة لِسُهَيْلِ بْن عَمْرو ، وَمِنْ الْأَوْهَام مَا ذَكَرَهُ عُمَر بْن شَبَّة بَعْد أَنْ حَكَى أَنَّ اِسْم كَاتِب الْكِتَاب بَيْن الْمُسْلِمِينَ وَقُرَيْش عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب مِنْ طُرُق ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيق أُخْرَى أَنَّ اِسْم الْكَاتِب مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة ثُمَّ قَالَ : " حَدَّثَنَا اِبْن عَائِشَة يَزِيد بْن عُبَيْد اللَّه بْن مُحَمَّد التَّيْمِيُّ قَالَ : كَانَ اِسْم هِشَام بْن عِكْرِمَة بَغِيضًا ، وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ الصَّحِيفَة فَشُلَّتْ يَده ، فَسَمَّاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِشَامًا "
قُلْت : وَهُوَ غَلَط فَاحِش ، فَإِنَّ الصَّحِيفَة الَّتِي كَتَبَهَا هِشَام بْن عِكْرِمَة هِيَ الَّتِي اِتَّفَقَتْ عَلَيْهَا قُرَيْش لَمَّا حَصَرُوا بَنِي هَاشِم فِي الشِّعْب وَذَلِكَ بِمَكَّة قَبْل الْهِجْرَة ، وَالْقِصَّة مَشْهُورَة فِي السِّيرَة النَّبَوِيَّة ، فَتَوَهَّمَ عُمَر مِنْ شَبَّة أَنَّ الْمُرَاد بِالصَّحِيفَةِ هُنَا كِتَاب الْقِصَّة الَّتِي وَقَعَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ بَيْنهمَا نَحْو عَشْر سِنِينَ ، وَإِنَّمَا كَتَبْت ذَلِكَ هُنَا خَشْيَة أَنْ يَغْتَرّ بِذَلِكَ مَنْ لَا مَعْرِفَة لَهُ فَيَعْتَقِدهُ اِخْتِلَافًا فِي اِسْم كَاتِب الْقِصَّة بِالْحُدَيْبِيَةِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيق .
قَوْله : ( هَذَا مَا قَاضَى )
بِوَزْنِ فَاعَلَ مِنْ قَضَيْت الشَّيْء أَيْ فَصَلْت الْحُكْم فِيهِ ، وَفِيهِ جَوَاز كِتَابَة مِثْل ذَلِكَ فِي الْمُعَاقَدَات وَالرَّدّ عَلَى مَنْ مَنَعَهُ مُعْتَلًّا بِخَشْيَةِ أَنْ يَظُنّ فِيهَا أَنَّهَا نَافِيَة ، نَبَّهَ عَلَيْهِ الْخَطَّابِيُّ .
قَوْله : ( لَا تَتَحَدَّث الْعَرَب أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَة )
بِضَمِّ الضَّاد وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَتَيْنِ ثُمَّ طَاء مُهْمَلَة أَيْ قَهْرًا ، وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْنَا عَنْوَة " .
قَوْله : ( فَقَالَ سُهَيْل : وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيك مِنَّا رَجُل - وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينك - إِلَّا رَدَدْته إِلَيْنَا )(4/466)
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَتَى مُحَمَّدًا مِنْ قُرَيْش بِغَيْرِ إِذْن وَلِيّه رَدَّهُ عَلَيْهِمْ ، وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمَّنْ يَتَّبِع مُحَمَّدًا لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ " ، وَهَذِهِ الرِّوَايَة تَعُمّ الرِّجَال وَالنِّسَاء ، وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّل الشُّرُوط مِنْ رِوَايَة عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ " وَلَا يَأْتِيك مِنَّا أَحَد " وَسَيَأْتِي الْبَحْث فِي ذَلِكَ فِي كِتَاب النِّكَاح ، وَهَلْ دَخَلْنَ فِي هَذَا الصُّلْح ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ الْحُكْم فِيهِنَّ ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْنَ إِلَّا بِطَرِيقِ الْعُمُوم فَخُصِّصْنَ ؟ وَزَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي قِصَّة الصُّلْح بِهَذَا الْإِسْنَاد " وَعَلَى أَنَّ بَيْننَا عَيْبَة مَكْفُوفَة " أَيْ أَمْرًا مَطْوِيًّا فِي صُدُور سَلِيمَة ، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى تَرْك الْمُؤَاخَذَة بِمَا تَقَدَّمَ بَيْنهمْ مِنْ أَسْبَاب الْحَرْب وَغَيْرهَا ، وَالْمُحَافَظَة عَلَى الْعَهْد الَّذِي وَقَعَ بَيْنهمْ . وَقَالَ اِبْن إِسْحَاق فِي حَدِيثه " وَأَنَّهُ لَا إِسْلَال وَلَا إِغْلَال " أَيْ لَا سَرِقَة وَلَا خِيَانَة ، فَالْإِسْلَال مِنْ السَّلَّة وَهِيَ السَّرِقَة ، وَالْإِغْلَال الْخِيَانَة تَقُول أَغَلَّ الرَّجُل أَيْ خَانَ ، أَمَّا فِي الْغَنِيمَة فَيُقَال غَلَّ بِغَيْرِ أَلِف ، وَالْمُرَاد أَنْ يَأْمَن بَعْضهمْ مِنْ بَعْض فِي نُفُوسهمْ وَأَمْوَالهمْ سِرًّا وَجَهْرًا ، وَقِيلَ الْإِسْلَال مِنْ سَلّ السُّيُوف وَالْإِغْلَال مِنْ لُبْس الدُّرُوع ، وَوَهَّاهُ أَبُو عُبَيْد ، قَالَ اِبْن إِسْحَاق فِي حَدِيثه " وَأَنَّهُ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُل فِي عَقْد مُحَمَّد وَعَهْده دَخَلَ فِيهِ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَدْخُل فِي عَقْد قُرَيْش وَعَهْدهمْ دَخَلَ فِيهِ ، فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَة فَقَالُوا : نَحْنُ فِي عَقْد مُحَمَّد وَعَهْده ، وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْر فَقَالُوا : نَحْنُ فِي عَقْد قُرَيْش وَعَهْدهمْ ، وَأَنَّك تَرْجِع عَنَّا عَامك هَذَا فَلَا تَدْخُل مَكَّة عَلَيْنَا ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ عَام قَابِل خَرَجْنَا عَنْك فَدَخَلْتهَا بِأَصْحَابِك فَأَقَمْت بِهَا ثَلَاثًا مَعَك سِلَاح الرَّاكِب : السُّيُوف فِي الْقِرَب ، وَلَا تَدْخُلهَا بِغَيْرِهِ " وَهَذِهِ الْقِصَّة سَيَأْتِي مِثْلهَا فِي حَدِيث الْبَرَاء بْن عَازِب فِي الْمَغَازِي ، قَالَ اِبْن إِسْحَاق فِي حَدِيثه " فَبَيْنَمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُب الْكِتَاب هُوَ وَسُهَيْل بْن عُمَر وَإِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَل بْن سُهَيْل " فَذَكَرَ الْقِصَّة .
قَوْله : ( قَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَان اللَّه ، كَيْفَ يُرَدّ )(4/467)
؟ فِي رِوَايَة عُقَيْل الْمَاضِيَة أَوَّل الشُّرُوط " وَكَانَ فِيمَا اِشْتَرَطَ سُهَيْل بْن عَمْرو عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَأْتِيك مِنَّا أَحَد وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينك إِلَّا رَدَدْته إِلَيْنَا وَخَلَّيْت بَيْننَا وَبَيْنه . فَكَرِهَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ وَامْتَعَضُوا مِنْهُ ، وَأَبَى سُهَيْل إِلَّا ذَلِكَ ، فَكَاتَبَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ ، فَرَدَّ يَوْمئِذٍ أَبَا جَنْدَل إِلَى أَبِيهِ سُهَيْل بْن عَمْرو ، وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَد مِنْ الرِّجَال فِي تِلْكَ الْمُدَّة إِلَّا رَدَّهُ " وَقَائِل ذَلِكَ يُشْبِه أَنْ يَكُون هُوَ عُمَر لِمَا سَيَأْتِي ، وَسَمَّى الْوَاقِدِيّ مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا أُسَيْد بْن حُضَيْرٍ وَسَعْد بْن عُبَادَةَ ، وَسَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي أَنَّ سَهْل بْن حُنَيْفٍ كَانَ مِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا . وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيث أَنَس بْن مَالِك " أَنَّ قُرَيْشًا صَالَحَتْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدّهُ عَلَيْكُمْ ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ إِلَيْنَا ، فَقَالُوا : يَا رَسُول اللَّه أَنَكْتُبُ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَده اللَّه ، وَمَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَيْنَا فَسَيَجْعَلُ اللَّه لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا " وَزَادَ أَبُو الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة هُنَا " وَلِابْنِ عَائِذ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس نَحْوه " . فَلَمَّا لَانَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ فِي الصُّلْح عَلَى ذَلِكَ إِذْ رَمَى رَجُل مِنْ الْفَرِيقَيْنِ رَجُلًا مِنْ الْفَرِيق الْآخَر ، فَتَصَايَحَ الْفَرِيقَانِ ، وَارْتَهَنَ كُلّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مَنْ عِنْدهمْ ، فَارْتَهَنَ الْمُشْرِكُونَ عُثْمَان وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَارْتَهَنَ الْمُسْلِمُونَ سُهَيْل بْن عَمْرو وَمَنْ مَعَهُ ، وَدَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْبَيْعَة فَبَايَعُوهُ تَحْت الشَّجَرَة عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْعَبَهُمْ اللَّه ، فَأَرْسَلُوا مَنْ كَانَ مُرْتَهَنًا وَدَعَوْا إِلَى الْمُوَادَعَة ، وَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : ( وَهُوَ الَّذِي كَفّ أَيْدِيهمْ عَنْكُمْ ) الْآيَة . وَسَيَأْتِي فِي غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة بَيَان مَنْ أَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّة مَوْصُولَة وَكَيْفِيَّة الْبَيْعَة عِنْد الشَّجَرَة وَالِاخْتِلَاف فِي عَدَد مَنْ بَايَعَ وَفِي سَبَب الْبَيْعَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَل )
بِالْجِيمِ وَالنُّون وَزْن جَعْفَر ، وَكَانَ اِسْمه الْعَاصِي فَتَرَكَهُ لَمَّا أَسْلَمَ ، وَلَهُ أَخ اِسْمه عَبْد اللَّه أَسْلَمَ أَيْضًا قَدِيمًا وَحَضَرَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بَدْرًا فَفَرَّ مِنْهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ كَانَ مَعَهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ . وَوَهَمَ مَنْ جَعَلَهُمَا وَاحِدًا . وَقَدْ اُسْتُشْهِدَ عَبْد اللَّه بِالْيَمَامَةِ قَبْل أَبِي جَنْدَل بِمُدَّةٍ ، وَأَمَّا أَبُو جَنْدَل فَكَانَ حُبِسَ بِمَكَّة وَمُنِعَ مِنْ الْهِجْرَة وَعُذِّبَ بِسَبَبِ الْإِسْلَام كَمَا فِي حَدِيث الْبَاب . وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَإِنَّ الصَّحِيفَة لَتَكْتُب إِذْ طَلَعَ أَبُو جَنْدَل بْن سُهَيْل ، وَكَانَ أَبُوهُ حَبَسَهُ فَأَفْلَتَ " وَفِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " وَكَانَ سُهَيْل أَوْثَقَهُ وَسَجَنَهُ حِين أَسْلَمَ ، فَخَرَجَ مِنْ السِّجْن وَتَنَكَّبَ الطَّرِيق وَرَكِبَ الْجِبَال حَتَّى هَبَطَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَتَلْقَوْهُ " .
قَوْله : ( يَرْسُف )
بِفَتْحِ أَوَّله وَضَمّ الْمُهْمَلَة وَبِالْفَاءِ أَيْ يَمْشِي مَشْيًا بَطِيئًا بِسَبَبِ الْقَيْد .
قَوْله : ( فَقَالَ سُهَيْل : هَذَا يَا مُحَمَّد أَوَّل مَنْ أُقَاضِيك عَلَيْهِ أَنْ تَرُدّهُ إِلَيَّ )
زَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته : " فَقَامَ سُهَيْل بْن عَمْرو إِلَى أَبِي جَنْدَل فَضَرَبَ وَجْهه وَأَخَذَ يُلَبِّبهُ " .
قَوْله : ( إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَاب )
أَيْ لَمْ نَفْرُغ مِنْ كِتَابَته .
قَوْله : ( فَأَجِزْهُ لِي )(4/468)
بِصِيغَةِ فِعْل الْأَمْر مِنْ الْإِجَازَة أَيْ أَمْضِ لِي فِعْلِي فِيهِ فَلَا أَرُدّهُ إِلَيْك ، أَوْ أَسْتَثْنِيه مِنْ الْقَضِيَّة . وَوَقَعَ فِي الْجَمْع لِلْحُمَيْدِيِّ " فَأَجِرْهُ " بِالرَّاءِ وَرَجَّحَ اِبْن الْجَوْزِيّ الزَّاي ، وَفِيهِ أَنَّ الِاعْتِبَار فِي الْعُقُود بِالْقَوْلِ وَلَوْ تَأَخَّرَتْ الْكِتَابَة وَالْإِشْهَاد ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَمْضَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُهَيْلٍ الْأَمْر فِي رَدّ اِبْنه إِلَيْهِ ، وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَطَّفَ مَعَهُ بِقَوْلِهِ : " لَمْ نَقْضِ الْكِتَاب بَعْد " رَجَاء أَنْ يُجِيبهُ لِذَلِكَ وَلَا يُنْكِرهُ بَقِيَّة قُرَيْش لِكَوْنِهِ وَلَده ، فَلَمَّا أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاع تَرَكَهُ لَهُ .
قَوْله : ( قَالَ مِكْرَز بَلْ )
كَذَا لِلْأَكْثَرِ بِلَفْظِ الْإِضْرَاب ، وَلِلْكُشْمِيهَنِي " بَلَى " وَلَمْ يَذْكُر هُنَا مَا أَجَابَ بِهِ سُهَيْل مِكْرَزًا فِي ذَلِكَ ، قِيلَ فِي الَّذِي وَقَعَ مِنْ مِكْرَز فِي هَذِهِ الْقِصَّة إِشْكَال ، لِأَنَّهُ خِلَاف مَا وَصَفَهُ بِهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْفُجُور ، وَكَانَ مِنْ الظَّاهِر أَنْ يُسَاعِد سُهَيْلًا عَلَى أَبِي جَنْدَل فَكَيْف وَقَعَ مِنْهُ عَكْس ذَلِكَ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفُجُور حَقِيقَة ، وَلَا يَلْزَم أَنْ لَا يَقَع مِنْهُ شَيْء مِنْ الْبِرّ نَادِرًا ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ نِفَاقًا وَفِي بَاطِنه خِلَافه ، أَوْ كَانَ سَمِعَ قَوْل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ رَجُل فَاجِر فَأَرَادَ أَنْ يُظْهِر خِلَاف ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ جُمْلَة فُجُوره . وَزَعَمَ بَعْض الشُّرَّاح أَنَّ سُهَيْلًا لَمْ يُجِبْ سُؤَاله لِأَنَّ مِكْرَزًا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ جُعِلَ لَهُ أَمْر عَقْد الصُّلْح بِخِلَافِ سُهَيْل ، وَفِيهِ نَظَر فَإِنَّ الْوَاقِدِيّ رَوَى أَنَّ مِكْرَزًا كَانَ مِمَّنْ جَاءَ فِي الصُّلْح مَعَ سُهَيْل ، وَكَانَ مَعَهُمَا حُوَيْطِب بْن عَبْد الْعُزَّى ، لَكِنْ ذَكَرَ فِي رِوَايَته مَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ إِجَازَة مِكْرَز لَمْ تَكُنْ فِي أَنْ لَا يَرُدّهُ إِلَى سُهَيْل بَلْ فِي تَأْمِينه مِنْ التَّعْذِيب وَنَحْو ذَلِكَ ، وَأَنَّ مِكْرَزًا وَحُوَيْطِبًا أَخَذَا أَبَا جَنْدَل فَأَدْخَلَاهُ فُسْطَاطًا وَكَفَّا أَبَاهُ عَنْهُ . وَفِي " مَغَازِي اِبْن عَائِذ " نَحْو ذَلِكَ كُلّه مِنْ رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة وَلَفْظه " فَقَالَ مِكْرَز بْن حَفْص وَكَانَ مِمَّنْ أَقْبَلَ مَعَ سُهَيْل بْن عَمْرو فِي اِلْتِمَاس الصُّلْح : أَنَا لَهُ جَار ، وَأَخَذَ قَيْده فَأَدْخَلَهُ فُسْطَاطًا " وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ أَقْوَى مِنْ الِاحْتِمَالَات الْأُوَل ، فَإِنَّهُ لَمْ يُجِزْهُ بِأَنْ يُقِرّهُ عِنْد الْمُسْلِمِينَ بَلْ لِيَكُفّ الْعَذَاب عَنْهُ لِيَرْجِع إِلَى طَوَاعِيَة أَبِيهِ ، فَمَا خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ الْفُجُور . لَكِنْ يُعَكِّر عَلَيْهِ قَوْله فِي رِوَايَة الصَّحِيح " فَقَالَ مِكْرَز : قَدْ أَجَزْنَاهُ لَك " يُخَاطِب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ .
قَوْله : ( قَالَ أَبُو جَنْدَل أَيْ مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ ، أُرَدّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ ؟ إِلَخْ )(4/469)
زَادَ اِبْن إِسْحَاق " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا جَنْدَل ، اِصْبِرْ وَاحْتَسِبْ فَإِنَّا لَا نَغْدِر ، وَإِنَّ اللَّه جَاعِل لَك فَرْجًا وَمَخْرَجًا " وَفِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح " فَأَوْصَاهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ فَوَثَبَ عُمَر مَعَ أَبِي جَنْدَل يَمْشِي إِلَى جَنْبه وَيَقُول : اِصْبِرْ ، فَإِنَّمَا هُمْ مُشْرِكُونَ ، وَإِنَّمَا دَم أَحَدهمْ كَدَمِ كَلْب ، قَالَ وَيُدْنِي قَائِمَة السَّيْف مِنْهُ ، يَقُول عُمَر : رَجَوْت أَنْ يَأْخُذهُ مِنِّي فَيَضْرِب بِهِ أَبَاهُ ، فَضَنَّ الرَّجُل - أَيْ بَخِلَ - بِأَبِيهِ وَنَفَذَتْ الْقَضِيَّة " قَالَ الْخَطَّابِيُّ : تَأَوَّلَ الْعُلَمَاء مَا وَقَعَ فِي قِصَّة أَبِي جَنْدَل عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنَّ اللَّه قَدْ أَبَاحَ التَّقِيَّة لِلْمُسْلِمِ إِذَا خَافَ الْهَلَاك ، وَرَخَّصَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّم بِالْكُفْرِ عَلَى إِضْمَار الْإِيمَان إِنْ لَمْ يُمْكِنهُ التَّوْرِيَة ، فَلَمْ يَكُنْ رَدّه إِلَيْهِمْ إِسْلَامًا لِأَبِي جَنْدَل إِلَى الْهَلَاك مَعَ وُجُوده السَّبِيل إِلَى الْخَلَاص مِنْ الْمَوْت بِالتَّقِيَّةِ . وَالْوَجْه الثَّانِي أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ إِلَى أَبِيهِ ، وَالْغَالِب أَنَّ أَبَاهُ لَا يَبْلُغ بِهِ الْهَلَاك ، وَإِنْ عَذَّبَهُ أَوْ سَجَنَهُ فَلَهُ مَنْدُوحَة بِالتَّقِيَّةِ أَيْضًا ، وَأَمَّا مَا يَخَافهُ عَلَيْهِ مِنْ الْفِتْنَة فَإِنَّ ذَلِكَ اِمْتِحَان مِنْ اللَّه يَبْتَلِي بِهِ صَبْر عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء هَلْ يَجُوز الصُّلْح مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ يُرَدّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ مُسْلِمًا مِنْ عِنْدهمْ إِلَى بِلَاد الْمُسْلِمِينَ أَمْ لَا ؟ فَقِيلَ : نَعَمْ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قِصَّة أَبِي جَنْدَل وَأَبِي بَصِير ، وَقِيلَ لَا ، وَأَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي الْقِصَّة مَنْسُوخ ، وَإِنَّ نَاسِخه حَدِيث " أَنَا بَرِيء مِنْ مُسْلِم بَيْن مُشْرِكِينَ " وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّة . وَعِنْد الشَّافِعِيَّة تَفْصِيل بَيْن الْعَاقِل وَالْمَجْنُون وَالصَّبِيّ فَلَا يُرَدَّانِ . وَقَالَ بَعْض الشَّافِعِيَّة : ضَابِط جَوَاز الرَّدّ أَنْ يَكُون الْمُسْلِم بِحَيْثُ لَا تَجِب عَلَيْهِ الْهِجْرَة مِنْ دَارَ الْحَرْب وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب : فَأَتَيْت نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
هَذَا مِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الَّذِي حَدَّثَ الْمِسْوَر وَمَرْوَان بِقِصَّةِ الْحُدَيْبِيَة هُوَ عُمَر ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ قِصَّة عُمَر مَعَ أَبِي جَنْدَل .
قَوْله : ( فَقُلْت : أَلَسْت نَبِيّ اللَّه حَقًّا ؟ قَالَ : بَلَى )
زَادَ الْوَاقِدِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد " قَالَ عُمَر : لَقَدْ دَخَلَنِي أَمْر عَظِيم ، وَرَاجَعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَاجَعَة مَا رَاجَعْته مِثْلهَا قَطّ " وَفِي حَدِيث سُهَيْل بْن حُنَيْفٍ الْآتِي فِي الْجِزْيَة وَسُورَة الْفَتْح " فَقَالَ عُمَر : أَلَسْنَا عَلَى الْحَقّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِل ؟ أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّة وَقَتَلَاهُمْ فِي النَّار ؟ فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّة - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَكَسْر النُّون وَتَشْدِيد التَّحْتَانِيَّة - فِي دِيننَا ، وَنَرْجِع وَلَمْ يَحْكُم اللَّه بَيْننَا ؟ فَقَالَ : يَا اِبْن الْخَطَّاب ، إِنِّي رَسُول اللَّه ، وَلَنْ يُضَيِّعنِي اللَّه . فَرَجَعَ مُتَغَيِّظًا ، فَلَمْ يَصْبِر حَتَّى جَاءَ أَبَا بَكْر " ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّار مِنْ حَدِيث عُمَر نَفْسه مُخْتَصَرًا وَلَفْظه " فَقَالَ عُمَر : اِتَّهَمُوا الرَّأْي عَلَى الدِّين ، فَلَقَدْ رَأَيْتنِي أَرُدّ أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْيٍ ، وَمَا أَلُوم عَنْ الْحَقّ " وَفِيهِ : " قَالَ فَرَضِيَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَيْت ، حَتَّى قَالَ لِي : يَا عُمَر ، تَرَانِي رَضِيت وَتَأْبَى " .
قَوْله : ( إِنِّي رَسُول اللَّه وَلَسْت أَعْصِيه )
ظَاهِر فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَل مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا بِالْوَحْيِ .
قَوْله : ( أَوَلَيْسَ كُنْت حَدَّثْتنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْت )(4/470)
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " كَانَ الصَّحَابَة لَا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْح لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُول اللَّه ، فَلَمَّا رَأَوْا الصُّلْح دَخَلَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَمْر عَظِيم حَتَّى كَادُوا يَهْلَكُونَ " وَعِنْد الْوَاقِدِيّ وَأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رَأَى فِي مَنَامه قَبْل أَنْ يَعْتَمِر أَنَّهُ دَخَلَ هُوَ وَأَصْحَابه الْبَيْت ، فَلَمَّا رَأَوْا تَأْخِير ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِمْ " وَيُسْتَفَاد مِنْ هَذَا الْفَصْل جَوَاز الْبَحْث فِي الْعِلْم حَتَّى يَظْهَر الْمَعْنَى ، وَأَنَّ الْكَلَام يُحْمَل عَلَى عُمُومه وَإِطْلَاقه حَتَّى تَظْهَر إِرَادَة التَّخْصِيص وَالتَّقْيِيد ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل شَيْء وَلَمْ يَذْكُر مُدَّة مُعَيَّنَة لَمْ يَحْنَث حَتَّى تَنْقَضِي أَيَّام حَيَاته .
قَوْله : ( فَأَتَيْت أَبَا بَكْر )
لَمْ يَذْكُر عُمَر أَنَّهُ رَاجَعَ أَحَدًا فِي ذَلِكَ بَعْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْر أَبِي بَكْر الصِّدِّيق ، وَذَلِكَ لِجَلَالَةِ قَدْره وَسَعَة عِلْمه عِنْده ، وَفِي جَوَاب أَبِي بَكْر لِعُمَر بِنَظِيرِ مَا أَجَابَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاء دَلَالَة عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَكْمَلَ الصَّحَابَة وَأَعْرَفهمْ بِأَحْوَالِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمهُمْ بِأُمُورِ الدِّين وَأَشَدّهمْ مُوَافَقَة لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى . وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيح فِي هَذَا الْحَدِيث بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ اِسْتَنْكَرُوا الصُّلْح الْمَذْكُور وَكَانُوا عَلَى رَأْي عُمَر فِي ذَلِكَ ، وَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْفَصْل أَنَّ الصِّدِّيق لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُوَافِقًا لَهُمْ ، بَلْ كَانَ قَلْبه عَلَى قَلْب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاء ، وَسَيَأْتِي فِي الْهِجْرَة أَنَّ اِبْن الدُّغُنَّة وَصَفَ أَبَا بَكْر الصِّدِّيق بِنَظِيرِ مَا وَصَفَتْ بِهِ خَدِيجَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاء مِنْ كَوْنه يَصِل الرَّحِم وَيَحْمِل الْكَلّ وَيُعِين عَلَى نَوَائِب الْحَقّ وَغَيْر ذَلِكَ ، فَلَمَّا كَانَتْ صِفَاتهمَا مُتَشَابِهَة مِنْ الِابْتِدَاء اِسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى الِانْتِهَاء . وَقَوْل أَبِي بَكْر : " فَاسْتَمْسَكَ بِغَرْزِهِ " هُوَ بِفَتْحِ الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء بَعْدهَا زَاي ، وَهُوَ - أَيْ الْغَرْز - لِلْإِبِلِ بِمَنْزِلَةِ الرَّكْب لِلْفَرَسِ ، وَالْمُرَاد بِهِ التَّمَسُّك بِأَمْرِهِ وَتَرْك الْمُخَالَفَة لَهُ كَاَلَّذِي يُمْسِك بِرَكْبِ الْفَارِس فَلَا يُفَارِقهُ .
قَوْله : ( قَالَ الزُّهْرِيُّ قَالَ عُمَر : فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا )(4/471)
هُوَ مَوْصُول إِلَى الزُّهْرِيِّ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُور وَهُوَ مُنْقَطِع بَيْن الزُّهْرِيِّ وَعُمَر ، قَالَ بَعْض الشُّرَّاح . قَوْله " أَعْمَالًا " أَيْ مِنْ الذَّهَاب وَالْمَجِيء وَالسُّؤَال وَالْجَوَاب ، وَلَمَّا يَكُنْ ذَلِكَ شَكًّا مِنْ عُمَر ، بَلْ طَلَبًا لِكَشْفِ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ ، وَحَثًّا عَلَى إِذْلَال الْكُفَّار ، لَمَّا عَرَفَ مِنْ قُوَّته فِي نُصْرَة الدِّين ا ه . وَتَفْسِير الْأَعْمَال بِمَا ذَكَرَ مَرْدُود ، بَلْ الْمُرَاد بِهِ الْأَعْمَال الصَّالِحَة لِيُكَفِّر عَنْهُ مَا مَضَى مِنْ التَّوَقُّف فِي الِامْتِثَال اِبْتِدَاء ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَر التَّصْرِيح بِمُرَادِهِ بِقَوْلِهِ : " أَعْمَالًا " : فَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَكَانَ عُمَر يَقُول مَا زِلْت أَتَصَدَّق وَأَصُوم وَأُصَلِّي وَأُعْتِق مِنْ الَّذِي صَنَعْت يَوْمئِذٍ مَخَافَة كَلَامِي الَّذِي تَكَلَّمْت بِهِ " وَعِنْد الْوَاقِدِيّ مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس " قَالَ عُمَر : لَقَدْ أَعْتَقْت بِسَبَبِ ذَلِكَ رِقَابًا ، وَصُمْت دَهْرًا " . وَأَمَّا قَوْله : " وَلَمْ يَكُنْ شَكًّا " فَإِنْ أَرَادَ نَفْي الشَّكّ فِي الدِّين فَوَاضِح ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " أَنَّ أَبَا بَكْر لَمَّا قَالَ لَهُ : اِلْزَمْ غَرْزه فَإِنَّهُ رَسُول اللَّه ، قَالَ عُمَر وَأَنَا أَشْهَد أَنَّهُ رَسُول اللَّه " وَإِنْ أَرَادَ نَفْي الشَّكّ فِي وُجُود الْمَصْلَحَة وَعَدَمهَا فَمَرْدُود ، وَقَدْ قَالَ السُّهَيْلِيّ : هَذَا الشَّكّ هُوَ مَا لَا يَسْتَمِرّ صَاحِبه عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَاب الْوَسْوَسَة ، كَذَلِكَ قَالَ ، وَاَلَّذِي يَظْهَر أَنَّهُ تَوَقُّف مِنْهُ لِيَقِف عَلَى الْحِكْمَة فِي الْقِصَّة وَتَنْكَشِف عَنْهُ الشُّبْهَة ، وَنَظِيره قِصَّته فِي الصَّلَاة عَلَى عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأُولَى لَمْ يُطَابِق اِجْتِهَاده الْحُكْم بِخِلَافِ الثَّانِيَة ، وَهِيَ هَذِهِ الْقِصَّة ، وَإِنَّمَا عَمِلَ الْأَعْمَال الْمَذْكُورَة لِهَذِهِ ، وَإِلَّا فَجَمِيع مَا صَدَرَ مِنْهُ كَانَ مَعْذُورًا فِيهِ بَلْ هُوَ مَأْجُور لِأَنَّهُ مُجْتَهِد فِيهِ .
قَوْله : ( فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّة الْكِتَاب )
زَادَ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته " فَلَمَّا فَرَغَ الْكِتَاب أَشْهَدَ عَلَى الصُّلْح رِجَالًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرِجَالًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْر وَعُمَر وَعَلِيّ وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف وَسَعْد بْن أَبِي وَقَاصٍ وَمُحَمَّد بْن مَسْلَمَة وَعَبْد اللَّه بْن سُهَيْل بْن عَمْرو وَمِكْرَز بْن حَفْص وَهُوَ مُشْرِك " .
قَوْله : ( قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ اِحْلِقُوا )
فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ الْقَضِيَّة أَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَدْيِ فَسَاقَهُ الْمُسْلِمُونَ - يَعْنِي إِلَى جِهَة الْحَرَم - حَتَّى قَامَ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْش فَحَبَسُوهُ فَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّحْرِ " .
قَوْله : ( فَوَاَللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُل )
قِيلَ كَأَنَّهُمْ تَوَقَّفُوا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون الْأَمْر بِذَلِكَ لِلنَّدْبِ ، أَوْ لِرَجَاءِ نُزُول الْوَحْي بِإِبْطَالِ الصُّلْح الْمَذْكُور ، أَوْ تَخْصِيصه بِالْإِذْنِ بِدُخُولِهِمْ مَكَّة ذَلِكَ الْعَام لِإِتْمَامِ نُسُكهمْ ، وَسَوَّغَ لَهُمْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ زَمَان وُقُوع النَّسْخ ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونُوا أَلْهَتْهُمْ صُورَة الْحَال فَاسْتَغْرَقُوا فِي الْفِكْر لِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ الذُّلّ عِنْد أَنْفُسهمْ مِنْ ظُهُور قُوَّتهمَا وَاقْتِدَارهمْ فِي اِعْتِقَادهمْ عَلَى بُلُوغ غَرَضهمْ وَقَضَاء نُسُكهمْ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَة ، أَوْ أَخَّرُوا الِامْتِثَال لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْأَمْر الْمُطْلَق لَا يَقْتَضِي الْفَوْر ، وَيَحْتَمِل مَجْمُوع هَذِهِ الْأُمُور لِمَجْمُوعِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَام أُمّ سَلَمَة ، وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّة لِمَنْ أَثْبَتَ أَنَّ الْأَمْر لِلْفَوْرِ ، وَلَا لِمَنْ نَفَاهُ ، وَلَا لِمَنْ قَالَ إِنَّ الْأَمْر لِلْوُجُوبِ لَا لِلنَّدْبِ ، لِمَا يُطْرَق الْقِصَّة مِنْ الِاحْتِمَال .
قَوْله : ( فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النَّاس )(4/472)
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَقَالَ لَهَا أَلَا تَرَيْنَ إِلَى النَّاس ؟ إِنِّي آمُرهُمْ بِالْأَمْرِ فَلَا يَفْعَلُونَهُ " وَفِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح " فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، فَدَخَلَ عَلَى أُمّ سَلَمَة فَقَالَ : هَلَكَ الْمُسْلِمُونَ ، أَمَرْتهمْ أَنْ يَحْلِقُوا وَيَنْحَرُوا فَلَمْ يَفْعَلُوا ، قَالَ فَجَلَّى اللَّه عَنْهُمْ يَوْمئِذٍ بِأُمِّ سَلَمَة " .
قَوْله : ( قَالَتْ أُمّ سَلَمَة : يَا نَبِيّ اللَّه أَتُحِبُّ ذَلِكَ ؟ اُخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّم أَحَدًا مِنْهُمْ )
زَادَ اِبْن إِسْحَاق " قَالَتْ أُمّ سَلَمَة : يَا رَسُول اللَّه لَا تُكَلِّمهُمْ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ دَخَلَهُمْ أَمْر عَظِيم مِمَّا أَدْخَلْت عَلَى نَفْسك مِنْ الْمَشَقَّة فِي أَمْر الصُّلْح وَرُجُوعهمْ بِغَيْرِ فَتْح " ، وَيَحْتَمِل أَنَّهَا فَهِمَتْ عَنْ الصَّحَابَة أَنَّهُ اِحْتَمَلَ عِنْدهمْ أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالتَّحَلُّلِ أَخْذًا بِالرُّخْصَةِ فِي حَقّهمْ وَأَنَّهُ هُوَ يَسْتَمِرّ عَلَى الْإِحْرَام أَخْذًا بِالْعَزِيمَةِ فِي حَقّ نَفْسه ، فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّل لِيَنْتَفِيَ عَنْهُمْ هَذَا الِاحْتِمَال ، وَعَرَفَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوَاب مَا أَشَارَتْ بِهِ فَفَعَلَهُ فَلَمَّا رَأَى الصَّحَابَة ذَلِكَ بَادَرُوا إِلَى فِعْل مَا أَمَرَهُمْ بِهِ إِذْ لَمْ يَبْقَ بَعْد ذَلِكَ غَايَة تُنْتَظَر . وَفِيهِ فَضْل الْمَشُورَة ، وَأَنَّ الْفِعْل إِذَا اِنْضَمَّ إِلَى الْقَوْل كَانَ أَبْلَغَ مِنْ الْقَوْل الْمُجَرَّد ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْفِعْل مُطْلَقًا أَبْلَغ مِنْ الْقَوْل ، وَجَوَاز مُشَاوَرَة الْمَرْأَة الْفَاضِلَة ، وَفَضْل أُمّ سَلَمَة وَوُفُور عَقْلهَا حَتَّى قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ : لَا نَعْلَم اِمْرَأَة أَشَارَتْ بِرَأْيٍ فَأَصَابَتْ إِلَّا أُمّ سَلَمَة . كَذَا قَالَ . وَقَدْ اِسْتَدْرَكَ بَعْضهمْ عَلَيْهِ بِنْت شُعَيْب فِي أَمْر مُوسَى . وَنَظِير هَذَا مَا وَقَعَ لَهُمْ فِي غَزْوَة الْفَتْح كَمَا سَيَأْتِي هُنَاكَ مِنْ أَمْره لَهُمْ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَان ، فَلَمَّا اِسْتَمَرُّوا عَلَى الِامْتِنَاع تَنَاوَلَ الْقَدَح فَشَرِبَ ، فَلَمَّا رَأَوْهُ شَرِبَ شَرِبُوا .
قَوْله : ( نَحَرَ بَدَنه )
فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " هَدْيه " زَادَ اِبْن إِسْحَاق عَنْ اِبْن أَبِي نُجَيْح عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ سَبْعِينَ بَدَنَة كَانَ فِيهَا جَمَل لِأَبِي جَهْل فِي رَأْسه بُرَّة مِنْ فِضَّة لِيَغِيظَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ ، وَكَانَ غَنِمَهُ مِنْهُ فِي غَزْوَة بَدْر .
قَوْله : ( وَدَعَا حَالِقه فَحَلَقَهُ )(4/473)
قَالَ اِبْن إِسْحَاق : " بَلَغَنِي أَنَّ الَّذِي حَلَقَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْم هُوَ خِرَاش - بِمُعْجَمَتَيْنِ - اِبْن أُمَيَّة بْن الْفَضْل الْخُزَاعِيّ قَالَ اِبْن إِسْحَاق : فَحَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي نُجَيْح عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : حَلَقَ رِجَال يَوْمئِذٍ وَقَصَّرَ آخَرُونَ ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَرْحَم اللَّه الْمُحَلِّقِينَ ، قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِينَ - الْحَدِيث ، وَفِي آخِره - قَالُوا يَا رَسُول اللَّه لِمَ ظَاهَرْت لِلْمُحَلِّقِينَ دُون الْمُقَصِّرِينَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا " . قَالَ اِبْن إِسْحَاق قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثه : ثُمَّ اِنْصَرَفَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلًا حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة وَنَزَلَتْ سُورَة الْفَتْح - فَذَكَرَ الْحَدِيث فِي تَفْسِيرهَا إِلَى أَنْ قَالَ - قَالَ الزُّهْرِيُّ فَمَا فُتِحَ فِي الْإِسْلَام فَتْح قَبْله كَانَ أَعْظَم مِنْ فَتْح الْحُدَيْبِيَة ، إِنَّمَا كَانَ الْقِتَال حَيْثُ اِلْتَقَى النَّاس ، وَلَمَّا كَانَتْ الْهُدْنَة وَوَضَعَتْ الْحَرْب وَأَمِنَ النَّاس كَلَّمَ بَعْضهمْ بَعْضًا وَالْتَقَوْا وَتَفَاوَضُوا فِي الْحَدِيث وَالْمُنَازَعَة وَلَمْ يُكَلَّم أَحَد بِالْإِسْلَامِ يَعْقِل شَيْئًا فِي تِلْكَ الْمُدَّة إِلَّا دَخَلَ فِيهِ ، وَلَقَدْ دَخَلَ فِي تَيْنِك السَّنَتَيْنِ مِثْل مَنْ كَانَ فِي الْإِسْلَام قَبْل ذَلِكَ أَوْ أَكْثَر ، يَعْنِي مِنْ صَنَادِيد قُرَيْش . وَمِمَّا ظَهَرَ مِنْ مَصْلَحَة الصُّلْح الْمَذْكُور غَيْر مَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ كَانَ مُقَدِّمَة بَيْن الْفَتْح الْأَعْظَم الَّذِي دَخَلَ النَّاس عَقِبه فِي دِين اللَّه أَفْوَاجًا ، وَكَانَتْ الْهُدْنَة مِفْتَاحًا لِذَلِكَ . وَلَمَّا كَانَتْ قِصَّة الْحُدَيْبِيَة مُقَدِّمَة لِلْفَتْحِ سُمِّيَتْ فَتْحًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي ، فَإِنَّ الْفَتْح فِي اللُّغَة فَتْح الْمُغْلَق ، وَالصُّلْح كَانَ مُغْلَقًا حَتَّى فَتَحَهُ اللَّه ، وَكَانَ مِنْ أَسْبَاب فَتْحه صَدّ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْبَيْت ، وَكَانَ فِي الصُّورَة الظَّاهِرَة ضَيْمًا لِلْمُسْلِمِينَ وَفِي الصُّورَة الْبَاطِنَة عِزًّا لَهُمْ ، فَإِنَّ النَّاس لِأَجْلِ الْأَمْن الَّذِي وَقَعَ بَيْنهمْ اِخْتَلَطَ بَعْضهمْ بِبَعْضٍ مِنْ غَيْر نَكِير ، وَأَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ الْقُرْآن ، وَنَاظَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَام جَهْرَة آمَنِينَ ، وَكَانُوا قَبْل ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُونَ عِنْدهمْ بِذَلِكَ إِلَّا خُفْيَة ، وَظَهَرَ مَنْ كَانَ يُخْفِي إِسْلَامه فَذَلَّ الْمُشْرِكُونَ مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْعِزَّة وَأُقْهِرُوا مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْغَلَبَة .
قَوْله : ( ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَة مُؤْمِنَات إِلَخْ )(4/474)
ظَاهِره أَنَّهُنَّ جِئْنَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا جِئْنَ إِلَيْهِ بَعْد فِي أَثْنَاء الْمُدَّة ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّل الشُّرُوط مِنْ رِوَايَة عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيِّ مَا يَشْهَد لِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ : " وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَد مِنْ الرِّجَال إِلَّا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّة وَلَوْ كَانَ مُسْلِمًا ، وَجَاءَ الْمُؤْمِنَات مُهَاجِرَات ، وَكَانَتْ أُمّ كُلْثُوم بِنْت عُقْبَةَ مِمَّنْ خَرَجَ ، وَيُقَال إِنَّهَا كَانَتْ تَحْت عَمْرو بْن الْعَاصِ ، وَسَمَّى مِنْ الْمُؤْمِنَات الْمَذْكُورَات أُمَيْمَة بِنْت بِشْر وَكَانَتْ تَحْت حَسَّان - وَيُقَال اِبْن دَحْدَاحَة - قَبْل أَنْ يُسْلِم فَتَزَوَّجَهَا سَهْل بْن حُنَيْفٍ فَوَلَدَتْ لَهُ اِبْنه عَبْد اللَّه بْن سَهْل ، ذَكَرَ ذَلِكَ اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ طَرِيق يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب مُرْسَلًا ، وَالطَّبَرِيّ مِنْ طَرِيق اِبْن إِسْحَاق عَنْ الزُّهْرِيِّ . وَسُبَيْعَة بِنْت الْحَارِث الْأَسْلَمِيَّة وَكَانَتْ تَحْت مُسَافِر الْمَخْزُومِيّ وَيُقَال صَيْفِيّ بْن الرَّاهِب ، وَالْأَوَّل أَوْلَى فَقَدْ ذَكَرَ اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ طَرِيق مُقَاتِل بْن حَيَّان أَنَّ اِمْرَأَة صَيْفِيّ اِسْمهَا سَعِيدَة فَتَزَوَّجَهَا عُمَر . وَأُمّ الْحَكَم بِنْت أَبِي سُفْيَان كَانَتْ تَحْت عِيَاض بْن شَدَّاد فَارْتَدَّتْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي آخِر الشُّرُوط . وَبِرْوَع بِنْت عُقْبَةَ كَانَتْ تَحْت شَمَّاس بْن عُثْمَان ، وَعَبَدَة بِنْت عَبْد الْعُزَّى بْن نَضْلَة كَانَتْ تَحْت عَمْرو بْن عَبْدِ وُدّ . قُلْت . لَكِنْ عَمْرو قُتِلَ بِالْخَنْدَقِ وَكَأَنَّهَا فَرَّتْ بَعْد قَتْله ، وَكَانَ مِنْ سُنَّة الْجَاهِلِيَّة أَنَّ مَنْ مَاتَ زَوْجهَا كَانَ أَهْله أَحَقّ بِهَا . وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ مِنْ النِّسَاء فِي تِلْكَ الْمُدَّة بِنْت حَمْزَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي عُمْرَة الْقَضِيَّة ، وَيَأْتِي تَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمَغَازِي ، وَشَرَحَ قِصَّة الِامْتِحَان فِي أَوَاخِر كِتَاب النِّكَاح فِي " بَاب نِكَاح مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمُشْرِكَات " مَعَ بَقِيَّة فَوَائِده إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَة فَجَاءَهُ أَبُو بَصِير )
بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَة وَكَسْر الْمُهْمَلَة رَجُل مِنْ قُرَيْش هُوَ عُتْبَة بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْمُثَنَّاة وَقِيلَ فِيهِ عُبَيْد بِمُوَحَّدَةٍ مُصَغَّر - وَهُوَ وَهْم - اِبْن أَسِيد بِفَتْحِ الْهَمْزَة عَلَى الصَّحِيح اِبْن جَارِيَة بِالْجِيمِ الثَّقَفِيّ حَلِيف بَنِي زُهْرَة سَمَّاهُ وَنَسَبَهُ اِبْن إِسْحَاق فِي رِوَايَته ، وَعُرِفَ بِهَذَا أَنَّ قَوْله فِي حَدِيث الْبَاب " رَجُل مِنْ قُرَيْش " أَيْ بِالْحِلْفِ لِأَنَّ بَنِي زُهْرَة مِنْ قُرَيْش .
قَوْله : ( فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبه رَجُلَيْنِ )
سَمَّاهُمَا اِبْن سَعْد فِي " الطَّبَقَات " فِي تَرْجَمَة أَبِي بَصِير خُنَيْس وَهُوَ بِمُعْجَمَةٍ وَنُون وَآخِره مُهْمَلَة مُصَغَّر اِبْن جَابِر وَمَوْلًى لَهُ يُقَال لَهُ كَوْثَر ، وَفِي الرِّوَايَة الْآتِيَة آخِر الْبَاب أَنَّ الْأَخْنَس بْن شُرَيْق هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ فِي طَلَبه ، زَادَ اِبْن إِسْحَاق " فَكَتَبَ الْأَخْنَس بْن شُرَيْق وَالْأَزْهَر بْن عَبْد عَوْف إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا وَبَعَثَا بِهِ مَعَ مَوْلًى لَهُمَا وَرَجُل مِنْ بَنِي عَامِر اِسْتَأْجَرَاهُ بِبَكْرَيْنِ " ا ه . وَالْأَخْنَس مِنْ ثَقِيف رَهْط أَبِي بَصِير ، وَأَزْهَر مِنْ بَنِي زُهْرَة حُلَفَاء أَبِي بَصِير فَلِكُلّ مِنْهُمَا الْمُطَالَبَة بِرَدِّهِ ، وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَنَّ الْمُطَالَبَة بِالرَّدِّ تَخْتَصّ بِمَنْ كَانَ مِنْ عَشِيرَة الْمَطْلُوب بِالْأَصَالَةِ أَوْ الْحِلْف ، وَقِيلَ إِنَّ اِسْم أَحَد الرَّجُلَيْنِ مَرْثَد بْن حُمْرَان ، زَادَ الْوَاقِدِيّ فَقَدِمَا بَعْد أَبِي بَصِير بِثَلَاثَةِ أَيَّام .
قَوْله : ( فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ )(4/475)
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا بَصِير إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْم صَالَحُونَا عَلَى مَا عَلِمْت ، وَإِنَّا لَا نَغْدِر ، فَالْحَقْ بِقَوْمِك . فَقَالَ : أَتَرُدُّنِي إِلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي عَنْ دِينِي وَيُعَذِّبُونَنِي ؟ قَالَ : اِصْبِرْ وَاحْتَسِبْ ، فَإِنَّ اللَّه جَاعِل لَك فَرَجًا وَمَخْرَجًا " وَفِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح مِنْ الزِّيَادَة " فَقَالَ لَهُ عُمَر : أَنْتَ رَجُل وَهُوَ رَجُل وَمَعَك السَّيْف " وَهَذَا أَوْضَح فِي التَّعْرِيض بِقَتْلِهِ . وَاسْتَدَلَّ بَعْض الشَّافِعِيَّة بِهَذِهِ الْقِصَّة عَلَى جَوَاز دَفْع الْمَطْلُوب لِمَنْ لَيْسَ مِنْ عَشِيرَته إِذَا كَانَ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْهُ ، لِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ أَبَا بَصِير لِلْعَامِرِيِّ وَرَفِيقه وَلَمْ يَكُونَا مِنْ عَشِيرَته وَلَمْ يَكُونَا مِنْ رَهْطه ، لَكِنَّهُ أَمِنَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَانَ أَقْوَى مِنْهُمَا ، وَلِهَذَا آلَ الْأَمْر إِلَى أَنَّهُ قَتَلَ أَحَدهمَا وَأَرَادَ قَتْل الْآخَر . وَفِيمَا اِسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ نَظَر ، لِأَنَّ الْعَامِرِيّ وَرَفِيقه إِنَّمَا كَانَا رَسُولَيْنِ ، وَلَوْ أَنَّ فِيهِمَا رِيبَة لَمَا أَرْسَلَهُمَا مَنْ هُوَ مِنْ عَشِيرَته . وَأَيْضًا فَقَبِيلَة قُرَيْش تَجْمَع الْجَمِيع لِأَنَّ بَنِي زُهْرَة وَبَنِي عَامِر جَمِيعًا مِنْ قُرَيْش وَأَبُو بَصِير كَانَ مِنْ حُلَفَاء بَنِي زُهْرَة كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح " جَاءَ أَبُو بَصِير مُسْلِمًا وَجَاءَ وَلِيّه خَلْفه فَقَالَ : يَا مُحَمَّد رُدَّهُ عَلَيَّ فَرَدَّهُ " وَيُجْمَع بِأَنَّ فِيهِ مَجَازًا وَالتَّقْدِير : جَاءَ رَسُول وَلِيّه ، وَرَسُول اِسْم جِنْس يَشْمَل الْوَاحِد فَصَاعِدًا ، أَوْ يُحْمَل عَلَى أَنَّ الْآخَر كَانَ رَفِيقًا لِلرَّسُولِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولًا بِالْأَصَالَةِ .
قَوْله : ( فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْر لَهُمْ )
فِي رِوَايَة الْوَاقِدِيّ " فَلَمَّا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَة دَخَلَ أَبُو بَصِير الْمَسْجِد فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَجَلَسَ يَتَغَدَّى ، وَدَعَاهُمَا فَقَدَّمَ سُفْرَة لَهُمَا فَأَكَلُوا جَمِيعًا " .
قَوْله : ( فَقَالَ أَبُو بَصِير لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ )
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " لِلْعَامِرِيِّ " وَفِي رِوَايَة اِبْن سَعْد " لِخُنَيْس بْن جَابِر " .
قَوْله : ( فَاسْتَلَّهُ الْآخَر )
أَيْ صَاحِب السَّيْف أَخْرَجَهُ مِنْ غِمْده .
قَوْله : ( فَأَمْكَنَهُ بِهِ ) أَيْ بِيَدِهِ ، وَفِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيّ " فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ " .
قَوْله : ( فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ )
بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَة وَالرَّاء أَيْ خَمَدَتْ حَوَاسّه ، وَهِيَ كِنَايَة عَنْ الْمَوْت ؛ لِأَنَّ الْمَيِّت تَسْكُن حَرَكَته ، وَأَصْل الْبَرَد السُّكُون ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ ، وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " فَعَلَاهُ حَتَّى قَتَلَهُ " .
قَوْله : ( وَفَرَّ الْآخَر )
فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " وَخَرَجَ الْمَوْلَى يَشْتَدّ " أَيْ هَرَبًا .
قَوْله :( ذُعْرًا )
أَيْ خَوْفًا ، وَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق فَزَعًا .
قَوْله : ( قُتِلَ صَاحِبِي )
بِضَمِّ الْقَاف ، فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " قَتَلَ صَاحِبكُمْ صَاحِبِي " .
قَوْله : ( وَإِنِّي لَمَقْتُول )
أَيْ إِنْ لَمْ تَرُدُّوهُ عَنِّي ، وَعِنْد الْوَاقِدِيّ " وَقَدْ أَفْلَتَ مِنْهُ وَلَمْ أَكَدْ " وَوَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " فَرَدَّهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا فَأَوْثَقَاهُ ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيق نَامَا فَتَنَاوَلَ السَّيْف بِفِيهِ فَأَمَرَّهُ عَلَى الْإِسَار فَقَطَعَهُ وَضَرَبَ أَحَدهمَا بِالسَّيْفِ وَطَلَبَ الْآخَر فَهَرَبَ " وَالْأَوَّل أَصَحّ ، وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عِنْد اِبْن عَائِذ فِي الْمَغَازِي " وَجَمَزَ الْآخَر وَاتَّبَعَهُ أَبُو بَصِير حَتَّى دُفِعَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابه وَهُوَ عَاضّ عَلَى أَسْفَل ثَوْبه وَقَدْ بَدَا طَرَف ذَكَره وَالْحَصَى يَطِير مِنْ تَحْت قَدَمَيْهِ مِنْ شِدَّة عَدْوه ، وَأَبُو بَصِير يَتْبَعهُ " .
قَوْله : ( قَدْ وَاَللَّه أَوْفَى اللَّه ذِمَّتك )(4/476)
أَيْ فَلَيْسَ عَلَيْك مِنْهُمْ عِقَاب فِيمَا صَنَعْت أَنَا ، زَادَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ " فَقَالَ أَبُو بَصِير : يَا رَسُول اللَّه عَرَفْت أَنِّي إِنْ قَدِمْت عَلَيْهِمْ فَتَنُونِي عَنْ دِينِي فَفَعَلْت مَا فَعَلْت وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنهمْ عَهْد وَلَا عَقْد " ا ه . وَفِيهِ أَنَّ لِلْمُسْلِمِ الَّذِي يَجِيء مِنْ دَارَ الْحَرْب فِي زَمَن الْهُدْنَة قَتَلَ مَنْ جَاءَ فِي طَلَب رَدّه إِذَا شُرِطَ لَهُمْ ذَلِكَ ، لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِر عَلَى أَبِي بَصِير قَتْله الْعَامِرِيَّ وَلَا أَمَرَ فِيهِ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَة ، وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( وَيْلُ اُمِّهِ )
بِضَمِّ اللَّام وَوَصْل الْهَمْزَة وَكَسْر الْمِيم الْمُشَدَّدَة ، وَهِيَ كَلِمَة ذَمّ تَقُولهَا الْعَرَب فِي الْمَدْح وَلَا يَقْصِدُونَ مَعْنَى مَا فِيهَا مِنْ الذَّمّ ، لِأَنَّ الْوَيْل الْهَلَاك فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ " لِأُمِّهِ الْوَيْل " قَالَ بَدِيع الزَّمَان فِي رِسَالَة لَهُ : وَالْعَرَب تُطْلِق " تَرِبَتْ يَمِينه " فِي الْأَمْر إِذَا أَهَمَّ وَيَقُولُونَ " وَيْلُ اُمِّهِ " وَلَا يَقْصِدُونَ الذَّمّ . وَالْوَيْل يُطْلَق عَلَى الْعَذَاب وَالْحَرْب وَالزَّجْر وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْء مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَجّ فِي قَوْله لِلْأَعْرَابِيِّ " وَيْلك " . وَقَالَ الْفَرَّاء : أَصْل قَوْلهمْ وَيْلُ فُلَان وَيْ لِفُلَانٍ أَيْ فَكَثُرَ الِاسْتِعْمَال فَأَلْحَقُوا بِهَا اللَّام فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مِنْهَا وَأَعْرَبُوهَا ، وَتَبِعَهُ اِبْن مَالِك إِلَّا أَنَّهُ قَالَ تَبَعًا لِلْخَلِيلِ : إِنَّ وَيْ كَلِمَة تَعَجُّب ، وَهِيَ مِنْ أَسْمَاء الْأَفْعَال وَاللَّام بَعْدهَا مَكْسُورَة وَيَجُوز ضَمّهَا إِتْبَاعًا لِلْهَمْزَةِ وَحُذِفَتْ الْهَمْزَة تَخْفِيفًا ، وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( مِسْعَر حَرْب )
بِكَسْرِ الْمِيم وَسُكُون الْمُهْمَلَة وَفَتْح الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَبِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيز ، وَأَصْله مِنْ مِسْعَر حَرْب ، أَيْ يُسْعِرهَا . قَالَ الْخَطَّابِيُّ : كَأَنَّهُ يَصِفهُ بِالْإِقْدَامِ فِي الْحَرْب وَالتَّسْعِير لِنَارِهَا ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق " مِحَشّ " بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَشِين مُعْجَمَة وَهُوَ بِمَعْنَى مِسْعَر ، وَهُوَ الْعُود الَّذِي يُحَرَّك بِهِ النَّار .
قَوْله : ( لَوْ كَانَ لَهُ أَحَد )
أَيْ يَنْصُرهُ وَيُعَاضِدهُ وَيُنَاصِرهُ ، وَفِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيِّ " لَوْ كَانَ لَهُ رِجَال " فَلُقِّنَهَا أَبُو بَصِير فَانْطَلَقَ ، وَفِيهِ إِشَارَة إِلَيْهِ بِالْفِرَارِ لِئَلَّا يَرُدّهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ ، وَرَمَزَ إِلَى مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلْحَقُوا بِهِ ، قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء مِنْ الشَّافِعِيَّة وَغَيْرهمْ : يَجُوز التَّعْرِيض بِذَلِكَ لَا التَّصْرِيح كَمَا فِي هَذِهِ الْقِصَّة وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( حَتَّى أَتَى سِيف الْبَحْر )
بِكَسْرِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا فَاء أَيْ سَاحِله ، وَعَيَّنَ اِبْن إِسْحَاق الْمَكَان فَقَالَ " حَتَّى نَزَلَ الْعِيص " وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة بَعْدهَا مُهْمَلَة قَالَ : وَكَانَ طَرِيق أَهْل مَكَّة إِذَا قَصَدُوا الشَّام . قُلْت : وَهُوَ يُحَاذِي الْمَدِينَة إِلَى جِهَة السَّاحِل ، وَهُوَ قَرِيب مِنْ بِلَاد بَنِي سُلَيْمٍ .
قَوْله : ( وَيَنْفَلِت مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَل )
أَيْ مِنْ أَبِيهِ وَأَهْله ، وَفِي تَعْبِيره بِالصِّيغَةِ الْمُسْتَقْبَلَة إِشَارَة إِلَى إِرَادَة مُشَاهَدَة الْحَال كَقَوْلِهِ تَعَالَ : ( اللَّه الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاح فَتُثِير سَحَابًا ) وَفِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " وَانْفَلَتَ أَبُو جَنْدَل فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مُسْلِمِينَ فَلَحِقُوا بِأَبِي بَصِير فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ ذِي الْمَرْوَة عَلَى طَرِيق عِير قُرَيْش فَقَطَعُوا مَادَّتهمْ " .
قَوْله : ( حَتَّى اِجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَة )(4/477)
أَيْ جَمَاعَة وَلَا وَاحِد لَهَا مِنْ لَفْظهَا ، وَهِيَ تُطْلَق عَلَى الْأَرْبَعِينَ فَمَا دُونهَا . وَهَذَا الْحَدِيث يَدُلّ عَلَى أَنَّهَا تُطْلَق عَلَى أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ ، فَفِي رِوَايَة اِبْن إِسْحَاق أَنَّهُمْ بَلَغُوا نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ نَفْسًا ، وَفِي رِوَايَة أَبِي الْمَلِيح : بَلَغُوا أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ ، وَجَزَمَ عُرْوَة فِي الْمَغَازِي بِأَنَّهُمْ بَلَغُوا سَبْعِينَ ، وَزَعَمَ السُّهَيْلِيّ أَنَّهُمْ بَلَغُوا ثَلَثمِائَةِ رَجُل ، وَزَادَ عُرْوَة " فَلَحِقُوا بِأَبِي بَصِير وَكَرِهُوا أَنْ يَقْدَمُوا الْمَدِينَة فِي مُدَّة الْهُدْنَة خَشْيَة أَنْ يُعَادُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ " وَسَمَّى الْوَاقِدِيّ مِنْهُمْ الْوَلِيد بْن الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَة .
قَوْله : ( مَا يَسْمَعُونَ بِعِير )
أَيْ بِخَبَرِ عِير بِالْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَة أَيْ قَافِلَة .
قَوْله : ( إِلَّا اِعْتَرَضُوا لَهَا )
أَيْ وَقَفُوا فِي طَرِيقهَا بِالْعَرْضِ ، وَهِيَ كِنَايَة عَنْ مَنْعهمْ لَهَا مِنْ السَّيْر .
قَوْله : ( فَأَرْسَلَتْ قُرَيْش )
فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد عَنْ عُرْوَة " فَأَرْسَلُوا أَبَا سُفْيَان بْن حَرْب إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَث إِلَى أَبِي جَنْدَل وَمَنْ مَعَهُ وَقَالُوا : وَمَنْ خَرَجَ مِنَّا إِلَيْك فَهُوَ لَك حَلَال غَيْر حَرَج " .
قَوْله : ( فَأَرْسَلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ )
فِي رِوَايَة أَبِي الْأَسْوَد الْمَذْكُورَة " فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ " وَفِي رِوَايَة مُوسَى بْن عُقْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ " فَكَتَبَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَصِير ، فَقَدِمَ كِتَابه وَأَبُو بَصِير يَمُوت ، فَمَاتَ وَكِتَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَده ، فَدَفَنَهُ أَبُو جَنْدَل مَكَانه وَجَعَلَ عِنْد قَبْره مَسْجِدًا . قَالَ وَقَدِمَ أَبُو جَنْدَل وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَة فَلَمْ يَزُلْ بِهَا إِلَى أَنْ خَرَجَ إِلَى الشَّام مُجَاهِدًا فَاسْتُشْهِدَ فِي خِلَافَة عُمَر ، قَالَ فَعَلِمَ الَّذِينَ كَانُوا أَشَارُوا بِأَنْ لَا يُسَلَّم أَبَا جَنْدَل إِلَى أَبِيهِ أَنَّ طَاعَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْر مِمَّا كَرِهُوا " وَفِي قِصَّة أَبِي بَصِير مِنْ الْفَوَائِد جَوَاز قَتْل الْمُشْرِك الْمُعْتَدِي غِيلَة ، وَلَا يُعَدّ مَا وَقَعَ مِنْ أَبِي بَصِير غَدْرًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي جُمْلَة مَنْ دَخَلَ فِي الْمُعَاقَدَة الَّتِي بَيْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْن قُرَيْش ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ كَانَ مَحْبُوسًا بِمَكَّة ، لَكِنَّهُ لَمَّا خَشِيَ أَنَّ الْمُشْرِك يُعِيدهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ دَرَأَ عَنْ نَفْسه بِقَتْلِهِ ، وَدَافَعَ عَنْ دِينه بِذَلِكَ ، وَلَمْ يُنْكِر النَّبِيّ قَوْله ذَلِكَ . وَفِيهِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْل فِعْل أَبِي بَصِير لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَوَد وَلَا دِيَة ، قَدْ وَقَعَ عِنْد اِبْن إِسْحَاق " أَنَّ سُهَيْل بْن عَمْرو لَمَّا بَلَغَهُ قَتْل الْعَامِرِيّ طَالَبَ بِدِيَتِهِ لِأَنَّهُ مِنْ رَهْطه ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَان : لَيْسَ عَلَى مُحَمَّد مُطَالَبَة بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وَفَّى بِمَا عَلَيْهِ وَأَسْلَمَهُ لِرَسُولِكُمْ ، وَلَمْ يَقْتُلهُ بِأَمْرِهِ . وَلَا عَلَى آل أَبِي بَصِير أَيْضًا شَيْء لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى دِينهمْ " . وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرُدّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إِلَّا بِطَلَبٍ مِنْهُمْ ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا أَبَا بَصِير أَوَّل مَرَّة أَسْلَمَهُ لَهُمْ ، وَلَمَّا حَضَرَ إِلَيْهِ ثَانِيًا لَمْ يُرْسِلهُ لَهُمْ ، بَلْ لَوْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ وَهُوَ عِنْده لَأَرْسَلَهُ ، فَلَمَّا خَشِيَ أَبُو بَصِير مِنْ ذَلِكَ نَجَا بِنَفْسِهِ . وَفِيهِ أَنَّ شَرْط الرَّدّ أَنْ يَكُون الَّذِي حَضَرَ مِنْ دَار الشِّرْك بَاقِيًا فِي بَلَد الْإِمَام ، وَلَا يَتَنَاوَل مَنْ لَمْ يَكُنْ تَحْت يَد الْإِمَام وَلَا مُتَحَيِّزًا إِلَيْهِ . وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ بَعْض مُلُوك الْمُسْلِمِينَ مَثَلًا لَوْ هَادَنَ بَعْض مُلُوك الشِّرْك فَغَزَاهُمْ مَلِك آخَر مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُمْ وَغَنِمَ أَمْوَالهمْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ عَهْد الَّذِي هَادَنَهُمْ لَمْ يَتَنَاوَل مَنْ لَمْ يُهَادِنهُمْ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلّ ذَلِكَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَرِينَة تَعْمِيم .(4/478)
قَوْله : ( فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي كَفّ أَيْدِيهمْ عَنْكُمْ )
كَذَا هُنَا ، ظَاهِره أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْن أَبِي بَصِير ، وَفِيهِ نَظَر ، وَالْمَشْهُور فِي سَبَب نُزُولهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم مِنْ حَدِيث سَلَمَة بْن الْأَكْوَع وَمِنْ حَدِيث أَنَس بْن مَالِك أَيْضًا ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن مُغَفَّل بِإِسْنَادٍ صَحِيح أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ الْقَوْم الَّذِينَ أَرَادُوا مِنْ قُرَيْش أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِرَّة فَظَفِرُوا بِهِمْ ، فَعَفَا عَنْهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَزَلَتْ الْآيَة . وَقِيلَ فِي نُزُولهَا غَيْر ذَلِكَ .
قَوْله : ( مَعَرَّة الْعَرّ الْجَرَب )
يَعْنِي أَنَّ الْمَعَرَّة مُشْتَقَّة مِنْ الْعَرّ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَتَشْدِيد الرَّاء .
قَوْله : ( تَزَيَّلُوا تَمَيَّزُوا ، حَمَيْت الْقَوْم مَنَعْتهمْ حِمَايَة إِلَخْ )
هَذَا الْقَدْر مِنْ تَفْسِير سُورَة الْفَتْح فِي الْمَجَاز لِأَبِي عُبَيْدَة وَهُوَ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحْده .
قَوْله : ( قَالَ عُقَيْل عَنْ الزُّهْرِيِّ )
تَقَدَّمَ مَوْصُولًا بِتَمَامِهِ فِي أَوَّل الشُّرُوط ، وَأَرَادَ الْمُصَنِّف بِإِيرَادِهِ بَيَان مَا وَقَعَ فِي رِوَايَة مَعْمَر مِنْ الْإِدْرَاج .
قَوْله : ( وَبَلَغَنَا )
هُوَ مَقُول الزُّهْرِيِّ ، وَصَلَهُ اِبْن مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيره مِنْ طَرِيق عُقَيْل .
وَقَوْله : ( وَبَلَغَنَا أَنَّ أَبَا بَصِير إِلَخْ )
هُوَ مِنْ قَوْل الزُّهْرِيِّ أَيْضًا وَالْمُرَاد بِهِ أَنَّ قِصَّة أَبِي بَصِير فِي رِوَايَة عُقَيْل مِنْ مُرْسَل الزُّهْرِيِّ ، وَفِي رِوَايَة مَعْمَر مَوْصُولَة إِلَى الْمِسْوَر ، لَكِنْ قَدْ تَابَعَ مَعْمَرًا عَلَى وَصْلهَا اِبْن إِسْحَاق كَمَا تَقَدَّمَ ، وَتَابَعَ عُقَيْلًا الْأَوْزَاعِيُّ عَلَى إِرْسَالهَا . فَلَعَلَّ الزُّهْرِيَّ كَانَ يُرْسِلهَا تَارَة وَيُوصِلهَا أُخْرَى وَاَللَّه أَعْلَم . وَوَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة الْأَخِيرَة مِنْ الزِّيَادَة " وَمَا نَعْلَم أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُهَاجِرَات اِرْتَدَّتْ بَعْد إِيمَانهَا " وَفِيهَا قَوْله : " أَنَّ أَبَا بَصِير بْن أَسِيد بِفَتْحِ الْهَمْزَة قَدِمَ مُؤْمِنًا " كَذَا لِلْأَكْثَرِ ، وَفِي رِوَايَة السَّرَخْسِيّ وَالْمُسْتَمْلِي " قَدِمَ مِنْ مِنًى " وَهُوَ تَصْحِيف .
قَوْله : ( أَنَّ عُمَر طَلَّقَ اِمْرَأَتَيْنِ قَرِيبَة )
يَأْتِي ضَبْطهَا وَبَيَان الْحُكْم فِي ذَلِكَ فِي كِتَاب النِّكَاح فِي " بَاب نِكَاح مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمُشْرِكَات " .
وَقَوْله : ( فَلَمَّا أَبَى الْكُفَّار أَنْ يُقِرُّوا بِأَدَاءِ مَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَزْوَاجهمْ )
يُشِير إِلَى قَوْله تَعَالَى : ( وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ) وَقَدْ بَيَّنَهُ عَبْد الرَّزَّاق فِي رِوَايَته عَنْ مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيِّ فَذَكَرَ الْقِصَّة وَفِيهَا " لَمَّا نَزَلَتْ حَكَمَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ إِذَا جَاءَتْهُمْ اِمْرَأَة مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرُدّ الصَّدَاق إِلَى زَوْجهَا ، قَالَ اللَّه تَعَالَى : ( وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر ) فَأَتَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فَأَقَرُّوا بِحُكْمِ اللَّه ، وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا ، فَأَنْزَلَ اللَّه : ( وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْء مِنْ أَزْوَاجكُمْ إِلَى الْكُفَّار فَعَاقَبْتُمْ ) .
قَوْله : ( وَالْعَقِب إِلَخْ )
بِفَتْحِ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَكَسْر الْقَاف .
قَوْله : ( وَمَا نَعْلَم أَحَدًا مِنْ الْمُهَاجِرَات اِرْتَدَّتْ بَعْد إِيمَانهَا )(4/479)
هُوَ كَلَام الزُّهْرِيِّ ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْإِشَارَة إِلَى أَنَّ الْعَاقِبَة الْمَذْكُورَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَانِبَيْنِ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي الْجَانِب الْوَاحِد ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِف أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنَات فَرَّتْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِخِلَافِ عَكْسه ، وَقَدْ ذَكَرَ اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ طَرِيق الْحَسَن أَنَّ أُمّ الْحَكَم بِنْت أَبِي سُفْيَان اِرْتَدَّتْ وَفَرَّتْ مِنْ زَوْجهَا عِيَاض بْن شَدَّاد فَتَزَوَّجَهَا رَجُل مِنْ ثَقِيف وَلَمْ يَرْتَدّ مِنْ قُرَيْش غَيْرهَا وَلَكِنَّهَا أَسْلَمَتْ بَعْد ذَلِكَ مَعَ ثَقِيف حِين أَسْلَمُوا ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَيُجْمَع بَيْنه وَبَيْن قَوْل الزُّهْرِيِّ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ هَاجَرَتْ فِيمَا قَبْل ذَلِكَ . وَفِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفَوَائِد غَيْر مَا تَقَدَّمَ أَشْيَاء تَتَعَلَّق بِالْمَنَاسِكِ : مِنْهَا أَنَّ ذَا الْحُلَيْفَة مِيقَات أَهْل الْمَدِينَة لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِر ، وَأَنَّ تَقْلِيد الْهَدْي وَسَوْقه سُنَّة لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِر فَرْضًا كَانَ أَوْ سُنَّة ، وَأَنَّ الْإِشْعَار سُنَّة لَا مُثْلَة ، وَأَنَّ الْحَلْق أَفْضَل مِنْ التَّقْصِير ، وَأَنَّهُ نُسُك فِي حَقّ الْمُعْتَمِر مَحْصُورًا كَانَ أَوْ غَيْر مَحْصُور ، وَأَنَّ الْمُحْصَر يَنْحَر هَدْيه حَيْثُ أُحْصِرَ وَلَوْ لَمْ يَصِل إِلَى الْحَرَم ، وَيُقَاتِل مَنْ صَدَّهُ عَنْ الْبَيْت ، وَأَنَّ الْأَوْلَى فِي حَقّه تَرْك الْمُقَاتَلَة إِذَا وَجَدَ إِلَى الْمُسَالَمَة طَرِيقًا ، وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَسْط أَكْثَره فِي كِتَاب الْحَجّ . وَفِيهِ أَشْيَاء تَتَعَلَّق بِالْجِهَادِ : مِنْهَا جَوَاز سَبْي ذَرَارِيّ الْكُفَّار إِذَا اِنْفَرَدُوا عَنْ الْمُقَاتِلَة وَلَوْ كَانَ قَبْل الْقِتَال . وَفِيهِ الِاسْتِتَار عَنْ طَلَائِع الْمُشْرِكِينَ ، وَمُفَاجَأَتهمْ بِالْجَيْشِ لِطَلَبِ غِرَّتهمْ ، وَجَوَاز التَّنَكُّب عَنْ الطَّرِيق السَّهْل إِلَى الطَّرِيق الْوَعْر لِدَفْعِ الْمَفْسَدَة وَتَحْصِيل الْمَصْلَحَة ، وَاسْتِحْبَاب تَقْدِيم الطَّلَائِع وَالْعُيُون بَيْن يَدَيْ الْجَيْش ، وَالْأَخْذ بِالْحَزْمِ فِي أَمْر الْعَدُوّ لِئَلَّا يَنَالُوا غِرَّة الْمُسْلِمِينَ ، وَجَوَاز الْخِدَاع فِي الْحَرْب ، وَالتَّعْرِيض بِذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ مِنْ خَصَائِصه أَنَّهُ مَنْهِيّ عَنْ خَائِنَة الْأَعْيُن . وَفِي الْحَدِيث أَيْضًا فَضْل الِاسْتِشَارَة لِاسْتِخْرَاجِ وَجْه الرَّأْي وَاسْتِطَابَة قُلُوب الْأَتْبَاع ، وَجَوَاز بَعْض الْمُسَامَحَة فِي أَمْر الدِّين ، وَاحْتِمَال الضَّيْم فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ قَادِحًا فِي أَصْله إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِلسَّلَامَةِ فِي الْحَال وَالصَّلَاح فِي الْمَآل سَوَاء كَانَ ذَلِكَ فِي حَال ضَعْف الْمُسْلِمِينَ أَوْ قُوَّتهمْ ، وَأَنَّ التَّابِع لَا يَلِيق بِهِ الِاعْتِرَاض عَلَى الْمَتْبُوع بِمُجَرَّدِ مَا يَظْهَر فِي الْحَال بَلْ عَلَيْهِ التَّسْلِيم ، لِأَنَّ الْمَتْبُوع أَعْرَف بِمَآلِ الْأُمُور غَالِبًا بِكَثْرَةِ التَّجْرِبَة وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَنْ هُوَ مُؤَيَّد بِالْوَحْيِ . وَفِيهِ جَوَاز الِاعْتِمَاد عَلَى خَبَر الْكَافِر إِذَا قَامَتْ الْقَرِينَة عَلَى صِدْقه ، قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ الْخُزَاعِيّ الَّذِي بَعَثَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيْنًا لَهُ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ قُرَيْش كَانَ حِينَئِذٍ كَافِرًا ، وَإِنَّمَا اِخْتَارَهُ لِذَلِكَ مَعَ كُفْره لِيَكُونَ أَمْكَنَ لَهُ فِي الدُّخُول فِيهِمْ وَالِاخْتِلَاط بِهِمْ وَالِاطِّلَاع عَلَى أَسْرَارهمْ ، قَالَ : وَيُسْتَفَاد مِنْ ذَلِكَ جَوَاز قَبُول قَوْل الطَّبِيب الْكَافِر . قُلْت : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْخُزَاعِيّ الْمَذْكُور كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَشْتَهِر إِسْلَامه حِينَئِذٍ ، فَلَيْسَ مَا قَالَهُ دَلِيلًا عَلَى مَا اِدَّعَاهُ ، وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ .
زاد المعاد - (ج 3 / ص 257)
فَصْلٌ [ تَقْلِيدُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْهَدْيَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَبَعْثُهُ
عَيْنًا لَهُ ابْنَ خُزَاعَةَ إلَى قُرَيْشٍ ]
[ اسْتِشَارَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ فِيمَا يَفْعَلُهُ ]
[ رُؤْيَتُهُمْ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَفِرَارُهُ مِنْهُمْ ]
[ بِرَوْكِ الْقَصْوَاءِ ]
[ نُزُولُهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ ](4/480)
فَلَمّا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلّدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ يُخْبِرُهُ عَنْ قُرَيْشٍ حَتّى إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ عُسْفَانَ أَتَاهُ عَيْنُهُ فَقَالَ إنّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيّ قَدْ جَمَعُوا لَك الْأَحَابِيشَ وَجَمَعُوا لَك جُمُوعًا وَهُمْ مُقَاتِلُوك وَصَادّوك عَنْ الْبَيْتِ وَمَانِعُوك وَاسْتَشَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ وَقَالَ أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيلَ إلَى ذَرَارِيّ هَؤُلَاءِ الّذِينَ أَعَانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْرُوبِينَ وَإِنْ يَجِيئُوا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللّهُ أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ إنّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَلِمَ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنْ مَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرُوحُوا إذًا فَرَاحُوا حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطّرِيقِ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً [ ص 258 ] شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتّى إذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ وَسَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا كَانَ بِالثّنِيّةِ الّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَقَالَ النّاسُ حَلْ حَلْ فَأَلَحّتْ فَقَالُوا : خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ثُمّ قَالَ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطّةً يُعَظّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللّه إلّا أَعْطَيْتُهُمْ إيّاهَا ثُمّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ بِهِ فَعَدَلَ حَتّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءُ إنّمَا يَتَبَرّضُهُ النّاسُ تَبَرّضًا فَلَمْ يُلْبِثْهُ النّاسُ أَنْ نَزَحُوهُ فَشَكَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَطَشَ فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ قَالَ فَوَاَللّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرّيّ حَتّى صَدَرُوا عَنْهُ .
[ إرْسَالُ عُثْمَانَ إلَى قُرَيْشٍ ]
وَفَزِعَتْ قُرَيْشٌ لِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ فَأَحَبّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَدَعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَيْهِمْ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ لَيْسَ لِي بِمَكّةَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ يَغْضَبُ لِي إنْ أُوذِيت فَأَرْسِلْ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ فَإِنّ عَشِيرَتَهُ بِهَا وَإِنّهُ مُبَلّغٌ مَا أَرَدْت فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ فَأَرْسَلَهُ إلَى قُرَيْشٍ وَقَالَ أَخْبِرْهُمْ أَنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالٍ وَإِنّمَا جِئْنَا عُمّارًا وَادْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ رِجَالًا بِمَكّةَ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ فَيَدْخُلَ عَلَيْهِمْ وَيُبَشّرُهُمْ بِالْفَتْحِ وَيُخْبِرَهُمْ أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ مُظْهِرٌ دِينَهُ بِمَكّةَ حَتّى لَا يُسْتَخْفَى فِيهَا بِالْإِيمَانِ فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ فَمَرّ عَلَى قُرَيْشٍ بِبَلْدَحَ فَقَالُوا : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ فَقَالَ [ ص 259 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَدْعُوكُمْ إلَى اللّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ وَأُخْبِرُكُمْ أَنّا لِمَ نَأْتِ لِقِتَالٍ وَإِنّمَا جِئْنَا عُمّارًا فَقَالُوا : قَدْ سَمِعْنَا مَا تَقُولُ فَانْفُذْ لِحَاجَتِك وَقَامَ إلَيْهِ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَرَحّبَ بِهِ وَأَسْرَجَ فَرَسَهُ فَحَمَلَ عُثْمَانَ عَلَى الْفَرَسِ وَأَجَارَهُ وَأَرْدَفَهُ أَبَانُ حَتّى جَاءَ مَكّةَ وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ عُثْمَانُ ؟ خَلَصَ عُثْمَانُ قَبْلَنَا إلَى الْبَيْتِ وَطَافَ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَظُنّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَنَحْنُ مَحْصُورُونَ " فَقَالُوا : وَمَا يَمْنَعُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ وَقَدْ خَلَصَ ؟ قَالَ " ذَاكَ ظَنّي بِهِ أَلّا يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ حَتَى نَطُوفَ مَعَهُ
[ بَيْعَةُ الرّضْوَانِ ](4/481)
وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمُشْرِكِينَ فِي أَمْرِ الصّلْحِ فَرَمَى رَجُلٌ مِنْ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ رَجُلًا مِنْ الْفَرِيقِ الْآخَرِ وَكَانَتْ مَعْرَكَةً وَتَرَامَوْا بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ وَصَاحَ الْفَرِيقَانِ كِلَاهُمَا وَارْتَهَنَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْ فِيهِمْ وَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ فَدَعَا إلَى الْبَيْعَةِ فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَبَايَعُوهُ عَلَى أَلّا يَفِرّوا فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِ نَفْسِهِ وَقَالَ هَذِهِ عَنْ عُثْمَان
[ رُجُوعُ عُثْمَانَ ]
وَلَمّا تَمّتْ الْبَيْعَةُ رَجَعَ عُثْمَانُ فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ اشْتَفَيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ مِنْ الطّوَافِ بِالْبَيْتِ فَقَالَ بِئْسَ مَا ظَنَنْتُمْ بِي وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ مَكَثْتُ بِهَا سَنَةً وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُقِيمٌ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَا طُفْتُ بِهَا حَتّى يَطُوفَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَقَدْ دَعَتْنِي قُرَيْشٌ إلَى الطّوَافِ بِالْبَيْتِ فَأَبَيْت فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ أَعْلَمَنَا بِاَللّهِ وَأَحْسَنَنَا ظَنّا وَكَانَ عُمَرُ آخِذًا بِيَدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْبَيْعَةِ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَبَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ كُلّهُمْ إلّا الْجَدّ بْنَ قَيْسٍ [ ص 260 ] وَكَانَ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ آخِذًا بِغُصْنِهَا يَرْفَعُهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَايَعَهُ أَبُو سِنَانٍ الْأَسَدِيّ وَبَايَعَهُ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ ثَلَاثَ مَرّاتٍ فِي أَوّلِ النّاسِ وَأَوْسَطِهِمْ وَآخِرِهِمْ .
[ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ ]
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ فَقَالَ إنّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ وَهُمْ مُقَاتِلُوك وَصَادّوك عَنْ الْبَيْتِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنْ جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَإِنّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمْ الْحَرْبُ وَأَضَرّتْ بِهِمْ فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتهمْ وَيُخَلّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النّاسِ وَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ فَعَلُوا وَإِلّا فَقَدْ جَمّوا وَإِنْ هُمْ أَبَوْا إلّا الْقِتَالَ فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي أَوْ لَيُنْفِذَنّ اللّهُ أَمْرَه
[ إرْسَالُ عُرْوَةَ الثّقَفِيّ إلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ](4/482)
قَالَ بُدَيْلُ سَأَبْلُغُهُمْ مَا تَقُولُ فَانْطَلَقَ حَتّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ إنّي قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرّجُلِ وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَوْلًا فَإِنْ شِئْتُمْ عَرَضْتُهُ عَلَيْكُمْ . فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُحَدّثَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ . وَقَالَ ذَوُو الرّأْيِ مِنْهُمْ هَاتِ مَا سَمِعْته قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا . فَحَدّثَهُمْ بِمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ : إنّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ فَقَالُوا : ائْتِهِ فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلّمُهُ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْ مُحَمّدٌ أَرَأَيْتَ لَوْ اسْتَأْصَلْتَ قَوْمَك هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَك ؟ وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى فَوَاَللّهِ إنّي لَأَرَى وُجُوهًا وَأَرَى أَوْشَابًا مِنْ النّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرّوا وَيَدَعُوك فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ اُمْصُصْ بَظْرَ اللّاتِ أَنَحْنُ نَفِرّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ . قَالَ مَنْ ذَا ؟ قَالُوا : أَبُو بَكْرٍ . قَالَ أَمَا وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُك وَجَعَلَ يُكَلّمُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكُلّمَا [ ص 261 ] أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عِنْدَ رَأْسِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَهُ السّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ فَكُلّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ إلَى لِحْيَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السّيْفِ وَقَالَ أَخّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ وَقَالَ مَنْ ذَا ؟ قَالُوا : الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ . فَقَالَ أَيْ غُدَرُ أَوَلَسْت أَسْعَى فِي غَدْرَتِك ؟ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمّ جَاءَ فَأَسْلَمَ . فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ وَأَمّا الْمَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْء
[ إرْسَالُ مِكْرَزٍ إلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
[ رَدّ أَبِي جَنْدَلٍ إلَى الْمُشْرِكِينَ ](4/483)
ثُمّ إنّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعَيْنَيْهِ فَوَاَللّهِ مَا تَنَخّمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نُخَامَةً إلّا وَقَعَتْ فِي كَفّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلّكَ بِهَا جِلْدَهُ وَوَجْهَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدّونَ إلَيْهِ النّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ فَرَجَعَ عُرْوَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيْ قَوْمُ وَاَللّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ عَلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنّجَاشِيّ وَاَللّهِ مَا رَأَيْتُ مَلِكًا يُعَظّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظّمُ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ مُحَمّدًا وَاَللّهِ إنْ تَنَخّمَ نُخَامَةً إلّا وَقَعَتْ فِي كَفّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وُضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدّونَ إلَيْهِ النّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ دَعُونِي آتِهِ فَقَالُوا : ائْتِهِ فَلَمّا أَشْرَفَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ . قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا فُلَانٌ " وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ فَبَعَثُوهَا لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ الْقَوْمُ يُلَبّونَ فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ " سُبْحَانَ اللّهِ مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدّوا عَنْ الْبَيْتِ فَرَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلّدَتْ وَأُشْعِرَتْ وَمَا أَرَى أَنْ يُصَدّوا عَنْ الْبَيْتِ فَقَامَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ دَعُونِي آتِهِ . فَقَالُوا : ائْتِهِ فَلَمّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ فَجَعَلَ يُكَلّمُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَيْنَا هُوَ يُكَلّمُهُ إذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ سُهّلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ فَقَالَ هَاتِ اُكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا فَدَعَا الْكَاتِبَ فَقَالَ " اُكْتُبْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ " . فَقَالَ [ ص 262 ] كُنْتَ تَكْتُبُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاَللّهِ لَا نَكْتُبُهَا إلّا بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُكْتُبْ بِاسْمِكَ اللّهُمّ " ثُمّ قَالَ اُكْتُبْ هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ فَقَالَ سُهَيْلٌ فَوَاَللّهِ لَوْ كُنّا نَعْلَمُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاك وَلَكِنْ اُكْتُبْ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي رَسُولُ اللّهِ وَإِنْ كَذّبْتُمُونِي اُكْتُبْ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّه فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَنْ تُخَلّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ " فَقَالَ سُهَيْلٌ وَاَللّهِ لَا تَتَحَدّثُ الْعَرَبُ أَنّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ فَقَالَ سُهَيْلٌ عَلَى أَنْ لَا يَأْتِيكَ مِنّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِك إلّا رَدَدْتَهُ إلَيْنَا فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَانَ اللّهِ كَيْفَ يُرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا بَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكّةَ حَتّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمّدُ أَوّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدّهُ إلَيّ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ فَقَالَ فَوَاَللّهِ إذًا لَا أُصَالِحُك عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَأَجِزْهُ لِي " قَالَ مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَك . قَالَ " بَلَى فَافْعَلْ " قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلٍ . قَالَ مِكْرَزٌ بَلَى قَدْ أَجَزْنَاهُ فَقَالَ أَبُو جَنْدَلٍ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلَا تَرَوْنَ مَا لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذّبَ فِي اللّهِ عَذَابًا شَدِيدًا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : وَاَللّهِ مَا شَكَكْتُ(4/484)
مُنْذُ أَسْلَمْتُ إلّا يَوْمَئِذٍ فَأَتَيْتُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَسْت نَبِيّ اللّهِ حَقّا ؟ قَالَ بَلَى قُلْتُ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقّ وَعَدُوّنَا عَلَى الْبَاطِلِ ؟ قَالَ بَلَى . فَقُلْتُ عَلَامَ نُعْطِيَ الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا إذًا وَنَرْجِعُ وَلَمّا يَحْكُمُ اللّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَعْدَائِنَا ؟ فَقَالَ إنّي رَسُولُ اللّهِ وَهُوَ نَاصِرِي وَلَسْتُ أَعْصِيهِ قُلْتُ أَوَلَسْت كُنْتَ تُحَدّثُنَا أَنّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ " بَلَى أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ ؟ " قُلْتُ لَا . قَالَ " فَإِنّكَ آتِيهِ وَمُطّوّفٌ بِهِ " . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ لَهُ كَمَا قُلْتُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَدّ عَلَيّ أَبُو بَكْرٍ كَمَا رَدّ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَوَاءً وَزَادَ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ حَتّى تَمُوتَ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَعَلَى [ ص 263 ] قَالَ عُمَرُ فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا . فَلَمّا فَرَغَ مِنْ قَضِيّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمّ احْلِقُوا فَوَاَللّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ حَتّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ فَلَمّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَامَ فَدَخَلَ عَلَى أُمّ سَلَمَة َ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النّاسِ فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُحِبّ ذَلِكَ ؟ اُخْرُجْ ثُمّ لَا تُكَلّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتّى تَنْحَرَ بُدْنَك وَتَدْعُوَ حَالِقَك فَيَحْلِقَكَ فَقَامَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ فَلَمّا رَأَى النّاسُ ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمّا ثُمّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ } حَتّى بَلَغَ { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [ الْمُمْتَحِنَةُ 10 ] فَطَلّقَ عُمَرُ يَوْمئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشّرْكِ فَتَزَوّجَ إحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ وَالْأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَفِي مَرْجِعِهِ أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ { إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخّرَ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَيَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْرًا عَزِيزًا } [ الْفَتْحُ 31 ] فَقَالَ عُمَرُ أَوَفَتْحٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ الصّحَابَةُ هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَمَا لَنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { هُوَ الّذِي أَنْزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ } [ الْفَتْحُ 4 ]
[ قِصّةُ أَبِي بَصِير](4/485)
وَلَمّا رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ جَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مُسْلِمًا فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ وَقَالُوا : الْعَهْدَ الّذِي جَعَلْت لَنَا فَدَفَعَهُ إلَى الرّجُلَيْنِ فَخَرَجَا بِهِ حَتّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَة ِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرّجُلَيْنِ وَاَللّهِ إنّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا جَيّدًا فَاسْتَلّهُ الْآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ وَاَللّهِ إنّهُ لَجَيّدٌ لَقَدْ جَرّبْتُ بِهِ ثُمّ جَرّبْت فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ : أَرِنِي أَنْظُرْ إلَيْهِ فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ فَضَرَبَهُ بِهِ حَتّى [ ص 264 ] بَرَدَ وَفَرّ الْآخَرُ يَعْدُو حَتّى بَلَغَ الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ رَآهُ " لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا " فَلَمّا انْتَهَى إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ قُتِلَ وَاَللّهِ صَاحِبِي وَإِنّي لَمَقْتُولٌ فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ قَدْ وَاَللّهِ أَوْفَى اللّهُ ذِمّتَك قَدْ رَدَدْتنِي إلَيْهِمْ فَأَنْجَانِي اللّهُ مِنْهُمْ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " وَيْلُ أُمّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ " فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنّهُ سَيَرُدّهُ إلَيْهِمْ فَخَرَجَ حَتّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إلّا لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ حَتّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ فَوَاَللّهِ لَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ لِقُرَيْشٍ خَرَجَتْ إلَى الشّامِ إلّا اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تُنَاشِدُهُ اللّهَ وَالرّحِمَ لَمّا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ فَمَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ فَهُوَ آمِنٌ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { وَهُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } حَتّى بَلَغَ حَمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ [ الْفَتْحُ 24 ] وَكَانَتْ حَمِيّتُهُمْ أَنّهُمْ لَمْ يُقِرّوا أَنّهُ نَبِيّ اللّهِ وَلَمْ يُقِرّوا بِبِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ .
[ فَوْرُ بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْمَاءِ بِبَرَكَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قُلْتُ فِي " الصّحِيحِ " : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَوَضّأَ وَمَجّ فِي بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ فَمِهِ فَجَاشَتْ بِالْمَاء كَذَلِكَ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ فِي " الصّحِيحَيْنِ " . [ ص 265 ] وَقَالَ عُرْوَةُ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنّهُ غَرَزَ فِيهَا سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِه وَهُوَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَيْضًا . وَفِي مَغَازِي أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ تَوَضّأَ فِي الدّلْوِ وَمَضْمَضَ فَاهُ ثُمّ مَجّ فِيهِ وَأَمَرَ أَنْ يُصَبّ فِي الْبِئْرِ وَنَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ وَأَلْقَاهُ فِي الْبِئْرِ وَدَعَا اللّهَ تَعَالَى فَفَارَتْ بِالْمَاءِ حَتّى جَعَلُوا يَغْتَرِفُونَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْهَا وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شِقّهَا فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَهَذَا أَشْبَهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ فَوْرُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : عَنْ جَابِرٍ قَالَ عَطِشَ النّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ يَتَوَضّأُ مِنْهَا إذْ جَهَشَ النّاسُ نَحْوَهُ فَقَالَ مَا لَكُمْ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عِنْدَنَا مَاءٌ نَشْرَبُ وَلَا مَا نَتَوَضّأُ إلّا مَا بَيْنَ يَدَيْك فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الرّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ أَمْثَالَ الْعُيُونِ فَشَرِبُوا وَتَوَضّئُوا وَكَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةٍ وَهَذِهِ غَيْرُ قِصّةِ الْبِئْرِ .
[ هُطُولُ الْمَطَرِ ](4/486)
وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَصَابَهُمْ لَيْلَةً مَطَرٌ فَلَمّا صَلّى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّبْحَ قَالَ أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ اللّيْلَةَ ؟ " قَالُوا : اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ " أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأَمّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَب
فَصْلٌ [ مَا جَرَى عَلَيْهِ الصّلْحُ ]
[ ص 266 ] مَكّةَ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ وَأَنْ يَأْمَنَ النّاسُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَأَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ عَامَهُ ذَلِكَ حَتّى إذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَدِمَهَا وَخَلّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكّةَ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا وَأَنْ لَا يَدْخُلَهَا إلّا بِسِلَاحِ الرّاكِبِ وَالسّيُوفِ فِي الْقِرَبِ وَأَنّ مَنْ أَتَانَا مِنْ أَصْحَابِكَ لَمْ نَرُدّهُ عَلَيْك وَمَنْ أَتَاكَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَدّدَتْهُ عَلَيْنَا وَأَنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ عَيْبَةً مَكْفُوفَةً وَأَنّهُ لَا إسْلَالَ وَلَا إغْلَالَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ نُعْطِيهِمْ هَذَا ؟ فَقَالَ مَنْ أَتَاهُمْ مِنّا فَأَبْعَدَهُ اللّهُ وَمَنْ أَتَانَا مِنْهُمْ فَرَدَدْنَاهُ إلَيْهِمْ جَعَلَ اللّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا
[ فِدْيَةُ الْأَذَى لِمَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ ]
وَفِي قِصّةِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْزَلَ اللّهُ - عَزّ وَجَلّ - فِدْيَةَ الْأَذَى لِمَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ بِالصّيَامِ أَوْ الصّدَقَةِ أَوْ النّسُكِ فِي شَأْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ . وَفِيهَا دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْمُحَلّقِينَ بِالْمَغْفِرَةِ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصّرِينَ مَرّةً . وَفِيهَا نَحَرُوا الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ . وَفِيهَا أَهْدَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي جُمْلَةِ هَدْيِهِ جَمَلًا كَانَ لِأَبِي جَهْلٍ كَانَ فِي أَنْفِهِ بُرّةٌ مِنْ فِضّةٍ لِيَغِيظَ بِهِ الْمُشْرِكِينَ . وَفِيهَا أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَهْدِهِ وَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ وَكَانَ فِي الشّرْطِ أَنّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ [ ص 267 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ دَخَلَ .
[ عَدَمُ رَدّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُمّ كُلْثُوم ٍ بِنْتَ عُقْبَةَ إلَى الْمُشْرِكِينَ ]
وَلَمّا رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ جَاءَهُ نِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ مِنْهُنّ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالشّرْطِ الّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُرْجِعْهَا إلَيْهِمْ وَنَهَاهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ هَذَا نَسْخٌ لِلشّرْطِ فِي النّسَاءِ . وَقِيلَ تَخْصِيصٌ لِلسّنّةِ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ عَزِيزٌ جِدّا . وَقِيلَ لَمْ يَقَعْ الشّرْطُ إلّا عَلَى الرّجَالِ خَاصّةً وَأَرَادَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُعَمّمُوهُ فِي الصّنْفَيْنِ فَأَبَى اللّهُ ذَلِكَ .
فَصْلٌ فِي بَعْضِ مَا فِي قِصّةِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْفَوَائِدِ الْفِقْهِيّةِ
فَمِنْهَا : اعْتِمَارُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ فَإِنّهُ خَرَجَ إلَيْهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ .
[ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ ]
وَمِنْهَا : أَنّ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ كَمَا أَنّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجّ كَذَلِكَ فَإِنّهُ أَحْرَمَ بِهِمَا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مَيْلٌ أَوْ نَحْوُهُ وَأَمّا حَدِيثُ مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخّر وَفِي لَفْظٍ كَانَتْ كَفّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذّنُوبِ فَحَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ وَقَدْ اُضْطُرِبَ فِيهِ إسْنَادًا وَمَتْنًا اضْطِرَابًا شَدِيدًا . وَمِنْهَا : أَنّ سَوْقَ الْهَدْيِ مَسْنُونٌ فِي الْعُمْرَةِ الْمُفْرَدَةِ كَمَا هُوَ مَسْنُونٌ فِي الْقِرَانِ . وَمِنْهَا : أَنّ إشْعَارَ الْهَدْيِ سُنّةٌ لَا مُثْلَةٌ مَنْهِيّ عَنْهَا . [ ص 268 ]
[ اسْتِحْبَابُ مُغَايَظَةِ أَعْدَاءِ اللّهِ ](4/487)
وَمِنْهَا : اسْتِحْبَابُ مُغَايَظَةِ أَعْدَاءِ اللّهِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْدَى فِي جُمْلَةِ هَدْيِهِ جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ فِي أَنْفِهِ بُرّةٌ مِنْ فِضّةٍ يَغِيظُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ { وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ } [ الْفَتْحُ 29 ] وَقَالَ عَزّ وَجَلّ { ذَلِكَ بِأَنّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَيْلًا إِلّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [ التّوْبَةُ 120 ] . وَمِنْهَا : أَنّ أَمِيرَ الْجَيْشِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْعَثَ الْعُيُونَ أَمَامَهُ نَحْوَ الْعَدُوّ .
[ الِاسْتِعَانَةُ بِالْمُشْرِكِ ]
وَمِنْهَا : أَنّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْمُشْرِكِ الْمَأْمُونِ فِي الْجِهَادِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِأَنّ عَيْنَهُ الْخُزَاعِيّ كَانَ كَافِرًا إذْ ذَاكَ وَفِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ أَنّهُ أَقْرَبُ إلَى اخْتِلَاطِهِ بِالْعَدُوّ وَأَخْذِهِ أَخْبَارَهُمْ .
[ اسْتِحْبَابُ الشّورَى ]
وَمِنْهَا : اسْتِحْبَابُ مَشُورَةِ الْإِمَامِ رَعِيّتَهُ وَجَيْشَهُ اسْتِخْرَاجًا لِوَجْهِ الرّأْيِ وَاسْتِطَابَةً لِنَفُوسِهِمْ وَأَمْنًا لِعَتَبِهِمْ وَتَعَرّفًا لِمَصْلَحَةٍ يَخْتَصّ بِعِلْمِهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ الرّبّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } [ آل عِمْرَانَ 159 ] وَقَدْ مَدَحَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِبَادَهُ بِقَوْلِهِ { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } [ الشّورَى : 38 ] .
[ رَدّ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَلَوْ نُسِبَ إلَى غَيْرِ الْمُكَلّفِ ]
وَمِنْهَا : جَوَازُ سَبْيِ ذَرَارِيّ الْمُشْرِكِينَ إذَا انْفَرَدُوا عَنْ رِجَالِهِمْ قَبْلَ مُقَاتَلَةِ الرّجَالِ . وَمِنْهَا : رَدّ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَلَوْ نُسِبَ إلَى غَيْرِ مُكَلّفٍ فَإِنّهُمْ لَمّا قَالُوا : خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ يَعْنِي حَرَنَتْ وَأَلَحّتْ فَلَمْ تَسِرْ وَالْخِلَاءُ فِي الْإِبِلِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمَدّ نَظِيرُ الْحِرَانِ فِي الْخَيْلِ فَلَمّا نَسَبُوا إلَى النّاقَةِ مَا لَيْسَ مِنْ خُلُقِهَا وَطَبْعِهَا رَدّهُ عَلَيْهِمْ وَقَالَ مَا خَلَأَتْ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُق ثُمّ أَخْبَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ سَبَبِ بُرُوكِهَا وَأَنّ الّذِي حَبَسَ الْفِيلَ عَنْ مَكّةَ حَبَسَهَا لِلْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ الّتِي ظَهَرَتْ بِسَبَبِ حَبْسِهَا وَمَا جَرَى بَعْدَهُ . [ ص 269 ] وَمِنْهَا : أَنّ تَسْمِيَةَ مَا يُلَابِسُهُ الرّجُلُ مِنْ مَرَاكِبِهِ وَنَحْوِهَا سُنّةٌ .
[ اسْتِحْبَابُ الْحَلِفِ عَلَى الْخَبَرِ الدّينِيّ الّذِي يُرَادُ تَأْكِيدُهُ ]
وَمِنْهَا : جَوَازُ الْحَلِفِ بَلْ اسْتِحْبَابُهُ عَلَى الْخَبَرِ الدّينِيّ الّذِي يُرِيدُ تَأْكِيدَهُ وَقَدْ حُفِظَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَلِفُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا وَأَمَرَهُ اللّهُ تَعَالَى بِالْحَلِفِ عَلَى تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي ( سُورَةِ يُونُسَ ) و ( سَبَأٍ ) و ( التّغَابُنِ ) .
إذَا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَالْبُغَاةُ وَالظّلَمَةُ أَمْرًا يُعَظّمُونَ فِيهِ حُرْمَةً مِنْ حُرُمَاتِ اللّهِ أُعِينُوا عَلَيْهِ(4/488)
وَمِنْهَا : أَنّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَالْبُغَاةِ وَالظّلَمَةِ إذَا طَلَبُوا أَمْرًا يُعَظّمُونَ فِيهِ حُرْمَةً مِنْ حُرُمَاتِ اللّهِ تَعَالَى أُجِيبُوا إلَيْهِ وَأُعْطُوهُ وَأُعِينُوا عَلَيْهِ وَإِنْ مَنَعُوا غَيْرَهُ فَيُعَاوَنُونَ عَلَى مَا فِيهِ تَعْظِيمُ حُرُمَاتِ اللّهِ تَعَالَى لَا عَلَى كُفْرِهِمْ وَبَغْيِهِمْ وَيُمْنَعُونَ مِمّا سِوَى ذَلِكَ فَكُلّ مَنْ الْتَمَسَ الْمُعَاوَنَةَ عَلَى مَحْبُوبٍ لِلّهِ تَعَالَى مُرْضٍ لَهُ أُجِيبَ إلَى ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ مَا لَمْ يَتَرَتّبْ عَلَى إعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ مَبْغُوضٌ لِلّهِ أَعْظَمَ مِنْهُ وَهَذَا مِنْ أَدَقّ الْمَوَاضِعِ وَأَصْعَبِهَا وَأَشَقّهَا عَلَى النّفُوسِ وَلِذَلِكَ ضَاقَ عَنْهُ مِنْ الصّحَابَةِ مَنْ ضَاقَ وَقَالَ عُمَرُ مَا قَالَ حَتّى عَمِلَ لَهُ أَعْمَالًا بَعْدَهُ وَالصّدّيقُ تَلَقّاهُ بِالرّضَى وَالتّسْلِيمِ حَتّى كَانَ قَلْبُهُ فِيهِ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَجَابَ عُمَرَ عَمّا سَأَلَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِعَيْنِ جَوَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى أَنّ الصّدّيقَ رَضِيَ اللّه عَنْهُ أَفْضَلُ الصّحَابَةِ وَأَكْمَلُهُمْ وَأَعْرَفُهُمْ بِاَللّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَعْلَمُهُمْ بِدِينِهِ وَأَقْوَمُهُمْ بِمَحَابّهِ وَأَشَدّهُمْ مُوَافَقَةً لَهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْ عُمَرَ عَمّا عَرَضَ لَهُ إلّا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصِدّيقَهُ خَاصّةً دُونَ سَائِرِ أَصْحَابِهِ . [ ص 270 ] وَمِنْهَا : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَدَلَ ذَاتَ الْيَمِينِ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ . قَالَ الشّافِعِيّ : بَعْضُهَا مِنْ الْحِلّ وَبَعْضُهَا مِنْ الْحَرَمِ .
[ مُضَاعَفَةُ الصّلَاةِ بِمَكّةَ تَتَعَلّقُ بِجَمِيعِ الْحَرَمِ لَا يُخَصّ بِهَا الْمَسْجِدُ ]
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُصَلّي فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي الْحِل وَفِي هَذَا كَالدّلَالَةِ عَلَى أَنّ مُضَاعَفَةَ الصّلَاةِ بِمَكّةَ تَتَعَلّقُ بِجَمِيعِ الْحَرَمِ لَا يُخَصّ بِهَا الْمَسْجِدُ الّذِي هُوَ مَكَانُ الطّوَافِ وَأَنّ قَوْلَهُ صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } [ التّوْبَةُ 28 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ الْإِسْرَاءُ : 1 ] وَكَانَ الْإِسْرَاءُ مِنْ بَيْتِ أُمّ هَانِئٍ . وَمِنْهَا : أَنّ مَنْ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ مَكّةَ فَإِنّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْحِلّ وَيُصَلّيَ فِي الْحَرَمِ وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَصْنَعُ . وَمِنْهَا : جَوَازُ ابْتِدَاءِ الْإِمَامِ بِطَلَبِ صُلْحِ الْعَدُوّ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ وَلَا يَتَوَقّفُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الطّلَبِ مِنْهُمْ .
[ سُنّيّةُ الْقِيَامِ بِالسّيْفِ عَلَى رَأْسِ الْقَائِدِ عِنْدَ قُدُومِ رُسُلِ الْعَدُوّ ]
وَفِي قِيَامِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّيْفِ وَلَمْ يَكُنْ عَادَتَهُ أَنْ يُقَامَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ سُنّةٌ يُقْتَدَى بِهَا عِنْدَ قُدُومِ رُسُلِ الْعَدُوّ مِنْ إظْهَارِ الْعِزّ وَالْفَخْرِ وَتَعْظِيمِ الْإِمَامِ وَطَاعَتِهِ وَوِقَايَتِهِ بِالنّفُوسِ وَهَذِهِ هِيَ الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ عِنْدَ قُدُومِ رُسُلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَقُدُومِ رُسُلِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ هَذَا النّوْعِ الّذِي ذَمّهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَوْلِهِ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَتَمَثّلَ لَهُ الرّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النّارِ كَمَا أَنّ الْفَخْرَ وَالْخُيَلَاءَ فِي الْحَرْبِ [ ص 271 ]
[ مَالُ المشّرْكِ الْمُعَاهَدِ مَعْصُومٌ ](4/489)
وَفِي قَوْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْمُغِيرَةِ أَمّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ وَأَمّا الْمَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ مَالَ الْمُشْرِكِ الْمُعَاهَدِ مَعْصُومٌ وَأَنّهُ لَا يُمْلَكُ بَلْ يُرَدّ عَلَيْهِ فَإِنّ الْمُغِيرَةَ كَانَ قَدْ صَحِبَهُمْ عَلَى الْأَمَانِ ثُمّ غَدَرَ بِهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ فَلَمْ يَتَعَرّضْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَمْوَالِهِمْ وَلَا ذَبّ عَنْهَا وَلَا ضَمِنَهَا لَهُمْ لِأَنّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ إسْلَامِ الْمُغِيرَةِ .
[ جَوَازُ التّصْرِيحِ بِاسْمِ الْعَوْرَةِ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ]
وَفِي قَوْلِ الصّدّيقِ لِعُرْوَةَ اُمْصُصْ بَظْرَ اللّات دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التّصْرِيحِ بِاسْمِ الْعَوْرَةِ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ تَقْتَضِيهَا تِلْكَ الْحَالُ كَمَا أَذِنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُصَرّحَ لِمَنْ ادّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ بِهُنّ أَبِيهِ وَيُقَالُ لَهُ اعْضَضْ أَيْرَ أَبِيك وَلَا يُكَنّى لَهُ فَلِكُلّ مَقَامٍ مَقَالٌ .
[ احْتِمَالُ قِلّةِ أَدَبِ رَسُولِ الْكُفّارِ ]
وَمِنْهَا : احْتِمَالُ قِلّةِ أَدَبِ رَسُولِ الْكُفّارِ وَجَهْلُهُ وَجَفْوَتُهُ وَلَا يُقَابَلُ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْعَامّةِ وَلَمْ يُقَابِلْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُرْوَةَ عَلَى أَخْذِهِ بِلِحْيَتِهِ وَقْتَ خِطَابِهِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ عَادَةَ الْعَرَبِ لَكِنّ الْوَقَارَ وَالتّعْظِيمَ خِلَافُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ لَمْ يُقَابِلْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَسُولَيْ مُسَيْلِمَةَ حِينَ قَالَا : نَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَقَالَ لَوْلَا أَنّ الرّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا وَمِنْهَا : طَهَارَةُ النّخَامَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ رَأْسٍ أَوْ صَدْرٍ . وَمِنْهَا : طَهَارَةُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ . وَمِنْهَا : اسْتِحْبَابُ التّفَاؤُلِ وَأَنّهُ لَيْسَ مِنْ الطّيَرَةِ الْمَكْرُوهَةِ لِقَوْلِهِ لَمّا جَاءَ سُهَيْلٌ " سُهّلَ أَمْرُكُمْ " . [ ص 272 ]
[ يُغْنِي فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إذَا عُرِفَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ عَنْ ذِكْرِ الْجَدّ ]
وَمِنْهَا : أَنّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إذَا عُرِفَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ الْجَدّ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَزِدْ عَلَى مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَقَنِعَ مِنْ سُهَيْلٍ بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ خَاصّةً وَاشْتِرَاطُ ذِكْرِ الْجَدّ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَمّا اشْتَرَى الْعَدّاءُ بْنُ خَالِدٍ مِنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْغُلَامَ فَكَتَبَ لَهُ هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَة فَذَكَرَ جَدّهُ فَهُوَ زِيَادَةُ بَيَانٍ تَدُلّ عَلَى أَنّهُ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا تَدُلّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ وَلَمّا لَمْ يَكُنْ فِي الشّهْرَةِ بِحَيْثُ يُكْتَفَى بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ ذَكَرَ جَدّهُ فَيُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْجَدّ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ وَعِنْدَ عَدَمِ الِاشْتِرَاكِ اُكْتُفِيَ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَمِنْهَا : أَنّ مُصَالَحَةَ الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ مَا فِيهِ ضَيْمٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَدَفْعِ مَا هُوَ شَرّ مِنْهُ فَفِيهِ دَفْعُ أَعْلَى الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا . وَمِنْهَا : أَنّ مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ نَذَرَهُ أَوْ وَعَدَ غَيْرَهُ بِهِ وَلَمْ يُعَيّنْ وَقْتًا لَا بِلَفْظِهِ وَلَا بِنِيّتِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ عَلَى التّرَاخِي . وَمِنْهَا : أَنّ الْحِلَاقَ نُسُكٌ وَأَنّهُ أَفْضَلُ مِنْ التّقْصِيرِ وَأَنّهُ نُسُكٌ فِي الْعُمْرَةِ كَمَا هُوَ نُسُكٌ فِي الْحَجّ وَأَنّهُ نُسُكٌ فِي عُمْرَةِ الْمَحْصُورِ كَمَا هُوَ نُسُكٌ فِي عُمْرَةِ غَيْرِهِ .
[ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْصَرِ الْقَضَاءُ ](4/490)
وَمِنْهَا : أَنّ الْمُحْصَرَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ مِنْ الْحِلّ أَوْ الْحَرَمِ وَأَنّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَاعِدَ مَنْ يَنْحَرُهُ فِي الْحَرَمِ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ وَأَنّهُ لَا يَتَحَلّلُ حَتّى [ ص 273 ] { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ } [ الْفَتْحُ 25 ] . وَمِنْهَا : أَنّ الْمَوْضِعَ الّذِي نَحَرَ فِيهِ الْهَدْيَ كَانَ مِنْ الْحِلّ لَا مِنْ الْحَرَمِ لِأَنّ الْحَرَمَ كُلّهُ مَحِلّ الْهَدْيِ . وَمِنْهَا : أَنّ الْمُحْصَرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ وَالنّحْرِ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ وَالْعُمْرَةُ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً وَلَا قَضَاءً عَنْ عُمْرَةِ الْإِحْصَارِ فَإِنّهُمْ كَانُوا فِي عُمْرَةِ الْإِحْصَارِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَكَانُوا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ دُونَ ذَلِكَ وَإِنّمَا سُمّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ وَالْقَضَاءِ لِأَنّهَا الْعُمْرَةُ الّتِي قَاضَاهُمْ عَلَيْهَا فَأُضِيفَتْ الْعُمْرَةُ إلَى مَصْدَرِ فِعْلِهِ .
[ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْفَوْرِ ]
وَمِنْهَا : أَنّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْفَوْرِ وَإِلّا لَمْ يَغْضَبْ لِتَأْخِيرِهِمْ الِامْتِثَالَ عَنْ وَقْتِ الْأَمْرِ وَقَدْ اُعْتُذِرَ عَنْ تَأْخِيرِهِمْ الِامْتِثَالَ بِأَنّهُمْ كَانُوا يَرْجُونَ النّسْخَ فَأَخّرُوا مُتَأَوّلِينَ لِذَلِكَ وَهَذَا الِاعْتِذَارُ أَوْلَى أَنْ يُعْتَذَرَ عَنْهُ وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ فَهِمَ مِنْهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَدّ غَضَبُهُ لِتَأْخِيرِ أَمْرِهِ وَيَقُولُ مَا لِي لَا أَغْضَبُ وَأَنَا آمُرُ بِالْأَمْرِ فَلَا أُتّبَعُ وَإِنّمَا كَانَ تَأْخِيرُهُمْ مِنْ السّعْيِ الْمَغْفُورِ لَا الْمَشْكُورِ وَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ وَأَوْجَبَ لَهُمْ الْجَنّةَ .
[ الْأَصْلُ مُشَارَكَةُ أُمّتِهِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَحْكَامِ إلّا مَا خَصّهُ الدّلِيلُ ]
وَمِنْهَا : أَنّ الْأَصْلَ مُشَارَكَةُ أُمّتِهِ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ إلّا مَا خَصّهُ الدّلِيلُ وَلِذَلِكَ قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ اُخْرُجْ وَلَا تُكَلّمْ أَحَدًا حَتّى تَحْلِقَ رَأْسَك وَتَنْحَرَ هَدْيَك وَعَلِمَتْ أَنّ النّاسَ سَيُتَابِعُونَهُ . فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ فَعَلُوا ذَلِكَ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ وَلَمْ يَمْتَثِلُوهُ حِينَ أَمَرَهُمْ بِهِ ؟ قِيلَ هَذَا هُوَ السّبَبُ الّذِي لِأَجْلِهِ ظَنّ مَنْ ظَنّ أَنّهُمْ أَخّرُوا الِامْتِثَالَ طَمَعًا فِي النّسْخِ فَلَمّا فَعَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ عَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنّهُ حُكْمٌ مُسْتَقِرّ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَقَدْ تَقَدّمَ فَسَادُ هَذَا الظّنّ وَلَكِنْ لَمّا تَغَيّظَ عَلَيْهِمْ وَخَرَجَ وَلَمْ يُكَلّمْهُمْ وَأَرَاهُمْ أَنّهُ بَادَرَ إلَى امْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ وَأَنّهُ لَمْ يُؤَخّرْ كَتَأْخِيرِهِمْ وَأَنّ اتّبَاعَهُمْ لَهُ وَطَاعَتَهُمْ تُوجِبُ اقْتِدَاءَهُمْ بِهِ بَادَرُوا حِينَئِذٍ إلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ . [ ص 274 ] وَمِنْهَا : جَوَازُ صُلْحِ الْكُفّارِ عَلَى رَدّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَلّا يُرَدّ مَنْ ذَهَبَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ هَذَا فِي غَيْرِ النّسَاءِ وَأَمّا النّسَاءُ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ رَدّهِنّ إلَى الْكُفّارِ وَهَذَا مَوْضِعُ النّسْخِ خَاصّةً فِي هَذَا الْعَقْدِ بِنَصّ الْقُرْآنِ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَعْوَى النّسْخِ فِي غَيْرِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ .
[ خُرُوجُ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزّوْجِ مُتَقَوّمٌ ](4/491)
وَمِنْهَا : أَنّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزّوْجِ مُتَقَوّمٌ وَلِذَلِكَ أَوْجَبَ اللّهُ سُبْحَانَهُ رَدّ الْمَهْرِ عَلَى مَنْ هَاجَرَتْ امْرَأَتُهُ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَعَلَى مَنْ ارْتَدّتْ امْرَأَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا اسْتَحَقّ الْكُفّارُ عَلَيْهِمْ رَدّ مُهُورِ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنّ ذَلِكَ حُكْمُهُ الّذِي حَكَمَ بِهِ بَيْنَهُمْ ثُمّ لَمْ يَنْسَخْهُ شَيْءٌ وَفِي إيجَابِهِ رَدّ مَا أَعْطَى الْأَزْوَاجُ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَقَوّمِهِ بِالْمُسَمّى لَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ . وَمِنْهَا : أَنّ رَدّ مَنْ جَاءَ مِنْ الْكُفّارِ إلَى الْإِمَامِ لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا إلَى غَيْرِ بَلَدِ الْإِمَامِ وَأَنّهُ إذَا جَاءَ إلَى بَلَدِ الْإِمَامِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدّهُ بِدُونِ الطّلَبِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَرُدّ أَبَا بَصِيرٍ حِينَ جَاءَهُ وَلَا أَكْرَهَهُ عَلَى الرّجُوعِ وَلَكِنْ لَمّا جَاءُوا فِي طَلَبِهِ مَكّنَهُمْ مِنْ أَخْذِهِ وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَى الرّجُوعِ . وَمِنْهَا أَنّ الْمُعَاهَدِينَ إذَا تَسَلّمُوهُ وَتَمَكّنُوا مِنْهُ فَقَتَلَ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَضْمَنْهُ بِدِيَةٍ وَلَا قَوَدٍ وَلَمْ يَضْمَنْهُ الْإِمَامُ بَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمَ قَتْلِهِ لَهُمْ فِي دِيَارِهِمْ حَيْثُ لَا حُكْمَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ فَإِنّ أَبَا بَصِيرٍ قَتَلَ أَحَدَ الرّجُلَيْنِ الْمُعَاهَدَيْنِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَهِيَ مِنْ حُكْمِ الْمَدِينَةِ وَلَكِنْ كَانَ قَدْ تَسَلّمُوهُ وَفُصِلَ عَنْ يَدِ الْإِمَامِ وَحُكْمِهِ . وَمِنْهَا : أَنّ الْمُعَاهَدِينَ إذَا عَاهَدُوا الْإِمَامَ فَخَرَجَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ فَحَارَبَتْهُمْ وَغَنِمَتْ أَمْوَالَهُمْ وَلَمْ يَتَحَيّزُوا إلَى الْإِمَامِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْإِمَامِ دَفْعُهُمْ عَنْهُمْ وَمَنْعُهُمْ مِنْهُمْ وَسَوَاءٌ دَخَلُوا فِي عَقْدِ الْإِمَامِ وَعَهْدِهِ وَدِينِهِ أَوْ لَمْ يَدْخُلُوا وَالْعَهْدُ الّذِي كَانَ بَيْنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ عَهْدًا [ ص 275 ] أَبِي بَصِيرٍ وَأَصْحَابِهِ وَبَيْنَهُمْ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ بَيْنَ بَعْضِ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضِ أَهْلِ الذّمّةِ مِنْ النّصَارَى وَغَيْرِهِمْ عَهْدٌ جَازِ لِمَلِكٍ آخَرَ مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوَهُمْ وَيَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ كَمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي نَصَارَى مَلَطْيَةَ وَسَبْيِهِمْ مُسْتَدِلّا بِقِصّةِ أَبِي بَصِيرٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ .
فَصْلٌ فِي الْإِشَارَةِ إلَى بَعْضِ الْحِكَمِ الّتِي تَضَمّنَتْهَا هَذِهِ الْهُدْنَةُ
وَهِيَ أَكْبَرُ وَأَجَلّ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهَا إلّا اللّهُ الّذِي أَحْكَمَ أَسْبَابَهَا فَوَقَعَتْ الْغَايَةُ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ .
[ مُقَدّمَةٌ لِلْفَتْحِ ]
فَمِنْهَا : أَنّهَا كَانَتْ مُقَدّمَةً بَيْنَ يَدَيْ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ الّذِي أَعَزّ اللّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَجُنْدَهُ وَدَخَلَ النّاسُ بِهِ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجًا فَكَانَتْ هَذِهِ الْهُدْنَةُ بَابًا لَهُ وَمِفْتَاحًا وَمُؤْذِنًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهَذِهِ عَادَةُ اللّهِ سُبْحَانَهُ فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ الّتِي يَقْضِيهَا قَدَرًا وَشَرْعًا أَنْ يُوَطّئَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا مُقَدّمَاتٍ وَتَوْطِئَاتٍ تُؤْذِنُ بِهَا وَتَدُلّ عَلَيْهَا .
[ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ ](4/492)
وَمِنْهَا : أَنّ هَذِهِ الْهُدْنَةَ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ فَإِنّ النّاسَ أَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ بِالْكُفّارِ وَبَادَءُوهُمْ بِالدّعْوَةِ وَأَسْمَعُوهُمْ الْقُرْآنَ وَنَاظَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ جَهْرَةً آمِنِينَ وَظَهَرَ مَنْ كَانَ مُخْتَفِيًا بِالْإِسْلَامِ وَدَخَلَ فِيهِ فِي مُدّةَ الْهُدْنَةِ مَنْ شَاءَ اللّهُ أَنْ يَدْخُلَ وَلِهَذَا سَمّاهُ اللّهُ فَتْحًا مُبِينًا . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : قَضَيْنَا لَك قَضَاءً عَظِيمًا وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ مَا قَضَى اللّهُ لَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنّ الْفَتْحَ - فِي اللّغَةِ - فَتْحُ الْمُغْلَقِ وَالصّلْحُ الّذِي حَصَلَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ كَانَ مَسْدُودًا مُغْلَقًا حَتّى فَتَحَهُ اللّهُ وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ فَتْحِهِ صَدّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ عَنْ الْبَيْتِ وَكَانَ فِي الصّورَةِ الظّاهِرَةِ ضَيْمًا وَهَضْمًا لِلْمُسْلِمِينَ وَفِي الْبَاطِنِ عِزّا وَفَتْحًا وَنَصْرًا وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْظُرُ إلَى مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْفَتْحِ الْعَظِيمِ وَالْعِزّ وَالنّصْرِ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ وَكَانَ يُعْطِي الْمُشْرِكِينَ كُلّ [ ص 276 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْلَمُ مَا فِي ضِمْنِ هَذَا الْمَكْرُوهِ مِنْ مَحْبُوبٍ { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [ الْبَقَرَةُ 216 ] .
وَرُبّمَا كَانَ مَكْرُوهُ النّفُوسِ إلَى
مَحْبُوبِهَا سَبَبًا مَا مِثْلُهُ سَبَبٌ
فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى تِلْكَ الشّرُوطِ دُخُولَ وَاثِقٍ بِنَصْرِ اللّهِ لَهُ وَتَأْيِيدِهِ وَأَنّ الْعَاقِبَةَ لَهُ وَأَنّ تِلْكَ الشّرُوطَ وَاحْتِمَالَهَا هُوَ عَيْنُ النّصْرَةِ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْجُنْدِ الّذِي أَقَامَهُ الْمُشْتَرِطُونَ وَنَصَبُوهُ لِحَرْبِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَذَلّوا مِنْ حَيْثُ طَلَبُوا الْعِزّ وَقُهِرُوا مِنْ حَيْثُ أَظْهَرُوا الْقُدْرَةَ وَالْفَخْرَ وَالْغَلَبَةَ وَعَزّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ انْكَسَرُوا لِلّهِ وَاحْتَمَلُوا الضّيْمَ لَهُ وَفِيهِ فَدَارَ الدّوْرُ وَانْعَكَسَ الْأَمْرُ وَانْقَلَبَ الْعِزّ بِالْبَاطِلِ ذُلّا بِحَقّ وَانْقَلَبَتْ الْكَسْرَةُ لِلّهِ عِزّا بِاَللّهِ وَظَهَرَتْ حِكْمَةُ اللّهِ وَآيَاتُهُ وَتَصْدِيقُ وَعْدِهِ وَنُصْرَةُ رَسُولِهِ عَلَى أَتَمّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا الّتِي لَا اقْتِرَاحَ لِلْعُقُولِ وَرَاءَهَا .
[زِيَادَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ ](4/493)
وَمِنْهَا : مَا سَبّبَهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ عَلَى مَا أَحَبّوا وَكَرِهُوا وَمَا حَصَلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الرّضَى بِقَضَاءِ اللّهِ وَتَصْدِيقِ مَوْعُودِهِ وَانْتِظَارِ مَا وُعِدُوا بِهِ وَشُهُودِ مِنّةِ اللّهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِالسّكِينَةِ الّتِي أَنْزَلَهَا فِي قُلُوبِهِمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إلَيْهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ الّتِي تُزَعْزَعُ لَهَا الْجِبَالُ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سَكِينَتِهِ مَا اطْمَأَنّتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ وَقَوِيَتْ بِهِ نُفُوسُهُمْ وَازْدَادُوا بِهِ إيمَانًا . وَمِنْهَا : أَنّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ هَذَا الْحُكْمَ الّذِي حَكَمَ بِهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ سَبَبًا لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَغْفِرَةِ لِرَسُولِهِ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخّرَ وَلِإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَلِهِدَايَتِهِ الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَنَصْرِهِ النّصْرَ الْعَزِيزَ وَرِضَاهُ بِهِ وَدُخُولِهِ تَحْتَهُ وَانْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضّيْمِ وَإِعْطَاءِ مَا سَأَلُوهُ كَانَ مِنْ الْأَسْبَابِ الّتِي نَالَ بِهَا الرّسُولُ وَأَصْحَابُهُ ذَلِكَ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ جَزَاءً وَغَايَةً وَإِنّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى فِعْلٍ قَامَ بِالرّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ حُكْمِهِ تَعَالَى وَفَتْحِهِ . وَتَأَمّلْ كَيْفَ وَصَفَ - سُبْحَانَهُ - النّصْرَ بِأَنّهُ عَزِيزٌ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ ثُمّ ذَكَرَ [ ص 277 ] أَشَدّ الْقَلَقِ فَهِيَ أَحْوَجَ مَا كَانَتْ إلَى السّكِينَةِ فَازْدَادُوا بِهَا إيمَانًا إلَى إيمَانِهِمْ ثُمّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَيْعَتَهُمْ لِرَسُولِهِ وَأَكّدَهَا بِكَوْنِهَا بَيْعَةً لَهُ سُبْحَانَهُ وَأَنّ يَدَهُ تَعَالَى كَانَتْ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ إذْ كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَذَلِكَ وَهُوَ رَسُولُهُ وَنَبِيّهُ فَالْعَقْدُ مَعَهُ عَقْدٌ مَعَ مُرْسِلِهِ وَبَيْعَتُهُ بَيْعَتُهُ فَمَنْ بَايَعَهُ فَكَأَنّمَا بَايَعَ اللّهَ وَيَدُ اللّهِ فَوْقَ يَدِهِ وَإِذَا كَانَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينَ اللّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبّلَهُ فَكَأَنّمَا صَافَحَ اللّهَ وَقَبّلَ يَمِينَهُ فَيَدُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَوْلَى بِهَذَا مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثُمّ أَخْبَرَ أَنّ نَاكِثَ هَذِهِ الْبَيْعَةِ إنّمَا يَعُودُ نَكْثُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَنّ لِلْمُوفِي بِهَا أَجْرًا عَظِيمًا فَكُلّ مُؤْمِنٍ فَقَدْ بَايَعَ اللّهَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ بَيْعَةً عَلَى الْإِسْلَامِ وَحُقُوقِهِ فَنَاكِثٌ وَمُوفٍ . ثُمّ ذَكَرَ حَالَ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ مِنْ الْأَعْرَابِ وَظَنّهُمْ أَسْوَأَ الظّنّ بِاَللّهِ أَنّهُ يَخْذُلُ رَسُولَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَجُنْدَهُ وَيُظْفِرُ بِهِمْ عَدُوّهُمْ فَلَنْ يَنْقَلِبُوا إلَى أَهْلِيهِمْ وَذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِمْ بِاَللّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَجَهْلِهِمْ بِرَسُولِهِ وَمَا هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُعَامِلَهُ بِهِ رَبّهُ وَمَوْلَاهُ . ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ رِضَاهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ بِدُخُولِهِمْ تَحْتَ الْبَيْعَةِ لِرَسُولِهِ وَأَنّهُ [ ص 278 ] وَكَمَالِ الِانْقِيَادِ وَالطّاعَةِ وَإِيثَارِ اللّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ السّكِينَةَ وَالطّمَأْنِينَةَ وَالرّضَى فِي قُلُوبِهِمْ وَأَثَابَهُمْ عَلَى الرّضَى بِحُكْمِهِ وَالصّبْرِ لِأَمْرِهِ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ أَوّلُ الْفَتْحِ وَالْمَغَانِمِ فَتْحَ خَيْبَرَ وَمَغَانِمَهَا ثُمّ اسْتَمَرّتْ الْفُتُوحُ وَالْمَغَانِمُ إلَى انْقِضَاءِ الدّهْرِ .
[ مَعْنَى فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ ](4/494)
وَوَعَدَهُمْ سُبْحَانَهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ عَجّلَ لَهُمْ هَذِهِ الْغَنِيمَةَ وَفِيهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ الصّلْحُ الّذِي جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوّهِمْ وَالثّانِي : أَنّهَا فَتْحُ خَيْبَرَ وَغَنَائِمُهَا ثُمّ قَالَ { وَكَفّ أَيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ } [ الْفَتْحُ 20 ] فَقِيلَ أَيْدِيَ أَهْلِ مَكّةَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ وَقِيلَ أَيْدِيَ الْيَهُودِ حِينَ هَمّوا بِأَنْ يَغْتَالُوا مَنْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الصّحَابَةِ مِنْهَا . وَقِيلَ هَمّ أَهْلِ خَيْبَرَ وَحُلَفَاؤُهُمْ الّذِينَ أَرَادُوا نَصْرَهُمْ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ . وَالصّحِيحُ تَنَاوُلُ الْآيَةِ لِلْجَمِيعِ . وَقَوْلُهُ { وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } قِيلَ هَذِهِ الْفِعْلَةُ الّتِي فَعَلَهَا بِكُمْ وَهِيَ كَفّ أَيْدِي أَعْدَائِكُمْ عَنْكُمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ فَإِنّهُمْ حِينَئِذٍ كَانَ أَهْلُ مَكّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَأَهْلُ خَيْبَرَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَأَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَجُمْهُورُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ أَعْدَاءً لَهُمْ وَهُمْ بَيْنَهُمْ كَالشّامَةِ فَلَمْ يَصِلُوا إلَيْهِمْ بِسُوءٍ فَمِنْ آيَاتِ اللّهِ سُبْحَانَهُ كَفّ أَيْدِي أَعْدَائِهِمْ عَنْهُمْ فَلَمْ يَصِلُوا إلَيْهِمْ بِسُوءٍ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَشِدّةِ عَدَاوَتِهِمْ وَتَوَلّي حِرَاسَتِهِمْ وَحِفْظِهِمْ فِي مَشْهَدِهِمْ وَمَغِيبِهِمْ وَقِيلَ هِيَ فَتْحُ خَيْبَرَ جَعَلَهَا آيَةً لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَامَةً عَلَى مَا بَعْدَهَا مِنْ الْفُتُوحِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَعَدَهُمْ مَغَانِمَ كَثِيرَةً وَفُتُوحًا عَظِيمَةً فَعَجّلَ لَهُمْ فَتْحَ خَيْبَرَ وَجَعَلَهَا آيَةً لِمَا بَعْدَهَا وَجَزَاءً لِصَبْرِهِمْ وَرِضَاهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَشُكْرَانًا وَلِهَذَا خَصّ بِهَا وَبِغَنَائِمِهَا مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ . ثُمّ قَالَ { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } فَجَمَعَ لَهُمْ إلَى النّصْرَ وَالظّفَرَ وَالْغَنَائِمَ وَالْهِدَايَةَ فَجَعَلَهُمْ مَهْدِيّينَ مَنْصُورِينَ غَانِمِينَ ثُمّ وَعَدَهُمْ مَغَانِمَ كَثِيرَةً وَفُتُوحًا أُخْرَى لَمْ يَكُونُوا ذَلِكَ الْوَقْتَ قَادِرِينَ عَلَيْهَا فَقِيلَ هِيَ مَكّةُ وَقِيلَ هِيَ فَارِسُ وَالرّومُ [ ص 279 ] وَقِيلَ الْفُتُوحُ الّتِي بَعْدَ خَيْبَرَ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبهَا . ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّ الْكُفّارَ لَوْ قَاتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ لَوَلّى الْكُفّارُ الْأَدْبَارَ غَيْرَ مَنْصُورِينَ وَأَنّ هَذِهِ سُنّتُهُ فِي عِبَادِهِ قَبْلَهُمْ وَلَا تَبْدِيلَ لِسُنّتِهِ . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَاتَلُوهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُوَلّوا الْأَدْبَارَ ؟ قِيلَ هَذَا وَعْدٌ مُعَلّقٌ بِشَرْطٍ مَذْكُورٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ الصّبْرُ وَالتّقْوَى وَفَاتَ هَذَا الشّرْطُ يَوْمَ أُحُدٍ بِفَشَلِهِمْ الْمُنَافِي لِلصّبْرِ وَتَنَازُعِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ الْمُنَافِي لِلتّقْوَى فَصَرَفَهُمْ عَنْ عَدُوّهِمْ وَلَمْ يَحْصُلْ الْوَعْدُ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ . ثُمّ ذَكَرَ - سُبْحَانَهُ - أَنّهُ هُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ الْبَالِغَةِ الّتِي مِنْهَا : أَنّهُ كَانَ فِيهِمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ قَدْ آمَنُوا وَهُمْ يَكْتُمُونَ إيمَانَهُمْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَلَوْ سَلّطَكُمْ عَلَيْهِمْ لَأَصَبْتُمْ أُولَئِكَ بِمَعَرّةِ الْجَيْشِ وَكَانَ يُصِيبُكُمْ مِنْهُمْ مَعَرّةُ الْعُدْوَانِ وَالْإِيقَاعِ بِمَنْ لَا يَسْتَحِقّ الْإِيقَاعَ بِهِ وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُصُولَ الْمَعَرّةِ بِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمُسْتَخْفِينَ بِهِمْ لِأَنّهَا مُوجَبُ الْمَعَرّةِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُمْ بِهِمْ وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُمْ لَوْ زَايَلُوهُمْ وَتَمَيّزُوا مِنْهُمْ لَعَذّبَ أَعْدَاءَهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدّنْيَا إمّا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَإِمّا بِغَيْرِهِ وَلَكِنْ دَفَعَ عَنْهُمْ هَذَا الْعَذَابَ لِوُجُودِ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ كَمَا كَانَ يَدْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ وَرَسُولُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ . ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمّا جَعَلَهُ الْكُفّارُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ حَمِيّةِ الْجَاهِلِيّةِ الّتِي مَصْدَرُهَا الْجَهْلُ وَالظّلْمُ الّتِي لِأَجْلِهَا صَدّوا رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ عَنْ بَيْتِهِ وَلَمْ يُقِرّوا بِبِسْمِ اللّهِ(4/495)
الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَلَمْ يُقِرّوا لِمُحَمّدٍ بِأَنّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ تَحَقّقِهِمْ صِدْقَهُ وَتَيَقّنِهِمْ صِحّةَ رِسَالَتِهِ بِالْبَرَاهِينِ الّتِي شَاهَدُوهَا وَسَمِعُوا بِهَا فِي مُدّةِ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَضَافَ هَذَا الْجَعْلَ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ كَمَا يُضَافُ إلَيْهِمْ سَائِرُ أَفْعَالِهِمْ الّتِي هِيَ بِقُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ . ثُمّ أَخْبَرَ - سُبْحَانَهُ - أَنّهُ أَنْزَلَ فِي قَلْبِ رَسُولِهِ وَأَوْلِيَائِهِ مِنْ السّكِينَةِ مَا هُوَ [ ص 280 ] حَمِيّةِ الْجَاهِلِيّةِ فَكَانَتْ السّكِينَةُ حَظّ رَسُولِهِ وَحِزْبِهِ وَحَمِيّةُ الْجَاهِلِيّةِ حَظّ الْمُشْرِكِينَ وَجُنْدِهِمْ ثُمّ أَلْزَمَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ كَلِمَةَ التّقْوَى وَهِيَ جِنْسٌ يَعُمّ كُلّ كَلِمَةٍ يُتّقَى اللّهُ بِهَا وَأَعْلَى نَوْعِهَا كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ وَقَدْ فُسّرَتْ بِبِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَهِيَ الْكَلِمَةُ الّتِي أَبَتْ قُرَيْشٌ أَنْ تَلْتَزِمَهَا فَأَلْزَمَهَا اللّهُ أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ وَإِنّمَا حَرَمَهَا أَعْدَاءَهُ صِيَانَةً لَهَا عَنْ غَيْرِ كُفْئِهَا وَأَلْزَمَهَا مَنْ هُوَ أَحَقّ بِهَا وَأَهْلُهَا فَوَضَعَهَا فِي مَوْضِعَهَا وَلَمْ يُضَيّعْهَا بِوَضْعِهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا وَهُوَ الْعَلِيمُ بِمَحَالّ تَخْصِيصِهِ وَمَوَاضِعِهِ . ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ صَدَقَ رَسُولَهُ رُؤْيَاهُ فِي دُخُولِهِمْ الْمَسْجِدَ آمِنِينَ وَأَنّهُ سَيَكُونُ وَلَا بُدّ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ آنَ وَقْتُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْعَامِ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ مِنْ مَصْلَحَةِ تَأْخِيرِهِ إلَى وَقْتِهِ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ فَأَنْتُمْ أَحْبَبْتُمْ اسْتِعْجَالَ ذَلِكَ وَالرّبّ تَعَالَى يَعْلَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ التّأْخِيرِ وَحِكْمَتِهِ مَا لَمْ تَعْلَمُوهُ فَقَدّمَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا تَوْطِئَةً لَهُ وَتَمْهِيدًا . ثُمّ أَخْبَرَهُمْ بِأَنّهُ هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ فَقَدْ تَكَفّلَ اللّهُ لِهَذَا الْأَمْرِ بِالتّمَامِ وَالْإِظْهَارِ عَلَى جَمِيعِ أَدْيَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَفِي هَذَا تَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِهِمْ وَبِشَارَةٌ لَهُمْ وَتَثْبِيتٌ وَأَنْ يَكُونُوا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ هَذَا الْوَعْدِ الّذِي لَا بُدّ أَنْ يُنْجِزَهُ فَلَا تَظُنّوا أَنّ مَا وَقَعَ مِنْ الْإِغْمَاضِ وَالْقَهْرِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ نُصْرَةً لِعَدُوّهِ وَلَا تَخَلّيًا عَنْ رَسُولِهِ وَدِينِهِ كَيْفَ وَقَدْ أَرْسَلَهُ بِدِينِهِ الْحَقّ وَوَعْدِهِ أَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى كُلّ دِينٍ سِوَاهُ . ثُمّ ذَكَرَ - سُبْحَانَهُ - رَسُولَهُ وَحِزْبَهُ الّذِينَ اخْتَارَهُمْ لَهُ وَمَدَحَهُمْ بِأَحْسَنِ الْمَدْحِ وَذَكَرَ صِفَاتِهِمْ فِي التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَكَانَ فِي هَذَا أَعْظَمُ الْبَرَاهِينِ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِالتّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَأَنّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدّمَةِ بِهَذِهِ الصّفَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِيهِمْ لَا كَمَا يَقُولُ الْكُفّارُ عَنْهُمْ إنّهُمْ مُتَغَلّبُونَ طَالِبُو مُلْكٍ وَدُنْيَا وَلِهَذَا لَمّا رَآهُمْ نَصَارَى الشّامِ وَشَاهَدُوا هَدْيَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ وَعَدْلَهُمْ وَعِلْمَهُمْ وَرَحْمَتَهُمْ وَزُهْدَهُمْ فِي الدّنْيَا وَرَغْبَتَهُمْ فِي الْآخِرَةِ قَالُوا : مَا [ ص 281 ] الْمَسِيحَ بِأَفْضَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَكَانَ هَؤُلَاءِ النّصَارَى أَعْرَفَ بِالصّحَابَةِ وَفَضْلِهِمْ مِنْ الرّافِضَةِ أَعْدَائِهِمْ وَالرّافِضَهُ تَصِفُهُمْ بِضِدّ مَا وَصَفَهُمْ اللّهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا و : { مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُرْشِدًا } [ الْكَهْفُ 17 ] .
************************
الفهرس العام
الباب الثالث-حقوقه صلى الله عليه وسلم ... 1
1. ... حقوق النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب نصرته والتحذير من الغلو فيه ... 1
2. ... حُقُوقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ ... 9
3. ... الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (معناها ـ صيغها ـ أوقاتها ـ فوائدها) ... 13
4. ... من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته: "نصرته" ... 25
5. ... كتاب "التأدب مع الرسول في ضوء الكتاب والسنة" [الجزء الأول] ... 32
6. ... كتاب "التأدب مع الرسول في ضوء الكتاب والسنة" [الجزء الثاني] ... 69
7. ... كتاب "التأدب مع الرسول في ضوء الكتاب والسنة" [الجزء الثالث] ... 94(4/496)
8. ... كتاب "التأدب مع الرسول في ضوء الكتاب والسنة" [الجزء الرابع] ... 144
9. ... كتاب "التأدب مع الرسول في ضوء الكتاب والسنة" [الجزء الخامس] ... 166
10. ... كتاب "التأدب مع الرسول في ضوء الكتاب والسنة" [الجزء السادس والأخير] ... 206
11. ... التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم من غير تأويل ... 240
12. ... آداب زيارة المسجد النبوي ... 247
13. ... أروع قصص الحب ... 250
14. ... السابق هنا هو المسبوق!! ... 282
15. ... الموجز البديع في الصلاة والسلام على الحبيب الشفيع ... 290
16. ... دلائل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ... 301
17. ... والله لا أُكلّمك أبدًا ... 310
18. ... حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم ... 314
19. ... منهج أهل السنة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ... 319
20. ... حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على المسلمين ... 330
21. ... محبة النبي صلى الله عليه وسلم* ... 338
22. ... كيف أرسخ حب النبي صلى الله عليه وسلم في قلب ولدي؟! ... 348
23. ... تعليم الأطفال حب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل بيته ... 352
24. ... محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الجفاة والغلاة ... 431
25. ... لماذا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ... 435
26. ... 1- كتاب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة [مقدمة وتعريفات مهمة] ... 441
27. ... 2- كتاب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة [مسائل في النبوات] ... 484
28. ... 3- كتاب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة [وجوب طاعة النبي ولزوم السنة] ... 556
29. ... 4- كتاب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة [معنى المحبة] ... 631
30. ... 5- كتاب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة [علامات وفضل محبته] ... 667
31. ... 6- كتاب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة [توقيره وتعظيمه] ... 714
32. ... 7- كتاب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة [الصلاة على النبي] ... 790
33. ... 9- حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة [النهي عن الغلو في حقه] ... 852
34. ... 11- حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة [الشفاعة - الاستغاثة به - أمور مبتدعة] ... 914
35. ... من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاة والسلام عليه ... 960
36. ... شأنُ النبي صلى الله عليه وسلم عند المسلمين: [حديث صلح الحديبية] ... 960
37. ... محبة النبيً صلى الله عليه وسلم وتعظيمه ... 960
38. ... حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم ... 985
39. ... برنامج عملي لمعرفة مكانة النبي في قلبك ... 999
40. ... رسالة إلى الحبيب ... 999
41-الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم ... 1003
42- شأنُ النبي عند المسلمين: [حديث صلح الحديبية] ... 1028(4/497)
فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقبه وحقوقه(4)
الباب الرابع-قالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم
المدخل لهذه الشهادات
[ شهادة العقل الغربي : الحواجز والقيمة ]
لابدّ من الاعتراف – منذ البدء – بأن العقل الغربي، بسبب: من حيويته وتوقّده، يمثل – عبر القرن الأخير على وجه الخصوص – مركز ثقل خطير في دائرة التصوّر والفكر والحياة. وبما أن "الدين" - ابتداء – يقدم برنامجًا للفكر وتصورًا للحياة، فإن تفحّص موقف هذا العقل من الدين، يعد ضرورة بالغة إذا ما أريد وضع اليد، بشكل محدّد، على المساحة التي احتلها، ويحتلها وسيحتلّها الدين في خارطة الوجود البشري.
هذه مسألة ذات طابع عام يتضمن مطلق الأديان. وبما أن العقل الغربي قد قال كلمته – أكثر من مرة – في الدين المسيحي الذي يعدّ – إلى حد كبير – القوة الدينية الوحيدة الموازية للإسلام، في الديمومة والانتشار، وبما أن هذا العقل قد أعلن أكثر من مرة، رفضه للنصرانية وانسلاخه عنها بسبب من نقاط الارتطام العديدة بينه وبينها، فإننا نريد أن نتفحّص هنا بعض ما يريد أن يقوله في الدين الآخر: الإسلام.
طبعًا، لقد عانى هذا العقل ولا يزال من حواجز الرؤية الموضوعية التي تمكنه من معاينة الإسلام عن كثب، والحكم عليه بالتجرد والعلمية التي ينادي بها هذا العقل ويتخذها منهج عمل له في التعامل مع الظاهر والموجودات أو كما يحاول أن يقنع نفسه على الأقل.
هذه الحواجز ذات الجذور العميقة والطبقات المتعددة، جعلته، عبر قرون متواصلة، يقول في الإسلام ما يرتطم – ابتداء – ببداهات الروح العلمية التي يؤمن بها ويلحّ عليها. وإننا لنتذكر هنا عبارتين للمستشرق البريطاني المعاصر (مونتغمري وات) يقول في إحداهما: "إذا حدث وإن كانت بعض آراء العلماء الغربيين غير معقولة عند المسلمين، فذلك لأن العلماء الغربيين لم يكونوا دائمًا مخلصين لمبادئهم العلمية، وأن آراءهم يجب إعادة النظر فيها من وجهة النظر التاريخية الدقيقة" [محمد في مكة، ص6]، ويقول في الأخرى: "إن موقف العلماء الغربيين كان غالبًا سيّئًا لما يبدو أنه يتضمنه من إنكار لمعتقدات الإسلام الفقهية. ولذا كانت الدراسات الغربية عن القرآن غير موفقة حتى من وجهة نظر أفضل العلماء" [محمد في مكة، ص55–56].
وبمقدور المرء أن يتابع سيلاً عرمًا من الكتابات والأقوال الغربية في الإسلام، تدفقت عبر أربعة قرون أو خمسة، فإنه غير واجد في معظم مساحاته إلا الكدر الذي يحجب نفاذ الرؤية إلى الأعماق.
هذه مسألة تكاد تكون معروفة للجميع، وليس من مهمة هذا البحث إلا أن يكتفي بالإشارة إليها لكي يمضي، مباشرة، على النقيض الذي يهمّه: رصد الأقوال والمعطيات الأكثر موضوعية، والأقرب إلى العلمية التي يعتمدها العقل الغربي، وغير المسلم عمومًا، وهي أقوال ومعطيات أخذت تتزايد طردًا بمرور الوقت، وبخاصة في العقود الأخيرة، بسبب من قدرة العقل الغربي على كسر العديد من الحواجز التي كانت تصدّه عن التعامل العادل مع هذا الدين، وتمكنه من اجتيازها بصيغٍ تستحق التقدير والإعجاب. بل إن بعض الغربيين – وهذا أمر طبيعي – انتهى به الأمر إلى اعتناق الإسلام كما لو أنه اكتشف – بعد لأي – ما كان يبحث عنه، بالدهشة والفرح والإعجاب نفسها التي تتملك إنسانًا ما فقد وثيقة مستقبله وطموحه ثم هاهو ذا يعثر عليها أخيرًا.
مهما يكن من أمر فإن رصد معطيات كهذه – رغم عدم توازنها الكمي بطبيعة الحال مع التيار المضاد اللاعلمي واللاموضوعي – يمثل ضرورة على أكثر من مستوى، بعضها إنساني، وبعضها عقيدي، وبعضها الآخر أكاديمي صرف.
وهذه الضرورة، بمستوياتها تلك، هي التي تمنح القارئ، شرقيًا كان أم غربيًا، مسلمًا أم غير مسلم، مبررات عمل كهذا، وتلقي الضوء على دوافعه وأهدافه.
إنسانيًا، تجيء شهادات خصوم هذا الدين، بما يمتلكون من قدرات عقلية فذّة، وصيغ حضارية متقدمة، بمثابة سعي مخلص وجاد، غير متحيّز ولا ميّال، لحلّ أزمة الإنسان المعاصر، بإرشاده بشكل مباشر أو غير مباشر إلى أن "الإسلام" هو خلاصه الوحيد، وأن مضلته ليست خطيئة أبدية، ولا طريقًا مسدودًا، بل أن بمقدوره في أية لحظة أن يحظى بخلاصه المنشود، بمجرد أن يفتح عقله وقلبه وأن يعرف، بدافع من عشق الحقّ وحده، ما يمكن أن يقدمه له هذا الدين.
عقيديًا، تجيء شهادات خصوم هذا الدين، لتأكيد وتعزيز ما سبق وإن قاله الإسلام نفسه، في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما عبر عنه من خلال معطيات أجيال من المسلمين، على مستوى العقيدة والشريعة والسلوك والتاريخ والحضارة، من أنه الدين الوحيد الحق، الدين الأخير الذي تنزّل لكي يكون على حجم الإنسان المتحضّر، المسؤول، وعلى حجم مطامحه بالتقدم، ورغبته الملحّة في التوحّد بين الوجود والمصير.(5/1)
أكاديميًا، تجيء شهادات خصوم هذا الدين لكي تثبت "حقائق" يتحتم أن ترصد، وتوازن سيلاً من المعطيات اللاعلمية واللاموضوعية التي قيلت عن هذا الدين، وتردّ الأمر، أو بعضه، إلى نصابه الحق.
وهذه الدوافع، أو الأهداف الثلاثة، تقود – بالضرورة – إلى المحصّلة الأخيرة التي يبتغيها هذا العمل الأوليّ المتواضع: مخاطبة العقل الغربي، بالصيغ الأكثر إقناعًا وتأثيرًا، عن طريق الاستنتاجات نفسها التي توصل إليها هذا العقل وهو يتعامل مع الإسلام، بقدر طيب من الموضوعية، وإقناعه، أو محاولة إقناعه، بجدّية هذا الدين، وأحقيته في قيادة الإنسان، والحياة في صياغة الوجود البشري والتخطيط للمصير، بعد أن عجزت كافة المذاهب والإيديولوجيات والأديان عن تحقيق هذا الهدف، وأنه ليس ثمة غير الإسلام، بواقعيته، وشموليته، وتوازنه، وانسجامه مع الإنسان، من يقدر على أداء هذا الدور الخطير.
ومن أجل ألاّ يكون هذا التحليل مُجرّد تعميمات غير محددة، فإنه يتحتم قبل البدء بتقديم "الشهادات" أن نضع أيدينا – بالتركيز المطلوب – على الخصائص الأساسية للإسلام، تلك التي كانت بمثابة نقاط إشعاع وتألّق، جذبت أنظار الغربيين ودفعتهم إلى إصدار مقولاتهم تلك، وأن نضع أيدينا – كذلك على الخصائص الأساسية للبيئة الفكرية والنفسية، والحضارية عمومًا، التي تعطي الإنسان المعاصر بعض ما يريده، نعم ولكنها تمنع عنه الكثير مما يريده فيما يوازي حجمه كإنسان، ويلبي مطامحه كمخلوق أريد له أن يلعب دورًا أكبر بكثير، وأعلى بكثير، من هذا الذي يمارسه على مساحة العالم، حتى إذا ما أتيح له أن يلتقي بهذا الدين، وجهًا لوجه، أو من خلال مرايا الآخرين التي تنطبع عليها الملامح، أو بعضها، وعبر الجسور التي يقيمها هذا الرجل أو ذاك، فإنه سيعثر – ولا شك – على ما يدهشه ويعجبه، فتكون ردود الأفعال المتفاوتة، ويكون التعبير ذو الدرجات التي تبدأ "بقول" يقيّم هذا الجانب أو ذاك من جوانب الإسلام، و"شهادة" تبدي إعجابها بهذا الوجه أو ذاك من وجوه أنشطته ومعطياته ونسيجه المتفرّد، وتنتهي بمعانقة هذا الدين، والتسليم به، والانتماء إليه: عقيدة تحمل في بنيتها الصواب المطلق، وتحمل مع هذا الصواب القدرة الفذة المتجددة على مجابهة معضلات العصر، ومعايشة بيئته الصعبة، المضطربة التي يتخبط فيها الإنسان، لكنها ما تلبث أن تستجيب لنداءاته كافة، وتقوده، عبر طرق مستقيمة، كالصراط، إلى مبتغاه.
[ الإسلام هو الرسالة السماوية الأخيرة للبشرية : دعوة للاختبار ]
إن حقيقة "أن الإسلام هو الرسالة السماوية الأخيرة للبشرية" تحمل أهميتها هنا بقدر ما يتعلق الأمر بفئتين من غير المسلمين ظنت إحداهما أن رحلة الأديان توقفت عند السيد المسيح عليه السلام، وأخذت طابعها الأخير على يديه فليس ثمة بعده من نبوة، ولا بعد دينه من دين. وظنت الفئة الأخرى، أنه بعد المسيحية، كدين أخير، وبعد أن أثبتت عجزها عن قيادة الحياة، والإنسان، وملاحقة المتغيرات الفكرية والحضارية، وبعد أن أخفقت في الاستجابة للتحديات التاريخية المتجددة التي لا ينقطع سيلها، ترك الحبل على الغرب، ودُعي الإنسان، الذي لم تقدر النصرانية على أن تأخذ بيده حتى النهاية، دعي لكي يستجيش قدراته العقلية، وينقذ نفسه بنفسه، وفق برامج عمل مرحلية، تسلمه الواحدة منها للأخرى، معتقدًا أنه بهذا وحده قدير على ملء الفراغ، ومنح الإنسان القدرة على اجتياز رحلة الحياة على هدى وبيّنة.
وليس ثمة مجال للتأكيد هاهنا على إخفاق هذه المحاولات الوضعية المتواصلة، وبقاء الإنسان معلقًا من عنقه في فضاء مخيف، وليس ثمة من يمدّ يده إليه لكي يخلّصه ويهديه سواء السبيل، هذه المحاولات التي كان بعضها ينقض بعضًا، وكانت إحداها تضرب الأخرى لكي تدفع بها بعيدًا عن مركز القيادة والسلطان.
عشرات، بل مئات، من المحاولات، كانت الحياة نفسها محكّ اختبارها وكان فشلها – في نهاية الأمر – معيار عدم قدرتها على أداء الدور الذي أريد للأديان أن تؤديه لصالح الإنسان.
وهكذا فإن اعتبار الإسلام هو "الدين الأخير" يحمل أهميته البالغة، ليس فقط في دحض قناعات الفئتين الآنفتي الذكر، اللتين تشكلان المساحة الكبرى من البشرية، بل باعتباره الدين الوحيد الذي يتحتم الانتماء إليه، والعقيدة المتفردة، من بين كل العقائد السماوية التي نسخها هذا الدين، أو الوضعية التي أثبتت نسبيتها وعدم قدرتها على أداء مهمتها في القيادة المتواصلة، الناجعة للإنسان والحياة. العقيدة القادرة في كل لحظة على تسلم مواقع القيادة، المستعدة في كل زمن ومكان لتأدية دورها المرسوم بعناية لصالح الإنسان، المستجيبة – أبدًا – للمتغيرات والتحديات.(5/2)
ولم يكن الإسلام ليحمل هذه الصفة المتفردة، ولا ليصدر هذا الحكم الحاسم، باعتباره الدين الأخير الناسخ لما سبقه من أديان، والقادر – في الوقت نفسه على مواصلة الطريق حتى النهاية، دون أن يكون لديه ميزتان أساسيتان نريد أن نقف عندهما بعض الشيء. أولاهما عقيدة تتعلق بطبيعة الارتباط بين الإسلام وبين كافة الأديان السماوية التي سبقته، وثانيتهما حيوية تتعلق بطبيعة الارتباط بين الإسلام وبين كافة الأديان السماوية التي سبقته، وثانيتهما حيوية تتعلق بقدرة هذا الدين على قيادة الحياة البشرية، وتمكنه من تلبية حاجيات الإنسان، بغض النظر عن اختلاف الزمن والمكان، وتفاوت البيئات والأحوال.
إن اختبار هاتين الميزتين، ليس من قبل المسلمين أنفسهم الذين يسلّمون بهما تسليمًا قطعيًا، وإلا ما غدوا مسلمين ولا اقتنعوا بأحقية هذا الدين في الانتماء إليه، وإنما من قبل أولئك الذين يتحركون خارج دائرة الإسلام، ويحرصون، سلبًا أو إيجابًا، على تفحّص ميزات كهذه، لكي ينفوا أو يؤكدوا تلك المقولة التي تعتبر الإسلام دينًا أخيرًا، وهو في الوقت نفسه يملك ديمومته واستمراريته.
إن اختبار هاتين الميزتين (مما يدخل في سياق هذا الكتاب) والاقتناع بصدقهما وواقعيتهما، يمنح الإنسان غير المسلم قناعة كافية، من بين قناعات أخرى كثيرة، بأن دينًا كهذا يستحق "الشهادة" و"التقييم"، بل و"التقبّل" و"الانتماء"، وهذا هو ما تم بالفعل على نطاق ليس بمحدود كما سيتضح من متابعة معطيات الكتاب.
والحق أنه ليس أسهل على المرء من ممارسة اختبار كهذا، جرى ويجري على نطاق واسع، وذلك بمجرد الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إمرار النظر في معطيات الإسلام العقيدية والتشريعية، أو متابعة جانب من صيرورته التاريخية والحضارية.
إن القرآن الكريم، والسنة بالتالي، لا يؤكدان فحسب "تصديق" الإسلام لكافة الأديان السماوية التي(1) سبقته، وهيمنته على روحها وجوهرها، وصهره معطياتها الأصيلة في كيان ديني متوحّد، ذي نسيح واحد،ولكنهما يتجاوزان ذلك ، بما يتضمنانه من حشود الصيغ والمفردات إلى تأكيد مشهود لحقيقة أن الإسلام هو خاتم الأديان السماوية جميعًا، وجوهرها وروحها، وأنه كآخر محطة في مسارها الطويل، سيحمل كل ما تكفّلت حمله من قيم وأهداف وخبرات، سعت جميعًا عبر أماكن وأزمان متفاوتة، لتأكيد أهميتها للإنسان، ولتنفيذها في واقع الحياة.
إن هذا الاحتواء المؤكد لخبرات ومعطيات الأديان السابقة في أصولها الصحيحة، دفع الكثير من الدارسين إلى ذلك الوهم المعروف وهو أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، قد تعلم من تلك الأديان وأخذ عنها، والأمر ليس كذلك، فإن ما نقضه الإسلام نفسه من تحريفات تلك الأديان، التي ظن أصحابها ولا يزالون، أنها من صلب أديانهم، وما طرده من أجسام غريبة – وثنية الأصول – في كيان هذه الأديان السماوية، يؤكد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، لم يبعث لكي يتلقى فحسب، أو يرفض فحسب، ولا حتى لكي يمارس عملاً انتقائيًا إزاء مفردات الأديان السابقة، لكي يركّب منها دينًا جديدًا. وإنما المسألة على خلاف هذا كله، فيما يبدو واضحًا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على أشد ما يكون الوضوح: تنزيل دين جديد، متميز، في طبيعة نسيجه، وفي المساحة التي سيتحرك عليها والأهداف التي دعي لتنفيذها، لكنه دين غير معزول عن تراث النبوات السابقة [قبل التحريف]، بل لقد كان يسعى منذ اللحظات الأولى إلى احتضان العناصر الإيجابية من ذلك التراث، وإغناء مكوناته بالجوانب المتألقة من تلك الخبرات، ولكنه – في الوقت نفسه – ما كان يتهادن أبدًا مع كل ما من شأنه أن يمس شخصيته المتميزة، ودعوته المتفردة للتوحيد المطلق، مما هو طارئ على الأديان السابقة، غريب عن نسيجها ذي الخيوط الواحدة الممتدة من السماء.
معنى هذا أن الإسلام ليس بدعًا من الأمر، وأن كل أبناء الأديان الأخرى مدعوون للانضواء إليه، لأنهم بهذا وحده سيكونون صادقين مع أنفسهم، ملبين مطالب الدين الذي ينتمون إليه. وأنهم بانتمائهم للدين الجديد سيعززون القيم الأصيلة لأديانهم السابقة، وسيمكنون لها في الأرض. إنهم بشكل من الأشكال، مدعوون لمغادرة قطاراتهم التي أنهكها المسير، ونفد وقودها، والتحول إلى قطار الإسلام ذي الوقود العجيب، والذي أريد له أن ينطلق لكي يلفّ العالم كلّه، وينقل الأجيال تلو الأجيال من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
إنه اختبار ليس صعب المنال، والنتيجة يتوخاها الممتحن المخلص كائنة هناك، في نسيج معطيات هذا الدين، منقوشة بوضوح متألّق في صفحات كتابه وكلمات رسوله عليه السلام.(5/3)
ويقينًا فإنه بمجرد أن يتبيّن هذا اللقاء المرسوم بين الإسلام وبين أشقائه الذين سبقوه على الطريق، بمجرد أن يتضح هذا العناق في الروح، وفي الجوهر، بين الأديان السماوية جميعًا، وقد تبيّن هذا وذاك فعلاً، فإنه سيكون بمثابة واحد من الإغراءات الأشد إثارة، من الوعد المقنع، بأن الانتماء لهذا الدين ليس خيانة ولا هرطقة ولا مروقًا، ولكنه الصدق مع الله، والنفس، والضمير، والتوحد الأكثر حيوية وعطاء مع حركة الدين السماوي في هذا العالم.
ترى، كم من أولئك الذين عاينوا هذه المسألة، خرجوا لكي يقولوا للناس كلمة حق، أو يدلوا بشهادة تقييم لهذا الدين، وكم منهم، انتهوا أخيرًا إلى التحقق بالكلمة، والانتماء إلى دين هو بمثابة دعوة الحنيف واليهودي والنصراني، فضلاً عن الوثني والملحد؟
_____________________________________________
(1) انظر على سبيل المثال: سورة البقرة، آية 41، 89، 91، 97، 101، آل عمران 3، 81، النساء47، المائدة 48، فاطر 31، الأحقاف 12، 30 يونس 37، يوسف 111 .
[ الخصائص الأساسية لهذا الدين ]
فماذا عن الاختبار الثاني ؟ محاولة التأكد من قدرة هذا الدين الأبدية على الاستجابة لمطالب الإنسان، فردًا وجماعة، وعلى قيادته عبر الصراط إلى أهدافه المرتجاة ؟
سيكون من قبيل محاولة إثبات أن الشمس تطلع من الشرق، إذا قلنا بأن الإسلام جاء لكي يعالج كافة مناحي الحياة البشرية، الفردية والجماعية، والروحية، والمادية، والتربوية والتشريعية... إلى آخره، فهذه مسألة معروفة لا تحتاج إلى اختبار أو تأكيد، بمجرد أن يطّلع المرء على طبيعة هذا الدين، ويتفحص تركيبه، وبمجرد أن يعرف أنه ما جاء لكي يؤم الناس في الصلوات فحسب، بل لكي يقودهم في الحياة ويرشدهم، وفق برنامج عمل مرسوم، إلى ما يجب أن يفعلوه وما يجب ألا يفعلوه في مسائل الحياة جميعًا.
لكن ثمة "ميزات" تنبثق عن هذه النزعة الشمولية، وتمثل في الوقت نفسه مصدرها الأساسي، هي التي تجعل هذا الدين، من بين سائر الأديان والمذاهب السماوية والوضعية، بمثابة "الضرورة" الدائمة أو الحتمية الوحيدة للإنسان والجماعة البشرية إذا أراد، وأرادت، أن ترجع إلى فطرتها الأصيلة، وتستعيد توازنها المفقود، وتتجاوز تبعثرها وانشطارها وتعاستها.
وهذه الميزات هي التي تأكدت بمرور الوقت، وازدادت صلابة وتبلورًا عن طريق احتكاكها الدائم بالمعطيات الجانحة، سواء كانت وضعية أم دينية محرّفة، وهي التي يسوق اختبارها، ووضع اليد عليها من قبل غير المسلمين إلى تبيّن خصوصية هذا الدين، وتفرّده وقدرته على الاستجابة لمطالب الإنسان الملحّة والسير به صوب أهدافه المرتجاة.
فمن يستطيع – مثلاً – أن ينكر ما يتضمنه الإسلام من توازن بين كافة الثنائيات، ووفاق بينها، بينما هي في سائر الأديان والمذاهب الأخرى تصطرع وتتقاتل، وينفي بعضها بعضًا، أو يطغى على حساب الأخريات متفردًا بالسلطان ؟ إنه ما من دين أو مذهب – كالإسلام – قدر على لمّ هذه الثنائيات في صميم الكينونة الإنسانية، في تركيب الجماعة البشرية، في نسيج النشاط الحضاري، وتحويلها بالتناغم والتلاؤم إلى قوى توحّد ودفع وانسجام في مسيرة الإنسان. إنه اللقاء الموزون بين الظاهر والباطن، والحضور والغياب، والمادة والروح، والقدر والاختيار، والضرورة والجمال، والطبيعة وما وراء الطبيعة، والتراب والحركة، والوحدة والتنوع، والفردية والجماعية، والأخلاقية والمنفعية، والعدل والحرية، والوحي والتجريب، والدنيا والآخرة، والفناء والخلود... هذا اللقاء الذي يشكل بحق واحدًا من نقاط الجذب في الإسلام، ويدفع الكثيرين ممن يعاينونه ويختبرونه إلى الإعجاب والانبهار.(5/4)
من يستطيع أن ينكر قدرة الإسلام على تلبية مطالب الإنسان أيًا كان موقعه في الزمان أو المكان، وأية كانت درجة رقيّه وتحضره ؟ إنه إذ يخاطب ويخطط لعناصر الديمومة والاستمرار في كيان الإنسان، ونسيج العلاقات الاجتماعية، تلك العناصر التي تعلو على المتغيرات، بل تعمل من خلالها، بحضورها الأبدي، وتتجاوز عوامل التعرية والتآكل التي تأتي بالغناء عن الكثير من القيم والخبرات الموقوتة، إنه إذ يفعل هذا فكأنه يتجاوز معضلة "المرحلية" التي أسرت ولا تزال الكثير من المذاهب والأديان ورفعتها إلى الزوايا الضّيقة، فما لبثت حركة التاريخ أن تجاوزتها، أو أرغمتها على الانسحاب لأنها لم تكن تملك المرونة والانفتاح اللذين يمكناها من مواصلة التعامل مع الإنسان. لقد كان الإسلام، وسيظل، هو الأقدر من بين سائر المذاهب والممارسات، على تلبية حاجيات الإنسان وتطمين منازعه، وإننا بمجرد أن نتفحص سيل المنتمين إلى هذا الدين في القرن العشرين، وهم على ما هم عليه من تقدّم مشهود في السلّم الحضاري، جنبًا إلى جنب مع حشود المنتمين إليه في أماكن وأزمان شتى، وهم على ما هم عليه من تخلّف حضاري، يتبيّن لنا كم أن الإسلام قدير على تلبية مطالب الإنسان، دون أن يشكل انضواء الإنسان إليه أيّ ارتطام على الإطلاق بين حالته التاريخية أو الحضارية وبين الصيغ والخرائط التي يلزم الإسلام باعتمادها والاسترشاد بها عبر اجتيازه رحلة الحياة الدنيا.
ومن يستطيع أن ينكر أن الإسلام جاء لكي يهدي الإنسان ككيان بشري في كافة مكوناته وعلى قدر احتياجاته من غير زيادة أو نقصان، وأنه بينما جنحت المذاهب والنظريات صوب جانب فحسب من جوانب الكينونة البشرية: العقل، أو الروح، أو الغرائز، أو الجسد، أو الحسّ، أو الوجدان... إلى آخره، بينما عانت من التضخم والورم المرضي في هذا الجانب أو ذاك، وضمرت وغابت في جوانب أخرى، نجد الإسلام يتقدم بهندسته المعجزة لكي يتعامل مع الإنسان بمكوناته كافة، ولكي يكون حاضرًا عند كل صغيرة أو كبيرة في معاناته، أية كانت طبيعة هذه المعاناة عقلية أم روحية أم جسدية. وإذا كنا قبل قليل نتكلّم عن أن هذا الدين جاء لكي يكون رسالة السماء الأخيرة للأرض، فإنه سيكون من قبيل التناقض ألا يتضمن ميزة "التلاؤم" الكامل مع الإنسان، فإن الله سبحانه الذي هو أدرى بخلقه والذي يعرف من خلق، يعرف في الوقت نفسه المنهاج الذي يصلح للإنسان والذي يجيء موازيًا تمامًا لحجمه، ملائمًا تمامًا لدوره في الأرض؛ إن المؤمنين يعرفون هذا جيدًا، وهم يعيشونه صباح مساء، وعبر أربعة عشر قرنًا من الزمان كان المسلم وهو يتعامل مع دينه، مقتنعًا حتى النخاع بأنه واجد فيه الجواب على كل سؤال يطرحه، والحل لكل معضلة تجابهه، بل أنه واجد فيه التناسب الفذّ مع منازعه كإنسان، بحيث أن هذه العقيدة لم تنكمش يومًا تاركة إياه يتخبط في اجتهاداته الخاصة التي قد تخطئ وقد تصيب، ولم تتسع يومًا بأكثر مما يجب بحيث يعجز عن ملاحقة مطالبها وإدراك أبعادها الشاسعة، لقد كان المسلم يعرف دائمًا أن إحدى مزايا دينه هو هذا التلاؤم بينه وبين الإنسان، أما غير المسلمين فإنهم كثيرًا ما اختبروا هذا الجانب، فأكد لهم الاختبار صدق المقولة، وكان ذلك من بين عوامل وميزات أخرى، ما دفعهم إلى أن يقولوا كلمتهم فيه، بل أن يعلن بعضهم انتماءه إليه.
من يستطيع أن ينكر – كذلك – حركية هذا الدين، أو دايناميته الأبدية، قدرته على ملاحقة المتغيرات، استجابته للتحديات، حضوره الدائم في مواجهة الأحداث والخبرات؟ من يستطيع، رغم مرور الإسلام بفترات اختناق وتصلّب، طالت حينًا وقصرت أحيانًا، أن يقول بأنه ما استرجع قدرته على الفعل والحوار في أعقاب كل توقف، أو أنه فقد قدرته على الجدل إثر كل اختناق.
إن بمقدور المرء وهو يتفحّص هذا الدين أن يلمح في تركيبه خطين متوازيين كان وجودهما معًا بمثابة حماية لذاتية الإسلام، وتمكين له في الوقت نفسه من التحرك والانفتاح لكي يجابه سائر الحالات والمتغيرات ويستجيب لمختلف الخبرات والتحديات.
أما الخط الأول فيتمثل بعناصر الديمومة والثبات التي لا ينالها التغيير والتي تأبى على المتغيرات، بسبب من كونها حقائق أبدية تجابه حالات دائمة لا تخضع للتبدلات التاريخية والحضارية. وأما الخط الثاني فيتمثل بتلك الإمكانات المرنة التي منحها الإسلام أتباعه كي يجتهدوا أن يجابهوا بها المتغيرات ويستجيبوا للحالات المتجددة استنادًا إلى الأسس والعناصر الدائمة الثابتة. وهكذا يمضي الإسلام القرون تلو القرون وهو يحمل قدرته المزدوجة على حماية ذاته في مواجهة العالم، فيما لم تشهده أية عقيدة أو مذهب آخر، ويحمل مع هذه قدرته الأخرى على التكيف والملاءمة والاستجابة.
إن وحدة الدين والحياة ما تحققت يومًا ما كما تحققت في إطار هذا الدين، وإن ما قاله كبار الدارسين للإسلام من غير أبنائه يؤكد صموده للاختبار في هذا الجانب الحيوي وتفوقه فيه.(5/5)
وثمة ميزات وملامح كثيرة أخرى سنلتقي بها عبر فصول الكتاب ولن يتسع لها المجال هاهنا، إذ هو على أية حال ليس مجال الحديث عن الإسلام من الداخل، وإنما هي إشارة فحسب إلى أن اختبار بعض هذه الميزات، من الخارج، أكَّد، وسيظل يؤكد تفرّد هذا الدين وقدراته المتجددة التي ما لها من نفاد. ويزيد هذا الاختبار أهمية أنه لا الأديان المحرفة ولا المذاهب الوضعية قدرت على أن تلمّ دفعة واحدة هذه الميزات جميعًا. نعم إنها قد تألّقت في هذا الجانب أو ذاك، ونالت إعجاب الناس لهذه الميزة أو تلك، ثم إن هذا التألق والإعجاب ما غطى سوى مرحلة زمنية محددة فحسب، وما لبث أن انطفأ لكي يتحول الاتباع إلى ما يبهرهم ويقنعهم، إلى عقائد ومذاهب أخرى، أو أنهم علّقوا على الأقل إعجابهم وانبهارهم وفقدوا قناعاتهم بما كانوا قد انتموا إليه يومًا، كما يفعل الكثير من الغربيين اليوم ممّن كانوا نصارى أو ماركسيين في يوم من الأيام.
أما في الإسلام فإننا نجد حشدًا من الميزات، وقدرة في الوقت نفسه على تجاوز أسر الزمان والمكان، والامتداد الدائم، عبر الحالات والمتغيرات والتحديات، لكسب الإنسان، ومنحه القناعة بتفرد هذا الدين وتميّزه على المذاهب والنظريات، وهو يبدو واضحًا في قرننا العشرين هذا بسبب من الخيبة التي مني بها الإنسان وهو يتعامل مع هذه المذاهب والنظريات، الأمر الذي يقودنا إلى وقفة عاجلة عند الخصائص الأساسية للبيئة الفكرية والنفسية والحضارية التي يعيشها الإنسان المعاصر فتدفعه دفعة إلى البحث عن "البديل" أو الإعراب عن الإعجاب به أو بجانب منه على أقل تقدير.
[ أزمة الإنسان والحضارة الغربية ]
بإيجاز شديد، ومن خلال معاينة أو مطالعة سيل من المعطيات المعاصرة يستطيع المرء أن يضع يديه بسهولة على "الأزمة" التي يعانيها الفكر الغربي بجناحيه العلماني والمادي، والتي يعيشها الإنسان المعاصر، والتي تجابه الحضارة الغربية المتفوقة بنذر التعاسة، وتصيب جسدها الخاوي بالقروح.
وقد تبلورت هذه الأزمة، في جوانبها كافة، من خلال طبيعة الحياة الغربية المعاصرة، وحشود الشهادات التي أدلى بها ولا يزال عدد ليس بالقليل من مفكري الغرب وعلمائه وأدبائه وفلاسفته وفنانيه.
ورغم ما قد يبدو على هذه الشهادات – أحيانًا – من طابع ردّ الفعل الذي يتّسم بالمبالغة أو التهويل، لكنه ردّ فعل ملائم للأزمة التي تعانيها الحياة الغربيّة، وردّ الفعل كما هو معروف يجيء مساويًا للفعل في قوته مخالفًا إيّاه في الاتجاه.
ثم إن هؤلاء، الذين يقولون كلمتهم في الحضارة الغربية، ويدينونها، ليسوا أناسًا عاديين، إنهم – بلا ريب – زهرة الثقافة الغربية وطليعتها التي لا تعبّر عن نفسها فحسب، ولكن عن حشود المثقفين الذين يجتازون الممر الضيق نفسه ويكادون أن يختنقوا، بل عن جماهير الناس العاديين الذين سنلتقي بنماذج منهم في هذا الكتاب، والذين يحسون بالأزمة ولكنهم لا يستطيعون أن يعبروا عنها بالصيغ الأكثر نضجًا، بل ربما، كان تعبير بعضهم أقرب إلى المباشرة والبساطة والفجاجة، من خلال موجات من الموضات السلوكية المنحرفة، يعقب بعضها بعضًا، وهي في عمومها تمنح الدارس محصلة واحدة: الاحتجاج ضد الحياة الغربية المعاصرة، ورفضها.
وبمجرد إلقاء نظرة سريعة على أعمال معروفة من مثل (اللامُنتمي) و(سقوط الحضارة) لكولن ولسون، و(الساعة الخامسة والعشرون) لكونستانت جيور وجيو، و(الخمور الفكرية) لآرثر كوستلر و(الصرخة المختنقة) لسترايت و(الطريق إلى مكة) لليوبولد فايس و(منعطف الاشتراكية الكبير) و(البديل) لروجيه جارودي و(عصر السريالية) لفاولي و(المذكرات) لكازانتزاكي و(الإنسان ذلك المجهول) لألكسيس كاريل و(حدود العلم) لسوليفان ومؤلفات كتاب (العبث واللامعقول) من مثل بكت وجان جينيه ويوشكو وبعض الكتاب الوجوديين وبخاصة كامي وغيرها كثير(1) يمكن أن نتلمس بوضوح حجم المعاناة التي تجابه الإنسان والحضارة الغربية بأجنحتها كافة فتسوق البعض إلى الرفض والانشقاق، والبعض الآخر إلى البحث عن البديل وتسوق فئة ثالثة إلى الإيمان بهذا الدين: الإسلام الذي رأوا فيه خلاصهم الوحيد.
إن انتماء رجل كليوبولد فايس، أو روجيه جارودي إلى الإسلام، وكلاهما يملك عقلاً كبيرًا، ويمثل باتساع ثقافته وعمقها، وبتنوع خبرته، حصيلة الثقافة الغربية العميقة وغنى خبراتها، يعنى أن هذه الثقافة لم تجد في مكوناتها الخاصة بها، على ازدحامها وكثافتها، ما يمنح بعض العقول الكبيرة القناعة والتوازن واليقين. بالعكس، فإن هذا الغنى الثقافي يكشف أكثر فأكثر، ضرورة أن تكون هناك قاعدة أساسية تنبثق عنها هذه الثقافة عقيدة شاملة، بعبارة أخرى، فالثقافة وحدها لا تكفي، وهي تميل في الأغلب، إذا لم تستند إلى أرضية عقيدية أو رؤية شمولية مقنعة، لأن تتبعثر وتتشتّت، وتجرّ معها الإنسان إلى التبعثر والتشتت.(5/6)
وإلى جانب هذا، ومن خلال المعاناة نفسها برزت على الساحة الغربية ظاهرة (اللاإنتماء) التي حدثنا عنها الباحث البريطاني كولن ولسون في كتابيه المعروفين (اللامنتمي) و(سقوط الحضارة) فأطال الحديث. إن كبار المفكرين والفنانين والأدباء والفلاسفة هناك لم يقدروا على التحقق الذاتي في إطار ثقافتهم تلك، بل لم يجدوا أوليات التوازن، واليقين في خضمّ هذه الثقافة المتلاطم، الكالح، العميق. وكانت مأساتهم تكمن في أنهم كانوا يعون هذا الانفصال المحزن بين الإنسان فردًا ومجتمعًا وبين ثقافته وإن اندفعت قيادات هذه الثقافة وقواعدها نحو نوع من الاندماج أو النسيان – ربما – بسبب من تضاؤل وعيها بانعدام التوازن أو التلاؤم بين الإنسان الغربي وبين ثقافته، نجد بالمقابل ذلك التّيار المضاد: حشدٌ من المثقفين الكبار يتمردون على ثقافة بلغت بهم شوطًا من الطريق، وهم يريدون أن يواصلوا الرحلة صوب المصير فلا تقدر معطياتهم الثقافية على منحهم المزيد. لقد "امتلكوا العالم" كما يقول كولن ولسون ثم "ماذا بعد؟".
إن الإنسان بطبيعة تركيبه ذي النزوع إلى الماورائيات يريد أن يتجاوز العالم إلى الكون، جدران المادية إلى الغيب، الطبيعة إلى ما وراءها، والسلطة إلى الحرية، إنه يريد أن يكسر الأسوار، وينطلق بحثًا عن الإله المفقود. بعبارة أخرى إنهم يريدون العقيدة التي تلبّي نزوعهم الطموح، وإن المرء ليلمس بوضوح هذا التوجه صوب العقيدة الشمولية المتوازنة في معظم المؤلفات الغربية التي أشرنا إلى نماذج منها، والتي حاول أصحابها أن يعالجوا أزمة الوجود الثقافي الغربي على ضوء المصير المقفل والدرب المسدود.
وإننا لنلمح على ضوء هذه الأزمة التي تعانيها الثقافة الغربية الدافع الذي جعل حشدًا من كبار المثقفين الغربيين، عبر الربع الثاني من هذا القرن على وجه التقريب، من مثل آرثر كوستلر واندريه جيد وريتشارد رايت واكناز سيلوني وستيفن بندر ولويس فيشر وبيكاسو واراجون وجارودي وغيرهم يلجأون إلى الماركسية. إنه لم يكن توجهًا حرًّا بمعنى الكلمة، ولكنه ارتماء المرهقين الباحثين عن الخلاص بأية طريقة ومن خلال أي برنامج يمتلك رؤية عقيدية شاملة تأخذ بيد الإنسان، حتى ولو كان الذي يصوغها هو الشيطان.
لكن المشكلة التي سرعان ما تبدت لهؤلاء الذين ارتموا في أحضان الماركسية أنها هي الأخرى تمتح من البئر نفسه الذي يشكل ماؤه نسيج الثقافة الغربية وينفخ الحياة في عروقها.
الفلسفة المادية التي ترفض الغيب والروح، وتنكر وجود الله، وتقطع الطريق إلى الجنة، وتحارب وجود الله.. إنها هي الأخرى تحجّم الإنسان، وتحصره في النطاق الضيّق، وتغلق الأبواب عليه لكي لا ينطلق صوب الآفاق الرحبة التي تتجاوز حدود المنظور والملموس وتتأبى على نداءات الجنس وصرخات الأمعاء.
وإذا كان ثمة فارق فإنه يكمن في امتلاك الماركسية النظرة الشمولية للعقيدة والفلسفة التي استهوت أولئك المثقفين، لكن الجوهر هو الجوهر والنسيج هو النسيج. فما ثمة بد لهؤلاء من الارتداد، كرة أخرى، بحثًا عن حل أكثر قبولاً، وأقدر على تلبية طموح الإنسان، بما أنه "إنسان" لا "حيوان اجتماعي"، ولا مجرد أداة ميكانيكية، أو رقم مضاف إلى الشمال أو اليمين. حلّ يمكّن المثقف الغربي من التحقّق الذاتي الضائع، وإذا كانت الأكثرية القلقة لم تقدر لأسباب شتى، ليس هذا مجال تحليلها أو حتى الإشارة إليها، على أن تجد طريقها صوب الهدف، فإن إسلام عشرات الغربيين بل مئاتهم، إشارة مؤكدة على أن هناك من يقدر على الوصول وعلى أن رحلة البحث عن المصير الموازي لحجم الإنسان ستؤتي ثمارها بإذن الله.
إن الأزمة الغربية الراهنة، في جوانبها الفكرية والنفسية والحضارية، تأخذ أبعادًا شتى، ليس أقلها خطورة – إذن – ذلك الضمور والضحالة الروحية اللذان تعانيهما الحضارة المعاصرة بكافة مذاهبها ونظمها ومعطياتها، الضمور والضحالة اللذان يصلان حدّ الخواء، وانعدام أي بعد يمنح الإنسان المعاصر رؤية أوسع مدى، وتجربة أعمق غورًا، يتجاوز بهما سطحية حياته المادية ورتابة تجربته المباشرة، ويكسر جدران الحس القريب لكي يمدّ في تجربة "الإنسان" ويمنحها كثافة أشد، وتوغلاً أبعد، ومنظورًا لتكون الحياة والعالم والإنسان أكثر غنى، إنه خواء يستل اليقين بكل ما من شأنه أن يمنح الحياة البشرية تفردّها، وتألّقها، وتميزها عن سائر الحيوان، ويعطي أبناءها الفرصة للاستهداء بحشد من القيم، والضوابط والمناهج المرسومة، التي يتحركون على هديها إلى أهداف تليق بهم، وتخلّصهم من الفوضى والتخبّط والارتجال.
إن حضارة تفتقد اليقين الديني لن يكون بمقدورها أن تمنح الإنسان كل ما يري، وإن الإنسان إن لم يجد نفسه في بيئة تتعامل معه كإنسان، بكل مكوناته، وأشواقه، ومنازعه، فإنه سيتمرد – ولا ريب – على هذه البيئة، وينشق عليها، طال الوقت أم قصر.
______________________________________________(5/7)
(1) انظر المؤلفات التالية للمؤلف: (تهافت العلمانية)، (الأدب في مواجهة المادية)، (العلم في مواجهة المادية)، (فوضى العالم في المسرح الغربي المعاصر)، (أضواء جديدة على لعبة اليمين واليسار).
[ الأخطاء المنهجية للفكر الوضعي ]
وثمة النظرة الأحادية للفكر الغربي الوضعي(1)، والمنهج ذو الوجه الواحد الذي طالما اعتمده هذا الفكر وتشبث به. إنه ملمح لا يقل خطورة عن الملمح السابق ومن ثم سنقف عنده بعض الشيء.
إن المرء كثيرًا ما يتساءل: لماذا يصرّ الفكر الوضعي عمومًا، والغربي بخاصة، على التشبث بجانب واحد من الفكرة ذات الجوانب العديدة ويقف عند مساحة محدودة منها بينما هنالك مساحات أخرى ؟ ولماذا يصرّ على تبسيط الظاهرة وحملها على أن تطلّ على الإنسان بوجه مسطح واحد بينما هنالك وجوه عدّة ؟ ولماذا يتشنّج على طبقة واحدة من الحقيقة بينما هي تتضمن طبقات وطبقات ؟
إن السبب قد يحمل بعدًا نفسيًا ذاتيًا صرفًا، فالمفكّر الوضعي الذي يكتشف جانبًا من الحقيقة، أو مساحة من الظاهرة، أو وجهًا ما من الفكرة، ليسعى للاعتقاد بأن ما اكتشفه هو الجانب الوحيد للحقيقة، والمساحة الكلية للظاهرة، والوجه المتفرد للفكرة، ويبذل جهدًا متواصلاً لإقناع أتباعه بذلك ولشدة التكرار والإلحاح يتوهم هؤلاء بأن ما يقوله هو الحق وأن اكتشافه الفكري هو الصواب وأنه يتضمن أطراف الحقيقة أو الفكرة أو الظاهرة كافة.
إنها نوع من الرغبة في تعبيد الناس للمفكر، وكسب إعجابهم وانبهارهم من خلال أطروحاته الفكرية المعزّزة باستنتاجات ومعطيات متواصلة لتأكيد أنها الحق المطلق وأن ما وراءها الباطل والضلال. وهو يبني موقفه هذا، أو كسبه غير المشروع إذا صحّ التعبير، على ما قد يتضمنه العقل البشري من قصور وعدم قدرة على الإلمام بجوانب الحقيقة، وافتقاده النظرة الكلية التي تستشرف أطراف الظاهرة من كل مكان. هذا العقل الذي يظل يعاني من نقصه هذا طالما هو لم يستهد بدين سماوي، ببرنامج عمل موضوعي يجيء من السماء ويمنح الإنسان والعقل الإنساني، بما يتضمنه من علم إلهي شامل، القدرة على تجاوز النظرة أحادية الجانب، والتوغل لإدراك جوانب الحقيقة ومساحاتها وطبقاتها جميعًا.
إن المفكر الوضعي يمارس هنا نشاطاً ضد المنهج، ضد الموضوعية والتجرد العلمي، وهذه الضدّية تجيء على حساب الحقيقة. نعم، قد يكسب المفكر الجولة وقد يلتف حوله المريدون والأتباع، وقد يُظنّ لفترة طويلة من الزمن أنه وضع يده على مفاتيح الحقيقة وأنه سبر غورها العميق، ولكن الخاسر في هذه اللعبة التي تكررت على الساحة الأوروبية عشرات القرون هو الحقيقة والإنسان الذي يتوخى معرفتها وإدراكها في نهاية الأمر.
ويقوم هذا النشاط الذي يمارسه المفكر ضد المنهج والموضوعية على محاولة توسيع مساحة "الاكتشاف" لجعله يلف الظاهرة كلها، فيمطّه بأي أسلوب لكي يحيط بالفكرة من جوانبها كافة، ويرغمه على التضخّم لكي يوازي الحقيقة طولاً وعرضًا وعمقًا.
والمشكلة أن هذا الاكتشاف الذي يحمل قيمته الكبيرة بحدّ ذاته، قد يغطي مساحة من الظاهرة، قد يفسّر جانبًا من الفكرة، قد ينشر شعاعًا على جهة محدودة من الحقيقة لكي يضيئها. ولكن تبقى دائمًا مساحات وجوانب أخرى من الظواهر والأفكار والحقائق لا يكفي الاكتشاف – إن على مستوى النوع أو على مستوى الكم – لتفسيرها وإضاءتها، لابد من اكتشافات أخرى وإضاءات متتالية، تأخذ طابع التتابع والتكامل، وتسلط على الحقائق والظواهر والأفكار من أطرافها جميعًا، ويسهم فيه خط طويل من المفكرين، وعقول متألقة لا يحصيها عدّ.. وعند ذلك قد تصل إلى تفسير هذه الظاهرة أو تلك وقد لا تصل أساسًا.
إن هذا يتم في ميدان العلوم النظرية (الصرفة) والتطبيقية (التقنية) ولهذا حقّقت هذه العلوم تلك الخطوات العملاقة، وقدّمت للإنسان خدمات جلى لا يستطيع أحد أن ينكر دورها الفعال في استمرار الحضارات وبخاصة الحضارة الغربية المعاصرة.
لكن العلوم الإنسانية شهدت صيغة أخرى في العمل، صيغة الانفراد، والذاتية، والادعاء، والتضخم. ولذا لم تستطع أن تقدم للإنسان عُشر معشار ما قدمته العلوم النظرية والتطبيقية، ولهذا – أيضًا – آلت إلى الفشل والسقوط الواحدة تلو الأخرى.
فعلى سبيل المثال، لماذا يصرّ عقل فذ (كهيغل) على جعل الجدل أو الديالكتيك أو التقابل المتضاد بين الحقائق والتجارب يقتصر على نطاق (الفكرة)؟ ولماذا يجيء (ماركس) و(انجلز) بعده لكي يديناه على أحادية نظرته، بل على وضعها المقلوب، لكنهما ما يلبثان أن يقعا في الخطأ نفسه فيتشنجان على نظرية الديالكتيك المادي، أي الجدل في نطاق المادة وحدها؟ إنهما يتهمان (هيغل) بأنه وضع فلسفة "تمشي على رأسها" لكنهما وهما يسعيان لتعديل الوضع الفلسفي، قدّما فلسفة تمشي على بطنها بحثًا عن الخبز وحده.(5/8)
أما كان الأولى أن يتجاوز (هيغل) تشبثه بالفكرة، وأن يبعد (ماركس) و(انجلز) قليلاً عن الأرضية المادية، وأن يحاول الطرفان وضع صيغة للجدل أكثر شمولية تتضمن الفكري والمادي معًا؟ ثم لماذا يصرّ الطرفان على أن الجدل بين الأفكار أو الصيغ المادية يأخذ طابع التناقض والتضاد ويقود دومًا إلى الاصطراع؛ ألا يتحتم أن تضاف إليه صيغ أخرى للعلاقة تأخذ طابع (التبادل) بدلاً من التضاد؟ تبادل في الأخذ والعطاء دونما ضرورة تدفع لصراع محتوم، ودونما اطراح لبعض العناصر من هذا الجانب أو ذاك، بل بلورته وتبنّيه وإضافته للموحّد الجديد.. وغير (هيغل) و(ماركس) و(انجلز) كثيرون جدًا.
إن ثمة أسئلة كثيرة تخطر على بال الإنسان وهو يتعامل مع الفكر الوضعي ولئن لم تحظ بأي جواب، فإن هناك ما يشبه القناعة تبرز لكل ذي عينين: أن النظرة أحادية الجانب، تلك التي تأخذ بخناق هذا الفكر، إن هي إلا انعكاس لنوع من الادعاء والغرور، وربما الكذب، سواء شئنا أم أبينا، إن معظم المفكرين الغربيين كما يصفهم كتاب الله {إِن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [سورة النجم، الآية 23].
تلك هي أزمة الفكر الوضعي من جهة المفكر نفسه، أي من الزاوية التي يطل بها على العالم، والمنهج الذي يعتمده في التعامل مع الظواهر والحقائق والأشياء. ولكننا نريد أن نقف لحظات في الجهة الأخرى، جهة العقل الغربي المتلقّي وهو يتعامل مع معطيات مفكريه: مذاهب ومدارس وعقائد ونظريات جهة المثقفين الغربيين وهم ينتمون إلى هذه المدرسة أو تلك، وإلى هذا المذهب أو النظرية أو ذاك.
فهاهنا أيضًا نجابه بعدد من الأخطاء المنهجيّة في طبيعة هذا التعامل، ويكمن أكبر هذه الأخطاء وأشدها وضوحًا في المشكلة نفسها التي يعاني منها المفكر واضع النظرية أو مصمّم المذهب، تلك هي – مرة أخرى – النظرة أحادية الجانب حيث يمارس المثقف ما يمكن اعتباره خداعًا وتضليلاً على حساب الحقيقة، أو ما يمكن اعتباره خطأ منهجيًا على أقل تقدير. إنه يصدّق فعلاً أن (الاكتشاف) الذي حققه هذا المفكر أو ذاك، ومطّه ونفخ فيه لكي يجعل منه نظرية أو مذهبًا، يفسر كل شيء، ويلقي ضوءه على كل معضلة أو مسألة غامضة في الوجود والعالم، يصدّق أن هذا الاكتشاف هو الحق المطلق، الرؤية المتفردة، الكشف النهائي للسنن والقوانين التي تحرك العالم وتفسر معطياته في الوقت ذاته. وهم، أي المثقفون، يدفعون أنفسهم إلى نوع من الاستسلام لهذا التصوّر، يصل بهم أحيانًا حدّ الوثنية والتعبّد، فيفقدوه القدرة على أي تفكير مستقل يخرج بهم عن دائرة المذهب الذي انتموا إليه، والمفكر أو الفيلسوف الذي آمنوا به، بل أنهم يعتبرون آية محاولة لتجاوز أطروحات المذهب خروجًا على التعاليم المقدسة، وهرطقة يستحق صاحبها أشد العقاب.
وإذا كان المفكر الوضعي يتخذ موقف المعلم المطلق، أو صاحب الاكتشاف المقدس، لتحقيق حاجة ذاتية في تركيبه الخاص، فما الذي يجعل المثقف المتلقي، أو التابع، يتخذ موقف التسليم المطلق والانقياد الأعمى للفكرة أو الاكتشاف ويتشنج عليهما ويعتبرهما الحق الذي ليس وراءه سوى الضلال؟
قد يلعب البعد النفسي دوره هنا أيضًا، فإن الانتماء لمذهب ما والمبالغة في الاعتقاد بأنه الحق المطلق واليقين الكامل، يمنح الذات فرصة للتحقق والتوازن والامتلاء، ويشبع فيها حاجات كانت في كثير من الأحيان بمثابة الدافع القوي للسلوك البشري. لكن هذا وحده لا يكفي. إنه – مرة أخرى – القصور العقلي، عدم قدرة الإنسان على بلوغ اليقين المطلق، أو رؤية الحقيقة كاملة طالما هو يرفض التلقي عن العلم الإلهي الشامل، ومن ثم يجد نفسه أسير التجزيئيّة والقصور، والرؤية ذات البعد الواحد. وهو من أجل تجاوز محنته، بل بسبب من اعتقاده بقدرته العقلية الفائقة، يندفع للتصديق بهذه النظرية أو تلك، والتسليم بهذا الكشف أو ذاك، لا لأنها بحد ذاتها تحمل الصواب المطلق، بل لأنه هو نفسه لا يملك المقاييس الموضوعية النهائية للحكم عليها ومن ثم فقد يمتلك القناعة الكافية، المناسبة مع قدراته المحدودة، في أن هذا الذي يطرحه مفكر أو فيلسوف ما هو إلا الصدق واليقين والحق، وأن الانتماء إليه يمنح الفكر معادلاته الموضوعية، وتوازنه، واستقراره.
إن المشكلة، مرة أخرى، تكمن في غياب الرؤية الدينية، انعدام المقاييس الموضوعية التي تنبثق عن العلم الإلهي الشامل. وهنا، في الساحة التي يتفرد فيها بالسلطان العقل ذو القدرات النسبية، يصبح الانتماء مجرد اجتهاد شخصي قد يخطئ وقد يصيب، وهو حتى إذا أصاب، فإنه لا يتحقق بالمعرفة الكلية اليقينية الشاملة، لأنه ليس بمقدور عقل بشري أن يبلغ شواطئها.
وهنا قد يسأل المرء: إذا حدث أن طرح مفكر ما كشفًا أو نظرية، تناقض في جوهرها كشف مفكر آخر أو نظريته، فمن يكون من أتباع كلا المفكرين على حق ومن يكون على ضلال؟(5/9)
إن هذا التناقض الطولي بين مفكر وآخر يعملان في مجال واحد، من مثل التناقض بين (هيغل) و(ماركس) أو بين (دارون) وحفيده، أو بين (فرويد) وبعض تلامذته الذين انشقوا عليه، يكفي لوحده أن يهزّ قناعات الأتباع بكل الربوبيات والصنميات الفكرية، لكن هذا لا يحدث إلا نادرًا، لأن القصور الفكري وضياع المقاييس الشمولية، فضلاً عن الحاجات والدوافع النفسية في الاحتماء بهذه النظرية أو تلك والامتلاء بقناعاتها يمنع هذا المصير.
مهما يكن من أمر، فإن بعض المفكرين بسبب من تضخم إحساسهم بالقدرة على الكشف، وبأن كشفهم هذا قادر على الامتداد لتغطية جوانب الحقيقة كافة وتفسير كل شيء، بسبب من هذا يتجاوزون – أحيانًا – دوائر تخصصهم، ويوغلون في مجالات ودوائر أخرى للمعرفة قد لا يملكون من الأدوات والوسائل ما يمكنهم من أن يحققوا فيها ما حققوه هناك في حقل تخصصهم وإبداعهم. وإذا كان الدافع لهذا السلوك واضحًا، فما الذي يدفع (الاتباع) إلى تقبل هذا الموقف واعتبار معطيات المفكر، حتى في مجالات تبعد عن تخصصه، بمثابة الحقيقة النهائية هي الأخرى؟
(إن هذا بالذات ما يحدث بالنسبة للماركسيين – على سبيل المثال – وهم يتعاملون مع اكتشافات (ماركس) في حقول الاقتصاد والفلسفة والتاريخ، فيرونها جميعًا بمثابة الأمور التي تتجاوز حدود الحقائق الاختبارية إلى نوع من القدسية التي يتحتّم ألا يمسّها أحد بأية صيغة من صيغ التساؤل والشك. فإذا كان (ماركس) في حقل الاقتصاد قدّم في دائرته كشوفًا ذات قيمة، فما الذي يحتم على أتباعه قبول كل معطياته وكشوفاته في مجالين آخرين قد لا يكون صاحب القول الفصل فيهما وهما الفلسفة والتاريخ ؟
إن الفلسفة التي تتعامل مع المادة لا يمكن أن تمنحنا قناعات كافية إن لم تبدأ من المختبر، وتنبثق عن أسس فيزيائية علمية كما يفعل رجال من أمثال (هايزنبرغ) و(اينشتاين) و(كاريل) وغيرهم. والبحث في التاريخ ما لم يستكمل تفاصيل وجزئيات كل عصر وبيئة لا يمكن أن يمنحنا نتائج نهائية.
وعلى ضوء هاتين البديهيتين يمكن أن نقيّم معطيات (ماركس) في هذين الحقلين، ونحن لازلنا نذكر عبارة الباحث الاقتصادي (أوسكار لانكه) وهو أحد أكبر أخصائيين في اقتصاد الدول النامية، فهو بعد أن يستعرض جهود الكتاب الذين اهتموا بدراسة اقتصاد مجتمعات ما قبل الرأسمالية، منذ عصر (ماركس) وحتى عصر (بورشييف) يقول ما معناه: "ولكن هذه الدراسات جميعها مفككة، لذلك فإن الاقتصاد السياسي للنظم الاجتماعية ما قبل الرأسمالية لما يخرج بعد إلى حيز الوجود باعتباره فرعًا منظمًا من فروع الاقتصاد السياسي". ولكن هل يكفي هذا كله لفك الارتباط الوثني بين الأتباع والأرباب وتجاوز تقاليد قرون طوال سادت الفكر الغربي ولا تزال؟.
قد يتساءل المثقف الغربي، ومن حقه أن يتساءل، هل معنى قبول الدين، والإسلام على وجه الخصوص، أن نتخلى – بمعنى من المعاني – عن بعض درجات سلّمنا الحضاري المتقدمة، أو أن نتجاوز "العلمية" التي تميّز هذه الحضارة، والتي هي منهجها وشعارها؟
بعبارة أخرى: هل يحتمّ خلاصنا الديني بالإسلام، أن نضحّي ببعض منجزاتنا العقلية، وخبراتنا الحضارية، من أجل هذا الخلاص ؟ وهل أنه لا مناص من الاختيار بين الاثنين: إما هذا أو ذاك؟
إن الجواب على هذا السؤال المشروع بجانبيه، أي ما يتعلق بالحضارة وما يخصّ العلم، يقتضي وقفة متأنية لكي نعرف ما الذي يقوله الإسلام بصددهما، ما الذي قدّمه أو نسجه؟ وما هي طبيعة منظوره للحضارة، ورؤيته للعلم؟ وهل ثمّة من تأشيرات سلبية على أنشطتهما، أم أنه اللقاء، والحضّ والعطاء؟ هل أنه الانفصال الذي اعتقدته العلمانية الأوروبية كردّ فعل للنصرانية التي وقفت بمواجهة التحضّر والعلم، بشكل أو بآخر، أم أنه التناغم والاتصال؟
لن يسمح هذا المدخل الموجز لتقديم الجواب ويكفي أن نتابع "الشهادات" التي تضمنها هذا الكتاب والتي لا تدع مجالاً للشك في أن الإسلام، بمعنى من المعاني، هو التحضّر والعلم معًا في إطار رؤية دينية تتميز بالشمولية والتوازن.
إنه يتحتّم علينا ألا ننساق وراء المقولة الخاطئة التي اصطنعتها العلمانية الأوروبية، والتي تتركز بعبارة "إما هذا أو ذاك"، أي إما الإيمان أو التحضّر، إما الدين وإما العلم، إما الله وإما الإنسان، وباختصار: إما السماء وإما الأرض.
فهاهنا، في نسيج التصوّر الإسلامي، متناسقًا مع سداه ولحمته، نلتقي الشعار الآخر الذي يتحتم على الغربيين أن يعرفوه جيدًا ويوقنوا به: هذا وذاك، الإيمان والتحضر، الدين والعلم، الله والإنسان، السماء والأرض.
إن الإسلام، بانفتاحه على العلم والتحضّر وتبنيّه لهما، كما سيتبين لنا، يجعل من مرور الزمن، وتراكم الخبرات العلمية والحضارية، سلاحًا بيده وليس ضده، كما فعلت النصرانية وبعض الأديان الأخرى، سيجعل منها عصًا، كتلك التي أمسك بها موسى عليه السلام، فضرب بها البحر ومضى بأتباعه صوب أهدافه المرتجاة.(5/10)
وإنه من خلال المعطيات العلمية والحضارية ستتبين لكل ذي فكر مصداقية هذا الدين وأحقيته بالتفرّد والسلطان. فما قال به في عصر تنزّله البعيد، جاءت هذه المعطيات لكي تؤكده وتكشف عنه النقاب. وإن القرآن الكريم ليؤكد هذا البعد الزمني في آيتين: إحداهما قول الله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس، الآية 39، وسورة فصّلت، الآية 53]. والثانية: قول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. بعد الخبرة والتقدم، والزمن الذي يضيف بحساب الكم والنوع إلى نهر العلم والتحضّر.
إن الانتماء للإسلام يضع الإنسان في حالة تساوٍ وتآلف مع السنن الكونية، ويجنبه الارتطام بها، فيمنحه قوة أكبر على التقدم والاندفاع من خلال توافق طاقاته مع طاقات الكون ونواميسه. كما أن الانتماء للدين الذي يدعوه للكشف عن السنن والطاقات المذخورة في الكون والعالم، والإفادة منها يمنحه قدرات مضافة على التحضر والإبداع والتقدم جنبًا إلى جنب مع دعوته للكشف عن قوانين الحركة التاريخية واعتمادها لتنفيذ مهمته العمرانية في العالم والتعجيل بها.
إن الإسلام، في نهاية التحليل وبدايته كذلك، دعوة إلى التقدم والتحضّر بأي منظور ومن أية زاوية، وإن المنتمين إليهم يجدون فرصتهم الحقيقية لذلك، ليس من قبيل الادّعاء والغرور ولكن من خلال العقل والتحقّق اللذين يحرسهما الإيمان والتقوى ويدفعهما الإحسان إلى المزيد، كما سيتبين لنا من قراءة فصول هذا الكتاب.
______________________________________________
(1) ... المقصود هنا المدلول اللغوي لا الاصطلاحي لكلمة (الوضعية).
(2) ... محمد علي نصر الله: أضواء على نمط الإنتاج الآسيوي، مجلة آفاق عربية، سنة 2، عدد 6، 7، 8 .
(3) ...
عالج المؤلف هذه المسألة في الكتب التالية التي يمكن الرجوع إليها لمتابعة التفاصيل: (مدخل إلى موقف القرآن الكريم من العلم)، (حول إعادة تشكيل العقل المسلم)، (التفسير الإسلامي للتاريخ)، و(مؤشرات حول الحضارة الإسلامية).
الدكتور عماد الدين خليل في كتابه النفيس :
قالوا عن الإسلام
1. ... ( سنرستن الآسوجي ) أستاذ اللغات السامية
يقول (سنرستن الآسوجي) أستاذ اللغات السامية، في كتابه "تاريخ حياة محمد": "إننا لم ننصف محمدًا إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا؛ فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مصرًا على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ"
2. ... (مايكل هارت) في كتابه مائة رجل في التاريخ
ويقول (مايكل هارت) في كتابه "مائة رجل في التاريخ": "إن اختياري محمدًا، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.
فهناك رُسل وأنبياء وحكماء بدأوا رسالات عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها، كالمسيح في المسيحية، أو شاركهم فيها غيرهم أو سبقهم إليهم سواهم، كموسى في اليهودية، ولكن محمداً هو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية، وتحددت أحكامها، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته. ولأنه أقام جانب الدين دولة جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضًا وحّد القبائل في شعب، والشعوب في أمة، ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها، ووضعها في موضع الانطلاق إلى العالم. أيضاً في حياته، فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية، وأتمها".
3. ... أرنولد
[ 1 ]
"... لعله من المتوقع، بطبيعة الحال، أن تكون حياة مؤسس الإسلام ومنشئ الدعوة الإسلامية [صلى الله عليه وسلم]، هي الصورة الحق لنشاط الدعوة إلى هذا الدين. وإذا كانت حياة النبي [صلى الله عليه وسلم] هي مقياس سلوك عامة المؤمنين، فإنها كذلك بالنسبة إلى سائر دعاة الإسلام. لذلك نرجو من دراسة هذا المثل أن نعرف شيئًا عن الروح التي دفعت الذين عملوا على الاقتداء به، وعن الوسائل التي ينتظر أن يتخذوها. ذلك أن روح الدعوة إلى الإسلام لم تجئ في تاريخ الدعوة متأخرة بعد أناة وتفكر، وإنما هي قديمة قدم العقيدة ذاتها. وفي هذا الوصف الموجز سنبين كيف حدث ذلك وكيف كان النبي محمد [صلى الله عليه وسلم] يعد نموذجًا للداعي إلى الإسلام..."(1).
[ 2 ]
"... من الخطأ أن نفترض أن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] في المدينة قد طرح مهمة الداعي إلى الإسلام والمبلغ لتعاليمه، أو أنه عندما سيطر على جيش كبير يأتمر بأمره، انقطع عن دعوة المشركين إلى اعتناق الدين..."(2).
[ 3 ](5/11)
".. إن المعاملة الحسنة التي تعودتها وفود العشائر المختلفة من النبي [صلى الله عليه وسلم] واهتمامه بالنظر في شكاياتهم، والحكمة التي كان يصلح بها ذات بينهم، والسياسة التي أوحت إليه بتخصيص قطع من الأرض مكافأة لكل من بادر إلى الوقوف في جانب الإسلام وإظهار العطف على المسلمين، كل ذلك جعل اسمه مألوفًا لديهم، كما جعل صيته ذائعًا في كافة أنحاء شبه الجزيرة سيدًا عظيمًا ورجلاً كريمًا. وكثيرًا ما كان يفد أحد أفراد القبيلة على النبي [صلى الله عليه وسلم] بالمدينة ثم يعود إلى قومه داعيًا إلى الإسلام جادًا في تحويل إخوانه إليه.."(3).
---------------
(1) الدعوة إلى الإسلام ، ص 34 .
(2) نفسه ، ص 54 .
(3) نفسه ، ص 55 عن: Muir (Sir Wiliam): Life of Mahomet, PP.107-8 (London, 1858-,1)
4. ... الأديب العالمي (ليف تولستوي)
ويقول الأديب العالمي (ليف تولستوي) الذي يعد أدبه من أمتع ما كتب في التراث الإنساني قاطبة عن النفس البشرية: يكفي محمدًا فخرًا أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة
5. ... الأمير تشارلز
قال الأمير تشارلز: "يمكن للإسلام أن يعلمنا اليوم طريقة للفهم والعيش في عالم كانت فيه المسيحية هي الخاسرة عندما فقدته؛ ذلك أننا نجد في جوهر الإسلام محافظته على نظرة متكاملة إلى الكون، فهو يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، وبين الدين والعلوم، وبين العقل والمادة" [لا سكوت بعد اليوم، ص55].
6. ... الانجليزي ( برناردشو )
يقول الإنجليزي (برناردشو) في كتابه "محمد"، والذي أحرقته السلطة البريطانية: "إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضع دينه دائمًا موضع الاحترام والإجلال؛ فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالدًا خلود الأبد، وإني أرى كثيرًا من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا).
إنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمة، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبة خارقة، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمَّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم لوفق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها.
7. ... البروفيسور ( راما كريشنا راو )
يقول البروفيسور (راما كريشنا راو) في كتابه "محمد النبيّ": "لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها، ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة.
فهناك محمد النبيّ، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي. كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا
8. ... الدكتور (شبرك) النمساوي
ويقول الدكتور (شبرك) النمساوي: "إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها؛ إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أن يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، إذا توصلنا إلى قمته".
9. ... العظماء مائة أولهم محمد
الرسول الأعظم:
نشر في أمريكا في الزمن الحاضر كتاب بعنوان "المائة" أو "الخالدون مائة" أو "القمم المائة" أو "أعظم مائة في التاريخ".
وقد ألف هذا الكتاب الجديد من نوعه عالم الفلك والرياضيات والمؤرخ "مايكل هارت"، لقد قام بالبحث في التاريخ عن الرجال الذين كان لهم أعظم تأثير على البشر وقد ذكر لنا في هذا الكتاب أكثر مائة رجل تأثيرًا على البشرية منهم آزوس، أرسطو، بوذا، كونفوشيوس، هتلر، أفلاطون، ذرادشت. وهو لا يعطينا علامات محددة عن المائة من ناحية تأثيرهم على الناس ولكنه يقوم بتقييم درجة هذا التأثير ويصفهم بترتيب تفوقهم في هذا التأثير من رقم واحد وحتى رقم مائة، وهو يوضح لنا أسبابه في ترتيب مرشحيه.
ونحن غير مطالبين بالموافقة على كلامه ولكننا لا يسعنا إلا أن نعجب بأمانة هذا الرجل ودقته في البحث .
وأكثر شيء يدعو للدهشة في تصنيفه المنتقى أنه وضع نبينا الكريم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كرقم واحد أول المائة العظماء، وهو بذلك يؤكد ـ بدون علم أو قصد ـ شهادة الله تعالى في آخر تنزيل له للعالم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
عيسى ( عليه السلام ) رقم (3) Jesus (P .B .U .H .) NO :(5/12)
وقد أسعد المسلمين بالطبع تصنيف مايكل هارت لرسول الإسلام في المرتبة الأولى، ولكن هذا الاختيار صدم غير المسلمين وبخاصة اليهود والمسيحيين الذين اعتبروا ذلك إهانة! ماذا؟ المسيح (عليه السلام) في المرتبة الثالثة، وموسى (عليه السلام) في المرتبة الأربعين؟!!
وبالطبع فإن هذا بالنسبة إليهم شيء لا يمكن هضمه ولكن ماذا يقول مايكل هارت؟
دعونا نستمع لمناقشته: "حيث أنه يوجد تقريبًا مسيحيين ضعف عدد المسلمين في العالم(1) فإنه قد يبدو غريبًا أن يكون تصنيف محمد صلى الله عليه وسلم أعلى من المسيح عليه السلام.
وهناك سببين رئيسيين لهذا القرار:
أولاً: لعب محمد صلى الله عليه وسلم دورًا في ازدهار الإسلام يفوق في أهميته كثيرًا ما قام به المسيح عليه السلام في ازدهار المسيحية.
وعلى الرغم من أن عيسى عليه السلام كان مسؤولاً عن الخُلُق الأساسي والمبادئ والسلوكيات الأخلاقية للمسيحية "طالما اختلفت هذه المبادئ عن اليهودية"(2)، فقد كان القديس بولس هو المطور الأصلي للاهوت المسيحي والناشر الرئيسي للمسيحية ومؤلف قسم كبير من العهد الجديد.
ومن ناحية أخرى نجد أن محمد صلى الله عليه وسلم هو المسئول عن العقيدة الإسلامية بجانب خلقه الأساسي ومبادئه الأخلاقية.
بالإضافة إلى ذلك فإنه لعب الدور الرئيسي في الدعوة إلى الدين الجديد وفي تأسيس التطبيق الديني للإسلام.
بولس مؤسس المسيحية Paul the Founder of Christianity
طبقاً لرأي هارت فإن شرف تأسيس المسيحية يجب تقسيمه بين المسيح عليه السلام والقديس بولس.
والأخير كما يعتقد هارت هو المؤسس الحقيقي للمسيحية. ولا أستطيع إخفاء موافقتي لهارت فمن مجموع الأسفار السبعة والعشرين للعهد الجديد نجد أن القديس بولس قد كتب أكثر من نصفها، وخلافًا لبولس فإن السيد المسيح لم يكتب كلمة واحدة في السبع والعشرين سفرًا.
ولو أنك وجدت ما يسمى (بإنجيل الأحرف الحمراء) فستجد أن كل كلمة زُعِمَ أن المسيح تفوه بها مكتوبة بالحبر الأحمر والباقي بالحبر الأسود العادي(3).
ولا تندهش حينما تجد في هذا الذي يسمى الإنجيل (بشارة المسيح) أكثر من 90 في المائة في السبع والعشرين سفرًا للعهد الجديد مطبوعة بالمداد (الحبر) الأسود.
هذا هو الاعتراف المسيحي النزيه على ما يسمونه الإنجيل، وفي أي مواجهة مع المبشرين المسيحيين ستجدهم يستشهدون مائة في المائة من بولس(4).
لا أحد يتبع المسيح عليه السلام No One follows Jesus (PBUH)
قال يسوع عليه السلام: "إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي" [يوحنا: 14، 15].
وقال أيضًا: "فمن نقض هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يُدعى أصغر في ملكوت السماوات" [متى: 5 ـ 19].
وإذا سألت أي مسيحي كثير المجادلة: هل تحفظ هذه الشريعة والوصايا؟ يجيب: "لا"، فإن سألته بعدها: لماذا لا تفعل؟ سيجيبك بلا اختلاف إذا كان من مروجي الكتاب المقدس والناعقين به: "الشريعة سُمِّرت على الصليب"، وهو يعني بذلك أن الشريعة قد انتهت أو ألغيت ويضيف: "ونحن الآن نعيش تحت الرحمة والنعمة الإلهية".
وفي كل مرة تستحث المسيحي بما قاله سيده ومعلمه "المسيح عليه السلام" فإنه يواجهك بشيء من الرسالتين الأولى والثانية إلى أهل كورينثوس، والرسالة إلى أهل غلاطية، والرسالة إلى أهل أفسس، والرسالة إلى أهل فيلبي ...إلخ.
فإذا سألته: مَن مؤلفها؟ فسيجيبك: بولس.. بولس.. بولس .
من هو سيدك؟ سيجيبك: "المسيح عليه السلام"، ولكنه دائمًا سيناقض سيده "المسيح عليه السلام" بالقديس بولس.
لن تجد مسيحياً متعلماً يناقش حقيقة أن المؤسس الحقيقي للمسيحية هو القديس بولس، ولذلك كان على مايكل هارت ليكون منصفًا أن يصنف "المسيح عليه السلام" في المرتبة الثالثة في كتابه.
لماذا تُغضب زبونك "عميلك" Why Provoke Your Customer?
ما فعله مايكل هارت بوضع المسيح في المرتبة الثالثة يطرح علينا سؤالاً خطيرًا وهو" لماذا يقدم أمريكي على نشر كتاب من 572 صفحة في أمريكا ويقوم ببيعه بسعر (15) دولار للنسخة، وهو بذلك يتجشم عناء إثارة غضب قراءه المحتملين؟ من سيشتري كتابه؟ بالطبع لن يكونوا الباكستانيين أو شعب بنجلاديش أو العرب أو الأتراك اللهم إلا نسخ قليلة هنا وهناك. ولكن الغالبية العظمى من زبائنه سيكونوا من الـ(250) مليون مسيحي والـ(6) مليون يهودي الذين يعيشون في أمريكا.
فلماذا إذن يغضب عملائه؟
ألم يسمع القول الشائع أن الزبون دائمًا على حق؟ بالطبع قد سمع ذلك فلماذا إذن هذا الاختيار المتحدي؟
ولكنني قبل أن أغلق هذا الملف الخاص بـ"هارت" سأسمح له أن يقدم اعتذاره الأخير عن تهوره:
"إن اختياري لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليأتي في المرتبة الأولى من قائمة أكثر أشخاص العالم تأثيرًا في البشرية قد يدهش بعض القراء وقد يعترض عليه البعض، ولكنه كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي حقق نجاحًا بارزًا على كل من المستوى الديني والدنيوي".
[الخالدون مائة، مايكل هارت، ص33].(5/13)
تصنيف لأكثر الأشخاص تأثيراً في التاريخ
نيويورك شركة هارت للنشر سنة 1978
من هم قادة التاريخ العظماء :Who Were History’s Great Leaders
عدد "تايم" الصادر في 15 يوليو سنة 1974 Time, 15 July 1974.
نشرت مجلة "تايم" الشهيرة العنوان السابق على غلافها الخارجي وداخل العدد، كانت هناك مقالات كثيرة مثل: ما الذي يصنع القائد العظيم؟
من المؤهل على مدار التاريخ؟
وفي هذه المقالات قامت مجلة "تايم" بسؤال مجموعة من المؤرخين والكتاب والعسكريين ورجال الأعمال وآخرين من اختيارها. وقد أعطى كل منهم مرشحيه طبقًا لوجهة نظره بموضوعية على قدر الاستطاعة البشرية لكل منهم، ومعتمدًا في ذلك على إدراكه وتميزه وهواه وحكمه المسبق الشخصي.
ويقول "جيمس جافين James Gavin" الذي يوصف بأنه رجل في الجيش الأمريكي أحيل إلى التقاعد برتبة فريق:
"إنني أعتبر "محمد" و"المسيح عيسى"، وربما "لينين"، ومن المحتمل "ماو تسي تونج" من بين القادة الذين كان لهم أعظم تأثير على مر العصور. أما بالنسبة للقائد صاحب المؤهلات التي من الممكن الاستفادة منها إلى درجة بعيدة في الزمن الحاضر فإنني أختار "جون ف. كنيدي"". ولم يقل الجنرال أكثر من ذلك ولكن من الواجب علينا أن نجيبه فإن الأمر يحتاج شجاعة هائلة لكتابة اسم "محمد" قبل "المسيح" عليهما السلام، ومن المؤكد أن ذلك لم يكن زلة قلم.
"جولز ماسيرمان Jules Masserman" محلل نفسي أمريكي وأستاذ في جامعة شيكاغو يعطينا على عكس المشاركين الآخرين الأسس التي بنى عليها اختياره والأسباب التي جعلته يختار القائد الأعظم لجميع الأزمنة، إنه يريدنا أن نكتشف ما نبحث عنه حقًا في الرجل المطلوب؛ المؤهلات التي تجعله فريدًا، وقد نبحث عن أي مجموعة من المؤهلات كما في حالة مايكل هارت الذي كان يبحث عن الشخص الذي حقق أقوى تأثير.
يبحث "ماسيرمان" في التاريخ، ويقوم بالتحليل والتمحيص "لويس باستير"، "غاندي"، "كونفوشيوس"، "الإسكندر الأكبر"، "قيصر"، "هتلر"، "بوذا"، "المسيح"... إلى آخر الباقين حتى وصل أخيرًا إلى النتيجة التالية:
"لعل أعظم قائد كان على مر العصور هو "محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ، الذي جمع الأعمال الثلاثة وقد فعل "موسى" نفس الشيء بدرجة أقل".
وليس لنا إلا أن نندهش من "ماسيرمان" لأنه كيهودي قد تنازل ليتفحص حتى "أدولف هتلر" العدو الرئيسي لشعبه فهو يعتبره قائدًا عظيمًا. فقد كان قوم "هتلر" ـ وهم الأمة الألمانية القوية المكونة من 90 مليون نسمة ـ كانوا مستعدين أن يسيروا إلى قدرهم أو دمارهم بأمره. واحسرتاه لقد قادهم إلى الهلاك.
ولكن "هتلر" ليس هو مجال السؤال، إنما السؤال هو: لماذا يعلن "ماسيرمان" وهو يهودي أمريكي، وخادم مدفوع الأجر للحكومة بالتصريح لأبناء بلدته الذين يزيدون عن 200 مليون منهم اليهودي والمسيحي: إنه لا "المسيح" ولا "موسى" ولكن "محمد" ـ عليهم السلام جميعًا ـ هو القائد الأعظم The Greatest Leader في جميع الأزمنة!؟
ويمكننا الآن وبعدالة أن نستنتج أن إله الرحمة الذي يعرف دائمًا الجهود المخلصة لعباده إنما فقط يوفي بوعده لمحمد صلى الله عليه وسلم رسوله المختار حين قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 44].
كأنما هي قوة خفية جعلت الأصدقاء والأعداء على السواء يقدموا إجلالهم غير المستجدي للرسول القوي المبعوث من عند الله، وكذلك فعل جنود الخالق القدير، حتى الشيطان نفسه دخل في خدمة الرسول كما فعل في عهد المسيح.
ويستشهد البروفيسور "ك. س. راماكرشنا راو" الفيلسوف الهندوسي في كتابه "محمد رسول الإسلام"(5) برئيس الشيطان نفسه، نعم "أدولف هتلر" ليثبت العظمة المنفردة لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ومثل "ماسيرمان" الذي قيم رسول الإسلام على ثلاث أسس ـ انظر ص42 ـ 47 ـ، فقد رأى البروفيسور "راماكرشنا راو" أيضًا في كتاب "هتلر" المسمى "كفاحي" جوهرة ذات ثلاثة وجوه، وامتيازًا نادرًا ذلك الذي وجد في بطلنا موضوع المناقشة.
فيستشهد بهتلر فيقول: "نادرًا ما يكون رجل النظريات العظيمة قائدًا عظيمًا، ولكن الداعية المؤثر هو أكثر احتمالاً لأن يملك هذه المتطلبات والمؤهلات؛ ولذلك فهو دائمًا ما يكون قائدًا عظيمًا؛ لأن القيادة أو الزعامة تعني القدرة على تحريك الجماهير البشرية. الموهبة في تصدير الأفكار لا تشترك في شيء مع القدرة على الزعامة".
ويستمر "هتلر" في كلامه: "... إن اتحاد القدرة على وضع النظريات والتنظيم والقيادة في رجل واحد هو أندر ظاهرة على وجه الأرض؛ ففي تلك الحالة تكون العظمة".
ويستنتج البروفيسور "راو" من ذلك فيقول في كلماته هو: "في شخص رسول الإسلام رأى العالم أندر ظاهرة على وجه الأرض متمثلة في إنسان من لحم ودم".
قبل أن يهاجم أي شخص البروفيسور(6) ويتهمه بالتحيز الغير ضروري وبالرشوة دعوني أضيف أسماء الآخرين من المعجبين بمحمد صلى الله عليه وسلم.(5/14)
1ـ "كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرأفة والطيبة بعينيها، والذين من حوله كانوا يشعرون بتأثيره ولم ينسوه أبدًا". "ديوان شاندشارمة"، باحث هندوسي، وذلك في كتابه "رسل الشرق" سنة 1935، ص122.
2ـ "لقد درست الرجل الرائع، وفي رأيي أنه يجب أن يدعى "منقذ البشرية"؛ فهو بعيد كل البعد من أن يدعى ضد المسيح". "جورج برنارد شو" في "الإسلام الصادق" ج1، سنة 1936.
3ـ "من حسن الحظ إنه لأمر فريد على الإطلاق في التاريخ أن "محمد" مؤسس لثلاثة أشياء: الأمة والإمبراطورية والدين". "ر. بوزوورث، سميث" في كتاب "محمد والمحمدية"، سنة 1946.
4ـ "لقد كان محمد الأكثر توفيقًا من بين جميع الشخصيات الدينية". دائرة المعارف البريطانية، الطبعة 11.
دعونا الآن نسمع ما قاله بعض الشرقيين من غير المسلمين في هذا الموضوع.
أ ـ "كلما أدرس أكثر أكتشف أن قوة الإسلام لا تكمن في السيف" "ماهاتما غاندي" أبو الهند الحديثة في "الهند الفتاة".
ب ـ "إنهم نقاد "محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرون النار بدلاً من الضوء، والقبح بدلاً من الحسن، إنهم يشوهون ويصورون كل صفة جيدة كأنها رذيلة عظيمة. إن هذا يعكس فسادهم الشخصي، إن النقاد الذين تكسوهم الغشاوة لا يستطيعون أن يروا أن السيف الوحيد الذي استخدمه "محمد" كان سيف الرحمة والشفقة، الصداقة والمغفرة، إنه السيف الذي يقهر الأعداء ويطهر قلوبهم، إن سيفه كان أكثر حدة من السيف المصنوع من الصلب". "بانديت جياناندرا ديف شارمة شاسترى" في اجتماع بجوراكبور، الهند، سنة 1928هـ.
ج ـ "لقد فضل الهجرة على محاربة قومه، ولكن عندما وصل الظلم والاضطهاد أبعد من نطاق الاحتمال حمل سيفه دفاعًا عن النفس، هؤلاء الذين يؤمنون أن الدين ممكن أن ينتشر بالقوة أغبياء لا يعلمون طرق الدين ولا طرق الحياة، إنهم فخورين بهذا الاعتقاد لأنهم بعيدون كل البعد عن الحقيقة". صحفي سيخى (7) في "نوان هندوستان" دلهي 17 نوفمبر سنة 1947.
د ـ "الشرق شرق والغرب غرب لن يلتقي الاثنين أبدًا؛ إن كل الذين لم يعمهم التحيز سوف يلتقون في الدفاع عن "محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ". "روديارد كيبلينج".
هـ ـ "لقد كان القيصر والبابا في شخص واحد، لكنه كان بابا بدون خيلاء البابوات، والقيصر بدون حشود القياصرة، بدون جيش متأهب، بدون حاشية، بدون قلعة، بدون دخل ثابت. لو أن أي إنسان كان له الحق أن يدعي أنه حكم بالحق الإلهي فهو "محمد"؛ فقد كان يملك كل السلطات بدون أدواتها وبدون ما يدعمها". "ر. بوسوورث سميث"، "محمد والإسلام"، لندن 1874، صفحة 92.
000000000000
(1) تُظهر آخر الإحصائيات أن عدد المسلمين في العالم ألف مليون مسلم، وعدد المسيحيين في العالم ألف ومائتي مليون مسيحي. "ديدات"
(2) لا يعتبر ترتيب "محمد" الأول قدحًا في مكانة "عيسى" و"موسى"، لكن الله رفع بعض الناس فوق بعض درجات وبعض النبيين فوق بعض، و"محمد" خاتم النبيين والمرسلين هو أفضل الأنبياء على الإطلاق بدون الإنقاص من قدر الآخرين. "المترجم"
(3) وقد رأيت بنفسي هذه الطبعة من الإنجيل التي يظنون أن لعيسى كلام بها ووضعت بالحبر الأحمر، وتجد كلمات قليلة به يظنون ـ وليس على سبيل اليقين ـ أن "عيسى" قالها؛ إذا يعتبر هذا اعتراف ضمني بتحريف الإنجيل. "المترجم"
(4) "بولس" يجب ألا ينخدع فيه الناس فهو يهودي اندس بين النصارى ليلبس عليهم دينهم وليفسده عليهم، وكان صاحب نصيب الأسد في تأليف الكتاب المقدس وفي خرافاته، وهذه الحركة التي فعلها "بولس" ليست الأولى من نوعها في جانب اليهود؛ فهم يكيدون لجميع الأديان بخاصة الإسلام، وقد دخل في الإسلام رجل يهودي حاول أن يفعل مثل "بولس" يدعى "عبد الله" من سبأ، يهودي ماكر كان يضع أحاديث رسول الله، وكان آخر ما فعله هو وأتباعه السبئيين أنهم قالوا بألوهية "علي"، ولقد قام الإمام "علي" بحرق أحد أتباعه عندما قال له: أنت الله، فلما حرقه أخذ يصيح ويقول أيضاً: "إذن أنت الله فإنه لا يعذب بالنار إلا الله" ... ولقد فعل الإمام "علي" ذلك حتى يقطع جذور الفتنة الناشئة التي كان اليهودي "عبد الله بن سبأ" سببًا فيها. ولقد تدخل اليهود في تسيير حركة العالم بطريقة "بولس" هذا؛ فنجد أن "ماركس" و"لينين" اللذين لا يعترفان بالدين وأسسا الشيوعية يهود، "فرويد" صاحب الإباحية الجنسية يهودي، "دوركايم" يهودي. كل من كان له دور في هدم القيم والأخلاق وتدمير الدين وراءه اليهود. "المترجم"
(5) "محمد رسول الإسلام" للمؤلف "راماكرشنا راو"، أحصل عليه من المركز الإسلامي للدعوة. "المؤلف"
وأضيف أنني قمت بفضل الله ومنته عليّ بعمل ترجمة لهذا الكتاب، وسوف تقوم إن شاء الله تعالى دار المختار الإسلامي بطبعه في القريب العاجل بإذن الله. "المترجم".(5/15)
(6) حسب آخر المعلومات التي وصلتني أن البروفيسور الهندي "رماكرشنا راو" مؤلف كتاب "محمد رسول الإسلام" هو مسيحي هندي يقدم شهادة حق لنبي الإسلام، فهو واحد من المنصفين الذين أنصفوا الرسول محمد ورسالته.
(7) سيخي: ديانة هندية ترفض الوثنية والعزل الطبقي. "المؤلف"
10. ... الفيلسوف الإنجليزي ( توماس كارليل)
ويقول الفيلسوف الإنجليزي "توماس كارليل" الحائز على جائزة نوبل، يقول في كتابه "الأبطال": "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب، وأن محمدًا خدّاع مزوِّر.
وإن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة؛ فإن الرسالة التي أدَّاها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنًا لنحو مائتي مليون من الناس، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة ؟!
11. ... المستشرق الألماني ( برتلي سانت هيلر )
يقول المستشرق الألماني "برتلي سانت هيلر" في كتابه "الشرقيون وعقائدهم": "كان محمد رئيسًا للدولة، وساهرًا على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبيُّ بين ظهرانيها، فكان النبي داعيًا إلى ديانة الإله الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفًا ورحيمًا حتى مع أعدائه، وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية؛ وهما: العدالة والرحمة.
12. ... المستشرق الأمريكي ( سنكس )
ويقول المستشرق الأمريكي "سنكس" في كتابه "ديانة العرب": "ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة.
13. ... المستشرق الكندي الدكتور ( زويمر )
يقول المستشرق الكندي الدكتور ”زويمر" في كتابه "الشرق وعاداته": "إن محمدًا كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضًا بأنه كان مصلحًا قديرًا، وبليغًا فصيحًا، وجريئًا مغوارًا، ومفكرًا عظيمًا، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء
14. ... ايقلين كوبولد
[ 1 ]
"... هذه هي مدينة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعيد إلى نفسي ذكرى جهوده في سبيل لا إله إلا الله، وتلقي في روعي صبره على المكاره واحتماله للأذى في سبيل الوحدانية الإلهية"(1).
[ 2 ]
"كان العرب قبل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمة لا شأن لها ولا أهمية لقبائلها ولا لجماعتها، فلما جاء محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث هذه الأمة بعثًا جديدًا يصح أن يكون أقرب إلى المعجزات فغلبت العالم وحكمت فيه آجالاً وآجالاً..."(2).
[ 3 ]
"... لعمري، ليجدن المرء في نفسه، ما تقدم إلى قبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ روعة ما يستطيع لها تفسيرًا، وهي روعة تملأ النفس اضطرابًا وذهولاً ورجاءً وخوفًا وأملاً، ذلك أنه أمام نبي مرسل وعبقري عظيم لم تلد مثله البطون حتى اليوم.. إن العظمة والعبقرية يهزان القلوب ويثيران الأفئدة فما بالك بالعظمة إذا انتظمت مع النبوة، وما بالك بها وقد راحت تضحي بكل شيء في الحياة في سبيل الإنسانية وخير البشرية"(3).
[ 4 ]
"لقد استطاع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القيام بالمعجزات والعجائب، لَمّا تمكن من حمل هذه الأمة العربية الشديدة العنيدة على نبذ الأصنام وقبول الوحدانية الإلهية، لقد وفّق إلى خلق العرب خلقًا جديدًا ونقلهم من الظلمات إلى النور"(4).
[ 5 ]
"مع أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان سيد الجزيرة العربية، فإنه لم يفكر في الألقاب، ولا راح يعمل لاستثمارها، بل ظل على حاله مكتفيًا بأنه رسول الله، وأنه خادم المسلمين، ينظف بيته بنفسه ويصلح حذاءه بيده، كريمًا بارًا كأنه الريح السارية، لا يقصده فقير أو بائس إلا تفضل عليه بما لديه، وما لديه كان في أكثر الأحايين قليلاً لا يكاد يكفيه"(5).
------------------
(1) البحث عن الله، ص 39 ـ 40.
(2) نفسه، ص 51.
(3) نفسه، ص 52.
(4) نفسه، ص 66 ـ 67.
(5) نفسه، ص 67.
15. ... كولد تسيهر
[ 1 ]
"... إن محمدًا قد بشر بمذهبه للمرة الأولى بحماس لم يفتر ولم تعوزه المثابرة، وبعقيدة ثابتة بأن هذا المذهب يحقق صالح الجماعة الخاصة، وقد كان في ذلك كله مظهرًا لإنكار الذات برغم سخرية الجمهور"(2).
[ 2 ]
"... الحق، أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان بلا شك أول مصلح حقيقي في الشعب العربي من الوجهة التاريخية"(3).
[ 3 ]
"في هذا العصر نرى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستخدم حنكته المفكرة ورويته الدقيقة وتبصره العالمي، في مقاومة خصومه الذين شرعوا في معارضة مقاصده وغاياته في داخل موطنه وخارجه"(4).
----------------
(1) كولد تسيهر (1850-1921م) Y. Gldziher(5/16)
تخرج باللغات السامية على كبار أساتذتها في بودابست وليبزج وبرلين وليدن. ولما نبه ذكره عين أستاذًا محاضرًا في كلية العلوم بجامعة بودابست (1873) ثم أستاذ كرسي (1906). رحل إلى عدد من البلدان العربية وتضلع بالعربية على شيوخ الأزهر. انتخب عضوًا في عدد من المجامع العلمية وحضر عددًا من المؤتمرات الاستشراقية.
من آثاره: كتب سيلاً من المقالات والأبحاث في المجلات الآسيوية والغربية بأكثر من لغة. وكتاب "العقيدة والشريعة في الإسلام" باريس 1920، و"درس في الإسلام" في جزئين كبيرين، كما حقق العديد من النصوص القديمة.
(2) العقيدة والشريعة في الإسلام، ص 12 ـ 13.
(3) نفسه، ص 13.
(4) نفسه، ص 21 ـ 22.
16. ... اينين دينيه
[ 1 ]
"... هذه هي مدينة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعيد إلى نفسي ذكرى جهوده في سبيل لا إله إلا الله، وتلقي في روعي صبره على المكاره واحتماله للأذى في سبيل الوحدانية الإلهية"(1).
[ 2 ]
"كان العرب قبل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمة لا شأن لها ولا أهمية لقبائلها ولا لجماعتها، فلما جاء محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث هذه الأمة بعثًا جديدًا يصح أن يكون أقرب إلى المعجزات فغلبت العالم وحكمت فيه آجالاً وآجالاً..."(2).
[ 3 ]
"... لعمري، ليجدن المرء في نفسه، ما تقدم إلى قبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ روعة ما يستطيع لها تفسيرًا، وهي روعة تملأ النفس اضطرابًا وذهولاً ورجاءً وخوفًا وأملاً، ذلك أنه أمام نبي مرسل وعبقري عظيم لم تلد مثله البطون حتى اليوم.. إن العظمة والعبقرية يهزان القلوب ويثيران الأفئدة فما بالك بالعظمة إذا انتظمت مع النبوة، وما بالك بها وقد راحت تضحي بكل شيء في الحياة في سبيل الإنسانية وخير البشرية"(3).
[ 4 ]
"لقد استطاع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القيام بالمعجزات والعجائب، لَمّا تمكن من حمل هذه الأمة العربية الشديدة العنيدة على نبذ الأصنام وقبول الوحدانية الإلهية، لقد وفّق إلى خلق العرب خلقًا جديدًا ونقلهم من الظلمات إلى النور"(4).
[ 5 ]
"مع أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان سيد الجزيرة العربية، فإنه لم يفكر في الألقاب، ولا راح يعمل لاستثمارها، بل ظل على حاله مكتفيًا بأنه رسول الله، وأنه خادم المسلمين، ينظف بيته بنفسه ويصلح حذاءه بيده، كريمًا بارًا كأنه الريح السارية، لا يقصده فقير أو بائس إلا تفضل عليه بما لديه، وما لديه كان في أكثر الأحايين قليلاً لا يكاد يكفيه"(5).
-----------------
(1) البحث عن الله، ص 39 ـ 40.
(2) نفسه، ص 51.
(3) نفسه، ص 52.
(4) نفسه، ص 66 ـ 67.
(5) نفسه، ص 67.
17. ... بارت
بارت(1)
[ 1 ]
"كان من بين ممثلي حركة التنوير من رأوا في النبي العربي ـصلى الله عليه وسلم ـ أدلة الله، ومشرعًا حكيمًا، ورسولاً للفضيلة، وناطقًا بكلمة الدين الطبيعي الفطري، مبشرًا به"(2).
[ 2 ]
"كان العرب يعيشون منذ قرون طويلة في بوادي وواحات شبه الجزيرة، يعيثون فيها فسادًا. حتى أتى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعاهم إلى الإيمان بإله واحد، خالق بارئ، وجمعهم في كيان واحد متجانس"(3).
-----------------
(1) رودي بارت Rudi, Part: عالم ألماني معاصر، اضطلع بالدراسات الشرقية في جامعة هايدلبرج، وكرس حياته لدراسة علوم العربية والإسلام، وصنف فيها عددًا كبيرًا من الأعمال، منها ترجمته للقرآن الكريم التي استغرقت منه عشرات السنين وأصدرها بين عامي 1963 و1966، وله كتاب عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
(2) الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، ص 15.
(3) نفسه، ص 20.
18. ... بروي
بروي(1)
"جاء محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ النبي العربي وخاتمة النبيين، يبشر العرب والناس أجمعين، بدين جديد، ويدعو للقول بالله الواحد الأحد، كانت الشريعة ـ في دعوته ـ لا تختلف عن العقيدة أو الإيمان، وتتمتع مثلها بسلطة إلهية ملزمة، تضبط ليس الأمور الدينية فحسب، بل أيضًا الأمور الدنيوية، فتفرض على المسلم الزكاة، والجهاد ضد المشركين، ونشر الدين الحنيف. وعندما قبض النبي العربي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عام 632م، كان قد انتهى من دعوته، كما انتهى من وضع نظام اجتماعي يسمو كثيرًا فوق النظام القبلي الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية، وهكذا تم للجزيرة العربية وحدة دينية متماسكة، لم تعرف مثلها من قبل.."(2).
----------
(1) إدوار بروي Edourd Perroy: باحث فرنسي معاصر، وأستاذ في السربون.
(2) تاريخ الحضارات العام (3 / 112).
19. ... بلاشير
[ 1 ](5/17)
".. إن معجزة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ الحقيقية والوحيدة هي إبلاغه الناس رسالة ذات روعة أدبية لا مثيل لها، فمن هو ذلك الرجل المكلّف بالمهام الثقيلة العبء وهي حمل النور إلى عرب الحجاز في أوائل القرن السابع؟ إن محمدًا ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يبدو في القرآن إطلاقًا منعمًا عليه بمواهب تنزهه عن الصفات الإنسانية، فهو لا يستطيع في نظر معاصريه المشركين أن يفخر بالاستغناء عن حاجات هي حاجاتهم، وهو يصرّح بفخر أنه لم يكن سوى مخلوق فان: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الكهف: 110]. وهو لم يتلق أي قدرة على صنع المعجزات، ولكنه انتخب ليكون منذرًا ومبشرًا للكافرين. إن نجاح رسالته مرتبط إذن في قيمتها الإحيائية وإلى شكلها المنقطع النظير. ولم يكن محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ رغم ذلك، صاحب بيان ولا شاعرًا، فإن الأخبار التي روت سيرته لم تحسن الاحتفاظ بذكرى مفاخراته الشخصية، وثمة عوامل تحملنا على الشك فيما إذا كان عرف استعمال السجع، أو أنه تلقى من السماء فنّ ارتجال الشعر. وعندما قال عنه المكّيّون المشركون أنه شاعر، أو حين عرّضوا بأن مصدر الوحي جنّي معروف أزال الله عنه هذه التهمة: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ، لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69 ـ 70]. وهكذا يطرح هذا الوحي البالغ جماله حد الإعجاز، الواثق بحمل الناس بقوة بيانه على الهداية، كظاهرة لا علاقة لها بالفصاحة ولا الشعر"(1).
[ 2 ]
".. أما عن انتصار الإسلام فثمَّة أسباب تداخلت وفي طليعتها القرآن والسنة وحالة الحجاز الدينية، ونصح وبيان وأمانة الرجل المرسل لإبلاغ الرسالة المنزلة عليه.."(2).
------------
(1) تاريخ الأدب العربي (2/ 14، 15).
(2) نفسه (2/50).
20. ... توينبي مؤرخ بريطاني معاصر
توينبي(1)
[ 1 ]
"لقد كرّس محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حياته لتحقيق رسالته في كفالة هذين المظهرين في البيئة الاجتماعية العربية؛ وهما الوحدانية في الفكرة الدينية، والقانون والنظام في الحكم، وتم ذلك فعلاً بفضل نظام الإسلام الشامل الذي ضم بين ظهرانيه الوحدانية والسلطة التنفيذية معًا. فغدت للإسلام بفضل ذلك قوة دافعة جبارة لم تقتصر على كفالة احتياجات العرب ونقلهم من أمة جهالة إلى أمة متحضرة، بل تدفق الإسلام من حدود شبه الجزيرة، واستولى على العالم السوري بأسره من سواحل الأطلسي إلى شواطئ السهب الأوراسي..."(2).
[ 2 ]
"... لقد أخذت سيرة الرسول العربي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بألباب أتباعه، وسمت شخصيته لديهم إلى أعلى علّيين، فآمنوا برسالته إيمانًا جعلهم يتقبلون ما أوحي به إليه وأفعاله كما سجّلتها السنة، مصدرًا للقانون، لا يقتصر على تنظيم حياة الجماعة الإسلامية وحدها، بل يرتب كذلك علاقات المسلمين الفاتحين برعاياهم غير المسلمين الذين كانوا في بداية الأمر يفوقونهم عددًا"(3).
----------------
(1) آرنولد توينبي Arnold Toynbee: المؤرخ البريطاني المعاصر، الذي انصبت معظم دراساته على تاريخ الحضارات، وكان أبرزها ـ ولا ريب ـ مؤلفه الشهير "دراسة للتاريخ" الذي شرع يعمل فيه منذ عام 1921، وانتهى منه عام 1961، وهو يتكون من اثني عشر جزءًا عرض فيها "توينبي" لرؤيته الحضارية للتاريخ. ولقد وضع المستر "سومر فيل" ـ تحت إشراف توينبي نفسه ـ مختصرًا في جزأين لهذا العمل الواسع بسط فيه جميع آراء المؤلف مستخدمًا عباراته الأصلية في معظم الأحيان، وحذف الكثير من الأمثلة والآراء دون إخلال بالسياق العام للكتاب، وهذا المختصر هو الذي ترجم إلى العربية في أربعة أجزاء، وهو الذي اعتمدناه هنا.
(2) مختصر دراسة للتاريخ (10/381).
(3) نفسه (3/ 98).
21. ... جوتة الأديب الألماني
"جوتة" الأديب الألماني: "إننا أهل أوربا بجميع مفاهيمنا، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه "محمد"، وسوف لا يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي "محمد" … وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح "محمد" الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد".
تلك بعض أقوال مشاهير العالم ، في "محمد" نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، فلماذا المزايدات التي تضر ولا تنفع ، وتهدم ولا تبني؟!.
22. ... جورج حنا
جورج حنا
[ 1 ](5/18)
"... كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخرج من سويعات لقائه مع جبريل عليه السلام بآيات تنطق بالحكمة، داعيًا قومه إلى الرجوع عن غيّهم، والإيمان بالإله الواحد الكليّ القدرة، صابًا النقمة على الآلهة الصنمية، التي كان القوم يعبدونها فكان طبيعيًا أن يحقد عليه أشراف العرب ويضمروا له الشر، لما كان في دعوته من خطر على زعامتهم، وهي ما كانت قائمة إلا على التعبد للأصنام التي جاء هذا الرجل يدعو إلى تحطيمها. لكن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يهادن في بث دعوته، ولم يكن يسكت عن اضطهاد أشراف قريش له، بل كان يتحداهم، فيزدادون حقدًا عليه وتآمرًا على حياته. فلم تلبث دعوته حتى تحولت من دعوة سلمية إلى دعوة نضالية. إنه لم يرض بأن يحوّل خدّه الأيسر لمن يضربه على خدّه الأيمن، بل مشى في طريقه غير هيّاب، في يده الواحدة رسالة هداية، يهدي بها من سالموه، وفي يده الثانية سيف يحارب به من يحاربوه.
لقد آمن به نفر قليل في بداية الدعوة، وكان نصيب هذا النفر مثل نصيبه من الاضطهاد والتكفير، كان هؤلاء باكورة الديانة الإسلامية، والشعلة التي انطلقت منها رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ"(1).
[ 2 ]
"كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المدينة أكثر اطمئنانًا على نفسه وعلى أتباعه ورسالته مما كان في مكة، كانت يثرب مدينة العامة التابعة، لا مدينة الخاصة المتبوعة، والعامة دائمًا أقرب إلى اقتباس كلمة الحق من الخاصة، لاسيما إذا كانت كلمة الحق هذه تحررها من عبوديتها للخاصة"(2).
[ 3 ]
"محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان ثائرًا عندما أبى أن يماشي أهل الصحراء في عبادة الأصنام وفي عاداتهم الهمجية وفي مجتمعهم البربري، فأضرمها حربًا لا هوادة فيها على جاهلية المشركين وأسيادهم وآلهتهم، فكفره قومه واضطهدوه وأضمروا له الموت، فهاجر تحت جنح الليل مع نفر من أتباعه، وما تخلى عن النضال في نشر دعوته، وما أحجم عن تجريد السيف من أجلها؛ فأخرج من جاهلية الصحراء عقيدة دينية واجتماعية تجمع بين مئات الملايين من البشر في أقطار المعمورة"(3).
------------------
(1) قصة الإنسان، ص76.
(2) نفسه، ص77.
(3) نفسه، ص252.
23. ... دُرّاني
دُرّاني(1)
[ 1 ]
"أستطيع أن أقول بكل قوة أنه لا يوجد مسلم جديد واحد لا يحمل في نفسه العرفان بالجميل لسيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ لما غمره به من حب وعون وهداية وإلهام؛ فهو القدوة الطيبة التي أرسلها الله رحمة لنا وحبًا بنا حتى نقتفي أثره"(2).
[ 2 ]
".. وأخيراً أخذت أدرس حياة النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأيقنت أن من أعظم الآثام أن نتنكر لذلك الرجل الرباني الذي أقام مملكة لله بين أقوام كانوا من قبل متحاربين لا يحكمهم قانون، يعبدون الوثن، ويقترفون كل الأفعال المشينة، فغير طرق تفكيرهم، لا بل بدل عاداتهم وأخلاقهم، وجمعهم تحت راية واحدة وقانون واحد ودين واحد وثقافة واحدة وحضارة واحدة وحكومة واحدة، وأصبحت تلك الأمة ـ التي لم تنجب رجلاً عظيمًا واحدًا يستحق الذكر منذ عدة قرون ـ أصبحت تحت تأثيره وهديه تنجب ألوفًا من النفوس الكريمة التي انطلقت إلى أقصى أرجاء المعمورة تدعو إلى مبادئ الإسلام وأخلاقه ونظام الحياة الإسلامية وتعلم الناس أمور الدين الجديد"(3).
[ 3 ]
".. تحمل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة عشر عامًا كاملةً من المتاعب ـ في مكة ـ دون انقطاع، وثمانية سنوات ـ في المدينة ـ دون توقف، فتحمل ذلك كله، فلم يتزحزح شعرة عن موقفه، وكان صامدًا، رابط الجأش، صلبًا في أهدافه وموقفه. عرضت عليه أمته أن تنصبه ملكًا عليها وأن تضع عند قدميه كل ثروات البلاد إذا كف عن الدعوة إلى دينه ونشر رسالته. فرفض هذه الإغراءات كلها فاختار بدلاً من ذلك أن يعاني من أجل دعوته. لماذا؟ لماذا لم يكترث أبدًا للثروات والجاه والملك والمجد والراحة والدعة والرخاء ؟ لابدّ أن يفكر المرء في ذلك بعمق شديد إذا أراد أن يصل إلى جواب عليه"(4).
[ 4 ]
"هل بوسع المرء أن يتصور مثالاً للتضحية بالنفس وحب الغير والرأفة بالآخرين أسمى من هذا المثال حيث نجد رجلاً يقضي على سعادته الشخصية لصالح الآخرين، بينما يقوم هؤلاء القوم أنفسهم الذين يعمل على تحسين أحوالهم ويبذل أقصى جهده في سبيل ذلك، يقومون برميه بالحجارة والإساءة إليه ونفيه وعدم إتاحة الفرصة له للحياة الهادئة حتى في منفاه، وأنه رغم كل ذلك يرفض أن يكف عن السعي لخيرهم؟ هل يمكن لأحد أن يتحمل كل هذا العناء والألم من أجل دعوة السعي لخيرهم؟ هل يمكن لأحد أن يتحمل كل هذا العناء والألم من أجل دعوة مزيفة؟ هل يستطيع أي مدخول غير مخلص أن يبدي هذا الثبات والتصميم على مبدئه والتمسك به حتى آخر رمق دون أدنى وجل أو تعثر أمام الأخطار وصنوف التعذيب التي يمكن تصورها وقد قامت عليه البلاد بأكملها وحملت السلاح ضده؟"(5).
[ 5 ](5/19)
"إن هذا الإيمان وهذا السعي الحثيث وهذا التصميم والعزم الذي قاد به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حركته حتى النصر النهائي، إنما هو برهان بليغ على صدقه المطلق في دعوته؛ إذ لو كانت في نفسه أدنى لمسة من شك أو اضطراب لما استطاع أبدًا أن يصمد أمام العاصفة التي استمرّ أوارها أكثر من عشرين عامًا كاملة. هل بعد هذا من برهان على صدق كامل في الهدف واستقامة في الخلق وسموّ في النفس كل هذه العوامل تؤدي لا محالة إلى الاستنتاج الذي لا مفر منه وهو أن هذا الرجل هو رسول الله حقًا. هذا هو نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ كان آية في صفاته النادرة ونموذجًا كاملاً للفضيلة والخير، ورمزًا للصدق والإخلاص. إن حياته وأفكاره وصدقه واستقامته، وتقواه وجوده، وعقيدته ومنجزاته، كل أولئك براهين فريدة على نبوته؛ فأي إنسان يدرس دون تحيّز حياته ورسالته سوف يشهد أنه حقًا رسول من عند الله، وأن القرآن الذي جاء به للناس هو كتاب الله حقًا. وكل مفكر منصف جاد يبحث عن الحقيقة لابدّ أن يصل إلى هذا الحكم"(6).
----------------
(1) الدكتور م. ج. دُرّاني Dr. M. H. Durrani: سليل أسرة مسلمة منذ القدم، أصبح نصرانيًا في فترة مبكرة من حياته وتحت تأثير إحدى المدارس التبشيرية المسيحية، وقضى ردحًا من حياته في كنيسة إنكلترا، حيث عمل قسيسًا منذ عام 1939 وحتى عام 1963 حيث جاءه الإسلام "كما يأتي فصل الربيع"، فعاد إلى دين آبائه وأجداده.
(2) رجال ونساء أسلموا (4/ 27 – 28).
(3) نفسه (4/ 28 – 29).
(4) نفسه (4/ 29 – 30).
(5) نفسه (4/ 30).
(6) نفسه (4/ 30 – 31).
24. ... رودنسن - فرانز روزنثال - جاك ريسلر - جورج سارتون
رودنسن
"... بظهور عدد من المؤرخين الأوروبيين المستنيرين في القرن الثامن عشر بدأت تتكامل معالم صورة هي صورة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحاكم المتسامح والحكيم والمشرع".
فرانز روزنثال
[ 1 ]
"إن أفكار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تلقاها وحيًا أو التي أدى إليها اجتهاده نشّطت دراسة التاريخ نشاطًا لا مزيد عليه، فقد أصبحت أعمال الأفراد وأحداث الماضي وحوادث كافة شعوب الأرض أمورًا ذات أهمية دينية، كما أن شخصية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت خطًا فاصلاً واضحًا في كل مجرى التاريخ، ولم يتخط علم التاريخ الإسلامي هذا الخط قط...".
[ 2 ]
"تبقى حقيقة، هي أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه وضع البذور التي نجني منها اهتمامًا واسعًا بالتاريخ؛ لقد كان التاريخ يملأ تفكير الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لدرجة كبيرة، وقد ساعد عمله من حيث العموم في تقديم نمو التاريخ الإسلامي في المستقبل، رغم أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يتنبأ بالنمو الهائل للمعرفة والعلم الذي سيتم باسم دينه"(2).
جاك ريسلر
[ 1 ]
"القرآن يكمله الحديث الذي يعد سلسلة من الأقوال تتعلق بأعمال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإرشاداته. وفي الحديث يجد المرء ما كان يدور بخلد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، العنصر الأساسي من سلوكه أمام الحقائق المتغيرة في الحياة، هذه الأقوال ، أو هذه الأحاديث التي يشكل مجموعها السنة دونت مما روي عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أو نقل عنهم مع التمحيص الشديد في اختيارها وهكذا جمع عدد كبير من الأحاديث، والسنة هي المبينة للقرآن التي لا غنى عنها للقرآن.." .
[ 2 ]
".. كان لزامًا على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يبرز في أقصر وقت ممكن تفوّق الشعب العربي عندما أنعم الله عليه بدين سام في بساطته ووضوحه، وكذلك بمذهبه الصارم في التوحيد في مواجهة التردد الدائم للعقائد الدينية. وإذا ما عرفنا أن هذا العمل العظيم أدرك وحقق في أقصر أجل أعظم أمل لحياة إنسانية فإنه يجب أن نعترف أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يظل في عداد أعظم الرجال الذين شرف بهم تاريخ الشعوب والأديان".
جورج سارتون
[ 1 ]
"صدع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدعوة نحو عام 610م وعمره يوم ذاك أربعون سنة، وكان مثل إخوانه الأنبياء السابقين ـ عليهم السلام ـ ولكن كان أفضل منهم بما لا نسبة فيه، وكان زاهدًا وفقيهًا ومشرعًا ورجلاً عمليًا..." .
[ 2 ]
"إنه لم يتح لنبي من قبل أن ينتصر انتصارًا تامًا كانتصار محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ..." .
[ 3 ]
".. لم يكن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبي الإسلام فحسب، بل نبي اللغة العربية والثقافة العربية، على اختلاف أجناس المتكلمين بها وأديانهم"
25. ... روم لاندو - لايتنر
روم لاندو
[ 1 ]
"... لم ينسب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أيّ يوم من الأيام إلى نفسه صفة ألوهية أو قوى أعجوبية؛ على العكس، لقد كان حريصًا على النص على أنه مجرد رسول اصطنعه الله لإبلاغ الوحي للناس".
[ 2 ](5/20)
"كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقيًّا بالفطرة، وكان من غير ريب مهيّأ لحمل رسالة الإسلام التي تلقاها. وبالإضافة إلى طبيعته الروحية، كان في سره وجهره رجلاً عمليًا عرف مواطن الضعف ومواطن القوة في الخلق العربي، وأدرك أن الإصلاحات الضرورية ينبغي أن تقدم إلى البدو الذين لا يعرفون انضباطًا وإلى المدنيين الوثنيين، وفي آن معًا، على نحو تدريجي. وفي الوقت نفسه كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يملك إيمانًا لا يلين بفكرة الإله الواحد، وعزمًا راسخًا على استئصال كل أثر من آثار عبادة الأصنام التي كانت سائدة بين الوثنيين العرب".
[ 3 ]
"كانت مهمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هائلة، كانت مهمة ليس في ميسور دجال تحدوه دوافع أنانية ـ وهو الوصف الذي رمى به بعض الكتاب الغربيين المبكرين الرسول العربي صلى الله عليه وسلم ـ أن يرجو النجاح في تحقيقها بمجهوده الشخصي، إن الإخلاص الذي تكشف عنه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أداء رسالته، وما كان لأتباعه من إيمان كامل في ما أنزل عليه من وحي، واختبار الأجيال والقرون، كل أولئك يجعل من غير المعقول اتهام محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأيّ ضرب من الخداع المتعمد.
ولم يعرف التاريخ قط أي تلفيق ـ ديني ـ متعمد استطاع أن يعمر طويلاً، والإسلام لم يعمر حتى الآن ما ينوف على ألف وثلاثمائة سنة وحسب، بل إنه لا يزال يكتسب ـ في كل عام ـ أتباعًا جددًا. وصفحات التاريخ لا تقدم إلينا مثلاً واحدًا على محتال كان لرسالته الفضل في خلق إمبراطورية من إمبراطوريات العالم وحضارة من أكثر الحضارات نبلاً".
[ 4 ]
"كانت مهمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي القضاء على النظام القبلي القوي الذي كان مسؤولاً عن اندلاع نار الحرب، على نحو موصول تقريبًا، بين العرب، والاستعاضة عنه بولاء لله يسمو على جميع الروابط الأسرية والأحقاد الصغيرة. كان عليه أن يعطي الناس قانونًا كليًا يستطيع حتى العرب المتمردون قبوله والإذعان له، وكان عليه أن يفرض الانضباط على مجتمع عاش على العنف القبلي والثأر الدموي لضروب من المظالم بعضها واقعي وبعضها متوهم. كان عليه أن يحلّ الإنسانية محل الوحشية، والنظام محل الفوضى، والعدالة محلة القوة الخالصة".
[ 5 ]
"عندما توفي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عام 632م كان في نجاح الإسلام ما زكى إيمان خديجة ـ رضي الله عنها ـ بالوحي الذي تلقاه زوجها، وكانت العقيدة التوحيدية الجديدة في سبيلها إلى القيام بفتح روحي ومادي لا يضارعه أي فتح في التاريخ البشري"(5).
لايتنر
[ 1 ]
"بقدر ما أعرف من دينيْ اليهود والنصارى أقول بأن ما علمه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس اقتباسًا بل قد أوحي إليه به، ولا ريب بذلك طالما نؤمن بأنه قد جاءنا وحي من لدن عزيز عليم. وإني بكل احترام وخشوع أقول: إذا كان تضحية الصالح الذاتي، وأمانة المقصد، وإيمان القلوب الثابت، والنظر الصادق الثاقب بدقائق وخفايا الخطيئة والضلال، واستعمال أحسن الوسائط لإزالتها، فذلك من العلامات الظاهرة الدالة على نبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه قد أوحي إليه".
[ 2 ]
"إن الديانة النصرانية التي ودّ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إعادتها لأصلها النقي كما بشر بها المسيح ـ عليه السلام ـ تخالف التعاليم السّرية التي أذاعها بولس والأغلاط الفظيعة التي أدخلها عليها شيع النصارى، ولقد كانت آمال محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمانيه أن لا تخصص بركة دين إبراهيم ـ عليه السلام ـ لقومه خاصة، بل تعم الناس جميعًا، ولقد صار دينه الواسطة لإرشاد وتمدن الملايين من البشر، ولولا هذا الدين للبثوا غرقى في التوحش والهمجية، ولما كان لهم هذا الإخاء المعمول به في دين الإسلام".
[ 3 ]
".. لما بلغ ـ صلى الله عليه وسلم ـ السنة الخامسة والعشرين من العمر تزوج امرأة عمرها أربعون عامًا، وهذه تشابه امرأة عمرها خمسون عامًا في أوربا، وهي أول من آمن برسالته المقدسة، وبقيت خديجة ـ رضي الله عنها ـ معه عشرين عامًا لم يتزوج عليها قط حتى ماتت ـ رضي الله عنها ـ. ولما بلغ من العمر خمسًا وخمسين سنة صار يتزوج الواحدة بعد الأخرى، لكن ليس من الاستقامة والصدق أن ننسب ما لا يليق لرجل عظيم صرف كل ذاك العمر بالطهارة والعفاف فلا ريب أن لزواجه بسن الكبر أسبابًا حقيقية غير التي يتشدق بها كتاب النصارى بهذا الخصوص، وما هي تلك الأسباب يا ترى؟ ولا ريب هي شفقته على نساء أصحابه الذين قتلوا...".
[ 4 ]
"... مرة، أوحى الله تعالى إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحيًا شديد المؤاخذة لأنه أدار وجهه عن رجل فقير أعمى ليخاطب رجلاً غنيًا من ذوي النفوذ، وقد نشر ذاك الوحي، فلو كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يقول أغبياء النصارى بحقه لما كان لذاك الوحي من وجود".
[ 5 ](5/21)
"... إني لأجهر برجائي بمجيء اليوم الذي به يحترم النصارى المسيح ـ عليه السلام ـ احترامًا عظيمًا وذلك باحترامهم محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولا ريب في أن المسيحي المعترف برسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبالحق الذي جاء به هو المسيحي الصادق".
26. ... سانتيلانا
سانتيلانا(1)
[ 1 ]
"ما كان من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أن تناول المجتمع العربي هدمًا من أصوله وجذوره وشاد صرحًا اجتماعيًا جديدًا.. هذا العمل الباهر لم تخطئه عين (ابن خلدون) النفاذة الثاقبة. إن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هدم شكل القبيلة والأسرة المعروفين آنذاك، ومحا منه الشخصية الفردية Gentes والموالاة والجماعات المتحالفة. من يعتنق دين الإسلام عليه أن ينشئ روابطه كلها ومنها رابطة قرباه وأسرته، إلا إذا كانوا يعتنقون دينه ـإخوته في الإيمان ـ. فما داموا هم على دينهم القديم فإنه يقول لهم كما قال إبراهيم ـ عليه السلام ـ لأهله: "لقد تقطعت بيننا الأسباب.."(2).
[ 2 ]
"كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسول الله إلى الشعوب الأخرى، كما كان رسول الله إلى العرب"(3).
---------------------------
(1) دافيد دي سانتيلانا (1845 ـ 1931) David de Santillana: ولد في تونس، ودرس في روما، أحرز الدكتوراه في القانون، فدعاه المقيم العام الفرنسي في تونس لدراسة وتدوين القوانين التونسية، فوضع القانونين المدني والتجاري معتمدًا بذلك على قواعد الشريعة الإسلامية ومنسقًا إياهما بحسب القوانين الأوروبية. كان على معرفة واسعة بالمذهبين المالكي والشافعي، وفي سنة 1910 عين أستاذًا لتاريخ الفلسفة في الجامعة المصرية، وله محاضرات قيمة فيها، ثم استدعته جامعة روما لتدريس التاريخ الإسلامي.
من آثاره: "ترجمة وشرح الأحكام المالكية"، كتاب "الفقه الإسلامي ومقارنته بالمذهب الشافعي"...إلخ.
(2) تراث الإسلام، إشراف سير توماس آرنولد، ص405، 406.
(3) نفسه، ص 406.
27. ... عبد الله لويليام
عبد الله لويليام
[ 1 ]
"كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أعظم ما يكون من كريم الطباع وشريف الأخلاق ومنتهى الحياء وشدة الإحساس، وكان حائزًا لقوة إدراك عجيبة وذكاء مفرط وعواطف رقيقة شريفة، وكان على خلق عظيم وشيم مرضية مطبوعًا على الإحساس.."(1).
[ 2 ]
"... إن بعض كتاب هذا العصر الحاضر كادوا أن يعرفوا بأن الطعن والقدح والشتم والسب ليس بالحجة ولا البرهان فسلموا بذكر كثير من صفات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السامية وجليل أعماله الفاخرة.."(2).
[ 3 ]
"... ما اهتدى مئات الملايين إلى الإسلام إلا ببركة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي علمهم الركوع والسجود لله وأبقى لهم دستورًا لن يضلوا بعده أبدًا وهو القرآن الجامع لمصالح دنياهم ولخير أخراهم.."(3).
[ 4 ]
"لما شرف محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ساحة عالم الشهود بوجوده الذي هو الواسطة العظمى والوسيلة الكبرى إلى اعتلاء النوع الإنساني وترقيه في درجات المدنية أكمل ما يحتاجه البشر من اللوازم الضرورية على نهج مشروع وأوصل الخلق إلى أقصى مراتب السعادة بسرعة خارقة. ومن نظر بعين البصيرة في حال الأنام قبله عليه الصلاة والسلام وما كانوا عليه من الضلالة، ونظر في حالهم بعد ذلك وما حصل لهم في عصره من الترقّي العظيم رأى بين الحالين فرقًا عظيمًا كما بين الثريا والثرى"(4).
[ 5 ]
"... امتدت أنوار المدنية بعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قليل من الزمان ساطعة في أقطار الأرض من المشرق إلى المغرب حتى إن وصول أتباعه في ذلك الزمن اليسير إلى تلك المرتبة العلية من المدنية قد حيّر عقول أولي الألباب؛ وما السبب في ذلك إلا كون أوامره ونواهيه موافقة لموجب العقل ومطابقة لمقتضى الحكمة"(5).
-----------------
(1) العقيدة الإسلامية، ص96 – 97.
(2) نفسه ، ص 113 – 114.
(3) نفسه، ص 38 عن لوزون في خطبته المذكورة .
(4) أحسن الأجوبة عن سؤال أحد علماء أوروبا، ص21، 22.
(5) نفسه، ص22، 23.
28. ... غاندي
يقول "مهاتما غاندي" في حديث لجريدة "ينج إنديا": "أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر، لقد أصبحت مقتنعاً كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته؛ بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول، مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته. هذه الصفات هي التي مهدت الطريق، وتخطت المصاعب وليس السيف. بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي أسِفاً لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة".
30. ... غوستاف لوبون
[ 1 ](5/22)
"جمع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل وفاته كلمة العرب، وبنى منهم أمة واحدة خاضعة لدين واحد مطيعة لزعيم واحد، فكانت في ذلك آيته الكبرى. ومما لا ريب فيه أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام، ومنها اليهودية والنصرانية ولذلك كان فضله على العرب عظيمًا.."(1).
[ 2 ]
"إذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أعظم من عرفهم التاريخ، وقد أخذ علماء الغرب ينصفون محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أن التعصب الديني أعمى بصائر مؤرخين كثيرين عن الاعتراف بفضله.."(2).
[ 3 ]
"استطاع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يبدع مثلاً عاليًا قويًا للشعوب العربية التي لا عهد لها بالمثل العليا، وفي ذلك الإبداع تتجلى عظمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الخصوص.. ولم يتردد أتباعه في التضحية بأنفسهم في سبيل هذا المثل الأعلى.."(3).
[ 4 ]
"... لا شيء أصوب من جمع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لجميع السلطات المدنية والحربية والدينية في يد واحدة أيام كانت جزيرة العرب مجزأة ما استطعنا أن نقدر قيمة ذلك بنتائجه، فقد فتح العرب العالم في قرن واحد بعد أن كانوا قبائل من أشباه البرابرة المتحاربين قبل ظهور محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ"(4).
------------
(1) دين الإسلام، ص16.
(2) حضارة العرب، ص115.
(3) نفسه، ص116.
(4) نفسه، ص393، 394.
31. ... لوقا
لوقا(1)
[ 1 ]
".. ما كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كآحاد الناس في خلاله ومزاياه، وهو الذي اجتمعت له آلاء الرسل ـ عليهم السلام ـ، وهمة البطل، فكان حقًا على المنصف أن يكرم فيه المثل، ويحيّي فيه الرجل"(2).
[ 2 ]
"لا تأليه ولا شبهة تأليه في معنى النبوة الإسلامية، وقد درجت شعوب الأرض على تأليه الملوك والأبطال والأجداد، فكان الرسل أيضًا معرضين لمثل ذلك الربط بينهم وبين الألوهية بسبب من الأسباب، فما أقرب الناس لو تركوا لأنفسهم أن يعتقدوا في الرسول أو النبي أنه ليس بشرًا كسائر البشر وأن له صفة من صفات الألوهية على نحو من الأنحاء. ولذا نجد توكيد هذا التنبيه متواترًا مكررًا في آيات القرآن، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]، وفي تخير كلمة (مثلكم) معنى مقصود به التسوية المطلقة، والحيلولة دون الارتفاع بفكرة النبوة أو الرسالة فوق مستوى البشرية بحال من الأحوال. بل نجد ما هو أصرح من هذا المعنى فيما جاء بسورة الشورى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} [الشورى: 48]، وظاهر في هذه الآية تعمد تنبيه الرسول نفسه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى حقيقة مهمته، وحدود رسالته التي كلف بها، وليس له أن يعدوها، كما أنه ليس للناس أن يرفعوه فوقها"(3).
[ 3 ]
"... رجل فرد هو لسان السماء، فوقه الله لا سواه، ومن تحته سائر عباد الله من المؤمنين، ولكن هذا الرجل يأبى أن يداخله من ذلك كبر؛ بل يشفق، بل يفرق من ذلك ويحشد نفسه كلها لحرب الزهو في سريرته، قبل أن يحاربه في سرائر تابعيه. ولو أن هذا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما أنعم من الهداية على الناس وما تم له من العزة والأيادي، وما استقام له من السلطان، اعتد بذلك كله واعتزّ، لما كان عليه جناح من أحد؛ لأنه إنما يعتد بقيمة ماثلة، ويعتز بمزية طائلة. يطريه أصحابه بالحق الذي يعلمون عنه، فيقول لهم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا عبد الله ورسوله". ويخرج على جماعة من أصحابه فينهضون تعظيمًا له، فينهاهم عن ذلك قائلاً: "لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضًا"(4).
[ 4 ]
"ماذا بقي من مزعم لزاعم؟ إيمان امتحنه البلاء طويلاً قبل أن يفاء عليه بالنصر وما كان النصر متوقعًا أو شبه متوقع لذلك الداعي إلى الله في عاصمة الأوثان والأزلام.. ونزاهة ترتفع فوق المنافع، وسمو يتعفف عن بهارج الحياة، وسماحة لا يداخلها زهو أو استطالة بسلطان مطاع. لم يفد. ولم يورث آله، ولم يجعل لذريته وعشيرته ميزة من ميزات الدنيا ونعيمها وسلطانها. وحرم على نفسه ما أحلّ لآحاد الناس من أتباعه، وألغى ما كان لقبيلته من تقدم على الناس في الجاهلية حتى جعل العبدان والأحابيش سواسية وملوك قريش. لم يمكن لنفسه ولا لذويه. وكانت لذويه بحكم الجاهلية صدارة غير مدفوعة، فسوّى ذلك كله بالأرض أي قولة بعد هذا تنهض على قدمين لتطاول هذا المجد الشاهق أو تدافع هذا الصدق الصادق؟ لا خيرة في الأمر، ما نطق هذا الرسول عن الهوى.. وما ضلّ وما غوى.. وما صدق بشر إن لم يكن هذا الرسول بالصادق الأمين.."(5).
[ 5 ](5/23)
"أي الناس أولى بنفي الكيد عن سيرته من "أبي القاسم" ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي حول الملايين من عبادة الأصنام الموبقة إلى عبادة الله رب العالمين، ومن الضياع والانحلال إلى السموّ والإيمان، ولم يفد من جهاده لشخصه أو آله شيئًا مما يقتتل عليه طلاب الدنيا من زخارف الحطام؟"(6).
[ 6 ]
"كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يملك حيويته ولا تملكه حيويته. ويستخدم وظائفه ولا تستخدمه وظائفه. فهي قوة له تحسب في مزاياه، وليست ضعفًا يعد في نقائصه. لم يكن ـ صلى الله عليه وسلم ـ معطل النوازع ولكنها لم تكن نوازع تعصف به، لأنه يسخرها في كيانه في المستوى الذي يكرم به الإنسان حين يطلب ما هو جميل وجليل في الصورة الجميلة الجليلة التي لا تهدر من قدره بل تضاعف من تساميه وعفته وطهره. وبيان ذلك في أمر بنائه بزوجاته التسع ـ رضي الله عنهن ـ..."(7).
--------------
(1) د. نظمي لوقا Dr. N. Luka: مسيحي من مصر، يتميز بنظرته الموضوعية وإخلاصه العميق للحق. ورغم إلحاح أبويه على تنشئته على المسيحية منذ كان صبيًا، فإنه كثيرًا ما كان يحضر مجالس شيوخ المسلمين ويستمع بشغف إلى كتاب الله وسيرة الرسول عليه السلام، بل إنه حفظ القرآن الكريم ولم يتجاوز العاشرة من عمره، ألف عددًا من الكتب أبرزها "محمد الرسالة والرسول"، و"محمد في حياته الخاصة".
(2) محمد الرسالة والرسول، ص28.
(3) محمد الرسالة والرسول، ص85، 86.
(4) نفسه، ص179، 180.
(5) نفسه، ص183 – 186.
(6) محمد في حياته الخاصة، ص12.
(7) نفسه، ص39، 40. ويمكن للقارئ أن يرجع للكتاب نفسه "محمد في حياته الخاصة"، فهو بمجمله يمكن أن يعدّ شهادة قيّمة على حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ العائلية الخاصة.
32. ... فيليب حتي
فيليب حتي
[ 1 ]
"إن اللغة العربية هي لغة القرآن التي كانت الأساس الذي قامت عليه أمة جديدة أخرجت للناس، أمة جاءت بها بعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قبائل متنافرة متنازعة لم يقدّر لها من قبل أن تجتمع على رأي واحد. وهكذا استطاع رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يضيف حدًا جديدًا ـ رابعًا ـ إلى المأثرة الحضارية ذات الحدود الثلاثة من الدين والدولة والثقافة، ذلك الحد الرابع الجديد كان "إيجاد أمة ذات لغة فوق اللغات"..."(1).
[ 2 ]
"إن إقامة الأخوة في الإسلام مكان العصبية الجاهلية ـ القائمة على الدم والقرابة ـ للبناء الاجتماعي كان في الحقيقة عملاً جريئًا جديدًا قام به النبي العربي ـ صلى الله عليه وسلم ـ..."(2).
[ 3 ]
"في الكتاب المعاصرين لنا نفرٌ يحاولون أن يكتشفوا الأعمال الباهرة التي حققها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أو أن يعالجوا حياته الزوجية على أساس من التحليل النفسي، فلا يزيدون على أن يضيفوا إلى أوجه التحامل وإلى الآراء الهوائية أحكامًا من زيف العلم..."(3).
[ 4 ]
"صفات محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثبتة في القرآن بدقة بالغة فوق ما نجد في كل مصدر آخر. إن المعارك التي خاضها والأحكام التي أبرمها والأعمال التي قام بها لا تترك مجالاً للريب في الشخصية القوية والإيمان الوطيد والإخلاص البالغ وغير ذلك من الصفات التي خلقت الرجال القادة في التاريخ. ومع أنه كان في دور من أدوار حياته يتيمًا فقيرًا، فقد كان في قلبه دائمًا سعة لمؤاساة المحرومين في الحياة"(4).
[ 5 ]
"إذا نحن نظرنا إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خلال الأعمال التي حققها، فإن محمدًا الرجل والمعلم والخطيب ورجل الدولة والمجاهد يبدو لنا بكل وضوح واحدًا من أقدر الرجال في جميع أحقاب التاريخ. لقد نشر دينًا هو الإسلام، وأسس دولة هي الخلافة، ووضع أساس حضارة هي الحضارة العربية الإسلامية، وأقام أمة هي الأمة العربية. وهو لا يزال إلى اليوم قوة حية فعالة في حياة الملايين من البشر"(5).
-----------------
(1) الإسلام منهج حياة، ص19، 20.
(2) نفسه، ص51.
(3) نفسه، ص54.
(4) نفسه، ص54.
(5) نفسه، ص56.
33. ... كارلايل
كارلايل(1)
[ 1 ]
"... هل رأيتم قط أن رجلاً كاذبًا يستطيع أن يوجد دينًا عجبًا، إنه لا يقدر أن يبني بيتًا من الطوب! فهو إذًا لم يكن عليمًا بخصائص الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك فما ذلك الذي يبنيه ببيت وإنما هو تل من الأنقاض وكثيب من أخلاط المواد، وليس جديرًا أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرنًا يسكنه مائتا مليون من الأنفس، ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم فكأنه لم يكن. وإني لأعلم أن على المرء أن يسير في جميع أموره طبق قوانين الطبيعة وإلا أبت أن تجيب طلبته.. كذب ما يذيعه أولئك الكفار وإن زخرفوه حتى تخيّلوه حقًا.. ومحنة أن ينخدع الناس شعوبًا وأممًا بهذه الأضاليل.."(2).
[ 2 ](5/24)
"... إن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يتلق دروسًا على أستاذ أبدًا، وكانت صناعة الخطّ حديثة العهد آنذاك في بلاد العرب، ويظهر لي أن الحقيقة هي أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن يعرف الخط والقراءة، وكل ما تعلم هو عيشة الصحراء وأحوالها وكل ما وفق إلى معرفته هو ما أمكنه أن يشاهده بعينيه ويتلقى بفؤاده من هذا الكون العديم النهاية. إنه لم يعرف من العالم ولا من علومه إلا ما تيسّر له أن يبصره بنفسه أو يصل إلى سمعه في ظلمات صحراء العرب، ولم يضره أنه لم يعرف علوم العالم لا قديمها ولا حديثها؛ لأنه كان بنفسه غنيًا عن كل ذلك. ولم يقتبس محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نور أي إنسان آخر، ولم يغترف من مناهل غيره، ولم يك في جميع أشباهه من الأنبياء والعظماء ـ أولئك الذين أشبههم بالمصابيح الهادية في ظلمات الدهور ـ من كان بين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبينه أدنى صلة وإنما نشأ وعاش وحده في أحشاء الصحراء بين الطبيعة وبين أفكاره"(3).
[ 3 ]
"لوحظ على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ صباه، أنه كان شابًا مفكرًا وقد سمّاه رفقاؤه الأمين ـ رجل الصدق والوفاء ـ؛ الصدق في أفعاله وأقواله وأفكاره. وقد لاحظوا أنه ما من كلمة تخرج من فيه إلا وفيها حكمة بليغة. وإني لأعرف عنه أنه كان كثير الصمت يسكت حيث لا موجب للكلام، فإذا نطق فما شئت من لبّ. وقد رأيناه طول حياته رجلاً راسخ المبدأ صارم العزم بعيد الهم كريمًا برًّا رءوفًا تقيًا فاضلاً حرًا، رجلاً شديد الجدّ مخلصًا، وهو مع ذلك سهل الجانب لين العريكة، جمّ البشر والطلاقة حميد العشرة حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب، وكان على العموم تضيء وجهه ابتسامة مشرقة من فؤاد صادق. وكان ذكي اللب، شهم الفؤاد، عظيمًا بفطرته، لم تثقفه مدرسة ولا هذبه معلم وهو غني عن ذلك، فأدى عمله في الحياة وحده في أعماق الصحراء"(4).
[ 4 ]
"... ومما يبطل دعوى القائلين أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن صادقًا في رسالته، أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة ـ مع خديجة رضي الله عنها ـ لم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوي، مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطة، ولم يكن إلا بعد أن ذهب الشباب وأقبل المشيب أن فار بصدره ذلك البركان الذي كان هاجعًا وثار يريد أمرًا جليلاً وشأنًا عظيمًا"(5).
[ 5 ]
"... لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابن القفار والفوات العظيم النفس، المملوء رحمة وخيرًا وحنانًا وبرًا وحكمة وحجى ونهى، أفكار غير الطمع الدنيوي، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه. وكيف وتلك نفس صامتة كبيرة ورجل من الذين لا يمكنهم إلا أن يكونوا مخلصين جادين؟ فبينما نرى آخرين يرضون بالاصطلاحات الكاذبة ويسيرون طبق اعتبارات باطلة، إذ ترى محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يرض أن يلتفع بالأكاذيب والأباطيل. لقد كان منفردًا بنفسه العظيمة وبحقائق الأمور والكائنات، لقد كان سرّ الوجود يسطع لعينيه بأهواله ومخاوفه ومباهره، ولم يكن هنالك من الأباطيل ما يحجب ذلك عنه، فكأنه لسان حال ذلك السرّ يناجيه: ها أنا ذا، فمثل هذا الإخلاص لا يخلو من معنى إلهي مقدس، وما كلمة مثل هذا الرجل إلا صوت خارج من صميم قلب الطبيعة، فإذا تكلم فكل الآذان برغمها صاغية وكل القلوب واعية. وكل كلام ما عدا ذلك هباء وكل قول جفاء.."(6).
[ 6 ]
"إني لأحب محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبراءة طبعه من الرأي والتصنّع. ولقد كان ابن القفار هذا رجلاً مستقل الرأي لا يعول إلا على نفسه ولا يدعي ما ليس فيه ولم يكن متكبرًا ولكنه لم يكن ذليلاً، فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله وكما أراده، يخاطب بقوله الحرّ المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة. وكان يعرف لنفسه قدرها، وكان رجلاً ماضي العزم لا يؤخر عمل اليوم إلى غد.."(7).
---------------
(1) توماس كارلايل (1795 ـ 1881) Th. Carlyle: الكاتب الإنجليزي المعروف.
من آثاره: "الأبطال" 1940م، وقد عقد فيه فصلاً رائعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، "الثورة الفرنسية"، ...إلخ.
(2) الأبطال، ص43.
(3) نفسه، ص5.
(4) نفسه، ص50، 51.
(5) نفسه، ص51.
(6) نفسه، ص51، 52.
(7) نفسه، ص64.
34. ... كلود كاهن
كاهن(1)
[ 1 ]
"اصطبغت شخصية محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصبغة تاريخية قد لا تجدها عند أي مؤسس آخر من مؤسسي الديانات الكبرى"(2).
[ 2 ](5/25)
"يبدو للمؤرخ المنصف أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في عداد الشخصيات النبيلة السامية التي سعت في كثير من الحماس والإخلاص إلى النهوض بالبيئة التي عاش فيها أخلاقيًا وفكريًا، كما استطاع في الوقت نفسه أن يكيف رسالته حسب طباع الناس وتقاليدهم بمزيد من الفهم والتنظيم بحيث كفل البقاء والخلود للرسالة التي بشر بها. وحتم علينا أن نلقى محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعواطف الإجلال والاحترام لما تحلى به من سمو الإلهام ومن قدرة على تذليل العقبات الإنسانية عامة والتغلب على مصاعبه الشخصية خاصة. وربما أثارت فينا بعض جوانب حياته شيئًا من الارتباك تبعًا لعقليتنا المعاصرة. فقد أكدت المهاترات على شهوات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدنيوية وألمحت إلى زوجاته التسع اللائي اتخذهن بعد وفاة خديجة ـ رضي الله عنه ـ. لكن الثابت أن معظم هذه الصلات الزوجية قد طبعت بطابع سياسي، وأنها استهدفت الحصول على ولاء بعض الأشراف وبعض الأفخاذ، ثم إن العقلية العربية تقرّ الإنسان إذا استخدم طبيعته على نحو ما خلقها الله"(3).
[ 3 ]
"... الحق أننا نتجاوز النقد العلمي الصحيح إذا نحن أنكرنا على كل حديث صحته أو قدمه، ولقد باشر العلماء بمثل هذا التمحيص منذ عهد بعيد فوجدوا أن التحريف أو التلفيق قد لا يعمّان على نسق واحد واستندوا في ذلك إلى بعض الأحاديث التي يمكن اعتبارها سابقة أو حجة يعتد بها. بمعنى أن الموقف النقدي مفروض على الباحث المنصف. وفقهاء المسلمين أنفسهم هم قدوة لنا في هذا المضمار لأنهم ـ على طريقتهم ـ قد التزموا بذلك الموقف منذ العصر الوسيط"(4).
--------------
(1) كلود كاهن Cl. Cahen: ولد عام 1909، وتخرج باللغات الشرقية من السوربون ومدرسة اللغات الشرقية ومدرسة المعلمين العليا، وعين محاضرًا في مدرسة اللغات الشرقية في باريس 1938م، وأستاذًا لتاريخ الإسلام في كلية الآداب بجامعة ستراسبورغ 1945م، وفي جامعة باريس.
من آثاره: عدد كبير من الدراسات والأبحاث في المجلات الشهيرة، وحقق العديد من النصوص التاريخية المهمة، كما أنجز عددًا من المؤلفات عن الحروب الصليبية.
(2) تاريخ العرب والشعوب الإسلامية (1/ 14).
(3) نفسه (1/ 18).
(4) نفسه (1/ 95).
35. ... هاملتون كب
هاملتون كب
[ 1 ]
"... اقتضى الأمر نشوء علم جديد غايته جمع الحديث ونقده وتصنيفه وتنسيقه والحصول في النهاية ـ بقدر الإمكان ـ على مجموعة متفق عليها يتقبلها الجميع. وقد استأثرت هذه المهمة بالكثير من طاقات الفقهاء والعلماء في القرن الثالث، ولكن القائمين عليها أحرزوا نجاحًا حتى أصبح حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعتبر مرجعًا ثانيًا معتمدًا للفقه والعقيدة"(1).
[ 2 ]
"... يكاد يكون من المؤكد أن الآراء التي تعبر عنها الأحاديث ـ التي تم جمعها في القرن الثالث ـ تمثل تعاليم القرآن ومبادئه الخلقية تمثيلاً صادقًا"(2).
[ 3 ]
"إن بدايات التاريخ العلمي بالعربية تقترن بدراسة سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودراسة أعماله، وعليه فإننا نجد مصدر هذه الدراسة في جمع الحديث النبوي وبخاصة الأحاديث المتعلقة بمغازي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكان موطن هذه الدراسة هو المدنية، ويفسر لنا ارتباط المغازي بالحديث، هذا الارتباط الذي ترك طابعًا لا يمحى في المنهج التاريخي باستخدام هذا المنهج للإسناد، ما طرأ من تغير هائل ظهر منذ هذه اللحظة في طبيعة الأخبار التاريخية عند العرب، ودقتها المؤسسة على النقد. ويمكننا أن نشعر لأول مرة بأننا نستند إلى أساس تاريخي قويم حتى وإن اعترفنا بوجود بعض العناصر المشكوك فيها في أخبار الفترتين، المدنية والمكية، من حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ"(3).
[ 4 ]
"ومهما نقل في قوة النزعة الإسلامية نحو محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي آثارها فإنا لا نوصف بالغلو. فقد كان إجلال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شعورًا طبيعيًا محتومًا في عصره وفيما بعده، غير أن ما نومئ إليه شيء يتجاوز الإجلال. فإن العلاقات الشخصية من الإعجاب والحب اللذين بعثهما في نفوس صحابته ظل صداها يتردد خلال القرآن، والفضل في ذلك يعود إلى الوسائل التي أقرّتها الأمة لتستثير بهما مجددين في كل جيل"(4).
[ 5 ](5/26)
".. لولا الحديث لأصبح لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أقل تقدير صورة معممة ـ إن لم نقل بعيدة ـ في أصولها التاريخية والدينية. أما الحديث فقد صور وجوده الإنساني في مجموعة وفيرة من التفصيلات الحية المحسوسة، وبذلك قدم للمسلمين حين ربط بين المسلمين وبين نبيهم بنفسه الروابط الذاتية الوثيقة التي كانت تصله بأصحابه الأولين، وهي روابط نمت على مر القرون وكانت أقوى من أن تصاب بالضعف. ولم يصبح شخص محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبدًا ذا صبغة مرسومة مقررة، ويكاد لا يكون من الغلو أن نقول إن حرارة ذلك الشعور الشخصي نحو الرسول الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت أبدًا أقوى عنصر حيوي في دين الجماهير الإسلامية أو كانت كذلك بين أهل السنة، على الأقل"(5).
"... ما تزال الاحتفالات العائلية تختم بأدعية وأناشيد في تمجيد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكل الأمة تراعيها وتشهدها بحماسة في ذلك اليوم المجيد، يوم مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الثاني عشر من شهر ربيع الأول. هنالك ترى المجددين والمقلدين والصوفية والسلفية والعلماء وأفراد الجمهور يلتقون جميعًا معًا على بقعة واحدة، وقد يكون بين نزعاتهم العقلية تنوع واسع متباين، ولكنهم جميعًا وحدة متآلفة في إخلاصهم وحبهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ"(6).
--------------
(1) دراسات في حضارة الإسلام، ص20.
(2) نفسه، ص21.
(3) نفسه، ص147.
(4) نفسه، ص257.
(5) نفسه، ص257، 258.
(6) نفسه، ص259.
36. ... لورافيشيا فاغليري
لورافيشيا فاغليري
[ 1 ]
"... كانت حملة كبيرة على سوريا رهن الإعداد، عندما أسكت الموت إلى الأبد صوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان قد أحدث هذه الهزة العميقة في تلك القلوب كلها، والذي كان مقدرًا له أن يستهوي عما قريب شعوبًا أخرى تقيم في مواطن أكثر إمعانًا في البعد. وكان في السنة الحادية عشرة من الهجرة"(1).
[ 2 ]
"كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ المتمسك دائمًا بالمبادئ الإلهية شديد التسامح، وبخاصة نحو أتباع الأديان الموحدة. لقد عرف كيف يتذرع بالصبر مع الوثنيين، مصطنعًا الأناة دائمًا اعتقادًا منه بأن الزمن سوف يتم عمله الهادف إلى هدايتهم وإخراجهم من الظلام إلى النور.. لقد عرف جيدًا أن الله لابد أن يدخل آخر الأمر إلى القلب البشري"(2).
[ 3 ]
"حاول أقوى أعداء الإسلام، وقد أعماهم الحقد، أن يرموا نبي الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ببعض التهم المفتراة، لقد نسوا أن محمدًا كان قبل أن يستهل رسالته موضع الإجلال العظيم من مواطنيه بسبب أمانته وطهارة حياته. ومن عجب أن هؤلاء الناس لا يجشمون أنفسهم عناء التساؤل كيف جاز أن يقوى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تهديد الكاذبين والمرائين، في بعض آيات القرآن اللاسعة بنار الجحيم الأبدية، لو كان هو قبل ذلك ـ وحاشاه ـ رجلاً كاذبًا؟ كيف جرؤ على التبشير، على الرغم من إهانات مواطنيه، إذا لم يكن ثمة قوى داخلية تحثه، وهو الرجل ذو الفطرة البسيطة، حثًا موصولاً؟ كيف استطاع أن يستهل صراعًا كان يبدو يائسًا؟ كيف وفق إلى أن يواصل هذا الصراع أكثر من عشر سنوات، في مكة، في نجاح قليل جدًا، وفي أحزان لا تحصى، إذا لم يكن مؤمنًا إيمانًا عميقًا بصدق رسالته؟ كيف جاز أن يؤمن به هذا العدد الكبير من المسلمين النبلاء والأذكياء، وأن يؤازروه، ويدخلوا في الدين الجديد ويشدوا أنفسهم بالتالي إلى مجتمع مؤلف في كثرته من الأرقاء، والعتقاء، والفقراء المعدمين إذا لم يلمسوا في كلمته حرارة الصدق ؟ ولسنا في حاجة إلى أن نقول أكثر من ذلك، فحتى بين الغربيين يكاد ينعقد الإجماع على أن صدق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان عميقًا وأكيدًا"(3).
[ 4 ]
"دعا الرسول العربي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصوت ملهم باتصال عميق بربه، دعا عبدة الأوثان وأتباع نصرانية ويهودية محرّفتين على أصفى عقيدة توحيدية، وارتضى أن يخوض صراعًا مكشوفًا مع بعض نزعات البشر الرجعية التي تقود المرء إلى أن يشرك بالخالق آلهة أخرى..."(4).
[ 5 ](5/27)
"... إن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ طوال سنين الشباب التي تكون فيها الغريزة الجنسية أقوى ما تكون، وعلى الرغم من أنه عاش في مجتمع كمجتمع العرب، حيث كان الزواج، كمؤسسة اجتماعية، مفقودًا أو يكاد، وحيث كان تعدد الزوجات هو القاعدة، وحيث كان الطلاق سهلاً إلى أبعد الحدود، لم يتزوج إلا من امرأة واحدة ليس غير، هي خديجة [رضي الله عنها] التي كانت سنّها أعلى من سنّه بكثير، وأنه ظل طوال خمس وعشرين سنة زوجها المخلص المحب، ولم يتزوج كرة ثانية، وأكثر من مرة، إلا بعد أن توفيت خديجة، وإلا بعد أن بلغ الخمسين من عمره. لقد كان لكل زواج من زواجاته هذه سبب اجتماعي أو سياسي، ذلك بأنه قصد من خلال النسوة اللاتي تزوجهن إلى تكريم النسوة المتصفات بالتقوى، أو إلى إنشاء علاقات زوجية مع بعض العشائر والقبائل الأخرى ابتغاء طريق جديد لانتشار الإسلام وباستثناء عائشة ـ رضي الله عنها ـ، ليس غير، تزوج محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نسوة لم يكنّ لا عذارى، ولا شابات، ولا جميلات، فهل كان ذلك شهوانية؟ لقد كان رجلاً لا إلهًا. وقد تكون الرغبة في الولد هي التي دفعته أيضًا إلى الزواج من جديد؛ لأن الأولاد الذين أنجبتهم خديجة ـ رضي الله عنها ـ له كانوا قد ماتوا. ومن غير أن تكون له موارد كثيرة أخذ على عاتقه النهوض بأعباء أسرة ضخمة، ولكنه التزم دائمًا سبيل المساواة الكاملة نحوهن جميعًا، ولم يلجأ قط إلى اصطناع حق التفاوت مع أي منهن. لقد تصرف متأسّيًا بسنة الأنبياء القدامى ـ عليهم السلام ـ، مثل موسى وغيره، الذين لا يبدو أن أحدًا من الناس يعترض على زواجهم المتعدد. فهل يكون مرد ذلك إلى أننا نجهل تفاصيل حياتهم اليومية، على حين نعرف كل شيء عن حياة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ العائلية؟"(5).
--------------
(1) نفسه، ص33.
(2) نفسه، ص73.
(3) نفسه، ص37، 38.
(4) نفسه، ص43.
(5) نفسه، ص99، 100.
37. ... لويس سيديو
[ 1 ]
"لقد حلّ الوقت الذي توجه فيه الأنظار إلى تاريخ تلك الأمة التي كانت مجهولة الأمر في زاوية من آسية فارتقت إلى أعلى مقام فطبق اسمها آفاق الدنيا مدة سبعة قرون، ومصدر هذه المعجزة هو رجل واحد، هو محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ.."(1).
[ 2 ]
"... لم يعد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه غير خاتم لأنبياء الله ـ عليهم السلام ـ وهو قد أعلن أن عيسى ابن مريم كان ذا موهبة في الاتيان بالمعجزات، مع أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يعط مثل هذه الموهبة، وما أكثر ما كان يعترض محتجًا على بعض ما يعزوه إليه أشد أتباعه حماسة من الأعمال الخارقة للعادة!"(2).
[ 3 ]
"... إن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أثبت خلود الروح وهو مبدأ من أقوم مبادئ الأخلاق. ومن مفاخر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أظهره قويًا أكثر مما أظهره أي مشرّع آخر.."(3).
[ 4 ]
"... ما أكثر ما عرض محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حياته للخطر انتصارًا لدعوته في عهده الأول بمكة، وهو لم ينفك عن القتال في واقعة أحد حتى بعد أن جرح جبينه وخده وسقطت ثنيتاه، وهو قد أوجب النصر بصوته ومثاله في معركة حنين، ومن الحق أن عرف العالم كيف يحيي قوة إرادته ومتانة خلقه وبساطته، ومن يجهل أنه لم يعدل ـ إلى آخر عمره ـ عما يفرضه فقر البادية على سكانها من طراز حياة وشظف عيش؟ وهو لم ينتحل أوضاع الأمراء قط مع ما ناله من غنى وجاه عريض. وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ حليمًا معتدلاً، وكان يأتي بالفقراء إلى بيته ليقاسمهم طعامه، وكان يستقبل بلطف ورفق جميع من يودّون سؤاله، فيسحر كلماؤه بما يعلو وجهه الرزين الزاهر من البشاشة، وكان لا يضج من طول الحديث، وكان لا يتكلم إلا قليلاً فلا ينمّ ما يقول على كبرياء أو استعلاء، وكان يوحي في كل مرة باحترام القوم له. ودلّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أنه سياسي محنّك..."(4).
[ 5 ]
"بدت في بلاد العرب أيام محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حركة غير مألوفة من قبل، فقد خضعت لسلطان واحد قبائل العرب الغيرى على استقلالها والفخورة بحياتها الفردية، وانضم بعض هذه القبائل إلى بعض فتألفت أمة واحدة"(5).
----------------
(1) قصة الحضارة (13/ 21، 22).
(2) نفسه (13/ 38).
(3) نفسه (13/ 47).
(4) نفسه (13/ 59).
(5) نفسه (13/ 167).
38. ... هنري سيروي
هنري سيروي
[ 1 ]
"ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يغرس في نفوس الأعراب مبدأ التوحيد فقط، بل غرس فيها أيضًا المدنية والأدب"(1).
[ 2 ](5/28)
"محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ شخصية تاريخية حقة، فلولاه ما استطاع الإسلام أن يمتد ويزداد، ولم يتوان في ترديد أنه بشر مثل الآخرين مآله الموت، وبأنه يطلب العفو والمغفرة من الله عز وجل. وقبل مماته أراد أن يظهر ضميره من كل هفوة أتاها فوقف على المنبر مخاطبًا: "أيها المسلمون، إذا كنت قد ضربت أحدًا فهاكم ظهري ليأخذ ثأره، أو سلبته مالاً فمالي ملكه". فوقف رجل معلنًا أنه يدينه بثلاثة دراهم، فردّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلاً: "أن يشعر الإنسان بالخجل في دنياه خيرٌ من آخرته". ودفع للرجل دينه في التو. وهذا التذوق والإحساس البالغ لفهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لدوره كنبي يرينا بأن "رينان" كان على غير حق في نعته العرب قبل الإسلام بأنها أمة كانت تحيا بين براثين الجهل والخرافات..."(2).
[ 3 ]
"إن المحاولة الإسلامية في التاريخ ذات أثر كبير، والعبقرية العربية تجد في محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ منشئًا لحضارة التوحيد التي تعتبر ذات أهمية كبيرة، إذا فكرنا في القيمة الفلسفية للتوحيد، وفي تفوقها الكبير الذي جعل كل الشعوب الآرية تمارس أفكار تلكم الفلسفة. وهذه الثروة الروحية الغزيرة في الأمة العربية، راجعة إلى الغريزة النبوية والتي تعد واضحة لدى الشعوب السامية، فاليهود الذين يستطيعون الفخر بأنبيائهم الكبار، يقرون بأن روح النبوة قد اختفت لديهم بعد هدم معبدهم الثاني، وهذا ما يفسر بمعنى أكيد العداوة العنيفة والكثيرة التكرار في القرآن بالنسبة إليهم"(3).
[ 4 ]
"... إن الحضارة الفكرية الذهنية الحقيقية لم تظهر وتوجد ـ لدى العرب ـ إلا لدى وصول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ"(4).
------------------
(1) فلسفة الفكر الإسلامي، ص8.
(2) نفسه، ص17.
(3) نفسه، ص31.
(4) دفاع عن الإسلام، ص24.
39. ... ليوبولد فايس
[ 1 ]
"... إن العمل بسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو عمل على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وإن ترك السنة هو انحلال الإسلام. لقد كانت السنة الهيكل الحديدي الذي قام عليه صرح الإسلام، وأنك إذا أزلت هيكل بناء ما، أفيدْهِشُك أن يتقوض ذلك البناء، كأنه بيت من ورق؟"(1).
[ 2 ]
"... إن السنة هي المثال الذي أقامه لنا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أعماله وأقواله. إن حياته العجيبة كانت تمثيلاً حيًا وتفسيرًا لما جاء في القرآن الكريم، ولا يمكننا أن ننصف القرآن الكريم بأكثر من أن نتبع الذي قد بلّغ الوحي"(2).
[ 3 ]
"... إنه على الرغم من جميع الجهود التي بذلت في سبيل تحدي الحديث على أنه نظام ما، فإن أولئك النقاد العصريين من الشرقيين والغربيين لم يستطيعوا أن يدعموا انتقادهم العاطفي الخالص بنتائج من البحث العلمي. وأنه من الصعب أن يفعل أحد ذلك؛ لأن الجامعين لكتب الحديث الأولى، وخصوصًا الإمامين البخاري ومسلمًا قد قاموا بكل ما في طاقة البشر عند عرض صحة كل حديث على قواعد التحديث عرضًا أشد كثيرًا من ذلك الذي يلجأ إليه المؤرخون الأوربيون عادة عند النظر في مصادر التاريخ القديم"(3).
[ 4 ]
"... إن رفض الأحاديث الصحيحة، جملة واحدة أو أقسامًا، ليس حتى اليوم، إلا قضية ذوق، قضية قصرت عن أن تجعل من نفسها بحثًا علميًا خالصًا من الأهواء.."(4).
[ 5 ]
"... إن العمل بالسنة يجعل كل شيء في حياتنا اليومية مبنيًا على الإقتداء بما فعله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهكذا نكون دائمًا، إذا فعلنا أو تركنا ذلك، مجبرين على أن نفكر بأعمال الرسول وأقواله المماثلة لأعمالنا هذه وعلى هذا تصبح شخصية أعظم رجل متغلغلة إلى حد بعيد في منهاج حياتنا اليومية نفسه، ويكون نفوذه الروحي قد أصبح العامل الحقيقي الذي يعتادنا طوال الحياة.."(5).
------------
(1) الإسلام على مفترق الطرق، ص87.
(2) نفسه، ص88.
(3) نفسه، ص92.
(4) نفسه، ص97.
(5) نفسه، ص109.
40. ... مارسيل بوازار
مارسيل بوازار
[ 1 ]
"سبق أن كتب كل شيء عن نبي الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأنوار التاريخ تسطع على حياته التي نعرفها في أدق تفاصيلها. والصورة التي خلفها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن نفسه تبدو، حتى وإن عمد إلى تشويهها، علمية في الحدود التي تكشف فيها وهي تندمج في ظاهرة الإسلام عن مظهر من مظاهر المفهوم الديني وتتيح إدراك عظمته الحقيقية.."(1).
[ 2 ]
"لم يكن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الصعيد التاريخي مبشرًا بدين وحسب بل كان كذلك مؤسس سياسة غيّرت مجرى التاريخ، وأثرت في تطور انتشار الإسلام فيما بعد على أوسع نطاق.."(2).
[ 3 ](5/29)
"منذ استقر النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المدينة، غدت حياته جزءًا لا ينفصل من التاريخ الإسلامي. فقد نقلت إلينا أفعاله وتصرفاته في أدق تفاصيلها. ولما كان منظمًا شديد الحيوية، فقد أثبت نضالية في الدفاع عن المجتمع الإسلامي الجنيني، وفي بث الدعوة. وبالرغم من قتاليته ومنافحته، فقد كان يعفو عند المقدرة، لكنه لم يكن يلين أو يتسامح مع أعداء الدين. ويبدو أن مزايا النبي الثلاث، الورع والقتالية والعفو عند المقدرة قد طبعت المجتمع الإسلامي في إبان قيامه وجسّدت المناخ الروحي للإسلام. وكما يظهر التاريخ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائدًا عظيم ملء قلبه الرأفة، يصوره كذلك رجل دولة صريحًا قوي الشكيمة له سياسته الحكيمة التي تتعامل مع الجميع على قدم المساواة وتعطي كل صاحب حق حقه. ولقد استطاع بدبلوماسيته ونزاهته أن ينتزع الاعتراف بالجماعة الإسلامية عن طريق المعاهدات في الوقت الذي كان النصر العسكري قد بدأ يحالفه. وإذا تذكرنا أخيرًا على الصعيد النفساني هشاشة السلطان الذي كان يتمتع به زعيم من زعماء العرب، والفضائل التي كان أفراد المجتمع يطالبونه بالتحلي بها، استطعنا أن نستخلص أنه لابدّ أن يكون محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي عرف كيف ينتزع رضا أوسع الجماهير به إنسانًا فوق مستوى البشر حقًا، وأنه لابد أن يكون نبيًا حقيقيًا من أنبياء الله"(3).
[ 4 ]
"... لقد كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبيًا لا مصلحًا اجتماعيًا. وأحدثت رسالته في المجتمع العربي القائم آنذاك تغييرات أساسية ما تزال آثارها ماثلة في المجتمع الإسلامي المعاصر.."(4).
[ 5 ]
"... مما لا ريب فيه أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد اعتبر، بل كان في الواقع، ثائرًا في النطاق الذي كان فيه كل نبي ثائرًا بوصفه نبيًا، أي بمحاولته تغيير المحيط الذي يعيش فيه..."(5).
-------------
(1) إنسانية الإسلام، ص40، 41.
(2) نفسه، ص42.
(3) نفسه، ص46.
(4) نفسه، ص61.
(5) نفسه، ص66.
41. ... ماسيه
[ 1 ]
"بفضل إصلاحات محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدينية والسياسية، وهي إصلاحات موحدة بشكل أساسي، فإن العرب وعوا أنفسهم وخرجوا من ظلمات الجهل والفوضى ليعدّوا دخلوهم النهائي إلى تاريخ المدنية".
[ 2 ]
"... كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو المشرّع الملهم والمحرك الأول للوحدة الدينية بين جميع الأقوام، وكان بسيطًا وحازمًا.."
42. ... مونته
[ 1 ]
"إن طبيعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدينية تدهش كل باحث مدقّق نزيه المقصد بما يتجلى فيها من شدة الإخلاص. فقد كان محمد مصلحًا دينيًا ذا عقيدة راسخة، ولم يقم إلا بعد أن تأمل كثيرًا وبلغ سن الكمال بهذه الدعوة العظيمة التي جعلته من أسطع الأنوار الإنسانية في الدين. وهو في قتاله الشرك والعادات القبيحة التي كانت عند أبناء زمنه كان في بلاد العرب أشبه بنبي من أنبياء بني إسرائيل الذين نراهم كبارًا جدًا في تاريخ قومهم. ولقد جهل كثير من الناس محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبخسوه حقه وذلك لأنه من المصلحين النادرين الذين عرف الناس أطوار حياتهم بدقائقها".
[ 2 ]
"كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كريم الأخلاق حسن العشرة، عذب الحديث، صحيح الحكم صادق اللفظ، وقد كانت الصفات الغالبة عليه هي صحة الحكم وصراحة اللفظ، والاقتناع التام بما يعمله ويقوله".
[ 3 ]
"... ندر بين المصلحين من عرفت حياتهم بالتفصيل مثل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن ما قام به من إصلاح أخلاق وتطهير المجتمع يمكن أن يعد به من أعظم المحسنين للإنسانية".
[ 4 ]
"لا مجال للشك في إخلاص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحماسته الدينية التي تشبعت بها نفسه وفكره..".
43. ... نهرو
[ 1 ]
".. لربما خامرت هؤلاء الملوك والحكام الذين تسلموا كتب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدهشة من هذا الرجل البسيط الذي يدعوهم إلى الطاعة. ولكن إرسال هذه الكتب يعطينا صورة عن مقدار ثقة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنفسه ورسالته. وقد هيأ بهذه الثقة وهذا الإيمان لأمته أسباب القوة والعزّة والمنعة وحوّلهم من سكان صحراء إلى سادة يفتحون نصف العالم المعروف في زمانهم.. وقد توفي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن جعل من القبائل العربية المتنافرة أمة واحدة تتقد غيرة وحماسًا...".
44. ... هارث
[ 1 ]
"إن اختياري لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليكون رأس القائمة التي تضم الأشخاص الذين كان لهم أعظم تأثير عالمي في مختلف المجالات، ربما أدهش كثيرًا من القراء، ولكن في اعتقادي أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي".
[ 2 ](5/30)
"لقد أسس محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونشر أحد أعظم الأديان في العالم، وأصبح أحد الزعماء العالميين السياسيين العظام. ففي هذه الأيام وبعد مرور ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا على وفاته، فإن تأثيره لا يزال قويًا وعارمًا...".
[ 3 ]
"... من وجهة النظر الدينية الصرفة يبدو أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان له تأثير على البشرية عبر التاريخ كما كان للمسيح ـ عليه السلام ـ".
[ 4 ]
"... إن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يختلف عن المسيح بأنه كان زعيمًا دنيويًا فضلاً عن أنه زعيم ديني، وفي الحقيقة إذا أخذنا بعين الاعتبار القوى الدافعة وراء الفتوحات الإسلامية، فإن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصبح أعظم قائد سياسي على مدى الأجيال".
[ 5 ]
"... إن هذا الاتحاد الفريد لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معًا يخول محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعتبر أعظم شخصية مفردة ذات تأثير في تاريخ البشرية".
45. ... مونتغمري وات
[ 1 ]
"منذ أن قام كارليل بدراسته عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كتابه "الأبطال وعبادة البطل" أدرك الغرب أن هناك أسبابًا وجيهة للاقتناع بصدق محمد؛ إذ إن عزيمته في تحمل الاضطهاد من أجل عقيدته، والخلق السامي للرجال الذين آمنوا به، وكان لهم بمثابة القائد، وأخيرًا عظمة عمله في منجزاته الأخيرة، كل ذلك يشهد باستقامته التي لا تتزعزع. فاتهام محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه دجال Imposteur يثير من المشاكل أكثر مما يحلّ. ومع ذلك فليس هناك شخصية كبيرة في التاريخ حط من قدرها في الغرب كمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فقد أظهر الكتاب الغربيون ميلهم لتصديق أسوأ الأمور عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكلما ظهر أي تفسير نقدي لواقعة من الوقائع ممكنًا قبوله. ولا يكفي، مع ذلك، في ذكر فضائل محمد أن نكتفي بأمانته وعزيمته إذا أردنا أن نفهم كل شيء عنه. وإذا أردنا أن نصحح الأغلاط المكتسبة من الماضي بصدده فيجب علينا في كل حالة من الحالات، لا يقوم الدليل القاطع على ضدها، أن نتمسك بصلابة بصدقه. ويجب علينا أن لا ننسى عندئذ أيضًا أن الدليل القاطع يتطلب لقبوله أكثر من كونه ممكنًا وأنه في مثل هذا الموضوع يصعب الحصول عليه.."(1).
[ 2 ]
"هناك ـ على العكس ـ أسباب قوية تؤكد صدق "محمد" ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونستطيع في مثل هذه الحالة الخاصة أن نبلغ درجة عالية من اليقين؛ لأن النقاش حول هذه المسألة يعتمد على وقائع ولا يمكن أن يتضمن خلافًا في التقدير حول الأخلاقية..."(2).
[ 3 ]
"... ليس توسع العرب شيئًا محتومًا أو آليًا وكذلك إنشاء الأمة الإسلامية. ولولا هذا المزيج الرائع من الصفات المختلفة الذي نجده عند محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكان من غير الممكن أن يتم هذا التوسع، ولاستنفذت تلك القوى الجبارة في غارات على سوريا والعراق دون أن تؤدي لنتائج دائمة، ونستطيع أن نميز ثلاث هبات مهمة أُوتيها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكانت كل واحدة منها ضرورية لإتمام عمل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأكمله؛ لقد أوتي أولاً موهبة خاصة على رؤية المستقبل، فكان للعالم العربي بفضله أو بفضل الوحي الذي ينزل عليه حسب رأي المسلمين، أساس فكري ـ إيديولوجي ـ حلت به الصعوبات الاجتماعية، وكان تكوين هذا الأساس الفكري يتطلب في نفسه الوقت حدسًا ينظر في الأسباب الأساسية للاضطراب الاجتماعي في ذلك العصر، والعبقرية الضرورية للتعبير عن هذا الحدس في صورة تستطيع إثارة العرب حتى أعمق كيانها. وكان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثانيًا رجل دولة حكيمًا، ولم يكن هدف البناء الأساسي الذي نجده في القرآن، سوى دعم التدابير السياسية الملموسة والمؤسسات الواقعية. ولقد ألححنا خلال هذا الكتاب غالبًا على استراتيجية محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ السياسية البعيدة النظر على إصلاحاته الاجتماعية ولقد دلّ على بعد نظره في هذه المسائل الانتشار السريع الذي جعل من دولته الصغيرة إمبراطورية، وتطبيق المؤسسات الاجتماعية على الظروف المجاورة واستمرارها خلال أكثر من ثلاثة عشر قرنًا. وكان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثالثًا رجل إدارة بارعًا، فكان ذا بصيرة رائعة في اختيار الرجال الذين يندبهم للمسائل الإدارية. إذ لن يكون للمؤسسات المتينة والسياسة الحكيمة أثر إذا كان التطبيق خاطئًا مترددًا. وكانت الدولة التي أسسها محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند وفاته، مؤسسة مزدهرة تستطيع الصمود في وجه الصدمة التي أحدثها غياب مؤسسها، ثم إذا بها بعد فترة تتلاءم مع الوضع الجديد وتتسع بسرعة خارقة اتساعًا رائعًا"(3).
[ 4 ](5/31)
"كلما فكرنا في تاريخ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتاريخ أوائل الإسلام، تملكنا الذهول أمام عظمة مثل هذا العمل. ولا شك أن الظروف كانت مواتية لمحمد فأتاحت له فرصًا للنجاح لم تتحها لسوى القليل من الرجال غير أن الرجل كان على مستوى الظروف تمامًا. فلو لم يكن نبيًا ورجل دولة وإدارة، ولو لم يضع ثقته بالله ويقتنع بشكل ثابت أن الله أرسله، لما كتب فصلاً مهمًا في تاريخ الإنسانية. ولي أمل أن هذه الدراسة عن حياة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمكنها أن تساعد على إثارة الاهتمام ، من جديد ، برجل هو أعظم رجال أبناء آدم"(4).
-----------------
(1) محمد في مكة، ص94.
(2) نفسه، ص497، 498.
(3) نفسه، ص510، 511.
(4) نفسه، ص512.
46. ... ولز
ولز(1)
[ 1 ]
"... هل تراك علمت قط أن رجلاً على غير كريم السجايا مستطيع أن يتخذك صديقًا؟ ذلك أن من عرفوا محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر من غيرهم، كانوا أشد الناس إيمانًا به، وقد آمنت به خديجة ـ رضي الله عنها ـ كل حياته على أنها ربما كانت زوجة محبة. فأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ شاهد أفضل وهو لم يتردد قط في إخلاصه؛ كان يؤمن بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن العسير على أي إنسان يقرأ تلك الأيام إلا يؤمن بأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، وكذلك علي ـ رضي الله عنه ـ؛ فإنه خاطر بحياته من أجل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أحلك أيامه سوادًا..."(2).
[ 2 ]
"حجّ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجة الوداع من المدينة إلى مكة قبل وفاته بعام، وعند ذاك ألقى على شعبه موعظة عظيمة؛ إنّ أول فقرة فيها تجرف أمامها كل ما بين المسلمين من نهب وسلب ومن ثارات ودماء، وتجعل الفقرة الأخيرة منها الزنجي المؤمن عدلاً للخليفة. إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة ممكنة التنفيذ، فإنها خلقت جماعة إنسانية يقل ما فيها مما يغمر الدنيا من قسوة وظلم اجتماعي، عما في أي جماعة أخرى سبقتها"(3).
[ 3 ]
"لقد منح العرب العالم ثقافة جديدة، وأقاموا عقيدة لا تزال إلى اليوم من أعظم القوى الحيوية في العالم أما الرجل الذي أشعل ذلك القبس العربي فهو محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ(4).
--------------
(1) هربرت جورج ولز (1866 – 1946م) H. G. Wells: الكاتب والأديب البريطاني المعروف. حصل على بكالوريوس العلوم سنة 1888م، تولى التدريس بضع سنين ثم انصرف للتأليف. اشتهر بقصصه الذي يعتمد الخيال العلمي من مثل "آلة الزمن" و"الرجل الخفي"، فضلاً عن رواياته النفسية والاجتماعية من مثل "ميكافيللي الجديد" و"الزواج". ولم يغفل ولز البحث في التاريخ فأنجز عام 1920م "معالم تاريخ الإنسانية" وأعقبه بـ"موجز تاريخ العالم"، وكان آخر كتاب أصدره هو "العقل في أقصى تواتراته" 1944م. ولولز كتاب في السيرة الذاتية بعنوان: "تجربة في كتابة السيرة الذاتية".
(2) معالم تاريخ الإنسانية (3/ 639).
(3) نفسه (3/ 640، 641).
(4) موجز تاريخ العالم، ص200، 201.
47. ... نصري سلهب
نصري سلهب
[ 1 ]
"في مكة أبصر النور طفل لم يمرّ ببال أمة _ ساعة ولادته ـ أنه سيكون أحمد أعظم الرجال في العالم بل في التاريخ، ولربما أعظمهم إطلاقًا.."(1).
[ 2 ]
"هنا عظمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. لقد استطاع ـ خلال تلك الحقبة القصيرة من الزمن ـ أن يحدث شريعة خلقية وروحية واجتماعية لم يستطعها أحد في التاريخ بمثل تلك السرعة المذهلة"(2).
[ 3 ]
"... هذا الرجل الذي ما عرف الهدوء ولا الراحة ولا الاستقرار، استطاع وسط ذلك الخضم الهائج، أن يرسي قواعد دولة، وأن يشرّع قوانين ويسنّ أنظمة، ويجود بالتفسير والاجتهادات، ولم ينس أنه أب وجد لأولاد وأحفاد، فلم يحرمهم عطفه وحنانه، فكان بشخصيته الفذة الغنية بالقيم والمعطيات والمؤهلات، المتعددة الأبعاد والجوانب، الفريدة بما أسبغ الله عليها من نعم وصفات، وبما حباها من إمكانات، كان بذلك كله، عالمًا قائمًا بنفسه"(3).
[ 4 ]
"تراثك يا ابن عبد الله ينبغي أن يُحيا، لا في النفوس والقلوب فحسب، بل في واقع الحياة، في ما يعاني البشر من أزمات وما يعترضهم من عقبات. تراثك مدرسة يلقى على منابرها كل يوم عظة ودرس، كل سؤال له عندك جواب، كل مشكلة مهما استعصت وتعقدت، نجد لها في آثارك حلاً"(4).
[ 5 ]
".. لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رسولاً وحسب، يهدي الناس إلى الإيمان، إنما كان زعيمًا وقائد شعب، فعزم على أن يجعل من ذلك الشعب خير أمة أخرجت للناس. وكان له ما أراد"(5).
-------------
(1) في خطى محمد، ص42.
(2) نفسه، ص196.
(3) نفسه، ص273، 274.
(4) نفسه، ص396.
(5) نفسه، ص409.
48. ... هنري دي فاستري
هنري دي فاستري
[ 1 ](5/32)
"إن أشد ما نتطلع إليه بالنظر على الديانة الإسلامية ما اختص منها بشخص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولذلك قصدت أن يكون بحثي أولاً في تحقيق شخصيته وتقرير حقيقته الأدبية علّني أجد في هذا البحث دليلاً جديدًا على صدقه وأمانته المتفق تقريبًا عليها بين جميع مؤرخي الديانات وأكبر المتشيعين للدين المسيحي"(1).
[ 2 ]
"ثبت إذن أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقرأ كتابًا مقدسًا ولم يسترشد في دينه بمذهب متقدم عليه.."(2).
[ 3 ]
"... ولقد نعلم أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرّ بمتاعب كثيرة وقاسى آلامًا نفسية كبرى قبل أن يخبر برسالته، فقد خلقه الله ذا نفس تمحّضت للدين ومن أجل ذلك احتاج إلى العزلة عن الناس لكي يهرب من عبادة الأوثان ومذهب تعدد الآلهة الذي ابتدعه المسيحيون وكان بغضهما متمكنًا من قلبه وكان وجود هذين المذهبين أشبه بإبرة في جسمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولعمري فيم كان يفكر ذلك الرجل الذي بلغ الأربعين وهو في ريعان الذكاء ومن أولئك الشرقيين الذين امتازوا في العقل بحدة التخيّل وقوة الإدراك.. إلا أن يقول مرارًا ويعيد تكرارًا هذه الكلمات (الله أحد الله أحد). كلمات رددها المسلمون أجمعون من بعده وغاب عنا معشر المسيحيين مغزاها لبعدنا عن فكرة التوحيد.."(3).
[ 4 ]
"... لو رجعنا إلى ما وضحه الحكماء عن النبوة ولم يقبل المتكلمون من المسيحيين لأمكننا الوقوف على حالة مشيد دعائم الإسلام وجزمنا بأنه لم يكن من المبتدعين، ومن الصعب أن تقف على حقيقة سماعه لصوت جبريل ـ عليه السلام ـ إلا أن معرفة هذه الحقيقة لا تغير موضوع المسألة لأن الصدق حاصل في كل حال"(4).
[ 5 ]
"لا يمكن أن ننكر على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدور الأول من حياته كمال إيمانه وإخلاص صدقه، فأما الإيمان فلن يتزعزع مثقال ذرة من قلبه في الدور الثاني ـ الدور المدني ـ وما أُوتيه من نصر كان من شأنه أن يقويه على الإيمان لولا أن الاعتقاد كله قد بلغ منه مبلغًا لا محل للزيادة فيه، وما كان يميل إلى الزخارف ولم يكن شحيحًا، وكان قنوعًا خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير مرة في حياته، تجرد من الطمع وتمكن من نوال المقام الأعلى في بلاد العرب ولكنه لم يجنح إلى الاستبداد فيها، فلم يكن له حاشية ولم يتخذ وزيرًا ولا حشما، وقد احتقر المال.."(5).
-------------------
(1) الإسلام: خواطر وسوانح، ص6.
(2) نفسه، ص16.
(3) نفسه، ص16، 17.
(4) نفسه، ص21.
(5) نفسه، ص24.
49. ... واشنجتون إيرفنج
واشنجتون إيرفنج
[ 1 ]
"كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم النبيين وأعظم الرسل الذين بعثهم الله ليدعوا الناس إلى عبادة الله"(1).
[ 2 ]
"كانت تصرفات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أعقاب فتح مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر؛ فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي، ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو"(2).
[ 3 ]
"لقي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أجل نشر الإسلام كثيرًا من العناء، وبذل عدة تضحيات؛ فقد شك الكثير في صدق دعوته، وظل عدة سنوات دون أن ينال نجاحًا كبيرًا، وتعرض خلال إبلاغ الوحي إلى الإهانات والاعتداءات والاضطهادات، بل اضطر إلى أن يترك وطنه ويبحث عن مكان يهاجر إليه هنا وهناك وتخلى عن كل متع الحياة وعن السعي وراء الثراء من أجل نشر العقيدة"(3).
[ 4 ]
"برغم انتصارات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ العسكرية لم تثر هذه الانتصارات كبرياءه أو غروره، فقد كان يحارب من أجل الإسلام لا من أجل مصلحة شخصية، وحتى في أوج مجده حافظ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بساطته وتواضعه، فكان يكره إذا دخل حجرة على جماعة أن يقوموا له أو يبالغوا في الترحيب به وإن كان قد هدف إلى تكوين دولة عظيمة، فإنها كانت دولة الإسلام، وقد حكم فيها بالعدل، ولم يفكر أن يجعل الحكم فيها وراثيًا لأسرته"(4).
[ 5 ]
"كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينفق ما يحصل من جزية أو ما يقع في يديه من غنائم في سبيل انتصار الإسلام، وفي معاونة فقراء المسلمين، وكثيرًا ما كان ينفق في سبيل ذلك آخر درهم في بيت المال، وهو لم يخلف وراءه دينارًا أو درهمًا أو رقيقًا، وقد خيره الله بين مفاتيح كنوز الأرض في الدنيا وبين الآخرة فاختار الآخرة"(5).
--------------------
(1) حياة محمد، ص72.
(2) حياة محمد، ص72.
(3) نفسه، ص300.
(4) نفسه، ص302، 303.
(5) نفسه، ص303.
50. ... ول ديورانت
51. ... محمد صلى الله عليه وسلم المثال الأسمى.. ك. س. رامكرشنة راو
محمد صلى الله عليه وسلم المثال الأسمى
أحمد ديدات
الكتاب على صغره يعرض لكثير من الجوانب الهامة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة بأسلوب سهل يجمع بين وضوح الفكرة ودقة العبارة.(5/33)
إنه بمثابة رحلة في أعماق التاريخ ومحاولة للكشف عن جوانب شخصية الرسول العظيمة واستخلاص العبرة من حياة محمد النبي صلى الله عليه وسلم والمثال الأسمى للعالمين.
محمد المثال الأسمى
رؤية فيلسوف هندوسي معاصر لنبي الإسلام
ك. س. رامكرشنة راو
أستاذ الفلسفة بجامعة ميسور في الهند
محمد نبي الإسلام:
البدايات [1]:
ولد محمد وفقًا لما قرره المؤرخون المسلمون في صحراء الجزيرة العربية يوم العشرين من شهر إبريل في عام خمسمائة وواحد وسبعين بعد المسيح. واسمه يعني "المثنى عليه أو الممدوح أو المحمود حمدًا كثيرًا"[2] وهو بالنسبة لي أعظم عقل مفكر أنجبته الجزيرة العربية على الإطلاق.
إنه أعظم بكثير من جميع الشعراء والملوك الذين عاشوا قبله أو جاءوا بعده في هذه الصحراء المعزولة ذات الرمال الحمراء.
وحينما ظهر محمد لم تكن الجزيرة العربية شيئًا مذكورًا، ومن هذه الصحراء التي لم تكن شيئًا مذكورًا استطاع محمد بروحه العظيمة أن ينشئ منها عالمًا جديدًا وحياة جديدة وثقافة جديدة وحضارة جديدة ومملكة جديدة امتدت من مراكش إلى شبه القارة الهندية، وأن يؤثر في فكر وحياة ثلاث قارات هي آسيا وإفريقية وأوروبا.
الحاجة إلى التفاهم:
عندما فكرت في الكتابة عن النبي محمد كنت مترددًا بعض الشيء لأنني سأكتب عن دين لا أعتنقه[3] وإنه لأمر بالغ الحساسية أن يفعل المرء ذلك لأنه يوجد الكثير من الناس الذين يعتنقون ديانات متنوعة وينتمون إلى مذاهب فكرية وطوائف مختلفة حتى داخل الدين الواحد. وعلى الرغم من أن البعض يزعم أحيانًا أن الديانة مسألة شخصية تمامًا فإنه لا يمكن إغفال أن الدين يميل إلى الإحاطة بالكون بأسره ما نرى منه وما لا نرى أيضًا، وهو بطريقة ما يتخلل من حين إلى آخر قلوبنا وأنفسنا وعقولنا في مناطق الوعي وما دون الوعي subconscious واللاوعي unconscious منها، أو أي من تلك المناطق التي تشتمل عليها أو يفترض أنها تشتمل عليها. وتأخذ المسألة أهمية بالغة عندما نقتنع اقتناعًا راسخًا أن ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا رهن هذا الخيط الحريري اللين الدقيق المسمى بالدين، أما إذا كنا شديدي الحساسية فإن مركز الثقل يكون في الغالب دائما في حالة توتر قصوى . وبالنظر إلى المسألة من هذه الزاوية يتضح لنا أنه كلما قل الكلام عن ديانة الآخرين كلما كان ذلك أفضل. ولندع أدياننا واعتقاداتنا مخفية ومغمورة في أعماق ثنايا قلوبنا الداخلية محصنة بأختام من شفاهنا لا تنكسر.
جماعية الإنسان:
ولكن يوجد جانب آخر لهذه المسألة؛ فالإنسان يعيش في المجتمع وترتبط حياتنا ـ شئنا أم أبينا وبطريقة مباشرة وغير مباشرة ـ بحياة الكثيرين، فنحن جميعًا نأكل من ثمرات تزرع في نفس الأرض ونشرب الماء من نفس النبع ونستنشق هواء نفس الجو، ومع تمسكنا الشديد بآرائنا الشخصية فإنه سيكون من المفيد ـ لا لغرض آخر سوى تشجيع الانضباط المناسب في البيئة المحيطة بنا ـ لو أننا عرفنا أيضًا بدرجة أو بأخرى كيف يفكر جارنا وما هي المنابع الأصلية لتصرفاته.
ومن زاوية الرؤية هذه تصبح محاولة المرء للتعرف على جميع أديان العالم شيئًا مرغوبًا فيه، وذلك بالروح الصحيحة، من أجل تشجيع التفاهم المتبادل والتقبل الأفضل لجيراننا على المدى القريب والبعيد.
كما أن أفكارنا ليست متناثرة ومبعثرة كما تبدو كذلك في الظاهر؛ فلقد تبلورت تلك الأفكار حول بضع أنوية في شكل أديان العالم الكبرى والعقائد الحية التي ترشد وتدفع حياة الملايين من سكان أرضنا هذه. وإذا كنا نفكر في أن نصبح في يوم من الأيام مواطنين للعالم الذي بين أيدينا فمن واجبنا أن نحاول ولو محاولة صغيرة التعرف على أديان العالم الكبرى ونظم الفلسفة التي تحكم البشرية.
النبي شخصية تاريخية[4]:
وعلى الرغم من هذه الملاحظات التمهيدية فإن الأرض التي يجري عليها الصراع بين العقل والعاطفة في مجال الدين زلقة جدًا لدرجة أن المرء ليُذكَّر باستمرار بالحمقى الذين يندفعون حيث تهاب الملائكة الاقتراب والأمر أيضًا معقد جدا لسبب آخر. فموضوع كتابي هو شرائع ديانة تاريخية ونبيها، وهو أيضًا شخصية تاريخية لدرجة أن ناقدًا عدوانيًا مثل السير "وليم موير" يقول متحدثًا عن القرآن الكريم: "لا يوجد في العالم على الأرجح كتابًا آخر بقي إثني عشر قرنًا[5] بنص بمثل هذا النقاء". ويمكنني أن أضيف أن النبي محمد شخصية تاريخية[6] أيضًا؛ فكل حادثة في حياته دونت بدقة بالغة وحتى أدق التفاصيل حفظت سليمة للمتأخرين، إن حياته وأعماله لم يكتنفهما الغموض ولم تكن محاطة بالأسرار. ولا يحتاج المرء إلى البحث المجهد عن المعلومات الدقيقة ولا الانطلاق في رحلات مرهقة لكي يفصل القشرة عن حبة الحق[7].
إساءة عرض وتقديم الإسلام في الماضي:
إن عملي هذا مستنير لأن الأيام التي كان يساء فيها إلى حد بعيد عرض الإسلام وتقديمه بواسطة نقاده[8] لأسباب سياسية وغير سياسية هي في إدبار وإلى زوال.(5/34)
يقول الأستاذ بيفان Prof. Bevan في كتاب "كمبردج لتاريخ العصور الوسطى": "إن التقارير التي وصف فيها محمدًا والإسلام المنشورة في أوروبا قبل بداية القرن التاسع عشر يجب اعتبارها الآن مجرد فضول أدبي أو استثناءات أدبية Literary curiosities".
إن المشكلة التي أواجهها من أجل كتابة هذه الفقرة أصبحت أكثر سهولة من ذي قبل لأننا كنقاد ـ وبوجه عام ـ لم نعد نقتات الآن على مثل هذا النوع من التاريخ. ولسنا في حاجة إلى كثير من الوقت نمضيه في الإشارة إلى إساءاتنا في عرض الإسلام وتقديمه.
فمثلاً النظرية التي تقول بانتشار الإسلام بالسيف لم تعد تردد الآن بكثرة في أي دائرة تستحق الذكر. فمبدأ "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"[9] هو مبدأ معروف ومشهور جدا في الإسلام.
يقول المؤرخ العالمي الشهير "جيبون"[10]: "إن شريعة خبيثة قد ألصقت بالمحمديين[11] وهي واجب استئصال جميع الأديان بالسيف"[12].
ويقول المؤرخ البارز أن هذه التهمة الجاهلة والمتطرفة يدحضها القرآن كما يدحضها تاريخ الفتوحات الإسلامية وما اشتهر الفاتحون به من تسامح تجاه العبادة المسيحية معروف ومشروع.
إن أعظم نجاح في حياة محمد جاء نتيجة للقوة الأخلاقية فقط وبلا ضربة سيف واحدة.
-----------
الهوامش:
[1] انظر كتاب: "ماذا يقول الكتاب المقدس عن محمد (صلى الله عليه وسلم)" تأليف أحمد ديدات.
[2] راجع فصل "من هو المعزى"؟
[3] المؤلف يعتنق الهندوسية.
[4] تاريخية يعني حقيقة من واقع التاريخ (المترجم).
[5] لقد بقي القرآن حتى الآن أربعة عشر قرنًا نقيًا ومحفوظًا (المؤلف) وسيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها تصديقًا لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] المترجم.
[6] تقول دائرة المعارف البريطانية عن محمد إنه "الأكثر تاريخية من بين جميع الشخصيات الدينية" (المؤلف).
[7] يقصد المؤلف إنه من اليسير التمييز بين الغث والثمين مما روي عن محمد صلى الله عليه وسلم، أو نسب إليه من أحاديث وأخبار وقد وضعت في ذلك العلوم وصنفت فيه التصانيف (المترجم).
[8] يقول توماس كارلايل (الكاتب والمؤرخ والفيلسوف الإنجليزي المشهور): "إن الأكاذيب التي أثارتها الحماسة الصادرة عن حسن نية حول هذا الرجل (أي محمد صلى الله عليه وسلم) لا تشين إلا أنفسنا". انظر كتاب "المسيح في الإسلام" تأليف أحمد ديدات، وهو من ترجمتنا ونشر عن دار المختار الإسلامي بالقاهرة.
[9] من الآية 256 من سورة البقرة.
[10] هو إدوارد جيبون (1737 – 1794 بعد المسيح) مؤرخ إنجليزي، يعتبر أعظم المؤرخين الإنجليز في عصره (المورد) (1990).
[11] المؤلف يقصد المسلمين، فكلمة "المحمديون" قد توحي بعبادتهم للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد بين المسلمين من يتخذ هذا النبي الكريم إلهًا أو يعبده (المركز العالمي للدعوة الإسلامية) راجع ص 10 –12 من هذا الكتاب.
[12] هذه ليست شريعة الإسلام ولا القرآن ولا محمد صلى الله عليه وسلم. يقول الله تبارك وتعالى في القرآن: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. قال خالد الزعفراني في مصحف القادسية المفسر مختصر تفسير الطبري: "{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم} من جميع الملل". قلت: إذن فلم يأمر الله في القرآن ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة باستئصال من لا يؤمن بالإسلام من الملل الأخرى.
قارن ذلك بما جاء في الكتاب المقدس عن ما فعله يهود بني إسرائيل بسكان الأرض المقدسة "فلسطين" حين دخلوها مع يوشع بن نون فتى موسى عليه السلام الذي يسمونه عندهم يشوع بن نون خادم موسى (يشوع 1 : 1).
"وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة من طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف" (يشوع 6 : 21).
حرموا كل ما في المدينة: أي حرموا سبي أهلها واستحيائهم والغنيمة أي جعلوا أهلها حرام عليهم سبيهم واستحياءهم وأخذ أنعامهم وقتلوهم جميعًا بحد السيف ولم يبقوا منهم أحدًا. راجع (ص 46 - 48) من كتاب "العرب وإسرائيل صراع أم مصالحة؟" تأليف أحمد ديدات، وهو من ترجمتنا ونشر مكتبة النور ـ القاهرة. والتعليقات رقم 18 و19 و20 بالهامش ص 102 و103 من نفس الكتاب (المترجم).
52. ... الرسول في عيونهم
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد...(5/35)
بين يديك جلة من أقوال بعض المستشرقين الذين أعجبوا بشخصية الرسول العظيم (صلى الله عليه وسلم)، ومع كونهم لم يرتدوا عباءة الإسلام فإنهم قالوا كلمة حق سطرها التاريخ على ألسنتهم وفي كتبهم وتراثهم، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته قد فاضت بكم من الرقي الشخصي والأخلاقي والحضاري إلى أبعد حد مما جعلهم معجبون به إلى حد جعلهم يسطرون فيه الكتب ويذكرون شخصه في كل وقت. وهذا جزء من كل ما قالوا في عظيم شخصه وصفاته الجليلة.
1ـ مهاتما غاندي:
"أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر. لقد أصبحت مقتنعًا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته. هذه الصفات هي التي مهدت الطريق، وتخطت المصاعب وليس السيف. بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي أسفًا لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة".
2ـ راما كريشنا راو:
"لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها، ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة. فهناك محمد النبي، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلاً".
3ـ ساروجنى ندو شاعرة الهند:
"يعتبر الإسلام أول الأديان مناديًا ومطبقًا للديمقراطية، وتبدأ هذه الديمقراطية في المسجد خمس مرات في اليوم الواحد عندما ينادى للصلاة، ويسجد القروي والملك جنب لجنب اعترافًا بأن الله أكبر. ما أدهشني هو هذه الوحدة غير القابلة للتقسيم والتي جعلت من كل رجل بشكل تلقائي أخًا للآخر".
4ـ المفكر الفرنسي لامارتين:
"إذا كانت الضوابط التي نقيس بها عبقرية الإنسان هي سمو الغاية والنتائج المذهلة لذلك رغم قلة الوسيلة، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أيا من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في عبقريته؟ فهؤلاء المشاهير قد صنعوا الأسلحة وسنوا القوانين وأقاموا الإمبراطوريات. فلم يجنوا إلا أمجادا بالية لم تلبث أن تحطمت بين ظهرانَيْهم. لكن هذا الرجل (محمدًا (صلى الله عليه وسلم)) لم يقد الجيوش ويسن التشريعات ويقم الإمبراطوريات ويحكم الشعوب ويروض الحكام فقط، وإنما قاد الملايين من الناس فيما كان يعد ثلث العالم حينئذ. ليس هذا فقط، بل إنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقدات الباطلة.
لقد صبر النبي وتجلد حتى نال النصر (من الله). كان طموح النبي (صلى الله عليه وسلم) موجهًا بالكلية إلى هدف واحد، فلم يطمح إلى تكوين إمبراطورية أو ما إلى ذلك. حتى صلاة النبي الدائمة ومناجاته لربه ووفاته (صلى الله عليه وسلم) وانتصاره حتى بعد موته، كل ذلك لا يدل على الغش والخداع بل يدل على اليقين الصادق الذي أعطى النبي الطاقة والقوة لإرساء عقيدة ذات شقين: الإيمان بوحدانية الله، والإيمان بمخالفته تعالى للحوادث. فالشق الأول يبين صفة الله (ألا وهي الوحدانية)، بينما الآخر يوضح ما لا يتصف به الله تعالى (وهو المادية والمماثلة للحوادث). لتحقيق الأول كان لا بد من القضاء على الآلهة المدعاة من دون الله بالسيف، أما الثاني فقد تطلّب ترسيخ العقيدة بالكلمة (بالحكمة والموعظة الحسنة).
هذا هو محمد (صلى الله عليه وسلم) الفيلسوف، الخطيب، النبي، المشرع، المحارب، قاهر الأهواء، مؤسس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقة، بلا أنصاب ولا أزلام. هو المؤسس لعشرين إمبراطورية في الأرض، وإمبراطورية روحانية واحدة. هذا هو محمد (صلى الله عليه وسلم).
بالنظر لكل مقاييس العظمة البشرية، أود أن أتساءل: هل هناك من هو أعظم من النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)؟
5ـ مونتجومري:
"إن استعداد هذا الرجل لتحمل الاضطهاد من أجل معتقداته، والطبيعة الأخلاقية السامية لمن آمنوا به واتبعوه واعتبروه سيدا وقائدا لهم، إلى جانب عظمة إنجازاته المطلقة، كل ذلك يدل على العدالة والنزاهة المتأصلة في شخصه. فافتراض أن محمدًا مدع افتراض يثير مشاكل أكثر ولا يحلها. بل إنه لا توجد شخصية من عظماء التاريخ الغربيين لم تنل التقدير اللائق بها مثل ما فعل بمحمد".
6ـ بوسورث سميث:
"لقد كان محمد قائدًا سياسيًا وزعيمًا دينيًا في آن واحد. لكن لم تكن لديه عجرفة رجال الدين، كما لم تكن لديه فيالق مثل القياصرة. ولم يكن لديه جيوش مجيشة أو حرس خاص أو قصر مشيد أو عائد ثابت. إذا كان لأحد أن يقول إنه حكم بالقدرة الإلهية فإنه محمد، لأنه استطاع الإمساك بزمام السلطة دون أن يملك أدواتها ودون أن يسانده أهلها".
7ـ جيبون أوكلي:(5/36)
"ليس انتشار الدعوة الإسلامية هو ما يستحق الانبهار وإنما استمراريتها وثباتها على مر العصور. فما زال الانطباع الرائع الذي حفره محمد في مكة والمدينة له نفس الروعة والقوة في نفوس الهنود والأفارقة والأتراك حديثي العهد بالقرآن، رغم مرور اثني عشر قرنًا من الزمان.
لقد استطاع المسلمون الصمود يدًا واحدة في مواجهة فتنة الإيمان بالله رغم أنهم لم يعرفوه إلا من خلال العقل والمشاعر الإنسانية. فقول "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله" هي ببساطة شهادة الإسلام. ولم يتأثر إحساسهم بألوهية الله (عز وجل) بوجود أي من الأشياء المنظورة التي كانت تتخذ آلهة من دون الله. ولم يتجاوز شرف النبي وفضائله حدود الفضيلة المعروفة لدى البشر، كما أن منهجه في الحياة جعل مظاهر امتنان الصحابة له (لهدايته إياهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور) منحصرة في نطاق العقل والدين".
8ـ الدكتور زويمر:
"إن محمدًا كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضًا بأنه كان مصلحًا قديرًا وبليغًا فصيحًا وجريئًا مغوارًا، ومفكرًا عظيمًا، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء".
9ـ سانت هيلر:
"كان محمد رئيسًا للدولة وساهرًا على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبي بين ظهرانيها، فكان النبي داعيًا إلى ديانة الإله الواحد وكان في دعوته هذه لطيفًا ورحيمًا حتى مع أعدائه، وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية وهما العدالة والرحمة".
10ـ إدوار مونته:
"عرف محمد بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق، وبالجملة كان محمد أزكى وأدين وأرحم عرب عصره، وأشدهم حفاظًا على الزمام فقد وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل، وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم".
11ـ برنارد شو:
"إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضع دينه دائمًا موضع الاحترام والإجلال فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالدًا خلود الأبد، وإني أرى كثيرًا من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا).
إنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوفّق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها".
12ـ السير موير:
"إن محمدًا نبي المسلمين لقب بالأمين منذ الصغر بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه وحسن سلوكه، ومهما يكن هناك من أمر فإن محمدًا أسمى من أن ينتهي إليه الواصف، ولا يعرفه من جهله، وخبير به من أمعن النظر في تاريخه المجيد، ذلك التاريخ الذي ترك محمدًا في طليعة الرسل ومفكري العالم".
13ـ سنرستن الآسوجي:
"إننا لم ننصف محمدًا إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا، فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مصرًا على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ".
14ـ المستر سنكس:
"ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة".
إلى أن قال:
"إن الفكرة الدينية الإسلامية، أحدثت رقيًا كبيرًا جدًا في العالم، وخلّصت العقل الإنساني من قيوده الثقيلة التي كانت تأسره حول الهياكل بين يدي الكهان. ولقد توصل محمد ـ بمحوه كل صورة في المعابد وإبطاله كل تمثيل لذات الخالق المطلق ـ إلى تخليص الفكر الإنساني من عقيدة التجسيد الغليظة".
15ـ آن بيزيت:
"من المستحيل لأي شخص يدرس حياة وشخصية نبي العرب العظيم ويعرف كيف عاش هذا النبي وكيف علم الناس، إلا أن يشعر بتبجيل هذا النبي الجليل، أحد رسل الله العظماء، ورغم أنني سوف أعرض فيما أروي لكم أشياء قد تكون مألوفة للعديد من الناس فإنني أشعر في كل مرة أعيد فيها قراءة هذه الأشياء بإعجاب وتبجيل متجددين لهذا المعلم العربي العظيم.
هل تقصد أن تخبرني أن رجلاً في عنفوان شبابه لم يتعد الرابعة والعشرين من عمره بعد أن تزوج من امرأة أكبر منه بكثير وظل وفيًا لها طيلة ستة وعشرين عامًا ثم عندما بلغ الخمسين من عمره ـ السن التي تخبو فيها شهوات الجسد ـ تزوج لإشباع رغباته وشهواته؟! ليس هكذا يكون الحكم على حياة الأشخاص.(5/37)
فلو نظرت إلى النساء اللاتي تزوجهن لوجدت أن كل زيجة من هذه الزيجات كانت سببًا إما في الدخول في تحالف لصالح أتباعه ودينه أو الحصول على شيء يعود بالنفع على أصحابه أو كانت المرأة التي تزوجها في حاجة ماسة للحماية".
16ـ مايكل هارت:
"إن اختياري محمدًا، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.
فهناك رُسل وأنبياء وحكماء بدءوا رسالات عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها، كالمسيح في المسيحية، أو شاركهم فيها غيرهم، أو سبقهم إليهم سواهم، كموسى في اليهودية، ولكن محمدًا هو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية، وتحددت أحكامها، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته. ولأنه أقام جانب الدين دولة جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضًا، وحّد القبائل في شعب، والشعوب في أمة، ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها، ووضعها في موضع الانطلاق إلى العالم. أيضًا في حياته، فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية، وأتمها".
17ـ تولستوي:
"يكفي محمدًا فخرًا أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة".
18ـ شبرك النمساوي:
"إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، إذا توصلنا إلى قمّته".
لا يسعني إلا أن أقول بعد أن عرضت لبعض أقوال الغرب عن رسولنا الكريم يكفي شريعة الإسلام فخرًا وفضلاً أن شهد الخصوم بنمائها واستمرارها, واعتراف الأعداء بحيويتها وخلودها.
53. ... المصطفى
"والكاظمين الغيظ"[1]:
كان العرب يتقاتلون لأربعين سنة بسبب حادث بسيط كاقتحام جمل يملكه ضيف إحدى القبائل داخل مراعي القبيلة الأخرى، وتقاتل كلا الجانبين حتى أن سبعين ألف نفس قد حصدت مما هدد بفناء القبيلتين. لمثل هؤلاء العرب الشرسين جاء نبي الإسلام ليعلمهم ضبط النفس والانضباط إلى حد إقامة الصلاة في ساحة القتال.
الحرب دفاعًا عن النفس[2]:
بعد أن أخفقت تمامًا الجهود المتكررة الرامية إلى المصالحة وطرأت ظروف اضطرته إلى ساحة القتال اضطرارًا دفاعا عن النفس، بدل نبي الإسلام فن (استراتيجية) القتال بالكامل. إن إجمالي الخسائر في الأنفس في جميع الحروب التي وقعت خلال حياته حين دانت له الجزيرة العربية كلها لا يتعدى بضع مئات. لقد علَّم أهماج[3] العرب الصلاة وأن يصلوا لله القدير جماعة لا فرادى، حتى وسط غبار العواصف والقتال. وكلما حان وقت الصلاة وهو يحين خمس مرات في كل يوم يجب ألا تترك أو تؤجل صلاة الجماعة. فينبغي أن تصلي طائفة فتركع وتسجد بين يدي ربها بينما تشتبك الطائفة الأخرى مع العدو. فإذا قضيت الصلاة فينبغي أن تغير كلتا الطائفتين موقعهما[4].
التمدن والإنسانية في ساحة القتال:
إن ساحة القتال نفسها صارت مجالاً للتحضر الإنساني، وصدرت توجيهات صارمة بعدم الفساد أو الإتلاف، وعدم الغش وعدم نقض المواثيق، وعدم انتهاك الحرمات، وعدم التمثيل بالقتلى، وعدم قتل الولدان ولا النساء ولا الشيوخ، وعدم قطع النخل أو حرقه، وعدم قطع شجرة مثمرة، وعدم التعرض للرهبان والأشخاص المشغولين بالعبادة.
إن معاملة محمد الشخصية لألد أعدائه هي المثال الأسمى لأتباعه؛ فقد كان في أوج قوته عند فتح مكة. إن القرية التي عذبته هو وأتباعه وأخرجته هو وقومه إلى المغترب واضطهدته وقاطعته بقسوة حتى حينما لجأ إلى مكان يبعد عنها أكثر من مائتي ميل، هذه القرية كانت خاضعة له تمامًا في ذلك الحين، وقد كان يحق له ـ حسب قوانين الحرب ـ أن يثأر منها للأعمال الوحشية التي أنزلتها به وبقومه، ولكن أي معاملة تلك التي قابلهم بها؟ لقد فاض قلب محمد بفطرة الحب والرحمة حين صرح قائلاً: "لا تثريب عليكم اليوم. اذهبوا فأنتم الطلقاء"[5].
العفو عن ألد الأعداء:
لقد كان أحد الأهداف الرئيسية التي أجاز بسببها الحرب دفاعًا عن النفس هو توحيد البشر. وحينما تحقق هذا الهدف عفى عن ألد أعدائه، حتى أولئك الذين قتلوا عمه الحبيب حمزة وانتهكوا حرمة جسده ومثلوا به فشقوه ولاكوا جزء من كبده.
النظرية تمتزج بالتطبيق:
إن مبدأ الأخوة العالمية[6] وعقيدة وتعاليم المساواة بين البشر التي أعلنها ونادى بها تمثل مساهمة عظيمة جدًا من محمد للارتقاء الاجتماعي للإنسانية. إن جميع الأديان الكبرى دعت أيضًا إلى نفس العقيدة والتعاليم ولكن نبي الإسلام وضع هذه النظرية في التطبيق الواقعي. وسوف يُعترف بقيمة هذه العقيدة والتعاليم[7] بعد فترة، ربما حين يستيقظ الضمير العالمي فتختفي التحيزات والتحاملات والأحكام العنصرية المسبقة ويخرج مفهوم أقوى لأخوة البشر إلى الوجود.
الفلاح والملك متساويان أمام الله:(5/38)
تقول الشاعرة الهندية "ساروجيني نايدو" عن هذا المظهر من مظاهر الإسلام:
"لقد كان الإسلام أول دين يبشر بالديمقراطية ويمارسها، فيجتمع المصلون سويًا في المساجد حين يرفع الآذان لتتجسد ديمقراطية الإسلام خمس مرات في اليوم عندما يركع ويسجد الفلاح والملك جنبًا إلى جنب معلنين أن "الله أكبر". وتمضي شاعرة الهند قائلة: "وقد أدهشتني مرة أخرى هذه الوحدة الإسلامية التي لا انفصام لها، التي تجعل المرء أخًا بالفطرة؛ فأنت حين تقابل مصريًا وجزائريًا وهنديًا وتركيًا في لندن فلا فرق إلا أن مصر هي بلد أحدهم والهند بلد الآخر".
الإسلام حضَّر أسبانيا وهو اليوم الحل للمشاكل الاجتماعية:
يقول "المهاتما غاندي"[8] بأسلوبه الذي لا يحاكى:
"لقد قال أحد الأوربيين في جنوب إفريقية أنهم يخشون مجيء الإسلام. الإسلام الذي حضَّر ومدَّن أسبانيا، الإسلام الذي حمل مشعل النور إلى مراكش وبشر العالم ببشارة[9] الأخوة.
إن الأوروبيين في جنوب إفريقية يخشون مجيء الإسلام لأنه يقرر ويؤكد مساواة الملونين بالأجناس البيضاء، فليخشونه بجد. وإذا كانت الأخوة خطيئة وإذا كانت المساواة بالأجناس الملونة هو ما يخشونه، فخشيتهم إذن في محلها".
الحج شهادة حية:
يرى العالم كل عام في موسم الحج المشهد الرائع لهذا الاستعراض العالمي للإسلام وهو يسوي جميع الفروقات في الجنس واللون والمكانة. ولا يجتمع الأوربيون والأفارقة والفرس والهنود والصينيون سويًا في مكة كأفراد أسرة ربانية واحدة فحسب، ولكنهم يرتدون زيًا موحدًا أيضًا (إزار) فيرتدي كل رجل منهم قطعتين ساذجتين[10] من القماش الأبيض غير المخيط؛ إحداهما حول سوءته، والأخرى فوق كتفيه (رداء)، وهو حاسر الرأس في غير خيلاء ولا تكلف مرددًا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"[11].
وبذلك لا يبقى ما يفرق بين الرفيع والوضيع. ويحمل كل حاج معه إلى بلده انطباعًا بالمدلول العالمي للإسلام.
إن كلمات الأستاذ "هوجرونجي" توضح هذه المسألة حيث يقول: "إن عصبة الأمم التي أسسها نبي الإسلام تضع مبدأ الوحدة الإسلامية والأخوة الإنسانية على أسس عالمية بحيث تعطي للأمم الأخرى مثالاً يحتذى". ويمضي قائلاً: "الحقيقة هي أنه لا توجد أمة في العالم يمكن أن تضاهي ما فعله الإسلام حيال تحقيق فكرة عصبة الأمم".
الإسلام منارة لعالم ضل السبيل:
إن نبي الإسلام قد جاء بحكم الديمقراطية في أحسن أشكالها[12].
إن الخليفة عمر، والخليفة علي زوج ابنة النبي، والخلفاء المنصور، والعباس بن الخليفة المأمون، وخلفاء وملوك آخرين كثيرين كان عليهم أن يمثلوا أمام القضاة كرجال عاديين في المحاكم الإسلامية. ونحن نعلم كيف يُعامَل السود بواسطة الأجناس البيضاء المتحضرة حتى يومنا هذا.
ولنأخذ كمثال منزلة بلال العبد الحبشي في أيام نبي الإسلام زهاء أربعة عشر قرنًا خلت؛ إن العمل كمؤذن لصلاة المسلمين كان يعتبر عملاً يدعو للاحترام في أيام الإسلام المبكرة. وقد أعطي هذا العمل لهذا العبد الحبشي، وأمره النبي بعد فتح مكة أن ينادي للصلاة فوقف هذا العبد الحبشي ذو البشرة السوداء والشفتين الغليظتين على سطح الكعبة المشرفة أكثر الأماكن عراقة وقداسة في العالم الإسلامي، وهنالك صرخ أحد العرب المستكبرين بصوت عال متألمًا: "الويل لهذا العبد الحبشي الأسود، إنه يقف فوق سطح الكعبة المشرفة لينادي للصلاة ".
وقد ألقى نبي الإسلام خطبة كانت كأنها الرد على هذه الثورة التي تفوح منها رائحة الكبرياء والهوى اللذين عزم نبي الإسلام على استئصالهما، قال فيها ما معناه:
"الحمد لله الذي أذهب عنا نخوة[13] الجاهلية وتفاخرها بالأنساب. أيها الناس اعلموا أن الناس فريقين: الأبرار المتقين الفائزين عند الله، والفجار القاسية قلوبهم السفلة الذين تزدريهم عين الله، وإلا فإن الناس كلهم لآدم وخلق الله آدم من تراب".
وقد صدق القرآن هذا فيما بعد وأكده بهذه الكلمات:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
التحول فوق العادي:
إن نبي الإسلام أحدث تحولاً هو من العظم بحيث أن أكرم العرب وأخلصهم نسبًا عرضوا بناتهم للزواج من هذا العبد الحبشي. وكلما رأى خليفة الإسلام الثاني المعروف في التاريخ بأمير المؤمنين عمر العظيم، هذا العبد الحبشي وقف له احترامًا ورحب به معلنًا: "هاهو قد جاء سيدنا، هاهو قد جاء مولانا".
فيا له من تحول هائل هذا الذي أحدثه القرآن والنبي محمد في العرب أكثر الناس تفاخرًا بالأنساب على الأرض في ذلك الحين. وهذا هو السبب الذي دعا "جوته[14] Goethe" أعظم الشعراء الألمان يعلن وهو يتكلم عن القرآن الكريم أن: "هذا الكتاب سيستمر في ممارسة تأثير قوي جدًا عبر جميع العصور".(5/39)
وهو السبب أيضًا الذي دعا "جورج برنارد شو[15] George Bernard Show" يقول: "لو قدر لأي دين أن يسود إنجلترا، لا بل أوروبا في غضون المائة عام المقلبة، فالإسلام هو هذا الدين".
الإسلام حرر المرأة:
لقد كانت نفس روح الإسلام الديمقراطية هذه هي التي حررت المرأة من قهر الرجال. يقول السير "تشارلز إدوارد أرشيبالد هاملتون":
"إن الإسلام يُعَلّمُ البراءة الأصلية[16] للإنسان، ويعلم أن الرجل والمرأة جاءا من نفس واحدة[17]، وأنهما يملكان نفس الروح، وأنهما مُنحَا قدرات متساوية من المواهب العقلية أو الفكرية والروحية أو الدينية والأخلاقية"[18].
إقرار حق الملكية للنساء:
كان للعرب عادة شديدة التأصل هي أن من يرث هو فقط من يطعن بالرمح ويصنع السيف. ولكن جاء الإسلام ليدافع عن الجنس الضعيف وأعطى المرأة حق المشاركة في وراثة الوالدين[19]، وأعطى الإسلام المرأة من قرون مضت حق ملكية المال. بينما طبقت إنجلترا ـ التي يفترض أنها مهد الديمقراطية هذا المبدأ الإسلامي بعد اثني عشر قرنًا وفي عام 1881 بعد المسيح فقط ـ وصدر مرسوم سمي مرسوم النساء المتزوجات" (The Married Women's Act).
ولكن قبل ذلك بقرون كان نبي الإسلام قد أعلن أن "النساء شقائق الرجال وحقوق النساء مقدسة"، "لا تبخسوا النساء حقًا مما فرض لهن"، "استوصوا بالنساء خيرًا" (الأحاديث بالمعنى).
يقول "توماس كرلايل" عن محمد: "إن الصوت الفطري للإنسانية والتقوى والإنصاف الساكن في قلب هذا الابن البري للطبيعة، يتكلم".
الاختبار:
قال أحد المؤرخين ذات مرة: يجب أن يحكم بعظمة الرجل من خلال ثلاثة اختبارات:
(1) هل كان عند معاصريه ذو عزم صادق؟
(2) هل كان من العظمة بحيث يرتفع فوق مستوى من هم في سنه؟
(3) هل ترك شيئًا كتراث دائم للعالم كافة؟[20]
يمكن لهذه القائمة أن تمتد إلى مدى أبعد ولكن كل هذه الاختبارات الثلاثة للعظمة تتحقق بوضوح ولأعلى درجة في حالة النبي محمد.
وقد ذكرنا من قبل بعض الأمثلة فيما يتعلق بالاختبارين الأخيرين.
دعنا نتناول أول هذه الاختبارات وهو:
هل كان نبي الإسلام عند معاصريه ذو عزم صادق ؟
الشخصية المعصومة:
تظهر السجلات التاريخية أن جميع معاصري محمد الأصدقاء والأعداء اعترفوا بالشمائل النقية والاستقامة الخالصة والفضائل الكريمة والإخلاص المطلق والأمانة المطلقة لرسول الإسلام في جميع نواحي الحياة وفي كل مجال للنشاط الإنساني. حتى أن اليهود وأولئك الذين لم يؤمنوا برسالته قبلوه حكمًا في نزاعاتهم الشخصية[21] بسبب ما عرفوه عنه من تحريه عدم التحيز.
وحتى أولئك الذين لم يؤمنوا برسالته اضطروا لأن يقولوا: "يا محمد إننا لا نكذبك ولكننا نكفر بالذي أعطاك كتابًا وأوحى إليك بالرسالة"[22].
وقد ظنوا أن به جنة، وحاولوا علاجه بالعنف. ولكن أحسنهم طريقة رأوا نورًا جديدًا أشرق عليه وأسرعوا في طلب هذا التنوير.
إن الميزة البارزة في سيرة نبي الإسلام أن عشيرته الأقربين كابن عمه الحبيب وأصحابه الحميمين الذين عرفوه معرفة وثيقة جدًا تشربوا بالكامل بصدق رسالته واقتنعوا بأصالة الوحي الإلهي الذي جاء به.
يقول سيد أمير علي في كتابه "روح الإسلام":
"لو أن هؤلاء الرجال والنساء والشرفاء والعقلاء، ومن المؤكد أنهم لم يكونوا أقل تعليمًا وثقافة من صيادي السمك بالجليل[23]، شعروا بأدنى إشارة إلى رغبة المعلم[24] الدنيوية وخداعه أو نقص إيمانه، لكان رجاء محمد في التجديد الأخلاقي والإصلاح الاجتماعي قد انهار إلى أنقاض في لحظة".
إننا نجد على العكس إخلاص أتباعه له يتمثل في اعترافهم به بإرادتهم كقائد لحياتهم، وقد تحملوا من أجله الاضطهاد والخطر بشجاعة وآمنوا به ووثقوا فيه وأطاعوه ووقروه حتى في خلال تعرضهم لأشد العذاب والكرب العقلي بسبب فرض العزلة عليهم حتى الموت.
هل يكون هذا هو حالهم لو أنهم لاحظوا على قائدهم أدنى اعوجاج؟
الحب السرمدي للنبي الكريم:
لتقرأ سيرة المهتدين الأوائل إلى الإسلام وسينفطر كل قلب لمنظر المعاملة الوحشية للرجال والنساء الأبرياء؛ فقد مزقوا بقسوة سمية تلك المرأة البريئة كل ممزق بالطعن النافذ بالحراب. أما ياسر (زوجها) فقد جعلوه عبرة، وشدوا ساقيه إلى ناقتين وسيقت الدابتين في اتجاهين معاكسين.
أما خباب بن الأرت فجعلوه يرقد على سرير من الجمرات المحترقة وجثم الطغاة عديمو الرحمة بأرجلهم بوحشية فوق صدره حتى لا يتحرك مما جعل الشحم تحت جلده ينصهر.
وخباب بن عَديّ الذي قتلوه بطريقة وحشية ومثلوا بجسده وانتهكوا حرمته ومزقوه إربًا إربًا.
وحينما كان يُسأل في وسط هذا التعذيب إن كان يرجو لو أن محمدًا كان مكانه وهو آمن في بيته بين أهله؟ كان يصرخ معلنًا أنه مستعد عن طيب خاطر أن يفتدي محمدًا بنفسه وأهله وأبنائه ومن في الأرض جميعًا، ثم ينجيه من وخزة الشوكة حتى لا يشاكها.
ويمكننا أن نروي روايات لا حصر لها عن أحداث من هذا القبيل تنفطر لها القلوب.(5/40)
ولكن ما الذي تظهره كل هذه الأحداث؟
ما السبب في أن أبناء وبنات الإسلام هؤلاء لم يُسَلّموا لنبيهم طاعة وتسليمًا فحسب، وإنما جعلوا أجسامهم وقلوبهم وأنفسهم فداه؟
ألم يكن إيمان أتباع محمد المباشرين واقتناعهم الشديد أرفع شهادة على صدقه واستغراقه التام في المهمة التي كلف بها؟
أتباعه من أحسن الناس عقلاً ومنزلة:
ولم يكن أصحابه من السفلة أو من ذوي العقليات المتدنية، بل الذين التفوا حوله في وقت مبكر نسبيًا هم أفضل وأشرف من في مكة، كانوا وجوه القوم وصفوتهم، رجال لهم مراكزهم ومكانتهم وثراءهم وثقافتهم من الأصحاب والأقارب الذي عرفوا أدق التفاصيل في حياته.
إن جميع الخلفاء الأربعة الأوائل بشخصياتهم الشامخة كانوا ممن اهتدى في هذه الفترة المبكرة.
تقول دائرة المعارف البريطانية: "إن محمدًا هو الأكثر نجاحًا وتوفيقًا من كل الأنبياء والشخصيات الدينية".
ولكن هذا النجاح لم يكن نتيجة مصادفة مجردة، لم يكن ثمرة أسقطتها الرياح؛ لقد كان اعترافًا بحقيقة أن معاصريه وجدوه ذو عزم صادق، وكان نتيجة لشخصيته التي تدعو إلى الإعجاب وتدفع بشدة إلى الانتباه.
-----------------
الهوامش:
[1] من الآية 134 من سورة آل عمران.
[2] إن الحرب دفاعًا عن النفس أمر طبيعي ومشروع في كل عرف ودين، ويحلو لبعض المستشرقين وغيرهم ـ عند الكلام عن دواعي الحرب في الإسلام ـ الزعم بأن الإسلام جاء ليفرض على الجميع بحد السيف، وذلك لإظهار الإسلام بصورة زائفة مشوهة والصد عنه بإخفاء تعاليمه السمحة، أو القول بأن الإسلام انتشر بالسيف كمحاولة للنيل من عظمة الإسلام والتقليل من شأنه. وفريق آخر من المسلمين ومعهم بعض المستشرقين وربما بإيعاز ووحي منهم أو تأثرًا بهم في محاولة منهم لإظهار ما يسمونه "الوجه الحضاري للإسلام" (كأن للإسلام وجهًا آخر ليس كذلك)، أو إرضاءً لدعاوى تفريغ الإسلام من مضمونه وتزييف حقائقه وتمسكًا منهم بأحاديث ضعيفة وربما موضوعة مما ينسبونه للرسول صلى الله عليه وسلم من قول: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". ويفسرون الجهاد الأصغر بأنه القتال في سبيل الله، والجهاد الأكبر بأنه جميع أركان وفرائض وفضائل الإسلام ما عدا القتال في سبيل الله!
إن القول بأن الإسلام انتشر بالسيف بمعنى أن الناس أكرهوا على اعتناقه هو غلط شنيع، كما أن القول بأن الإسلام لم يرفع سيفًا في نشره هو أيضًا خطأ جسيم؛ فإن الإسلام يشرع استخدام السيف في مرحلة متأخرة عند منع تبليغ الإسلام سلمًا. إذن فالإسلام شرع القتال عند الامتناع عن دفع الجزية، أو الوقوف حائلاً دون نشر الدين، فضلاً عن شرعه للدفاع عن النفس. (المترجم)
[3] أهماج: جمع همج، وهم الرعاع من الناس لا نظام لهم. (المعجم الوسيط).
[4] يشير المؤلف هناك إلى صلاة الخوف التي صلاها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسلمين في ساحة القتال استجابة لأمر ربه وبالكيفية التي علمها له ربه حيث يقول في كتابه العزيز: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا، وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 101، 102] (المترجم).
[5] انظر كتاب: "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن قيم الجوزية، طبعة 1400هـ ـ 1980م، نشر المكتبة التوفيقية بالحسين، م1 حـ2 ص 165. (المترجم)
[6] يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ويقول تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم"، ويقول أيضًا: "وكونوا عباد الله إخوانًا" (الأحاديث بمعانيها).(5/41)
[7] يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، ويقول صلى الله عليه وسلم: "الناس سواسية كأسنان المشط، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا: "كلكم لآدم وآدم من تراب"، وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (الأحاديث بمعانيها) (المترجم).
[8] هو "موهانداس كرمشند غاندي" (1869 – 1948م): زعيم سياسي وروحي هندي، نادى باللاعنف. وبالمقاومة السلبية، وعمل لاستقلال الهند. ( المورد، 1990).
[9] تترجم كلمة "جوسبل Gospel" بالبشارة، كما تترجم أيضًا بالإنجيل. وأصلها في الإنجليزية القديمة "جودسبلGodspel "، وهي ترجمة للكلمة اللاتينية "إفانجليوم evangelium" التي تعني حرفيًا القصة الطيبة (قاموس تشيمبرز للقرن العشرين). والبعض يترجمها بالبشارة أو النبأ السار أو السعيد أو الخبر المفرح، وقد بشر الإسلام بالأخوة الدينية في أسمى معانيها ودرجاتها على أساس من تقوى الله وتكافل البشرية. وما أكثر السرور والسعادة والفرح الذي تدخله هذه البشارة على قلوب المؤمنين. (المترجم)
[10] الساذج: الخالص غير المشوب، وغير المنقوش. وهي ساذجة. (معرب، فارسيته: سادة) (المعجم الوسيط).
[11] يسمى هذا المنسك من مناسك الحج "بالتلبية" ولفظها: "لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك" وهي شعار الحج ودليل الإحرام. ويقال: لبيك: لزومًا لطاعتك، أو إلبابًا بعد إلباب، وإقامة بعد إقامة، وإجابة بعد إجابة. أو معناه: اتجاهي إليك وقصدي وإقبالي على أمرك. مأخوذ من قولهم: داري تلب داره: تواجهها وتحاذيها، وهو مصدر منصوب ثنى على معنى التأكيد. ولبى بالحج: قال: لبيك اللهم لبيك. (المعجم الوسيط) (المترجم).
[12] لولا يسمون الأشياء بأسمائها وينسبونها لأصحابها؛ فالذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن وهو كلام الله وشرعه وحكمه، والله هو الذي قرر مبدأ الشورى فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه إذ يقول: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، ومدح المسلمين فقال عنهم: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. إن الديمقراطية في أفضل تصوراتها هي حرية الشعب في إبداء رأيه والمشاركة في الحكم في وطنه، وهي كما ترى لا تخلو من النقائص البشرية. أما الحكم في الإسلام فهو قائم على القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والإجماع والشورى. هذا حكم الله {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50 ] لا أحد! فهلا فهم الناس الفرق ؟! (المترجم).
[13] النخوة: العظمة والتكبر (المعجم الوسيط).
[14] هو "برهان فولفجانج فون جوته" (1749 ـ 1832م): شاعر ألماني، يعتبر أعظم الشعراء الألمان في جميع العصور. (المورد، 1990).
[15] جورج برنارد شو (1856 ـ 1950م): كاتب مسرحي إنجليزي أيرلندي المولد، تزخر آثاره بالظرف والسخرية. (المورد، 1990).
[16] أي أن الإنسان يولد بريئًا بلا ذنوب، بخلاف ما تعلمه المسيحية من القول بالخطيئة الأصلية للإنسان Original sin. وبأن البشرية ورثت خطيئة آدم وأن الأبناء يرثون خطايا الآباء. فالإسلام يعلم أن المرء يولد على الفطرة وأن {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، و{لا يكلف الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 28]، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] (المترجم).
[17] يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].(5/42)
[18] يقول الله سبحانه وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، ويقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [النساء: 124].
[19] قال تبارك وتعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7]، وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19]. قال فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف في صفوة البيان لمعاني القرآن: {لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا}: أي تأخذوهن على سبيل الإرث، كما يؤخذ المال الموروث بعد موت أزواجهن مكرهين لهن على ذلك، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية. قلت: فقد كان الرجل منهم يرث زوجة أبيه ويتزوجها من بعده فنهى الله تبارك وتعالى عن ذلك في قوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً} [النساء: 22] (المترجم).
[20] يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي" (معنى الحديث) (المترجم).
[21] لقد فضح الله تعالى موقفهم المتناقض برفضهم للرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم معتذرين بأنهم أهل كتاب ولهم كتاب وشرع كامل لا يزيد ولا ينقص ولا ينسخ، صالح لكل الأزمنة والمجتمعات، وذلك بما حفظه لنا من تحاكمهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم إذ يقول الله تبارك وتعالى مخاطبًا محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43].
[22] يصدق ذلك ما جاء في القرآن من قوله تبارك وتعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
[23] يشير المؤلف هنا إلى تلاميذ المسيح حسب ما جاء في أناجيل النصارى المعتمدة. وما يثير الدهشة هو أن النصارى يؤمنون بأن مؤلفي الأناجيل هم من هؤلاء الصيادين البسطاء، وهو الأمر الذي ينفيه العلم كما ينفيه ما تضمنته بعض تلك الأناجيل من أساليب وثقافة بعيدة كل البعد عن صيادي الجليل. ولم يكن باستطاعة أحد تلاميذ المسيح (وكلهم يهود) بل ولم يكن مسموحًا لهم الاطلاع على هذه الثقافات والمقالات الوثنية التي وردت في الأناجيل وخاصة في إنجيل يوحنا. ونحن نستبعد نسبة أي من هذه الأناجيل لمؤلفيها المفترضين الذين تقترن أسماؤهم بها. هذا بصرف النظر عن كون المؤلف المفترض أحد تلاميذ المسيح حقًا ـ كما يزعم في متى وإلى درجة أقل في يوحنا ـ أم لا، كما نميل إلى القول بأن أحدًا منهم لم يعلم الكتابة سوى متى العشار (جاب الضرائب) استنادًا لما روي عن ذلك في الأناجيل مع الافتقار إلى الدليل وفقدان العصمة ووقوع الخطأ في جميع أسفار الكتاب المقدس. راجع كتاب "هل الكتاب المقدس كلام الله؟" لأحمد ديدات. ومقال بعنوان "خمسون ألف خطأ في الكتاب المقدس؟" نشر في مجلة "آويك المسيحية" في 8/9/1957 من منشورات دار المختار الإسلامي.
أما الصحابة الكرام رضوان الله عليهم فقد مدحهم المولى سبحانه وتعالى في عدة مواضع من كتابه العزيز وشهد لهم بالإيمان وبرضى الله عنهم. وكذلك شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بالفضل والخيرية في أحاديثه.
وهذا كله خلاف وصف الكتاب المقدس لأتباع أنبياء بني إسرائيل بالكفر وقلة الإيمان وعدم الفطنة وسوء الخلق والجهل. هذا وقد سطر التاريخ بأحرف من نور سير هؤلاء الصحابة كتراث خالد للعالم كله ومعالم للهداية الإنسانية. ( المترجم )
[24] يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أثبت الله في كتابه المبين صفة التعليم لسيد المرسلين وأقرها له وجعلها مهمة مشروعة من مهام رسالته هذا بعكس ما يردده بعض الجهلاء من أقاويل تزعم أن دوره كان مقتصرا على تبليغ الرسالة في محاولة منهم لنفي أي دور أو مهمة تعليمية لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلم الأول للبشرية وهاديها ومرشدها وخير مبعوث وأنفعهم لها وأرحمهم بها ويقول الله تبارك وتعالى في ذلك:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: ] (المترجم)
54. ... الصادق
المثال الكامل لحياة البشر:(5/43)
إنه من الصعب جدا أن نصل إلى الحقيقة الكاملة لشخصية محمد. إنني لم أستطع الحصول إلا على لمحة سريعة منها. يا لها من تعاقب مثير لمشاهد رائعة!
فهناك محمد النبي ومحمد القائد ومحمد الملك ومحمد المقاتل ومحمد التاجر ومحمد الواعظ أو البشير ومحمد الحكيم ومحمد رجل الدولة ومحمد الخطيب ومحمد المصلح والمجدد ومحمد ملاذ اليتامى ومحمد حامي العبيد (الرقيق) والمدافع عنهم[1] ومحمد محرر النساء[2] ومحمد القاضي والحكم ومحمد القديس.
ولقد كان محمد بطلاً في كل هذه المهام الجليلة وفي جميع مجالات النشاط الإنساني على حد سواء.
إن حال اليتيم هو منتهى الضعف وانعدام الحيلة.
وقد بدأ محمد حياته يتيمًا. والملك هو ذروة السلطة المادية، وقد انتهت إليه حياته[3].
وقد تقلب حاله من صبي يتيم إلى لاجئ مضطهد ثم إلى سيد[4]ـ بالمفهوم الديني والدنيوي أيضًا ـ لأمة بأكملها، مقررًا لمصيرها بكل ما فيه من تجارب وإغراءات ومخاطر وبكل ما فيه من تقلبات وتغيرات ومن ضياء وظلام ومن ارتقاء وانحدار ومن فظاعة وعظمة.
لقد قاوم محن الدنيا وخرج منها سالمًا ليكون مثالاً يحتذى في كل مرحلة من مراحل الحياة. ولم تقتصر إنجازاته على جانب واحد من جوانب الحياة ولكنها شملت أيضًا جميع أوضاع البشرية الاجتماعية.
محمد الأعظم:
لو أن العظمة تكمن في تنقية وتطهير أمة مشربة بالهمجية والتخلف ومنغمسة في ظلام أخلاقي مطلق، فإن الشخص المتميز بالفاعلية والمليء بالقوة والنشاط الذي استطاع أن يحول ويهذب وينهض بأمة بأكملها غارقة في الحضيض ـ كما كان حال العرب ـ ويجعلهم حملة مشاعل الحضارة والمدنية والتعليم، له كل الحق في هذه العظمة.
ولو أن العظمة تكمن في توحيد العناصر المتنافرة والمتضاربة والمتشاكسة والمختلفة في المجتمع برابطة الأخوة والإحسان، فإن لنبي الصحراء كل الحق لهذا الامتياز.
ولو أن العظمة تكمن في إصلاح هؤلاء الغارقين في أوهام ومعتقدات خرافية منحطة ومخزية وممارسات خبيثة مهلكة متعددة الأنواع، فإن نبي الإسلام قد بدد الأوهام والمعتقدات الخرافية والمخاوف المنافية للعقل والمنطق من قلوب الملايين.
ولو أن العظمة تكمن في نشر الأخلاق السامية، فإن الأعداء والأصحاب شهدوا لمحمد بأنه الصادق الأمين.
ولو أن الفاتح المنتصر رجل عظيم، فهاهو إنسان قد بلغ مرتبة مساوية للأكاسرة والقياصرة بعد أن كان مخلوقًا بسيطًا يتيمًا لا حول له ولا قوة. وأسس إمبراطورية عظيمة ظلت كذلك على مدى هذه القرون الأربعة عشرة.
ولو أن الحب الشديد الذي يناله القائد هو المقياس للعظمة، فإن مجرد ذكر اسم هذا النبي له تأثير الرقية الفاتنة ـ حتى في يومنا هذا ـ على ملايين الأنفس المنتشرة في جميع أنحاء العالم.
النبي الأمي:
لم يدرس محمد الفلسفة أو الحكمة في مدارس أثينا أو روما أو فارس أو الهند أو الصين. ومع ذلك فقد استطاع أن يكشف للبشرية أسمى وأعلى الحقائق الخالدة القيمة، وبالرغم من كونه أميًا فقد كان يستطيع الكلام بفصاحة وحماسة تدفع الرجال إلى دموع الفرحة، ومع أنه ولد يتيمًا وبلا أموال دنيوية فقد كان محبوبًا من الجميع.
كما أنه لم يدرس في أية أكاديمية عسكرية ومع ذلك فقد كان يستطيع تنظيم قواته في مواجهة ظروف مروعة، وانتصر بواسطة القوات العسكرية ذات الخلق والدين التي كان ينظم ويرتب صفوفها بنفسه.
إنه نادرًا ما نجد الرجال الموهوبين بالقدرة الفائقة على الوعظ والحديث الجاد. وقد اعتبر "ديكارت"[5] Descartes الواعظ الماهر ضمن أندر أصناف الرجال في العالم.
وقد عبر "هتلر"[6] عن رأي مشابه في كتابه "كفاحي". حيث يقول: "من النادر أن يكون واضع النظريات قائدًا عظيمًا، أما المحرك الاجتماعي أو السياسي فامتلاكه لتلك الصفات التي ترشحه للقيادة أرجح إلى حد بعيد، فهو دائمًا قائدًا أفضل؛ فالقيادة تعني القدرة على تحريك جموع البشر، والقدرة على تقديم الأفكار لا علاقة لها بالقدرة على القيادة".
ولكنه يضيف: "إن اتحاد صفات وضع النظريات والتنظيم والقيادة في شخص واحد هي ظاهرة من النادر جدًا حدوثها في هذا العالم. وهنالك تكمن العظمة".
وقد شاهد العالم هذه الظاهرة النادرة تتجسد في شخص عاش على الأرض هو نبي الإسلام.
يقول "كارلايل"[7] في كتابه "الأبطال وعبادة الأبطال":
"لقد كان محمدًا رجلاً فقيرًا، شديد الكدح، غير قادر على الإعالة، لا يهتم بما يجتهد في طلبه الرعاع أو السوقة. وفيما أرى فإنه لم يكن امرؤ سوء، ولم يكن طالب شهوة من أي نوع، وإلا ما وقره هؤلاء الرجال الوحشيين[8]، الذين قاتلوا وخاضوا الملاحم طوع أمره خلال ثلاث وعشرين سنة، وهم في ذلك وثيقوا الصلة به دائمًا، كل هذا التوقير!
"لقد كانوا رجالاً وحشيين يندفعون بين الفينة والفينة بقوة إلى التشاجر وكل ألوان التشاحن العنيف، وما كان يستطيع أي رجل أن يقودهم بدون أن يمتلك القيمة الأخلاقية والشجاعة.
أو إنكم لتعجبون كيف دعوه واعتبروه نبيًا؟(5/44)
أولم يقف وسطهم ظاهرًا لهم يواجهونه ويخاطبونه بلا حاجب بينه وبينهم، غير محاط بأي سر من الأسرار الدينية أو غموض. فكان يرى وهو يرقع ثوبه ويصلح نعله، ويقاتل ويستشير ويصدر الأوامر وهو بينهم. فلابد أنهم أدركوا أي نوع من الرجال كان.
ولتسمه ولتدعه ما تشاء! إنه لم يطع إمبراطورًا جليلاً متوجهًا مثلما أطيع هذا الرجل في ثوب رقعه بنفسه.
وإنني لأجد أن خوضه ثلاثة وعشرين عامًا من التجارب الحرجة الصعبة يستلزم بالضرورة نوعًا من البطولة الحقيقية".
والأعجب من ذلك ما يقوله القس "بوزوورث سميث" Bosworth Smith:
"لقد كان رئيسًا للدولة ولجماعة تدين بنفس العقيدة، لقد كان يجمع سلطة ومقام قيصر والبابا معًا، ولكنه بابا بدون خيلاء البابا وغروره، وقيصر بلا فيلق[9] أو حشوده وبلا جيش عامل ولا حارس شخصي ولا قوة من الشرطة ولا دخل ثابت. لو أن ثمة رجل كان له الحق في أن يدعي أنه يحكم بالحق الإلهي فقد كان هذا الرجل هو محمد، فقد كانت معه جميع السلطات من غير أن يكون معه ما يدعمها أو يحافظ عليها. وقد كانت بساطة حياته الخاصة متطابقة ومنسجمة مع حياته العامة".
محمد الطاهر النقي:
لقد صارت مساحة تقدر بمليون ميل مربع تحت تصرفه بعد فتح مكة. إن سيد جزيرة العرب كان يصلح نعله ويرتق أو يرفو ملابسه الصوفية الخشنة ويحلب الشياة ويكنس البيت ويوقد النار ويقوم بالأعمال المنزلية الأخرى التي يعهد بها إلى الخدم عادة. وفي الأيام الأخيرة من حياته كانت المدينة حيث كان يقيم قد صارت أكثر غنى، وكان الذهب والفضة متوفرين في كل مكان. وعلى الرغم من الرخاء الاقتصادي الذي كانت تشهده المدينة في تلك الأيام فإن أيامًا كثيرة كانت تمضي من غير أن توقد النار في بيت ملك جزيرة العرب[10].
وكان طعامه يقتصر على (الأسودين) التمر والماء، وكان أهل بيته يبيتون جوعى ليال عديدة متعاقبة لأنه ليس ثمة طعام يأكلونه في تلك الليالي، ولم يكن محمد ينام على فراش وثير وإنما كان فراشه حصيرًا مصنوعًا من ألياف النخل بعد يوم شاق طويل. وقضى معظم ليله في الصلاة[11].
وكثيرًا ما كان يندفع إلى البكاء بين يدي خالقه طالبًا أن يمنحه القوة للقيام بواجباته.
وكما تذكر لنا الروايات فقد كان صوته يكاد يحبس بسبب بكائه فيبدو كأنه أزير[12] مرجل [13] بدأ يغلي على النار.
وكان كل ما يملكه يوم وفاته هو بضع دراهم، قسم منها قضى به دين له وأعطى الباقي لبعض الفقراء الذين جاءوا إلى بيته يطلبون إحسانًا.
والثوب الذي كان يلبسه حينما فاضت روحه إلى بارئها كان به رقعًا عديدة.
أما البيت الذي طالما انتشر منه النور إلى العالم فكان معتمًا لأنه لم يكن في المصباح زيتًا.
الثبات على المبدأ حتى الموت:
لقد تغيرت الظروف المحيطة به ولكن نبي الله لم يتغير. وكانت لمحمد نفس الشخصية سواء في حال النصر أو الهزيمة وسواء في حالة القوة أو المحنة وسواء في ساعة اليسر أو العسرة. فرسل الله وأنبياؤه لا يتبدلون كما لا تتبدل طرق الله وسننه ونواميسه.
محمد الأعظم[14]:
يقول المؤرخ الفرنسي لامارتين[15] في كتابه: "تاريخ تركيا" طبعة باريس 1854، المجلد الثاني ص 276 و277:
لو أن عظم الغاية
وصغر الوسائل وقلة الموارد
والنتائج المدهشة
هي ثلاثة معايير لعبقرية الإنسان، فمن يجرؤ على مقارنة أي رجل عظيم في التاريخ الحديث بمحمد؟
إن أشهر الرجال صنعوا الأسلحة وشرعوا القوانين ووضعوا النظريات وأسسوا الإمبراطوريات فقط، فهم لم يؤسسوا ـ لو اعتبرنا أنهم أسسوا شيئًا يذكر ـ أكثر من قوى مادية أو سلطات مادية كثيرًا ما انهارت وزالت أمام أعينهم.
أما هذا الرجل، محمد، فإنه لم يحرك ويؤثر في الجيوش والتشريعات والإمبراطوريات والشعوب والأسر الحاكمة فقط ولكنه حرك وأثر في ملايين الرجال، بل الأكثر من ذلك إنه أزاح الأنصاب[16] والمذابح والآلهة الزائفة وأثر في الأديان وغير الأفكار والاعتقادات والأنفس.
واستنادًا إلى كتاب كل حرف منه صار يمثل شريعة، أسس محمد قومية روحية (أو دينية) امتزجت فيها بتآلف سويًا شعوب من كل لسان ومن كل جنس.
إن فكرة وحدانية الله التي أعلنها ونادى بها ودعا وسط السأم الشديد من النظريات اللاهوتية[17] الخرافية غير القابلة للتصديق، كانت في نفسها معجزة بحيث أنه بمجرد أن صرح بها دمرت جميع الاعتقادات الخرافية القديمة..
إن صلواته ودعواته المتصلة، وأحاديثه الغيبية أو مناجاته مع الله، ووفاته ونجاحه وانتصاره بعد وفاته، كلها أمور لا تشهد على أنه كان دجالاً أو مدعيًا للنبوة ولكنها تشهد على إيمان راسخ منحه القوة لكي يحيى ويجدد العقيدة. وهذه العقيدة كانت ذات شقين هما: وحدانية الله وأن الله ليس كمثله شيء. فالشق الأول يثبت لنا ما لله (من أسماء وصفات)، والشق الآخر ينفي عنه ما ليس له[[18.(5/45)
".. حكيم وخطيب ورسول ومشرع ومقاتل وسيد على الأفكار، ومحيي ومجدد للاعتقادات المعقولة والمنطقية ولدين بلا تماثيل ولا صور، ومؤسس لعشرين إمبراطورية أرضية أو دنيوية وإمبراطورية واحدة روحية أو دينية، هذا هو محمد.
ووفقًا لكل المقاييس التي يمكن أن تقاس بها عظمة البشر يحق لنا أن نسأل: هل هناك أي إنسان أعظم منه؟ "
--------------
الهوامش:
[1] جاء في الأصل الإنجليزي جملة Protector of Slaves بمعنى حامي العبيد والمدافع عنهم. وكلمة Protector الإنجليزية المستخدمة هنا قريبة في معناها من كلمة Advocate التي تعني "المحامي" و "المؤيد" (لقضية أو إقتراح) والفعل Advocate معناه: يدافع عن أو يؤيد كما جاء في (المورد، 1990م).
وكلمة Advocate هي إحدى الترجمات الإنجليزية لكلمة "البارقليط" Paraclete التي وردت في إنجيل يوحنا على لسان السيد المسيح (عليه السلام) باعتباره "إسم" النبي الموعود. ويقول علماء اللغة إن كلمة "بارقليط" تحريف لكلمة بيرقليط Periclyte وهي الكلمة التي يعتقد أن السيد المسيح (عليه السلام) تلفظ بها. وقد قال بعض علماء أهل الكتاب (من أسلم منهم ومن لم يسلم) أنها كلمة سريانية أو أرامية بمعنى "أحمد" أو الإنسان الذي يحمد حمدًا كثيرًا. لمزيد من التفصيل راجع كتاب: "من المعمدانية إلى الإسلام" قصة إسلام الأمريكية المهتدية "جهادة جلكريز". التعليق رقم (1)، ص 24، 25 ، ورقم (2)، ص 26، 27، وقد قمت بترجمته والتعليق عليه وصدر ضمن سلسلة "مكتبة ديدات". نشر المختار الإسلامي بالقاهرة. راجع أيضًا ص 28 ـ 31 من هذا الكتاب.
[2] نعم إن محمدًا صلى الله عليه وسلم حرر المرأة كما حرر الرجل، ولكن مفهوم الحرية الذي نقصده ليس حرية أن تفعل كل ما تشاء كيف تشاء متى تشاء، وإنما هي حرية قيمة تؤدي بالمرأة إلى الإيمان بالله والخضوع والاستسلام له ومعرفة الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين والانصياع لأوامره ونواهيه. فمنتهى الحرية أن تتحرر من جهل وأوهام وخرافات التعددية والشرك والتثليث والمفاهيم الباطلة والعقائد المتهافتة والشرائع الناقصة والجائرة والعادات الجاهلية وتكون عبدا مُخلِصًا مُخلَصًَا لله الواحد القهار. (المترجم)
[3] إن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يدع أنه ملكًا ولم يدع لنفسه أي لقب من الألقاب التي يلقب بها الناس أنفسهم مثل لقب الإمبراطور أو قيصر أو كسرى أو عظيم القبط أو خاقان البحرين أو شاهنشاه (أي ملك الملوك)، أو الفيورير (أي الزعيم المطلق)، أو الميكادو (أي الباب العالي)، أو الزعيم الخالد أو القائد الملهم أو زعيم "النظام العالمي الجديد"، أو غيرها من الألقاب.. وإنما ادعى لنفسه لقبين لا ينفكان عن بعضهما البعض: "عبد الله ورسوله". عبد الله أولاً، يقر فيها ويشهد برسالته ومهمته التي اختصه الله وشرفه وكلفه بها للعالمين. (المترجم).
[4] حقًا إن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو سيد البشر، وليس بدعًا أن يقال له "سيد" في النطاق البشري؛ فقد قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم عن نبيه يحيى عليه السلام: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"، وبين سبب اكتسابه هذه المنزلة والسيادة بين بني آدم كلهم هو أن جميع البشر بما فيهم الرسل والأنبياء يأتي كل منهم يوم القيامة يقول: "نفسي، نفسي"، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: "أمتي، أمتي". فصلوات ربي وسلامه وبركاته عليك وعلى آلك يا نبي الرأفة والرحمة يا سيدي يا رسول الله. (المترجم).
[5] هو "رينيه ديكارت" (1596 ـ 1650م): فيلسوف وفيزيائي ورياضي فرنسي، يعتبر مؤسس الفلسفة الحديثة (المورد، 1990م).
[6] هو "أدولف هتلر" (1889 ـ 1945م): زعيم ألمانيا النازية. أدت سياسته التوسعية إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، انتحر (المورد، 1990م).
[7] هو "توماس كارلايل" (1795 – 1881م): كاتب ومؤرخ وفيلسوف انجليزي (المورد، 1990م).
[8] عذر "كارلايل" أن ثقافته مستمدة من الكتاب المقدس حيث يقال له أن إسماعيل (عليه السلام) كان إنسانًا وحشيًا. واستنادًا إلى ذلك ـ سواء بوعي أو من غير وعي منه ـ أطلق صفة "الوحشية" على العرب بني إسماعيل عليه السلام. فقد جاء في الكتاب المقدس "وإنه (أي إسماعيل) يكون إنسانًا وحشيًا". (التكوين 16: 12).
[9] الفيلق: وحدة من ثلاثمائة إلى ستمائة جندي في زمن قدماء الرومان "قاموس تشيمبرز للقرن العشرين" طبعة الهند 1972م.
[10] يقصد محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. (المترجم).(5/46)
[11] استجابة وطاعة لأمر ربه في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 1 – 4] (المترجم).
[12] الأزير: يقال لجوفه أزير: صوت. و"أز" أزًا، وأزيرًا، وأزازًا: تحرك واضطرب. و" أزَّ": صوَّت من شدة الحركة أو الغليان ويقال: أز الرعد والقدر والطائرة. و"أز" القدر وبها: جعلها تئز من الغليان. (المعجم الوسيط).
[13] المرجل: القدر من الطين المطبوخ، أو النحاس. (المعجم الوسيط).
[14] هذا العنوان وما بعده من كلام المؤرخ الفرنسي "لامارتين" ملحق بنهاية الفصل الرابع من هذا الكتاب كهامش، مما يرجح أنه إضافة من قبل المركز العالمي للدعوة الإسلامية في دربان بجمهورية جنوب إفريقية. وقد رأينا لاعتبارات فنية جعله في المتن الأصلي للكتاب مع وجوب التنويه على ذلك. (المترجم)
[15] هو "ألفونس دو لامارتين" (1790 ـ 1869م): شاعر وسياسي فرنسي. يعتبر أحد أكبر شعراء المدرسة الرومانتيكية الفرنسية. (المورد، 1990م).
[16] الأنصاب: جمع مفرده نصب. والنصب: ما يذبح عليه لغير الله. يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، ويقول خالد الزعفراني في مصحف القادسية المفسر مختصر تفسير الطبري: "{وما ذبح على النصب} يعني حرم عليكم ـ أيضًا ـ ما ذبح على النصب وهي الأوثان، وكانت حجارة تجمع، ويذبح عليها". ويقول أيضًا: "الأنصاب التي كانوا يذبحون عندها". ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90], و"النصب" أيضًا: ما نصب وعبد من دون الله. (المعجم الوسيط) (المترجم).
[17] اللاهوت: الألوهية، كما يقال الناسوت: لطبيعة الإنسان. و"علم اللاهوت": علم يبحث في وجود الله وذاته وصفاته. ويقوم عند المسيحيين مقام علم الكلام عند المسلمين، وسمي أيضًا "علم الربوبية والإلهيات"، (المعجم الوسيط). قلت: ومقارنته بعلم الكلام عند المسلمين فيه نظر لما ورد في الحديث النبوي من النهي عن التفكر في ذات الله لأنه يؤدي إلى الهلاك. (المترجم)
[18] يعني أن العقيدة الإسلامية كانت أشمل وأدق فيما يتعلق بأسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله وذلك حين أثبتت ما أثبته الله تبارك وتعالى لنفسه من أسماء وصفات وأفعال في القرآن الكريم وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك في أحاديثه. ونفت ما نفاه الله تعالى عن نفسه من أسماء وصفات وأفعال في القرآن الكريم وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك في أحاديثه. (المترجم)
55. ... تراث خالد للعالم
أكثر من أمين:
هناك قول مأثور بأن الرجل الأمين هو أفضل خلق الله. وقد كان محمد أكثر من أمين[1]. لقد كان إنسانًا بكل ما في الكلمة من معان. وكانت سعادة نفسه ورضاها في التعاطف والتواد والمحبة الإنسانية.
لقد كان الهدف من بعثته ورسالته وكل الغاية من حياته ومنتهاها هو أن يخدم الإنسان وأن يهذب الإنسان وأن يزكي الإنسان وأن يعلم الإنسان، وباختصار أن يجعل من الإنسان إنسانًا متمدنًا متحضرًا.
لقد كان مصدر إلهامه الوحيد والقاعدة الهادية الوحيدة له في أفكاره وأقواله وأفعاله هو المصلحة البشرية[2].
لقد كان محمد غير متباه وغير متفاخر إلى أبعد الحدود، وكان منكرًا لذاته إلى أقصى درجة. وما هي الألقاب التي اتخذها لنفسه؟ إنهما لقبان فقط: عبد الله ورسوله. عبده أولاً ثم رسوله، رسول نبي مثل كثير من الأنبياء في كل مكان من هذا العالم بعضهم معروف لنا وكثيرا منهم لا نعرفهم[3].
وإذا لم يعتقد إنسان ما بأي من هذه الحقائق فإنه لم يعد مسلمًا. إنها من شروط إيمان جميع المسلمين.
يقول أحد الكتاب الغربيين:
"إذا نظرنا إلى الظروف المحيطة في زمنه والاحترام غير المحدود من أتباعه له، فإن أكثر الأمور إعجازًا في شأن محمد هو أنه لم يدع أبدًا القوة أو القدرة على عمل المعجزات".
لقد جرت المعجزات على يديه ولكن ليس لكي ينشر دينه. وكان يعزوها بالكلية إلى الله وطرقه التي هي فوق البحث والتفسير، وكان يقول بصراحة ووضوح إنه بشر مثلهم[4]. فلم يكن له كنوز في الأرض ولا في السماء، ولم يزعم أنه يعلم أسرار المستقبل. كل ذلك جرى في زمن كانت تعتبر فيه المعجزات حوادث عادية، تجري بإرادة أقل القديسين قدرًا، وعندما كان الجو كله مشحونًا بالإيمان بالقوة الخارقة الطبيعية سواء في جزيرة العرب أو خارجها.
التوجه العلمي تركة محمد:
لقد وجه محمد انتباه أتباعه للنظر في الكون وسننه حتى يفهمونها ويقدرون مجد الله حق قدره.
يقول القرآن: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38 – 39] [5].(5/47)
إن العالم ليس وهمًا أو خدعة ولا هو مخلوق بلا هدف، إنه خلق بالحق. إن عدد آيات القرآن الداعية إلى تدبر الكون هي عدة أضعاف تلك الآيات المتعلقة بالصلاة والصوم والحج... إلخ مجتمعة, وبدأ المسلمون بتأثيرها يلاحظون الكون ملاحظة دقيقة وتولد عن هذا روح الملاحظة والتجربة العلمية التي لم تكن معروفة لقدماء اليونانيين.
إن ابن البيطار[6] عالم النبات المسلم كتب مؤلفاته في علم النبات بعد أن جمع النباتات من جميع أنحاء العالم، وقد وصفه "ماير" في كتابه "Gesch der Botanika" بأنه أحد أبرز علماء الصناعة.
وارتحل البيروني[7] مدة أربعين سنة لجمع العينات الخاصة بعلم المعادن، وقد رصد علماء الفلك المسلمون بعض المشاهدات الدقيقة على امتداد أكثر من اثنتي عشرة سنة، بينما كتب أرسطو[8] مؤلفاته في علم الطبيعة بدون إجراء تجربة واحدة، وكتب بإهمال في التاريخ الطبيعي مقررًا أن للإنسان أسنانًا أكثر من الحيوان بدون أن يكلف نفسه عناء التحقق بالتجربة من هذه الحقيقة التي يمكن إثباتها ببساطة شديدة.
الغرب مدين للعرب في العلوم:
أخبر "جالين"[9] أعظم خبير في علم التشريح التقليدي بأن الفك السفلي يتكون من عظمتين. وقد ظل هذا التقرير مقبولاً بلا اعتراض لقرون حتى تجشم عبد اللطيف مشقة فحص الهيكل العظمي للإنسان.
ويعطي "روبر بريفو" في كتابه المعروف "صناعة البشرية" عدة أمثلة أخرى مشابهة ثم يقرر:
"إن دَيْن عِلمِنا للعرب لا يكمن في الاكتشافات المثيرة أو النظريات الثورية. إن العلم مدين لثقافة العرب[10] بشيء أعظم من ذلك بكثير، إنه مدين لها بوجوده". ويقول نفس المؤلف: "إن قدماء اليونانيين نظموا وصنفوا ورتبوا منهجيًا وعمموا ووضعوا النظريات، ولكن الأساليب والطرق المتأنية في البحث وتجميع العلم الإيجابي أو الحقيقي وطرق العلم الدقيقة والملاحظة الدقيقة والممتدة والبحث التجريبي، كلها أمور بعيدة عن المزاج اليوناني ومخالفة له. إن ما نسميه علمًا نشأ في أوروبا نتيجة لطرق جديدة للبحث ونتيجة لطريقة التجربة والملاحظة والقياس ونتيجة لتطور الرياضيات بشكل لم يكن معروفا لليونانيين... إن هذه الروح وتلك الطرق أدخلت إلى العالم الأوروبي للمرة الأولى بواسطة العرب".
شهادة غير المسلمين في محمد (صلى الله عليه وسلم):
1ـ يقول "إدوارد جيبون"[11] و"سيمون أوكلي" في كتاب "تاريخ الإمبراطورية العربية الإسلامية" طبعة لندن 1870م، ص 54:
"لا إله إلا الله محمد رسول الله هي عقيدة الإسلام البسيطة والثابتة، إن التصور الفكري للإله (في الإسلام) لم ينحدر أبدًا إلى وثن مرئي أو منظور، ولم يتجاوز توقير المسلمين للرسول أبدًا حد اعتباره بشرًا، وقيدت أفكاره النابضة بالحياة شعور الصحابة بالامتنان والعرفان تجاهه، داخل حدود العقل والدين".
2ـ يقول "ديوان شند شرمة" في كتابه: "أنبياء الشرق" طبعة كلكتا 1935م، ص 122:
"لقد كان محمد روح الرأفة والرحمة، وكان الذين حوله يلمسون تأثيره ولم يغب عنهم أبدًا".
3ـ يقول "جون وليام دريبر" الحاصل على دكتوراه في الطب والحقوق في كتابه "تاريخ التطور الفكري الأوروبي" طبعة لندن 1875م، المجلد الأول، ص 229، 230:
"ولد في مكة بجزيرة العرب عام 569م، بعد أربع سنوات من موت "جوستنيان الأول"[12] الرجل الذي كان له ـ من دون جميع الرجال ـ أعظم تأثير على الجنس البشري.. وهو محمد".
4ـ يقول "ر. ف. س. بودلي" في "الرسول" لندن 1946م، ص9:
"إنني أشك أن أي إنسان لا يتغير لكي يلائم ويوافق التغيرات الكثيرة جدًا في ظروفه الخارجية، كما لم يتغير محمد .
5ـ يقول "هـ. أ. ر. جب"[13] في كتاب "المحمدية"[14] طبعة لندن 1953م، ص33:
"إنه من المسلم به عالميًا بصفة عامة أن إصلاحاته (أي محمد) رفعت من قدر المرأة ومنزلتها ووضعها الاجتماعي والشرعي"[15].
-------------
الهوامش:
[1] الأمين: صفة من صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم اشتهر بها بين الناس حتى قبل بعثته؛ فقد عرف بالصادق الأمين. والكلمة التي استخدمها المؤلف في الأصل الإنجليزي هي "أونست" (honest) وهي تعني الأمين وتعني أيضا الصادق والمحترم والفاضل والمستقيم والصريح والمخلص. وكما هو معروف فإنها جميعها صفات تنطبق على محمد صلى الله عليه وسلم. وقد اخترنا ترجمتها بلفظ الأمين لأنها الصفة التي اتصف بها وشاركه الأنبياء من قبله في الاتصاف بها كما جاء في القرآن الكريم عن موسى عليه السلام في قوله تبارك وتعالى: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] (المترجم).(5/48)
[2] نحن نؤمن بأن القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة القولية والفعلية والتقريرية وحي من عند الله كما قال الله تبارك وتعالى واصفًا عبده ورسوله في كتابه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3 – 5]. وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3]، وهو يدل على أن ثمة وحي آخر غير القرآن الكريم يظهر الله نبيه عليه. وكما قال صلى الله عليه وسلم: "ألا إنني أوتيت القرآن ومثله معه" (معنى الحديث). (المترجم)
[3] يقول الله تبارك وتعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] (المترجم).
[4] يقول الله تبارك وتعالى لنبيه في القرآن الكريم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] (المترجم).
[5] الخلق كله هو من أجل هدف حكيم عادل. ولكن الناس عادة لا يدركون ولا يفهمون ذلك؛ لأنهم منغمسون في جهلهم وحماقتهم وأهوائهم. (المؤلف أو المركز العالمي للدعوة الإسلامية في دربان بجمهورية جنوب إفريقية).
ملحوظة: هذا كلام المؤلف الهندوسي.
[6] هو "عبد الله بن أحمد" المعروف بابن البيطار، توفي عام 1248م: عالم نبات عربي أشهر مصنفاته: "الأدوية المفردة". (المورد، 1990م).
[7] البيروني (973 – 1048م): مؤرخ ورياضي وعالم فلكي عربي. قال بأن الأرض تدور حول محورها. (المورد، 1990م).
[8] أرسطو (384 – 322 قبل ميلاد المسيح): فيلسوف يوناني. يعد واحدًا من أعظم الفلاسفة في جميع العصور. (المورد، 1990م).
[9] جالينوس (129 – 199م): طبيب يوناني. يعد أحد أكبر الأطباء في العصور القديمة (المورد، 1990م).
[10] ما هو مصدر ثقافة العرب وحضارتهم غير القرآن والإسلام. انظر: كتاب "التراث العربي للحضارة الغربية" تأليف "روم لاندو"، وسوف نقوم بترجمته والتعليق عليه بعون الله قريبًا إن شاء الله. (المترجم)
[11] إدوارد جيبون (1737 – 1794م): مؤرخ إنجليزي، يعتبر أعظم المؤرخين الإنجليز في عصره. (المورد، 1990م).
[12] جوستنيان أويوستنيانوس الأول (483 – 565م): إمبراطور بيزنطي، جمع الشرائع الرومانية ودونها. (المورد، 1990م).
[13] هو "هاملتون الكسندر جب": مستشرق إنجليزي عني بتعريف الغربيين بالتراث الإسلامي. (المورد، 1990م).
[14] يقصد الإسلام. ولكن كبر على المشركين ما يدعوهم محمد صلى الله عليه وسلم إليه، فنسبوا الدعوة والرسالة إليه لكي ينفوا نبوته ورسالته ظلمًا وعلوًا واستكبارًا ومكرًا، ولكن هيهات {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]. راجع ص 10 – 12 من هذا الكتاب (المترجم).
[15] لقد أعطى الإسلام المرأة الحق في الحياة والحرية وقد كانت توئد من قبل وتُوَرَّث. وأعطاها الحق في أن ترث وتشهد وتبيع وتشتري وتمتلك وسمح لها بالمشاركة في البناء الروحي والفكري والمادي وبجملة الحضارى للأمة. وهي جميعها حقوق ومجالات كانت محرومة منها ومحظورة عليها من قبل أن يقررها الإسلام. (المترج
------------------
56. ... لايتنر: المسيحي الصادق من يعترف بمحمد
لايتنر: المسيحي الصادق من يعترف بمحمد*
"بقدر ما أعرف من دينيْ اليهود والنصارى أقول بأن ما علمه محمد -صلى الله عليه وسلم- ليس اقتباسًا بل قد (أوحي إليه به)، ولا ريب بذلك طالما نؤمن بأنه قد جاءنا وحي من لدن عزيز عليم. وإني بكل احترام وخشوع أقول: إذا كان تضحية الصالح الذاتي، وأمانة المقصد، والإيمان القلوب الثابت، والنظر الصادق الثاقب بدقائق وخفايا الخطيئة والضلال، واستعمال أحسن الوسائط لإزالتها، فذلك من العلامات الظاهرة الدالة على نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) وأنه قد أوحي إليه".**
"إن الديانة النصرانية التي ودّ محمد (صلى الله عليه وسلم) إعادتها لأصلها النقي كما بشر بها المسيح (عليه السلام) تخالف التعاليم السّرية التي أذاعها بولس والأغلاط الفظيعة التي أدخلها عليها شيع النصارى.. ولقد كانت آمال محمد (صلى الله عليه وسلم) وأمانيه أن لا تخصص بركة دين إبراهيم (عليه السلام) لقومه خاصة، بل تعم الناس جميعًا، ولقد صار دينه الواسطة لإرشاد وتمدن الملايين من البشر، ولولا هذا الدين للبثوا غرقى في التوحش والهمجية، ولما كان لهم هذا الإخاء المعمول به في دين الإسلام".(5/49)
".. لما بلغ (صلى الله عليه وسلم) السنة الخامسة والعشرين من العمر تزوج امرأة عمرها (أربعون عامًا، وهذه تشابه امرأة عمرها خمسون عامًا في أوربا، وهي أول من آمن برسالته المقدسة.. وبقيت خديجة (رضي الله عنها) معه عشرين عامًا لم يتزوج عليها قط حتى ماتت (رضي الله عنها). ولما بلغ من العمر خمسًا وخمسين سنة صار يتزوج الواحدة بعد الأخرى. لكن ليس من الاستقامة والصدق أن ننسب ما لا يليق لرجل عظيم صرف كل ذاك العمر بالطهارة والعفاف، فلا ريب أن لزواجه بسن الكبر أسبابًا حقيقية غير التي يتشدق بها كتاب النصارى بهذا الخصوص، وما هي تلك الأسباب يا ترى؟ ولا ريب هي شفقته على نساء أصحابه الذين قتلوا.
".. مرة، أوحى الله تعالى إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وحيًا شديد المؤاخذة لأنه أدار وجهه عن رجل فقير أعمى ليخاطب رجلاً غنيًّا من ذوي النفوذ، وقد نشر ذاك الوحي، فلو كان (صلى الله عليه وسلم) كما يقول أغبياء النصارى بحقه لما كان لذاك الوحي من وجود.
".. إني لأجهر برجائي بمجيء اليوم الذي به يحترم النصارى المسيح (عليه السلام) احترامًا عظيمًا وذلك باحترامهم محمدًا (صلى الله عليه وسلم)، ولا ريب في أن المسيحي المعترف برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم) وبالحق الذي جاء به هو المسيحي الصادق".
ــــــــــــ
*لايتنر ightner باحث إنكليزي، حصل على أكثر من شهادة دكتوراه في الشريعة والفلسفة واللاهوت، وزار الأستانة عام 1854، كما طوف بعدد من البلاد الإسلامية والتقى برجالاتها وعلمائها.
**عن كتاب: دين الإسلام لايت
57. ... دُرّاني: محمد رجل فوق التصور
رجل فوق التصور*
أستطيع أن أقول بكل قوة إنه لا يوجد مسلم جديد واحد لا يحمل في نفسه العرفان بالجميل لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم- لما غمره به من حب وعون وهداية وإلهام فهو القدوة الطيبة التي أرسلها الله رحمة لنا وحبًا بنا حتى نقتفي أثره".
".. وأخيرا أخذت أدرس حياة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم- فأيقنت أن من أعظم الآثام أن نتنكر لذلك الرجل الرباني الذي أقام مملكة لله بين أقوام كانوا من قبل متحاربين لا يحكمهم قانون، يعبدون الوثن، ويقترفون كل الأفعال المشينة، فغير طرق تفكيرهم، لا بل بدل عاداتهم وأخلاقهم، وجمعهم تحت راية واحدة وقانون واحد ودين واحد وثقافة واحدة وحضارة واحدة وحكومة واحدة، وأصبحت تلك الأمة التي لم تنجب رجلاً عظيمًا واحدًا يستحق الذكر منذ عدة قرون، أصبحت تحت تأثيره وهديه تنجب ألوفًا من النفوس الكريمة التي انطلقت إلى أقصى أرجاء المعمورة تدعو إلى مبادئ الإسلام وأخلاقه ونظام الحياة الإسلامية وتعلم الناس أمور الدين الجديد.
".. تحمل - صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عامًا كاملة من المتاعب في مكة دون انقطاع، وثماني سنوات في المدينة دون توقف، فتحمل ذلك كله، فلم يتزحزح شعرة عن موقفه، وكان صامدًا، رابط الجأش، صلبًا في أهدافه وموقفه. عرض عليه قومه أن ينصبوه ملكًا عليهم وأن يضعوا عند قدميه كل ثروات البلاد إذا كف عن الدعوة إلى دينه ونشر رسالته. فرفض هذه الإغراءات كلها فاختار بدلاً من ذلك أن يعاني من أجل دعوته. لماذا؟ لماذا لم يكترث أبدًا للثروات والجاه والملك والمجد والراحة والدعة والرخاء؟ لا بد أن يفكر المرء في ذلك بعمق شديد إذا أراد أن يصل إلى جواب عليه.
"هل بوسع المرء أن يتصور مثالاً للتضحية بالنفس وحب الغير والرأفة بالآخرين أسمى من هذا المثال حيث نجد رجلاً يقضي على سعادته الشخصية لصالح الآخرين، بينما يقوم هؤلاء القوم أنفسهم الذين يعمل على تحسين أحوالهم ويبذل أقصى جهده في سبيل ذلك يقومون برميه بالحجارة والإساءة إليه ونفيه وعدم إتاحة الفرصة له للحياة الهادئة حتى في منفاه، وأنه رغم كل ذلك يرفض أن يكف عن السعي لخيرهم؟ هل يمكن لأحد أن يتحمل كل هذا العناء والألم من أجل دعوة السعي لخيرهم؟ هل يمكن لأحد أن يتحمل كل هذا العناء والألم من أجل دعوة مزيفة؟ هل يستطيع أي إنسان غير مخلص.. أن يبدي هذا الثبات والتصميم على مبدئه والتمسك به حتى آخر رمق دون أدنى وجل أو تعثر أمام الأخطار وصنوف التعذيب التي يمكن تصورها وقد قامت عليه البلاد بأكملها وحملت السلاح ضده؟.(5/50)
"إن هذا الإيمان وهذا السعي الحثيث وهذا التصميم والعزم الذي قاد به محمد -صلى الله عليه وسلم- حركته حتى النصر النهائي، إنما هو برهان بليغ على صدقه المطلق في دعوته. إذ لو كانت في نفسه أدنى لمسة من شك أو اضطراب لما استطاع أبدًا أن يصمد أمام العاصفة التي استمرّ أوارها أكثر من عشرين عامًا كاملة. هل بعد هذا من برهان على صدق كامل في الهدف واستقامة في الخلق وسمو في النفس كل هذه العوامل تؤدي لا محالة إلى الاستنتاج الذي لا مفر منه وهو أن هذا الرجل هو رسول الله حقًا. هذا هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إذ كان آية في صفاته النادرة ونموذجًا كاملاً للفضيلة والخير، ورمزًا للصدق والإخلاص.. إن حياته وأفكاره وصدقه واستقامته، وتقواه وجوده، وعقيدته ومنجزاته، كل أولئك براهين فريدة على نبوته. فأي إنسان يدرس دون تحيّز حياته ورسالته سوف يشهد أنه حقًا رسول من عند الله، وأن القرآن الذي جاء به للناس هو كتاب الله حقًا. وكل مفكر منصف جاد يبحث عن الحقيقة لابدّ أن يصل إلى هذا الحكم.**
ــــــــــــــ
* الدكتور م. ج. دُرّاني Dr. M. H. Durrani سليل أسرة مسلمة منذ القدم، أصبح نصرانيًا في فترة مبكرة من حياته وتحت تأثير إحدى المدارس التنصيرية المسيحية، وقضى ردحًا من حياته في كنيسة إنكلترا، حيث عمل قسيسًا منذ عام 1939 وحتى عام 1963 حيث جاءه الإسلام "كما يأتي فصل الربيع"، فعاد إلى دين آبائه وأجداده.
**من كتاب رجال ونساء أسلموا.
58. ... ذكر النبي الخاتم ووصف أمته ومكان دعوته ما زال بين سطور التوراة
ذكر النبي الخاتم ووصف أمته ومكان دعوته ما زال بين سطور التوراة
الكاتب: الدكتور محمد عبد الخالق شريبة
قال الله تعالى:(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[سورة الأعراف:157].
في نسخ التوراة الحالية في سفر أشعياء الإصحاح 59 - 63، تحكي لنا التوراة عن صفات الأرض الجديدة التي ستكون موطنًا للإيمان على الأرض ويستفيض النص في شرح صفات هذه الأرض ووصف النبي الخاتم الذي سيبعث فيها ووصف أمته.. وهذه الصفات قاطعة أنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وموطن دعوته ووصف أمته.. وبالرغم من بعض الألفاظ الواضح إقحامها على النص إقحامًا؛ فإنه ما زال يشتمل على الصفات التي لا يمكن حملها إلا على مكة وعلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته.. والنص يبدأ بإيضاح أن الظلم قد انتشر في الأرض، وأن الخراب قد عم ربوعها، ولم يبق بها إلا الشر والفساد، وأن الله قد غضب على الناس وعلى بني إسرائيل الذين حادوا عن الحق، واتكلوا على الباطل والإثم، وكذبوا على الله.. ولذلك كان لابد من ظهور شمس أخرى، وبزوغ فجر جديد لإعلاء الحق في الأرض.. وفي وسط ذلك الجو العام من السخط الإلهي والغضب على شعب إسرائيل وعلى ما صار إليه حال الأمم نجد إقحامًا غريبًا يفيد بأن الله راض عليهم وعلى نسلهم من بعدهم للأبد.. هكذا بدون مقدمات!!، ثم يبدأ النص في الحديث عن الأرض التي سيأتي نورها ويشرق عليها مجد الله بينما الظلام الدامس يغطي باقي الأرض.. ويستفيض النص بما لا يدع مجالاً للشك أن الكلام عن مكة، وفجأة أيضًا بدون مقدمات تجد إقحامًا غريبًا للفظ ابنة صهيون أو أورشليم!!.. والنص كله يظهر بوضوح أنه يتحدث عن الأرض الجديدة التي ستصبح معقلاً للإيمان والصلاح على الأرض بعد خرابها وما حل عليها من ظلم وفساد وبعد عن طريق الله، وعن الشعب الذي سيرث الأرض، وعن نبي آخر الزمان الذي سيرسله الله ليصلح الأرض بعد فسادها وليبشر المساكين ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولكي ينتقم به الله من أعدائه ويكون وسيلته للتعبير عن سخطه وغضبه على الأمم التي اتبعت الباطل والإثم وزاغت عن طريق الحق..
59:1 ها إن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص و لم تثقل أذنه عن أن تسمع.
59: 2 بل آثامكم صارت فاصلة بينكم و بين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع.
59: 3 لأن أيديكم قد تنجست بالدم، وأصابعكم بالإثم وشفاهكم تكلمت بالكذب، ولسانكم يلهج بالشر.
59: 4 ليس من يدعو بالعدل وليس من يحاكم بالحق يتكلون على الباطل ويتكلمون بالكذب قد حبلوا بتعب وولدوا إثما.
59: 5 فقسوا بيض أفعى و نسجوا خيوط العنكبوت الأكل من بيضهم يموت والتي تكسر تخرج أفعى.
59: 6 خيوطهم لا تصير ثوبًا و لا يكتسون بأعمالهم أعمالهم أعمال إثم و فعل الظلم في أيديهم.(5/51)
59: 7 أرجلهم إلى الشر تجري، وتسرع إلى سفك الدم الزكي، أفكارهم أفكار إثم في طرقهم اغتصاب وسحق.
59: 8 طريق السلام لم يعرفوه، وليس في مسالكهم عدل جعلوا لأنفسهم سبلاً معوجة كل من يسير فيها لا يعرف سلامًا.
59: 9 من أجل ذلك ابتعد الحق عنا و لم يدركنا العدل ننتظر نورًا فإذا ظلام ضياء فنسير في ظلام دامس.
59: 10 نتلمس الحائط كعمي و كالذي بلا أعين نتجسس قد عثرنا في الظهر كما في العتمة في الضباب كموتى.
59: 11 نزار كلنا كدبة و كحمام هدرا نهدر ننتظر عدلاً و ليس هو وخلاصًا فيبتعد عنا.
59: 12 لان معاصينا كثرت أمامك و خطايانا تشهد علينا لأن معاصينا معنا وآثامنا نعرفها.
59: 13 تعدينا وكذبنا على الرب وحدنا من وراء إلهنا تكلمنا بالظلم والمعصية حبلنا و لهجنا من القلب بكلام الكذب.
59: 14 وقد ارتد الحق إلى الوراء والعدل يقف بعيدًا لأن الصدق سقط في الشارع والاستقامة لا تستطيع الدخول.
59: 15 وصار الصدق معدومًا والحائد عن الشر يسلب فرأى الرب وساء في عينيه أنه ليس عدل.
59: 16 فرأى أنه ليس إنسان و تحير من أنه ليس شفيع فخلصت ذراعه لنفسه و بره هو عضده.
59: 17 فلبس البر كدرع و خوذة الخلاص على رأسه و لبس ثياب الانتقام كلباس واكتسى بالغيرة كرداء.
59: 18 حسب الأعمال هكذا يجازي مبغضيه سخطًا وأعداءه عقابًا جزاء يجازي الجزائر.
59: 19 فيخافون من المغرب اسم الرب و من مشرق الشمس مجده عندما يأتي العدو كنهر فنفخة الرب تدفعه.
59: 20 ويأتي الفادي إلى صهيون وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب يقول الرب(!!!).
59: 21 أما أنا فهذا عهدي معهم قال الرب روحي الذي عليك و كلامي الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك و لا من فم نسلك ولا من فم نسل نسلك قال الرب من الآن و إلى الأبد.
60: 1 قومي استنيري لأنه قد جاء نورك و مجد الرب أشرق عليك 60: 2 لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض و الظلام الدامس، الأمم أما عليك فيشرق الرب ومجده عليك يرى.
60: 3 فتسير الأمم في نورك و الملوك في ضياء إشراقك.
60: 4 ارفعى عينيك حواليك و انظري قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك يأتي بنوك من بعيد و تحمل بناتك على الأيدي.
60: 5 حينئذ تنظرين و تنيرين و يخفق قلبك و يتسع لأنه تتحول إليك ثروة البحر و يأتي إليك غنى الأمم.
60: 6 تغطيك كثرة الجمال بكران مديان و عيفة كلها تأتي من شبا تحمل ذهبا ولبانا وتبشر بتسابيح الرب.
60: 7 كل غنم قيدار تجتمع إليك كباش نبايوت تخدمك تصعد مقبولة على مذبحي وأزين بيت جمالي.
60: 8 من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها
60: 9 إن الجزائر تنتظرني وسفن ترشيش في الأول لتأتي ببنيك من بعيد و فضتهم و ذهبهم معهم لاسم الرب إلهك.
60: 10 وبنو الغريب يبنون أسوارك وملوكهم يخدمونك لأني بغضبي ضربتك وبرضواني رحمتك.
60: 11 و تنفتح أبوابك دائمًا نهارًا وليلاً لا تغلق ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملوكهم.
60: 12 لان الأمة والمملكة التي لا تخدمك تبيد و خرابًا تخرب الأمم.
60: 13 مجد لبنان إليك يأتي السرو والسنديان والشربين معًا لزينة مكان مقدسي وأمجد موضع رجلي.
60: 14 وبنو الذين قهروك يسيرون إليك خاضعين وكل الذين أهانوك يسجدون لدى باطن قدميك ويدعونك مدينة الرب صهيون قدوس إسرائيل(!!!).
60: 15 عوضًا عن كونك مهجورة ومبغضة بلا عابر بك أجعلك فخرًا أبديا فرح دور فدور.
60: 16 وترضعين لبن الأمم وترضعين ثدي ملوك و تعرفين أني أنا الرب مخلصك ووليك عزيز يعقوب(!!!).
60: 17 عوضًا عن النحاس أتى بالذهب وعوضًا عن الحديد أتي بالفضة وعوضًا عن الخشب بالنحاس وعوضًا عن الحجارة بالحديد واجعل وكلاءك سلامًا وولاتك برًا.
60: 18 لا يسمع بعد ظلم في أرضك ولا خراب أو سحق في تخومك بل تسمين أسوارك خلاصا وأبوابك تسبيحًا.
60: 19 لا تكون لك بعد الشمس نورًا في النهار ولا القمر ينير لك مضيئًا بل الرب يكون لك نورًا أبديا وإلهك زينتك.
60: 20 لا تغيب بعد شمسك و قمرك لا ينقص لأن الرب يكون لك نورًا أبديًا و تكمل أيام وحك.
60: 21 وشعبك كلهم أبرار إلى الأبد يرثون الأرض غصن غرسي عمل يدي سأتمجد.
60: 22 الصغير يصير ألفًا والحقير أمة قوية أنا الرب في وقته أسرع به.
61: 1 روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لا بشر المساكين أرسلني لا عصب منكسري القلب لا نادي للمسبيين بالعتق و للمأسورين بالإطلاق.
61: 2 لا نادي بسنة مقبولة للرب وبيوم انتقام لإلهنا لا عزي كل النائحين.
61: 3 لا جعل لنائحي صهيون لأعطيهم جمالاً عوضًا عن الرماد ودهن فرح عوضًا عن النوح ورداء تسبيح عوضًا عن الروح اليائسة فيدعون أشجار البر غرس الرب للتمجيد.
61: 4 و يبنون الخرب القديمة يقيمون الموحشات الأول ويجددون المدن الخربة موحشات دور فدور.
61: 5 ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم.
61: 6 أما أنتم فتدعون كهنة الرب تسمون خدام إلهنا تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتأمرون.(5/52)
61: 7 عوضًا عن خزيكم ضعفان وعوضًا عن الخجل يبتهجون بنصيبهم لذلك يرثون في أرضهم ضعفين بهجة أبدية تكون لهم.
61: 8 لأني أنا الرب محب العدل مبغض المختلس بالظلم وأجعل أجرتهم أمينة وأقطع لهم عهدًا أبديًا.
61: 9 ويعرف بين الأمم نسلهم وذريتهم في وسط الشعوب كل الذين يرونهم يعرفونهم أنهم نسل باركه الرب.
61: 10 فرحًا أفرح بالرب تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص كساني رداء البر مثل عريس يتزين بعمامة و مثل عروس تتزين بحليها.
61: 11 لأنه كما أن الأرض تخرج نباتها وكما أن الجنة تنبت مزروعاتها هكذا السيد الرب ينبت برًا و تسبيحًا إمام كل الأمم.
62: 1 من أجل صهيون لا أسكت ومن أجل أورشليم لا أهدأ(!!!) حتى يخرج برها كضياء وخلاصها كمصباح يتقد.
62: 2 فترى الأمم برك وكل الملوك مجدك وتسمين باسم جديد يعينه فم الرب.
62: 3 وتكونين أكليل جمال بيد الرب و تاجًا ملكيًا بكف إلهك.
62: 4 لا يقال بعد لك مهجورة ولا يقال بعد لأرضك موحشة بل تدعين حفصيبة وأرضك تدعى بعولة لأن الرب يسر بك وأرضك تصير ذات بعل.
62: 5 لأنه كما يتزوج الشاب عذراء يتزوجك بنوك وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك.
62: 6 على أسوارك يا أورشليم(!!!) أقمت حراسًا لا يسكتون كل النهار وكل الليل على الدوام يا ذاكري الرب لا تسكتوا.
62: 7 ولا تدعوه يسكت حتى يثبت و يجعل أورشليم تسبيحة في الأرض.
62: 8 حلف الرب بيمينه و بذراع عزته قائلا أني لا أدفع بعد قمحك مأكلا لأعدائك ولا يشرب بنو الغرباء خمرك التي تعبت فيها.
62: 9 بل يأكله الذين جنوه و يسبحون الرب و يشربه جامعوه في ديار قدسي.
62: 10 اعبروا اعبروا بالأبواب هيئوا طريق الشعب أعدوا أعدوا السبيل نقوه من الحجارة ارفعوا الراية للشعب.
62: 11 هو ذا الرب قد أخبر إلى أقصى الأرض قولوا لابنة صهيون هو ذا مخلصك آت ها أجرته معه و جزاؤه أمامه.
62: 12ويسمونهم شعبًا مقدسًا مفديي الرب وأنت تسمين المطلوبة المدينة غير المهجورة.
63: 1 من ذا الآتي من إدوم بثياب حمر من بصرة هذا البهي بملابسه المتعظم بكثرة قوته أنا المتكلم بالبر العظيم للخلاص..
63: 2 ما بال لباسك محمر وثيابك كدائس المعصرة.
63: 3 قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد فدستهم بغضبي ووطئتهم بغيظي فرش عصيرهم على ثيابي فلطخت كل ملابسي.
63: 4 لأن يوم النقمة في قلبي وسنة مفديي قد أتت.
63: 5 فنظرت ولم يكن معين و تحيرت إذ لم يكن عاضد فخلصت لي ذراعي و غيظي عضدني.
63: 6 فدست شعوبا بغضبي وأسكرتهم بغيظي وأجريت على الأرض عصيرهم..
والنص كله كما ترون يتكلم عن مدينة الله الجديدة، وعن نبي آخر الزمان الذي سيبعثه الله ليرث الأرض هو وأمته ويقيم الحق فيها بعد انتشار الظلم والفساد.. ويخرج الناس من الظلمات إلى النور.. وينتقم به الله من أعدائه.
والنص يستفيض في شرح الأحوال والظروف التي كانت تسود الأرض والتي سبقت بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – (آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم.. أيديكم تنجست بالدم..حبلوا بتعب وولدوا إثمًا..فقسوا بيض أفعى.. أعمالهم أعمال إثم وفعل الظلم في أيديهم.. ليس من يدعو بالعدل ويحاكم بالحق.. أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدم الزكي.. طريق السلام لم يعرفوه.. تعدينا وكذبنا على الرب.. ارتد الحق إلى الوراء.. وصار الصدق معدومًا..معاصينا كثرت أمامك وخطايانا تشهد علينا.. ننتظر نورًا فإذا ظلام ضياء فإذا ظلام دامس.. فرأى أنه ليس إنسان وتحير من أنه ليس شفيع…) وتلك الأحوال والظروف لم تجتمع كلها معًا، ولم تكن بهذا السوء إلا قبل بعثة النبي-صلى الله عليه وسلم- الذي جاء بعد فترة من انقطاع الرسل على الأرض، وهذه الظروف لم تكن هكذا قبل بعثة المسيح عليه السلام، كما أن قوله(فرأى أنه ليس إنسان) متوافق مع حال البشرية قبل بعثة الرسول-صلى الله عليه وسلم-، ولا يتوافق مع حالها قبل بعثة المسيح؛ فالأرض لم تكن تخلو من الصالحين والمؤمنين الذين يدعون إلى الخير، بل إن المسيح قد بعث في وجود يوحنا المعمدان(يحيى بن زكريا) عليهما السلام.
وفي النص إشارة واضحة لما قام به علماء بني إسرائيل من تحريف الكتاب والكذب على الله 59: 13(تعدينا وكذبنا على الرب وحدنا من وراء إلهنا تكلمنا بالظلم والمعصية حبلنا ولهجنا من القلب بكلام الكذب)..(5/53)
وفي النص إشارة إلى النور الذي سيشرق على الأميين في هذه الأرض 60: 3(فتسير الأمم في نورك) والأمم هنا ليست ترجمة لكلمة nations كما هو متوقع ولكن ترجمة لكلمة gentiles وتترجم بالعربية إلى الأميين وهم الأمم من غير أهل الكتاب.. ويقول قاموس الكتاب المقدس عن هذا اللفظ أن اليهود يستخدمونه على الأمم الأخرى من غيرهم، فهم يعتبرون أنفسهم حملة الرسالات وشعب الله المختار، ويقول أيضا أن اليهود يستخدمونه كمصطلح لاحتقار الأمم الأخرى من غير اليهود باعتبارها أمم وثنية.. وبالطبع يرفض النصارى هذا التقسيم باعتبارهم أيضا من أهل الكتاب، وهذا هو الحق عند المسلمين وهو أن هذا اللفظ كان يستخدم لوصف الأمم من غير أهل الكتاب قبل ظهور الإسلام كما يخبرنا القرآن الكريم:
(وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا). آل عمران 20..(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) آل عمران: 75..وهم الذين بعث فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم-(هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) الجمعة 2..(الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل)..الأعراف 157..(فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) الأعراف 158..
ونجد في النص إشارة واضحة إلى قوافل الإبل التي كانت تأتي من جنوب الجزيرة العربية والمشار إليها بمملكة سبأ 60: 6(تغطيك كثرة الجمال بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا) وهذه النبؤة لم تتحقق للقدس، بل تحققت لمكة، ولابد لهذه النبؤة أن تكون قد حدثت بالفعل في الماضي؛ فقد انتهى عصر الإبل وعصر القوافل..
وكذلك نجد في نص أشعياء السابق إشارة واضحة إلى نحر الذبائح(كل غنم قيدار تجبي إليك،كباش نبايوت تخدمك، تصعد مقبولة على مذبحي).
وذلك يؤكد أن الكلام عن مكة وليس بيت المقدس؛ لأن القدس ليس لها علاقة بغنم قيدار بن إسماعيل الذي تنسب إليه قبائل مكة، والذي يخبرنا الكتاب المقدس أنه قد سكن في بلاد العرب(وحي من جهة بلاد العرب… يفنى كل مجد قيدار).. كما أنه لا يخفى على أحد أن نحر الذبائح هو أحد مناسك الحج في الإسلام.
وفي النص السابق نجد إشارة واضحة إلى الطرق التي يسلكها الحجاج لأداء فريضة الحج:
60: 6 تغطيك كثرة الجمال بكران مديان وعيفة كلها تأتى من شبا تحمل ذهبا ولبانا وتبشر بتسابيح الرب.
60: 8 من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها.
60: 9 إن الجزائر تنتظرني و سفن ترشيش في الأول لتأتي ببنيك من بعيد و فضتهم و ذهبهم معهم لاسم الرب إلهك.
فالأولى تتحدث عن الجمال، والثانية يتعجب المتحدث من هؤلاء الطائرين كسحاب أو حمام ولا يعرف ما هم وهو إشارة واضحة إلى الطائرات، والثالثة تشير إلى السفن.. و(ترشيش) لم يحدد قاموس الكتاب المقدس ما المقصود بها فقال أن هذا الاسم كان مشهورًا أيام سليمان عليه السلام، وقال أيضا أنه اسم كان يطلق على مكان في أسبانيا أثناء حكم العرب، ورجح في النهاية أنه لفظ يطلق على كل السفن الضخمة.
وفي النص أيضا إشارة لصفة الصحابة رضي الله عنهم 61: 9 (ويعرف بين الأمم نسلهم و ذريتهم في وسط الشعوب كل الذين يرونهم يعرفونهم أنهم نسل باركه الرب) 61: 11(لأنه كما أن الأرض تخرج نباتها وكما أن الجنة تنبت مزروعاتها هكذا السيد الرب ينبت برًا و تسبيحًا أمام كل الأمم) وهي الصفة التي ذكرها القرآن في سورة الفتح:(مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ)..
ونجد في النص إشارة إلى حدوث النصر والفتح على يد آبائنا الأوائل من المسلمين، وإلى ما فعلوه من تطهير الأرض وتنقيتها من الحجارة والأصنام 62: 10(اعبروا اعبروا بالأبواب هيئوا طريق الشعب أعدوا أعدوا السبيل نقوه من الحجارة ارفعوا الراية للشعب)..
ونجد في النص إشارة إلى غير العرب الذين يبنون أسوار مكة 60:10(وبنو الغريب يبنون أسوارك)، وكم من الأيدي العاملة الآن وذوي الخبرات من مختلف الأقطار يعملون فيها، ويشيدون قلاعها تحت الأرض وفوق الأرض..(5/54)
ونجد إشارة واضحة إلى كثرة الثروات والكنوز التي سيمن الله بها على هذه الأرض60: 5(تتحول إليك ثروة البحر ويؤتى إليك غنى الأمم)، والثروات والكنوز لم تكن للقدس أبدًا، وإنما لمكة التي تعد من أغنى بقاع الأرض..(1) لا أرى تفسيرًا لجملة(تتحول إليك ثروة البحر) إلا تلك الكنوز البترولية الضخمة النائمة في قاع البحر الأحمر والخليج العربي والتي حولت الجزيرة العربية من صحراء قاحلة إلى بقعة تعج بالأموال والثروات.
وفي النص السابق أيضا إشارة إلى انتشار دولة الإسلام وتحولها من الضعف والقلة إلى القوة والكثرة؛ فالأمة التي بدأت برجل ضعيف يدعو إلى ربه سرًا متخفيًا من أعدائه قد صار أمة قوية وملك الأرض من مشرقها إلى مغربها.. وبشر المساكين وأخرج من الحبس المأسورين.. وأخرج الناس جميعًا من ظلمات الكفر والشرك إلى عبادة الله الحق.. وانتقم به الله من أعدائه وعزى به كل النائحين.. 60: 22(الصغير يصير ألفا والحقير أمة قوية أنا الرب في وقته أسرع به، روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي المسبيين بالعتق والمأسورين بالإطلاق لأنادي بسنة مقبولة للرب و بيوم انتقام لإلهنا لأعزي كل النائحين)..
وليخبرنا أهل الكتاب عن نبي اجتمعت فيه صفات التحول إلى القوة والكثرة بعد الضعف والقلة وجمع بين تبشير المساكين وتعزية النائحين وبين الانتقام من أعداء الله غير نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم..
ونجد إشارة إلى ميراث أمة الإسلام للأمم الأخرى61: 6(أما أنتم فتدعون كهنة الرب تسمون خدام إلهنا تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتآمرون).. وليس أدل على ميراث أمة الإسلام للأمم الأخرى من أن أرض المشرق التي تشمل بلاد الشام والبلاد العربية وبلاد فارس؛ تلك الأرض التي كانت معقلاً لنشأة وانتشار الرسالات السابقة، وتكاد تخلو الأرض الآن من عبادة الله إلا منها، وتكاد تغطي الأرض نزعات الإلحاد والمادية والطبيعية فيما سواها، والتي يكاد ينحصر كلام الكتاب المقدس نفسه بعهديه القديم والجديد عليها وعلى تاريخ الأمم والأنبياء بها..قد صارت كلها إسلامية! (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)!!
وفي النص أيضا إشارة واضحة إلى أن الناس سوف يقصدون هذه الأرض ويطلبون زيارتها، وأنها ستكون الأرض المعمورة!! 62: 12(وأنت تسمين المطلوبة المدينة غير المهجورة) وليخبرنا الذين يحملون النبوءة على القدس: متى تحققت تلك الصفات للقدس في يوم من الأيام؟!!
وهذه الصفات لا بد أن تكون قد تحققت بالفعل كما أوضحنا.. ولا معنى لما يدعيه اليهود من أن هذه النبؤة لم تتحقق بعد، وأن هذا المخلص الذي سوف ينتصر لهم، ويدوس العالم بقدمه، ويلطخ بعصير الناس من غير اليهود ملابسه لم يأت بعد!!..وما زالوا منتظرين!!
ويخبرنا معجم الطرق القديمة(إنشنت تراد روتس) أن إدوم بدأت من النهاية الجنوبية للبحر الميت إلى مساحات من الصحراء العربية، وأنها امتدت من هذا الخط لتشمل كل الأراضي على الساحل الشرقي للبحر الأحمر..
وتجمع كتب الحديث على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يلبس حلة حمراء لم ير أجمل منه ولا أبهى منه أحد قط، بل لم ير أجمل منه شيء قط!!..فقد روي عن البراء رضي الله عنه أنه قال في صفة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:(لقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئًا قط أحسن منه) متفق عليه..
ولا يختلف أحد من الأولين والآخرين في أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يخرج في غزواته بنفسه وحوله قوته من الصحب الكرام رضي الله عنهم..
وتخبرنا كتب السير أن مدينة بصرى بالشام(بصرة كما ورد في النص) وهي تنطق بضم الباء وهي مكتوبة في النسخة الإنجليزية هكذا:(BUZRA)، تخبرنا كتب السير أنها كانت مركز تجاري هام يحصل منه أهل مكة على الملابس والبضائع وذلك عن طريق القوافل التجارية..
وأعود الآن لأطرح نفس التساؤل عن ذلك النبي الذي سيبعثه الله ويأتي آخر الزمان لكي يقيم الحق في الأرض، ويستمر مجده ومجد مدينته إلى قيام الساعة، وأكرر نفس السؤال الذي ورد في النص: (من ذا الآتي من إدوم بثياب حمر من بصرة؟ من هذا البهي بملابسه المتعظم بكثرة قوته)؟ هل يكون ذاك النبي هو موسى عليه السلام؟!
بالطبع لا.. فموسى لم يأت من إدوم، كما أن النص يشير لنبي يأتي بعد أن يعم الخراب في الأرض، وينتشر الفساد في ربوعها؛ فيبعثه الله لإصلاحها، ويخبر النص أيضًا أن مجده ومجد أمته يستمر إلى الأبد، ولم يدع أحد أن موسى كان آخر الأنبياء، مما يجعل حمل النص على موسى غير وارد على الإطلاق.. هل يكون المسيح عليه السلام؟!(5/55)
بالطبع لا أيضا.. فالمسيح لم يأت من إدوم، ولم يكن عليه السلام يرتدي ملابس مستوردة من بصرى! ولم يكن له أيضا قوة عظيمة يخرج فيها.. كما أن تلك الصفات لم يتحقق منها شيء على القدس بعد بعثة المسيح عليه السلام؛ فلم تأت إليها الإبل من جنوب الجزيرة العربية!!! ولم تجتمع إليها أغنام قبائل مكة!!! ولم يحل بها أمن أو أمان، بل إن أول ما حدث بعد رحيل المسيح عليه السلام هو اضطهاد تلاميذه وفرارهم في ربوع الأرض!، وتاريخ القدس على مر العصور خير شاهد على الظلم والدمار وسفك الدماء، ولا زالت القدس حتى الآن تعاني الجراح، وتشتكي الآلام، ولازال شعارها المرفوع دائما هو الأرض(مقابل السلام!!)..كما لم يزعم أحد من الأولين أو الآخرين أن الله قد بعث المسيح عليه السلام لكي ينتقم به من أعدائه أو ليدوس الشعوب المتمردة على ربها بقدمه ويرش عصيرهم على ثيابه ويلطخ كل ملابسه!!، وبذلك فلا يمكن حمل النص أيضا على المسيح عليه السلام..
إذن فمن يكون ذلك الأخير الذي بعثه الله لإصلاح الأرض بعد إفسادها؟!!
من يكون ذاك الذي أيده الله بالقوة الروحية فبشر المساكين وعصب منكسري القلب ونادى المسبيين بالعتق والمأسورين بالإطلاق وعزى النائحين، وأيده بالقوة المادية فانتقم من أعداء الله وداس الشعوب المتمردة على ربها بقدمه ورش عصيرهم على ثيابه ولطخ كل ملابسه؟!!! من يكون ذلك البهي المتعظم في كثرة قوته؟!! من يكون إذن يا ترى؟!!!
ويعود النص ليؤكد أن الأمن والسلام هما شعار هذه الأرض؛ فيخبر أن أبوابها تفتح ولا تغلق، وأنها لا يظلم فيها أحد بعد اليوم ولا يحل بها خراب:
60: 11 وتنفتح أبوابك دائما نهارًا وليلاً لا تغلق ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملوكهم.
60: 18 لا يسمع بعد ظلم في أرضك ولا خراب أو سحق في تخومك بل تسمين أسوارك خلاصًا وأبوابك تسبيحًا.
وهذا الكلام لا ينطبق أبدًا علي القدس كما قلنا.. أليست القدس هي أرض الظلم، وأرض الخراب، وأرض الحروب والنزاعات إلى اليوم؟!!
أليست تهدم البيوت بالدبابات، ويقتل الغلمان بالرشاشات، ولا تكاد تسمع فيها سوى صوت الانفجارات؟!!
ثم إن أبوابها تغلق أكثر مما تفتح!!.
هل يصر الآن عاقل أن هذا النص يتحدث عن القدس؟!!
إذا أصر على رأيه فإن عليه أن يقتل التاريخ، وإن لم يستطع أن يقتل التاريخ فليقتل حتى آرييل شارون!!!
أما مكة فهي الأرض المطمئنة، والبلد المعمورة، التي لا تقام فيها الحروب، ولا تسفك فيها الدماء، ولا تغلق أبدًا أبوابها، ولن تغلق أبدًا؛ لأنها الأرض التي وطأتها خير قدم، واستظل بسمائها أكرم بشر، وعاش عليها النبي المحمد، الذي رفع الله قدره، وأعلى شأنه.. حتى قبل أن يبعثه..حتى قبل أن يخلقه..حتى قبل أن يخلق العالم..
EDOM
e’-dom
GEOGRAPHY
The country of Edom began at a line from the south end of the Dead Sea stretched to the Arabian desert areas to the east. From this line, Edom claimed all the land south to the Red Sea, and farther along the east coast of the Red Sea. How far south depended on daily politics, since it is nothing but desert for the most part. However,it included part of the Incense Route which extends farther south to Sheba the Yemen area today.
نسخة مما ذكره معجم الطرق القديمة عن مملكة إدوم http://www.ancientroute.com/empire/edom.htm
وترجمته بالعربية:((إدوم بدأت من النهاية الجنوبية للبحر الميت إلى مساحات من الصحراء العربية إلى الشرق، ومن هذا الخط امتدت إدوم لتشمل كل الأراضي جنوب البحر الأحمر والأراضي على طول الساحل الشرقي للبحر الأحمر..والجزء الجنوبي من إدوم كان عبارة عن أرض صحراوية ممتدة واشتملت إدوم على جزء من طريق البخور يمتد جنوبًا إلى شيبا والتي تمثل منطقة اليمن حاليًا).
59. ... يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
فالآية الكريمة: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [ سورة البقرة الآية :146]، تدل على أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يعرفون محمداً - صلى الله عليه وسلم -كما يعرفون أبناءهم ، والقول بعودة الهاء في قوله تعالى : (يعرفونه) على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - مروي عن ابن عباس - رضي الله عنه – [الإمام ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير1/158 ]،وقال به مجاهد وقتادة وغيرهما [الإمام القرطبي في تفسيره 2/162]، وهذه المعرفة لم تكن بسيطة ، بل كانت في أعلى مستويات المعرفة ، بدلالة هذه الآية الكريمة .(5/56)
ويبين قوة هذه المعرفة جواب عبد الله بن سلام - رضي الله عنه- وكان عالم اليهود وسيدهم ، أسلم بعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان ممن بشر بالجنة - لسؤال عمر بن الخطاب رضي الله عنه – وهو من كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وثاني الخلفاء الراشدين – ، حين سأله قائلا له : أتعرف محمدا -صلى الله عليه وسلم -كما تعرف ابنك ؟ قال : نعم ، وأكثر . بعث الله أمينه في السماء إلى أمينه في أرضه بنعته فعرفته ، وابني لا أدري ما كان من أمه .[ أورد الرواية عن عمر القرطبي في تفسيره 2/163 ] .
فأهل الكتاب يجدون ذكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتبهم التوراة والإنجيل ، قال الله – تعالى- في القرآن الكريم : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [سورةالأعراف الآية: 157 ].
وهذا الذكر ، هل هو بالصفة فقط دون الاسم ، أو بالاسم والصفة ؟
أمّا على فرض أنه بالصفة دون الاسم فقد ذهب ابن القيم – رحمه الله - بوجاهة ذلك وحصول الحجية به ، فقال : إن الإخبار عن صفته ، ومخرجه ، أبلغ من ذكره بمجرد اسمه ، فإن الاشتراك قد يقع في الاسم فلا يحصل التعريف والتمييز .[ انظر هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى للإمام ابن قيم الجوزية، تحقيق رضوان جامع رضوان ، ص 60 ] .
ومن تأمل قصة قيصر الروم هرقل ، وما جعله يعترف بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم – من مطابقة صفاته لما يعرفه من البشارات التي جاءت بوصفه في التوراة ، والإنجيل خاصة ، فإنه يعلم ما لذكر الصفة من أثر في التعرف عليه ، فحين وصلت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل يدعوه فيها إلى الإسلام ، جعل يبحث في مملكته عن من يأتيه بخبر وصفة هذا النبي الذي يدعوه للإسلام ، فظفر جنده بأبي سفيان بن حرب زعيم قريش وسيدها قبل أن يسلم ، وكان قد خرج في تجارة لقريش إلى الشام ، وذلك بعد صلح الحديبية ، فأدخل هو ومن معه على هرقل في قصره ، فأجلسهم بين يديه ،فقال :أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان : أنا .فأجلسوه بين يديه ،وأجلسوا أصحابه خلفه ،ثم دعا بترجمانه فقال :قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ،فإن كذبَني فكذِّبوه .قال أبو سفيان :وأيم الله ، لولا أن يؤثروا علي الكذب لكذبت، ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟ قلت :هو فينا ذو حسب .قال :فهل كان من آبائه ملك ؟ قلت : لا .(5/57)
قال :فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت : لا . قال : أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم . قال : يزيدون أو ينقصون؟ قلت : لا ، بل يزيدون . قال : هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ قلت : لا . قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت: نعم .قال :فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : تكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه .قال : فهل يغدر ؟قلت : لا ، ونحن منه في هذه المدة لا ندري ما هو صانع فيها ، ووالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها غير هذه .قال : فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قلت : لا . ثم قال لترجمانه : قل له إني سألتك عن حسبه ؟ فزعمت أنه ذو حسب ، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها . وسألتك هل كان في آبائه ملك ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك آبائه . وسألتك عن أتباعه من الناس أضعفاؤهم أم أشرافهم ؟فقلت بل ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل . وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فزعمت أن لا ، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله . وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب . وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ؟ فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم . وسألتك هل قاتلتموه ؟ فزعمت أنكم قاتلتموه ،فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون لهم العاقبة . وسألتك هل يغدر ؟ فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر . وسألتك هل قال أحد هذا القول قبله ؟ فزعمت أن لا ، فقلت لو كان قال هذا القول أحد قبله قلت رجل ائتم بقول قيل قبله . ثم قال : بم يأمركم ؟ قلت: يأمرنا بالصلاة ،والزكاة ،والصلة ،والعفاف .قال :إن يك ما تقول فيه حقا ،فإنه نبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ! ولم أك أظنه منكم ! ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ! ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه ! وليبلغن ملكه ما تحت قدمي !!
ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأه فإذا فيه :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى . أما بعد :
فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) .
فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده ، وكثر اللغط ،وأمر بنا فأخرجنا.[رواه الإمام البخاري ح/4278 ]، فهذا دليل بين بأنهم كانوا يعرفون وقت خروجه ومكانه وأوصافه ، لكن حب الدنيا وحب الملك وخوف القتل صدت هرقل عن قبول الحق ، والإيمان به ، فأعلن رفضه له ، ولم يقف موقف الثبات الذي وقفه الأسقف الأكبر في مملكته – معنى الأسقف : رئيس دين النصارى - والذي أقر هرقل بأنه صاحب أمرهم .
فقد أرسل هرقل بالكتاب إلى الأسقف واسمه (ضغاطر)، فقال الأسقف: هذا الذي كنا ننتظر، وبشرنا به عيسى، أما أنا فمصدقه ومتبعه. فقال له قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي. ثم قال الأسقف لرسول النبي صلى الله عليه وسلم دحية رضي الله عنه: خذ هذا الكتاب واذهب إلى صاحبك فأقرئ عليه السلام ،وأخبره أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأني قد آمنت به وصدقته، وأنهم قد أنكروا عليّ ذلك. ثم خرج إليهم فقتلوه. فلما رجع دحية إلى هرقل قال له: قد قلت لك إنا نخافهم على أنفسنا، فضغاطر كان أعظم عندهم مني. [الإمام ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري 1/42-43]، فدعا هرقل عظماء الروم ، فجمعهم في دار له فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد ،وأن يثبت لكم ملككم ،فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ، فوجدوها قد غلقت ، فقال :علي بهم .فدعا بهم فقال :إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم ،فقد رأيت منكم الذي أحببت .فسجدوا له ورضوا عنه [رواه الإمام البخاري ح/4278 ].
ومن هذا الحديث نقف على أمرين مهمين :(5/58)
أولا : أن بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -بكتاب إلى قيصر دليل على عموم رسالته لجميع الناس ، عربهم وعجمهم ، أبيضهم وأسودهم ، قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [سورةالأعراف الآية: 158] ، وقال تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }[ سورةالفرقان الآية: 1 ]، وحياته – صلى الله عليه وسلم – منذ بعثته ، وحتى وفاته شاهدة على عموم رسالته لجميع الناس ، فقد دعا اليهود في المدينة للإسلام ، وجاهدهم فأخرج بعضهم منها ، وقتل بعضهم ، وفي ذلك دليل على عموم رسالته ، ثم إنه دعا النصارى ، فناظر نصارى نجران ، ودعاهم للمباهلة ، وخرج لقتال النصارى في تبوك ، وبعث الكتب لكسرى ، وقيصر ، والمقوقس ، وغيرهم .
إنه لم يفعل ذلك كله إلا لأنه رسول لكل الشعوب على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ، بل وللجن أيضا ، قال ابن تيمية – رحمه الله - مدللا على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم ، وأنه مبعوث إلى جميع الناس أهل الكتاب ، وغير أهل الكتاب ، بل إلى الثقلين الإنس والجن : إنه كان يكفر اليهود والنصارى الذين لم يتبعوا ما أنزل الله عليه ، كما كان يكفر غيرهم ممن لم يؤمن بذلك ، وأنه جاهدهم وأمر بجهادهم .[ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/10 ] .
أما الأمر الثاني : أن هرقل فقه مسألة مهمة ، وهي مسألة يتخذها المعاندون من أهل الكتاب ذريعة لصد الناس عن اتباع الحق ، وهي أن وصول كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه هو بلاغ لرسالته وإن كان بلغة العرب ، فلم يرده ، ولم يرفضه ، بل بادر بترجمته ، وفهم معانيه ، وتحري الحق بحواره مع أبي سفيان ، وعرضه على علماء النصارى في مملكته ، وكذلك كان موقف ضغاطر أكبر علماء بلاده ، فلم يرفض الدعوة بحجة أن النبي عربي اللسان ، وهو للعرب خاصة دون غيرهم .
وإن المتأمل اليوم لكثرة المسلمين في شتى بقاع الأرض ، ومن كل اللغات ، ومن كل الأجناس ليعلم أن هذه الرسالة عامة لكل العالمين ، وأن من يقول بخصوصيتها لأهل اللسان العربي ليعارض النصوص من الكتب السماوية الصريحة ، ويغمض عينيه عن ما يشهد به الواقع البشري اليوم ومن قبل ، منذ بعثة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا .
يقول ابن تيمية رحمه الله :أنزل عليه القرآن باللسان العربي ، كما أنزلت التوراة باللسان العبري وحده ، وموسى -عليه السلام - لم يكن يتكلم إلا بالعبرية ، وكذلك المسيح - عليه السلام - لم يكن يتكلم بالتوراة والإنجيل وغيرهما إلا بالعبرية ، وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد ، بلسان الذي أنزلت عليه ولسان قومه الذين يخاطبهم أولا ، ثم بعد ذلك تبلغ الكتب وكلام الأنبياء لسائر الأمم : إما بأن يترجم لمن لا يعرف لسان ذلك الكتاب ، كما حدث في قصة الكتاب لهرقل وغيره من الملوك ، وإما بأن يتعلم الناس لسان ذلك الكتاب فيعرفون معانيه ، وإما بأن يبين للمرسل إليه معاني ما أرسل به الرسول إليه بلسانه ، وإن لم يعرف سائر ما أرسل به .(5/59)
فالحجة تقوم على الخلق ويحصل لهم الهدى بمن ينقل عن الرسول تارة المعنى ، وتارة اللفظ ، ولهذا يجوز نقل حديثه بالمعنى ، والقرآن يجوز ترجمة معانيه لمن لا يعرف العربية باتفاق العلماء ، وأبناء فارس المسلمون لما اعتنوا بأمر الإسلام ، ترجموا مصاحف كثيرة ، فيكتبونها بالعربي ، ويكتبون الترجمة بالفارسية ، وكانوا قبل الإسلام أبعد عن المسلمين من الروم والنصارى ، فإذا كان الفرس المجوس قد وصل إليهم معاني القرآن بالعربي وترجمته ، فكيف لا يصل إلى أهل الكتاب وهم أقرب إلى المسلمين منهم ؟! وعامة الأصول التي يذكرها القرآن عندهم شواهدها ، ونظائرها في التوراة والإنجيل والزبور ، وغير ذلك من النبوات، بل كل من تدبر نبوات الأنبياء ، وتدبر القرآن ، جزم يقينا بأن محمدا – صلى الله عليه وسلم - رسول الله حقا ، وأن موسى – عليه السلام - رسول الله صدقا ، لما يرى من تصادق الكتابين التوراة والقرآن ، مع العلم بأن موسى - عليه السلام - لم يأخذ عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم -لم يأخذ عن موسى – عليه السلام - ، فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة بحاله ،كان أُمّيِّاً ، قال تعالى : {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }[ سورة العنكبوت الآية : 48 ]، ومن قوم أميين ،قال تعالى : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }[ سورة الجمعة الآية : 2 ]، ولم يكن عندهم من يحفظ التوراة والإنجيل ولا الزبور ، وكان محمد -صلى الله عليه وسلم – مقيما بمكة لم يخرج من بين ظهرانيهم ، ولم يسافر قط إلا سفرتين إلى الشام ، خرج مرة مع عمه أبي طالب قبل الاحتلام ، ولم يكن يفارقه ، ومرة أخرى مع ميسرة في تجارته ، وكان ابن بضع وعشرين سنة ، مع رفقة كانوا يعرفون جميع أحواله ، ولم يجتمع قط بعالم أخذ عنه شيئا لا من علماء اليهود ولا النصارى ولا من غيرهم ، لا بحيرى ولا غيره ، ولكن كان بحيرى الراهب لما رآه عرفه ، لما كان عنده من ذكره ونعته ، فأخبر أهله بذلك ، وأمرهم بحفظه من اليهود ، ولم يتعلم لا من بحيرى ، ولا من غيره كلمة واحدة ، وقد دافع الله تعالى عن نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – في كتابه رداً على من يزعم تعليم البشر له بقوله : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }[ سورة النحل الآية :103].ففي الآية تكذيب لهم ، لأن لسان الذي نسبوا إليه تعليم النبي – صلى الله عليه وسلم- أعجمي لا يفصح ، والقرآن عربي غاية في الوضوح والبيان .
هذا مع أن في القرآن من الرد على أهل الكتاب في بعض ما حرفوه مثل : دعواهم أن المسيح - عليه السلام - صلب ، وقول بعضهم أنه إله ، وقول بعضهم أنه ساحر ، وطعنهم على سليمان - عليه السلام -وقولهم أنه كان ساحراً ، وأمثال ذلك ما يبين أنه لم يأخذ عنهم ، وفي القرآن من قصص الأنبياء - عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام - ما لا يوجد في التوراة والإنجيل ، مثل :قصة هود ، وصالح ، وشعيب وغير ذلك ، وفي القرآن من ذكر المعاد وتفصيله ، وصفة الجنة والنار ، والنعيم والعذاب ، ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل .[ انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 2/52، 54 ، 74 ، 78 ].
كما أن اللسان العربي من أفصح لغات الآدميين ، وأوضحها ، والناس متفقون على أن القرآن في أعلى درجات البيان والبلاغة ، والفصاحة ، وفي القرآن من الدلالات الكثيرة على مقصود الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي يذكر فيها أن الله - تعالى - أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم مالا يحصى إلا بكلفة . .[ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/371 ].
وأما القول بأن ذكره بالاسم ورد في الكتب السماوية فيشهد له عدة أمور:
أولا: تصريح القرآن الكريم بذلك ، قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ }[ سورة الصف الآية :6].(5/60)
ثانيا: تصريح بعض أهل الكتاب باسمه فيما كانوا يبشرون به من خروج نبي آخر الزمان ، فقد كان بعض العرب قد سمى ابنه محمدا طمعا في أن يكون النبي المنتظر لما سمعوه من التبشير بخروجه ، فقد خرج أربعة من بني تميم يريدون الشام وهم : عدي بن ربيعة ، وسفيان بن مجاشع، وأسامة بن مالك، ويزيد بن ربيعة، فلما وصلوا الشام نزلوا على غدير ، فسمع حديثهم ديراني في صومعة له ، فأشرف عليهم الديراني فقال: إن هذه لغة ما هي بلغة أهل البلد .فقالوا :نعم ،نحن قوم من مضر .قال : من أي مضر ؟ قالوا : من خندف .قال :أما إنه سيبعث منكم وشيكا نبي ،فسارعوا وخذوا بحظكم منه ترشدوا ، فإنه خاتم النبيين .فقالوا :ما اسمه ؟ فقال :محمد .فلما انصرفوا من عنده ولد لكل واحد منهم غلاما فسماه محمد. [ المعجم الكبير للإمام الطبراني ح/273- ج 17/111 ].
ولما سمع أكثم بن صيفي التميمي بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إليه ابنه ليأتيه بخبره ، فلما رجع ابنه ، قال له أكثم : ماذا رأيت ؟ قال :رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ،وينهى عن ملائمها .فجمع أكثم قومه ، ودعاهم إلى اتباعه ،وقال لهم : إن سفيان بن مجاشع سمى ابنه محمدا حبا في هذا الرجل ، وإن أسقف نجران كان يخبر بأمره وبعثه ، فكونوا في أمره أولا ولا تكونوا أخرا. [ الإصابة في تمييز الصحابة للإمام ابن حجر 1/211 ].
ثالثا: التصريح باسمه في النبوءات والبشارات في الكتب السابقة ، ومن ذلك :
ما رواه برنابا عن عيسى - عليه السلام - من أنه صرح باسم محمد - صلى الله عليه وسلم - فمن كلامه عليه السلام : ( أن الله يعاقب على كل خطيئة مهما كانت طفيفة عقابا عظيما ، لأن الله يغضب من الخطيئة . فلذلك لما كانت أمي وتلاميذي الأمناء الذين كانوا معي أحبوني قليلا حبا عالميا ، أراد الله البر أن يعاقب على هذا الحب بالحزن الحاضر، حتى لا يعاقب عليه بلهب الجحيم . فلما كان الناس قد دعوني الله وابن الله ، على أني كنت بريئا في العالم ، أراد الله أن يهزأ الناس بي في هذا العالم بموت يهوذا ، معتقدين أنني أنا الذي مت على الصليب لكيلا تهزأ الشياطين بي يوم الدينونه . وسيبقى هذا إلى أن يأتي محمد رسول الله . الذي متى جاء كشف هذا الخداع للذين يؤمنون بشريعة الله) [برنابا .22 – انظر البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل لـ أحمد حجازي السقا 1/145 ].
وجاء في مزامير داود عليه السلام قول داود - عليه السلام - : ( إن ربنا عظم محموداً )، وفي مكان آخر : ( إلهنا قدوس ومحمد قد عم الأرض كلها فرحا )[ المزامير (48، 67 ، 111 ، 118 )- انظر هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ، تحقيق رضوان جامع رضوان ،ص95 ]، وهذا تصريح من داود - عليه السلام - باسمه ، وجاء في سفر أشعياء ، قول أشعياء معلنا باسم محمد صلى الله عليه مسلم : ( إني جعلت أمرك يا محمد بالحمد يا قدوس الرب ، اسمك موجود قبل الشمس ) [سفر أشعياء الإصحاح (21)، انظر هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ، تحقيق رضوان جامع رضوان ،ص 98 ].
وهذه الشواهد تجعلنا نعطي لمحة مختصرة عن التوراة والإنجيل :
يقول اليهود العبرانيون والسامريون والنصارى أيضا : إن التوراة عبارة عن خمسة أسفار هي: 1- التكوين 2- الخروج 3- اللاويين ( الأحبار ) 4- العدد 5- التثنية .
ويقول العبرانيون والنصارى بكتب تسمى التوراة مجازا لأنبياء أتوا من بعد موسى – عليه السلام – ويسمونها ( كتب الأنبياء ) [ انظر البشارة بنبي الإسلام 1/54 ].
وقد ترجمت من العبرانية إلى اللغة اليونانية عام 285 – 247 قبل الميلاد ، وقد قام بها اثنين وسبعين عالما من علماء اليهود ، ومن الزمان الذي ترجمت فيه التوراة إلى اليونانية ، انتشرت في العالم ، وظهرت ترجمات أخرى لها ، فصعب على اليهود تحريفها ، وزاد من صعوبة التحريف ظهور النصرانية ، وتمسك النصارى بالتوراة ، وتفرقهم بها في جميع البلاد ، وذلك لأنهم كانوا يكتبونها ويضعونها مع كتب الأناجيل الأربعة : 1- متى 2- يوحنا 3- لوقا 4- مرقس في كتاب واحد .
ويسمون مجموع كتب التوراة والإنجيل ( بيبل ) باللغة اليونانية ، أو الكتاب المقدس ،
أو كتب العهد القديم ( التوراة ) ، وكتب العهد الجديد ( الإنجيل ) .[ البشارة بنبي الإسلام 1/58-59 ].
وحديثنا عن النبوءات عند أهل الكتاب ، يجعلنا نتساءل عن موقفنا منها ؟
ويبين ذلك الدكتور سفر الحوالي بقوله : وموقفنا من نبوءات أهل الكتاب هو نفس الموقف من عامة أحاديثهم وأخبارهم ، فهي ثلاثة أنواع :
أولاً: ما هو باطل قطعاً :
وهو ما اختلقوه من عند أنفسهم أو حرفوه عن مواضعه، كدعوى أن نبي آخر الزمان سيكون من نسل داود – عليه السلام -، وأن المسيح الموعود يهودي ، وطمسهم للبشارة بالإسلام ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ-، وعموماً هو كل ما ورد الوحي المحفوظ (الكتاب والسنة الصحيحة) بخلافه.
ثانياً: ما هو حق قطعاً، وهو نوعان:(5/61)
أ ) ما صدقه الوحي المحفوظ نصاً، ومن ذلك إخبارهم بختم النبوة، وإخبارهم بنزول المسيح - عليه السلام- ، وخروج المسيح الدجال، وإخبارهم بالملاحم الكبرى في آخر الزمان بين أهل الكفر وأهل الإيمان، ومن هذا النوع ما قد يكون الخلاف معهم في تفصيله أو تفسيره.
ب) ما صدقه الواقع ، كما في صحيح البخاري عن جرير بن عبد الله - رضي الله تعالى عنه - قال: كُنت باليمن ، فلقيت رجلين من أهل اليمن :ذا كلاع و ذا عمرو فجعلت أحدثهم عن رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال ذو عمرو : لئن كان الذي تذكره من أمر صاحبك؛ فقد مرَّ على أجله منذ ثلاث.- قال ذلك عمرو ، لأنه كان على إطلاع بكتب اليهود باليمن – قال جرير: وأقبلا معي حتى إذا كنا في بعض الطريق رُفِع لنا ركب من قبل المدينة ، فسألناهم، فقالوا: قُبِضَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستُخلف أبو بكر والناس صالحون.
فقالا: أخبر صاحبك أنا قد جئنا ولعلنا سنعود إن شاء الله، ورجعا إلى اليمن ، فحدثت أبا بكر بحديثهم ، فقال: أفلا جئت بهم . فلما كان بعدُ قال لي ذو عمرو : يا جرير ! إن بك عليَّ كرامة، وإني مخبرك خبراً، إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمَّرتم في آخر، فإذا كان بالسيف كانوا ملوكاً، يغضبون غضبَ الملوك ويرضون رضا الملوك .[ رواه الإمام البخاري ح/4101 ، وانظر فتح الباري 8/76].
ثالثاً: ما لا نصدقه ولا نكذبه:
وهو ما عدا هذين النوعين، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم). [رواه الإمام البخاري ح/ 4215].
ومن ذلك إخبارهم عن الآشوري ورجسة الخراب وأمثالها، وكوننا لا نصدقه ولا نكذبه يعني: خروجه عن دائرة الاعتقاد والوحي إلى دائرة الرأي والرواية التاريخية التي تقبل الخطأ والصواب والتعديل والإضافة ، أي أن النهي لا يعني عدم البحث فيه مطلقاً، ولكنه بحث مشروط، وضمن دائرة الظن والاحتمال.[ انظر يوم الغضب هل بدأ بانتفاضة رجب؟ للدكتور: سفر الحوالي ] .
والحديث عن البشارات والنبوءات التي جاءت في التورات والإنجيل ، هو حديث عن علامة من علامات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه أداءٌ لحق البلاغ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما -أن النبي صلى الله عليه وسله - قال : (بلغوا عني ولو آية). [ رواه الإمام البخاري ح/ 3274 ]، فالله – تعالى – جعل سعادة البشرية في الدنيا ، وهدايتهم لكل خير في طاعته واتباعه ، قال تعالى : {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }[ سورة النور الآية :54 ]، وجعل نجاتهم في الآخرة متوقفة على اتباعه .قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا دخل النار). [رواه الإمام مسلم ح/153] .
ولقد كان يُعجب النبيَّ - صلى الله عليه وسله - أن يسمع أصحابه قصص أهل الكتاب الدالة على نبوته ، كما ثبت ذلك في قصة إسلام سلمان الفارسي – رضي الله عنه - فبعد أن قص سلمان قصته على النبي - صلى الله عليه وسله - قال :فأعجب رسول الله - صلى الله عليه وسله - أن يسمع ذلك أصحابه رضي الله عنهم .[ أخرجه الإمام أحمد ( 5/441-444 )،قال شعيب الأرنؤوط ،و حسين الأسد في تحقيق سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي( 1/511 ) :رجاله ثقات وإسناده قوي ].
والناظر في أسباب دخول الناس إلى دين الله أفواجا ، وإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وخاصة أكثر العرب الذين لم يكن لديهم علم بتلك البشارات ، يجد أنهم آمنوا لما تبين لهم من آيات وعلامات دلت على صدق نبوته - صلى الله عليه وسلم - بل إن أتباعه عليه الصلاة والسلام من العرب وغيرهم كانوا أكثر بعد موته ، مع عدم إطلاع غالبيتهم على البشارات والنبوءات ، وهم في تزايد مستمر ،وذلك لما رأوا من عدل ورحمة ويسر الشريعة التي جاء بها ، ولما وجدوا من حسن أثر دعوته في أتباعه على مر الأزمان ، ومن ذلك حسن أخلاقهم ،
وما جاء به من علامات تدل على صدق نبوته ، والتي منها :(5/62)
أولا: القرآن الكريم ، وهو أعظم الآيات والدلائل ، وسائر العلامات له تبع ، والقرآن آية بينة معجزة من وجوه متعددة : من جهة اللفظ ،ومن جهة النظم ، ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى ، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله -تعالى -وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك ، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي وعن الغيب المستقبل ، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية ، التي هي الأمثال المضروبة كما قال تعالى : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً }[سورةالإسراء الآية: 89 ]، وانظر الجواب الصحيح 5/428] .
والقرآن معجز بمعارفه وعلومه ، ولم يقدر أحد من العرب وغيرهم - مع قوة عداوتهم وحرصهم على إبطال أمره بكل طريق ، وقدرتهم على أنواع الكلام - أن يأتوا بمثله ، قال تعالى : {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً }[ سورة الإسراء الآية :88 ]، وانظر الجواب الصحيح 1/427 ]. وقال تعالى :{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[ سورة النساء الآية : 82].قال الإمام الطبري – رحمه الله - في تفسير هذه الآية الكريمة : إن الذي أتيتهم به – يا محمد - من التنزيل من عند ربهم لاتساق معانيه ، وائتلاف أحكامه ، وتأييد بعضه بعضا بالتصديق ، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق ، فإن ذلك لو كان من غير الله – تعالى - لاختلفت أحكامه ،وتناقضت معانيه ، وأبان بعضه عن فساد بعض.[تفسير الطبري 5/179].
وقال تعالى : {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }[ سورة يونس الآية :37].
وتأمل أثر القرآن على ملك الحبشة النجاشي ، وبطارقته وكانوا نصارى ، ثم إقرار النجاشي أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم -وهو القرآن - يخرج وما جاء به عيسى - عليه السلام - وهو الإنجيل من مشكاة واحدة ، فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة إليه لما كانوا يلاقونه من تعذيب وتضييق من كفار مكة ، وكان ملكا عادلا لا يظلم عنده أحد ، وبعد أن وصلوا إليه عاشوا في خير جوار عنده ، آمنين على دينهم يعبدون الله لا يؤذون ولا يسمعون شيئا يكرهونه ،فلما بلغ ذلك قريشا أغضبها ما كانوا يسمعونه عن أمن المهاجرين ،فتآمروا ليلاحقوهم هناك !! وقرروا أن يبعثوا إلى النجاشي رجلين جلدين ليهدوا للنجاشي هدايا مما يحبه من متاع مكة ،وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم – الجلد - فجمعوا له أدما كثيرا ، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص بن وائل السهمي ، وأمروهما أمرهم ، وقالوا لهما :ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم . ليستميلوهم فيشيروا على النجاشي بما يريدون .
فخرجا فقدما على النجاشي ،فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ، ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ،ثم كلماه فقالا له :أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينك ، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه .
فقالت بطارقته حوله : صدقوا أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم ،فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم .
فغضب النجاشي ،ثم قال :لا ها الله ، أيم الله إذاً لا أسلمهم إليهما ، ولا أُكاد قوما جاوروني ، ونزلوا بلادي ، واختاروني على من سواي حتى أدعوهم ، فاسألهم ما يقول هذان في أمرهم ،فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ، ورددتهم إلى قومهم ، وإن كانوا غير ذلك ، منعتهم منهما ، وأحسنت جوارهم ما جاوروني .
ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم ، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ،ثم قال بعضهم لبعض :ما تقولون للرجل إذا جئتموه ؟ قالوا :نقول والله ما علمنا ، وما أمرنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم - كائن في ذلك ما هو كائن .
فلما جاءوه ، وقد دعا النجاشي أساقفته ، فنشروا مصاحفهم حوله ، سألهم فقال :ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا في ديني ، ولا في دين أحد من هذه الأمم ؟(5/63)
فكلمه جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه - فقال له :أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية :نعبد الأصنام ،ونأكل الميتة ،ونأتي الفواحش ،ونقطع الأرحام ،ونسيء الجوار ، ويأكل القوى منا الضعيف .فكنا على ذلك حتى بعث الله – تعالى - إلينا رسولا منا ،نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ،فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ،ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ،وأمرنا بصدق الحديث ،وأداء الأمانة ،وصلة الرحم ،وحسن الجوار ،والكف عن المحارم والدماء ،ونهانا عن الفواحش ،وقول الزور ،وأكل مال اليتيم ،وقذف المحصنة ،وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا ،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام .
فعدد عليه أمور الإسلام ،قال :فصدقناه ،وآمنا به واتبعناه على ما جاء به ،فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا ،وحرمنا ما حرم علينا ،وأحللنا ما أحل لنا ،فعدا علينا قومنا ،فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله ،وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ،فلما قهرونا وشقوا علينا ،وحالوا بيننا وبين ديننا ،خرجنا إلى بلدك ،واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ،ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك .
فقال له النجاشي :هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟
فقال له جعفر :نعم .
فقال له النجاشي: فاقرأه علي .
فقرأ عليه صدرا من (كهيعص).
فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته ،وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم !!
ثم قال النجاشي : إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . انطلقا ،فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أُكاد .
فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص :والله لأنبئنَّه غدا عيبهم ، ثم استأصل به خضراءهم .فقال له عبد الله بن أبى ربيعة وكان أتقى الرجلين في قومه : لا تفعل ،فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا .قال :والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبدٌ .
ثم غدا عليه ، فقال له : أيها الملك ! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما ،فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه . فأرسل إليهم يسألهم عنه .
فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض:ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه ؟ قالوا:نقول والله فيه ما قال الله وما جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم -كائنا في ذلك ما هو كائن .
فلما دخلوا عليه ،قال لهم : ما تقولون في عيسى بن مريم ؟
فقال له جعفر بن أبى طالب – رضي الله عنه -:نقول فيه الذي جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول .
فضرب النجاشي يده إلى الأرض ، فأخذ منها عودا ،ثم قال :ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود .فتناخرت بطارقته حوله ، حين قال ما قال .فقال :وإن نخرتم والله ، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم الآمنون - من سبكم غرم ، من سبكم غرم ،فما أحب أن لي دبرا ذهبا- يعني جبل - وإني آذيت رجلا منكم . ردوا عليهم هداياهما ، فلا حاجة لنا بها ،فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه .
فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به ، وأقام المهاجرون – رضي الله عنهم- عنده بخير دار مع خير جار.[ حديث روته أم المؤمنين أم سلمه رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخرجه الإمام أحمد 1/ 202 ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : رجاله رجال الصحيح ].
ثانيا : المعجزات الحسية التي جاء بها ، وهي كثيرة جداً ، منها : انشقاق القمر ، وتكثير الطعام القليل، ونبع الماء من تحت أصابعه ، وبكاء جذع النخلة ، وسلام الحجارة عليه ، وتقارب الأشجار له ،و ....و.....وغيرها كثير مما جمعه أهل العلم في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم .
ثالثا : إخباره – صلى الله عليه وسلم - عن المغيبات الماضية ، والحاضرة ، والمستقبلة ، بأمور باهرة لا يوجد مثلها لأحد من النبيين قبله ، فضلا عن غير النبيين ، ففي القرآن من إخباره عن الغيوب شيء كثير ،وكذلك في الأحاديث الصحيحة مما أخبر بوقوعه فكان كما أخبر . [ الجواب الصحيح 6/80 ].
رابعا: انتفاع أهل الدنيا بدعوة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أكمل من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء ، حتى إن المشركين أدركوا هذا الانتفاع الذي حصلّه المسلمون من دعوة النبي –صلى الله عليه وسلم – في سائر نواحي الحياة ، فعن سلمان – رضي الله عنه – أن المشركين قالوا له : قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء ،حتى الخراءة !! قال : أجل ، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول ، أو أن نستنجي باليمين ، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم . [ أخرجه الإمام مسلم ح/262].(5/64)
وقد كان اليهود يدركون ذلك ، وأن الشريعة التي بعث بها أيسر الشرائع ، وأخفها على الناس ، فعندما زنى رجل من اليهود بامرأة ، قال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي ، فإنه نبي بعث بالتخفيف - وهذا هو الشاهد - فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها ، واحتججنا بها عند الله ، فقلنا نبي من أنبيائك !! – وهذا إقرار صريح بنبوته - صلى الله عليه وسلم - فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ! ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم ، فقام على الباب فقال : ( أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ! ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟ ) . قالوا : نحممه ، ونجبيه ، ونجلده ._ والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار ويقابل أقفيتهما ويطاف بهما - ، وسكت شاب منهم ، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم -ساكتا ، أنشده ؟ فقال : اللهم إذ نشدتنا ، فإنا نجد في التوراة الرجم .فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟). قال: زنى ذو قرابة ملك من ملوكنا ، فأخر عنه الرجم ، ثم زنى رجل في أسرة من الناس ، فأراد رجمه ، فحال قومه دونه ، وقالوا : لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه .فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم . قال النبي صلى الله عليه وسلم : (فإني أحكم بما في التوراة)، فأمر بهما فرجما.[ رواه الإمام أبو داود ح/4450 ] .
خامسا : اجتمع للنبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أمور لا يجتمع مثلها إلا لنبي مثل : المعجزات ، ومثل صفاته ، فهذا عدي بن حاتم من سادة قبيلة طيء ، وكان نصرانيا ، يخبر بتأثره بأخلاق النبي – صلى الله عليه وسلم- وذلك في أول لقاء له به ، قال عدي : فانطلق بي إلى بيته ، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة كبيرة فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها!!
قال :قلت في نفسي والله ما هذا بملك! [ابن إسحاق رحمه الله، انظر السيرة النبوية لابن هشام رحمه الله 5/278].
ومما اجتمع له إضافة لما ذكر ، قرائن أحواله منذ الصغر فلم يكذب ولم يخن ..الخ [ انظر كتاب البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي السقا ، ينقل عن محصل أفكار المتقدمين للرازي. [1/196 ].
ولكن هل من شرط النبي أن يبشر به من تقدمه ؟
يقول ابن تيمية رحمه الله : ليس من شرط النبي أن يبشر به من تقدمه ، كما أن موسى – عليه السلام - كان رسولا إلى فرعون ولم يتقدم لفرعون به بشارة ، وكذلك الخليل - عليه السلام - أرسل إلى نمرود ولم يتقدم به بشارة نبي إليه ، وكذلك نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط – عليهم السلام - لم يتقدم هؤلاء بشارة إلى قومهم بهم ، مع كونهم أنبياء صادقين ، فإن دلائل نبوة النبي - صلى الله عليه وسله - لا تنحصر في إخبار من تقدمه ، بل دلائل النبوة منها المعجزات ومنها غير المعجزات. [ أنظر الجواب الصحيح 2/ 32].
وهذه الآيات والدلائل المبينة لنبوة محمد - صلى الله عليه وسله - من غير البشارات كثيرة جدا ، وهي حجة على أهل الكتاب ، وعلى غيرهم من الأمم ، قال تعالى : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[سورة المائدة الآية: 19 ] ، وقال تعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } [ سورة آل عمران الآية: 98 ] ، و القرآن أعظم آية جاء بها النبي – صلى الله عليه وسلم - وهوحجة على من بلغه ، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }[ سورة الأنعام الآية: 19 ] ، فمن بلغه بعض القرآن دون بعض ، قامت عليه الحجة بما بلغه دون ما لم يبلغه ، فإذا اشتبه معنى بعض الآيات وتنازع الناس في تأويل الآية وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله ، فإذا اجتهد الناس في فهم ما أراده الرسول فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر.[الجواب الصحيح 2/293 ].
فكيف يكون جوابهم ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ؟!
ويأتي الآن السؤال المهم : ما الدلالات على أن محمدا - صلى الله عليه وسله - مذكور في التوراة والإنجيل ، ليوصف أهل الكتاب بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ؟
والجواب يتمثل في الدلالات التالية :(5/65)
أولا : تصريح القرآن بذلك ، قال تعالى : {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [سورة الأعراف الآية: 157 ] ، وقال تعالى : {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ }[ سورة البقرة الآية: 89 ] .
ثانيا : تصريح القرآن ببشارة الأنبياء – عليهم السلام - به ، فقد بشر به عيسى - عليه السلام- قال تعالى : ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ) ، بل أخذ العهد والميثاق على جميع الأنبياء لئن بعث محمد ليؤمنن به ، قال تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ }[ سورة آل عمران الآية: 81 ] ، قال ابن عباس – رضي الله عنه -وغيره من السلف : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد – صلى الله عليه وسلم -وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته : لئن بعث محمد – صلى الله عليه وسلم -وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه .قال ابن تيمية : فدل ذلك على أنه من أدرك محمدا – صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء وأتباعهم وإن كان معه كتاب وحكمة فعليه أن يؤمن بمحمد – صلى الله عليه وسلم -وينصره .[ انظر الجواب الصحيح 2/120- 123 ].
ثالثا : شهادة من أسلم من علماء بني إسرائيل ، أن ذكره - صلى الله عليه وسلم - جاء في كتبهم، قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ }[ سورة الشعراء الآية: 197 ] ، وقال تعالى:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }[سورة آل عمران الآية: 199].وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ .وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ .أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }[ سورة القصص الآية :52- 54 ].
ومن ذلك أن عالم اليهود وابن عالمهم وسيدهم وابن سيدهم عبد الله بن سلام كان فوق نخلة له يجدها ، فسمع رجة فقال: ما هذا ؟ قالوا : هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قدم .فألقى بنفسه من أعلى النخلة ثم خرج [ مجمع الزوائد 8/243 ].
فكان فيمن انجفل إليه، يقول عبد الله بن سلام: فلما تبينت وجهه ، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول شيء سمعته يقوله : (أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام) [رواه الإمام أحمد 5/ 451].
ثم رجع فقالت له أمه: لله أنت !! لو كان موسى بن عمران - عليه السلام - ما كان بذلك تلقي نفسك من أعلى النخلة. فقال : والله لأنا أشد فرحا بقدوم رسول الله من موسى إذ بعث. [قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات إلا أن حمزة بن يوسف لم يدرك جده عبد الله بن سلام ،مجمع الزوائد 8/243 ].
وفي رواية ابن إسحاق : أنه قال لعمته خالدة : أي عمة ، هو والله أخو موسى بن عمران ، وعلى دينه ، بعث بما بعث به .فقالت : أي ابن أخي ! أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نَفَس الساعة ؟ فقلت لها : نعم. [ابن إسحاق في سيرة ابن هشام 3/50 ].(5/66)
ثم جاءه بعد ذلك فقال: إني سائلك عن ثلاث، لا يعلمهن إلا نبي : فما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: (أخبرني بهن جبريل آنفا). قال : جبريل ؟!!قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم : (نعم). قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة.
فقرأ هذه الآية: (من كان عدا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله)، أما أول أشراط الساعة ؟ فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام أهل الجنة ؟ فزيادة كبد حوت ، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت ). فقال ابن سلام : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله ، يا رسول الله إن اليهود قوم بهت ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني .فجاءت اليهود ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أي رجل عبد الله بن سلام فيكم ؟ ).قالوا : خيرنا ، وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا . قال : (أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟).فقالوا : أعاذه الله من ذلك . فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقالوا :شرنا وابن شرنا ، وانتقصوه . قال ابن سلام : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله .[ رواه الإمام البخاري 4210 ، 3699 ]. . وفي رواية قال : يا معشر اليهود ! اتقوا الله ، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، وأنه جاء بحق .[ رواه الإمام البخاري 3621 ].
وكان بعض أهل الكتاب يُذكِّر البعض الآخر ، ويقيم الحجة عليهم ، فهذا مخيريق من أحبار بني النضير وعلمائها وأغنيائها يقيم الحجة على يهود ، وكان يعرف رسول الله - صلى الله عليه وسله - بصفته وما يجد في علمه ، وكان قد غلب عليه إلف دينه ، فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد - وكان يوم أحد يوم السبت من شهر ..شوال من السنة الثالثة للهجرة - قال : يا معشر يهود ! والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق .قالوا : إن اليوم يوم السبت . قال : لا سبت لكم . ثم أخذ سلاحه ، فخرج حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحد ، وعهد إلى من وراءه من قومه إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد- صلى الله عليه وسلم - يصنع فيها ماشاء .
فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (مخيريق خير يهود). [ ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/51 ].
و شاهد آخر في موقف (ضغاطر) كبير الأساقفة زمن هرقل ، عندما أرسل إليه هرقل بكتاب النبي - صلى الله عليه وسله - يستشيره فيه ، فقال الأسقف: هذا الذي كنا ننتظر ، وبشرنا به عيسى – عليه السلام - أما أنا فمصدقه ومتبعه . فقال له قيصر: أما أنا إن فعلت ذلك ذهب ملكي . ثم قال الأسقف لرسول النبي صلى الله عليه وسلم : خذ هذا الكتاب واذهب إلى صاحبك ، فأقرئ عليه السلام ،وأخبره أني أشهد أن لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله ، وأني قد آمنت به وصدقته ،وأنهم قد أنكروا على ذلك .ثم خرج إليهم فقتلوه .[ ابن حجر في فتح الباري 1/42-43].
وأورد شيخ الإسلام بن تيمية إقرار وشهادة الحسن بن أيوب ، و كان من أجلاء علماء النصارى ، وأخبرِ الناسِ بأقوالهم ، ومن أخبرِ الناس بمقالاتهم ، فأسلم على بصيرة ، وكتب رسالة إلى أخيه علي بن أيوب يذكر فيها سبب إسلامه ، ويذكر الأدلة على بطلان دين النصارى وصحة دين الإسلام ، قال في رسالته إلى أخيه لما كتب إليه يسأله عن سبب إسلامه ؟ ثم أعلمك أرشدك الله أن ابتداء أمري في الشك الذي دخلني فيما كنت عليه ،والاستبشاع بالقول به من أكثر من عشرين سنة !! لما كنت أقف عليه في المقالة من فساد التوحيد لله عز وجل ، بما أدخل فيه من القول بالثلاثة الأقانيم ، وغيرها مما تضمنته شريعة النصارى ،ووضع الاحتجاجات التي لا تزكو ، ولا تثبت في تقرير ذلك ، وكنت إذا تبحرته وأجلت الفكر فيه بان لي عواره ، ونفرت نفسي من قبوله ، وإذا فكرت في دين الإسلام الذي مَنّ الله علي به وجدت أصوله ثابتة ، وفروعه مستقيمة ، وشرائعه جميلة ، وأصل ذلك ما لا يختلف فيه أحد ممن عرف الله عز وجل منكم ومن غيركم ، وهو الإيمان بالله الحي القيوم السميع البصير الواحد الفرد الملك القدوس الجواد العدل ، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وإله موسى وعيسى وسائر النبيين والخلق أجمعين ،....، إلى أن قال : ثم نؤمن بأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، ونؤمن بموسى وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،لا نفرق بين أحد منهم ، ونؤمن بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ، وأن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين ذلك بما كسبت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد .(5/67)
قال :وكان يحملني إلف ديني ، وطول المدة والعهد عليه ، والاجتماع مع الآباء والأمهات والإخوة والأخوات ، والأقارب والإخوان والجيران ،وأهل المودات على التسويف بالعزم والتلبث على إبرام الأمر ، ويعرض مع ذلك الفكر في إمعان النظر ، والازدياد في البصيرة ، فلم أدع كتابا من كتب أنبياء التوراة والإنجيل والزبور، وكتب الأنبياء ، والقرآن ، إلا نظرت فيه ،وتصفحته ، ولا شيئا من مقالات النصرانية إلا تأملته ، فلما لم أجد للحق مدفعا ، ولا للشك فيه موضعا ، ولا للأناة والتلبث وجها خرجت مهاجرا إلى الله عز وجل بنفسي ، هاربا بديني عن نعمة وأهل مستقر ومحل وعز ومتصرف في عمل ، فأظهرت ما أظهرته عن نية صحيحة ، وسريرة صادقة ، ويقين ثابت ، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق ، وإياه تعالى نسأل أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.[ الجواب الصحيح 4/88].
رابعا : إخبار علمائهم ، بصفته ، ومكانه ، ووقت خروجه ، وهو ما كان سببا في إسلام سلمان الفارسي - رضي الله عنه - وإليكم قصة سلمان العجيبة ، يرويها بنفسه فيقول: كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية منها يقال لها جى ، وكان أبي دهقان قريته ، وكنت أحب خلق الله إليه ، فلم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة .
وكانت لأبي ضيعة عظيمة – الضيعة: هي تجارة الرجل، أو صناعته، أو زراعته - ، فشغل في بنيان له يوما ، فقال لي : يا بني! إني قد شُغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي ،فاذهب فاطلعها ،وأمرني ببعض ما يريد فخرجت أريد ضيعته ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى ، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون ، وكنت لا أدرى ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته ، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم ، دخلت عليهم انظر ما يصنعون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ،ورغبت في أمرهم ، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه ؛ فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس. وتركت ضيعة أبي ولم آتها ، فقلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام . ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله ، فلما جئته قال : أي بني! أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت ؟ قلت : يا أبت مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم ، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس . قال :أي بني ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه . قلت :كلا والله إنه لخير من ديننا .قال: فخافني ، فجعل في رجلي قيدا ، ثم حبسني في بيته .
وبعثت إلى النصارى فقلت لهم :إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم . فقدم عليهم من الشام تجار من النصارى ، فأخبروني بهم ، فقلت لهم : إذا قضوا حوائجهم ، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فأخبروني. فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم ،فألقيت الحديد من رجلي ،ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام ، فلما قدمتها ،قلت : من أفضل أهل هذا الدين ؟ قالوا الأسقف في الكنيسة . فجئته ،فقلت : إني قد رغبت في هذا الدين ، وأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلى معك .قال : فادخل ، فدخلت معه ، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها ،فإذا جمعوا إليه منها أشياء اكتنزه لنفسه ، ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قِلال من ذهب ووَرِق ، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع .
ثم مات ، فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم : إن هذا كان رجل سوء ، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها ،فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئا ، قالوا : وما علمك بذلك ، قلت :أنا أدلكم على كنزه ،قالوا: فدلنا عليه ، فأريتهم موضعه ، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا ، فلما رأوها قالوا :والله لا ندفنه أبدا .فصلبوه ، ثم رجموه بالحجارة ،ثم جاءوا برجل آخر، فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً – يعني لا يصلي الخمس - أرى أنه أفضل منه ، أزهد في الدنيا ، ولا أرغب في الآخرة ، ولا أدأب ليلا ونهارا منه ، فأحببته حبا لم أحبه من قبله ، وأقمت معه زمانا ، ثم حضرته الوفاة ، فقلت له : يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبا لم أحبه من قبلك ، وقد حضرك ما ترى من أمر الله ، فإلى من توصى بي وما تأمرني ؟ قال : أي بني ، والله ما أعلم أحدا اليوم على ما كنت عليه ، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل ، وهو فلان ، فهو على ما كنت عليه ، فالحق به .(5/68)
فلما مات وغيب ،لحقت بصاحب الموصل ،فقلت له : يا فلان ، إن فلانا أوصاني عند موته أن الحق بك ،وأخبرني أنك على أمره . فقال لي : أقم عندي .فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلما حضرته الوفاة قلت له :يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك ،وأمرني باللحوق بك وقد حضرك من الله عز وجل ما ترى ،فإلى من توصى بي ؟ وما تأمرني ؟ قال : أي بني والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه ، إلا رجلا بنصيبين ، وهو فلان ، فالحق به .فلما مات وغيب ،لحقت بصاحب نصيبين ، فجئته فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي ، قال : فأقم عندي .فأقمت عنده .فوجدته على أمر صاحبيه ، فأقمت مع خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به الموت ، فلما حُضر قلت له : يا فلان إن فلانا كان أوصى بي إلى فلان ، ثم أوصى بي فلان إليك ، فإلى من توصى بي ، وما تأمرني . قال : أي بني والله ما نعلم أحدا بقى على أمرنا آمرك أن تأتيه ، إلا رجلا بعمورية ، فإنه بمثل ما نحن عليه ،فإن أحببت فأته ،فإنه على أمرنا . فلما مات وغيب ،لحقت بصاحب عمورية ، وأخبرته خبر ي ، فقال :أقم عندي. فأقمت مع رجل على هدى أصحابه وأمرهم ، واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة ، ثم نزل به أمر الله ، فلما حُضر قلت له : يا فلان إلى من توصى بي ؟وما تأمرني ؟ قال : أي بني ! والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ، ولكنه قد أظلك زمان نبي ، هو مبعوث بدين إبراهيم ، يخرج بأرض العرب ( وفي رواية :يبعث من أرض الحرم )، مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل ، به علامات لا تخفى : يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل .
ثم مات وغيب ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ،ثم مر بي نفر من تجار العرب من كلب فقلت لهم : تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه .قالوا: نعم . فأعطيتهم إياها وحملوني ، حتى إذا قدموا بي وادي القرى – هو وادٍ بين المدينة والشام كثير القرى -، ظلموني ، فباعوني عبداً من رجل من يهود ، فكنت عنده ورأيت النخل ، ورجوت أن تكون البلد الذي وصف لي صاحبي ، ولم يحق لي في نفسي ، فبينما أنا عنده قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة ، فابتاعني منه، فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها ، فعرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، وبعث الله رسوله ، فأقام بمكة ما أقام ، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثم هاجر إلى المدينة ، فوالله إني لفي رأس نخلة لسيدي ، وسيدي جالس إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه ، فقال :يا فلان ! قاتل الله بنى قيلة _ يعني الأوس والخزرج - والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي .
فلما سمعتها أخذتني العرواء – يعني الرعدة - حتى ظننت سأسقط على سيدي ، ونزلت عن النخلة ،فجعلت أقول لابن عمه ذلك : ماذا تقول ؟ ماذا تقول ؟ قال: فغضب سيدي ،فلكمني لكمة شديدة ،ثم قال : مالك ولهذا ؟ أقبل على عملك .فقلت :لا شيء إنما أردت أن استثبت عما قال .وقد كان عندي شيء قد جمعته ، فلما أمسيت أخذته ،ثم ذهبت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بقباء ، فدخلت عليه فقلت له : إنه قد بلغني أنك رجل صالح ، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء كان عندي للصدقة ،فرأيتكم أحق به من غيركم . فقربته إليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : كلوا .وأمسك يده ، فلم يأكل . فقلت في نفسي : هذه واحدة ، ثم انصرفت عنه ، فجمعت شيئا وتحول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، ثم جئت به فقلت :إني رأيتك لا تأكل الصدقة ،وهذه هدية أكرمتك بها . فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها ،وأمر أصحابه فأكلوا معه ، فقلت في نفسي :هاتان اثنتان ، ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ببقيع الغرقد ، وقد تبع جنازة من أصحابه عليه شملتان له وهو جالس في أصحابه ، فسلمت عليه ، ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ،فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استدرته ، عرف أني استثبت في شيء وصف لي ، فألقى الرداء عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم ، فعرفته ، فانكببت عليه أقبله وأبكى .فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تحول ) . فتحولت ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا بن عباس .قال :فأعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسمع ذلك أصحابه .[ أخرجه الإمام أحمد 5/441-444، قال شعيب الأرنؤوط ،و حسين الأسد في تحقيق سير أعلام النبلاء للذهبي 1/511:رجاله ثقات وإسناده قوي ].(5/69)
وكان لأحبار اليهود الذين عرفوا صفة الأرض التي يهاجر إليها نبي آخر الزمان وهي يثرب (المدينة) دورهم في رد تُبّع عنها - تبع أحد ملوك اليمن واسمه : تبان أسعد من أبناء سبأ ، غزا الأنبار والحيرة والترك وغزا الصين حتى هابته الملوك وأهدت له الهدايا ، كان وثنياً ، ثم دخل اليهودية و أدخلها إلى اليمن ، وعن بن عباس قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تسبوا تبعا، فإنه قد أسلم) رواه الطبراني في المعجم الأوسط ح/1419، وقال عنه الألباني في سلسلة الصحيحة : صحيح بشواهده .وانظر تاريخ الطبري 1/331- وذلك عندما غزا الحجاز وأراد الهجوم على المدينة ، فخرج إليه حبران من أحبار اليهود حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة وأهلها، فقالا له : أيها الملك لا تفعل ، فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ، ولم نأمن عليك .فقال لهما : ولم ذلك ؟ فقالا : هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان ، تكون داره وقراره . فتناهى عن ذلك ، ورأى أن لهما علما ، وأعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة واتبعهما على دينهما [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/133 ].
ولمعرفتهم بزمان خروجه ومكانه ،كان هناك من يقدم إلى المدينة قبل الإسلام بسنين قلائل ، منهم رجل من أهل الشام يقال له ابن الهيّبان قدم المدينة قبيل الإسلام بسنين ، فسكنها وظهرت عليه علامات الصلاح ، فلما حضرته الوفاة وعرف أنه ميت ، قال : أيا معشر يهود ! ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟ فقالوا : إنك أعلم .
قال:فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف – يعني أنتظر - خروج نبى قد أظل زمانه ، وهذه البلدة مهاجره ، فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه ، وقد أظلكم زمانه ، فلا تسبقن إليه يا معشر يهود.
وكان ممن شهد قصة ابن الهيبان ثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، من بني قريظة ، فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصر بني قريظة بعد نقضهم العهد الذي كان بينهم وبينه ، قال هؤلاء الفتية وكانوا شبابا أحداثا : يا بني قريظة ! والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم فيه ابن الهيبان .قالوا :ليس به .قالوا : بلى ،والله إنه لهو بصفته .فنزلوا وأسلموا وأحرزوا دماءهم و أموالهم وأهليهم [ ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/40].
وكان سماع أهل المدينة من الأوس والخزرج للبشائر بخروج النبي -صلى الله عليه وسلم - من اليهود أمراً متكرراً ، فمن ذلك ، ما رواه حسان بن ثابت – رضي الله عنه - قال : والله ، إني لغلام يفعه ابن سبع سنين أو ثمان ، أعقل كل ما سمعت ، إذ سمعت يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمه – يعني حصنه - :يا معشر يهود ! حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له : ويلك ! ما لك ؟ قال : طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به .
قال ابن إسحاق : فسألت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقلت : ابن كم كان حسان بن ثابت مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ؟ فقال : ابن ستين . وقدمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث وخمسين سنة ، فسمع حسان ما سمع وهو ابن سبع سنين [ عن ابن إسحاق ، انظر السيرة لابن هشام 1/249 ].
ولم تقتصر البشائر على المدينة فحسب ، بل كانت في مكة أيضا ، فكان في مكة يهودي يتجر بها ، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال في مجلس من قريش : يا معشر قريش ! هل الليلة مولود ؟ فقالوا :والله ما نعلمه .قال : الله أكبر ، أما إذا أخطأكم فلا بأس ، فانظروا ، واحفظوا ما أقول لكم ، ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة ، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات، كأنهن عرف فرس ، لا يرضع ليلتين ، وذلك أن عفريتا من الجن أدخل أصبعيه في فمه ، فمنعه الرضاع . فتصدع القوم من مجلسهم وهم متعجبون من قوله وحديثه ، فلما صاروا إلى منازلهم ، أخبر كل إنسان منهم أهله ، فقالوا : قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا . فالتقى القوم ، فقالوا : هل سمعتم حديث اليهودي ،وهل بلغكم مولد هذا الغلام ؟ فانطلقوا حتى جاءوا اليهودي ، فأخبروه الخبر .قال :فاذهبوا معي حتى أنظر إليه . فخرجوا حتى أدخلوه على آمنة ، فقال : أخرجي إلينا ابنك ، فأخرجته ، وكشفوا له عن ظهره ، فرأى تلك الشامة ، فوقع اليهودي مغشيا عليه ، فلما أفاق قالوا: ويلك ! ما لك ؟ قال : ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل ، فرحتم به يا معشر قريش ،أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب .[ روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخرجه الحاكم عن ابن إسحاق ( ح/4177 ) ، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.وحسن إسناده ابن حجر في فتح الباري 6/583 ].(5/70)
وكان لمعرفتهم بزمن خروجه أثره في ترقبهم هجرته إلى المدينة ، فهذا رجل من اليهود يصعد فوق حصن له في الأيام التي كان المسلمون في المدينة يترقبون وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم بعدما سمعوا بخروجه مهاجرا إليهم ، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته :يا معاشر العرب – وفي رواية : يابني قيلة .- يعني الأوس والخزرج - هذا جدكم الذي تنتظرون .فثار المسلمون ، فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرة [رواه الإمام البخاري ح/3964 ].
وكان علماء النصارى يسدون النصائح لأقرباء النبي - صلى الله عليه وسلم - حرصاً على سلامته من كيد الأعداء ، بل ويقومون بدور الحماية لما عرفوه عليه الصلاة والسلام، فهذا بحيرى الراهب ، كان ببصرى من أرض الشام ، وكان من علماء النصارى ، وكان لا ينزل من صومعته ، و لايلتفت إلى قوافل التجار المارة به !!
لكنه في يوم من الأيام رأى ما أدهشه ، وجعله يخرج ويتابع القافلة القادمة من مكة تريد الشام ، إنها علامات رآها دفعته للنزول من صومعته ،والاستعداد للقائهم ، بل وتهيئة الطعام لهم !!
لقد كانت تلك القافلة لأبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان معه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير، وكان عمه يحبه حبا شديدا ، ولا يقوى على مفارقته ، فاصطحبه في سفرته تلك .
أما السبب في تغير تعامل بحيرى مع أهل هذه القافلة ، على غير ما كان معتادا منه ، فهو أنه رأى غمامة تظل غلاما صغيرا من بين القوم !!
فلما أقبلوا ، ونزلوا في ظل شجرة قريبا منه ، نظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة ، وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استظل تحتها ، فلما رأى ذلك بحيري نزل من صومعته ، وقد أمر بذلك الطعام فصنع ، ثم أرسل إليهم ، فقال :إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش ، فأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم ، وعبدكم وحركم .فقال له رجل منهم : والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ، ما كنت تصنع هذا بنا ، وقد كنا نمر بك كثيرا ، فما شأنك اليوم ؟! قال له بحيرى :صدقت ،قد كان ما تقول ،ولكنكم ضيف ،وقد أحببت أن أكرمكم ،وأصنع لكم طعاما ،فتأكلوا منه كلكم، فاجتمعوا إليه ،وتخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين القوم لحداثة سنة في رحال القوم تحت الشجرة ، فلما نظر بحيرى في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده .فقال: يا معشر قريش ،لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي. قالوا له :يا بحيرى ما تخلف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك ، إلا غلام وهو أحدث القوم سنا ،فتخلف في رحالهم .فقال :لا تفعلوا ، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم . فقال رجل من قريش مع القوم : واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا .ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم .
فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا ، وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته ، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا ، قام إليه بحيرى ، فقال :يا غلام ،أسألك بحق اللات والعزى ألا ما أخبرتني عما أسألك عنه .وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تسألن باللات والعزى شيئًا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما. فقال له بحيرى: فبالله ،إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه .فقال له :سلني عما بدا لك .فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره ، فجعل رسول - صلى الله عليه وسلم - يخبره ، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته ،ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده .
فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال له :ما هذا الغلام منك ؟
قال : ابني .
قال له بحيرى : ما هو بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا !!
قال : فإنه ابن أخي .
قال : فما فعل أبوه ؟
قال : مات وأمه حبلى به .
قال :صدقت !! فارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه يهود ،فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغُنَّه شرا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم .(5/71)
فأسرع به إلى بلاده ، ثم إن نفراً من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما رآه بحيرى في ذلك السفر ، فأرادوه ، فردهم عنه بحيرى ،وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته ، وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه ، ولم يزل بهم حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال ،فتركوه وانصرفوا عنه [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/119 ، وقال ابن حجر: هذه القصة بإسناد رجاله ثقات ، من حديث أبي موسى الأشعري أخرجها الترمذي وغيره ، ولم يسم فيها الراهب ، وزاد فيها لفظة منكرة وهي قوله :واتبعه أبو بكر بلالا .وسبب نكارتها : أن أبا بكر حينئذ لم يكن متأهلا ، ولا اشترى يومئذ بلالا ، إلا أن يحمل على أن هذه الجملة الأخيرة مقتطعة من حديث آخر أدرجت في هذا الحديث ، وفي الجملة هي وهم من أحد رواته، الإصابة1/352- 122 ].
وكان رهبان النصارى يخبرون من يسألهم عن الدين الحق بزمان ومكان نبي آخر الزمان ،فقد رحل زيد بن عمرو الباحث عن الحقيقة من مكة إلى الشام يطلب دين إبراهيم - عليه السلام - ويسأل الرهبان والأحبار حتى بلغ الموصل ، ثم أقبل فجال الشام كله حتى انتهى إلى راهب بميفعة من أرض البلقاء – قرية بالشام -،كان ينتهي إليه علم أهل النصرانية في بلاده ، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم ؟فقال :إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ، ولكن قد أظل زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها ، يبعث بدين إبراهيم الحنيفية ، فالحق بها فإنه مبعوث الآن هذا زمانه - وقد كان رفض اليهودية والنصرانية - فخرج سريعا حين قال له ذلك الراهب ما قال يريد مكة حتى إذا توسط بلاد لخم هجموا عليه فقتلوه [ ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/61 ] .
خامسا : مواقف ملوكهم ، وزعمائهم من دعوته ، فقد سبق الإشارة إلى إسلام النجاشي – رضي الله عنه - ، وإقرار هرقل بالنبوة لكنه لم يسلم ، ومثله ما كان من المقوقس ملك مصر وكان نصرانيا ، فقد أرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – إليه بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام ، وكان رسوله إليه حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - قال حاطب : قدمت على المقوقس (واسمه جريح بن مينا) بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى ، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ، فانتقم به ثم انتقم منه ، فاعتبر بغيرك ولا يُعتبر بك. قال: هات. قلت : إن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه ، وهو الإسلام الكافي بعد ما سواه ،إن هذا النبي دعا الناس إلى الله فكان أشدهم عليه قريش ، وأعداهم له اليهود ، وأقربهم منه النصارى ، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد ، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل ، وكل من أدرك نبيا فهو من أمته ، فالحق عليهم أن يطيعوه ، فأنت ممن أدركت هذا النبي ولسنا ننهاك عن دين المسيح ، ولكنا نأمرك به ، ثم ناوله كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قرأه قال خيرا : قد نظرت في هذا ، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم أجده بالساحر الضال ، ولا الكاهن الكاذب ، ووجدت معه آلة النبوة . ثم جعل الكتاب في حق من عاج ، وختم عليه ، ودفعه إلى خازنه ، وكتب جوابه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فقد علمت أن نبيا قد بقي ، وقد أكرمت رسولك .
وأهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - جاريتين ، وبغلة تسمى (الدلدل)، فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - هديته ، واصطفى الجارية الواحدة واسمها مارية القبطية لنفسه ، فولدت منه إبراهيم ، وأعطى الأخرى لحسان بن ثابت ، فولدت منه عبد الرحمن .فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ضن الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه). [ الجواب الصحيح 1/293 ].
وممن أسلم من نصارى العرب ، وكان من أشرافهم عامل الروم على من يليهم من العرب فروة بن عمرو الجذامي ، لما رأى من آيات ، وعلامات دلت على صدق نبوته – صلى الله عليه وسلم -، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام ، وبعث إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم - بإسلامه ولم ينقل أنه اجتمع به ، وأهدى له بغلة بيضاء ، فبلغ الروم إسلامه ، فطلبوه فحبسوه، ثم قتلوه .
فقال في ذلك أبياتا منها قوله :
أبلغ سراة المسلمين بأنني سلم لربي أعظمي وبناني
[ابن حجر ، في الإصابة في تمييز الصحابة 5/386 ].
ومن نصارى العرب الذين أسلموا ، الجارود بن عمرو ، وكان سيدا في قومه بني عبد آلاف ورئيسا فيهم ،وكان يسكن البحرين ، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع من الهجرة ،وفرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقدمه ، وقد كان صلبا في إسلامه ، فقد ثبت على الإسلام بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعه من قومه ، ولم يرتد مع من ارتدوا . [ابن عبد البر ، في كتاب الاستيعاب 1/263، والإصابة 1-441 ].(5/72)
سادسا : إخبار من اطلع على كتبهم ، بأنه مذكور فيها ، ويشهد له ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما - عن ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم - في التوراة حيث قال : وهو موصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ،سميتك المتوكل ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ،ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما وقلوبا غلفا . [ أخرجه البخاري حديث رقم 2018 ].
وشاهد آخر حدث في خلافة عمر – رضي الله عنه - ،قال أبو العالية :لما فتح المسلمون تستر ، وجدوا دانيال – عليه السلام – ميتا ، ووجدوا عنده مصحفا ، قال أبو العالية : أنا قرأت ذلك المصحف وفيه : صفتكم ،وأخباركم ، وسيرتكم ، ولحون كلامكم .[ هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ص109 ].
سابعا : أن المكذبين والجاحدين لنبوته – صلى الله عليه وسلم- لم يمكنهم إنكار البشارة والإخبار بنبوة نبي عظيم الشأن كمحمد عليه الصلاة والسلام ، جاء ذكره ، وجاءت صفته وصفة أمته ، ومكان وزمن خروجه في كتبهم ، لكنهم جحدوا أن يكون هو المقصود ، وأنه نبي آخر غيره حسدا من عند أنفسهم وكبرا وعلوا ، يبين ذلك ما رواه رجل من الأوس اسمه سلمة بن سلامة ، قائلا : كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل ، قال : فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل ، وأنا يومئذ حدث – يعني صغير - علي بردة لي ، مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار ، فقال ذلك في أهل يثرب ، والقوم أصحاب أوثان ، بعثا كائنا بعد الموت .
فقالوا له: ويحك! أترى هذا كائنا يا فلان، إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى جنة ونار ، ويجزون فيها بأعمالهم ؟ قال: نعم ، والذي يحلف به . قالوا : يا فلان ويحك ! ما آية ذلك ؟ قال : نبي مبعوث من نحو هذه البلاد .وأشار بيده إلى مكة ، قالوا : ومتى نراه ؟ قال :فنظر إلي ، وأنا أصغرهم سنا ، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه .قال سلمة : فوالله ، ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تبارك وتعالى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حي بين أظهرنا ، فآمنا به وكفر بغيا وحسدا ، فقلنا له : ويحك يا فلان ! ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال : بلى ولكنه ليس به .[ رواه الإمام أحمد ، وابن حبان وصححه ، والحاكم في المستدرك ( ح/ 5764 ) ، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وانظر هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ص 66].
وكان اليهود بالمدينة يتوعدون الأوس والخزرج عندما ينالون منهم ما يكرهون بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون لهم: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن ، نقتلكم معه قتل عاد وإرم .فلما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أجابه الأوس والخزرج حين دعاهم إلى الله تعالى ، فآمنوا به وكفر اليهود به . وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة: ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) [ ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/37 ].
لذلك كان الصحابة – رضي الله عنهم - يذكرون اليهود بما كانوا يذكرونه لهم قبل مبعثه ، فقال لهم معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب رضي الله عنهم : يا معشر يهود ! اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته .فقال رافع بن حريملة ، ووهب بن يهوذا : ما قلنا لكم هذا قط ، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ، ولا نذيرا بعده . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[ سورة المائدة الآية : 19.]، ابن إسحاق انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/101].
وهاهم اليهود تتوالى أسئلتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - رغم رؤيتهم لكثير من علامات النبوة التي يعرفونها من التوراة ، فجاءت مجموعة من اليهود نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ،فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن ، لا يعلمهن إلا نبي .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلوني عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب عليه السلام على نبيه ، لئن حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني على الإسلام).(5/73)
قالوا :فذلك لك . قال : (فسلوني عما شئتم). قالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل ، كيف يكون الذكر منه؟ وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم ؟ ومن وليه من الملائكة ؟
قال : ( فعليكم عهد الله وميثاقه ، لئن أنا أخبرتكم لتتابعني ). قال : فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى صلى الله عليه وسلم ، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب عليه السلام مرض مرضا شديدا ، وطال سقمه ، فنذر لله نذرا ، لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحمان : الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها ) . قالوا: اللهم نعم .قال : ( اللهم اشهد عليهم ، فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله :إن علا ماء الرجل على ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله ، وإن علا ماء المرأة على ماء الرجل كان أنثى بإذن الله ).قالوا : اللهم نعم . قال: ( اللهم اشهد عليهم ، فأنشدكم بالذي انزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه ). قالوا: اللهم نعم .قال : ( اللهم اشهد ). قالوا : وأنت الآن ، فحدثنا من وليك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك ، أو نفارقك ! قال : ( فإن ولي جبريل عليه السلام،ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه ) . قالوا : فعندها نفارقك ! لو كان وليك سواه من الملائكة لتابعناك وصدقناك . قال : ( فما يمنعكم من أن تصدقوه ) .قالوا : إنه عدونا . فعند ذلك قال الله عز وجل : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله )..إلى قوله عز وجل : (كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعملون ) ،فعند ذلك (باءوا بغضب على غضب...) الآية [رواه الإمام أحمد 1/278 ].
وكان عمر يذهب إلى يهود ، ويأتيهم ، يقول عمر رضي الله عنه : فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا: يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك . قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال قلت : إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان ؟! قال : ومر رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : يا ابن الخطاب ! ذاك صاحبكم فالحق به .
فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ، واستودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟؟ قال : فسكتوا !! فقال عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظم عليكم ، فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أما إذ أنشدتنا به ، فإنا نعلم أنه رسول الله !
قلت ويحكم ! - أي هلكتم - قالوا : إنا لم نهلك . قال :قلت كيف ذاك ؟ وأنتم تعلمون أنه رسول الله ، ثم لا تتبعونه ، ولا تصدقونه؟!!
قالوا : إن لنا عدواً من الملائكة وسلما من الملائكة ، وإنه قرن به عدونا من الملائكة. قلت : ومن عدوكم ، ومن سلمكم ؟ قالوا : عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل [تفسير الطبري 1/433 ، وانظر فتح الباري 8/661 ].
وهذه شهادة ابن صوريا ، وكان أعلم من بقي من يهود بني قريظة بالتوراة ، فقد جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قصة اليهودي واليهودية الذين زنيا ، فقال : (يا معشر يهود! أخرجوا إلي علماءكم). فأُخرج له عبد الله بن صوريا ، ومعه أبا ياسر بن أخطب ، ووهب بن يهوذا ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا . فسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى حصل أمرهم ، إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا : هذا أعلم من بقي بالتوراة . فخلا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا ، فألظ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسألة ، يقول له : (يا ابن صوريا أنشدك الله، وأذكرك بأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟) قال: اللهم نعم ، أما والله يا أبا القاسم ! إنهم ليعرفون أنك لنبي مرسل ،ولكنهم يحسدونك.
ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا ، وجحد نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى فيهم : (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك) [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/103 ].(5/74)
وكانوا يصرحون بانطباق ما يعرفونه من صفات في كتبهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا منهم جاء إلى مسجده ، فقال : (يا فلان). فقال: لبيك يا رسول الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أتشهد أني رسول الله ). قال : لا . قال : (أتقرأ التوراة؟). قال : نعم ، والإنجيل. قال: (والقرآن؟). قال: والذي نفسي بيده، لو أشاء لقرأته. ثم ناشده: (هل تجدني في التوراة والإنجيل؟). قال : أجد مثلك ، ومثل هيأتك ، ومثل مخرجك !وكنا نرجو أن يكون منا ، فلما خرجت تحيرنا أن يكون أنت هو ، فنظرنا فإذا ليس أنت هو. قال: (ولم ذاك؟). قال: إن معه من أمته سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير نجاسة ولا عذاب، ومعك يسير. قال: (فوالذي نفسي بيده لأنا هو ، وإنهم لأمتي ، إنهم لأكثر من سبعين ألفا وسبعين ألفا). [قال الهيثمي :رواه الطبراني ، ورجاله ثقات من أحد الطريقين ، انظر مجمع الزوائد للهيثمي 8 /242].
ثم تأمل هذا المسلك الذي اتخذه اليهود ليحرفوا الكلم عن مواضعه ، ولينكروا نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم - إذا خرج في الوقت والمكان وبالصفة التي علموها. يقول أحمد حجازي - في كتابه البشارة بنبي الإسلام 1/132-: إن كثيرًا من علماء بني إسرائيل يقولون : أن اسم ( محمد ) – صلى الله عليه وسلم - قد ورد في التوراة ، في سياق بركة إسماعيل – عليه السلام - بحساب ( الجمل ). ليعرف الناس أنه بظهوره يبدأ ملك بني إسماعيل .
ثم يورد حجازي شهادة أحد علمائهم الذين أسلموا ، وهو شموئيل بن يهوذا بن أيوب ، الذي سمى نفسه بعد إسلامه : (السموءل بن يحيى) ، فقد ذكر في كتابه (بذل المجهود في إفحام اليهود) تحت عنوان : الإشارة إلى اسمه – صلى الله عليه وسلم :
ما جاء في الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة أن الله تعالى خاطب إبراهيم عليه السلام : (وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك . قد باركت فيه . وأثمره ، وأكثره جدا جدا).
ذلك قوله – أي باللغة العبرانية-: (ولشماعيل . شمعتيخا . هني . بيراختى . أوتو . وهفريتى . أوتو . وهربيتي . أوتو بماد ، ماد).
فهذه الكلمة (بماد ماد) إذا عددنا حساب حروفها بالجمل . وجدناه اثنين وتسعون . وذلك عدد حساب حروف (محمد) – صلى الله عليه وسلم - فإنه أيضا اثنان وتسعون . وإنما جعل ذلك في هذا الموضع مُلغّزاً. لأنه لو صرح به لبدلته اليهود وأسقطته من التوراة. يقول حجازي معلقا: ولم لا يقول شموئيل: إن الله تعالى قد صرح به من قبل أن تغير التوراة ، واليهود هم الذين غيروا الاسم الصريح بالرمز في مدينة بابل ، ليعرفوه هم أنفسهم إذا جاء ، ويسهل عليهم جحد نبوته إذا جاءهم بما لا تهوى أنفسهم؟!
وحساب الجمل عرف في الأمم القديمة ، وهو الحساب بالحروف الأبجدية ، فكل حرف أبجدي يُرمز له برقم. وتكمن أهميته في عدم كشف الخصم للأسرار. [انظر تفصيل ذلك في كتاب البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي السقا 1/135].
وشاهد آخر حينما حضر يعقوب – عليه السلام - الموت جمع أولاده الاثني عشر حوله وباركهم، وأوصاهم، وقال لهم في شخص يهوذا ابنه الرابع: (لا يزول قضيب من يهوذا . ومشترع من بين رجليه . حتى يأتي شيلون . وله يكون خضوع شعوب) [سفر لتكوين (49 : 8-12)، انظر البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي 1/154].
يقول أحمد حجازي: من تراجم اليهود والنصارى قديما وحديثا يتضح : أن المراد بالقضيب: الملك والصولجان. والمراد بالمشترع: الأنبياء، والعلماء الذين يعلمون الناس شريعة التوراة، ويستنبطون الأحكام منها. والمراد بشيلون: النبي المنتظر، الذي يلقبونه (مَسِيَّا) الذي تفسيره المسيح. وهو نبي الإسلام – صلى الله عليه وسلم - الذي تخضع له الشعوب وتطيع.
والمعنى العام: يظل لبني إسرائيل ملك ظاهر في الأرض، وأنبياء بني إسرائيل وعلماؤهم يعلمون الناس شريعة الله في ظل ملوك من بني إسرائيل. ويظل ذلك قائمًا حتى يأتي نبي من غير بني إسرائيل، ليتسلم منهم الملك والشريعة. وهو المعبر عنه بشيلون. [انظر البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي 1/154].
ويرى بعض علماء اليهود أن المقصود بهذه البشارة داود – عليه السلام - لأنه من نسل يهوذا، وقد احتل مدينة شيلوه في أرض كنعان، وخضع له جميع أسبط بني إسرائيل. وينقض هذا القول، كتابة التوراة في بابل من بعد داود ، فكيف تكون النبوءة لداود ؟!. وينقضه أيضا : ترجمة كلمة (شيلون) بما يفيد اسم شخص، لا بما يفيد اسم مدينة. فقد ترجمت بمعنى: (الذي هو له) أو (الذي له الأمر) أو (الذي له الحكم) أو (سليمان) أو (المسيح) الذي هو المسيا. وفسرت كلمة (شيلون): بأمان وسلام.(5/75)
أما النصارى فيقولون: المقصود بشيلون المسيح عيسى بن مريم – عليه السلام - . لكنه لا ينطبق على عيسى –عليه السلام- فإنه لم ينسخ التوراة ، قال تعالى في القرآن الكريم على لسان عيسى : (ومصدقا لما بين يدي من التوراة) [سورة الصف آية رقم 6]، وقال عيسى –عليه السلام – في الإنجيل: (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض ، بل لأكمل) [إنجيل متى (5:17-18)، انظر البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي 1/ 70]، ومن وجه آخر لم يزل الملك من اليهود على يديه – عليه السلام-.
لذلك فإن الذي تنطبق عليه لفظة ( شيلون ) هو محمد – عليه الصلاة والسلام - فإن الملك لم يزل من بني إسرائيل إلا على يد بني إسماعيل، أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.[انظر البشارة بنبي الإسلام لـ أحمد حجازي 1/173].
ثامنا: أن من أهل الكتاب من صرح لخاصته، وبطانته بأنه هو بعينه، فهذا ورقة بن نوفل، وكان قد خرج لَّما كره عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسأل عن الدين ، فأعجبه دين النصرانية فتنصر ، وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل ، وتعلم منهم ، فجاءته أم المؤمنين خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم – ومعها رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بعدما أخبرها بنزول الملك عليه ، فقالت خديجة – رضي الله عنها - لورقة : يا بن عم ! اسمع من بن أخيك – تعني النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال له ورقة: يا بن أخي! ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو مخرجي هم؟) قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يلبث ورقة أن توفي [البخاري ح/2].
أما خبر سيديْ بني النضير: حيي بن أخطب، وأبو ياسر، فما أعجبه من خبر، يدل على معرفتهم به، ويدل على سبب جحدهم رسالته، وهذا الخبر عنهما ترويه لنا أم المؤمنين صفية بنت حيي – رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم – بعد إسلامها ، قالت :كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه . فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف ، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين ، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس ، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى ، فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم ،قالت :وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟! قال: نعم، والله. قال: أتعرفه، وتثبّتَّه؟! قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟! قال :عداوته والله!! [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/52 ].
وهذا كعب بن أسد - سيد بني قريظة - ينصح قومه ، حين حاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نقضهم للعهد الذي بينهم وبينه ، وتحزبهم مع الأحزاب ضد النبي - صلى الله عليه وسلم وأصحابه - فلما أيقنوا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد لهم : يا معشر يهود! قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا ، فخذوا أيها شئتم .قالوا : وما هي ؟ فكان مما عرضه عليهم ، قوله : نتابع هذا الرجل ونصدقه ، فوالله ، لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل ،وإنه للذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم . فرفضوا وأبوا [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 4/195 ].
وها هم نصارى نجران يصرحون بنبوته لبعضهم البعض ، فقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتابه إليهم يدعوهم فيه إلى الإسلام ، فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديدا ، ثم دعا أهل الرأي في نجران فأطلعهم على الكتاب ،وتشاوروا فيه ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا وفداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاختاروا ستين راكبا ، منهم أربعة عشر من أشرافهم ، يتزعمهم ثلاثة منهم ، وهم : العاقب ، وكان أمين القوم ، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم ، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره ، واسمه عبد المسيح ، والسيد ، وكان عالمهم ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم ، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل ، وكان أسقفهم وحبرهم ، وإمامهم وصاحب مراميهم .(5/76)
وكان أبو حارثة قد شرف فيهم حتى حسن علمه في دينهم ،وكانت ملوك الروم من النصرانية قد شرفوه وقبلوه وبنوا له الكنائس ، وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من اجتهاده في دينهم ،فلما توجهوا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - من نجران ، جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى المدينة ، وإلى جنبه أخ له يقال له :كرز بن علقمة يُسايره في الطريق، فعثرت بغلة أبي حارثة ، فقال كرز : تعس الأبعد . - يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال له أبو حارثة :بل أنت تعست !
فقال :ولم يا أخي؟
قال :والله إنه للنبي الذي كنا ننتظر !!.
قال له كرز : وما يمنعك وأنت تعلم هذا أن تتبعه ؟!!
قال : ما صنع بنا هؤلاء القوم :شرفونا وأمرونا وأكرمونا ، وقد أبوا إلا خلافه ، ولو قد فعلت نزعوا منا كل ما ترى.فأضمر الإسلام أخوه كرز بن علقمة ، وأسلم بعد ذلك [ المعجم الأوسط رواه الطبراني في المعجم الأوسط ح/ 3906 ].
فلما وصلوا المدينة جلسوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلمه منهم أبو حارثة بن علقمة والعاقب عبد المسيح والسيد الأيهم _ وهم من النصرانية على اختلاف في أمرهم :
منهم من يقول عن عيسى هو الله ، ومنهم من يقول هو ولد الله ، ومنهم من يقول هو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، فهم يحتجون في قولهم هو الله :
بأنه كان يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام ، ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا ، وذلك كله بأمر الله ، وليجعله الله آية للناس .
ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله ، يقولون :
لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله .
ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة ، يقولون :
قال الله تعالى فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا ، فيقولون :لو كان واحدا ، ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت ، ولكنه هو وعيسى ومريم .تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاهلون علوا كبيرا ، ويقال لهم إن: معنى هذه الكلمات ، ومثلها قوله تعالى "نحن" من المتشابه ، فالواحد المعظم لنفسه يقول: نحن ، والجماعة يقولون : نحن ، وهذا لا يلتبس بكتاب الله؛ لأننا نرده إِلَى المحكم ، وهو قوله: {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }[سورة العنكبوت الآية : 46 ]، وقوله تعالى :{ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ }[الأنعام:19] ، وقوله تعالى:{لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [المائدة:73]-
فلما كلمه الحبران العاقب والسيد ، دعاهما النبي – صلى الله عليه وسلم - للإسلام ، فأبيا ، وجادلوه في عيسى عليه السلام ، وقالا :فمن أبوه يا محمد ؟
فأنزل الله عليه الوحي:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [سورةآل عمران الآية: 59].
قال ابن كثير رحمه الله : فالذي خلق آدم من غير أب وأم ، قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى ، ولكن الرب -جل جلاله أراد- أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم – عليه السلام - لا من ذكر ولا من أنثى ، وخلق حواء – عليها السلام - من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى – عليه السلام - من أنثى بلا ذكر ،كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى ، ولهذا قال تعالى في سورة مريم : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ }[سورة مريم الآية :21]، وقال هاهنا : {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ }[ سورة آل عمران الآية :60 ]، أي هذا هو القول الحق في عيسى – عليه السلام - الذي لا محيد عنه ، ولا صحيح سواه ، وماذا بعد الحق إلا الضلال . [تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير 1/368 ، وانظر موقع الدكتور : سفر الحوالي على شبكة الإنتر نت].
ثم أمر الله تعالى رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يُباهل من عاند الحق في عيسى - عليه السلام - وأكثر الجدال بعد ظهور الحق البين فيه ، فقال الله تعالى:{ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }[ سورةآل عمران الآية: 61 ] ، فلما دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - للمباهلة والملاعنة قالوا : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه .(5/77)
ثم انصرفوا عنه ، وخلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم ، فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال : والله يا معشر النصارى ! لقد عرفتم إن محمدا لنبي مرسل ،ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ،ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقى كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه الاستئصال منكم إن فعلتم ،فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم ، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.[ ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/125].
فلما أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم ومعه الحسن والحسين وفاطمة تمشي خلفه. [قال ابن كثير : أخرجه البيهقي في دلائل النبوة ، انظر تفسير القرآن العظيم 1/369 ]. فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال العاقب والسيد: لا نلاعنك ،ولكنا نعطيك ما سألت ، فابعث معنا رجلا أمينا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لأبعثن رجلا أمينا حق أمين ، حق أمين). فاستشرف لها أصحابه -رضي الله عنهم - فقال: (قم يا أبا عبيدة بن الجراح). فلما قفا، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (هذا أمين هذه الأمة). [رواه الإمام أحمد 1 /414 ، وانظر تفسير القرآن العظيم 1/369] ، فعادوا إلى نجران ،وبقي من وفدهم قيس بن أبي وديعة مرض فأقام بالمدينة نازلا على سعد بن عبادة ، فعرض عليه الإسلام فأسلم و رجع إلى حضرموت وشهد قتال الأسود العنسي ثم انصرف إلى المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم .[الإصابة 5/508 ].
ولم يلبث السيد والعاقب إلا يسيرا حتى رجعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلما ، وأنزلهما دار أبي أيوب الأنصاري. [ابن حجر في الإصابة 3/236 ، عن ابن سعد في الطبقات 1/358 ].
أما حنان الأبوة المتمثل في الشفقة على الابن من النار فغلب صفة الحسد والكبر لدى والد ذلك الغلام الذي كان جاراً للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان غلام يهودي يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض ، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده ، فقعد عند رأسه ، فقال له : (أسلم). فنظر إلى أبيه ، وهو عنده ، فقال له: أطع أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - . فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : (الحمد لله الذي أنقذه من النار). [رواه الإمام البخاري ح/1290 ].
وعكسه ماِ فعله والد كعب الأحبار ، حيث خشي أن يعلم ابنه عن النبي الخاتم فيتبعه ، فقد سأل العباس كعب الأحبار : ما منعك أن تسلم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ؟
قال إن أبي كان كتب لي كتابا من التوراة ، فقال اعمل بهذا ، وختم على سائر كتبه ،وأخذ عليَّ بحق الوالد على الولد ألا أفض الختم عنها ، فلما رأيت ظهور الإسلام قلت لعل أبي غيب عنى علما، ففتحتها فإذا صفة محمد وأمته ، فجئت الآن مسلما. [الإصابة 5/649. ].
وهذه قصة طريفة - وهي شاهد على ما نتحدث عنه - ، حدثت للدكتور أحمد حجازي السقا مؤلف كتاب البشارة بنبي الإسلام ، حيث يروي : أنه التقى بـ (قمص) نصراني ، ظن أنه نصراني لأنه كان يقرأ في الكتاب المقدس ، فدار بينهما حوار حول الأحداث التي يشير إليها الإصحاح الثامن من سفر دانيال النبي – عليه السلام- ، وبعد نزولهم من القطار سأله حجازي : أمحمد نبي المسلمين لا يشير إليه الكتاب المقدس؟!
قال : يشير إليه في آيات كثيرة!! ثم سرد له كثيرا من تلك الآيات!!
ثم عرف أن اسمه (جرجس سلمون فيلمون)، وكان وكيل الدير المحرق في القوصية بأسيوط . وهذا الموقف كان من أسباب كتابة حجازي لكتاب البشارة. [انظر البشارة بنبي الإسلام 1/45 ].
تاسعا : إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه مذكور في كتبهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بتأويل ذلك :أنا دعوة إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي التي رأت). [ رواه الإمام أحمد (4/128)، والبزار والطبراني ، ومعنى منجدلٌ في طينته :أي مطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح بعد ، قاله الخطابي في الغريب 2/156 ].
وهذا الإخبار منه – صلى الله عليه وسلم - هو من علامات نبوته ، من جهة إخباره بما عندهم في كتبهم من شأن أنبيائهم ، ولم يكذبوه يوما واحدا في شيء منها ، في الوقت الذي كانوا فيه أحرص ما يمكن على أن يظفروا منه بكذبة واحدة ، أو غلطة أو سهو ، فينادون بها عليه ، ويجدون بها السبيل إلى تنفير الناس عنه ، وهذا من أعظم الأدلة على صدقه .[ انظر هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن قيم الجوزية ص66 ].(5/78)
فأخبر أنه دعوة إبراهيم الخليل حين بنى الكعبة بمكة ومعه ابنه إسماعيل عليهما السلام ، قال الله تعالى مبينا دعاءهما : {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }[سورة البقرة الآية: 128 – 129] .
وهذا يدعونا للحديث عن مباركة الله تعالى لنبيه إبراهيم - عليه السلام - وجعل هذه البركة في ذريته ، قال تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }[ سورة البقرة الآية: 124 ] ، والمقصود بالعهد هنا قيل : الإمامة ، وقيل: النبوة ، وقيل غيره ، ومن دعاء إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام : (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك).
وقد جاء في التوراة ما صدقه القرآن من جعل البركة في إبراهيم - عليه السلام - وفي نسله إسماعيل وإسحاق – عليهما السلام - وهذا ما ذكره أحمد حجازي في كتابه البشارة بنبي الإسلام ففي سفر التكوين ( 17 : 16 ) : أن الله عز وجل قال لإبراهيم – عليه السلام - عن سارة رضي الله عنها : ( أباركها ، وأعطيك منها ابنا ، أباركها فتكون أمما وملوك شعوب منها ما يكون ).
فلما سمع إبراهيم – عليه السلام – بتخصيص بركته في إسحاق عليه السلام ( قال إبراهيم لله : ليت إسماعيل يعيش أمامك )، أي يحيا في طاعتك ، والدعاء إلى دينك ، فرد الله تعالى عليه بقوله : ( وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه . ها أنا أباركه وأثمره ، وأكثره كثيرا جدا . اثني عشر رئيسا . واجعله أمة كبيرة ) .[ سفر التكوين 17 : 18- 20 ].
ويواصل أحمد حجازي : ومن هذا النص صارت لإسماعيل بركة كما لإسحاق بركة .
ولما تأكدت سارة من إرث إسماعيل لأبيه في البركة كابنها إسحاق سواء بسواء ، طلبت أن يكون حق الإرث لإسحاق وحده ، فقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام : ( بإسحاق يدعى لك نسل . وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك ) [ سفر التكوين : 21: 12-13 ] .
ولما ابتعدت هاجر – رضي الله عنها – عن مكان سارة – رضي الله عنها - إلى مكان غير ذي زرع ( نادى ملاك الله هاجر من السماء . وقال لها : مالك يا هاجر . لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو . قومي احملي الغلام ، وشدي يدك به ، لأني سأجعله أمة عظيمة ) [سفر التكوين 21: 17 – 18 ].
وعلماء بني إسرائيل يقولون : إن البركة تعني أمران : الأول : الملك . والثاني : النبوة . ويقولون : إن بركة إسحق – عليه السلام - خصصت في ابنه يعقوب ( إسرائيل ) من بين بنيه ، وقد تحققت من الوقت الذي ظهر فيه موسى – عليه السلام - فقد كان نبيا ورئيسا مطاعا .
ونحن نقول لهم – والكلام لا زال لحجازي - : وكما دل دليل اسحق – عليه السلام - على ملك ونبوة ، وذلك في قوله : ( وأعطيك منها ابنا ، أباركها فتكون أمما وملوك شعوب ..) . فإن دليل إسماعيل – عليه السلام - مثله ، فإنه يدل على ملك ونبوة ، وذلك في قوله : ( ها أنا أباركه ، وأثمره ، وأكثره كثيرا جدا ) ،فإنه لا فرق بين الدليلين في اللفظ والمعنى .[ انظر البشارة بنبي الإسلام 1/100- 103 ].
وقد جاء الإخبار بنبوة محمد- صلى الله عليه وسلم - على لسان موسى – عليه السلام – في التوراة بما نصه : ( وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته . فقال : جاء الرب من سيناء . وأشرق من سعير . وتلألأ من جبل فاران .).[ سفر التثنية ( 33: 1-4 )، البشارة بني الإسلام 1/260 ].
ومعنى مجيء الله من طور سينا : إنزاله التوراة على موسى – عليه السلام - من طور سينا ، ومعنى إشراقه من ساعير: إنزاله الإنجيل على المسيح – عليه السلام - ، وكان المسيح من ساعير أرض الخليل بقرية تدعى ناصرة ، وباسمها يسمى من اتبعه نصارى . وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح ، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران ، إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم .(5/79)
وجبال فاران : هي جبال مكة . وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة ، فإن ادعوا أنها غير مكة ، فإن ذلك من تحريفهم الكلم عن مواضعه ، خاصة وأن في التوراة أن إسماعيل سكن في برية فاران ، جاء في التوراة : ( وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية ، وكان ينمو رامي قوس ، وسكن في برية فاران . وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر ) [ سفر التكوين 21: 20-12 ]. والبرية التي بين مكة وطور سينا تسمى برية فاران ، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه بعد المسيح – عليه السلام - نزل كتاب في شيء من تلك الأرض ، ولا بعث نبي ، فعلم أنه ليس بالمراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم .
وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني ، لأنه في مقام الخبر عنها ، فقدم الأسبق فالأسبق ، فذكر إنزال التوراة ، ثم الإنجيل ثم القرآن ، وهذه الكتب نور الله وهداه .
وهذه الأماكن الثلاث أقسم الله بها في القرآن ، في قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ . وَطُورِ سِينِينَ . وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ . لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[سورة التين الآية: 1 – 4]، فأقسم بالتين والزيتون: وهو الأرض المقدسة الذي ينبت فيها ذلك ، ومنها بعث المسيح – عليه السلام - وأنزل عليه فيها الإنجيل ، وأقسم بطور سينين : وهو الجبل الذي كلم الله فيه موسى عليه السلام ، وناداه من واديه الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة ، وأقسم بالبلد الأمين : وهي مكة ، وهو البلد الذي أسكن إبراهيم – عليه السلام - ابنه إسماعيل وأمه ، وهو الذي جعله الله حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم خلقا وأمرا قدرا وشرعا ، فإن إبراهيم – عليه السلام - حرمه ودعا لأهله فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ }[سورة إبراهيم الآية: 37 ] ، واختلاف ترتيب القرآن للأماكن الثلاثة عن ترتيبها في التوراة ، يرجع إلى أن لقرآن أقسم بها تعظيما لشأنها ، وذلك تعظيم لقدرته سبحانه ، وآياته وكتبه ورسله ، فأقسم بها على وجه التدريج ، درجة بعد درجة ، فختمها بأعلى الدرجات ، فأقسم أولا بالتين والزيتنون ، ثم بطور سينا ، ثم بمكة ، لأن أشرف الكتب الثلاثة القرآن ، ثم التوراة ، ثم الإنجيل ، وكذلك الأنبياء ، فأقسم بها على وجه التدريج .[انظر الجواب الصحيح 5/198- 205 ، والبشارة بنبي الإسلام 1/268 ].
ويُلحظ أن الخطاب لبني إسرائيل لأجل أن يقبلوا بنبي الإسلام إذا جاء ، لأنه ليس من بني إسرائيل ، وهذا يحتاج إلى تأكيد الأمر لأتباعه بخطاب خاص لهم ، وليس معناه أنه منهم.[ البشارة بنبي الإسلام 1/275 ].
وجاء في التوراة أن الله تعالى خاطب موسى – عليه السلام – بقوله : ( نبيا أقمت لهم . من جملة إخوتهم . مثلك. وجعلت خطابي بفيه . فيخاطبهم بكل ما أوصيه .ويكون الرجل الذي لا يسمع من خطابه باسمي . أنا أطالبه ) .[سفر الخروج 19 و20 ].
والمقصود بهذه النبوءة نبي الإسلام محمد – صلى الله عليه وسلم - فهو نبي كما في الوصف الأول لمجيئه بما يثبت نبوته ، وهو من نسل إسماعيل ، وإسماعيل وإسحق – عليهما السلام - أخوان ، ففي التوراة أن أبناء إسماعيل إخوة لبني اسحق . ففي سفر التكوين : ( وقال لها ملاك الرب : ها أنت حبلى فتلدين ابنا ، وتدعين اسمه : إسماعيل . لأن الرب قد سمع لمذلتك . وإنه يكون انسانا وحشيا . يده على كل واحد ويد كل واحد عليه ، وأمام إخوته يسكن )[ سفر التكوين 16 : 11-12] ، وأما عيسى -عليه السلام -فلا ينطبق عليه هذا الوصف لأنه من بني إسرائيل ، ولو كان هذا النبي من بني إسرائيل لقال : من أنفسهم ، ولم يقل من إخوتهم .هذا من وجه ، ومن وجه آخر جاء في التوراة : ( أنه لا يقوم نبي من بني إسرائيل كموسى ) ، فالبشارة إذا بنبي من غيرهم هو ( محمد ) صلى الله عليه وسلم، وأيضا نجد الوصف الثالث ينطبق على محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو قوله: ( مثلك ) أي مثل موسى – عيه السلام - فقدجاء في القرآن ما يفيد مثلية نبينا محمد بموسى – عليهما الصلاة والسلام - قال تعالى : {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً }[سورةالمزمل الآية: 15 ] ، وانظر البشارة بنبي الإسلام 1/229 ].(5/80)
ومن جهة أخرى وصف موسى – عيه السلام- في التوراة بثلاث صفات رئيسية : أولا : الآيات والعجائب . ثانيا : اليد الشديدة . ثالثا: المخاوف العظيمة .ومحمد – صلى الله عليه وسلم - كان كموسى –عليه السلام- فيما جاء به من آيات عظيمة تدل على نبوته ، والتي كان لها الأثر الكبير في كثرة أتباعه ، وثانيا : كان في حروبه قويا شديداً كموسى ، وثالثا : نصر بالرعب ، وكانت له الهيبة في قلوب الناس .وأما عيسى - عليه السلام - فقد رفض أن يكون ملكا . ففي انجيل يوحنا : ( وأما يسوع فإذا علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا ، انصرف أيضا إلى الجبل وحده ) .[ يوحنا ( 6:15) ، البشارة بنبي الإسلام 1/206 ].
ومما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم – عن ذكر الأنبياء له، أنه : ( بشرى عيسى ) . وذلك حين بشر بني إسرائيل بقوله : (ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد). [ سورة الصف من الآية رقم 6 ].
وجاء في الإنجيل : أن عيسى - عليه السلام - قال للحواريين : ( إن كنتم تحبونني ، فاحفظوا وصاياي . وأنا أطلب من الأب ، فيعطيكم معزيا ) .[ يوحنا 14 / 15 ].ومن عادة بني إسرائيل المبالغة في التعبير ، وتفخيم الأساليب ، فمثلا يقولون : إن موسى كان إلها لفرعون . أي سيدا ، وما يرد من ألفاظ الأبوة أو البنوة ، فهو على المجاز لا على الحقيقة . كما يقول شيخ لتلميذه : يا بني ، وكما يقول التلميذ لشيخه : يا أبي .[انظر البشارة بنبي الإسلام 2/260 ].
قال النصارى : أن كلمة ( المعزي ) تعني العوض ، والبديل عن عيسى عليه السلام ، ويقول متى هنري : إن نفس كلمة ( يعزي ) في الأصل اليوناني تعني : يعظ ، أو ينصح .
وقالوا :هي مترجمة عن الكلمة العبرانية ( بارا كليت ) ، وقالوا : إن كلمة ( بيراكليت ) العبرانية تترجم في اللغة العربية ( أحمد ) ، وجاءت في بعض الكتب ( فيرقليط ) ، وفي هامش كتاب انجيل برنابا تعليقات عربية في النسخة الإيطالية على اسم محمد الذي بشر به عيسى صريحا .وهذه التعليقات هي :
(في لسان عرب : أحمد . في لسان عمران – يعني العبرية - : مسيى . في لسان الاتن _ يعني اللاتيني - : كنسلاتر. في لسان روم : باركل تس .[تعليق على برنابا 44: 19 صفحة 69، انظر البشارة بنبي الإسلام 2/271].
إن المتأمل في هذه الشواهد والحقائق ليتيقن دلالتها القاطعة على أن أهل الكتاب يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، وأن الذي يمنع كثيرا من علمائهم من اتباعه هو الحسد والكبر ، نعوذ بالله تعالى من ذلك .
الخاتمة:
إلى كل قارئ لهذه الحقائق القاطعة : من القرآن الكريم ، والسنة النبوية والسيرة ، وبشارات الكتب السماوية ، وإقرار الملوك والسادة والزعماء ، وشهادة العلماء ، وإخبار الأحبار والرهبان وغيرهم، ودخول الناس في دين الله أفواجا ، من العرب ، والعبرانيين ، والسامريين ، والروم ، والفرس ، والهند ، والصين ، وسائر الأمم ، وانتشار الإسلام المستمر رغم جهود المنصرين والصهاينة لإطفاء نور الله تعالى في الأرض ، نقول :
قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [سورة النساء الآية: 170 ].
ثم أوجه خطابي لكل مؤمن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، بأن يحمد الله تعالى على نعمة الهداية ، وليتذكر أنه باستقامته على دينه وثباته عليه ليقدم أقوى البراهين على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا له الأثر الكبير في هداية الناس إلى دين الإسلام ، فهذا عامل فلبيني نصراني كان يعمل بالمملكة العربية السعودية ، شد انتباهه استيقاظ الناس من نومهم قبل طلوع الفجر ، وفي ألذ لحظات منامهم ، وخروجهم ومعهم أطفالهم إلى المساجد ليؤدوا الصلاة ، فكان هؤلاء المحافظين على صلاتهم سببا بتوفيق الله في هداية هذا العامل إلى الإسلام .
والرسالة الثانية أوجهها للعلماء والدعاة خاصة ، ولأهل المال ، ولعامة المسلمين والمسلمات ، أجيبوا داعي الله .
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} [سورة الصف الآية: 14].
فلننصر ديننا بكل ألوان النصرة الممكنة والمتاحة ، كل بحسب مكانته العلمية ، والاجتماعية ، والمالية ، وكل بالطريقة المناسبة لوضعه الوطني ، والإقليمي ، والعالمي ، انصر دينك بعلمك ، وبدعوتك ، وبجهادك ، وبنهضة أمتك في كل مجالات الحياة ، وبمالك ، وبتشجيعك ، وبفكرك ، ما استطعت لذالك سبيلا .
إن من أعظم خصائص هذا الدين أن لكل عامل قدره عند الله ، وأنه جعل الإنسان المؤمن إيجابيا في حياته ، مهما كان قدره ووضعه ،
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه(5/81)
وتأمل هذا الحديث لتعلم أنه لا يوجد في أمة الإسلام فرد مهمش أو لا قيمة له ، إنك تشعر وأنت تقرأه أنه يصنع منك شيئا عظيما ، سأل رجل من أهل اليمامة أبا ذر – رضي الله عنه - قال : دلني على عمل إذا عمل العبد به دخل الجنة . فقال أبو ذر – رضي الله عنه : سألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال : (يؤمن بالله). فقلت : يا رسول الله إن مع الإيمان عملا ؟ قال : (يرضخ مما رزقه الله). قلت : وإن كان معدما ، لا شيء له ؟. قال : (يقول معروفا بلسانه). قلت : وإن كان عييا، لا يبلغ عنه لسانه ؟ – أي لا يحسن الكلام - قال: (فيعين مغلوبا). قلت : فإن كان ضعيفا ،لا قدرة له ؟ قال: (فليصنع لأخرق) – الأخرق الذي لا يتقن ما يعمله - قلت : وإن كان أخرق ؟ قال : فالتفت إلي ، وقال : (ما تريد أن تدع في صاحبك شيئا من الخير؟! فليدع الناس من أذاه). فقلت : يا رسول الله إن هذه كلمة تيسير. فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ، ما من عبد يعمل بخصلة منها، يريد بها ما عند الله ، إلا أخذت بيده يوم القيامة حتى تدخله الجنة). [ أخرجه ابن حبان في صحيحه ح/373].
60. ... قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
د. جمال الحسيني أبو فرحة
لقد تنوعت وتباينت أساليب التبشير بنبي الإسلام في أسفار أهل الكتاب وتطرقت إلى كثير من التفصيلات، وهو موضوع لا يجليه مقال ولا تكفيه دراسة، وإنما يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير.
وقد كان من جملة البشارات بالرسول - صلى الله عليه وسلم- في أسفار أهل الكتاب: الإشارة إلى مكان بعثته - صلى الله عليه وسلم-، ولغة قومه، وما سيكون عليه اسمهم بعد إيمانهم.
فبداية نفت أسفار أهل الكتاب أن يكون موضع بعثة النبي المنتظر بعد المسيح -عليه السلام- في مدينة "أورشليم"- أي: القدس الشريف- كما يتوقع اليهود دائمًا، كما نفت أن يكون في جبل "جرزّيم" كما يتوقع السامرة من اليهود، وأوضحت أنه سيكون في مكان جديد؛ فعندما قالت المرأة السامرية للمسيح -عليه السلام- كما يحكي إنجيل يوحنا: "يا سيد أرى أنك نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل [جبل جرزيم] وأنتم تقولون: إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه. قال لها يسوع[ أي المسيح]: يا امرأة صدقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون"؛ وهو ما يؤكد عليه سفر "إرميا" عندما يقول على لسان الرب لبني إسرائيل: "هأنذا أنساكم نسياناً وأرفضكم من أمام وجهي أنتم والمدينة التي أعطيتكم وآباءكم إياها وأجعل عليكم عارًا أبديًا وخزيًا أبديًا لا ينسى".
ثم تبدأ أسفار أهل الكتاب في وصف موضع نزول الرسالة الخاتمة المنتظرة، فيصفه سفر "الرؤيا" بأن به "مسكن الله مع الناس"، ولا شك أن الإشارة في ذلك إلى بيت الله الحرام واردة؛ وتصفه "الكتب الأسينية"- من مخطوطات قمران- بأن به "الهيكل - أي البناء الكبير- الذي سيبنى في نهاية الأزمنة كما هو مكتوب في وصية موسى"، ثم تصف ذلك الهيكل بأنه "البيت الذي لن يدخله الكافر أو النجس إلى الأبد"، والإشارة واضحة في ذلك إلى قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} التوبة: 28، ونفس هذا المعنى نجده في سفر إشعياء: "وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة لا يعبر فيها نجس بل هي لهم"، وهي صفات لم تعرف لمكان على وجه الأرض بقدر ما عرفت لمكة المكرمة، والمدينة المنورة.
ثم يزيد سفر إشعياء الأمر وضوحًا عندما يحدد مكان بعثته - صلى الله عليه وسلم- بقوله "وحي من جهة بلاد العرب"، وهذه هي ترجمة جمعية الكتاب المقدس في الشرق الأدنى، وتشهد لها الترجمة العالمية الجديدة الصادرة عن جمعية الكتاب المقدس العالمية New International Version حيث تقول: An Oracle Concerning Arabia أي: وحي، أو مبلغ الوحي، أو مكان مهبط الوحي متعلق ببلاد العرب.
ويؤكد سفر إشعياء على ذلك التحديد المكاني عندما يقول في معرض حديثه عن النبي المنتظر:"لتهتف الصحراء ومدنها وديار قيدار المأهولة، ليتغن بفرح أهل سالع، وليهتفوا من قمم الجبال، وليمجدوا الرب ويذيعوا حمده"؛ وقيدار هو الابن الثاني لإسماعيل عليه السلام وهو أب لأشهر القبائل العربية، وقد نزل الوحي على النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- في أهم مدن يسكنها أبناء قيدار: مكة والمدينة.(5/82)
أما قوله:" ليتغن بفرح أهل سالع ......الخ": فهو تعيين لمقام ذلك النبي المنتظر وأنه بالمدينة المنورة؛ فـ "سلع" اسم لجبل في مدخل المدينة المنورة، ولا شك أن أهل المدينة وقفوا عليه كثيرًا في انتظار وصول الرسول – صلى الله عليه وسلم- من هجرته، ولا شك أنه كذلك جبل ارتفعت أصوات الأنصار متغنية بفرح ممجدة لله تعالى حامدة له عند وصوله – صلى الله عليه وسلم- كما تقول البشارة عن أهل "سالع، أو سلع"؛ ولا فرق؛ فالعبرانيون لم تكن لديهم حروف تعادل الحروف المتحركة حتى القرن السادس الميلادي ولم يفرقوا بين كلمة كـ "سلع" وكلمة كـ "سالع" إلا بعد هذا التاريخ على يد علماء لغويين كثيرًا ما أخطئوا وكثيرًا ما اختلفوا؛ وخاصة مع عدم توافر الحفظ في الصدور لأي من نصوصهم المقدسة، ومن الطريف أن أغنية الأنصار التي استقبلوا بها النبي – صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة احتوت على حمد لله تعالى "وجب الشكر علينا ما دعا لله داع" تمامًا كما تنص البشارة.
أما سفر التثنية فيعين في أي بلاد العرب سيكون مهبط الوحي على النبي المنتظر – صلى الله عليه وسلم- وذلك عندما يجعل "فاران" موضع رسالة منتظرة، حين يقول: "هذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته؛ فقال: أقبل الرب من سيناء وأشرق عليهم من سعير وتألق في جبل فاران"، ومجيء الرب من سيناء يشير إلى رسالة موسى عليه السلام حيث ناداه الله وهو على أرضها؛ وإشراق الرب من سعير، يشير إلى رسالة عيسى عليه السلام؛ فجبل سعير يمتد جنوب البحر الميت شرق فلسطين حيث اعتزل المسيح عليه السلام فترة مع بني العيص أو الأسينيين؛ وأما تألق الرب من فاران فهو إشارة إلى رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم- الذي جاء من ذرية إسماعيل - عليه السلام- والذي يخبرنا سفر التكوين بأنه سكن هو وذريته بفاران عند البئر [بئر زمزم] التي منّ الله على هاجر وابنها بها إنقاذًا لهما من الموت؛ ومن هنا نفهم أن فاران هي مكة المكرمة التي بعث منها المصطفى – صلى الله عليه وسلم- ؛ ومن اللافت للنظر أن كلمة فاران باللغة العبرية تعني صيغة المبالغة من كلمة "حمد"؛ ومن ثمة فلا نعدو الحقيقة إن قلنا: إن اسم برية فاران والتي هي موضع رسالة منتظرة في التوراة يعني برية "محمد"– صلى الله عليه وسلم- .
فشبه موسى عليه السلام - حسبما يروي العهد القديم- مجيء التوراة بطلوع الفجر، ونزول الإنجيل بإشراق الشمس، ونزول الإسلام بتألق الشمس في كبد السماء وعلوها وذلك إيذانًا بأنه خاتم الأديان وأن ليس بعد كماله كمال.
ثم تتحدث أسفار أهل الكتاب بعد ذلك عن لغة النبي المنتظر ولغة قومه، فيصفهم سفر إشعياء بأنهم يتحدثون لغة أعجمية غريبة عن اليهود وذلك حين يقول: "سيخاطب الرب هذا الشعب بلسان غريب أعجمي"، أي غريب عن اليهود وأعجمي بالنسبة لهم، وهو ما لم يكن للمسيح عليه السلام وأتباعه؛ فقد كان المسيح عليه السلام رجلاً يهوديًا وكذا كان جلّ أتباعه في حياته، وإنما كان ذلك للنبي العربي محمد - صلى الله عليه وسلم-.
كما تحدثت أسفار أهل الكتاب عن ما سيكون عليه اسم المؤمنين بالنبي المنتظر، فوصفهم سفر إشعياء بأن سيكون لهم اسم آخر غير الذي كان لليهود، يقول سفر إشعياء على لسان الرب لبني إسرائيل "وتخلفون اسمكم لعنة على شفاه مختاري ويميتكم الرب ويطلق على عبيده اسمًا آخر"، وهو ما لم يكن للمسيحيين وكان للمسلمين؛ لأن هذا الاسم "مسيحيّون" لم يعرف إلا متأخرًا في أنطاكية - كما يصرح سفر أعمال الرسل من الكتاب المقدس- وكان المسيحيون يعتبرون في أول الأمر، وطيلة حياة المسيح عليه السلام على الأرض- فريقاً من اليهود، فالمسلمون هم الذين كان لهم اسم آخر غير ما كان لبني إسرائيل، وهذا الاسم الآخر يصرح به سفر إشعياء عندما يصف النبي المنتظر بأنه (رئيس الإسلام) أو السلام، فكل من السلام والإسلام بالعبرية: (شالوم)؛ فصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمين من قبل وفي هذا} الحج:78.
هذا قليل من كثير لا يتسع المقام إلا للتمثيل له، وهو ما جعل "باول شفارتزيناو" - أستاذ الثيولوجي البروتستانتية وعلوم الأديان بجامعة "دور تموند" بألمانيا- يصرح قائلاً: "إن الاعتراف بنبوة محمد الذي أطالب به موجود في جذور المسيحية"، كما جعل "كانون ماكس وارن" سكرتير جمعية التبشير الكنسية، في بحثه المقدم إلى المؤتمر التبشيري الثالث لطائفة الإنجيليين الذي عقد في كندا عام 1963م- يقول: "لقد تجلى الله بطرق مختلفة ومن الواجب أن تكون لدينا الشجاعة الكافية لنصر على القول بأن الله كان يتكلم في ذلك الغار الذي يقع في تلك التلال خارج مكة"، يقصد بذلك الوحي إلى النبي محمد - صلى الله عليه وسلم- حين بدأ في غار حراء.
فصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197](5/83)
61. ... نبي الإسلام في كتب البراهمة والزرادشتية والصابئة
نبي الإسلام في كتب البراهمة والزرادشتية والصابئة
د. جمال الحسيني أبو فرحة
لا شك أن أثر محمد - صلى الله عليه وسلم – كان على البشرية عظيمًا حتى إن " مايكل هارت"-الكاتب المسيحي– قد وضعه - صلى الله عليه وسلم – على رأس المائة الخالدين في تاريخ البشرية من حيث تأثيرهم في التاريخ بصرف النظرعن كون هذا التأثير إيجابيًا أو سلبيًا؛ ومن ثمة فشخص مثله - صلى الله عليه وسلم – لا يكفي التبشير العام به في كتب الأنبياء إن كان صادقًا، كما لا يكفي التحذير العام منه إن كان كاذبًا، بل لابد من تسميته، وتفصيل صفته، حتى يعرفه أهل الكتاب (كما يعرفون أبناءهم) البقرة : 146.. بل حتى يعرفه العالم أجمع ما دام أعلن إنه يحمل رسالة لجميع العالم ونجح في بثها بين جميع شعوبه، "وما دام الله ليس إله تشويش" 1كورنثوس: 33:14.
وهو ما حدث بالفعل فاسم الرسول العربي (أحمد) مكتوب بلفظه في "الساما فيدا" SAMA VIDA من كتب البراهمة؛ فقد ورد في الفقرات من السادسة إلى الثامنة من الجزء الثاني: إن "أحمد تلقى الشريعة من ربه، وهي مملوءة من الحكمة، وقد قبس منه النور كما يقبس من الشمس".
وكذلك في كتب زرادشت التي اشتهرت باسم الكتب المجوسية نجد في كتاب "زند أفستا" ZEND AVESTA نبوءة عن رسول يوصف بأنه رحمة للعالمين، ويتصدى له عدو يسمى بالفارسية القديمة "أبو لهب" ويدعو إلى إله واحد لم يكن له كفوًا أحد، ولا ضريع، ولا قريع، ولا صاحب، ولا صاحبة، ولا أب، ولا أم، ولا ولد، ولا مسكن، ولا جسد، ولا شكل، ولا لون، ولا رائحة، ولا أول، ولا آخر.
والإشارة هنا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم – واضحة؛ فهو الذى وصفه القرآن بأنه (رحمة للعلمين) الأنبياء :107.. وهو الذي نزلت عليه سورة "الإخلاص" متضمنة تلك المعاني المشار إليها في البشارة، وكان من أعدى أعدائه عمه أبو لهب الذي نزلت فيه سورة "المسد".
وفي الكتب الزرادشتية كذلك: إن أمة زرادشت حين ينبذون دينهم يتضعضعون، وينهض رجل في بلاد العرب يهزم أتباعه فارس، ويخضع الفرس المتكبرين، وحينئذ يولون وجوههم نحو كعبة إبراهيم، التي ستكون قد تطهرت من الأصنام، ويومئذ يصبحون وهم أتباع للنبي رحمة للعالمين وسادة لفارس... وإن نبيهم ليكونن فصيحًا يتحدث بالمعجزات.
ونبوءة خلافة العرب لملوك الفرس قد وردت كذلك في كتاب الصابئة المقدس "الكنزه ربه" في الكتاب الثامن عشر؛ كما ذكر في نفس هذا الكتاب أن ملك العرب المسمى "سيهولدايو": أي تالي الأنبياء أو خاتمهم، سيخرج في زمن ملك للفرس يسمى "ازدجر", وهو ما كان بالفعل بالنسبة لرسولنا - صلى الله عليه وسلم – هذا قيل من كثير لا يتسع المقام إلا للتمثيل له.
فصدق الله العظيم القائل في كتابه الكريم: (ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) الرعد43.
62. ... إنجيل برنابا.. الشاهد والشهيد
إنجيل برنابا.. الشاهد والشهيد
بقلم الباحث : مراد عبد الوهاب الشوابكه
الحمد لله الذي منَّ علينا بأعظم نعمة ألا وهي نعمة الإسلام ...
فكم يشعر المرء بالفخر والاعتزاز عندما ينتسب لهذا الدين العظيم ويكون تابعاً لأشرف الخلق أجمعين " محمد صلى الله عليه وسلم " وعندها تكون من خير أمة أخرجت للناس، تلك الأمة وهذا النبي الذي بشّر به الأنبياء أقوامهم، وكانوا يأخذون عليهم العهود ويتناقلون فيما بينهم لئن خرج الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه لتنصرنّه، فلا غرابة إذن من أن نجد بين نصوص الكتاب المقدس ما يشير إلى ذلك مهما حاولت يد الغدر والخيانة أن تحرف النصوص أو أن تنال من الحقيقة الدامغة :
فالذّهب وإن خالطته الشوائب لكنها تعجز عن إذهاب بريقه ولمعانه!!!
فكما تعلمون أحبتي في الله أنّ الباطل مهما على واستعلى فان مصيره إلى الزوال
وأنّ الحق لا بد وأن يظهره الله حتى يكون حجّة على القاصي والداني، فمن هنا كانت البداية ...
من هو برنابا؟
هو أحد التلاميذ (الحواريين) الملازمين لسيدنا عيسى عليه السلام ، وصاحب الإنجيل الشاهد على الحق والشهيد من أجل كلمة الحق فكان جزاء هذا الإنجيل الطرد من الكتاب المقدس وذلك بقرار البابا جلاسيوس عام 492م ؛ لأنه يعارض الكتاب المقدس فيما يدّعونه بألوهية المسيح ، إلى أن جاء فيما بعد الراهب اللاتيني "فرامرينو" الذي حصل عليه من مكتبة البابوية وأعلن إسلامه بعد قراءته له كما ذكر ذلك الدكتور النصراني خليل سعادة في مقدمة ترجمته لإنجيل برنابا...
وأمّا برنابا فكما ذكرته كتب العهد الجديد ، يتضح من خلالها أنّه رجل صادق ومن أكثر التلاميذ (الحواريين) ورعاً وحفظا للوصايا والتعاليم إذ ورد في سفر أعمال الرسل الإصحاح الحادي عشر الفقرة رقم ( 22-24):(5/84)
((فسمع الخبر عنهم في آذان الكنيسة التي في أورشليم فأرسلوا برنابا لكي يجتاز إلى إنطاكية الذي لمّا أتى ورأى نعمة الله فرح ووعظ الجميع أن يثبتوا في الرب بعزم القلب لأنه كان رجلاً صالحاً وممتلئاً من الروح القدس والإيمان ، فأنضمّ إلى الربّ جمع غفير)).
وأسألكم بالله لو لم تكن لدعوته التي كانت قائمة على التوحيد وعلى دين رسول الله إبراهيم والنبيين من بعده إلى محمد صلى الله عليه وسلم - دين الفطرة والعقل والعاطفة- أينضم إلى الربّ جمع غفير؟!
والله لو كانت عقيدة برنابا كعقيدة النصارى اليوم التي ليس للعقل والعاطفة فيها ناقة ولا جمل، لما أنضم إلى الرب هذا الجمع ، بل زد على هذا لأحتاج إلى مئات السنين حتى يشرح لهم" الثالوث"- على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، وغيره من الأمور التي لا يقبلها عاقل... ولكنه خاطب فطرتهم ودعاهم إلى الدين الحق الذي نزل على موسى وعيسى ومحمّد وعلى الأنبياء صلوات ربّي وسلامه عليهم أجمعين...
إنجيل برنابا:
وفيما يلي نورد بعض ما تضمنته صفحات هذا الكتاب المضطهد:
ورد في الفصل السادس والتسعون الفقرات من 1-15 صفحة 146 :
(( (1) ولما انتهت الصلاة قال الكاهن بصوت عال : " قف يا يسوع لأنه يجب علينا أن نعرف من أنت تسكيناً لامتنا "
(2) أجاب يسوع : " أنا يسوع بن مريم من نسل داود ، بشر مائت ويخاف الله وأطلب أن لا يعطى الإكرام والمجد إلا لله "
(3) أجاب الكاهن : " انه مكتوب في كتاب موسى أن الهنا سيرسل لنا مسيّا الذي سيأتي ليخبرنا بما يريد الله وسيأتي للعالم برحمة الله (4) لذلك أرجوك أن تقول لنا الحق هل أنت مسيّا الله [تعني رسول الله] الذي ننتظره ؟ "
(5) أجاب يسوع : " حقاً أن الله وعد هكذا ولكني لست هو لأنه خلق قبلي وسيأتي بعدي "
(6) أجاب الكاهن إننا نعتقد من كلامك وآياتك على كل حال أنك نبي وقدوس الله
(7) لذلك أرجوك بإسم اليهودية كلها وإسرائيل أن تفيدنا حباً في الله بأية كيفيه سيأتي مسيّا "
(8) أجاب يسوع " لعمر الله الذي تقف بحضرته نفسي أنّي لست مسيّا الذي تنتظره كل قبائل الأرض كما وعد الله أبانا إبراهيم قائلاّ : بنسلك أبارك كل قبائل الأرض
(9) ولكن عندما يأخذني الله من العالم سيثير الشيطان مرة أخرى هذه الفتنة الملعونة بأن يحمل عادم التقوى على الاعتقاد بأني الله وابن الله (10) فيتنجّس بسبب هذا كلامي وتعليمي حتى لا يكاد يبقى ثلاثون مؤمناً (11) حينئذٍ يرحم الله العالم ويرسل رسوله الذي خلق كل الأشياء لأجله (12) الذي سيأتي من الجنوب بقوّة وسيبيد الأصنام وعبدة الأصنام (13) وسينتزع من الشيطان سلطته على البشر (14) وسيأتي برحمة الله لخلاص الذين يؤمنون به (15) وسيكون من يؤمن بكلامه مباركاً )).
وأما فيما يتعلّق بالبشارة فقد ورد اسم محمد صلى الله عليه وسلّم في هذا الإنجيل صريحاّ اسماً وصفةً :
فقد ورد أيضاً في الفصل السابع والتسعون الفقرات من 4-10 :
(( فقال حينئذٍ يسوع : " إن كلامكم لا يعزيني لأنه يأتي ظلام حيث ترجون النور ولكن تعزيتي هي في مجيء الرسول الذي سيبيد كل رأي كاذب فيّ وسيمتدّ دينه ويعمّ العالم بأسره لأنه هكذا وعد الله أبانا إبراهيم وأن ما يعزيني هو أن لا نهاية لدينه لأن الله سيحفظه صحيحاً " أجاب الكاهن : " أيأتي رسل آخرون بعد مجيء رسول الله ؟"
فأجاب يسوع : "لا يأتي بعده أنبياء صادقون مرسلون من الله، ولكن يأتي عدد غفير من الأنبياء الكذبة وهو ما يحزنني لأن الشيطان سيثيرهم بحكم الله العادل فيتسترون بدعوى إنجيلي"
وأمّا عن ذكر اسم محمد (صلى الله عليه وسلم) فقد ورد في الفقرات من 13-18:
(( فقال حينئذٍ الكاهن : " ماذا يسمّى مسيّا وما هي العلامة التي تعلن مجيئه؟"
أجاب يسوع " إن اسم مسيّا عجيب لأن الله نفسه سماه لما خلق نفسه ووضعها في بهاء سماوي قال الله : " اصبر يا محمد لأنّي لأجلك أريد أن اخلق الجنّه ، العالم وجماً غفيراً من الخلائق التي أهبها لك حتى أن من يباركك يكون مباركاً ومن يلعنك يكون ملعوناً ومتى أرسلتك إلى العالم أجعلك رسولي للخلاص وتكون كلمتك صادقة حتّى أن السماء والأرض تهنان ولكن إيمانك لا يهن أبداً إن اسمه المبارك محمّد"
حينئذٍ رفع الجمهور أصواتهم قائلين : " يا الله أرسل لنا رسولك ، يا محمد تعال سريعاً لخلاص العالم ! " ... )).
وأخيراً لا نملك إلا أن نقرأ قول الله تعالى :
" قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ "
63. ... بحث.. محمد رسول الله في التوراة والإنجيل
محمد رسول الله في التوراة والإنجيل
د.محمد عبد الخالق شريبة
خاتم الرسالات(5/85)
الإسلام هو خاتم الرسالات؛ فهو الجامع لما قبله، الناسخ لما سبقه، الذي لا دين بعده..
فيه من الأخلاق ما يضمن صلاح العباد، ومن التشريعات ما يضمن صلاح الدنيا والآخرة..
(شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ). [آل عمران: 18،19].
والدين الذي يملك صفات الكمال - لا تنقصه شهادة تأتيه من خارجه، لكي تثبت صحة رسالته، وسلامة عقيدته، وصدق حامله للعالمين الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم -، فمحمد الذي أخرج الناس من الكفر والضلال إلى الإيمان بالله وحده، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الأحد - لا يعوزه شهادة تأتيه من خارج دينه، لكي تثبت أنه خاتم الأنبياء، أو أن رسالته هي آخر الرسالات.
محمد الذي علم رجلا بدويا يئد البنات كعمر بن الخطاب – رضي الله عنه –؛ فصار بعد الإسلام قائدا للبشرية، وحاكما للعالم، ومن أعظم قادة التاريخ – لا يحتاج لمن يشهد له؛ كيف والله تعالى يقول:
(لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا). النساء:166
ويقول أيضا:( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ). النحل:89
فمحمد الذي فتح الله به عيونا عمياً، وأسمع به أذانا صماً، وشرح به قلوباً غلفاً، - لا يحتاج لمن يشهد له من خارج رسالته، أو من خارج الكتاب الذي أنزل معه.
ونحن إذ نتحدث عن بعض البشارات التي وردت في التوراة والإنجيل تبشر بالنبي الكريم، فإنما يدفعنا إلى ذلك أمران:
أما الأمر الأول: فإنه ينبع من حبنا الجم، وشوقنا الكبير لصاحب الرسالة العظمى – صلى الله عليه وسلم -.
كيف لا وهو أستاذنا ومعلمنا وزعيمنا وقائدنا؟!
وهل أعطانا بشر مثلما أعطانا محمد – صلى الله عليه وسلم –؟!
وهل لمخلوق على مخلوق من فضل مثل فضل محمد – صلى الله عليه وسلم – علينا؟!
فما لنا إذن لا نتلمس خطاه، ونقتفى أثره، وننقب عنه في كتب الأولين وفى كتب الآخرين؛ فتسعد بذكره قلوبنا، وتنشرح به صدورنا، وتقر به عيوننا.
وأما الأمر الثاني: فهو ما نصبو إليه من هداية الضالين، وتثبيت المتشككين، وإرشاد التائهين، من داخل هذا الدين ومن خارجه.
وأسأل الله العلي العظيم أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وما كان فيه من صواب فهو من الله وحده، وما كان فيه من خطأ فهو من نفسي.
(ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا)…
مازال الكتاب المقدس يتلألأ بنور محمد:
أنا اللبنة وأنا خاتم النبيين:
يقول الرسول-صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم:(إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون بالبيت ويعجبون له ويقولون:هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال:فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين).
والحديث السابق يجعل النبي في ختامه للرسالات ومكانته بين الأنبياء مثل حجر الزاوية أو اللبنة الأساسية التي لا يكتمل البناء ولا يتم حسنه وجماله إلا بها..
ولكن ما الذي يقوله الكتاب المقدس عن هذه اللبنة أو حجر الزاوية؟
ورد في إنجيل متى الإصحاح 21 الفقرة 42،43(قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه).
وهذه الكلمات قالها المسيح عليه السلام لجماعة من اليهود بعدما وبخهم على قتل الأنبياء، وإنكار الرسالات..
والنص يوضح إخبار المسيح عليه السلام لليهود باستبدال الله لهم بأمة أخرى تحل محلهم في القيام بأمر الدين وأداء رسالته(لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منتكم ويعطى لأمه تعمل أثماره).. ويخبرهم المسيح عليه السلام أيضا عن ذلك الحجر الذي سيصير رأس الزاوية(الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية)..
ويواصل المسيح عليه السلام كلامه عن ذلك الحجر الذي سيصير رأس الزاوية فيقول:(ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه)، واستخدام لفظي(يترضض) و(يسحقه) يؤكد أن الكلام يشير إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي أيده الله بالقوة المادية وخاض العديد من الحروب حتى أظهر الله به الدين وسحق به كل أعدائه..(5/86)
ولا يمكن حمل هذا الكلام على المسيح وأمته؛ لأن المسيح نفسه من أمة بني إسرائيل، كما أن المسيح- عليه السلام- يقول:(وهو عجيب في أعيننا)، مما يدل على أنه يتكلم عن شخص آخر غيره.
فمن هو المقصود إذن بحجر الزاوية غير محمد-صلى الله عليه وسلم-، الذي قال عن نفسه:(أنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)؟!
وما هي الأمة الأخرى التي أعطاها الله ملكوته بعد أن نزعه من بني إسرائيل سوى أمة محمد –صلى الله عليه وسلم-؟!!
للذي ببكة مباركًا:
يقول الله تعالى في كتابه العزيز:(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) آل عمران:96
الآية تتحدث عن بيت الله، وتتحدث عن بكة كمكان لبيت الله، الذي أمر الله الناس أن تحج إليه.
ولكن هل ورد في الكتاب المقدس نص يتحدث عن بيت لله ببكة، يحج الناس إليه؟
دعونا نقرأ ما ورد في المزمور84:
84: 4 طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك، سلاه(سلاه كلمة تتكرر كثيرا في الكتاب المقدس ويقول قاموس الكتاب المقدس أنها تعني صمت أو فترة توقف أو فاصل..)
5:84 طوبى لأناس عزهم بك طرق بيتك في قلوبهم.
84: 6 عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعاً أيضا ببركات يغطون مورة.
84: 7 يذهبون من قوة إلى قوة يرون قدام الله في صهيون
ولكن ما علاقة وادي البكاء الذي ورد في النص ببكة؟!
وإذا كان الله يقول يرون قدام الله في صهيون، فما علاقة صهيون بالبيت الحرام الموجود في بكة؟!
أما وادي البكاء وعلاقته ببكة: فيسأل عنها القساوسة العرب، لأن وادي البكاء في النسخة الإنجليزية لنفس النص مكتوبة(وادي بكة) وليس وادي البكاء كما هو في النص العربي، ونلاحظ أنها تبدأ بحرف(بي كابتال)، مما يدل على أنه اسم لعلم لا يمكن ترجمته.
وأما كلمة صهيون: فمعناها الأصلي المكان المقدس أو المجتمع الديني الخالص، كما ورد في القاموس الإنجليزي للكتاب المقدس..
والنص كما ورد في النسخة الإنجليزية هو هكذا:
(Blessed are they that dwell in thy house. they will be still praising thee, blessed is the man whose strength is in thee, in whose heart are ways of them who passing through the valley of Bacamake it awell, The rain also filleth the pools, they go from strength to strength, every one of them in Zion appeareth before God)
وبذلك فإن الترجمة الصحيحة للنص الإنجليزي هي كما يأتي:
(طوبى للساكنين في بيتك أبدا يسبحونك، طوبى لأناس عزهم بك طرق بيتك في قلوبهم عابرين في وادبكة يصيرونه ينبوعا المطر أيضا يغطيه بالبركات يذهبون من قوة إلي قوة يرون قدام الله في الأرض المقدسة).
وبالمناسبة فإن قاموس الكتاب المقدس لم يستطع تحديد أين توجد بكة!!، وكل ما قاله عن موقعها:(ربما)! يكون هذا مكان يمر به الحجاج!!
فهل هناك بكة غير التي يحج إليها المسلمون؟!
ولو كان هناك بكة غيرها، فهل ادعى أحد أن بها بيت الله الذي يحج إليه الناس؟!
هذه أسئلة تحتاج إلى أجوبة.. فهل من مجيب؟!
محمد الإسماعيلي!
محمد الإسماعيلي: هذه الكلمة قالها أحد الرهبان، وكان يتحدث عن الرسول – صلى الله عليه وسلم-ويقول إنه من ولد إسماعيل، وأنه ليس نبياً لأن النبوة اختص بها الله أبناء إسرائيل(يعقوب عليه السلام).
ونحن نؤيده في أن محمد – صلى الله عليه وسلم- هو من ولد إسماعيل عليه السلام، ولكننا سنثبت بنصوص من الكتاب المقدس أن النبوة سوف تبعث في أبناء إسماعيل:
ورد في سفر التكوين الإصحاح 21 الفقرة 17، 18:
(فسمع الله صوت الغلام ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها مالك يا هاجر لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو، قومي احملي الغلام وشدي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة).
وورد في سفر التكوين الإصحاح 21 الفقرة 13حيث يخاطب الله عز وجل سيدنا إبراهيم قائلا:(وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك).
وابن الجارية هو إسماعيل ابن السيدة هاجر، وقد جعله الله أمة كبيرة عظيمة هي أمة الإسلام التي يزيد عددها الآن عن مليار مسلم.
ويواصل الكتاب المقدس حديثه عن إسماعيل عليه السلام فيقول في سفر التكوين الإصحاح 21 الفقرة 19، 20، 21:
(وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام، وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية و كان ينمو رامى قوس، وسكن في برية فاران).
وفاران:كلمة عبرانية معربة، وهي من أسماء مكة المكرمة(1)
والنص السابق كما ترون يتحدث عن بئر زمزم الذي سقت منه هاجر الغلام، ويتحدث أيضا عن برية فاران التي سكنها إسماعيل عليه السلام.
(ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات). إبراهيم:37(5/87)
ويتحدث النص أيضا عن أن إسماعيل كان ينمو رامي قوس، وهذا يتطابق مع الحديث الذي رواه البخاري(مر النبي علي نفر من قبيلة أسلم يرمون بالسهام فقال لهم: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا).
ولكن كيف يثبت الكتاب المقدس أن النبوة ستكون في أبناء إسماعيل عليه السلام؟
ورد في سفر التثنية الإصحاح 18 الفقرة 17، 18،19 على لسان موسى عليه السلام:
(قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا، أقيم لهم نبيا من وسط أخوتهم مثلك و أجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه).
والنص يصف كما ترون تبشير الله لموسى بنبي سوف يبعثه من وسط أخوة بني إسرائيل، وأن هذا النبي سيكون مثل موسى عليه السلام، ويخبر النص أيضاً أن الذي لا يتبع هذا النبي ولا يسمع لكلامه - فإن الله سوف يعاقبه..
ولكن ماذا قال أهل الكتاب من اليهود والنصارى عن ذلك النبي؟
قالت اليهود أن النبي المقصود هو يوشع بن نون فتى موسى، بينما حمل النصارى البشارة على المسيح عيسى عليه السلام.
واليهود ينكرون أن البشارة تدل على محمد – صلى الله عليه وسلم- أو عن المسيح عليه السلام.
والنصارى ينكرون أن تكون البشارة عن النبي –صلي الله عليه وسلم-.
والحق إن ما ذهب إليه كلا الفريقين باطل، والدليل من الكتاب المقدس نفسه.
إن البشارة تشترط شرطين:الأول أن ذلك النبي من وسط إخوة بني إسرائيل، والثاني أنه مثل موسى عليه السلام.
والشرطان السابقان لا ينطبقان إلا على رسول الإسلام- صلى الله عليه وسلم-؛ فهو من أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وأبناء إسرائيل(يعقوب) هم أبناء إسحاق بن إبراهيم..، لذلك فالنبي-صلى الله عليه وسلم- من وسط أخوة بني إسرائيل..
وكذلك فإن موسى عليه السلام ومحمد- صلى الله عليه وسلم-، كليهما كان صاحب شريعة جديدة، ورسالة مستقلة، وبذلك فإن شرط المثلية وقرب المكانة بين ذاك النبي وموسى عليه السلام متحقق في النبي-صلى الله عليه وسلم-، ولأن كليهما كان صاحب رسالة جديدة وشريعة مستقلة؛ فقد ورد في سورة الأحقاف:(قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم)..
ويؤكد قرب المكانة أيضا بين النبي-صلى الله عليه وسلم- وبين موسى عليه السلام الحديث الذي رواه البخاري عن الرسول-صلى الله عليه وسلم-:(لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله)..
وأما انتفاء الشرطين عن يوشع بن نون وعن المسيح عليهما السلام- فلأنهما كانا من بني إسرائيل وليسا من وسط إخوة بني إسرائيل، ولو كان المراد واحدا منهما لقال الله:(أقيم لهم نبيا منهم)..، بل لم يكن هناك داع لتحديد من أين يخرج ذلك النبي لأن خروجه من بني إسرائيل هو أمر مألوف لا يحتاج لتوضيح أو تحديد..
وينتفي الشرط الثاني أيضا لأن لا يوشع ولا عيسى كانوا مثل موسى:
فيوشع كان فتى موسى، ولم يحمل شريعة جديدة، ولم يوح إليه بكتاب، وعيسى أيضًا لم يحمل شريعة جديدة، وإنما كان على نهج شريعة موسى؛ وإذا كان النصارى يؤمنون بأن المسيح هو ابن الله، وأنه شريك معه في الألوهية، فكيف يقولون بعد ذلك أن عيسى مثل موسى؟!!
والكتاب المقدس نفسه ينفي أن بني إسرائيل قد قام فيها نبي مثل موسى بعده؛ فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح 34 الفقرات من 5 إلى 11:((فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مواب حسب قول الرب. ودفنه في الجواء في أرض موات مقابل بيت فغور و لم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم. وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته. فبكى بنو إسرائيل موسى في عربات مواب ثلاثين يومًا فكملت أيام بكاء مناحة موسى. ويشوع بن نون كان قد امتلأ روح حكمة إذ وضع موسى عليه يديه فسمع له بنو إسرائيل وعملوا كما أوصى الرب موسى. ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجها لوجه. في جميع الآيات و العجائب التي أرسله الرب ليعملها في أرض مصر بفرعون و بجميع عبيده وكل أرضه)).
فإذا كان الكتاب المقدس يخبر كما ترون أن بني إسرائيل بعد موسى لم يخرج منهم نبي مثله، فكيف يدعى بعد ذلك أهل الكتاب أن النبي الذي وصفه الله بأنه مثل موسى قد خرج من بني إسرائيل؟!!
كما أن عقيدة النصارى في أن المسيح قد أتى ليخلص العالم ويحمل خطايا البشرية – لا يمكن أن تتوافق مع تلخيص النص لعلاقة هذا النبي بالناس؛ وهي معاقبة من لا يتبعه ويسمع لكلامه(ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه)..(5/88)
ويبدو أن أنهم كانوا في انتظار ذلك النبي كما كانوا ينتظرون المسيح عليه السلام؛ فقد ورد في إنجيل يوحنا 1: 19 – 25 (وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت فاعترف ولم ينكر وقال أني لست المسيح فسألوه إذن ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لست أنا،النبي أنت؟ فأجاب لا …فسألوه وقالوا فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي؟!)
وإيليا(إلياس في القرآن) هو نبي ورد ذكره في الكتاب المقدس..والكتاب المقدس يخبر أن الله قد رفعه إلى السماء، ويبدو أن اليهود كانوا ينتظرون عودته مرة أخرى.. فمن يكون إذن ذلك النبي الذي ورد في النص، وكانت تنتظره اليهود، إذا لم يكن إيليا ولا يوحنا ولا المسيح؟!!
من يكون ذلك النبي الذي أتى بعد يوحنا والمسيح غير رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم؟!!
ويبدو أن بعض أهل الكتاب قد وجد صعوبة في إثبات المثلية بين موسى والمسيح عليهما السلام(على الأقل حسب عقيدتهم)؛ فوجهوا جهودهم نحو إثبات عدم المثلية بين موسى عليه السلام ومحمد -صلى الله عليه وسلم-، فماذا قالوا؟
قالوا أن موسى مات وعمره 120 سنة ومحمد مات وعمره 63!!، وقالوا أن موسى تربى في قصر فرعون، أما محمد فلم يدخله!!، وقالوا أن موسى قد عبر البحر هو وبني إسرائيل، أما محمد فلم يعبره!! …
ومن البديهي أننا لو استخدمنا تلك المقاييس لإثبات التشابه بين أي شخصين لما استطعنا ذلك، حتى لو كان هذين الشخصين زوج من التوائم المتماثلة!!
غير أن صحيح النظر سليم العقل - لو نظر في النص؛ سوف يدرك أن المقصود بكلمة(مثلك) هو المثلية في المنزلة والقرب في المكانة، -وإلا فلم يكن هناك داع لقول مثلك لأن كل الأنبياء لابد أن يكونوا متشابهين في أشياء ومختلفين في أشياء أخرى-، وكذلك نفي المثلية في قوله(ولم يقم بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى) المقصود منه هو نفي المثلية في المنزلة والمكانة أيضًا..وأحسب أن هذا أمر واضح جلي لكل بصير ذي فطنة، صحيح ذي لب، حريص على نفسه من سخط الله في الدنيا، ومن سوء العاقبة والعذاب الأليم في الآخرة!!!
(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها!!) محمد: 2
فلنولينك قبلة ترضاها:
يقول تعالى في كتابه العزيز(قد نري تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون). [البقرة:144].
كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقلب وجهه في السماء، ويستحي أن يسأل ربه أن يغير القبلة التي يسجد هو والمسلمون إليها وهي المسجد الأقصى لكي تصبح إلى المسجد الحرام، فأنعم الله عليه وعلى أمته بأن جعل لهم قبلة مستقلة عن باقي الأمم؛ فقبلة اليهود والنصارى هي المسجد الأقصى، وكان المسلمون في البداية يتبعونهم في ذلك، إلى أن أمر الله رسوله الكريم –صلى الله عليه وسلم-بتغيير القبلة إلى المسجد الحرام..
ولكن هل أخبر الكتاب المقدس بأن القبلة سوف تتغير من القدس(أورشليم) إلي مكان آخر؟
ورد في إنجيل يوحنا الإصحاح 4 الفقرة 19، 20، 21:
4: 19 قالت له المرأة يا سيد أرى أنك نبي.
4: 20 آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه.
4: 21 قال لها يسوع يا امرأة صدقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للأب.
وكلمة الأب التي وردت في النص تعني الله، ولقد ورد ذكرها كثيرا في الكتاب المقدس بمعنى الله، وكذلك لفظ أبناء الله ورد بمعنى الصالحين والمؤمنين..
ومن أمثلة ذلك ما جاء في الكتاب المقدس:(أذهب إلى أبي وأبيكم).
(ولا تسبوا أباكم الذي على الأرض فإن أباكم الذي في السماء وحده).
(وقال الرب لموسى عندما تذهب لترجع إلى مصر… فتقول لفرعون هكذا يقول الرب إسرائيل ابني البكر)
(أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه).
(طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون)…
والتين والزيتون وطور سينين:
يقسم الله تعالى في بداية سورة التين قائلا:(والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم).
وهذا القسم له دلالته؛ فالتين والزيتون تشير إلى أرض فلسطين أو بيت المقدس، وهو المكان الذي تلقى فيه المسيح عليه السلام الرسالة من ربه، وطور سينين هو جبل الطور بسيناء الذي كلم الله موسى عليه، والبلد الأمين هي مكة المكرمة مهبط الوحي على رسول الله صلي الله عليه وسلم.
فهذه الآيات الكريمة تشير إلى أماكن الرسالات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، ولكن هل هناك ما يشير إلى تلك الأماكن الثلاثة في الكتاب المقدس؟(5/89)
لقد ورد في سفر التثنية الإصحاح 33 الفقرة 2 على لسان موسى عليه السلام وهو يخاطب قومه قبل موته: (33: 2 فقال جاء الرب من سيناء و أشرق لهم من سعير وتلألأ من جبال فاران و أتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم.. فأحب الشعب جميع قديسيه في يدك وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك).
وجاء الرب من سيناء، المقصود بها رسالة موسى عليه السلام، وأشرق من ساعير، تشير إلى رسالة عيسى عليه السلام وساعير هي منطقة جبلية بأرض فلسطين، وهي الأرض التي عاش فيها المسيح عليه السلام.
وتلألأ من جبال فاران المقصود بها إنزال الرسالة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم-، وفاران هي مكة المكرمة، وهى نفس الأرض التي عاش عليها إسماعيل عليه السلام:
(وكان ينمو رامي قوس وسكن في برية فاران) سفر التكوين الإصحاح 21 الفقرة 21.
(ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) إبراهيم: 37
ويدعى بعض أهل الكتاب أن فاران ليس لها علاقة بمكة، وأن فاران لا تطلق إلا على مكان قريب من سيناء مر به موسى وبنو إسرائيل بعد خروجهم من مصر، وبذلك فهم يحملون البشارة كلها على موسى وبني إسرائيل مدعين أن النص يوضح تذكرة موسى لقومه بالأماكن التي مروا بها بعد خروجهم من مصر، وأنه لا يشير أبدًا إلى رسالات سماوية.. ولو كان كلامهم هذا صحيحًا فلماذا يقول موسى: جاء الله، وأشرق الله، وتلألأ الله، وهل فاران هذه القريبة من سيناء من الأهمية بحيث يخبر موسى أن الله قد تلألأ منها؟!، وتلألأ كما تعلمون أقوى من جاء وأشرق..
وإذا كانت فاران ليست إلا برية قريبة من سيناء كما يقولون، ومر بها بنو إسرائيل قبل مرورهم بساعير القريبة من فلسطين.. فكيف جاء الله إذن من سيناء ثم أشرق من ساعير قبل أن يتلألأ من جبال فاران؟!!!.. هل يعقل أن موسى وبنو إسرائيل قد مروا بساعير في فلسطين قبل أن يمروا بمكان قرب سيناء أثناء خروجهم من مصر إلى فلسطين؟!!(2)
وهذا الترتيب لا يمكن تحريفه أو تأويله؛ لأن تلألأ إنما تأتي بعد جاء وأشرق، وهذا ما سوف يؤكده أيضا النص الإنجليزي الذي يقول:(وتلألأ فصاعدًا)..
ولماذا يذكر موسى قومه قبل موته بأمور يعلمونها وبأماكن قد مروا بها؟!، ولماذا يخاطبهم بصيغة الغائب قائلا(وأشرق لهم) ولم يقل وأشرق لنا أو وأشرق لكم؟!!
والكتاب المقدس يشرح لنا في سفر الخروج ما حدث لبني إسرائيل بعد خروجهم من مصر، ويحكي لنا أن الله قد تجلى لبني إسرائيل من برية سين ثم تجلى لهم من جبل سيناء وأوصاهم بالوصايا الشهيرة، وكل ما يحكيه الكتاب المقدس بعد ذلك عن تجلي الله لبني إسرائيل هو تذكرة موسى لقومه بتجلي الله لهم من سيناء والوصايا التي فرضها عليهم؛ فمن أين جاء أهل الكتاب إذن أن الله قد تجلى لبني إسرائيل في برية فاران شمال سيناء والكتاب المقدس نفسه بعهديه القديم والجديد لا يخبر بذلك؟!!
ولنفرض أن ما يقولونه من أن فاران هو مكان بالقرب من سيناء صواب، فإن هذا لا يمنع أن يكون اسم فاران يطلق أيضا على مكة، لأن إسماعيل عليه السلام إنما سكن في مكة ولم يسكن في سيناء.(3)
ولو ادعى أهل الكتاب أن إسماعيل لم يسكن في مكة للزمهم أيضًا إنكار أن إبراهيم وإسماعيل قد رفعا قواعد البيت الحرام بمكة، وللزمهم أيضًا إنكار قدسية البيت الحرام بمكة ونسبته إلى الله، فهل يجرءون على ذلك؟!!(4)
(وأتي من ربوات القدس عن يمينه نار شريعة لهم):المقصود بربوات القدس هو أعداد كثيرة من القديسين، ولقد استخدمت كلمة ربوات في الكتاب المقدس لتدل على العدد الكثير، ويؤكد هذا القول نفس النص ولكن في النسخة الإنجليزية (جاء الله من سيناء وأشرق لهم من ساعير وتلألأ فصاعدًا من جبل فاران وأتى مع عشرات الآلاف من القديسين من يده اليمنى فرض لهم قانونًا ناريًا، فأحب الشعب جميع قديسيه في يدك وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك).
وعشرات الآلاف من القديسين هم عدد الصحابة الذين أيد الله بهم رسوله - صلى الله عليه وسلم- والذين بلغ عددهم في فتح مكة عشرة آلاف، وفي غزوة تبوك بلغوا ثلاثين ألف مقاتل، ووصل عددهم قبل وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى نحو مائة وأربعون ألفًا من رجال الإسلام..
ويضيف النص الإنجليزي أيضا كلمة(فصاعدًا)، وكلمة فصاعدًا توضح الترتيب الزمني وتؤكد أيضًا الاستمرار؛ فهو قد تلألأ فصاعدًا، وهذا ما ينطبق على رسالة النبي-صلى الله عليه وسلم-، فهي كانت خاتم الرسالات، وهي التي ستستمر فصاعدًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..(5/90)
كما أن إيضاح النص أن فاران هي أرض الطاعة والإخلاص لله وأنها صاحبة النهاية السعيدة وذلك بقوله (فأحب الشعب جميع قديسيه في يدك وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك) – ينفي أن يكون المقصود بفاران في هذا النص هو برية شمال سيناء؛ وذلك لأن الكتاب المقدس والقرآن الكريم أيضا يقرران أن الله قد سخط على بني إسرائيل في هذه الرحلة وحكم عليهم بالتيه في الأرض أربعين سنة..(قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) المائدة: 26
ولكن هل وردت نصوص أخرى في الكتاب المقدس تخبر أن نبيًا سيأتي من فاران؟
لقد جاء في سفر حبوق (أحد أنبياء بني إسرائيل) الإصحاح3:
3: 2 يا رب قد سمعت خبرك فجزعت يا رب عملك في وسط السنين أحييه.. في وسط السنين عرف.. في الغضب أذكر الرحمة.
3:3 الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران، سلاه، جلاله غطى السماوات والأرض امتلأت من تسبيحه.
3: 4 وكان لمعان كالنور له من يده شعاع وهناك استتار قدرته.
3: 5 قدامه ذهب الوبا وعند رجليه خرجت الحمى.
3: 6 وقف وقاس الأرض نظر فرجف الأمم ودكت الجبال الدهرية وخسفت آكام القدم مسالك الأزل له.
3: 7 رأيت خيام كوشان تحت بلية، رجفت شقق أرض مديان (يقول قاموس الكتاب المقدس أن خيام كوشان هو إشارة لقبائل كوش العربية، ومن المعلوم أنها قبائل كانت تستوطن أثيوبيا وبلاد النوبة وامتدت لتشمل أجزاء واسعة من الجزيرة العربية، وأرض مديان كانت تقع في شمال الجزيرة العربية، والفقرة كلها إشارة صريحة لجنوب وشمال الجزيرة).
3: 8 هل على الأنهار حمى يا رب، هل على الأنهار غضبك أو على البحر سخطك، حتى أنك ركبت خيلك، مركباتك مركبات الخلاص.
3: 9 عريت قوسك تعرية، سباعيات سهام كلمتك، شققت الأرض أنهارًا
3: 10 أبصرتك ففزعت الجبال، سيل المياه طما، أعطت اللجة صوتها، رفعت يديها إلى العلاء.
3: 11 الشمس والقمر وقفا في بروجهما، لنور سهامك الطائرة، للمعان برق مجدك(للمعان برق رماحك في النسخة الإنجليزية).
3: 12 بغضب خطرت في الأرض، بسخط دست الأمم(بسخط دست الوثنيين في النسخة الإنجليزية) …
عندما يقرأ النص السابق أي شخص لن يتبادر إلى ذهنه سوى أن هذا النص يتحدث عن الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – الذي أتى من فاران وهي مكة المكرمة.. وأن تيمان التي وردت في النص هي الاسم القديم لليمن، وهي إشارة واضحة إلى جنوب الجزيرة العربية.. وهذا ما قاله العلماء المسلمين الذين تعرضوا قبل ذلك لهذه النبوءة، ورجحوا أن اليمن هي نفسها تيمان، وذلك نظرا للتشابه اللفظي بينهما، ولأن معنى كل منهما هو الجنوب، وأيضا بسبب اقتران تيمان في النص بفاران الثابت تاريخيا أنها هي مكة المكرمة والتي تقع شمال اليمن..
وبرغم أن النص يشتمل على صفات الرسول صلى الله عليه وسلم والتي جمعت بين القوة الروحية التي يشير إليها النص بقوله(جلاله غطى السماوات والأرض امتلأت من تسبيحه)، وبين القوة المادية التي يشير إليها باقي النص مثل الحديث عن سحق أعداء الله والإشارة إلى السهام الطائرة والرماح المتألقة، والخيول، وسحق الوثنيين…، ومن المعلوم أن هذه الصفات لم تكن إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم الذي كان رحمة للعالمين وسيفًا على رقاب المشركين.. برغم كل هذه الصفات أنكر أهل الكتاب أن هذا النص يشير إلى الرسول صلى الله عليه وسلم!!..ومع ذلك لم يستطيعوا أن يخبرونا من هو النبي الذي يتحدث عنه النص السابق!!.. ومع إنكارهم لأن هذا النص يشير للرسول صلى الله عليه وسلم، فبالطبع أنكروا أيضًا أن تيمان هي اليمن، وأصروا على أن فاران ليست إلا برية بين سيناء وفلسطين وليس لها علاقة بمكة المكرمة.. وبذلك فهم يحاولون إقناعنا بأن التقارب اللفظي بين اليمن وتيمان ليس إلا(تشابه أسماء)!!!
ولنترك الآن ما يدعيه علماؤنا من المسلمين، وما يقوله علماء أهل الكتاب من النصارى، ونتعرف بطريقة حيادية تماما على تيمان المذكورة في النص السابق..
يقول قاموس الكتاب المقدس في تعليقه على تيمان:(هي مكان يقع جنوب إدوم)..
ولكن ما هي إدوم؟
يقول معجم الطرق القديمة(إنشنت تراد روتس)تحت عنوان إمبراطوريات(إمبيرز):
(إدوم بدأت من النهاية الجنوبية للبحر الميت إلى مساحات من الصحراء العربية إلى الشرق، ومن هذا الخط امتدت إدوم لتشمل كل الأراضي جنوب البحر الأحمر والأراضي على طول الساحل الشرقي للبحر الأحمر..والجزء الجنوبي من إدوم كان عبارة عن أرض صحراوية ممتدة واشتملت إدوم على جزء من طريق البخور يمتد جنوبًا إلى شيبا والتي تمثل منطقة اليمن حاليًا).
وتيمان التي يقول قاموس الكتاب المقدس أنها تقع جنوب إدوم معناها في جميع المعاجم الخاصة بأصول ومعاني الكلمات هو: الجنوب.(5/91)
وإذا كانت تيمان تقع جنوب إدوم كما يقول قاموس الكتاب المقدس، واليمن تقع جنوب إدوم كما يقول معجم الطرق القديمة، والمعنى العبري لتيمان واليمن هو الجنوب؛ فإن ما سنستنتجه بداهة هو أن تيمان هي نفسها اليمن.
هذا ما قاله معجم الطرق القديمة وقاموس الكتاب المقدس، واستنتجنا منه أن تيمان هي نفسها اليمن.. عمومًا فإن كل المصادر التي عثرنا عليها تتحدث مباشرة عن تيمان قد أراحتنا من عناء هذا الاستنتاج!!.. فماذا قالت؟!
تحكي الموسوعة اليهودية(جويش إنسيكلوبيديا) عن رحالة يهودي شهير فتقول: (كارازو ديفيد صمويل رحالة يهودي ولد في سالونيكا بتركيا، وقام برحلة إلى اليمن بالجزيرة العربية سنة 1874، ودرس حالة اليهود في تلك المنطقة ودونها في مؤلف أسماه ذيكرون تيمان،رحلتي إلى اليمن)
ويقول موقع يهودي يسمى موقع الموسوعة اليهودية ويكيبديا:(اليهود اليمنيون يسمون بالعبرية التيمانيون وهم اليهود الذين يعيشون الآن في اليمن والتي تسمى في العبرية تيمان وهي أمة تقع في جنوب شبه الجزيرة العربية، وهم ينتمون إلى طائفة اليهود المزراحية).
ويقول موقع يهودي آخر يسمى مؤسسة مانفريد ليهمان عن يهود اليمن:(أي شخص يتاح له مقابلة أحد يهود اليمن سوف يندهش من التواضع والنقاء والتقوى التي تصبغه(!) وجذور يهود اليمن – تيمان بالعبرية – تبدأ من بداية تاريخنا. فبجانب الذي ذكر في التوراة العبرانية:(أليفاز صديق يعقوب كان من تيمان وكثير من الأنبياء قد تحدثوا عن تيمان)، فلقد قيل أيضًا أن ملكة شيبا(سبأ) قد سمعت عن الملك سولومون(سليمان) من خلال اليهود في اليمن والتي تقع بجوار مملكة شيبا).
ويحكي لنا موقع يهودي آخر يسمى أيريديس إنسيكلوبديا عن تاريخ يهود اليمن:(واحد من أفضل علماء اليهود في اليمن وهو يعقوب الفيومي قد كتب خطابًا يستشير فيه رابي موشي ابن ميمون والمعروف بميمونيديس فقام بالرد عليه في خطاب عنوانه إيجريت تيمان-مكتوب اليمن-وهذا الخطاب كان له تأثير هائل على يهود اليمن).
فإذا كانت اليمن هي نفسها تيمان(كما أثبتنا بما لا يدع بعد ذلك مجالاً للشك).. فإن ذلك يجزم بأن فاران تطلق أيضًا على مكة.. وأعتقد أنه من السخف أن يقال أن المقصود بفاران في نص حبوق هو برية بين سيناء وفلسطين!!
فهل خرج نبي من ذلك المكان امتلأت من تسبيحه الأرض ونظر فرجفت الأمم؟!!
وهل خرج من هذا المكان نبي أصلا؟!!
إذن فليخبرنا أهل الكتاب من هو ذلك النبي العظيم الذي يخبرنا النص أنه جاء من فاران حتى أنه يصفه بالقدوس؟!!
ولكن هل يقول أهل الكتاب أن لفظ القدوس هنا يقصد به نبي؟!!
إنهم يلجأون إلى حيلة عجيبة حتى لا تحمل النبوءة على النبي-صلى الله عليه وسلم-، ويخبروننا أن المقصود بالقدوس هنا هو الله نفسه!!، وأن هذا اللفظ لا يمكن إطلاقه على نبي!!.
فلنضع إذن لفظ الجلالة مكان كلمة القدوس..
إن الجملة ستصير هكذا:
(الله جاء من تيمان والله من جبل فاران)!!!!
هل هذا يصدق؟!!، هل يرضى بهذا عاقل؟!!
ومع ذلك فالكتاب المقدس يحفل باستخدام ألفاظ تخص الله عز وجل وفى نفس الوقت يوصف بها أنبياؤه:
(الرب كالجبار يخرج كرجل حروب)أشعياء42: 13
(فقال الرب لموسى انظر أنا جعلتك إلها لفرعون وهرون أخوك يكون نبيك) سفر الخروج 7:1
(وحسدوا موسى في المحلة وهرون قدوس الرب)المزامير106: 16
وإذا كانت تيمان تشير إلى مكان جنوب إدوم كما يقول قاموس
الكتاب المقدس نفسه، ومعناها في جميع المعاجم العربية والأجنبية والعبرية هو الجنوب، ولا يختلف يهودي وآخر في العالم كله على أنها الاسم القديم لليمن؛ فما علاقتها إذن بفاران التي تقع بين سيناء وفلسطين؟!!!
وليخبرنا الذين يدعون بأن القدوس هنا تشير إلى الله، وتيمان ليست هي اليمن، وفاران لا تشير إلا لأرض بين سيناء وفلسطين؛ لماذا يأت الله من تلك الفاران بالذات؛ وهي مكان لم يقم فيه رسالة، ولم يبعث منه نبيًا؛ لكي يتلألأ منه فصاعدًا، ثم يخرج من نفس المكان أيضًا لتمتليء السماء من بهائه، والأرض من تسبيحه، ويقف فيقيس الأرض، وينظر فترجف الأمم، وتدك الجبال الدهرية؟!!
لابد أن تكون تلك الفاران إذن ذات أمر عظيم!!
وهى حتما لن تكون كذلك إلا إذا كانت مهبط الوحي الأخير، ومولد النبي الخاتم، ومركز الدعوة الكاملة!!
فمن هو إذن ذلك القدوس أو النبي العظيم الذي أتى من فاران، وغطى بهاؤه السماوات، وامتلأت الأرض من تسبيحه؟، وقطعًا هو ليس موسى الكليم، ولا عيسى المسيح، ولا أي واحد من أنبياء بني إسرائيل؛ فلم يدع أحد أن فاران قد بعث فيها نبي من بني إسرائيل، وربما كان تغيير مكان الوحي من الشام إلى بلاد العرب وخروج النبوة من بيت إسرائيل هو السبب في جزع حبوق أحد أنبياء بني إسرائيل عندما سمع الخبر(يا رب قد سمعت خبرك فجزعت... الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران).(5/92)
من يكون إذن ذلك القدوس الذي جاء من فاران، ووقف فقاس الأرض فامتلأت الأرض من أتباعه، ونظر فرجفت الأمم فسقطت تحت رسالته الشعوب والممالك – غير إمام الأنبياء وخاتم المرسلين، مهجة القلب وقرة العين، صاحب اللواء المعقود والحوض المورود والمقام المحمود -محمد- صلى الله عليه وسلم،(عبد الله)، ورسوله.
ومثلك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء
ولدت مبرئا من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
نسخة مما ذكره معجم الطرق القديمة عن مملكة إدوم
http://www.ancientroute.com/empire/edom.htm
CARASSO, DAVID SAMUEL
Jewish traveler; born at Salonica, Turkey. On the occasion of a business trip to Yemen, Arabia, in 1874, he studied the situation of the Jews of that region, and published an account of his travels in a volume written in Jud?o-Spanish, entitled "Zikron Teman ? el Viage en el Yémen"
نسخة مما ذكره موقع الموسوعة اليهودية جويش إنسيكلوبيديا
http://www.jewishencyclopedia.com/view.jsp?artid=141&letter=C
… One of Yemen's most respected Jewish scholars, Jacob ben Nathanael al-Fayyumi, wrote for counsel to Rabbi Moshe ben Maimon, better known as Maimonides. Maimonides replied in a epistle entitled Iggeret Teman(The Yemen Epistle). This letter made a tremendous impression on Yemenite Jewry
نسخة من بعض ما ذكره موقع موسوعة أيريدس عن تيمان
http://www.iridis.com/Teimani
Yemenite Jews
Yemenite Jews, Standard Hebrew Temani, Tiberian Hebrew Têm?nî; plural, Standard Hebrew Temanim, Tiberian Hebrew Têm?nîm) are those Jews who live, or whose recent ancestors lived, in Yemen "far south", Standard Hebrew Teman, Tiberian Hebrew Têm?n), a nation on the southern tip of the Arabian peninsula. They are considered to be a subdivision of Mizrahi Jews.
نسخة مما ذكره موقع الموسوعة اليهودية ويكيبيديا
http://en.wikipedia.org/wiki/Jews_in_Yemen
Anyone who has been privileged to meet a Yemenite Jew will have been impressed with the refinement, modesty and piety which are the Yemenite hallmarks. The roots of the Jews in Yemen—Teman in Hebrew—start at the dawn of our history. Besides being mentioned in the Tanach(Job's friend Elifaz came from Teman, and many of the Prophets speak of Teman), the Queen of Sheba is said to have heard about King Solomon from Jews in Yemen, located next to the kingdom of Sheba
نسخة مما ذكره موقع مؤسسة مانفريد ليهمان
http://www.manfredlehmann.com/sieg282.html
نسخة مما ذكره معجم البلدان عن فاران في باب حرف الفاء
ومبشرًا برسول يأتي من بعدي:
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقًا لما بين يدي من التوراة ومبشرًا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد). الصف:6
والنبي محمد – صلى الله عليه وسلم- هو النبي الوحيد الذي أرسل بعد عيسى عليه السلام، ولا يعترف النصارى بأن هناك نبي أتى من بعد عيسى عليه السلام.
ونحن الآن بصدد إثبات أن عيسى المسيح عليه السلام قد بشر برسول سوف يأتي من بعده، وسيكون ذلك أيضا من بين نصوص الكتاب المقدس.
ورد في إنجيل يوحنا الإصحاح 16 الفقرة من 7 إلى 13على لسان المسيح عليه السلام وهو يخاطب تلاميذه قبل أن يرحل:
(لكني أقول لكم الحق انه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي).
والمعزّي اسم فاعل من الفعل عزّى وفعله المضارع يعزّي ومعناها كما ورد في قاموس الكتاب المقدس: المحامي أو المدافع أو الشفيع.
ثم يواصل المسيح عليه السلام الحديث عن ذلك المعزى قائلا:
(إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية).
فهو ذا المسيح عليه السلام يخبر تلاميذه قبل أن يرحل مباشرة بأنه لم يقل لهم كل شئ، وأن الذي منعه من ذلك أنهم لا يستطيعون احتمال هذه الأمور في هذا الوقت، وهذا إعلان صريح من المسيح عليه السلام بأن الشريعة لم تكتمل بعد، وأن ذلك المعزى هو الذي سيكملها من بعده(وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق).
فمن هو هذا المعزى أو روح الحق الذي بشر به المسيح عليه السلام؟
إن المسيح يقول:
إن ذلك المعزى أو روح الحق لا يأتي إلا بعد ذهابه(إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى).
والمسيح عليه السلام يقر بأن ذلك المعزى هو خير منه، ولذلك قال لتلاميذه(خير لكم أن أنطلق)، وكلمة خير أفعل تفضيل بمعنى أفضل.
والمسيح يقول أيضا عن هذا المعزى أنه (يخبركم بأمور آتية).(5/93)
وهذه الصفات تنطبق علي النبي – صلى الله عليه وسلم-، فلقد أخبرنا بأمور غيبية كثيرة، سواء عن الدنيا وما سيحدث فيها بعد وفاته… أو عن الآخرة وما بها من بعث وحساب وجنة ونار …
ويقول المسيح عن ذلك المعزي أيضا(يرشدكم إلى جميع الحق)
وهذا لا ينطبق إلا على رسول الإسلام – صلى الله عليه وسلم -، فهو الذي أرشد الناس إلى جميع الحق؛ فعرف الناس بربهم الواحد، وأزال الأوهام التي استعبدت عقول الناس من عبادة غير الله تارة، والإشراك به تارة أخرى، وعلم الإنسان غاية وجوده ودوره في الحياة، وبين العلاقة السليمة بين المخلوق وخالقه، وبين الناس بعضهم بعضًا، ووضح أصول التشريعات التي فرضها الله لعبيده ليصلح بها بنو البشر ويستقيم بها أمرهم في كل زمان ومكان.. ولذلك يخاطب الله نبيه في قرآنه قائلاً:(ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) النحل:89
والمسيح عليه السلام يقول(لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به)، وهذا ينطبق على الرسول الكريم-صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله سبحانه وتعالى عنه:(وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى)النجم 3، 4.
من هو إذن ذلك المعزي الذي بشر به المسيح؟
وهل أتي نبي بعد المسيح إلا محمد – صلى الله عليه وسلم-؟!
فتعين أن يكون ذلك المعزي أو روح الحق تبشيرًا بمحمد – صلى الله عليه وسلم-؛ إذ فيه تجتمع كل الأوصاف كما يتحقق فيه معني الأفضلية إذ هو خاتم النبيين الذي جاء بشريعة عامة خالدة.
ولكن ماذا يقول النصارى عن ذلك المعزي أو روح الحق؟
إنهم يقولون أن هذا المعزي ليس بشرًا إنما هو روح، روح تدخل في نفوس المؤمنين لتزيدهم إيمانًا وهي الروح القدس - أحد أقانيم الثالوث المقدس عندهم!!
وإذا كان المقصود روحًا وليس بشرًا؛ فلماذا اشترط المسيح إتيانها برحيله؟!
وهل هذه الروح أفضل عندهم من المسيح حتى يقول من الخير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي؟!
وهل هذه الروح تتكلم بما تسمع ولا تتكلم من نفسها؟!
وهل تخبر بأمور آتية؟!
وكيف تكون الروح القدس لا تتكلم من نفسها بل تحتاج إلى أن تسمع ما ستتكلم به؟!، أليست إلها كما يدعون؟!!، كيف يكون إلها من لا يتكلم من نفسه؟!!
إننا نحن المسلمين نزعم أن المسيح عليه السلام بقوله: (إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق هو يرشدكم إلى جميع الحق) إنما يقصد بذلك أنهم غير مهيئين لتلقى جميع الحق واحتمال التشريع الكامل، وأن النبي الذي سيبعث بعده سوف يقوم بتلك المهمة عندما يكون العقل البشرى أكثر نضجًا، والبشرية مهيأة لتلقى تعاليم الشريعة الجامعة.. فليخبرنا إذن الذين يقولون أن المعزى هو الروح القدس: ما هي علاقة الروح القدس التي تملأ نفوس المؤمنين بالأمور التي يريد أن يقولها المسيح ولكن منعه من قولها أنهم لا يستطيعون تحملها في ذلك الوقت؟!!!.
وهم يقولون أن الروح القدس قد جاءت وحلت في تلاميذ المسيح بعد عشرة أيام من رحيله، فهل كانت هذه مدة كافية حتى يتهيئوا للأمور التي كان يريد المسيح أن يخبرهم بها ولكن منعه من قولها عدم قدرتهم على احتمالها قبل عشرة أيام؟!!
كما أن الروح القدس التي يدعون أنها المقصودة بالمعزى كانت موجودة قبل أن يرحل المسيح تساعده وتؤيده؟ فلماذا يقول المسيح إذن إن لم أنطلق لا يأتيكم؟!!
هل هناك أدنى شك الآن أن الذي يتحدث عنه المسيح بشرا وليس روحا؟!
وإذا كان بشرًا فمن يكون غير محمد – صلى الله عليه وسلم- الذي جاء بعد عيسى عليه السلام ولم يأت بعده نبي غيره!!.
ولكن كيف وردت كلمة المعزي الموجودة في الطبعات الحديثة في الطبعات القديمة؟
لقد ورد بدلا منها كلمة الفارقليط، ولا أحد ينكر من القساوسة أن كلمة الفارقليط هي أصل كلمة المعزي، ولو فتحنا أي قاموس للكتاب المقدس لوجدنا كلمة الفارقليط هي الأصل؛ ففيم الخلاف إذن؟!
إن كلمة الفارقليط مشتقة من أحد كلمتين يونانيتين وهما بيركليتوس وباراكليتوس.
الكلمة الأولى معناها الذي يحمد أو محمد أو أحمد، والثانية معناها المعزي كما ورد في النص.
ويصر الرهبان من النصارى أن الباراكليتوس هي أصل الفارقليط، بينما يقول علماؤنا من المسلمين أن البيركليتوس هو أصل الكلمة وأنها قد حرفت إلى الباراكليتوس لكي لا تحمل النبوءة على النبي صلى الله عليه وسلم…
والواقع هو أن الفصل في هذا الخلاف غير ممكن، والقطع بأن أصل الكلمة هو الباراكليتوس أو البيركليتوس أمر محال!!، وذلك لأننا في هذه الحالة نحتاج لأن نسمع الكلمة كما قالها المسيح عليه السلام بنفسه!!.. فلننتظر إذن يوما سيفصل الله فيه بين المختلفين.. وهو يوم لا يختلف أحد الفريقين على مجيئه.. وهو في نظرنا قريب قريب مهما انتظرناه.. لأن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول:((ألا إن كل ما آت قريب، وإنما البعيد ما ليس بآت))!فانتظروا.وا.. إنا منتظرون!!(5/94)
وبعيدا عن ذلك الخلاف بين الباراكليتوس والبيركليتوس!!، فإنه يكفينا ما أثبتناه، وهو تبشير المسيح عليه السلام برسول سوف يأتي من بعده، وهو لن يكون أي واحد سوى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.(5)
وإذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم – يقول عن نفسه(أنا خاتم النبيين)، ويقول(لا نبي بعدي)، ويقول الله عنه في قرآنه (ولكن رسول الله وخاتم النبيين)..؛ فهل أخبر المسيح عليه السلام عن نفسه أنه قد ختم النبوة؟!
دعونا نقرأ ما جاء في إنجيل متى الإصحاح7-15:
(احترزوا الأنبياء الدجالين الذين يأتون إليكم لابسين ثياب الحملان ولكنهم من الداخل ذئاب خاطفة، من ثمارهم تعرفونهم، هل يجنى من الشوك عنب أو من العليق تين؟ هكذا كل شجرة جيدة تثمر ثمرًا جيدًا،أما الشجرة الرديئة فإنها تثمر ثمرًا رديئًا، لا يمكن أن تثمر الشجرة الجيدة ثمرًا رديئًا، ولا الثمرة الرديئة ثمرًا جيدًا، وكل شجرة لا تثمر ثمرًا جيدًا تقطع وتطرح في النار،إذن من ثمارهم تعرفونهم).
والمسيح عليه السلام بهذه الكلمات الرائعة يبين لتلاميذه كيف يفرق بين النبي الصادق والنبي الكاذب، ومجرد وضع ذلك المقياس بين النبي الصادق والنبي الكاذب يعتبر دليلاً على إمكانية بعث نبي آخر بعد المسيح عليه السلام، ولو كان المسيح هو آخر الأنبياء لكفاه أن يقول:(أنا آخر الأنبياء فلا تتبعوا أحدًا يأتي بعدى).
وإني لأهيب بجميع أهل الكتاب أن ينظروا إلى الثمرة التي أخرجها محمد-صلى الله عليه وسلم-:
لقد أخرج أجيالا تعبد الله وتوحده، وتسبح بحمده، وتحترم وصاياه، وتؤمن بكتبه، وتوقر جميع أنبيائه وتعلى من قدرهم.
أخرج محمد أجيالاً تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتحل الحلال، وتحرم الحرام، وتنهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن..
فها هم المسلمون ألف مليون من البشر؛ هم أقل أهل الأرض ارتكابًا للزنى الذي قبحه الله ومحمد والمسيح، وأقل أهلها شربًا للخمر الذي نهى عنه الله ومحمد والمسيح، وأكثر أهل الأرض إتباعًا لوصايا الله ومحمد والمسيح!!
وهذا أمر لا ينكره إلا جاحد، ولا يستغربه إلا حاقد…
وذاك هو حالهم في وقت ضعفهم وذلتهم، فما بالكم بهم في عهد عزهم وقوتهم؟!!
تلك هي الثمرة…فهل عرفتموها؟!
ولو عرفتموها…فهل صدقتم مخرجها؟!!
ولو صدقتموه…فهل أطعتم المسيح واتبعتموه؟!!!!!
الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع
قيدار هو الجد الأكبر لقبائل مكة، وهو من أبناء إسماعيل عليه السلام كما تخبرنا المصادر التاريخية، وكما يخبرنا أيضا الكتاب المقدس في سفر التكوين الإصحاح 25 الفقرة 13:
(وهذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل وقيدار وأدبائيل ومبسام……).
وقيدار بن إسماعيل ينسب له العرب المستعربة، والتي تسمى أيضا بالعرب العدنانية نسبة إلى عدنان الذي انحدر من صلب قيدار بن إسماعيل عليه السلام.
والديار التي سكنها قيدار هي الديار التي سكنها إسماعيل، وهي الديار التي سكنها النبي – صلى الله عليه وسلم-، وهى مكة المكرمة..
ورد في كتاب قلب جزيرة العرب:(ولى إسماعيل عليه السلام زعامة مكة وولاية البيت طوال حياته، ثم ولى اثنان من أبنائه: نابت ثم قيدار، ويقال العكس).
وورد في كتاب الرحيق المختوم في حديثه عن نسب النبي-صلى الله عليه وسلم- وقبائل مكة إلى قيدار بن إسماعيل:(وقد رزق الله إسماعيل اثني عشر ولدا ذكرا وهم: نابت أو بنايوط وقيدار وأدبائيل ومبشام ومشماع ودوما وميشا وحدد ويتما ويطور ونفيس وقيدمان، وتشعبت من هؤلاء اثنتا عشرة قبيلة، وانتشرت هذه القبائل فى أرجاء الجزيرة بل وإلى خارجها، ثم أدرجت أحوالهم في غياهب الزمان إلا أولاد نابت وقيدار.
وقد ازدهرت حضارة الأنباط –أبناء نابت- في شمال الحجاز وكونوا حكومة قوية ولم يكن يستطيع مناوأتهم أحد حتى جاء الرومان فقضوا عليهم، وأما قيدار بن إسماعيل فلم يزل أبناؤه بمكة يتناسلون هناك حتى كان منه عدنان وولده معد.
وقد تفرقت بطون معد من ولده نزار إلى أربعة قبائل عظيمة: إياد وأنمار وربيعة ومضر، وهذان الأخيران هما اللذين كثرت بطونهما فكان من ربيعة: أسد بن ربيعة وعنزة وعبد القيس وابنا وائل-بكر- وتغلب وحنيفة وغيرها
وتشعبت قبائل مضر إلى شعبتين عظيمتين: قيس بن عيلان بن مضر وبطون إلياس بن مضر. فمن قيس عيلان: بنو سليم وبنو هوازن وبنو غطفان، ومن إلياس بن مضر: تميم بن مرة وهذيل بن مدركة وبنو أسد بن خزيمة وبطون كنانة بن خزيمة، ومن كنانة: قريش، وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.
وانقسمت قريش إلى قبائل شتى من أشهرها بطون قصي بن كلاب وهى عبد الدار بن قصي وأسد بن عبد العزى بن قصي وعبد مناف بن قصي.
وكان من عبد مناف أربع فصائل:عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن هاشم صلى الله عليه وسلم).
هذا هو قيدار بن إسماعيل الذي انحدرت منه القبائل التي سكنت مكة، ولا تزال تسكنها حتى الآن، ولكن ما هي سالع؟(5/95)
سالع هي جبل سلع بالمدينة المنورة، وهو جبل يقع غرب المسجد النبوي علي بعد 500 متر تقريبًا من سوره الغربي، يبلغ عرضه ما بين 300 إلي 800 مترًا، وارتفاعه 80 مترًا، ولهذا الجبل أهمية تاريخية فلقد وقعت علي سفوحه أو بالقرب منه عدة أحداث هامة أهمها غزوة الخندق التي تجمع فيها المشركون في جهته الغربية وكان يفصل بينه وبينهم الخندق، وكان سفح جبل سلع مقر قيادة المسلمين إذ ضربت خيمة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم-ورابط عدد من الصحابة في مواقع مختلفة منه، عند قاعدة الجبل سكنت منذ العهد النبوي قبائل عدة، وفي العهد العثماني أقيمت علي قمته عدة أبنية عسكرية ما زالت أثارها باقية حتى الآن، وفي عصرنا الحالي أحاط العمران بالجبل من كل ناحية وصار جزءًا من حدود المنطقة المركزية للمدينة المنورة.(6)
ولكن ماذا يقول الكتاب المقدس عن الديار التي سكنها قيدار وعن سالع؟
ورد في سفر أشعياء الإصحاح 42 الفقرة من 1 إلى 17
42: 1 هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم.
42: 2 لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته.
42: 3 قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ إلى الأمان يخرج الحق.
42:4 لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته.
42: 5 هكذا يقول الله الرب خالق السماوات وناشرها باسط الأرض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين عليها روحًا.
42: 6 أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب ونورا للأمم.
42: 7 لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة.
42: 8 أنا الرب هذا اسمي، ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات.
42: 9 هوذا الأوليات قد أتت والحديثات أنا مخبر بها قبل أن تنبت أعلمكم بها.
42: 10 غنوا للرب أغنية جديدة تسبيحة من أقصى الأرض أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر(جمع جزيرة) وسكانها.
42: 11 لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا.
42: 12 ليعطوا الرب مجدًا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر.
42: 13 الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه.
42: 14 قد صمت منذ الدهر((في النسخة الإنجليزية: أمسكت(سلامي) منذ زمن طويل، ويقول القاموس الإنجليزي للكتاب المقدس أنها مكتوبة في النسخة العبرية(شيلاميم)، ومن المعلوم أن حروف كلمة شيلاميم أو شالوم بالعبرية هي نفس الحروف التي تشتق منها كلمة الإسلام)) سكت تجلدت كالوالدة أصيح انفخ وانخر معًا.
42: 15 أخرب الجبال و الآكام وأجفف كل عشبها واجعل الأنهار يبسا وأنشف الآجام.
42: 16 وأسير العمي في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروها أمشيهم اجعل الظلمة أمامهم نورًا والمعوجات مستقيمة هذه الأمور افعلها ولا أتركهم.
42: 17 قد ارتدوا إلى الوراء يخزى خزيا المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات انتن آلهتنا.
من هو عبد الله ومختاره الذي يتحدث عنه النص السابق؟!
النص السابق لا يمكن أن ينطبق إلا على النبي –صلى الله عليه وسلم-، فهو عبد الله ومختاره الذي أخرج الحق للأمم وانتظرت الجزر شريعته، ولم يكل ولم ينكسر حتى وضع الحق في الأرض وأرشد الناس إلى جميع الحق، فهو صاحب الشريعة الكاملة التي أتمها الله في عهده، ولم يقبضه إلا بعد اكتمالها(لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض)، ولذلك يقول الله تعالى في سورة المائدة:(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). والنبي-صلى الله عليه وسلم-هو الذي أخرج الحق لكل الأمم فهو صاحب الرسالة العالمية لجميع أهل الأرض، ولذلك يقول الله تعالى للنبي في قرآنه:(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)…ويقول أيضا(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)..
وهو الذي عصمه الله من المشركين حتى بلغ رسالته، وأدى أمانته(فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب ونورًا للأمم).. ولذلك يقول الله في قرآنه مخاطبًا نبيه: (والله يعصمك من الناس)..
والنبي-صلى الله عليه وسلم- هو الذي أخرج الناس من ظلمة الشرك وعبادة الأصنام والمنحوتات إلي عبادة الله الواحد(أنا الرب هذا اسمي، ومجدي لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات).
والنص السابق لا ينطبق على المسيح عليه السلام الذي لم يدع أنه قد أخرج كل الحق للأمم؛ بل قال قبل رحيله(إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم لكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق) كما ورد في إنجيل يوحنا..
كما أن المسيح أخبرنا أنه لم يأت إلا لهداية بني إسرائيل كما جاء في إنجيل متى (لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة)..(5/96)
وكلمة(وضعت روحي عليه) تعنى النصرة والتأييد من الله، وهى عامة لجميع الأنبياء، ولا يختص بها المسيح من دونهم، ومثال ذلك ما جاء في الكتاب المقدس (وكان روح الله على عزريا بن عوديد)، وأيضا ما جاء في الكتاب المقدس في سفر العدد(يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء إذا وضع الله روحه عليهم).
ومن المعلوم أيضًا أن دعوة المسيح لم تظهر في الديار التي سكنها قيدار وهي مكة!! ولا رفعت بها الصحراء صوتها!!… كم أنها قد ظهرت في بني إسرائيل، وهي أمة كتابية ليست من عبدة الأصنام مثل أهل مكة الذين بعث فيهم النبي-صلى الله عليه وسلم-.. بل إن المسيح قد بعث في بني إسرائيل في وقت كانوا قد تخلصوا فيه من الوثنية وعبادة الأصنام تمامًا..
ولو افترضنا أن النص يتحدث عن المسيح عليه السلام؛ فهو بذلك يثبت أن المسيح عليه السلام هو عبد لله، وليس ابنًا له أو شريكًا معه في الألوهية (هو ذا عبدي الذي أعضده).
والمفاجأة التي وجدناها في النص عند قراءته في النسخة الإنجليزية (وما أكثر المفاجآت عند مقارنة النسخة العربية بالنسخة الإنجليزية!) هو أن كلمة(الأمم) الواردة في النص ليست ترجمة لكلمة(nations) كما هو متوقع ، ولكن الكلمة الواردة في النسخة الإنجليزية هي(gentiles)، وتترجم بالعربية إلى الأمميين.. ويقول قاموس الكتاب المقدس عن هذا اللفظ أن اليهود يستخدمونه على الأمم الأخرى من غيرهم، فهم يعتبرون أنفسهم حملة الرسالات وشعب الله المختار، ويقول أيضًا أن اليهود يستخدمونه كمصطلح لاحتقار الأمم الأخرى من غير اليهود باعتبارها أمم وثنية.. وبالطبع يرفض النصارى هذا التقسيم باعتبارهم أيضًا من أهل الكتاب، وهذا هو الحق عند المسلمين وهو أن هذا اللفظ كان يستخدم لوصف الأمم من غير أهل الكتاب قبل ظهور الإسلام كما يخبرنا القرآن الكريم:
(وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا). آل عمران 20..(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائمًا ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) آل عمران: 75..وهم الذين بعث فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم-(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) الجمعة 2..(الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل)...الأعراف 157..(فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) الأعراف 158.. والصفات السابقة هي تقريبًا نفس الصفات التي وردت في النص الذي رواه الإمام البخاري في صحيحة عن عطاء بن ياسر أنه قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت: أخبرني عن صفة رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن:(يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا).
ما هي التسبيحة الجديدة التي من أقصى الأرض؟
إنها إعلان برسالة جديدة، وكلمة من أقصى الأرض تشير إلى المشرق الأقصى، إذ أن أقصى القدس جزيرة العرب، وأقصى جزيرة العرب القدس، لذلك يقول الله تعالى في كتابه الكريم:(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا).
ما هي البرية ومدنها، وما هي الديار التي سكنها قيدار ومن هم سكان سالع؟
البرية هي الصحراء، والديار التي سكنها قيدار هي مكة، وسكان سالع هم سكان جبل سلع بالمدينة المنورة (لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال).
من هم العمي الذين ساروا في طريق لم يعرفوها، وكان الله معهم ولم يتركهم؟
إنهم المؤمنون بالدين الجديد، ومتبعي الرسالة، الذين أبصروا في نور الإسلام، بعد أن كانوا عميا في الجاهلية التي زاغوا فيها عن التوحيد، وارتدوا فيها إلى الوراء، وعبدوا المنحوتات، وقالوا للمسبوكات أنتن آلهتنا..
وكيف ترفع البرية صوتها، وتخبر بالتسبيح في الجزائر؟
إنما يكون ذلك برفع الآذان، والنداء(الله أكبر الله أكبر) يسمعها سكان الصحراء وما حولها…
ما المقصود بقوله الرب كالجبار يخرج كرجل حروب؟
إنها عشرات الحروب التي تم خوضها لإخراج الناس من الكفر إلى الإسلام، وليس أدل على ذلك من أن صاحب الرسالة قد وصل عدد الغزوات التي خرج إليها بنفسه-صلى الله عليه وسلم- كان سبعًا وعشرين غزوة في سبع سنوات فقط من أجل نشر التوحيد وإعلاء الحق في الأرض.
وماذا يكون شيلاميم الذي أمسكه الله منذ زمن طويل؟(5/97)
إنه دين التوحيد –الإسلام- الذي بعث الله به جميع الأنبياء إلى البشر، فزاغوا عنه، وأشركوا مع الله آلهة أخرى؛ فكان لابد من بعثه ونشره مرة أخرى بعد ضلال الناس عنه، وانقطاعه من على الأرض زمنا طويلاً!!.. وحمل الكلمة على(الإسلام) هو الأظهر للنص، والأوضح للمعنى، ولا يستقيم السياق إلا به؛ فالله يقول: أمسكت الإسلام منذ زمن طويل وغاب التوحيد عن الأرض، لذلك سأخوض الحروب وأخرب الجبال والآكام من أجل إظهاره مرة أخرى، وأما حملها على(السلام) فإنه يكون مناقضا للمعنى، ومخالفًا للنص؛ فكيف يقول الله إذن أمسكت السلام منذ زمن طويل لذلك سأخوض الحروب وأخرب الجبال والآكام؟!!
من كانت عنده إجابة لهذه الأسئلة غير تلك الإجابات فليأت بها؛ مثل أن يكون هناك نبي قد أخرج الحق للأمم وانتظرت الجزر شريعته وحفظه الله وعصمه من الناس حتى وضع الحق في الأرض وقضى على عبادة الأصنام والمنحوتات وجعله الله نورًا للأمميين وخرجت دعوته من الصحراء، في الديار التي سكنها قيدار وهي مكة، ورفعت بها الصحراء صوتها، وهتف بها من الجبال سكان سالع بالمدينة، بعد أن عبدوا الأصنام والمنحوتات، واشتهر بكثرة حروبه وغزواته – غير محمد صلى الله عليه وسلم!!(7)
الخروج من مكة إلى المدينة
النبي محمد-صلى الله عليه وسلم- أوحي إليه في بلاد العرب، ودعا قومه إلى عبادة الله الواحد، منهم من اتبعه وقبل دينه واقتنع بدعوته، ولكن رفضها الكثير من صناديد الكفر من قريش ومن قبائل مكة (وهم أبناء قيدار بن إسماعيل كما بينا قبل ذلك).
ولقد لاقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-وأصحابه الكرام من المشركين من ألوان الإيذاء ما دعاهم إلى الفرار بالدعوة إلى مكان آخر حتى لا تموت في مهدها.
وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- سرًا فارًا من أمام سيوف المشركين التي توشك أن تجهز عليه، ومن أمام رماحهم التي تكاد أن تفتك به، وهاجر معه أصحابه الذين تعرضوا لأشد أنواع التنكيل والعذاب من المشركين؛ وما منعهم ذلك من الثبات على دينهم الحق الذي آمنوا به، ولم يردهم عن عبادتهم لله الواحد الذي عبدوه..
وبعد الهجرة إلى المدينة بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في توطيد دولة الإسلام، وبعد سنة حدثت أول معركة كبرى في الإسلام وهي غزوة بدر، وانهزم فيها أعداء الله من المشركين شر هزيمة رغم ما يمتلكونه من العدد الكبير والعتاد العظيم، وبرغم ما كان عليه جيش المسلمين من قلة في العدد والعدة، وكانت هذه الموقعة إيذانًا بإعلان قوة الإسلام وعظمة دولته، بينما كانت إعلانًا بسقوط دولة الكفر وتضاؤل قوته؛ حيث قتل عدد كبير من مشركي مكة أبناء قيدار وفني مجدهم وانكسر عزهم.
ولكن هل وردت نبؤة في الكتاب المقدس تتنبأ بنزول وحي في بلاد العرب، وتخبر بما حدث للنبي وأصحابه من أمر الهجرة بسبب إيذاء المشركين، وتبين ما حل بأبناء قيدار من المشركين بعد ذلك من ذل وهوان؟
لقد ورد في سفر أشعياء الإصحاح 21 الفقرة: 13،14،15،16،17:
21: 13 وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين (ددان أحد أحفاد إبراهيم عليه السلام من زوجته قطورة كما يخبرنا سفر التكوين25: 1-3، وتقول الموسوعة اليهودية أن نصوص الكتاب المقدس توحي أحيانًا أن ددان تقع شمال الجزيرة العربية وتوحي أحيانا أخرى أنها تقع جنوبها).
21: 14 هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه.
21: 15 فإنهم من أمام السيوف قد هربوا من أمام السيف المسلول و من أمام القوس المشدودة و من أمام شدة الحرب.
21: 16 فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار.
21: 17 و بقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم.
والنبؤة السابقة أوحي بها إلى أشعياء أحد أنبياء بنى إسرائيل (لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم).
ولاشك أن النص السابق لا يتحدث عن أحد سوى النبي –صلى الله عليه وسلم- وما حدث له وأصحابه الكرام.
فهل نزل وحي في بلاد العرب غير القرآن؟!
وهل هناك نبي هاجر من مكة إلى المدينة واستقبله أهل تيماء غير محمد –صلى الله عليه وسلم-؟!
وتيماء أرض في الحجاز كان يعيش فيها اليهود ثم انتقل أغلبهم إلى المدينة، ومازالت تيماء موجودة إلى الآن تحمل اسم إحدى محافظات المملكة العربية السعودية وتيماء هي الأرض التي شهدت أول قدوم لليهود في الجزيرة العربية ثم انتقل معظم هؤلاء اليهود إلى المدينة، فأصل يهود المدينة هم من أهل تيماء المخاطبين في النص..
وتخبرنا كتب السيرة أن ما بقى من اليهود في تيماء قد عرضوا الصلح على الرسول، وسلموا من أنفسهم، وذلك بعد سقوط يهود خيبر…(8)
ونعود لنسأل ونكرر الأسئلة:
هل نزل وحي في بلاد العرب غير القرآن؟!
وهل هاجر صاحب الوحي وأصحابه هاربين من أمام السيوف والرماح غير محمد –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في بلاد العرب؟!(5/98)
وهل هناك تيماء أخرى في بلاد العرب أو في غيرها غير الموجودة إلى الآن في المملكة العربية السعودية؟!
وهل تمت هزيمة بني قيدار وهم أهل مكة على يد أحد من الأنبياء غير محمد صلى الله عليه وسلم-؟!!
إن هذه النبوءة لهي برهان ساطع، ودليل قاطع، وسيف بتار، على رقاب كل من كذب بمحمد –صلى الله عليه وسلم –من أهل الكتاب.. بل لهى سيف بتار على رقاب منكري الأديان وعبدة الطبيعة ودعاة الكفر والإلحاد جميعا؛ فمحمد بن عبد الله الذي أوحي إليه في بلاد العرب في القرن السادس الميلادي مكتوب في سفر أشعياء أحد أنبياء بني إسرائيل الذي عاش في النصف الأخير من القرن الثامن قبل الميلاد، فمن أبلغ أشعياء بهذه النبؤة غير الله الواحد الأحد؟!!، ومن هذا النبي الذي تنبأ به غير نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم -؟!!
كتب التراث والبشارات
كان ما سبق بيانا لبعض نصوص الكتاب المقدس التي تتحدث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- وعن الإسلام بصفته خاتم الرسالات وجامع الوحي الإلهي، ولقد اخترت النصوص السابقة من بين عشرات النصوص التي لا تزال موجودة إلى الآن في الكتاب المقدس لم يطرأ عليها تحريف ولا تغيير، فهناك نصوص أخري كثيرة تتحدث عن النبي –صلي الله عليه وسلم- ولكن لم أثبتها في هذا العمل؛ لأن تلك النصوص ربما يحملها البعض على رسل آخرين غير محمد –صلى الله عليه وسلم- رغم أنها تنطبق على النبي –صلي الله عليه وسلم-؛ فمثلا ورد في سفر المزامير الإصحاح 45 الفقرة من 2إلى7:
45: 2 أنت أبرع جمالاً من بني البشر انسكبت النعمة على شفتيك لذلك باركك الله إلى الأبد.
45: 3 تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك و بهاءك.
45: 4 بجلالك اقتحم اركب من أجل الحق والدعة والبر فتريك يمينك مخاوف.
45: 5 نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك شعوب تحتك يسقطون.
45: 6 كرسيك يا الله إلى دهر الدهور قضيب استقامة قضيب ملكك.
45: 7 أحببت البر وأبغضت الإثم من اجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك.
وهذه الكلمات تنطبق على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فهو أبرع جمالاً من بني البشر، وهو قد باركه الله إلى الأبد، وهو النبي الذي تقلد سيفه وحارب المشركين وأعداء الله وسقطت تحت رسالته الشعوب كفارس والروم وغيرهم..وهو الذي فضله الله علي رفقائه من الأنبياء فهو خاتم النبيين وخير المرسلين، وكلمة مسحك الله لا يختص بها عيسى عليه السلام؛ بل هي عامة لكل الأنبياء، ووصف بها أيضا في الكتاب المقدس الصالحين والمؤمنين..(لا تمسوا مسحائي ولا تسيئوا إلى أنبيائي) المزامير 105: 15..(والصانع رحمة لمسيحه داوود) المزامير 18: 50..(يقول الرب لمسيحه كورش) أشعياء 1: 45..
وللأسف فإن النص السابق قد حمله النصارى على المسيح عليه السلام، والمسيح كما تعلمون لم يحمل سيفًا على فخذه، ولم يكن له نبلاً مسنونة، ولم يركب من أجل الحق والبر، وإنما كانت دعوته دعوة سلمية وروحية فقط؛ ولكن كان ذلك لمحمد-صلى الله عليه وسلم-، كما أن لفظ الجبار لا يمكن أن ينطبق أبدًا على المسيح عليه السلام، بل ينطبق على النبي –صلى الله عليه وسلم – الذي خاض عشرات الحروب لإظهار الدين وإعلاء الحق في الأرض.
ولكن كيف فسر النصارى السيف والرمح وألصقوا النبؤة بالمسيح؟
لقد فسروا النبؤة بأنها على سبيل المجاز وإطلاق الحسي على المعنوي!!، وربما كان ذلك مقبولاً لو كان النص يقول: تقلد سيف الحق مثلا!!، أو اقذف بسهام الإيمان!!، ولكن ما يبينه النص من حمل السيف على الفخذ، ووصف النبي بالجبار، ووصف النبل بالمسنونة - يجعل هذا التأويل ضربًا من ضروب السخافات، و نوعًا من أنواع التحايل المفضوح!!
وهناك الكثير من النصوص تحتوي علي مثل ما أشتمل النص السابق عليه، ولكني آثرت عدم ذكرها لأنها لا تحدد اسمًا ولا مكانا للدعوة كالنصوص السابقة القاطعة بأنها تتحدث عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
وفي هذا الفصل نحن بصدد الإشارة إلى بعض البشارات التي تتحدث عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- ذكرها علماء الإسلام من السلف ووردت في كتبهم، ولكنها ليست موجودة كما هي إلى الآن في نسخ الكتاب المقدس، وإن كان أغلبها له نصوص مشابهة موجودة للآن ولكن لا تتطابق معها حرفيًا، وأحببت أن أذكرها لأن الذين أوردوها من العلماء المسلمين الأثبات هم أهل للثقة، وليسوا موضعًا للشبهة أو محلاً للطعن في أمانتهم العلمية..
الجواب الصحيح
يقول ابن تيميه رحمه الله في كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح:(5/99)
قالوا وقال أشعياء النبي عليه السلام متنبيًا على مكة شرفها الله ارفعي إلى ما حولك بصرك فستبتهجين وتفرحين من أجل أن يصير إليك ذخائر البحر وتحج إليك عساكر الأمم حتى يعم بك قطر الإبل الموبلة وتضيق أرضك عن القطرات التي تجتمع إليك وتساق إليك كباش مدين ويأتيك أهل سبأ ويسير إليك أغنام فاران ويخدمك رجال مأرب يريد سدنة الكعبة وهم أولاد مأرب بن إسماعيل قالوا فهذه الصفات كلها حصلت بمكة فحملت إليها ذخائر البحرين وحج إليها عساكر الأمم وسيقت إليها أغنام فاران الهدايا والأضاحي وفاران هي البرية الواسعة التي فيها مكة وضاقت الأرض عن قطرات الإبل الموبلة الحاملة للناس وأزوادهم إليها وأتاها أهل سبأ وهم أهل اليمن.
قالوا وقال أشعياء النبي والمراد مكة شرفها الله تعالى سيري واهتزي أيتها العاقر التي لم تلد وانطقي بالتسبيح وافرحي إذ لم تحبلي فإن أهلك يكونون أكثر من أهلي يعني بأهله بيت المقدس ويعني بالعاقر مكة شرفها الله لأنها لم تلد قبل نبينا عليه الصلاة والسلام ولا يجوز أن يريد بالعاقر بيت المقدس لأنه بيت للأنبياء ومعدن الوحي.
والنص السابق له نص مشابه إلى الآن في سفر أشعياء54:1، 2، 3:
(ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل قال الرب، أوسعي مكان خيمتك ولتبسط شقق مساكنك لا تمسكي أطيلي أطنابك وشددي أوتارك، لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار ويرث نسلك أمما ويعمر مدنا خربة).
والمقصود بالمستوحشة هي السيدة هاجر، وذات البعل هي السيدة سارة التي ألجأت سيدنا إبراهيم إلى نفى هاجر مع ولدها-إسماعيل-، وكان ذلك بدافع الغيرة حيث لم تكن سارة قد أنجبت إسحاق حينئذ، فقدم بهما إلى الحجاز، وأسكنهما بواد غير ذي زرع عند بيت الله المحرم.(9)
ولقد شرق أهل الكتاب وغربوا وقالوا أن هذه النبؤة لها معنى روحي ومعنى حسي لكي يحملوا النص حملاً على القدس، ولكنهم لم يخبرونا بعد كل ذلك كيف يطلق الله لفظ العاقر التي لم تلد ولم تمخض على القدس ولادة الأنبياء!!
والنص الأول أيضًا له نص مشابه موجود إلى الآن في سفر أشعياء الإصحاح 59 - 63، وبالرغم من بعض الألفاظ الواضح إقحامها على النص إقحامًا؛ فإنه ما زال يشتمل على بعض الصفات التي لا يمكن حملها إلا على مكة.. والنص يبدأ بإيضاح أن الظلم قد انتشر في الأرض، وأن الخراب قد عم ربوعها، ولم يبق بها إلا الشر والفساد، وأن الله قد غضب على الناس وعلى بني إسرائيل الذين حادوا عن الحق، واتكلوا على الباطل والإثم، وكذبوا على الله.. ولذلك كان لابد من ظهور شمس أخرى، وبزوغ فجر جديد لإعلاء الحق في الأرض.. وفي وسط ذلك الجو العام من السخط الإلهي والغضب على شعب إسرائيل وعلى ما صار إليه حال الأمم نجد إقحامًا غريبًا يفيد بأن الله راض عليهم وعلى نسلهم من بعدهم للأبد..هكذا بدون مقدمات!!، ثم يبدأ النص في الحديث عن الأرض التي سيأتي نورها ويشرق عليها مجد الله بينما الظلام الدامس يغطي باقي الأرض.. ويستفيض النص بما لا يدع مجالاً للشك أن الكلام عن مكة، وفجأة أيضًا بدون مقدمات تجد إقحامًا غريبًا للفظ ابنة صهيون أو أورشليم!!.. والنص كله يظهر بوضوح أنه يتحدث عن الأرض الجديدة التي ستصبح معقلاً للإيمان والصلاح على الأرض بعد خرابها وما حل عليها من ظلم وفساد وبعد عن طريق الله، وعن الشعب الذي سيرث الأرض، وعن نبي آخر الزمان الذي سيرسله الله ليصلح الأرض بعد فسادها وليبشر المساكين ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولكي ينتقم به الله من أعدائه ويكون وسيلته للتعبير عن سخطه وغضبه على الأمم التي اتبعت الباطل والإثم وزاغت عن طريق الحق..
59:1 ها أن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص و لم تثقل أذنه عن أن تسمع.
59: 2 بل آثامكم صارت فاصلة بينكم و بين إلهكم وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع.
59: 3 لأن أيديكم قد تنجست بالدم و أصابعكم بالإثم شفاهكم تكلمت بالكذب ولسانكم يلهج بالشر.
59: 4 ليس من يدعو بالعدل وليس من يحاكم بالحق يتكلون على الباطل ويتكلمون بالكذب قد حبلوا بتعب وولدوا إثمًا.
59: 5 فقسوا بيض أفعى و نسجوا خيوط العنكبوت الأكل من بيضهم يموت والتي تكسر تخرج أفعى.
59: 6 خيوطهم لا تصير ثوبًا ولا يكتسون بأعمالهم أعمالهم أعمال إثم وفعل الظلم في أيديهم.
59: 7 أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدم الزكي أفكارهم أفكار إثم في طرقهم اغتصاب وسحق.
59: 8 طريق السلام لم يعرفوه و ليس في مسالكهم عدل جعلوا لأنفسهم سبلاً معوجة كل من يسير فيها لا يعرف سلامًا.
59: 9 من أجل ذلك ابتعد الحق عنا ولم يدركنا العدل ننتظر نورًا فإذا ظلام ضياء فنسير في ظلام دامس.
59: 10 نتلمس الحائط كعمي و كالذي بلا أعين نتجسس قد عثرنا في الظهر كما في العتمة في الضباب كموتى.
59: 11نزار كلنا كدبة و كحمام هدرًا نهدر ننتظر عدلاً و ليس هو وخلاصًا فيبتعد عنا.(5/100)
59: 12 لان معاصينا كثرت إمامك وخطايانا تشهد علينا لان معاصينا معنا وآثامنا نعرفها
59: 13 تعدينا وكذبنا على الرب وحدنا من وراء إلهنا تكلمنا بالظلم والمعصية حبلنا و لهجنا من القلب بكلام الكذب.
59: 14 وقد ارتد الحق إلى الوراء والعدل يقف بعيدًا لأن الصدق سقط في الشارع والاستقامة لا تستطيع الدخول
59: 15 وصار الصدق معدوما والحائد عن الشر يسلب فرأى الرب وساء في عينيه انه ليس عدل
59: 16 فرأى انه ليس إنسان و تحير من انه ليس شفيع فخلصت ذراعه لنفسه و بره هو عضده
59: 17 فلبس البر كدرع و خوذة الخلاص على رأسه ولبس ثياب الانتقام كلباس واكتسى بالغيرة كرداء
59: 18 حسب الأعمال هكذا يجازي مبغضيه سخطا وأعداءه عقابًا جزاء يجازي الجزائر
59: 19 فيخافون من المغرب اسم الرب و من مشرق الشمس مجده عندما يأتي العدو كنهر فنفخة الرب تدفعه
59: 20 و يأتي الفادي إلى صهيون وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب يقول الرب(!!!)
59: 21 أما أنا فهذا عهدي معهم قال الرب روحي الذي عليك و كلامي الذي وضعته في فمك لا يزول من فمك و لا من فم نسلك ولا من فم نسل نسلك قال الرب من الآن و إلى الأبد
60: 1 قومي استنيري لأنه قد جاء نورك و مجد الرب أشرق عليك.
60: 2 لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس الأمم أما عليك فيشرق الرب ومجده عليك يرى.
60: 3 فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك.
60: 4 ارفعي عينيك حواليك وانظري قد اجتمعوا كلهم جاءوا إليك يأتي بنوك من بعيد و تحمل بناتك على الأيدي.
60: 5 حينئذ تنظرين و تنيرين ويخفق قلبك ويتسع لأنه تتحول إليك ثروة البحر و يأتي إليك غنى الأمم
60: 6 تغطيك كثرة الجمال بكران مديان و عيفة كلها تأتي من شبا تحمل ذهبًا ولبانًا وتبشر بتسابيح الرب.
60: 7 كل غنم قيدار تجتمع إليك كباش نبايوت تخدمك تصعد مقبولة على مذبحي وأزين بيت جمالي.
60: 8 من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها.
60: 9 إن الجزائر تنتظرني وسفن ترشيش في الأول لتأتي ببنيك من بعيد وفضتهم و ذهبهم معهم لاسم الرب إلهك
60: 10 وبنو الغريب يبنون أسوارك وملوكهم يخدمونك لأني بغضبي ضربتك وبرضواني رحمتك.
60: 11 و تنفتح أبوابك دائمًا نهارًا وليلاً لا تغلق ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملوكهم
60: 12 لأن الأمة والمملكة التي لا تخدمك تبيد وخرابًا تخرب الأمم.
60: 13 مجد لبنان إليك يأتي السرو والسنديان والشربين معا لزينة مكان مقدسي وأمجد موضع رجلي.
60: 14 وبنو الذين قهروك يسيرون إليك خاضعين وكل الذين أهانوك يسجدون لدى باطن قدميك ويدعونك مدينة الرب صهيون قدوس إسرائيل(!!!).
60: 15 عوضًا عن كونك مهجورة ومبغضة بلا عابر بك أجعلك فخرًا أبديًا فرح دور فدور.
60: 16 وترضعين لبن الأمم وترضعين ثدي ملوك وتعرفين إني أنا الرب مخلصك ووليك عزيز يعقوب(!!!)
60: 17 عوضًا عن النحاس آتي بالذهب وعوضًا عن الحديد آتي بالفضة وعوضًا عن الخشب بالنحاس وعوضًا عن الحجارة بالحديد واجعل وكلاءك سلامًا وولاتك برًا
60: 18 لا يسمع بعد ظلم في أرضك ولا خراب أو سحق في تخومك بل تسمين أسوارك خلاصًا وأبوابك تسبيحًا
60: 19 لا تكون لك بعد الشمس نورا في النهار ولا القمر ينير لك مضيئًا بل الرب يكون لك نورًا أبديًا وإلهك زينتك
60: 20 لا تغيب بعد شمسك و قمرك لا ينقص لأن الرب يكون لك نورًا أبديًا و تكمل أيام وحك.
60: 21 و شعبك كلهم إبرار إلى الأبد يرثون الأرض غصن غرسي عمل يدي سأتمجد.
60: 22 الصغير يصير ألفًا والحقير أمة قوية أنا الرب في وقته أسرع به.
61: 1 روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي للمسبيين بالعتق وللماسورين بالإطلاق
61: 2 لأنادي بسنة مقبولة للرب وبيوم انتقام لإلهنا لأعزي كل النائحين.
61: 3 لأجعل لنائحين صهيون لأعطيهم جمالاً عوضًا عن الرماد و دهن فرح عوضًا عن النوح ورداء تسبيح عوضًا عن الروح اليائسة فيدعون أشجار البر غرس الرب للتمجيد.
61: 4 و يبنون الخرب القديمة يقيمون الموحشات الأول ويجددون المدن الخربة موحشات دور فدور.
61: 5 و يقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم
61: 6 أما انتم فتدعون كهنة الرب تسمون خدام إلهنا تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتآمرون.
61: 7 عوضًا عن خزيكم ضعفان وعوضًا عن الخجل يبتهجون بنصيبهم لذلك يرثون في أرضهم ضعفين بهجة أبدية تكون لهم.
61: 8 لأني أنا الرب محب العدل مبغض المختلس بالظلم وأجعل أجرتهم أمينة وأقطع لهم عهدًا أبديًا.
61: 9 ويعرف بين الأمم نسلهم وذريتهم في وسط الشعوب كل الذين يرونهم يعرفونهم أنهم نسل باركه الرب.
61: 10 فرحًا أفرح بالرب تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص كساني رداء البر مثل عريس يتزين بعمامة ومثل عروس تتزين بحليها(5/101)
61: 11 لأنه كما أن الأرض تخرج نباتها وكما إن الجنة تنبت مزروعاتها هكذا السيد الرب ينبت برًا و تسبيحًا إمام كل الأمم.
62: 1 من أجل صهيون لا أسكت و من أجل أورشليم لا أهدا(!!!)حتى يخرج برها كضياء وخلاصها كمصباح يتقد.
62: 2 فترى الأمم برك وكل الملوك مجدك وتسمين باسم جديد يعينه فم الرب
3:62 وتكونين إكليل جمال بيد الرب و تاجًا ملكيًا بكف إلهك.
62: 4 لا يقال بعد لك مهجورة ولا يقال بعد لأرضك موحشة بل تدعين حفصيبة وأرضك تدعى بعولة لإن الرب يسر بك وأرضك تصير ذات بعل.
62: 5 لأنه كما يتزوج الشاب عذراء يتزوجك بنوك وكفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك.
62: 6 على أسوارك يا أورشليم(!!!)أقمت حراسًا لا يسكتون كل النهار وكل الليل على الدوام يا ذاكري الرب لا تسكتوا.
62: 7 ولا تدعوه يسكت حتى يثبت و يجعل أورشليم تسبيحة في الأرض.
62: 8 حلف الرب بيمينه وبذراع عزته قائلا أني لا أدفع بعد قمحك مأكلاً لأعدائك ولا يشرب بنو الغرباء خمرك التي تعبت فيها.
62: 9 بل يأكله الذين جنوه و يسبحون الرب ويشربه جامعوه في ديار قدسي.
62: 10 اعبروا اعبروا بالأبواب هيئوا طريق الشعب اعدوا اعدوا السبيل نقوه من الحجارة ارفعوا الراية للشعب
62: 11 هوذا الرب قد اخبر إلى أقصى الأرض قولوا لابنة صهيون هوذا مخلصك ات ها أجرته معه و جزاؤه إمامه.
62: 12و يسمونهم شعبا مقدسا مفديي الرب وأنت تسمين المطلوبة المدينة غير المهجورة
63: 1 من ذا الآتي من أدوم بثياب حمر من بصرة هذا البهي بملابسه المتعظم بكثرة قوته أنا المتكلم بالبر العظيم للخلاص..
(في النسخة الإنجليزية: هذا البهي بملابسه الذي يسافر في عظمة قوته، أما بصرة بضم الباء فلا يعرف أحد أين تقع الآن، فقد عجز قاموس الكتاب المقدس عن ذكر موقعها بالتحديد وقال: ربما تكون أرض قريبة من البحر الميت والتي تسمى بالبتراء، وقالت الموسوعة اليهودية: معناها أرض الأغنام لكن موقعها غير معروف تحديدا وقالت: أننا(تعني اليهود) مازلنا في انتظار هذا الآتي من إدوم مخلص اليهود المنتظر!!).
63: 2 ما بال لباسك محمر وثيابك كدائس المعصرة.
63: 3 قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد فدستهم بغضبي ووطئتهم بغيظي فرش عصيرهم على ثيابي فلطخت كل ملابسي.
63: 4 لأن يوم النقمة في قلبي وسنة مفديي قد أتت.
63: 5 فنظرت ولم يكن معين و تحيرت إذ لم يكن عاضد فخلصت لي ذراعي و غيظي عضدني.
63: 6 فدست شعوبًا بغضبي وأسكرتهم بغيظي وأجريت على الأرض عصيرهم.
والنص كله كما ترون يتكلم عن مدينة الله الجديدة، وعن نبي آخر الزمان الذي سيبعثه الله ليرث الأرض هو وأمته ويقيم الحق فيها بعد انتشار الظلم والفساد.. ويخرج الناس من الظلمات إلى النور.. وينتقم به الله من أعدائه.
والنص يستفيض في شرح الأحوال والظروف التي كانت تسود الأرض والتي سبقت بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم –(آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم.. أيديكم تنجست بالدم..حبلوا بتعب وولدوا إثما.. فقسوا بيض أفعى.. أعمالهم أعمال إثم وفعل الظلم في أيديهم..ليس من يدعو بالعدل ويحاكم بالحق..أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدم الزكي..طريق السلام لم يعرفوه..تعدينا وكذبنا على الرب..ارتد الحق إلى الوراء.. وصار الصدق معدوما..معاصينا كثرت أمامك وخطايانا تشهد علينا..ننتظر نورا فإذا ظلام ضياء فإذا ظلام دامس.. فرأى أنه ليس إنسان وتحير من أنه ليس شفيع…) وتلك الأحوال والظروف لم تجتمع كلها معا، ولم تكن بهذا السوء إلا قبل بعثة النبي-صلى الله عليه وسلم- الذي جاء بعد فترة من انقطاع الرسل على الأرض، وهذه الظروف لم تكن هكذا قبل بعثة المسيح عليه السلام، كما أن قوله(فرأى أنه ليس إنسان) متوافق مع حال البشرية قبل بعثة الرسول-صلى الله عليه وسلم-، ولا يتوافق مع حالها قبل بعثة المسيح؛ فالأرض لم تكن تخلو من الصالحين والمؤمنين الذين يدعون إلى الخير، بل إن المسيح قد بعث في وجود يوحنا المعمدان (يحيى بن زكريا) عليهما السلام.
وفي النص إشارة واضحة لما قام به علماء بني إسرائيل من تحريف الكتاب والكذب على الله 59: 13(تعدينا وكذبنا على الرب وحدنا من وراء إلهنا تكلمنا بالظلم والمعصية حبلنا ولهجنا من القلب بكلام الكذب)..
وفي النص إشارة إلى النور الذي سيشرق على الأمميين في هذه الأرض 60: 3(فتسير الأمم في نورك) والأمم هنا أيضًا ليست ترجمة لكلمة nations كما هو متوقع ولكن ترجمة لكلمة gentiles وتترجم بالعربية إلى الأمميين وهم الأمم من غير أهل الكتاب…
ونجد في النص إشارة واضحة إلى قوافل الإبل التي كانت تأتي من جنوب الجزيرة العربية والمشار إليها بمملكة سبأ 60: 6 (تغطيك كثرة الجمال بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا) وهذه النبؤة لم تتحقق للقدس، بل تحققت لمكة، ولابد لهذه النبؤة أن تكون قد حدثت بالفعل في الماضي؛ فقد انتهى عصر الإبل وعصر القوافل..(5/102)
وكذلك نجد في نص أشعياء السابق إشارة واضحة إلى نحر الذبائح (كل غنم قيدار تجبي إليك،كباش نبايوت تخدمك، تصعد مقبولة على مذبحي).
وذلك يؤكد أن الكلام عن مكة وليس بيت المقدس؛ لأن القدس ليس لها علاقة بغنم قيدار بن إسماعيل الذي تنسب إليه قبائل مكة، والذي يخبرنا الكتاب المقدس أنه قد سكن في بلاد العرب(وحي من جهة بلاد العرب…يفنى كل مجد قيدار).. كما أنه لا يخفى على أحد أن نحر الذبائح هو أحد مناسك الحج في الإسلام.
وفي النص السابق نجد إشارة واضحة إلى الطرق التي يسلكها الحجاج لأداء فريضة الحج:
60: 6 تغطيك كثرة الجمال بكران مديان وعيفة كلها تأتى من شبا تحمل ذهبا ولبانا وتبشر بتسابيح الرب.
60: 8 من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها.
60: 9 إن الجزائر تنتظرني وسفن ترشيش في الأول لتأتي ببنيك من بعيد وفضتهم و ذهبهم معهم لاسم الرب إلهك.
فالأولى تتحدث عن الجمال، والثانية يتعجب المتحدث من هؤلاء الطائرين كسحاب أوحمام ولا يعرف ما هم وهو إشارة واضحة إلى الطائرات، والثالثة تشير إلى السفن.. و(ترشيش) لم يحدد قاموس الكتاب المقدس ما المقصود بها فقال أن هذا الاسم كان مشهورًا أيام سليمان عليه السلام، وقال أيضا أنه اسم كان يطلق على مكان في أسبانيا أثناء حكم العرب، ورجح في النهاية أنه لفظ يطلق على كل السفن الضخمة..
وفي النص أيضا إشارة لصفة الصحابة رضي الله عنهم 61: 9 (و يعرف بين الأمم نسلهم وذريتهم في وسط الشعوب كل الذين يرونهم يعرفونهم إنهم نسل باركه الرب) 61: 11(لأنه كما أن الأرض تخرج نباتها وكما أن الجنة تنبت مزروعاتها هكذا السيد الرب ينبت برًا و تسبيحًا أمام كل الأمم) وهي الصفة التي ذكرها القرآن في سورة الفتح: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)..
ونجد في النص إشارة إلى حدوث النصر والفتح على يد آبائنا الأوائل من المسلمين، وإلى ما فعلوه من تطهير الأرض وتنقيتها من الحجارة والأصنام 62: 10(اعبروا اعبروا بالأبواب هيئوا طريق الشعب أعدوا أعدوا السبيل نقوه من الحجارة ارفعوا الراية للشعب)..
ونجد في النص إشارة إلى غير العرب الذين يبنون أسوار مكة 60:10 (وبنو الغريب يبنون أسوارك)، وكم من الأيدي العاملة الآن وذوي الخبرات من مختلف الأقطار يعملون فيها، ويشيدون قلاعها تحت الأرض وفوق الأرض..
ونجد إشارة واضحة إلى كثرة الثروات والكنوز التي سيمن الله بها على هذه الأرض60: 5(تتحول إليك ثروة البحر ويؤتى إليك غنى الأمم)، والثروات والكنوز لم تكن للقدس أبدًا، وإنما لمكة التي تعد من أغنى بقاع الأرض..(10)
وفي النص السابق أيضا إشارة إلى انتشار دولة الإسلام وتحولها من الضعف والقلة إلى القوة والكثرة؛ فالأمة التي بدأت برجل ضعيف يدعو إلى ربه سرًا متخفيًا من أعدائه قد صار أمة قوية وملك الأرض من مشرقها إلى مغربها.. وبشر المساكين وأخرج من الحبس المأسورين.. وأخرج الناس جميعًا من ظلمات الكفر والشرك إلى عبادة الله الحق.. وانتقم به الله من أعدائه وعزى به كل النائحين.. 60: 22 (الصغير يصير ألفًا والحقير أمة قوية أنا الرب في وقته أسرع به، روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي المسبيين بالعتق والمأسورين بالإطلاق لأنادي بسنة مقبولة للرب و بيوم انتقام لإلهنا لأعزي كل النائحين)..
وليخبرنا أهل الكتاب عن نبي اجتمعت فيه صفات التحول إلى القوة والكثرة بعد الضعف والقلة وجمع بين تبشير المساكين وتعزية النائحين وبين الانتقام من أعداء الله غير نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم..
ونجد إشارة إلى ميراث أمة الإسلام للأمم الأخرى61: 6 (أما انتم فتدعون كهنة الرب تسمون خدام إلهنا تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتآمرون).. وليس أدل على ميراث أمة الإسلام للأمم الأخرى من أن أرض المشرق التي تشمل بلاد الشام والبلاد العربية وبلاد فارس؛ تلك الأرض التي كانت معقلا لنشأة وانتشار الرسالات السابقة، وتكاد تخلو الأرض الآن من عبادة الله إلا منها، وتكاد تغطي الأرض نزعات الإلحاد والمادية والطبيعية فيما سواها، والتي يكاد ينحصر كلام الكتاب المقدس نفسه بعهديه القديم والجديد عليها وعلى تاريخ الأمم والأنبياء بها.. قد صارت كلها إسلامية!!!..(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)!!(5/103)
وفي النص أيضا إشارة واضحة إلى أن الناس سوف يقصدون هذه الأرض ويطلبون زيارتها، وأنها ستكون الأرض المعمورة!! 62: 12(وأنت تسمين المطلوبة المدينة غير المهجورة)
وليخبرنا الذين يحملون النبوءة على القدس: متى تحققت تلك الصفات للقدس في يوم من الأيام؟!!
وهذه الصفات لا بد أن تكون قد تحققت بالفعل كما أوضحنا.. ولا معنى لما يدعيه اليهود من أن هذه النبؤة لم تتحقق بعد، وأن هذا المخلص الذي سوف ينتصر لهم، ويدوس العالم بقدمه، ويلطخ بعصير الناس من غير اليهود ملابسه لم يأت بعد!!..وما زالوا منتظرين!!
ويخبرنا معجم الطرق القديمة(إنشنت تراد روتس) أن إدوم بدأت من النهاية الجنوبية للبحر الميت إلى مساحات من الصحراء العربية، وأنها امتدت من هذا الخط لتشمل كل الأراضي على الساحل الشرقي للبحر الأحمر (كما أوضحنا قبل ذلك)..
وتجمع كتب الحديث على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يلبس حلة حمراء لم ير أجمل منه ولا أبهى منه أحد قط، بل لم ير أجمل منه شيء قط!!.. فقد روي عن البراء رضي الله عنه أنه قال في صفة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (لقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئا قط أحسن منه) متفق عليه..
ولا يختلف أحد من الأولين والآخرين في أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يخرج في غزواته بنفسه وحوله قوته من الصحب الكرام رضي الله عنهم..
وأعود الآن لأطرح نفس التساؤل عن ذلك النبي الذي سيبعثه الله ويأتي آخر الزمان لكي يقيم الحق في الأرض، ويستمر مجده ومجد مدينته إلى قيام الساعة، وأكرر نفس السؤال الذي ورد في النص: من ذا الآتي من إدوم بثياب حمر؟ من هذا البهي بملابسه المتعظم بكثرة قوته؟
هل يكون ذاك النبي هو موسى عليه السلام؟!
بالطبع لا.. فموسى لم يأت من إدوم، كما أن النص يشير لنبي يأتي بعد أن يعم الخراب في الأرض، وينتشر الفساد في ربوعها؛ فيبعثه الله لإصلاحها، ويخبر النص أيضًا أن مجده ومجد أمته يستمر إلى الأبد، ولم يدع أحد أن موسى كان آخر الأنبياء، مما يجعل حمل النص على موسى غير وارد على الإطلاق..
هل يكون المسيح عليه السلام؟!
بالطبع لا أيضًا.. فالمسيح لم يأت من إدوم، ولم يكن له قوة عظيمة يخرج فيها.. كما أن تلك الصفات لم يتحقق منها شيء على القدس بعد بعثة المسيح عليه السلام؛ فلم تأت إليها الإبل من جنوب الجزيرة العربية!!! ولم تجتمع إليها أغنام قبائل مكة!!! ولم يحل بها أمن أو أمان، بل إن أول ما حدث بعد رحيل المسيح عليه السلام هو اضطهاد تلاميذه وفرارهم في ربوع الأرض!، وتاريخ القدس على مر العصور خير شاهد على الظلم والدمار وسفك الدماء، ولا زالت القدس حتى الآن تعاني الجراح، وتشتكي الآلام، ولازال شعارها المرفوع دائما هو الأرض(مقابل السلام!)... كما لم يزعم أحد من الأولين أو الآخرين أن الله قد بعث المسيح عليه السلام لكي ينتقم به من أعدائه أو ليدوس الشعوب المتمردة على ربها بقدمه ويرش عصيرهم على ثيابه ويلطخ كل ملابسه!!، وبذلك فلا يمكن حمل النص أيضًا على المسيح عليه السلام..
إذن فمن يكون ذلك الأخير الذي بعثه الله لإصلاح الأرض بعد إفسادها؟!!
من يكون ذاك الذي أيده الله بالقوة الروحية فبشر المساكين وعصب منكسري القلب ونادى المسبيين بالعتق والمأسورين بالإطلاق وعزى النائحين، وأيده بالقوة المادية فانتقم من أعداء الله وداس الشعوب المتمردة على ربها بقدمه ورش عصيرهم على ثيابه ولطخ كل ملابسه؟!!!
من يكون ذلك البهي المتعظم في كثرة قوته؟!!
من يكون إذن يا ترى؟!!!!
ويعود النص ليؤكد أن الأمن والسلام هما شعار هذه الأرض؛ فيخبر أن أبوابها تفتح ولا تغلق، وأنها لا يظلم فيها أحد بعد اليوم ولا يحل بها خراب:
60: 11 وتنفتح أبوابك دائما نهارًا وليلاً لا تغلق ليؤتى إليك بغنى الأمم وتقاد ملوكهم.
60: 18 لا يسمع بعد ظلم في أرضك ولا خراب أو سحق في تخومك بل تسمين أسوارك خلاصًا وأبوابك تسبيحًا.
وهذا الكلام لا ينطبق أبدًا علي القدس كما قلنا.. أليست القدس هي أرض الظلم، وأرض الخراب، وأرض الحروب والنزاعات إلى اليوم؟!!
أليست تهدم البيوت بالدبابات، ويقتل الغلمان بالرشاشات، ولا تكاد تسمع فيها سوى صوت الانفجاريات؟!!
ثم إن أبوابها تغلق أكثر مما تفتح!!.
هل يصر الآن عاقل أن هذا النص يتحدث عن القدس؟!!
إذا أصر على رأيه فإن عليه أن يقتل التاريخ، وإن لم يستطع أن يقتل التاريخ فليقتل حتى آرييل شارون!!!
نواصل مع ابن تيميه:(5/104)
قالوا: (وقال أشعياء النبي ونص على خاتم النبوة ولد لنا غلام يكون عجبًا وبشرًا والشامة على كتفيه أركون السلام إله جبار وسلطانه سلطان السلام وهو ابن عالمه يجلس على كرسي داود قالوا الأركون هو العظيم بلغة الإنجيل والأراكنة المعظمون ولما أبرأ المسيح مجنونًا من جنونه قال اليهود إن هذا لا يخرج الشياطين من الآدميين إلا بأركون الشياطين يعنون عظيمهم وقال المسيح في الإنجيل إن أركون العالم يدان يريد إما إبليس أو الشرير العظيم الشر من الآدميين وسماه إلهًا على نحو قول التوراة إن الله جعل موسى إلها لفرعون أي حاكمًا عليه ومتصرفًا فيه وعلى نحو قول داود للعظماء من قومه إنكم آلهة فقد شهد أشعياء بصحة نبوة محمد ووصفه بأخص علاماته وأوضحها وهي شامته فلعمري لم تكن الشامة لسليمان ولا للمسيح وقد وصفه بالجلوس على كرسي داود يعني أنه سيرث بني إسرائيل نبوتهم وملكهم.
والنص السابق أيضا له نص مشابه موجود للآن في سفر أشعياء:
9: 6 – 7(الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيما الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور، أكثرت الأمة، عظم لها الفرح، يفرحون أمامك كالفرح في الحصاد، كالذين يبتهجون عندما يقتسمون غنيمة، لأن نير ثقله وعصا كتفه وقضيب مسخره كسرتهن كما في يوم مديان، لأن كل سلاح المتسلح في الوغى(الحرب) وكل رداء مدحرج في الدماء يكون للحريق مأكلاً للنار، لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلها قديرًا أبًا أبديًا رئيس السلام لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن فصاعدًا غيرة رب الجنود تصنع هذا).
والملفت للنظر في النص السابق هو أن كلمة السلام الواردة في النص يقول عنها القاموس الإنجليزي للكتاب المقدس أنها بالعبرية (شيلاميم)، وبذلك يتضح المعنى ويستقيم الكلام مرة أخرى:(رئيس الإسلام لنمو رياسته وللإسلام لا نهاية)..أليس هذا أظهر للمعنى وأسلم للسياق أيضا؟!!.. وهل هذا من قبيل المصادفة أن تتكرر شيلاميم في نبوءتين تشيران للنبي الكريم إلا أن يكون المقصود بها الإسلام نفسه؛ وإذا كان المقصود بها السلام وليس الإسلام فلماذا لم تكن الكلمة(شالوم) كما هو متعارف عليه في اللغة العبرية وفي نصوص الكتاب المقدس الأخرى؟!!
ويقول القاموس الإنجليزي للكتاب المقدس أن كلمة (شيلاميم) قد وردت أيضًا في سفر اللاويين 7: 29، والذي نلاحظه هو أن الكلمة لم تترجم في النص العربي إلى السلام كما هو معتاد ولكن ترجمت إلى(السلامة)!!
(كلم بني إسرائيل قائلاً الذي يقرب ذبيحة سلامته للرب يأتي بقربانه)!!
أليس مما يستدعيه السياق أيضًا أن يقول(ذبيحة إسلامه للرب).. حتى يستقيم الكلام ويظهر المعنى مرة أخرى؟!!!
غير أن هناك نصًا آخر موجود للآن بين نصوص الكتاب المقدس يحتوي على صفات لشخص يأتي بعد المسيح، وتلك الصفات لم تخص أحدًا من العالمين سوى النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو ما جاء في رؤيا يوحنا 19: 10 – 16(فخررت أمام رجليه لأسجد له فقال لي انظر لا تفعل أنا عبد معك ومع أخوتك الذين عندهم شهادة يسوع اسجد لله فإن شهادة يسوع هي روح النبوة،(ثم) رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أمينًا وصادقًا!! وبالعدل يحكم ويحارب وعيناه لهيب نار وعلى رأسه تيجان كثيرة وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو وهو متسربل بقميص مغموس بدم ويدعى اسمه كلمة الله والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزًا أبيضًا ونقيًا ومن فمه يخرج سيف ماض ليضرب به الأمم وهو سيرعاهم بعصا من حديد وهو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله القادر على كل شيء وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب)..
فهل يكون ذلك من قبيل المصادفة أيضًا أن يكون ذلك الذي رآه يوحنا في الرؤيا يلقب بالصادق الأمين!! ويجلس على فرس أبيض!! وبالعدل يحكم ويحارب!!.. والنص يوضح أن الصادق الأمين ليس مجرد صفة وإنما لقب يدعى به (والجالس عليه يدعى صادقًا وأمينًا).
وهل من قبيل المصادفة أيضا أن من صفاته السيف الذي سيضرب به الأمم المتمردة على ربها ويرعاها بعصا من حديد!!
وأما اسمه الذي لا يعرفه غيره فلأنه ليس من قومهم، ولا لغته هي لغتهم، وأحسب أن المقصود بالتيجان الكثيرة هو ميراثه لأمم الأرض، واستعلائه عليها جميعًا، وكذلك المقصود بملك الملوك ورب الأرباب هنا هو إشارة إلى امتداد ملكه وعظمة حكمه، فالأرض لم تشهد قط حاكمًا في عظمة نبي الإسلام – صلى الله عليه وسلم- كما أنها إشارة إلى أنه سيكون النبي الخاتم إمام الأنبياء جميعًا، ولا يمكن أن تشير إلى الله نفسه؛ لأن الكلام من البداية عن شخص يركب فرساً أبيض، ويدعى صادقًا وأمينًا، وأنه سيحارب ويحاكم بالعدل، وسوف يكون وسيلة الله للتعبير عن سخطه وغضبه على الأمم (وهو يدوس معصرة خمر سخط وغضب الله القادر على كل شيء).(11)(5/105)
وليخبرنا من عنده علم الكتاب عن شخص أتى بعد المسيح أو حتى قبله كان يلقب بالصادق الأمين، واجتمعت له صفات الحق والعدل، ومحاربة الأمم المتمردة على ربها - غير رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم!!
ومن بعض الصفات التي وردت في الكتاب المقدس أيضًا وحملها علماء المسلمين على الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء في سفر نشيد الإنشاد 5: 9، حيث تصف أنثى لصاحباتها أوصاف من تحبه، وتستفيض في شرح هذه الصفات الذي لا ينطبق الكثير منها إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مما وصف به في كتب الحديث مثل صحيح البخاري وغيره فتقول:(حبيبي أبيض وأحمر معلم بين ربوة-عشرة آلاف في النسخة الإنجليزية- رأسه ذهب إبريز قصصه مسترسلة حالكة كالغراب… يداه حلقتان من ذهب مرصعتان بالزبرجد بطنه عاج أبيض مغلف بالياقوت الأزرق… حلقه حلاوة وكله مشتهيات هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم).
والملفت للنظر هنا ليس فقط تلك الصفات الواردة في النص، والتي وردت أيضًا في كتب الحديث في وصف الرسول-صلى الله عليه وسلم-، ولكن الملفت للنظر أيضًا هو أن كلمة (كله مشتهيات)، والتي جاءت قبل عبارة (هذا هو حبيبي وهذا هو خليلي)، والتي يتوقع أن يذكر اسم الشخص المقصود قبلها - هي في النسخة العبرية (محمديم)، وتلك الزيادة المضافة لكلمة(محمد) تستخدم للتعظيم في اللغة العبرية؛ مما يدل على أن المقصود اسم وليس صفة.. والجملة كما وردت في النسخة الإنجليزية هكذا:
He is(altogether lovely)(machmadim في العبرية) this is my beloved and this is my friend o daughters of Jerusalem.
وكلمة(machmad(في العبرية بدون الزيادة التي تستخدم للتعظيم(im)- تتألف من حروف ميم حيت ميم داليت، وهي نفس الحروف التي تكون كلمة(محمد) في العربية، وتترجم إلى الحمد أحيانًا، وإلى الاشتهاء كما جاءت في النص أحيانًا، وإلى معان قريبة من ذلك أحيانًا أخرى، إلا أن زيادة التعظيم كما قلنا وموضع الكلمة من الكلام يؤكد أنها اسم لشخص وليست صفة.. وهل الأنسب أن يقال:(إنه المشتهى العظيم هذا هو حبيبي وهذا هو خليلي) أم أن يقال(إنه محمد العظيم هذا هو حبيبي وهذا هو خليلي)؟!!
فهل ذلك من المصادفة أيضًا أن تأتي كلمة محمديم تحديدًا في الموضع الذي يتوقع ذكر اسم الشخص المقصود فيه؟!!
ومن النصوص التي لا تزال توجد للآن في الكتاب المقدس وذكر بها اسم النبي صلى الله عليه وسلم صريحًا هو ما ورد في سفر حجي 2: 6-9(لأنه هكذا قال رب الجنود هي مرة بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة، وأزلزل كل الأمم ويأتي مشتهى كل الأمم، فأملأ هذا البيت مجدا قال رب الجنود، لي الفضة ولي الذهب يقول رب الجنود، مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول قال رب الجنود، وفي هذا المكان أعطي السلام قال رب الجنود)..
وكلمة مشتهى التي وردت في النص هي ترجمة لكلمةHEMDA (حمدا) في العبرية، وحروفها أيضًا هي نفس الحروف التي يشتق منه اسم النبي صلى الله عليه وسلم بالعربية؛ والعجيب أن النصارى قالوا أنHEMDA هو المسيح عليه السلام وليس محمد صلى الله عليه وسلم!!
وأحسب أن أي منصف عندما يقرأ النص السابق لن يجادل في أن البيت المذكور بالنص هو البيت الحرام بمكة وأن السلام الذي ملأ البيت هو الإسلام وأن HEMDA ليس أي واحد سوى محمد صلى الله عليه وسلم.
ولست أدري من أجل من يعبث بآيات الله وكتبه هكذا!!
من أجل من يترجم الإسلام إلى السلام والسلامة تارة، ومحمديم وحمدا إلى المشتهى تارة، والأمميين إلى الأمم تارة، وبكة إلى البكاء تارة أخرى؟!!
أمن أجل الله؟!.. أم محمد؟!!.. أم المسيح؟!!!
فليفرح إبليس اللعين إذن، وليسعد قلبه؛ فمن أجل عيونه يعصى الله، وتبدل كتبه، ويكذب رسله!!
وليهنأ الحقد والهوى، وليهنأ التعصب الأعمى؛ فمن أجله تشترى الدنيا بالآخرة، والعذاب بالمغفرة، ونيران الجحيم بجنات النعيم!!
فما أجرأه على الله ما أجرأه!، وما أصبره على النار ما أصبره!، وما أظلمه وما أجرمه!، وما أفجره وما أحقره!.. من ضلت نفسه حسدًا.. وأضل وراءه أمما..
نواصل مع ابن تيميه:(5/106)
قالوا: (وقال أشعياء والمراد مكة أنا رسمتك على كفي وسيأتيك أولادك سراعًا ويخرج عنك من أراد أن يخيفك ويخونك فارفعي بصرك إلى ما حولك فإنهم سيأتونك ويجتمعون إليك فتسمي باسمي إني أنا الحي لتلبسي الحلل وتزيني بالإكليل مثل العروس ولتضيقن خراباتك من كثرة سكانك والداعين فيك وليهابن كل من يناوئك وليكثرن أولادك حتى تقولي من رزقني هؤلاء كلهم وأنا وحيدة فريدة يرون رقوب فمن ربى لي هؤلاء ومن تكفل لي بهم قالوا وذلك إيضاح من أشعياء بشأن الكعبة فهي التي ألبسها الله الحلل الديباج الفاخرة ووكل بخدمتها الخلفاء والملوك ومكة هي التي ربا الله لها الأولاد من حجاجها والقاطنين بها وذلك أن مكة هي التي أخرج عنها كل من أن أراد أن يخيفها ويخربها فلم تزل عزيزة مكرمة محرمة لم يهنها أحد من البشر قط بل أصحاب الفيل لما قصدوها عذبهم الله العذاب المشهور ولم تزل عامرة محجوجة من لدن إبراهيم الخليل بخلاف بيت المقدس فإنه قد أخرب مرة بعد مرة وخلا من السكان واستولى العدو عليه وعلى أهله وكذلك إخباره بإهانة كل من يناوئها هو للكعبة دون بيت المقدس قال تعالى:(ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم).
قالوا وقال أشعياء حاكيًا عن الله تعالى أشكر حبي وابني أحمد فسماه الله حبيبًا وسماه ابنًا وداود ابنًا غير أن الله خصه عليهم بمزية فقال حبي ابني أشكره فتعبد أشعياء بشكر محمد ووظف عليه وعلى قومه شكره وإجلاله ليتبين قدره ومنزلته عنده وتلك منقبة لم يؤتها غيره من الرسل وقال أشعياء إنما سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد وهذا إفصاح من أشعياء باسم رسول الله فليرنا أهل الكتاب نبيًا نصت التوراة على اسمه صريحًا سوى رسول الله.
ما امتلاء السماء من بهاء أحمد بأنوار الإيمان والقرآن التي ظهرت منه ومن أمته وامتلاء الأرض من حمده وحمد أمته في صلواتهم فأمر ظاهر فإن أمته هم الحمادون لا بد لهم من حمد الله في كل صلاة وخطبة ولا بد لكل مصل في كل ركعة من أن يقول الحمد لله رب العالمين... فهم يفتحون القيام في الصلاة بالتحميد ويختمونها بالتحميد وإذا رفعوا رؤوسهم من الركوع يقول إمامهم سمع الله لمن حمده ويقولون جميعًا ربنا ولك الحمد ويختمون صلاتهم بتحميد يجعل التحيات له والصلوات والطيبات وأنواع تحميدهم لله مما يطول وصفه.
وقال دانيال عليه السلام وذكر محمد رسول الله باسمه فقال ستنزع في قسيك إغراقًا وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء فهذا تصريح بغير تعريض وتصحيح ليس فيه تمريض فإن نازع في ذلك منازع فليوجدنا آخر اسمه محمد له سهام تنزع وأمر مطاع لا يدفع..
الدين والدولة لعلي بن الطبري:
وقد كان صاحب هذا الكتاب نصرانيًا وهداه الله للإسلام وتوفى في عام 247هجرية، ويقول في كتابه:جاء في سفر أشعياء:(إني جعلت اسمك محمدًا يا محمد يا قدوس الرب اسمك موجود من الأبد).
ويقول أيضًا في نفس الكتاب الذي كتبه قبل أكثر من ألف سنة: جاء في سفر حبوق:(إن الله جاء من التيمان والقدوس من جبل فاران، لقد أضاءت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده).
والنبوءة السابقة التي ذكرها صاحب كتاب الدين والدولة منذ أكثر من ألف عام هي نفس النبؤة التي ذكرناها قبل ذلك ولكن غير متضمنة اسم النبي –صلى الله عليه وسلم – صريحًا، وأيضا كلمة(حمده) مذكورة بدلا من(تسبيحه).. والكلمة كما وردت في النسخة الإنجليزية هي praiseوترجمتها بالعربية التسبيح و(الحمد) أيضًا..
وكتب التراث التي كتبها العلماء الأفاضل من علماء المسلمين تحفل بالبشارات التي تتحدث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في الكتاب المقدس، ويكفينا ما نقلناه لكم لبيان ما أردنا قوله..(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن كثيرا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) البقرة 146.
(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) الأنعام 20
أمة واحدة:
قال الله تعالى:(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء: 92
هناك أمور إسلامية عديدة: كالصوم، والصلاة، والزكاة، والجهاد، والحجاب، وأصول العقيدة، وغيرها - قد وردت في الكتاب المقدس، وإنما نفرد تلك الأمور المشتركة بين الكتب السماوية في هذا العمل لنبين أن ما جاء به الأنبياء جميعًا لا يختلف في مضمونه وفي أهدافه عن بعضه البعض.. ولذلك يقول الله في سورة الأنبياء(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)..
ونذكر هنا كلمة النجاشي عظيم الحبشة حينما عرض عليه جعفر بن أبى طالب أمور من التي يدعو إليها الإسلام فرد النجاشي قائلا:(إن هذا وما أتى به المسيح ليخرجان من مشكاة واحدة)..
لنقرأ الآن بعض الآيات التي وردت في الكتاب المقدس والقرآن الكريم، والتي تبين أن نبع الهداية في كل الرسالات السماوية واحد، وأن أصل التشريع كله هو من لدن عزيز حكيم.. وكفى بكلام الله هاديا ودليلا.
الصلاة
بعض ما ورد في الكتاب المقدس(5/107)
ورد في سفر التكوين الإصحاح 17 الفقرة 1، 2، 3:
17: 1 و لما كان إبرام ابن تسع و تسعين سنة ظهر الرب لإبرام و قال له أنا الله القدير سر أمامي و كن كاملاً.
17: 2 فاجعل عهدي بيني و بينك وأكثرك كثيرًا جدًا.
17: 3 فسقط إبرام على وجهه و تكلم الله معه قائلا.
وورد في رؤيا يوحنا الإصحاح 7 الفقرة 11:
11:7 وجميع الملائكة كانوا واقفين حول العرش والشيوخ والحيوانات أربع وخروا أمام العرش علي وجوههم وسجدوا لله.
وورد في المزمور 95 الفقرة 6:
6:95 هلم نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا.
وورد في سفر الخروج الإصحاح 34 الفقرة 8:
فأسرع موسى وخر إلى الأرض وسجد.
بعض ما ورد في القرآن الكريم
(إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) التوبة: 18.
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) البقرة:2 – 4.
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 2 – 4.
(وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) هود: 114 – 115
(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء) إبراهيم: 39 – 40
(قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ) إبراهيم: 31
(وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ *جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ*سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) الرعد: 22 – 24.
(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الشورى: 37 – 40.
(أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا) الإسراء: 78 – 82.
الصوم
بعض ما ورد في الكتاب المقدس
ورد في إنجيل متي الإصحاح 4 الفقرة 2:
2:4 فبعدما صام أربعين نهارًا وأربعين ليلة جاع أخيرًا.
وورد في إنجيل لوقا الإصحاح 5 الفقرة 33:
33:5 وقالوا له لماذا يصوم تلاميذ يوحنا كثيرًا ويقدمون طلبات وكذلك تلاميذ الفريسيين أيضا وأما تلاميذك فيأكلون ويشربون.
بعض ما ورد في القرآن الكريم:
(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) البقرة: 185
الحج(5/108)
بعض ما ورد في الكتاب المقدس
ورد في مزمور 84 الفقرة 2:
2:84 عابرين في وادي بكة يصيرونه ينبوعًا.
بعض ما ورد في القرآن الكريم
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) آل عمران: 96 – 97
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) البقرة: 197
الحجاب
بعض ما ورد في الكتاب المقدس
ورد في رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس الإصحاح 11 الفقرة 5(إذا المرأة إن كانت لا تتغطى فليقص شعرها).
وورد في نشيد الإنشاد:
4: 1 ها أنت جميلة يا حبيبتي ها أنت جميلة عيناك حمامتان من تحت نقابك...
بعض ما ورد في القرآن الكريم
(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن) النور:31
تحية الإسلام
بعض ما ورد في الكتاب المقدس
جاء في إنجيل لوقا الإصحاح 10 الفقرة 5(وأي بيت دخلتموه فقولوا أولا سلام لهذا البيت)
بعض ما ورد في القران الكريم
(يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) النور:27
الجهاد
بعض ما ورد في الكتاب المقدس
ورد في سفر العدد في بداية الإصحاح 31(وكلم الرب موسى قائلاً انتقم نقمة لبنى إسرائيل من المديانيين، فكلم موسى الشعب قائلاً جردوا رجالاً فيكونوا على مديان ألفًا واحدًا من كل سبط من جميع أسباط بنى إسرائيل ترسلون للحرب).
بعض ما ورد في القرآن الكريم
(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) الحج: 78
(إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم) البقرة: 218
(انفروا خفافًا وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) التوبة: 41
الختان
بعض ما ورد في الكتاب المقدس
ورد في سفر التكوين الإصحاح 17 الفقرة 24،25(وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة حين ختن في لحم غرلته وكان إسماعيل ابنه ابن ثلاث عشرة سنة حين ختن في لحم غرلته).
من أقوال نبي الإسلام
(خمس من الفطرة: الاستحداد(حلق العانة) والختان وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظافر) متفق عليه.
الأضاحي
بعض ما ورد في الكتاب المقدس
ورد في سفر الملوك الأول الإصحاح 8 الفقرة 62، 63:(ثم إن الملك وجميع إسرائيل معه ذبحوا ذبائح أمام الرب وذبح سليمان ذبائح السلامة التي ذبحها للرب من البقر اثنين وعشرين ألفا ومن الغنم مائة ألف وعشرين ألفًا).
بعض ما ورد في القرآن الكريم
(وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) البقرة 196
الزكاة
بعض ما ورد في الكتاب المقدس
ورد في سفر العدد الإصحاح 31 الفقرة 37، 38:
(وكانت الزكاة للرب من الغنم ست مائة وخمسة وسبعين والبقر ستة وثلاثين ألفا وزكاتها للرب اثنين وسبعين).
بعض ما ورد في القرآن الكريم
(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير) البقرة: 110
ولا تزر وازرة وزر أخرى:
بعض ما ورد في الكتاب المقدس
ورد في سفر حزقيال الإصحاح 18 الفقرة 20 إلى 22:
(الابن لا يحمل من إثم الأب والأب لا يحمل من إثم الابن).
بعض ما ورد في القرآن الكريم
(والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين) الطور:21
(ولا تزر وازرة وزر أخرى) فاطر: 18
عقيدة الأنبياء في الألوهية من آدم وحتى محمد
بعض ما ورد في الكتاب المقدس
ورد في سفر التكوين الإصحاح الثالث الفقرة 21 – 23(وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما.. وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد.. فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها).(5/109)
وورد في سفر التكوين في الإصحاح السادس الفقرة 11 – 13(وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلمًا.. ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه على الأرض.. فقال الله لنوح نهاية كل بشر قد أتت أمامي لأن الأرض امتلأت ظلما منهم فها أنا مهلكهم مع الأرض.. اصنع لنفسك فلكًا…).
وورد في سفر التكوين الإصحاح 18 الفقرة 17 – 19(فقال الرب هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله.. وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع أمم الأرض.. لأني عرفته لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا برًا وعدلاً لكي يأت الرب لإبراهيم ما تكلم به…).
وورد في سفر أيوب الإصحاح 1 الفقرة 1(كان رجل في أرض عوص اسمه أيوب وكان هذا الرجل كاملاً ومستقيمًا يتقي الله ويحيد عن الشر…)
وورد في سفر التكوين الإصحاح 32 الفقرة 9(وقال يعقوب يا إله أبي إبراهيم وإله أبي إسحاق الرب الذي قال لي ارجع إلى أرضك وإلى عشيرتك فأحسن إليك…).
وورد في سفر التكوين الإصحاح 39: 2- 3(وكان الرب مع يوسف فكان رجلاً ناجحًا وكان في بيت سيده المصري ورأى سيده أن الرب معه وأن كل ما يصنع كان الرب ينجحه بيده…).
وورد في سفر الخروج الإصحاح الثالث: 1 – 6(وأما موسى فكان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مديان فساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب.. وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق.. فقال موسى أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم لماذا لا تحترق العليقة.. فلما رأى الرب أنه مال لينظر ناداه الله من وسط العليقة وقال موسى موسى فقال هاأنذا.. فقال لا تقترب إلى هاهنا اخلع حذاءك من رجليك لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة.. ثم قال أنا إله أبيك إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب…)
وورد في سفر الخروج الإصحاح 34 الفقرة 14 حيث يخاطب الله موسى عليه السلام قائلا:(فإنك لا تسجد لإله آخر لأن الرب اسمه غيور إله غيور هو).
وورد في سفر التثنية الإصحاح الرابع الفقرة 35 حيث يخاطب الله موسى قائلا:(الرب هو الإله ليس آخر سواه).
وورد في سفر التثنية الإصحاح السادس الفقرة 4 حيث يخاطب موسى بني إسرائيل في أرض مواب قبل موته قائلا:(اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد).
وورد في إنجيل متى الإصحاح الرابع الفقرة 8 – 10(ثم أخذه أيضا إبليس إلى جبل عال جدا وأراه جميع ممالك الأرض ومجدها وقال له أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي حينئذ قال يسوع اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد).
وورد في إنجيل مرقس الإصحاح 12 الفقرة 28 - 29(فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله أي وصية هي أول الكل فأجابه يسوع إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد).
وورد في إنجيل يوحنا الإصحاح 1 الفقرة 18(الله لم يره أحد قط).
وورد في سفر التثنية الإصحاح الرابع الفقرة 39(فاعلم اليوم وردد في قلبك أن الرب هو الإله في السماء من فوق وعلى الأرض من أسفل ليس سواه).
بعض ما جاء في القرآن الكريم
(قل هو الله أحد.. الله الصمد.. لم يلد ولم يولد.. ولم يكن له كفوا أحد) سورة الإخلاص.
(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد)الكهف: 110
(وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) البقرة: 163
(الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض) البقرة: 255
(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) آل عمران: 18
(الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثًا) النساء: 87
(إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم) آل عمران: 62
(يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار.. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف: 39 – 40
(لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) المائدة 73
(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرًا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً) النساء: 177.
(وإلى ثمود أخاهم صالحًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) الأعراف: 159.(5/110)
(قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون) الأنعام: 19.
(ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل) الأنعام: 102
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم.. فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) التوبة: 128-129.
(لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) الأعراف: 59
(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين.. الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين.. فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون) يونس: 90 – 92
(ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) النحل: 2
(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) الأنبياء: 25
(قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين.. سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون..فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون..وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم) الزخرف:81 - 84
(وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا.. لقد جئتم شيئا إدًا.. تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا.. أن دعوا للرحمن ولدا.. وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا.. إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) مريم 88 – 93
(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) آل عمران: 59
(وهل أتاك حديث موسى.. إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى.. فلما أتاها نودي يا موسى.. إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى.. وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى.. إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري…) طه: 9 - 14
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)آل عمران: 64 – 68(5/111)
(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) آل عمران: 42 – 51.(5/112)
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً(5/113)
لِّلْعَالَمِينَ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) الأنبياء: 48 – 92
قصص الأنبياء
الكتاب المقدس والقرآن الكريم يحفلان بذكر قصص الأنبياء، وإذا استفضنا في بيان القصص كما ورد في الكتاب المقدس وكما في القرآن الكريم لاحتاج ذلك إلى مجلدات ضخمة وجهود عظيمة.. لذلك سنكتفي هنا بذكر بعض المقتطفات البسيطة مما ورد عن قصة نبي الله يوسف في الكتاب المقدس وفي القرآن الكريم..
الكتاب المقدس
(ثم حلم أيضًا حلمًا آخر وقصه على إخوته فقال إني قد حلمت حلمًا أيضًا وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا ساجدة لي) التكوين 37: 9
القرآن الكريم
(إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين)يوسف: 4
الكتاب المقدس
(فقال بعضهم لبعض هو ذا صاحب الأحلام قادم..فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول وحش رديء أكله فنرى ماذا تكون أحلامه.. فسمع راوبين وأنقذه من أيديهم وقال لا نقتله.. وقال لهم راوبين لا تسفكوا دمًا اطرحوه في هذه البئر التي في البرية ولا تمدوا إليه يدًا لكي ينقذه من أيديهم ليرده إلى أبيه.. فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه القميص الملون الذي عليه.. وأخذوه وطرحوه في البئر أما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء) التكوين37: 19 – 27
القرآن الكريم
(إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين.. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين.. قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين) يوسف: 8 – 10
الكتاب المقدس
(فأخذوا قميص يوسف وذبحوا تيسًا من المعزى وغمسوا القميص في الدم.. وأرسلوا القميص الملون وأحضروه إلى أبيهم وقالوا وجدنا هذا حقق قميص ابنك هو أم لا) 37: 31 – 32
القرآن الكريم
(وجاءوا أباهم عشاء يبكون.. قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين.. وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) يوسف: 16 – 18
الكتاب المقدس
وأما المديانيون فباعوه لفوطيفار خصي فرعون رئيس الشرطة… وحدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف وقالت اضطجع معي.. فأبى وقال لامرأة سيده هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت وكل ما له قد دفعه إلى يدي.. ليس هو في هذا البيت أعظم مني ولم يمسك عني شيئا غيرك لأنك امرأته فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطىء إلى الله) التكوين39:7 – 9
القرآن الكريم
(وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) يوسف: 19 – 23
الكتاب المقدس
(فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة دخل إلي العبد العبراني الذي جئت به إلينا ليداعبني… فأخذ يوسف سيده ووضعه في بيت السجن المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه وكان هناك في بيت السجن) التكوين 39: 17 – 20
القرآن الكريم
(قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين.. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم.. ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين) يوسف: 33 – 35
الكتاب المقدس(5/114)
(وحدث بعد هذه الأمور أن ساقي ملك مصر والخباز أذنبا إلى سيدهما ملك مصر.. فسخط فرعون على خصييه رئيس السقاة ورئيس الخبازين.. فوضعهما في حبس بيت رئيس الشرط في بيت السجن المكان الذي كان يوسف محبوسا فيه… وحلما كلاهما حلما في ليلة واحدة كل واحد حلمه كل واحد بحسب تعبير حلمه ساقي ملك مصر وخبازه المحبوسان في بيت السجن … فقص رئيس السقاة حلمه على يوسف وقال له كنت في حلمي وإذا كرمة أمامي.. وفي الكرمة ثلاثة قضبان وهي إذا أفرخت طلع زهرها وأنضجت عناقيدها عنبا.. وكانت كأس فرعون في يدي فأخذت العنب وعصرته في كأس فرعون وأعطيت الكأس في يد فرعون.. فقال له يوسف هذا تعبيره الثلاثة قضبان هي ثلاثة أيام.. في ثلاثة أيام أيضا يرفع فرعون رأسك ويردك إلى مقامك فتعطي كأس فرعون في يده كالعادة الأولى حين كنت ساقيه..وإنما إذا ذكرتني عندك حينما يصير لك خير تصنع لي إحسانا وتذكرني لفرعون وتخرجني من هذا البيت… فلما رأى رئيس الخبازين أنه عبر جيدا قال ليوسف كنت أنا أيضا في حلمي وإذا ثلاثة سلال حواري على رأسي.. وفي السل الأعلى من جميع طعام فرعون من صنعة الخباز والطيور تأكله من السل عن رأسي.. فأجاب يوسف وقال هذا تعبيره الثلاث سلال هي ثلاثة أيام.. في ثلاثة أيام أيضا يرفع فرعون رأسك عنك ويعلقك على خشبة وتأكل الطيور لحما عنك… ولكن لم يذكر رئيس السقاة يوسف بل نسيه) التكوين 40: 1 – 23
القرآن الكريم
(ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين)يوسف: 36
(يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان.. وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين) يوسف: 41 – 42
ثم يشرح بعد ذلك الكتاب المقدس رؤيا الملك للسبع بقرات السمان والعجاف والسبع سنبلات الخضر واليابسات ويحكي القصة بإسهاب شديد في إصحاح كامل 42: 1 – 57 وهي كما وردت في القرآن الكريم ولكن القرآن يلخصها بأسلوبه البليغ وبيانه المعجز في بضعة سطور فيقول:
(وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.. قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.. وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويل فأرسلون.. يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون.. قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون.. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون.. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) يوسف: 43 – 49 ثم يستمر الكتاب المقدس في سرد القصة كاملة إلى نهايتها كما وردت في القرآن الكريم...
ومما سبق جميعًا يتبين لنا أن منبع الوحي ومصدر الرسالات جميعًا هو من عند الله الواحد.. فهذا ما أعطاه الله للأنبياء،وما أعطاه لعبده ورسوله محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم -، ومن هنا تظهر لنا الحكمة الإلهية العظيمة في أن يكون آخر الأنبياء وصاحب الرسالة الخاتمة الجامعة لكل ما قبلها لا يقرأ ولا يكتب، وذلك حتى لا يرتاب المبطلون، ولا يتشكك المتشككون.. فأنى لمن لا يقرأ ولا يكتب أن يطلع على تاريخ الأمم وميراث الأنبياء إلا أن يكون الصادق المصدوق، الذي رفع الله قدره فأكرمه بوحي السماء، وأفاض عليه من نعمه فجعله خاتم الأنبياء.. فكان فضل الله عليه وعلينا جليلا.. وخيره مسبغا وجزيلا.. فالحمد لله رب العالمين بأن هدانا للحق المبين.. وله الحمد في الأولى والآخرة بأن شرفنا بإمام النبيين..
(وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون) العنكبوت:48
(وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) النساء: 113
(فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين) الجاثية:36
المسيحية والعلمانية والإسلام:
العلمانية كخطر عظيم يتهدد حاضرنا ومستقبلنا - أمر لابد من ذكره في كل موقف، والتنويه عنه في كل مناسبة، بل إن الكلام ينبغي أن يدفع دفعا، ويساق سوقًا، من أجل التطرق إليها، وبيان ما تحويه من أخطار، وما تضمره من أحقاد، على الدين والمتدينين.
فلو صنف عاقل بأمور الدين، أو خبير بشئون المسلمين - الأخطار التي تهدد ديننا الحنيف، لوضع العلمانية في مقدمة ذاك التصنيف..(5/115)
والعلمانية هي دعوة إلى اللا دينية أو الدنيوية، وهى تهدف في المقام الأول إلى فصل الدين عن جميع مناحي الحياة، وللأسف الشديد فإن للعلمانية الآن أنصارًا يروجون لأفكارها، ويدعون لاعتناقها مدعين أنها الحل الأصلح لكل المشاكل، والمخرج الأوحد من كل المآزق؛ وهم يسخرون في سبيل ذلك كل الإمكانيات من إعلام مسموع ومقروء وغير ذلك، غير مبالين بدين، ولا معتبرين لعقائد المسلمين.
ويدعى دعاة العلمانية أن الدين ليس إلا علاقة سرية ورباط خاص بين المرء وخالقه، وأن هذه العلاقة لا تتعدى إلى حدود المجتمع، أو نظم المعيشة، أو أساليب الحكم، أو غير ذلك من مختلف وجوه الحياة.
ولقد ظهرت العلمانية في أوروبا في القرن السادس عشر كوسيلة للتخلص من حكم رجال الكنيسة وتسلطهم على المجتمع.
فقد اتهم رجال الكنيسة كل من يقترف جريمة العلم بالهرطقة، وكل من يرتكب رذيلة البحث التجريبي بالكفر والإلحاد والخروج عن الدين.
وتم إنشاء محاكم التفتيش في أوائل القرن الثالث عشر، واستمرت إلى القرون التالية، وكان هدف هذه المحاكم محاربة الهرطقة في أنحاء العالم المسيحي، وكان الناس يساقون سوقا إلى محاكم التفتيش عن طريق الشبهة فقط أو عن طريق وشاية من أحد الجيران، وكان الواحد منهم يضرب حتى يعترف بذنبه فإذا لم يعترف نقل إلى مرحلة أعلى من التعذيب الجسدي، فإذا أصر على رأيه ورفض التراجع عن أفكاره كان يرمى في المحرقة!!
ويلخص لنا الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه(ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) تلك الملابسات التي أدت إلى فصل الدين عن الحياة في أوروبا ويصف مقدماتها ونتائجها فيقول:(5/116)
(.. ولكن من أعظم أخطاء رجال الدين في أوروبا، ومن أكبر جناياتهم على أنفسهم وعلى الذين كانوا يمثلونه، أنهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة. معلومات بشرية، ومسلمات عصرية، عن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية، ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال الدين ذلك العصر، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني … وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه عمر البشر فإنه لا يؤمن عليه التحول والتعارض. فإن العلم الإنساني متدرج مترق، فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصرا على كثيب مهيل من الرمل. ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة ولكنه كان أكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين فإن ذلك كان سببا للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم، الذي انهزم فيه الدين. ذلك الدين المختلط بعلم البشر، الذي فيه الحق والباطل، والخالص والزائف..هزيمة منكرة، وسقط رجال الدين سقوطا لم ينهضوا بعده. وشر من ذلك وأشأم: أن أوروبا أصبحت لا دينية… ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة. بل درسوا كل ما تناقلته الألسنة، واشتهر بين الناس، وذكره بعض شراح التوراة والإنجيل ومفسريهما من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية. وصبغوها صبغة دينية، وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها، ونبذ كل ما يعارضها وألفوا في ذلك كتبا وتآليف وسموا هذه الجغرافيا التي ما أنزل الله بها من سلطان: الجغرافيا المسيحية … وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوروبا، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني. فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب وانتقدوها في صرامة وصراحة، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب؛ وأعلنوا اكتشافاتهم واختباراتهم. فقامت قيامة الكنيسة، وقام رجالها المتصرفون في زمام الأمور في أوروبا وكفروهم، واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي وأنشأوا محاكم التفتيش… ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفا أحياء! كان منهم العالم الطبيعي المعروف(برونو)، وكذلك عوقب العالم الطبيعي الشهير(جالليو) لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس!… هنالك ثار المجددون المتنورون، وعيل صبرهم، وأصبحوا حربا لرجال الدين وممثلي الكنيسة، والمحافظين على القديم، ومقتوا كل ما يتصل بهم، ويعزى إليهم، من عقيدة، وثقافة، وعلم، وأخلاق، وآداب، وعادوا الدين المسيحي أولا، والدين المطلق ثانيا، واستحالت الحرب بين زعماء العلم والعقلية وزعماء الدين المسيحي حربا بين العلم والدين مطلقا! وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان، وأن العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان؛ فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر ومن آمن بالأول كفر بالثاني. وإذا ذكروا الدين ذكروا تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق، وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم، وتمثل لأعينهم وجوه كالحة عابسة وجباه مقطبة، وعيون ترمي بالشرر، وصدور ضيقة حرجة، وعقول سخيفة بليدة؛ فاشمأزت قلوبهم؛ وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلاء، وكل ما يمثلونه، وتواصوا به، وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم!… ولم يكن عند هؤلاء الثائرين من الصبر والمصابرة على الدراسة والتفكير، ومن الوداعة والهدوء، ما يميزون به بين الدين، ورجاله المحتكرين لزعامته، ويفرقون به بين ما يرجع إلى الدين من عهدة ومسئولية. وما يرجع إلى رجال الكنيسة من جمود واستبداد وسوء تمثيل، فلا ينبذوا الدين نبذ النواة.. ولكن الحفيظة وشنآن رجال الدين، والاستعجال.. لم يسمح بالنظر في أمر الدين والتريث في شأنه..كغالب الثوار، في أكثر العصور والأمصار!!!)).
كانت تلك هي الظروف والملابسات التي ظهرت فيها العلمانية، والتي تم فيها فصل الدين عن جميع مناحي الحياة..
أضف إلى ذلك العداوة المستمرة بين المذهب البروتستانتي والمذهب الكاثوليكي، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من معتنقي الطائفتين، والتي كانت أحد الأسباب التي دفعت العلمانية إلى الظهور لوقف المذابح المستمرة بين الطائفتين إذا كانت إحدى الطائفتين على رأس الحكم في الكنيسة.
ولكن على الجانب الآخر فإن الإسلام بريء تمامًا مما اتهمت به المسيحية من تحدى العلم واتهام العلماء بالهرطقة.
فالإسلام لم يحارب العلم يومًا، ولم يقف أبدًا في طريق العلماء، بل إن القرآن يأمرنا دائمًا بالتأمل والتفكر وإعمال العقل، والنظر والتدبر في ملكوت السماء والأرض:
(إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون). البقرة:164(5/117)
(وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسى وأنهارًا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). الرعد:3
(إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين.. وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون.. واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون..تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) الجاثية: 3 – 6
بل إن الله يخبرنا أن الإنسان كلما زاد علمه زادت خشيته(إنما يخشى الله من عباده العلماء). فاطر:281
والقرآن به من الآيات العلمية التي لم تكتشف إلا حديثا ما يحير القلوب ويأسر الألباب:
(وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) الفرقان: 53
(أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) الأنبياء: 30
(ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء) الأنعام: 125
وسنة نبينا-صلى الله عليه وسلم- عامرة بالأحاديث التي تحض على طلب العلم وتعلى من قدر العلماء:
(اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد).
(العلماء ورثة الأنبياء).
(من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة)
(طلب العلم فريضة على كل مسلم)…
هذا بالنسبة للعلم، أما أمر الطوائف المتناحرة والتيارات المتنازعة مما عرفته المسيحية- فليس له مثيل ولا نظير في الإسلام، بل إن الإسلام الحنيف ينهانا عن إيذاء أهل الكتاب إذا لم يتعرضوا للمسلمين بالقتال أو يخرجوهم من ديارهم، بل إنه يدعونا للإحسان إليهم والبر بهم:(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين). الممتحنة:8
إذن فالعلمانية قد ظهرت في الأساس للقضاء على مشكلة تسلط الكنيسة واضطهادها للعلم، وانفراد رجال الدين المسيحي بالحكم.. وهذا الدافع لا يمكن أن يحمل على الدين الإسلامي بحال من الأحوال..
فليس في الإسلام سلطة مطلقة لرجال الدين دون غيرهم، بل إن كل مسلم ينبغي أن يكون رجل دين ودولة معا، وفى ذلك يقول السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله:
((ليس في الإسلام ما يسمى بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه، ولكن الإسلام دين وشرع قد وضع حدودا ورسم حقوقا، والحاكم مكلف بإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق، أي أن له سلطة تنفيذية فقط، وهو ليس بالمعصوم وليس بمهبط الوحي ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط بين الحاكم عند المسلمين بما يسمى (بالإفرنجثيوقراطيا) أي السلطان الإلهي، فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقى الشريعة من الله وله حق الأثرة بالتشريع وله في الرقاب حق الطاعة)).
- كما أن الهدف الذي أرسل المسيح عليه السلام من أجله كان تهذيب النفوس، والسمو بالأخلاق، وإصلاح ما أفسدته الخراف الضالة من بيت بني إسرائيل؛ فالمسيحية لم تكن مشتملة على أساليب للحكم، أو نظام للمجتمع، وإنما كانت وسيلة لإصلاح النفوس، وتهذيب الأخلاق.
أما الإسلام فإنه كما يعنى بالجانب الروحي والخلقي؛ فإنه يضع أيضًا نظامًا للمجتمع، ويقنن أساليب للحكم، ويحدد وسائل للتعايش بين مواطنيه وبين مواطني الأديان الأخرى، ويكفل لجميع رعاياه الأمن والحماية وحرية العقيدة؛ فالإسلام كيان اجتماعي متكامل أنزله الله لكي يتمم به الشرائع ويصلح به كل زمان ومكان..
أضف إلى ذلك أن الجهل الذي كانت تعيشه البشرية في أيام المسيحية الأولى، وضيق الأفق الذي كانت تعانيه - لم يؤهل المسيحية لأن تكون أكثر من رسالة لتهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق؛ فلما جاء الإسلام بعد ستة قرون من الزمان كان العقل البشري قد تطور، والمستوى الفكري قد تقدم، وأصبحت البشرية مؤهلة لتلقى الشريعة الكاملة المتممة لجميع الشرائع.
ولو أدركنا ذلك جيدًا لفهمنا قول المسيح عليه السلام لتلاميذه قبل أن يرحل:
((إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن وأما متى جاء ذاك روح الحق هو يرشدكم إلى جميع الحق)).
ولذلك أيضا فإن بعض ما اشتملت عليه المسيحية من تعاليم لم يكن صالحًا للتطبيق إلا في زمن المسيح عليه السلام والأجيال التي بعده؛ فالمسيحية تجعل الزواج مثلاً رباطًا أبديًا لا يمكن حله، وتقول أن ما جمعه الله لا يمكن أن يفرقه بشر؛ ولقد أدى تعنت رجال الدين المسيحي في هذا الأمر إلى انهيار خطير في بناء الأسرة؛ وذلك لأنه إذا استحالت العشرة بين الزوجين مع استحالة الانفصال بينهما فإن ذلك يؤدى إلى إنشاء علاقات محرمة خارج نطاق الأسرة.
وذلك بعكس الإسلام الذي أباح الطلاق ولم يجعل الزواج رباطًا أبديًا بين الزوجين إذا استحالت العشرة بين الزوجين؛ وبذلك فإن الإسلام كما شرع الزواج فقد شرع الطلاق أيضًا، وما جمعه الله فالله أيضا يفرقه.(5/118)
وهكذا ندرك أن السبب الذي دفع العلمانية للظهور في المجتمع الأوروبي ليس له ما يبرره على الإطلاق في البلاد الإسلامية..
لكن الذي حدث أن نفرًا من بنى جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا - قد حكموا على الإسلام بما حكم به على المسيحية؛ فاعتنقوا العلمانية وأصبحت اللا دينية هي دينهم!!.
وهؤلاء النفر إما من المثقفين الذين تلقوا تعليمًا غربيًا علمانيًا ولم يتلقوا بجانبه تعليمًا إسلاميًا وكانوا بمعزل عن الإسلام وتعاليمه ومنهجه، وإما من هؤلاء الذين بهرتهم أضواء الغرب وحضارته مع إيمانهم العليل بالله وعلمهم الضئيل بدينه، وإما من هؤلاء الذين يبيعون أي شئ بأي ثمن حتى لو كان دينهم وتراث أمتهم..
ثم هم يطلبون منا بعد ذلك أن تكون علاقتنا بربنا علاقة سرية؛ فلا نسمح لتشريعاته بدخول المحاكم، ولا لتاريخ دينه وسيرة رسوله بدخول المدارس، ولا لتعاليمه بأن تسود المجتمع!!.
فهل ينتظر منا هؤلاء أن نسمع لهم ونقبل فكرهم؟!
وهل يأملون في أن نترك ديننا الحق ونؤمن بما يعتنقوه؟!
لقد أنعم الله علينا بالإسلام، وأرشدنا به إلى سبل السلام؛ فكيف بنا بعد ذلك نعصى أمره، ونهمل شرعه، ونجحد حكمه؟!!
والله قد أنزل إلينا كتابًا كي نبصر في نوره، ونسير في إشراقه؛ فهل نحيا بشرعه ونحكم بحكمه، أم نحكم عليه بالهجران وعلى أنفسنا بالخسران؟!
كيف والله تعالى يقول:(لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم..أفلا تعقلون؟!!)؟!!الأنبياء: 10
لا نفرق بين أحد من رسله:
قال الله تعالى:(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير). البقرة:285
لقد من الله علي الناس بأن عرفهم بنفسه، وأفاض عليهم من كرمه بأن هداهم إلى عبادته؛ فهو الواحد الأحد المعبود بحق الذي ليس له مثيل ولا نظير.
ولقد ابتعث الله الرسل من أجل هذه المهمة العظيمة.. وهي تعريف الناس بربهم خالق السماوات والأرض.. لكي يعبدوه وحده.. حتى يخرج الناس من الحيرة إلى الاطمئنان.. و من الشرك والكفر إلى الإيمان..
فالرسل في مجملهم قد بعثوا للقيام بمهمة واحدة؛ وهي هداية الناس إلى الله الواحد؛ فمن آدم أبو البشر وحتى محمد خاتم الأنبياء كان القصد هو التوحيد والأخذ بأيدي الناس إلى طريقه السديد؛ فما أتى به نوح عليه السلام لا يختلف عما أتى به إبراهيم، وما أتى به إبراهيم لا يختلف عما أتى به موسى، وما أتى به موسى لا يختلف عما أتى به عيسى، وما أتى به عيسى لا يختلف عما أتى به محمد- عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين-
(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه). الشورى:13
لذلك فالله عز وجل ينهانا عن أن نفرق بين أحد من رسله؛ فالكل هدفهم واحد، والكل غايتهم واحدة، وهي عبادة الله الواحد.
بل إنه لا يتصور أن تختلف دعوات الأنبياء في شأن العقيدة؛ لأن أمور العقيدة من نوع الإخبار، والإخبار عن شئ لا يمكن أن يختلف ما بين مخبر وآخر إذا فرضنا الصدق في خبر كل منهما؛ فمن غير المعقول مثلا أن يدعو إبراهيم قومه لترك عبادة الأصنام وعبادة الله وحده، ويأتي موسى ليخرج بني إسرائيل من مصر لكي يعبدوا الإله الواحد رب آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ثم يأتي عيسى بعد ذلك ليقول أن الله ثالث ثلاثة!!؛ وذلك لأن عقيدة الألوهية لا يمكن أن تتغير من نبي لآخر، بل لا يمكن أن يأتي بها أحد الأنبياء ناقصة أو غير واضحة ثم يأتي نبي من بعده لكي يكملها أو يبينها..
هل يعقل أن جميع الأنبياء قبل المسيح قد عاشوا وماتوا دون أن يعرفوا حقيقة الإله الذي أرسلهم، وأفنوا حياتهم في سبيل نصر دعوته، وإعلاء كلمته، وإظهار رايته؟!!
وذلك ينطبق على أمور العقيدة ولا ينطبق على أمور التشريع التي تختلف من زمن لآخر؛ فالتشريع من نوع الإنشاء وليس من نوع الإخبار.. لذلك بعث جميع الأنبياء بعقيدة واحدة ولكن اختلفت التشريعات بنسب متفاوتة فيما بين الرسل.. فعيسى جاء مصدقا لعقيدة موسى ومتمما لشريعته.. ومحمد جاء مصدقا لعقيدة عيسى ومتمما لشريعته ومتمما لكل الشرائع، فهو النبي الخاتم صاحب الشريعة الخاتمة – صلى الله عليه وسلم -.
والرسل إذ يعلموننا ويأخذون بأيدينا لا يدعون أبدا أنهم أكثر من بشر، أو أنهم خلق خاص من طينة مختلفة، أو من جنس مميز عن باقي البشر؛ فالله قد أمر عبده ورسوله محمد:(قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد). الكهف:110
ويسأل عيسى المسيح وهو أعلم بما في نفسه(وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) المائدة:116(5/119)
ونحن كبشر متلقين لدعوة المسيح عليه السلام ولدعوة محمد صلى الله عليه وسلم ولدعوة الرسل أجمعين ينبغي علينا ألا نتحزب لأحد أو نتعصب لأحد من دون الله؛ فمحمد –صلى الله عليه وسلم-لا يملك من أمرنا شيئا بل هو لا يملك من أمر نفسه شيئا صلى الله عليه وسلم فهو يقول لابنته(يا فاطمة اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئًا)، وكذلك المسيح عيسى عليه السلام:(قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا، ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء، والله على كل شئ قدير).. وكذلك جميع الرسل:
والإسلام الحنيف أمرنا بأن نؤمن بجميع المرسلين، وأن نؤمن بعيسى المسيح كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه، وأمرنا بأن نؤمن بميلاده المعجز من غير أب، وبنهايته المعجزة بأن رفعه الله إليه.. بل إن المسلم لا يكون مسلمًا إلا إذا آمن بما سبق عن المسيح عليه السلام.
فكل إنسان ينبغي ألا ينشغل إلا بأمر نفسه؛ لأن أحدًا لن يحمل عنه وزره، ولن يدرأ عنه ذنبه، وإنما يفعل ذلك الإيمان بالله وحده، وأتباع أمره، واجتناب نهيه.. لذلك يقول القرآن الكريم(كل امرئ بما كسب رهين)، ويقول أيضًا(كل نفس بما كسبت رهينة) ويقول أيضًا(ولا تزر وازرة وزر أخري).
وفي هذا الشأن يقول الكتاب المقدس(الآباء لا يموتون من اجل الأبناء ولا الأبناء يموتون من أجل الآباء كل يموت من أجل خطيئته).
هذا ما علمنا الله وهذا ما علمنا الإسلام وهذا ما علمنا محمد صلى الله عليه وسلم وما علمنا المسيح عليه السلام وما علمنا الرسل جميعا.
فهل تنبهنا لهذا الأمر؟
وهل نصطلح مع الله خالقنا؟
وهل نترك كل هوي ونتجنب كل ميل ونطرح كل تعصب من أجل الله الواحد الأحد؟
وهل يثوب المسلمون إلى الله خالقهم فنصنع ما صنعه آباؤنا من أجل نصره وإعلاء شرعه بعد أن تهنا في الطرق وتفرقت بنا الدروب والسبل؟!
فذاك حالنا لا يثبت إلا أننا عن سبيل الله قد بعدنا، وعن هدي محمد قد شردنا، وعن نهج الإسلام قد زغنا وحدنا؛ وأن الدنيا قد شغلتنا، وألهانا طول الأمل؛ فأصابانا الوهن، وصرنا نهبا للأمم، وهدفا للطامعين من كل الملل..
قد استرد السبايا كل منهزم لم تبق في أسرها إلا سبايانا
وما رأيت سياط الظلم دامية إلا رأيت عليها لحم قتلانا
ولا نموت علي حد الظبا أنفا حتى لقد خجلت منا منايانا
أيها المسلمون، رسولكم قد فاق مجده العلا، وذكره قد جاوز المدى، وتكريم الله له لا يخفى على ذوي العقول والحجى؛ فمحمد الذي أتى ذكره في الأولين، وبقي ذكره في الآخرين، - يستحق منكم أن تتبعوه، وتتبعوا النور الذي أنزل معه، وتتركوا كل متع الدنيا الزائلة، والأماني الباطلة.. من أجل نشر دعوته، واعلاء رسالته..
فلقد حملكم نبيكم أكبر الأمانات… فهل أديتموها؟!
وأورثكم أعظم الرسالات… فهل حافظتم عليها؟!
ومن بين ضلال العالم قد عرفكم الحق… فهل عشتم للحق؟!!
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب).
(ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين).
ـــــــــــ
الهوامش:
(1) راجع معجم البلدان الجزء الثالث باب حرف الفاء
(2) اختلفت المصادر في تحديد موقع سعير؛ فمعجم بلدان فلسطين يفرق بين ساعير وسعير، فيقول عن ساعير هي من حدود الروم وهي قرية من الناصرة بين طبرية وعكة،ويقول عن سعير هي قرية على مسافة 8 أكيال شرق الخليل وعلى مسافة 3 أكيال شرق حلحول وتشتهر بزراعة التين والزيتون؛ ويقول الهروي المتوفى سنة 611 هـ أن ساعير جبل قريب من الناصرة، وذكر شيخ الربوة المتوفى سنة 727 هـ في كتاب نخبة الدهر في عجائب البر والبحر أنها جبال الناصرة، وقال صاحب نهاية الأرب في فنون الأدب أن ساعير جبال بالشام ظهرت منها نبوة عيسى عليه السلام وهي قريبة من = الناصرة وتقول المصادر الحديثة التي تتحدث عن جغرافية فلسطين أنه جبل من جبال الخليل ، والكتاب المقدس يطلق لفظ سعير في بعض النصوص على جبل بالأردن ويطلقه في بعض النصوص الأخرى على جبل بفلسطين في أرض يهوذا(يشوع 15: 10)، ويقصر علماء أهل الكتاب من النصارى الذين تعرضوا للنبوءة السابقة إطلاق لفظ سعير على جبل بالأردن، لكني أحسب أن الجميع لن يختلف في أن شخصًا ما لو خرج من مصر باتجاه فلسطين فلابد له أن يمر أولا بفاران التي تقع شمال سيناء قبل أن يمر بجبل سعير سواء كان يقع في فلسطين أو في الأردن!!!!(5/120)
(3) الحق هو أن فاران كما تطلق على مكة فهي تطلق أيضًا على برية قرب سيناء والتي تعرف اليوم بوادي فيران، وأيضا على قرية من أعمال سمرقند، وبعد مزيد من البحث من خلال شبكة الاتصالات الدولية تبين أن فاران تطلق أيضًا على قرية معروفة موجودة الآن في دولة البحرين بالجزيرة العربية، وأيضا تطلق على نظام نجمي في مجرة درب التبانة!، وبالإطلاع على الخرائط القديمة التي وضعها الإدريسي وجدنا فاران اسم لموضع قريب من أسوان!.. والعبرة في معرفة المكان المقصود في النص التوراتي تحديدا هو سياق النص نفسه، والكتاب المقدس في سفر التكوين 25: 16- 18 يوضح أن سكن إسماعيل عليه السلام وبنيه قد امتد من حويلة إلى شور(هؤلاء هم أبناء إسماعيل…وسكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر) ، وحويلة كما يقول قاموس الكتاب المقدس هي أرض في بلاد العرب السعيد(أرابيا فليكس) أو اليمن، وشور أرض شمال مصر وجنوب فلسطين، وابتداء الكتاب المقدس بذكر حويلة قبل شور يؤكد أن هذا المكان كان مهد نشأتهم وأنهم انتشروا بعد ذلك إلى الشمال حتى وصلوا إلى شور = جنوب فلسطين، وعليه فإن إسماعيل وبنيه قد سكنوا في تلك البلاد الممتدة جنوب الحجاز وشماله، ولقد قامت الأدلة التاريخية على ذلك منها بناء إسماعيل وأبيه إبراهيم البيت الحرام بمكة وتفجر بئر زمزم من تحت قدمي إسماعيل مما يؤكد أن فاران التي سكنها إسماعيل هي الصحراء التي بها مكة المكرمة..وهذا ما اعترف به عدد من المؤرخين منهم المؤرخ جيروم والمؤرخ اللاهوتي يوسبيوس.
(4) نسبة بناء البيت الحرام بمكة إلى إبراهيم وإسماعيل أمر ثابت قد توارثه أهل مكة جيل بعد جيل ولم يخالف في ذلك أحد منهم ، كما أن حفظ الله للبيت الحرام من أبرهة صاحب الفيل وجيوشه وإرساله عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل - أمر ثابت أيضًا ولا يمكن النزاع فيه لأن تلك القصة قد حدثت في عهد عبد المطلب جد الرسول في عام مولد الرسول صلى الله عليه وسلم والذي سمي بعام الفيل، وهذه القصة مذكورة في القرآن الكريم بعد 40 سنة فقط من حدوثها، أي أن الكثير من أهل الكتاب ومن أهل مكة الذين عاصروا حادثة الفيل كانوا موجودين أثناء نزول السورة ولم يعترض أو يخالف منهم أحد وعليه فإن حفظ الله للبيت الحرام بمكة هو أمر ثابت تاريخيا لا يمكن النزاع فيه.
(5) ادعى مونتوس في القرن الثاني الميلادي أنه هو البارقليط القادم؛ وادعى ماني نفس الإدعاء في القرن الرابع الميلادي وتشبه بالمسيح فاختار اثنا عشر تلميذًا وسبعين أسقفًا أرسلهم إلى بلاد المشرق؛ ولو كان فهم النصارى الأوائل للبارقليط على أنه الروح القدس لما جرؤ أحدهم أو حتى خطر بباله هذا الإدعاء ولقد ذكر أدوين جونس في كتابه نشأة الديانة المسيحية أن النص الذي يتحدث عن البارقليط هو تبشير بمحمد وأن المسيحيين قد أدخلوا هذا النص في إنجيل يوحنا خطأ وجهلا منهم بعد ظهور الإسلام وتأثرهم بالثقافة الإسلامية!!!
(6)لمزيد من المعلومات التاريخية عن جبل سلع بالمدينة يمكنك الرجوع إلى معجم البلدان 3/236؛ الرحيق المختوم333؛ وفاء الوفا4/1235؛ عمدة الأخبار337؛ تاريخ معالم المدينة قديمًا وحديثًا22.(7) كما أن النص السابق ينطبق على النبي – صلى الله عليه وسلم- ورسالته إذ أن كل الصفات منطبقة عليه تمامًا ولا يمكن حملها على أحد غيره، فبنفس القوة أيضا ينتفي أن يكون النص يشير للمسيح عليه السلام إذ لا يمكن بحال من الأحوال حمل الصفات الواردة في النص عليه.. وبرغم ذلك فقد ورد في الإنجيل أن النص السابق يخص المسيح عليه السلام!!، فقد ورد في إنجيل متى 12: 17(لكي يتم ما بإشعياء النبي القائل هو ذا فتاي الذي اخترته حبيبي الذي سرت به نفسي وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم).. ويبدو أن كاتب الإنجيل تحرج من استخدام كلمة(عبدي) التي وردت في سفر أشعياء فاستبدلها في إنجيل متى بكلمة(فتاي)!!...... فهل يخرج علينا بعد ذلك من أهل الكتاب من ينكر تحريف الأناجيل؟!!.. وبعد قراءة النص السابق القاطع بنبوة الرسول –صلى الله عليه وسلم-.. هل سيتدبرون القرآن؟!.. أم ما زالت على قلوب أقفالها؟!!
(8)راجع الرحيق المختوم 415
(9)القصة بطولها في صحيح البخاري كتاب الأنبياء1/447
(10) لا أرى تفسيرا لجملة(تتحول إليك ثروة البحر) إلا تلك الكنوز البترولية الضخمة النائمة في قاع البحر الأحمر والخليج العربي والتي حولت الجزيرة العربية من صحراء قاحلة إلى بقعة تعج بالأموال والثروات.
(11) نفس الصفة وردت في نبوءة إشعياء التي كانت تتحدث عن أرض الله الجديدة وعن نبي آخر الزمان..وهذه الصفة التي تشير إلى القوة المادية التي سيؤيد بها النبي بجانب القوة الروحية وهداية الناس مقترنتان تقريبا في كل النصوص، فهل ذلك من قبيل المصادفة أيضا؟!
المصادر
1- القرآن الكريم.
2- الكتاب المقدس، النسخة العربية؛والنسخة الإنجليزية(نسخة الملك جيمس المعتمدة).(5/121)
3-صحيح البخاري، الإمام:محمد بن إسماعيل البخاري.
4- مبشرات الرسالة، الشيخ عبد المجيد الزندانى.
5- الجواب الصحيح، شيخ الإسلام ابن تيميه.
6- قلب جزيرة العرب، فؤاد حمزة.
7- الرحيق المختوم، المباركفوري.
8-شبكة الاتصالات الدولية(موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، موسوعة كريستيانيتي، معجم الطرق القديمة، موسوعة ويكيبيديا، مؤسسة مانفريد ليهمان، موسوعة أيريدس،القاموس الإنجليزي للكتاب المقدس، موقع دراسات الكتاب المقدس، الموسوعة اليهودية جويش إنسيكلوبيديا، معجم بلاد فلسطين).
9- هداية الحيارى، ابن القيم.
10- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، أبو الحسن الندوي.
11- معجم البلدان، ياقوت الحموي.
64. ... النبوءات عن النبي محمد في التوراة والإنجيل
النبوءات عن النبي محمد في التوراة والإنجيل
الدكتور وديع أحمد (شماس مصري سابق)
من توراة موسى عليه السلام :
* جاء في كتاب ( تثنية 18:18) أن الله سبحانه وتعالى قال للنبي موسى ( أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم، مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به)
التعليق :
*هذا الكلام بشارة بمولد نبي من أخوة بنى إسرائيل- أي من بنى إسماعيل ولو كان المقصود نبي يهودي مثل المسيح لقال ( نبي منكم).
* وهذا النبي يكون مثل النبي موسى عليه السلام في كل شيء: يتزوج وينجب ويهاجر بشعبه من أرض الكفر بعد أن يتعرضوا للأذى منهم ويحارب الكفار ويهزمهم وتنزل عليه رسالة من السماء على فترات طويلة وقد كانت أربعين سنة للنبي موسى عليه السلام وأخيراً يموت ويدفن.
* وكل هذا ينطبق على النبي محمد ولا ينطبق على المسيح عيسى كما يحاول النصارى أن يؤكدوا، لأن المسيح لم يتزوج ولم يحارب ولم يهاجر ولم يدفن، بل رفعه الله إليه.
* كذلك يكون كلام الله في فم هذا النبي أي أنه نبي أمي يحفظ رسالته بينما المسيح كان معه إنجيلا كما قال عدة مرات مشيراً إليه بقوله ( هذا الإنجيل) في ( انجيل مرقص) بالذات.
------------
من مزامير داود النبي عليه السلام:
(مزمور 45) يتكلم النبي داود عن أعظم نبي سوف يأتي وقد أعلمه الله بصفات هذا النبي بالوحي فقال: ( فاض قلبي بكلام صالح، أتكلم بانشائى للملك، أنت أبرع جمالاً من بني البشر، انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد، تقلد سيفك أيها الجبار، بجلالك اقتحم، اركب من أجل الحق والدعة فتريك يمينك مخاوف، وشعوب تحتك يسقطون، كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك، بنات الملوك بين محظياتك)
تعليق :
* قال النصارى أن كل هذا الكلام أيضا عن المسيح، بينما هو لا يوافق عقيدتهم في عبادة المسيح لقول داود النبي( الله إلهك).
* أيضا هذا الكلام عن نبي يحارب أعداءه ويهزمهم بالسيف، ولم يظهر نبي بعد داود عليه السلام يحارب أعداءه بالسيف ويهزمهم شعوباً أخرى كثيرة سوى محمد صلى الله عليه وسلم.
* وأعطى تفسيراً سريعا لكلام النبي (داود) عن النبي (محمد) عليهما الصلاة والسلام :-
1- (الملك) هو أعظم نبي وخاتم الأنبياء ومثلها ( مسحك الله أكثر من رفقائك) أكثر من الأنبياء.
2- ( انسكبت النعمة على شفتيك) يحفظ رسالته من الوحي لأنه أمي ولا ينطق إلا حقاً ويعلم الناس القرآن بالحفظ أيضاً.
3- حارب الكفار ونصره الله بالرعب مسيرة شهر ( بجلالك اقتحم) وذلك لأجل نشر الدعوة إلى دين الله (الحق).
4- وتزوج من بنات العظماء والملوك (بنات الملوك من محظياتك).
5- رسالته تنمو دائماً (بارك الله إلى الأبد).
-------------
والنبي سليمان عليه السلام قال في مزمور (72) وأختصر منه بعض الكلمات:
" تحمل الجبال سلاماً للشعب.. يقضى لمساكين الشعب .. يسحق الظالم .. يشرق في أيامه الصديق وكثرة السلام. يملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض. أمامه تجثو أهل البرية. ملوك يقدمون هدية له. ويصلى لأجله دائماً. اليوم كله نباركه."
تعليق :
* هذا أيضاً حاولوا أن يجعلوه عن المسيح بزعم أن ( ملوك يقدمون هدية له ) تتكلم عن (المجوس) الذين قدموا هدية للمسيح بعد مولده . مع أنهم عبدة النار وليسوا ملوكاً ولكن كلام النبي سليمان- عن نبي يأتي في أرض الجبال والصحراء البرية ( ويملك ) أي يكون له نظام حكم وجيش وأمراء جيوش.
*كما أنه ( يقضى لمساكين الشعب ويسحق الظالم) بينما المسيح كان يرفض أن يحكم بين الناس وينصف الظالم ( انجيل لوقا 12/14).
* وفى أيامه أشرق ( الصديق) أبو بكر، وكانت تحيته (السلام) بينما تحية اليهود ( النعمة) وتحية النصارى ( سلام) وأمر أتباعه ( أفشوا السلام بينكم).
* كما امتد سلطانه في حياته من بحر العرب إلى البحر الأحمر، ودعوته انتشرت بعد موته بلا نهاية (إلى أقاصي الأرض)(5/122)
* وصلاة أتباعه – تتكون من ركوع والسجود ( أمامه تجثو أهل البرية) وكانوا ومازالوا يتبعون تعاليمه بكل احترام وخضوع ولا يجرؤ أحد أن يدعى أنه يتكلم بسلطان مثلما يفعل بطاركة وقساوسة النصارى واليهود .
* وقدم له الملوك في حياته الهدايا – ومنهم ملك مصر الذي أهداه ابنته وجاريتين.
* وكل لحظة يقول المسلمون – والى يوم القيامة ( اللهم صلى وسلم وبارك على محمد) – مثلما يقول النبي سليمان هنا ( ويصلى لأجله دائماً. اليوم كله يباركه)
* هل يوجد أهل دين – غير الإسلام – يقولون هذا عن نبيهم ؟ لا يوجد.
--------------
( اشعياء 21/13) كتب :
" وحى من جهة بلاد العرب : في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين. هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء. فإنهم من أمام السيف قد هربوا من أمام السيف المسلول. فانه هكذا قال لي السيد الرب: في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار لأن الرب تكلم"
الشرح والتعليق :
هذه النبؤة تتكلم عن العرب فلم يجرؤ النصارى أن يجعلوها عن المسيح، ولكن أهملوها ولم يحاولوا التفكير فيها – بينما هي تتكلم عن حادث عظيم يحدث في بلاد العرب والا ما استحق أن يتنبأ عنه اشعياء – أعظم أنبياء اليهود – وصاحب الإنجيل الخامس كما يقول علماء المسيحية.
1-( وحى من جهة بلاد العرب) يأتي الوحي إلى رجل من العرب ؛ أي يظهر نبي عربي.
2- ( الددانيين) هم نسل إبراهيم عليه السلام ( تكوين 25)
يذهبون في ( قوافل ) للحج إلى ( تيماء) مكان مولد النبي الجديد، وأهلها يقابلون الحجاج العطشان بالماء. وهذه إشارة إلى انتشار الإيمان من هذه الأرض .
3- ( يفنى مجد قيدار) و( قيدار) هو ابن إسماعيل عليه السلام. وهم سكان مكة وهذا دليل انتصار هذا النبي على قومه وخضوعهم له ويصير رئيسهم.
4- ( لأن الرب تكلم) لأن رسالة هذا النبي من عند الله، وتنتشر دعوة هذا النبي وينتصر لأن هذا أمر الله.
00000000000
النبي (حبقوق 3/2 ) يقول :
"يا رب قد سمعت خبرك فجزعت : الله جاء من تيمان. والقدوس من جبل فاران "
وسبب ( جزع) النبي اليهودي أنه علم أن خاتم الأنبياء سوف يأتي من نسل إسماعيل عليه السلام ( القدوس) من جبل فاران لأن ( فاران) هي أول أرض سكنها إسماعيل ( تكوين 21/21) و ( تيمان) هي أرض ابن إسماعيل ( تكوين 25/13) أو هي نسله فلما علم النبي اليهودي بأن خاتم الأنبياء وخاتم الرسالات يكونان من نسل إسماعيل عليه السلام جزع خوفا على اليهود وحزنا لأن النبي الخاتم ليس من
65. ... رسالة إلى العقل والقلب [دراسة مقارنة عن النبي محمد]
رسالة إلى العقل والقلب
بقلم طارق أبو عبد الله
أما فكرت في نفسك قط من عساه يكون ذلك الرجل الذي شغل البشرية بما جاء به إلى يومنا هذا و بُعثت به من العدم أمة كانت تعيش في جاهلية عمياء فأصبحت في غضون سنوات قليلة دولة راسخة الأركان وحضارة مزدهرة امتدت في جميع أنحاء المعمورة لا يقف في وجهها شيء؟
أما تأملت كيف استطاع رجل بمفرده – لو كان بمفرده – أن يحدث أكبر تغيير شهده التاريخ و هو على يقين بما جاء به و ما سيصل إليه من أول يوم بدأ فيه دعوته؟ ألم تسأل ما الذي جناه هذا الرجل لنفسه من متاع الدنيا مقابل تحمله مشاق هذه الدعوة و الصبر على أذى قومه و تكذيبهم ثم جهادهم عليها جهادا كبيرا؟ إذا أردنا الإجابة عن هذه الأسئلة فلابد أن نبدأ من البداية التاريخية التي يتفق عليها المصدقون به و المكذبون من قومه و من أهل الكتاب من وقت عاش إبراهيم عليه السلام.
هناك في تلك البقعة المباركة حيث ترك النبي إبراهيم عليه السلام ولده الرضيع إسماعيل وزوجته هاجر وحدهما في الصحراء بأمر من ربه وسافر إلى الشام تولى الله أمر الصبي و أمه و فجر لهما بئر زمزم ينبوعًا صافيًا و ماء معينًا بمعجزة إلهية باقية إلى يومنا هذا يرتوي منها الحجاج و المعتمرون من جميع أنحاء الأرض ثم ألف الله حولهم قلوب مجموعة من البدو فعاشت معهما حول الماء ونما بينهم الفتى إسماعيل وتعلم لغتهم حتى أمر الله إبراهيم عليه السلام أن يعيد بناء البيت الحرام بعد أن هدمه طوفان نوح عليه السلام لكي يعبد الناس عنده ربهم.(5/123)
فرفع إبراهيم و إسماعيل قواعد البيت وأذن إبراهيم في الناس بحج البيت فلبى الناس النداء - وما زالوا يلبون إلى يومنا هذا – وظل هذا البيت آية و قبلة للناس تحج إليه العرب و تعظمه أشد التعظيم ولا ينكر حقه وفضله يهودي ولا نصراني حتى أن الملك النصراني الذي أراد هدمه – وهو أبرهة – كي ينصرف الناس عنه إلى كنيسة بناها بالحبشة رد الله كيده في نحره وأرسل عليه طيرًا من السماء ترميه بحجارة ملتهبة أهلكته و جنوده في حادثة خلدها القرآن في سورة كاملة[1] لم ينكرها أي من مشركي العرب وهم الذين كانوا يتلهفون لكي يجدوا خطأ واحدا في القرآن. و في نفس هذا العام وُلد من بني إسماعيل بجوار البيت ذلك الفتي اليتيم الأمي الذي عرف بين عشيرته بالصادق الأمين وعاش بينهم أربعين سنة كان فيها مثال الصدق و الشهامة والأخلاق الفاضلة فنشأ حنيفا على ملة أبيه إبراهيم لا يشارك قومه في عبادتهم للأوثان ولا في لهوهم و لعبهم وحُبِّب إليه الخلوة فكان يخلو بنفسه في أحد جبال مكة يعبد ربه و يتأمل في ملكوت السماوات والأرض حتى نزل عليه روح القدس و أمين الوحي جبريل عليه السلام فأقرأه أولى آيات القرآن الكريم:(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.) فعاد محمد يرجف بها فؤاده فدخل على خديجة زوجته قائلا زملوني, زملوني [2] وأخبرها بما حدث فقالت: " كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان امرءًا تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقاله له ورقة: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا[3]، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك.
و هذه كانت البداية.. بداية الرسالة.
و الآن نعود لنسأل أنفسنا نفس الأسئلة السابقة
هل كان هذا الرجل بمفرده أم أنه كان مؤيدًا من عند الله عز و جل؟
و هل يجب عليّ أن أتخذ موقفًا واضحًا و منصفًا منه أم يكفي أن أسير هكذا كما سار أبائي و أجدادي ولا أشغل نفسي بأمره؟
إن العقل الراجح و البحث المحايد إذا نظر في دعوى محمد –صلى الله عليه وسلم - للنبوة ذلك الأمر العظيم فعليه أن يبحث في ثلاثة أمور على الأقل هي:
1. حياة محمد وسيرته وأخلاقه وتعامله مع أعدائه فضلاً عن أصحابه.
2. ما جاء به محمد وما دعا إليه من عقائد و شرائع و معاملات.
3. موقفه من الأنبياء السابقين الذين يتفق الناس على نبوتهم وأصحاب الديانات الأخرى من أهل الكتاب وموقف أهل الكتاب منه.
وقبل أن نستطرد في هذا البحث أود أن نتفق معًا على قاعدة في غاية الوضوح والبداهة وهي أن العقيدة الصحيحة المنزلة من عند الله في السماء لهداية البشر إلى ربهم يجب أن تكون هي أوضح الأمور وأبسط المسائل لا يكتنفها الغموض والتعقيد ولا يختلجها التكلف أو التناقض ويجب أيضًا أن تكون مبنية على أدلة قوية واضحة وضوح الشمس لا على الظنون والأوهام ويجب ألا تحتاج الحقيقة إلى السب والشتم واختلاق الأكاذيب للإقناع بها ويجب أن يفهمها الناس على اختلاف عقولهم وأفهامهم بدون الحاجة إلى الخوض في متاهات الفلسفة والسفسطة.
فإذا اطمئن قلبك لسلامة هذا المنهج ونمت في نفسك روح البحث عن الحق في هذا الأمر الخطير فالجزء الأول من هذه الرسالة الصغيرة يضع أمامك خطوطًا رئيسية وعلامات في طريق بحثك لك أن تقرأها وتعرضها على قلبك وعقلك ثم تتبع ما تطمئن إليه نفسك و ينشرح له صدرك.
وأما الجزء الثاني فيناقش جانبًا آخر من قضية الدين – أهم قضية في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية - وهي مناقشة عقلانية لبعض العقائد التي تربي بعضنا عليها بدون أن يعطي نفسه فرصة للتفكر فيها بهدوء إيمانًا بأن الإنسان السوي هو الذي يحترم عقله و فطرته ولا يسير كالقطيع مغمض العينين في أمر قد يترتب عليه سعادته الأبدية أو شقاؤه الأبدي و لكنه الذي يعمل عقله وفكره ولا يعطلهما ويسأل ربه في كل وقت أن يهديه الصراط المستقيم الذي يوصله إليه
النبي الأمي
(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ)؟
كل من قرأ سيرة محمد وأخباره وأيامه من الباحثين المنصفين غير المسلمين أجمعوا على أن هذا الرجل قد اجتمعت فيه كل صفات الكمال البشري من حسن الخلق ورجاحة العقل وسلامة الفطرة ورقة الطبع والشجاعة وبلاغة اللسان.(5/124)
هذا الفيلسوف الإنجليزي (توماس كارليل) الحائز على جائزة نوبل يقول في كتابه الأبطال: " لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب، وأن محمداً خدّاع مزوِّر.
وإن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة؛ فإن الرسالة التي أدَّاها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟!
إلى أن قال: " وعلى ذلك، فلسنا نَعُدُّ محمداً هذا قط رجلاً كاذباً متصنعاً، يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغيته، ويطمح إلى درجة ملك أو سلطان، أو إلى غير ذلك من الحقائر. وما الرسالة التي أدَّاها إلا حق صراح، وما كلمته إلا قول صادق.
كلا، ما محمد بالكاذب، ولا المُلفِّق، وهذه حقيقة تدفع كل باطل، وتدحض حُجة القوم الكافرين.
ثم لا ننسى شيئاً آخر، وهو أنه لم يتلق دروساً على أستاذ أبداً، وكانت صناعة الخط حديثه العهد إذ ذاك في بلاد العرب ـ وعجيب وأيم الله أُمِّيَةَ العرب ـ ولم يقتبس محمد من نور أي إنسان آخر، ولم يغترف من مناهل غيره، ولم يكن إلا كجميع أشباهه من الأنبياء والعظماء، أولئك الذين أشبِّههم بالمصابيح الهادية في ظلمات الدهور.
وقد رأيناه طول حياته راسخ المبدأ، صادق العزم بعيداً، كريماً بَرًّا، رؤوفاً، تقياً، فاضلاً، حراً، رجلاً، شديد الجد، مخلصاً، وهو مع ذلك سهل الجانب، ليِّن العريكة، جم البشر والطلاقة، حميد العشرة، حلو الإيناس، بل ربما مازح وداعب، وكان ـ على العموم ـ تضيء وجهه ابتسامةٌ مشرقة من فؤاد صادق؛ لأن من الناس من تكون ابتسامته كاذبة ككذب أعماله وأقواله ". ويقول: " كان عادلاً، صادق النية، كان ذكي اللب، شهم الفؤاد، لوذعياً، كأنما بين جنبيه مصابيح كل ليل بهيم، ممتلئاً نوراً، رجلاً عظيماً بفطرته، لم تثقفه مدرسة، ولا هذبه معلم، وهو غني عن ذلك".
و بعد أن أفاض (كارليل) في إنصاف النبي محمد ختم حديثه بهذه الكلمات: "هكذا تكون العظمة• هكذا تكون البطولة•هكذا تكون العبقرية".
أما (لا مارتين) الفيلسوف الفرنسي فيدافع بحرارة عن النبي صلى الله عليه وسلم وينفي بصرامة وقوة أن يكون كاذباً أو مفترياً على الله فيقول:
(إن حياة محمد، وقوة كقوة تأمله وتفكيره وجهاده، ورباطة جأشه لتثبيت أركان العقيدة الإسلامية••• إنه فيلسوف وخطيب ومشرع وهاد للإنسانية إلى العقل وناشر للعقائد المعقولة الموافقة للذهن وهو مؤسس دين لا فرية فيه ومنشئ عشرين دولة في الأرض وفاتح دولة في السماء من ناحية الروح والفؤاد، فأي رجل أدرك من العظمة الإنسانية ما أدرك محمد وأي آفاق بلغ إنسان من مراتب الكمال ما بلغ محمد• ويقول في موضع آخر: "أعظم حدث في حياتي هو أنني درست حياة رسول الله محمد دراسة واعية، وأدركت ما فيها من عظمة وخلود، ومن ذا الذي يجرؤ على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد؟! ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه، عند النظر إلى جميع المقاييس التي تُقاس بها عظمة الإنسان؟! إن سلوكه عند النصر وطموحه الذي كان مكرساً لتبليغ الرسالة وصلواته الطويلة وحواره السماوي هذه كلها تدل على إيمان كامل مكّنه من إرساء أركان العقيدة. إن الرسول والخطيب والمشرع والفاتح ومصلح العقائد الأخرى الذي أسس عبادة غير قائمة على تقديس الصور هو محمد، لقد هدم الرسول المعتقدات التي تتخذ واسطة بين الخالق والمخلوق[4]"
و هذا (جوتة) الأديب الألماني: ""إننا أهل أوربا بجميع مفاهيمنا، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وسوف لا يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي محمد… وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد"[5]
ويقول الأديب الروسي(ليو تولستوي) والذي حرمته الكنيسة بسبب آرائه الحرة الجريئة:
"أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد الذي اختاره الله الواحد لتكون آخر الرسالات على يديه، وليكون هو أيضاً آخر الأنبياء … ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام، وفتح لها طريق الرقي والمدينة"[6]
ويقول العلامة (شيريل)، عميد كلية الحقوق بفيينا: "إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها".(5/125)
فهل ترى أن كل هؤلاء الأدباء والمفكرين – ولولا قصر الرسالة لذكرت أكثر من ذلك- من مختلف الجنسيات قد اخطأوا في مدح محمد؟ أو أنهم أجمعوا علي الثناء عليه بمحض الصدفة؟ أم أنهم كانوا غير مشهورين فأرادوا أن ينالوا الشهرة من خلال مدحهم له – صلى الله عليه و سلم-؟ أم أن هذه الشخصية العظيمة تستحق فعلا الثناء والمدح؟ ترى هذا الرجل الذي لبث بين ظهراني قوم جاهليين و ظل فيهم أربعين سنة لا يشاركهم في عبادتهم للأوثان و لا يقارف منكرًا مدة شبابه كله حتى إذا بلغ من العمر أربعين سنة وأصبح إلى الشيخوخة أقرب منه إلى الشباب أتى بهذا الأمر العظيم بعزيمة أمضى من السيف وأمل أسطع من البرق لا يكل ولا يمل حتى أدى رسالته ونجح في مهمته هل يمكن أن يكون مزوِّرا؟
هؤلاء أهل مكة قالوا له بألسنتهم قبل أن يبلغهم الدعوة "ما جربنا عليك كذبا قط" وكانوا يودعون عنده أماناتهم حتي بعد أن جهر بالدعوة لإنه عندهم ما زال الصادق الأمين ولو كذب مرة واحدة لما آمن به أحد منهم فهل تراه يذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله؟ وقد بلغ من حسن أخلاقه أن الرجل كان يأتيه قبل أن يسلم وهو أشد الناس كراهية له – صلى الله عليه وسلم – فما يمكث معه إلا قليل حتى يقوم من عنده داعيًا قومه قائلاً لهم جئتكم من عند خير الناس و قد أصبح أحبهم إليه –صلى الله عليه وسلم.
هب أن أخلاقه هذه كانت تكلفًا مع الناس فهل يتحمل أن يتكلف أيضًا داخل بيته مع زوجاته و بناته – على كثرتهن – أم أنه كان يحسن معاشرتهن[7] ويقول: (خيركم خيركم لأهله و أنا خيركم لأهلي) حتى أن أول من آمن به و صدقه زوجته خديجة؟ وحينما سئلت زوجاته عن حاله في بيته قالت كان في مهنة أهله - تعني في خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج فصلى وفي حديث آخر كان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته ولم يضرب بكفه امرأة قط وكان يستئذن زوجاته إذا أراد أن يُمَرّض في بيت إحداهن و كان يداعبهن وسابق عائشة زوجته مرتين فسبقته وسبقها وكان يمزح ولا يقول إلا حقًا وكان يدعو أصحابه إلى إحسان عشرة النساء ويقول:(اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنَّ بأمانة الله) وكان يقول أن خير الدراهم هو الدرهم الذي ينفقه الرجل على أهل بيته
بل إن خادمه أنس بن مالك يقول: [خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أف، ولا: لم صنعت؟ ولا: ألا صنعت[.وكانت آخر وصيته قبل موته (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم) يوصي بالمحافظة على الصلاة وإحسان معاملة الخدم والعبيد.(5/126)
و كان –صلى الله عليه وسلم- أكرم الناس فما سُئل شيئًا يملكه وقال لا وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر وكان مثالاً في الحلم والصفح فقد روي أنه كان نائمًا تحت ظل شجرة و سيفه معلق عليها فجاء أعرابي فأخذ السيف وقال يا محمد من يمنعك مني فقال : الله. فسقط السيف من يد الرجل فأخذه النبي و قال له: من يمنعك أنت الآن مني؟ فقال: لا أحد. فعفا عنه وانصرف الرجل وقسم مرة مالاً بين ناس فجاءه أعرابي فجذبه من طرف ردائه و قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فغضب رسول الله و ما زاد على أن قال: (ومن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا و صبر و كان أرحم الناس و أرضاهم بقضاء الله) انظر إليه و قد فاضت روح ابنه إبراهيم بين يديه فقال وهو تدمع عيناه: " تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون ". و كان أشجع الناس حتى أن الصحابة كانوا يحتمون به في المعركة إذا اشتد وطيسها و حمي أوارها. أفما آن للعاقل أن يفكر: هل يمكن أن تجتمع كل هذه الشمائل-التي لم تتغير طوال حياة صاحبها- إلا في نبي كريم متبع لملة أبيه إبراهيم؟ هل جنى محمد – صلى الله عليه وسلم – لنفسه من دعوته تلك شيئًا من متاع الدنيا الزائل أم أنه كان يربط الحجر والحجرين على بطنه من الجوع و يقول اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة [8]؟ ألم يكن يظل بالشهر والشهرين ولا توقد في بيته نار و يقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً) في حين أنك ترى في كل دين آخر ما يكفل للكهنة ورجال الدين فيه مصادر الثروة والغنى[9] فما الذي صبره على ذلك إن لم يكن من الصادقين؟ وما الذي حمله على ألا يقبل غلو أصحابه في حبه ومدحه فتراه لا يرفع نفسه عن قدره ويقول لأصحابه: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله و رسوله) وفي إحدى المواقف جلست جويريات يضربن بالدف صبيحة عرس إحدى نساء الأنصار وجعلن يضربن بالدف ويندبن من قتل من أبائها يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: (دعي هذا، و قولي بالذي كنت تقولين) ومصداق ذلك في كتاب الله: " قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ"
و لما توفي أحد المهاجرين قالت عنه امرأة من الأنصار: رحمة الله عليك يا أبا السائب، فشهادتي عليك: لقد أكرمك الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(وما يدريك أن الله أكرمه). فقلت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال:(أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري، وأنا رسول الله، ما يفعل بي). قالت: فو الله لا أزكي أحدًا بعده أبدًا.
أترى لو كان محمد يتحامى الكذب دهاء وسياسة خشيةً أن يكشف الغيب قريبًا أو بعيدًا عن خلاف ما يقول ما الذي كان يمنعه أن يتقول ما يشاء في شأن ما بعد الموت وهو لا يخشى من يراجعه فيه ولا يهاب حكم التاريخ عليه؟ لقد منعه الخلق العظيم و تقدير المسئولية الكبرى أمام حاكم آخر أعلى من التاريخ و أهله[10]
هب أنه كان يكذب على الناس أفكان يكذب على نفسه أيضًا؟ فقد كان مجموعة من الصحابة يحرسون النبي حتي نزلت هذه الآية: " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ " فقال لهم: (أيها الناس، انصرفوا فقد عصمني الله) [11]ولم يتخذ حرسًا بعدها و قد وقف وحده في ميدان المعركة وسط المشركين و قد تفرق أصحابه من حوله و هو يهتف: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فمن ذا الذي حماه وعصمه حتى بلغ الرسالة كاملة وأدى الأمانة أوفى أداء؟ وما الذي جعله واثقًا تمام الثقة من النصر والتمكين لدينه حتى في أحلك المواقف وأقسى الأزمات[12] فيبشر أصحابه بعروش كسري وقيصر في حين أن اليهود والعرب يحاصرونهم من أسفل منهم ومن فوقهم وقد زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر إلا إن كان موعودًا من الله الذي لا يخلف الميعاد بالنصر والتمكين؟ هبه امتلأ رجاء ببقاء هذه الدعوة و ظهورها ما دام يتعهدها بنفسه فمن الذي تكفل له بعد موته ببقائها وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية؟ وكيف يجيئه اليقين في ذلك و هو يعلم من عِبَر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين فكم من نبي قُتل وكم من كتاب فقد أو حُرِّف؟[13] هل رأيت كاهنًا أو ساحرًا أو عرافًا جاءه مثل هذا اليقين الذي لا يتزعزع و الثبات الذي لا يتردد؟؟(5/127)
ومن الذي ألف حوله قلوب أصحابه و جمعهم على دعوته بعد أن كانوا قبائل متناحرة لا يجمعهم نظام ولا ينقادون تحت لواء[14]؟ أرأيت كيف استجابوا له في النهاية إذ دعاهم إلى ترك دين أبائهم وأجدادهم إلى عبادة الله وحده وترك الأنفة والفخر إلى ضرب الظهور بالسياط إن شربوا الخمر أو قذفوا إنسانا و قطع الأيدي إن سرقوا أو أفسدوا في الأرض؟ فمن الذي حول طباعهم من الغلظة والبداوة وبعد أن كان أحدهم يأنف أن تسبق ناقته ناقة أخرى إلى رفق الإسلام و رحمته وتواضعه فأصبح السيد والعبد يقفان متجاورين في الصلاة؟ ومن الذي كان يجيب دعائه إذا دعا لأحد من أصحابه؟ ألم يدعُ للمدينة المنورة بأكملها ألا يدخلها طاعون فما دخلها وباء إلى اليوم؟ ألم يدع لقبيلة بأكملها أمام أصحابه أن تسلم وتأتيه فأسلمت عن بكرة أبيها؟ أتراه يغامر لو كان كاذبًا بأمر كهذا؟ أيمكن لرجل أمي أن يغامر ويزعم أنه نبي يؤمن بجميع الأنبياء من قبله من أول آدم مرورًا بموسى وعيسى عليهما السلام ويجعل الكفر بواحد منهم كالكفر بالجميع ثم يتحدى أهل الكتاب من اليهود والنصارى الموجودين في عهده – بل إلى قيام الساعة – ويناقشهم في أخص أمور دينهم بل ويفضحهم ويواجههم بتحريفهم لكتب أنبيائهم؟ لقد بلغ من تحديه إياهم أنه لما هاجر توجه إلى أحد معاقل اليهود في الجزيرة العربية وهي يثرب -وكان يمكنه أن يهاجر إلى أرض ليس بها أهل كتاب فما الذي دعاه إلى ذلك لو كان من الكاذبين؟ قل لي بربك لو كان هذا الدين من عند نفسه وليس من عند الله فما حاجته للإيمان بالأنبياء السابقين ويدخل في هذه المواجهات[15] مع اليهود والنصارى ويعلن أن إلهه وإلههم واحد ولكنهم هم الذين غيروا شريعته وبدلوا وحرفوا. ثم إنك تجد أن علماء اليهود والنصارى المنصفين يدخلون في دينه أفرادًا وجماعات ويتبعون شريعته منذ أن بعثه الله و إلى اليوم.[16] إن الكثيرين منهم عندما يتجردون من الأهواء والنزعات الشخصية والعصبية فإنهم سرعان ما يبصرون الحق ويعتنقونه بل إن عدداً من المستشرقين والمبشرين النصارى الذين بدئوا حملتهم مصممين على القضاء على الإسلام وإظهار عيوبه المزعومة، أصبحوا هم أنفسهم مسلمين، وما ذلك إلا لأن للحق حجته الدامغة التي لا سبيل إلى إنكارها. قال الله عز وجل: " أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ ".
ثم كيف يمكن لرجل عادي – لو كان عاديًا – أن يؤلف وحده شريعة محكمة لا تدع أمرًا من أمور الإنسان إلا ونظمته على الوجه الأمثل بدءًا من طريقة الأكل والشرب حتى نظام الحكم فما تركت خيرًا من أمور الدنيا إلا وأمرت به ولا شرًا إلا و نهت عنه ويشهد بذلك مفكرو الغرب أنفسهم والدراسات الحديثة والفضل ما شهدت به الأعداء. وما زالت إلى اليوم هذه الشريعة معينا لا ينضب للباحثين والعلماء يستخرجون منها من الحكم الباهرة والأحكام الدقيقة ما يدعو الناس للإيمان والتصديق.[17] كيف أمكن لرجل بمفرده- لو كان بمفرده- أن يحدث أكبر تغيير ديني وحضاري وسياسي واجتماعي في العالم استمر إلى الآن حتى إن مفكري الغرب عندما اجتمعوا لكي يحددوا المائة الأوائل الذين كان لهم أكبر تأثير في تاريخ البشرية جعلوا محمدًا على رأسهم وظهر ذلك في كتاب المائة الأوائل لمايكل هارت[18]ألم تمر على أمة الإسلام مائتا عام إلا وكان المسلمون يعيشون نهضة علمية في شتى المجالات في حين كانت أوروبا ترزح تحت جبال من الجهل والتخلف والخرافات؟!(5/128)
ثم ألم يكن أولى به لو كان يدعي النبوة أن يخفف من تكاليف الشريعة لأقصى درجة ممكنة لكي يستكثر من الأتباع ولا ينفر الناس من الدخول في الدين الجديد [19] لكنك ترى أنه أخبرنا أن الله فرض علينا خمس صلوات في اليوم و الليلة منها ما يوافق ساعات نوم الإنسان و أمرنا بزكاة تؤخذ من أغنيائنا لترد على فقرائنا و أمرنا بصيام شهر كامل كل عام و بحج بيت الله الحرام مع ما في ذلك من مشقة للبعض ثم حض بعد ذلك على أداء الزيادة من هذه الطاعات و قيام الليل تقربًا إلى الله ثم الأمر بالإحسان إلى الخلق بمختلف أنواع البر وصلة الأرحام والأقارب وإن قطعوا والعفو عن الأنام إن ظلموا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ثم النهي عن لذائذ النفوس و شهواتها المحرمة كالزنا وكل ما يدعو إليه من نظر أو لمس أو تبرج وشرب الخمر وأكل الربا ثم يكون بعد ذلك أول الناس التزاما بما يدعو إليه حتى في خلوته حين يظن أن لا يراه بشر بل و يزيد على أصحابه في الطاعة ما لا يطيقونه هم[20]. فما الذي حمله على ذلك إن لم يكن من الصادقين في عبادته لربه و في نبوته؟ هل الذي يأمر بهذه الأوامر يمكن أن يكون كاذبًا على الله؟(أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ) ألا تعجب أنه مع كل تكليفات الإسلام هذه فإنه أوسع الأديان انتشارًا و ذلك باعتراف غير المسلمين ويقبل عليه الناس من جميع الفئات والأعمار حتى الأطفال.[21] لو كان محمد كاذبًا فلماذا تركه الله ينشر دعوته طوال23 سنة بدون أن يعاقبه أو على الأقل بكشف كذبه للناس ولو بزلة لسان؟!
أو كان صدفة أن يولد هذا النبي و يحيا أكثر عمره بجوار بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم عليه السلام و ما زالت آثار إبراهيم موجودة فيه إلى اليوم ثم يتخذه قبلة في صلاته؟ ومن الذي حفظ الكعبة من التدمير على يد إبرهة والمشركين وحفظ مكانتها ومهابتها في قلوب المؤمنين؟ تُرى لو أن هذا الدين كان من تأليفه فهل تكون الكعبة المشرفة من بنائه أم تكون بئر زمزم من حفره؟!( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً)
النبأ العظيم
(قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)
كل المؤرخين مجمعون على أن النبي نشأ أميًا لا يعرف القراءة والكتابة وأنه لم يكن يقرض الشعر في حياته بينما كانت العرب تفتخر ببراعتها البلاغية ويقيمون الأسواق يتباهون فيها بالقصائد الطوال والمعلقات الجياد ولم يكن لمحمد أي شأن يذكر في هذا المضمار من قريب أو بعيد. ثم ماذا؟ ثم خرج علهم محمد بين عشية وضحاها بآيات بينات غاية في البلاغة وجمال النظم تحدى بها قومه بل تحدى بها العالم كله -وهكذا الرسل تأتي بمعجزات من جنس ما برع فيه أقوامهم ليكون أبلغ في الإعجاز- وقال للناس: (لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). فانظر إلى هذا النفي المؤكد بل الحكم المؤبد هل يستطيع عربي يدري ما يقول أن يصدر هذا الحكم وهو يعلم أن مجال المساجلات مفتوح بين العرب على مصراعيه؟ ألم يكن يخشى أن يثير هذا التحدي حميتهم الأدبية فيهبوا لمنافسته وهم جميع حذرون؟ سل نفسك لو طوعت لمحمد نفسه أن يصدر هذا الحكم على أهل عصره فكيف يصدره على الأجيال القادمة إلى يوم القيامة بل على الإنس والجن؟ ثم سلها ألم يفز القرآن في هذا التحدي فلم يهم بمعارضته أحد إلا باء بالعجز الواضح والفشل الفاضح على مر العصور والدهور. [22] لقد نزل هذا التحدي إلى أن يأتوا بعشر سور مثله فما استطاعوا ثم نزل أكثر إلى سورة واحدة تضارع أقصر سور القرآن و أعلن أنهم لن يستطيعوا فهل سمعت أن رجلاً ألف سورة مثل سور القرآن تلقاها العالم بمثل ما تلقى به القرآن؟ سل نفسك كيف ظل القرآن محفوظًا إلى اليوم كما وعد الله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) يتناقله المسلمون جيلا بعد جيل متواترًا[23] بينهم بنفس اللغة لا تتغير فيه كلمة ولا حرف ولا حركة تشكيل بطريقة هي أعلى طرق الرواية تثبتًا وحفظًا في حين أن غيره من الكتب فُقِدت أو غُيِّرت أو اندثرت لغاتها الأصلية. سل التاريخ كم مرة تسلط الكفار على المسلمين فأثخنوا فيهم القتل و أكرهوا أمما منهم على الكفر و أحرقوا الكتب و هدموا المساجد و صنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن كُلا أو بعضا كما فُعل بالكتب من قبله لولا أن يد العناية تحرسه فبقي وسط هذه المعامع رافعا راياته و أعلامه حافظا آياته و أحكامه...[24](5/129)
ألم تعجب كيف يسره الله القرآن للحفظ ما لم ييسر لأي كتاب آخر فتجد أن الطفل يبلغ السادسة من عمره وقد حفظ القرآن كله وقد يكون مع ذلك أعمى! كيف يحدث ذلك الانسجام العجيب بين الفطرة البشرية و بين القرآن إلا أن يكون خالق النفس البشرية هو نفسه مصدر هذا القرآن؟
ثم إنك إذا تأملت طريقة نزول القرآن رأيت عجبًا...فإنه لم ينزل جملة واحدة من السماء لكن كان ينزل مفرقًا حسب الوقائع والأحوال فربما نزلت بدايات سورة ولا تنزل خواتيمها أو أواسطها إلا بعد عشر سنين تكون خلالها نزلت سور أخرى وختمت أو لم تختم فإذا هبط جبريل على النبي بآيات جمع النبي أصحابه ليكتبوا وراءه ثم يقول ضعوا آية كذا في سورة كذا في موضع كذا وآية كذا في سورة كذا وهكذا فتوضع الآية في مكانها الذي نزلت من أجله في أول السورة أو وسطها أو آخرها بين آيتين قد تكونا نزلتا قبلها بعشر سنين فتقرأ السورة فلا تحس بأي تنافر بين أجزائها. ثم إن الآية توضع مكانها الذي نزلت من أجله ولا يتغير هذا المكان بعد ذلك أبدًا لا تقديمًا ولا تأخيرًا حتى اكتمل هذا الكتاب المعجز في أجمل صورة و أعظم تركيب فأي تدبير محكم وأى تقدير مبرم وأى علم محيط لا يضل ولا ينسى ولا يتردد كان قد أعد لهذه المواد المبعثرة نظامها وهداها إلى ما قدره لها حتى صيغ منها ذلك العقد النظيم وسرى بينها هذا المزاج العجيب؟ [25](أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيرًا)
و الآن سل نفسك هل رأيت كتابًا ألف بهذه الطريقة أبد الدهر؟ وهل يستطيع كاتب أن يؤلف كتابًا في مدة ثلاث وعشرين سنة لا يؤلفه مرتبًا ولكن مفرقًا قطعًا قطعاً على غير ترتيب لا يقدم فيه ولا يؤخر ولكن يملي من وحي ضميره العبارات والجمل مفرقة بين الحوادث والسنين فتجد كل جملة لها مكانا ينتظرها بين جاراتها لا يجور ولا يجار عليه وكأنه أحصى ما سوف تلده الأيام من مفاجآت الحوادث المستقبلية صغيرة وكبيرة في مدى دهره ثم قدّر ما سوف تتطلبه تلك النوازل من كلام فقدر لكل حادثة قدرها؟! فكيف لو كان أميًا لا يقرأ ما يكتب له؟!!
هذا من جهة مبناه فإذا نظرت إلى محتواه وجدت من الإعجاز في المعاني ما لا يقل عن الإعجاز في النظم و المباني.[26] ذلك أن القرآن حوى بين طياته كل ما يحتاج الإنسان إليه في حياته لكي يحيا حياة طيبة صالحة. تحدث القرآن عن وحدانية الله عز وجل وأقام عليها البراهين العقلية القاطعة وذكر من صفات الرب الحسنى وأفعاله الكريمة وسننه في خلقه ومظاهر نعمه عليهم ما يزيد إيمان المؤمنين ويرقق قلوب الكافرين وذكر من آيات الله المبثوثة في كونه ودعا الإنسان للنظر والتأمل فيها وتحدث عن نشأة الإنسان والغرض من خلقه ومصيره بعد موته ثم أخبره كيف يعبده ويتقرب إليه بأنواع العبادات البدنية والمالية والقلبية و تضمن الإخبار عن عالم الغيب من الملائكة و الجن والشياطين وكذا الإخبار عن قصص الأمم السابقة وأحوالهم مع أنبيائهم وعقاب الله للأقوام الظالمين بما جعله الله عبرة لكل معتبر ورد القرآن على شبهات المشركين وحذر المعاندين وأنذرهم وبشر المؤمنين وثبّتهم وحاور أهل الكتاب فأسكتهم وضرب للناس من كل شيء مثلاً وتحدث عن أهوال يوم القيامة وعلاماته وذكر ما أعده الله لعباده المؤمنين في جنات النعيم وما ينتظر الكافرين من عذاب أليم ثم رسم للإنسان منهجًا يسير عليه في حياته وحد له حدودًا ووضع له ضوابط تضمن له و لمجتمعه السعادة الكاملة والأمن التام فذكر أحكام المعاملات المالية وأحكام النكاح والطلاق و البيع والشراء والدَيْن والميراث وأحكام الإمارة والقضاء والحدود والقصاص حتى آداب الاستئذان والنظر والثياب ذكر القرآن منها ما يكفل للمجتمع طهارته و للإنسان عفافه و كرامته حتى مأكل الإنسان ومشربه أباح له كل طيب و حرم عليه كل خبيث على التفصيل و الإجمال وذكر أيضا آداب التعامل مع الوالدين و إن كانوا غير مسلمين ومع الزوجة و ذوي الأرحام وإن كانوا غير بارين حتى الخدم و العبيد و الأرامل والمطلقات والأيتام لم ينسهم القرآن حتى الطفل الرضيع والرجل الأعمى والأعرج ذكرهم الله(وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)
وهكذا لم تخل آية في القرآن من حكمة وموعظة أو بشارة أو إنذار أو أمر أو نهي لما فيه مصلحة العباد الدينية والدنيوية فلله درها من آيات كم ألانت قلبا قاسيا و كم فتحت عقلا مغلقًا و كم شفت وساوس صدر مريض.
فهو معجزة كبيرة وشاملة وغنية تتجاوز كل الأزمنة والأمكنة، وتلبي جميع المطالب الإنسانية بدءً من العقائد وانتهاءً بأصغر الآداب الاجتماعية. [27](فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ)(5/130)
فإذا نظرنا إلى القصص القرآني سنجد أنه حوى أحسن القصص وقعًا في النفوس وأصدقها أحداثا و أكثرها عبرة في الوقت الذي كانت كتب اليهود والنصارى حافلة بالمغالطات التاريخية وقصص العاهرات و نسبة النقائص والفواحش للأنبياء بينما القرآن قصصه في أرفع درجات السمو الأخلاقي و الكمال الإنساني. وإن تعجب فعجب قول من يدعي زورًا وبهتانًا أن القرآن استقى أخباره التاريخية من الكتب الموجودة بأيدي أهل الكتاب في عهده!! و كأن القرآن لم يفضح تزويرهم صراحة و يواجههم بتحريفهم و يكشف مغالطاتهم[28] ثم إنك تجد أن القرآن يحوي تفاصيل دقيقة لم تذكرها هذه الكتب وكفاك بقصتي يوسف وموسى عليهما السلام دليلا. [29]
فهل كان صدفة أن توافق أخبار القرآن عن الأمم السابقة و أنبيائهم الصحيح المحرر[30] من علوم أهل الكتاب و تزيد عليها و أما ما داخلها من التحريف و التغيير فلا يأبه له القرآن بل يصححه و يفضحه أحيانا كثيرة؟ و ممن؟ من رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب!!
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم؟
هب أن محمدًا اطلع على أخبار الأولين فهل تراه اتخذ عند الله عهدًا أن تصدق الأيام ما أخبر به من أمور المستقبل ولو بعد مئات السنين؟ فقد أخبر القرآن عن حوادث ستقع في المستقبل وحدثت كما أخبر تمامًا. فمثلا ذكر القرآن عن أناس معينين أنهم لن يسلموا وسيموتون على الكفر مثل أبي لهب وامرأته حمالة الحطب والوليد بن المغيرة فمن أين علم محمد أن هؤلاء لن يسلموا؟! وكيف لم يخش أن تطوع لأحدهم نفسه فيعلن إسلامه نفاقا لكي يحرج محمدًا؟ فيا عجبًا لهذه الآيات هل كانت مؤلفة من حروف و كلمات أم كانت أغلالاً وضعت في أعناقهم إلى الأبد؟ ومثل آخر في أول سورة الروم حيث دار بين الفرس الوثنيين و الروم النصارى أهل الكتاب معركة هزم فيها الفرس الروم ففرح المشركون بذلك لأنهم وثنيون مثلهم و حزن المسلمون فنزلت (الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
و لقد صدق الله وعده فتمت للروم الغلبة على الفرس بإجماع المؤرخين في أقل من تسع سنين و كان يومها هو اليوم الذي انتصر فيه المسلمون على المشركين في غزوة بدر. فكيف حدث ذلك بهذه الدقة إلا إذا كان الذي صدرت هذه الآيات عن علمه هو الذي صدرت هذه الحوادث عن مشيئته و حكمه؟(5/131)
أما عن الآيات التي تتحدث عن خلق الكون وخلق الإنسان و الليل و النهار و الجبال و البحار والرياح و السحب والمطر والحيوان والنبات و النجوم والكواكب و الشمس و القمر والأرض و السماء فقد ذكر القرآن من أسرارها في كلمات وجيزة ما كانت تعجز علوم الدنيا حين نزل القرآن أن تتوقعه و لم يكتشفها العلم إلا في العصر الحديث و ما وقف أمامها فطاحل العلماء مبهورا أن يكون رجل أمي قد أتى بكلام مثل هذا منذ ألف و أربعمائة سنة!! ألم يخبر القرآن بأن للجبال أوتاد و أن البحر مسجور و الرياح لواقح و السحب ثقال و الكائنات أزواج و السماء ذات رجع و الأرض ذات صدع والليل و النهار مكوران على بعض و الشمس و القمر بحسبان و مواقع النجوم أمرها عظيم[31]!! هل كان أحد في ذلك الوقت يعرف المراحل الدقيقة لخلق الأجنة في بطون أمهاتها أو يعرف أن الذي يرتفع في الجو يضيق صدره من صعوبة التنفس أو أن كل شيء خلق من ماء أو أن الحديد نزل من السماء ليستقر في الأرض و لم يتكون داخلها كما يتكون البترول مثلا أو أن السماء تتسع باستمرار أو أن هناك أنواعا من النجوم مختفية عن الأنظار تسير في السماء تكنس ما حوله وصفها بأنها جوار كنس أو أن السماوات والأرض كانتا في بداية الخلق قطعة واحدة فتقها الله؟(وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُون)؟ كل هذه الحقائق التي أثبتتها العلوم الحديثة وغيرها يذكرها القرآن في غاية الوضوح و أمثالها في السنة النبوية كثير و أسلم بسببها كثير من العلماء[32]فما الذي حمل محمدا على ذكر هذه الحقائق لقوم أميين ومن الذي ضمن له أن العلم سوف يثبت صحتها يوما من الأيام؟ [33] هذا غير الآيات التي تسبر أغوار النفس البشرية وتخبر بما يجول في خاطرها سواء كانت هذه النفس نفس مؤمن مصدق أو كافر معاند أو كتابي مرتاب. ألم تنزل الآيات تفضح المنافقين الموجودين في المدينة و تخبر بخطرات نفوسهم؟ ألم يدع الأعراب الإيمان فنزلت(قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ألم يكن الأولى لو كانت هذه دعوة شخصية ألا ينفر محمد الأتباع من حوله بل يستكثر منهم و يحتفظ بهم في صفه؟[34] ناهيك عن التأثير الكبير الذي أحدثه القرآن في نفوس أصحاب النبي يقول الأستاذ فتح الله كولن: " لقد أحدث القرآن في أول عهده بالنزول وأول عهده بتشريفه الدنيا تأثيرًا لا يمكن تصوره في الأرواح وفي العقول والقلوب أضا، بحيث أن درجة الكمال التي وصلت إليها الأجيال التي نشأت في جوه النوراني كانت معجزة قائمة بذاتها لا نحتاج معها إلى ذكر أي نوع آخر من معجزاته. ولا يمكن العثور على أي أمثال لهم في مستواهم من ناحية التدين والتفكير وأفق الفكر والخلُق ومعرفة أسرار العبودية
فالحقيقة أن القرآن قد أنشأ جيلا من الصحابة آنذاك لا نبالغ إن قلنا إنهم كانوا في مستوى الملائكة. وحتى اليوم فهو يقوم بتنوير قلوب المتوجهين إليه الناهلين من نبعه، ويهمس في أرواحهم أسرار الوجود. والذين يَدَعون أنفسهم بكل أحاسيسهم ومشاعرهم وقلوبهم وقابلية راكهم تسبح في جوه الذي لا مثيل له سرعان ما تتغير عواطفهم وأفكارهم، ويحس كل واحد منهم بأنه قد تغير بمقياس معين وأنه أصبح يعيش في عالم آخر"(هَذَا بَصَائِرُ للنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَومٍ يُوقِنُونَ) ويمكنك أن تقرأ في القرآن لكي تشعر بهذا بنفسك فهو تاح على الإنترنت.
والآن آن لنا أن نسأل أنفسنا هذا السؤال: من أين أتى محمد بالقرآن؟ هناك ثلاثة احتمالات لا رابع لها. إما أن يكون من كلام محمد نفسه وإما أن يكون من كلام شخص آخر كان يتصل به محمد بصورة غير معروفة في جميع الأماكن والأزمنة ليتلقى منه الآيات و إما أن يكون وحيا من عند الله أوحاه إليه عن طريق الملك الذي أنزل على جميع الأنبياء من قبل و هو روح القدس جبريل عليه السلام كما أخبر بذلك القرآن نفسه.(5/132)
فإذا نظرنا إلى الاحتمال الأول سنجد أن القرآن صريح في لأنه لا صنعة فيه لمحمد ولا لأحد من الخلق لكنه منزل من عند الله بلفظه ومعناه. فأى مصلحة لمحمد لو كان القرآن من كلامه أن ينسب بضاعته لغيره وينسلخ منها انسلاخا ولو انتحلها لما وجد أحدا من البشر يعارضه ويزعمها لنفسه؟ إن قومه أنفسهم قد استبعدوا هذا الاحتمال- أن يكون القرآن من تأليف محمد- لإنه عاش بينهم أربعين سنة يحضر مشاهدهم و يتعامل معهم ولم تبد عليه أثارة من تلك العلوم التي لا عهد لهم بها قبل ذلك. (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) ثم إنك تقرأ كلام النبي وأحاديثه في كتب السنة و تقرأ القرآن فلا تحس بأنهما خرجا من ذات المنبع بل تجد الفرق في الأسلوب بينهما واضحا هذا خطاب إلهي و ذاك كلام بشري.. ثم لماذا لم يحو القرآن لو كان من عند محمد خطرات نفسه و آلامه و أحزانه المختلفة التي مرت به و هو الذي مرت به الأحداث الجسام مثل وفاة زوجته خديجة وعمه أبي طالب في عام واحد و محاصرة المشركين له و لأصحابه في أحد شعاب مكة ثلاث أعوام و مقتل عمه حمزة ووفاة جميع أبنائه في حياته إلا فاطمة ولكنك لا ترى إشارة لذلك في القرآن.
وهل تكون الآيات التي تعاتب النبي في القرآن و توجهه و تأمره و تنهاه من وضعه؟ أيكون من عنده ثم يجعل فيه حين دعا على بعض المشركين(لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) أم يكون من عنده ثم يقول فيه لنفسه(وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاه) أو يقول فيه(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) و ذلك حين أقسم ألا يتناول نوعا معينا من الطعام؟ بل إنه عبس مرة في وجه رجل مسلم أعمى جاء يسأله عن شيء لإنه كان مشغولا بدعوة أشراف قريش إلى الإسلام فنزلت سورة عرفت بسورة عبس , بدايتها:(عَبَسَ وَتَوَلَّى {1} أَن جَاءهُ الْأَعْمَى {2} وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى {3} أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى)
ألم يكن أولى به – لو كان كما يدعي المبطلون كاذبًا – أن يكتم هذه الآيات؟
بل كانت تنزل به النوازل من شأنها أنها تحفزه إلى القول و كانت حاجته القصوى تلح عليه أن يتكلم بحيث لو كان الأمر إليه لوجد له مقالا و مجالا و لكنه كانت تمضى به الليالى و الأيام تتبعها الليالى و الأيام و لا يجد فى شأنها قرآنا يقرؤه على الناس.
ألم يرجف المنافقون بحديث الإفك عن زوجه عائشة رضي الله عنها و أبطأ الوحي و طال الأمر و الناس يخوضون حتى بلغت القلوب الحناجر و هو لا يستطيع إلا أن يقول بكل تحفظ و احتراس " إني لا أعلم عنها إلا خيرا" ثم إنه بعد أن بذل جهده في التحري و السؤال و استشارة الأصحاب و مضى شهر بأكمله و الكل يقولون ما علمنا عليها من سوء لم يزد على أن قال لها آخر الأمر " يا عائشة أما إنه بلغني كذا و كذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله و إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله " هذا كلامه بوحي ضميره و هو كما ترى كلام البشر الذي لا يعلم الغيب و كلام الصدّيق المتثبت الذي لا يتبع الظن و لا يقول ما ليس له به علم على أنه لم يغادر مكانه بعد أن قال هذه الكلمات حتى نزل صدر سورة النور معلنًا براءتها و مصدرًا الحكم المبرم بشرفها و طهارتها. فماذا كان يمنعه- لو أن أمر القرآن إليه- أن يتقول هذه الكلمة الحاسمة من قبل ليحمى بها عرضه و بذب بها عن عرينه و ينسبها إلى الوحي السماوي لتنقطع ألسنة المتخرصين؟ و لكنه ما كان ليذر الكذب على الناس و يكذب على الله [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ] [35](5/133)
والآن إذا انتقلنا إلى الاحتمال الثاني – وهو أن يكون أحدًا من الإنس أو الجن قد أوحى بهذا القرآن العظيم والشريعة الكاملة إلى محمد – فبرغم من تهاوي كثير من أركان هذا الاحتمال بما سبق ذكره إلا أنه لا مانع من مناقشة بعض ما قد يحيك في صدر المتشكك أو يقذف به الشيطان في فؤاد المرتاب. أولا الذي يردد هذه الشبهة يلزمه أن يخبرنا من هو هذا الشخص – سواء كان إنسا أم جنا - الذي آتاه الله علوم الأولين والآخرين وأطلعه على الغيب و ما هو كائن إلى يوم القيامة و زوده بالعلوم والمعارف الحديثة التي لم تكن لتخطر على بال أوسع الناس خيالا حينئذ فأخرج لنا هذا الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتب السماوية و مهيمنا عليها لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه!! لا شك أن هذا الشخص - لو كان موجودا لكان عربيا لأن القرآن بلسان عربي مبين – فهل تظن أن بين العرب الذين كانوا يعيشون في جاهلية عمياء في ذلك الوقت من كان يمكنه أن يفيض قلبه عن بعض علوم هذا الكتاب؟ هب أن هذا كان صحيحا في الكتاب فمن أين أتى النبي بالسنة - وهي جميع أقواله وأفعاله- وبها من الإعجاز ما يداني إعجاز القرآن؟ وهل كان محمد ذو الذكاء الثاقب والفطنة الحادة مخدوعا طوال 23 سنة [36] يظن أنه يوحي إليه من عند الله و ما هو من عند الله؟!! إن أى قارئ في سيرة النبي محمد ليلحظ بكل وضوح أنه كان صادقا في دعوته وفي جهاده – أو على الأقل كان يظن ذلك – فهل تظن أن رحمة الله وعدله وكرمه كانت تترك رجلا بهذه الأخلاق النبيلة و السجايا الكريمة والنوايا الصادقة التي شهد عليها أعداؤه يُغرر به طوال هذه المدة؟؟ و لماذا لم يعلن هذا الشخص عن ذاته –لو كان موجودا –ويعرفنا بنفسه أو ينسب هذا القرآن لشخصه فينال بذلك عز الدنيا وشرف الدهر؟! ما الذي جناه هذا الشخص لنفسه من دعوة الناس للإيمان بالله و اليوم الآخر والالتزام بالأخلاق الفاضلة؟ ثم كيف يمكنه أن يضع شريعة فذة ونظاما كاملا للحياة شهد بروعته الفلاسفة والمفكرون غير المسلمين؟ هب أن هذا حدث أيمكنه أيضا أن ينصر هذه الدعوة من محاولات وأدها المستمرة ويُمكِّن لهذا الدين في الأرض إلى يومنا هذا ويحفظ مصادره الأساسية من الضياع على مدار التاريخ؟ إن هذا مما تأباه العقول السليمة والفطر السوية وصدق الله إذ يقول:(وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ. وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ.فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)
والآن لم يبق إلا أن يكون وحيا من عند الله أوحاه إلى محمد ليخرج الناس من الظلمات إلى النور عن طريق رسول كريم هو جبريل عليه السلام(مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ولم يبق إلا أن تقرأ آيات القرآن وكلام النبي بنفسك وتتدبرهما بعقلك وقلبك وانظر هل يكون هذا إلا تنزيل من لدن حكيم عليم؟
البشارة
وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد
بالرغم مما نال الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل من تحريف و تبديل إلا أن الله شاء أن تبقى البشارة بالنبي محمد إلى يومنا هذا واضحة وضوح الشمس يراها كل من له عينان نذكرها إن شاء الله لكي تطمئن بها قلوب و تبتهج بها أرواح. أما في العهد القديم فإننا نجد موسى عليه السلام يبشر بظهور نبي ورسول مثله فعندما ينزل موسى عن جبل الطور بعد ما كلمه ربه يقول مخاطباً بني إسرائيل:
" قال لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا. أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه، وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاماً لم أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى، فيموت ذلك النبي.
وإن قلت في قلبك: كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصِر، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب، بل بطغيان تكلم به النبي، فلا تخف منه "(التثنية 18 / 17 – 22).
والنص كما هو واضح يتحدث عن نبي عظيم يأتي بعد موسى عليه السلام، ويذكر صفات هذا النبي، والتي نستطيع من خلالها معرفة من يكون.ويزعم النصارى أن هذا النبي قد جاء، وهو عيسى عليه السلام،
لكن النص دال على نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ لا دليل عند النصارى على تخصيصه بالمسيح، إذ يذكر النص التوراتي أوصاف هذا المبعوث المبشر به:
1)) أنه نبي " أقيم لهم نبياً "، والنصارى يدعون للمسيح الإلهية، بل يدعي الأرثوذكس أنه الله نفسه، فكيف يقول لهم: أقيم نبياً، ولا يقول: أقيم نفسي.
2)) أنه من غير بني إسرائيل، بل هو من بين إخوتهم أي أبناء عمومتهم "من وسط إخوتهم"، وعمومة بني إسرائيل هم بنو عيسو بن إسحاق، وبنو إسماعيل بن إبراهيم.(5/134)
ومن المعهود في التوراة إطلاق لفظ " الأخ " على ابن العم، وعليه فهذا النبي يحتمل أن يكون من العرب تحقيقاً للبركة الموعودة في نسل إسماعيل، وقد يكون من بني عيسو بكر إسحاق. لكن أحداً من بني عيسو لم يدع أنه النبي المنتظر.
(3) هذا النبي من خصائصه أنه مثل موسى الذي لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله، وفي التوراة السامرية ما يمنع صراحة قيام مثل هذا النبي فقد جاء فيها: " ولا يقوم أيضاً نبي في بني إسرائيل كموسى الذي ناجاه الله"(التثنية 4/10).
وهذه الخصلة، أي المثلية لموسى متحققة في نبينا صلى الله عليه وسلم، ممتنعة في المسيح، حيث نرى الكثير من أمثلة التشابه بين موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، والتي لا نجدها في المسيح، من ذلك ميلادهما الطبيعي، وزواجهما، وكونهما صاحبا شريعة، وكل منهما بعث بالسيف على عدوه، وكلاهما قاد أمته، وملك عليها، وكلاهما بشر، بينما تزعم النصارى بأن المسيح إله، وهذا ينقض كل مثل لو كان.
(4) من صفات هذا النبي أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، والوحي الذي يأتيه وحي شفاهي، يغاير ما جاء الأنبياء قبله من صحف مكتوبة" وأجعل كلامي في فمه"، وقد كان المسيح عليه السلام قارئاً(انظر لوقا 4/16-18).
(5) أنه يتمكن من بلاغ كامل دينه، فهو " يكلمهم بكل ما أوصيه به ". وهو وصف منطبق على محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان من أواخر ما نزل من القرآن عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)
وقبيل وفاة موسى عليه السلام ساق خبراً مباركاً لقومه بني إسرائيل، فقد جاء في سفر التثنية: "هذه البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته، فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة...."(التثنية 33/1-3.)
وجبل فاران هو جبل بمكة ويؤيد ذلك ما تقوله التوراة عن إسماعيل: " كان الله مع الغلام فكبر.وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران، وأخذت له أمه زوجة من أرض مصر "(التكوين21/20-21).) فالمقصود إذن بتلألأ الرب من جبل فاران هو بعثة النبي محمد من مكة ليكون إماما للمؤمنين ورحمة للعالمين
أما في العهد الجديد فإننا نجد البشارة أيضا واضحة ففي متى 43:21 قال المسيح لليهود:(أقول لكم: إن ملكوت الله سينزع من أيديكم ويسلم إلى شعب يؤدي ثمره.) فمن يا ترى هذا الشعب؟ إن تلاميذ المسيح كانوا من بني إسرائيل حتى بولس كان من بني إسرائيل أيضا ولهذا لا يمكن تفسير كلام المسيح أن المقصود به هم تلاميذه. ولا يمكن أن يكون مقصود المسيح هم الوثنيون الذين اعتنقوا مبادئ بولس وإلا أي ثمرة هذه التي أداها الوثنيون لمبادئ المسيح وأي ملكوت لله هذا الذي سلم للوثنيين؟ لم يبق إذن إلا أن يكون مقصود المسيح هم المسلمون الذين عظموا المسيح وأمه ورفعوا راية التوحيد في الأرض وحملوا لواء العبودية لله رب العالمين. وفي إنجيل يوحنا(1/19-21) أرسل اليهود من أورشليم بعض الكهنة واللاويين يسألون يوحنا: «من أنت؟» فاعترف ولم ينكر، بل أكد قائلا: «لست أنا المسيح». فسألوه: «ماذا إذن؟ هل أنت إيليا؟» قال: «لست إياه!»؛ «أو أنت النبي؟» فأجاب: «لا» نجد ذكرا لثلاثة أشخاص هم إيليا والمسيح والنبي. فمن يا ترى يكون هذا النبي الذي كان اليهود ينتظرونه غير النبي محمد؟ وفي موضع آخر من إنجيل يوحنا حيث يبشر بمجيء النبي المنتظر يقول المسيح موصياً تلاميذه: " إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر، ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم... إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً. الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي، والكلام الذي تسمعونه ليس لي، بل للآب الذي أرسلني، بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لك.. قلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون "(يوحنا14/15 – 30).
وفي الإصحاح الذي يليه يعظ المسيح تلاميذه طالباً منهم حفظ وصاياه، ثم يقول: "إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم"(يوحنا 15/26(16/14-)
ونبينا محمد هو روح الحق الذي مكثت تعاليمه إلى الأبد وعلمنا كل شيء وهو الذي مجد المسيح فنزهه مما نسبه إليه اليهود وهو الذي لا يتكلم من قبل نفسه ولكن(مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى).(5/135)
وليس المقصود بقوله: " لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم" الرؤية البصرية والمعرفة الحسية، بل المعرفة الإيمانية. ومثله ما جاء في يوحنا"أجاب يسوع: لستم تعرفونني أنا، ولا أبي، لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً"(يوحنا 8/19(ومثله في الأناجيل كثير).
و كلمة المعزي التي في الترجمة الحالية للإنجيل هي ترجمة خاطئة للكلمة اليونانية البارقليط الموجودة كما هي في تراجم عالمية أخري والتي كانت موجودة حتى القرن التاسع عشر كما هي في الترجمة العربية للإنجيل مما يدل على أنها اسم علم.
وفي تفسير كلمة " بارقليط " اليوناني نقول: إن هذا اللفظ اليوناني الأصل، لا يخلو من أحد حالين:
الأول: أنه "باراكلي توس". فيكون بمعنى: المعزي والمعين والوكيل.
والثاني: أنه " بيروكلوتوس "، فيكون قريباً من معنى: محمد وأحمد.
ويقول أسقف بني سويف الأنبا أثناسيوس في تفسيره لإنجيل يوحنا " إن لفظ بارقليط إذا حرف نطقه قليلاً يصير "بيركليت"، ومعناه: الحمد أو الشكر، وهو قريب من لفظ أحمد".
ويسأل عبد الوهاب النجار الدكتور كارلو نيلنو – الحاصل على الدكتوراه في آداب اليهود اليونانية القديمة- عن معنى كلمة " بيركلوتس " فيقول: " الذي له حمد كثير".
ويرى عبد الأحد داود أن تفسير الكنيسة للبارقليط بأنه " شخص يدعى للمساعدة أو شفيع أو محام أو وسيط " غير صحيح، فإن كلمة بارقليط اليونانية لا تفيد أياً من هذه المعاني، فالمعزي في اليونانية يدعى(باركالوف أو باريجوريس)، والمحامي تعريب للفظة(سانجرس)، وأما الوسيط أو الشفيع فتستعمل له لفظة " ميديتيا "، وعليه فعزوف الكنيسة عن معنى الحمد إلى أي من هذه المعاني إنما هو نوع من التحريف. يقول الدكتور سميسون في كتاب "الروح القدس أو قوة في الأعالي": "الاسم المعزي ليس ترجمة دقيقة جداً". بل إن أدوين جونس في كتابه " نشأة الديانة المسيحية" يعترف بأن معنى البارقليط: محمد، لكنه يطمس اعترافه بكذبة لا تنطلي على أهل العلم والتحقيق، فيقول بأن المسيحيين أدخلوا هذا الاسم في إنجيل يوحنا جهلاً منهم بعد ظهور الإسلام وتأثرهم بالثقافة الدينية للمسلمين.
ومما يؤكد أن لفظة روح الله دالة على الأنبياء أيضاً، ما جاء في رسالة يوحنا الأولى: "فلا تؤمنوا أيها الأحباء بكل روح من الأرواح، بل امتحنوا الأرواح حتى تعلموا هل هي من عند الله أم لا؟ لأن كثيرين من الأنبياء الكذبة برزوا إلى هذا العالم "(يوحنا(1) 4/1-2)، فالأنبياء الصادقون هم روح الله، والأنبياء الكذبة هم روح الشيطان.
وبين يوحنا كيفية معرفة روح الحق من روح الضلال، فقال: " بهذا تعرفون روح الله: كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله، وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله، وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي، والآن هو في العالم"(يوحنا(1) 4/2 - 6.)
ورسولنا هو روح الحق بدليل قول يوحنا، لأنه يعترف بالمسيح أنه رسول من عند الله، وأنه جسد، وأنه من الله كما سائر الناس هم من الله أي الله خلقهم.أما تفسير الكنيسة للبارقليط بأنه روح القدس بالمعنى الذي وضعته للأقنوم فهو تفسير خاطئ عقليًا لعدة أمور:
أولاً: أن نصوص العهد القديم صريحة في أن الروح القدس كان موجودًا أثناء حياة المسيح والأنبياء قبله يؤيدهم ويؤيد أتباعهم[37]في حين أن النبوءة فيها " إذا لم أذهب فإنه لا يأتيكم ".
ثانيًا: أن النصارى يعتقدون باتحاد أقنومي المسيح وروح القدس فكيف يكونا متحدين ويرسل أحدهما الآخر؟؟
ثالثًا: قال المسيح عن البارقليط
يلزم من يقول هذا أن يخبرنا ما الذي قدمه هذا الأقنوم للعالم خلال الألفي عام الماضية فمكث فيه للأبد وذكرهم بكل ما قاله المسيح ولم يستطع العالم أن يقبله وما هي النبوءات التي أخبر بها مؤلفو العهد الجديد وحدثت بالفعل. [38]
رابعًا: قول المسيح عن البارقليط كل ما يسمع يتكلم به يدل على أنه يتكلم في حين أن اعتقاد النصارى في الروح القدس أنه يلهم و يدل أيضًا على أن كلامه ليس من عند نفسه و لكنه يبلغ ما يسمعه في حين يعتقد النصارى أن الروح القدس إله مساو لله فكيف يكون إلها ولا يتكلم من عند نفسه؟
خامسًا: قوله قلت لكم قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون يوحي بأن الذي يتحدث عنه المسيح لم يكن موجودًا أصلا أثناء الكلام في حين أن الروح القدس كان موجودًا و يوحي أيضا بأن هذا الشخص الذي يتحدث عنه المسيح سوف تدعو الناس للإيمان بنفسه ولكن أكثر الناس لن يقبلوه لذا دعا المسيح تلاميذه للإيمان به في حين أن تأثير الروح القدس الذي يدعيه النصارى في إلهام كتبة الأناجيل تأثير خفي لا يستلزم من أحد الإيمان بشيء محدد يترتب عليه ثواب وعقاب ويجعل المسيح يركز عليه بهذه الطريقة.(5/136)
وبذلك فإننا نرى في البارقليط النبوءة التي ذكرها القرآن الكريم(وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ).
إلى الذين تهفو أرواحهم شوقا إلى نور الله.. إلى الذين تساءلت عقولهم كثيرا فلم يجدوا لهم آذانا صاغية ولم يجدوا جوابا شافيا.. إلى كل من اشتاق لأن يعرف الحقيقة ناصعة البياض لا لبس فيها ولا غموض.. ها قد آن الأوان لذلك
الإسلام
وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم ما الإسلام كان أول ما قال:(أن تعبد الله ولا تشرك به) وإذا نظرت في القاموس عن معنى كلمة إسلام ستجد أن معناها الحرفي لها هو الإذعان والانقياد والاستسلام. ولما كان كل موصوف له من اسمه نصيب فالإسلام إذن يعني أن تُسلم الوجه والقلب والجوارح وجميع أمورك لله رب العالمين فلا تكون عبادتك وقصدك وتوجهك في جميع تصرفاتك إلا إلى إله واحد هو الله عز وجل وأن تنقاد بجسدك وقلبك وروحك لأمر الله ونهيه وأن تستسلم لحكمه وتقف عند حدوده هذا باختصار هو الإسلام.(قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)
والإيمان بالله على النحو السابق يستلزم عدة أمور منها أن تؤمن أن الله واحد في ذاته لا قسيم له ولا ند له ولا معبود بحق سواه وأن تؤمن بربوبيته سبحانه فلا شريك له أي أنه وحده هو خالق السماوات والأرض من العدم وأنه هو وحده الذي يملك أمور جميع الخلائق من خلق ورزق وإماتة وإحياء قال تعالى(قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ. فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)
و أن الله له الأسماء الحسنى والصفات العلى فلا شبيه له(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)[39] وأنه منزه عن النقص والقصور و عن الزوجة والولد( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوً أَحَدٌ ) وأنه لا يشبه أحدا من خلقه فهو فوق خلقه أجمعين محيط بهم بعلمه وسمعه وبصره وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد له السلطان والقهر، والخلق والأمر السماوات مطويات بيمينه، والخلائق مقهورون في قبضته(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السََّاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) وهو أول ليس قبله شيء وآخِر ليس بعده شيء فلا يفني ولا يموت ولا تأخذه سِنة ولا نوم و لا يحدث أمر في هذا الكون إلا بقضائه وقدره، وحكمته ومشيئته. فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن لا يخرج عن مشيئته لفتة ناظر، ولا فلتة خاطر بل هو المبدئ المعيد، الفعال لما يريد(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه ولا مهرب لعبد عن معصيته، إلا بتوفيقه ورحمته ولا قوة له على طاعته، إلا بمشيئته وإرادته فلو اجتمع الإنس والجن، والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها دون إرادته ومشيئته، لعجزوا عن ذلك.(ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).لذا فهو وحده المستحق للعبادة.
والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله من أعمال القلوب والجوارح –فلا يستعان إلا به ولا يُتوكل إلا عليه ولا يُخاف إلا منه ولا يرجى إلا إياه هذا هو التوحيد الذي دعا إليه جميع الأنبياء فكان كل منهم يقول لقومه(اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) والإيمان بالله يستلزم من العبد أن يؤمن بجميع رسله من لدن آدم حتى محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو خاتمهم وأفضلهم وبالكتب المنزلة على هذه الرسل مثل التوراة والإنجيل والقرآن وأن تؤمن بملائكة الله و اليوم الآخر(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) حين يجمع الله الناس ثم يحاسبهم و يدخل المؤمنين الجنة -دار كرامته ويعذَب الكافرون في النار. وللإسلام أركان لا يتم إلا بها هي شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.(5/137)
هذا هو الإسلام عقيدة صافية نقية لا تعقيد فيها ولا ألغاز ولا أسرار يستأثر بها البعض دون البعض. دين لا يتعارض مع الفطرة البشرية. دين يجعل مسئولية الإنسان أمام الله وحده ويجعل كل إنسان مسئول عن عمله وحده فلا تزر وازرة وزر أخرى. دين لا يجعل بين الله والإنسان وساطة ولا تباع فيه صكوك غفران ولا يملك أحد - حتى النبي نفسه - أن يغفر لأحد أو يدخله الجنة بل يجعل علاقة الإنسان بربه علاقة مباشرة. دين جعل قلب الإنسان معلقا بربه لا بصورة ولا تمثال ولا قطعة خشب أو حديد على أى شكل كانت. دين لا طبقية فيه ولا أفضلية لأحد دون أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح قال رسول الله لابنته فاطمة:(يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا). دين لا يفرق في حدوده بين وزير و غفير قال رسول الله: (وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). دين يحترم عقل الإنسان ولا يحجر على تفكيره بل دعا إلى التفكير والنظر والتدبر في آيات الله المتلوة والمبثوثة في كونه[40]. دين لا يتعارض مع مستجدات العلم و مطالب الحياة مهما تقدمت بالإنسان العهود. دين وضع أفضل منهج للتعامل مع غرائز الإنسان فلا رهبانية معقدة [41] ولا إباحية منحلة ولكن منهج وسط يعترف بحاجات الإنسان و يوفر له أطهر السبل لإشباعها. دين لم تقم فيه سلطة مقدسة تحكم باسم الإله زاعمة أن حقها في الحكم والتشريع مستمد من قرابتها أو تفويضها من الله ولم تظهر فيه كنيسة تستذل رقاب الناس بوصفها الممثلة لابن الله; المستمدة لسلطانها من سلطان الابن أو سلطان الأقنوم.[42] دين عرّف الإنسان بنفسه ومكانه في هذا الكون وحرره من عبوديته لذاته أو لبشر مثله و أخبره بالغاية من وجوده في هذه الحياة وهي(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون). جعل الإسلام حياة الإنسان كلها تصب في هذه الغاية فصار لها معنى وصارت كل حركة من حركات الإنسان يبتغي بها وجه الله حتى اللقمة يضعها الرجل في فم زوجته يثاب عليها من الله. الإسلام ليس مجرد شعائر منفصلة عن الحياة تؤدي في دور العبادة ولكنه منهج متكامل للحياة جاء ليتولى قيادة الحياة البشرية وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها فما ترك جانبا من جوانب الحياة إلا تناوله بالرعاية والإصلاح. الإسلام لم يغفل غرائز الإنسان أو يتجاهلها ولكنه يعترف بها ويرشّدها [43]. الإسلام هو الدين الذي أنشأ من ظلمات الجاهلية في غضون مائتي عاما حضارة أذهلت العالم و صارت مؤلفاتها هي المورد العلمي الأول لجامعات أوروبا في حين أن النصرانية احتاجت إلى نحو من ألف وخمسمائة سنة لكي تنشئ ما يمكن أن يدعى حضارة مسيحية!![44] والإسلام هو الدين الذي يقف اليوم في مواجهة جميع أديان العالم التي توحدت ضده مما يدل على أنه هو الحق إذ أن الباطل يتعدد والحق لا يتعدد. وهو الدين الوحيد الذي يضع أنبياء الله في أسمى مكانة وأرفع منزلة و يجعلهم معصومين من الزلل و المعاصي. وهو الدين الذي صلاته هي أجمل الصلوات وأخشعها يقف فيها الغني بجوار الفقير في صفوف منتظمة.. الكل سواسية يناجون ربهم ويسألونه وحده المغفرة بلا غناء ولا موسيقى ولا تصفيق.[45] دين متميز حتى في ندائه للصلاة بالأذان. فالأذان له معنى ويحوى ركائز العقيدة وليس مجرد صلصة أجراس أو ضجيج أبواق. دين جعل نظافة البدن وطهارة الإنسان شعيرة من شعائره التي لا تجد لها مثيلا في غيره. دين لا يحتاج أتباعه لإجراء تغييرات وتعديلات فيه كلما جد عليهم جديد لأن شريعته منزلة من عند الله العليم الحكيم الذي يعلم كل شيء وأثبت التاريخ و التجارب البشرية أنها الوحيدة الصالحة لقيادة ركب الحياة في كل زمان ومكان. وهو الدين الذي نقلت إلينا تصرفات نبيه وأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته كاملة ووجدناها مثالا للخلق الفاضل المستقيم وهو الذي ظل كتابه محفوظا بحفظ الله منذ نزل إلى اليوم فتجد الآية التي تطبع اليوم في أحدث المصاحف هي نفسها التي كانت مكتوبة على الجريد أيام الرسول والآية التي يتلوها المسلم الأمريكي هي نفسها التي يتلوها المسلم الصيني.(فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)[46]
المسيح عليه السلام
وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار.
يتبوأ المسيح عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام مكانة سامية في الإسلام فالمسيح هو كلمة الله و روح منه ألقاها إلى مريم عليهما السلام وهو بشر كما أن الرسل جميعا من البشر وهو رسول من أولي العزم من الرسل [47] وهم أفضل الرسل جميعًا وذًكر في القرآن أكثر من 25 مرة وأمه مريم بنت عمران من أفضل نساء العالمين لم تُذكر امرأة باسمها في القرآن غيرها. قال تعالى في سورة آل عمران:(5/138)
(وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ {42} يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ {43} ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ {44} إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ {45} وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ {46} قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً َإِنَّمَا يَقُولُلَهُ كُن فَيَكُونُ {47} وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) {48}).
وقد كانت حياة المسيح مليئة بالمعجزات من لحظة ولادته حتى رفعه إلى السماء فقد كانت ولادته معجزة إلهية جعلها الله آية للعالمين حيث ولد من غير أب و قد وصف الله أحداث ولادته في سورة مريم [48]فقال تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً {16} فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً {17} قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً {18} قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً {19} قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً {20} قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً {21} فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً {22} فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً {23} فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً {24} وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً {25} فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْاً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً {26} فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً {27} يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً {28} فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً {29} قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً {30} وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً {31} وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً {32} وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً {33} ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ
الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ {34} مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ {35} وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ {36} فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيم)
ثم أمده الله بالمعجزات الدالة على نبوته كما أمد الرسل من قبله بالمعجزات. قال تعالى حاكيا عن عيسى بن مريم:(وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {49} وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ {50} إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ)(5/139)
ثم يذكر الله ختام قصة عيسى مع بني إسرائيل عندما كذبوه و كفروا به:( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {52} رَبَّنَاآمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {53} وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ {54} إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {55} فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ {56} وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {57} ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ {58} إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ {59} الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ)
وذلك أن اليهود حاولوا قتل عيسى عليه السلام فنجاه الله منهم وتوفاه بالنوم ثم رفعه إلى السماء الثالثة فهو يحيا فيها حتى ينزل قبل يوم القيامة و أُلقى شبهه على شخص غيره فأخذه اليهود وقتلوه. قال تعالى عنهم:(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيمًا) و عندما ينزل عيسى بن مريم في آخر الزمان فإنه سوف يكسر الصليب ولا يقبل إلا الإسلام وتندحر الملل الكافرة ويعم السلام وتكثر البركة وتُرفع الشحناء والضغينة قال صلى الله عليه وسلم: " الأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتى وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل بين ممصرتين فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويعطل الملل حتى يُهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الإبل مع الأسد جميعا والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا فيمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يُتوفى فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه. ." [49]وقد وردت على لسان نبينا عدة نصوص في فضل المسيح ومريم الصديقة عليهما السلام فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها) وقال(كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء: إلا مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون) وقال:(رأى عيسى بن مريم رجلاً يسرق فقال له: أسرقت؟ قال: كلا، والذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عيني) وقال عن الرجل الذي يؤمن بعيسى قبل أن يسمع عن محمد(صلى عليه وسلم):(إذا آمن بعيسى، ثم آمن بي فله أجران) وقال-وهذا الحديث بشرى لكل نصراني-:(من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) [50] وقد كانت رسالة المسيح عليه السلام متممة لرسالة موسى و مبشرة برسالة محمد باسمه الصريح كما مر بنا – "حتى متى كان تؤمنون" – وكانت لبني إسرائيل فقط و لم تكن هي الرسالة الأخيرة للبشرية لذلك لم يشأ الله أن يظل الإنجيل ولا كلام المسيح محفوظًا بكامله للناس.(5/140)
والآن بعد أن عرفت نظرة الإسلام للمسيح عليه السلام فإني سائلك: ترى لو كان هذا الدين من عند محمد ولم يكن محمد رسولا من عند الله ما الذي دعاه لأن ينظر للمسيح هذه النظرة المعتدلة بعيدا عن غلو النصارى إلى تقديسه وانحراف اليهود إلى عدائه؟ ألم يكن أحرى به لو كان كاذبا أن ينحاز إلى إحدى الطائفتين لكي ينال تأييدها بدلا من أن يواجههما جميعا؟ ما الذي كان يمنعه لو كان كاذبا أن يدعى أن إلهه الذي يعبده هو المسيح –ولم يكن لينكر عليه أحد– فينال بذلك تأييد الدولة الرومانية القوية بالإضافة لنصارى الجزيرة العربية؟(فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
والآن لنحاول مناقشة بعض ما يعتقده الناس في المسيح عليه السلام بهدوء بعيدًا عن التعصب الأعمى.
لعلك إذا سألت أفراد الأسرة النصرانية الواحدة عن طبيعة المسيح عليه السلام تسمع إجابات شتى فمن قائل هو الله – تعالى الله عما يصفون – و من قائل هو ابن الله والمثقف منهم سيقول لك إن به جزء بشري يسمى ناسوتا و جزء إلهي يسمي لاهوتا!! وهذا انعكاس للغموض الذي يكتنف شخصية المسيح لدى النصارى و للتعقيد الذي أقحمته الكنيسة في مسألة الإله وهي التي من المفترض أن تكون من أبسط أمور العقيدة لدى الإنسان. ويتفق عموم النصارى على أن هذا الإله أو نصف الإله لم يكن بالقوة الكافية حتى نالت منه يد البشر بالتعذيب والإهانة والصلب في حادثة هي أشبه بالتمثيليات الدرامية أو الأساطير البدائية منها إلى الحقيقة الإلهية! ومن العجيب أن يُعتقد أن هذه الجريمة الكبرى من البشر في حق الإله إنما كانت سببا لخلاص البشر و مغفرة خطاياهم وذنوبهم التي هي أقل خطرًا بكثير من محاولة قتل الإله نفسه!! ولأن كل من هذه العقائد أصبحت مسلمات راسخة في عقول كثير من الناس غير خاضعة للنقاش ولا التفكير فهذه دعوة لكل باحث عن الحقيقة بصدق لكي يعيد النظر فيما يعتقده و تربى عليه ولم تتح له فرصة للنقاش فيه من قبل.
هب أنك أخطأت في حق والدك خطأ يسيرًا وأغضبته وبينما أنت نادم وتحاول أن ترضي أباك إذا بأخيك الأصغر تأخذه عاطفة الأخوة و التضحية فتفتق ذهنه عن فكرة غبية وهي أن يضحي بنفسه من أجلك فيسلم لك نفسه لكي تقتله أمام أبيك و بذلك يتحمل هو الإثم عنك وتنجو أنت من تبعة الذنب ووخز الضمير فهل تقبل أنت أو يقبل أبوك هذا الكلام؟؟ فكيف لو اقترح عليك أخوك أن تقتل والدك نفسه تكفيرًا عن خطيئتك؟! بالطبع هذا كلام لا يقبله عقل. ولكن لماذا تقبله في حادثة الصلب المزعومة وترضاه للمسيح عليه السلام ولا ترضاه لأخيك الصغير؟ لعلك تجيب بأن المسيح ما نزل إلى الأرض أصلاً إلا لهذه المهمة وهي التضحية بنفسه لكي يغفر الله خطايا البشر! وإني أسألك: الذي يريد أن يضحي بنفسه من أجل إنسان يتحمل عنه الآلام أم يتحمل منه الآلام؟؟! هل خطيئة آدم بأكله من الشجرة تكفرها خطيئة اليهود بمحاولة قتل المسيح؟ وهل ضاقت رحمة الله عز وجل الذي يقبل التوبة عن عباده ووسعت رحمته كل شيء أن يغفر لآدم خطيئته - وهو الذي تاب بعدها واستغفر وأناب[51]-فظل ناقما على البشر كل هذه المدة حتى ينزل بنفسه سبحانه متجسدا في هيئة مخلوق ضعيف كي ترتكب البشرية هذه الجريمة النكراء في حقه ثم تسقط عنها أوزارها مكافأة لها؟ هل من العدل أن يذنب آدم فيُصلب المسيح؟ ألم يذكر العهد القديم أن النفس التي تخطيء هي تموت وأن كل إنسان مسئول عن عمله وأن الله يقبل توبة التائبين؟[52]هل من العقل أن تزعم أن الله تاب على بولس الذي كان العدو الأول لتلاميذ المسيح وللمؤمنين ولم يتب على آدم الذي خلقه الله بيديه وأسجد له ملائكته إلا بعد أن يعلق المسيح عاريًا تمامًا على رؤوس الأشهاد؟ وإذا كان المسيح قد نزل من أجل ذلك فلماذا جاء في إنجيل متى صراخ المسيح قبل أن يقتل كما يزعمون لما وضع على الصليب « إيلي إيلي، لم شبقتني، أي: إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ » متى 27/46 وجاء في يوحنا 11/53 أن المسيح هرب من طالبيه مراراً!! أينزل من أجل ذلك ثم يهرب ويصرخ ويستغيث بالله كي يخلصه بينما ترى كثيرًا من المجرمين والقتلة يتقدمون للقتل بقدم ثابتة وجأش رابط أم أنه كان يجهل مهمته على الأرض؟ ولم نذهب بعيدًا ونقارن المسيح بالقتلة والمجرمين ألم يأمر الله إبراهيم بذبح ولده فما كان من الولد إلا أن استجاب لأمر الله صابرا محتسبا بدون أن يسأل حتى عن العلة؟ هل من منطقي لو كان المسيح هو الله أن يكون أقل شجاعة من بعض خلقه؟!(5/141)
وإذا كانت هذه هي مهمة المسيح فلماذا عندما بشر الأنبياء بالمسيح لم يبشروا به على أنه المخلص الذي سوف يخلص البشرية من ذنبها الموروث ولكن بشروا به على أنه نبي صاحب رسالة وفقط بدون ذكر أي شيء عن حادثة الصلب المزعومة- التي كانت ستُعد أهم حادثة في حياة المسيح لو كانت مهمته حقا أن يعلق على الصليب؟؟ وكيف نفسر النصوص التي تخبر عن رضا الله عن الشعب أو عن أمة من الأمم إذا كانت البشرية كلها كانت ما زالت موصومة بهذا الذنب القديم ولم يخلصها منه أحد بعد؟ وهل من الرحمة أن تكون مهمة المسيح هي تحمل الآلام والتعذيب عن البشر بقتله على الصليب ثم يكون جزاء من لم يؤمن أن المسيح مات على الصليب وظل يعبد الله كما كان يعبده إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى من قبل المسيح هو العذاب في النار؟ لو كان ذلك كذلك لكانت حادثة الصلب نقمة على البشر وليست رحمة لهم إلا إذا كانت حادثة الصلب هذه قد افتدت جميع الناس من النار وسيدخل المؤمن والكافر الجنة في النهاية!!
وإذا كان الصلب قد حط عن البشر خطاياهم فما فائدة تعاليم المسيح والرسل من قبله إذا كان تكفير خطايا البشر مضمون و أكيد لهذه الدرجة؟ ولماذا قال المسيح إن كل كلمة باطلة يتكلم بها الناس، سوف يؤدون عنها الحساب في يوم الدينونة. فإنك بكلامك تبرر، وبكلامك تدان؟[53] وما الذي سيمنع الإنسان أن يرتكب أكبر الفواحش وأعظم المنكرات إذا علم أن الخلاص مضمون؟ ولماذا الحاجة إلى التعميد الذي تفعله الكنيسة بكل مولود إذا كانت حادثة الصلب المزعومة هذه قد غفرت للإنسان خطيئته [54]؟ وإذا كان كل مولود يرث نصيبا من هذه خطيئة أبيه آدم فهل ورثت مريم وابنها عليهما السلام أيضا هذه الخطيئة من أبيهما آدم عليه السلام؟ وماذا عن ظلم البشر بعضهم لبعض هل يتحملها الصليب أيضا فلا قصاص بينهم ولا عدل أم أن هذه خارج الموضوع؟ وماذا عن الذنوب التي ارتكبتها البشرية بعد المسيح إلى اليوم من يكفرها؟ أم تراها تحتاج لمسيح جديد لكي يقتله أحد الأشقياء فتسقط عن البشر بقية خطاياهم؟ إننا نفهم أن الذي يضحي بشيء فإنه يضحي به من أجل شخص آخر أو لاسترضاء من هو أعلى منه وأقدر كما ذبح إبراهيم الكبش فداءً لإسماعيل وتقربا إلى الله بذلك فإذا كان الله نفسه هو الذي ضحى بولده –تعالى الله عما يصفون- فمن أجل من يا ترى فعل ذلك وليس في الكون من هو أعظم منه؟ (قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)؟ إن من يقرأ الروايات المختلفة لحادثة الصلب في الأناجيل سيجد بينها تناقضات لا يمكن الجمع بينها فمثلا من يقارن تفاصيل المحاكمة والصلب والقيامة واكتشاف قبره ومن رآه عند قيامته وماذا قال على الصليب ومن حمل الصليب وغير ذلك في الروايات المختلفة سيجد اختلافات واضحة تدل على أن القصة واهية من أساسها أو أن كتابها اعتمدوا على الإشاعات والأساطير وليست وحيا من الله [55]! إنه لا يكاد أحد يتصور أن المسيح الذي كان يصوم ويتحمل الصبر عن المأكل والمشرب ويقضي الأسابيع لا ينال فتات العيش هو الذي كان على خشبة الصليب يستغيث بأعدائه و يطلب منهم أن يسقوه إذ تملكه الظمأ وهو الذي طالما كان يقول(أن لي خبزا لستم تعرفونه)[56]حتى بطرس رئيس الحواريين كان يقسم على أنه لا يعرف الرجل الذي على الصليب(متى 72:26).
لقد جعلت حادثة الصلب المزعومة هذه من المسيح عليه السلام شخصية أسطورية مخلصة بدلا من شخصية النبي المعلم الذي يرشد الناس إلى الهدى والنور. شخصية يلجأ إليها الناس في السراء والضراء بعد أن كانوا يلجئون إلى الله. حادثة الصلب جعلت عبادة الإنسان مركزة حول المسيح عليه السلام بعد أن كانت لله وحده. ولكي لا يصير المسيح ندا لله في هذا الدين الجديد تم اختلاق الكذبة الثانية التي هي أكبر من أختها بادعاء أن المسيح هو الله نفسه –سبحانه وتعالى عما يصفون. ولخطورة هذه المسألة فسنناقشها أيضًا بشيء من التفصيل:(5/142)
أولاً: هل يليق برب السماوات والأرض ومن فيهن أن يتجسد في صورة طفل رضيع يخرج من فرج امرأة ضعيفة ثم يمر بمراحل نمو الإنسان المختلفة يأكل الطعام ويخرج الفضلات حتى إذا اكتمل نموه وصار رجلاً ناضجًا لقي من البشر صنوف الإهانة والتعذيب ألوانا؟ هل كان هذا المخلوق الضعيف الذي يلتقم ثدي أمه هو كان يدبر أمور جميع الكائنات في الوقت الذي لا يستطيع هو أن يدبر أمر طعامه وشرابه؟ [57] أم أنه كان يمسك السماوات والأرض أن تزولا وهو في بطن أمه؟ ألا ترى أنه من المخجل أن نساوي الله بالبشر؟ هل يمكن للإله العظيم أن يحل في جسد ضعيف له بداية ونهاية؟ وأين هو هذا الجسد- جسد المسيح - الآن؟ هل فني الجسد وهلك بمجرد صعود المسيح للسماء أم أن هذا الجسد الذي يحتاج للطعام خالد وليست له نهاية؟ وإذا كان الجسد تعرض للفناء فهل يفنى الإله أو تفنى صفة من صفات الإله؟؟ وهل كلام السيد المسيح الذي في الإنجيل يوحي بأنه كلام إله قادر قهار يخاطب عبيده أم كلام معلم رفيق يخاطب تلاميذه؟ ولماذا لم يأمر المسيح تلاميذه بالسجود له صراحة إن كان هو الإله فهذا على الأقل أفضل من السجود لصوره وتماثيله داخل الكنيسة؟! [58] لماذا لم يخبر صراحة أنه هو الإله - إن كان كذلك – فيحسم القضية ويقطع الشك؟ هل من العدل لو كان المسيح هو الله أن يترك أهم قضية في هذا الكون يكتنفها الغموض وتحيط بها الشبهات ويتركها عرضة لآراء الرجال وأهواء الملوك في المجامع؟ لماذا لم يخلف لنا في العهد الجديد نصًا واضحًا صريحًا على لسانه يخبر فيه أنه هو الإله فيريح الملايين من ظلمات الشك؟
وماذا عن الحواريين: هل كانوا يعاملون المسيح على أنه إله يمشي على الأرض أم نبي إنسان ومعلم متواضع ولذا سموا تلاميذ؟[59] هل يمكن أن يكون للإله تلاميذ؟؟ ولو كانوا يعبدون المسيح فكيف أمكنهم أن يبقوا داخل هيكل اليهود بعد رفعه حوالي ثلاثة عقود يعبدونه يوميا وسط اليهود الذين يعبدون الله؟[60] انظر إلى بطرس في(أعمال 22:2) يقول: " أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال. يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضا تعلمون". فهل عرفت أنت عن المسيح ما لم يعرفه الحواريون؟ أيكون المسيح إلها ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه أذى حفنة من اليهود؟ أتقبل أن تعبد إلها ضعيفًا؟ أيكون المسيح هو الله ثم يأتي إلى عبد من عبيده لكي يعتمد منه ويكمل نفسه؟ ألم يذكر العهد الجديد أن المسيح جاء إلى يحيى-يوحنا المعمدان- لكي يعتمد منه؟ إن المسيح لو كان هو الله لسجد له يحيى حالا فهل كان يحيى يجهل ربه؟ [61] وإذا كان المسيح هو الله فهل يمكن أن يموت الإله؟ إن نصوص العهد القديم تنفي ذلك يكل صراحة انظر مثلا في إرمياء 10:10:(أما الرب فهو الإله الحق، الإله الحي) وفي حزقيال(3:18): حي أنا يقول الرب. وفي دانيال 26:6 "هو الإله الحي القيوم إلى الأبد"
ومن الذي كان يخاطبه المسيح في الأناجيل بلفظ أبي وإلهي إن كان هو الأب والإله أم أنه كان يخاطب نفسه؟ انظر قول المسيح عليه السلام:(وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع الذي أرسلته) يوحنا 17: 3. وقوله:« إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم » يوحنا 20:18وقوله عن نفسه: "أنا لا اقدر أن أفعل من نفسي شيئاً "(يوحنا 5/30) لذا عجز أن يعد ابني زبدي بالملكوت(متى 20/23)، ولما سماه أحدهم صالحاً قال: "لم تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد، وهو الله"(لوقا 18/18-20). وأخبر في مرقص32:13 أنه لا يعلم وقت يوم القيامة ولكن الله هو الذي يعلمها فهل يكون المسيح هو الله ويجهل ما يعلمه الله؟ أم أن العلم والإرادة والصلاح صفات للجسد وليست صفات للروح؟ ومن الذي كان يصلي له المسيح إن كان هو الإله؟! ألم يذكر العهد الجديد أن المسيح كان يعبد الله؟ أكان المسيح يعبد نفسه؟ وهل استعمال المسيح لمصطلح ابن الإنسان عن نفسه تكرارا ومرارا في الإنجيل(ذكرت 81 مرة) إلا تأكيدا لبشريته وبراءته مما سينسبه الناس إليه؟ بل إن المسيح قال عن نفسه صراحة أنه نبي إنسان ففي يوحنا(8/40) قال(أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله) وفي لوقا 4/25 قال «الحق أقول لكم: ما من نبي يقبل في بلدته. » فهل بعد شهادة المسيح لنفسه شهادة أخرى؟ وفي لوقا 7/17 قال الناس أمامه بعد أن أحيا ميتا[62]بإذن الله «قد قام فينا نبي عظيم وتفقد الله شعبه!» وفي متى(8:9) بعد أن رأى الجموع معجزاته "تعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا" فهل يا ترى كان الجموع يمجدون المسيح أم رب المسيح؟ وإذا كان المسيح إلها فماذا عن أم المسيح عليه السلام هل هي الأخرى إلهة أم ماذا؟ وهل يمكن للمخلوق أن يلد الخالق[63](5/143)
وأما إن كنت تعتقد أن الله تعالي عن أن يشابه خلقه أو أن يقتل على أيديهم وأنه كان وما زال في السماء فوق جميع خلقه و لا يخرج أحد منهم عن قبضته لكن له ولد هو المسيح أرسله إلي الأرض لهذه الغاية وهو أن يتعذب بأيدي البشر من أجل البشر فقل لي بربك من أين علمت أن لله ولد؟؟ أمن الكتاب المقدس؟ فإن الكتاب المقدس يعتبر البشر جميعا أبناء الله بمعنى أن الله هو الذي يطعمهم ويرزقهم لا أبنائه على الحقيقة[64] كما أطلق على أنبياء آخرين هذا الوصف[65].(قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ. سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ثم ما حاجة الله لكي يتخذ ولدا و هو الغني عن خلقه أجمعين؟(قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ) وهل هذا الولد كانت حياته سرمدية مثل حياة الله عز وجل أم أنه حادث على هذا الكون؟ فإن كان حادثا فهو مخلوق مثله كبقية مخلوقات الله عز وجل وإلا فكيف يكون مولودا وسرمديا في نفس الوقت؟(لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) وهل مشيئة هذا الولد تابعة لمشيئة الرب أم أن له إرادة مستقلة؟ وهل الإنسان مأمور بعبادة الرب وحده أم الرب وما تنسب له من ولد؟ هل تستقيم الحياة إذا عبد الإنسان أكثر من إله؟
(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ثم هل ضاقت السبل على رب الأرض والسماوات فلم يجد وسيلة لتكفير خطيئة آدم إلا التضحية بولده-بفرض وجود الولد؟ و كيف تنزه الرهبان والقساوسة عن اتخاذ الولد وتنسب ذلك لله رب العالمين؟(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(5/144)
أما قضية التثليث وهي اعتقاد أن الله إله واحد مكون من ثلاثة أقانيم مختلفة فهي ثالثة الأثافي و اللغز المحير والمعضلة الكبرى التي ورثها رجال الكنيسة عن أسلافهم على علاتها وذلك أن آباء الكنيسة الأُوَل لم يكتفوا بنسبة الولد لرب العالمين لكنهم أضافوا لله شريكا ثالثا هو روح القدس وجعلوا الثلاثة واحدا والواحد ثلاثة. ويبدو أن الوقت لم يسعف النصارى الأوائل لكي يضعوا تفسيرًا مقنعا لهذا فقد شغلتهم الاختلافات الكثيرة وعقد المجامع الكنسية و تكفير بعضهم بعضا واختيار الأناجيل لذا فإن علماء النصارى المعاصرين أنفسهم يعترفون بصعوبة فهم حقيقة التثليث فيقول أحدهم: إن الثالوث سر يصعب إدراكه وإن من يحاول إدراك سر الثالوث كمن يحاول وضع مياه المحيط كله في كفه[66] ويقول القمص باسيليوس إسحق: " أجل إن هذا التعليم عن التثليث يفوق إدراكنا " [67] فهل يعقل أن تكون الحقيقة الكبرى في هذا الكون بهذا القدر من التعقيد؟ وأين ذكر التثليث في العهد القديم [68] الذي تنضح نصوصه بالتوحيد؟ هل يمكن أن يكون التثليث حقيقة ولا يأتي له ذكر على لسان أي نبي من الأنبياء في الكتاب المقدس بل ولم يعلمها المسيح لتلاميذه ولم يسمع بها أحد منهم في حين لا تكاد تخلو سورة في القرآن من التوحيد؟ (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ َيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ) فالجملة اليتيمة التي تثبت التثليث في يوحنا(1) ستعرف في آخر الرسالة أنها مدرجة ولم تكن في النسخ القديمة. ولكن على العكس هناك نصوص تفند هذا الإدعاء انظر مثلا قول المسيح عليه السلام:(اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد) مرقص 12: 29 ألا ترى أن هذه الجملة تعني لا إله إلا الله؟ ولو كان ما يدعيه النصارى صحيحا لقال المسيح "اسمع يا إسرائيل أنا إلهك رب واحد وثلاثة أقانيم" وإلا لكان المسيح غير أمينا. [69]وأيضا هناك قول المسيح أيضا:(وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع الذي أرسلته) يوحنا 17: 3.دليل آخر على التوحيد فهل هذه الجملة الصريحة يفهم منها عاقل أن الله مكون من ثلاثة أقانيم؟ ولا عجب ألا نجد في الكتاب المقدس ذكرا لثالوث ولا سادوس فإن أمر الروح القدس نفسه ظل مشكلا على القوم ثمانية قرون إلى عام 879 م حتى عقدوا المجمع الكنسي الثامن ليبحثوا أمره. وما روح القدس إلا ملك من الملائكة- وهو جبريل عليه السلام - أرسله الله بالوحي للأنبياء والرسل ويؤيد الله به المؤمنين، ونصوص العهد القديم والجديد شاهدة في أن روح القدس حل في كثير من الأنبياء، وفي الحواريين وفي غيرهم، و يأتي روح القدس بمعنى القوة والنصر والتأييد ولم يرد على لسان أى نبي أن الروح القدس إله مع الله(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً. لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) وأما المسيح فقد خلقه الله من أم بدون أب كما خلق حواء من أب بدون أم ونفخ فيه من روحه كما نفخ في آدم من روحه وأحيا له الموتى كما أحيا الموتى لأنبياء عديدين من قبل فهل نقول على آدم وحواء وهؤلاء الأنبياء أنهم أقانيم أيضًا؟ ألا ترى أنه لو كان المسيح وروح القدس إلهين من دون الله لكان ممكنا أن يريد كل واحد منهم شيء غير الآخر؟ فمن الذي تنفذ إرادته في هذه الحالة؟ أم أن كلا منهما إله ناقص الألوهية؟ (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) وإذا كان الثلاثة هم واحد فكيف يموت أحدهم على الصليب ويبقى اثنان لم يموتا؟! المفروض إن كان الثلاثة واحد والواحد ثلاثة أن يموتوا جميعا أو يحيوا جميعا. ولكن لما كان الله لا يموت كان يستلزم ذلك أنه لو كان هناك 3 أقانيم أن يموت أحدهم فقط دون الآخرين وهذا يعني أن الثلاثة أقانيم منفصلة وغير(5/145)
متحدة وهذا ينافي عقيدة التوحيد التي جاء بها الأنبياء جميعا. فكما ترى إن عقيدة الثالثوث والصلب لا تنسجمان معا بصورة منطقية ولا يمكن أن تكون هي الحق.
إن عقلاء الغرب بدأوا يدركون هذه الخدعة الكبرى فقد ظهر عام 1977 كتاب اسمه "أسطورة تجسيد الإله" The Myth of God Incarnateكتبه سبعة من كبار رجال اللاهوت البريطانيين بما فيهم رئيس لجنة مذهب كنيسة إنجلترا يعلنون فيه إنكار ألوهية المسيح ويقرون ببشريته فقط.[70]وقد أدلت مجلة تايم(27 فبراير 1978) بحثا هاما اشتغلت به دوائر جامعات وكنائس العالم الغربي وهو ظاهرة الدعوة إلى بشرية المسيح والمعارضة لألوهيته جاء فيه: إن موجة الرفض لفكرة ألوهية المسيح أو ازدواج طبيعته تزداد قوة وانتشارا في أوساط المفكرين اللاهوتيين سواء في الجامعات أو في الكنائس الغربية وهؤلاء الرافضون يعلقون أنه لا يوجد في الإنجيل ولم يثبت عن المسيح القول بألوهيته ويؤكدون أنه عليه السلام بشر عادي. [71] وفي سنة 1993 ألقي البابا يوحنا بولس الثاني خطابه الرسولي وأشار فيه إلى الانفصال المتزايد بين الكنيسة والرأي العام النصراني وذلك لعدم تصديق النصارى للعقيدة النصرانية الحالية كما طالب النصارى بعدم مناقشة العقيدة النصرانية والتسليم الأعمى بها. فهل يمكن أن يكلف الله البشر بالإيمان بعقيدة هذا شأنها؟؟
في البدء كانت الكذبة
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ
إذا نظرنا في تاريخ النصرانية لنعرف كيف تسربت هذه الوثنية إليها سنرى أن أتباع المسيح عليه السلام بعد رفعه إلى السماء ظلوا يعبدون الله الواحد الأحد في الهيكل تنفيذا لتعاليم المسيح عليه السلام: [ إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالحري إلى خراف بني إسرائيل الضالة ] متى 10 / 5، 6 ولكنهم مع اضطهاد اليهود لهم حتى لا ينازعوهم السلطة الدينية داخل الهيكل تحولوا إلى عبادة الله في البيوت الواسعة وكان الذي يقود عمليات الاضطهاد ضد أتباع المسيح رجل يهودي اسمه شاؤول من طائفة الفريسيين أشد الطوائف اليهودية بغضا للمسيح ولكن ظل للحواريين كيانا منظما و ظلوا متمسكين بتعاليم المسيح بألا يمضوا إلى طريق الأمم وظلت دعوتهم مستمرة ثم حدث أمر غريب فقد تحول شاول فجأة من عدو لدود ظالم إلى رسول قديس يوحى إليه!! بدون مقدمات دخل شاؤول النصرانية ذاكرا أنه رأى نورا غامرا سمع منه صوتا إلهيا أعطاه إنجيلاً إلهيًا بدون أن يذكر أي شهود على هذه الحادثة!! وانتقل شاؤول فجأة من كرسي الجلاد إلى كرسي المحامي ثم أطلق على نفسه اسم بولس ثم أصبح بعدها أهم شخصية في تاريخ المسيحية باعتراف المؤرخين للآثار والتغييرات الكبيرة التي حدثت بسببه حتى إن المسيحية تسمى باسمه أحيانا فيقال مسيحية بولس. [72] ثم أخذ بولس يدعو الناس إلى ما كان غائبًا عن تلاميذ المسيح وما كان غائبا عن المسيح نفسه طوال حياته على الأرض من أمور مثل تجسيد الإله وألوهية المسيح ونظرية المخلص وعقيدة الفداء والصلب والخطيئة الأصلية والتي كانت عند الأمم الوثنية التي أراد بولس أن تنتشر فيها دعوته مع اختلاف الأسماء.[73]
وهنا يحق لنا أن نسأل عدة أسئلة إذا كان بولس رسولاً له كل هذه الأهمية فلماذا لم يبشر المسيح تلاميذه بنبوته؟؟ إن ذلك لم يحدث بدليل ما جاء في أعمال الرسل: و لما جاء شاؤول بولس إلى أورشاليم حاول أن يلتصق بالتلاميذ وكان الجميع يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ[74]!! ولماذا لم يختره المسيح ليكون من تلاميذه و يتلقى عنه مباشرة قبل أن يرفع إلى السماء؟ ولنا أن نسأل أيضا كيف ينتقل رجل فجأة من الكفر المحض إلى النبوة والرسالة بدون أن يمر بأي مرحلة وسيطة ولم يكن أي من الأنبياء السابقين كافرًا قط فضلا عن أن يكون عدوًا لدودًا للدعوة؟ ولماذا لا نجد أي نص في كتاب سماوي يدل أو يشير إليه أو يصفه، فرسائله تعد شهادة منه لنفسه فهي غير مقبولة، وكذلك ما كتب بتأثير منه؟ ولماذا لم يؤيده الله بمعجزة كما أيد موسى عليه السلام حين كلمه وكما أيد جميع الأنبياء؟ وما فائدة رسالته بعد رفع المسيح مباشرة إلا إن كان المسيح لم يبلغ رسالة ربه على الوجه الأكمل حاشاه من ذلك؟ وكيف عرف بولس فجأة بعد أن سمع الصوت أن الذي يخاطبه هو صوت الرب وليس شيطانا؟ و لماذا لم يذهب بولس بعد تنصره مباشرة إلى التلاميذ ليتلقى عنهم دين المسيح بل ذهب إلى الجزيرة العربية [75] ومكث بعيداً عن التلاميذ ثلاث سنين، ثم لقي اثنين منهم فقط لمدة خمسة عشر يوماً (انظر غلاطية 1/18- 19)(5/146)
و لو كانت هذه التغييرات التي أحدثها بولس وحيا من عند الله ألم يكن أولى أن ينال هذا الشرف أحد تلاميذ المسيح الذين آمنوا به في حياته وصحبوه و نالهم الاضطهاد في سبيل دينه من هذا الذي كان يحارب دعوة المسيح؟ بل ألم يكن أولى أن يخبر بها المسيح صراحة ولا يدعها لشخصية يكتنفها الريبة والغموض؟و لماذا لم يذكر بولس اسم شاهد واحد على الأقل على قصة الرؤية هذه؟ ألم يقر المسيح بأن شهادته هو لنفسه وحدها لا تكفي وإنما يلزم شهادة أخرى معه كما نصت على ذلك التوراة؟ [76] فهل بولس أفضل أم المسيح؟؟ وماذا عن الاختلافات في قصة رؤية بولس المزعومة بين الروايات المختلفة التي تضحض هذه الواقعة؟ [77].
إن للرسل علامات من أظهرها أن يكونوا في الدرجة القصوى من حسن الخلق والسجايا الكريمة فهل تحقق هذا في بولس؟ إذا نظرت في نصوص العهد الجديد ستجد له مواقف تطفح غرورا ونفاقا وكذبا في سبيل تحقيق أهدافه فتجده يقول:"صرت لليهود كيهودي.. وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس…و للذين بلا ناموس كأني بلا ناموس…صرت للكل كل شيء"(كورنثوس(1)9/20-21. فهو يريد أن ينشر دين الله بالكذب والطرق الملتوية وانظر إليه عندما خاف من الجند قال لهم: "أيجوز لكم أن تجلدوا إنساناً رومانياً"فذهب القائد بنفسه إلى بولس وسأله: "أأنت حقا روماني؟" فأجاب: "نعم!" فقال القائد: "أنا دفعت مبلغا كبيرا من المال لأحصل على الجنسية الرومانية". فقال بولس: "وأنا حاصل عليها بالولادة!»أعمال22/25-28فانظر إلى هذا الكذب البواح مع أنه يهودي فريسي ابن فريسي كما في(أعمال 6:23) وهو يسيء الأدب مع الله قائلا بلا ذوق " لأن جهالة الله أحكم من الناس، وضعف الله أقوى من الناس"(كورنثوس(1)1/25) ويقول عن التوراة(لو كان العهد السابق بلا عيب، لما ظهرت الحاجة إلى عهد آخر يحل محله) عبرانيين(8/7) ويقول مستحلاً المحرمات: " كل الأشياء تحل لي"(كورنثوس(1)6/12) [78]بالإضافة لأنه جعل نفسه حواريًا بل قديسًا معصومًا فوق الأنبياء جميعًا يدين العالم كله بما فيهم الملائكة الذين جعل المسيح دونهم بقليل [79] انظر عبرانيين 9/2 و كورنثوس(1)6/2-3
ولم يكتف بولس بذلك ولكنه ملأ العهد الجديد بأرائه المحضة ثم جعلها وحيا مقدسا من عند الله فتراه يقول(إِذاً من زُوِّج فحسنا يفعل ومن لا يُزَوج يفعل أحسن)(كورنثوس(1) 7/39) فهل هذا يتفق مع فطرة الله التي فطر الناس عليها؟ وماذا يحدث لو طبق جميع الناس هذه النصيحة الغبية؟ حتى رسائله الشخصية البحتة التي لا تعني أي شيء بالنسبة للناس جعلها وحيا أيضا من عند الله فيقول في رسالته إلى تيموثاوس "سلم على برسكا وأكيلا، وعائلة أونيسيفورس. أراستس مازال في مدينة كورنثوس. أما تروفيموس، فقد تركته في ميليتس مريضًا. اجتهد أن تجيء إلي قبل حلول الشتاء.يسلم عليك إيوبولس، وبوديس، ولينوس، وكلوديا، والإخوة جميعا). فما علاقة هذه السلامات والتحيات بوحي الله للعالمين؟ وهو لا ينسى ردائه أيضًا في هذه الرسالة فيقول) وعندما تجيء، أحضر معك ردائي الذي تركته عند كاربس في ترواس، وكذلك كتبي، وبخاصة الرقوق المخطوطة.!!) فهل هذا كلام مقدس؟(5/147)
إن المسيح عليه السلام قد بشر ببولس رسولا للشيطان لا رسولا للرحمن فقال: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد من الناموس حتى يكون الكل، فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى: أصغر في ملكوت السماوات"(متى 5/17-19)، و بولس معناها "الصغير") وهو الذي نقض وصايا المسيح ووصايا موسى عليهما السلام التي قال عنها المسيح " إ ن أردت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا ". متى [ 19: 16 ] وقال أيضا " « على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون.)) متى [ 23: 1 ] فقد أحل بولس شرب الخمر ودعا إليها صراحة وأحل أكل لحم الخنزير وحلل ذبيحة الصنم وأبطل مفهوم النجاسة و حرم الختان –مع أن المسيح قد اختتن[80]- وألغى تقديس يوم السبت وقال عن الشريعة التي كان المسيح من أشد الناس تمسكا بها أنها (لم توصل الذين كانوا يعبدون الله بحسبها ولو إلى أدنى درجات الكمال)[81] ثم وصل به الحال إلى أن ألغى الشريعة معللا ذلك بكل وقاحة بأن الشريعة تجلب الغضب، وحيث لا تكون شريعة لا تكون معصية [ رومية 4: 15 ] وقال "لذا نحن - أي بولس- نقرر تبرير أعمال الإنسان من خلال إيمانه، بدون التزامه بالشريعة " [82][ رومية 3: 28 ] فجعل بولس فصلا تاما بين الإيمان والعمل وجعل المطلوب من الشخص فقط كي ينجو أن يؤمن أن المسيح مات على الصليب كفارة لأخطاء البشرية ثم لا عليه بعد ذلك أن يفعل ما يريد طالما آمن بالمخلص فالنجاة ستأتيه أوتوماتيكيا!! حتى أنه أخبر أن الكافر الذي لا يؤمن بالمسيح قد يدخل الجنة إذا كان متزوجا من امرأة مؤمنة(كورنثيوس1 8:7-16)[83]
ولا يخفى ما لهذا الاعتقاد من أثر في التسبب في الانحلال الخلقي و الفوضى الاجتماعية. و على عكس ذلك قال يعقوب تلميذ المسيح في رسالته: " قائلاً:(يا إخوتي، هل ينفع أحدا أن يدعي أنه مؤمن، وليس له أعمال تثبت ذلك، هل يقدر إيمان مثل هذا أن يخلصه؟) [14:2] و قوله " وهذا يؤكد لك، أيها الإنسان الغبي، أن الإيمان الذي لا تنتج عنه أعمال هو إيمان ميت " [2: 20]
و قد دعي بولس في الدنيا بالصغير، ولسوف يدعى في الآخرة أصغر جزاء تبديله للناموس والوصايا
غير أن أخطر الشروخ التي أصابت جدار المسيحية على يد بولس على الإطلاق هي الوثنية المتمثلة في عقائد تجسيد الإله و صلبه وأكل لحمه ودمه في العشاء الرباني وغير ذلك مما نبت من أفكاره الفلسفية[84] أو معتقدات الشعوب الأخرى التي أراد للمسيحية أن تنتشر فيها. يقول شارل جنيبر" إن الدراسة المفصلة لرسائل بولس الكبرى تكشف لنا النقاب عن مزيج من الأفكار فيبدو لأول وهلة غريبًا حقًا فهي مزيج من الأفكار اليهودية ثم من المفاهيم المنتشرة في الأوساط الوثنية اليونانية ومن الذكريات الإنجيلية والأساطير الشرقية" [85]
ويبدو أن هم بولس الأول الذي استطاع تحويل المسيحية من دعوى قومية إلى بني إسرائيل كما كانت في عهد المسيح إلى دعوة عالمية كان الاستكثار من الأتباع و المؤمنين الجدد من أبناء الأمم المجاورة لذا صاغ لهم من معتقداتهم القديمة دينه الجديد الذي لا يمت للمسيح بصلة إلا اسمه ويدل على ذلك التشابه الشديد بين عقائد النصارى الحالية والعقائد الوثنية القديمة. [86] فكما أن الآلهة عند الرومان تتجسد على شكل مخلوقات وتصارع البشر جعل بولس إلهه الجديد كذلك وكما أن البشرية في نظر الحضارات القديمة تحتاج إلى منقذ يخلصها من اللعنة جعل بولس ذلك في دينه الجديد ومن أمثلة ذلك ديانة (مثرا) الذي كانوا يسمونه في أوروبا(مثرا إله الخلاص) والمثراوية تحوي المعمودية والعشاء الرباني[87] أيضًا حتى أن بعض الباحثين أعلن في وضوح أن النصرانية هي المثراوية في ثوبها الجديد ولهذا قيل «لم تتنصر الروم ولكن تروَّمت النصارى». يقول د. جنيبر: [ ورأى بولس بوضوح أيضًا أن الأتباع الجدد من المشركين لم يكونوا ليتقبلوا كل القبول(فضيحة الصليب)أنه يجب تفسير ميتة عيسى المشينة تفسيرًا مرضيًا يجعل منها واقعة ذات مغزى ديني عميق.. وأعمل بولس فكره في هذه المشكلة.. ووضع لها حلاً كان له صدى بالغ المدى.. لقد تجاهل فكره عيسى الناصري(المسيح عليه السلام) ولم يتجه إلا إلى عيسى المصلوب(الشخصية التي اخترعها بولس) فتصوره شخصية إلهية تسبق العالم نفسه في الوجود.. رجل سماوي احتفظ به الله إلى جانبه أمدًا طويلاً حتى نزل إلى الأرض لينشيء فيها حقًا بشريًا جديدة يكون هو دمها..][88](5/148)
فإذا نظرنا إلى موقف تلاميذ المسيح من بولس فبرغم من أن بعضهم تقبله في البداية عملا بحسن الظن الذي علمهم إياه المسيح إلا أنهم عارضوا دعوته ووقفوا في وجهها بعد أن ظهرت لهم بدعه المهلكة ودليل ذلك اختفاء ذكرهم عن عالم المسيحية بعد ظهور بولس، فقد اختفت كتاباتهم وحوربت، ولم ينج منها إلا إنجيل برنابا ورسالة يعقوب المضمنة في رسائل العهد الجديد والتي تمتلئ بمخالفة بولس وخاصة في مسألة الفداء.حتى برنابا وهو الوحيد الذي قدم بولس إلى التلاميذ نفر منه بعد ذلك واختلف معه وتركه واختفى ذكره من العهد الجديد بعد هذه الحادثة و لو كان بولس رسولا من عند الله حقا لما تركه تلميذ المسيح عليه السلام[89].
وقد ظل المؤمنون من أتباع التلاميذ الذين كانت لهم رسائلهم وكتبهم أيضًا يعبدون الله على شريعة المسيح بدون أن يتأثروا ببدع بولس وحارب الكثير منهم دعوة بولس واتهموه بأنه أفسد الديانة المسيحية بعد أن عجز عن القضاء عليها بالسيف والسلطان فدخل في المسيحية وأخرجها من التوحيد إلى الوثنية. حتى بدأ تدخل السلطة وانعقاد المجامع الكنسية. وفي ذلك يقول الشاعر القروي السوري رشيد سليم الخوري -المولود في أسرة أرثوذكسية: " إن الكنيسة ظلت حتى مطلع القرن الرابع الميلادي تعبد الله على أنه الواحد الأحد وأن يسوع المسيح عبده ورسوله حتى تنصر قسطنطين عاهل الروم وتبعه خلق كثير من رعاياه اليونان والرومان فأدخلوا بدعة التثليث وجعلوا لله سبحانه وتعالى أندادًا شاركوه منذ الأزل في خلق السماوات والأرض وتدبير الأكوان ومالأهم الأسقف الأنطاكي مكاريوس فثار زميله الأسقف أريوس على هذه البدعة ثورة عنيفة شطرت الكنيسة واتسع بين الطائفتين نطاق الجدل حتى أدى إلى الاقتتال وفاز أريوس بالحجة القاطعة في المجامع بيد أن السلطة وضعت ثقلها في الميزان فأسكتت صوت الحق وأنفذت صوت الباطل واستمر المسيحيون يعمهون في ضلالتهم ".
وقضية المجامع هذه أمرها عجيب. فإزاء تعدد مذاهب النصارى في المسيح عليه السلام وتعدد أناجيلهم كذلك التي بلغت أكثر من خمسين إنجيلاً كما تذكر بعض الروايات تم عقد المجامع الكنسية وأولها مجمع نقية عام 325 م الذي اجتمع فيه أكثر من ألف أسقف لكي يحددوا طبيعة المسيح عليه السلام ويختاروا الأناجيل المعترف بها من ضمن عشرات الأناجيل وبرغم أن 338 أسقفا فقط هم من قالوا بألوهية المسيح إلا أن الإمبراطور الروماني قسطنطين انحاز إلى هذا الرأي –وهو الأقرب إلى وثنيته- وانفض المجمع على لعن أريوس الذي يقول بالتوحيد ونفيه وطرد من قال برأيه وحرق كتبه واختيار أربعة أناجيل فقط هي أناجيل يوحنا ولوقا ومتى ومرقص التي كانت تعزز عقيدة ألوهية المسيح وحرق بقية الأناجيل وقتل كل من يثبت اقتناؤه لها وأما الرسائل السبع فلم يعترف المجمع المذكور بالكثير منها، وإنما تم الاعتراف بها فيما بعد وهذا القدر من التاريخ يتفق عليه جل المؤرخين. وهكذا تحققت نبوءة المسيح وهي قوله(ستطردون خارج المجامع، بل سيأتي وقت يظن فيه من يقتلكم أنه يؤدي خدمة لله. وهم يفعلون هذا بكم لأنهم لم يعرفوا أبي، ولا عرفوني) يوحنا 2:16 و إنا لنعجب أشد العجب من دين يتم اختيار عقائده وكتبه بهذه الطريقة... هل يمكن أن يترك الله الناس في حيرة بدون بينة واضحة أو كتاب منير فيحددوا طبيعة إلههم وكتبهم المقدسة من خلال المؤتمرات التي تتلاعب فيها الأهواء والمصالح وحب الرياسة وتقلبات السياسة بالنفوس البشرية؟[90]أم أن الحق كان واضحا ولكن اختلاف الكهنة والعلماء وإتباع الأهواء أذهب به؟ ولماذا تم رفض بقية الأناجيل برغم أن الأشخاص الذين كتبوها تعتبرهم الكنيسة قديسين؟ ولماذا كانت هذه الأربعة فقط هي وحي الله وما عداها ليس وحيا؟(91) وما الذي يضمن أن قرارات هذه المجامع هي قرارات معصومة من الخطأ وهي التي كانت قلما كان يسلم أعضاؤها من الاختلاف بل كانت تنتهي غالبا بلعن بعضهم بعضا!! لا شك أن أي عاقل لا يقبل أن يتحدد دينه واعتقاده و هو أهم ما لديه بهذه الطريقة.
و برغم نتيجة هذه المجامع وانحياز الإمبراطور الروماني لوثنية روما في شكلها الجديد واضطهاد الدولة الرومانية لأتباع أريوس فإنه ظل من النصارى من يعبد الله وحده واستمر من عقلاء النصارى ومصلحيهم من كل جيل من يستيقظ عقله ليعلن فساد مبدأ التثليث والتجسد من حين لآخر فيناله ما يناله من الاتهام بالهرطقة والتكفير والحرمان من دخول الجنة من الكنيسة حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فانتصر لأتباع التوحيد وأصبحوا ظاهرين من حينها و تولت أمة الإسلام أمر الدعوة إلى عبادة الله وحده و ما زال يلبي هذه الدعوة إلى اليوم كل من استمع لنداء عقله وفطرته وقلبه من علماء النصارى وعوامهم على السواء.[92](5/149)
على أن فساد النصرانية لم يقتصر في أمر الإلوهية ولكن جعلت الكنيسة لنفسها سلطة مغفرة الذنوب ودخول الجنة وجعلت لذلك صكوكا فأقحمت نفسها بين العبد وربه و احتكرت لنفسها حق تفسير الإنجيل بل وقراءته [93]وجعلت لنفسها أسرارا لا يجوز للناس الاطلاع عليها و أدخلت بدعة تقديس مريم عليها السلام وتقديس أشخاص عاديين وبدعة القربان المقدس وادعت عصمة البابا[94]بل صار البابا يتلقى من الرب مباشرة وجعلت السجود للصور والتماثيل والصلبان كعباد الأوثان داخل الكنائس- وهي جمادات لا تنفع ولا تضر- [95]فأصبح تعلق النصراني بتمثال المسيح وصورته والصليب بعد أن كان بالله و وبدلت التشريعات التي كانت سائدة أيام المسيح كالصوم وحرمت الطلاق وحولت اتجاه القبلة من بيت المقدس إلى مشرق الشمس وابتدعت الرهبنة التي تقوم على تعذيب الجسد وأوقدت شرارة سلسلة من الحروب الهمجية عرفت في التاريخ باسم الحروب الصليبية و صادرت الكنيسة عقول الناس وأفكار العلماء واضطهدتهم فأشعلت الصراع النكد مع العلم وظلت أوروبا تعيش في عصور الظلام مئات السنين حتى نبذ أهلها الدين وضاقوا ذرعا بتسلط الكنيسة وطغيانها فظهرت عدة ثورات وحركات إصلاحية[96]نادت بالتحرر من سلطة الكنيسة ورُفِع شعار اللادينية وحينها فقط بدأ ما يعرف بعصر النهضة الأوروبية!!
يكتبون الكتاب بأيديهم
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً(5/150)
أنزل الله على عيسى عليه السلام الإنجيل وقال عنه في القرآن(فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) و هذا الكتاب المبارك هو الذي كان يسمى بالإنجيل فقط غير منسوب إلى مؤلف من البشر وقد علمه المسيح عليه السلام لتلاميذه ووردت إشارات عنه في الكتاب المقدس [97]إلا أنه يبدو أن هذا الإنجيل قد تعرض للفقد مع معظم كتابات التلاميذ التي كانوا يكتبون فيها مذكراتهم و تسجيلهم للأحداث ووصاياهم وقد عرفت أيضا باسم الأناجيل إثر المحاولات الغاشمة من الكنيسة للقضاء عليها وحرقها وقتل مقتنيها. و قد بلغت هذه الكتب أكثر من خمسين إنجيلا و منها إنجيل برنابا وإنجيل الطفولة ويُنسب لمتى الحواري وإنجيل فيليب ويُنسب لفيليب الحواري وإنجيل المصريين ويُنسب لمرقص الحواري و إنجيل الإثنى عشر رسولا و إنجيل العبرانيين أو الناصريين و إنجيل السبعين وينسب لتلامس وإنجيل مريم المجدلية وإنجيل الحياة وإنجيل الولادة وإنجيل التذكرة وإنجيل مرقيون وقد تم رفض أكثر هذه الأناجيل بعد مجمع نيقية وبقيت شذرات منها في المكتبات القديمة إلا أن إنجيل برنابا منها هو الذي ذاع صيته وانتشر و ترجم إلى لغات عديدة. وقد جاء ذكر إنجيل برنابا في ثنايا قرارات الكنسية منذ القرن الرابع الميلادي تحرض على منع قراءته مثل قرار البابا ديماسوس عام 366 م وقرار البابا جلاسيوس الأول الذي جلس على كرسي البابوية عام 492 م يحرم فيه قراءة عدة كتب منها إنجيل برنابا.ويتفق المؤرخون على أن أقدم نسخة عثروا عليها لهذا الإنجيل، نسخة مكتوبة باللغة الإيطالية، عثر عليها كريمر أحد مستشاري ملك بروسيا، و ذلك فى سنة 1709. و قد انتقلت النسخة مع بقية مكتبة ذلك المستشار فى سنة 1738 إلى البلاط الملكي بفينّا. و كانت تلك النسخة هى الأصل لكل نسخ هذا الإنجيل في اللغات التي ترجم إليها. وبرنابا كاتب هذا الإنجيل هو أحد حواريي المسيح، واسمه يوسف بن لاوي بن إبراهيم وجاء في العهد الجديد أنه باع حقله وجاء ووضعه عند أرجل تلاميذ المسيح(انظر أعمال 5/36 – 37)، عرف بصلاحه وتقواه وقد ذهب برنابا للدعوة في أنطاكية.. "ووعظ الجميع أن يثبتوا في الرب بعزم القلب، لأنه كان رجلاً صالحاً وممتلئاً في الروح القدس والإيمان، فانضم إلى الرب جمع غفير "(أعمال 11/22 – 24) و يعتبر إنجيل برنابا وثيقة إدانة ضد التحريف الذي أحدثه بولس الكذاب وبابوات الكنيسة من بعده في النصرانية وشاهدا على صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ أنه يقر بوحدانية الله عز وجل و ببشرية المسيح عليه السلام ويبشر برسول الإسلام باسمه الصريح محمد لذا لم تعترف به الكنيسة وحرمت قراءته ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره فالكتاب مترجم للعربية ومتاح للجميع[98]وهذا لا يعني أنه خالي من الأخطاء فهو كأي عمل بشري معرض لذلك لكنه أقرب الأناجيل إلى الصواب. وهذه إحدى فقراته يبشر المسيح فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم " فأجاب يسوع....الحق أقول لكم إن كل نبى متى جاء فإنه إنما يحمل علامة رحمة الله لأمة واحدة فقط. و لذلك لم يتجاوز كلامهم الشعب الذى أرسل إليهم. و لكن رسول الله متى جاء. يعطيه الله ما هو بمثابة خاتم. فيحمل خلاصا و رحمة لأمم الأرض الذين يَقبلون تعليمه. و سيأتى بقوة على الظالمين. و يبيد عبادة الأصنام بحيث يخزى الشيطان. لأنّه هكذا وعد الله إبراهيم قائلا(أنظر فإني بنسلك أبارك كل قبائل الأرض و كما حطّمت يا إبراهيم الأصنام تحطيما هكذا سيفعل نسلك").(5/151)
أما التوراة فلم تسلم هي الأخرى من التلاعب والتحريف فقد آتى الله موسى الكتاب فيه هدى ونور ومن كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء لكن أحبار السوء الذين ورثوا الكتاب كانوا يشترون به ثمنا قليلا فيخفون كثيرا من أجزائه للهروب من أحكامه غالبا وكسب المال ويكتبون بدلا منها كتبا بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله حتى تحول الكتاب إلى هذه المجموعة المشوهة أخلاقيا وعلميا من الأسفار التي تعرف بالعهد القديم بعضها لمؤلفين مجهولين كما ذكر مراجعو الطبعة المنقحة RSVمثل سفر صموئيل وسفر أخبار الأيام[99]والتي لا نجد بينها التوراة كما كانت على عهد موسى. وصدق الله إذ يقول(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وهذا لا يمنع أن يكون في هذه الأسفار أثارة من علم الأنبياء وبقايا من وحي السماء، لكنها غارت في بحور من تخليط البشر وتحريفهم وسترى أمثلة على ذلك ولذلك فإن فِرَق النصارى مختلفون في كتابهم المقدس أشد الاختلاف فتجد مثلا البروتوستانت -وهم أشد الفرق تعظيما له ولذلك سموا بالإنجيليين- لا يعترفون بسبعة أسفار من كتاب الكاثوليك وتوجد اختلافات كثيرة في الأسفار المعترف بها لديهم بين كتابهم وكتاب الكاثوليك فأي الكتابين هو الصحيح؟؟ هذا بالإضافة للأسفار المفقودة ومشار إليها في ثنايا العهد القديم مثل كتاب حروب الرب المذكور في سفر العدد 14:21و كتاب ياشر المذكور في يشوع 10:13.
و أما الأناجيل المعترف بها اليوم- وهي إنجيل متّى، وإنجيل مرقص، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا التي ضمنتها الكنيسة مع رسائل بولس و بقايا التوراة المحرفة في كتاب واحد أسمته الكتاب المقدس فبالرغم من أي من كتّاب هذه الأناجيل لم يدع الإلهام لنفسه وإنما اعترف بعضهم بأن ما كتبه هو مجرد تسجيل للأحداث حسبما يراها هو فإن الكنيسة تصر على هذه الدعوة ولكن ما بهذه الأناجيل من أخطاء وتناقضات[100]يكشف زيف هذه الدعوة بكل وضوح. يقول روبرت كيل تسلر[101]في كتاب حقيقة الكتاب المقدس: " أما ما يخص العهد الجديد فإن النص الأصلي -وهو ليس لدينا كما ذكرنا من قبل - قد تكوَّن بين أعوام(50) و(200) بعد الميلاد، وهذه مدة كبيرة من الزمن بعد وفاة يسوع، بل إن(50) سنة لتعد أيضاً فترة زمنية كبيرة وفي هذا الزمن استطاعت بعض الأساطير أن تجد لها طريقاً تنتشر فيه، في وقت لم يعد فيه شهود عيان عند تكوين معظم النصوص الأصلية وهنا يجب علينا أن نتذكر: كم من الأساطير نشأت فقط بعد عدة سنوات بسيطة من حريق جيوفارا؟ " وإذا لم تكن مصدقا بوجود الإشاعات في الأناجيل فقل لي بربك من أين عرف المؤلفون الأحداث التي تلت القبض على شبيه المسيح إذا كان كل التلاميذ قد تركوه وهربوا كما هو مذكور في متى 56:26 ومرقس 50:14 إلا عن طريق الإشاعات؟
أول هذه الأخطاء هي نسبة الأناجيل نفسها لأصحابها فهي نسبة تعتريها الشكوك وتحوم حولها الشبهات من كل جانب.أما بالنسبة لإنجيل يوحنا فقد كتب في أواخر القرن الأول الميلادي في حين أن يوحنا الحواري كما يقول بعض المؤرخين مات مشنوقا سنة 44م على يد غريباس الأول وهو كما يذكر مؤلفه مكتوب خصيصا لإثبات إلوهية المسيح فقد ظلت الأناجيل نحو قرن من الزمان ليس فيها نص على إلوهية المسيح فالأساقفة اعتنقوا إلوهية المسيح قبل وجود النص الذي يدل عليها ولما أرادوا أن يحتجوا على خصومهم لم يجدوا مناصا من أن يلتمسوا دليلا ناطقا بذلك فكتب أحدهم أو بعضهم هذا الإنجيل[102]. تقول دائرة المعارف البريطانية: "يعتقد كثير من العلماء أن نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري غير صحيحة"[103] وجاء في الترجمة المسكونية للإنجيل كلام مماثل لذلك. ولولا خشية التطويل لذكرت أراء عددا من الباحثين بأسمائهم ولكن أكتفي بذكر كلام القس فهيم عزيز بعد طرحه لسؤال من كاتب إنجيل يوحنا: يجيب القس فهيم عزيز: " هذا السؤال صعب، والجواب عنه يتطلب دراسة واسعة غالباً ما تنتهي بالعبارة: لا يعلم إلا الله وحده من الذي كتب هذا الإنجيل ". وهذه شهادة من أهلها لا تحتاج معها لشهادة أخرى. أما إنجيل متى فقد جاء في مقدمة الرهبانية اليسوعية لإنجيل متى: " أما المؤلِّف، فالإنجيل لا يذكر عنه شيئاً وأقدم تقليد كنسي ينسبه إلى الرسول متى.. ولكن البحث في الإنجيل لا يثبت ذلك الرأي أو يبطله على وجه حاسم، فلما كنا لا نعرف اسم المؤلف معرفة دقيقة يحسن بنا أن نكتفي ببعض الملامح المرسومة في الإنجيل نفسه... ".(5/152)
أما مرقس ولوقا فلم يكونا من تلاميذ المسيح عليه السلام يقول المفسر دنيس نينهام مفسر مرقس: " لم يوجد أحد بهذا الاسم عرف أنه كان على صلة وثيقة، وعلاقة خاصة بيسوع، أو كانت له شهرة خاصة في الكنيسة الأولى ". وقال بطرس قرماج في كتابه " مروج الأخبار في تراجم الأبرار " عن مرقس: "كان ينكر ألوهية المسيح ". وأما لوقا فقد كفانا عناء البحث في أقوال المؤرخين إذ يقول بنفسه في مقدمة إنجيله " إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة
رأيت أنا أيضاً - إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق - أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علِّمتَ به " فالذين كانوا في البدء هم التلاميذ و هو يعلن أنه لم يكن معهم. [104]
أما عن النسخ الأصلية التي كتبت منها هذه الأناجيل فيقول موريس نورن في " دائرة المعارف البريطانية ": " إن أقدم نسخة من الأناجيل الرسمية الحالية كتب في القرن الخامس بعد المسيح، أما الزمان الممتد بين الحواريين والقرن الخامس فلم يخلف لنا نسخة من هذه الأناجيل الأربعة الرسمية، وفضلاً عن استحداثها وقرب عهد وجودها منا، فقد حرفت هي نفسها تحريفاً ذا بال، خصوصاً منها إنجيل مرقس وإنجيل يوحنا" وهذا يعني أن هذه الأناجيل منقطعة السند[105]فضلا عن أن هذه النسخ القديمة ليست باللغة الأصلية التي كتبت بها الأناجيل ولا يُعلم من ترجمها ولا متى ترجمت!! ولا توجد أي طريقة علمية لإثبات أن هذه النسخ هي نفسها التي كانت موجودة في القرنين الأول والثاني الميلادي إلا المقارنة بين عدة نسخ من هذه المخطوطات لنفس الإنجيل لا تعتمد على بعضها البعض وحينها لن تكون المقارنة بالتأكيد في صالح الكتاب المقدس!! حتى عملية النسخ نفسها قبل اختراع الطباعة لا يمكن التسليم بدقتها نظرا لإنه لم يكن محفوظا عن ظهر قلب في صدور الرجال كالقرآن ولتغير اللغة ومعاني الكلمات عبر القرون المتطاولة فضلا عن أن اللغات مختلفة في ثرائها اللغوي عن بعض وقد توجد كلمات في لغة لا يوجد نظير لها في لغة أخرى لذا لا يمكن التسليم بالدقة الكاملة لمن ترجم كلام المسيح مثلا من الآرامية ثم إلى اليونانية ثم إلى اللاتينية والعربية وأي ادعاء بأن الكتاب الحالي هو كتاب مقدس يلزم أن يكون جميع المترجمين الذين ترجموه قديسين أو موحي إليهم من الروح القدس فهل تضمن الكنيسة ذلك؟ [106](5/153)
لكن حدث اكتشافان أثريان هامان في أواسط القرن العشرين قد يؤديان لحدوث انقلاب في النظرة للكتاب المقدس والعقيدة النصرانية من أساسها. الأول هو مخطوطات كثيرة ترجع للقرن الأول الميلادي[107]أو قبله تخص جماعات مسيحية موحدة عاشت في هذه الفترة عثر عليها أحد البدو صدفة داخل أوان من الفخار في كهوف قمران بجوار البحر الميت عام 1947 لذا هي تعرف بمخطوطات البحر الميت((Dead Sea Scrolls. هذه المخطوطات كتب عنها الدكتور ف. البراين و هو عمدة في علم آثار الإنجيل: " إنه لا يوجد أدني شكل في العالم حول صحة هذا المخطوط و سوف تعمل هذه الأوراق ثورة في فكرتنا عن المسيحية، و قال عنها القس(أ. باول ديفيز) في كتابه عن مخطوطات البحر الميت[108](إن مخطوطات البحر الميت و هي من أعظم الاكتشافات أهمية منذ قرون عديدة، قد تغير الفهم التقليدي للإنجيل). ويعتقد كثير من العلماء أن هذه المجموعة التي كتبت المخطوطات هي من الأسينيين ويعتقد آخرون أنهم من الأبيونيين الذين كانوا يعتقدون بوحدانية الله وبشرية المسيح عليه السلام و تنكروا لبولس الكذاب و قد اضطهدهم الرومان. وتتحدث الوثائق صراحة عن التنبؤ بمسيحين سوف يرسلهما الله للعالم أحدهما سيكون من نسل هارون وإسرائيل(يعقوب) عليهما السلام و ستكون مهمته محصورة في التوجيه الديني(priestly messiah) ويسميه أتباعه بمعلم البر والتقوى(Teacher of Righteousness) ولكن أحد الكهنة وهو الكاهن الشرير Wicked)(Priest سوف يخونه من أجل المال ويحاول تسليمه لأعدائه لكن الله يعاقبه هو بأن يسلمه إليهم و يجعلهم يقتلونه وتتحدث أيضا المخطوطات عن الكذاب(Man of lies)[109]الذي لوث اسم المعلم واحتقر التعاليم وأضل الكثيرين وواضح أن معلم البر والتقوى هو المسيح عليه السلام والكاهن الخائن هو يهوذا الذي دل الرومان على مكانه فمكر الله به وألقى عليه شبه المسيح وأما الكذاب فهو بولس الذي لوث اسم المسيح ونسب إليه ما لم يقله وأضل الملايين من بعده. وأما المسيح الآخر الذي تتحدث عنه المخطوطات فهو الذي سوف تشرق شمسه على كل العالم لتبدد الظلمات وسوف تكون كلماته كوحي السماء وسوف يحكم سيفه على جميع العالم وسوف يُرسل لجميع أبناء عصره و يمحو الجيل الذي بعث فيه الشر من العالم وسوف يختلق الناس الأكاذيب عنه[110] وقد وردت له ولأصحابه صفات كثيرة في هذه المخطوطات تنطبق على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويمكنك أن تقرأ في هذه المخطوطات بنفسك فهي موجودة في العديد من المكتبات العامة ومترجمة للعربية والإنجليزية وموجود فصول منها على الانترنت.
وأما الاكتشاف الثاني فهو مكتبة كاملة من الكتابات المسيحية القديمة عثر عليها في نجع حمادي Nag Hammadi Library))بمصر وهي موجودة الآن بالمتحف القبطي في القاهرة و من ضمن محتويات هذه المكتبة إنجيل توماس(توما) وهو يحوي سردا لأقوال المسيح عليه السلام وإنجيل فيليب وإنجيل الحق وإنجيل المصريين، إلى جانب بعض كتابات منسوبة للحواريين، مثل كتاب جيمس- يحمس في المصرية- و بعكس الأناجيل الأربعة المعروفة فلم يرد أي ذكر لقصة الصلب المزعومة في مكتبة نجع حمادي بل ورد تكذيب صريح لها. و محتويات هذه المكتبة أيضا مترجمة ومتاحة للباحثين ومن أمثلة ما ورد في إنجيل بطرس على لسان بطرس(رأيته يبدو وكأنهم يمسكون به فقلت ما هذا الذي أراه يا سيد هل هو أنت حقا من يأخذون؟ أم أنهم يدقون قدمي ويدي شخص آخر قال لي(المخلص) من يدقون المسامير في يديه وقدميه هو البديل فهم يضعون الذي بقي فيّ شبهه في العار انظر إليه وانظر إلىّ) وتدل الرسومات الموجودة على أغلفة مجلدات هذه المكتبة على أن المسيحيين الأوائل في مصر كانوا يتخذون مفتاح الحياة الذي يرمز لخلود الروح عند المصريين القدماء كرمز للمسيح عليه السلام وليس الصليب الروماني المعروف الآن و من يذهب إلى المتحف القبطي في القاهرة يجد أن مفتاح الحياة هو الصليب الوحيد الذي يرمز لقيامة المسيح خلال القرون الثلاثة الأولى للميلاد. ولم تستخدم الكنائس المسيحية الصليب الروماني إلا منذ النصف الثاني من القرن الرابع عندما أصبحت كنيسة روما مسيطرة على الحركة المسيحية، ومع هذا فإن ذلك الصليب لم يصبح مقبولا لدى عامة المسيحيين إلا بعد أن أعلنت الكنيسة الرومانية عن العثور في مدينة القدس على ما قيل إنه الصليب الخشبي الذي مات عليه يسوع. ثم تطور الأمر بعد ذلك- خلال القرن الخامس- عندما وضعت الكنيسة الرومانية صور لجسد المسيح على الصليب الخشبي.[111](5/154)
إذا عدنا إلى الكتاب المقدس الموجود بين أيدي الناس اليوم -على اختلاف نسخه - وأخذنا ننظر في متنه وجدنا عجبًا بدءًا من التناقضات الصارخة بين رواية مؤلفي هذا الكتاب للأحداث و القصص الخيالية التي نسجت عن المسيح بل عن الله عز وجل التي لا يمكن أن يقبلها عقل و الكلام الفاحش الذي يتناول الجنس و النساء بصورة خارجة عن الحياء ونسبة جميع الخطايا للأنبياء بدءا من شرب الخمر والسرقة حتى الزنا والكفر بالله عز وجل مما أدى لظهور علم كامل في الغرب يعرف بعلم نقد الكتاب المقدس[112]يعتمد على إجراء البحوث العصرية و المقارنة بين النسخ والمخطوطات الموجودة لمعرفة الأخطاء الموجودة في هذا الكتاب والتي أوصلها بعضهم إلى ما يزيد عن 20 ألف خطأ!! [113]
وإذا أردت أمثلة فأول هذه الاختلافات التي تلفت النظر هي التباين الصارخ في سلسلة نسب المسيح بين إنجيلي متى ولوقا فهما مختلفان اختلافا يصعب الجمع بينهما سواء في عدد أجداد المسيح أو في أسمائهم ومثال ذلك عندما وصلت السلسلة إلى داود عليه السلام جعل متى المسيح من ولد سليمان الملك بينما جعله لوقا من ولد ناثان بن داود وهما أخوان ولا يعقل أن يكون المسيح من ذرية أخوين!! ثم إذا تأملت في سلسلة متى ستجد أنه ذكر للمسيح أربع جدات هن ثامار وراحاب وراعوث و وزوجة داود التي كانت لأوريا الحثي و لكل واحدة من هؤلاء الأربع سوءة تذكرها التوراة، فأما ثامار فهي التي ولدت فارص-وهو مذكور ضمن أجداد المسيح- زنا من والد أزواجها الذين تعاقبوا عليها واحداً بعد واحد.(انظر قصتها مع يهوذا في التكوين 38/2 - 30). وأما زوجة أوريا الحثي فهي التي تتهم التوراة - زوراً - داود بأنه فجر بها، فحملت، ثم دفع داود بزوجها إلى الموت، وتزوجها بعد وفاته.(انظر القصة الكاذبة في صموئيل(2) 11/1 - 4). وأما راحاب زوجة سلمون، وأم بوعز، وكلاهما من أجداد المسيح - حسب متى -، فراحاب هي التي قال عنها يشوع: "امرأة زانية اسمها راحاب "(يشوع 2/1)، وذكر قصة زناها في سفره. وأما راعوث فهي راعوث المؤابية والتوراة تقول: " لا يدخل عموي ولا مؤابي في جماعة الرب، حتى الجيل العاشر "(التثنية 23 / 3). ولحسن الحظ هذه المرة فإن المسيح ليس داخلاً في هذا الطرد من جماعة الرب، إذ هو الجيل الثاني والثلاثون لها[114]. فهل يعقل أن يكون المسيح عليه السلام ولد زنا؟؟! إن اعتقاد بطلان هذه القصص الكاذبة أهون بكثير من اعتقاد أن أجداد المسيح زناة. لكن الأدهى من ذلك وأمرّ هو أن كلا من الإنجيلين بدلا من أن ينسب المسيح إلى مريم عليها السلام نسبه إلى يوسف النجار!! أي أن هذه السلسلسة الطويلة من النسب هم أباء وأجداد يوسف النجار وليسوا أباء المسيح فما هي علاقة المسيح بيوسف النجار؟؟ ترى هل خاف كاتبا الإنجيل من اليهود فنسبا إلى مريم ما كان اليهود يرمونها به زورا وبهتانا فجعلوا المسيح من ذرية يوسف النجار؟؟(5/155)
و لا يقف التناقض بين الأناجيل عند نسب المسيح ولكن الاختلافات بينها تشمل أسماء تلاميذ المسيح الإثنى عشر إذ يقدم العهد الجديد أربع قوائم للتلاميذ الاثني عشر تختلف كل واحدة عن الأخرى في متى(10/1 - 4)، ومرقس(3/16)، لوقا(6/14) وأعمال(1/13). وكذا تشمل الاختلافات رواية أحداث كثيرة تروى عن المسيح بل وتجد التناقض على لسان المسيح نفسه فمثلا تجد في متى(11: 14) المسيح يقول عن يحيى أنه إيلي وفي يوحنا(1: 19-28(يحيى ينكر أنه إيليا و في إنجيل متى 16: 18-19 سمى المسيح سمعان بطرس وأعطاه مفاتيح ملكوت السموات وقال له كل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات بينما في نفس الصفحة قال له " اذهب عني يا شيطان.أنت معثرة لي"16: 23 ويذكر يوحنا أن المسيح قضى ثلاثة أعياد فصح في نبوته بينما تذكر الأناجيل الثلاثة الأخرى أن المسيح مارس النبوة عاما واحدا …إلى غير ذلك من عشرات بل مئات الاختلافات الصارخة في نصوص العهد القديم والجديد على السواء مثل التناقضات بين روايات حادثة الصلب المشار إليها آنفا فهل يا ترى يوحي الله بكلام يناقض بعضه بعضا؟ حاشاه وكلا. إذا لابد أن هذه الروايات هي من كلام بشر يخطئون ويصيبون ويتعصبون ويتقلبون وأما أن يأتوا بكلام مقدس من عند أنفسهم فهذا ما لا يستطيعون! كل هذه التناقضات دعت الأب كاننجسير Kannengiesserأستاذ معهد باريس الكاثوليكي في كتابه الإيمان بالقيامة وقيامة الإيمان[115]أن يقول ما معناه: " لا ينبغي اعتبار روايات الأناجيل حقائق لإنها نصوص مكتوبة تبعا للمناسبة أو نتيجة نضال جماعات متصارعة تسعى كل منها لإنفاذ نظرتها " وذكر الأب روجيت Roguet من باريس أيضا في كتابه مقدمة للأناجيل كلاما مثل هذا [116]و أما عن النبؤات الكاذبة التي لم يحدث أي منها إلى الآن فلم يبخل مؤلفو العهد الجديد بها ومن أظهرها نبوءة المسيح في(متى 24:29-34) بأن القيامة ستحدث في حياة الجيل الذي كان معه وقد مضى أكثر من أربعين جيلا ولم تقم القيامة!!(5/156)
وأما عن نسبة النقائص لله عز وجل فالكتاب المقدس قد صور الرب تبارك وتعالى بصوراً لا تليق أبداً بجلاله سبحانه وتعالى، ووصفه بأقبح الصفات. فمثلا تجد في سفر صموئيل الثاني [ 22: 9 ] أن الرب له أنف يخرج منه دخان وله فم يخرج منه نار(كتنين ضخم) يقول كاتب السفر:(عندئذ ارتجت الأرض وتزلزلت. ارتجفت أساسات السماوات واهتزت لأن الرب غضب. نفث أنفه دخانا، و نار آكلة من فمه، جمر اشتعلت منه..) بينما يجعل صاحب سفر ناحوم [ 1: 3 ]السحاب غبار رجل الله!!! يقول(طريق الرب في الزوبعة والعاصفة، والغمام غبار قدميه) أما صاحب سفر العدد فإنه يصف الرب بأنه(يجثم كأسد، ويربض كلبوة.) [ 24: 9 ]!! و لا يختلف مؤلف المزمور كثيرا عن أصحابه فإنه شبه الرب تبارك وتعالى بأنه ينام ويسكر ويصرخ عالياً من شدة الخمر فيقول في [ 78: 65 ]((فاستيقظ الرب كنائم كجبار معيط من الخمر يصرخ عالياً من الخمر))(تعالى الله عما يصفون) إلى غير ذلك من نصوص العهد القديم التي تجعل الرب يصارع الإنسان بل ويُهزم ويتعب وينسى ويغار و يبكي و يحزن ويندم لإنه خلق الإنسان - التكوين [ 6: 5 ] و أما في العهد الجديد فإن صاحب سفر رؤيا يوحنا يجعل الله في صورة خروف له سبعة قرون وسبع أعين(هؤلاء سيحاربون الخروف والخروف يغلبهم لأنه ربُّ الأرباب وملك الملوك [ 17: 14 ])!! ويتحدث العهد الجديد أيضا بسوء أدب عن الله قائلا "الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله"(كورنثوس(1) 2/10). وينسب الكتاب المقدس لله الأمر بالزنا والسرقة فأول ما يبدأ به هوشع سفره يقول:" أول ما كلم الرب هوشع قائلاً: اذهب خذ لنفسك امرأة زانية وأولاد زنى لأن الأرض قد زنت زنى" فهل يعقل أن يكون هذا الكلام وحي من عند الله؟ أما المسيح عليه السلام فلم يسلم أيضا من سوء أدب مؤلفي العهد الجديد المجهولين ولم يقف الافتراء إلى جعل المسيح من ذرية زناة ولكنهم ذكروا أن الشيطان قد أخذ المسيح عليه السلام لكي يختبره وصعد به فوق قمة جبل-(متى 1:1-15)!! فهل يمكن أن يكون المسيح نبيا ثم يكون للشيطان سلطان عليه؟[117]فماذا لو كان إلها أو ابنا للإله؟!! كما اتهموا المسيح أيضا بشرب الخمر-وهو ما يخالف تعاليم التوراة- في قوله لليهود: "جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب. فيقولون: هوذا إنسان أكول وشريب خمر، محب للعشارين والخطاة"(متى 11/9). و اتهموه بقسوة القلب فينقل لوقا عن المسيح أمراً غريباً قاله للجموع التي تتبعه: " إن كان أحد يأتي إلي، ولا يبغض أباه وأمه وأولاده وإخوانه حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون تلميذاً "(لوقا 14/26 - 27) وتبع رجل المسيح ثم جاءه يستأذنه ليدفن أباه، فيذكر متى أن المسيح نهاه وقال: " اتبعني. ودع الموتى يدفنون موتاهم "(متى 8/22)، واستأذنه تلميذ آخر في وداع أهله، فلم يأذن له(لوقا 9/61-62) وجعلوه يتبرم من قضاء حوائج الناس فتقرأ في متى" تقدم إليه رجل جاثياً له، وقائلاً: يا سيد ارحم ابني، فإنه يصرع ويتألم شديداً، ويقع كثيراً في النار، وكثيراً في الماء. وأحضرته إلى تلاميذك، فلم يقدروا أن يشفوه. فأجاب يسوع، وقال: أيها الجيل غير المؤمن الملتوي. إلى متى أكون معكم. إلى متى احتملكم. قدموه إليّ ههنا.(متى 17/14-16)، وقصة مثلها في(متى 15 /22 - 28). ونسبوا إليه اتهام الأنبياء قبله بأنهم سراق ولصوص في قوله:" جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص. ولكن الخراف لم تسمع لهم" (يوحنا 10/7-12)..- وقد طال السباب المنسوب للمسيح تلاميذه وخاصته، فقد قال لتلميذيه اللذين لم يعرفاه: " أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء"(لوقا 24/25)، ومن عجائب العهد الجديد أنه يعتبر المسيح ملعوناً فيقول: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب: ملعون كل من علّق على خشبة"(غلاطية 3/12)، ولا تقف البذاءة عند ذلك فلم تسلم أعراض الأنبياء السابقين أيضا من التهم الشنيعة والجرائم البشعة. فقد جعل العهد القديم نبي الله نوح عليه السلام يشرب الخمر ويسكر ويتعرى!! سفر التكوين [ 9: 20 ] ونبي الله لوط يزني بابنتيه!! سفر التكوين [ 19: 30 ]. نبي الله داود يزني بزوجة جاره ويدبر مؤامرة دنيئة ضده اغتاله فيها!!!سفر صموئيل الثاني [ 11: 2 ] نبي الله هارون يكفر ويدعو اليهود إلى عبادة العجل!!وهذا في سفر الخروج [ 32: 2] ونبي الله سليمان يخالف وصايا الرب ويتزوج من نساء الأمم اللاتي يغوين قلبه لآلهتهن فيكفر في أواخر حياته ويعبد الأوثان!! سفر الملوك الاول [ 11: 1] فهل هؤلاء الذين اصطفاهم الله على خلقه وشرفهم لحمل رسالته يمكن أن يكونوا كذلك؟ هل يمكن أن يكون كذلك من قال عنهم القرآن (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)؟؟وهل يعقل أن يرتكب الأنبياء الذين اختارهم الله هذه الفواحش(5/157)
ويكون البابوات الذين تختارهم الكنيسة معصومين؟ وهل يمكن أن نأمن قومًا رموا مريم العذراء عليها السلام بالزنا وهي تحيا بينهم على أعراض أنبياء ماتوا من مئات السنين؟؟ وكأي كتاب قليل البضاعة فقير المحتوى يراد له أن يروج بين العامة ويحقق أعلى الأرباح فيطعمه مؤلفه ببعض الكلام الجنسي الذي يخاطب في الإنسان غريزته لا عقله أو كأي مجلة لم تعد تجد ما تجذب به قارئها إلا أن تصدر صفحاتها بصور فاضحة قام مؤلفو العهد القديم بوضع السفر سيء السمعة الذي طالما أحرج الكنيسة بمحاولة تفسيره وتبرير وجوده في كتاب يفترض أن يكون مقدسا وهو سفر نشيد الإنشاد. هذا السفر الذي لم يكد يترك جزءا من جسد المرأة إلا وتغزل به وشبب به يدعي أصحاب الكتاب المقدس أن الله أوحاه إلى نبيه سليمان فمثلا في إنشاد(7/1-4) تقرأ: " ما أجمل رجليك بالنعلين يا بنت الكريم! دوائر فخذيك مثل الحلي صنعة يدي صناع. سرتك كأس مدورة لا يعوزها شراب ممزوج. بطنك صبرة حنطة مسيجة بالسوسن. ثدياك كخشفتين توأمي ظبية. " فهل يمكن أن يكون هذا الكلام الذي يستحي الرجل أن يُقرئه أبناءه وحيا من عند الله؟؟[118]هذا بخلاف قصص الزواني والعاهرات وزنا المحارم والعري والخيانة التي يحفل بها الكتاب المقدس ولولا خشية الإطالة وتدنيس صفحات هذه الرسالة لنقلت لك ما يندى له الجبين من ذلك ولكن هذه بعض الإشارات ويمكنك أن ترجع إليها بنفسك حزقيال [ 23: 19 ] , حزقيال [ 16: 35 ] , هوشع [ 1: 2 ] , صموئيل الثاني [ 12: 11 ] , إشعياء [ 20: 2 ] ,، اشعيا [ 3: 16 ] , القضاة [ 16: 1 ] , راعوث [ 3: 4 ] , لملوك الأول [ 1: 1، 3 ] , التكوين [ 38: 13 ] , حزقيال [ 23: 1 ].
أما عن الأخطاء العلمية والتاريخية في الكتاب المقدس(إن كنت ما زلت تعتقد أنه مقدس) فحدث ولا حرج. فيذكر سفر التكوين مثلا مرة أن الله خلق النباتات والحيوانات أولاً ثم خلق الإنسان بعد ذلك التكوين(1: 20 - 27) ومرة أخرى أن الله قد خلق الإنسان أولاً ثم خلق الأشجار والحيوانات. التكوين(2: 7، 19) وهذا الخطأ يعرفه علماء اللاهوت. ويذكر العهد القديم أيضا أن ولادة إبراهيم كانت في القرن العشرين من بداية الوجود الإنساني وبالتحديد في عام 1948 من بداية الخليقة و بتقدير الفترة بين إبراهيم و عيسى عليهما السلام من نصوص العهد القديم سنجد أن عمر البشرية على ظهر الأرض لم يتجاوز 6 ألاف سنة فقط!! في حين أن هذا بخلاف المسلم به من أن حضارات قامت قبل 5 ألاف سنة من الميلاد حيث عثر على مصنوعات بشرية تعود لأكثر من خمسة آلاف سنة قبل الميلاد. وعثرت بعثة جامعة القاهرة على آثار بشرية في منطقة الفيوم ترجع لعشرات الآلاف من السنين. وتذكر دائرة المعارف البريطانية أن الآثار الإنسانية في فلسطين ترجع لمائتي ألف سنة، وصدق الله العظيم إذ يؤكد أن البشرية ضاربة جذورها في التاريخ قروناً طويلة، فيقول:(وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً)
ومن الأخطاء العلمية زعم التوراة أن الأرض مسطحة، ولها زوايا موافقة بذلك المستوى العلمي السائد حين كتابتها، فتقول: " قد جاءت النهاية على زوايا الأرض الأربع(حزقيال 7/2).[119]ويمكنك الحصول على المزيد من الأمثلة من كتاب العالم الفرنسي المسلم موريس بوكاي دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة[120]فهل بعد كل ذلك يقول قائل أن القرآن اقتبس من التوراة والإنجيل؟؟
هذا كله بخلاف الزيادات الطفيفة أو التعديلات أو الإضافات التي ما زالت في تغير وتحريف مستمر كلما ترجم الإنجيل أو نسخ أو طبع طبعة جديدة منذ كتبت الأناجيل أول مرة وإلى اليوم ويمكنك ببساطة التأكد من ذلك بمراجعة نسختين من الكتاب المقدس بينهما فترة زمنية كافية أو مختلفتين في اللغة إذا كنت تجيد كلا اللغتين.[121]
فإذا علمنا كل هذا لا نستغرب إذاً أن يقول دكتور W.Graham Scroggie وهو أحد أبرز المنصرين في العالم من معهد Moody Bible Instituteفي كتابه " هل الكتاب المقدس كلام الله؟ "نعم إن الكتاب المقدس من وضع البشر، بالرغم من إنكار البعض(من المسيحيين) لِهذا القول من قبيل الحماسة وليس عن علم، فقد خطت أقلام البشر هذه الأسفار بعباراتهم، بعد أن خطرت على عقولهم، فصدرت بأسلوب البشر وتحمل صفاتهم. " ا.هـ.[122]
خاتمة
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).(5/158)
وفي الختام ها قد عرضت عليك رسالتي وبقي دورك أنت و قد تعمدت أن أذكر لك عناوين المواقع و أسماء الكتب والعلماء باللغة الإنجليزية لكي تتأكد بنفسك ومجال الاختيار مفتوح أمامك لكن تمهل فهذا ليس اختيارا عاديا لكنه أهم اختيار في حياتك وبعد حياتك واعلم أن من رحمة الله أن جعل الحق واضحا وضوح الشمس لذا فلن يغني أحد عنك من الله شيئا إن ضللت عنه أو أضلوك عنه فأنت إنسان عاقل مسئول بمفردك أمام الله و أنت لن تخسر شيئا بالتفكير فيما ذكرته لك والتأكد منه ولكن عليك أن تكون مخلصا في طلب الحق وأن تكون مستعدا أن تؤثره على غيره كما فعل نبي الله إبراهيم عليه السلام فلك فيه أسوة حسنة. فتوجه إلي السماء بقلبك وروحك - إلى ربك الذي خلقك - بدون أن تتمثله بصورة أو تمثال فالله أعظم من أن يشابه ما صنعته أيدي البشر واسأله أن يهديك الطريق الموصل إليه وعندما تعرف الحق فاعلم أنك قد عرفت الله حقا فاصبر من أجله وصابر عليه فقد سبقك كثيرون إليه وتحملوا من أجله ولكن احذر أن تحجب النور عن قلبك إن أبصرته فقد لا تراه مرة أخرى.
ويسرنا أن نتلقى تعليقاتك واستفساراتك على البريد: ask.about.islam@gmail.com
وهذه بعض المواقع التي يمكنك أن تستعين بها في رحلتك الإيمانية
الحوار الإسلامي المسيحي http://arabic.islamicweb.com/christianity
ابن مريم.. المسيح الحق http://www.ebnmaryam.com
الحقيقة.. المسيحية في الميزان http://www.alhakekah.com
التوضيح لدين المسيح http://www.tawdeeh.com
الحقيقة العظمى http://www.truth.org.ye
الجامع لحوار النصارى http://www.aljame3.com
موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة http://www.55a.net
http://www.halimo.com شبهات وهمية عن الإسلام
-----------------------------------------
[1] هي سورة الفيل
[2] أي غطوني
[3] أي شابًا قويا لكي أنصرك
[4](السفر إلى الشرق) ص277
[5](شمس الله تسطع على الغرب) زيغريدهونكه(465).
[6] نقلا عن كتاب ربحت محمدا و لم أخسر المسيح للدكتور عبد المعطي الدالاتي
[7] عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت علي غضبى) قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال:(أما إذا كنت عني راضية، فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى، قلت: لا ورب إبراهيم). قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك.
[8] قال الله عز وجل: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)
[9] فتجد ان الكنيسة مثلا ادعت لنفسها حق مغفرة الذنوب فيأتي المذنب فاضحا نفسه و يجلس بين يدي بشر مثله يخطئ و يذنب ربما أكثر منه ثم يعترف أمامه بذنوبه ثم يمن عليه هذا الشخص الخطاء بالمغفرة و ذلك في مقابل مبلغا من المال يتبرع به أو يشتري به صكا يعرف بصك الغفران كما كان يحدث في الماضي
[10] النبأ العظيم للدكتور محمد عبد الله دراز ص 36- 37
[11] وقد كان هذا الموقف سببا في إسلام صحفية أمريكية عندما سمعت به
[12] عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال:(كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
[13] النبأ العظيم. بتصرف
[14] قال تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ {62} وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
[15] ومنها أنه دعا النصارى مرة إلى المباهلة و هي أن يجمعوا أطفالهم و نساءهم و أنفسهم في مكان واحد ثم يبتهلوا إلى بأن يجعل لعنته على الكاذبين فما أجابوا(5/159)