يُذْكَرُ عَنْ عَلِيّ أَنّهُ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ بِظَهْرِهِ [ ص 105 ] فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ بِهَذِهِ مِدّةٌ . قَالَ بُطّوا عَنْهُ قَالَ عَلِي ّ : فَمَا بَرِحْتُ حَتّى بُطّتْ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَاهِدٌ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ طَبِيبًا أَنْ يَبُطّ بَطْنَ رَجُلٍ أَجْوَى الْبَطْنِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ يَنْفَعُ الطّبّ ؟ قَالَ الّذِي أَنْزَلَ الدّاءَ أَنْزَلَ الشّفَاءَ فِيمَا شَاءَ الْوَرَمُ مَادّةٌ فِي حَجْمِ الْعُضْوِ لِفَضْلِ مَادّةٍ غَيْرِ طَبِيعِيّةٍ تَنْصَبّ إلَيْهِ وَيُوجَدُ فِي أَجْنَاسِ الْأَمْرَاضِ كُلّهَا وَالْمَوَادّ الّتِي تَكَوّنَ عَنْهَا مِنْ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمَائِيّةِ وَالرّيحِ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْوَرَمُ سُمّيَ خُرّاجًا وَكُلّ وَرَمٍ حَارّ يُؤَوّلُ أَمْرُهُ إلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إمّا تَحَلّلٍ وَإِمّا جَمْعِ مِدّةٍ وَإِمّا اسْتِحَالَةٍ إلَى الصّلَابَةِ . فَإِنْ كَانَتْ الْقُوّةُ قَوِيّةً اسْتَوْلَتْ عَلَى مَادّةِ الْوَرَمِ وَحَلّلَتْهُ وَهِيَ أَصْلَحُ الْحَالَاتِ الّتِي يُؤَوّلُ حَالُ الْوَرَمِ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ دُونَ ذَلِكَ أَنْضَجَتْ الْمَادّةَ وَأَحَالَتْهَا مِدّةً بَيْضَاءَ وَفَتَحَتْ لَهَا مَكَانًا أَسَالَتْهَا مِنْهُ . وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ ذَلِكَ أَحَالَتْ الْمَادّةَ مِدّةً غَيْرَ مُسْتَحْكِمَةٍ النّضْجَ وَعَجَزَتْ عَنْ فَتْحِ مَكَانٍ فِي الْعُضْوِ تَدْفَعُهَا مِنْهُ فَيُخَافُ عَلَى الْعُضْوِ الْفَسَادُ بِطُولِ لُبْثِهَا فِيهِ فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى إعَانَةِ الطّبِيبِ بِالْبَطّ أَوْ غَيْرِهِ لِإِخْرَاجِ تِلْكَ الْمَادّةِ الرّدِيئَةِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعُضْوِ . وَفِي الْبَطّ فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا : إخْرَاجُ الْمَادّةِ الرّدِيئَةِ الْمُفْسِدَةِ . وَالثّانِيَةُ مَنْعُ اجْتِمَاعِ مَادّةٍ أُخْرَى إلَيْهَا تُقَوّيهَا . وَأَمّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الثّانِي : إنّهُ أَمَرَ طَبِيبًا أَنْ يَبُطّ بَطْنَ رَجُلٍ أَجْوَى [ ص 106 ] فَالْجَوَى يُقَالُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا : الْمَاءُ الْمُنْتِنُ الّذِي يَكُونُ فِي الْبَطْنِ يَحْدُثُ عَنْهُ الِاسْتِسْقَاءُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَطِبّاءُ فِي بَزْلِهِ لِخُرُوجِ هَذِهِ الْمَادّةِ فَمَنَعَتْهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لِخَطَرِهِ وَبُعْدِ السّلَامَةِ مَعَهُ وَجَوّزَتْهُ طَائِفَةٌ أُخْرَى وَقَالَتْ لَا عِلَاجَ لَهُ سِوَاهُ وَهَذَا عِنْدَهُمْ إنّمَا هُوَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ الزّقّيّ فَإِنّهُ كَمَا تَقَدّمَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ طَبْلِيّ وَهُوَ الّذِي يَنْتَفِخُ مَعَهُ الْبَطْنُ بِمَادّةٍ رِيحِيّةٍ إذَا ضَرَبْت عَلَيْهِ سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ الطّبْلِ وَلَحْمِيّ وَهُوَ الّذِي يَرْبُو مَعَهُ لَحْمُ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِمَادّةٍ بَلْغَمِيّةٍ تَفْشُو مَعَ الدّمِ فِي الْأَعْضَاءِ وَهُوَ أَصْعَبُ مِنْ الْأَوّلِ وَزِقّيّ وَهُوَ الّذِي يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي الْبَطْنِ الْأَسْفَلِ مَادّةٌ رَدِيئَةٌ يُسْمَعُ لَهَا عِنْدَ الْحَرَكَةِ خَضْخَضَةٌ كَخَضْخَضَةِ الْمَاءِ فِي الزّقّ وَهُوَ أَرْدَأُ أَنْوَاعِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْأَطِبّاءِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أَرْدَأُ أَنْوَاعِهِ اللّحْمِيّ لِعُمُومِ الْآفَةِ بِهِ . وَمِنْ جُمْلَةِ عِلَاجِ الزّقّيّ إخْرَاجُ ذَلِكَ بِالْبَزْلِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فَصْدِ الْعُرُوقِ لِإِخْرَاجِ الدّمِ الْفَاسِدِ لَكِنّهُ خَطَرٌ كَمَا تَقَدّمَ وَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَزْلِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 106)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْمَرْضَى بِتَطْيِيبِ نُفُوسِهِمْ وَتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ(3/331)
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ " فِي سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي ّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفّسُوا لَهُ فِي الْأَجَلِ فَإِنّ ذَلِكَ لَا يَرُدّ شَيْئًا وَهُوَ يُطَيّبُ نَفْسَ الْمَرِيضِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَوْعٌ شَرِيفٌ جِدّا مِنْ أَشْرَفِ أَنْوَاعِ الْعِلَاجِ وَهُوَ الْإِرْشَادُ [ ص 107 ] تَقْوَى بِهِ الطّبِيعَةُ وَتَنْتَعِشُ بِهِ الْقُوّةُ وَيَنْبَعِثُ بِهِ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ فَيَتَسَاعَدُ عَلَى دَفْعِ الْعِلّةِ أَوْ تَخْفِيفِهَا الّذِي هُوَ غَايَةُ تَأْثِيرِ الطّبِيبِ . وَتَفْرِيحُ نَفْسِ الْمَرِيضِ وَتَطْيِيبُ قَلْبِهِ وَإِدْخَالُ مَا يَسُرّهُ عَلَيْهِ لَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي شِفَاءِ عِلّتِهِ وَخِفّتِهَا فَإِنّ الْأَرْوَاحَ وَالْقُوَى تَقْوَى بِذَلِكَ فَتُسَاعِدُ الطّبِيعَةَ عَلَى دَفْعِ الْمُؤْذِي وَقَدْ شَاهَدَ النّاسُ كَثِيرًا مِنْ الْمَرْضَى تَنْتَعِشُ قُوَاهُ بِعِيَادَةِ مَنْ يُحِبّونَهُ وَيُعَظّمُونَهُ وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُمْ وَلُطْفِهِمْ بِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ إيّاهُمْ وَهَذَا أَحَدُ فَوَائِدِ عِيَادَةِ الْمَرْضَى الّتِي تَتَعَلّقُ بِهِمْ فَإِنّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنْ الْفَوَائِدِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمَرِيضِ وَنَوْعٌ يَعُودُ عَلَى الْعَائِدِ وَنَوْعٌ يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْمَرِيضِ وَنَوْعٌ يَعُودُ عَلَى الْعَامّةِ . وَقَدْ تَقَدّمَ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهُ كَانَ يَسْأَلُ الْمَرِيضَ عَنْ شَكْوَاهُ وَكَيْفَ يَجِدُهُ وَيَسْأَلُهُ عَمّا يَشْتَهِيهِ وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَرُبّمَا وَضَعَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ وَيَصِفُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ فِي عِلّتِهِ وَرُبّمَا تَوَضّأَ وَصَبّ عَلَى الْمَرِيضِ مِنْ وَضُوئِهِ وَرُبّمَا كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ لَا بَأْسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللّهُ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ اللّطْفِ وَحُسْنِ الْعِلَاجِ وَالتّدْبِيرِ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 107)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْأَبْدَانِ بِمَا اعْتَادَتْهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ دُونَ مَا لَمْ تَعْتَدْهُ(3/332)
هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْعِلَاجِ وَأَنْفَعُ شَيْءٍ فِيهِ وَإِذَا أَخْطَأَهُ الطّبِيبُ أَضَرّ الْمَرِيضَ مِنْ حَيْثُ يَظُنّ أَنّهُ يَنْفَعُهُ وَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ فِي كُتُبِ الطّبّ إلّا طَبِيبٌ جَاهِلٌ فَإِنّ مُلَاءَمَةَ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ لِلْأَبْدَانِ بِحَسَبِ [ ص 108 ] وَالْأَكّارُونَ وَغَيْرُهُمْ لَا يَنْجَعُ فِيهِمْ شَرَابُ اللّينُوفَرِ وَالْوَرْدُ الطّرِيّ وَلَا الْمَغْلِيّ وَلَا يُؤَثّرُ فِي طِبَاعِهِمْ شَيْئًا بَلْ عَامّةُ أَدْوِيَةِ أَهْلِ الْحَضَرِ وَأَهْلِ الرّفَاهِيَةِ لَا تُجْدِي عَلّهمْ وَالتّجْرِبَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ وَمَنْ تَأَمّلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْعِلَاجِ النّبَوِيّ رَآهُ كُلّهُ مُوَافِقًا لِعَادَةِ الْعَلِيلِ وَأَرْضِهِ وَمَا نَشَأَ عَلَيْهِ . فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْعِلَاجِ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَقَدْ صَرّحَ بِهِ أَفَاضِلُ أَهْلِ الطّبّ حَتّى قَالَ طَبِيبُ الْعَرَبِ بَلْ أَطَبّهُمْ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ وَكَانَ فِيهِمْ كَابُقْرَاطَ فِي قَوْمِهِ الْحِمْيَةُ رَأْسُ الدّوَاءِ وَالْمَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ وَعَوّدُوا كُلّ بَدَنٍ مَا اعْتَادَ . وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ الْأَزْمُ دَوَاءٌ وَالْأَزْمُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ يَعْنِي بِهِ الْجُوعَ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدْوِيَةِ فِي شِفَاءِ الْأَمْرَاضِ الِامْتِلَائِيّةِ كُلّهَا بِحَيْثُ إنّهُ أَفْضَلُ فِي عِلَاجِهَا مِنْ الْمُسْتَفْرَغَاتِ إذَا لَمْ يَخِفّ مِنْ كَثْرَةِ الِامْتِلَاءِ وَهَيَجَانِ الْأَخْلَاطِ وَحِدّتِهَا أَوْ غَلَيَانِهَا . وَقَوْلُهُ الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ . الْمَعِدَةُ عُضْوٌ عَصَبِيّ مُجَوّفٌ كَالْقَرْعَةِ فِي شَكْلِهَا مُرَكّبٌ مِنْ ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ مُؤَلّفَةٍ مِنْ شَظَايَا دَقِيقَةٍ عَصَبِيّةٍ تُسَمّى اللّيفَ وَيُحِيطُ بِهَا لَحْمٌ وَلِيفٌ إحْدَى الطّبَقَاتِ بِالطّولِ وَالْأُخْرَى بِالْعَرْضِ وَالثّالِثَةُ بِالْوَرْبِ وَفَمُ الْمَعِدَةِ أَكْثَرُ عَصَبًا وَقَعْرُهَا أَكْثَرُ لَحْمًا وَفِي بَاطِنِهَا خَمْلٌ وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي وَسَطِ الْبَطْنِ وَأَمْيَلُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ قَلِيلًا خُلِقَتْ عَلَى هَذِهِ الصّفَةِ لِحِكْمَةٍ لَطِيفَةٍ مِنْ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَهِيَ بَيْتُ الدّاءِ وَكَانَتْ مَحَلّا لِلْهَضْمِ الْأَوّلِ وَفِيهَا يَنْضَجُ الْغِذَاءُ وَيَنْحَدِرُ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْكَبِدِ وَالْأَمْعَاءِ وَيَتَخَلّفُ مِنْهُ فِيهَا فَضَلَاتٌ قَدْ عَجَزَتْ الْقُوّةُ الْهَاضِمَةُ عَنْ تَمَامِ هَضْمِهَا إمّا لِكَثْرَةِ الْغِذَاءِ أَوْ لِرَدَاءَتِهِ أَوْ لِسُوءِ تَرْتِيبٍ فِي اسْتِعْمَالِهِ أَوْ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ بَعْضُهَا مِمّا لَا يَتَخَلّصُ الْإِنْسَانُ مِنْهُ غَالِبًا فَتَكُونُ الْمَعِدَةُ بَيْتَ الدّاءِ لِذَلِكَ وَكَأَنّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى الْحَثّ عَلَى تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَمَنْعِ النّفْسِ مِنْ اتّبَاعِ الشّهَوَاتِ وَالتّحَرّزِ عَنْ الْفَضَلَاتِ . وَأَمّا الْعَادَةُ فَلِأَنّهَا كَالطّبِيعَةِ لِلْإِنْسَانِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ الْعَادَةُ طَبْعٌ ثَانٍ وَهِيَ [ ص 109 ] عَظِيمَةٌ فِي الْبَدَنِ حَتّى إنّ أَمْرًا وَاحِدًا إذَا قِيسَ إلَى أَبْدَانٍ مُخْتَلِفَةِ الْعَادَاتِ كَانَ مُخْتَلِفَ النّسْبَةِ إلَيْهَا . وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَبْدَانُ مُتّفِقَةً فِي الْوُجُوهِ الْأُخْرَى مِثَالُ ذَلِكَ أَبْدَانٌ ثَلَاثَةٌ حَارّةُ الْمِزَاجِ فِي سِنّ الشّبَابِ
أَحَدُهَا : عُودُ تَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْحَارّةِ .
وَالثّانِي : عُودُ تَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْبَارِدَةِ .
وَالثّالِثُ عُودُ تَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَوَسّطَةِ .
فَإِنّ الْأَوّلَ مَتَى تَنَاوَلَ عَسَلًا لَمْ يَضُرّ بِهِ وَالثّانِي : مَتَى تَنَاوَلَهُ أَضَرّ بِهِ وَالثّالِثُ يَضُرّ بِهِ قَلِيلًا فَالْعَادَةُ رُكْنٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ وَمُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ وَلِذَلِكَ جَاءَ الْعِلَاجُ النّبَوِيّ بِإِجْرَاءِ كُلّ بَدَنٍ عَلَى عَادَتِهِ فِي اسْتِعْمَالِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 109)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَغْذِيَةِ الْمَرِيضِ بِأَلْطَفِ مَا اعْتَادَهُ مِنْ الْأَغْذِيَةِ(3/333)
فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا كَانَتْ إذَا مَاتَ الْمَيّتُ مَنْ أَهْلِهَا وَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النّسَاءُ ثُمّ تَفَرّقْنَ إلَى أَهْلِهِنّ أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ وَصُنِعَتْ ثَرِيدًا ثُمّ صُبّتْ التّلْبِينَةُ عَلَيْهِ ثُمّ قَالَتْ كُلُوا مِنْهَا فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ التّلْبِينَةُ مَجَمّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ وَفِي " السّنَنِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْكُمْ بِالْبَغِيضِ النّافِعِ التّلْبِين قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اشْتَكَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ لَمْ تَزَلْ الْبُرْمَةُ عَلَى النّارِ حَتّى يَنْتَهِيَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ . يَعْنِي يَبْرَأُ أَوْ يَمُوتُ . وَعَنْهَا : كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا قِيلَ لَهُ إنّ فُلَانًا وَجِعٌ لَا يَطْعَمُ الطّعَامَ قَالَ [ ص 110 ] عَلَيْكُمْ بِالتّلْبِينَةِ فَحَسّوهُ إيّاهَا وَيَقُولُ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّهَا تَغْسِلُ بَطْنَ أَحَدِكُمْ كَمَا تَغْسِلُ إحْدَاكُنّ وَجْهَهَا مِنْ الْوَسَخِ
[ التّلْبِينُ وَفَوَائِدُهُ ]
التّلْبِينُ هُوَ الْحِسَاءُ الرّقِيقُ الّذِي هُوَ فِي قِوَامِ اللّبَنِ وَمِنْهُ اُشْتُقّ اسْمُهُ قَالَ الْهَرَوِيّ سُمّيَتْ تَلْبِينَةً لِشَبَهِهَا بِاللّبَنِ لِبَيَاضِهَا وَرِقّتِهَا وَهَذَا الْغِذَاءُ هُوَ النّافِعُ لِلْعَلِيلِ وَهُوَ الرّقِيقُ النّضِيحُ لَا الْغَلِيظُ النّيءُ وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَ فَضْلَ التّلْبِينَةِ فَاعْرِفْ فَضْلَ مَاءِ الشّعِيرِ بَلْ هِيَ مَاءُ الشّعِيرِ لَهُمْ فَإِنّهَا حِسَاءٌ مُتّخَذٌ مِنْ دَقِيقِ الشّعِيرِ بِنُخَالَتِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَاءِ الشّعِيرِ أَنّهُ يُطْبَخُ صِحَاحًا وَالتّلْبِينَةُ تُطْبَخُ مِنْهُ مَطْحُونًا وَهِيَ أَنْفَعُ مِنْهُ لِخُرُوجِ خَاصّيّةِ الشّعِيرِ بِالطّحْنِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ لِلْعَادَاتِ تَأْثِيرًا فِي الِانْتِفَاعِ بِالْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ وَكَانَتْ عَادَةُ الْقَوْمِ أَنْ يَتّخِذُوا مَاءَ الشّعِيرِ مِنْهُ مَطْحُونًا لَا صِحَاحًا وَهُوَ أَكْثَرُ تَغْذِيَةً وَأَقْوَى فِعْلًا وَأَعْظَمُ جَلَاءً وَإِنّمَا اتّخَذَهُ أَطِبّاءُ الْمُدُنِ مِنْهُ صِحَاحًا لِيَكُونَ أَرَقّ وَأَلْطَفَ فَلَا يَثْقُلُ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَرِيضِ وَهَذَا بِحَسَبِ طَبَائِعِ أَهْلِ الْمُدُنِ وَرَخَاوَتِهَا وَثِقَلِ مَاءِ الشّعِيرِ الْمَطْحُونِ عَلَيْهَا . وَالْمَقْصُودُ أَنّ مَاءَ الشّعِيرِ مَطْبُوخًا صِحَاحًا يَنْفُذُ سَرِيعًا وَيَجْلُو جَلَاءً ظَاهِرًا وَيُغَذّي غِذَاءً لَطِيفًا . وَإِذَا شُرِبَ حَارّا كَانَ جَلَاؤُهُ أَقْوَى وَنُفُوذُهُ أَسْرَعَ وَإِنْمَاؤُهُ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيّةِ أَكْثَرَ وَتَلْمِيسُهُ لِسُطُوحِ الْمَعِدَةِ أَوْفَقَ .
[ عِلّةُ ذَهَابِ التّلْبِينَةِ بِبَعْضِ الْحُزْنِ ](3/334)
وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهَا : مَجَمّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ يُرْوَى بِوَجْهَيْنِ . بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ وَبِضَمّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَالْأَوّلُ أَشْهَرُ وَمَعْنَاهُ أَنّهَا مُرِيحَةٌ لَهُ أَيْ تُرِيحُهُ وَتُسَكّنُهُ مِنْ الْإِجْمَامِ وَهُوَ الرّاحَةُ . وَقَوْلُهُ " تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ " هَذَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - لِأَنّ الْغَمّ وَالْحُزْنَ يُبَرّدَانِ الْمِزَاجَ وَيُضْعِفَانِ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ لِمَيْلِ الرّوحِ الْحَامِلِ لَهَا إلَى جِهَةِ الْقَلْبِ الّذِي هُوَ مَنْشَؤُهَا وَهَذَا الْحِسَاءُ يُقَوّي الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ بِزِيَادَتِهِ فِي مَادّتِهَا فَتُزِيلُ أَكْثَرَ مَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الْغَمّ وَالْحُزْنِ . وَقَدْ يُقَالُ - وَهُوَ أَقْرَبُ - إنّهَا تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ بِخَاصّيّةٍ فِيهَا مِنْ [ ص 111 ] أَعْلَمُ . وَقَدْ يُقَالُ إنّ قُوَى الْحَزِينِ تَضْعُفُ بِاسْتِيلَاءِ الْيُبْسِ عَلَى أَعْضَائِهِ وَعَلَى مَعِدَتِهِ خَاصّةً لِتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَهَذَا الْحِسَاءُ يُرَطّبُهَا وَيُقَوّيهَا وَيُغَذّيهَا وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ بِفُؤَادِ الْمَرِيضِ لَكِنّ الْمَرِيضَ كَثِيرًا مَا يَجْتَمِعُ فِي مَعِدَتِهِ خَلْطٌ مَرَارِيّ أَوْ بَلْغَمِيّ أَوْ صَدِيدِيّ وَهَذَا الْحِسَاءُ يَجْلُو ذَلِكَ عَنْ الْمَعِدَةِ وَيَسْرُوهُ وَيَحْدُرُهُ وَيُمَيّعُهُ وَيُعَدّلُ كَيْفِيّتَهُ وَيَكْسِرُ سَوْرَتَهُ فَيُرِيحُهَا وَلَا سِيّمَا لِمَنْ عَادَتُهُ الِاغْتِذَاءُ بِخُبْزِ الشّعِيرِ وَهِيَ عَادَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إذْ ذَاكَ وَكَانَ هُوَ غَالِبَ قُوتِهِمْ وَكَانَتْ الْحِنْطَةُ عَزِيزَةً عِنْدَهُمْ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 111)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ السّمّ الّذِي أَصَابَهُ بِخَيْبَرَ مِنْ الْيَهُود
ذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّ امْرَأَةً يَهُودِيّةً أَهْدَتْ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَاةً مَصْلِيّةً بِخَيْبَرَ فَقَالَ مَا هَذِهِ ؟ قَالَتْ هَدِيّةٌ وَحَذِرَتْ أَنْ تَقُولَ مِنْ الصّدَقَةِ فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا فَأَكَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَكَلَ الصّحَابَةُ ثُمّ
قَالَ أَمْسِكُوا ثُمّ قَالَ لِلْمَرْأَةِ هَلْ سَمَمْتِ هَذِهِ الشّاةَ ؟ قَالَتْ مَنْ أَخْبَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ هَذَا الْعَظْمُ لِسَاقِهَا وَهُوَ فِي يَدِهِ ؟ قَالَتْ نَعَمْ . قَالَ لِمَ ؟ قَالَتْ أَرَدْتُ إنْ كُنْت كَاذِبًا أَنْ يَسْتَرِيحَ مِنْك النّاسُ وَإِنْ كُنْت نَبِيّا لَمْ يَضُرّك قَالَ فَاحْتَجَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَةً عَلَى الْكَاهِلِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْتَجِمُوا فَاحْتَجَمُوا فَمَاتَ بَعْضُهُمْ [ ص 112 ] وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى كَاهِلِهِ مِنْ أَجْلِ الّذِي أَكَلَ مِنْ الشّاةِ حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِالْقَرْنِ وَالشّفْرَةِ وَهُوَ مَوْلَى لِبَنِي بَيَاضَةَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ حَتّى كَانَ وَجَعُهُ الّذِي تُوُفّيَ فِيهِ فَقَالَ مَا زِلْتُ أَجِدُ مِنْ الْأُكْلَةِ الّتِي أَكَلْتُ مِنْ الشّاةِ يَوْمَ خَيْبَرَ حَتّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ الْأَبْهَرِ مِنّي فَتُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَهِيدًا قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ .
[ يُعَالَجُ السّمّ بِالاسْتِفْراغَاتِ وَبِالْأَدْوِيَةِ الْمُبْطِلَةِ لِفِعْلِ السّمّ ]
مُعَالَجَةُ السّمّ تَكُونُ بِالاسْتِفْراغَاتِ وَبِالْأَدْوِيَةِ الّتِي تُعَارِضُ فِعْلَ السّمّ وَتُبْطِلُهُ إمّا بِكَيْفِيّاتِهَا وَإِمّا بِخَوَاصّهَا فَمَنْ عَدِمَ الدّوَاءَ فَلْيُبَادِرْ إلَى الِاسْتِفْرَاغِ الْكُلّيّ وَأَنْفَعُهُ الْحِجَامَةُ وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَ الْبَلَدُ حَارّا وَالزّمَانُ حَارّا فَإِنّ الْقُوّةَ [ ص 113 ] السّمّيّةَ تَسْرِي إلَى الدّمِ فَتَنْبَعِثُ فِي الْعُرُوقِ وَالْمَجَارِي حَتّى تَصِلَ إلَى الْقَلْبِ فَيَكُونُ الْهَلَاكُ فَالدّمُ هُوَ الْمَنْفَذُ الْمُوَصّلُ لِلسّمّ إلَى الْقَلْبِ وَالْأَعْضَاءِ فَإِذَا بَادَرَ الْمَسْمُومُ وَأَخْرَجَ الدّمَ خَرَجَتْ مَعَهُ تِلْكَ الْكَيْفِيّةُ السّمّيّةُ الّتِي خَالَطَتْهُ فَإِنْ كَانَ اسْتِفْرَاغًا تَامّا لَمْ يَضُرّهُ السّمّ بَلْ إمّا أَنْ يَذْهَبَ وَإِمّا أَنْ يَضْعُفَ فَتَقْوَى عَلَيْهِ الطّبِيعَةُ فَتُبْطِلُ فِعْلَهُ أَوْ تُضْعِفُهُ .
[ اسْتِشْهَادُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّمّ ](3/335)
وَلَمّا احْتَجَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ فِي الْكَاهِلِ وَهُوَ أَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ الّتِي يُمْكِنُ فِيهَا الْحِجَامَةُ إلَى الْقَلْبِ فَخَرَجَتْ الْمَادّةُ السّمّيّةُ مَعَ الدّمِ لَا خُرُوجًا كُلّيّا بَلْ بَقِيَ أَثَرُهَا مَعَ ضَعْفِهِ لِمَا يُرِيدُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تَكْمِيلِ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ كُلّهَا لَهُ فَلَمّا أَرَادَ اللّهُ إكْرَامَهُ بِالشّهَادَةِ ظَهَرَ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْأَثَرِ الْكَامِنِ مِنْ السّمّ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَظَهَرَ سِرّ قَوْلِهِ تَعَالَى لِأَعْدَائِهِ مِنْ الْيَهُودِ : { أَفَكُلّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } [ الْبَقَرَةِ 87 ] فَجَاءَ بِلَفْظِ كَذّبْتُمْ بِالْمَاضِي الّذِي قَدْ وَقَعَ مِنْهُ وَتَحَقّقَ وَجَاءَ بِلَفْظِ " تَقْتُلُونَ " بِالْمُسْتَقْبَلِ الّذِي يَتَوَقّعُونَهُ وَيَنْتَظِرُونَهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 113)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ السّحْرِ
الّذِي سَحَرَتْهُ الْيَهُودُ بِهِ قَدْ أَنْكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ النّاسِ وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ هَذَا عَلَيْهِ وَظَنّوهُ نَقْصًا وَعَيْبًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَعْتَرِيهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْأَسْقَامِ وَالْأَوْجَاعِ وَهُوَ مَرَضٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَإِصَابَتُهُ بِهِ كَإِصَابَتِهِ بِالسّمّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ سُحِرَ [ ص 114 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إنْ كَانَ لَيُخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ يَأْتِي نِسَاءَهُ وَلَمْ يَأْتِهِنّ وَذَلِكَ أَشَدّ مَا يَكُونُ مِنْ السّحْرِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَالسّحْرُ مَرَضٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَعَارِضٌ مِنْ الْعِلَلِ يَجُوزُ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَأَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ مِمّا لَا يُنْكَرُ وَلَا يَقْدَحُ فِي نُبُوّتِهِ وَأَمّا كَوْنُهُ يُخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ فَعَلَ الشّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُدْخِلُ عَلَيْهِ دَاخِلَةً فِي شَيْءٍ مِنْ صِدْقِهِ لِقِيَامِ الدّلِيلِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى عِصْمَتِهِ مِنْ هَذَا وَإِنّمَا هَذَا فِيمَا يَجُوزُ طُرُوّهُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ الّتِي لَمْ يُبْعَثُ لِسَبَبِهَا وَلَا فُضّلَ مِنْ أَجْلِهَا وَهُوَ فِيهَا عُرْضَةٌ لِلْآفَاتِ كَسَائِرِ الْبَشَرِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنّهُ يُخَيّلَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِهَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ ثُمّ يَنْجَلِي عَنْهُ كَمَا كَانَ .
[ عِلَاجُ السّحْرِ ]
وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ هَذَا الْمَرَضِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِيهِ نَوْعَانِ
[ اسْتِخْرَاجُ السّحْرِ وَإِبْطَالُهُ ]
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ أَبْلَغُهُمَا - اسْتِخْرَاجُهُ وَإِبْطَالُهُ كَمَا صَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ سَأَلَ رَبّهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ فَدَلّ عَلَيْهِ فَاسْتَخْرَجَهُ مِنْ بِئْرٍ فَكَانَ فِي مُشْطٍ وَمَشّاطَةٍ وَجَفّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ فَلَمّا اسْتَخْرَجَهُ ذَهَبَ مَا بِهِ حَتّى كَأَنّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ مَا يُعَالَجُ بِهِ الْمَطْبُوبُ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ إزَالَةِ الْمَادّةِ الْخَبِيثَةِ وَقَلْعِهَا مِنْ الْجَسَدِ بِالِاسْتِفْرَاغِ .
[ الِاسْتِفْرَاغُ فِي الْمَحَلّ الّذِي يَصِلُ إليه أَذَى السّحْرِ ](3/336)
وَالنّوْعُ الثّانِي : الِاسْتِفْرَاغُ فِي الْمَحَلّ الّذِي يَصِلُ إلَيْهِ أَذَى السّحْرِ فَإِنّ لِلسّحْرِ تَأْثِيرًا فِي الطّبِيعَةِ وَهَيَجَانَ أَخْلَاطِهَا وَتَشْوِيشَ مِزَاجِهَا فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي [ ص 115 ] وَأَمْكَنَ اسْتِفْرَاغُ الْمَادّةِ الرّدِيئَةِ مِنْ ذَلِكَ الْعُضْوِ نَفَعَ جِدّا . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " لَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ عَلَى رَأْسِهِ بِقَرْنٍ حِينَ طُبّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : مَعْنَى طُبّ أَيْ سُحِرَ . وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى مَنْ قَلّ عِلْمُهُ وَقَالَ مَا لِلْحِجَامَةِ وَالسّحْرِ وَمَا الرّابِطَةُ بَيْنَ هَذَا الدّاءِ وَهَذَا الدّوَاءِ وَلَوْ وَجَدَ هَذَا الْقَائِلُ أَبُقْرَاطَ أَوْ ابْنَ سِينَا أَوْ غَيْرَهُمَا قَدْ نَصّ عَلَى هَذَا الْعِلَاجِ لَتَلَقّاهُ بِالْقَبُولِ وَالتّسْلِيمِ وَقَالَ قَدْ نَصّ عَلَيْهِ مَنْ لَا يُشَكّ فِي مَعْرِفَتِهِ وَفَضْلِهِ . فَاعْلَمْ أَنّ مَادّةَ السّحْرِ الّذِي أُصِيبَ بِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْتَهَتْ إلَى رَأْسِهِ إلَى إحْدَى قُوَاهُ الّتِي فِيهِ بِحَيْثُ كَانَ يُخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ يَفْعَلُ الشّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ وَهَذَا تَصَرّفٌ مِنْ السّاحِرِ فِي الطّبِيعَةِ وَالْمَادّةِ الدّمَوِيّةِ بِحَيْثُ غَلَبَتْ تِلْكَ الْمَادّةُ عَلَى الْبَطْنِ الْمُقَدّمِ مِنْهُ فَغَيّرَتْ مِزَاجَهُ عَنْ طَبِيعَتِهِ الْأَصْلِيّةِ . وَالسّحْرُ هُوَ مُرَكّبٌ مِنْ تَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ وَانْفِعَالِ الْقُوَى الطّبِيعِيّةِ عَنْهَا وَهُوَ أَشَدّ مَا يَكُونُ مِنْ السّحْرِ وَلَا سِيّمَا فِي الْمَوْضِعِ الّذِي انْتَهَى السّحْرُ إلَيْهِ وَاسْتِعْمَالُ الْحِجَامَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الّذِي تَضَرّرَتْ أَفْعَالُهُ بِالسّحْرِ مِنْ أَنْفَعِ الْمُعَالَجَةِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ عَلَى الْقَانُونِ الّذِي يَنْبَغِي . قَالَ أَبُقْرَاطُ الْأَشْيَاءُ الّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَفْرَغَ يَجِبُ أَنْ تُسْتَفْرَغَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الّتِي هِيَ إلَيْهَا أَمْيَلُ بِالْأَشْيَاءِ الّتِي تَصْلُحُ لِاسْتِفْرَاغِهَا . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ النّاسِ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا أُصِيبَ بِهَذَا الدّاءِ وَكَانَ يُخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ فَعَلَ الشّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ ظَنّ أَنّ ذَلِكَ عَنْ مَادّةٍ دَمَوِيّةٍ أَوْ غَيْرِهَا مَالَتْ إلَى جِهَةِ الدّمَاغِ وَغَلَبَتْ عَلَى الْبَطْنِ الْمُقَدّمِ مِنْهُ فَأَزَالَتْ مِزَاجَهُ عَنْ الْحَالَةِ [ ص 116 ] وَكَانَ اسْتِعْمَالُ الْحِجَامَةِ إذْ ذَاكَ مِنْ أَبْلَغِ الْأَدْوِيَةِ وَأَنْفَعِ الْمُعَالَجَةِ فَاحْتَجَمَ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ أَنّ ذَلِكَ مِنْ السّحْرِ فَلَمّا جَاءَهُ الْوَحْيُ مِنْ اللّهِ تَعَالَى وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ قَدْ سُحِرَ عَدَلَ إلَى الْعِلَاجِ الْحَقِيقِيّ وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ السّحْرِ وَإِبْطَالُهُ فَسَأَلَ اللّهَ سُبْحَانَهُ فَدَلّهُ عَلَى مَكَانِهِ فَاسْتَخْرَجَهُ فَقَامَ كَأَنّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ وَكَانَ غَايَةُ هَذَا السّحْرِ فِيهِ إنّمَا هُوَ فِي جَسَدِهِ وَظَاهِرِ جَوَارِحِهِ لَا عَلَى عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ صِحّةَ مَا يُخَيّلُ إلَيْهِ مِنْ إتْيَانِ النّسَاءِ بَلْ يَعْلَمُ أَنّهُ خَيَالٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَحْدُثُ مِنْ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ عِلَاجُ السّحْرِ بِالْأَذْكَارِ وَالْآيَاتِ ](3/337)
وَمِنْ أَنْفَعِ عِلَاجَاتِ السّحْرِ الْأَدْوِيَةُ الْإِلَهِيّةُ بَلْ هِيَ أَدْوِيَتُهُ النّافِعَةُ بِالذّاتِ فَإِنّهُ مِنْ تَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ السّفْلِيّةِ وَدَفْعُ تَأْثِيرِهَا يَكُونُ بِمَا يُعَارِضُهَا وَيُقَاوِمُهَا مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْآيَاتِ وَالدّعَوَاتِ الّتِي تُبْطِلُ فِعْلَهَا وَتَأْثِيرَهَا وَكُلّمَا كَانَتْ أَقْوَى وَأَشَدّ كَانَتْ أَبْلَغَ فِي النّشْرَةِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْتِقَاءِ جَيْشَيْنِ مَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُدّتُهُ وَسِلَاحُهُ فَأَيّهُمَا غَلَبَ الْآخَرَ قَهَرَهُ وَكَانَ الْحُكْمُ لَهُ فَالْقَلْبُ إذَا كَانَ مُمْتَلِئًا مِنْ اللّهِ مَغْمُورًا بِذِكْرِهِ وَلَهُ مِنْ التّوَجّهَاتِ وَالدّعَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ وَالتّعَوّذَاتِ وِرْدٌ لَا يُخِلّ بِهِ يُطَابِقُ فِيهِ قَلْبُهُ لِسَانَهُ كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الّتِي تَمْنَعُ إصَابَةَ السّحْرِ لَهُ وَمِنْ أَعْظَمِ الْعِلَاجَاتِ لَهُ بَعْدَ مَا يُصِيبُهُ . وَعِنْدَ السّحَرَةِ أَنّ سِحْرَهُمْ إنّمَا يَتِمّ تَأْثِيرُهُ فِي الْقُلُوبِ الضّعِيفَةِ الْمُنْفَعِلَةِ وَالنّفُوسِ الشّهْوَانِيّةِ الّتِي هِيَ مُعَلّقَةٌ بِالسّفْلِيّاتِ وَلِهَذَا فَإِنّ غَالِبَ مَا يُؤَثّرُ فِي النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ وَالْجُهّالِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي وَمَنْ ضَعُفَ حَظّهُ مِنْ الدّينِ [ ص 117 ] وَبِالْجُمْلَةِ فَسُلْطَانُ تَأْثِيرِهِ فِي الْقُلُوبِ الضّعِيفَةِ الْمُنْفَعِلَةِ الّتِي يَكُونُ مَيْلُهَا إلَى السّفْلِيّاتِ قَالُوا : وَالْمَسْحُورُ هُوَ الّذِي يُعِينُ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنّا نَجِدُ قَلْبَهُ مُتَعَلّقًا بِشَيْءٍ كَثِيرِ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ فَيَتَسَلّطُ عَلَى قَلْبِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَيْلِ وَالِالْتِفَاتِ وَالْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ إنّمَا تَتَسَلّطُ عَلَى أَرْوَاحٍ تَلْقَاهَا مُسْتَعِدّةً لِتَسَلّطِهَا عَلَيْهَا بِمَيْلِهَا إلَى مَا يُنَاسِبُ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ وَبِفَرَاغِهَا مِنْ الْقُوّةِ الْإِلَهِيّةِ وَعَدَمِ أَخْذِهَا لِلْعُدّةِ الّتِي تُحَارِبُهَا بِهَا فَتَجِدُهَا فَارِغَةً لَا عُدّةَ مَعَهَا وَفِيهَا مَيْلٌ إلَى مَا يُنَاسِبُهَا فَتَتَسَلّطُ عَلَيْهَا وَيَتَمَكّنُ تَأْثِيرُهَا فِيهَا بِالسّحْرِ وَغَيْرِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 134)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي التّحَرّزِ مِنْ الْأَدْوَاءِ الْمُعْدِيَةِ بِطَبْعِهَا وَإِرْشَادِهِ الْأَصِحّاءَ إلَى مُجَانَبَةِ أَهْلِهَا
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّهُ كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ارْجِعْ فَقَدْ بَايَعْنَاكَ [ ص 135 ] وَرَوَى الْبُخَارِيُ فِي " صَحِيحِهِ " تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ فِرّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرّ مِنْ الْأَسَدِ وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النَبيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا تُدِيمُوا النّظَرَ إلَى الْمَجْذُومِينَ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُورِدَنّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحّ وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَلّمْ الْمَجْذُومَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قِيدَ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ [ ص 136 ]
[ مَا هُوَ الْجُذَامُ ]
الْجُذَامُ عِلّةٌ رَدِيئَةٌ تَحْدُثُ مِنْ انْتِشَارِ الْمُرّةِ السّوْدَاءِ فِي الْبَدَنِ كُلّهِ فَيَفْسُدُ مِزَاجُ الْأَعْضَاءِ وَهَيْئَتُهَا وَشَكْلُهَا وَرُبّمَا فَسَدَ فِي آخِرِهِ اتّصَالُهَا حَتّى تَتَأَكّلَ الْأَعْضَاءُ وَتَسْقُطَ وَيُسَمّى دَاءَ الْأَسَدِ .
[ سَبَبُ تَسْمِيَةِ الْجُذَامِ بِدَاءِ الْأَسَدِ ]
وَفِي هَذِهِ التّسْمِيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْأَطِبّاءِ أَحَدُهَا : أَنّهَا لِكَثْرَةِ مَا تَعْتَرِي الْأَسَدَ . وَالثّانِي : لِأَنّ هَذِهِ الْعِلّةَ تُجَهّمُ وَجْهَ صَاحِبِهَا وَتَجْعَلُهُ فِي سَحْنَةِ الْأَسَدِ . وَالثّالِثُ أَنّهُ يَفْتَرِسُ مَنْ يَقْرَبُهُ أَوْ يَدْنُو مِنْهُ بِدَائِهِ افْتِرَاسَ الْأَسَدِ .
[عِلّةُ الِابْتِعَادِ عَنْ الْمَجْذُومِ وَالْمَسْلُولِ ](3/338)
وَهَذِهِ الْعِلّةُ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ مِنْ الْعِلَلِ الْمُعْدِيَةِ الْمُتَوَارَثَةِ وَمُقَارِبُ الْمَجْذُومِ وَصَاحِبُ السّلّ يَسْقَمُ بِرَائِحَتِهِ فَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى الْأُمّةِ وَنُصْحِهِ لَهُمْ نَهَاهُمْ عَنْ الْأَسْبَابِ الّتِي تُعَرّضُهُمْ لِوُصُولِ الْعَيْبِ وَالْفَسَادِ إلَى أَجْسَامِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْبَدَنِ تَهَيّؤٌ وَاسْتِعْدَادٌ كَامِنٌ لِقَبُولِ هَذَا الدّاءِ وَقَدْ تَكُونُ الطّبِيعَةُ سَرِيعَةَ الِانْفِعَالِ قَابِلَةً لِلِاكْتِسَابِ مِنْ أَبْدَانِ مَنْ تُجَاوِرُهُ وَتُخَالِطُهُ فَإِنّهَا نَقّالَةٌ وَقَدْ يَكُونُ خَوْفُهَا مِنْ ذَلِكَ وَوَهْمُهَا مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ إصَابَةِ تِلْكَ الْعِلّةِ لَهَا فَإِنّ الْوَهْمَ فَعّالٌ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْقُوَى وَالطّبَائِعِ وَقَدْ تَصِلُ رَائِحَةُ الْعَلِيلِ إلَى الصّحِيحِ فَتُسْقِمُهُ وَهَذَا مُعَايَنٌ فِي بَعْضِ الْأَمْرَاضِ وَالرّائِحَةُ أَحَدُ أَسْبَابِ الْعَدْوَى وَمَعَ هَذَا كُلّهِ فَلَا بُدّ مِنْ وُجُودِ اسْتِعْدَادِ الْبَدَنِ وَقَبُولِهِ لِذَلِكَ الدّاءِ وَقَدْ [ ص 137 ] تَزَوّجَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ امْرَأَةً فَلَمّا أَرَادَ الدّخُولَ بِهَا وَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَقَالَ الْحَقِي بِأَهْلِكِ
[التّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ السّابِقَةِ وَبَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَالْأَكْلِ مَعَ الْمَجْذُومِ ]
وَقَدْ ظَنّ طَائِفَةٌ مِنْ النّاسِ أَنّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مُعَارَضَةٌ بِأَحَادِيثَ أُخَرَ تُبْطِلُهَا وَتُنَاقِضُهَا فَمِنْهَا : مَا رَوَاهُ التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ مَجْذُومٍ فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ وَقَالَ كُلْ بِسْمِ اللّهِ ثِقَةً بِاَللّهِ وَتَوَكّلًا عَلَيْهِ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ . وَبِمَا ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ . وَنَحْنُ نَقُولُ لَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللّهِ بَيْنَ أَحَادِيثِهِ الصّحِيحَةِ . فَإِذَا وَقَعَ التّعَارُضُ فَإِمّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ الرّوَاةِ مَعَ كَوْنِهِ ثِقَةً ثَبْتًا فَالثّقَةُ يَغْلَطُ أَوْ يَكُونُ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ إذَا كَانَ مِمّا يَقْبَلُ النّسْخَ أَوْ يَكُونُ التّعَارُضُ فِي فَهْمِ السّامِعِ لَا فِي نَفْسِ كَلَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَا بُدّ مِنْ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثّلَاثَةِ . وَأَمّا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ صَرِيحَانِ مُتَنَاقِضَانِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ لَيْسَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ فَهَذَا لَا يُوجَدُ أَصْلًا وَمَعَاذَ اللّهِ أَنْ يُوجَدَ فِي كَلَامِ الصّادِقِ الْمَصْدُوقِ الّذِي لَا يُخْرِجُ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ إلّا الْحَقّ وَالْآفَةُ مِنْ التّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ وَالتّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهِ وَمَعْلُولِهِ أَوْ مِنْ الْقُصُورِ فِي فَهْمِ مُرَادِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 138 ] كَلَامِهِ عَلَى غَيْرِ مَا عَنَاهُ بِهِ أَوْ مِنْهُمَا مَعًا وَمِنْ هَا هُنَا وَقَعَ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفَسَادِ مَا وَقَعَ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
[ التّوْفِيقُ بَيْنَهَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ قُتَيْبَةَ ](3/339)
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ " لَهُ حِكَايَةً عَنْ أَعْدَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ قَالُوا : حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ رَوَيْتُمْ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَقِيلَ لَهُ إنّ النّقْبَةَ تَقَعُ بِمِشْفَرِ الْبَعِيرِ فَيَجْرَبُ لِذَلِكَ الْإِبِلُ . قَالَ فَمَا أَعْدَى الْأَوّلَ ثُمّ رَوَيْتُمْ لَا يُورِدُ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحّ وَفِرّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ وَأَتَاهُ رَجُلٌ مَجْذُومٌ لِيُبَايِعَهُ بَيْعَةَ الْإِسْلَامِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ الْبَيْعَةَ وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَقَالَ الشّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدّارِ وَالدّابّةِ قَالُوا : وَهَذَا كُلّهُ مُخْتَلِفٌ لَا يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا . قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ وَنَحْنُ نَقُولُ إنّهُ لَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ وَلِكُلّ مَعْنًى مِنْهَا [ ص 139 ] زَالَ الِاخْتِلَافُ . وَالْعَدْوَى جِنْسَانِ أَحَدُهُمَا : عَدْوَى الْجُذَامِ فَإِنّ الْمَجْذُومَ تَشْتَدّ رَائِحَتُهُ حَتّى يُسْقِمَ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَتَهُ وَمُحَادَثَتَهُ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ تَحْتَ الْمَجْذُومِ فَتُضَاجِعُهُ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ فَيُوصِلُ إلَيْهَا الْأَذَى وَرُبّمَا جُذِمَتْ وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ يَنْزِعُونَ فِي الْكِبَرِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ بِهِ سِلّ وَدِقّ ونُقْبٌ . وَالْأَطِبّاءُ تَأْمُرُ أَنْ لَا يُجَالِسَ الْمَسْلُولَ وَلَا الْمَجْذُومَ وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مَعْنَى الْعَدْوَى وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنَى تَغَيّرِ الرّائِحَةِ وَأَنّهَا قَدْ تُسْقِمُ مَنْ أَطَالَ اشْتِمَامَهَا وَالْأَطِبّاءُ أَبْعَدُ النّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ بِيُمْنٍ وَشُؤْمٍ وَكَذَلِكَ النّقْبَةُ تَكُونُ بِالْبَعِيرِ - وَهُوَ جَرَبٌ رَطْبٌ - فَإِذَا خَالَطَ الْإِبِلَ أَوْ حَاكَهَا وَأَوَى فِي مَبَارِكِهَا وَصَلَ إلَيْهَا بِالْمَاءِ الّذِي يَسِيلُ مِنْهُ وَبِالنّطْفِ نَحْوَ مَا بِهِ فَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الّذِي قَالَ فِيهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُورَدُ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحّ كَرِهَ أَنْ يُخَالِطَ الْمَعْيُوهَ الصّحِيحُ لِئَلّا يَنَالَهُ مِنْ نَطَفِهِ وَحِكّتِهِ نَحْوُ مِمّا بِهِ . قَالَ وَأَمّا الْجِنْسُ الْآخَرُ مِنْ الْعَدْوَى فَهُوَ الطّاعُونُ يَنْزِلُ بِبَلَدٍ فَيَخْرُجُ مِنْهُ خَوْفَ الْعَدْوَى وَقَدْ قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا وَقَعَ بِبَلَدٍ وَأَنْتُمْ بِهِ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهُ وَإِذَا كَانَ بِبَلَدٍ فَلَا تَدْخُلُوهُ . يُرِيدُ بِقَوْلِهِ لَا تَخْرُجُوا مَنْ الْبَلَدِ إذَا كَانَ فِيهِ كَأَنّكُمْ تَظُنّونَ أَنّ الْفِرَارَ مِنْ قَدَرِ اللّهِ يُنْجِيكُمْ مِنْ اللّهِ وَيُرِيدُ إذَا كَانَ بِبَلَدٍ فَلَا تَدْخُلُوهُ أَيْ مَقَامُكُمْ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي لَا طَاعُونَ فِيهِ أَسْكَنُ لِقُلُوبِكُمْ وَأَطْيَبُ لِعَيْشِكُمْ وَمِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُعْرَفُ بِالشّؤْمِ أَوْ الدّارُ فَيَنَالُ الرّجُلَ مَكْرُوهٌ أَوْ جَائِحَةٌ فَيَقُولُ أَعَدْتِنِي بِشُؤْمِهَا فَهَذَا هُوَ الْعَدْوَى الّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا عَدْوَى وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ الْمَجْذُومِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاخْتِيَارِ وَالْإِرْشَادِ وَأَمّا الْأَكْلُ مَعَهُ فَفَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَأَنّ هَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ الْخِطَابُ بِهَذَيْنِ الْخِطَابَيْنِ جُزْئِيّ لَا كُلّيّ فَكُلّ [ ص 140 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ فَبَعْضُ النّاسِ يَكُونُ قَوِيّ الْإِيمَانِ قَوِيّ التّوَكّلِ تَدْفَعُ قُوّةُ تَوَكّلِهِ قُوّةَ الْعَدْوَى كَمَا تَدْفَعُ قُوّةُ الطّبِيعَةِ قُوّةَ الْعِلّةِ فَتُبْطِلُهَا وَبَعْضُ النّاسِ لَا يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ فَخَاطَبَهُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالتّحَفّظِ وَكَذَلِكَ هُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَلَ الْحَالَتَيْنِ مَعًا لِتَقْتَدِيَ بِهِ الْأُمّةُ فِيهِمَا فَيَأْخُذُ مَنْ قَوِيَ مِنْ أُمّتِهِ بِطَرِيقَةِ التّوَكّلِ وَالْقُوّةِ وَالثّقَةِ بِاَللّهِ وَيَأْخُذُ مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ بِطَرِيقَةِ التّحَفّظِ وَالِاحْتِيَاطِ وَهُمَا طَرِيقَانِ صَحِيحَانِ . أَحَدُهُمَا : لِلْمُؤْمِنِ الْقَوِيّ وَالْآخَرُ لِلْمُؤْمِنِ الضّعِيفِ فَتَكُونُ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْ الطّائِفَتَيْنِ حُجّةٌ وَقُدْوَةٌ بِحَسَبِ حَالِهِمْ وَمَا يُنَاسِبُهُمْ وَهَذَا كَمَا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَوَى(3/340)
وَأَثْنَى عَلَى تَارِكِ الْكَيّ وَقَرَنَ تَرْكَهُ بِالتّوَكّلِ وَتَرْكِ الطّيَرَةَ وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ لَطِيفَةٌ حَسَنَةٌ جِدّا مَنْ أَعْطَاهَا حَقّهَا وَرُزِقَ فِقْهَ نَفْسِهِ فِيهَا أَزَالَتْ عَنْهُ تَعَارُضًا كَثِيرًا يَظُنّهُ بِالسّنّةِ الصّحِيحَةِ . وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى إلَى أَنّ الْأَمْرَ بِالْفِرَارِ مِنْهُ وَمُجَانَبَتِهِ لِأَمْرٍ طَبِيعِيّ وَهُوَ انْتِقَالُ الدّاءِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالرّائِحَةِ إلَى الصّحِيحِ وَهَذَا يَكُونُ مَعَ تَكْرِيرِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَامَسَةِ لَهُ وَأَمّا أَكْلُهُ مَعَهُ مِقْدَارًا يَسِيرًا مِنْ الزّمَانِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَا تَحْصُلُ الْعَدْوَى مِنْ مَرّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ فَنَهَى سَدّا لِلذّرِيعَةِ وَحِمَايَةً لِلصّحّةِ وَخَالَطَهُ مُخَالَطَةً مَا لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَجْذُومُ الّذِي أَكَلَ مَعَهُ بِهِ مِنْ الْجُذَامِ أَمْرٌ يَسِيرٌ لَا يُعْدِي مِثْلُهُ وَلَيْسَ الْجَذْمَى كُلّهُمْ سَوَاءً وَلَا الْعَدْوَى حَاصِلَةٌ مِنْ جَمِيعِهِمْ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ لَا تَضُرّ مُخَالَطَتُهُ وَلَا تَعْدِي وَهُوَ مَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ ثُمّ وَقَفَ وَاسْتَمَرّ عَلَى حَالِهِ وَلَمْ يُعْدِ بَقِيّةَ جِسْمِهِ فَهُوَ أَنْ لَا يُعْدِيَ غَيْرَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : إنّ الْجَاهِلِيّةَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنّ الْأَمْرَاضَ الْمُعْدِيَةَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ فَأَبْطَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتِقَادَهُمْ ذَلِكَ وَأَكَلَ مَعَ الْمَجْذُومِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الّذِي يُمْرِضُ وَيَشْفِي وَنَهَى عَنْ الْقُرْبِ مِنْهُ [ ص 141 ] جَعَلَهَا اللّهُ مُفْضِيَةً إلَى مُسَبّبَاتِهَا فَفِي نَهْيِهِ إثْبَاتُ الْأَسْبَابِ وَفِي فِعْلِهِ بَيَانُ أَنّهَا لَا تَسْتَقِلّ بِشَيْءٍ بَلْ الرّبّ سُبْحَانَهُ إنْ شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا فَلَا تُؤَثّرُ شَيْئًا وَإِنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَيْهَا قُوَاهَا فَأَثّرَتْ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا النّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ فَيَنْظُرُ فِي تَارِيخِهَا فَإِنْ عُلِمَ الْمُتَأَخّرُ مِنْهَا حُكِمَ بِأَنّهُ النّاسِخُ وَإِلّا تَوَقّفْنَا فِيهَا . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ بَعْضُهَا مَحْفُوظٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَتَكَلّمَتْ فِي حَدِيثِ لَا عَدْوَى وَقَالَتْ قَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ أَوّلًا ثُمّ شَكّ فِيهِ فَتَرَكَهُ وَرَاجَعُوهُ فِيهِ وَقَالُوا : سَمِعْنَاك تُحَدّثُ بِهِ فَأَبَى أَنْ يُحَدّثَ بِهِ . قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَمْ نَسَخَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَ ؟ وَأَمّا حَدِيثُ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ فَحَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ وَلَا يَصِحّ وَغَايَةُ مَا قَالَ فِيهِ التّرْمِذِيّ : إنّهُ غَرِيبٌ لَمْ يُصَحّحْهُ وَلَمْ يُحَسّنْهُ . وَقَدْ قَالَ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ اتّقُوا هَذِهِ الْغَرَائِبَ . قَالَ التّرْمِذِيّ : وَيُرْوَى هَذَا مِنْ فِعْلِ عُمَرَ وَهُوَ أَثْبَتُ فَهَذَا شَأْنُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ اللّذَيْنِ عُورِضَ بِهِمَا أَحَادِيثُ النّهْيِ أَحَدُهُمَا : رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ التّحْدِيثِ بِهِ وَأَنْكَرَهُ وَالثّانِي : لَا يَصِحّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ " الْمِفْتَاح ِ " بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 145)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْقَمْلِ الّذِي فِي الرّأْسِ وَإِزَالَتِهِ(3/341)
فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ كَانَ بِي أَذًى مِنْ رَأْسِي فَحُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ مَا كُنْت أَرَى الْجَهْدَ قَدْ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى وَفِي رِوَايَةٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ وَأَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتّةٍ أَوْ يُهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ [ ص 146 ] وَالثّانِي مِنْ خَلْطٍ رَدِيءٍ عَفِنٍ تَدْفَعُهُ الطّبِيعَةُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللّحْمِ فَيَتَعَفّنُ بِالرّطُوبَةِ الدّمَوِيّةِ فِي الْبَشَرَةِ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ الْمَسَامّ فَيَكُونُ مِنْهُ الْقَمْلُ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ الْعِلَلِ وَالْأَسْقَامِ وَبِسَبَبِ الْأَوْسَاخِ وَإِنّمَا كَانَ فِي رُءُوسِ الصّبْيَانِ أَكْثَرَ لِكَثْرَةِ رُطُوبَاتِهِمْ وَتَعَاطِيهِمْ الْأَسْبَابَ الّتِي تُوَلّدُ الْقَمْلَ وَلِذَلِكَ حَلَقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُءُوسَ بَنِي جَعْفَرٍ .
[عِلَاجُهُ بِالْحَلْقِ ثُمّ بِالطّلْيِ بِالْأَدْوِيَةِ ]
وَمِنْ أَكْبَرِ عِلَاجِهِ حَلْقُ الرّأْسِ لِتَنْفَتِحَ مَسَامّ الْأَبْخِرَةِ فَتَتَصَاعَدُ الْأَبْخِرَةُ الرّدِيئَةُ فَتُضْعِفُ مَادّةَ الْخَلْطِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلَى الرّأْسُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَدْوِيَةِ الّتِي تَقْتُلُ الْقَمْلَ وَتَمْنَعُ تَوَلّدَهُ .
[أَنْوَاعُ حَلْقِ الرّأْسِ ]
وَحَلْقُ الرّأْسِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا : نُسُكٌ وَقُرْبَةٌ . وَالثّانِي : بِدْعَةٌ وَشِرْكٌ وَالثّالِثُ حَاجَةٌ وَدَوَاءٌ فَالْأَوّلُ الْحَلْقُ فِي أَحَدِ النّسُكَيْنِ الْحَجّ أَوْ الْعُمْرَةِ . وَالثّانِي : حَلْقُ الرّأْسِ لِغَيْرِ اللّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا يَحْلِقُهَا الْمُرِيدُونَ لِشُيُوخِهِمْ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ أَنَا حَلَقْتُ رَأْسِي لِفُلَانٍ وَأَنْتَ حَلَقْته لِفُلَانٍ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ سَجَدْتُ لِفُلَانٍ فَإِنّ حَلْقَ الرّأْسِ خُضُوعٌ وَعُبُودِيّةٌ وَذُلّ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ تَمَامِ الْحَجّ حَتّى إنّهُ عِنْدَ الشّافِعِيّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ لَا يَتِمّ إلّا بِهِ فَإِنّهُ وَضْعُ النّوَاصِي بَيْنَ يَدَيْ رَبّهَا خُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ وَتَذَلّلًا لِعِزّتِهِ وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيّةِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا أَرَادَتْ إذْلَالَ الْأَسِيرِ مِنْهُمْ وَعِتْقَهُ حَلَقُوا رَأْسَهُ وَأَطْلَقُوهُ فَجَاءَ شُيُوخُ الضّلَالِ وَالْمُزَاحِمُونَ لِلرّبُوبِيّةِ الّذِينَ أَسَاسُ مَشْيَخَتِهِمْ عَلَى الشّرَكِ وَالْبِدْعَةِ فَأَرَادُوا مِنْ مُرِيدِيهِمْ أَنْ يَتَعَبّدُوا لَهُمْ فَزَيّنُوا لَهُمْ حَلْقَ رُءُوسِهِمْ لَهُمْ كَمَا زَيّنُوا لَهُمْ السّجُودَ لَهُمْ وَسَمّوْهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ وَقَالُوا : هُوَ وَضْعُ الرّأْسِ بَيْنَ يَدَيْ الشّيْخِ وَلَعَمْرُ اللّهِ إنّ السّجُودَ لِلّهِ هُوَ وَضْعُ الرّأْسِ بَيْنَ يَدَيْهِ سُبْحَانَهُ وَزَيّنُوا لَهُمْ أَنْ [ ص 147 ] اتّخَاذُهُمْ أَرْبَابًا وَآلِهَةً مِنْ دُونِ اللّهِ قَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنّبِيّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آلَ عِمْرَانَ 79 - 80 ] .
[ التّحْذِيرُ مِنْ الرّكُوعِ وَالِانْحِنَاءِ لِغَيْرِ اللّهِ وَكَذَا الْقِيَامُ عَلَى رُءُوسِ الْأَكَابِرِ وَهُمْ جُلُوسٌ ](3/342)
وَأَشْرَفُ الْعُبُودِيّةِ عُبُودِيّةُ الصّلَاةِ وَقَدْ تَقَاسَمَهَا الشّيُوخُ وَالْمُتَشَبّهُونَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْجَبَابِرَةُ فَأَخَذَ الشّيُوخُ مِنْهَا أَشْرَفَ مَا فِيهَا وَهُوَ السّجُودُ وَأَخَذَ الْمُتَشَبّهُونَ بِالْعُلَمَاءِ مِنْهَا الرّكُوعَ فَإِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا رَكَعَ لَهُ كَمَا يَرْكَعُ الْمُصَلّي لِرَبّهِ سَوَاءً وَأَخَذَ الْجَبَابِرَةُ مِنْهُمْ الْقِيَامَ فَيَقُومُ الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ عَلَى رُءُوسِهِمْ عُبُودِيّةً لَهُمْ وَهُمْ جُلُوسٌ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثّلَاثَةِ عَلَى التّفْصِيلِ فَتَعَاطِيهَا . مُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ لَهُ فَنَهَى عَنْ السّجُودِ لِغَيْرِ اللّهِ وَقَالَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ وَأَنْكَرَ عَلَى مُعَاذٍ لَمّا سَجَدَ لَهُ وَقَالَ " مَهْ " [ ص 148 ] مُرَاغَمَةٌ لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيّةِ فَإِذَا جَوّزَ هَذَا الْمُشْرِكُ هَذَا النّوْعَ لِلْبَشَرِ فَقَدْ جَوّزَ الْعُبُودِيّةَ لِغَيْرِ اللّهِ وَقَدْ صَحّ أَنّهُ قِيلَ لَهُ الرّجُلُ يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ ؟ قَالَ " لَا " . قِيلَ أَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبّلُهُ قَالَ " لَا " . قِيلَ أَيُصَافِحُهُ ؟ قَالَ " نَعَمْ "
[أَمْرُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ إذَا صَلّى جَالِسًا أَنْ يُصَلّوا جُلُوسًا
لِئَلّا يَقُومُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُو جالسٌ ]
وَأَيْضًا : فَالِانْحِنَاءُ عِنْدَ التّحِيّةِ سُجُودٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا } [ الْبَقَرَةُ 58 ] أَيْ مُنْحَنِينَ وَإِلّا فَلَا يُمْكِنُ الدّخُولُ عَلَى الْجِبَاهِ وَصَحّ عَنْهُ النّهْيُ عَنْ الْقِيَامِ وَهُوَ جَالِسُ كَمَا تُعَظّمُ الْأَعَاجِمُ بَعْضَهَا بَعْضًا حَتّى مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الصّلَاةِ وَأَمَرَهُمْ إذَا صَلّى جَالِسًا أَنْ يُصَلّوا جُلُوسًا وَهُمْ أَصِحّاءُ لَا عُذْرَ لَهُمْ لِئَلّا يَقُومُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَنّ قِيَامَهُمْ لِلّهِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْقِيَامُ تَعْظِيمًا وَعُبُودِيّةً لِغَيْرِهِ سُبْحَانَهُ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ النّفُوسَ الْجَاهِلَةَ الضّالّةَ أَسْقَطَتْ عُبُودِيّةَ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَأَشْرَكَتْ فِيهَا مَنْ تُعَظّمُهُ مِنْ الْخَلْقِ فَسَجَدَتْ لِغَيْرِ اللّهِ وَرَكَعَتْ لَهُ وَقَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ قِيَامَ الصّلَاةِ وَحَلَفَتْ بِغَيْرِهِ وَنَذَرَتْ لِغَيْرِهِ وَحَلَقَتْ لِغَيْرِهِ وَذَبَحَتْ لِغَيْرِهِ وَطَافَتْ لِغَيْرِ بَيْتِهِ وَعَظّمَتْهُ بِالْحُبّ وَالْخَوْفِ وَالرّجَاءِ وَالطّاعَةِ كَمَا يُعَظّمُ الْخَالِقُ بَلْ أَشَدّ وَسَوّتْ مَنْ تَعْبُدُهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ بِرَبّ الْعَالَمِينَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُضَادّونَ لِدَعْوَةِ الرّسُلِ وَهُمْ الّذِينَ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ وَهُمْ الّذِينَ يَقُولُونَ - وَهُمْ فِي النّارِ مَعَ آلِهَتِهِمْ يَخْتَصِمُونَ - { تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ } [ ص 149 ] قَالَ فِيهِمْ { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَادًا يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدّ حُبّا لِلّهِ } [ الْبَقَرَةُ 165 ] وَهَذَا كُلّهُ مِنْ الشّرْكِ وَاَللّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ . فَهَذَا فَصْلٌ مُعْتَرَضٌ فِي هَدْيِهِ فِي حَلْقِ الرّأْسِ وَلَعَلّهُ أَهَمّ مِمّا قُصِدَ الْكَلَامُ فِيهِ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 149)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعِلَاجِ بِالْأَدْوِيَةِ الرّوحَانِيّةِ الْإِلَهِيّةِ الْمُفْرَدَةِ وَالْمُرَكّبَةِ مِنْهَا وَمِنْ الْأَدْوِيَةِ الطّبِيعِيّةِ
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْمُصَابِ بِالْعَيْنِ
رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَيْنُ حَقّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ
وَفِي " صَحِيحِهِ " أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَخّصَ فِي الرّقْيَةِ مِنْ الْحُمَةِ وَالْعَيْنِ وَالنّمْلَةِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة َ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَيْنُ حَقّ
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضّأُ ثُمّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْمَعِينُ(3/343)
[ ص 150 ] الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَمَرَنِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ أَمَرَ أَنْ نَسْتَرْقِيَ مِنْ الْعَيْنِ وَذَكَرَ التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ الزّرْقِيّ أَنّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بَنِي جَعْفَرٍ تُصِيبُهُمْ الْعَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ ؟ فَقَالَ " نَعَمْ فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَضَاءَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَرَوَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ رَأَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَغْتَسِلُ فَقَالَ وَاَللّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبّأَةٍ قَالَ فَلُبِطَ سَهْلٌ فَأَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامِرًا فَتَغَيّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ " عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَلَا بَرّكْتَ اغْتَسِلْ لَهُ " فَغَسَلَ لَهُ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمّ صَبّ عَلَيْهِ فَرَاحَ مَعَ النّاسِ وَرَوَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ إنّ الْعَيْنَ حَقّ تَوَضّأْ لَهُ فَتَوَضّأَ لَهُ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا الْعَيْنُ حَقّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ وَإِذَا اسْتُغْسِلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ [ ص 151 ] قَالَ الزّهْرِيّ : يُؤْمَرُ الرّجُلُ الْعَائِنُ بِقَدَحٍ فَيُدْخِلُ كَفّهُ فِيهِ فَيَتَمَضْمَضُ ثُمّ يَمُجّهُ فِي الْقَدَحِ وَيَغْسِلُ وَجْهَهُ فِي الْقَدَحِ ثُمّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبّ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى فِي الْقَدَحِ ثُمّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبّ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى ثُمّ يَغْسِلُ دَاخِلَةَ إزَارِهِ وَلَا يُوضَعُ الْقَدَحُ فِي الْأَرْضِ ثُمّ يُصَبّ عَلَى رَأْسِ الرّجُلِ الّذِي تُصِيبُهُ الْعَيْنُ مِنْ خَلْفِهِ صَبّةً وَاحِدَةً . وَالْعَيْنُ عَيْنَانِ عَيْنٌ إنْسِيّةٌ وَعَيْنٌ جِنّيّةٌ فَقَدْ صَحّ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ فَقَالَ اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنّ بِهَا النّظْرَةَ قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْفَرّاءُ : وَقَوْلُهُ سَفْعَةٌ أَيْ نَظْرَةٌ يَعْنِي : مِنْ الْجِنّ يَقُولُ بِهَا عَيْنٌ أَصَابَتْهَا مِنْ نَظَرِ الْجِنّ أَنْفَذُ مِنْ أَسِنّةِ الرّمَاحِ . وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ إنّ الْعَيْنَ لَتُدْخِلُ الرّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ
[ ص 152 ] أَبِي سَعِيدٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَتَعَوّذُ مِنْ الْجَانّ وَمِنْ عَيْنِ الْإِنْسَانِ
[قَوْلُ مَنْ أَبْطَلَ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ ](3/344)
فَأَبْطَلَتْ طَائِفَةٌ مِمّنْ قَلّ نَصِيبُهُمْ مِنْ السّمْعِ وَالْعَقْلِ أَمْرَ الْعَيْنِ وَقَالُوا : إنّمَا ذَلِكَ أَوْهَامٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ النّاسِ بِالسّمْعِ وَالْعَقْلِ وَمِنْ أَغْلَظِهِمْ حِجَابًا وَأَكْثَفِهِمْ طِبَاعًا وَأَبْعَدِهِمْ مَعْرِفَةً عَنْ الْأَرْوَاحِ وَالنّفُوسِ . وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا وَتَأْثِيرَاتِهَا وَعُقَلَاءُ الْأُمَمِ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ وَنِحَلِهِمْ لَا تَدْفَعُ أَمْرَ الْعَيْنِ وَلَا تُنْكِرُهُ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ وَجِهَةِ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنّ الْعَائِنَ إذَا تَكَيّفَتْ نَفْسُهُ بِالْكَيْفِيّةِ الرّدِيئَةِ انْبَعَثَ مِنْ عَيْنِهِ قُوّةٌ سُمّيّةٌ تَتّصِلُ بِالْمَعِينِ فَيَتَضَرّرُ . قَالُوا : وَلَا يُسْتَنْكَرُ هَذَا كَمَا لَا يُسْتَنْكَرُ انْبِعَاثُ قُوّةٍ سُمّيّةٍ مِنْ الْأَفْعَى تَتّصِلُ بِالْإِنْسَانِ فَيَهْلَكُ وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ اُشْتُهِرَ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الْأَفَاعِي أَنّهَا إذَا وَقَعَ بَصَرُهَا عَلَى الْإِنْسَانِ هَلَكَ فَكَذَلِكَ الْعَائِنُ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : لَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَنْبَعِثَ مِنْ عَيْنِ بَعْضِ النّاسِ جَوَاهِرُ لَطِيفَةٌ غَيْرُ مَرْئِيّةٍ فَتَتّصِلُ بِالْمَعِينِ وَتَتَخَلّلُ مَسَامّ جِسْمِهِ فَيَحْصُلُ لَهُ الضّرَرُ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : قَدْ أَجْرَى اللّهُ الْعَادَةَ بِخَلْقِ مَا يَشَاءُ مِنْ الضّرَرِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ عَيْنِ الْعَائِنِ لِمَنْ يَعِينُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ قُوّةٌ وَلَا سَبَبٌ وَلَا تَأْثِيرٌ أَصْلًا وَهَذَا مَذْهَبُ مُنْكِرِي الْأَسْبَابِ وَالْقُوَى وَالتّأْثِيرَاتِ فِي الْعَالَمِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ سَدّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَابَ الْعِلَلِ وَالتّأْثِيرَاتِ وَالْأَسْبَابِ وَخَالَفُوا الْعُقَلَاءَ أَجْمَعِينَ .
[الرّدّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ ]
وَلَا رَيْبَ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ قُوًى وَطَبَائِعَ مُخْتَلِفَةً [ ص 153 ] وَجَعَلَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا خَوَاصّ وَكَيْفِيّاتٍ مُؤَثّرَةً وَلَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ إنْكَارُ تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجْسَامِ فَإِنّهُ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ وَأَنْتَ تَرَى الْوَجْهَ كَيْفَ يَحْمَرّ حُمْرَةً شَدِيدَةً إذَا نَظَرَ إلَيْهِ مِنْ يَحْتَشِمُهُ وَيَسْتَحِي مِنْهُ وَيَصْفَرّ صُفْرَةً شَدِيدَةً عِنْدَ نَظَرِ مَنْ يَخَافُهُ إلَيْهِ وَقَدْ شَاهَدَ النّاسُ مَنْ يَسْقَمُ مِنْ النّظَرِ وَتَضْعُفُ قُوَاهُ وَهَذَا كُلّهُ بِوَاسِطَةِ تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ وَلِشِدّةِ ارْتِبَاطِهَا بِالْعَيْنِ يُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَيْهَا وَلَيْسَتْ هِيَ الْفَاعِلَةَ وَإِنّمَا التّأْثِيرُ لِلرّوحِ وَالْأَرْوَاحُ مُخْتَلِفَةٌ فِي طَبَائِعِهَا وَقُوَاهَا وَكَيْفِيّاتِهَا وَخَوَاصّهَا فَرُوحُ الْحَاسِدِ مُؤْذِيَةٌ لِلْمَحْسُودِ أَذًى بَيّنًا وَلِهَذَا أَمَرَ اللّهُ - سُبْحَانَهُ - رَسُولَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ شَرّهِ وَتَأْثِيرُ الْحَاسِدِ فِي أَذَى الْمَحْسُودِ أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ إلّا مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِيّةِ وَهُوَ أَصْلُ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ فَإِنّ النّفْسَ الْخَبِيثَةَ الْحَاسِدَةَ تَتَكَيّفُ بِكَيْفِيّةٍ خَبِيثَةٍ وَتُقَابِلُ الْمَحْسُودَ فَتُؤَثّرُ فِيهِ بِتِلْكَ الْخَاصّيّةِ وَأَشْبَهُ الْأَشْيَاءِ بِهَذَا الْأَفْعَى فَإِنّ السّمّ كَامِنٌ فِيهَا بِالْقُوّةِ فَإِذَا قَابَلَتْ عَدُوّهَا انْبَعَثَتْ مِنْهَا قُوّةٌ غَضَبِيّةٌ وَتَكَيّفَتْ بِكَيْفِيّةٍ خَبِيثَةٍ مُؤْذِيَةٍ فَمِنْهَا مَا تَشْتَدّ كَيْفِيّتُهَا وَتَقْوَى حَتّى تُؤَثّرَ فِي إسْقَاطِ الْجَنِينِ وَمِنْهَا مَا تُؤَثّرُ فِي طَمْسِ الْبَصَرِ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَبْتَرِ وَذِي الطّفْيَتَيْنِ مِنْ الْحَيّاتِ إنّهُمَا يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ وَيُسْقِطَانِ الْحَبَل
[الْحَاسِدُ أَعَمّ مِنْ الْعَائِنِ ](3/345)
وَمِنْهَا مَا تُؤَثّرُ فِي الْإِنْسَانِ كَيْفِيّتُهَا بِمُجَرّدِ الرّؤْيَةِ مِنْ غَيْرِ اتّصَالٍ بِهِ لِشِدّةِ خُبْثِ تِلْكَ النّفْسِ وَكَيْفِيّتِهَا الْخَبِيثَةِ الْمُؤَثّرَةِ وَالتّأْثِيرُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى الِاتّصَالَاتِ الْجِسْمِيّةِ كَمَا يَظُنّهُ مَنْ قَلّ عِلْمُهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِالطّبِيعَةِ وَالشّرِيعَةِ بَلْ التّأْثِيرُ يَكُونُ تَارَةً بِالِاتّصَالِ وَتَارَةً بِالْمُقَابَلَةِ وَتَارَةً بِالرّؤْيَةِ وَتَارَةً بِتَوَجّهِ الرّوحِ نَحْوَ مَنْ يُؤَثّرُ فِيهِ وَتَارَةً بِالْأَدْعِيَةِ وَالرّقَى وَالتّعَوّذَاتِ وَتَارَةً بِالْوَهْمِ وَالتّخَيّلِ وَنَفْسُ الْعَائِنِ لَا يَتَوَقّفُ [ ص 154 ] أَعْمَى فَيُوصَفُ لَهُ الشّيْءُ فَتُؤَثّرُ نَفْسُهُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعَائِنِينَ يُؤَثّرُ فِي الْمَعِينِ بِالْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيّهِ { وَإِنْ يَكَادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمّا سَمِعُوا الذّكْرَ } [ الْقَلَمُ 51 ] . وَقَالَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرّ النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } فَكُلّ عَائِنٍ حَاسِدٌ وَلَيْسَ كُلّ حَاسِدٍ عَائِنًا فَلَمّا كَانَ الْحَاسِدُ أَعَمّ مِنْ الْعَائِنِ كَانَتْ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ اسْتِعَاذَةً مِنْ الْعَائِنِ وَهِيَ سِهَامٌ تَخْرُجُ مِنْ نَفْسِ الْحَاسِدِ وَالْعَائِنِ نَحْوَ الْمَحْسُودِ وَالْمَعِينِ تُصِيبُهُ تَارَةً وَتُخْطِئُهُ تَارَةً فَإِنْ صَادَفَتْهُ مَكْشُوفًا لَا وِقَايَةَ عَلَيْهِ أَثّرَتْ فِيهِ وَلَا بُدّ وَإِنْ صَادَفَتْهُ حَذِرًا شَاكِيَ السّلَاحِ لَا مَنْفَذَ فِيهِ لِلسّهَامِ لَمْ تُؤَثّرْ فِيهِ وَرُبّمَا رُدّتْ السّهَامُ عَلَى صَاحِبِهَا وَهَذَا بِمَثَابَةِ الرّمْيِ الْحِسّيّ سَوَاءً فَهَذَا مِنْ النّفُوسِ وَالْأَرْوَاحِ وَذَاكَ مِنْ الْأَجْسَامِ وَالْأَشْبَاحِ . وَأَصْلُهُ مِنْ إعْجَابِ الْعَائِنِ بِالشّيْءِ ثُمّ تَتْبَعُهُ كَيْفِيّةُ نَفْسِهِ الْخَبِيثَةِ ثُمّ تَسْتَعِينُ عَلَى تَنْفِيذِ سُمّهَا بِنَظْرَةٍ إلَى الْمَعِينِ وَقَدْ يَعِينُ الرّجُلُ نَفْسَهُ وَقَدْ يَعِينُ بِغَيْرِ إرَادَتِهِ بَلْ بِطَبْعِهِ وَهَذَا أَرْدَأُ مَا يَكُونُ مِنْ النّوْعِ الْإِنْسَانِيّ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنّ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ حَبَسَهُ الْإِمَامُ وَأَجْرَى لَهُ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ قَطْعًا .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 160)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعِلَاجِ الْعَامّ لِكُلّ شَكْوَى بِالرّقْيَةِ الْإِلَهِيّةِ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدّرْدَاء ِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ مَنْ اشْتَكَى مِنْكُمْ شَيْئًا أَوْ اشْتَكَاهُ أَخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ رَبّنَا اللّهُ الّذِي فِي السّمَاءِ تَقَدّسَ اسْمُك أَمْرُكَ فِي السّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السّمَاءِ فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الْأَرْضِ وَاغْفِرْ لَنَا حُوْبَنَا وَخَطَايَانَا أَنْتَ رَبّ الطّيّبِينَ أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِك وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ فَيَبْرَأُ بِإِذْنِ اللّهِ . [ ص 161 ] صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي ّ أَنّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ اشْتَكَيْتَ ؟ فَقَالَ " نَعَمْ " فَقَالَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - بِاسْمِ اللّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ شَرّ كُلّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللّهُ يَشْفِيكَ بِاسْمِ اللّهِ أَرْقِيك . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي الْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ : لَا رُقْيَةَ إلّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ وَالْحُمَةُ ذَوَاتُ السّمُومِ كُلّهَا .
[التّوْفِيقُ بَيْنَ جَوَازِ الرّقْيَةِ لِكُلّ شَكْوَى وَبَيْنَ " لَا رُقْيَةَ إلّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ "](3/346)
فَالْجَوّابُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ جَوَازِ الرّقْيَةِ فِي غَيْرِهَا بَلْ الْمُرَادُ بِهِ لَا رُقْيَةَ أَوْلَى وَأَنْفَعُ مِنْهَا فِي الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ وَيَدُلّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ فَإِنّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ قَالَ لَهُ لَمّا أَصَابَتْهُ الْعَيْنُ أَوَ فِي الرّقَى خَيْرٌ ؟ فَقَالَ لَا رُقْيَةَ إلّا فِي نَفْسٍ أَوْ حُمَةٍ وَيَدُلّ عَلَيْهِ سَائِرُ أَحَادِيثِ الرّقَى الْعَامّةِ وَالْخَاصّةِ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا رُقْيَةَ إلّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ دَمٍ يَرْقَأُ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهُ أَيْضًا : رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ وَالنّمْلَةِ [ ص 162 ]
زاد المعاد - (ج 4 / ص 162)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رُقْيَةِ اللّدِيغِ بِالْفَاتِحَةِ
أَخْرَجَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ قَالَ ا نْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سُفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتّى نَزَلُوا عَلَى حَيّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيّفُوهُمْ فَلُدِغَ سَيّدُ ذَلِكَ الْحَيّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرّهْطَ الّذِينَ نَزَلُوا لَعَلّهُمْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا : يَا أَيّهَا الرّهْطُ إنّ سَيّدَنَا لُدِغَ وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاَللّهِ إنّي لَأَرْقِي وَلَكِنْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيّفُونَا فَمَا أَنَا بَرَاقٍ حَتّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ فَانْطَلَقَ يَتْفُلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فَكَأَنّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اقْتَسِمُوا فَقَالَ الّذِي رَقَى : لَا تَفْعَلُوا حَتّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الّذِي كَانَ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ " وَمَا يُدْرِيكَ أَنّهَا رُقْيَةٌ ؟ " ثُمّ قَالَ قَدْ أَصَبْتُمْ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ خَيْرُ الدّوَاءِ الْقُرْآنُ
[فَائِدَةُ الرّقْيَةِ بِالْقُرْآنِ وَبِخَاصّةٍ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ](3/347)
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ بَعْضَ الْكَلَامِ لَهُ خَوَاصّ وَمَنَافِعُ مُجَرّبَةٌ فَمَا الظّنّ بِكَلَامِ رَبّ الْعَالَمِينَ الّذِي فَضْلُهُ عَلَى كُلّ كَلَامٍ كَفَضْلِ اللّهِ عَلَى خَلْقِهِ الّذِي هُوَ الشّفَاءُ [ ص 163 ] الْهَادِي وَالرّحْمَةُ الْعَامّةُ الّذِي لَوْ أُنْزِلَ عَلَى جَبَلٍ لَتَصَدّعَ مِنْ عَظْمَتِهِ وَجَلَالَتِهِ . قَالَ تَعَالَى : { وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الْإِسْرَاءُ : 82 ] و " مِنْ " هَا هُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا لِلتّبْعِيضِ هَذَا أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [ الْفَتْحُ 29 ] وَكُلّهُمْ مِنْ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ فَمَا الظّنّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ الّتِي لَمْ يُنْزَلْ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي التّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزّبُورِ مِثْلُهَا الْمُتَضَمّنَةِ لِجَمِيعِ مَعَانِي كُتُبِ اللّهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ذِكْرِ أُصُولِ أَسْمَاءِ الرّبّ - تَعَالَى - وَمَجَامِعِهَا و هِيَ اللّهُ وَالرّبّ وَالرّحْمَنُ وَإِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَذِكْرِ التّوْحِيدَيْنِ تَوْحِيدِ الرّبُوبِيّةِ وَتَوْحِيدِ الْإِلَهِيّةِ وَذِكْرِ الِافْتِقَارِ إلَى الرّبّ سُبْحَانَهُ فِي طَلَبِ الْإِعَانَةِ وَطَلَبِ الْهِدَايَةِ وَتَخْصِيصِهِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ وَذِكْرِ أَفْضَلِ الدّعَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَنْفَعِهِ وَأَفْرَضِهِ وَمَا الْعِبَادُ أَحْوَجُ شَيْءٍ إلَيْهِ وَهُوَ الْهِدَايَةُ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُتَضَمّنِ كَمَالَ مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ - بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ إلَى الْمَمَاتِ وَيَتَضَمّنُ ذِكْرَ أَصْنَافِ الْخَلَائِقِ وَانْقِسَامَهُمْ إلَى مُنْعَمٍ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ الْحَقّ وَالْعَمَلِ بِهِ وَمَحَبّتِهِ وَإِيثَارِهِ وَمَغْضُوبٍ عَلَيْهِ بِعُدُولِهِ عَنْ الْحَقّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ لَهُ وَضَالّ بِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ لَهُ . وَهَؤُلَاءِ أَقْسَامُ الْخَلِيقَةِ مَعَ تَضَمّنِهَا لِإِثْبَاتِ الْقَدَرِ وَالشّرْعِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصّفَاتِ وَالْمَعَادِ وَالنّبُوّاتِ وَتَزْكِيَةِ النّفُوسِ وَإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ وَذِكْرِ عَدْلِ اللّهِ وَإِحْسَانِهِ وَالرّدّ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْبَاطِلِ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ " مَدَارِجِ السّالِكِينَ " فِي شَرْحِهَا . وَحَقِيقٌ بِسُورَةٍ هَذَا بَعْضُ شَأْنِهَا أَنْ يُسْتَشْفَى بِهَا مِنْ الْأَدْوَاءِ وَيُرْقَى بِهَا اللّدِيغُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا تَضَمّنَتْهُ الْفَاتِحَةُ مِنْ إخْلَاصِ الْعُبُودِيّةِ وَالثّنَاءِ عَلَى اللّهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ كُلّهِ إلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ وَسُؤَالِهِ مَجَامِعَ النّعَمِ كُلّهَا وَهِيَ الْهِدَايَةُ الّتِي تَجْلِبُ النّعَمَ وَتَدْفَعُ النّقَمَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدْوِيَةِ الشّافِيَةِ الْكَافِيَةِ . [ ص 164 ]
[ قِرَاءَةُ الْمُصَنّفِ الْفَاتِحَةَ عَلَى مَاءِ زَمْزَمَ وَذَلِكَ عِنْدَ سَقَمِهِ فِي مَكّةَ]
وَقَدْ قِيلَ إنّ مَوْضِعَ الرّقْيَةِ مِنْهَا : { إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ } وَلَا رَيْبَ أَنّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ مِنْ أَقْوَى أَجْزَاءِ هَذَا الدّوَاءِ فَإِنّ فِيهِمَا مِنْ عُمُومِ التّفْوِيضِ وَالتّوَكّلِ وَالِالْتِجَاءِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالِافْتِقَارِ وَالطّلَبِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ أَعْلَى الْغَايَاتِ وَهِيَ عِبَادَةُ الرّبّ وَحْدَهُ وَأَشْرَفُ الْوَسَائِلِ وَهِيَ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا وَلَقَدْ مَرّ بِي وَقْتٌ بِمَكّةَ سَقِمْتُ فِيهِ وَفَقَدْتُ الطّبِيبَ وَالدّوَاءَ فَكُنْت أَتَعَالَجُ بِهَا آخُذُ شَرْبَةً مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَقْرَؤُهَا عَلَيْهَا مِرَارًا ثُمّ أَشْرَبُهُ فَوَجَدْتُ بِذَلِكَ الْبُرْءَ التّامّ ثُمّ صِرْت أَعْتَمِدُ ذَلِكَ عِنْد كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْجَاعِ فَأَنْتَفِعُ بِهَا غَايَةَ الِانْتِفَاعِ .
فَصْلٌ [نَفْسُ الرّاقِي تَفْعَلُ فِي نَفْسِ الْمَرْقِيّ فَتَدْفَعُ عَنْهُ الْمَرَضَ بِإِذْنِ اللّهِ ](3/348)
وَفِي تَأْثِيرِ الرّقَى بِالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا فِي عِلَاجِ ذَوَاتِ السّمُومِ سِرّ بَدِيعٌ فَإِنّ ذَوَاتَ السّمُومِ أَثّرَتْ بِكَيْفِيّاتِ نُفُوسِهَا الْخَبِيثَةِ كَمَا تَقَدّمَ وَسِلَاحُهَا حُمَاتُهَا الّتِي تَلْدَغُ بِهَا وَهِيَ لَا تَلْدَغُ حَتّى تَغْضَبَ فَإِذَا غَضِبَتْ ثَارَ فِيهَا السّمّ فَتَقْذِفُهُ بِآلَتِهَا وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءً وَلِكُلّ شَيْءٍ ضِدّا وَنَفْسُ الرّاقِي تَفْعَلُ فِي نَفْسِ الْمَرْقِيّ فَيَقَعُ بَيْنَ نَفْسَيْهِمَا فِعْلٌ وَانْفِعَالٌ كَمَا يَقَعُ بَيْنَ الدّاءِ وَالدّوَاءِ فَتَقْوَى نَفْسُ الرّاقِي وَقُوّتُهُ بِالرّقْيَةِ عَلَى ذَلِكَ الدّاءِ فَيَدْفَعُهُ بِإِذْنِ اللّهِ وَمَدَارُ تَأْثِيرِ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَدْوَاءِ عَلَى الْفِعْلِ وَالِانْفِعَالِ وَهُوَ كَمَا يَقَعُ بَيْنَ الدّاءِ وَالدّوَاءِ الطّبِيعِيّيْنِ يَقَعُ بَيْنَ الدّاءِ وَالدّوَاءِ الرّوحَانِيّيْنِ وَالرّوحَانِيّ وَالطّبِيعِيّ وَفِي النّفْثِ وَالتّفْلِ اسْتِعَانَةٌ بِتِلْكَ الرّطُوبَةِ وَالْهَوَاءِ وَالنّفْسِ الْمُبَاشِرِ لِلرّقْيَةِ وَالذّكْرِ وَالدّعَاءِ فَإِنّ الرّقْيَةَ تَخْرُجُ مِنْ قَلْبِ الرّاقِي وَفَمِهِ فَإِذَا صَاحَبَهَا شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ بَاطِنِهِ مِنْ الرّيقِ وَالْهَوَاءِ وَالنّفْسِ كَانَتْ أَتَمّ تَأْثِيرًا وَأَقْوَى فِعْلًا وَنُفُوذًا وَيَحْصُلُ بِالِازْدِوَاجِ بَيْنَهُمَا كَيْفِيّةٌ مُؤَثّرَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْكَيْفِيّةِ الْحَادِثَةِ عِنْدَ تَرْكِيبِ الْأَدْوِيَةِ .
[النّفْثُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي دَفْعِ الْمَرَضِ ]
وَبِالْجُمْلَةِ فَنَفْسُ الرّاقِي تُقَابِلُ تِلْكَ النّفُوسِ الْخَبِيثَةِ وَتَزِيدُ بِكَيْفِيّةِ نَفْسِهِ [ ص 165 ] كَانَتْ كَيْفِيّةُ نَفْسِ الرّاقِي أَقْوَى كَانَتْ الرّقْيَةُ أَتَمّ وَاسْتِعَانَتُهُ بِنَفْثِهِ كَاسْتِعَانَةِ تِلْكَ النّفُوسِ الرّدِيئَةِ بِلَسْعِهَا . وَفِي النّفْثِ سِرّ آخَرُ فَإِنّهُ مِمّا تَسْتَعِينُ بِهِ الْأَرْوَاحُ الطّيّبَةُ وَالْخَبِيثَةُ وَلِهَذَا تَفْعَلُهُ السّحَرَةُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ . قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ شَرّ النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } وَذَلِكَ لِأَنّ النّفْسَ تَتَكَيّفُ بِكَيْفِيّةِ الْغَضَبِ وَالْمُحَارَبَةِ وَتُرْسِلُ أَنْفَاسَهَا سِهَامًا لَهَا وَتَمُدّهَا بِالنّفْثِ وَالتّفْلِ الّذِي مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الرّيقِ مُصَاحِبٌ لِكَيْفِيّةٍ مُؤَثّرَةٍ وَالسّوَاحِرُ تَسْتَعِينُ بِالنّفْثِ اسْتِعَانَةً بَيّنَةً وَإِنْ لَمْ تَتّصِلْ بِجِسْمِ الْمَسْحُورِ بَلْ تَنْفُثُ عَلَى الْعُقْدَةِ وَتَعْقِدُهَا وَتَتَكَلّمُ بِالسّحْرِ فَيَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْمَسْحُورِ بِتَوَسّطِ الْأَرْوَاحِ السّفْلِيّةِ الْخَبِيثَةِ فَتُقَابِلُهَا الرّوحُ الزّكِيّةُ الطّيّبَةُ بِكَيْفِيّةِ الدّفْعِ وَالتّكَلّمِ بِالرّقْيَةِ وَتَسْتَعِينُ بِالنّفْثِ فَأَيّهُمَا قَوِيَ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ وَمُقَابَلَةُ الْأَرْوَاحِ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَمُحَارَبَتُهَا وَآلَتُهَا مِنْ جِنْسِ مُقَابَلَةِ الْأَجْسَامِ وَمُحَارَبَتُهَا وَآلَتِهَا سَوَاءٌ بَلْ الْأَصْلُ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالتّقَابُلِ لِلْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ آلَتُهَا وَجُنْدُهَا وَلَكِنْ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحِسّ لَا يَشْعُرُ بِتَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ وَأَفْعَالِهَا وَانْفِعَالَاتِهَا لِاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْحِسّ عَلَيْهِ وَبُعْدِهِ مِنْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَأَحْكَامِهَا وَأَفْعَالِهَا . وَالْمَقْصُودُ أَنّ الرّوحَ إذَا كَانَتْ قَوِيّةً وَتَكَيّفَتْ بِمَعَانِي الْفَاتِحَةِ وَاسْتَعَانَتْ بِالنّفْثِ وَالتّفْلِ قَابَلَتْ ذَلِكَ الْأَثَرَ الّذِي حَصَلَ مِنْ النّفُوسِ الْخَبِيثَةِ فَأَزَالَتْهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 165)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ لَدْغَةِ الْعَقْرَبِ بِالرّقْيَةِ
رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي إذْ سَجَدَ فَلَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ فِي أُصْبُعِهِ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ " لَعَنَ اللّهُ الْعَقْرَبَ مَا تَدَعُ نَبِيّا وَلَا غَيْرَهُ قَالَ ثُمّ دَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَمِلْحٌ فَجَعَلَ يَضَعُ مَوْضِعَ اللّدْغَةِ فِي الْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَيَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوّذَتَيْنِ حَتّى سَكَنَتْ
[ ص 166 ]
[ مَا لِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ مِنْ الْفَائِدَةِ فِي عِلَاجِ اللّدْغَةِ ](3/349)
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعِلَاجُ بِالدّوَاءِ الْمُرَكّبِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ الطّبِيعِيّ وَالْإِلَهِيّ فَإِنّ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ مِنْ كَمَالِ التّوْحِيدِ الْعِلْمِيّ الِاعْتِقَادِيّ وَإِثْبَاتِ الأَحَدِيّةِ لِلّهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ نَفْيَ كُلّ شَرِكَةٍ عَنْهُ وَإِثْبَاتَ الصّمَدِيّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِإِثْبَاتِ كُلّ كَمَالٍ لَهُ مَعَ كَوْنِ الْخَلَائِقِ تَصْمُدُ إلَيْهِ فِي حَوَائِجِهَا أَيْ تَقْصِدُهُ الْخَلِيقَةُ وَتَتَوَجّهُ إلَيْهِ عَلَوِيّهَا وَسُفْلِيّهَا وَنَفْيَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالْكُفْءِ عَنْهُ الْمُتَضَمّنِ لِنَفْيِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالنّظِيرُ وَالْمُمَاثِلُ مِمّا اخْتَصّتْ بِهِ وَصَارَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَفِي اسْمِهِ الصّمَدِ إثْبَاتُ كُلّ الْكَمَالِ وَفِي نَفْيِ الْكُفْءِ التّنْزِيهُ عَنْ الشّبِيهِ وَالْمِثَالِ . وَفِي الْأَحَدِ نَفْيُ كُلّ شَرِيكٍ لِذِي الْجَلَالِ وَهَذِهِ الْأُصُولُ الثّلَاثَةُ هِيَ مَجَامِعُ التّوْحِيدِ .
[ مَا لِلْمُعَوّذَتَيْنِ مِنْ الْفَائِدَةِ فِي عِلَاجِ اللّدْغَةِ ]
وَفِي الْمُعَوّذَتَيْنِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ كُلّ مَكْرُوهٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَإِنّ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ تَعُمّ كُلّ شَرّ يُسْتَعَاذُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْأَجْسَامِ أَوْ الْأَرْوَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرّ الْغَاسِقِ وَهُوَ اللّيْلُ وَآيَتُهُ وَهُوَ الْقَمَرُ إذَا غَابَ تَتَضَمّنُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرّ مَا يَنْتَشِرُ فِيهِ مِنْ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ الّتِي كَانَ نُورُ النّهَارِ يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِانْتِشَارِ فَلَمّا أَظْلَمَ اللّيْلُ عَلَيْهَا وَغَابَ الْقَمَرُ انْتَشَرَتْ وَعَاثَتْ . وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرّ النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ تَتَضَمّنُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرّ السّوَاحِرِ وَسِحْرِهِنّ . وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرّ الْحَاسِدِ تَتَضَمّنُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ النّفُوسِ الْخَبِيثَةِ الْمُؤْذِيَةِ بِحَسَدِهَا وَنَظَرِهَا . وَالسّورَةُ الثّانِيَةُ تَتَضَمّنُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنّ فَقَدْ [ ص 167 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ بِقِرَاءَتِهِمَا عَقِبَ كُلّ صَلَاةٍ ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِي هَذَا سِرّ عَظِيمٌ فِي اسْتِدْفَاعِ الشّرُورِ مِنْ الصّلَاةِ إلَى الصّلَاةِ . وَقَالَ مَا تَعَوّذَ الْمُتَعَوّذُونَ بِمِثْلِهِمَا . وَقَدْ ذَكَرَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُحِرَ فِي إحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةٍ وَأَنّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ بِهِمَا فَجَعَلَ كُلّمَا قَرَأَ آيَةً مِنْهُمَا انْحَلّتْ عُقْدَةٌ حَتّى انْحَلّتْ الْعُقَدُ كُلّهَا وَكَأَنّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ .
[ الْفَائِدَةُ فِي الْمِلْحِ فِي عِلَاجِ اللّدْغَةِ ](3/350)
وَأَمّا الْعِلَاجُ الطّبِيعِيّ فِيهِ فَإِنّ فِي الْمِلْحِ نَفْعًا لِكَثِيرٍ مِنْ السّمُومِ وَلَا سِيّمَا لَدْغَةُ الْعَقْرَبِ قَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : يُضَمّدُ بِهِ مَعَ بَزْرِ الْكَتّانِ لِلَسْعِ الْعَقْرَبِ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ أَيْضًا . وَفِي الْمِلْحِ مِنْ الْقُوّةِ الْجَاذِبَةِ الْمُحَلّلَةِ مَا يَجْذِبُ السّمُومَ وَيُحَلّلُهَا وَلَمّا كَانَ فِي لَسْعِهَا قُوّةٌ نَارِيّةٌ تَحْتَاجُ إلَى تَبْرِيدٍ وَجَذْبٍ وَإِخْرَاجٍ جَمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ الْمُبَرّدِ لِنَارِ اللّسْعَةِ وَالْمِلْحِ الّذِي فِيهِ جَذْبٌ وَإِخْرَاجٌ وَهَذَا أَتَمّ مَا يَكُونُ مِنْ الْعِلَاجِ وَأَيْسَرُهُ وَأَسْهَلُهُ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنّ عِلَاجَ هَذَا الدّاءِ بِالتّبْرِيدِ وَالْجَذْبِ وَالْإِخْرَاجِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ فَقَالَ " أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرّك وَاعْلَمْ أَنّ الْأَدْوِيَةَ الطّبِيعِيّةَ الْإِلَهِيّةَ تَنْفَعُ مِنْ الدّاءِ بَعْدَ حُصُولِهِ وَتَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهِ وَإِنْ وَقَعَ لَمْ يَقَعْ وُقُوعًا مُضِرّا وَإِنْ كَانَ مُؤْذِيًا وَالْأَدْوِيَةُ الطّبِيعِيّةُ إنّمَا تَنْفَعُ بَعْدَ حُصُولِ الدّاءِ فَالتّعَوّذَاتُ وَالْأَذْكَارُ إمّا أَنْ تَمْنَعَ وُقُوعَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَإِمّا أَنْ تَحُولَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كَمَالِ تَأْثِيرِهَا بِحَسَبِ كَمَالِ التّعَوّذِ وَقُوّتِهِ وَضَعْفِهِ فَالرّقَى [ ص 168 ] الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفّيْهِ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوّذَتَيْنِ . ثُمّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدُهُ مِنْ جَسَدِهِ وَكَمَا فِي حَدِيثِ عُوذَةِ أَبِي الدّرْدَاءِ الْمَرْفُوعِ اللّهُمّ أَنْتَ رَبّي لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ عَلَيْكَ تَوَكّلْتُ وَأَنْتَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَقَدْ تَقَدّمَ وَفِيهِ مَنْ قَالَهَا أَوّلَ نَهَارِهِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتّى يُمْسِيَ وَمَنْ قَالَهَا آخِرَ نَهَارِهِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتّى يُصْبِحَ . وَكَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ وَكَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التَامّاتِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرّهُ شَيْءٌ حَتّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ وَكَمَا فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ فِي السّفَرِ يَقُولُ بِاللّيْلِ " يَا أَرْضُ رَبّي وَرَبّكِ اللّهُ أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ شَرّكِ وَشَرّ مَا فِيك وَشَرّ مَا يَدُبّ عَلَيْك أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ أَسَدٍ وأَسْودٍ وَمِنْ الْحَيّةِ وَالْعَقْرَبِ وَمِنْ سَاكِنِ الْبَلَدِ وَمِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [ ص 169 ] الثّانِي : فَكَمَا تَقَدّمَ مِنْ الرّقْيَةِ بِالْفَاتِحَةِ وَالرّقْيَةِ لِلْعَقْرَبِ وَغَيْرِهَا مِمّا يَأْتِي .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 169)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رُقْيَةِ النّمْلَةِ
قَدْ تَقَدّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ الّذِي فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَخّصَ فِي الرّقْيَةِ مِنْ الْحُمَةِ وَالْعَيْنِ وَالنّمْلَةِ وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ الشّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللّهِ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ " أَلَا تُعَلّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النّمْلَةِ كَمَا عَلّمْتِيها الْكِتَابَةَ النّمْلَةُ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَنْبَيْنِ وَهُوَ دَاءٌ مَعْرُوفٌ وَسُمّيَ نَمْلَةً لِأَنّ صَاحِبَهُ يُحِسّ فِي مَكَانِهِ كَأَنّ نَمْلَةً تَدِبّ عَلَيْهِ وَتَعَضّهُ وَأَصْنَافُهَا ثَلَاثَةٌ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ كَانَ الْمَجُوسُ يَزْعُمُونَ أَنّ وَلَدَ الرّجُلِ مِنْ أُخْتِهِ إذَا خُطّ عَلَى النّمْلَةِ شَفَى صَاحِبَهَا وَمِنْهُ قَوْلُ الشّاعِرِ وَلَا عَيْبَ فِينَا غَيْرَ عُرْفٍ لِمَعْشَر ٍ كِرَامٍ وَأَنّا لَا نَخُطّ عَلَى النّمْلِ(3/351)
وَرَوَى الْخَلّالُ أَنّ الشّفَاءَ بِنْتَ عَبْدِ اللّهِ كَانَتْ تَرْقِي فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ النّمْلَةِ فَلَمّا هَاجَرَتْ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَتْ قَدْ بَايَعَتْهُ بِمَكّةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي كُنْت أَرْقِي فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ النّمْلَةِ وَإِنّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَهَا عَلَيْك فَعُرِضَتْ عَلَيْهِ فَقَالَتْ بِسْمِ اللّهِ ضَلّتْ حَتّى تَعُودَ مِنْ أَفْوَاهِهَا وَلَا تَضُرّ أَحَدًا اللّهُمّ اكْشِفْ الْبَأْسَ رَبّ النّاسِ قَالَ تَرْقِي بِهَا عَلَى عُودٍ سَبْعَ مَرّاتٍ وَتَقْصِدُ مَكَانًا نَظِيفًا [ ص 170 ]
[ جَوَازُ تَعْلِيمِ النّسَاءِ الْكِتَابَةَ ]
وَتَدْلُكُهُ عَلَى حَجَرٍ بِخَلّ خَمْرٍ حَاذِقٍ وَتَطْلِيهِ عَلَى النّمْلَةِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيمِ النّسَاءِ الْكِتَابَةَ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 170)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رُقْيَةِ الْحَيّةِ
قَدْ تَقَدّمَ قَوْلُهُ لَا رُقْيَةَ إلّا فِي عَيْنٍ أَوْ حُمَة الْحُمَةُ بِضَمّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِهَا . وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ : رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّقْيَةِ مِنْ الْحَيّةِ وَالْعَقْرَبِ . وَيُذْكَرُ عَنْ ٍ ابْنِ شِهَاب الزّهْرِيّ قَالَ لَدَغَ بَعْضَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيّةٌ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " هَلْ مِنْ رَاقٍ ؟ " فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ آلَ حَزْمٍ كَانُوا يَرْقُونَ رُقْيَةَ الْحَيّةِ فَلَمّا نَهَيْتَ عَنْ الرّقَى تَرَكُوهَا فَقَالَ " اُدْعُوا عِمَارَةَ بْنَ حَزْمٍ " فَدَعَوْهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ رُقَاهُ فَقَالَ " لَا بَأْسَ بِهَا " فَأَذِنَ لَهُ فِيهَا فَرَقَاهُ
زاد المعاد - (ج 4 / ص 170)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رُقْيَةِ الْقَرْحَةِ وَالْجُرْحِ
أَخْرَجَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ قَالَ بِأُصْبُعِهِ هَكَذَا وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبّابَتَهُ بِالْأَرْضِ ثُمّ رَفَعَهَا وَقَالَ " بِسْمِ اللّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبّنَا [ ص 171 ]
[ عِلّةُ اسْتِعْمَالِ التّرَابِ فِي هَذِهِ الرّقْيَةِ ]
هَذَا مِنْ الْعِلَاجِ الْمُيَسّرِ النّافِعِ الْمُرَكّبِ وَهِيَ مُعَالَجَةٌ لَطِيفَةٌ يُعَالَجُ بِهَا الْقُرُوحُ وَالْجِرَاحَاتُ الطّرِيّةُ لَا سِيّمَا عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهَا مِنْ الْأَدْوِيَةِ إذْ كَانَتْ مَوْجُودَةً بِكُلّ أَرْضٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنّ طَبِيعَةَ التّرَابِ الْخَالِصِ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ مُجَفّفَةٌ لِرُطُوبَاتِ الْقُرُوحِ وَالْجِرَاحَاتِ الّتِي تَمْنَعُ الطّبِيعَةُ مِنْ جَوْدَةِ فِعْلِهَا وَسُرْعَةِ انْدِمَالِهَا لَا سِيّمَا فِي الْبِلَادِ الْحَارّةِ وَأَصْحَابِ الْأَمْزِجَةِ الْحَارّةِ فَإِنّ الْقُرُوحَ وَالْجِرَاحَاتِ يَتْبَعُهَا فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ سُوءُ مِزَاجٍ حَارّ فَيَجْتَمِعُ حَرَارَةُ الْبَلَدِ وَالْمِزَاجُ وَالْجِرَاحُ وَطَبِيعَةُ التّرَابِ الْخَالِصِ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ أَشَدّ مِنْ بُرُودَةِ جَمِيعِ الْأَدْوِيَةِ الْمُفْرَدَةِ الْبَارِدَةِ فَتُقَابِلُ بُرُودَةَ التّرَابِ حَرَارَةُ الْمَرَضِ لَا سِيّمَا إنْ كَانَ التّرَابُ قَدْ غُسِلَ وَجُفّفَ وَيَتْبَعُهَا أَيْضًا كَثْرَةُ الرّطُوبَاتِ الرّدِيئَةِ وَالسّيَلَانُ وَالتّرَابُ مُجَفّفٌ لَهَا مُزِيلٌ لِشِدّةِ يُبْسِهِ وَتَجْفِيفِهِ لِلرّطُوبَةِ الرّدِيئَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ بَرْئِهَا وَيَحْصُلُ بِهِ - مَعَ ذَلِكَ - تَعْدِيلُ مِزَاجِ الْعُضْوِ الْعَلِيلِ وَمَتَى اعْتَدَلَ مِزَاجُ الْعُضْوِ قَوِيَتْ قُوَاهُ الْمُدَبّرَةُ وَدَفَعَتْ عَنْهُ الْأَلَمَ بِإِذْنِ اللّهِ .
[ كَيْفِيّةُ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الرّقْيَةِ ]
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنّهُ يَأْخُذُ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى أُصْبُعِهِ السّبّابَةِ ثُمّ يَضَعُهَا عَلَى التّرَابِ فَيَعْلَقُ بِهَا مِنْهُ شَيْءٌ فَيَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْجُرْحِ وَيَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ لِمَا فِيهِ مِنْ بَرَكَةِ ذِكْرِ اسْمِ اللّهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ فَيَنْضَمّ أَحَدُ الْعِلَاجَيْنِ إلَى الْآخَرِ فَيَقْوَى التّأْثِيرُ .
[ هَلْ الْمَقْصُودُ بِاسْتِعْمَالِ التّرَابِ تُرْبَةُ جَمِيعِ الْأَرْضِ أَوْ أَرْضُ الْمَدِينَةِ ](3/352)
وَهَلْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " تُرْبَةُ أَرْضِنَا " جَمِيعُ الْأَرْضِ أَوْ أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصّةً ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَلَا رَيْبَ أَنّ مِنْ التّرْبَةِ مَا تَكُونُ فِيهِ خَاصّيّةٌ يَنْفَعُ بِخَاصّيّتِهِ مِنْ أَدْوَاءٍ كَثِيرَةٍ [ ص 172 ] قَالَ جَالِينُوسُ : رَأَيْت بِالْإِسْكَنْدَرِيّةِ مَطْحُولِينَ وَمُسْتَسْقِينَ كَثِيرًا يَسْتَعْمِلُونَ طِينَ مِصْرَ وَيَطْلُونَ بِهِ عَلَى سُوقِهِمْ وَأَفْخَاذِهِمْ وَسَوَاعِدِهِمْ وَظُهُورِهِمْ وَأَضْلَاعِهِمْ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ مَنْفَعَةً بَيّنَةً . قَالَ وَعَلَى هَذَا النّحْوِ فَقَدْ يَنْفَعُ هَذَا الطّلَاءُ لِلْأَوْرَامِ الْعَفِنَةِ وَالْمُتَرَهّلَةِ الرّخْوَةِ قَالَ وَإِنّي لَأَعْرِفُ قَوْمًا تَرَهّلَتْ أَبْدَانُهُمْ كُلّهَا مِنْ كَثْرَةِ اسْتِفْرَاغِ الدّمِ مِنْ أَسْفَلِ انْتَفَعُوا بِهَذَا الطّينِ نَفْعًا بَيّنًا وَقَوْمًا آخَرِينَ شَفَوْا بِهِ أَوْجَاعًا مُزْمِنَةً كَانَتْ مُتَمَكّنَةً فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ تَمَكّنًا شَدِيدًا فَبَرَأَتْ وَذَهَبَتْ أَصْلًا . وَقَالَ صَاحِبُ الْكِتَابِ الْمَسِيحِيّ قُوّةُ الطّينِ الْمَجْلُوبِ مِنْ كُنُوسَ - وَهِيَ جَزِيرَةُ المصطكى - قُوّةٌ تَجْلُو وَتَغْسِلُ وَتُنْبِتُ اللّحْمَ فِي الْقُرُوحِ وَتَخْتِمُ الْقُرُوحَ . انْتَهَى . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي هَذِهِ التّرُبَاتِ فَمَا الظّنّ بِأَطْيَبِ تُرْبَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَأَبْرَكِهَا وَقَدْ خَالَطَتْ رِيقَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَارَنَتْ رُقْيَتَهُ بِاسْمِ رَبّهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ قُوَى الرّقْيَةِ وَتَأْثِيرَهَا بِحَسَبِ الرّاقِي وَانْفِعَالِ الْمَرْقِيّ عَنْ رُقْيَتِهِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ طَبِيبٌ فَاضِلٌ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ فَإِنْ انْتَفَى أَحَدُ الْأَوْصَافِ فَلْيَقُلْ مَا شَاءَ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 172)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْوَجَعِ بِالرّقْيَةِ
رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ أَنّهُ شَكَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " ضَعْ يَدَكَ عَلَى الّذِي تَأَلّمَ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ بِسْمِ اللّهِ ثَلَاثًا وَقُلْ سَبْعَ مَرّاتٍ أَعُوذُ بِعِزّةِ اللّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ فَفِي هَذَا الْعِلَاجِ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ وَالتّفْوِيضِ إلَيْهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ بِعِزّتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرّ الْأَلَمِ مَا يَذْهَبُ بِهِ وَتَكْرَارُهُ لِيَكُونَ أَنْجَعَ وَأَبْلَغَ كَتَكْرَارِ الدّوَاءِ لِأَخْرَاجِ الْمَادّةِ وَفِي السّبْعِ خَاصّيّةٌ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا وَفِي [ ص 173 ] الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُعَوّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ " اللّهُمّ رَبّ النّاسِ أَذْهِبْ الْبَاسَ وَاشْفِ أَنْتَ الشّافِي لَا شِفَاءَ إلّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا فَفِي هَذِهِ الرّقْيَةِ تَوَسّلٌ إلَى اللّهِ بِكَمَالِ رُبُوبِيّتِهِ وَكَمَالِ رَحْمَتِهِ بِالشّفَاءِ وَأَنّهُ وَحْدَهُ الشّافِي وَأَنّهُ لَا شِفَاءَ إلّا شِفَاؤُهُ فَتَضَمّنَتْ التّوَسّلَ إلَيْهِ بِتَوْحِيدِهِ وَإِحْسَانِهِ وَرُبُوبِيّتِهِ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 173)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ حَرّ الْمُصِيبَةِ وَحُزْنِهَا
قَالَ تَعَالَى : { وَبَشّرِ الصّابِرِينَ الّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [ الْبَقَرَةُ 155 ] . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ إنّا لِلّهِ وَإِنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ اللّهُمّ أْجُرْني فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إلّا أَجَارَهُ اللّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا
[ إذَا تَحَقّقَ الْعَبْدُ بِأَنّهُ لِلّهِ وَأَنّ مَصِيرَهُ إلَيْهِ تَسَلّى عَنْ مُصِيبَتِهِ ](3/353)
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ أَبْلَغِ عِلَاجِ الْمُصَابِ وَأَنْفَعِهِ لَهُ فِي عَاجِلَتِهِ وَآجِلَتِهِ فَإِنّهَا تَتَضَمّنُ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ إذَا تَحَقّقَ الْعَبْدُ بِمَعْرِفَتِهِمَا تَسَلّى عَنْ مُصِيبَتِهِ . أَحَدُهُمَا : أَنّ الْعَبْدَ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ مِلْكٌ لِلّهِ عَزّ وَجَلّ حَقِيقَةً وَقَدْ جَعَلَهُ عِنْدَ الْعَبْدِ عَارِيَةً فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ فَهُوَ كَالْمُعِيرِ يَأْخُذُ مَتَاعَهُ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ مَحْفُوفٌ بِعَدَمَيْنِ عَدَمٍ قَبْلَهُ وَعَدَمٍ بَعْدَهُ وَمِلْكُ الْعَبْدِ لَهُ مُتْعَةٌ مُعَارَةٌ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ وَأَيْضًا فَإِنّهُ لَيْسَ الّذِي أَوْجَدَهُ عَنْ عَدَمِهِ حَتّى يَكُونَ مِلْكُهُ حَقِيقَةً وَلَا هُوَ [ ص 174 ] وَالثّانِي : أَنّ مَصِيرَ الْعَبْدِ وَمَرْجِعَهُ إلَى اللّهِ مَوْلَاهُ الْحَقّ وَلَا بُدّ أَنْ يُخَلّفَ الدّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَيَجِيءَ رَبّهُ فَرْدًا كَمَا خَلَقَهُ أَوّلَ مَرّةٍ بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَشِيرَةٍ وَلَكِنْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ بِدَايَةَ الْعَبْدِ وَمَا خُوّلَهُ وَنِهَايَتَهُ فَكَيْفَ يَفْرَحُ بِمَوْجُودٍ أَوْ يَأْسَى عَلَى مَفْقُودٍ فَفِكْرُهُ فِي مَبْدَئِهِ وَمَعَادِهِ مِنْ أَعْظَمِ عِلَاجِ هَذَا الدّاءِ وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ . قَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّهُ لَا يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [ الْحَدِيدُ 22 ] .
[ ذِكْرُ بَعْضِ الْعِلَاجَاتِ مِنْهَا النّظَرُ إلَى مَا أَبْقَى اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ النّعَمِ ]
وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا أُصِيبَ بِهِ فَيَجِدُ رَبّهُ قَدْ أَبْقَى عَلَيْهِ مِثْلَهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ وَادّخَرَ لَهُ - إنْ صَبَرَ وَرَضِيَ - مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ فَوَاتِ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ وَأَنّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهَا أَعْظَمَ مِمّا هِيَ .
[ التّأَسّي بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ وَذِكْرُ قِصَصٍ فِي ذَلِكَ ](3/354)
وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يُطْفِئَ نَارَ مُصِيبَتِهِ بِبَرْدِ التّأَسّي بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ وَلِيَعْلَمَ أَنّهُ فِي كُلّ وَادٍ بَنُو سَعْدٍ وَلْيَنْظُرْ يَمْنَةً فَهَلْ يَرَى إلّا مِحْنَةً ؟ ثُمّ لِيَعْطِفْ يَسْرَةً فَهَلْ يَرَى إلّا حَسْرَةً ؟ وَأَنّهُ لَوْ فَتّشَ الْعَالَمَ لَمْ يَرَ فِيهِمْ إلّا مُبْتَلًى إمّا بِفَوَاتِ مَحْبُوبٍ أَوْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ وَأَنّ شُرُورَ الدّنْيَا أَحْلَامُ نُوّمٍ أَوْ كَظِلّ زَائِلٍ إنْ أَضْحَكَتْ قَلِيلًا أَبْكَتْ كَثِيرًا وَإِنْ سَرّتْ يَوْمًا سَاءَتْ دَهْرًا وَإِنْ مَتّعَتْ قَلِيلًا [ ص 175 ] خِيرَةً إلّا مَلَأَتْهَا عَبْرَةً وَلَا سَرّتْهُ بِيَوْمِ سُرُورٍ إلّا خَبّأَتْ لَهُ يَوْمَ شُرُورٍ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - لِكُلّ فَرْحَةٍ تِرْحَةٌ وَمَا مُلِئَ بَيْتٌ فَرَحًا إلّا مُلِئَ تَرَحًا وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : مَا كَانَ ضَحِكٌ قَطّ إلّا كَانَ مِنْ بَعْدِهِ بُكَاءٌ وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ النّعْمَانِ : لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ مِنْ أَعَزّ النّاسِ وَأَشَدّهِمْ مُلْكًا ثُمّ لَمْ تَغِبِ الشّمْسُ حَتّى رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ أَقَلّ النّاسِ وَأَنّهُ حَقّ عَلَى اللّهِ أَلّا يَمْلَأَ دَارًا خِيرَةً إلّا مَلَأَهَا عَبْرَةً . وَسَأَلَهَا رَجُلٌ أَنْ تُحَدّثَهُ عَنْ أَمْرِهَا فَقَالَتْ أَصْبَحْنَا ذَا صَبَاحٍ وَمَا فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ إلّا يَرْجُونَا ثُمّ أَمْسَيْنَا وَمَا فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ إلّا يَرْحَمُنَا وَبَكَتْ أُخْتُهَا حُرْقَةُ بِنْتُ النّعْمَانِ يَوْمًا وَهِيَ فِي عِزّهَا فَقِيلَ لَهَا : مَا يُبْكِيك لَعَلّ أَحَدًا آذَاك ؟ قَالَتْ لَاُ وَلَكِنْ رَأَيْتُ غَضَارَةً فِي أَهْلِي وَقَلّمَا امْتَلَأَتْ دَارٌ سُرُورًا إلّا امْتَلَأَتْ حُزْنًا . قَالَ إسْحَاقُ بْنُ طَلْحَةَ : دَخَلْتُ عَلَيْهَا يَوْمًا فَقُلْتُ لَهَا : كَيْفَ رَأَيْتِ عَبَرَاتِ الْمُلُوكِ ؟ فَقَالَتْ مَا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِمّا كُنّا فِيهِ الْأَمْسَ إنّا نَجِدُ فِي الْكُتُبِ أَنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَعِيشُونَ فِي خِيرَةٍ إلّا سَيُعْقَبُونَ بَعْدَهَا عِبْرَةً وَأَنّ الدّهْرَ لَمْ يَظْهَرْ لِقَوْمٍ بِيَوْمٍ يُحِبّونَهُ إلّا بَطَنَ لَهُمْ بِيَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ ثُمّ قَالَتْ فَبَيْنَا نَسُوسُ النّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصّفُ
فَأُفّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا تَقَلّبُ تَارَاتٍ بِنَا وتَصَرّفُ
[ ص 176 ]
[ الْجَزَعُ يُضَاعِفُ الْمَرَضَ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يُعْلَمَ أَنّ الْجَزَعَ لَا يَرُدّهَا بَلْ يُضَاعِفُهَا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ تَزَايُدِ الْمَرَضِ .
[ فَوْتُ ثَوَابِ الصّبْرِ أَعْظَمُ مِنْ الْمُصِيبَةِ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يُعْلَمَ أَنّ فَوْتَ ثَوَابِ الصّبْرِ وَالتّسْلِيمَ وَهُوَ الصّلَاةُ وَالرّحْمَةُ وَالْهِدَايَةُ الّتِي ضَمِنَهَا اللّهُ عَلَى الصّبْرِ وَالِاسْتِرْجَاعِ أَعْظَمُ مِنْ الْمُصِيبَةِ فِي الْحَقِيقَةِ .
[ الْجَزَعُ يُشْمِتُ الْأَعْدَاءَ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يُعْلَمَ أَنّ الْجَزَعَ يُشْمِتُ عَدُوّهُ وَيَسُوءُ صَدِيقَهُ وَيُغْضِبُ رَبّهُ وَيَسُرّ شَيْطَانَهُ وَيُحْبِطُ أَجْرَهُ وَيُضْعِفُ نَفْسَهُ وَإِذَا صَبَرَ وَاحْتَسَبَ أَنْضَى شَيْطَانَهُ وَرَدّهُ خَاسِئًا وَأَرْضَى رَبّهُ وَسَرّ صَدِيقَهُ وَسَاءَ عَدُوّهُ وَحَمَلَ عَنْ إخْوَانِهِ وَعَزّاهُمْ هُوَ قَبْلَ أَنْ يُعَزّوهُ فَهَذَا هُوَ الثّبَاتُ وَالْكَمَالُ الْأَعْظَمُ لَا لَطْمُ الْخُدُودِ وَشَقّ الْجُيُوبِ وَالدّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثّبُورِ وَالسّخْطُ عَلَى الْمَقْدُورِ .
[ لَذّةَ الصّبْرِ وَمِنْهَا بَيْتُ الْحَمْدِ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّ مَا يُعْقِبُهُ الصّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ مِنْ اللّذّةِ وَالْمَسَرّةِ أَضْعَافُ مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ بِبَقَاءِ مَا أُصِيبَ بِهِ لَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ وَيَكْفِيهِ مِنْ ذَلِكَ بَيْتُ الْحَمْدِ الّذِي يُبْنَى لَهُ فِي الْجَنّةِ عَلَى حَمْدِهِ لِرَبّهِ وَاسْتِرْجَاعِهِ فَلْيَنْظُرْ أَيّ الْمُصِيبَتَيْنِ أَعْظَمُ ؟ : مُصِيبَةُ الْعَاجِلَةِ أَوْ مُصِيبَةُ فَوَاتِ بَيْتِ الْحَمْدِ فِي جَنّةِ الْخُلْدِ . وَفِي التّرْمِذِيّ مَرْفُوعًا : يَوَدّ نَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بالَمَقَارِيضِ فِي الدّنْيَا لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاء وَقَالَ بَعْضُ السّلَفِ لَوْلَا مَصَائِبُ الدّنْيَا لَوَرَدْنَا الْقِيَامَ مَفَالِيسَ .
[ تَرْوِيحُ الْقَلْبِ بِرَجَاءِ الْخَلَفِ مِنْ اللّهِ ](3/355)
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يُرَوّحَ قَلْبَهُ بِرُوحِ رَجَاءِ الْخَلَفِ مِنْ اللّهِ فَإِنّهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ عِوَضٌ إلّا اللّهُ فَمَا مِنْهُ عِوَضٌ كَمَا قِيلَ [ ص 177 ] مِنْ كُلّ شَيْءٍ إذَا ضَيّعْتَهُ عِوَضٌ وَمَا مِنْ اللّهِ إنْ ضَيّعْتَهُ عِوَضُ
[ الْحَظّ مِنْ الْمُصِيبَةِ مَا تُحْدِثُهُ لَهُ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّ حَظّهُ مِنْ الْمُصِيبَةِ مَا تُحْدِثُهُ لَهُ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرّضَى وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السّخْطُ فَحَظّك مِنْهَا مَا أَحْدَثَتْهُ لَك فَاخْتَرْ خَيْرَ الْحُظُوظِ أَوْ شَرّهَا فَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ سُخْطًا وَكُفْرًا كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْهَالِكِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ جَزَعًا وَتَفْرِيطًا فِي تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرّمٍ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمُفَرّطِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ شِكَايَةً وَعَدَمَ صَبْرٍ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمَغْبُونِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ اعْتِرَاضًا عَلَى اللّهِ وَقَدْحًا فِي حِكْمَتِهِ فَقَدْ قَرَعَ بَابَ الزّنْدَقَةِ أَوْ وَلَجَهُ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ صَبْرًا وَثَبَاتًا لِلّهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الصّابِرِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ الرّضَى عَنْ اللّهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الرّاضِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ الْحَمْدَ وَالشّكْرَ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الشّاكِرِينَ وَكَانَ تَحْتَ لِوَاءِ الْحَمْدِ مَعَ الْحَمّادِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ مَحَبّةً وَاشْتِيَاقًا إلَى لِقَاءِ رَبّهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمُحِبّينَ الْمُخْلِصِينَ . وَفِي مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَالتّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ يَرْفَعُهُ إنّ اللّهَ إذَا أَحَبّ قَوْمًا ا بْتَلَاهُمُ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرّضَى وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السّخْط زَادَ أَحْمَدُ : وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَع وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّهُ وَإِنْ بَلَغَ فِي الْجَزَعِ غَايَتَهُ فَآخِرُ أَمْرِهِ إلَى صَبْرِ الِاضْطِرَارِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْمُودٍ وَلَا مُثَابٍ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْعَاقِلُ يَفْعَلُ فِي أَوّلِ يَوْمٍ مِنْ الْمُصِيبَةِ مَا يَفْعَلُهُ الْجَاهِلُ بَعْدَ أَيّامٍ وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سَلْوَ الْبَهَائِمِ . وَفِي " الصّحِيحِ " مَرْفُوعًا : الصَبْرُ عِنْدَ الصّدْمَةِ الْأُولَى وَقَالَ [ ص 178 ] الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ : إنّك إنْ صَبَرْت إيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَإِلّا سَلَوْتَ سُلُوّ الْبَهَائِمِ
[أَنْفَعُ الْأَدْوِيَةِ مُوَافَقَةُ اللّهِ فِيمَا أَحَبّهُ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّ أَنْفَعَ الْأَدْوِيَةِ لَهُ مُوَافَقَةُ رَبّهِ وَإِلَهِهِ فِيمَا أَحَبّهُ وَرَضِيَهُ لَهُ وَأَنّ خَاصّيّةَ الْمَحَبّةِ وَسِرّهَا مُوَافَقَةُ الْمَحْبُوبِ فَمَنْ ادّعَى مَحَبّةَ مَحْبُوبٍ ثُمّ سَخِطَ مَا يُحِبّهُ وَأَحَبّ مَا يَسْخَطُهُ فَقَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذِبِهِ وَتَمَقّتَ إلَى مَحْبُوبِهِ . وَقَالَ أَبُو الدّرْدَاءِ : إنّ اللّهَ إذَا قَضَى قَضَاءً أَحَبّ أَنْ يُرْضَى بِهِ وَكَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ يَقُولُ فِي عِلّتِهِ أَحَبّهُ إلَيّ أَحَبّهُ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَهَذَا دَوَاءٌ وَعِلَاجٌ لَا يَعْمَلُ إلّا مَعَ الْمُحِبّينَ وَلَا يُمْكِنُ كُلّ أَحَدٍ أَنْ يَتَعَالَجَ بِهِ .
[ لَذّةُ التّمَتّعِ بِثَوَابِ اللّهِ أَعْظَمُ مِنْ لَذّةِ التّمَتّعِ بِمَا أُصِيبَ بِهِ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يُوَازِنَ بَيْنَ أَعْظَمِ اللّذّتَيْنِ وَالْمُتْعَتَيْنِ وَأَدْوَمِهِمَا : لَذّةِ تَمَتّعِهِ بِمَا أُصِيبَ بِهِ وَلَذّةِ تَمَتّعِهِ بِثَوَابِ اللّهِ لَهُ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ الرّجْحَانُ فَآثَرَ الرّاجِحَ فَلْيَحْمَدْ اللّهَ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَإِنْ آثَرَ الْمَرْجُوحَ مِنْ كُلّ وَجْهٍ فَلْيَعْلَمْ أَنّ مُصِيبَتَهُ فِي عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَدِينِهِ أَعْظَمُ مِنْ مُصِيبَتِهِ الّتِي أُصِيبَ بِهَا فِي دُنْيَاهُ .
[ ابْتِلَاءُ اللّهِ الْعَبْدَ لِامْتِحَانِ صَبْرِهِ ](3/356)
وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنّ الّذِي ابْتَلَاهُ بِهَا أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرّاحِمِينَ وَأَنّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرْسِلْ إلَيْهِ الْبَلَاءَ لِيُهْلِكَهُ بِهِ وَلَا لِيُعَذّبَهُ بِهِ وَلَا لِيَجْتَاحَهُ وَإِنّمَا افْتَقَدَهُ بِهِ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ وَرِضَاهُ عَنْهُ وَإِيمَانَهُ وَلِيَسْمَعَ تَضَرّعَهُ وَابْتِهَالَهُ وَلِيَرَاهُ طَرِيحًا بِبَابِهِ لَائِذًا بِجَنَابِهِ مَكْسُورَ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيْهِ رَافِعًا قِصَصَ الشّكْوَى إلَيْهِ . قَالَ الشّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ : يَا بُنَيّ إنّ الْمُصِيبَةَ مَا جَاءَتْ لِتُهْلِكَك وَإِنّمَا جَاءَتْ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَك وَإِيمَانَك يَا بُنَيّ الْقَدَرُ سَبُعٌ وَالسّبُعُ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ الْمُصِيبَةَ كِيرُ الْعَبْدِ الّذِي يُسْبَكُ بِهِ حَاصِلُهُ فَإِمّا أَنْ يَخْرُجَ [ ص 179 ] أَحْمَرَ وَإِمّا أَنْ يَخْرُجَ خَبَثًا كُلّهُ كَمَا قِيلَ سَبَكْنَاهُ وَنَحْسِبُهُ لُجَيْنَا فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ
فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ هَذَا الْكِيرُ فِي الدّنْيَا فَبَيْنَ يَدَيْهِ الْكِيرُ الْأَعْظَمُ فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنّ إدْخَالَهُ كِيرَ الدّنْيَا وَمَسْبَكَهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْكِيرِ وَالْمَسْبَكِ وَأَنّهُ لَا بُدّ مِنْ أَحَدِ الْكِيرَيْنِ فَلْيَعْلَمْ قَدْرَ نِعْمَةِ اللّهِ عَلَيْهِ فِي الْكِيرِ الْعَاجِلِ .
[ الْمُصِيبَةُ كَاسِرَةٌ لِدَاءِ الْكِبْرِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّهُ لَوْلَا مِحَنُ الدّنْيَا وَمَصَائِبُهَا لَأَصَابَ الْعَبْدَ - مِنْ أَدْوَاءِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْفَرْعَنَةِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ - مَا هُوَ سَبَبُ هَلَاكِهِ عَاجِلًا وَآجِلًا فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرّاحِمِينَ أَنْ يَتَفَقّدَهُ فِي الْأَحْيَانِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ أَدْوِيَةِ الْمَصَائِبِ تَكُونُ حَمِيّةً لَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَدْوَاءِ وَحِفْظًا لِصِحّةِ عُبُودِيّتِهِ وَاسْتِفْرَاغًا لِلْمَوَادّ الْفَاسِدَةِ الرّدِيئَةِ الْمُهْلِكَةِ مِنْهُ فَسُبْحَانَ مَنْ يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ كَمَا قِيلَ قَدْ يُنْعِمُ بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِي اللّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنّعَمِ
فَلَوْلَا أَنّهُ - سُبْحَانَهُ - يُدَاوِي عِبَادَهُ بِأَدْوِيَةِ الْمِحَنِ وَالِابْتِلَاءِ لَطَغَوْا وَبَغَوْا وَعَتَوْا وَاَللّهُ - سُبْحَانَهُ - إذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا سَقَاهُ دَوَاءً مِنْ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ يَسْتَفْرِغُ بِهِ مِنْ الْأَدْوَاءِ الْمُهْلِكَةِ حَتّى إذَا هَذّبَهُ وَنَقّاهُ وَصَفّاهُ أَهّلَهُ لِأَشْرَفِ مَرَاتِبِ الدّنْيَا وَهِيَ عُبُودِيّتُهُ وَأَرْفَعِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ رُؤْيَتُهُ وَقُرْبُهُ .
[ مَرَارَةُ الدّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ ](3/357)
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّ مَرَارَةَ الدّنْيَا هِيَ بِعَيْنِهَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ يَقْلِبُهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ وَحَلَاوَةَ الدّنْيَا بِعَيْنِهَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ وَلَأَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَرَارَةٍ مُنْقَطِعَةٍ إلَى حَلَاوَةٍ دَائِمَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ عَكْسِ ذَلِكَ فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْك هَذَا فَانْظُرْ إلَى قَوْلِ الصّادِقِ الْمَصْدُوقِ حُفّتْ الْجَنّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفّتْ النّارُ بِالشّهَوَاتِ وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَفَاوَتَتْ عُقُولُ الْخَلَائِقِ وَظَهَرَتْ حَقَائِقُ الرّجَالِ فَأَكْثَرُهُمْ [ ص 180 ] آثَرَ الْحَلَاوَةَ الْمُنْقَطِعَةَ عَلَى الْحَلَاوَةِ الدّائِمَةِ الّتِي لَا تَزُولُ وَلَمْ يَحْتَمِلْ مَرَارَةَ سَاعَةٍ لِحَلَاوَةِ الْأَبَدِ وَلَا ذُلّ سَاعَةٍ لِعِزّ الْأَبَدِ وَلَا مِحْنَةَ سَاعَةٍ لِعَافِيَةِ الْأَبَدِ فَإِنّ الْحَاضِرَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ وَالْمُنْتَظَرَ غَيْبٌ وَالْإِيمَانُ ضَعِيفٌ وَسُلْطَانُ الشّهْوَةِ حَاكِمٌ فَتَوَلّدَ مِنْ ذَلِكَ إيثَارُ الْعَاجِلَةِ وَرَفْضُ الْآخِرَةِ وَهَذَا حَالُ النّظَرِ الْوَاقِعِ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَأَوَائِلِهَا وَمَبَادِئِهَا وَأَمّا النّظَرُ الثّاقِبُ الّذِي يَخْرِقُ حُجُبَ الْعَاجِلَةِ وَيُجَاوِزُهُ إلَى الْعَوَاقِبِ وَالْغَايَاتِ فَلَهُ شَأْنٌ آخَرُ . فَادْعُ نَفْسَك إلَى مَا أَعَدّ اللّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ مِنْ النّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالسّعَادَةِ الْأَبَدِيّةِ وَالْفَوْزِ الْأَكْبَرِ وَمَا أَعَدّ لِأَهْلِ الْبِطَالَةِ وَالْإِضَاعَةِ مِنْ الْخِزْيِ وَالْعِقَابِ وَالْحَسَرَاتِ الدّائِمَةِ ثُمّ اخْتَرْ أَيّ الْقِسْمَيْنِ أَلْيَقَ بِك وَكُلّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ وَكُلّ أَحَدٍ يَصْبُو إلَى مَا يُنَاسِبُهُ وَمَا هُوَ الْأَوْلَى بِهِ وَلَا تَسْتَطِلْ هَذَا الْعِلَاجَ فَشِدّةُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مِنْ الطّبِيبِ وَالْعَلِيلِ دَعَتْ إلَى بَسْطِهِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
-------------
1ـ قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما الحمى ـ أو شدة الحمى ـ من فَيْحِ جَهَنَّمَ؛ فَأَبِردُوهَا بالماء)) [ق].
2ـ وقال: ((إذا حُمَّ أحدكم فليسنَّ(1) عليه الماء البارد ثلاث ليال من السَّحر)).
3ـ وكان إذا حُمَّ دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل.
وَذُكِرَتْ الحُمى عنده ذات مرة، فسبها رجل، فقال: ((لا تسبها؛ فإنها تنفي الذنوب كما تنفي النارُ خبثَ الحديد)) [صحيح ابن ماجه].
4ـ وأتاه رجل فقال: إن أخي يشتكي بطنه ـ وفي رواية: استطلق بطنه ـ فقال: ((اسقه عسلاً)) [ق]، وكان يشربه بالماء على الريق.
5ـ واشتكى قوم اجتووا المدينة من داء الاستسقاء، فقال: ((لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها)) ففعلوا وصحوا [ق].
والجوى: داء من أدواء الجوف، والاستسقاء: مرض يسبب انتفاخ البطن.
6ـ ولما جرح في أحد أخذت فاطمة قطعة حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رمادًا ألصقته بالجرح؛ فاستمسك الدم.
وبعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع له عِرْقًا وكواه عليه. وقال: ((الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة مجحم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي)) [خ]، وقال: ((وما أحب أن أكتوي)) [ق]. إشارة إلى أن يؤخر الأخذ به حتى تدفع الضرورة إليه، لما فيه من استعجال الألم الشديد.
7ـ وَاحْتَجَمَ صلى الله عليه وسلم وأعطى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وقال: ((إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة، ويوم تسع عشرة، ويوم إحدى وعشرين)) [صحيح الجامع]، وقال: ((خير ما تداويتم به الحجامة)) [ق]. واحتجم وهو مُحْرِمٌ في رأسه لصداع، واحتجم في وركه من وثء(1)ٍ كان به.
وكان يحتجم ثلاثًا: واحدة على كَاهِلِهِ واثنتين على الأخدعين(2).
واحتكم على الكاهل ثلاثًا لَمَّا أَكَلَ من الشَّاة المسمومة، وأمر أصحابه بالحجامة.
8ـ وما شكى إليه أحد وجعًا في رأسه إلا قال له: ((احتجم))، ولا شكى إليه وجعًا في رجليه إلا قال له: ((اختضب بالحناء)) [صحيح أبي داود].
9ـ وفي سنن الترمذي عن سلمى أم رافع خادمة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: وكان لا يصيبه قرحة ولا شوكة إلا وضع عليها الحناء [صحيح ابن ماجه].
10ـ وقال: ((دواء عرق النسا ألية شاة تشرب على الريق في كل يوم جزء)) [صحيح ابن ماجه].
وعرق النسا: وجع يبتدئ من مفصل الورك، وينزل من خلف على الفخذ.
11ـ وقال في علاج يبس الطبع واحتياجه إلى ما يمشيه ويلينه: ((عليكم بالسنا والسنوت؛ فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام)) وهو الموت [صحيح ابن ماجه].
والسنا: نبت حجازي. أما السنوت: ففيه أقوال كثيرة؛ منها: أنه العسل، أو العسل الذي يكون في زِقاق السمن.
12ـ وقال: ((خير أكحالكم الإثمد: يجلو البصر، وينبت الشعر)) [صحيح أبي داود]. والإثمد: هو الكحل الأسود.(3/358)
13ـ وقال: ((من تَصَبَّحَ بسبع تمرات من تمر العالية لم يضره ذلك اليوم سُمُّ ولا سِحْرٌ)) [ق].
14ـ وقال: ((لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب، فإن الله يطعمهم ويسقيهم)) [صحيح الترمذي].
15ـ وحمى صهيبًا من التَّمر، وأنكر عليه أَكْلَهُ وهو أرمد، وأقَرَّه على تمرات يسيره، وحمى عليًّا من الرُّطب لما أصابه الرَّمد.
16ـ وقال: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه؛ فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء)) [خ].
17ـ وقال: ((التلبينة مَجَمَّةٌ لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن)) [ق].
والتلبينة حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته.
18ـ وقال: ((عليكم بهذه الحبة السوادء؛ فإن فيها شفاء من كل داء إلا السَّام)) [ق].
19ـ وقال: ((فِرَّ من المجذوم كما تفر من الأسد)) [خ]، وقال: ((لا يوردن ممرض على مصح)) [ق].
20ـ وكان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارجع فقد بايعناك)) [م].
0000000000000
(1) في الأصل: ((فليرش)) والمثبت من كتب السنة، و((السنَّ)): صب الماء.
(1) الوثء: وجع يصيب العضو من غير كسر.
(2) الأخدع: عرق في جانب العنق، والكاهل: ما بين الكتفين من الظهر
28. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في الْعِلاَجِ بِالأَدْوِيَةِ الإْلَهِيَّةِ
زاد المعاد - (ج 4 / ص 185)
فَصْلٌ فِي بَيَانِ جِهَةِ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأَدْوِيَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْرَاضِ
خَلَقَ اللّهُ - سُبْحَانَهُ - ابْنَ آدَمَ وَأَعْضَاءَهُ وَجَعَلَ لِكُلّ عُضْوٍ مِنْهَا كَمَالًا إذَا فَقَدَهُ أَحَسّ بِالْأَلَمِ وَجَعَلَ لِمَلِكِهَا وَهُوَ الْقَلْبُ كَمَالًا إذَا فَقَدَهُ حَضَرَتْهُ أَسْقَامُهُ وَآلَامُهُ مِنْ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ . فَإِذَا فَقَدَتْ الْعَيْنُ مَا خُلِقَتْ لَهُ مِنْ قُوّةِ الْإِبْصَارِ وَفَقَدَتْ الْأُذُنُ مَا خُلِقَتْ لَهُ مِنْ قُوّةِ السّمْعِ وَاللّسَانُ مَا خُلِقَ لَهُ مِنْ قُوّةِ الْكَلَامِ فَقَدَتْ كَمَالَهَا .
[ وَظِيفَةُ الْقَلْبِ ]
وَالْقَلْبُ خُلِقَ لِمَعْرِفَةِ فَاطِرِهِ وَمَحَبّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالسّرُورِ بِهِ وَالِابْتِهَاجِ بِحُبّهِ وَالرّضَى عَنْهُ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالْحُبّ فِيهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ وَالْمُوَالَاةِ فِيهِ وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ وَدَوَامِ ذِكْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ كُلّ مَا سِوَاهُ وَأَرْجَى عِنْدَهُ مِنْ كُلّ مَا سِوَاهُ وَأَجَلّ فِي قَلْبِهِ مِنْ كُلّ مَا سِوَاهُ وَلَا نَعِيمَ لَهُ وَلَا سُرُورَ وَلَا لَذّةَ بَلْ وَلَا حَيَاةَ إلّا بِذَلِكَ وَهَذَا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ وَالصّحّةِ وَالْحَيَاةِ فَإِذَا فَقَدَ غِذَاءَهُ وَصِحّتَهُ وَحَيَاتَهُ فَالْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ مُسَارِعَةٌ مِنْ كُلّ صَوْبٍ إلَيْهِ وَرَهْنٌ مُقِيمٌ عَلَيْهِ .
[ أَمْرَاضُ الْقَلْبِ ]
وَمِنْ أَعْظَمِ أَدْوَائِهِ الشّرْكُ وَالذّنُوبُ وَالْغَفْلَةُ وَالِاسْتِهَانَةُ بِمَحَابّهِ وَمَرَاضِيهِ وَتَرْكُ التّفْوِيضِ إلَيْهِ وَقِلّةُ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَالرّكُونُ إلَى مَا سِوَاهُ وَالسّخْطُ بِمَقْدُورِهِ وَالشّكّ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ .
[ عِلَاجَاتُ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ ]
وَإِذَا تَأَمّلْت أَمْرَاضَ الْقَلْبِ وَجَدْت هَذِهِ الْأُمُورَ وَأَمْثَالَهَا هِيَ أَسْبَابُهَا لَا [ ص 186 ] الْمُضَادّةِ لِهَذِهِ الْأَدْوَاءِ فَإِنّ الْمَرَضَ يُزَالُ بِالضّدّ وَالصّحّةُ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ فَصِحّتُهُ تُحْفَظُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ النّبَوِيّةِ وَأَمْرَاضُهُ بِأَضْدَادِهَا .
[ فَوَائِدُ التّوْحِيدِ فَوَائِدُ التّوْبَةِ ]
فَالتّوْحِيدُ يَفْتَحُ لِلْعَبْدِ بَابَ الْخَيْرِ وَالسّرُورِ وَاللّذّةِ وَالْفَرَحِ وَالِابْتِهَاجِ وَالتّوْبَةُ اسْتِفْرَاغٌ لِلْأَخْلَاطِ وَالْمَوَادّ الْفَاسِدَةِ الّتِي هِيَ سَبَبُ أَسْقَامِهِ وَحَمِيّةٌ لَهُ مِنْ التّخْلِيطِ فَهِيَ تُغْلِقُ عَنْهُ بَابَ الشّرُورِ فَيُفْتَحُ لَهُ بَابُ السّعَادَةِ وَالْخَيْرِ بِالتّوْحِيدِ وَيُغْلَقُ بَابُ الشّرُورِ بِالتّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ . قَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدّمِينَ مِنْ أَئِمّةِ الطّبّ : مَنْ أَرَادَ عَافِيَةَ الْجِسْمِ فَلْيُقَلّلْ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَمَنْ أَرَادَ عَافِيَةَ الْقَلْبِ فَلْيَتْرُكْ الْآثَامَ . وَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قُرّةَ : رَاحَةُ الْجِسْمِ فِي قِلّةِ الطّعَامِ وَرَاحَةُ الرّوحِ فِي قِلّةِ الْآثَامِ وَرَاحَةُ اللّسَانِ فِي قِلّةِ الْكَلَامِ . وَالذّنُوبُ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ السّمُومِ إنْ لَمْ تُهْلِكْهُ أَضْعَفَتْهُ وَلَا بُدّ وَإِذَا ضَعُفَتْ قُوّتُهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَةِ الْأَمْرَاضِ قَالَ طَبِيبُ الْقُلُوبِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ .
رَأَيْتُ الذّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ(3/359)
وَقَدْ يُورِثُ الذّلّ إدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذّنُوبِ حَيَا ةُ الْقُلُوبِ
وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
[ الْهَوَى أَكْبَرُ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ فَلَا بُدّ مِنْ مُخَالَفَتِهِ ]
فَالْهَوَى أَكْبَرُ أَدْوَائِهَا وَمُخَالَفَتُهُ أَعْظَمُ أَدْوِيَتِهَا وَالنّفْسُ فِي الْأَصْلِ خُلِقَتْ جَاهِلَةً ظَالِمَةً فَهِيَ لِجَهْلِهَا تَظُنّ شِفَاءَهَا فِي اتّبَاعِ هَوَاهَا وَإِنّمَا فِيهِ تَلَفُهَا وَعَطَبُهَا وَلِظُلْمِهَا لَا تَقْبَلُ مِنْ الطّبِيبِ النّاصِحِ بَلْ تَضَعُ الدّاءَ مَوْضِعَ الدّوَاءِ فَتَعْتَمِدُهُ وَتَضَعُ الدّوَاءَ مَوْضِعَ الدّاءِ فَتَجْتَنِبُهُ فَيَتَوَلّدُ مِنْ بَيْنِ إيثَارِهَا لِلدّاءِ وَاجْتِنَابِهَا لِلدّوَاءِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْأَسْقَامِ وَالْعِلَلِ الّتِي تُعْيِي الْأَطِبّاءَ وَيَتَعَذّرُ مَعَهَا الشّفَاءُ . وَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى أَنّهَا تُرَكّبُ ذَلِكَ عَلَى الْقَدَرِ فَتُبْرِئُ نَفْسَهَا وَتَلُومُ رَبّهَا بِلِسَانِ الْحَالِ دَائِمًا وَيَقْوَى اللّوْمُ حَتّى يُصَرّحَ بِهِ اللّسَانُ . [ ص 187 ]
[ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيّةِ وَالرّبُوبِيّةِ وَصِفَتَيْ الْعَظَمَةِ وَالْحِلْمِ ]
وَإِذَا وَصَلَ الْعَلِيلُ إلَى هَذِهِ الْحَالِ فَلَا يَطْمَعُ فِي بُرْئِهِ إلّا أَنْ تَتَدَارَكَهُ رَحْمَةٌ مِنْ رَبّهِ فَيُحْيِيهِ حَيَاةً جَدِيدَةً وَيَرْزُقُهُ طَرِيقَةً حَمِيدَةً فَلِهَذَا كَانَ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ مُشْتَمِلًا عَلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيّةِ وَالرّبُوبِيّةِ وَوَصْفِ الرّبّ سُبْحَانَهُ بِالْعَظَمَةِ وَالْحِلْمِ وَهَاتَانِ الصّفَتَانِ مُسْتَلْزِمَتَانِ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالرّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالتّجَاوُزِ وَوَصْفِهِ بِكَمَالِ رُبُوبِيّتِهِ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيّ وَالسّفْلِيّ وَالْعَرْشِ الّذِي هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْظَمُهَا وَالرّبُوبِيّةُ التّامّةُ تَسْتَلْزِمُ تَوْحِيدَهُ وَأَنّهُ الّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ وَالْحُبّ وَالْخَوْفُ وَالرّجَاءُ وَالْإِجْلَالُ وَالطّاعَةُ إلّا لَهُ . وَعَظَمَتُهُ الْمُطْلَقَةُ تَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ كُلّ كَمَالٍ لَهُ وَسَلْبَ كُلّ نَقْصٍ وَتَمْثِيلٍ عَنْهُ . وَحِلْمُهُ يَسْتَلْزِمُ كَمَالَ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى خَلْقِهِ . فَعِلْمُ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتُهُ بِذَلِكَ تُوجِبُ مَحَبّتَهُ وَإِجْلَالَهُ وَتَوْحِيدَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الِابْتِهَاجِ وَاللّذّةِ وَالسّرُورِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ أَلَمَ الْكَرْبِ وَالْهَمّ وَالْغَمّ وَأَنْتَ تَجِدُ الْمَرِيضَ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ مَا يَسُرّهُ وَيُفْرِحُهُ وَيُقَوّي نَفْسَهُ كَيْفَ تَقْوَى الطّبِيعَةُ عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ الْحِسّيّ فَحُصُولُ هَذَا الشّفَاءِ لِلْقَلْبِ أَوْلَى وَأَحْرَى . ثُمّ إذَا قَابَلْت بَيْنَ ضِيقِ الْكَرْبِ وَسَعَةِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الّتِي تَضَمّنَهَا دُعَاءُ الْكَرْبِ وَجَدْته فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِتَفْرِيجِ هَذَا الضّيقِ وَخُرُوجِ الْقَلْبِ مِنْهُ إلَى سَعَةِ الْبَهْجَةِ وَالسّرُورِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ إنّمَا يُصَدّقُ بِهَا مَنْ أَشْرَقَتْ فِيهِ أَنْوَارُهَا وَبَاشَرَ قَلْبُهُ حَقَائِقَهَا .
[ فَوَائِدُ صِفَتَيْ الْحَيّ الْقَيّومِ ]
" وَفِي تَأْثِيرِ قَوْلِهِ يَا حَيّ يَا قَيّومُ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيث فِي دَفْعِ هَذَا الدّاءِ مُنَاسِبَةٌ بَدِيعَةٌ فَإِنّ صِفَةَ الْحَيَاةِ مُتَضَمّنَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهَا وَصِفَةُ الْقَيّومِيّةِ مُتَضَمّنَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَلِهَذَا كَانَ اسْمَ اللّهِ الْأَعْظَمَ الّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى : هُوَ اسْمُ الْحَيّ الْقَيّومِ وَالْحَيَاةُ التّامّةُ تُضَادّ جَمِيعَ الْأَسْقَامِ وَالْآلَامِ وَلِهَذَا لَمّا كَمُلَتْ حَيَاةُ أَهْلِ الْجَنّةِ لَمْ يَلْحَقْهُمْ هَمّ وَلَا غَمّ وَلَا حَزَنٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْآفَاتِ . وَنُقْصَانُ الْحَيَاةِ تَضُرّ بِالْأَفْعَالِ وَتُنَافِي الْقَيّومِيّةَ [ ص 188 ] الْقَيّومِيّةِ لِكَمَالِ الْحَيَاةِ فَالْحَيّ الْمُطْلَقُ التّامّ الْحَيَاةِ لَا تَفُوتُهُ صِفَةُ الْكَمَالِ الْبَتّةَ وَالْقَيّومُ لَا يَتَعَذّرُ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُمْكِنٌ الْبَتّةَ فَالتّوَسّلُ بِصِفَةِ الْحَيَاةِ الْقَيّومِيّةِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إزَالَةِ مَا يُضَادّ الْحَيَاةَ وَيَضُرّ بِالْأَفْعَالِ .
[ تَوَسّلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرُبُوبِيّةِ اللّهِ لِجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ ](3/360)
وَنَظِيرُ هَذَا تَوَسّلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى رَبّهِ بِرُبُوبِيّتِهِ لِجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ أَنْ يَهْدِيَهُ لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقّ بِإِذْنِهِ فَإِنّ حَيَاةَ الْقَلْبِ بِالْهِدَايَةِ وَقَدْ وَكّلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الْأَمْلَاكَ الثّلَاثَةَ بِالْحَيَاةِ فَجِبْرِيلُ مُوَكّلٌ بِالْوَحْيِ الّذِي هُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَمِيكَائِيلُ بِالْقَطْرِ الّذِي هُوَ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ وَالْحَيَوَانِ وَإِسْرَافِيلُ بِالنّفْخِ فِي الصّورِ الّذِي هُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْعَالَمِ وَعَوْدِ الْأَرْوَاحِ إلَى أَجْسَادِهَا فَالتّوَسّلُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِرُبُوبِيّةِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْعَظِيمَةِ الْمُوَكّلَةِ بِالْحَيَاةِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ لِاسْمِ الْحَيّ الْقَيّومِ تَأْثِيرًا خَاصّا فِي إجَابَةِ الدّعَوَاتِ وَكَشْفِ الْكُرُبَاتِ وَفِي " السّنَنِ " و " صَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ " مَرْفُوعًا : اسْمُ اللّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْن { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ } [ الْبَقَرَةُ 163 ] وَفَاتِحَةُ آلِ عِمْرَانَ { الم اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ } قَالَ التّرْمِذِي ّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَفِي " السّنَنِ " و " صَحِيحِ ابْنِ حِبّانَ " أَيْضًا : مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّ رَجُلًا دَعَا [ ص 189 ] فَقَالَ اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ بِأَنّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ الْمَنّانُ بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيّ يَا قَيّومُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ دَعَا اللّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَلِهَذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اجْتَهَدَ فِي الدّعَاءِ قَالَ يَا حَيّ يَا قَيّومُ .
[ مَا فِي اللّهُمّ رَحْمَتَك أَرْجُو . . و اللّهُ رَبّي . . ]
" وَفِي قَوْلِهِ اللّهُمّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّهُ لَا إلَهَ إلّا أَنْت مِنْ تَحْقِيقِ الرّجَاءِ لِمَنْ الْخَيْرُ كُلّهُ بِيَدَيْهِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَالتّضَرّعُ إلَيْهِ أَنْ يَتَوَلّى إصْلَاحَ شَأْنِهِ وَلَا يَكِلَهُ إلَى نَفْسِهِ وَالتّوَسّلُ إلَيْهِ بِتَوْحِيدِهِ مِمّا لَهُ تَأْثِيرٌ قَوِيّ فِي دَفْعِ هَذَا الدّاءِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ اللّهُ رَبّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا .
[ مَا فِي اللّهُمّ إنّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك مِنْ الْفَوَائِدِ ]
وَأَمّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ : اللّهُمّ إنّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ فَفِيهِ مِنْ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيّةِ وَأَسْرَارِ الْعُبُودِيّةِ مَا لَا يَتّسِعُ لَهُ كِتَابٌ فَإِنّهُ يَتَضَمّنُ الِاعْتِرَافَ بِعُبُودِيّتِهِ وَعُبُودِيّةِ آبَائِهِ وَأُمّهَاتِهِ وَأَنّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِهِ يُصَرّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ فَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ دُونَهُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرّا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا لِأَنّ مَنْ نَاصِيَتُهُ بِيَدِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ بَلْ هُوَ عَانٍ فِي قَبْضَتِهِ ذَلِيلٌ تَحْتَ سُلْطَانِ قَهْرِهِ .
[ إثْبَاتُ الْقَدْرِ وَالْعَدْلِ لِلّهِ فِي مَاضٍ فِيّ حُكْمُك . . ]
وَقَوْلُهُ مَاضٍ فِيّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيّ قَضَاؤُكَ مُتَضَمّنٌ لِأَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ التّوْحِيدِ . أَحَدُهُمَا : إثْبَاتُ الْقَدَرِ وَأَنّ أَحْكَامَ الرّبّ تَعَالَى نَافِذَةٌ فِي عَبْدِهِ مَاضِيَةٌ فِيهِ لَا انْفِكَاكَ لَهُ عَنْهَا وَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهَا .
[ أَسْأَلُك بِكُلّ اسْمٍ هُوَ لَك . .](3/361)
وَالثّانِي : أَنّهُ - سُبْحَانَهُ - عَدْلٌ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ غَيْرُ ظَالِمٍ لِعَبْدِهِ بَلْ لَا [ ص 190 ] فَقِيرٌ إلَيْهِ وَمَنْ هُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ فَلَا تَخْرُجُ ذَرّةٌ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ عَنْ حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ كَمَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَحِكْمَتُهُ نَافِذَةٌ حَيْثُ نَفَذَتْ مَشِيئَتُهُ وَقُدْرَتُهُ وَلِهَذَا قَالَ نَبِيّ اللّهِ هُودٌ صَلّى اللّهُ عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ خَوّفَهُ قَوْمُهُ بِآلِهَتِهِمْ { إِنّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُوا أَنّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمّ لَا تُنْظِرُونِي إِنّي تَوَكّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبّي وَرَبّكُمْ مَا مِنْ دَابّةٍ إِلّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ هُود : 54 - 57 ] أَيْ مَعَ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ آخِذًا بِنَوَاصِي خَلْقِهِ وَتَصْرِيفِهِمْ كَمَا يَشَاءُ فَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَا يَتَصَرّفُ فِيهِمْ إلّا بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالرّحْمَةِ . فَقَوْلُهُ مَاضٍ فِيّ حُكْمُك مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ ( { مَا مِنْ دَابّةٍ إِلّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } وَقَوْلُهُ عَدْلٌ فِيّ قَضَاؤُك مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ { إِنّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ثُمّ تَوَسّلَ إلَى رَبّهِ بِأَسْمَائِهِ الّتِي سَمّى بِهَا نَفْسَهُ مَا عَلِمَ الْعِبَادُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَعْلَمُوا . وَمِنْهَا : مَا اسْتَأْثَرَهُ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ مَلَكًا مُقَرّبًا وَلَا نَبِيّا مُرْسَلًا وَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ وَأَحَبّهَا إلَى اللّهِ وَأَقْرَبُهَا تَحْصِيلًا لِلْمَطْلُوبِ . "
[ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي . . ]
ثُمّ سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ لِقَلْبِهِ كَالرّبِيعِ الّذِي يَرْتَعُ فِيهِ الْحَيَوَانُ وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ وَأَنْ يَجْعَلَهُ شِفَاءَ هَمّهِ وَغَمّهِ فَيَكُونَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الدّوَاءِ الّذِي يَسْتَأْصِلُ الدّاءَ وَيُعِيدُ الْبَدَنَ إلَى صِحّتِهِ وَاعْتِدَالِهِ وَأَنْ يَجْعَلَهُ لِحُزْنِهِ كَالْجَلَاءِ الّذِي يَجْلُو الطّبُوعَ وَالْأَصْدِيَةَ وَغَيْرَهَا فَأَحْرَى بِهَذَا الْعِلَاجِ إذَا صَدَقَ الْعَلِيلُ فِي اسْتِعْمَالِهِ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ دَاءَهُ وَيُعْقِبَهُ شِفَاءً تَامّا وَصِحّةً وَعَافِيَةً وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ .
[ دَعْوَةُ ذِي النّونِ ]
وَأَمّا دَعْوَةُ ذِي النّونِ فَإِنّ فِيهَا مِنْ كَمَالِ التّوْحِيدِ وَالتّنْزِيهِ لِلرّبّ تَعَالَى وَاعْتِرَافِ الْعَبْدِ بِظُلْمِهِ وَذَنْبِهِ مَا هُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَدْوِيَةِ الْكَرْبِ وَالْهَمّ وَالْغَمّ وَأَبْلَغِ الْوَسَائِلِ إلَى اللّهِ - سُبْحَانَهُ - فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ فَإِنّ التّوْحِيدَ وَالتّنْزِيهَ يَتَضَمّنَانِ إثْبَاتَ كُلّ كَمَالِ اللّهِ وَسَلْبَ كُلّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ وَتَمْثِيلٍ عَنْهُ . وَالِاعْتِرَافُ بِالظّلْمِ [ ص 191 ] إيمَانَ الْعَبْدِ بِالشّرْعِ وَالثّوَابَ وَالْعِقَابَ وَيُوجِبُ انْكِسَارَهُ وَرُجُوعَهُ إلَى اللّهِ وَاسْتِقَالَتَهُ عَثْرَتَهُ وَالِاعْتِرَافَ بِعُبُودِيّتِهِ وَافْتِقَارَهُ إلَى رَبّهِ فَهَا هُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ قَدْ وَقَعَ التّوَسّلُ بِهَا : التّوْحِيدُ وَالتّنْزِيهُ وَالْعُبُودِيّةُ وَالِاعْتِرَافُ .
[ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَنِ . .](3/362)
وَأَمّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَنِ فَقَدْ تَضَمّنَ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءَ كُلّ اثْنَيْنِ مِنْهَا قَرِينَانِ مُزْدَوَجَانِ فَالْهَمّ وَالْحَزَنُ أَخَوَانِ وَالْعَجْزُ وَالْكَسَلُ أَخَوَانِ وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ أَخَوَانِ وَضَلَعُ الدّيْنِ وَغَلَبَةُ الرّجَالِ أَخَوَانِ فَإِنّ الْمَكْرُوهَ الْمُؤْلِمَ إذَا وَرَدَ عَلَى الْقَلْبِ فَإِمّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ أَمْرًا مَاضِيًا فَيُوجِبُ لَهُ الْحُزْنَ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا مُتَوَقّعًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْجَبَ الْهَمّ وَتَخَلّفُ الْعَبْدِ عَنْ مَصَالِحِهِ وَتَفْوِيتُهَا عَلَيْهِ إمّا أَنْ يَكُونَ مِنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ وَهُوَ الْعَجْزُ أَوْ مِنْ عَدَمِ الْإِرَادَةِ وَهُوَ الْكَسَلُ وَحَبْسُ خَيْرِهِ وَنَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ بَنِي جَنْسِهِ إمّا أَنْ يَكُونَ مَنَعَ نَفْعَهُ بِبَدَنِهِ فَهُوَ الْجُبْنُ أَوْ بِمَالِهِ فَهُوَ الْبُخْلُ وَقَهْرُ النّاسِ لَهُ إمّا بِحَقّ فَهُوَ ضَلَعُ الدّيْنِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَهُوَ غَلَبَةُ الرّجَالِ فَقَدْ تَضَمّنَ الْحَدِيثُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ كُلّ شَرّ وَأَمّا تَأْثِيرُ الِاسْتِغْفَارِ فِي دَفْعِ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالضّيقِ فَلَمّا اشْتَرَكَ فِي الْعِلْمِ بِهِ أَهْلُ الْمِلَلِ وَعُقَلَاءُ كُلّ أُمّةٍ أَنّ الْمَعَاصِيَ وَالْفَسَادَ تُوجِبُ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالْخَوْفَ وَالْحُزْنَ وَضِيقَ الصّدْرِ وَأَمْرَاضَ الْقَلْبِ حَتّى إنّ أَهْلَهَا إذَا قَضَوْا مِنْهَا أَوْطَارَهُمْ وَسَئِمَتْهَا نَفُوسُهُمْ ارْتَكَبُوهَا دَفْعًا لِمَا يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ الضّيقِ وَالْهَمّ وَالْغَمّ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْفُسُوقِ
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذّةٍ
وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
[ التّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ ]
وَإِذَا كَانَ هَذَا تَأْثِيرَ الذّنُوبِ وَالْآثَامِ فِي الْقُلُوبِ فَلَا دَوَاءَ لَهَا إلّا التّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ . [ ص 192 ]
[ الصّلَاةُ وَتَأْثِيرُهَا فِي تَفْرِيحِ الْقَلْبِ ]
وَأَمّا الصّلَاةُ فَشَأْنُهَا فِي تَفْرِيحِ الْقَلْبِ وَتَقْوِيتِهِ وَشَرْحِهِ وَابْتِهَاجِهِ وَلَذّتِهِ أَكْبَرُ شَأْنٍ وَفِيهَا مِنْ اتّصَالِ الْقَلْبِ وَالرّوحِ بِاَللّهِ وَقُرْبِهِ وَالتّنَعّمِ بِذِكْرِهِ وَالِابْتِهَاجِ بِمُنَاجَاتِهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَقُوَاهُ وَآلَاتِهِ فِي عُبُودِيّتِهِ وَإِعْطَاءِ كُلّ عُضْوٍ حَظّهُ مِنْهَا وَاشْتِغَالِهِ عَنْ التّعَلّقِ بِالْخَلْقِ وَمُلَابَسَتِهِمْ وَمُحَاوَرَاتِهِمْ وَانْجِذَابِ قُوَى قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ إلَى رَبّهِ وَفَاطِرِهِ وَرَاحَتِهِ مِنْ عَدُوّهِ حَالَةَ الصّلَاةِ مَا صَارَتْ بِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدْوِيَةِ وَالْمُفَرّحَاتِ وَالْأَغْذِيَةِ الّتِي لَا تُلَائِمُ إلّا الْقُلُوبَ الصّحِيحَةَ . وَأَمّا الْقُلُوبُ الْعَلِيلَةُ فَهِيَ كَالْأَبْدَانِ لَا تُنَاسِبُهَا إلّا الْأَغْذِيَةُ الْفَاضِلَةُ . فَالصّلَاةُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَدَفْعِ مَفَاسِدِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ مُنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ وَدَافِعَةٌ لِأَدْوَاءِ الْقُلُوبِ وَمُطْرِدَةٌ لِلدّاءِ عَنْ الْجَسَدِ وَمُنَوّرَةٌ لِلْقَلْبِ وَمُبَيّضَةٌ لِلْوَجْهِ وَمُنَشّطَةٌ لِلْجَوَارِحِ وَالنّفْسِ وَجَالِبَةٌ لِلرّزْقِ وَدَافِعَةٌ لِلظّلْمِ وَنَاصِرَةٌ لِلْمَظْلُومِ وَقَامِعَةٌ لِأَخْلَاطِ الشّهَوَاتِ وَحَافِظَةٌ لِلنّعْمَةِ وَدَافِعَةٌ لِلنّقْمَةِ وَمُنْزِلَةٌ لِلرّحْمَةِ وَكَاشِفَةٌ لِلْغُمّةِ وَنَافِعَةٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَوْجَاعِ الْبَطْنِ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ مُجَاهَدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَآنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا نَائِمٌ أَشْكُو مِنْ وَجَعِ بَطْنِي فَقَالَ لِي : " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشِكَمَتْ دَرْدْ ؟ " قَالَ قُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ " قُمْ فَصَلّ فَإِنّ فِي الصّلَاةِ شِفَاءً وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنّهُ هُوَ الّذِي قَالَ ذَلِكَ لِمُجَاهِدٍ وَهُوَ أَشْبَهُ . وَمَعْنَى هَذِهِ اللّفْظَةِ بِالْفَارِسِيّ أَيُوجِعُك بَطْنُك ؟ .
[ الرّدّ عَلَى الْأَطِبّاءِ الْمُنْكِرِينَ لِفَائِدَةِ الصّلَاةِ فِي الْعِلَاجِ ](3/363)
فَإِنْ لَمْ يَنْشَرِحْ صَدْرُ زِنْدِيقِ الْأَطِبّاءِ بِهَذَا الْعِلَاجِ فَيُخَاطَبُ بِصِنَاعَةِ الطّبّ وَيُقَالُ لَهُ الصّلَاةُ رِيَاضَةُ النّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا إذْ كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَى حَرَكَاتٍ وَأَوْضَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ الِانْتِصَابِ وَالرّكُوعِ وَالسّجُودِ وَالتّوَرّكِ وَالِانْتِقَالَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَوْضَاعِ الّتِي يَتَحَرّكُ مَعَهَا أَكْثَرُ الْمَفَاصِلِ وَيَنْغَمِزُ مَعَهَا أَكْثَرُ الْأَعْضَاءِ [ ص 193 ] وَالْأَمْعَاءِ وَسَائِرِ آلَاتِ النّفْسِ وَالْغِذَاءِ فَمَا يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْحَرَكَاتِ تَقْوِيَةٌ وَتَحْلِيلٌ لِلْمَوَادّ وَلَا سِيّمَا بِوَاسِطَةِ قُوّةِ النّفْسِ وَانْشِرَاحِهَا فِي الصّلَاةِ فَتَقْوَى الطّبِيعَةُ فَيَنْدَفِعُ الْأَلَمُ وَلَكِنْ دَاءُ الزّنْدَقَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَمّا جَاءَتْ بِهِ الرّسُلُ وَالتّعَوّضِ عَنْهُ بِالْإِلْحَادِ دَاءٌ لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ إلّا نَارٌ تَلَظّى لَا يَصِلَاهَا إلّا الْأَشْقَى الّذِي كَذّبَ وَتَوَلّى .
[ تَأْثِيرُ الْجِهَادِ فِي دَفْعِ الْهَمّ ]
وَأَمّا تَأْثِيرُ الْجِهَادِ فِي دَفْعِ الْهَمّ وَالْغَمّ فَأَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْوِجْدَانِ فَإِنّ النّفْسَ مَتَى تَرَكَتْ صَائِلَ الْبَاطِلِ وَصَوْلَتَهُ وَاسْتِيلَاءَهُ اشْتَدّ هَمّهَا وَغَمّهَا وَكَرْبُهَا وَخَوْفُهَا فَإِذَا جَاهَدَتْهُ لِلّهِ أَبْدَلَ اللّهُ ذَلِكَ الْهَمّ وَالْحُزْنَ فَرَحًا وَنَشَاطًا وَقُوّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [ التّوْبَة : 14 15 ] فَلَا شَيْءَ أَذْهَبُ لِجَوَى الْقَلْبِ وَغَمّهِ وَهَمّهِ وَحُزْنِهِ مِنْ الْجِهَادِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
[ تَأْثِيرُ الْحَوْقَلَةِ فِي دَفْعِ الْهَمّ ]
وَأَمّا تَأْثِيرُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ فِي دَفْعِ هَذَا الدّاءِ فَلِمَا فِيهَا مِنْ كَمَالِ التّفْوِيضِ وَالتّبَرّي مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوّةِ إلّا بِهِ وَتَسْلِيمِ الْأَمْرِ كُلّهِ لَهُ وَعَدَمِ مُنَازَعَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَعُمُومُ ذَلِكَ لِكُلّ تَحَوّلٍ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيّ وَالسّفْلِيّ وَالْقُوّةِ عَلَى ذَلِكَ التّحَوّلِ وَأَنّ ذَلِكَ كُلّهُ بِاَللّهِ وَحْدَهُ فَلَا يَقُومُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ شَيْءٌ . وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ إنّهُ مَا يَنْزِلُ مَلَكٌ مِنْ السّمَاءِ وَلَا يَصْعَدُ إلَيْهَا إلّا بِلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ وَلَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي طَرْدِ الشّيْطَانِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْفَزَعِ وَالْأَرَقِ الْمَانِعِ مِنْ النّوْمِ
رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ بُريْدَةَ قَالَ شَكَى خَالِدٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَنَامُ اللّيْلَ مِنْ الْأَرَقِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَوَيْتَ إلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ : اللّهُمّ رَبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَمَا أَظَلّتْ وَرَبّ الْأَرْضِينَ وَمَا أَقَلّتْ وَرَبّ الشّيَاطِينِ وَمَا أَضَلّتْ كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرّ خَلْقِكَ كُلّهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَفْرُطَ عَلَيّ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَوْ يَبْغِيَ عَلَيّ عَزّ جَارُك وَجَلّ ثَنَاؤُك وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ [ ص 194 ] وَفِيهِ أَيْضًا : عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُعَلّمُهُمْ مِنْ الْفَزَعِ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَنْ يَحْضُرُونِ قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلّمُهُنّ مَنْ عَقَلَ مِنْ بَنِيهِ . وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ كَتَبَهُ فَأَعْلَقَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَخْفَى مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْعُوذَةِ لِعِلَاجِ هَذَا الدّاءِ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 194)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ دَاءِ الْحَرِيقِ وَإِطْفَائِهِ(3/364)
يُذْكَرُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا رَأَيْتُمْ الْحَرِيقَ فَكَبّرُوا فَإِنّ التّكْبِيرَ يُطْفِئُهُ لَمّا كَانَ الْحَرِيقُ سَبَبُهُ النّارُ وَهِيَ مَادّةُ الشّيْطَانِ الّتِي خُلِقَ مِنْهَا وَكَانَ فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ الْعَامّ مَا يُنَاسِبُ الشّيْطَانَ بِمَادّتِهِ وَفِعْلِهِ كَانَ لِلشّيْطَانِ إعَانَةٌ عَلَيْهِ وَتَنْفِيذٌ لَهُ وَكَانَتْ النّارُ تَطْلُبُ بِطَبْعِهَا الْعُلُوّ وَالْفَسَادَ وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ وَهُمَا الْعُلُوّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادُ هُمَا هَدْيُ الشّيْطَانِ وَإِلَيْهِمَا يَدْعُو وَبِهِمَا يُهْلِكُ بَنِي آدَمَ فَالنّارُ وَالشّيْطَانُ كُلّ مِنْهُمَا يُرِيدُ الْعُلُوّ فِي [ ص 195 ] عَزّ وَجَلّ - تَقْمَعُ الشّيْطَانَ وَفِعْلَهُ .
[ أَثَرُ التّكْبِيرِ فِي إخْمَادِ النّارِ مَادّةِ الشّيْطَانِ ]
وَلِهَذَا كَانَ تَكْبِيرُ اللّهِ - عَزّ وَجَلّ - لَهُ أَثَرٌ فِي إطْفَاءِ الْحَرِيقِ فَإِنّ كِبْرِيَاءَ اللّهِ - عَزّ وَجَلّ - لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ فَإِذَا كَبّرَ الْمُسْلِمُ رَبّهُ أَثّرَ تَكْبِيرُهُ فِي خُمُودِ النّارِ وَخُمُودِ الشّيْطَانِ الّتِي هِيَ مَادّتُهُ فَيُطْفِئُ الْحَرِيقَ وَقَدْ جَرّبْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا هَذَا فَوَجَدْنَاهُ كَذَلِكَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
0000000000000
1ـ كان يتعوذ من الجان، ومن عين الإنسان، وأمر بالرقية من العين، وقال: ((العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسل أحدكم فليغتسل)) [م].
2ـ ورأى جارية في وجهها سفعة فقال: ((استرقوا لها؛ فإن بها النظرة)) [ق].
والسفعة؛ أي: النظرة من الجن.
3ـ وقال لبعض أصحابه لما رقى اللديغ بالفاتحة فبرأ: ((وما يدريك أنها رقية)) [ق].
4ـ وجاءه رجل فقال: لدغتني عقرب البارحة، فقال: ((أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضرك)) [م].
5ـ وكان إذا اشتكى الإنسان أو كانت به قرحة أو جرح، وضع سبابته على الأرض، ثم رفعها وقال: ((بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا يشفى سقيمنا، بإذن ربنا)) [ق].
6ـ وشكى له بعض صحابته وجعًا، فقال له: ((ضع يدك على الذي يألم من جسدك، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)) [م].
7ـ وكان يُعوِّذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: ((اللهم رب الناس أذهب الباس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا)) [ق].
وكان إذا دخل على المريض يقول: ((لا بأس، طهور إن شاء الله)) [خ].
29. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في الطِّبِّ وَالتَّدَاوِي وَعِيَادَةِ المَرضىَ
زاد المعاد - (ج 4 / ص 5)
فَصْلٌ الطّبّ النّبَوِيّ
[ ص 5 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُغَازِي وَالسّيَرِ وَالْبُعُوثِ وَالسّرَايَا وَالرّسَائِلِ وَالْكُتُبِ الّتِي كَتَبَ بِهَا إلَى الْمُلُوكِ وَنُوّابِهِمْ .
وَنَحْنُ نُتْبِعُ ذَلِكَ بِذِكْرِ فُصُولٍ نَافِعَةٍ فِي هَدْيِهِ فِي الطّبّ الّذِي تَطَبّبَ بِهِ وَوَصَفَهُ لِغَيْرِهِ وَنُبَيّنُ مَا فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ الّتِي تَعْجِزُ عُقُولُ أَكْثَرِ الْأَطِبّاءِ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهَا وَأَنّ نِسْبَةَ طِبّهِمْ إلَيْهَا كَنِسْبَةِ طِبّ الْعَجَائِزِ إلَى طِبّهِمْ فَنَقُولُ وَبِاَللّهِ الْمُسْتَعَانُ وَمِنْهُ نَسْتَمِدّ الْحَوْلَ وَالْقُوّةَ .
[ الْمَرَضُ نَوْعَانِ ]
الْمَرَضُ نَوْعَانِ مَرَضُ الْقُلُوبِ وَمَرَضُ الْأَبَدَانِ وَهُمَا مَذْكُورَانِ فِي الْقُرْآنِ .
[ نَوْعَا مَرَضِ الْقَلْبِ ](3/365)
وَمَرَضُ الْقُلُوبِ نَوْعَانِ مَرَضُ شُبْهَةٍ وَشَكّ وَمَرَضُ شَهْوَةٍ وَغَيّ وَكِلَاهُمَا فِي الْقُرْآنِ . قَالَ تَعَالَى فِي مَرَضِ الشّبْهَةِ { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا } [ الْبَقَرَةُ 10 ] وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلًا } [ الْمُدّثّرُ 31 ] وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقّ مَنْ دُعِيَ إلَى تَحْكِيمِ الْقُرْآنِ وَالسّنّةِ فَأَبَى وَأَعْرَضَ { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ } [ النّورُ 48 و 49 ] فَهَذَا مَرَضُ الشّبُهَاتِ وَالشّكُوكِ . [ ص 6 ] فَقَالَ تَعَالَى : { يَا نِسَاءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كَأَحَدٍ مِنَ النّسَاءِ إِنِ اتّقَيْتُنّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الْأَحْزَابُ 32 ] . فَهَذَا مَرَضُ شَهْوَةِ الزّنَى وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ مَرَضُ الْأَبْدَانِ ]
وَأَمّا مَرَضُ الْأَبَدَانِ فَقَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } [ النّورُ 61 ] وَذَكَرَ مَرَضَ الْبَدَنِ فِي الْحَجّ وَالصّوْمِ وَالْوُضُوءِ لِسِرّ بَدِيعٍ يُبَيّنُ لَك عَظَمَةَ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِغْنَاءَ بِهِ لِمَنْ فَهِمَهُ وَعَقَلَهُ عَنْ سِوَاهُ وَذَلِكَ أَنّ قَوَاعِدَ طِبّ الْأَبْدَانِ ثَلَاثَةٌ حِفْظُ الصّحّةِ وَالْحِمْيَةُ عَنْ الْمُؤْذِي وَاسْتِفْرَاغُ الْمَوَادّ الْفَاسِدَةِ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأُصُولَ الثّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثّلَاثَةِ . فَقَالَ فِي آيَةِ الصّوْمِ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَر } [ الْبَقَرَةُ 184 ] فَأَبَاحَ الْفِطْرَ لِلْمَرِيضِ لِعُذْرِ الْمَرَضِ وَلِلْمُسَافِرِ طَلَبًا لِحِفْظِ صِحّتِهِ وَقُوّتِهِ لِئَلّا يُذْهِبَهَا الصّوْمُ فِي السّفَرِ لِاجْتِمَاعِ شِدّةِ الْحَرَكَةِ وَمَا يُوجِبُهُ مِنْ التّحْلِيلِ وَعَدَمِ الْغِذَاءِ الّذِي يُخْلِفُ مَا تَحَلّلَ فَتَخُورُ الْقُوّةُ وَتَضْعُفُ فَأَبَاحَ لِلْمُسَافِرِ الْفِطْرَ حِفْظًا لِصِحّتِهِ وَقُوّتِهِ عَمّا يُضْعِفُهَا . وَقَالَ فِي آيَةِ الْحَجّ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [ الْبَقَرَةُ 196 ] فَأَبَاحَ لِلْمَرِيضِ وَمَنْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ مِنْ قَمْلٍ أَوْ حِكّةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ فِي الْإِحْرَامِ اسْتِفْرَاغًا لِمَادّةِ الْأَبْخِرَةِ الرّدِيئَةِ الّتِي أَوْجَبَتْ لَهُ الْأَذَى فِي رَأْسِهِ بِاحْتِقَانِهَا تَحْتَ الشّعَرِ فَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ تَفَتّحَتْ الْمَسَامّ فَخَرَجَتْ تِلْكَ الْأَبْخِرَةُ مِنْهَا فَهَذَا الِاسْتِفْرَاغُ يُقَاسُ عَلَيْهِ كُلّ اسْتِفْرَاغٍ يُؤْذِي انْحِبَاسُهُ . وَالْأَشْيَاءُ الّتِي يُؤْذِي انْحِبَاسُهَا وَمُدَافَعَتُهَا عَشَرَةٌ الدّمُ إذَا هَاجَ وَالْمَنِيّ إذَا تَبَيّغَ وَالْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَالرّيحُ وَالْقَيْءُ وَالْعُطَاسُ وَالنّوْمُ وَالْجُوعُ [ ص 7 ] أَدْنَاهَا وَهُوَ الْبُخَارُ الْمُحْتَقَنُ فِي الرّأْسِ عَلَى اسْتِفْرَاغِ مَا هُوَ أَصْعَبُ مِنْهُ كَمَا هِيَ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ التّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى .
[ الْحِمْيَةُ ]
وَأَمّا الْحِمْيَةُ : فَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا } [ النّسَاءُ 43 ] فَأَبَاحَ لِلْمَرِيضِ الْعُدُولَ عَنْ الْمَاءِ إلَى التّرَابِ حِمْيَةً لَهُ أَنْ يُصِيبَ جَسَدَهُ مَا يُؤْذِيهِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْحِمْيَةِ عَنْ كُلّ مُؤْذٍ لَهُ مِنْ دَاخِلٍ أَوْ خَارِجٍ فَقَدْ أَرْشَدَ - سُبْحَانَهُ - عِبَادَهُ إلَى أُصُولِ الطّبّ وَمَجَامِعِ قَوَاعِدِهِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَدْيَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَلِكَ وَنُبَيّنُ أَنّ هَدْيَهُ فِيهِ أَكْمَلُ هَدْيٍ .
[ طِبّ الْقُلُوبِ ](3/366)
فَأَمّا طِبّ الْقُلُوبِ فَمُسَلّمٌ إلَى الرّسُلِ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَلَا سَبِيلَ إلَى حُصُولِهِ إلّا مِنْ جِهَتِهِمْ وَعَلَى أَيْدِيهِمْ فَإِنّ صَلَاحَ الْقُلُوبِ أَنْ تَكُونَ عَارِفَةً بِرَبّهَا وَفَاطِرِهَا وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَنْ تَكُونَ مُؤْثِرَةً لِمَرْضَاتِهِ وَمُحَابّهِ مُتَجَنّبَةً لِمَنَاهِيهِ وَمَسَاخِطِهِ وَلَا صِحّةَ لَهَا وَلَا حَيَاةَ الْبَتّةَ إلّا بِذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَلَقّيهِ إلّا مِنْ جِهَةِ الرّسُلِ وَمَا يُظَنّ مِنْ حُصُولِ صِحّةِ الْقَلْبِ بِدُونِ اتّبَاعِهِمْ فَغَلَطٌ مِمّنْ يَظُنّ ذَلِكَ وَإِنّمَا ذَلِكَ حَيَاةُ نَفْسِهِ الْبَهِيمِيّةِ الشّهْوَانِيّةِ وَصِحّتُهَا وَقُوّتُهَا وَحَيَاةُ قَلْبِهِ وَصِحّتُهُ وَقُوّتُهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ وَمَنْ لَمْ يُمَيّزْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَلْيَبْكِ عَلَى حَيَاةِ قَلْبِهِ فَإِنّهُ مِنْ الْأَمْوَاتِ وَعَلَى نُورِهِ فَإِنّهُ مُنْغَمِسٌ فِي بِحَارِ الظّلُمَاتِ .
فَصْلٌ
[ طِبّ الْأَبْدَانِ ]
وَأَمّا طِبّ الْأَبْدَانِ فَإِنّهُ نَوْعَانِ
نَوْعٌ قَدْ فَطَرَ اللّهُ عَلَيْهِ الْحَيَوَانَ نَاطِقَهُ وَبَهِيمَهُ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُعَالَجَةِ طَبِيبٍ كَطِبّ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْبَرْدِ وَالتّعَبِ بِأَضْدَادِهَا وَمَا يُزِيلُهَا .
[ ص 8 ] وَالثّانِي : مَا يَحْتَاجُ إلَى فِكْرٍ وَتَأَمّلٍ كَدَفْعِ الْأَمْرَاضِ الْمُتَشَابِهَةِ الْحَادِثَةِ فِي الْمِزَاجِ بِحَيْثُ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ الِاعْتِدَالِ إمّا إلَى حَرَارَةٍ أَوْ بُرُودَةٍ أَوْ يُبُوسَةٍ أَوْ رُطُوبَةٍ أَوْ مَا يَتَرَكّبُ مِنْ اثْنَيْنِ مِنْهَا وَهِيَ نَوْعَانِ إمّا مَادّيّةٌ وَإِمّا كَيْفِيّةٌ أَعْنِي إمّا أَنْ يَكُونَ بِانْصِبَابِ مَادّةٍ أَوْ بِحُدُوثِ كَيْفِيّةٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ أَمْرَاضَ الْكَيْفِيّةِ تَكُونُ بَعْدَ زَوَالِ الْمَوَادّ الّتِي أَوْجَبَتْهَا فَتَزُولُ مَوَادّهَا وَيَبْقَى أَثَرُهَا كَيْفِيّةً فِي الْمِزَاجِ . وَأَمْرَاضُ الْمَادّةِ أَسْبَابُهَا مَعَهَا تَمُدّهَا وَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْمَرَضِ مَعَهُ فَالنّظَرُ فِي السّبَبِ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ أَوّلًا ثُمّ فِي الْمَرَضِ ثَانِيًا ثُمّ فِي الدّوَاءِ ثَالِثًا . أَوْ الْأَمْرَاضُ الْآلِيّةُ وَهِيَ الّتِي تُخْرِجُ الْعُضْوَ عَنْ هَيْئَتِهِ إمّا فِي شَكْلٍ أَوْ تَجْوِيفٍ أَوْ مَجْرًى أَوْ خُشُونَةٍ أَوْ مَلَاسَةٍ أَوْ عَدَدٍ أَوْ عَظْمٍ أَوْ وَضْعٍ فَإِنّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ إذَا تَأَلّفَتْ وَكَانَ مِنْهَا الْبَدَنُ سُمّيَ تَأَلّفُهَا اتّصَالًا وَالْخُرُوجُ عَنْ الِاعْتِدَالِ فِيهِ يُسَمّى تَفَرّقَ الِاتّصَالِ أَوْ الْأَمْرَاضُ الْعَامّةُ الّتِي تَعُمّ الْمُتَشَابِهَةَ وَالْآلِيّةَ . وَالْأَمْرَاضُ الْمُتَشَابِهَةُ هِيَ الّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْمِزَاجُ عَنْ الِاعْتِدَالِ وَهَذَا الْخُرُوجُ يُسَمّى مَرَضًا بَعْدَ أَنْ يَضُرّ بِالْفِعْلِ إضْرَارًا مَحْسُوسًا . وَهِيَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَضْرُبٍ أَرْبَعَةٌ بَسِيطَةٌ وَأَرْبَعَةٌ مُرَكّبَةٌ
فَالْبَسِيطَةُ الْبَارِدُ وَالْحَارّ وَالرّطْبُ وَالْيَابِسُ .
وَالْمُرَكّبَةُ الْحَارّ الرّطْبُ وَالْحَارّ الْيَابِسُ وَالْبَارِدُ الرّطْبُ وَالْبَارِدُ الْيَابِسُ .
وَهِيَ إمّا أَنْ تَكُونَ بِانْصِبَابِ مَادّةٍ أَوْ بِغَيْرِ انْصِبَابِ مَادّةٍ وَإِنْ لَمْ يَضُرّ الْمَرَضُ بِالْفِعْلِ يُسَمّى خُرُوجًا عَنْ الِاعْتِدَالِ صِحّةً .
[ أَحْوَالُ الْبَدَنِ ](3/367)
وَلِلْبَدَنِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ حَالٌ طَبِيعِيّةٌ وَحَالٌ خَارِجَةٌ عَنْ الطّبِيعِيّةِ وَحَالٌ مُتَوَسّطَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . فَالْأُولَى : بِهَا يَكُونُ الْبَدَنُ صَحِيحًا وَالثّانِيَةُ بِهَا يَكُونُ مَرِيضًا . وَالْحَالُ الثّالِثَةُ هِيَ مُتَوَسّطَةٌ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فَإِنّ الضّدّ لَا يَنْتَقِلُ إلَى ضِدّهِ إلّا بِمُتَوَسّطٍ وَسَبَبُ خُرُوجِ الْبَدَنِ عَنْ طَبِيعَتِهِ إمّا مِنْ دَاخِلِهِ لِأَنّهُ مُرَكّبٌ مِنْ الْحَارّ وَالْبَارِدِ وَالرّطْبِ وَالْيَابِسِ وَإِمّا مِنْ خَارِجٍ فَلِأَنّ مَا يَلْقَاهُ قَدْ يَكُونُ مُوَافِقًا [ ص 9 ] فَسَادٍ فِي الْعُضْوِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ ضَعْفٍ فِي الْقُوَى أَوْ الْأَرْوَاحِ الْحَامِلَةِ لَهَا وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى زِيَادَةِ مَا الِاعْتِدَالُ فِي عَدَمِ زِيَادَتِهِ أَوْ نُقْصَانُ مَا الِاعْتِدَالُ فِي عَدَمِ نُقْصَانِهِ أَوْ تَفَرّق مَا الِاعْتِدَالُ فِي اتّصَالِهِ أَوْ اتّصَالُ مَا الِاعْتِدَالُ فِي تَفَرّقِهِ أَوْ امْتِدَادُ مَا الِاعْتِدَالُ فِي انْقِبَاضِهِ أَوْ خُرُوجُ ذِي وَضْعٍ وَشَكْلٍ عَنْ وَضْعِهِ وَشَكْلِهِ بِحَيْثُ يُخْرِجُهُ عَنْ اعْتِدَالِهِ .
[ وَظِيفَةُ الطّبِيبِ ]
فَالطّبِيبُ هُوَ الّذِي يُفَرّقُ مَا يَضُرّ بِالْإِنْسَانِ جَمْعُهُ أَوْ يَجْمَعُ فِيهِ مَا يَضُرّهُ تَفَرّقُهُ أَوْ يَنْقُصُ مِنْهُ مَا يَضُرّهُ زِيَادَتُهُ أَوْ يَزِيدُ فِيهِ مَا يَضُرّهُ نَقْصُهُ فَيَجْلِبُ الصّحّةَ الْمَفْقُودَةَ أَوْ يَحْفَظُهَا بِالشّكْلِ وَالشّبَهِ وَيَدْفَعُ الْعِلّةَ الْمَوْجُودَةَ بِالضّدّ وَالنّقِيضِ وَيُخْرِجُهَا أَوْ يَدْفَعُهَا بِمَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِهَا بِالْحِمْيَةِ وَسَتَرَى هَذَا كُلّهُ فِي هَدْيِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَافِيًا كَافِيًا بِحَوَلِ اللّهِ وَقُوّتِهِ وَفَضْلِهِ وَمَعُونَتِهِ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 121)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْإِرْشَادِ إلَى مُعَالَجَةِ أَحْذَقِ الطّبِيبَيْنِ
ذَكَرَ مَالِكٌ فِي " مُوَطّئِهِ " : عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّ رَجُلًا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصَابَهُ جُرْحٌ فَاحْتَقَنَ الْجُرْحُ الدّمَ وَأَنّ الرّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَار ٍ فَنَظَرَا إلَيْهِ فَزَعَمَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُمَا : " أَيّكُمَا أَطَبّ ؟ فَقَالَ أَوَ فِي الطّبّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ فَقَالَ أَنْزَلَ الدّوَاءَ الّذِي أَنْزَلَ الدّاءَ
[ يَنْبَغِي الِاسْتِعَانَةُ فِي كُلّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ بِأَحْذَقِ مَنْ فِيهَا فَالْأَحْذَقِ ]
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّهُ يَنْبَغِي الِاسْتِعَانَةُ فِي كُلّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ بِأَحْذَقِ مَنْ فِيهَا فَالْأَحْذَقِ فَإِنّهُ إلَى الْإِصَابَةِ أَقْرَبُ . وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ بِالْأَعْلَمِ فَالْأَعْلَمِ لِأَنّهُ أَقْرَبُ إصَابَةً مِمّنْ هُوَ دُونَهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنّهُ يُقَلّدُ أَعْلَمَ مَنْ يَجِدُهُ وَعَلَى هَذَا فَطَرَ اللّهُ عِبَادَهُ كَمَا أَنّ الْمُسَافِرَ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ إنّمَا سُكُونُ نَفْسِهِ وَطُمَأْنِينَتُهُ إلَى [ ص 122 ] وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْزَلَ الدّوَاءَ الّذِي أَنْزَلَ الدّاءَ قَدْ جَاءَ مِثْلُهُ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ فَقَالَ " أَرْسِلُوا إلَى طَبِيبٍ " فَقَالَ قَائِلٌ وَأَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " نَعَمْ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ مَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ دَاءٍ إلّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً وَقَدْ تَقَدّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ .
[ مَعْنَى أُنْزِلَ الدّاءُ وَالدّوَاءُ ](3/368)
" وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى أُنْزِلَ الدّاءُ وَالدّوَاءُ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنْزَالُهُ إعْلَامُ الْعِبَادِ بِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرَ بِعُمُومِ الْإِنْزَالِ لِكُلّ دَاءٍ وَدَوَائِهِ وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنْزَالُهُمَا : خَلْقُهُمَا وَوَضْعُهُمَا فِي الْأَرْضِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إنّ اللّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الّذِي قَبْلَهُ فَلَفْظَةُ الْإِنْزَالِ أَخَصّ مِنْ لَفْظَةِ الْخَلْقِ وَالْوَضْعِ فَلَا يَنْبَغِي إسْقَاطُ خُصُوصِيّةِ اللّفْظَةِ بِلَا مُوجِبٍ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنْزَالُهُمَا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكّلِينَ بِمُبَاشَرَةِ الْخَلْقِ مِنْ دَاءٍ وَدَوَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنّ الْمَلَائِكَةَ مُوَكّلَةٌ بِأَمْرِ هَذَا الْعَالَمِ وَأَمْرِ النّوْعِ الْإِنْسَانِيّ مِنْ حِينِ سُقُوطِهِ فِي رَحِمِ أُمّهِ إلَى حِينِ مَوْتِهِ فَإِنْزَالُ الدّاءِ وَالدّوَاءِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ قَبْلَهُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنّ عَامّةَ الْأَدْوَاءِ وَالْأَدْوِيَةِ هِيَ بِوَاسِطَةِ إنْزَالِ الْغَيْثِ مِنْ السّمَاءِ الّذِي تَتَوَلّدُ بِهِ الْأَغْذِيَةُ وَالْأَقْوَاتُ وَالْأَدْوِيَةُ وَالْأَدْوَاءُ وَآلَاتُ ذَلِكَ كُلّهِ وَأَسْبَابُهُ وَمُكَمّلَاتُهُ وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ الْمَعَادِنِ الْعُلْوِيّةِ فَهِيَ تَنْزِلُ مِنْ الْجِبَالِ وَمَا [ ص 123 ] كَانَ مِنْهَا مِنْ الْأَوْدِيَةِ وَالْأَنْهَارِ وَالثّمَارِ فَدَاخِلٌ فِي اللّفْظِ عَلَى طَرِيقِ التّغْلِيبِ وَالِاكْتِفَاءِ عَنْ الْفِعْلَيْنِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ يَتَضَمّنهُمَا وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ بَلْ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأُمَمِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
حَتَى غَدَتْ هَمّالَةً عَيْنَاهَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ
مُتَقَلّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ
إذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا
وَزَجّجْنَ الْحَوَاجِبَ والعُيونَا
وَهَذَا أَحْسَنُ مِمّا قَبْلَهُ مِنْ الْوُجُوهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ كَمَا يَبْتَلِي اللّهُ عِبَادَهُ فَإِنّهُ يُيَسّرُ لَهُمْ مَا يُضَادّهُ ]
وَهَذَا مِنْ تَمَامِ حِكْمَةِ الرّبّ عَزّ وَجَلّ وَتَمَامِ رُبُوبِيّتِهِ فَإِنّهُ كَمَا ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالْأَدْوَاءِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِمَا يَسّرَهُ لَهُمْ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالذّنُوبِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِالتّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفّرَةِ وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ مِنْ الشّيَاطِينِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِجُنْدٍ مِنْ الْأَرْوَاحِ الطّيّبَةِ وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ . وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالشّهَوَاتِ أَعَانَهُمْ عَلَى قَضَائِهَا بِمَا يَسّرَهُ لَهُمْ شَرْعًا وَقَدَرًا مِنْ الْمُشْتَهَيَاتِ اللّذِيذَةِ النّافِعَةِ فَمَا ابْتَلَاهُمْ سُبْحَانَهُ بِشَيْءٍ إلّا أَعْطَاهُمْ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ [ ص 124 ]
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَضْمِينِ مَنْ طَبّ النّاسَ وَهُوَ جَاهِلٌ بِالطّبّ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ تَطَبّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ الطّبّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ هَذَا الْحَدِيثُ يَتَعَلّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أَمْرٌ لُغَوِيّ وَأَمْرٌ فِقْهِيّ وَأَمْرٌ طِبّيّ .
[مَعْنَى الطّبّ لُغَةً ]
فَأَمّا اللّغَوِيّ فَالطّبّ بِكَسْرِ الطّاءِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ عَلَى مَعَانٍ . مِنْهَا الْإِصْلَاحُ يُقَالُ طَبّبْتُهُ إذَا أَصْلَحْته . وَيُقَالُ لَهُ طِبّ بِالْأُمُورِ . أَيْ لُطْفٌ وَسِيَاسَةٌ . قَالَ الشّاعِرُ
وَإِذَا تَغَيّرَ مِنْ تَمِيمٍ أَمْرُهَا
كُنْت الطّبِيبَ لَهَا بِرَأْيٍ ثَاقِبٍ
وَمِنْهَا : الْحِذْقُ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : كُلّ حَاذِقٍ طَبِيبٌ عِنْدَ الْعَرَبِ قَالَ أَبُو عَبِيدٍ : أَصْلُ الطّبّ : الْحِذْقُ بِالْأَشْيَاءِ وَالْمَهَارَةُ بِهَا . يُقَالُ لِلرّجُلِ طِبّ وَطَبِيبٌ إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ عِلَاجِ الْمَرِيضِ . وَقَالَ غَيْرُهُ رَجُلٌ طَبِيبٌ أَيْ حَاذِقٌ سُمّيَ طَبِيبًا لِحِذْقِهِ وَفِطْنَتِهِ . قَالَ عَلْقَمَةُ
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنّسَاءِ فَإِنّنِي(3/369)
خَبِيرٌ بأْدْوَاءِ النّسَاءِ طَبِيبٌ
إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلّ مَالُهُ
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ وُدّهِنّ نَصِيبُ
[ ص 125 ] وَقَالَ عَنْتَرَةُ :
إنْ تُغْدِ فِي دُونِي الْقِنَاعَ فَإنّني
طِبّ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ
أَيْ إنْ تُرْخِي عَنّي قِنَاعَك وَتَسْتُرِي وَجْهَك رَغْبَةً عَنّي فَإِنّي خَبِيرٌ حَاذِقٌ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الّذِي قَدْ لَبِسَ لَأْمَةَ حَرْبِهِ . وَمِنْهَا : الْعَادَةُ يُقَالُ لَيْسَ ذَاكَ بِطِبّي أَيْ عَادَتِي قَالَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ : [ ص 126 ]
فَمَا إنْ طِبّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ
مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمُتَنَبّي :
وَمَا التّيهُ طِبّي فِيهِمْ غَيْرَ أَنّنِي
بَغِيضٌ إلَيّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ
وَمِنْهَا : السّحْرُ يُقَالُ رَجُلٌ مَطْبُوبٌ أَيْ مَسْحُورٌ وَفِي " الصّحِيحِ " فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ لَمّا سَحَرَتْ يَهُودُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَلَسَ الْمَلَكَانِ عِنْدَ رَأْسِهِ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : مَا بَالُ الرّجُلِ ؟ قَالَ الْآخَرُ مَطْبُوبٌ . قَالَ مَنْ طَبّهُ ؟ قَالَ فُلَانٌ الْيَهُودِيّ . قَالَ أَبُو عَبِيدٍ : إنّمَا قَالُوا لِلْمَسْحُورِ مَطْبُوبٌ لِأَنّهُمْ كَنّوْا بِالطّبّ عَنْ السّحْرِ كَمَا كَنّوْا عَنْ اللّدِيغِ فَقَالُوا : سَلِيمٌ تَفَاؤُلًا بِالسّلَامَةِ وَكَمَا كَنّوْا بِالْمَفَازَةِ عَنْ الْفَلَاةِ الْمُهْلِكَةِ الّتِي لَا مَاءَ فِيهَا فَقَالُوا : مَفَازَةً تَفَاؤُلًا بِالْفَوْزِ مِنْ الْهَلَاكِ . وَيُقَالُ الطّبّ لِنَفْسِ الدّاءِ . قَالَ ابْنُ أَبِي الْأَسْلَتِ :
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ حَسّا نَ عَنّي
أَسِحْرٌ كَانَ طِبّكَ أَمْ جُنُونٌ
وَأَمّا قَوْلُ الْحَمَاسِيّ :
فَإِنْ كُنْتَ مَطْبُوبًا فَلَا زِلْتَ هَكَذَا
وَإِنْ كُنْتَ مَسْحُورًا فَلَا بَرِئَ السّحْرُ
[ ص 127 ] أَرَادَ بِالْمَطْبُوبِ الّذِي قَدْ سُحِرَ وَأَرَادَ بِالْمَسْحُورِ الْعَلِيلُ بِالْمَرَضِ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَيُقَالُ لِلْعَلِيلِ مَسْحُورٌ . وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ . وَمَعْنَاهُ إنْ كَانَ هَذَا الّذِي قَدْ عَرَانِي مِنْك وَمِنْ حُبّك أَسْأَلُ اللّهَ دَوَامَهُ وَلَا أُرِيدُ زَوَالَهُ سَوَاءٌ كَانَ سِحْرًا أَوْ مَرَضًا . وَالطّبّ : مُثَلّثُ الطّاءِ فَالْمَفْتُوحُ الطّاءِ هُوَ الْعَالِمُ بِالْأُمُورِ وَكَذَلِكَ الطّبِيبُ يُقَالُ لَهُ طِبّ أَيْضًا . وَالطّبّ : بِكَسْرِ الطّاءِ فِعْلُ الطّبِيبِ وَالطّبّ بِضَمّ الطّاءِ اسْمُ مَوْضِعٍ قَالَهُ ابْنُ السّيّدِ وَأَنْشَدَ
فَقُلْتُ هَلْ انْهَلْتُمْ بِطُبّ رِكَابِكُمْ
بِجَائِزَةِ الْمَاءِ الّتِي طَابَ طِينُهَا
وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ تَطَبّبَ وَلَمْ يَقُلْ مَنْ طُبّ لِأَنّ لَفْظَ التّفَعّلِ يَدُلّ عَلَى تَكَلّفِ الشّيْءِ وَالدّخُولِ فِيهِ بِعُسْرٍ وَكُلْفَةٍ وَأَنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ كَتَحَلّمَ وَتَشَجّعَ وَتَصَبّرَ وَنَظَائِرِهَا وَكَذَلِكَ بَنَوْا تَكَلّفَ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ قَالَ الشّاعِرُ وَقَيْسُ عَيْلانَ وَمَنْ تَقَيّسَا
[إيجَابُ الضّمَانِ عَلَى الطّبِيبِ الْجَاهِلِ ]
وَأَمّا الْأَمْرُ الشّرْعِيّ فَإِيجَابُ الضّمَانِ عَلَى الطّبِيبِ الْجَاهِلِ فَإِذَا تَعَاطَى عِلْمَ الطّبّ وَعَمَلَهُ وَلَمْ يَتَقَدّمْ لَهُ بِهِ مَعْرِفَةٌ فَقَدْ هَجَمَ بِجَهْلِهِ عَلَى إتْلَافِ الْأَنْفُسِ وَأَقْدَمَ بِالتّهَوّرِ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ فَيَكُونُ قَدْ غَرّرَ بِالْعَلِيلِ فَيَلْزَمُهُ الضّمَانُ لِذَلِكَ [ ص 128 ] قَالَ الْخَطّابِي : لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنّ الْمُعَالِجَ إذَا تَعَدّى فَتَلِفَ الْمَرِيضُ كَانَ ضَامِنًا وَالْمُتَعَاطِي عِلْمًا أَوْ عَمَلًا لَا يَعْرِفُهُ مُتَعَدّ فَإِذَا تَوَلّدَ مِنْ فِعْلِهِ التّلَفُ ضِمْنَ الدّيَةَ وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ لِأَنّهُ لَا يَسْتَبِدّ بِذَلِكَ بِدُونِ إذْنِ الْمَرِيضِ وَجِنَايَةُ الْمُتَطَبّبِ فِي قَوْلِ عَامّةِ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ .
[ أَقْسَامُ الْأَطِبّاءِ مِنْ جِهَةِ إتْلَافِ الْأَعْضَاءِ وَذِكْرُ الْقِسْمِ الْأَوّلِ ](3/370)
قُلْت : الْأَقْسَامُ خَمْسَةٌ أَحَدُهَا : طَبِيبٌ حَاذِقٌ أَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا وَلَمْ تَجْنِ يَدُهُ فَتَوَلّدَ مِنْ فِعْلِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشّارِعِ وَمِنْ جِهَةِ مَنْ يَطِبّهُ تَلَفُ الْعُضْوِ أَوْ النّفْسِ أَوْ ذَهَابُ صِفَةٍ فَهَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اتّفَاقًا فَإِنّهَا سِرَايَةُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهَذَا كَمَا إذَا خَتَنَ الصّبِيّ فِي وَقْتٍ وَسِنّهُ قَابِلٌ لِلْخِتَانِ وَأَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا فَتَلِفَ الْعُضْوُ أَوْ الصّبِيّ لَمْ يَضْمَنْ وَكَذَلِكَ إذَا بَطّ مِنْ عَاقِلٍ أَوْ غَيْرِهِ مَا يَنْبَغِي بَطّهُ فِي وَقْتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي يَنْبَغِي فَتَلِفَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَهَكَذَا سِرَايَةُ كُلّ مَأْذُونٍ فِيهِ لَمْ يَتَعَدّ الْفَاعِلُ فِي سَبَبِهَا كَسِرَايَةِ الْحَدّ بِالِاتّفَاقِ . وَسِرَايَةِ الْقِصَاصِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة َ فِي إيجَابِهِ الضّمَانَ بِهَا وَسِرَايَةِ التّعْزِيرِ وَضَرْبِ الرّجُلِ امْرَأَتَهُ وَالْمُعَلّمِ الصّبِيّ وَالْمُسْتَأْجِرِ الدّابّةَ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشّافِعِيّ فِي إيجَابِهِمَا الضّمَانَ فِي ذَلِكَ وَاسْتَثْنَى الشّافِعِيّ ضَرْبَ الدّابّةِ . وَقَاعِدَةُ الْبَابِ إجْمَاعًا وَنِزَاعًا : أَنّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ بِالِاتّفَاقِ وَسِرَايَةُ الْوَاجِبِ مُهْدَرَةٌ بِالِاتّفَاقِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَفِيهِ النّزَاعُ . فَأَبُو حَنِيفَةَ أَوْجَبَ ضَمَانَهُ مُطْلَقًا وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ أَهْدَرَا ضَمَانَهُ وَفَرّقَ الشّافِعِيّ بَيْنَ الْمُقَدّرِ فَأَهْدَرَ ضَمَانَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُقَدّرِ فَأَوْجَبَ ضَمَانَهُ . فَأَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ إلَى أَنّ الْإِذْنَ فِي الْفِعْلِ إنّمَا وَقَعَ مَشْرُوطًا بِالسّلَامَةِ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ نَظَرَا إلَى أَنّ الْإِذْنَ أَسْقَطَ الضّمَانَ وَالشّافِعِيّ نَظَرَ إلَى أَنّ الْمُقَدّرَ لَا يُمْكِنُ النّقْصَانُ مِنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النّصّ وَأَمّا غَيْرُ الْمُقَدّرِ كَالتّعْزِيرَاتِ وَالتّأْدِيبَاتِ فَاجْتِهَادِيّةٌ فَإِذَا تَلِفَ بِهَا ضَمِنَ لِأَنّهُ فِي مَظِنّةِ الْعُدْوَانِ . [ ص 129 ]
فَصْلٌ [ الْقِسْمُ الثّانِي ]
الْقِسْمُ الثّانِي : مُطَبّبٌ جَاهِلٌ بَاشَرَتْ يَدُهُ مَنْ يَطِبّهُ فَتَلِفَ بِهِ فَهَذَا إنْ عَلِمَ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ أَنّهُ جَاهِلٌ لَا عِلْمَ لَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي طِبّهِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَا تُخَالِفُ هَذِهِ الصّورَةُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ فَإِنّ السّيَاقَ وَقُوّةَ الْكَلَامِ يَدُلّ عَلَى أَنّهُ غَرّ الْعَلِيلَ وَأَوْهَمَهُ أَنّهُ طَبِيبٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ ظَنّ الْمَرِيضُ أَنّهُ طَبِيبٌ وَأَذِنَ لَهُ فِي طِبّهِ لِأَجْلِ مَعْرِفَتِهِ ضَمِنَ الطّبِيبُ مَا جَنَتْ يَدُهُ وَكَذَلِكَ إنْ وَصَفَ لَهُ دَوَاءً يَسْتَعْمِلُهُ وَالْعَلِيلُ يَظُنّ أَنّهُ وَصَفَهُ لِمَعْرِفَتِهِ وَحِذْقِهِ فَتَلِفَ بِهِ ضَمِنَهُ وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِيهِ أَوْ صَرِيحٌ .
فَصْلٌ [ الْقِسْمُ الثّالِثُ ]
الْقِسْمُ الثّالِثُ طَبِيبٌ حَاذِقٌ أَذِنَ لَهُ وَأَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا لَكِنّهُ أَخْطَأَتْ يَدُهُ وَتَعَدّتْ إلَى عُضْوٍ صَحِيحٍ فَأَتْلَفَهُ مِثْلَ أَنْ سَبَقَتْ يَدُ الْخَاتِنِ إلَى الْكَمَرَةِ فَهَذَا يَضْمَنُ لِأَنّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ ثُمّ إنْ كَانَتْ الثّلُثَ فَمَا زَادَ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَاقِلَةٌ فَهَلْ تَكُونُ الدّيَةُ فِي مَالِهِ أَوْ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ . وَقِيلَ إنْ كَانَ الطّبِيبُ ذِمّيّا فَفِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَفِيهِ الرّوَايَتَانِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ أَوْ تَعَذّرَ تَحْمِيلُهُ فَهَلْ تَسْقُطُ الدّيَةُ أَوْ تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَشْهُرُهُمَا : سُقُوطُهَا .
فَصْلٌ [الْقِسْمُ الرّابِعُ ]
الْقِسْمُ الرّابِعُ الطّبِيبُ الْحَاذِقُ الْمَاهِرُ بِصَنَاعَتِهِ اجْتَهَدَ فَوَصَفَ لِلْمَرِيضِ دَوَاءً فَأَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ فَقَتَلَهُ فَهَذَا يُخَرّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : أَنّ دِيَةَ الْمَرِيضِ فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَالثّانِيَةُ أَنّهَا عَلَى عَاقِلَةِ الطّبِيبِ وَقَدْ نَصّ عَلَيْهِمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي خَطَأِ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ . [ ص 130 ]
فصل [ الْقِسْمُ الْخَامِسُ ](3/371)
الْقِسْمُ الْخَامِسُ طَبِيبٌ حَاذِقٌ أَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا فَقَطَعَ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ أَوْ صَبِيّ أَوْ مَجْنُونٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ إذْنِ وَلِيّهِ أَوْ خَتَنَ صَبِيّا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ فَتَلِفَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَضْمَنُ لِأَنّهُ تَوَلّدَ مِنْ فِعْلٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْبَالِغُ أَوْ وَلِيّ الصّبِيّ وَالْمَجْنُونِ لَمْ يَضْمَنْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَضْمَنَ مُطْلَقًا لِأَنّهُ مُحْسِنٌ وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ إنْ كَانَ مُتَعَدّيًا فَلَا أَثَرَ لِإِذْنِ الْوَلِيّ فِي إسْقَاطِ الضّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدّيًا فَلَا وَجْهَ لِضَمَانِهِ . فَإِنْ قُلْت : هُوَ مُتَعَدّ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ غَيْرُ مُتَعَدّ عِنْدَ الْإِذْنِ قُلْت : الْعُدْوَانُ وَعَدَمُهُ إنّمَا يَرْجِعُ إلَى فِعْلِهِ هُوَ فَلَا أَثَرَ لِلْإِذْنِ وَعَدَمِهِ فِيهِ وَهَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ .
فَصْلٌ أَقْسَامُ الْأَطِبّاءِ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا تَتَنَاوَلُ الطّبّ عَمَلًا أَوْ قَوْلًا إنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا وَاسْمَ كُلّ مِنْهُمْ
وَالطّبِيبُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَتَنَاوَلُ مَنْ يَطِبّ بِوَصْفِهِ وَقَوْلِهِ وَهُوَ الّذِي يُخَصّ بِاسْمِ الطّبَائِعِيّ وَبِمِرْوَدِهِ وَهُوَ الْكَحّالُ وَبِمِبْضَعِهِ وَمَرَاهِمِهِ وَهُوَ الْجَرَائِحِيّ وَبِمُوسَاهُ وَهُوَ الْخَاتِنُ وَبِرِيشَتِهِ وَهُوَ الْفَاصِدُ وَبِمَحَاجِمِهِ وَمِشْرَطِهِ وَهُوَ الْحَجّامُ وَبِخَلْعِهِ وَوَصْلِهِ وَرِبَاطِهِ وَهُوَ الْمُجَبّرُ وَبِمِكْوَاتِهِ وَنَارِهِ وَهُوَ الْكَوّاءُ وَبِقِرْبَتِهِ وَهُوَ الْحَاقِنُ وَسَوَاءٌ كَانَ طِبّهُ لِحَيَوَانٍ بَهِيمٍ أَوْ إنْسَانٍ فَاسْمُ الطّبِيبِ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى هَؤُلَاءِ كُلّهِمْ كَمَا تَقَدّمَ وَتَخْصِيصُ النّاسِ لَهُ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَطِبّاءِ عُرْفٌ حَادِثٌ كَتَخْصِيصِ لَفْظِ الدّابّةِ بِمَا يَخُصّهَا بِهِ كُلّ قَوْمٍ .
فَصْلٌ [ مَا يُرَاعِيهِ الطّبِيبُ الْحَاذِقُ مِنْ الْأُمُورِ ]
وَالطّبِيبُ الْحَاذِقُ هُوَ الّذِي يُرَاعِي فِي عِلَاجِهِ عِشْرِينَ أَمْرًا : أَحَدُهَا : النّظَرُ فِي نَوْعِ الْمَرَضِ مِنْ أَيّ الْأَمْرَاضِ هُوَ ؟ [ ص 131 ] الثّانِي : النّظَرُ فِي سَبَبِهِ مِنْ أَيّ شَيْءٍ حَدَثَ وَالْعِلّةُ الْفَاعِلَةُ الّتِي كَانَتْ سَبَبَ حُدُوثِهِ مَا هِيَ ؟ . الثّالِثُ قُوّةُ الْمَرِيضِ وَهَلْ هِيَ مُقَاوِمَةٌ لِلْمَرَضِ أَوْ أَضْعَفُ مِنْهُ ؟ فَإِنْ كَانَتْ مُقَاوِمَةً لِلْمَرَضِ مُسْتَظْهِرَةً عَلَيْهِ تَرَكَهَا وَالْمَرَضَ وَلَمْ يُحَرّكْ بِالدّوَاءِ سَاكِنًا . الرّابِعُ مِزَاجُ الْبَدَنِ الطّبِيعِيّ مَا هُوَ ؟ الْخَامِسُ الْمِزَاجُ الْحَادِثُ عَلَى غَيْرِ الْمُجْرَى الطّبِيعِيّ . السّادِسُ سِنّ الْمَرِيضِ . السّابِعُ عَادَتُهُ . الثّامِنُ الْوَقْتُ الْحَاضِرُ مِنْ فُصُولِ السّنَةِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ . التّاسِعُ بَلَدُ الْمَرِيضِ وَتُرْبَتُهُ . الْعَاشِرُ حَالُ الْهَوَاءِ فِي وَقْتِ الْمَرَضِ . الْحَادِيَ عَشَرَ النّظَرُ فِي الدّوَاءِ الْمُضَادّ لِتِلْكَ الْعِلّةِ . الثّانِيَ عَشَرَ النّظَرُ فِي قُوّةِ الدّوَاءِ وَدَرَجَتِهِ وَالْمُوَازَنَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قُوّةِ الْمَرِيضِ .
[ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ إزَالَةَ الْعِلّةِ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ مَعَهُ حُدُوثَ أَصْعَبِ مِنْهَا ]
الثّالِثَ عَشَرَ أَلّا يَكُونَ كُلّ قَصْدِهِ إزَالَةَ تِلْكَ الْعِلّةِ فَقَطْ بَلْ إزَالَتُهَا عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ مَعَهُ حُدُوثَ أَصْعَبِ مِنْهَا فَمَتَى كَانَ إزَالَتُهَا لَا يَأْمَنُ مَعَهَا حُدُوثَ عِلّةٍ أُخْرَى أَصْعَبَ مِنْهَا أَبْقَاهَا عَلَى حَالِهَا وَتَلْطِيفِهَا هُوَ الْوَاجِبُ وَهَذَا كَمَرَضِ أَفْوَاهِ الْعُرُوقِ فَإِنّهُ مَتَى عُولِجَ بِقَطْعِهِ وَحَبْسِهِ خِيفَ حُدُوثُ مَا هُوَ أَصْعَبُ مِنْهُ .
[ أَنْ يُعَالِجَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ ](3/372)
الرّابِعَ عَشَرَ أَنْ يُعَالِجَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ فَلَا يَنْتَقِلُ مَنْ الْعِلَاجِ بِالْغِذَاءِ إلَى الدّوَاءِ إلّا عِنْدَ تَعَذّرِهِ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الدّوَاءِ الْمُرَكّبِ إلّا عِنْدَ تَعَذّرِ الدّوَاءِ الْبَسِيطِ فَمِنْ حِذْقِ الطّبِيبِ عِلَاجُهُ بِالْأَغْذِيَةِ بَدَلَ الْأَدْوِيَةِ وَبِالْأَدْوِيَةِ الْبَسِيطَةِ بَدَلَ الْمُرَكّبَةِ . الْخَامِسَ عَشَرَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْعِلّةِ هَلْ هِيَ مِمّا يُمْكِنُ عِلَاجُهَا أَوْ لَا ؟ فَإِنْ [ ص 132 ] يُفِيدُ شَيْئًا . وَإِنْ أَمْكَنَ عِلَاجُهَا نَظَرَ هَلْ يُمْكِنُ زَوَالُهَا أَمْ لَا ؟ فَإِنْ عَلِمَ أَنّهُ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا نَظَرَ هَلْ يُمْكِنُ تَخْفِيفُهَا وَتَقْلِيلُهَا أَمْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقْلِيلُهَا وَرَأَى أَنّ غَايَةَ الْإِمْكَانِ إيقَافُهَا وَقَطْعُ زِيَادَتِهَا قَصَدَ بِالْعِلَاجِ ذَلِكَ وَأَعَانَ الْقُوّةَ وَأَضْعَفَ الْمَادّةَ . السّادِسَ عَشَرَ أَلّا يَتَعَرّضَ لِلْخَلْطِ قَبْلَ نُضْجِهِ بِاسْتِفْرَاغٍ بَلْ يَقْصِدُ إنْضَاجَهُ فَإِذَا تَمّ نُضْجُهُ بَادَرَ إلَى اسْتِفْرَاغِهِ .
[ أَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِاعْتِلَالِ الْقُلُوبِ ]
السّابِعَ عَشَرَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِاعْتِلَالِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَأَدْوِيَتِهَا وَذَلِكَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي عِلَاجِ الْأَبْدَانِ فَإِنّ انْفِعَالَ الْبَدَنِ وَطَبِيعَتَهُ عَنْ النّفْسِ وَالْقَلْبِ أَمْرٌ مَشْهُودٌ وَالطّبِيبُ إذَا كَانَ عَارِفًا بِأَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالرّوحِ وَعِلَاجِهِمَا كَانَ هُوَ الطّبِيبَ الْكَامِلَ وَاَلّذِي لَا خِبْرَةَ لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ حَاذِقًا فِي عِلَاجِ الطّبِيعَةِ وَأَحْوَالِ الْبَدَنِ نِصْفُ طَبِيبٍ . وَكُلّ طَبِيبٍ لَا يُدَاوِي الْعَلِيلَ بِتَفَقّدِ قَلْبِهِ وَصَلَاحِهِ وَتَقْوِيَةِ رُوحِهِ وَقُوَاهُ بِالصّدَقَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللّهِ وَالدّارِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ بِطَبِيبٍ بَلْ مُتَطَبّبٌ قَاصِرٌ . وَمِنْ أَعْظَمِ عِلَاجَاتِ الْمَرَضِ فِعْلُ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَالذّكْرُ وَالدّعَاءُ وَالتّضَرّعُ وَالِابْتِهَالُ إلَى اللّهِ وَالتّوْبَةُ وَلِهَذِهِ الْأُمُورِ تَأْثِيرٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ وَحُصُولِ الشّفَاءِ أَعْظَمُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الطّبِيعِيّةِ وَلَكِنْ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِ النّفْسِ وَقَبُولِهَا وَعَقِيدَتِهَا فِي ذَلِكَ وَنَفْعِهِ . الثّامِنَ عَشَرَ التّلَطّفُ بِالْمَرِيضِ وَالرّفْقُ بِهِ كَالتّلَطّفِ بِالصّبِيّ . التّاسِعَ عَشَرَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ أَنْوَاعَ الْعِلَاجَاتِ الطّبِيعِيّةِ وَالْإِلَهِيّةِ وَالْعِلَاجَ بِالتّخْيِيلِ فَإِنّ لِحُذّاقِ الْأَطِبّاءِ فِي التّخْيِيلِ أُمُورًا عَجِيبَةً لَا يَصِلُ إلَيْهَا الدّوَاءُ فَالطّبِيبُ الْحَاذِقُ يَسْتَعِينُ عَلَى الْمَرَضِ بِكُلّ مُعِينٍ . الْعِشْرُونَ - وَهُوَ مِلَاكُ أَمْرِ الطّبِيبِ - أَنْ يَجْعَلَ عِلَاجَهُ وَتَدْبِيرَهُ دَائِرًا عَلَى سِتّةِ أَرْكَانٍ حِفْظُ الصّحّةِ الْمَوْجُودَةِ وَرَدّ الصّحّةِ الْمَفْقُودَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ [ ص 133 ] أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِإِزَالَةِ أَعْظَمِهِمَا وَتَفْوِيتِ أَدْنَى الْمَصْلَحَتَيْنِ لِتَحْصِيلِ أَعْظَمِهِمَا فَعَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ السّتّةِ مَدَارُ الْعِلَاجِ وَكُلّ طَبِيبٍ لَا تَكُونُ هَذِهِ أَخِيّتَهُ الّتِي يَرْجِعُ إلَيْهَا فَلَيْسَ بِطَبِيبٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [مُرَاعَاةُ الطّبِيبِ لِأَحْوَالِ الْمَرَضِ ](3/373)
وَلَمّا كَانَ لِلْمَرَضِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ ابْتِدَاءٌ وَصُعُودٌ وَانْتِهَاءٌ وَانْحِطَاطٌ تَعَيّنَ عَلَى الطّبِيبِ مُرَاعَاةُ كُلّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمَرَضِ بِمَا يُنَاسِبُهَا وَيَلِيقُ بِهَا وَيَسْتَعْمِلُ فِي كُلّ حَالٍ مَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهَا . فَإِذَا رَأَى فِي ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ أَنّ الطّبِيعَةَ مُحْتَاجَةٌ إلَى مَا يُحَرّكُ الْفَضَلَاتِ وَيَسْتَفْرِغُهَا لِنُضْجِهَا بَادَرَ إلَيْهِ فَإِنْ فَاتَهُ تَحْرِيكُ الطّبِيعَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ لِعَائِقٍ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِضَعْفِ الْقُوّةِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهَا لِلِاسْتِفْرَاغِ أَوْ لِبُرُودَةِ الْفَصْلِ أَوْ لِتَفْرِيطٍ وَقَعَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ كُلّ الْحَذَرِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي صُعُودِ الْمَرَضِ لِأَنّهُ إنْ فَعَلَهُ تَحَيّرَتْ الطّبِيعَةُ لِاشْتِغَالِهَا بِالدّوَاءِ وَتَخَلّتْ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَرَضِ وَمُقَاوَمَتِهِ بِالْكُلّيّةِ وَمِثَالُهُ أَنْ يَجِيءَ إلَى فَارِسٍ مَشْغُولٍ بِمُوَاقَعَةِ عَدُوّهِ فَيَشْغَلُهُ عَنْهُ بِأَمْرٍ آخَرَ وَلَكِنّ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يُعِينَ الطّبِيعَةَ عَلَى حِفْظِ الْقُوّةِ مَا أَمْكَنَهُ . فَإِذَا انْتَهَى الْمَرَضُ وَوَقَفَ وَسَكَنَ أَخَذَ فِي اسْتِفْرَاغِهِ وَاسْتِئْصَالِ أَسْبَابِهِ فَإِذَا أَخَذَ فِي الِانْحِطَاطِ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ . وَمِثَالُ هَذَا مِثَالُ الْعَدُوّ إذَا انْتَهَتْ قُوّتُهُ وَفَرَغَ سِلَاحُهُ كَانَ أَخْذُهُ سَهْلًا فَإِذَا وَلّى وَأَخَذَ فِي الْهَرَبِ كَانَ أَسْهَلَ أَخْذًا وَحِدّتُهُ وَشَوْكَتُهُ إنّمَا هِيَ فِي ابْتِدَائِهِ وَحَالِ اسْتِفْرَاغِهِ وَسِعَةِ قُوّتِهِ فَهَكَذَا الدّاءُ وَالدّوَاءُ سَوَاءٌ .
فَصْلٌ [ مِنْ حِذْقِ الطّبِيبِ التّدْبِيرُ بِالْأَسْهَلِ ]
وَمِنْ حِذْقِ الطّبِيبِ أَنّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ التّدْبِيرُ بِالْأَسْهَلِ فَلَا يَعْدِلُ إلَى [ ص 134 ] يَخَافَ فَوْتَ الْقُوّةِ حِينَئِذٍ فَيَجِبُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْأَقْوَى وَلَا يُقِيمَ فِي الْمُعَالَجَةِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ فَتَأْلَفُهَا الطّبِيعَةُ وَيَقِلّ انْفِعَالُهَا عَنْهُ وَلَا تَجْسُرُ عَلَى الْأَدْوِيَةِ الْقَوِيّةِ فِي الْفُصُولِ الْقَوِيّةِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّهُ إذَا أَمْكَنَهُ الْعِلَاجُ بِالْغِذَاءِ فَلَا يُعَالِجُ بِالدّوَاءِ وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْمَرَضُ أَحَارّ هُوَ أَمْ بَارِدٌ ؟ فَلَا يُقْدِمُ حَتّى يَتَبَيّنَ لَهُ وَلَا يُجَرّبُهُ بِمَا يَخَافُ عَاقِبَتَهُ وَلَا بَأْسَ بِتَجْرِبَتِهِ بِمَا لَا يَضُرّ أَثَرُهُ .
[مَا يَفْعَلُهُ الطّبِيبُ إذَا اجْتَمَعَتْ أَمْرَاضٌ ]
وَإِذَا اجْتَمَعَتْ أَمْرَاضٌ بَدَأَ بِمَا تَخُصّهُ وَاحِدَةٌ مِنْ ثَلَاثِ خِصَالٍ إحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَ بُرْءُ الْآخَرِ مَوْقُوفًا عَلَى بُرْئِهِ كَالْوَرَمِ وَالْقُرْحَةِ فَإِنّهُ يَبْدَأُ بِالْوَرَمِ . الثّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهَا سَبَبًا لِلْآخَرِ كَالسّدّةِ وَالْحُمّى الْعَفِنَةِ فَإِنّهُ يَبْدَأُ بِإِزَالَةِ السّبَبِ . الثّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَهَمّ مِنْ الْآخَرِ كَالْحَادّ وَالْمُزْمِنِ فَيَبْدَأُ بِالْحَادّ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَغْفُلُ عَنْ الْآخَرِ . وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمَرَضُ وَالْعَرَضُ بَدَأَ بِالْمَرَضِ إلّا أَنْ يَكُونَ الْعَرْضُ أَقْوَى كَالْقُولَنْجِ فَيُسَكّنُ الْوَجَعَ أَوّلًا ثُمّ يُعَالِجُ السّدّةَ وَإِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ الْمُعَالَجَةِ بِالِاسْتِفْرَاغِ بِالْجُوعِ أَوْ الصّوْمِ أَوْ النّوْمِ لَمْ يَسْتَفْرِغْهُ وَكُلّ صِحّةٍ أَرَادَ حِفْظَهَا حَفِظَهَا بِالْمِثْلِ أَوْ الشّبَهِ وَإِنْ أَرَادَ نَقْلَهَا إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا نَقَلَهَا بِالضّدّ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي التّحَرّزِ مِنْ الْأَدْوَاءِ الْمُعْدِيَةِ بِطَبْعِهَا وَإِرْشَادِهِ الْأَصِحّاءَ إلَى مُجَانَبَةِ أَهْلِهَا(3/374)
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّهُ كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ارْجِعْ فَقَدْ بَايَعْنَاكَ [ ص 135 ] وَرَوَى الْبُخَارِيُ فِي " صَحِيحِهِ " تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ فِرّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرّ مِنْ الْأَسَدِ وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النَبيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا تُدِيمُوا النّظَرَ إلَى الْمَجْذُومِينَ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُورِدَنّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحّ وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَلّمْ الْمَجْذُومَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قِيدَ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ [ ص 136 ]
[ مَا هُوَ الْجُذَامُ ]
الْجُذَامُ عِلّةٌ رَدِيئَةٌ تَحْدُثُ مِنْ انْتِشَارِ الْمُرّةِ السّوْدَاءِ فِي الْبَدَنِ كُلّهِ فَيَفْسُدُ مِزَاجُ الْأَعْضَاءِ وَهَيْئَتُهَا وَشَكْلُهَا وَرُبّمَا فَسَدَ فِي آخِرِهِ اتّصَالُهَا حَتّى تَتَأَكّلَ الْأَعْضَاءُ وَتَسْقُطَ وَيُسَمّى دَاءَ الْأَسَدِ .
[ سَبَبُ تَسْمِيَةِ الْجُذَامِ بِدَاءِ الْأَسَدِ ]
وَفِي هَذِهِ التّسْمِيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْأَطِبّاءِ أَحَدُهَا : أَنّهَا لِكَثْرَةِ مَا تَعْتَرِي الْأَسَدَ . وَالثّانِي : لِأَنّ هَذِهِ الْعِلّةَ تُجَهّمُ وَجْهَ صَاحِبِهَا وَتَجْعَلُهُ فِي سَحْنَةِ الْأَسَدِ . وَالثّالِثُ أَنّهُ يَفْتَرِسُ مَنْ يَقْرَبُهُ أَوْ يَدْنُو مِنْهُ بِدَائِهِ افْتِرَاسَ الْأَسَدِ .
[عِلّةُ الِابْتِعَادِ عَنْ الْمَجْذُومِ وَالْمَسْلُولِ ]
وَهَذِهِ الْعِلّةُ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ مِنْ الْعِلَلِ الْمُعْدِيَةِ الْمُتَوَارَثَةِ وَمُقَارِبُ الْمَجْذُومِ وَصَاحِبُ السّلّ يَسْقَمُ بِرَائِحَتِهِ فَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى الْأُمّةِ وَنُصْحِهِ لَهُمْ نَهَاهُمْ عَنْ الْأَسْبَابِ الّتِي تُعَرّضُهُمْ لِوُصُولِ الْعَيْبِ وَالْفَسَادِ إلَى أَجْسَامِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْبَدَنِ تَهَيّؤٌ وَاسْتِعْدَادٌ كَامِنٌ لِقَبُولِ هَذَا الدّاءِ وَقَدْ تَكُونُ الطّبِيعَةُ سَرِيعَةَ الِانْفِعَالِ قَابِلَةً لِلِاكْتِسَابِ مِنْ أَبْدَانِ مَنْ تُجَاوِرُهُ وَتُخَالِطُهُ فَإِنّهَا نَقّالَةٌ وَقَدْ يَكُونُ خَوْفُهَا مِنْ ذَلِكَ وَوَهْمُهَا مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ إصَابَةِ تِلْكَ الْعِلّةِ لَهَا فَإِنّ الْوَهْمَ فَعّالٌ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْقُوَى وَالطّبَائِعِ وَقَدْ تَصِلُ رَائِحَةُ الْعَلِيلِ إلَى الصّحِيحِ فَتُسْقِمُهُ وَهَذَا مُعَايَنٌ فِي بَعْضِ الْأَمْرَاضِ وَالرّائِحَةُ أَحَدُ أَسْبَابِ الْعَدْوَى وَمَعَ هَذَا كُلّهِ فَلَا بُدّ مِنْ وُجُودِ اسْتِعْدَادِ الْبَدَنِ وَقَبُولِهِ لِذَلِكَ الدّاءِ وَقَدْ [ ص 137 ] تَزَوّجَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ امْرَأَةً فَلَمّا أَرَادَ الدّخُولَ بِهَا وَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَقَالَ الْحَقِي بِأَهْلِكِ
[التّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ السّابِقَةِ وَبَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَالْأَكْلِ مَعَ الْمَجْذُومِ ](3/375)
وَقَدْ ظَنّ طَائِفَةٌ مِنْ النّاسِ أَنّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مُعَارَضَةٌ بِأَحَادِيثَ أُخَرَ تُبْطِلُهَا وَتُنَاقِضُهَا فَمِنْهَا : مَا رَوَاهُ التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ مَجْذُومٍ فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ وَقَالَ كُلْ بِسْمِ اللّهِ ثِقَةً بِاَللّهِ وَتَوَكّلًا عَلَيْهِ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ . وَبِمَا ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ . وَنَحْنُ نَقُولُ لَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللّهِ بَيْنَ أَحَادِيثِهِ الصّحِيحَةِ . فَإِذَا وَقَعَ التّعَارُضُ فَإِمّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ الرّوَاةِ مَعَ كَوْنِهِ ثِقَةً ثَبْتًا فَالثّقَةُ يَغْلَطُ أَوْ يَكُونُ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ إذَا كَانَ مِمّا يَقْبَلُ النّسْخَ أَوْ يَكُونُ التّعَارُضُ فِي فَهْمِ السّامِعِ لَا فِي نَفْسِ كَلَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَا بُدّ مِنْ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثّلَاثَةِ . وَأَمّا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ صَرِيحَانِ مُتَنَاقِضَانِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ لَيْسَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ فَهَذَا لَا يُوجَدُ أَصْلًا وَمَعَاذَ اللّهِ أَنْ يُوجَدَ فِي كَلَامِ الصّادِقِ الْمَصْدُوقِ الّذِي لَا يُخْرِجُ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ إلّا الْحَقّ وَالْآفَةُ مِنْ التّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ وَالتّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهِ وَمَعْلُولِهِ أَوْ مِنْ الْقُصُورِ فِي فَهْمِ مُرَادِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 138 ] كَلَامِهِ عَلَى غَيْرِ مَا عَنَاهُ بِهِ أَوْ مِنْهُمَا مَعًا وَمِنْ هَا هُنَا وَقَعَ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفَسَادِ مَا وَقَعَ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
[ التّوْفِيقُ بَيْنَهَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ قُتَيْبَةَ ](3/376)
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ " لَهُ حِكَايَةً عَنْ أَعْدَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ قَالُوا : حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ رَوَيْتُمْ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَقِيلَ لَهُ إنّ النّقْبَةَ تَقَعُ بِمِشْفَرِ الْبَعِيرِ فَيَجْرَبُ لِذَلِكَ الْإِبِلُ . قَالَ فَمَا أَعْدَى الْأَوّلَ ثُمّ رَوَيْتُمْ لَا يُورِدُ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحّ وَفِرّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ وَأَتَاهُ رَجُلٌ مَجْذُومٌ لِيُبَايِعَهُ بَيْعَةَ الْإِسْلَامِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ الْبَيْعَةَ وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَقَالَ الشّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدّارِ وَالدّابّةِ قَالُوا : وَهَذَا كُلّهُ مُخْتَلِفٌ لَا يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا . قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ وَنَحْنُ نَقُولُ إنّهُ لَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ وَلِكُلّ مَعْنًى مِنْهَا [ ص 139 ] زَالَ الِاخْتِلَافُ . وَالْعَدْوَى جِنْسَانِ أَحَدُهُمَا : عَدْوَى الْجُذَامِ فَإِنّ الْمَجْذُومَ تَشْتَدّ رَائِحَتُهُ حَتّى يُسْقِمَ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَتَهُ وَمُحَادَثَتَهُ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ تَحْتَ الْمَجْذُومِ فَتُضَاجِعُهُ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ فَيُوصِلُ إلَيْهَا الْأَذَى وَرُبّمَا جُذِمَتْ وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ يَنْزِعُونَ فِي الْكِبَرِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ بِهِ سِلّ وَدِقّ ونُقْبٌ . وَالْأَطِبّاءُ تَأْمُرُ أَنْ لَا يُجَالِسَ الْمَسْلُولَ وَلَا الْمَجْذُومَ وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مَعْنَى الْعَدْوَى وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنَى تَغَيّرِ الرّائِحَةِ وَأَنّهَا قَدْ تُسْقِمُ مَنْ أَطَالَ اشْتِمَامَهَا وَالْأَطِبّاءُ أَبْعَدُ النّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ بِيُمْنٍ وَشُؤْمٍ وَكَذَلِكَ النّقْبَةُ تَكُونُ بِالْبَعِيرِ - وَهُوَ جَرَبٌ رَطْبٌ - فَإِذَا خَالَطَ الْإِبِلَ أَوْ حَاكَهَا وَأَوَى فِي مَبَارِكِهَا وَصَلَ إلَيْهَا بِالْمَاءِ الّذِي يَسِيلُ مِنْهُ وَبِالنّطْفِ نَحْوَ مَا بِهِ فَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الّذِي قَالَ فِيهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُورَدُ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحّ كَرِهَ أَنْ يُخَالِطَ الْمَعْيُوهَ الصّحِيحُ لِئَلّا يَنَالَهُ مِنْ نَطَفِهِ وَحِكّتِهِ نَحْوُ مِمّا بِهِ . قَالَ وَأَمّا الْجِنْسُ الْآخَرُ مِنْ الْعَدْوَى فَهُوَ الطّاعُونُ يَنْزِلُ بِبَلَدٍ فَيَخْرُجُ مِنْهُ خَوْفَ الْعَدْوَى وَقَدْ قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا وَقَعَ بِبَلَدٍ وَأَنْتُمْ بِهِ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهُ وَإِذَا كَانَ بِبَلَدٍ فَلَا تَدْخُلُوهُ . يُرِيدُ بِقَوْلِهِ لَا تَخْرُجُوا مَنْ الْبَلَدِ إذَا كَانَ فِيهِ كَأَنّكُمْ تَظُنّونَ أَنّ الْفِرَارَ مِنْ قَدَرِ اللّهِ يُنْجِيكُمْ مِنْ اللّهِ وَيُرِيدُ إذَا كَانَ بِبَلَدٍ فَلَا تَدْخُلُوهُ أَيْ مَقَامُكُمْ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي لَا طَاعُونَ فِيهِ أَسْكَنُ لِقُلُوبِكُمْ وَأَطْيَبُ لِعَيْشِكُمْ وَمِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُعْرَفُ بِالشّؤْمِ أَوْ الدّارُ فَيَنَالُ الرّجُلَ مَكْرُوهٌ أَوْ جَائِحَةٌ فَيَقُولُ أَعَدْتِنِي بِشُؤْمِهَا فَهَذَا هُوَ الْعَدْوَى الّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا عَدْوَى وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ الْمَجْذُومِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاخْتِيَارِ وَالْإِرْشَادِ وَأَمّا الْأَكْلُ مَعَهُ فَفَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَأَنّ هَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ الْخِطَابُ بِهَذَيْنِ الْخِطَابَيْنِ جُزْئِيّ لَا كُلّيّ فَكُلّ [ ص 140 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ فَبَعْضُ النّاسِ يَكُونُ قَوِيّ الْإِيمَانِ قَوِيّ التّوَكّلِ تَدْفَعُ قُوّةُ تَوَكّلِهِ قُوّةَ الْعَدْوَى كَمَا تَدْفَعُ قُوّةُ الطّبِيعَةِ قُوّةَ الْعِلّةِ فَتُبْطِلُهَا وَبَعْضُ النّاسِ لَا يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ فَخَاطَبَهُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالتّحَفّظِ وَكَذَلِكَ هُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَلَ الْحَالَتَيْنِ مَعًا لِتَقْتَدِيَ بِهِ الْأُمّةُ فِيهِمَا فَيَأْخُذُ مَنْ قَوِيَ مِنْ أُمّتِهِ بِطَرِيقَةِ التّوَكّلِ وَالْقُوّةِ وَالثّقَةِ بِاَللّهِ وَيَأْخُذُ مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ بِطَرِيقَةِ التّحَفّظِ وَالِاحْتِيَاطِ وَهُمَا طَرِيقَانِ صَحِيحَانِ . أَحَدُهُمَا : لِلْمُؤْمِنِ الْقَوِيّ وَالْآخَرُ لِلْمُؤْمِنِ الضّعِيفِ فَتَكُونُ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْ الطّائِفَتَيْنِ حُجّةٌ وَقُدْوَةٌ بِحَسَبِ حَالِهِمْ وَمَا يُنَاسِبُهُمْ وَهَذَا كَمَا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَوَى(3/377)
وَأَثْنَى عَلَى تَارِكِ الْكَيّ وَقَرَنَ تَرْكَهُ بِالتّوَكّلِ وَتَرْكِ الطّيَرَةَ وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ لَطِيفَةٌ حَسَنَةٌ جِدّا مَنْ أَعْطَاهَا حَقّهَا وَرُزِقَ فِقْهَ نَفْسِهِ فِيهَا أَزَالَتْ عَنْهُ تَعَارُضًا كَثِيرًا يَظُنّهُ بِالسّنّةِ الصّحِيحَةِ . وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى إلَى أَنّ الْأَمْرَ بِالْفِرَارِ مِنْهُ وَمُجَانَبَتِهِ لِأَمْرٍ طَبِيعِيّ وَهُوَ انْتِقَالُ الدّاءِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالرّائِحَةِ إلَى الصّحِيحِ وَهَذَا يَكُونُ مَعَ تَكْرِيرِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَامَسَةِ لَهُ وَأَمّا أَكْلُهُ مَعَهُ مِقْدَارًا يَسِيرًا مِنْ الزّمَانِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَا تَحْصُلُ الْعَدْوَى مِنْ مَرّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ فَنَهَى سَدّا لِلذّرِيعَةِ وَحِمَايَةً لِلصّحّةِ وَخَالَطَهُ مُخَالَطَةً مَا لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَجْذُومُ الّذِي أَكَلَ مَعَهُ بِهِ مِنْ الْجُذَامِ أَمْرٌ يَسِيرٌ لَا يُعْدِي مِثْلُهُ وَلَيْسَ الْجَذْمَى كُلّهُمْ سَوَاءً وَلَا الْعَدْوَى حَاصِلَةٌ مِنْ جَمِيعِهِمْ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ لَا تَضُرّ مُخَالَطَتُهُ وَلَا تَعْدِي وَهُوَ مَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ ثُمّ وَقَفَ وَاسْتَمَرّ عَلَى حَالِهِ وَلَمْ يُعْدِ بَقِيّةَ جِسْمِهِ فَهُوَ أَنْ لَا يُعْدِيَ غَيْرَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : إنّ الْجَاهِلِيّةَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنّ الْأَمْرَاضَ الْمُعْدِيَةَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ فَأَبْطَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتِقَادَهُمْ ذَلِكَ وَأَكَلَ مَعَ الْمَجْذُومِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الّذِي يُمْرِضُ وَيَشْفِي وَنَهَى عَنْ الْقُرْبِ مِنْهُ [ ص 141 ] جَعَلَهَا اللّهُ مُفْضِيَةً إلَى مُسَبّبَاتِهَا فَفِي نَهْيِهِ إثْبَاتُ الْأَسْبَابِ وَفِي فِعْلِهِ بَيَانُ أَنّهَا لَا تَسْتَقِلّ بِشَيْءٍ بَلْ الرّبّ سُبْحَانَهُ إنْ شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا فَلَا تُؤَثّرُ شَيْئًا وَإِنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَيْهَا قُوَاهَا فَأَثّرَتْ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا النّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ فَيَنْظُرُ فِي تَارِيخِهَا فَإِنْ عُلِمَ الْمُتَأَخّرُ مِنْهَا حُكِمَ بِأَنّهُ النّاسِخُ وَإِلّا تَوَقّفْنَا فِيهَا . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ بَعْضُهَا مَحْفُوظٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَتَكَلّمَتْ فِي حَدِيثِ لَا عَدْوَى وَقَالَتْ قَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ أَوّلًا ثُمّ شَكّ فِيهِ فَتَرَكَهُ وَرَاجَعُوهُ فِيهِ وَقَالُوا : سَمِعْنَاك تُحَدّثُ بِهِ فَأَبَى أَنْ يُحَدّثَ بِهِ . قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَمْ نَسَخَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَ ؟ وَأَمّا حَدِيثُ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ فَحَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ وَلَا يَصِحّ وَغَايَةُ مَا قَالَ فِيهِ التّرْمِذِيّ : إنّهُ غَرِيبٌ لَمْ يُصَحّحْهُ وَلَمْ يُحَسّنْهُ . وَقَدْ قَالَ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ اتّقُوا هَذِهِ الْغَرَائِبَ . قَالَ التّرْمِذِيّ : وَيُرْوَى هَذَا مِنْ فِعْلِ عُمَرَ وَهُوَ أَثْبَتُ فَهَذَا شَأْنُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ اللّذَيْنِ عُورِضَ بِهِمَا أَحَادِيثُ النّهْيِ أَحَدُهُمَا : رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ التّحْدِيثِ بِهِ وَأَنْكَرَهُ وَالثّانِي : لَا يَصِحّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ " الْمِفْتَاح ِ " بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَنْعِ مِنْ التّدَاوِي بِالْمُحَرّمَاتِ(3/378)
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدّرْدَاءِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ اللّهَ أَنْزَلَ الدّاءَ وَالدّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِالْمُحَرّمِ . [ ص 142 ] وَذَكَر الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : إنّ اللّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرّمَ عَلَيْكُمْ وَفِي " السّنَنِ " : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الدّوَاءِ الْخَبِيثِ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ طَارِقِ بْنِ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيّ أَنّهُ سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ إنّمَا أَصْنَعُهَا لِلدّوَاءِ فَقَالَ إنّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنّهُ دَاءٌ وَفِي " السّنَنِ " أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ يُجْعَلُ فِي الدّوَاءِ فَقَالَ " إنّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِالدّوَاءِ [ ص 143 ] أَبُو دَاوُدَ وَاَلتّرْمِذِيّ . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ طَارِقِ بْنِ سُوَيْدٍ الْحَضْرَمِيّ قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بِأَرْضِنَا أَعْنَابًا نَعْتَصِرُهَا فَنَشْرَبُ مِنْهَا قَالَ " لَا " فَرَاجَعْته قُلْتُ إنّا نَسْتَشْفِي لِلْمَرِيضِ قَالَ إنّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِفَاءٍ وَلَكِنّهُ دَاءٌ وَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ أَنّ طَبِيبًا ذَكَرَ ضِفْدَعًا فِي دَوَاءٍ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهَا وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ تَدَاوَى بِالْخَمْرِ فَلَا شَفَاهُ اللّهُ
[ بَيَانُ قُبْحِ الْمُعَالَجَةِ بِالْمُحَرّمَاتِ عَقْلًا ]
الْمُعَالَجَةُ بِالْمُحَرّمَاتِ قَبِيحَةٌ عَقْلًا وَشَرْعًا أَمّا الشّرْعُ فَمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا وَأَمّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ إنّمَا حَرّمَهُ لِخُبْثِهِ فَإِنّهُ لَمْ يُحَرّمْ عَلَى هَذِهِ الْأُمّةِ طَيّبًا عُقُوبَةً لَهَا كَمَا حَرّمَهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِقَوْلِهِ { فَبِظُلْمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ } [ النّسَاء : 160 ] ؛ وَإِنّمَا حَرّمَ عَلَى هَذِهِ الْأُمّةِ مَا حَرّمَ لِخُبْثِهِ وَتَحْرِيمُهُ لَهُ حَمِيّةً لَهُمْ وَصِيَانَةً عَنْ تَنَاوُلِهِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُطْلَبَ بِهِ الشّفَاءُ مِنْ الْأَسْقَامِ وَالْعِلَلِ فَإِنّهُ وَإِنْ أَثّرَ فِي إزَالَتِهَا لَكِنّهُ يُعْقِبُ سَقَمًا أَعْظَمَ مِنْهُ فِي الْقَلْبِ بِقُوّةِ الْخُبْثِ الّذِي فِيهِ فَيَكُونُ الْمُدَاوَى بِهِ قَدْ سَعَى فِي إزَالَةِ سُقْمِ الْبَدَنِ بِسُقْمِ الْقَلْبِ . [ ص 144 ] اتّخَاذِهِ دَوَاءً حَضّ عَلَى التّرْغِيبِ فِيهِ وَمُلَابَسَتِهِ وَهَذَا ضِدّ مَقْصُودِ الشّارِعِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ دَاءٌ كَمَا نَصّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشّرِيعَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتّخَذَ دَوَاءً . وَأَيْضًا فَإِنّهُ يُكْسِبُ الطّبِيعَةَ وَالرّوحَ صِفَةَ الْخُبْثِ لِأَنّ الطّبِيعَةَ تَنْفَعِلُ عَنْ كَيْفِيّةِ الدّوَاءِ انْفِعَالًا بَيّنًا فَإِذَا كَانَتْ كَيْفِيّتُهُ خَبِيثَةً اكْتَسَبَتْ الطّبِيعَةُ مِنْهُ خُبْثًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ خَبِيثًا فِي ذَاتِهِ وَلِهَذَا حَرّمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ الْأَغْذِيَةَ وَالْأَشْرِبَةَ وَالْمَلَابِسَ الْخَبِيثَةَ لِمَا تُكْسِبُ النّفْسَ مِنْ هَيْئَةِ الْخُبْثِ وَصِفَتِهِ .
[التّدَاوِي بِهِ ذَرِيعَةٌ إلَى تَعَاطِيهِ ](3/379)
وَأَيْضًا فَإِنّ فِي إبَاحَةِ التّدَاوِي بِهِ وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَتْ النّفُوسُ تَمِيلُ إلَيْهِ ذَرِيعَةً إلَى تَنَاوُلِهِ لِلشّهْوَةِ وَاللّذّةِ لَا سِيّمَا إذَا عَرَفَتْ النّفُوسُ أَنّهُ نَافِعٌ لَهَا مُزِيلٌ لِأَسْقَامِهَا جَالِبٌ لِشِفَائِهَا فَهَذَا أَحَبّ شَيْءٍ إلَيْهَا وَالشّارِعُ سَدّ الذّرِيعَةَ إلَى تَنَاوُلِهِ بِكُلّ مُمْكِنٍ وَلَا رَيْبَ أَنّ بَيْنَ سَدّ الذّرِيعَةِ إلَى تَنَاوُلِهِ وَفَتْحِ الذّرِيعَةِ إلَى تَنَاوُلِهِ تَنَاقُضًا و تَعَارُضًا . وَأَيْضًا فَإِنّ فِي هَذَا الدّوَاءِ الْمُحَرّمِ مِنْ الْأَدْوَاءِ مَا يَزِيدُ عَلَى مَا يُظَنّ فِيهِ مِنْ الشّفَاءِ وَلْنَفْرِضْ الْكَلَامَ فِي أُمّ الْخَبَائِثِ الّتِي مَا جَعَلَ اللّهُ لَنَا فِيهَا شِفَاءً قَطّ فَإِنّهَا شَدِيدَةُ الْمَضَرّةِ بِالدّمَاغِ الّذِي هُوَ مَرْكَزُ الْعَقْلِ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلّمِينَ . قَالَ أَبِقِرَاطٍ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ فِي الْأَمْرَاضِ الْحَادّةِ ضَرَرُ الْخَمْرَةِ بِالرّأْسِ شَدِيدٌ . لِأَنّهُ يُسَرّعُ الِارْتِفَاعَ إلَيْهِ . وَيَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِهِ الْأَخْلَاطُ الّتِي تَعْلُو فِي الْبَدَنِ وَهُوَ كَذَلِكَ يَضُرّ بِالذّهْنِ . وَقَالَ صَاحِبُ " الْكَامِلِ " : إنّ خَاصّيّةَ الشّرَابِ الْإِضْرَارُ بِالدّمَاغِ وَالْعَصَبِ . وَأَمّا غَيْرُهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْمُحَرّمَةِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا : تَعَافُهُ النّفْسُ وَلَا تَنْبَعِثُ لِمُسَاعَدَتِهِ الطّبِيعَةُ عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ بِهِ كَالسّمُومِ وَلُحُومِ الْأَفَاعِي وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ فَيَبْقَى كَلّا عَلَى الطّبِيعَةِ مُثْقِلًا لَهَا فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ دَاءً لَا دَوَاءً . [ ص 145 ] وَالثّانِي : مَا لَا تَعَافُهُ النّفْسُ كَالشّرَابِ الّذِي تَسْتَعْمِلُهُ الْحَوَامِلُ مَثَلًا فَهَذَا ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ وَالْعَقْلُ يَقْضِي بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ مُطَابِقٌ لِلشّرْعِ فِي ذَلِكَ . وَهَا هُنَا سِرّ لَطِيفٌ فِي كَوْنِ الْمُحَرّمَاتِ لَا يُسْتَشْفَى بِهَا فَإِنّ شَرْطَ الشّفَاءِ بِالدّوَاءِ تَلَقّيه بِالْقَبُولِ وَاعْتِقَادُ مَنْفَعَتِهِ وَمَا جَعَلَ اللّهُ فِيهِ مِنْ بَرَكَةِ الشّفَاءِ فَإِنّ النّافِعَ هُوَ الْمُبَارَكُ وَأَنْفَعُ الْأَشْيَاءِ أَبْرَكُهَا وَالْمُبَارَكُ مِنْ النّاسِ أَيْنَمَا كَانَ هُوَ الّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ حَيْثُ حَلّ وَمَعْلُومٌ أَنّ اعْتِقَادَ الْمُسْلِمِ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْعَيْنِ مِمّا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اعْتِقَادِ بَرَكَتِهَا وَمَنْفَعَتِهَا وَبَيْنَ حُسْنِ ظَنّهِ بِهَا وَتَلَقّي طَبْعِهِ لَهَا بِالْقَبُولِ بَلْ كُلّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَعْظَمَ إيمَانًا كَانَ أَكْرَهَ لَهَا وَأَسْوَأَ اعْتِقَادًا فِيهَا وَطَبْعُهُ أَكْرَهَ شَيْءٍ لَهَا فَإِذَا تَنَاوَلَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ كَانَتْ دَاءً لَهُ لَا دَوَاءً إلّا أَنْ يَزُولَ اعْتِقَادُ الْخُبْثِ فِيهَا وَسُوءُ الظّنّ وَالْكَرَاهَةُ لَهَا بِالْمَحَبّةِ وَهَذَا يُنَافِي الْإِيمَانَ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الْمُؤْمِنُ قَطّ إلّا عَلَى وَجْهِ دَاءٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
زاد المعاد - (ج 1 / ص 475)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِيَادَةِ الْمَرْضَى
كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعُودُ مَنْ مَرِضَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَعَادَ غُلَامًا كَانَ يَخْدِمُهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَادَ عَمّهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ وَعَرَضَ عَلَيْهِمَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ الْيَهُودِيّ وَلَمْ يُسْلِمْ عَمّهُ . وَكَانَ يَدْنُو مِنْ الْمَرِيضِ وَيَجْلِسُ عِنْدَ رَأْسِهِ وَيَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ فَيَقُولُ كَيْفَ تَجِدُك ؟ وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ يَسْأَلُ الْمَرِيضَ عَمّا يَشْتَهِيهِ فَيَقُولُ هَلْ تَشْتَهِي شَيْئًا ؟ فَإِنْ اشْتَهَى شَيْئًا وَعَلِمَ أَنّهُ لَا يَضُرّهُ أَمَرَ لَهُ بِهِ . [ ص 476 ] وَكَانَ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْمَرِيضِ وَيَقُولُ اللّهُمّ رَبّ النّاسِ أَذْهِبْ الْبَأْسَ وَاشْفِهِ أَنْتَ الشّافِي لَا شِفَاءَ إلّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا وَكَانَ يَقُولُ امْسَحْ الْبَأْسَ رَبّ النّاسِ بِيَدِكَ الشّفَاءُ لَا كَاشِفَ لَهُ إلّا أَنْت وَكَانَ يَدْعُو لِلْمَرِيضِ ثَلَاثًا كَمَا قَالَهُ لِسَعْدٍ : اللّهُمّ اشْفِ سَعْدًا اللّهُمّ اشْفِ سَعْدًا اللّهُمّ اشْفِ سَعْدًا وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَى الْمَرِيضِ يَقُولُ لَهُ لَا بَأْسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللّهُ
[ الرّقْيَةُ وَالِاسْتِرْقَاءُ ](3/380)
وَرُبّمَا كَانَ يَقُولُ كَفّارَةٌ وَطَهُور وَكَانَ يَرْقِي مَنْ بِهِ قُرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ أَوْ شَكْوَى فَيَضَعُ سَبّابَتَهُ بِالْأَرْضِ ثُمّ يَرْفَعُهَا وَيَقُولُ بِسْمِ اللّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبّنَا هَذَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " وَهُوَ يُبْطِلُ اللّفْظَةَ الّتِي جَاءَتْ فِي حَدِيثِ السّبْعِينَ أَلْفًا الّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَأَنّهُمْ لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ . فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ " لَا يَرْقَوْنَ " غَلَطٌ مِنْ الرّاوِي سَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيّةَ يَقُولُ ذَلِكَ . قَالَ وَإِنّمَا الْحَدِيثُ " هُمْ الّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ " . قُلْت : وَذَلِكَ لِأَنّ هَؤُلَاءِ دَخَلُوا الْجَنّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ ص 477 ] قَالَ { وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } فَلِكَمَالِ تَوَكّلِهِمْ عَلَى رَبّهِمْ وَسُكُونِهِمْ إلَيْهِ وَثِقَتِهِمْ بِهِ وَرِضَاهُمْ عَنْهُ وَإِنْزَالِ حَوَائِجِهِمْ بِهِ لَا يَسْأَلُونَ النّاسَ شَيْئًا لَا رُقْيَةً وَلَا غَيْرَهَا وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ طِيَرَةٌ تَصُدّهُمْ عَمّا يَقْصِدُونَهُ فَإِنّ الطّيَرَةَ تُنْقِصُ التّوْحِيدَ وَتُضْعِفُهُ . قَالَ وَالرّاقِي مُتَصَدّقٌ مُحْسِنٌ وَالْمُسْتَرْقِي سَائِلٌ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَقَى وَلَمْ يَسْتَرْقِ وَقَالَ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَدِيثِ الّذِي فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ جَمَعَ كَفّيْهِ ثُمّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ { قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ } وَيَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ وَيَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ مَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَلَمّا اشْتَكَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ فَالْجَوَابُ أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ رُوِيَ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ . أَحَدُهَا : هَذَا .
وَالثّانِي : أَنّهُ كَانَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ .
وَالثّالِثُ قَالَتْ كُنْت أَنْفُثُ عَلَيْهِ بِهِنّ وَأَمْسَحُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِبَرَكَتِهَا وَفِي لَفْظٍ رَابِعٍ كَانَ إذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوّذَاتِ وَيَنْفُثُ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ يُفَسّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا . وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْفُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَضَعْفُهُ وَوَجَعُهُ يَمْنَعُهُ مِنْ إمْرَارِ يَدِهِ عَلَى جَسَدِهِ كُلّهِ . فَكَانَ يَأْمُرُ عَائِشَةَ أَنْ تُمِرّ يَدَهُ عَلَى جَسَدِهِ بَعْدَ نَفْثِهِ هُوَ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِرْقَاءِ فِي شَيْءٍ [ ص 478 ] كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَرْقِيَهُ وَإِنّمَا ذَكَرَتْ الْمَسْحَ بِيَدِهِ بَعْدَ النّفْثِ عَلَى جَسَدِهِ ثُمّ قَالَتْ كَانَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِ أَيْ أَنْ أَمْسَحَ جَسَدَهُ بِيَدِهِ كَمَا كَانَ هُوَ يَفْعَلُ . وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ أَنْ يَخُصّ يَوْمًا مِنْ الْأَيّامِ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَلَا وَقْتًا مِنْ الْأَوْقَاتِ بَلْ شَرَعَ لِأُمّتِهِ عِيَادَةَ الْمَرْضَى لَيْلًا وَنَهَارًا وَفِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْهُ إذَا عَادَ الرّجُلُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ مَشَى فِي خُرْفَةِ الْجَنّةِ حَتّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرّحْمَةُ فَإِنْ كَانَ غَدْوَةً صَلّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتّى يُمْسِيَ وَإِنْ كَانَ مَسَاءً صَلّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتّى يُصْبِحَ وَفِي لَفْظٍ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا إلّا بَعَثَ اللّهُ لَهُ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلّونَ عَلَيْهِ أَيّ سَاعَةٍ مِنْ النّهَارِ كَانَتْ حَتّى يُمْسِيَ وَأَيّ سَاعَةٍ مِنْ اللّيْلِ كَانَتْ حَتّى يُصْبِحَ وَكَانَ يَعُودُ مِنْ الرّمَدِ وَغَيْرِهِ وَكَانَ أَحْيَانًا يَضَعُ يَدَهُ عَلَى جَبْهَةِ الْمَرِيضِ ثُمّ يَمْسَحُ صَدْرَهُ وَبَطْنَهُ وَيَقُولُ اللّهُمّ اشْفِه وَكَانَ يَمْسَحُ وَجْهَهُ أَيْضًا . وَكَانَ إذَا يَئِسَ مِنْ الْمَرِيضِ قَالَ إنّا لِلّهِ وَإِنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ [ ص 479 ]
1ـ كان من هديه فعل التداوي في نفسه، والأمر به لمن أصابه مرض من أهله وأصحابه.
2ـ وقال: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) [خ]، وقال: ((يا عباد الله تداووا)) [صحيح الترمذي].(3/381)
3ـ وكان علاجه للمرض ثلاثة أنواع: أحدها: بالأدوية الطبيعية، والثاني: بالأدوية الإلهية، والثالث: بالمركب من الأمرين.
4ـ ونهى عن التداوي بالخمر، ونهى عن التداوي بالخبيث.
4ـ وكان يعود من مرض من أصحابه، وعاد غلامًا كان يخدمه من أهل الكتاب، وعاد عمَّه وهو مشرك، وعرض عليهما الإسلام، فأسلم اليهودي ولم يسلم عمُّه.
5ـ وكان يدنو من المريض ويجلس عند رأسه ويسأله عن حاله.
6ـ ولم يكن من هديه أن يخص يومًا من الأيام بعيادة المريض، ولا وقتًا من الأوقات، وشرع لأمته عيادة المرضى ليلاً ونهارًا وفي سائر الأو
30. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ
زاد المعاد - (ج 4 / ص 198)
فَصْلٌ [هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ ]
فَأَمّا الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَبْسُ النّفْسِ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَغْذِيَةِ لَا يَتَعَدّاهُ إلَى مَا سِوَاهُ فَإِنّ ذَلِكَ يَضُرّ بِالطّبِيعَةِ جِدّا وَقَدْ يَتَعَذّرُ عَلَيْهَا أَحْيَانًا فَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَهُ ضَعُفَ أَوْ هَلَكَ وَإِنْ تَنَاوَلَ غَيْرَهُ لَمْ تَقْبَلْهُ الطّبِيعَةُ وَاسْتَضَرّ بِهِ فَقَصَرَهَا عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ دَائِمًا - وَلَوْ أَنّهُ أَفْضَلُ الْأَغْذِيَةِ - خَطَرٌ مُضِرّ . [ ص 199 ] كَانَ يَأْكُلُ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ بِأَكْلِهِ مِنْ اللّحْمِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْخُبْزِ وَالتّمْرِ وَغَيْرِهِ مِمّا ذَكَرْنَاهُ فِي هَدْيِهِ فِي الْمَأْكُولِ فَعَلَيْك بِمُرَاجَعَتِهِ هُنَاكَ .
[ تَعْدِيلُ الطّعَامِ بِضِدّهِ ]
وَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الطّعَامَيْنِ كَيْفِيّةٌ تَحْتَاجُ إلَى كَسْرٍ وَتَعْدِيلٍ كَسَرَهَا وَعَدَلَهَا بِضِدّهَا إنْ أَمْكَنَ كَتَعْدِيلِ حَرَارَةِ الرّطَبِ بِالْبِطّيخِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ تَنَاوَلَهُ عَلَى حَاجَةٍ وَدَاعِيَةٍ مِنْ النّفْسِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ فَلَا تَتَضَرّرُ بِهِ الطّبِيعَةُ .
[ تَرْكُ مَا تَعَافُهُ النّفْسُ ]
وَكَانَ إذَا عَافَتْ نَفْسُهُ الطّعَامَ لَمْ يَأْكُلْهُ وَلَمْ يَحْمِلْهَا إيّاهُ عَلَى كُرْهٍ وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ فَمَتَى أَكَلَ الْإِنْسَانُ مَا تَعَافُهُ نَفْسُهُ وَلَا يَشْتَهِيهِ كَانَ تَضَرّرُهُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ انْتِفَاعِهِ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَا عَابَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَعَامًا قَطّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلّا تَرَكَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَلَمّا قُدّمَ إلَيْهِ الضّبّ الْمَشْوِيّ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَقِيلَ لَهُ أَهُوَ حَرَامٌ ؟ قَالَ لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ فَرَاعَى عَادَتَهُ وَشَهْوَتَهُ فَلَمّا لَمْ يَكُنْ يَعْتَادُ أَكْلَهُ بِأَرْضِهِ وَكَانَتْ نَفْسُهُ لَا تَشْتَهِيهِ أَمْسَكَ عَنْهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَكْلِهِ مَنْ يَشْتَهِيهِ وَمَنْ عَادَتُهُ أَكْلُهُ .
[مَحَبّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلذّرَاع ]
وَكَانَ يُحِبّ اللّحْمَ وَأَحَبّهُ إلَيْهِ الذّرَاعُ وَمُقَدّمُ الشّاةِ وَلِذَلِكَ سُمّ فِيهِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : أُتِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إلَيْهِ الذّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ
[ أَكْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلرّقَبَةِ ]
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ ضِبَاعَةَ بِنْتِ الزّبَيْرِ أَنّهَا ذَبَحَتْ فِي بَيْتِهَا شَاةً [ ص 200 ] فَأَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ أَطْعِمِينَا مِنْ شَاتِكُمْ فَقَالَتْ لِلرّسُولِ مَا بَقِيَ عِنْدَنَا إلّا الرّقَبَةُ وَإِنّي لَأَسْتَحْيِيَ أَنْ أُرْسِلَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَجَعَ الرّسُولُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ ارْجِعْ إلَيْهَا فَقُلْ لَهَا : أَرْسِلِي بِهَا فَإِنّهَا هَادِيَةُ الشّاةِ وَأَقْرَبُ إلَى الْخَيْرِ وَأَبْعَدُهَا مِنْ الْأَذَى وَلَا رَيْبَ أَنّ أَخَفّ لَحْمِ الشّاةِ لَحْمُ الرّقَبَةِ وَلَحْمُ الذّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَهُوَ أَخَفّ عَلَى الْمَعِدَةِ وَأَسْرَعُ انْهِضَامًا وَفِي هَذَا مُرَاعَاةُ الْأَغْذِيَةِ الّتِي تَجْمَعُ ثَلَاثَةَ أَوْصَافٍ . أَحَدُهَا : كَثْرَةُ نَفْعِهَا وَتَأْثِيرِهَا فِي الْقُوَى . الثّانِي : خِفّتُهَا عَلَى الْمَعِدَةِ وَعَدَمُ ثِقَلِهَا عَلَيْهَا . الثّالِثُ سُرْعَةُ هَضْمِهَا وَهَذَا أَفْضَلُ مَا يَكُونُ مِنْ الْغِذَاءِ وَالتّغَذّي بِالْيَسِيرِ مِنْ هَذَا أَنْفَعُ مِنْ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِهِ .(3/382)
[ مَحَبّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ وَبَيَانُ أَنّهُمَا مَعَ اللّحْمِ أَفْضَلُ الْأَغْذِيَة ]
وَكَانَ يُحِبّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ وَهَذِهِ الثّلَاثَةُ - أَعْنِي اللّحْمَ وَالْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ - مِنْ أَفْضَلِ الْأَغْذِيَةِ وَأَنْفَعِهَا لِلْبَدَنِ وَالْكَبِدِ وَالْأَعْضَاءِ وَلِلِاغْتِذَاءِ بِهَا نَفْعٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ وَالْقُوّةِ وَلَا يَنْفِرُ مِنْهَا إلّا مَنْ بِهِ عِلّةٌ وَآفَةٌ .
[ يُؤْدِمُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُبْزَ الشّعِيرِ بِاللّحْمِ وَالْبِطّيخِ وَالتّمْرِ وَالْخَلّ وَفَوَائِدُ ذَلِكَ ]
وَكَانَ يَأْكُلُ الْخُبْزَ مَأْدُومًا مَا وَجَدَ لَهُ إدَامًا فَتَارَةً يَأْدِمُهُ بِاللّحْمِ وَيَقُولُ هُوَ سَيّدُ طَعَامِ أَهْلِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ . وَتَارَةً بِالْبِطّيخِ وَتَارَةً بِالتّمْرِ فَإِنّهُ وَضَعَ تَمْرَةً عَلَى كِسْرَةِ شَعِيرٍ وَقَالَ هَذَا إدَامُ هَذِهِ وَفِي هَذَا مِنْ تَدْبِيرِ الْغِذَاءِ أَنّ خُبْزَ الشّعِيرِ بَارِدٌ يَابِسٌ وَالتّمْرَ حَارّ رَطْبٌ عَلَى أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ فَأَدْمُ [ ص 201 ] كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَتَارَةً بِالْخَلّ وَيَقُولُ نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَل وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ الْحَاضِرِ لَا تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا يَظُنّ الْجُهّالُ وَسَبَبُ الْحَدِيثِ أَنّهُ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمًا فَقَدّمُوا لَهُ خُبْزًا فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ إدَامٍ ؟ " قَالُوا : مَا عِنْدَنَا إلّا خَلّ فَقَالَ " نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلّ وَالْمَقْصُودُ أَنّ أَكْلَ الْخُبْزِ مَأْدُومًا مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ . وَسُمّيَ الْأَدْمُ أُدُمًا : لِإِصْلَاحِهِ الْخُبْزَ وَجَعْلِهِ مُلَائِمًا لِحِفْظِ الصّحّةِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي إبَاحَتِهِ لِلْخَاطِبِ النّظَرَ إنّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا أَيْ أَقْرَبُ إلَى الِالْتِئَامِ وَالْمُوَافَقَةِ فَإِنّ الزّوْجَ يَدْخُلُ عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَا يَنْدَمُ .
[ أَكْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْفَاكِهَةَ ]
وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ فَاكِهَةِ بَلَدِهِ عِنْدَ مَجِيئِهَا وَلَا يَحْتَمِي عَنْهَا وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ جَعَلَ فِي كُلّ بَلْدَةٍ مِنْ الْفَاكِهَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُهَا فِي وَقْتِهِ فَيَكُونُ تَنَاوُلُهُ مِنْ أَسْبَابِ صِحّتِهِمْ وَعَافِيَتِهِمْ وَيُغْنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَقَلّ مَنْ احْتَمَى عَنْ فَاكِهَةِ بَلَدِهِ خَشْيَةَ السّقَمِ إلّا وَهُوَ مِنْ أَسْقَمِ النّاسِ جِسْمًا وَأَبْعَدِهِمْ مِنْ الصّحّةِ وَالْقُوّةِ . وَمَا فِي تِلْكَ الْفَاكِهَةِ مِنْ الرّطُوبَاتِ فَحَرَارَةُ الْفَصْلِ وَالْأَرْضِ وَحَرَارَةُ الْمَعِدَةِ تُنْضِجُهَا وَتَدْفَعُ شَرّهَا إذَا لَمْ يُسْرِفْ فِي تَنَاوُلِهَا وَلَمْ يُحَمّلْ مِنْهَا الطّبِيعَةَ فَوْقَ مَا تَحْتَمِلُهُ وَلَمْ يُفْسِدْ بِهَا الْغِذَاءَ قَبْلَ هَضْمِهِ وَلَا أَفْسَدَهَا بِشُرْبِ الْمَاءِ عَلَيْهَا وَتَنَاوُلِ الْغِذَاءِ بَعْدَ التّحَلّي مِنْهَا فَإِنّ الْقُولَنْجَ كَثِيرًا مَا يَحْدُثُ عِنْدَ ذَلِكَ فَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا مَا يَنْبَغِي فِي الْوَقْتِ الّذِي يَنْبَغِي عَلَى الْوَجْهِ الّذِي يَنْبَغِي كَانَتْ لَهُ دَوَاءً نَافِعًا . [ ص 202 ]
زاد المعاد - (ج 1 / ص 142)
فَصْلٌ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الطّعَامِ(3/383)
وَكَذَلِكَ كَانَ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسِيرَتُهُ فِي الطّعَامِ لَا يَرُدّ مَوْجُودًا وَلَا يَتَكَلّفُ مَفْقُودًا فَمَا قُرّبَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الطّيّبَاتِ إلّا أَكَلَهُ إلّا أَنْ تَعَافَهُ نَفْسُهُ فَيَتْرُكَهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ وَمَا عَابَ طَعَامًا قَطّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلّا تَرَكَه ُ كَمَا تَرَكَ أَكْلَ الضّبّ لَمّا لَمْ يَعْتَدْهُ وَلَمْ يُحَرّمْهُ عَلَى الْأُمّةِ بَلْ أُكِلَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ . وَأَكَلَ الْحَلْوَى وَالْعَسَلَ وَكَانَ يُحِبّهُمَا وَأَكَلَ لَحْمَ الْجَزُورِ وَالضّأْنِ وَالدّجَاجِ وَلَحْمَ الْحُبَارَى وَلَحْمَ حِمَارِ الْوَحْشِ وَالْأَرْنَبِ وَطَعَامَ الْبَحْرِ وَأَكَلَ الشّوَاءَ وَأَكَلَ الرّطَبَ وَالتّمْرَ وَشَرِبَ اللّبَنَ خَالِصًا وَمَشُوبًا وَالسّوِيقَ وَالْعَسَلَ بِالْمَاءِ وَشَرِبَ نَقِيعَ التّمْرِ وَأَكَلَ الْخَزِيرَةَ وَهِيَ حِسَاءٌ يُتّخَذُ مِنْ اللّبَنِ وَالدّقِيقِ وَأَكَلَ الْقِثّاءَ بِالرّطَبِ وَأَكَلَ الْأَقِطَ وَأَكَلَ التّمْرَ بِالْخُبْزِ وَأَكَلَ الْخُبْزَ بِالْخَلّ وَأَكَلَ الثّرِيدَ وَهُوَ الْخُبْزُ بِاللّحْمِ وَأَكَلَ الْخُبْزَ بِالْإِهَالَةِ وَهِيَ الْوَدَكُ وَهُوَ الشّحْمُ الْمُذَابُ وَأَكَلَ مِنْ الْكَبِدِ الْمَشْوِيّةِ وَأَكَلَ الْقَدِيدَ وَأَكَلَ الدّبّاءَ الْمَطْبُوخَةَ وَكَانَ يُحِبّهَا وَأَكَلَ الْمَسْلُوقَةَ وَأَكَلَ الثّرِيدَ بِالسّمْنِ وَأَكَلَ الْجُبْنَ وَأَكَلَ الْخُبْزَ بِالزّيْتِ وَأَكَلَ الْبِطّيخَ بِالرّطَبِ وَأَكَلَ التّمْرَ بِالزّبْدِ وَكَانَ يُحِبّهُ . وَلَمْ يَكُنْ يَرُدّ طَيّبًا وَلَا يَتَكَلّفُهُ بَلْ كَانَ هَدْيُهُ أَكْلُ مَا تَيَسّرَ فَإِنْ أَعْوَزَهُ صَبَرَ حَتّى إنّهُ لَيَرْبِطُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ وَيُرَى الْهِلَالُ وَالْهِلَالُ وَالْهِلَالُ وَلَا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ نَارٌ . وَكَانَ مُعْظَمُ مَطْعَمِهِ يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ فِي السّفْرَةِ وَهِيَ كَانَتْ مَائِدَتَهُ وَكَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثّلَاثِ وَيَلْعَقُهَا إذَا فَرَغَ وَهُوَ أَشْرَفُ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَكْلَةِ فَإِنّ الْمُتَكَبّرَ يَأْكُلُ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ وَالْجَشِعَ الْحَرِيصَ يَأْكُلُ بِالْخَمْسِ وَيَدْفَعُ بِالرّاحَةِ [ ص 143 ] وَكَانَ لَا يَأْكُلُ مُتّكِئًا وَالِاتّكَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا : الِاتّكَاءُ عَلَى الْجَنْبِ وَالثّانِي : التّرَبّعُ وَالثّالِثُ الِاتّكَاءُ عَلَى إحْدَى يَدَيْهِ وَأَكْلُهُ بِالْأُخْرَى وَالثّلَاثِ مَذْمُومَةٌ . وَكَانَ يُسَمّي اللّهَ تَعَالَى عَلَى أَوّلِ طَعَامِهِ وَيَحْمَدُهُ فِي آخِرِهِ فَيَقُولُ عِنْدَ انْقِضَائِهِ الْحَمْدُ لِلّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيّ وَلَا مُوَدّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبّنَا . وَرُبّمَا قَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ مَنّ عَلَيْنَا فَهَدَانَا وَأَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكُلّ بَلَاءٍ حَسَنٍ أَبْلَانَا الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَطْعَمَ مِنْ الطّعَامِ وَسَقَى مِنْ الشّرَابِ وَكَسَا مِنْ الْعُرْيِ وَهَدَى مِنْ الضّلَالَةِ وَبَصّرَ مِنْ الْعَمَى وَفَضّلَ عَلَى كَثِيرٍ مِمّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . وَرُبّمَا قَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِيِ أَطْعَمَ وَسَقَى . وَكَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ لَعِقَ أَصَابِعَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنَادِيلُ يَمْسَحُونَ بِهَا أَيْدِيَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ عَادَتُهُمْ غَسْلَ أَيْدِيهِمْ كُلّمَا أَكَلُوا . وَكَانَ أَكْثَرُ شُرْبِهِ قَاعِدًا بَلْ زَجَرَ عَنْ الشّرْبِ قَائِمًا وَشَرِبَ مَرّةً قَائِمًا [ ص 144 ] فَقِيلَ هَذَا نَسْخٌ لِنَهْيِهِ وَقِيلَ بَلْ فَعَلَهُ لِبَيَانِ جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ وَاَلّذِي يَظْهَرُ فِيهِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَنّهَا وَاقِعَةُ عَيْنٍ شَرِبَ فِيهَا قَائِمًا لِعُذْرٍ وَسِيَاقُ الْقِصّةِ يَدُلّ عَلَيْهِ فَإِنّهُ أَتَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْهَا فَأَخَذَ الدّلْوَ وَشَرِبَ قَائِمًا . وَالصّحِيحُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ النّهْيُ عَنْ الشّرْبِ قَائِمًا وَجَوَازُهُ لِعُذْرٍ يَمْنَعُ مِنْ الْقُعُودِ وَبِهَذَا تُجْمِعُ أَحَادِيثُ الْبَابِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَكَانَ إذَا شَرِبَ نَاوَلَ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ أَكْبَرَ مِنْهُ [ ص 145 ] .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 205)
فَصْلٌ [ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الشّرَابِ ]
[شُرْبُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَسَلَ الْمَمْزُوجَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَفَوَائِدُهُ ](3/384)
وَأَمّا هَدْيُهُ فِي الشّرَابِ فَمِنْ أَكْمَلِ هَدْيٍ يُحْفَظُ بِهِ الصّحّةُ فَإِنّهُ كَانَ يَشْرَبُ الْعَسَلَ الْمَمْزُوجَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَفِي هَذَا مِنْ حِفْظِ الصّحّةِ مَا لَا يَهْتَدِي إلَى مَعْرِفَتِهِ إلّا أَفَاضِلُ الْأَطِبّاءِ فَإِنّ شُرْبَهُ وَلَعْقَهُ عَلَى الرّيقِ يُذِيبُ الْبَلْغَمَ وَيَغْسِلُ خَمْلَ الْمَعِدَةِ وَيَجْلُو لُزُوجَتَهَا وَيَدْفَعُ عَنْهَا الْفَضَلَاتِ [ ص 206 ] أَنْفَعُ لِلْمَعِدَةِ مِنْ كُلّ حُلْوٍ دَخَلَهَا وَإِنّمَا يَضُرّ بِالْعَرَضِ لِصَاحِبِ الصّفْرَاءِ لِحِدّتِهِ وَحِدّةِ الصّفْرَاءِ فَرُبّمَا هَيّجَهَا وَدَفْعُ مَضَرّتِهِ لَهُمْ بِالْخَلّ فَيَعُودُ حِينَئِذٍ لَهُمْ نَافِعًا جِدّا وَشُرْبُهُ أَنْفَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُتّخَذَةِ مِنْ السّكّرِ أَوْ أَكْثَرِهَا وَلَا سِيّمَا لِمَنْ لَمْ يَعْتَدْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ وَلَا أَلِفَهَا طَبْعُهُ فَإِنّهُ إذَا شَرِبَهَا لَا تُلَائِمُهُ مُلَاءَمَةَ الْعَسَلِ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ وَالْمُحَكّمُ فِي ذَلِكَ الْعَادَةُ فَإِنّهَا تَهْدِمُ أُصُولًا وَتَبْنِي أُصُولًا . وَأَمّا الشّرَابُ إذَا جُمِعَ وَصُفّيَ الْحَلَاوَةُ وَالْبُرُودَةُ فَمِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ لِلْبَدَنِ وَمِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ وَلِلْأَرْوَاحِ وَالْقُوَى وَالْكَبِدِ وَالْقَلْبِ عِشْقٌ شَدِيدٌ لَهُ وَاسْتِمْدَادٌ مِنْهُ وَإِذَا كَانَ فِيهِ الْوَصْفَانِ حَصَلَتْ بِهِ التّغْذِيَةُ وَتَنْفِيذُ الطّعَامِ إلَى الْأَعْضَاءِ وَإِيصَالُهُ إلَيْهَا أَتَمّ تَنْفِيذٍ .
[ مَنَافِعُ الْمَاءِ الْبَارِدِ ]
وَالْمَاءُ الْبَارِدُ رَطْبٌ يَقْمَعُ الْحَرَارَةَ وَيَحْفَظُ عَلَى الْبَدَنِ رُطُوبَاتِهِ الْأَصْلِيّةَ وَيَرُدّ عَلَيْهِ بَدَلَ مَا تَحَلّلَ مِنْهَا وَيُرَقّقُ الْغِذَاءَ وَيُنْفِذُهُ فِي الْعُرُوقِ .
[ هَلْ الْمَاءُ الْبَارِدُ يُغَذّي الْبَدَنَ ]
وَاخْتَلَفَ الْأَطِبّاءُ هَلْ يُغَذّي الْبَدَنَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَأَثْبَتَتْ طَائِفَةٌ التّغْذِيَةَ بِهِ بِنَاءً عَلَى مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ النّمُوّ وَالزّيَادَةِ وَالْقُوّةِ فِي الْبَدَنِ بِهِ وَلَا سِيّمَا عِنْدَ شِدّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ . قَالُوا : وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالنّبَاتِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ مِنْهَا : النّمُوّ وَالِاغْتِذَاءُ وَالِاعْتِدَالُ وَفِي النّبَاتِ قُوّةُ حِسّ تُنَاسِبُهُ وَلِهَذَا كَانَ غِذَاءُ النّبَاتِ بِالْمَاءِ فَمَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَيَوَانِ بِهِ نَوْعُ غِذَاءٍ وَأَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ غِذَائِهِ التّامّ . قَالُوا : وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنّ قُوّةَ الْغِذَاءِ وَمُعْظَمَهُ فِي الطّعَامِ وَإِنّمَا أَنْكَرْنَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَاءِ تَغْذِيَةٌ الْبَتّةَ . قَالُوا : وَأَيْضًا الطّعَامُ إنّمَا يُغَذّي بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَائِيّةِ وَلَوْلَاهَا لَمَا حَصَلَتْ بِهِ التّغْذِيَةُ . [ ص 207 ] قَالُوا : وَلِأَنّ الْمَاءَ مَادّةُ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَالنّبَاتِ وَلَا رَيْبَ أَنّ مَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى مَادّةِ الشّيْءِ حَصَلَتْ بِهِ التّغْذِيَةُ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ مَادّتَهُ الْأَصْلِيّةَ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ } [ الْأَنْبِيَاءِ 30 ] فَكَيْفَ نُنْكِرُ حُصُولَ التّغْذِيَةِ بِمَا هُوَ مَادّةُ الْحَيَاةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؟ . قَالُوا : وَقَدْ رَأَيْنَا الْعَطْشَانَ إذَا حَصَلَ لَهُ الرّيّ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ تَرَاجَعَتْ إلَيْهِ قُوَاهُ وَنَشَاطُهُ وَحَرَكَتُهُ وَصَبَرَ عَنْ الطّعَامِ وَانْتَفَعَ بِالْقَدْرِ الْيَسِيرِ مِنْهُ وَرَأَيْنَا الْعَطْشَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْقَدْرِ الْكَثِيرِ مِنْ الطّعَامِ وَلَا يَجِدُ بِهِ الْقُوّةَ وَالِاغْتِذَاءَ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنّ الْمَاءَ يُنْفِذُ الْغِذَاءَ إلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَإِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَأَنّهُ لَا يَتِمّ أَمْرُ الْغِذَاءِ إلّا بِهِ وَإِنّمَا نُنْكِرُ عَلَى مَنْ سَلَبَ قُوّةَ التّغْذِيَةِ عَنْهُ الْبَتّةَ وَيَكَادُ قَوْلُهُ عِنْدَنَا يَدْخُلُ فِي إنْكَارِ الْأُمُورِ الْوِجْدَانِيّةِ .
[ مَنْ أَنْكَرَ حُصُولَ التّغْذِيَةِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ ](3/385)
وَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى حُصُولَ التّغْذِيَةِ بِهِ وَاحْتَجّتْ بِأُمُورٍ يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِهِ وَأَنّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الطّعَامِ وَأَنّهُ لَا يَزِيدُ فِي نُمُوّ الْأَعْضَاءِ وَلَا يُخَلّفُ عَلَيْهَا بَدَلَ مَا حَلّلَتْهُ الْحَرَارَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمّا لَا يُنْكِرُهُ أَصْحَابُ التّغْذِيَةِ فَإِنّهُمْ يَجْعَلُونَ تَغْذِيَتَهُ بِحَسَبِ جَوْهَرِهِ وَلَطَافَتِهِ وَرِقّتِهِ وَتَغْذِيَةُ كُلّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ وَقَدْ شُوهِدَ الْهَوَاءُ الرّطْبُ الْبَارِدُ اللّيّنُ اللّذِيذُ يُغَذّي بِحَسْبِهِ وَالرّائِحَةُ الطّيّبَةُ تُغَذّي نَوْعًا مِنْ الْغِذَاءِ فَتَغْدِيَةُ الْمَاءِ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنّهُ إذَا كَانَ بَارِدًا وَخَالَطَهُ مَا يُحَلّيهِ كَالْعَسَلِ أَوْ الزّبِيبِ أَوْ التّمْرِ أَوْ السّكّرِ كَانَ مِنْ أَنْفَعِ مَا يَدْخُلُ الْبَدَنَ وَحَفِظَ عَلَيْهِ صِحّتَهُ فَلِهَذَا كَانَ أَحَبّ الشّرَابِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَارِدَ الْحُلْوَ . وَالْمَاءُ الْفَاتِرُ يَنْفُخُ وَيَفْعَلُ ضِدّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ .
[ مَنَافِعُ الْمَاءِ الْبَائِتِ ]
وَلَمّا كَانَ الْمَاءُ الْبَائِتُ أَنْفَعَ مِنْ الّذِي يُشْرَبُ وَقْتَ اسْتِقَائِهِ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ دَخَلَ إلَى حَائِطِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التّيْهَانِ [ ص 208 ] هَلْ مِنْ مَاءٍ بَاتَ فِي شَنّةٍ ؟ " فَأَتَاهُ بِهِ فَشَرِبَ مِنْهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَلَفْظُهُ إنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنّةٍ وَإِلّا كَرَعْنَا . وَالْمَاءُ الْبَائِتُ بِمَنْزِلَةِ الْعَجِينِ الْخَمِيرِ وَاَلّذِي شُرِبَ لِوَقْتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْفَطِيرِ وَأَيْضًا فَإِنّ الْأَجْزَاءَ التّرَابِيّةَ وَالْأَرْضِيّةَ تُفَارِقُهُ إذَا بَاتَ وَقَدْ ذُكِرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ وَيُخْتَارُ الْبَائِتُ مِنْهُ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُسْتَقَى لَهُ الْمَاءُ الْعَذْبُ مِنْ بِئْرِ السّقْيَا .
[ الْمَاءُ الّذِي فِي الْقِرَبِ وَالشّنَانِ أَلَذّ مِنْ الّذِي فِي آنِيَةِ الْفَخّارِ وَالْأَحْجَارِ وَغَيْرِهِمَا ]
وَالْمَاءُ الّذِي فِي الْقِرَبِ وَالشّنَانِ أَلَذّ مِنْ الّذِي يَكُونُ فِي آنِيَةِ الْفَخّارِ وَالْأَحْجَارِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا سِيّمَا أَسْقِيَةَ الْأُدُمِ وَلِهَذَا الْتَمَسَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَاءً بَاتَ فِي شَنّةٍ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَوَانِي وَفِي الْمَاءِ إذَا وُضِعَ فِي الشّنَانِ وَقِرَبِ الْأُدُمِ خَاصّةٌ لَطِيفَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَسَامّ الْمُنْفَتِحَةِ الّتِي يَرْشَحُ مِنْهَا الْمَاءُ وَلِهَذَا كَانَ الْمَاءُ فِي الْفَخّارِ الّذِي يَرْشَحُ أَلَذّ مِنْهُ وَأَبْرَدَ فِي الّذِي لَا يَرْشَحُ فَصَلَاةُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى أَكْمَلِ الْخَلْقِ وَأَشْرَفِهِمْ نَفْسًا وَأَفْضَلِهِمْ هَدْيًا فِي كُلّ شَيْءٍ لَقَدْ دَلّ أُمّتَهُ عَلَى أَفْضَلِ الْأُمُورِ وَأَنْفَعِهَا لَهُمْ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالدّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
[ مَعْنَى الْحُلْوَ الْبَارِدَ ]
قَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ أَحَبّ الشّرَابِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحُلْوَ الْبَارِدَ . وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَاءَ الْعَذْبَ كَمِيَاهِ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ [ ص 209 ] كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَاءَ الْمَمْزُوجَ بِالْعَسَلِ أَوْ الّذِي نُقِعَ فِيهِ التّمْرُ أَوْ الزّبِيبُ . وَقَدْ يُقَالُ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - يَعُمّهُمَا جَمِيعًا .
[ مَعْنَى الْكَرْعِ وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ ](3/386)
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ إنْ كَانَ عِنْدَك مَاءٌ بَاتَ فِي شَنّ وَإِلّا كَرَعْنَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْكَرْعِ وَهُوَ الشّرْبُ بِالْفَمِ مِنْ الْحَوْضِ وَالْمِقْرَاةِ وَنَحْوِهَا وَهَذِهِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَاقِعَةُ عَيْنٍ دَعَتْ الْحَاجَةُ فِيهَا إلَى الْكَرْعِ بِالْفَمِ أَوْ قَالَهُ مُبَيّنًا لِجَوَازِهِ فَإِنّ مِنْ النّاسِ مَنْ يَكْرَهُهُ وَالْأَطِبّاءُ تَكَادُ تُحَرّمُهُ وَيَقُولُونَ إنّهُ يَضُرّ بِالْمَعِدَةِ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ لَا أَدْرِي مَا حَالُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَانَا أَنْ نَشْرَبَ عَلَى بُطُونِنَا وَهُوَ الْكَرْعُ وَنَهَانَا أَنْ نَغْتَرِفَ بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ وَقَالَ لَا يَلَغْ أَحَدُكُمْ كَمَا يَلَغُ الْكَلْبُ وَلَا يَشْرَبْ بِاللّيْلِ مِنْ إنَاءٍ حَتّى يَخْتَبِرَهُ إلّا أَنْ يَكُونَ مُخَمّرًا . وَحَدِيثُ الْبُخَارِيّ أَصَحّ مِنْ هَذَا وَإِنْ صَحّ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا إذْ لَعَلّ الشّرْبَ بِالْيَدِ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ حِينَئِذٍ فَقَالَ وَإِلّا كَرَعْنَا وَالشّرْبُ بِالْفَمِ إنّمَا يَضُرّ إذَا انْكَبّ الشّارِبُ عَلَى وَجْهِهِ وَبَطْنِهِ كَاَلّذِي يَشْرَبُ مِنْ النّهْرِ وَالْغَدِيرِ فَأَمّا إذَا شَرِبَ مُنْتَصِبًا بِفَمِهِ مِنْ حَوْضٍ مُرْتَفِعٍ وَنَحْوِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَ بِيَدِهِ أَوْ بِفَمِهِ .
فَصْلٌ [ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ الشّرْبِ قَائِمًا ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ الشّرْبُ قَاعِدًا هَذَا كَانَ هَدْيَهُ الْمُعْتَادَ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ [ ص 210 ] نَهَى عَنْ الشّرْبِ قَائِمًا وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ الّذِي شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَسْتَقِيئَ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ شَرِبَ قَائِمًا . قَالَتْ طَائِفَةٌ هَذَا نَاسِخٌ لِلنّهْيِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بَلْ مُبَيّنٌ أَنّ النّهْيَ لَيْسَ لِلتّحْرِيمِ بَلْ لِلْإِرْشَادِ وَتَرْكِ الْأَوْلَى وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا فَإِنّهُ إنّمَا شَرِبَ قَائِمًا لِلْحَاجَةِ فَإِنّهُ جَاءَ إلَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْهَا فَاسْتَقَى فَنَاوَلُوهُ الدّلْوَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ وَهَذَا كَانَ مَوْضِعَ حَاجَةٍ .
[ آفَاتُ الشّرْبِ قَائِمًا ]
وَلِلشّرْبِ قَائِمًا آفَاتٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا : أَنّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الرّيّ التّامّ وَلَا يَسْتَقِرّ فِي الْمَعِدَةِ حَتّى يَقْسِمَهُ الْكَبِدُ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَيَنْزِلَ بِسُرْعَةٍ وَحِدّةٍ إلَى الْمَعِدَةِ فَيُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُبْرِدَ حَرَارَتَهَا وَيُشَوّشَهَا وَيُسْرِعَ النّفُوذَ إلَى أَسْفَلِ الْبَدَنِ بِغَيْرِ تَدْرِيجٍ وَكُلّ هَذَا يَضُرّ بِالشّارِبِ وَأَمّا إذَا فَعَلَهُ نَادِرًا أَوْ لِحَاجَةٍ لَمْ يَضُرّهُ وَلَا يُعْتَرَضُ بِالْعَوَائِدِ عَلَى هَذَا فَإِنّ الْعَوَائِدَ طَبَائِعُ ثَوَانٍ وَلَهَا أَحْكَامٌ أُخْرَى وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْخَارِجِ عَنْ الْقِيَاسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ .
فَصْلٌ [ تَنَفّسُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الشّرْبِ ثَلَاثًا ]
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَنَفّسُ فِي الشّرَابِ ثَلَاثًا وَيَقُولُ إنّهُ أَرْوَى وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ . الشّرَابُ فِي لِسَانِ الشّارِعِ وَحَمَلَةُ الشّرْعِ هُوَ الْمَاءُ وَمَعْنَى تَنَفّسِهِ فِي الشّرَابِ إبَانَتُهُ الْقَدَحَ عَنْ فِيهِ وَتَنَفّسُهُ خَارِجَهُ ثُمّ يَعُودُ إلَى الشّرَابِ كَمَا جَاءَ مُصَرّحًا بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفّسْ فِي الْقَدَحِ وَلَكِنْ لِيُبِنّ الْإِنَاءَ عَنْ فِيهِ . [ ص 211 ]
[فَوَائِدُ تَكْرَارِ الشّرْبِ ](3/387)
وَفِي هَذَا الشّرْبِ حِكَمٌ جَمّةٌ وَفَوَائِدُ مُهِمّةٌ وَقَدْ نَبّهَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَجَامِعِهَا بِقَوْلِهِ إنّهُ أَرْوَى وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ فَأَرْوَى : أَشَدّ رِيّا وَأَبْلَغُهُ وَأَنْفَعُهُ وَأَبْرَأُ أَفْعَلُ مِنْ الْبُرْءِ وَهُوَ الشّفَاءُ أَيْ يُبْرِئُ مِنْ شَدّةِ الْعَطَشِ وَدَائِهِ لِتَرَدّدِهِ عَلَى الْمَعِدَةِ الْمُلْتَهِبَةِ دُفُعَاتٍ فَتُسْكِنُ الدّفْعَةُ الثّانِيَةُ مَا عَجَزَتْ الْأُولَى عَنْ تَسْكِينِهِ وَالثّالِثَةُ مَا عَجَزَتْ الثّانِيَةُ عَنْهُ وَأَيْضًا فَإِنّهُ أَسْلَمُ لِحَرَارَةِ الْمَعِدَةِ وَأَبْقَى عَلَيْهَا مِنْ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهَا الْبَارِدُ وَهْلَةً وَاحِدَةً وَنَهْلَةً وَاحِدَةً . وَأَيْضًا فَإِنّهُ لَا يَرْوِي لِمُصَادَفَتِهِ لِحَرَارَةِ الْعَطَشِ لَحْظَةً ثُمّ يُقْلِعُ عَنْهَا وَلَمّا تُكْسَرْ سَوْرَتُهَا وَحِدّتُهَا وَإِنْ انْكَسَرَتْ لَمْ تَبْطُلْ بِالْكُلّيّةِ بِخِلَافِ كَسْرِهَا عَلَى التّمَهّلِ وَالتّدْرِيجِ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ أَسْلَمُ عَاقِبَةً وَآمَنُ غَائِلَةً مِنْ تَنَاوُلِ جَمِيعِ مَا يُرْوِي دُفْعَةً وَاحِدَةً فَإِنّهُ يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يُطْفِئَ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ بِشِدّةِ بَرْدِهِ وَكَثْرَةِ كَمّيّتِهِ أَوْ يُضْعِفُهَا فَيُؤَدّي ذَلِكَ إلَى فَسَادِ مِزَاجِ الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَإِلَى أَمْرَاضٍ رَدِيئَةٍ خُصُوصًا فِي سُكّانِ الْبِلَادِ الْحَارّةِ كَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَنَحْوِهِمَا أَوْ فِي الْأَزْمِنَةِ الْحَارّةِ كَشِدّةِ الصّيْفِ فَإِنّ الشّرْبَ وَهْلَةً وَاحِدَةً مَخُوفٌ عَلَيْهِمْ جِدّا فَإِنّ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ ضَعِيفٌ فِي بَوَاطِنِ أَهْلِهَا وَفِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ الْحَارّةِ . [ ص 212 ]
[ مَعْنَى أَمْرَأُ ]
وَقَوْلُهُ " وَأَمْرَأُ هُوَ أَفْعَلُ مِنْ مَرِيءِ الطّعَامِ وَالشّرَابِ فِي بَدَنِهِ إذَا دَخَلَهُ وَخَالَطَهُ بِسُهُولَةٍ وَلَذّةٍ وَنَفْعٍ . وَمِنْهُ { فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } [ النّسَاءِ 4 ] هَنِيئًا فِي عَاقِبَتِهِ مَرِيئًا فِي مَذَاقِهِ . وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنّهُ أَسْرَعُ انْحِدَارًا عَنْ الْمَرِيءِ لِسُهُولَتِهِ وَخِفّتِهِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ فَإِنّهُ لَا يَسْهُلُ عَلَى الْمَرِيءِ انْحِدَارُهُ .
[ آفَاتُ الشّرْبِ نَهْلَةً وَاحِدَةً ]
وَمِنْ آفَاتِ الشّرْبِ نَهْلَةً وَاحِدَةً أَنّهُ يُخَافُ مِنْهُ الشّرَقُ بِأَنْ يَنْسَدّ مَجْرَى الشّرَابِ لِكَثْرَةِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ فَيَغَصّ بِهِ فَإِذَا تَنَفّسَ رُوَيْدًا ثُمّ شَرِبَ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ .
[فَوَائِدُ تَكْرَارِ الشّرْبِ ]
وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنّ الشّارِبَ إذَا شَرِبَ أَوّلَ مَرّةٍ تَصَاعَدَ الْبُخَارُ الدّخّانِيّ الْحَارّ الّذِي كَانَ عَلَى الْقَلْبِ وَالْكَبِدِ لِوُرُودِ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَيْهِ فَأَخْرَجَتْهُ الطّبِيعَةُ عَنْهَا فَإِذَا شَرِبَ مَرّةً وَاحِدَةً اتّفَقَ نُزُولُ الْمَاءِ الْبَارِدِ وَصُعُودُ الْبُخَارِ فَيَتَدَافَعَانِ وَيَتَعَالَجَانِ وَمِنْ ذَلِكَ يَحْدُثُ الشّرَقُ وَالْغُصّةُ وَلَا يَتَهَنّأُ الشّارِبُ بِالْمَاءِ وَلَا يُمْرِئْهُ وَلَا يَتِمّ رِيّهُ . وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصّ الْمَاءَ مَصّا وَلَا يَعُبّ عَبّا فَإِنّهُ مِنْ الْكُبَادِ .
[وُرُودُ الْمَاءِ عَلَى الْكَبِدِ جُمْلَةً وَاحِدَةً يُؤْلِمُهَا ]
وَالْكُبَادُ - بِضَمّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ - هُوَ وَجَعُ الْكَبِدِ وَقَدْ عُلِمَ بِالتّجْرِبَةِ أَنّ وُرُودَ الْمَاءِ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى الْكَبِدِ يُؤْلِمُهَا وَيُضْعِفُ حَرَارَتَهَا وَسَبَبُ ذَلِكَ الْمُضَادّةُ الّتِي بَيْنَ حَرَارَتِهَا وَبَيْنَ مَا وَرَدَ عَلَيْهَا مِنْ كَيْفِيّةِ الْمَبْرُودِ وَكَمّيّتِهِ . وَلَوْ وَرَدَ بِالتّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا لَمْ يُضَادّ حَرَارَتَهَا وَلَمْ يُضْعِفْهَا وَهَذَا مِثَالُهُ صَبّ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الْقِدْرِ وَهِيَ تَفُورُ لَا يَضُرّهَا صَبّهُ قَلِيلًا قَلِيلًا . وَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَشْرَبُوا نَفَسًا وَاحِدًا كَشُرْبِ الْبَعِيرِ وَلَكِنْ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثُلَاثَ وَسَمّوا إذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ وَاحْمَدُوا إذَا أَنْتُمْ فَرَغْتُمْ [ ص 213 ]
[فَوَائِدُ التّسْمِيَةِ ]
وَلِلتّسْمِيَةِ فِي أَوّلِ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَحَمْدِ اللّهِ فِي آخِرِهِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي نَفْعِهِ وَاسْتِمْرَائِهِ وَدَفْعِ مَضَرّتِهِ .(3/388)
[ كَمَالُ الطّعَامِ فِي التّسْمِيَةِ وَالْحَمْدِ وَتَكْثِيرِ الْأَيْدِي وَأَنْ يَكُونَ حَلَالًا ]
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إذَا جَمَعَ الطّعَامُ أَرْبَعًا فَقَدْ كَمُلَ إذَا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ فِي أَوّلِهِ وَحُمِدَ اللّهُ فِي آخِرِهِ وَكَثُرَتْ عَلَيْهِ الْأَيْدِي وَكَانَ مِنْ حِلّ .
فَصْلٌ [ تَغْطِيَةُ الْإِنَاءِ وَإِيكَاءُ السّقَاءِ ]
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ غَطّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السّقَاءَ فَإِنّ فِي السّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ لَا يَمُرّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ إلّا وَقَعَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الدّاءِ . وَهَذَا مِمّا لَا تَنَالُهُ عُلُومُ الْأَطِبّاءِ وَمَعَارِفُهُمْ وَقَدْ عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ عُقَلَاءُ النّاسِ بِالتّجْرِبَةِ . قَالَ اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ الْأَعَاجِمُ عِنْدَنَا يَتّقُونَ تِلْكَ اللّيْلَةَ فِي السّنَةِ فِي كَانُونَ الْأَوّلِ مِنْهَا . وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ بِتَخْمِيرِ الْإِنَاءِ وَلَوْ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ عُودًا . وَفِي عَرْضِ [ ص 214 ] الْعُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْحِكْمَةِ أَنّهُ لَا يَنْسَى تَخْمِيرَهُ بَلْ يَعْتَادُهُ حَتّى بِالْعُودِ وَفِيهِ أَنّهُ رُبّمَا أَرَادَ الدّبِيبُ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ فَيَمُرّ عَلَى الْعُودِ فَيَكُونُ الْعُودُ جِسْرًا لَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ السّقُوطِ فِيهِ . وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ عِنْدَ إيكَاءِ الْإِنَاءِ بِذِكْرِ اسْمِ اللّهِ فَإِنّ ذِكْرَ اسْمِ اللّهِ عِنْدَ تَخْمِيرِ الْإِنَاءِ يَطْرُدُ عَنْهُ الشّيْطَانَ وَإِيكَاؤُهُ يَطْرُدُ عَنْهُ الْهَوَامّ وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِذِكْرِ اسْمِ اللّهِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ .
[ النّهْيُ عَنْ الشّرْبِ مِنْ فَمِ السّقَاءِ وَالْآدَابُ الْمُتَرَتّبَةُ عَلَيْهِ ]
وَرَوَى الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ الشّرْبِ مِنْ فِي السّقَاءِ . وَفِي هَذَا آدَابٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا : أَنّ تَرَدّدَ أَنْفَاسِ الشّارِبِ فِيهِ يُكْسِبُهُ زُهُومَةً وَرَائِحَةً كَرِيهَةً يُعَافُ لِأَجْلِهَا . وَمِنْهَا : أَنّهُ رُبّمَا غَلَبَ الدّاخِلُ إلَى جَوْفِهِ مِنْ الْمَاءِ فَتَضَرّرَ بِهِ . وَمِنْهَا : أَنّهُ رُبّمَا كَانَ فِيهِ حَيَوَانٌ لَا يَشْعُرُ بِهِ فَيُؤْذِيهِ . وَمِنْهَا : أَنّ الْمَاءَ رُبّمَا كَانَ فِيهِ قَذَاةٌ أَوْ غَيْرُهَا لَا يَرَاهَا عِنْدَ الشّرْبِ فَتَلِجُ جَوْفَهُ . وَمِنْهَا : أَنّ الشّرْبَ كَذَلِكَ يَمْلَأُ الْبَطْنَ مِنْ الْهَوَاءِ فَيَضِيقُ عَنْ أَخْذِ حَظّهِ مِنْ الْمَاءِ أَوْ يُزَاحِمُهُ أَوْ يُؤْذِيهِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ .
[ ضَعْفُ حَدِيثِ الشّرْبِ مِنْ فَمِ الْإِدَاوَةِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا فِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعَا بِإِدَاوَةٍ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ اخْنِثْ فَمَ الْإِدَاوَةِ ثُمّ شَرِبَ مِنْهَا مِنْ فِيهَا ؟ قُلْنَا : [ ص 215 ] وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيّ يُضَعّفُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ وَلَا أَدْرِي سَمِعَ مِنْ عِيسَى أَوْ لَا انْتَهَى . يُرِيدُ عِيسَى بْنَ عَبْدِ اللّهِ الّذِي رَوَاهُ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ .
فَصْلٌ [ النّهْيُ عَنْ الشّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَبَيَانُ مَفَاسِدِهِ ](3/389)
وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الشّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يَنْفُخَ فِي الشّرَابِ وَهَذَا مِنْ الْآدَابِ الّتِي تَتِمّ بِهَا مَصْلَحَةُ الشّارِبِ فَإِنّ الشّرْبَ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ فِيهِ عِدّةُ مَفَاسِدَ أَحَدُهَا : أَنّ مَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ مِنْ قَذَى أَوْ غَيْرِهِ يَجْتَمِعُ إلَى الثّلْمَةِ بِخِلَافِ الْجَانِبِ الصّحِيحِ . الثّانِي : أَنّهُ رُبّمَا شَوّشَ عَلَى الشّارِبِ وَلَمْ يَتَمَكّنْ مِنْ حُسْنِ الشّرْبِ مِنْ الثّلْمَةِ . الثّالِثُ أَنّ الْوَسَخَ وَالزّهُومَةَ تَجْتَمِعُ فِي الثّلْمَةِ وَلَا يَصِلُ إلَيْهَا الْغَسْلُ كَمَا يَصِلُ إلَى الْجَانِبِ الصّحِيحِ . الرّابِعُ أَنّ الثّلْمَةَ مَحَلّ الْعَيْبِ فِي الْقَدَحِ وَهِيَ أَرْدَأُ مَكَانٍ فِيهِ فَيَنْبَغِي تَجَنّبُهُ وَقَصْدُ الْجَانِبِ الصّحِيحِ فَإِنّ الرّدِيءَ مِنْ كُلّ شَيْءٍ لَا خَيْرَ فِيهِ وَرَأَى بَعْضُ السّلَفِ رَجُلًا يَشْتَرِي حَاجَةً رَدِيئَةً فَقَالَ لَا تَفْعَلْ أَمَا عَلِمْتَ أَنّ اللّهَ نَزَعَ الْبَرَكَةَ مِنْ كُلّ رَدِيءٍ . [ ص 216 ] كَانَ فِي الثّلْمَةِ شَقّ أَوْ تَحْدِيدٌ يَجْرَحُ فَمَ الشّارِبِ وَلِغَيْرِ هَذِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ .
[ مَفَاسِدُ النّفْخِ فِي الشّرَابِ ]
وَأَمّا النّفْخُ فِي الشّرَابِ فَإِنّهُ يُكْسِبُهُ مِنْ فَمِ النّافِخِ رَائِحَةً كَرِيهَةً يُعَافُ لِأَجْلِهَا وَلَا سِيّمَا إنْ كَانَ مُتَغَيّرَ الْفَمِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَأَنْفَاسُ النّافِخِ تُخَالِطُهُ وَلِهَذَا جَمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ النّهْيِ عَنْ التّنَفّسِ فِي الْإِنَاءِ وَالنّفْخِ فِيهِ فِي الْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ التّرْمِذِيّ وَصَحّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُتَنَفّسَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ .
[ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَنَفّسُ فِي الشّرْبِ وَلَا يَتَنَفّسُ فِي الْإِنَاءِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَتَنَفّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا ؟ قِيلَ نُقَابِلُهُ بِالْقَبُولِ وَالتّسْلِيمِ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوّلِ فَإِنّ مَعْنَاهُ أَنّهُ كَانَ يَتَنَفّسُ فِي شُرْبِهِ ثَلَاثًا وَذَكَرَ الْإِنَاءَ لِأَنّهُ آلَةُ الشّرْبِ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ أَنّ إبْرَاهِيمَ ابْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَاتَ فِي الثّدْيِ أَيْ فِي مُدّةِ الرّضَاعِ .
فَصْلٌ [ شُرْبُ اللّبَنِ خَالِصًا وَمَشُوبًا بِالْمَاءِ وَمَنَافِعُهُ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَشْرَبُ اللّبَنَ خَالِصًا تَارَةً وَمَشُوبًا بِالْمَاءِ أُخْرَى . وَفِي شُرْبِ اللّبَنِ الْحُلْوِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ الْحَارّةِ خَالِصًا وَمَشُوبًا نَفْعٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ وَتَرْطِيبِ الْبَدَنِ وَرِيّ الْكَبِدِ وَلَا سِيّمَا اللّبَنَ الّذِي تَرْعَى دَوَابّهُ الشّيحَ وَالْقَيْصُومَ وَالْخُزَامَى [ ص 217 ] أَشْبَهَهَا فَإِنّ لَبَنَهَا غِذَاءٌ مَعَ الْأَغْذِيَةِ وَشَرَابٌ مَعَ الْأَشْرِبَةِ وَدَوَاءٌ مَعَ الْأَدْوِيَةِ وَفِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَإِذَا سُقِيَ لَبَنًا فَلْيَقُلْ اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ إلّا اللّبَنُ . قَالَ التّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
فَصْلٌ [ الِانْتِبَاذُ فِي الْمَاءِ ]
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُنْبَذُ لَهُ أَوّلَ اللّيْلِ وَيَشْرَبُهُ إذَا أَصْبَحَ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَاللّيْلَةَ الّتِيتَجِيءُ وَالْغَدَ وَاللّيْلَةَ الْأُخْرَى وَالْغَدَ إلَى الْعَصْرِ فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ سَقَاهُ الْخَادِمَ أَوْ أَمَرَ بِهِ فَصُبّ . وَهَذَا النّبِيذُ هُوَ مَا يُطْرَحُ فِيهِ تَمْرٌ يُحَلّيهِ وَهُوَ يَدْخُلُ فِي الْغِذَاءِ وَالشّرَابِ وَلَهُ نَفْعٌ عَظِيمٌ فِي زِيَادَةِ الْقُوّةِ وَحِفْظِ الصّحّةِ وَلَمْ يَكُنْ يَشْرَبُهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ خَوْفًا مِنْ تَغَيّرِهِ إلَى الْإِسْكَارِ .
* هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الطَّعَامِ:(3/390)
1ـ كان لا يرد موجودًا ولا يتكلف مفقودًا، فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أَكَلَهُ إلا أن تعافه نفسه؛ فيتركه من غير تحريم، ولا يحمل نفسه عليه على كُرْهٍ، وما عاب طَعَامًا قَطُّ، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، كما ترك أكل الضَّبِّ لمّا لم يعتده.
2ـ وكان يأكل ما تيسر، فإن أعوزه صبر، حتى إنه ليربط على بطنه الْحَجَرَ من الجوع، ويرى الهلال والهلال والهلال ولا يوقَد في بيته نار.
3ـ ولم يكن من هديه حبس النفس على نوع واحد من الأغذية لا يتعداه إلى ما سواه.
4ـ وأَكَل الحلوى وَالْعَسَلَ، وكان يحبهما، وَأَكَلَ لحم الْجَزُورِ، والضأن، والدجاج، ولحم الْحُبَّارَى، ولحم حمار الوحش، والأرنب، وطعام البحر، وأَكَلَ الشِّواء، وأكل الرُّطَبَ والتَّمرَ، وأكل الثَّرِيدَ؛ وهو: الخبز باللحم، وأكل الخبز بالزيت، وأكل القثاء بالرطب، وأكل الدُّباء المطبوخة وكان يحبها، وأكل القديد، وأكل التَّمر بالزبد.
5ـ وكان يحب اللحم، وأحبه إليه الذراع ومقدم الشاة.
6ـ وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها ولا يحتمي عنها.
7ـ وكان معظم مطعمه يوضع على الأرض في السفرة.
7ـ وكان يأمر بالأكل باليمين، وينهى عن الأكل بالشمال، ويقول: ((إن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله)) [م].
8ـ وكان يأكل بأصابعه الثلاث، ويلعقها إذا فرغ.
9ـ وكان لا يأكل متكئًا ـ والاتكاء على ثلاثة أنواع؛ أحدها: الاتكاء على الجنب، والثاني: التربع، والثالث: الاتكاء على إحدى يديه وأكله بالأخرى، والثلاث مذمومة ـ، وكان يأكل وهو مُقْعٍ، ـ والإقعاء: أن يجلس على أليتيه ناصبًا ساقيه ـ وقال: ((إنما أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد)) [السلسلة الصحيحة].
10ـ وكان إذا وضع يده في الطعام قال: ((بسم الله))، ويأمر الآكل بالتسمية، وقال: ((إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله؛ فليقل: بسم الله في أوَّلَهِ وآخره)). [صحيح الترمذي].
11ـ وقال: ((إن الشيطان ليستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه)) [م].
12ـ وكان يتحدث على طعامه، ويكرر على أضيافه عرض الأكل عليهم مرارًا؛ كما يفعله أهلُ الْكَرَمِ.
13ـ وكان إذا رُفِعَ الطعام من بين يديه يقول: ((الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه غير مَكْفيٍّ ولا مُوَدَّعٍ ولا مُستغنىً عنه ربُّنا)) [خ].
14ـ وكان يقول: ((الحمد لله الذي أطعم وأسقى وسوَّغه وجعل له مخرجًا)) [صحيح أبي داود].
15ـ وقال: من أكل طعامًا فقال: ((الحمد لله الذي أطعمني هذا من غير حول مني ولا قوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه)). [صحيح الترمذي].
16ـ وكان إذا أكل عند قوم لم يخرج حتى يدعو لهم، ويقول: ((أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وَصَلَّتْ عليكم الملائكة)) [صحيح أبي داود].
17ـ وكان يدعو لمن يضيف المساكين ويثني عليهم.
18ـ وكان لا يأنف من مؤاكلة أحدٍ صغيرًا كان أو كبيرًا، حرًّا أو عبدًا، أعرابيًّا أو مهاجرًا.
18ـ وكان إذا قُرِّب إليه طعامٌ وهو صائم، قال: ((إني صائم)) [ق]، وَأَمَرَ من قُرِّبَ إليه الطعام وهو صائم أن يصلي؛ أي: يدعو لمن قدمه، وإن كان مفطرًا أن يأكل منه.
19ـ وكان إذا دُعِيَ لطعام وتبعه أحدٌ أعلمَ به رَبَّ المنزلِ، وقال: ((إن هذا تَبِعَنَا؛ فإن شئت تأذن له، وإن شئت رجع)) [خ].
20ـ وأمر من شَكَوْا إليه أنهم لا يشبعون أن يجتمعوا على طعامهم ولا يتفرقوا، وأن يذكروا اسم الله عليه يُبارك لهم فيه.
21ـ وقال: ((ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنٍ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه؛ فإن كان لا بد فاعلاً، فثلث لطعامه، وثلث لِشَرَابِه، وثلث لِنَفَسِه)) [صحيح ابن ماجه].
22ـ ودخل منزله ليلة، فالتمس طعامًا فلم يجده، فقال: ((اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني)).
* هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الشَّرَابِ:
1ـ كان هديه في الشراب من أكمل هدي يحفظ به الصحة، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد. وكان يشرب اللبن خالصًا تارة، ومشوبًا بالماء أخرى، ويقول: ((اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإنه ليس شيئًا يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن)) [صحيح الترمذي].
2ـ ولم يكن من هديه أن يشرب على طعامه، وكان ينبذ له أول الليل ويشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجيء والغد والليلة الأخرى، والغد إلى العصر؛ فإن بقي منه شيء سقاه الخادم أو أمر به فصُبَّ.
(والنبيذ: هو ما يطرح فيه تَمْرٌ يُحَلِّيهِ. ولم يكن يشربه بعد ثلاث خوفًا من تغيره إلى الإسكار).
3ـ وكان من هديه المعتاد الشرب قاعدًا، وزجر عن الشرب قائمًا، وشرب مرة قائمًا، فقيل: لعذر، وقيل: نسخ لنهيه، وقيل: لجواز الأمر منه والنهي للكراهة.(3/391)
4ـ وكان يتنفس في الشراب ثلاثًا، ويقول: ((إنه أروى وأمرأ، وأبرأ)) [م]، (ومعنى تنفسه في الشراب: إبانته القدح عن فيه وتنفسه خارجه كما جاء في قوله: ((إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في القدح ولكن ليُبِن الإناء عن فيه)) [صحيح ابن ماجه]، ونهى أن يُشرب من ثلمة القدح، ومن فيِّ السقاء. (والثلمة: الفرجة والشق).
5ـ وكان يسمي إذا شرب ويحمد الله إذا فرغ وقال: ((إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة يحمده عليها، ويشرب الشَّربة يحمده عليها)) [م].
6ـ وكان يُسْتَعْذَب له الماء (وهو الطيب الذي لا ملوحة فيه) ويختار الْبَائِتَ منه.
7ـ وكان إذا شرب ناول من على يمينه وإن كان مَنْ على يساره أكبر منه.
8ـ وأمر بتخمير الإناء (أي تغطيته)، وإيكائه ولو أن يعرض عليه عودًا، وأن يذكر اسم الله عند ذلك. (والإيكاء: ربط فتحة الوعاء وشدُّها)
31. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الْسَّفَرِ
زاد المعاد - (ج 1 / ص 444)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَفَرِهِ وَعِبَادَتِهِ فِيهِ
كَانَتْ أَسْفَارُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَائِرَةً بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَسْفَارٍ سَفَرُهُ لِهِجْرَتِهِ وَسَفَرُهُ لِلْجِهَادِ وَهُوَ أَكْثَرُهَا وَسَفَرُهُ لِلْعُمْرَةِ وَسَفَرُهُ لِلْحَجّ . [ ص 445 ] وَكَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيّتُهُنّ خَرَجَ سَهْمُهَا سَافَرَ بِهَا مَعَهُ وَلَمّا حَجّ سَافَرَ بِهِنّ جَمِيعًا . وَكَانَ إذَا سَافَرَ خَرَجَ مِنْ أَوّلِ النّهَارِ وَكَانَ يَسْتَحِبّ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَدَعَا اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُبَارِكَ لِأُمّتِهِ فِي بُكُورِهَا وَكَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوّلِ النّهَارِ وَأَمَرَ الْمُسَافِرِينَ إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً أَنْ يُؤَمّرُوا أَحَدَهُمْ وَنَهَى أَنْ يُسَافِرَ الرّجُلُ وَحْدَه وَأَخْبَرَ أَنّ الرّاكِبَ شَيْطَانٌ وَالرّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثّلَاثَةُ رَكْبٌ وَذُكِرَ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ حِينَ يَنْهَضُ لِلسّفَرِ اللّهُمّ إلَيْك تَوَجّهْت وَبِكَ اعْتَصَمْت اللّهُمّ اكْفِنِي مَا أَهَمّنِي وَمَا لَا أَهْتَمّ بِهِ اللّهُمّ زَوّدْنِي التّقْوَى وَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَوَجّهْنِي لِلْخَيْرِ أَيْنَمَا تَوَجّهْتُ [ ص 446 ] وَكَانَ إذَا قَدِمَتْ إلَيْهِ دَابّتُهُ لِيَرْكَبَهَا يَقُولُ بِسْمِ اللّهِ حِينَ يَضَعُ رِجْلَهُ فِي الرّكَابِ وَإِذَا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنّا إلَى رَبّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ثُمّ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلّهِ الْحَمْدُ لِلّهِ الْحَمْدُ لِلّهِ ثُمّ يَقُولُ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ ثُمّ يَقُولُ سُبْحَانَكَ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إنّهُ لَا يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلّا أَنْتَ وَكَانَ يَقُولُ ( اللّهُمّ إنّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرّ وَالتّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللّهُمّ هَوّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنّا بُعْدَهُ اللّهُمّ أَنْتَ الصّاحِبُ فِي السّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنّ وَزَادَ فِيهِنّ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إذَا عَلَوْا الثّنَايَا كَبّرُوا وَإِذَا هَبَطُوا الْأَوْدِيَةَ سَبّحُوا . وَكَانَ إذَا أَشْرَفَ عَلَى قَرْيَةٍ يُرِيدُ دُخُولَهَا يَقُولُ اللّهُمّ رَبّ السّمَوَاتِ السّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ وَرَبّ الْأَرَضِينَ السّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبّ الشّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ وَرَبّ الرّيَاحِ وَمَا ذَرّيْنَ أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّهَا وَشَرّ أَهْلِهَا وَشَرّ مَا فِيهَا [ ص 447 ] وَذُكِرَ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ . وَخَيْرِ مَا جَمَعْتَ فِيهَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّهَا وَشَرّ مَا جَمَعْتَ فِيهَا اللّهُمّ اُرْزُقْنَا جَنَاهَا وَأَعِذْنَا مِنْ وَبَاهَا وَحَبّبْنَا إلَى أَهْلِهَا وَحَبّبْ صَالِحِي أَهْلِهَا إلَيْنَا
[ مَبْحَثٌ فِي قَصْرِ الصّلَاةِ ](3/392)
وَكَانَ يَقْصِرُ الرّبَاعِيّةَ فَيُصَلّيهَا رَكْعَتَيْنِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنّهُ أَتَمّ الرّبَاعِيّةَ فِي سَفَرِهِ أَلْبَتّةَ وَأَمّا حَدِيثُ عَائِشَةَ : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقْصُرُ فِي السّفَرِ وَيُتِمّ وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ فَلَا يَصِحّ . وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيّةَ يَقُولُ هُوَ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْتَهَى وَقَدْ رُوِيَ كَانَ يَقْصِرُ وَتُتِمّ الْأَوّلُ بِالْيَاءِ آخِرَ الْحُرُوفِ وَالثّانِي بِالتّاءِ الْمُثَنّاةِ مِنْ فَوْقٍ وَكَذَلِكَ يُفْطِرُ وَتَصُومُ أَيْ تَأْخُذُ هِيَ بِالْعَزِيمَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ تَيْمِيّةَ : وَهَذَا بَاطِلٌ مَا كَانَتْ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ [ ص 448 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ فَتُصَلّيَ خِلَافَ صَلَاتِهِمْ كَيْفَ وَالصّحِيحُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ إنّ اللّهَ فَرَضَ الصّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمّا هَاجَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرّتْ صَلَاةُ السّفَر فَكَيْفَ يُظَنّ بِهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ تُصَلّيَ بِخِلَافِ صَلَاةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ . قُلْت : وَقَدْ أَتَمّتْ عَائِشَةُ بَعْدَ مَوْتِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ وَغَيْرُهُ إنّهَا تَأَوّلَتْ كَمَا تَأَوّلَ عُثْمَانُ وَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقْصِرُ دَائِمًا فَرَكّبَ بَعْضُ الرّوَاةِ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا وَقَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْصُرُ وَتُتِمّ هِيَ فَغَلِطَ بَعْضُ الرّوَاةِ فَقَالَ كَانَ يَقْصُرُ وَيُتِمّ أَيْ هُوَ . وَالتّأْوِيلُ الّذِي تَأَوّلَتْهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ ظَنّتْ أَنّ الْقَصْرَ مَشْرُوطٌ بِالْخَوْفِ فِي السّفَرِ فَإِذَا زَالَ الْخَوْفُ زَالَ سَبَبُ الْقَصْرِ وَهَذَا التّأْوِيلُ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَافَرَ آمِنًا وَكَانَ يَقْصِرُ الصّلَاةَ وَالْآيَةُ قَدْ أَشْكَلَتْ عَلَى عُمَرَ وَعَلَى غَيْرِهِ فَسَأَلَ عَنْهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَجَابَهُ بِالشّفَاءِ وَأَنّ هَذَا صَدَقَةٌ مِنْ اللّهِ وَشَرْعٌ شَرَعَهُ لِلْأُمّةِ وَكَانَ هَذَا بَيَانَ أَنّ حُكْمَ الْمَفْهُومِ غَيْرُ مُرَادٍ [ ص 449 ] يُقَالُ إنّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ قَصْرًا يَتَنَاوَلُ قَصْرَ الْأَرْكَانِ بِالتّخْفِيفِ وَقَصْرَ الْعَدَدِ بِنُقْصَانِ رَكْعَتَيْنِ وَقُيّدَ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ الضّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفِ فَإِذَا وُجِدَ الْأَمْرَانِ أُبِيحَ الْقَصْرَانِ فَيُصَلّونَ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَقْصُورَةً عَدَدَهَا وَأَرْكَانَهَا وَإِنْ انْتَفَى الْأَمْرَانِ فَكَانُوا آمِنِينَ مُقِيمِينَ انْتَفَى الْقَصْرَانِ فَيُصَلّونَ صَلَاةً تَامّةً كَامِلَة وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُ السّبَبَيْنِ تَرَتّبَ عَلَيْهِ قَصْرُهُ وَحْدَهُ فَإِذَا وُجِدَ الْخَوْفُ وَالْإِقَامَةُ قُصِرَتْ الْأَرْكَانُ وَاسْتُوْفِيَ الْعَدَدُ وَهَذَا نَوْعُ قَصْرٍ وَلَيْسَ بِالْقَصْرِ الْمُطْلَقِ فِي الْآيَةِ فَإِنْ وُجِدَ السّفَرُ وَالْأَمْنُ قُصِرَ الْعَدَدُ وَاسْتُوْفِيَ الْأَرْكَانُ وَسُمّيَتْ صَلَاةَ أَمْنٍ وَهَذَا نَوْعُ قَصْرٍ وَلَيْسَ بِالْقَصْرِ الْمُطْلَقِ وَقَدْ تُسَمّى هَذِهِ الصّلَاةُ مَقْصُورَةً بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْعَدَدِ وَقَدْ تُسَمّى تَامّةً بِاعْتِبَارِ إتْمَامِ أَرْكَانِهَا وَأَنّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَصْرِ الْآيَةِ وَالْأَوّلُ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخّرِينَ وَالثّانِي يَدُلّ عَلَيْهِ كَلَامُ الصّحَابَةِ كَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبّاسٍ وَغَيْرِهِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ : فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمّا هَاجَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرّتْ صَلَاةُ السّفَرِ فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ صَلَاةَ السّفَرِ عِنْدَهَا غَيْرُ مَقْصُورَةٍ مِنْ أَرْبَعٍ وَإِنّمَا هِيَ مَفْرُوضَةٌ كَذَلِكَ وَأَنّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ . وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : فَرَضَ اللّهُ الصّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً مُتّفَقٌ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ(3/393)
اللّهُ عَنْهُ صَلَاةُ السّفَرِ رَكْعَتَانِ وَالْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَالْعِيدِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى [ ص 450 ] عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهُوَ الّذِي سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا بَالُنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنّا ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدَقَةٌ تَصَدّقَ بِهَا اللّهُ عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ حَدِيثَيْهِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا أَجَابَهُ بِأَنّ هَذِهِ صَدَقَةُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَدِينُهُ الْيُسْرُ السّمْحُ عَلِمَ عُمَرُ أَنّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ قَصْرَ الْعَدَدِ كَمَا فَهِمَهُ كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ فَقَالَ صَلَاةُ السّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ . وَعَلَى هَذَا فَلَا دِلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنّ قَصْرَ الْعَدَدِ مُبَاحٌ مَنْفِيّ عَنْهُ الْجُنَاحُ فَإِنْ شَاءَ الْمُصَلّي فَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ أَتَمّ . وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُوَاظِبُ فِي أَسْفَارِهِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يُرَبّعْ قَطّ إلّا شَيْئًا فَعَلَهُ فِي بَعْضِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ وَنُبَيّنُ مَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . وَقَالَ أَنَسٌ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ فَكَانَ يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتّى رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ مُتّفَقٌ عَلَيْهِ . وَلَمّا بَلَغَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ صَلّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَالَ إنّا لِلّهِ وَإِنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ صَلّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْر ٍ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ فَلَيْتَ حَظّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبّلَتَانِ [ ص 451 ] ابْنُ مَسْعُودٍ لِيَسْتَرْجِعَ مِنْ فِعْلِ عُثْمَانَ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ الْمُخَيّرِ بَيْنَهُمَا بَلْ الْأَوْلَى عَلَى قَوْلِ وَإِنّمَا اسْتَرْجَعَ لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ مُدَاوَمَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخُلَفَائِهِ عَلَى صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ فِي السّفَرِ . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ صَحِبْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانَ فِي السّفَرِ لَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ . يَعْنِي فِي صَدْرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَإِلّا فَعُثْمَانُ قَدْ أَتَمّ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَحَدَ الْأَسْبَابِ الّتِي أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ . وَقَدْ خَرَجَ لِفِعْلِهِ تَأْوِيلَاتٌ أَحَدُهَا : أَنّ الْأَعْرَابَ كَانُوا قَدْ حَجّوا تِلْكَ السّنَةِ فَأَرَادَ أَنْ يُعَلّمَهُمْ أَنّ فَرْضَ الصّلَاةِ أَرْبَعٌ لِئَلّا يَتَوَهّمُوا أَنّهَا رَكْعَتَانِ فِي الْحَضَرِ وَالسّفَرِ وَرُدّ هَذَا التّأْوِيلُ بِأَنّهُمْ كَانُوا أَحْرَى بِذَلِكَ فِي حَجّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَالْعَهْدُ بِالصّلَاةِ قَرِيبٌ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُرَبّعْ بِهِمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . التّأْوِيلُ الثّانِي : أَنّهُ كَانَ إمَامًا لِلنّاسِ وَالْإِمَامُ حَيْثُ نَزَلَ فَهُوَ عَمَلُهُ وَمَحَلّ وِلَايَتِهِ فَكَأَنّهُ وَطَنُهُ وَرُدّ هَذَا التّأْوِيلُ بِأَنّ إمَامَ الْخَلَائِقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ وَكَانَ هُوَ الْإِمَامَ الْمُطْلَقَ وَلَمْ يُرَبّعْ . التّأْوِيلُ الثّالِثُ أَنّ مِنًى كَانَتْ قَدْ بُنِيَتْ وَصَارَتْ قَرْيَةً كَثُرَ فِيهَا الْمَسَاكِنُ فِي عَهْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ كَانَتْ فَضَاءً وَلِهَذَا قِيلَ [ ص 452 ] بِمِنًى بَيْتًا يُظِلّكَ مِنْ الْحَرّ ؟ فَقَالَ لَا . مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ فَتَأَوّلَ عُثْمَانُ أَنّ الْقَصْرَ إنّمَا يَكُونُ فِي حَالِ السّفَرِ . وَرُدّ هَذَا التّأْوِيلُ بِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَقَامَ بِمَكّةَ عَشْرًا يَقْصُرُ الصّلَاةَ . التّأْوِيلُ الرّابِعُ أَنّهُ أَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا فَسَمّاهُ(3/394)
مُقِيمًا وَالْمُقِيمُ غَيْرُ مُسَافِرٍ وَرُدّ هَذَا التّأْوِيلُ بِأَنّ هَذِهِ إقَامَةٌ مُقَيّدَةٌ فِي أَثْنَاءِ السّفَرِ لَيْسَتْ بِالْإِقَامَةِ الّتِي هِيَ قَسِيمُ السّفَرِ وَقَدْ أَقَامَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ عَشْرًا يَقْصُرُ الصّلَاةَ وَأَقَامَ بِمِنًى بَعْدَ نُسُكِهِ أَيّامَ الْجِمَارِ الثّلَاثِ يَقْصُرُ الصّلَاةَ . التّأْوِيلُ الْخَامِسُ أَنّهُ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ وَالِاسْتِيطَانِ بِمِنًى وَاِتّخَاذِهَا دَارَ الْخِلَافَةِ فَلِهَذَا أَتَمّ ثُمّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَهَذَا التّأْوِيلُ أَيْضًا مِمّا لَا يَقْوَى فَإِنّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوّلِينَ وَقَدْ مَنَعَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ الْإِقَامَةِ بِمَكّةَ بَعْدَ نُسُكِهِمْ وَرَخّصَ لَهُمْ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ فَقَطْ فَلَمْ يَكُنْ عُثْمَانُ لِيُقِيمَ بِهَا وَقَدْ مَنَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ ذَلِكَ وَإِنّمَا رَخّصَ فِيهَا ثَلَاثًا وَذَلِكَ لِأَنّهُمْ تَرَكُوهَا لِلّهِ وَمَا تُرِكَ لِلّهِ فَإِنّهُ لَا يُعَادُ فِيهِ وَلَا يُسْتَرْجَعُ وَلِهَذَا مَنَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ شِرَاءِ الْمُتَصَدّقِ لِصَدَقَتِهِ وَقَالَ لِعُمَرَ : لَا تَشْتَرِهَا وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ [ ص 453 ] فَجَعَلَهُ عَائِدًا فِي صَدَقَتِهِ مَعَ أَخْذِهَا بِالثّمَنِ . التّأْوِيلُ السّادِسُ أَنّهُ كَانَ قَدْ تَأَهّلَ بِمِنًى وَالْمُسَافِرُ إذَا أَقَامَ فِي مَوْضِعٍ وَتَزَوّجَ فِيهِ أَوْ كَانَ لَهُ بِهِ زَوْجَةٌ أَتَمّ وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْأَزْدِيّ عَنْ ابْنِ أَبِي ذُبَابٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَلّى عُثْمَانُ بِأَهْلِ مِنًى أَرْبَعًا وَقَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ لَمّا قَدِمْتُ تَأَهّلْت بِهَا وَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ إذَا تَأَهّلَ الرّجُلُ بِبَلْدَةٍ فَإِنّهُ يُصَلّي بِهَا صَلَاةَ مُقِيم رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ فِي " مُسْنَدِهِ " وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ الْحُمَيْدِيّ فِي " مُسْنَدِهِ " أَيْضًا وَقَدْ أَعَلّهُ الْبَيْهَقِيّ بِانْقِطَاعِهِ وَتَضْعِيفِهِ عِكْرِمَةَ بْنِ إبْرَاهِيمَ . قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ تَيْمِيّةَ : وَيُمْكِنُ الْمُطَالَبَةُ بِسَبَبِ الضّعْفِ فَإِنّ الْبُخَارِيّ ذَكَرَهُ فِي " تَارِيخِهِ " وَلَمْ يَطْعَنْ فِيهِ وَعَادَتُهُ ذِكْرُ الْجَرْحِ وَالْمَجْرُوحِينَ وَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ وَابْنُ عَبّاسٍ قَبْلَهُ أَنّ الْمُسَافِرَ إذَا تَزَوّجَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِمَا وَهَذَا أَحْسَنُ مَا اُعْتُذِرَ بِهِ عَنْ عُثْمَانَ . وَقَدْ اُعْتُذِرَ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا كَانَتْ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ فَحَيْثُ نَزَلَتْ كَانَ وَطَنَهَا وَهُوَ أَيْضًا اعْتِذَارٌ ضَعِيفٌ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبُو الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا وَأُمُومَةُ أَزْوَاجِهِ فَرْعٌ عَنْ أُبُوّتِهِ وَلَمْ يَكُنْ يُتِمّ لِهَذَا السّبَبِ . وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنّهَا كَانَتْ تُصَلّي فِي السّفَرِ أَرْبَعًا فَقُلْت لَهَا : لَوْ صَلّيْتِ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِي إنّهُ لَا يَشُقّ عَلَيّ [ ص 454 ] قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ لَوْ كَانَ فَرْضُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ لَمَا أَتَمّهَا عُثْمَانُ وَلَا عَائِشَةُ وَلَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتِمّهَا مُسَافِرٌ مَعَ مُقِيمٍ وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ : كُلّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَمّ وَقَصَرَ ثُمّ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُلّ ذَلِكَ فَعَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَصَرَ الصّلَاةَ فِي السّفَرِ وَأَتَمّ . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ عَطَاءٍ وَأَصَحّ إسْنَادٍ فِيهِ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيّ عَنْ الدّارَقُطْنِيّ عَنْ الْمَحَامِلِيّ حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ ثَوّابٍ حَدّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقْصِرُ فِي الصّلَاةِ وَيُتِمّ وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ قَالَ الدّارَقُطْنِيّ : وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ . ثُمّ(3/395)
سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ النّيْسَابُورِي ّ عَنْ عَبّاسٍ الدّوْرِيّ أَنْبَأَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَد ِ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ حَتّى إذَا قَدِمَتْ مَكّةَ قَالَتْ يَا رَسُول اللّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي قَصَرْت وَأَتْمَمْت وَصُمْت وَأَفْطَرْت . قَالَ أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيّةَ يَقُولُ هَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ عَلَى عَائِشَةَ وَلَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ لِتُصَلّيَ بِخِلَافِ صَلَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَائِرِ الصّحَابَةِ وَهِيَ تُشَاهِدُهُمْ يَقْصُرُونَ ثُمّ تُتِمّ هِيَ وَحْدَهَا بِلَا مُوجِبٍ . كَيْفَ وَهِيَ الْقَائِلَةُ [ ص 455 ] فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرّتْ صَلَاةُ السّفَرِ فَكَيْفَ يُظَنّ أَنّهَا تَزِيدُ عَلَى مَا فَرَضَ اللّهُ وَتُخَالِفُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابَهُ . قَالَ الزّهْرِيّ لِعُرْوَةِ لَمّا حَدّثَهُ عَنْهَا بِذَلِكَ فَمَا شَأْنُهَا كَانَتْ تُتِمّ الصّلَاةَ ؟ فَقَالَ تَأَوّلَتْ كَمَا تَأَوّلَ عُثْمَانُ . فَإِذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ حَسّنَ فِعْلَهَا وَأَقَرّهَا عَلَيْهِ فَمَا لِلتّأْوِيلِ حِينَئِذٍ وَجْهٌ وَلَا يَصِحّ أَنْ يُضَافَ إتْمَامُهَا إلَى التّأْوِيلِ عَلَى هَذَا التّقْدِيرِ وَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ يَزِيدُ فِي السّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَلَا أَبُو بَكْر ٍ وَلَا عُمَرُ . أَفَيُظَنّ بِعَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ مُخَالَفَتُهُمْ وَهِيَ تَرَاهُمْ يَقْصُرُونَ ؟ وَأَمّا بَعْدَ مَوْتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهَا أَتَمّتْ كَمَا أَتَمّ عُثْمَانُ وَكِلَاهُمَا تَأَوّلَ تَأْوِيلًا وَالْحُجّةُ فِي رِوَايَتِهِمْ لَا فِي تَأْوِيلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِ لَهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ قَالَ أُمَيّةُ بْنُ خَالِدٍ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَر َ إنّا نَجِدُ صَلَاةَ الْحَضَرِ وَصَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السّفَرِ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَر َ يَا أَخِي إنّ اللّهَ بَعَثَ مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا فَإِنّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَا مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَفْعَلُ وَقَدْ قَالَ أَنَسٌ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَكّةَ فَكَانَ يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتّى رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ ابْنُ عُمَر َ : صَحِبْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأَبَا بَكْر ٍ وَعُمَر َ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَهَذِهِ كُلّهَا أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ . [ ص 456 ]
1ـ كان يستحب الخروج للسفر أول النهار، وفي يوم الخميس.
2ـ وكان يكره للمسافر وحده أن يسير بالليل، ويكره السفر للواحد.
3ـ وأمر المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمِّروا أحدهم.
4ـ وكان إذا ركب راحلته كبَّر ثلاثًا، ثم قال: ((سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون))، ثم يقول: ((اللهم إني أسألك في سفري هذا الْبِرَّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرَنا هذا وَاطْوِ عنَّا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا)) [م]، وكان إذا رجع من السَّفر زاد: ((آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون)) [صحيح الترمذي].
5ـ وكان إذا علا الثنايا كَبَّرَ، وإذا هبط الأودية سَبَّحَ، وقال له رجل: إني أريد سفرًا، قال: ((أوصيك بتقوى الله والتكبير على كل شرف)) [صحيح الترمذي].
6ـ وكان إذا بدا له الفجر في السَّفر قال: ((سَمِع سامع بحمد الله وحُسن بلائه علينا، رَبَّنا صاحبنا وأفضل علينا عائذًا بالله من النار)) [م].
7ـ وكان إذا ودَّع أصحابه في السفر يقول لأحدهم: ((أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك)) [صحيح الترمذي].
8ـ وقال: ((إذا نزل أحدكم منزلاً، فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه)) [م].
9ـ وكان يأمر المسافر إذا قضى نهمته من سفر أن يُعجِّل الرجوع إلى أهله.
10ـ وكان ينهى المرأة أن تسافر بغير مَحْرَم، ولو مسافة بريد، وينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو.(3/396)
11ـ ومنع من إقامة المسلم بين المشركين إذا قدر على الهجرة، وقال: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)) [صحيح أبي داود].
12ـ وقال: ((من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله)) [صحيح أبي داود].
13ـ وكان سفره أربعة أسفار: سفر للهجرة، وسفر للجهاد ـ وهو أكثرها ـ؛ وسفر للعمرة، وسفر للحج.
14ـ وقال: ((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)) [صحيح أبي داود].
15ـ وكان يقصر الرباعية في سفره، فيصليها ركعتين من حين يخرج إلى أن يرجع، وكان يقتصر على الفرض ما عدا الوتر وسنة الفجر.
16ـ ولم يحد لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر.
17ـ ولم يكن من هديه الجمع راكبًا في سفره، ولا الجمع حال نزوله، وإنما كان الجمع إذا جدَّ به السير، وإذا سار عقيب الصلاة، وكان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، فإن زالت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب، وكان إذا أعجله السير أخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء في وقت العشاء.
18ـ وكان يصلي التطوع بالليل والنهار على راحلته في السفر قِبَلَ أي وجه توجهت به، فيركع ويسجد عليها إيماء، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه.
19ـ وسافر في رمضان وأفطر وَخَيَّر الصحابة بين الأمرين.
20ـ وكان يلبس الخفاف في السفر دائمًا أو أغلب أحواله لحاجة الرجلين إلى ما يقيهما من الحر والبرد.
21ـ ونهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً إذا طالت غيبته عنهم.
22ـ وقال: ((لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس)) [م].
23ـ وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، وكان يُلَقَّى بالولدان من أهل بيته.
24ـ وكان يعتنق القادم من سفره، ويقبله إذا كان من أهله.
32. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ النَّوْمِ وَالاِسْتيِقَاظِ والرُؤْى
زاد المعاد - (ج 4 / ص 219)
فَصْلٌ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ النّوْمِ وَالْيَقَظَةِ
مَنْ تَدَبّرَ نَوْمَهُ وَيَقَظَتَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَدَهُ أَعْدَلَ نَوْمٍ وَأَنْفَعَهُ لِلْبَدَنِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى فَإِنّهُ كَانَ يَنَامُ أَوّلَ اللّيْلِ وَيَسْتَيْقِظُ فِي أَوّلِ النّصْفِ الثّانِي فَيَقُومُ وَيَسْتَاكُ وَيَتَوَضّأُ وَيُصَلّي مَا كَتَبَ اللّهُ لَهُ فَيَأْخُذُ الْبَدَنُ وَالْأَعْضَاءُ وَالْقُوَى حَظّهَا مِنْ النّوْمِ وَالرّاحَةِ وَحَظّهَا مِنْ الرّيَاضَةِ مَعَ وُفُورِ الْأَجْرِ وَهَذَا غَايَةُ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالدّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ النّوْمِ فَوْقَ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ وَلَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنْ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ مِنْهُ وَكَانَ يَفْعَلُهُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ فَيَنَامُ إذَا دَعَتْهُ الْحَاجَةُ إلَى النّوْمِ عَلَى شِقّهِ الْأَيْمَنِ ذَاكِرًا اللّهَ حَتّى تَغْلِبَهُ عَيْنَاهُ غَيْرَ مُمْتَلِئِ الْبَدَنِ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَلَا مُبَاشِرٍ بِجَنْبِهِ الْأَرْضَ وَلَا مُتّخِذٍ لِلْفُرَشِ الْمُرْتَفِعَةِ بَلْ لَهُ ضِجَاعٌ مَنْ أُدْمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ وَكَانَ يَضْطَجِعُ عَلَى الْوِسَادَةِ وَيَضَعُ يَدَهُ تَحْتَ خَدّهِ أَحْيَانًا . [ ص 220 ]
[ نَوْعَا النّوْمِ ]
[ النّوْمُ الطّبِيعِيّ ]
وَنَحْنُ نَذْكُرُ فَصْلًا فِي النّوْمِ وَالنّافِعِ مِنْهُ وَالضّارّ فَنَقُولُ النّوْمُ حَالَةٌ لِلْبَدَنِ يَتْبَعُهَا غَوْرُ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيّةِ وَالْقُوَى إلَى بَاطِنِ الْبَدَنِ لِطَلَبِ الرّاحَةِ وَهُوَ نَوْعَانِ طَبِيعِيّ وَغَيْرُ طَبِيعِيّ . فَالطّبِيعِيّ إمْسَاكُ الْقُوَى النّفْسَانِيّةِ عَنْ أَفْعَالِهَا وَهِيَ قُوَى الْحِسّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيّةِ وَمَتَى أَمْسَكَتْ هَذِهِ الْقُوَى عَنْ تَحْرِيكِ الْبَدَنِ اسْتَرْخَى وَاجْتَمَعَتْ الرّطُوبَاتُ وَالْأَبْخِرَةُ الّتِي كَانَتْ تَتَحَلّلُ وَتَتَفَرّقُ بِالْحَرَكَاتِ وَالْيَقَظَةِ فِي الدّمَاغِ الّذِي هُوَ مَبْدَأُ هَذِهِ الْقُوَى فَيَتَخَدّرُ وَيَسْتَرْخِي وَذَلِكَ النّوْمُ الطّبِيعِيّ .
[ النّوْمُ غَيْرُ الطّبِيعِيّ ]
وَأَمّا النّوْمُ غَيْرُ الطّبِيعِيّ فَيَكُونُ لِعَرَضٍ أَوْ مَرَضٍ وَذَلِكَ بِأَنْ تَسْتَوْلِيَ الرّطُوبَاتُ عَلَى الدّمَاغِ اسْتِيلَاءً لَا تَقْدِرُ الْيَقَظَةُ عَلَى تَفْرِيقِهَا أَوْ تَصْعَدُ أَبْخِرَةٌ رَطْبَةٌ كَثِيرَةٌ كَمَا يَكُونُ عَقِيبَ الِامْتِلَاءِ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ فَتُثْقِلُ الدّمَاغَ وَتُرْخِيهِ فَيَتَخَدّرُ وَيَقَعُ إمْسَاكُ الْقُوَى النّفْسَانِيّةِ عَنْ أَفْعَالِهَا فَيَكُونُ النّوْمُ .
[ فَائِدَتَا النّوْم ](3/397)
وَلِلنّوْمِ فَائِدَتَانِ جَلِيلَتَانِ إحْدَاهُمَا : سُكُونُ الْجَوَارِحِ وَرَاحَتُهَا مِمّا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ التّعَبِ فَيُرِيحُ الْحَوَاسّ مِنْ نَصْبِ الْيَقَظَةِ وَيُزِيلُ الْإِعْيَاءَ وَالْكَلَالَ . وَالثّانِيَةُ هَضْمُ الْغِذَاءِ وَنُضْجُ الْأَخْلَاطِ لِأَنّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ فِي وَقْتِ النّوْمِ تَغُورُ إلَى بَاطِنِ الْبَدَنِ فَتُعِينُ عَلَى ذَلِكَ وَلِهَذَا يَبْرُدُ ظَاهِرُهُ وَيَحْتَاجُ النّائِمُ إلَى فَضْلِ دِثَارٍ .
[أَنْفَعُ كَيْفِيّاتِ النّوْمِ ]
وَأَنْفَعُ النّوْمِ أَنْ يَنَامَ عَلَى الشّقّ الْأَيْمَنِ لِيَسْتَقِرّ الطّعَامُ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ فِي الْمَعِدَةِ اسْتِقْرَارًا حَسَنًا فَإِنّ الْمَعِدَةَ أَمْيَلُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ قَلِيلًا ثُمّ يَتَحَوّلُ إلَى الشّقّ الْأَيْسَرِ قَلِيلًا لِيُسْرِعَ الْهَضْمَ بِذَلِكَ لِاسْتِمَالَةِ الْمَعِدَةِ عَلَى الْكَبِدِ ثُمّ يَسْتَقِرّ نَوْمُهُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ لِيَكُونَ الْغِذَاءُ أَسْرَعَ انْحِدَارًا عَنْ الْمَعِدَةِ فَيَكُونُ النّوْمُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ بُدَاءَةَ نَوْمِهِ وَنِهَايَتَهُ وَكَثْرَةُ النّوْمِ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مُضِرّ بِالْقَلْبِ بِسَبَبِ مَيْلِ الْأَعْضَاءِ إلَيْهِ فَتَنْصَبّ إلَيْهِ الْمَوَادّ .
[ أَرْدَأُ نَوْعِيّاتِ النّوْمِ ]
وَأَرْدَأُ النّوْمِ النّوْمُ عَلَى الظّهْرِ وَلَا يَضُرّ الِاسْتِلْقَاءُ عَلَيْهِ لِلرّاحَةِ مِنْ غَيْرِ [ ص 221 ] سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ مَرّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى رَجُلٍ نَائِمٍ فِي الْمَسْجِدِ مُنْبَطِحٍ عَلَى وَجْهِهِ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ قُمْ أَوْ اُقْعُدْ فَإِنّهَا نَوْمَةٌ جَهَنّمِيّةٌ قَالَ إِبّقْرَاطُ فِي كِتَابِ " التّقْدِمَةِ " : وَأَمّا نَوْمُ الْمَرِيضِ عَلَى بَطْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَادَتَهُ فِي صِحّتِهِ جَرَتْ بِذَلِكَ يَدُلّ عَلَى اخْتِلَاطِ عَقْلٍ وَعَلَى أَلَمٍ فِي نَوَاحِي الْبَطْنِ قَالَ الشّرّاحُ لِكِتَابِهِ لِأَنّهُ خَالَفَ الْعَادَةَ الْجَيّدَةَ إلَى هَيْئَةٍ رَدِيئَةٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ وَلَا بَاطِنٍ .
[ مَنَافِعُ النّوْمِ الْمُعْتَدِلِ ]
وَالنّوْمُ الْمُعْتَدِلُ مُمَكّنٌ لِلْقُوَى الطّبِيعِيّةِ مِنْ أَفْعَالِهَا مُرِيحٌ لِلْقُوّةِ النّفْسَانِيّةِ مُكْثِرٌ مِنْ جَوْهَرِ حَامِلِهَا حَتّى إنّهُ رُبّمَا عَادَ بِرَخَائِهِ مَانِعًا مِنْ تَحَلّلِ الْأَرْوَاحِ .
[مَفَاسِدُ نَوْمِ النّهَارِ وَبِخَاصّةٍ آخِرُهُ ]
وَنَوْمُ النّهَارِ رَدِيءٌ يُورِثُ الْأَمْرَاضَ الرُطُوبِيّةَ وَالنّوَازِلَ وَيُفْسِدُ اللّوْنَ وَيُورِثُ الطّحَالَ وَيُرْخِي الْعَصَبَ وَيُكْسِلُ وَيُضْعِفُ الشّهْوَةَ إلّا فِي الصّيْفِ وَقْتَ الْهَاجِرَةِ وَأَرْدَؤُهُ نَوْمُ أَوّلِ النّهَارِ وَأَرْدَأُ مِنْهُ النّوْمُ آخِرَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَرَأَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ ابْنًا لَهُ نَائِمًا نَوْمَةَ الصّبْحَةِ فَقَالَ لَهُ قُمْ أَتَنَامُ فِي السّاعَةِ الّتِي تُقَسّمُ فِيهَا الْأَرْزَاق ؟ وَقِيلَ نَوْمُ النّهَارِ ثَلَاثَةٌ خُلُقٌ وَحُرَقٌ وَحُمْقٌ . فَالْخُلُقُ نَوْمَةُ الْهَاجِرَةِ وَهِيَ خُلُقُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَالْحُرَقُ نَوْمَةُ الضّحَى تَشْغَلُ عَنْ أَمْرِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَالْحُمْقُ نَوْمَةُ الْعَصْرِ . قَالَ بَعْضُ السّلَفِ مَنْ نَامَ بَعْدَ [ ص 222 ] يَلُومَن إلّا نَفْسَهُ . وَقَالَ الشّاعِرُ
أَلَا إنّ نَوْمَاتِ الضّحَى تُورِثُ الْفَتَى
خَبَالًا وَنَوْمَاتُ الْعُصَيْرِ جُنُونُ
[ مَفَاسِدُ نَوْمِ الصّبْحَةِ ]
وَنَوْمُ الصّبْحَةِ يَمْنَعُ الرّزْقَ لِأَنّ ذَلِكَ وَقْتٌ تَطْلُبُ فِيهِ الْخَلِيقَةُ أَرْزَاقَهَا وَهُوَ وَقْتُ قِسْمَةِ الْأَرْزَاقِ فَنَوْمُهُ حِرْمَانٌ إلّا لِعَارِضٍ أَوْ ضَرُورَةٍ وَهُوَ مُضِرّ جِدّا بِالْبَدَنِ لِإِرْخَائِهِ الْبَدَنَ وَإِفْسَادِهِ لِلْفَضَلَاتِ الّتِي يَنْبَغِي تَحْلِيلُهَا بِالرّيَاضَةِ فَيُحْدِثُ تَكَسّرًا وَعِيّا وَضَعْفًا . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التّبَرّزِ وَالْحَرَكَةِ وَالرّيَاضَةِ وَإِشْغَالِ الْمَعِدَةِ بِشَيْءٍ فَذَلِكَ الدّاءُ الْعُضَالُ الْمُوَلّدُ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْأَدْوَاءِ .
[ مَفَاسِدُ النّوْمِ فِي الشّمْسِ أَوْ بَعْضِهِ فِي الشّمْسِ ](3/398)
وَالنّوْمُ فِي الشّمْسِ يُثِيرُ الدّاءَ الدّفِينَ وَنَوْمُ الْإِنْسَانِ بَعْضَهُ فِي الشّمْسِ وَبَعْضَهُ فِي الظّلّ رَدِيءٌ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الشّمْسِ فَقَلَصَ عَنْهُ الظّلّ فَصَارَ بَعْضُهُ فِي الشّمْسِ وَبَعْضُهُ فِي الظّلّ فَلْيَقُمْ وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى أَنْ يَقْعُدَ الرّجُلُ بَيْنَ الظّلّ وَالشّمْسِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَنْعِ النّوْمِ بَيْنَهُمَا . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضّأْ وُضُوءَك لِلصّلَاةِ ثُمّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقّكَ الْأَيْمَنِ ثُمّ قُلْ اللّهُمّ إنّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْك وَوَجّهْتُ وَجْهِي إلَيْك وَفَوّضْتُ أَمْرِي إلَيْك وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْك رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْك إلّا إلَيْك آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الّذِي أَنْزَلْت وَنَبِيّكَ الّذِي أَرْسَلْت وَاجْعَلْهُنّ آخِرَ كَلَامِك فَإِنْ مُتّ مِنْ لَيْلَتِك مُتّ عَلَى الْفِطْرَةِ [ ص 223 ] وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا صَلّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ - يَعْنِي سُنّتَهَا - اضْطَجَعَ عَلَى شِقّهِ الْأَيْمَنِ
[ الْحِكْمَةُ مِنْ النّوْمِ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ]
وَقَدْ قِيلَ إنّ الْحِكْمَةَ فِي النّوْمِ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَنْ لَا يَسْتَغْرِقَ النّائِمُ فِي نَوْمِهِ لِأَنّ الْقَلْبَ فِيهِ مَيْلٌ إلَى جِهَةِ الْيَسَارِ فَإِذَا نَامَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ طَلَبَ الْقَلْبُ مُسْتَقَرّهُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ اسْتِقْرَارِ النّائِمِ وَاسْتِثْقَالِهِ فِي نَوْمِهِ بِخِلَافِ قَرَارِهِ فِي النّوْمِ عَلَى الْيَسَارِ فَإِنّهُ مُسْتَقَرّهُ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ الدّعَةُ التّامّةُ فَيَسْتَغْرِقُ الْإِنْسَانُ فِي نَوْمِهِ وَيَسْتَثْقِلُ فَيَفُوتُهُ مَصَالِحُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ .
[فَوَائِدُ الدّعَاءِ قَبْلَ النّوْمِ ]
وَلَمّا كَانَ النّائِمُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيّتِ وَالنّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ - وَلِهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى الْحَيّ الّذِي لَا يَمُوتُ وَأَهْلُ الْجَنّةِ لَا يَنَامُونَ فِيهَا - كَانَ النّائِمُ مُحْتَاجًا إلَى مَنْ يَحْرُسُ نَفْسَهُ وَيَحْفَظُهَا مِمّا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ الْآفَاتِ وَيَحْرُسُ بَدَنَهُ أَيْضًا مِنْ طَوَارِقِ الْآفَاتِ وَكَانَ رَبّهُ وَفَاطِرُهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلّيَ لِذَلِكَ وَحْدَهُ . عَلّمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّائِمَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَاتِ التّفْوِيضِ وَالِالْتِجَاءِ وَالرّغْبَةِ وَالرّهْبَةِ لِيَسْتَدْعِيَ بِهَا كَمَالَ حِفْظِ اللّهِ لَهُ وَحِرَاسَتِهِ لِنَفْسِهِ وَبَدَنِهِ وَأَرْشَدَهُ مَعَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَسْتَذْكِرَ الْإِيمَانَ وَيَنَامَ عَلَيْهِ وَيَجْعَلَ التّكَلّمَ بِهِ آخِرَ كَلَامِهِ فَإِنّهُ رُبّمَا تَوَفّاهُ اللّهُ فِي مَنَامِهِ فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ آخِرَ كَلَامِهِ دَخَلَ الْجَنّةَ فَتَضَمّنَ هَذَا الْهَدْيُ فِي الْمَنَامِ مَصَالِحَ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالرّوحِ فِي النّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَالدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَصَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ نَالَتْ بِهِ أُمّتُهُ كُلّ خَيْرٍ . [ ص 224 ] أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك أَيْ جَعَلْتهَا مُسَلّمَةً لَك تَسْلِيمَ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ نَفْسَهُ إلَى سَيّدِهِ وَمَالِكِهِ . وَتَوْجِيهٌ وَجّهَهُ إلَيْهِ يَتَضَمّنُ إقْبَالَهُ بِالْكُلّيّةِ عَلَى رَبّهِ وَإِخْلَاصَ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ لَهُ وَإِقْرَارَهُ بِالْخُضُوعِ وَالذّلّ وَالِانْقِيَادِ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ حَاجّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتّبَعَنِ } [ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الْآيَةِ 20 ] . وَذَكَرَ الْوَجْهَ إذْ هُوَ أَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ وَمَجْمَعُ الْحَوَاسّ وَأَيْضًا فَفِيهِ مَعْنَى التّوَجّهِ وَالْقَصْدِ مِنْ قَوْلِهِ
أَسْتَغْفِرُ اللّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَه ُ
رَبّ الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَل ُ(3/399)
وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْهِ رَدّهُ إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ سُكُونَ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتَهُ وَالرّضَى بِمَا يَقْضِيهِ وَيَخْتَارُهُ لَهُ مِمّا يُحِبّهُ وَيَرْضَاهُ وَالتّفْوِيضُ مِنْ أَشْرَفِ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيّةِ وَلَا عِلّةَ فِيهِ وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْخَاصّةِ خِلَافًا لِزَاعِمِي خِلَافِ ذَلِكَ . وَإِلْجَاءُ الظّهْرِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ يَتَضَمّنُ قُوّةَ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَالثّقَةَ بِهِ وَالسّكُونَ إلَيْهِ وَالتّوَكّلَ عَلَيْهِ فَإِنّ مَنْ أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ لَمْ يَخَفْ السّقُوطَ . وَلَمّا كَانَ لِلْقَلْبِ قُوّتَانِ قُوّةُ الطّلَبِ وَهِيَ الرّغْبَةُ وَقُوّةُ الْهَرَبِ وَهِيَ الرّهْبَةُ وَكَانَ الْعَبْدُ طَالِبًا لِمَصَالِحِهِ هَارِبًا مِنْ مَضَارّهِ جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ فِي هَذَا التّفْوِيضِ وَالتّوَجّهِ فَقَالَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك ثُمّ أَثْنَى عَلَى رَبّهِ بِأَنّهُ لَا مَلْجَأَ لِلْعَبْدِ سِوَاهُ وَلَا مَنْجَا لَهُ مِنْهُ غَيْرُهُ فَهُوَ الّذِي يَلْجَأُ إلَيْهِ الْعَبْدُ لِيُنَجّيَهُ مِنْ نَفْسِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِك وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الّذِي يُعِيذُ عَبْدَهُ وَيُنَجّيهِ مِنْ بَأْسِهِ الّذِي هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ [ ص 225 ] الْإِعَانَةُ وَمِنْهُ مَا يَطْلُبُ النّجَاةَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ الِالْتِجَاءُ فِي النّجَاةِ فَهُوَ الّذِي يُلْجَأُ إلَيْهِ فِي أَنْ يُنْجِيَ مِمّا مِنْهُ وَيُسْتَعَاذُ بِهِ مِمّا مِنْهُ فَهُوَ رَبّ كُلّ شَيْءٍ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إلّا بِمَشِيئَتِهِ { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلّا هُوَ } [ سُورَةِ الْأَنْعَامِ الْآيَةِ 17 ] { قُلْ مَنْ ذَا الّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } [ سُورَةِ الْأَحْزَابِ الْآيَةِ 17 ] ثُمّ خَتَمَ الدّعَاءَ بِالْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ بِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ الّذِي هُوَ مَلَاكُ النّجَاةِ وَالْفَوْزِ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهَذَا هَدْيُهُ فِي نَوْمِهِ .
لَوْ لَمْ يَقُلْ إنّي رَسُولٌ لَكَا نَ شَاهِدٌ فِي هَدْيِهِ يَنْطِقُ
فَصْلٌ [هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْيَقَظَةِ ]
وَأَمّا هَدْيُهُ فِي يَقَظَتِهِ فَكَانَ يَسْتَيْقِظُ إذَا صَاحَ الصّارِخُ وَهُوَ الدّيكُ فَيَحْمَدُ اللّهَ تَعَالَى وَيُكَبّرُهُ وَيُهَلّلُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمّ يَسْتَاكُ ثُمّ يَقُومُ إلَى وُضُوئِهِ ثُمّ يَقِفُ لِلصّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْ رَبّهِ مُنَاجِيًا لَهُ بِكَلَامِهِ مُثْنِيًا عَلَيْهِ رَاجِيًا لَهُ رَاغِبًا رَاهِبًا فَأَيّ حِفْظٍ لِصِحّةِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالرّوحِ وَالْقُوَى وَلِنَعِيمِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَوْقَ هَذَا .
زاد المعاد - (ج 2 / ص 419)
فَصْلٌ فِيمَا يَقُولُهُ مَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَكْرَهُهُ(3/400)
صَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الرّؤْيَا الصّالِحَةُ مِنْ اللّهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشّيْطَانِ ، فَمَنْ رَأَى رُؤْيَا يَكْرَهُ مِنْهَا شَيْئًا ، فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا ، وَلْيَتَعَوّذْ بِاَللّهِ مِنْ الشّيْطَانِ فَإِنّهَا لَا تَضُرّهُ وَلَا يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا . وَإِنْ رَأَى رُؤْيَا حَسَنَةً فَلْيَسْتَبْشِرْ وَلَا يُخْبِرْ بِهَا إلّا مَنْ يُحِبّ و َأَمَرَ مَنْ رَأَى مَا يَكْرَهُهُ أَنْ يَتَحَوّلَ عَنْ جَنْبِهِ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَلّيَ فَأَمَرَهُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ أَنْ يَنْفُثَ عَنْ يَسَارِهِ وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللّهِ مِنْ الشّيْطَانِ وَأَنْ لَا يُخْبِرَ بِهَا أَحَدًا ، وَأَنْ يَتَحَوّلَ عَنْ جَنْبِهِ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَقُومَ يُصَلّي ، وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَضُرّهُ الرّؤْيَا الْمَكْرُوهَةُ بَلْ هَذَا يَدْفَعُ شَرّهَا . وَقَالَ الرّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبّرْ ، فَإِذَا عُبّرَتْ وَقَعَتْ وَلَا يَقُصّهَا إلّا عَلَى وَادّ أَوْ ذِي رَأْي [ ص 420 ] وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إِذَا قُصّتْ عَلَيْهِ الرّؤْيَا ، قَالَ اللّهُمّ إنْ كَانَ خَيْرًا فَلَنَا ، وَإِنْ كَانَ شَرّا ، فَلِعَدُوّنَا وَيُذْكَرُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ رُؤْيَا ، فَلْيَقُلْ لِمَنْ عَرَضَ عَلَيْهِ خَيْرًا وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ لِلرّائِي قَبْلَ أَنْ يَعْبُرَهَا لَهُ خَيْرًا رَأَيْتَ ، ثُمّ يَعْبُرُهَا . وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، قَالَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْبُرَ رُؤْيَا ، قَالَ إنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكَ يَكُونُ كَذَا وَكَذَا
1ـ كان ينام على الفراش تارة، وعلى النطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة، وكان فراشه أدمًا حشوه ليف، وكذا وسادته.
2ـ ولم يكن يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه.
3ـ وكان ينام أول الليل ويقوم آخره، وربما سهر أول الليل في مصالح المسلمين.
4ـ وكان إذا عرَّس بليل اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عرَّس قبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه.
5ـ وكان إذا نام لم يوقظوه حتى يكون هو الذي يستيقظ، وكانت تنام عيناه ولا ينام قلبه.
6ـ وكان إذا أوى إلى فراشه للنوم قال: ((باسمك اللهم أحيا وأموت)) [خ]، وكان يجمع كفيه ثم ينفث فيهما، وكان يقرأ فيهما: المعوذتين والإخلاص، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. [خ].
7ـ وكان ينام على شقه الأيمن، ويضع يده تحت خَدِّه الأيمن، ثم يقول: ((اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك)) [صحيح أبي داود]. وقال لبعض أصحابه: ((إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، واجعلهن آخر كلامك، فإن مِتَّ من ليلتك مِتَّ على الفطرة)) [ق].
8ـ وكان إذا قام من الليل قال: ((اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) [م].
9ـ وكان إذا انتبه من نومه قال: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور))، ويتسوك، وربما قرأ العشر الآيات من آخر آل عمران، [ق].
10ـ وكان يستيقظ إذا صاح الصارخ ـ وهو الديك ـ؛ فيحمد الله ويكبره ويهلله ويدعوه.
هَدْيُهُ - صلى الله عليه وسلم -
11ـ وقال: ((الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فمن رأى رؤيا يكره منها شيئًا، فلينفث عن يساره ثلاثًا، وليتعوذ بالله من الشيطان؛ فإنها لا تضره، ولا يخبر بها أحدًا، وإن رأى رؤيا حسنة، فليستبشر، ولا يخبر بها إلا من يحب)) [ق]، وأمر من رأى ما يكره أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه، وأن يصلي.
33. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في النِّكَاحِ والْمُعَاشَرَةِ
زاد المعاد - (ج 2 / ص 415)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَذْكَارِ النّكَاحِ(3/401)
ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ عَلّمَهُمْ خُطْبَةَ الْحَاجَةِ الْحَمْدُ لِلّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَسَيّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَلَا مُضِلّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمّ يَقْرَأُ الْآيَاتِ الثّلَاثَ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنّ إِلّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آل عِمْرَانَ 102 ] ، { يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [ النّسَاءِ 1 ] { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [ الْأَحْزَابِ 70 - 71 ] . [ ص 416 ] قَالَ شُعْبَةُ : قُلْت لِأَبِي إسْحَاقَ هَذِهِ فِي خُطْبَةِ النّكَاحِ أَوْ فِي غَيْرِهَا ؟ قَالَ فِي كُلّ حَاجَةٍ . وَقَالَ إِذَا أَفَادَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً أَوْ خَادِمًا ، أَوْ دَابّةً فَلْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا ، وَلْيَدْعُ اللّهَ بِالْبَرَكَةِ وَيُسَمّي اللّهَ عَزّ وَجَلّ وَلْيَقُلْ اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّهَا وَشَرّ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ وَكَانَ يَقُولُ لِلْمُتَزَوّجِ بَارَكَ اللّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ . [ ص 417 ] وَقَالَ لَوْ أَنّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ ، قَالَ بِسْمِ اللّهِ اللّهُمّ جَنّبْنَا الشّيْطَانَ وَجَنّبْ الشّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا ، فَإِنّهُ إنْ يُقَدّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا
زاد المعاد - (ج 4 / ص 228)
فَصْلٌ هَدْيُهُ [صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْجِمَاعِ ]
[مَقَاصِدُ الْجِمَاعِ ]
وَأَمّا الْجِمَاعُ وَالْبَاهُ فَكَانَ هَدْيُهُ فِيهِ أَكْمَلَ هَدْيٍ يُحْفَظُ بِهِ الصّحّةُ وَتَتِمّ بِهِ اللّذّةُ وَسُرُورُ النّفْسِ وَيَحْصُلُ بِهِ مَقَاصِدُهُ الّتِي وُضِعَ لِأَجْلِهَا فَإِنّ الْجِمَاعَ وُضِعَ فِي الْأَصْلِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ هِيَ مَقَاصِدُهُ الْأَصْلِيّةُ أَحَدُهَا : حِفْظُ النّسْلِ وَدَوَامُ النّوْعِ إلَى أَنْ تَتَكَامَلَ الْعُدّةُ الّتِي قَدّرَ اللّهُ بُرُوزَهَا إلَى هَذَا الْعَالَمِ . الثّانِي . إخْرَاجُ الْمَاءِ الّذِي يَضُرّ احْتِبَاسُهُ وَاحْتِقَانُهُ بِجُمْلَةِ الْبَدَنِ . الثّالِثُ قَضَاءُ الْوَطَرِ وَنَيْلُ اللّذّةِ وَالتّمَتّعُ بِالنّعْمَةِ وَهَذِهِ وَحْدَهَا هِيَ الْفَائِدَةُ الّتِي فِي الْجَنّةِ إذْ لَا تَنَاسُلَ هُنَاكَ وَلَا احْتِقَانَ يَسْتَفْرِغُهُ الْإِنْزَالُ .
[ الْجِمَاعُ مِنْ أَسْبَابِ الصّحّةِ ](3/402)
وَفُضَلَاءُ الْأَطِبّاءِ يَرَوْنَ أَنّ الْجِمَاعَ مِنْ أَحَدِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ . قَالَ جالينوس : الْغَالِبُ عَلَى جَوْهَرِ الْمَنِيّ النّارُ وَالْهَوَاءُ وَمِزَاجُهُ حَارّ رَطْبٌ لِأَنّ كَوْنَهُ مِنْ الدّمِ الصّافِي الّذِي تَغْتَذِي بِهِ الْأَعْضَاءُ الْأَصْلِيّةُ وَإِذَا ثَبَتَ فَضْلُ الْمَنِيّ فَاعْلَمْ أَنّهُ لَا يَنْبَغِي إخْرَاجُهُ إلّا فِي طَلَبِ النّسْلِ أَوْ إخْرَاجُ الْمُحْتَقِنِ مِنْهُ فَإِنّهُ إذَا دَامَ احْتِقَانُهُ أَحْدَثَ أَمْرَاضًا رَدِيئَةً مِنْهَا : الْوَسْوَاسُ وَالْجُنُونُ وَالصّرَعُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَقَدْ يُبْرِئُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ كَثِيرًا فَإِنّهُ إذَا طَالَ احْتِبَاسُهُ فَسَدَ وَاسْتَحَالَ إلَى كَيْفِيّةٍ سُمّيّةٍ تُوجِبُ أَمْرَاضًا رَدِيئَةً كَمَا ذَكَرْنَا وَلِذَلِكَ تَدْفَعُهُ الطّبِيعَةُ بِالِاحْتِلَامِ إذَا كَثُرَ عِنْدَهَا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ . وَقَالَ بَعْضُ السّلَفِ يَنْبَغِي لِلرّجُلِ أَنْ يَتَعَاهَدَ مِنْ نَفْسِهِ ثَلَاثًا : أَنْ لَا يَدَعَ الْمَشْيَ فَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ يَوْمًا قَدَرَ عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدَعَ الْأَكْلَ فَإِنّ أَمْعَاءَهُ تَضِيقُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدَعَ الْجِمَاعَ فَإِنّ الْبِئْرَ إذَا لَمْ تُنْزَحْ ذَهَبَ مَاؤُهَا . وَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ زَكَرِيّا : مَنْ تَرَكَ الْجِمَاعَ مُدّةً طَوِيلَةً ضَعُفَتْ قُوَى أَعْصَابِهِ وَانْسَدّتْ مَجَارِيهَا وَتَقَلّصَ ذَكَرُهُ . قَالَ وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً تَرَكُوهُ لِنَوْعٍ مِنْ التّقَشّفِ فَبَرُدَتْ [ ص 229 ]
[ مَنَافِعُهُ ]
[ مَحَبّتُهُ لَهُ ]
وَمِنْ مَنَافِعِهِ غَضّ الْبَصَرِ وَكَفّ النّفْسِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْعِفّةِ عَنْ الْحَرَامِ وَتَحْصِيلُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ فَهُوَ يَنْفَعُ نَفْسَهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ وَيَنْفَعُ الْمَرْأَةَ وَلِذَلِكَ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَعَاهَدُهُ وَيُحِبّهُ وَيَقُولُ حُبّبَ إلَيّ مِنْ دُنْيَاكُمْ : النّسَاءُ وَالطّيبُ وَفِي كِتَابِ " الزّهْدِ " لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَصْبِرُ عَنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَلَا أَصْبِرُ عَنْهُنّ
[الْحَثّ عَلَى الزّوَاجِ ]
وَحَثّ عَلَى التّزْوِيجِ أُمّتَهُ فَقَالَ تَزَوّجُوا فَإِنّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ . وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً وَقَالَ إنّي أَتَزَوّجُ النّسَاءَ وَأَنَامُ وَأَقُومُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتِي فَلَيْسَ مِنّي . وَقَالَ يَا مَعْشَرَ الشّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوّجْ فَإِنّهُ أَغَضّ لِلْبَصَرِ وَأَحْفَظُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصّوْمِ فَإِنّهُ لَهُ وِجَاءٌ [ ص 230 ] وَلَمّا تَزَوّجَ جَابِرٌ ثَيّبًا قَالَ لَهُ هَلّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " : مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللّهَ طَاهِرًا مُطَهّرًا فَلْيَتَزَوّجْ الْحَرَائِرَ وَفِي " سُنَنِهِ " أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ يَرْفَعُهُ قَالَ لَمْ نَرَ لِلْمُتَحَابّيْنِ مِثْلَ النّكَاحِ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الدّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدّنْيَا الْمَرْأَةُ الصّالِحَةُ . وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُحَرّضُ أُمّتَهُ عَلَى نِكَاحِ الْأَبْكَارِ الْحِسَانِ وَذَوَاتِ الدّينِ وَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيّ النّسَاءِ خَيْرٌ ؟ [ ص 231 ] قَالَ الّتِي تَسُرّهُ إذَا نَظَرَ وَتُطِيعُهُ إذَا أَمَرَ وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ
[ الْحَثّ عَلَى نِكَاحِ الْوَلُودِ ](3/403)
وَكَانَ يُحِثّ عَلَى نِكَاحِ الْوَلُودِ وَيَكْرَهُ الْمَرْأَةُ الّتِي لَا تَلِدُ كَمَا فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ وَإِنّهَا لَا تَلِدُ أَفَأَتَزَوّجُهَا ؟ قَالَ " لَا " ثُمّ أَتَاهُ الثّانِيَةَ فَنَهَاهُ ثُمّ أَتَاهُ الثّالِثَةَ فَقَالَ تَزَوّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْهُ مَرْفُوعًا : أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ : النّكَاحُ وَالسّوَاكُ وَالتّعَطّرُ وَالْحِنّاءُ رُوِيَ فِي " الْجَامِعِ " بِالنّونِ وَالْيَاءِ وَسَمِعْت أَبَا الْحَجّاجِ الْحَافِظَ يَقُولُ الصّوَابُ أَنّهُ الْخِتَانُ وَسَقَطَتْ النّونُ مِنْ الْحَاشِيَةِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْمَحَامِلِيّ عَنْ شَيْخِ أَبِي عِيسَى التّرْمِذِيّ .
[ أُمُورٌ تَتَعَلّقُ بِمَا قَبْلَ الْجِمَاعِ ]
وَمِمّا يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ عَلَى الْجِمَاعِ مُلَاعَبَةُ الْمَرْأَةِ وَتَقْبِيلُهَا وَمَصّ [ ص 232 ] وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُلَاعِبُ أَهْلَهُ وَيُقَبّلُهَا . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُقَبّلُ عَائِشَةَ وَيَمُصّ لِسَانَهَا . وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْمُوَاقَعَةِ قَبْلَ الْمُلَاعَبَةِ .
[ الْغُسْلُ مِنْ الْجِمَاعِ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُبّمَا جَامَعَ نِسَاءَهُ كُلّهُنّ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ وَرُبّمَا اغْتَسَلَ عِنْدَ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ فَاغْتَسَلَ عِنْدَ كُلّ امْرَأَةٍ مِنْهُنّ غُسْلًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ اغْتَسَلْت غُسْلًا وَاحِدًا فَقَالَ هَذَا أَزْكَى وَأَطْهَرُ وَأَطْيَبُ وَشُرِعَ لِلْمُجَامِعِ إذَا أَرَادَ الْعَوْدَ قَبْلَ الْغَسْلِ الْوُضُوءُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضّأْ
[ مَنَافِعُ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ بَعْدَ الْوَطْءِ ]
وَفِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ بَعْدَ الْوَطْءِ مِنْ النّشَاطِ وَطِيبِ النّفْسِ وَإِخْلَافِ بَعْضِ مَا تَحَلّلَ بِالْجِمَاعِ وَكَمَالِ الطّهْرِ وَالنّظَافَةِ وَاجْتِمَاعِ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ إلَى [ ص 233 ] دَاخِلِ الْبَدَنِ بَعْدَ انْتِشَارِهِ بِالْجِمَاعِ وَحُصُولِ النّظَافَةِ الّتِي يُحِبّهَا اللّهُ وَيَبْغَضُ خِلَافَهَا مَا هُوَ مِنْ أَحْسَنِ التّدْبِيرِ فِي الْجِمَاعِ وَحِفْظِ الصّحّةِ وَالْقُوَى فِيهِ .
فَصْلٌ وَقْتُهُ
وَأَنْفَعُ الْجِمَاعِ : مَا حَصَلَ بَعْدَ الْهَضْمِ وَعِنْدَ اعْتِدَالِ الْبَدَنِ فِي حَرّهِ وَبَرْدِهِ وَيُبُوسَتِهِ وَرُطُوبَتِهِ وَخَلَائِهِ وَامْتِلَائِهِ . وَضَرَرُهُ عِنْدَ امْتِلَاءِ الْبَدَنِ أَسْهَلُ وَأَقَلّ مِنْ ضَرَرِهِ عِنْدَ خُلُوّهِ وَكَذَلِكَ ضَرَرُهُ عِنْدَ كَثْرَةِ الرّطُوبَةِ أَقَلّ مِنْهُ عِنْدَ الْيُبُوسَةِ وَعِنْدَ حَرَارَتِهِ أَقَلّ مِنْهُ عِنْدَ بُرُودَتِهِ وَإِنّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُجَامِعَ إذَا اشْتَدّتْ الشّهْوَةُ وَحَصَلَ الِانْتِشَارُ التّامّ الّذِي لَيْسَ عَنْ تَكَلّفٍ وَلَا فِكْرٍ فِي صُورَةٍ وَلَا نَظَرٍ مُتَتَابِعٍ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَدْعِيَ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ وَيَتَكَلّفَهَا وَيَحْمِلَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا وَلْيُبَادِرْ إلَيْهِ إذَا هَاجَتْ بِهِ كَثْرَةُ الْمَنِيّ وَاشْتَدّ شَبَقُهُ
[التّحْذِيرُ مِنْ جِمَاعِ الْعَجُوزِ وَالصّغِيرَةِ ]
وَلْيَحْذَرْ جِمَاعَ الْعَجُوزِ وَالصّغِيرَةِ الّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا وَاَلّتِي لَا شَهْوَةَ لَهَا وَالْمَرِيضَةُ وَالْقَبِيحَةُ الْمَنْظَرِ وَالْبَغِيضَةُ فَوَطْءُ هَؤُلَاءِ يُوهِنُ الْقُوَى وَيُضْعِفُ الْجِمَاعَ بِالْخَاصّيّةِ .
[ جِمَاعُ الثّيّبِ ](3/404)
وَغَلِطَ مَنْ قَالَ مِنْ الْأَطِبّاءِ إنّ جِمَاعَ الثّيّبِ أَنْفَعُ مِنْ جِمَاعِ الْبِكْرِ وَأَحْفَظُ لِلصّحّةِ وَهَذَا مِنْ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ حَتّى رُبّمَا حَذّرَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ عُقَلَاءُ النّاسِ وَلِمَا اتّفَقَتْ عَلَيْهِ الطّبِيعَةُ وَالشّرِيعَةُ .
[ أَسْبَابُ التّرْغِيبِ بِالْبِكْرِ ]
وَفِي جِمَاعِ الْبِكْرِ مِنْ الْخَاصّيّةِ وَكَمَالِ التّعَلّقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُجَامِعِهَا وَامْتِلَاءِ قَلْبِهَا مِنْ مَحَبّتِهِ وَعَدَمِ تَقْسِيمِ هَوَاهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مَا لَيْسَ لِلثّيّبِ . وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِجَابِرٍ هَلّا تَزَوّجْتَ بِكْرًا وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ كَمَالِ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنّةِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ أَنّهُنّ لَمْ يَطْمِثْهُنّ أَحَدٌ قَبْلَ مَنْ جُعِلْنَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرَأَيْتَ لَوْ مَرَرْتَ بِشَجَرَةٍ قَدْ أُرْتِعَ فِيهَا وَشَجَرَةٍ لَمْ يُرْتَعْ فِيهَا فَفِي أَيّهِمَا كُنْت تُرْتِعُ بَعِيرَك ؟ قَالَ فِي الّتِي لَمْ يُرْتَعْ فِيهَا [ ص 234 ] وَجِمَاعُ الْمَرْأَةِ الْمَحْبُوبَةِ فِي النّفْسِ يَقِلّ إضْعَافُهُ لِلْبَدَنِ مَعَ كَثْرَةِ اسْتِفْرَاغِهِ لِلْمَنِيّ وَجِمَاعُ الْبَغِيضَةِ يُحِلّ الْبَدَنَ وَيُوهِنُ الْقُوَى مَعَ قِلّةِ اسْتِفْرَاغِهِ وَجِمَاعُ الْحَائِضِ حَرَامٌ طَبْعًا وَشَرْعًا فَإِنّهُ مُضِرّ جِدّا وَالْأَطِبّاءُ قَاطِبَةً تُحَذّرُ مِنْهُ .
[ أَحْسَنُ أَشْكَالِهِ ]
وَأَحْسَنُ أَشْكَالِ الْجِمَاعِ أَنْ يَعْلُوَ الرّجُلُ الْمَرْأَةَ مُسْتَفْرِشًا لَهَا بَعْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْقُبْلَةِ وَبِهَذَا سُمّيَتْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ قَوّامِيّةِ الرّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاءِ } [ النّسَاءِ 34 ] وَكَمَا قِيلَ
إذَا رُمْتُهَا كَانَتْ فِرَاشًا يُقِلّنِي
وَعِنْدَ فَرَاغِي خَادِمٌ يَتَمَلّقُ
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { هُنّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ } [ الْبَقَرَةِ 187 ] وَأَكْمَلُ اللّبَاسِ وَأَسْبَغُهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فَإِنّ فِرَاشَ الرّجُلِ لِبَاسٌ لَهُ وَكَذَلِكَ لِحَافُ الْمَرْأَةِ لِبَاسٌ لَهَا فَهَذَا الشّكْلُ الْفَاضِلُ مَأْخُوذٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِهِ يَحْسُنُ مَوْقِعُ اسْتِعَارَةِ اللّبَاسِ مِنْ كُلّ مِنْ الزّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّهَا تَنْعَطِفُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا فَتَكُونُ عَلَيْهِ كَاللّبَاسِ قَالَ الشّاعِرُ
إذَا مَا الضّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا
تَثَنّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسًا
[ أَرْدَأُ أَشْكَالِهِ ]
وَأَرْدَأُ أَشْكَالِهِ أَنْ تَعْلُوَهُ الْمَرْأَةُ وَيُجَامِعَهَا عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ خِلَافُ الشّكْلِ الطّبِيعِيّ الّذِي طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهِ الرّجُلَ وَالْمَرْأَةَ بَلْ نَوْعَ الذّكَرِ وَالْأُنْثَى وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَنّ الْمَنِيّ يَتَعَسّرُ خُرُوجُهُ كُلّهُ فَرُبّمَا بَقِيَ فِي الْعُضْوِ مِنْهُ فَيَتَعَفّنُ وَيَفْسُدُ فَيَضُرّ وَأَيْضًا : فَرُبّمَا سَالَ إلَى الذّكَرِ رُطُوبَاتٌ مِنْ الْفَرْجِ وَأَيْضًا فَإِنّ الرّحِمَ لَا [ ص 235 ] كَانَتْ فَاعِلَةً خَالَفَتْ مُقْتَضَى الطّبْعِ وَالشّرْعِ . وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ إنّمَا يَأْتُونَ النّسَاءَ عَلَى جُنُوبِهِنّ عَلَى حَرْفٍ وَيَقُولُونَ هُوَ أَيْسَرُ لِلْمَرْأَةِ . وَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ تَشْرَحُ النّسَاءَ عَلَى أَقْفَائِهِنّ فَعَابَتْ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ } [ الْبَقَرَةِ 223 ] . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ جَابِرٍ قَالَ كَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ إذَا أَتَى الرّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ إنْ شَاءَ مُجَبّيَةً وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبّيَةٍ غَيْرَ أَنّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ " وَالْمُجَبّيَةُ الْمُنْكَبّةُ عَلَى وَجْهِهَا وَالصّمَامُ الْوَاحِدُ الْفَرْجُ وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَرْثِ وَالْوَلَدِ .(3/405)
1ـ صح عنه أنه قال: ((حَبب إليَّ من دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة))، [صحيح النسائي]، وقال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج)) [ق]، وقال: ((تزوَّجوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ)) [صحيح أبي داود].
2ـ وكانت سيرته مع أزواجه حسن المعاشرة، وحسن الخلق، وكان يقول: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) [صحيح الترمذي].
3ـ وكان إذا هويت إحداهن شيئًا لا محذور فيه تابعها عليه، وكان يُسَرِّب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها، وكانت إذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه في موضع فمها وشرب، وكان يتكئ في حجرها ويقرأ القرآن، ورأسه في حجرها، وربما كانت حائضًا، وكان يأمرها فتتزر ثم يباشرها.
4ـ وكان إذا صلى العصر دار على نسائه؛ فدنا منهن واستقرأ أحوالهن، فإذا جاء الليل انقلب إلى بيت صاحبة النَّوبة فَخَصَّهَا بالليل.
5ـ وكان يقسم بينهن في المبيت والإيواء والنفقة، وكان ربما مَدَّ يده إلى بعض نسائه في حضرة باقيهن.
6ـ وكان يأتي أهله آخر الليل وأوله، وإذا جامع أول الليل فكان ربما اغتسل ونام، وربما توضأ ونام، وكان قد أُعطي قوة ثلاثينَ في الجماع وغيره، وقال: ((ملعون من أتى المرأة في دبرها)) [صحيح أبي داود]، وقال: ((لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ فإنه إن يُقَدَّر بينهما ولدٌ في ذلك لم يضره شيطان أبدًا)) [ق].
7ـ وقال: ((إذا أفاد أحدكم امرأة أو خادمًا أو دابة فليأخذ بناصيتها ولْيَدْعُ اللَّه بالبركة ويسمي الله عز وجل، وليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جُبلَتْ عليه، وأعوذ بك من شَرِّهَا وَشَرِّ ما جُبِلَتْ عليه)) [صحيح أبي داود].
8ـ وكان يقول للمتزوج: ((بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما على خير)) [صحيح أبي داود].
9ـ وكان إذا أراد سفرًا أَقْرَعَ بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، ولم يقض للبواقي شيئًا.
10ـ ولم يكن من هديه الاعتناءُ بالمساكنِ وتشييدها وَتَعْلِيَتِهَا وزخرفتِها وتوسيعها.
11ـ وطلَّق صلى الله عليه وسلم وراجع، وآلى إيلاء مؤقتًا بشهر، ولم يظاهر أبدًا
34. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في السَّلامِ والاِسْتِئْذَانِ
زاد المعاد - (ج 2 / ص 371)
فَصْلٌ فِي هَدْيهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي السّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ
ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ أَفْضَلَ الْإِسْلَامِ وَخَيْرَهُ إطْعَامُ الطّعَامِ وَأَنْ تَقْرَأَ السّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِف . وَفِيهِمَا أَنّ آدَمَ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ لَمّا خَلَقَهُ اللّهُ قَالَ لَهُ اذْهَبْ إلَى أُولَئِكَ النّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَسَلّمْ عَلَيْهِمْ وَاسْتَمِعْ مَا يُحَيّونَكَ بِهِ فَإِنّهَا تَحِيّتُكَ وَتَحِيّةُ ذُرّيّتِكَ فَقَالَ السّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا : السّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّهِ فَزَادُوهُ " وَرَحْمَةُ اللّهِ . وَفِيهِمَا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ بِإِفْشَاءِ السّلَامِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُمْ إذَا أَفْشَوْا السّلَامَ بَيْنَهُمْ تَحَابّوا ، وَأَنّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ حَتّى يُؤْمِنُوا ، وَلَا يُؤْمِنُونَ حَتّى يَتَحَابّوا . وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " قَالَ عَمّارٌ ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السّلَامِ لِلْعَالِمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ [ ص 372 ]
[ فَضَائِلُ الْإِنْصَافِ ](3/406)
وَقَدْ تَضَمّنَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ أُصُولَ الْخَيْرِ وَفُرُوعَهُ فَإِنّ الْإِنْصَافَ يُوجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءَ حُقُوقِ اللّهِ كَامِلَةً مُوَفّرَةً وَأَدَاءِ حُقُوقِ النّاسِ كَذَلِكَ وَأَنْ لَا يُطَالِبَهُمْ بِمَا لَيْسَ لَهُ وَلَا يُحَمّلَهُمْ فَوْقَ وُسْعِهِمْ وَيُعَامِلَهُمْ بِمَا يُحِبّ أَنْ يُعَامِلُوهُ بِهِ وَيُعْفِيَهُمْ مِمّا يُحِبّ أَنْ يُعْفُوهُ مِنْهُ وَيَحْكُمَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ لِنَفْسِهِ وَعَلَيْهَا ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا إنْصَافُهُ نَفْسَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَلَا يَدّعِي لَهَا مَا لَيْسَ لَهَا ، وَلَا يُخْبِثُهَا بِتَدْنِيسِهِ لَهَا ، وَتَصْغِيرِهِ إيّاهَا ، وَتَحْقِيرِهَا بِمَعَاصِي اللّهِ وَيُنَمّيهَا وَيُكَبّرُهَا وَيَرْفَعُهَا بِطَاعَةِ اللّه وَتَوْحِيدِهِ وَحُبّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ وَمُحَابّهِ عَلَى مُرَاضِي الْخَلْقِ وَمُحَابّهِمْ وَلَا يَكُونُ بِهَا مَعَ الْخَلْقِ وَلَا مَعَ اللّهِ بَلْ يَعْزِلُهَا مِنْ الْبَيْنِ كَمَا عَزَلَهَا اللّهُ وَيَكُونُ بِاَللّهِ لَا بِنَفْسِهِ فِي حُبّهِ وَبُغْضِهِ وَعَطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَكَلَامِهِ وَسُكُوتِهِ وَمَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ فَيُنْجِي نَفْسَهُ مِنْ الْبَيْنِ وَلَا يَرَى لَهَا مَكَانَةً يَعْمَلُ عَلَيْهَا ، فَيَكُونُ مِمّنْ ذَمّهُمْ اللّهُ بِقَوْلِهِ { اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } [ الْأَنْعَامُ 135 ] فَالْعَبْدُ الْمَحْضُ لَيْسَ لَهُ مَكَانَةٌ يَعْمَلُ عَلَيْهَا ، فَإِنّهُ مُسْتَحَقّ الْمَنَافِعِ وَالْأَعْمَالِ لِسَيّدِهِ وَنَفْسُهُ مِلْكٌ لِسَيّدِهِ فَهُوَ عَامِلٌ عَلَى أَنْ يُؤَدّيَ إلَى سَيّدِهِ [ ص 373 ] مَكَانَةٌ أَصْلًا ، بَلْ قَدْ كُوتِبَ عَلَى حُقُوقٍ مُنَجّمَةٍ كُلّمَا أَدّى نَجْمًا حَلّ عَلَيْهِ نَجْمٌ آخَرُ وَلَا يَزَالُ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ إنْصَافَهُ مِنْ نَفْسِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةَ رَبّهِ وَحَقّهُ عَلَيْهِ وَمَعْرِفَةَ نَفْسِهِ وَمَا خُلِقَتْ لَهُ وَأَنْ لَا يُزَاحِمَ بِهَا مَالِكَهَا ، وَفَاطِرَهَا وَيَدّعِي لَهَا الْمَلَكَةَ وَالِاسْتِحْقَاقَ وَيُزَاحِمُ مُرَادَ سَيّدِهِ وَيَدْفَعَهُ بِمُرَادِهِ هُوَ أَوْ يُقَدّمُهُ وَيُؤْثِرَهُ عَلَيْهِ أَوْ يَقْسِمُ إرَادَتَهُ بَيْنَ مُرَادِ سَيّدِهِ وَمُرَادِهِ وَهِيَ قِسْمَةٌ ضِيزَى ، مِثْلَ قِسْمَةِ الّذِينَ قَالُوا : { هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الْأَنْعَامُ 136 ] . [ ص 374 ] فَكَيْفَ يَطْلُبُ الْإِنْصَافَ مِمّنْ وَصْفُهُ الظّلْمُ وَالْجَهْلُ ؟ وَكَيْفَ يُنْصِفُ الْخَلْقَ مَنْ لَمْ يُنْصِفْ الْخَالِقَ ؟ كَمَا فِي أَثَرٍ إلَهِيّ يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي ، خَيْرِي إلَيْكَ نَازِلٌ وَشَرّكَ إلَيّ صَاعِدٌ كَمْ أَتَحَبّبُ إلَيْكَ بِالنّعَمِ وَأَنَا غَنِيّ عَنْكَ وَكَمْ تَتَبَغّضُ إلَيّ بِالْمَعَاصِي وَأَنْتَ فَقِيرٌ إلَيّ وَلَا يَزَالُ الْمَلَكُ الْكَرِيمُ يَعْرُجُ إلَيّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ .
وَفِي أَثَرٍ آخَرَ ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي ، خَلَقْتُكَ وَتَعْبُدُ غَيْرِي ، وَأَرْزُقُكَ وَتَشْكُرُ سِوَايَ . ثُمّ كَيْفَ يُنْصِفُ غَيْرَهُ مَنْ لَمْ يُنْصِفْ نَفْسَهُ وَظَلَمَهَا أَقْبَحَ الظّلْمِ وَسَعَى فِي ضَرَرِهَا أَعْظَمَ السّعْيِ وَمَنَعَهَا أَعْظَمَ لَذّاتِهَا مِنْ حَيْثُ ظَنّ أَنّهُ يُعْطِيهَا إيّاهَا ، فَأَتْعَبَهَا كُلّ التّعَبِ وَأَشْقَاهَا كُلّ الشّقَاءِ مِنْ حَيْثُ ظَنّ أَنّهُ يُرِيحُهَا وَيُسْعِدُهَا ، وَجَدّ كُلّ الْجِدّ فِي حِرْمَانِهَا حَظّهَا مِنْ اللّهِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ يُنِيلُهَا حُظُوظَهَا ، وَدَسّاهَا كُلّ التّدْسِيَةِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ يُكَبّرُهَا وَيُنَمّيهَا ، وَحَقّرَهَا كُلّ التّحْقِيرِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ يُعَظّمُهَا ، فَكَيْفَ يُرْجَى الْإِنْصَافُ مِمّنْ هَذَا إنْصَافُهُ لِنَفْسِهِ ؟ إذَا كَانَ هَذَا فِعْلَ الْعَبْدِ بِنَفْسِهِ فَمَاذَا تَرَاهُ بِالْأَجَانِبِ يَفْعَلُ .
وَالْمَقْصُودُ أَنّ قَوْلَ عَمّارٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِك ، وَبَذْلُ السّلَامِ لِلْعَالِمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ كَلَامٌ جَامِعٌ لِأُصُولِ الْخَيْرِ وَفُرُوعِهِ .
[ بَذْلُ السّلَامِ ](3/407)
وَبَذْلُ السّلَامِ لِلْعَالِمِ يَتَضَمّنُ تَوَاضُعَهُ وَأَنّهُ لَا يَتَكَبّرُ عَلَى أَحَدٍ ، بَلْ يَبْذُلُ السّلَامَ لِلصّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالشّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَمَنْ يَعْرِفْهُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَالْمُتَكَبّرُ [ ص 375 ] فَكَيْفَ يَبْذُلُ السّلَامَ لِكُلّ أَحَدٍ .
[ الْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ ]
وَأَمّا الْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ فَلَا يَصْدُرُ إلّا عَنْ قُوّةِ ثِقَةٍ بِاَللّهِ وَأَنّ اللّهَ يُخْلِفُهُ مَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ قُوّةِ يَقِينٍ وَتَوَكّلٍ وَرَحْمَةٍ وَزُهْدٍ فِي الدّنْيَا ، وَسَخَاءِ نَفْسٍ بِهَا ، وَوُثُوقٍ بِوَعْدِ مَنْ وَعَدَهُ 1ـ كان من هَديه السلام عند المجيء إلى القوم، والسلام عند الانصراف عنهم، وأمر بإفشاء السلام.
2ـ وقال: ((يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والراكب على الماشي، والقليل على الكثير)) [ق].
3ـ وكان يبدأ من لقيه بالسلام، وإذا سَلَّمَ عليه أحدٌ رَدَّ عليه مثلَها أو أحسن على الفور إلا لعذر؛ مثل: الصلاة أو قضاء الحاجة.
4ـ وكان يقول في الابتداء: ((السلام عليكم ورحمة الله))، ويكره أن يقول المبتدئ: عليك السلام، وكان يرد على الْمُسَلِّمِ: ((وعليك السلام)) بالواو.
5ـ وكان من هَديه انتهاء السلام إلى وبركاته.
6ـ وكان من هَديه في السلام على الجمع الكثير الذين لا يبلغهم سلام واحد أن يسلم ثلاثًا.
7ـ وكان من هَديه أن الداخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين تحية المسجد ثم يجيء فيسلم على القوم.
8ـ ولم يكن يرد السلام بيده ولا برأسه ولا بإصبعه إلا في الصلاة؛ فإنه رد فيها بالإشارة.
9ـ ومر بصبيان فسلم عليهم، ومر بنسوة فسلَّم عليهن [صحيح الترمذي]، وكان الصحابة ينصرفون من الجمعة فيمرون على عجوز في طريقهم، فيسلمون عليها(1).
10ـ وكان يُحَمِّل السلام للغائب ويتحمل السلام، وإذا بلغه أحدٌ السلام عن غيره أن يرد عليه وعلى المبلِّغ.
11ـ وكان يترك السلام ابتداءً وَرَدًّا على من أحدث حتى يتوب.
12ـ وكان لا يبتدئ اليهود والنصارى بالسلام، وإذا سلموا عليه رد بـ: ((وعليكم))، وَمَرَّ على مجلس فيه أخلاط من المسلمين، والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، فسلم عليهم [م]، وكتب إلى هرقل وغيره: ((والسلام على من اتبع الهدى)) [صحيح الترمذي].
13ـ وقيل له: الرجل يلقى أخاه أينحني له؟ قال: ((لا))، قيل: أيلتزمه ويقبله؟ قال: ((لا))، قيل: أيصافحه؟ قال: ((نعم)) [صحيح الترمذي].
14ـ ولم يكن ليفجأ أهله بغتة يتخونهم، ولكن كان يدخل على أهله على علم منهم بدخوله، وكان يسلم عليهم، وكان إذا دخل بدأ بالسؤال، أو سأل عنهم.
15ـ وكان إذا دخل على أهله بالليل سَلَّمَ تسليمًا يُسمع اليقظان ولا يُوقظ النائم [م].
16ـ وكان من هَدْيُهُ أن المستأذن إذا قيل له: من أنت؟ يقول: فلان بن فلان، أو يذكر كنيته أو لقبه، ولا يقول: أنا.
17ـ وكان إذا استأذن يستأذن ثلاثًا؛ فإن لم يؤذن له ينصرف.
18ـ وكان يعلم أصحابه التسليم قبل الاستئذان.
20ـ وكان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من رُكْنِهِ الأيمنِ أو الأيسرِ.
وقال: ((إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)) [ق].
00000000000000
(1) قال ابن القيم في الزاد: هذا هو الصواب في مسألة السلام على النساء؛ يسلم على العجوز وذوات المحارم دون غيرهن.
مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ، وَتَكْذِيبًا بِوَعْدِ مَنْ يَعِدُهُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرْ بِالْفَحْشَاءِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
35. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في كلامهِ وَسُكُوتهِ، وفي اخْتِيار الأَلْفَاظِ وَالأَسْمَاءِ
زاد المعاد - (ج 1 / ص 175)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي كَلَامِهِ وَسُكُوتِهِ وَضَحِكِهِ وَبُكَائِهِ(3/408)
كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفْصَحَ خَلْقِ اللّهِ وَأَعْذَبَهُمْ كَلَامًا وَأَسْرَعَهُمْ أَدَاءً وَأَحْلَاهُمْ مَنْطِقًا حَتّى إنّ كَلَامَهُ لَيَأْخُذُ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ وَيَسْبِي الْأَرْوَاحَ وَيَشْهَدُ لَهُ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ . وَكَانَ إذَا تَكَلّمَ تَكَلّمَ بِكَلَامٍ مُفَصّلٍ مُبَيّنٍ يَعُدّهُ الْعَادّ لَيْسَ بِهَذّ مُسْرِعٍ لَا يُحْفَظُ وَلَا مُنْقَطِعٍ تخلّلُه السّكَتَاتُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْكَلَامِ بَلْ هَدْيُهُ فِيهِ أَكْمَلُ الْهَدْيِ قَالَتْ عَائِشَةُ مَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْرُدُ سَرْدَكُمْ هَذَا وَلَكِنْ كَانَ يَتَكَلّمُ بِكَلَامٍ بَيّنٍ فَصْلٍ يَحْفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إلَيْهِ . وَكَانَ كَثِيرًا مَا يُعِيدُ الْكَلَامَ ثَلَاثًا لِيُعْقَلَ عَنْهُ وَكَانَ إذَا سَلّمَ سَلّمَ ثَلَاثًا . وَكَانَ طَوِيلَ السّكُوتِ لَا يَتَكَلّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ يَفْتَتِحُ الْكَلَامَ وَيَخْتَتِمُهُ بِأَشْدَاقِهِ وَيَتَكَلّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلَامِ فَصْل لَا فُضُولَ وَلَا تَقْصِيرَ وَكَانَ لَا يَتَكَلّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ وَلَا يَتَكَلّمُ إلّا فِيمَا يَرْجُو ثَوَابَهُ وَإِذَا كَرِهَ الشّيْءَ عُرِفَ فِي وَجْهِهِ وَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحّشًا وَلَا صَخّابًا . وَكَانَ جُلّ ضَحِكِهِ التّبَسّمُ بَلْ كُلّهُ التّبَسّمُ فَكَانَ نِهَايَةُ ضَحِكِهِ أَنْ تَبْدُوَ نَوَاجِذُهُ . وَكَانَ يَضْحَكُ مِمّا يَضْحَكُ مِنْهُ وَهُوَ مِمّا يُتَعَجّبُ مِنْ مِثْلِهِ وَيُسْتَغْرَبُ وُقُوعُهُ وَيُسْتَنْدَرُ . أَسْبَابُ الضّحِكِ وَلِلضّحِكِ أَسْبَابٌ عَدِيدَةٌ هَذَا أَحَدُهَا . وَالثّانِي : ضَحِكُ الْفَرَحِ وَهُوَ أَنْ [ ص 176 ] أَغْضَبَهُ وَعَدَمِ اكْتِرَاثِهِ بِهِ .
[بُكَاؤُهُ ]
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمّا بُكَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ ضَحِكِهِ لَمْ يَكُنْ بِشَهِيقٍ وَرَفْعِ صَوْتٍ كَمَا لَمْ يَكُنْ ضَحِكُهُ بِقَهْقَهَةٍ وَلَكِنْ كَانَتْ تَدْمَعُ عَيْنَاهُ حَتّى تُهْمَلَا وَيُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ . وَكَانَ بُكَاؤُهُ تَارَةً رَحْمَةً لِلْمَيّتِ وَتَارَةً خَوْفًا عَلَى أُمّتِهِ وَشَفَقَةً عَلَيْهَا وَتَارَةً مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَتَارَةً عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَهُوَ بُكَاءُ اشْتِيَاقٍ وَمَحَبّةٍ وَإِجْلَالٍ مُصَاحِبٌ لِلْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ . وَلَمّا مَاتَ ابْنُهُ إبْرَاهِيمُ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَبَكَى رَحْمَةً لَهُ وَقَالَ تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ إلّا مَا يُرْضِي رَبّنَا وَإِنّا بِكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ وَبَكَى لَمّا شَاهَدَ إحْدَى بَنَاتِهِ وَنَفْسُهَا تَفِيضُ وَبَكَى لَمّا قَرَأَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ ( النّسَاءِ وَانْتَهَى فِيهَا إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } [ النّسَاءُ 41 ] وَبَكَى لَمّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَبَكَى لَمّا كَسَفَتْ الشّمْسُ وَصَلّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَجَعَلَ يَبْكِي فِي صَلَاتِهِ وَجَعَلَ يَنْفُخُ وَيَقُولُ رَبّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَلّا تُعَذّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُك [ ص 177 ] وَكَانَ يَبْكِي أَحْيَانًا فِي صَلَاةِ اللّيْلِ .
[أَنْوَاع الْبُكَاءِ ]
وَالْبُكَاءُ أَنْوَاعٌ . أَحَدُهَا : بُكَاءُ الرّحْمَةِ وَالرّقّةِ . وَالثّانِي : بُكَاءُ الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ . وَالثّالِثُ بُكَاءُ الْمَحَبّةِ وَالشّوْقِ . وَالرّابِعُ بُكَاءُ الْفَرَحِ وَالسّرُورِ . وَالْخَامِسُ بُكَاءُ الْجَزَعِ مِنْ وُرُودِ الْمُؤْلِمِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهِ . وَالسّادِسُ بُكَاءُ الْحُزْنِ .
[الْفَرْقُ بَيْنَ بُكَاءِ الْحُزْنِ وَبُكَاءِ الْخَوْفِ](3/409)
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بُكَاءِ الْخَوْفِ أَنّ بُكَاءَ الْحُزْنِ يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ أَوْ فَوَاتِ مَحْبُوبٍ وَبُكَاءُ الْخَوْفِ يَكُونُ لِمَا يُتَوَقّعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ ذَلِكَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ بُكَاءِ السّرُورِ وَالْفَرَحِ وَبُكَاءِ الْحُزْنِ أَنّ دَمْعَةَ السّرُورِ بَارِدَةٌ وَالْقَلْبُ فَرْحَانُ وَدَمْعَةُ الْحُزْنِ حَارّةٌ وَالْقَلْبُ حَزِينٌ وَلِهَذَا يُقَالُ لِمَا يُفْرَحُ بِهِ هُوَ قُرّةُ عَيْنٍ وَأَقَرّ اللّهُ بِهِ عَيْنَهُ وَلِمَا يُحْزِنُ هُوَ سَخِينَةُ الْعَيْنِ وَأَسْخَنَ اللّهُ عَيْنَهُ بِهِ . وَالسّابِعُ بُكَاءُ الْخَوْرِ وَالضّعْفِ . [ ص 178 ] أَقْسَى النّاسِ قَلْبًا . وَالتّاسِعُ الْبُكَاءُ الْمُسْتَعَارُ وَالْمُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ كَبُكَاءِ النّائِحَةِ بِالْأُجْرَةِ فَإِنّهَا كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : تَبِيعُ عَبْرَتَهَا وَتَبْكِي شَجْوَ غَيْرِهَا وَالْعَاشِرُ بُكَاءُ الْمُوَافَقَةِ وَهُوَ أَنْ يَرَى الرّجُلُ النّاسَ يَبْكُونَ لِأَمْرٍ وَرَدَ عَلَيْهِمْ فَيَبْكِي مَعَهُمْ وَلَا يَدْرِي لِأَيّ شَيْءٍ يَبْكُونَ وَلَكِنْ يَرَاهُمْ يَبْكُونَ فَيَبْكِي .
[هَيْئَاتُ الْبُكَاءِ ]
وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ دَمْعًا بِلَا صَوْتٍ فَهُوَ بُكًى مَقْصُورٌ وَمَا كَانَ مَعَهُ صَوْتٌ فَهُوَ بُكَاءٌ مَمْدُودٌ عَلَى بِنَاءِ الْأَصْوَاتِ . وَقَالَ الشّاعِرُ
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقّ لَهَا بُكَاهَا
وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ
وَمَا كَانَ مِنْهُ مُسْتَدْعًى مُتَكَلّفًا فَهُوَ التّبَاكِي وَهُوَ نَوْعَانِ مَحْمُودٌ وَمَذْمُومٌ فَالْمَحْمُودُ أَنْ يُسْتَجْلَبَ لِرِقّةِ الْقَلْبِ وَلِخَشْيَةِ اللّهِ لَا لِلرّيَاءِ وَالسّمْعَةِ . وَالْمَذْمُومُ أَنْ يُجْتَلَبَ لِأَجْلِ الْخُلُقِ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ رَآهُ يَبْكِي هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي شَأْنِ أَسَارَى بَدْرٍ : أَخْبِرْنِي مَا يُبْكِيك يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْت وَإِنْ لَمْ أَجِدْ تَبَاكَيْت لِبُكَائِكُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السّلَفُ ابْكُوا مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي خُطْبَتِهِ(3/410)
[ ص 179 ] خَطَبَ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَى الْبَعِيرِ وَعَلَى النّاقَةِ . وَكَانَ إذَا خَطَبَ احْمَرّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدّ غَضَبُهُ حَتّى كَأَنّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبّحَكُمْ وَمَسّاكُمْ وَيَقُولُ بُعِثْتُ أَنَا وَالسّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَيُقْرِنُ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السّبّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ أَمّا بَعْدُ فَإِنّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللّه وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَشَرّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكَانَ لَا يَخْطُبُ خُطْبَةً إلّا افْتَتَحَهَا بِحَمْدِ اللّهِ . وَأَمّا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنّهُ يَفْتَتِحُ خُطْبَةَ الِاسْتِسْقَاءِ بِالِاسْتِغْفَارِ وَخُطْبَةَ الْعِيدَيْنِ بِالتّكْبِيرِ فَلَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ سُنّةٌ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَتّةَ وَسُنّتُهُ تَقْتَضِي خِلَافَهُ وَهُوَ افْتِتَاحُ جَمِيعِ الْخُطَبِ ب الْحَمْدِ لِلّهِ وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ الثّلَاثَةِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا قَدّسَ اللّهُ سِرّهُ . وَكَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا وَفِي مَرَاسِيلِ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ أَنّهُ كَانَ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى النّاسِ ثُمّ قَالَ السّلَامُ عَلَيْكُمْ قَالَ الشّعْبِيّ : وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ . وَكَانَ يَخْتِمُ خُطْبَتَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَكَانَ كَثِيرًا يَخْطُبُ [ ص 180 ] صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ قَالَتْ : مَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إلّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْرَؤُهَا كُلّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا خَطَبَ النّاسَ وَذَكَرَ أَبُو دَاود عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنّ رَسُولَ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا تَشَهّدَ قَالَ : الْحَمْدُ لِلّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَلَا مُضِلّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْحَقّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا بَيْنَ يَدَيْ السّاعَةِ مَنْ يُطِعْ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنّهُ لَا يَضُرّ إلّا نَفْسَهُ وَلَا يَضُرّ اللّهَ شَيْئًا وَقَالَ أَبُو [ ص 181 ] يُونُسَ أَنّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ تَشَهّدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا إلّا أَنّهُ قَالَ : وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَبَلَغَنَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقُولُ إذَا خَطَبَ : كُلّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ لَا بُعْدَ لِمَا هُوَ آتٍ وَلَا يُعَجّلُ اللّهُ لِعَجَلَةِ أَحَدٍ وَلَا يُخِفّ لِأَمْرِ النّاسِ مَا شَاءَ اللّهُ لَا مَا شَاءَ النّاسُ يُرِيدُ اللّهُ شَيْئًا وَيُرِيدُ النّاسُ شَيْئًا مَا شَاءَ اللّهُ كَانَ وَلَوْ كَرِهَ النّاسُ وَلَا مُبْعِدَ لِمَا قَرّبَ اللّهُ وَلَا مُقَرّبَ لِمَا بَعّدَ اللّهُ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إلّا بِإِذْنِ اللّه وَكَانَ مَدَارُ خُطَبِهِ عَلَى حَمْدِ اللّهِ وَالثّنَاءِ عَلَيْهِ بِآلَائِهِ وَأَوْصَافِ كَمَالِهِ وَمَحَامِدِهِ وَتَعْلِيمِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَذِكْرِ الْجَنّةِ وَالنّارِ وَالْمَعَادِ وَالْأَمْرِ بِتَقْوَى اللّهِ وَتَبْيِينِ مَوَارِدِ غَضَبِهِ وَمَوَاقِعِ رِضَاهُ فَعَلَى هَذَا كَانَ مَدَارَ خُطَبِهِ . وَكَانَ يَقُولُ فِي خُطَبِهِ : أَيّهَا النّاسُ إنّكُمْ لَنْ تُطِيقُوا - أَوْ لَنْ تَفْعَلُوا - كُلّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ سَدّدُوا وَأَبْشِرُوا وَكَانَ يَخْطُبُ فِي كُلّ وَقْتٍ بِمَا تَقْتَضِيهِ حَاجَةُ الْمُخَاطَبِينَ وَمَصْلَحَتُهُمْ وَلَمْ [ ص 182 ] وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ كُلّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَاوِيشٌ يَخْرُجُ بَيْنَ يَدَيْهِ إذَا خَرَجَ مِنْ حُجْرَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَلْبَسُ لِبَاسَ الْخُطَبَاءِ الْيَوْمَ لَا طُرْحَةً وَلَا زِيقًا وَاسِعًا .
[صِفَةُ مِنْبَرِهِ ] صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ(3/411)
وَكَانَ مِنْبَرُهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ فَإِذَا اسْتَوَى عَلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ النّاسَ أَخَذَ الْمُؤَذّنُ فِي الْأَذَانِ فَقَطْ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ فَإِذَا أَخَذَ فِي الْخُطْبَةِ لَمْ يَرْفَعْ أَحَدٌ صَوْتَهُ بِشَيْءٍ الْبَتّةَ لَا مُؤَذّنٌ وَلَا غَيْرُهُ .
[التّوَكّؤُ عَلَى الْعَصَا ]
وَكَانَ إذَا قَامَ يَخْطُبُ أَخَذَ عَصًا فَتَوَكّأَ عَلَيْهَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ كَذَا ذَكَرَهُ عَنْهُ أَبُو دَاود عَنْ ابْنِ شِهَابٍ . وَكَانَ الْخُلَفَاءُ الثّلَاثَةُ بَعْدَهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَكَانَ أَحْيَانًا يَتَوَكّأُ عَلَى قَوْسٍ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنّهُ تَوَكّأَ عَلَى سَيْفٍ وَكَثِيرٌ مِنْ الْجَهَلَةِ [ ص 183 ] كَانَ يَمْسِكُ السّيْفَ عَلَى الْمِنْبَرِ إشَارَةً إلَى أَنّ الدّينَ إنّمَا قَامَ بِالسّيْفِ وَهَذَا جَهْلٌ قَبِيحٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الْمَحْفُوظَ أَنّهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَوَكّأَ عَلَى الْعَصَا وَعَلَى الْقَوْسِ . الثّانِي : أَنّ الدّينَ إنّمَا قَامَ بِالْوَحْيِ وَأَمّا السّيْفُ فَلِمَحْقِ أَهْلِ الضّلَالِ وَالشّرْكِ وَمَدِينَةُ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّتِي كَانَ يَخْطُبُ فِيهَا إنّمَا فُتِحَتْ بِالْقُرْآنِ وَلَمْ تُفْتَحْ بِالسّيْفِ . وَكَانَ إذَا عَرَضَ لَهُ فِي خُطْبَتِهِ عَارِضٌ اشْتَغَلَ بِهِ ثُمّ رَجَعَ إلَى خُطْبَتِهِ وَكَانَ يَخْطُبُ فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَعْثُرَانِ فِي قَمِيصَيْنِ أَحْمَرَيْنِ فَقَطَعَ كَلَامَهُ فَنَزَلَ فَحَمَلَهُمَا ثُمّ عَادَ إلَى مِنْبَرِهِ ثُمّ قَالَ صَدَقَ اللّهُ الْعَظِيمُ { إِنّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } [ الْأَنْفَالُ 28 ] رَأَيْتُ هَذَيْنِ يَعْثُرَانِ فِي قَمِيصَيْهِمَا فَلَمْ أَصْبِرْ حَتّى قَطَعْتُ كَلَامِي فَحَمَلْتُهُمَا وَجَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيّ وَهُوَ يَخْطُبُ فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ : قُمْ يَا سُلَيْكُ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوّزْ فِيِهِما ثُمّ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجوّزْ فِيهِمَا [ ص 184 ]
زاد المعاد - (ج 2 / ص 320)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حِفْظِ الْمَنْطِقِ وَاخْتِيَارِ الْأَلْفَاظِ
كَانَ يَتَخَيّرُ فِي خِطَابِهِ وَيَخْتَارُ لِأُمّتِهِ أَحْسَنَ الْأَلْفَاظِ وَأَجْمَلَهَا ، وَأَلْطَفَهَا ، وَأَبْعَدَهَا مِنْ أَلْفَاظِ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالْغِلْظَةِ وَالْفُحْشِ فَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحّشًا وَلَا [ ص 321 ] وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللّفْظُ الشّرِيفُ الْمَصُونُ فِي حَقّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَأَنْ يُسْتَعْمَلَ اللّفْظُ الْمَهِينُ الْمَكْرُوهُ فِي حَقّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ .
[ كَرَاهَةُ اسْتِعْمَالِ اللّفْظِ الشّرِيفِ فِي حَقّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ ](3/412)
فَمِنْ الْأَوّلِ مَنْعُهُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُنَافِقِ " يَا سَيّدَنَا " وَقَالَ فَإِنّهُ إنْ يَكُ سَيّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبّكُمْ عَزّ وَجَل وَمَنْعُهُ أَنْ تُسَمّى شَجَرَةُ الْعِنَبِ كَرْمًا ، وَمَنْعُهُ تَسْمِيَةَ أَبِي جَهْلٍ بِأَبِي الْحَكَمِ وَكَذَلِكَ تَغْيِيرُهُ لِاسْمِ أَبِي الْحَكَمِ مِنْ الصّحَابَةِ بِأَبِي شُرَيْحٍ وَقَالَ إنّ اللّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ وَمِنْ ذَلِكَ نَهْيُهُ لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يَقُولَ لِسَيّدِهِ أَوْ لِسَيّدَتِهِ رَبّي وَرَبّتِي ، وَلِلسّيّدِ أَنْ يَقُولَ لِمَمْلُوكِهِ عَبْدِي ، وَلَكِنْ يَقُولُ الْمَالِكُ فَتَايَ وَفَتَاتِي ، وَيَقُولُ الْمَمْلُوكُ سَيّدِي وَسَيّدَتِي ، وَقَالَ لِمَنْ ادّعَى أَنّهُ طَبِيبٌ أَنْتَ رَجُلٌ رَفِيقٌ ، وَطَبِيبُهَا الّذِي خَلَقَهَا وَالْجَاهِلُونَ يُسَمّونَ الْكَافِرَ الّذِي لَهُ عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْ الطّبِيعَةِ حَكِيمًا ، وَهُوَ مِنْ أَسْفَهِ الْخَلْقِ . [ ص 322 ] قَالَ مَنْ يُطِعْ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ لَا تَقُولُوا : مَا شَاءَ اللّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ ، وَلَكِنْ قُولُوا : مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ مَا شَاءَ فُلَانٌ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مَا شَاءَ اللّهُ وَشِئْتَ فَقَال : أَجَعَلْتَنِي لِلّهِ نِدّا ؟ قُلْ مَا شَاءَ اللّهُ وَحْدَه وَفِي مَعْنَى هَذَا الشّرْكِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ قَوْلُ مَنْ لَا يَتَوَقّى الشّرْكَ أَنَا بِاَللّهِ وَبِكَ وَأَنَا فِي حَسْبِ اللّهِ وَحَسْبِكَ وَمَا لِي إلّا اللّهُ وَأَنْتَ وَأَنَا مُتَوَكّلٌ عَلَى اللّهِ وَعَلَيْك ، وَهَذَا مِنْ اللّهِ وَمِنْك ، وَاَللّهُ لِي فِي السّمَاءِ وَأَنْت لِي فِي الْأَرْضِ وَوَاللّهِ وَحَيَاتِك ، وَأَمْثَالُ هَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الّتِي يَجْعَلُ فِيهَا قَائِلُهَا الْمَخْلُوقَ نِدّا لِلْخَالِقِ وَهِيَ أَشَدّ مَنْعًا وَقُبْحًا مِنْ قَوْلِهِ مَا شَاءَ اللّهُ وَشِئْتَ . فَأَمّا إذَا قَالَ أَنَا بِاَللّهِ ثُمّ بِك ، وَمَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ شِئْت ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ الثّلَاثَةِ لَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إلّا بِاَللّهِ ثُمّ بِك وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدّمِ الْإِذْنُ أَنْ يُقَالَ مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ شَاءَ فُلَانٌ . [ ص 323 ]
فَصْلٌ [ كَرَاهَةُ إطْلَاقِ أَلْفَاظِ الذّمّ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ](3/413)
وَأَمّا الْقِسْمُ الثّانِي وَهُوَ أَنْ تُطْلَقَ أَلْفَاظُ الذّمّ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، فَمِثْل نَهْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ سَبّ الدّهْرِ وَقَالَ إنّ اللّهَ هُوَ الدّهْرُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ فَيَسُبّ الدّهْرَ وَأَنَا الدّهْرُ بِيَدِيَ الْأَمْرُ أُقَلّبُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لَا يَقُولَنّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدّهْرِ فِي هَذَا ثَلَاثُ مَفَاسِدَ عَظِيمَةٌ . إحْدَاهَا : سَبّهُ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَبّ فَإِنّ الدّهْرَ خَلْقٌ مُسَخّرٌ مِنْ خَلْقِ اللّهِ مُنْقَادٌ لِأَمْرِهِ مُذَلّلٌ لِتَسْخِيرِهِ فَسَابّهُ أَوْلَى بِالذّمّ وَالسّبّ مِنْهُ . الثّانِيَةُ أَنّ سَبّهُ مُتَضَمّنٌ لِلشّرْكِ فَإِنّهُ إنّمَا سَبّهُ لِظَنّهِ أَنّهُ يَضُرّ وَيَنْفَعُ وَأَنّهُ مَعَ ذَلِكَ ظَالِمٌ قَدْ ضَرّ مَنْ لَا يَسْتَحِقّ الضّرَرَ وَأَعْطَى مَنْ لَا يَسْتَحِقّ الْعَطَاءَ وَرَفَعَ مَنْ لَا يَسْتَحِقّ الرّفْعَةَ وَحَرَمَ مَنْ لَا يَسْتَحِقّ الْحِرْمَانَ وَهُوَ عِنْدَ شَاتِمِيهِ مِنْ أَظْلَمِ الظّلَمَةِ وَأَشْعَارُ هَؤُلَاءِ الظّلَمَةِ الْخَوَنَةِ فِي سَبّهِ كَثِيرَةٌ جِدّا . وَكَثِيرٌ مِنْ الْجُهّالِ يُصَرّحُ بِلَعْنِهِ وَتَقْبِيحِهِ . [ ص 324 ] الثّالِثَةُ أَنّ السّبّ مِنْهُمْ إنّمَا يَقَعُ عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الّتِي لَوْ اتّبَعَ الْحَقّ فِيهَا أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَإِذَا وَقَعَتْ أَهْوَاؤُهُمْ حَمِدُوا الدّهْرَ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ . وَفِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَرَبّ الدّهْرِ تَعَالَى هُوَ الْمُعْطِي الْمَانِعُ الْخَافِضُ الرّافِعُ الْمُعِزّ الْمُذِلّ ، وَالدّهْرُ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ فَمَسَبّتُهُمْ لِلدّهْرِ مَسَبّةٌ لِلّهِ عَزّ وَجَلّ وَلِهَذَا كَانَتْ مُؤْذِيَةً لِلرّبّ تَعَالَى ، كَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبّ الدّهْرَ وَأَنَا الدّهْرُ فَسَابّ الدّهْرِ دَائِرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ لَا بُدّ لَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا . إمّا سَبّهُ لِلّهِ أَوْ الشّرْكُ بِهِ فَإِنّهُ إذَا اعْتَقَدَ أَنّ الدّهْرَ فَاعِلٌ مَعَ اللّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنّ اللّهَ وَحْدَهُ هُوَ الّذِي فَعَلَ ذَلِك وَهُوَ يَسُبّ مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ سَبّ اللّهَ . وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَقُولَنّ أَحَدُكُمْ تَعِسَ الشّيْطَانُ فَإِنّهُ يَتَعَاظَمُ حَتّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ فَيَقُولُ بِقُوّتِي صَرَعْتُهُ وَلَكِنْ لِيَقُلْ بِسْمِ اللّهِ فَإِنّهُ يَتَصَاغَرُ حَتّى يَكُونَ مِثْلَ الذّبَابِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ إنّ الْعَبْدَ إذَا لَعَنَ الشّيْطَانَ يَقُولُ : إنّكَ لَتَلْعَنُ مُلْعَنًا وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ أَخْزَى اللّهُ الشّيْطَانَ وَقَبّحَ اللّهُ الشّيْطَانَ فَإِنّ ذَلِكَ كُلّهُ يُفْرِحُهُ وَيَقُولُ عَلِمَ ابْنُ آدَمَ أَنّي قَدْ نِلْته بِقُوّتِي ، وَذَلِك مِمّا يُعِينُهُ عَلَى إغْوَائِهِ وَلَا يُفِيدُهُ شَيْئًا ، فَأَرْشَدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ مَسّهُ شَيْءٌ مِنْ الشّيْطَانِ أَنْ يَذْكُرَ اللّهَ تَعَالَى ، وَيَذْكُرَ اسْمَهُ وَيَسْتَعِيذَ بِاَللّهِ مِنْهُ فَإِنّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ وَأَغْيَظُ لِلشّيْطَانِ . [ ص 325 ]
فَصْلٌ
مِنْ ذَلِكَ " نَهْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَقُولَ الرّجُلُ خَبُثَتْ نَفْسِي ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي " وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ أَيْ غَثّتْ نَفْسِي ، وَسَاءَ خُلُقُهَا ، فَكَرِهَ لَهُمْ لَفْظَ الْخُبْثِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ وَالشّنَاعَةِ وَأَرْشَدَهُمْ إلَى اسْتِعْمَالِ الْحَسَنِ وَهِجْرَانِ الْقَبِيحِ وَإِبْدَالِ اللّفْظِ الْمَكْرُوهِ بِأَحْسَنَ مِنْهُ .
[ النّهْيُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوَانِ " لَوْ أَنّي فَعَلْت كَذَا ] "(3/414)
وَمِنْ ذَلِكَ نَهْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَمْرِ لَوْ أَنّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا ، وَقَالَ إنّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَان وَأَرْشَدَهُ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدّرَ اللّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ وَذَلِكَ لِأَنّ قَوْلَهُ لَوْ كُنْتُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا ، لَمْ يَفُتْنِي مَا فَاتَنِي ، أَوْ لَمْ أَقَعْ فِيمَا وَقَعْتُ فِيهِ كَلَامٌ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ فَائِدَةً الْبَتّةَ فَإِنّهُ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِمَا اسْتَدْبَرَ مِنْ أَمْرِهِ وَغَيْرُ مُسْتَقِيلٍ عَثْرَتَهُ ب " لَوْ " وَفِي ضِمْنِ " لَوْ " ادّعَاءُ أَنّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا قَدّرَهُ فِي نَفْسِهِ لَكَانَ غَيْرَ مَا قَضَاهُ اللّهُ وَقَدّرَهُ وَشَاءَهُ فَإِنّ مَا وَقَعَ مِمّا يَتَمَنّى خِلَافَهُ إنّمَا وَقَعَ بِقَضَاءِ اللّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَإِذَا قَالَ لَوْ أَنّي فَعَلْتُ كَذَا ، لَكَانَ خِلَافُ مَا وَقَعَ فَهُوَ مُحَالٌ إذْ خِلَافُ الْمُقَدّرِ الْمَقْضِيّ مُحَالٌ فَقَدْ تَضَمّنَ كَلَامُهُ كَذِبًا وَجَهْلًا وَمُحَالًا ، وَإِنْ سَلِمَ مِنْ التّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ مُعَارَضَتِهِ بِقَوْلِهِ لَوْ أَنّي فَعَلْتُ كَذَا ، لَدَفَعْتُ مَا قَدّرَ اللّهُ عَلَيّ . [ ص 326 ] فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ فِي هَذَا رَدّ لِلْقَدَرِ وَلَا جَحْدٌ لَهُ إذْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ الّتِي تَمَنّاهَا أَيْضًا مِنْ الْقَدَرِ فَهُوَ يَقُولُ لَوْ وَقَفْتُ لِهَذَا الْقَدَرِ لَانْدَفَعَ بِهِ عَنّي ذَلِكَ الْقَدَرُ فَإِنّ الْقَدَرَ يُدْفَعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ كَمَا يُدْفَعُ قَدَرُ الْمَرَضِ بِالدّوَاءِ وَقَدَرُ الذّنُوبِ بِالتّوْبَةِ وَقَدَرُ الْعَدُوّ بِالْجِهَادِ فَكِلَاهُمَا مِنْ الْقَدَرِ . قِيلَ هَذَا حَقّ ، وَلَكِنّ هَذَا يَنْفَعُ قَبْلَ وُقُوعِ الْقَدَرِ الْمَكْرُوهِ وَأَمّا إذَا وَقَعَ فَلَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى دَفْعِهِ أَوْ تَخْفِيفِهِ بِقَدْرٍ آخَرَ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ قَوْلِهِ لَوْ كُنْتُ فَعَلْته ، بَلْ وَظِيفَتُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ فِعْلَهُ الّذِي يُدْفَعُ بِهِ أَوْ يُخَفّفُ أَثَرُ مَا وَقَعَ وَلَا يَتَمَنّى مَا لَا مَطْمَعَ فِي وُقُوعِهِ فَإِنّهُ عَجْزٌ مَحْضٌ وَاَللّهُ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَيُحِبّ الْكَيْسَ وَيَأْمُرُ بِهِ وَالْكَيْسُ هُوَ مُبَاشَرَةُ الْأَسْبَابِ الّتِي رَبَطَ اللّهُ بِهَا مُسَبّبَاتِهَا النّافِعَةَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ فَهَذِهِ تَفْتَحُ عَمَلَ الْخَيْرِ وَأَمّا الْعَجْزُ فَإِنّهُ يَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَانِ فَإِنّهُ إذَا عَجَزَ عَمّا يَنْفَعُهُ وَصَارَ إلَى الْأَمَانِيّ الْبَاطِلَةِ بِقَوْلِهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا ، وَلَوْ فَعَلْتُ كَذَا ، يَفْتَحُ عَلَيْهِ عَمَلَ الشّيْطَانِ فَإِنّ بَابَهُ الْعَجْزُ وَالْكَسَلُ وَلِهَذَا اسْتَعَاذَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمَا ، وَهُمَا مِفْتَاحُ كُلّ شَرّ وَيَصْدُرُ عَنْهُمَا الْهَمّ ، وَالْحَزَنُ وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ وَضَلَعُ الدّيْنِ وَغَلَبَةُ الرّجَالِ فَمَصْدَرُهَا كُلّهَا عَنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَعُنْوَانُهَا " لَوْ " فَلِذَلِكَ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّ " لَوْ " تَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَان فَالْمُتَمَنّي مِنْ أَعْجَزِ النّاسِ وَأَفْلَسِهِمْ فَإِنّ التّمَنّيَ رَأْسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ وَالْعَجْزَ مِفْتَاحُ كُلّ شَرّ . وَأَصْلُ الْمَعَاصِي كُلّهَا الْعَجْزُ فَإِنّ الْعَبْدَ يَعْجِزُ عَنْ أَسْبَابِ أَعْمَالِ الطّاعَاتِ وَعَنْ الْأَسْبَابِ الّتِي تُبْعِدُهُ عَنْ الْمَعَاصِي ، وَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، فَيَقَعُ فِي الْمَعَاصِي ، فَجَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ الشّرِيفُ فِي اسْتِعَاذَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُصُولَ الشّرّ وَفُرُوعَهُ وَمَبَادِيهِ وَغَايَاتِهِ وَمَوَارِدَهُ وَمَصَادِرَهُ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَمَانِي خِصَالٍ كُلّ خَصْلَتَيْنِ مِنْهَا قَرِينَتَانِ فَقَالَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَن وَهُمَا قَرِينَانِ فَإِنّ الْمَكْرُوهَ الْوَارِدَ [ ص 327 ] يَكُونَ سَبَبُهُ أَمْرًا مَاضِيًا ، فَهُوَ يُحْدِثُ الْحُزْنَ وَإِمّا أَنْ يَكُونَ تَوَقّعَ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ فَهُوَ يُحْدِثُ الْهَمّ وَكِلَاهُمَا مِنْ الْعَجْزِ فَإِنّ مَا مَضَى لَا يُدْفَعُ بِالْحُزْنِ بَلْ بِالرّضَى ، وَالْحَمْدِ وَالصّبْرِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَقَوْلِ الْعَبْدِ قَدّرَ اللّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ . وَمَا يُسْتَقْبَلُ لَا يُدْفَعُ أَيْضًا بِالْهَمّ بَلْ إمّا أَنْ(3/415)
يَكُونَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ فَلَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَإِمّا أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ فَلَا يَجْزَعُ مِنْهُ وَيَلْبَسُ لَهُ لِبَاسَهُ وَيَأْخُذُ لَهُ عُدّتَهُ وَيَتَأَهّبُ لَهُ أُهْبَتَهُ اللّائِقَةَ بِهِ وَيَسْتَجِنّ بِجُنّةٍ حَصِينَةٍ مِنْ التّوْحِيدِ وَالتّوَكّلِ وَالِانْطِرَاحِ بَيْنَ يَدَيْ الرّبّ تَعَالَى ، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ وَالرّضَى بِهِ رَبّا فِي كُلّ شَيْءٍ وَلَا يَرْضَى بِهِ رَبّا فِيمَا يُحِبّ دُونَ مَا يَكْرَهُ فَإِذَا كَانَ هَكَذَا ، لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبّا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَرْضَاهُ الرّبّ لَهُ عَبْدًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَالْهَمّ وَالْحَزَنُ لَا يَنْفَعَانِ الْعَبْدَ الْبَتّةَ بَلْ مَضَرّتُهُمَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِمَا ، فَإِنّهُمَا يُضْعِفَانِ الْعَزْمَ وَيُوهِنَانِ الْقَلْبَ وَيَحُولَانِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَيَقْطَعَانِ عَلَيْهِ طَرِيقَ السّيْرِ أَوْ يُنَكّسَانِهِ إلَى وَرَاءٍ أَوْ يَعُوقَانِهِ وَيَقِفَانِهِ أَوْ يَحْجُبَانِهِ عَنْ الْعِلْمِ الّذِي كُلّمَا رَآهُ شَمّرَ إلَيْهِ وَجَدّ فِي سَيْرِهِ فَهُمَا حِمْلٌ ثَقِيلٌ عَلَى ظَهْرِ السّائِرِ بَلْ إنْ عَاقَهُ الْهَمّ وَالْحُزْنُ عَنْ شَهَوَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ الّتِي تَضُرّهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ انْتَفَعَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ أَنْ سَلّطَ هَذَيْنِ الْجُنْدَيْنِ عَلَى الْقُلُوبِ الْمُعْرِضَةِ عَنْهُ الْفَارِغَةِ مِنْ مَحَبّتِهِ [ ص 328 ] أُرِيدَ بِهَا الْخَيْرُ كَانَ حَظّهَا مِنْ سِجْنِ الْجَحِيمِ فِي مَعَادِهَا ، وَلَا تَزَالُ فِي هَذَا السّجْنِ حَتّى تَتَخَلّصَ إلَى فَضَاءِ التّوْحِيدِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللّهِ وَالْأُنْسِ بِهِ وَجَعْلِ مَحَبّتِهِ فِي مَحِلّ دَبِيبِ خَوَاطِرِ الْقَلْبِ وَوَسَاوِسِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ ذِكْرُهُ تَعَالَى وَحُبّهُ وَخَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ وَالْفَرَحُ بِهِ وَالِابْتِهَاجُ بِذِكْرِهِ هُوَ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْقَلْبِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الّذِي مَتَى فَقَدَهُ فَقَدَ قُوتَهُ الّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إلّا بِهِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ بِدُونِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى خَلَاصِ الْقَلْبِ مِنْ هَذِهِ الْآلَامِ الّتِي هِيَ أَعْظَمُ أَمْرَاضِهِ وَأَفْسَدُهَا لَهُ إلّا بِذَلِكَ وَلَا بَلَاغَ إلّا بِاَللّهِ وَحْدَهُ فَإِنّهُ لَا يُوصِلُ إلَيْهِ إلّا هُوَ وَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلّا هُوَ وَلَا يَصْرِفُ السّيّئَاتِ إلّا هُوَ وَلَا يَدُلّ عَلَيْهِ إلّا هُوَ وَإِذَا أَرَادَ عَبْدَهُ لِأَمْرٍ هَيّأَهُ لَهُ فَمِنْهُ الْإِيجَادُ وَمِنْهُ الْإِعْدَامُ وَمِنْهُ الْإِمْدَادُ وَإِذَا أَقَامَهُ فِي مَقَامِ أَيّ مَقَامٍ كَانَ فَبِحَمْدِهِ أَقَامَهُ فِيهِ وَبِحِكْمَتِهِ أَقَامَهُ فِيهِ وَلَا يَلِيقُ بِهِ غَيْرُهُ وَلَا يَصْلُحُ لَهُ سِوَاهُ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى اللّهُ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَلَا يَمْنَعُ عَبْدَهُ حَقّا هُوَ لِلْعَبْدِ فَيَكُونُ بِمَنْعِهِ ظَالِمًا لَهُ بَلْ إنّمَا مَنَعَهُ لِيَتَوَسّلَ إلَيْهِ بِمَحَابّهِ لِيَعْبُدَهُ وَلِيَتَضَرّعَ إلَيْهِ وَيَتَذَلّلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَتَمَلّقَهُ وَيُعْطِي فَقْرُهُ إلَيْهِ حَقّهُ بِحَيْثُ يَشْهَدُ فِي كُلّ ذَرّةٍ مِنْ ذَرّاتِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظّاهِرَةِ فَاقَةً تَامّةً إلَيْهِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَنْفَاسِ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْهُ الْعَبْدُ فَلَمْ يَمْنَعْ الرّبّ عَبْدَهُ مَا الْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ بُخْلًا مِنْهُ وَلَا نَقْصًا مِنْ خَزَائِنِهِ وَلَا اسْتِئْثَارًا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ حَقّ لِلْعَبْدِ بَلْ مَنَعَهُ لِيَرُدّهُ إلَيْهِ وَلِيُعِزّهُ بِالتّذَلّلِ لَهُ وَلِيُغْنِيَهُ بِالِافْتِقَارِ إلَيْهِ وَلِيَجْبُرَهُ بِالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِيُذِيقَهُ بِمَرَارَةِ الْمَنْعِ حَلَاوَةَ الْخُضُوعِ لَهُ وَلَذّةَ الْفَقْرِ إلَيْهِ وَلِيُلْبِسَهُ خِلْعَةَ الْعُبُودِيّةِ وَيُوَلّيهِ بِعَزْلِهِ أَشْرَفَ الْوِلَايَاتِ وَلِيُشْهِدَهُ حِكْمَتَهُ فِي قُدْرَتِهِ وَرَحْمَتَهُ فِي عِزّتِهِ وَبِرّهُ وَلُطْفَهُ فِي قَهْرِهِ . وَأَنّ مَنْعَهُ عَطَاءٌ وَعَزْلَهُ تَوْلِيَةٌ . وَعُقُوبَتَهُ تَأْدِيبٌ وَامْتِحَانَهُ مَحَبّةٌ وَعَطِيّةٌ وَتَسْلِيطَ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِ سَائِقٌ يَسُوقهُ بِهِ إلَيْهِ . [ ص 329 ] وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَلِيقُ بِالْعَبْدِ غَيْرُ مَا أُقِيمَ فِيهِ وَحِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ أَقَامَاهُ فِي مَقَامِهِ الّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ سِوَاهُ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَتَخَطّاهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ مَوَاقِعَ(3/416)
عَطَائِهِ وَفَضْلِهِ وَ { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } { وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ } [ الْأَنْعَامُ 53 ] فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعِ الْفَضْلِ وَمَحَالّ التّخْصِيصِ وَمَحَالّ الْحِرْمَانِ فَبِحَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ أَعْطَى ، وَبِحَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ حَرَمَ فَمَنْ رَدّهُ الْمَنْعُ إلَى الِافْتِقَارِ إلَيْهِ وَالتّذَلّلِ لَهُ وَتَمَلّقِهِ انْقَلَبَ الْمَنْعُ فِي حَقّهِ عَطَاءً وَمَنْ شَغَلَهُ عَطَاؤُهُ وَقَطَعَهُ عَنْهُ انْقَلَبَ الْعَطَاءُ فِي حَقّهِ مَنْعًا ، فَكُلّ مَا شَغَلَ الْعَبْدَ عَنْ اللّهِ فَهُوَ مَشْئُومٌ عَلَيْهِ وَكُلّ مَا رَدّهُ إلَيْهِ فَهُوَ رَحْمَةٌ بِهِ وَالرّبّ تَعَالَى يُرِيدُ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يَقَعُ الْفِعْلُ حَتّى يُرِيدَ سُبْحَانَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُعِينَهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ مِنّا الِاسْتِقَامَةَ دَائِمًا ، وَاِتّخَاذَ السّبِيلِ إلَيْهِ وَأَخْبَرَنَا أَنّ هَذَا الْمُرَادَ لَا يَقَع حَتّى يُرِيدَ مِنْ نَفْسِهِ إعَانَتَنَا عَلَيْهَا وَمُشِيئَتَهُ لَنَا ، فَهُمَا إرَادَتَانِ إرَادَةٌ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَفْعَلَ وَإِرَادَةٌ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُعِينَهُ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْفِعْلِ إلّا بِهَذِهِ الْإِرَادَةِ وَلَا يَمْلِكُ مِنْهَا شَيْئًا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا تَشَاءُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ } [ التّكْوِيرُ 29 ] فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعَبْدِ رُوحٌ أُخْرَى ، نِسْبَتُهَا إلَى رُوحِهِ كَنِسْبَةِ رُوحِهِ إلَى بَدَنِهِ يَسْتَدْعِي بِهَا إرَادَةَ اللّهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا يَكُونُ بِهِ الْعَبْدُ فَاعِلًا ، وَإِلّا فَمَحَلّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْعَطَاءِ وَلَيْسَ مَعَهُ إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْعَطَاءُ فَمَنْ جَاءَ بِغَيْرِ إنَاءٍ رَجَعَ بِالْحِرْمَانِ وَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَعَاذَ مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَنِ وَهُمَا قَرِينَانِ وَمِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَهُمَا قَرِينَانِ فَإِنْ تَخَلّفَ كَمَالُ الْعَبْدِ وَصَلَاحُهُ عَنْهُ إمّا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ عَجْزٌ أَوْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَكِنْ لَا يُرِيدُ فَهُوَ كَسَلٌ وَيَنْشَأُ عَنْ هَاتَيْنِ الصّفّتَيْنِ فَوَاتُ كُلّ خَيْرٍ وَحُصُولُ كُلّ شَرّ وَمِنْ ذَلِكَ الشّرّ تَعْطِيلُهُ عَنْ النّفْعِ بِبَدَنِهِ وَهُوَ الْجُبْنُ وَعَنْ النّفْعِ بِمَالِهِ وَهُوَ الْبُخْلُ ثُمّ يَنْشَأُ لَهُ بِذَلِكَ غَلَبَتَانِ . غَلَبَةٌ بِحَقّ وَهِيَ غَلَبَةُ الدّيْنِ وَغَلَبَةٌ بِبَاطِلٍ وَهِيَ غَلَبَةُ الرّجَالِ وَكُلّ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ ثَمَرَةُ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ لِلرّجُلِ الّذِي [ ص 330 ] قَضَى عَلَيْهِ فَقَالَ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل فَقَال : إنّ اللّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل فَهَذَا قَالَ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ الْكَيْسِ الّذِي لَوْ قَامَ بِهِ لَقُضِيَ لَهُ عَلَى خَصْمِهِ فَلَوْ فَعَلَ الْأَسْبَابَ الّتِي يَكُونُ بِهَا كَيّسًا ، ثُمّ غُلِبَ فَقَالَ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ لَكَانَتْ الْكَلِمَةُ قَدْ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا ، كَمَا أَنّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ ، لَمّا فَعَلَ الْأَسْبَابَ الْمَأْمُورَ بِهَا ، وَلَمْ يَعْجِزْ بِتَرْكِهَا ، وَلَا بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهَا ، ثُمّ غَلَبَهُ عَدُوّهُ وَأَلْقَوْهُ فِي النّارِ قَالَ فِي تِلْكَ الْحَالِ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل فَوَقَعَتْ الْكَلِمَةُ مَوْقِعَهَا ، وَاسْتَقَرّتْ فِي مَظَانّهَا ، فَأَثّرَتْ أَثَرَهَا ، وَتَرَتّبَ عَلَيْهَا مُقْتَضَاهَا .
[ التّوَكّلُ ](3/417)
وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ أُحُد ٍ لَمّا قِيلَ لَهُمْ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ أُحُدٍ : إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَتَجَهّزُوا وَخَرَجُوا لِلِقَاءِ عَدُوّهِمْ وَأَعْطَوْهُمْ الْكَيْسَ مِنْ نُفُوسِهِمْ ثُمّ قَالُوا : { حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فَأَثّرَتْ الْكَلِمَةُ أَثَرَهَا ، وَاقْتَضَتْ مُوجَبَهَا ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطّلَاقُ 2 ] فَجَعَلَ التّوَكّلَ بَعْدَ التّقْوَى الّذِي هُوَ قِيَامُ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا ، فَحِينَئِذٍ إنْ تَوَكّلَ عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وَكَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { وَاتّقُوا اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ الْمَائِدَةُ 11 ] فَالتّوَكّلُ وَالْحَسْبُ بِدُونِ قِيَامِ [ ص 331 ] كَانَ مَشُوبًا بِنَوْعٍ مِنْ التّوَكّلِ فَهُوَ تَوَكّلُ عَجْزٍ فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ تَوَكّلَهُ عَجْزًا ، وَلَا يَجْعَلَ عَجْزَهُ تَوَكّلًا ، بَلْ يَجْعَلُ تَوَكّلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا الّتِي لَا يَتِمّ الْمَقْصُودُ إلّا بِهَا كُلّهَا . وَمِنْ هَاهُنَا غَلِطَ طَائِفَتَانِ مِنْ النّاسِ إحْدَاهُمَا : زَعَمَتْ أَنّ التّوَكّلَ وَحْدَهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلّ كَافٍ فِي حُصُولِ الْمُرَادِ فَعُطّلَتْ لَهُ الْأَسْبَابُ الّتِي اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ اللّهِ الْمُوصِلَةُ إلَى مُسَبّبَاتهَا ، فَوَقَعُوا فِي نَوْعِ تَفْرِيطٍ وَعَجْزٍ بِحَسَبِ مَا عَطّلُوا مِنْ الْأَسْبَابِ وَضَعُفَ تَوَكّلُهُمْ مِنْ حَيْثُ ظَنّوا قُوّتَهُ بِانْفِرَادِهِ عَنْ الْأَسْبَابِ فَجَمَعُوا الْهَمّ كُلّهُ وَصَيّرُوهُ هَمّا وَاحِدًا ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُوّةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَفِيهِ ضَعْفٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، فَكُلّمَا قَوِيَ جَانِبُ التّوَكّلِ بِإِفْرَادِهِ أَضْعَفَهُ التّفْرِيطُ فِي السّبَبِ الّذِي هُوَ مَحَلّ التّوَكّلِ فَإِنّ التّوَكّلَ مَحَلّهُ الْأَسْبَابُ وَكَمَالُهُ بِالتّوَكّلِ عَلَى اللّهِ فِيهَا ، وَهَذَا كَتَوَكّلِ الْحَرّاثِ الّذِي شَقّ الْأَرْضَ وَأَلْقَى فِيهَا الْبَذْرَ فَتَوَكّلَ عَلَى اللّهِ فِي زَرْعِهِ وَإِنْبَاتِهِ فَهَذَا قَدْ أَعْطَى التّوَكّلَ حَقّهُ وَلَمْ يَضْعُفْ تَوَكّلُهُ بِتَعْطِيلِ الْأَرْضِ وَتَخْلِيَتِهَا بُورًا ، وَكَذَلِكَ تَوَكّلُ الْمُسَافِرِ فِي قَطْعِ الْمَسَافَةِ مَعَ جِدّهِ فِي السّيْرِ وَتَوَكّلُ الْأَكْيَاسِ مِنْ النّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللّهِ وَالْفَوْزِ بِثَوَابِهِ مَعَ اجْتِهَادِهِمْ فِي طَاعَتِهِ فَهَذَا هُوَ التّوَكّلُ الّذِي يَتَرَتّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَيَكُونُ اللّهُ حَسْبَ مَنْ قَامَ بِهِ . وَأَمّا تَوَكّلُ الْعَجْزِ وَالتّفْرِيطِ فَلَا يَتَرَتّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَلَيْسَ اللّهُ حَسْبَ صَاحِبِهِ فَإِنّ اللّهَ إنّمَا يَكُون حَسْبَ الْمُتَوَكّلِ عَلَيْهِ إذَا اتّقَاهُ وَتَقْوَاهُ فِعْلُ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا ، لَا إضَاعَتُهَا . وَالطّائِفَةُ الثّانِيَةُ الّتِي قَامَتْ بِالْأَسْبَابِ وَرَأَتْ ارْتِبَاطَ الْمُسَبّبَاتِ بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا ، وَأَعْرَضَتْ عَنْ جَانِبِ التّوَكّلِ وَهَذِهِ الطّائِفَةُ وَإِنْ نَالَتْ بِمَا فَعَلَتْهُ مِنْ الْأَسْبَابِ مَا نَالَتْهُ فَلَيْسَ لَهَا قُوّةُ أَصْحَابِ التّوَكّلِ وَلَا عَوْنُ اللّهِ لَهُمْ وَكِفَايَتُهُ إيّاهُمْ وَدِفَاعُهُ عَنْهُمْ بَلْ هِيَ مَخْذُولَةٌ عَاجِزَةٌ بِحَسَبِ مَا فَاتَهَا مِنْ التّوَكّلِ . فَالْقُوّةُ كُلّ الْقُوّةِ فِي التّوَكّلِ عَلَى اللّهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السّلَفِ مَنْ سَرّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النّاسِ فَلْيَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ فَالْقُوّةُ مَضْمُونَةٌ لِلْمُتَوَكّلِ وَالْكِفَايَةُ وَالْحَسْبُ وَالدّفْعُ عَنْهُ وَإِنّمَا يَنْقُصُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَنْقُصُ مِنْ التّقْوَى وَالتّوَكّلِ وَإِلّا [ ص 332 ] بُدّ أَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ كُلّ مَا ضَاقَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ اللّهُ حَسْبَه وَكَافِيَهُ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْشَدَ الْعَبْدَ إلَى مَا فِيهِ غَايَةُ كَمَالِهِ وَنَيْلُ مَطْلُوبِهِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَيَبْذُلَ فِيهِ جَهْدَهُ وَحِينَئِذٍ يَنْفَعُهُ التّحَسّبُ وَقَوْلُ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل بِخِلَافِ مَنْ عَجَزَ وَفَرّطَ حَتّى فَاتَتْهُ مَصْلَحَتُهُ ثُمّ قَالَ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَإِنّ اللّهَ(3/418)
يَلُومُهُ وَلَا يَكُونُ فِي هَذَا الْحَالِ حَسْبَه ، فَإِنّمَا هُوَ حَسْبُ مَنْ اتّقَاهُ وَتَوَكّلَ عَلَيْهِ .
زاد المعاد - (ج 1 / ص 163)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي جُلُوسِهِ وَاتّكَائِهِ
كَانَ يَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى الْحَصِيرِ وَالْبِسَاطِ وَقَالَتْ قَيْلَةُ بِنْتُ مَخْرَمَةَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ قَاعِدٌ الْقُرْفُصَاءَ قَالَتْ فَلَمّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَالْمُتَخَشّعِ فِي الْجِلْسَةِ أُرْعِدْتُ مِنْ الْفَرَقِ . وَلَمّا قَدِمَ عَلَيْهِ عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ دَعَاهُ إلَى مَنْزِلِهِ فَأَلْقَتْ إلَيْهِ الْجَارِيَةُ وِسَادَةً يَجْلِسُ عَلَيْهَا فَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدِيّ وَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ . قَالَ عَدِيّ : فَعَرَفْتُ أَنّهُ لَيْسَ بِمَلِكٍ وَكَانَ يَسْتَلْقِي أَحْيَانًا وَرُبّمَا وَضَعَ إحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى وَكَانَ يَتّكِئُ عَلَى الْوِسَادَةِ وَرُبّمَا اتّكَأَ عَلَى يَسَارِهِ وَرُبّمَا اتّكَأَ عَلَى يَمِينِهِ . وَكَانَ إذَا احْتَاجَ فِي خُرُوجِهِ تَوَكّأَ .
1ـ كان صلى الله عليه وسلم أفصح الخلق وأعذبهم كلامًا وأسرعهم أداءً وأحلاهم منطقًا.
2ـ وكان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابَهُ.
3ـ وكان يتكلم بجوامع الكلم، وبكلام مفصلٍ يَعُدُّهُ الْعَادُّ، ليس بِهَذٍّ مسرع لا يحفظ، ولا منقطع تخلله السكتات.
4ـ وكان يتخير في خطابه ويختار لأمته أحسن الألفاظ وأبعدها من ألفاظ أهل الجفاءِ وَالْفُحْشِ.
5ـ وكان يكره أن يستعمل اللفظ الشريف في حق من ليس كذلك، وأن يستعمل اللفظ المكروه في حق من ليس من أهله، فمنع أن يقال للمنافق: سيد، ومنع تسمية أبي جهل: بأبي الحكم، وأن يقال للسلطان: ملك الملوك أو خليفة الله.
6ـ ونهى عن سب الدهر، وقال: ((إن الله هو الدهر)) [ق].
7ـ وأرشد من مسه شيء من الشيطان أن يقول: باسم الله، ولا يلعنه أو يسبه ولا يقول: تعس الشيطان، ونحو ذلك.
8ـ وكان يستحب الاسم الحسن، وأمر إذا أبردوا إليه بريدًا أن يكون حسن الاسم، حسن الوجه، وكان يأخذ المعاني من أسمائها، ويربط بين الاسم والمسمى.
9ـ وقال: ((أحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن، وأصدقها: حارث، وهمام، وأقبحها: حرب ومرة)) [م].
10ـ وغير اسم ((عاصية))، وقال: ((أنت جميلة))، وغير اسم ((أصرم)): بـ((زرعة))، ولما قدم المدينة واسمها ((يثرب)) غيره: بـ((طيبة)).
11ـ وكان يكني أصحابه، وربما كنى الصغير، وكنى بعض نسائه.
12ـ وكان من هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم تكنية من له ولد، ومن لا ولد له، وقال: ((تسموا باسمي، ولا تكنُّوا بكنيتي)) [ق].
13ـ ونهى أن يهجر اسم العشاء ويغلب عليها اسم العتمة، ونهى عن تسمية العنب كَرْمًا، وقال: ((الكَرْمُ: قلبُ المؤمن)) [ق]، ونهى أن يقال: مطرنا بنوء كذا و: ما شاء الله وشئت، وأن يحلف بغير الله، ومن الإكثار من الحلف، وأن يقول في حلفه: هو يهودي ونحوه إن فعل كذا، وأن يقول السيد لمملوكه: عبدي وأمتي، وأن يقول الرجل: خبثت نفسي، أو تعس الشيطان، وعن قول: اللهم اغفر لي إن شئت.
14ـ ونهى عن سب الدهر، وعن سبِّ الريح، وَسَبِّ الحمى، وَسَبِّ الديك، ومن الدعاء بدعوى الجاهلية؛ كالدعاء إلى القبائل والعصبية لها، ومثل ذلك التعصب للمذهب، والطريقة والمشايخ.
36. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في مَشْيهِ وَجُلُوسِهِ
زاد المعاد - (ج 1 / ص 161)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَشْيِهِ وَحْدَهُ وَمَعَ أَصْحَابِهِ(3/419)
كَانَ إذَا مَشَى تَكَفّأَ تَكَفّؤًا وَكَانَ أَسْرَعَ النّاسِ مِشْيَةً وَأَحْسَنَهَا وَأَسْكَنَهَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَأَنّ الشّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَأَنّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ وَإِنّا لَنُجْهِدَ أَنْفُسَنَا وَإِنّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ وَقَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا مَشَى تَكَفّأَ تَكَفّؤًا كَأَنّمَا يَنْحَطّ مِنْ صَبَب وَقَالَ مَرّةً إذَا مَشَى تَقَلّع قُلْت : وَالتّقَلّعُ الِارْتِفَاعُ مِنْ الْأَرْضِ بِجُمْلَتِهِ كَحَالِ الْمُنْحَطّ مِنْ الصّبَبِ وَهِيَ مِشْيَةُ أُولِي الْعَزْمِ وَالْهِمّةِ وَالشّجَاعَةِ وَهِيَ أَعْدَلُ الْمِشْيَاتِ وَأَرْوَاحُهَا لِلْأَعْضَاءِ وَأَبْعَدُهَا مِنْ مِشْيَةِ الْهَوَجِ وَالْمَهَانَةِ وَالتّمَاوُتِ فَإِنّ الْمَاشِيَ إمّا أَنْ يَتَمَاوَتَ فِي مَشْيِهِ وَيَمْشِيَ قِطْعَةً وَاحِدَةً كَأَنّهُ خَشَبَةٌ مَحْمُولَةٌ وَهِيَ مِشْيَةٌ مَذْمُومَةٌ قَبِيحَةٌ وَإِمّا أَنْ يَمْشِيَ بِانْزِعَاجٍ وَاضْطِرَابٍ مَشْيَ الْجَمَلِ الْأَهْوَجِ وَهِيَ مِشْيَةٌ مَذْمُومَةٌ أَيْضًا وَهِيَ دَالّةٌ عَلَى خِفّةِ عَقْلِ صَاحِبِهَا وَلَا سِيّمَا إنْ كَانَ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ حَالَ مَشْيِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَإِمّا أَنْ يَمْشِيَ هَوْنًا وَهِيَ مِشْيَةُ عِبَادِ الرّحْمَنِ كَمَا وَصَفَهُمْ بِهَا فِي كِتَابِهِ فَقَالَ { وَعِبَادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } [ الْفُرْقَانُ : 63 ] قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السّلَفِ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ مِنْ غَيْرِ تَكَبّرٍ وَلَا تَمَاوُتٍ وَهِيَ مِشْيَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُ مَعَ هَذِهِ الْمِشْيَةِ كَانَ كَأَنّمَا يَنْحَطّ مِنْ صَبَبٍ وَكَأَنّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ حَتّى كَانَ الْمَاشِي مَعَهُ يُجْهِدُ نَفْسَهُ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَمْرَيْنِ أَنّ مِشْيَتَهُ لَمْ تَكُنْ مِشْيَةً بِتَمَاوُتٍ وَلَا بِمَهَانَةٍ بَلْ مِشْيَةً أَعْدَلَ الْمَشَيَاتِ .
[ أَنْوَاعُ الْمَشْيِ ]
وَالْمِشْيَاتُ عَشَرَةُ أَنْوَاعٍ هَذِهِ الثّلَاثَةُ مِنْهَا وَالرّابِعُ السّعْيُ . وَالْخَامِسُ الرّمَلُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى وَيُسَمّى : الْخَبَبَ وَفِي الصّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 163 ] خَبّ فِي طَوَافِهِ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا السّادِسُ النّسَلَانُ وَهُوَ الْعَدْوُ الْخَفِيفُ الّذِي لَا يُزْعِجُ الْمَاشِيَ وَلَا يُكْرِثُهُ . وَفِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ أَنّ الْمُشَاةَ شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَشْيِ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ اسْتَعِينُوا بِالنّسَلَانِ وَالسّابِعُ الْخَوْزَلَى وَهِيَ مِشْيَةُ التّمَايُلِ وَهِيَ مِشْيَةٌ يُقَالُ إنّ فِيهَا تَكَسّرًا وَتَخَنّثًا . وَالثّامِنُ الْقَهْقَرَى وَهِيَ الْمِشْيَةُ إلَى وَرَاءٍ . وَالتّاسِعُ الْجَمَزَى وَهِيَ مِشْيَةٌ يَثِبُ فِيهَا الْمَاشِي وَثْبًا . وَالْعَاشِرُ مِشْيَةُ التّبَخْتُرِ وَهِيَ مِشْيَةُ أُولِي الْعُجْبِ وَالتّكَبّرِ وَهِيَ الّتِي خَسَفَ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِصَاحِبِهَا لَمّا نَظَرَ فِي عِطْفَيْهِ وَأَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَأَعْدَلُ هَذِهِ الْمِشْيَاتِ مِشْيَةُ الْهَوْنِ وَالتّكَفّؤِ .
[مَشْيُهُ مَعَ أَصْحَابِهِ ]
وَأَمّا مَشْيُهُ مَعَ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا يَمْشُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ خَلْفَهُمْ وَيَقُولُ دَعُوا ظَهْرِي لِلْمَلَائِكَة وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَكَانَ يَسُوقُ أَصْحَابَهُ . وَكَانَ يَمْشِي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا وَكَانَ يُمَاشِي أَصْحَابَهُ فُرَادَى وَجَمَاعَةً وَمَشَى فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ مَرّةً فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ وَسَالَ مِنْهَا الدّمُ فَقَالَ
هَلْ أَنْتَ إلّا أُصْبُعٌ دَمِيَتْ
وَفِي سَبِيلِ اللّهِ مَا لَقِيت
وَكَانَ فِي السّفَرِ سَاقَهُ أَصْحَابُهُ يُزْجِي الضّعِيفَ وَيُرْدِفُهُ وَيَدْعُو لَهُمْ .
1ـ كان إذا مشى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا؛ كأنما ينحط من صبب، وكان أسرعَ الناس مشيةً وأحسنها وأسكنها.
2ـ وكان يمشي حافيًا ومتنعلاً.
3ـ وكان يركب الإبل والخيل، والبغال والحمير، وركب الفرس مسرجة تارة، وعريًا تارة، وكان يُرْدِفُ خلفه وأمامه.(3/420)
4ـ وكان يجلس على الأرض وعلى الحصير وعلى البساط.
5ـ وكان يَتَّكِئُ على الوسادة، وربما اتَّكَأَ على يساره، وربما اتَّكَأَ على يمينه.
6ـ وكان يجلس القرفصاء، وكان يستلقي أحيانًا، وربما وضع إحدى رجليه على الأخرى، وكان إذا احتاج تَوَكَّأَ على بعض أصحابه من الضَّعف.
7ـ ونهى أن يقعد الرجلُ بين الظل والشمس.
8ـ وكره لأهل المجلس أن يخلوَ مجلسُهم من ذكر الله، وقال: ((من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ..)) والترة: الحسرة. [صحيح أبي داود].
9ـ وقال: ((من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك؛ إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك)) [صحيح الترمذي].
37. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في الْفِطْرَةِ وَاللِّبَاسِ وَالْهَيْئَةِ وَالزِّينَةِ
زاد المعاد - (ج 1 / ص 130)
فَصْلٌ فِي مَلَابِسِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَانَتْ لَهُ عِمَامَةٌ تُسَمّى : السّحَابَ كَسَاهَا عَلِيّا وَكَانَ يَلْبَسُهَا وَيَلْبَسُ تَحْتَهَا الْقَلَنْسُوَةَ . وَكَانَ يَلْبَسُ الْقَلَنْسُوَةَ بِغَيْرِ عِمَامَةٍ وَيَلْبَسُ الْعِمَامَةَ بِغَيْرِ قَلَنْسُوَةٍ . وَكَانَ إذَا اعْتَمّ أَرْخَى عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَفِي مُسْلِم ٍ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم َ دَخَلَ مَكّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ : ذُؤَابَةً فَدَلّ عَلَى أَنّ الذّؤَابَةَ لَمْ يَكُنْ [ ص 131 ] دَائِمًا بَيْنَ كَتِفَيْهِ . وَقَدْ يُقَالُ إنّهُ دَخَلَ مَكّةَ وَعَلَيْهِ أُهْبَةُ الْقِتَالِ وَالْمِغْفَرُ عَلَى رَأْسِهِ فَلَبِسَ فِي كُلّ مَوْطِنٍ مَا يُنَاسِبُهُ . وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبّاسِ ابْنُ تَيْمِيّةَ قَدّسَ اللّهُ رُوحَهُ فِي الْجَنّةِ يَذْكُرُ فِي سَبَبِ الذّؤَابَةِ شَيْئًا بَدِيعًا وَهُوَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا اتّخَذَهَا صَبِيحَةَ الْمَنَامِ الّذِي رَآهُ فِي الْمَدِينَةِ لَمّا رَأَى رَبّ الْعِزّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالَ يَا مُحَمّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْتُ لَا أَدْرِي فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيّ فَعَلِمْتُ مَا بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ . . . الْحَدِيثُ وَهُوَ فِي التّرْمِذِيّ وَسُئِلَ عَنْهُ الْبُخَارِيّ فَقَالَ [ ص 132 ] قَالَ فَمِنْ تِلْكَ الْحَالِ أَرْخَى الذّؤَابَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَهَذَا مِنْ الْعِلْمِ الّذِي تُنْكِرُهُ أَلْسِنَةُ الْجُهّالِ وَقُلُوبُهُمْ وَلَمْ أَرَ هَذِهِ الْفَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ الذّؤَابَةِ لِغَيْرِهِ . وَلَبِسَ الْقَمِيصَ وَكَانَ أَحَبّ الثّيَابِ إلَيْهِ وَكَانَ كُمّهُ إلَى الرّسْغِ وَلَبِسَ الْجُبّةَ وَالْفَرّوجَ وَهُوَ شِبْهُ الْقَبَاءِ وَالْفَرَجِيّةِ وَلَبِسَ الْقَبَاءَ أَيْضًا وَلَبِسَ فِي السّفَرِ جُبّةً ضَيّقَةَ الْكُمّيْنِ وَلَبِسَ الْإِزَارَ وَالرّدَاءَ . قَالَ الْوَاقِدِيّ : كَانَ رِدَاؤُهُ وَبُرْدُهُ طُولَ سِتّةِ أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةٍ وَشِبْرٍ وَإِزَارُهُ مِنْ نَسْجِ عُمَانَ طُولَ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ وَشِبْرٍ فِي عَرْضِ ذِرَاعَيْنِ وَشِبْرٍ .
[ النّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْأَحْمَرِ ](3/421)
وَلُبْسِ حُلّةٍ حَمْرَاءَ وَالْحُلّةُ إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَلَا تَكُونُ الْحُلّةُ إلّا اسْمًا لِلثّوْبَيْنِ مَعًا وَغَلِطَ مَنْ ظَنّ أَنّهَا كَانَتْ حَمْرَاءَ بَحْتًا لَا يُخَالِطُهَا غَيْرُهُ وَإِنّمَا الْحُلّةُ الْحَمْرَاءُ بُرْدَانِ يَمَانِيّانِ مَنْسُوجَانِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ مَعَ الْأَسْوَدِ كَسَائِرِ الْبُرُودِ الْيَمَنِيّةِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنْ الْخُطُوطِ الْحُمْرِ وَإِلّا فَالْأَحْمَرُ الْبَحْتُ مَنْهِيّ عَنْهُ أَشَدّ النّهْيِ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ الْمَيَاثِرِ الْحُمْر وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأَى [ ص 133 ] فَقَالَ مَا هَذِهِ الرّيْطَةُ الّتِي عَلَيْكَ ؟ فَعَرَفْتُ مَا كَرِهَ فَأَتَيْتُ أَهْلِي وَهُمْ يَسْجُرُونَ تَنّورًا لَهُمْ فَقَذَفْتهَا فِيهِ ثُمّ أَتَيْتُهُ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللّهِ مَا فَعَلَتْ الرّيْطَةُ ؟ فَأَخْبَرْته فَقَالَ هَلّا كَسَوْتَهَا بَعْضَ أَهْلِك فَإِنّهُ لَا بَأْسَ بِهَا لِلنّسَاءِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ رَأَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ . فَقَالَ إنّ هَذِهِ مِنْ لِبَاسِ الْكُفّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَر وَمَعْلُومٌ أَنّ ذَلِكَ إنّمَا يُصْبَغُ صَبْغًا أَحْمَرَ . وَفِي بَعْضِ السّنَنِ أَنّهُمْ كَانُوا مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى عَلَى رَوَاحِلِهِمْ أَكْسِيَةً فِيهَا خُطُوطٌ حَمْرَاءُ فَقَالَ أَلَا أَرَى هَذِهِ الْحُمْرَةَ قَدْ عَلَتْكُمْ فَقُمْنَا سِرَاعًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَفَرَ بَعْضُ إبِلِنَا فَأَخَذْنَا الْأَكْسِيَةَ فَنَزْعْنَاهَا عَنْهَا . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَفِي جَوَازِ لُبْسِ الْأَحْمَرِ مِنْ الثّيَابِ وَالْجُوخِ وَغَيْرِهَا نَظَرٌ . وَأَمّا كَرَاهَتُهُ [ ص 134 ] فَشَدِيدَةٌ جِدّا فَكَيْفَ يُظَنّ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ لَبِسَ الْأَحْمَرَ الْقَانِيَ كَلّا لَقَدْ أَعَاذَهُ اللّهُ مِنْهُ وَإِنّمَا وَقَعَتْ الشّبْهَةُ مِنْ لَفْظِ الْحُلّةِ الْحَمْرَاءِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَلَبِسَ الْخَمِيصَةَ الْمُعْلَمَةَ وَالسّاذَجَةَ وَلَبِسَ ثَوْبًا أَسْوَدَ وَلَبِسَ الْفَرْوَةَ الْمَكْفُوفَةَ بِالسّنْدُسِ . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ مَلِكَ الرّومِ أَهْدَى لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُسْتَقَةً مِنْ سُنْدُسٍ فَلَبِسَهَا فَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى يَدَيْهِ تَذَبْذَبَانِ . قَالَ الْأَصْمَعِيّ : الْمَسَاتِقُ فِرَاءٌ طِوَالُ الْأَكْمَامِ . قَالَ الْخَطّابِيّ : يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمُسْتَقَةَ مُكَفّفَةً بِالسّنْدُسِ لِأَنّ نَفْسَ الْفَرْوَةِ لَا تَكُونُ سُنْدُسًا .
فَصْلٌ وَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ(3/422)
وَالظّاهِرُ أَنّهُ إنّمَا اشْتَرَاهَا لِيَلْبَسَهَا وَقَدْ رُوِيَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ أَنّهُ لَبِسَ السّرَاوِيلَ وَكَانُوا يَلْبَسُونَ السّرَاوِيلَاتِ بِإِذْنِهِ . وَلَبِسَ الْخُفّيْنِ وَلَبِسَ النّعْلَ الّذِي يُسَمّى التّاسُومَةَ . وَلَبِسَ الْخَاتَمَ وَاخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ هَلْ كَانَ فِي يُمْنَاهُ أَوْ يُسْرَاهُ وَكُلّهَا صَحِيحَةُ السّنَدِ . وَلَبِسَ الْبَيْضَةَ الّتِي تُسَمّى : الْخُوذَةَ وَلَبِسَ الدّرْعَ الّتِي تُسَمّى : الزّرَدِيّةَ وَظَاهَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ الدّرْعَيْنِ . [ ص 135 ] صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ هَذِهِ جُبّةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْرَجَتْ جُبّةَ طَيَالِسَةٍ كِسْرَوَانِيّةٍ لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ . وَفَرْجَاهَا مَكْفُوفَانِ بِالدّيبَاجِ فَقَالَتْ هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ حَتّى قُبِضَتْ فَلَمّا قُبِضَتْ قَبَضْتهَا وَكَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَلْبَسُهَا فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا وَكَانَ لَهُ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ وَكِسَاءٌ أَسْوَدُ وَكِسَاءٌ أَحْمَرُ مُلَبّدٌ وَكِسَاءٌ مِنْ شَعْرٍ وَكَانَ قَمِيصُهُ مِنْ قُطْنٍ وَكَانَ قَصِيرَ الطّولِ قَصِيرَ الْكُمّيْنِ وَأَمّا هَذِهِ الْأَكْمَامُ الْوَاسِعَةُ الطّوَالُ الّتِي هِيَ كَالْأَخْرَاجِ فَلَمْ يَلْبَسْهَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْبَتّةَ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِسُنّتِهِ وَفِي جَوَازِهَا نَظَرٌ فَإِنّهَا مِنْ جِنْسِ الْخُيَلَاءِ . وَكَانَ أَحَبّ الثّيَابِ إلَيْهِ الْقَمِيصُ وَالْحِبَرَةُ وَهِيَ ضَرْبٌ مِنْ الْبُرُودِ فِيهِ حُمْرَةٌ . وَكَانَ أَحَبّ الْأَلْوَانِ إلَيْهِ الْبَيَاضُ وَقَالَ هِيَ مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ فَالْبَسُوهَا وَكَفّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ وَفِي الصّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا أَخْرَجَتْ كِسَاءً مُلَبّدًا وَإِزَارًا غَلِيظًا فَقَالَتْ قُبِضَ رُوحُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَذَيْنِ . [ ص 136 ] وَنَهَى عَنْ التّخَتّمِ بِالذّهَبِ ثُمّ اتّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضّةٍ وَلَمْ يَنْهَ عَنْهُ . وَأَمّا حَدِيثُ أَبِي دَاود أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ أَشْيَاءَ وَذَكَرَ مِنْهَا : وَنَهَى عَنْ لُبُوسِ الْخَاتَمِ إلّا لِذِي سُلْطَانٍ فَلَا أَدْرِي مَا حَالُ الْحَدِيثِ وَلَا وَجْهُهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَكَانَ يَجْعَلُ فَصّ خَاتَمِهِ مِمّا يَلِي بَاطِنَ كَفّهِ . وَذَكَرَ التّرْمِذِيّ أَنّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ وَصَحّحَهُ وَأَنْكَرَهُ أَبُو دَاوُد .
[ الْإِشَارَةُ إلَى كَرَاهَةِ لُبْسِ الطّيْلَسَانِ ]
وَأَمّا الطّيْلَسَانُ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنّهُ لَبِسَهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ ذَكَرَ الدّجّالَ فَقَالَ يَخْرُجُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ عَلَيْهِمْ الطّيَالِسَةُ وَرَأَى أَنَسٌ جَمَاعَةً [ ص 137 ] فَقَالَ مَا أَشْبَهَهُمْ بِيَهُودِ خَيْبَرَ . وَمِنْ هَاهُنَا كَرِهَ لُبْسَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ تَشَبّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ مِنّا مَنْ تَشَبّهَ بِقَوْمٍ غَيْرِنَا وَأَمّا مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَاءَ إلَى أَبِي بَكْرٍ مُتَقَنّعًا بِالْهَاجِرَةِ فَإِنّمَا فَعَلَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تِلْكَ السّاعَةَ لِيَخْتَفِيَ بِذَلِكَ فَفَعَلَهُ لِلْحَاجَةِ وَلَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ التّقَنّعُ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَسٌ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يُكْثِرُ الْقِنَاعَ وَهَذَا إنّمَا كَانَ يَفْعَلُهُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - لِلْحَاجَةِ مِنْ الْحَرّ وَنَحْوِهِ وَأَيْضًا لَيْسَ التّقَنّعُ مِنْ التّطَيْلُسِ .
فَصْلٌ [ غَالِبُ لُبْسِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ الْقُطْنُ ](3/423)
وَكَانَ غَالِبُ مَا يَلْبَسُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مَا نُسِجَ مِنْ الْقُطْنِ وَرُبّمَا لَبِسُوا مَا نُسِجَ مِنْ الصّوفِ وَالْكَتّانِ وَذَكَرَ الشّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ أَيّوبَ قَالَ دَخَلَ الصّلْتُ بْنُ رَاشِدٍ عَلَى مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعَلَيْهِ جُبّةُ صُوفٍ وَإِزَارُ صُوفٍ وَعِمَامَةُ صُوفٍ فَاشْمَأَزّ مِنْهُ مُحَمّدٌ وَقَالَ أَظُنّ أَنّ أَقْوَامًا يَلْبَسُونَ الصّوفَ وَيَقُولُونَ قَدْ لَبِسَهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَقَدْ حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ لَبِسَ الْكَتّانَ وَالصّوفَ وَالْقُطْنَ وَسُنّةُ نَبِيّنَا أَحَقّ أَنْ تُتّبَعَ . وَمَقْصُودُ ابْنِ سِيرِينَ بِهَذَا أَنّ أَقْوَامًا يَرَوْنَ أَنّ لُبْسَ الصّوفِ دَائِمًا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ فَيَتَحَرّوْنَهُ [ ص 138 ] أَنْفُسَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ يَتَحَرّوْنَ زِيّا وَاحِدًا مِنْ الْمَلَابِسِ وَيَتَحَرّوْنَ رُسُومًا وَأَوْضَاعًا وَهَيْئَاتٍ يَرَوْنَ الْخُرُوجَ عَنْهَا مُنْكَرًا وَلَيْسَ الْمُنْكَرُ إلّا التّقَيّدُ بِهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَتَرْكُ الْخُرُوجِ عَنْهَا .
[ السّنّةُ لُبْسُ مَا تَيَسّرَ ]
وَالصّوَابُ أَنّ أَفْضَلَ الطّرُقِ طَرِيقُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّتِي سَنّهَا وَأَمَرَ بِهَا وَرَغّبَ فِيهَا وَدَاوَمَ عَلَيْهَا وَهِيَ أَنّ هَدْيَهُ فِي اللّبَاسِ أَنْ يَلْبَسَ مَا تَيَسّرَ مِنْ اللّبَاسِ مِنْ الصّوفِ تَارَةً وَالْقُطْنِ تَارَةً وَالْكَتّانِ تَارَةً .
[ لبس البرد ]
وَلُبْسُ الْبُرُودِ الْيَمَانِيّةِ وَالْبُرْدِ الْأَخْضَرِ وَلُبْسُ الْجُبّةِ وَالْقَبَاءِ وَالْقَمِيصِ وَالسّرَاوِيلِ وَالْإِزَارِ وَالرّدَاءِ وَالْخُفّ وَالنّعْلِ وَأَرْخَى الذّؤَابَةَ مِنْ خَلْفِهِ تَارَةً وَتَرَكَهَا تَارَةً . وَكَانَ يَتَلَحّى بِالْعِمَامَةِ تَحْتَ الْحَنَكِ . وَكَانَ إذَا اسْتَجَدّ ثَوْبًا سَمّاهُ بِاسْمِهِ وَقَالَ اللّهُمّ أَنْتَ كَسَوْتَنِي هَذَا الْقَمِيصَ أَوْ الرّدَاءَ أَوْ الْعِمَامَةَ أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّهِ وَشَرّ مَا صُنِعَ لَهُ وَكَانَ إذَا لَبِسَ قَمِيصَهُ بَدَأَ بِمَيَامِنِهِ . وَلَبِسَ الشّعْرَ الْأَسْوَدَ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ [ ص 139 ] وَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ قَتَادَةَ قُلْنَا لِأَنَسٍ أَيّ اللّبَاسِ كَانَ أَحَبّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالَ الْحِبَرَةُ . وَالْحِبَرَةُ بُرْدٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ . فَإِنّ غَالِبَ لِبَاسِهِمْ كَانَ مِنْ نَسْجِ الْيَمَنِ لِأَنّهَا قَرِيبَةٌ مِنْهُمْ وَرُبّمَا لَبِسُوا مَا يُجْلَبُ مِنْ الشّامِ وَمِصْرَ كَالْقَبَاطِيّ الْمَنْسُوجَةِ مِنْ الْكَتّانِ الّتِي كَانَتْ تَنْسِجُهَا الْقِبْطُ . وَفِي سُنَنِ النّسَائِيّ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا جَعَلَتْ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بُرْدَةً مِنْ صُوفٍ فَلَبِسَهَا فَلَمّا عَرِقَ فَوَجَدَ رِيحَ الصّوفِ طَرَحَهَا وَكَانَ يُحِبّ الرّيحَ الطّيّبَ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ الْحُلَلِ وَفِي سُنَنِ النّسَائِيّ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَان . وَالْبُرْدُ الْأَخْضَرُ هُوَ الّذِي فِيهِ خُطُوطٌ خُضْرٌ وَهُوَ [ ص 140 ] سَوَاءٌ فَمَنْ فَهِمَ مِنْ الْحُلّةِ الْحَمْرَاءِ الْأَحْمَرَ الْبَحْتَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ إنّ الْبُرْدَ الْأَخْضَرَ كَانَ أَخْضَرَ بَحْتًا وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ .
[ مِخَدّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
[ الرّدّ عَلَى مَنْ يَمْتَنِعُونَ عَمّا أَبَاحَ اللّهُ ]
[ النّهْيَ عَنْ لِبَاسِ الشّهْرَةِ سَوَاءٌ لِلْفَخْرِ أَوْ لِلتّزَهّدِ ](3/424)
وَكَانَتْ مِخَدّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أُدُمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ فَاَلّذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَمّا أَبَاحَ اللّهُ مِنْ الْمَلَابِسِ وَالْمَطَاعِمِ وَالْمَنَاكِحِ تَزَهّدًا وَتَعَبّدًا بِإِزَائِهِمْ طَائِفَةٌ قَابَلُوهُمْ فَلَا يَلْبَسُونَ إلّا أَشْرَفَ الثّيَابِ وَلَا يَأْكُلُونَ إلّا أَلْيَنَ الطّعَامِ فَلَا يَرَوْنَ لُبْسَ الْخَشِنِ وَلَا أَكْلَهُ تَكَبّرًا وَتَجَبّرًا وَكِلَا الطّائِفَتَيْنِ هَدْيُهُ مُخَالِفٌ لِهَدْيِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السّلَفِ كَانُوا يَكْرَهُونَ الشّهْرَتَيْنِ مِنْ الثّيَابِ الْعَالِي وَالْمُنْخَفِضُ وَفِي السّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ مَذَلّةٍ ثُمّ تَلَهّبُ فِيهِ النّارُ وَهَذَا لِأَنّهُ قَصَدَ بِهِ الِاخْتِيَالَ وَالْفَخْرَ فَعَاقَبَهُ اللّهُ بِنَقِيضِ ذَلِكَ فَأَذَلّهُ كَمَا عَاقَبَ مَنْ أَطَالَ ثِيَابَهُ خُيَلَاءَ بِأَنْ خَسَفَ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ جَرّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي [ ص 141 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ الْإِسْبَالُ فِي الْإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ مَنْ جَرّ شَيْئًا مِنْهَا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي السّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا قَالَ مَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْإِزَارِ فَهُوَ فِي الْقَمِيصِ وَكَذَلِكَ لُبْسُ الدّنِيءِ مِنْ الثّيَابِ يُذَمّ فِي مَوْضِعٍ وَيُحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ فَيُذَمّ إذَا كَانَ شُهْرَةً وَخُيَلَاءَ وَيُمْدَحُ إذَا كَانَ تَوَاضُعًا وَاسْتِكَانَةً كَمَا أَنّ لُبْسَ الرّفِيعِ مِنْ الثّيَابِ يُذَمّ إذَا كَانَ تَكَبّرًا وَفَخْرًا وَخُيَلَاءَ وَيُمْدَحُ إذَا كَانَ تَجَمّلًا وَإِظْهَارًا لِنِعْمَةِ اللّهِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أُحِبّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي حَسَنًا وَنَعْلِي حَسَنَةً أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ ؟ فَقَالَ لَا إنّ اللّهَ جَمِيلٌ يُحِبّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقّ وَغَمْطُ النّاسِ [ ص 142 ]
زاد المعاد - (ج 4 / ص 256)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حِفْظِ الصّحّةِ بِالطّيبِ(3/425)
لَمّا كَانَتْ الرّائِحَةُ الطّيّبَةُ غِذَاءَ الرّوحِ وَالرّوحُ مَطِيّةُ الْقُوَى وَالْقُوَى تَزْدَادُ بِالطّيبِ وَهُوَ يَنْفَعُ الدّمَاغَ وَالْقَلْبَ وَسَائِرَ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنِيّةِ وَيُفَرّحُ الْقَلْبَ وَيَسُرّ النّفْسَ وَيَبْسُطُ الرّوحَ وَهُوَ أَصْدَقُ شَيْءٍ لِلرّوحِ وَأَشَدّهُ مُلَاءَمَةً لَهَا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الرّوحِ الطّيّبَةِ نِسْبَةٌ قَرِيبَةٌ . كَانَ أَحَدَ الْمَحْبُوبِينَ مِنْ الدّنْيَا إلَى أَطْيَبِ الطّيّبِينَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ لَا يَرُدّ الطّيبَ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدّهُ . فَإِنّهُ طَيّبُ الرّيحِ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " وَالنّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدّهُ فَإِنّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ طَيّبُ الرّائِحَةِ وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزّارِ " : عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّ اللّهَ طَيّبٌ يُحِبّ الطّيبَ نَظِيفٌ يُحِبّ النّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبّ الْجُودَ فَنَظّفُوا أَفْنَاءَكُمْ وَسَاحَاتِكُمْ وَلَا تَشَبّهُوا بِالْيَهُودِ يَجْمَعُونَ الْأُكُبّ فِي دُورِهِم الْأُكُبّ الزّبَالَةُ . [ ص 257 ] وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ لَهُ سِكّةٌ يَتَطَيّبُ مِنْهَا وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ إنّ لِلّهِ حَقّا عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلّ سَبْعَةِ أَيّامٍ وَإِنْ كَانَ لَهُ طِيبٌ أَنْ يَمَسّ مِنْهُ وَفِي الطّيبِ مِنْ الْخَاصّيّةِ أَنّ الْمَلَائِكَةَ تُحِبّهُ وَالشّيَاطِينَ تَنْفِرُ عَنْهُ وَأَحَبّ شَيْءٍ إلَى الشّيَاطِينِ الرّائِحَةُ الْمُنْتِنَةُ الْكَرِيهَةُ فَالْأَرْوَاحُ الطّيّبَةُ تُحِبّ الرّائِحَةَ الطّيّبَةَ وَالْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ تُحِبّ الرّائِحَةَ الْخَبِيثَةَ وَكُلّ رُوحٍ تَمِيلُ إلَى مَا يُنَاسِبُهَا فَالْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِينَ وَالطّيّبُونَ لِلطّيّبَاتِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي النّسَاءِ وَالرّجَالِ فَإِنّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَعْمَالَ وَالْأَقْوَالَ وَالْمَطَاعِمَ وَالْمَشَارِبَ وَالْمَلَابِسَ وَالرّوَائِحَ إمّا بِعُمُومِ لَفْظِهِ أَوْ بِعُمُومِ مَعْنَاهُ .
زاد المعاد - (ج 4 / ص 257)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حِفْظِ صِحّةِ الْعَيْنِ
[ حِفْظُ صِحّةِ الْعَيْنِ بِالِاكْتِحَالِ ]
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ مَعْبَدٍ بْنِ هَوْذَةَ الْأَنْصَارِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوّحِ عِنْدَ النّوْمِ وَقَالَ لِيَتّقِهِ الصّائِمُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْمُرَوّحُ الْمُطَيّبُ بِالْمِسْكِ . [ ص 258 ] وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَتْ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا ثَلَاثًا فِي كُلّ عَيْنٍ وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اكْتَحَلَ يَجْعَلُ فِي الْيُمْنَى ثَلَاثًا يَبْتَدِئُ بِهَا وَيَخْتِمُ بِهَا وَفِي الْيُسْرَى ثِنْتَيْنِ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ فَهَلْ الْوِتْرُ بِالنّسْبَةِ إلَى الْعَيْنَيْنِ كِلْتَيْهِمَا فَيَكُونُ فِي هَذِهِ ثَلَاثٌ وَفِي هَذِهِ ثِنْتَانِ وَالْيُمْنَى أَوْلَى بِالِابْتِدَاءِ وَالتّفْضِيلِ أَوْ هُوَ بِالنّسْبَةِ إلَى كُلّ عَيْنٍ فَيَكُونُ فِي هَذِهِ ثَلَاثٌ وَفِي هَذِهِ ثَلَاثٌ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . [ ص 259 ]
[ فَوَائِدُ الْكُحْلِ لِلْعَيْنِ ](3/426)
وَفِي الْكُحْلِ حِفْظٌ لِصِحّةِ الْعَيْنِ وَتَقْوِيَةٌ لِلنّورِ الْبَاصِرِ وَجَلَاءٌ لَهَا وَتَلْطِيفٌ لِلْمَادّةِ الرّدِيئَةِ وَاسْتِخْرَاجٌ لَهَا مَعَ الزّينَةِ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَلَهُ عِنْدَ النّوْمِ مَزِيدُ فَضْلٍ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْكُحْلِ وَسُكُونِهَا عَقِيبَهُ عَنْ الْحَرَكَةِ الْمُضِرّةِ بِهَا وَخِدْمَةِ الطّبِيعَةِ لَهَا وَلِلْإِثْمِدِ مِنْ ذَلِكَ خَاصّيّةٌ . وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ يَرْفَعُهُ عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشّعْرَ وَفِي " كِتَابِ أَبِي نُعَيْمٍ " : فَإِنّهُ مَنْبَتَةٌ لِلشّعْرِ مَذْهَبَةٌ لِلْقَذَى مَصْفَاةٌ لِلْبَصَرِ وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " أَيْضًا : عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - يَرْفَعُهُ خَيْرُ أَكْحَالِكُمْ الْإِثْمِدُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشّعْرَ [ ص 260 ]
000000000000000000
1ـ كان صلى الله عليه وسلم يكثر التَّطَيُّبَ ويحب الطيب، ولا يَرُدُّهُ، وكان أحب الطيب إليه المسك.
2ـ وكان يحب السواك، وكان يستاك مفطرًا وصائمًا، ويستاك عند الانتباه من النوم، وعند الوضوء، وعند الصلاة وعند دخول المنزل.
3ـ وقال: ((خير أكحالكم الإثمد، يجلو البصر، وينبت الشعر)) [صحيح ابن ماجه (2/1157)].
4ـ وكان يرجِّل(1) نفسه تارة، وترجِّله عائشة تارة، وكان هَدْيُهُ في حلق رأسه تركه كله أو أخذه كلَّه.
5ـ ولم يُحْفَظْ عنه حلق رأسه إلا في نُسُكٍ، وكان شَعْرُهُ فوق الجمة، ودون الوفرة، وكانت جُمَّتُهُ(2) تَضْرِبُ شحمة أذنيه.
6ـ ونهى عن الْقَزْعِ.
7ـ وقال: ((خالفوا المشركين، ووفروا اللحى وأحفوا الشارب)) [ق].
8ـ وكان يلبس ما تيسر من اللباس: من الصوف تارةً، والقطن تارةً، والكتان تارةً، وكان أحب اللباس إليه القميص.
9ـ ولبس البرود اليمانية، والبرد الأخضر، ولبس الجبة والقَباء والسراويل والإزار والرِّداء، والخفَّ والنَّعل والعمامة.
10ـ وكان يتلحى بالعمامة تحت الحنك، وأرخى الذؤابة من خلفه تارةً وتركها تارةً.
11ـ ولبس الأسود، ولبس حُلَّةً حمراء والحلة(3): إزار ورداء.
12ـ ولبس خاتمًا من فِضَةٍ، وكان يجعل فصه مما يلي باطن كَفِّهِ.
13ـ وكان إذا اسْتَجَد ثوبًا سَمَّاهُ باسمه، وقال: ((اللهم أنت كسوتني هذا القميص أو الرداء أو العمامة، أسألك خيره وخير ما صُنع له، وأعوذ بك من شَرِّهِ وَشَرِّ ما صُنع له)). [صحيح أبي داود].
14ـ وكان إذا لبس قميصه بدأ بميامنه.
15ـ وكان يعجبهُ التَّيَمُّنُ في تَنَعُّلِهِ وَتَرجُّلِهِ وطهورِه وَأَخْذِهِ وَعَطَائِهِ.
16ـ وكان هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فِيِهِ، وَغَضّ به صوتَه.
17ـ وكان صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياء من العذراء في خدرها.
18ـ وكان يَضْحَكُ مما يُضْحَكُ منه، وكان جُلَّ ضَحِكِهِ التبسمُ، فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذُه، وكان بكاؤه من جنس ضَحِكِهِ، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه قهقهةً، ولكن كانت عيناه تدمع ويسمع لصدره أَزِيزٌ.
0000000000000000
(1) الترجيل: هو تسريح الرأس واللحية وتنظيفه وتحسينه. والممدود منه ما كان من غير إكثار ومبالغة حيث نهى صلى الله عليه وسلم عن الترجِّل إلا غبًا أي: وقتًا دون وقت.
(2) الجمة: ما وصل من شعر الرأس إلى المنكبين.
(3) وهي بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود
38. ... هدي الحبيب في الممازحة
زاد المعاد - (ج 1 / ص 154)
فَصْلٌ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعُقُودِ(3/427)
وَبَاعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاشْتَرَى وَكَانَ شِرَاؤُهُ بَعْدَ أَنْ أَكْرَمَهُ اللّهُ تَعَالَى بِرِسَالَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ بَيْعِهِ وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لَا يَكَادُ يُحْفَظُ عَنْهُ الْبَيْعُ إلّا فِي قَضَايَا يَسِيرَةٍ أَكْثَرُهَا لِغَيْرِهِ كَبَيْعِهِ الْقَدَحَ وَالْحِلْسَ فِيمَنْ يَزِيدُ وَبَيْعِهِ يَعْقُوبَ الْمُدَبّرَ غُلَامَ أَبِي مَذْكُورٍ وَبَيْعِهِ عَبْدًا أَسْوَدَ بِعَبْدَيْنِ . وَأَمّا شِرَاؤُهُ فَكَثِيرٌ وَآجَرَ وَاسْتَأْجَرَ وَاسْتِئْجَارُهُ أَكْثَرُ مِنْ إيجَارِهِ وَإِنّمَا يُحْفَظُ عَنْهُ أَنّهُ أَجّرَ نَفْسَهُ قَبْلَ النّبُوّةِ فِي رِعَايَةِ الْغَنَمِ وَأَجّرَ نَفْسَهُ مِنْ خَدِيجَةَ فِي سَفَرِهِ بِمَالِهَا إلَى الشّامِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُضَارَبَةً فَالْمَضَارِبُ أَمِينٌ وَأَجِيرٌ وَوَكِيلٌ وَشَرِيكٌ [ ص 155 ] ظَهَرَ فِيهِ الرّبْحُ . وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِه ِ مِنْ حَدِيثِ الرّبِيعِ بْنِ بَدْرٍ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ آجَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفْسَهُ مِنْ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِد ٍ سَفْرَتَيْنِ إلَى جَرَشَ كُلّ سَفْرَةٍ بِقَلُوص ٍ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ . قَالَ فِي النّهَايَةِ : جُرَشُ بِضَمّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الرّاءِ مِنْ مَخَالِيفِ الْيَمَنِ وَهُوَ بِفَتْحِهِمَا بَلَدٌ بِالشّامِ . قُلْت : إنْ صَحّ الْحَدِيثُ فَإِنّمَا هُوَ الْمَفْتُوحُ الّذِي بِالشّامِ وَلَا يَصِحّ فَإِنّ الرّبِيعَ بْنَ بَدْرٍ هَذَا هُوَ عُلَيْلَةٌ ضَعّفَهُ أَئِمّةُ الْحَدِيثِ . قَالَ النّسَائِيّ وَالدّارَقُطْنِيّ وَالْأَزْدِيّ مَتْرُوكٌ وَكَأَنّ الْحَاكِمَ ظَنّهُ الرّبِيعَ بْنَ بَدْرٍ مَوْلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ . وَشَارَكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم َ وَلَمّا قَدِمَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ قَالَ : أَمَا تَعْرِفُنِي ؟ قَالَ أَمَا كُنْتَ شَرِيكِي ؟ فَنِعْمَ الشّرِيكُ كُنْتَ لَا تُدَارِي وَلَا تُمَارِي . وَتُدَارِئُ بِالْهَمْزَةِ مِنْ الْمُدَارَأَةِ وَهِيَ مُدَافَعَةُ الْحَقّ فَإِنْ تُرِكَ هَمْزُهَا صَارَتْ مِنْ الْمُدَارَاةِ وَهِيَ الْمُدَافَعَةُ بِاَلّتِي هِيَ أَحْسَنُ . وَوَكّلَ وَتَوَكّلَ وَكَانَ تَوْكِيلُهُ أَكْثَرَ مِنْ تَوَكّلِهِ . وَأَهْدَى وَقَبِلَ الْهَدِيّةَ وَأَثَابَ عَلَيْهَا وَوَهَبَ وَاتّهَبَ [ ص 156 ] فَقَالَ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَقَدْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ جَارِيَةٌ : هَبْهَا لِي فَوَهَبَهَا لَهُ فَفَادَى بِهَا مِنْ أَهْلِ مَكّةَ أُسَارَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَدَانَ بِرَهْنٍ وَبِغَيْرِ رَهْنٍ وَاسْتَعَارَ وَاشْتَرَى بِالثّمَنِ الْحَالّ وَالْمُؤَجّلِ .
[الضّمَان ](3/428)
وَضَمِنَ ضَمَانًا خَاصّا عَلَى رَبّهِ عَلَى أَعْمَالٍ مَنْ عَمِلَهَا كَانَ مَضْمُونًا لَهُ بِالْجَنّةِ وَضَمَانًا عَامّا لِدُيُونِ مَنْ تُوُفّيَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَدَعْ وَفَاءً أَنّهَا عَلَيْهِ وَهُوَ يُوفِيهَا وَقَدْ قِيلَ إنّ هَذَا الْحُكْمَ عَامّ لِلْأَئِمّةِ بَعْدَهُ فَالسّلْطَانُ ضَامِنٌ لِدُيُونِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يُخْلِفُوا وَفَاءً فَإِنّهَا عَلَيْهِ يُوَفّيهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَقَالُوا : كَمَا يَرِثُهُ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا فَكَذَلِكَ يَقْضِي عَنْهُ دَيْنَهُ إذَا مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَفَاءً وَكَذَلِكَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ . وَوَقَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْضًا كَانَتْ لَهُ جَعَلَهَا صَدَقَةً فِي سَبِيلِ اللّهِ وَتَشَفّعَ وَشُفّعَ إلَيْهِ وَرَدّتْ بِرَيْرَةُ شَفَاعَتَهُ فِي مُرَاجَعَتِهَا مُغِيثًا فَلَمْ يَغْضَبْ عَلَيْهَا وَلَا عَتَبَ وَهُوَ الْأُسْوَةُ وَالْقُدْوَةُ وَحَلَفَ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا وَأَمَرَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِالْحَلِفِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فَقَالَ [ ص 157 ] { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبّي إِنّهُ لَحَقّ } [ يُونُسُ 53 ] وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبّي لَتَأْتِيَنّكُمْ } [ سَبَأٌ 3 ] وَقَالَ تَعَالَى : { زَعَمَ الّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبّي لَتُبْعَثُنّ ثُمّ لَتُنَبّؤُنّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ } التّغَابُنُ 7 ] وَكَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ الْقَاضِي يُذَاكِرُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمّدَ بْنَ دَاوُد الظّاهِرِيّ وَلَا يُسَمّيهِ بِالْفَقِيهِ فَتَحَاكَمَ إلَيْهِ يَوْمًا هُوَ وَخَصْمٌ لَهُ فَتَوَجّهَتْ الْيَمِينُ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد فَتَهَيّأَ لِلْحَلِفِ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ أَوَتَحْلِفُ وَمِثْلُك يَحْلِفُ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ فَقَالَ وَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ الْحَلِفِ وَقَدْ أَمَرَ اللّهُ تَعَالَى نَبِيّهُ بِالْحَلِفِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ قَالَ أَيْنَ ذَلِكَ ؟ فَسَرَدَهَا لَهُ أَبُو بَكْرٍ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ جِدّا وَدَعَاهُ بِالْفَقِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ .
[الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْتَثْنِي فِي يَمِينِهِ تَارَةً وَيُكَفّرُهَا تَارَةً وَيَمْضِي فِيهَا تَارَةً وَالِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ عَقْدَ الْيَمِينِ وَالْكَفّارَةُ تُحِلّهَا بَعْدَ عَقْدِهَا وَلِهَذَا سَمّاهَا اللّهُ تَحِلّةً .
[الْمِزَاحُ ]
وَكَانَ يُمَازِحُ وَيَقُولُ فِي مِزَاحِهِ الْحَقّ وَيُوَرّي وَلَا يَقُولُ فِي تَوْرِيَتِهِ إلّا الْحَقّ مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ جِهَةً يَقْصِدُهَا فَيَسْأَلُ عَنْ غَيْرِهَا كَيْفَ طَرِيقُهَا ؟ وَكَيْفَ مِيَاهُهَا وَمَسْلَكُهَا ؟ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . وَكَانَ يُشِيرُ وَيَسْتَشِيرُ . وَكَانَ يَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَشْهَدُ الْجِنَازَةَ وَيُجِيبُ الدّعْوَةَ وَيَمْشِي مَعَ الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ وَالضّعِيفِ فِي حَوَائِجِهِمْ وَسَمِعَ مَدِيحَ الشّعْرِ وَأَثَابَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ مَا قِيلَ فِيهِ مِنْ الْمَدِيحِ فَهُوَ جُزْءٌ يَسِيرٌ جِدّا مِنْ مَحَامِدِهِ وَأَثَابَ عَلَى الْحَقّ . وَأَمّا مَدْحُ غَيْرِهِ مِنْ النّاسِ فَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ بِالْكَذِبِ فَلِذَلِكَ أَمَرَ أَنْ يُحْثَى فِي وُجُوهِ الْمَدّاحِينَ التّرَابُ [ ص 158 ]
000000000000000
هدي الحبيب في الممازحة
أكرم كساب*
أسوة حسنة حتى في الممازحة:
جمَّل الله حياتنا برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو القدوة الحسنة والأسوة الطيبة، وهديه صلى الله عليه وسلم خير هدي، وفعله صلى الله عليه وسلم خير فعل، حتى في مزاحه ترك لنا أثره الطيب، نقتفيه ونقتدي به، وهنا يأتي السؤال: كيف كان هديه صلى الله عليه وسلم في الممازحة؟ هل كان يضاحك ويمازح؟ هل كان يداعب ويلاعب أو يبتسم ويمازح؟
لقد كان صلى الله عليه وسلم يربي بالضحكة، ويهذب بالابتسامة، ويُقوّم بالمزحة، ويدعو بالطرفة، فلضحكاته منافع، ولابتساماته مقاصد، ومن ممازحته عِبر، ولطُرَفه حِكَم وعظات.(3/429)
فهذا علي رضي الله عنه حين دب خلاف بينه وبين فاطمة -رضي الله عنهما- يصالحه النبي صلى الله عليه وسلم بالمزاح، يحكي لنا سهل بن سعد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليا في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج فلم يقل (وقت القيلولة) عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب".(1) فكان أبو تراب أحب الألفاظ إلى علي رضي الله عنه .
وهذا أسيد بن حضير يمازحه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُحدِّث القوم ويضحكهم فيطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصبعه في خاصرته، فقال: أوجعتني، فقال: أصبرني(2). قال: اصطبر، قال: إن عليك قميصًا وليس علي قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه(3). قال: إنما أردت هذا يا رسول الله"(4).
وعن عبد الحميد بن صيفي من ولد صهيب عن أبيه عن جده صهيب قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة وهو يأكل تمرًا، فأقبلت آكل من التمر وبعيني رمد فقال: أتأكل التمر وبك رمد؟ فقلت: إنما آكل على شقي الصحيح ليس به رمد، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم "(5).
ولما علم عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأنف من المزاح، ولا يغضب منه، بدأ رسول الله بالمزاح، يقول عوف: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قُبة من أُدمٍ، فسلمت، فردّ وقال: "ادخل". فقلت: أكلِّي يا رسول الله؟ قال: "كلك"، فدخلت(6). وإنما مزح عوف بن مالك بقوله: أكلِّي يا رسول الله؟ لأن القبة كانت صغيرة.
ولما رأى النبي رجلاً ذا بشرة حمراء مازحه قائلا: أنت أبو الورد، يقول أبو الورد قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرآني رجلاً أحمر، فقال: "أنت أبو الورد"(7).
ومنهم رجل اسمه زاهر، يقول أنس رضي الله عنه: إن رجلاً من أهل البادية يقال له زاهر بن حرام، كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الهدية فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أراد أن يخرج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن زاهرًا باديتنا ونحن حاضروه، قال: فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه والرجل لا يبصره، فقال: أرسلني، من هذا؟ فالتفت إليه فلما عرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم جعل يلزق ظهره بصدره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يشتري هذا العبد؟ فقال زاهر: تجدني يا رسول الله كاسدًا، قال: لكنك عند الله لست بكاسد، أو قال صلى الله عليه وسلم: بل أنت عند الله غالٍ"(8).
المصطفى يمازح النساء والأطفال:
وكما رأيناه صلى الله عليه وسلم يمازح الرجال رأيناه يمازح النساء، وهذا من باب اهتمامه ورفقه بهن صلى الله عليه وسلم . انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يلاطف عائشة -رضي الله عنها- ويمازحها، وهو يسابقها مرتين فتسبقه في الأولى ويسبقها في الثانية، فيقول لها: هذه بتلك، والحديث عن عائشة قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت؛ خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول:هذه بتلك"(9).
وانظر إليه وهو يمكنها من النظر إلى أهل الحبشة يلعبون بحرابهم، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه لأنظر إلى لعبهم بين كتفه اليسرى وعينيه، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو"(10).
ومن مداعبته صلى الله عليه وسلم مع النساء، ما حكت عائشة -رضي الله عنها- أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أتته عجوز من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : "إن الجنة لا يدخلها عجوز، فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فصلى ثم رجع إلى عائشة فقالت عائشة: لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : إن ذلك كذلك؛ إن الله إذا أدخلهن الجنة حوّلهن أبكارا"(11).
وتأتيه أخرى فتقول: يا رسول الله، إن زوجي يدعوك، فيقول: ومن هو؟ أهو الذي بعينه بياض؟ قالت: والله ما بعينه بياض، فقال صلى الله عليه وسلم : بلى إن بعينه بياضًا، فقالت: لا والله، فقال: ما من أحد إلا بعينه بياض"(12).(3/430)
وما كانت مداعبته صلى الله عليه وسلم ولا مزاحه للكبار دون الصغار، إنما هو للصغير كما هو للكبير، وللنساء كما هو للرجال. يقول أنس رضي الله عنه: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى إن كان ليقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير، ما فعل النغير"(13). ويداعب أنسا رضي الله عنه ويقول له: "يا ذا الأذنين"(14).
ويرسل النبي صلى الله عليه وسلم أنسًا رضي الله عنه يومًا.. ولنترك أنسًا رضي الله عنه يقص علينا الخبر: يقول أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، قال: فنظرت إليه وهو يضحك. فقال: يا أنيس، ذهبت حيث أمرتك؟ قال: قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله صلى الله عليه وسلم "(15).
ويُخرج لسانه للحسن والحسين صغارًا مداعبًا إياهما رضي الله عنهما، ويطأ ظهره لولديه الحسن والحسين ليركبا، ويدخل عليه أحد أصحابه فيقول: "نعم المركب ركبتما، فيقول: ونعم الفارسان هما"(16).
وفي رواية عند الطبراني: عن أبي هريرة قال: سمعت أذناي هاتان، وأبصرت عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بكفيه جميعًا، حسنًا أو حسينًا، وقدماه على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: حُزُقَّة حُزُقَّة ارَقَّ عين بَقَّة، فيرقى الغلام حتى يضع قدمه على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال له: افتح فاك، قال: ثم قبله، ثم قال: اللهم أحبه، فإني أحبه(17).
وتأمل حاله صلى الله عليه وسلم وهو يرى الحسن يصارع الحسين، فيجلس ويشاهد ويشجع.. عن جابر عن أبي جعفر قال: اصطرع الحسن والحسين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو حسين، فقالت فاطمة: كأنه أحب إليك؟ قال: لا، ولكن جبريل يقول هو حسين".(18)
وهذا عبد الله بن الحارث يقص علينا مشهدًا عجيبًا فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف عبد الله وعبيد الله، وكثيرًا بني العباس ثم يقول: "من سبق إليّ فله كذا وكذا"، قال: فيستبقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم (19).
وها هو صلى الله عليه وسلم يمازح يتيمة كانت عند أم سلمة، لكنها لا تفهم مقصوده صلى الله عليه وسلم فتحزن، ومن ذلك حديث أنس بن مالك قال: كانت عند أم سليم -وهي أم أنس- يتيمة، فرأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليتيمة، فقال: آنت هيه؟ لقد كبرت لا كبر سنك، فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: ما لك يا بنية؟ قالت الجارية: دعا عليَّ نبي الله -صلى الله عليه وسلم- أن لا يكبر سني أبدًا، أو قالت: قرني، فخرجت أم سليم متعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أم سليم؟ فقالت: يا نبي الله، أدعوت على يتيمتي؟ قال: وما ذاك يا أم سليم؟ قالت: زعمت أنك دعوت أن لا تكبر سنها، أو أن لا يكبر قرنها، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أم سليم، أما تعلمين شرطي على ربي؟ إني اشترطت على ربي فقلت: "إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها طهورا وزكاة وقربة يقربه بها يوم القيامة"(20).
منهج نبوي في المزاح:
إن العبادة الدائمة أو الذكر المتواصل أمل تهفو إليه النفوس الكبار، وتحوم حوله همم العظام، بيد أن النفس البشرية جبلت على الملل إن استمرت على أمر ثابت أو عمل متواصل، حتى ولو كان عبادة الله عز وجل، وفي الحديث: "خذوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى(21) تملوا"(22).
والمتأمل للأحاديث السابقة والمواقف المتقدمة يدرك هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المداعبة والمزاح والترويح عن النفس حتى لا تمل، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم صراحة للصديق رضي الله عنه حين دخل الصديق يوم العيد فوجد جاريتين تغنيان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فانتهرهما، فقال صلى الله عليه وسلم: دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام العيد"(23). وفي رواية: "حتى يعلم يهود أن في ديننا فسحة"(24).
والذي يظهر من هذا كله: أن المزاح ليس محرمًا شرعًا، ولا ممنوعًا عُرْفا، وكذلك الضحك؛ إنما الممنوع الإكثار الذي تضيع معه الحقوق، ويُخرج به من الصدق إلى الكذب، ولله در أنس حين وصف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كان رسول الله من أفكه الناس"(25).
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تكثر من الضحك" فقد منع من الإكثار، ولم يمنع أصل الضحك؛ بل هو في حديث أبي ذر المتقدم قال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا"، فهو صلى الله عليه وسلم لم يمنع الضحك، إنما دعا إلى التقليل منه.(3/431)
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجًا عن الفطر السوية في فعل من أفعاله، أو قول من أقواله، ولقد صدق الأعرابي حين سئل عن سبب إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: ما أمر بشيء واستقبحه العقل، ولا نهى عن شيء واستحسنه العقل.
ويحاول البعض أن يمنع الضحك بحجة هموم الدعوة، وهم الدين، بيد أن هذه حجة واهية، فلم يكن هناك، ولن يكون، من هو أكثر اهتماما بالدعوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك من تعددت لديه الواجبات كما تعددت لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد كان -بأبي هو وأمي- إمامًا للناس، ومعلمًا للخلق، ومفقها للدين، وحاكمًا بين الناس، وقاضيًا بينهم، ومجيشًا للجيوش، وباعثًا للسرايا، كما كان أبا رحيمًا، وزوجًا بارًا، وأخًا ودودًا، وصديقًا وفيًّا، ومع هذا كله فقد كان صلى الله عليه وسلم ضحاكًا بسامًا، وتؤكد ذلك السيدة عائشة فتقول حين سألتها عمرة قالت: سألت عائشة كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في البيت؟ قالت: ألين الناس، بسامًا ضحاكا"(26).
وفي رواية عند الترمذي في العلل: عن عائشة أنها سئلت كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا في بيته؟ فقالت: كان ألين الناس وأكرم الناس، كان رجلاً من رجالكم، إلا أنه كان ضحّاكًا بسّامًا". ويقول أبو أمامة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أضحك الناس، وأطيبهم نفسا"(27).
وقد يظهر التعارض بين الأحاديث فيزيله قول الإمام السيوطي: "كان من أضحك الناس" لا ينافيه خبر "أنه كان لا يضحك إلا تبسما"؛ لأن التبسم كان أغلب أحواله، فمن أخبر به أخبر عن أكثر أحواله، ولم يعرج على ذلك لندوره، أو كل راوٍ روى بحسب ما شاهد، فالاختلاف باختلاف المواطن والأزمان، وقد يكون في ابتداء أمره كان يضحك حتى تبدو نواجذه، وكان أخرى لا يضحك إلا تبسمًا(28).
بل لقد كانت بعض المواقف تأخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم كل المآخذ حتى يضحك ويستعلي به الضحك -ولكن ذلك على سبيل الندرة- فعن أبي أمامة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومًا لأصحابه: هل أصبح أحد منكم اليوم صائمًا؟ فسكتوا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا يا رسول الله، ثم قال: هل عاد أحد منكم اليوم مريضًا؟ فسكتوا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا يا رسول الله، ثم قال: هل تصدق أحد منكم اليوم صدقة؟ فسكتوا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا يا رسول الله؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استعلى به الضحك، ثم قال: والذي نفسي بيده، ما جمعهن في يوم واحد إلا مؤمن، وإلا دخل بهن الجنة"(29).
ولربما ضحك صلى الله عليه وسلم من حدث عامًا كاملاً؛ فعن أم سلمة أن أبا بكر خرج تاجرًا إلى بصرى ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة وكلاهما بدري، وكان سويبط على الزاد، فجاءه نعيمان فقال: أطعمني، فقال: لا حتى يأتي أبو بكر، وكان نعيمان رجلا مضحاكًا مزاحًا، فقال: لأغيظنك، فذهب إلى أناس جلبوا ظهرًا(30)، فقال: ابتاعوا(31) مني غلامًا عربيًا فارهًا، وهو ذو لسان، ولعله يقول: أنا حر، فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوني لا تفسدوا عليَّ غلامي، فقالوا: بل نبتاعه منك بعشر قلائص(32)، فأقبل بها يسوقها، وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال للقوم: دونكم هو هذا.
فجاء القوم فقالوا: قد اشتريناك، قال سويبط: هو كاذب، أنا رجل حر. فقالوا: قد أخبرنا خبرك، وطرحوا الحبل في رقبته فذهبوا به، فجاء أبو بكر فأخبر، فذهب هو وأصحاب له فردوا القلائص وأخذوه، فضحك منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا"(33).
بيد أن هذا لم يكن هو الحال الدائم أو الصفة الملازمة، وهذا ما يؤكده حديث جابر حيث قال: "كان لا ينبعث في الضحك"(34). وكان لا ينبعث في الضحك أي لا يسترسل فيه.
ولله در صاحب كتاب "تأويل مختلف الحديث" حين قال: "فلو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق الطلاقة والهشاشة والدماثة إلى القطوب والعبوس والزماتة أخذ الناس أنفسهم بذلك على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء، فمزح صلى الله عليه وسلم ليمزحوا، ووقف على أصحاب الدركلة(35) وهم يلعبون فقال: "خذوا يا بني أرفدة؛ ليعلم اليهود أن في ديننا فسحة"(36). يريد ما يكون في العرسات لإعلان النكاح، وفي المآدب لإظهار السرور.
وقد درج الصالحون والأخيار على أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم في التبسم والطلاقة والمزاح بالكلام المجانب للقدح والشتم والكذب، فكان علي رضي الله عنه يكثر الدعابة.
-----------------------------------------------------
* باحث مصري في العلوم الشرعية، مقيم في قطر. ويمكنكم التواصل معه أو مراسلتنا بمشاركاتكم وآرائكم على بريد الصفحة: alhabib@iolteam.com.
(1) متفق عليه، رواه البخاري في الصلاة رقم (441)، ومسلم في فضائل الصحابة (2409).
(2) مَكِّني من القصاص.
(3) ما بين الخاصرة إلى الضلع الأقصر من أضلاع الجنب.
(4) سبق تخريجه.
(5) سبق تخريجه.(3/432)
(6) رواه أبو داود في الأدب (5000)، وذكره الألباني في صحيح أبي داود (4181).
(7) رواه الطبراني في الكبير، وقال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه جبارة بن المغلس، وثقه ابن نمير ونسبه غير واحد إلى الكذب (8/ 56).
(8) رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني في الشمائل المحمدية (204).
(9) رواه أحمد (24119 ، 24118) وقال محققو المسند: إسناده صحيح، ورواه أبو داود (2578)، وابن ماجه (2010) عن عائشة، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" برقم (1502).
(10) متفق عليه- رواه البخاري في العيدين (4938)، ومسلم في صلاة العيدين (892).
(11) رواه الترمذي في الشمائل وعبد بن حميد وغيرهم، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط، وذكره الألباني في غاية المرام برقم (375).
(12) رواه ابن أبي الدنيا، وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: أخرجه الزبير بن بكار في كتاب "الفكاهة"، ورواه ابن الدنيا من حديث عبيدة بن سهم مع اختلاف.
(13) رواه البخاري في الأدب برقم (6129)، ومسلم في الآداب رقم (3150).
(14) رواه الترمذي وأبو داود، وذكره الألباني في صحيح الجامع رقم (7909).
(15) رواه مسلم في الفضائل رقم (2310).
(16) رواه الحاكم (3/170) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: لا. وأخرجه أبو يعلى عن ابن عمر. وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى في الكبير، ورجاله رجال الصحيح. ورواه البزار بسند ضعيف (9/181).
(17) رواه الطبراني في الكبير (3/49). قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه أبو مزرد ولم أجد من وثقه، وبقية رجاله رجال الصحيح (9/176). وذكره الألباني في ضعيف الأدب (40).
(18) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 308).
(19) رواه مسلم في البر والصلة، رقم (2603).
(20) رواه مسلم، كتاب البر والصلة.
(21) حتى هنا بمعنى الواو أي (وتملوا).
(22) رواه البخاري في الصوم رقم (1970)، ورواه مسلم في صلاة المسافرين رقم (785)، وهذا لفظ البخاري.
(23) رواه البخاري في العيدين رقم (949)، ومسلم في صلاة العيدين (892).
(24) رواه أحمد (24855، 25962) عن عائشة، وقال محققو المسند: حديث قوي، وهذا سند حسن.
(25) رواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6/263)، وفي "المعجم الصغير" (2/112) من حديث أنس بن مالك، وذكره الألباني في ضعيف الجامع (4488).
(26) رواه إسحاق بن راهويه. وذكره الألباني في ضعيف الجامع (4386).
(27) رواه الطبراني، وذكره الألباني في ضعيف الجامع (4487).
(28) الجامع الصغير، السيوطي، ط دار طائر العلم، جدة، ص 235.
(29) رواه البيهقي في الكبرى والطبراني في الكبير. وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبيد الله بن زحر وفيه كلام، وقد وثق (3/ 163).
(30) إبلاً عليها متاع.
(31) تشتروا.
(32) القلوص من الإبل: الشابة، أو الباقية على السير.
(33) سبق تخريجه.
(34) رواه الطبراني في الكبير (2/ 244)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 456)، وذكره الألباني في ضعيف الجامع رقم (4509).
(35) الدِّرْكِلةُ بكسر الدال والكاف لعبة للعجم، وضرب من الرقص أيضا.
(36) سبق تخريجه.
39. ... من هدي النبوة
د/ خالد سعد النجار
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم
(ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون)(1)
أمتع وجدانك بروائع من كلمات سيد المرسلين، فأنت بالروح لا بالجسد إنسان، وترجم هذا الخير واقعًا عمليًا في حياتك لتنال مثوبة رب العالمين، وتحس بروعة هذا الدين، وتفتخر بأنك من أتباع خاتم النبيين، لا من أتباع الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا... إن في العمل بهذا المنهج النبوي راحة للنفس لا تدانيها راحة، ومتعة للوجدان والضمير لا يستطيع أن يصفها لك أحد بكلمات مهما أوتي من فصاحة وبلاغة إلا بقوله: من ذاق عرف.(3/433)
قال المناوي (ارحموا ترحموا) لأن الرحمة من صفات الحق التي شمل بها عباده، فلذا كانت أعلاماً اتصف بها البشر، فندب إليها الشارع في كل شيء حتى في قتال الكفار والذبح وإقامة الحجج وغير ذلك (واغفروا يغفر لكم) لأنه سبحانه وتعالى يحب أسمائه وصفاته التي منها الرحمة والعفو ويحب من خلقه من تخلق بها (ويل لأقماع القول) أي شدة هلكة لمن لا يعي أوامر الشرع ولم يتأدب بآدابه، والأقماع بفتح الهمزة جمع قمع بكسر القاف وفتح الميم وتسكن، الإناء الذي يجعل في رأس الظرف ليملأ بالمائع، شبه استماع الذين يستمعون القول ولا يعونه ولا يعملون به بالأقماع التي لا تعي شيئاً مما يفرغ فيها، فكأنه يمر عليها مجتازاً كما يمر الشراب في القمع، كذلك قال الزمخشري: من المجاز ويل لأقماع القول وهم الذين يستمعون ولا يعون(ويل للمصرين) على الذنوب أي العازمين على المداومة عليها(الذين يصرون على ما فعلوا) يقيمون عليها فلم يتوبوا ولم يستغفروا(وهم يعلمون) حال أي يصرون في حال علمهم بأن ما فعلوه معصية، أو يعلمون بأن الإصرار أعظم من الذنب أو يعلمون بأنه يعاقب على الذنب(2)
فقوله صلى الله عليه وسلم:(ارحموا ترحموا) لأن الجزاء من جنس العمل، فلتكن الرحمة سجيتك والرفق خلقك، أما تحب أن يرحمك الله، قال صلى الله عليه وسلم:(ارحم من في الأرض، يرحمك من في السماء)(3)، وقال صلى الله عليه وسلم:(إنما يرحم الله من عباده الرحماء)(4) وقال صلى الله عليه وسلم:(من رحم ولو ذبيحة عصفور، رحمه الله يوم القيامة)(5) وقال صلى الله عليه وسلم:(الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) زاد أحمد والترمذي والحاكم:(والرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله)(6) أي الراحمون لمن في الأرض من آدمي وحيوان لم يؤمر بقتله بالشفقة والإحسان والمؤاساة والشفاعة وكف الظلم ثم بالتوجع والتوجه إلى اللّه والالتجاء إليه والدعاء بإصلاح الحال ولكل مقام مقال، قال البوني: فإن كان لك شوق إلى رحمة من اللّه، فكن رحيماً لنفسك ولغيرك ولا تستبد بخيرك، فارحم الجاهل بعلمك، والذليل بجاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشفقتك ورأفتك، والعصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك ورفع غضبك، فأقرب الناس من رحمة اللّه أرحمهم لخلقه، فكل ما يفعله من خير دق أو جل فهو صادر عن صفة الرحمة.(7)
وقوله صلى الله عليه وسلم:(واغفروا يغفر لكم) هذا كقوله تعالى:(وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) النور 22 قال الشنقيطي: فيه الأمر من الله للمؤمنين إذا أساء إليهم بعض إخوانهم المسلمين أن يعفوا عن إساءتهم ويصفحوا، وأصل العفو: من عفت الرياح الأثر إذا طمسته، والمعنى: فليطمسوا آثار الإساءة بحلمهم وتجاوزهم والصفح، قال بعض أهل العلم: مشتق من صفحة العنق، أي أعرضوا عن مكافأة إساءتهم حتى كأنكم تولونها بصفحة العنق، معرضين عنها:(ألا تحبون أن يغفر الله لكم) دليل على لأن العفو والصفح عن المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب، والجزاء من جنس العمل.(8)(3/434)
وقوله صلى الله عليه وسلم:(ويل لأقماع القول) أي الذين لا يعون أوامر الشرع ولا يتأدبون بآدابه، قال جل ذكره:(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَْئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف 179 والذين يغفلون عما حولهم من آيات الله في الكون وفي الحياة، والذين يغفلون عما يمر بهم من الأحداث والغير فلا يرون فيها يد الله... أولئك كالأنعام بل هم أضل..فللأنعام استعدادات فطرية تهديها، أما الجن والإنس فقد زودوا بالقلب الواعي والعين المبصرة والأذن الملتقطة، فإذا لم يفتحوا قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ليدركوا، إذا مروا بالحياة غافلين لا تلتقط قلوبهم معانيها وغاياتها، ولا تلتقط أعينهم مشاهدها ودلالاتها، ولا تلتقط آذانهم إيقاعاتها وإيحاءاتها... فإنهم يكونون أضل من الأنعام الموكولة إلى استعداداتها الفطرية الهادية...ثم هم يكونون من ذرء جهنم!(9)، وقال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) الأنفال 20-22 جعلهم تعالى من جنس البهائم لصرفهم جوارحهم عما خلقت له، ثم جعلهم شرها لأنهم عاندوا بعد الفهم، وكابروا بعد العقل، وفي ذكرهم في معرض التشبيه بهذا الأسلوب غاية في الذم
وقوله صلى الله عليه وسلم:(ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) وهؤلاء الأشرار على النقيض من أهل الخير الذين قال تعالى فيهم:(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) آل عمران 135 -136 والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها، ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها من رحمة الله، ولا تجعلهم في ذيل القافلة.. قافلة المؤمنين.. إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة... مرتبة المتقين.. على شرط واحد، شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته..أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم، وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة، وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء.. وبعبارة أخرى أن يكونوا في إطار العبودية لله، والاستسلام له في النهاية، فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله.
والإسلام لا يدعو بهذا إلى الترخص، ولا يمجد العاثر الهابط، ولا يهتف له بجمال المستنقع! كما تهتف [الواقعية] إنما هو يقيل عثرة الضعف، ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء، كما يستجيش فيها الحياء! فالمغفرة من الله ــ ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ ــ تخجل ولا تطمع، وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار، فأما الذين يستهترون ويصرون فهم هنالك خارج الأسوار، موصدة في وجوههم الأسوار!(10)
ـــــــــــ
الهوامش
(1) رواه أحمد في مسنده 2/165, 219, والبخاري في الأدب المفرد رقم 380، والبيهقي في شعب الإيمان(صحيح) انظر حديث رقم: 897 في صحيح الجامع ــ السيوطي / الألباني، والسلسلة الصحيحة للألباني رقم 482
(2) فيض القدير للمناوي 2/745(3) رواه الطبراني في المعجم الكبير عن جرير والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود وأبو نعيم في الحلية وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 909(4) رواه الطبراني في الكبير عن جرير وحسنه الألباني في صحيح الجامع(5) رواه الطبراني عن أبي أمامة(حسن) انظر حديث رقم: 6261 في صحيح الجامع. (6) رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمرو(صحيح) انظر حديث رقم: 3522 في صحيح الجامع(7) فيض القدير للمناوي 2/452(8) أضواء البيان ــ سورة النور ج 5 بتصرف(9) في ظلال القرآن ــ سيد قطب ص 1401(10) الظلال ص 477 بتصرف.
40. ... مائة سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم
سنن النوم
1- النوم على وضوء: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للبراء بن عازب رضي الله عنه : (( إذا أتيت مضجعك ، فتوضأ وضوءك للصلاة ، ثم اضطجع على شقك الأيمن...)) الحديث. [متفق عليه:6311-6882] .(3/435)
2- قراءة سورة الإخلاص ، والمعوذتين قبل النوم: عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما ، فقرأ فيهما: (( قل هو الله أحد )) و (( قل أعوذ برب الفلق )) و (( قل أعوذ برب الناس )) ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات. [ رواه البخاري: 5017]
3- التكبير والتسبيح عند المنام : عن علي رضي الله عنه ، أن ! رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال حين طلبت منه فاطمة ـ رضي الله عنها ـ خادمًا: (( ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم ؟ إذا أويتما إلى فراشكما ، أو أخذتما مضاجعكما ، فكبرا أربعًا وثلاثين ، وسبحا ثلاثًا وثلاثين ، واحمدا ثلاثًا وثلاثين. فهذا خير لكما من خادم )) [ متفق عليه: 6318 ’ 6915]
4- الدعاء حين الاستيقاظ أثناء النوم : عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله ، وسبحان الله ، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا ، استُجيب له ، فإنْ توضأ وصلى قُبِلت صلاته )) [ رواه البخاري: 1154].
5- الدعاء عند الاستيقاظ من النوم بالدعاء الوارد : (( الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا ، وإليه النشور )) [رواه البخاري من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : 6312].
سنن الوضوء والصلاة
6- المضمضة والاستنشاق من غرفة واحدة: عن عبدالله بن زيد رضي الله عنه ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تمضمض ، واستنشق من كف واحدة )) [ رواه مسلم: 555 ] .
7- الوضوء قبل الغُسل : عن عائشة رضي الله عنها ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم : (( كان إذا اغتسل من الجنابة ، بدأ فغسل يديه ، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يُدخل أصابعه في الماء ، فيخلل بها أصول الشعر ، ثم يَصُب على رأسه ثلاث غُرف بيديه ، ثم يُفيض الماء على جلده كله )) [ رواه البخاري :248 ].
8- التشهد بعد الوضوء: عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول : أشهد أنَّ لا! إله إلا الله ، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله إلاَّ فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيها شاء )) [ رواه مسلم: 553 ].
9- الاقتصاد في الماء: عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: (( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ، ويتوضأ بالمُد )) [ متفق عليه: 201- 737 ].
10- صلاة ركعتين بعد الوضوء: قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين لا يُحَدِّثُ فيهما نفسه ، غُفر له ما تقدم من ذنبه )) [ متفق عليه من حديث حُمران مولى عثمان رضي الله عنهما:159- 539 ] .
11- الترديد مع المؤذن ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم : عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما ، أنه سمع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا! عليَّ، فإنه من صلى عليَّ صلاة ، صلى الله عليه بها عشرًا ... الحديث)) [ رواه مسلم: 849 ].
ثم يقول بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته ) رواه البخاري. من قال ذلك حلت له شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم .
12- الإكثار من السواك: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( لولا أنْ أشق على أمتي ، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )) [ متفق عليه:887 - 589 ].
كما أن من السنة، السواك عند الاستيقاظ من النوم ، وعند الوضوء ، وعند تغير رائحة الفم ، وعند قراءة القرآن ، وعند دخول المنزل.
13- التبكير إلى المسجد : عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ... ولو يعلمون ما في التهجير ( التبكير ) لاستبقوا إليه ... الحديث )) [ متفق عليه: 615-981 ] .
14- الذهاب إلى المسجد ماشيا: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات )) قالوا: بلى يا رسول الله. قال: (( إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط )) [ رواه مسلم: 587 ].
15- إتيان الصلاة بسكينة ووقار: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ، وأتوها تمشون ، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا )) [ متفق عليه: 908 - 1359 ] .(3/436)
16- الدعاء عند دخول المسجد ، و الخروج منه : عن أبي حُميد الساعدي ، أو عن أبي أُسيد ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فلي قل: اللهم إني أسألك من فضلك )) [ رواه مسلم: 1652].
17- الصلاة إلى سترة : عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليُصَلِّ ، ولا يبال مَنْ مر وراء ذلك)) [ رواه مسلم: 1111 ].
• السترة هي: ما يجعله المصلي أمامه حين الصلاة ، مثل: الجدار ، أو العمود ، أو غيره. ومؤخرة الرحل: ارتفاع ثُلثي ذراع تقريبا.
18- الإقعاء بين السجدتين: عن أبي الزبير أنه سمع طاووسا يقول: قلنا لابن عباس ـ رضي الله عنه ـ في الإقعاء على القدمين ، فقال : (( هي السنة )) ، فقلنا له: إنا لنراه جفاء بالرجل ، فقال ابن عباس: (( بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم )) [ رواه مسلم: 1198 ] .
• الإقعاء هو: نصب القدمين والجلوس على العقبين ، ويكون ذلك حين الجلوس بين السجدتين.
19- التورك في التشهد الثاني: عن أبي حميد الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قال: (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا جلس في الركعة الآخرة ، قدم رجله اليسرى ، ونصب الأخرى ، وقعد على مقعدته )) [ رواه البخاري: 828 ] .
20- الإكثار من الدعاء قبل التسليم: عن عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: (( كنا إذا كنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ،إلى أن قال: ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو )) [ رواه البخاري: 835 ] .
21- أداء السنن الرواتب : عن أم حبيبة رضي الله عنها ، أنها سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول( ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة تطوعًا غير الفريضة ، إلا بنى الله له بيتًا في الجنة )) [ رواه مسلم: 1696 ].
• السنن الرواتب: عددها اثنتا عشرة ركعة، في اليوم والليلة ! : أربع ركعات قبل الظهر ، وركعتان بعدها ، وركعتان بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء ، وركعتان قبل الفجر.
22- صلاة الضحى : عن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (( يصبح على كل سلامى ( أي: مفصل) من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى )) [ رواه مسلم: 1671 ] .
• وأفضل وقتها حين ارتفاع النهار، واشتداد حرارة الشمس ، ويخرج وقتها بقيام قائم الظهيرة، وأقلها ركعتان ، ولا حدَّ لأكثرها.
23- قيام الليل : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُئل : أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة، فقال: (( أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة ، الصلاة في جوف الليل )) [ رواه مسلم: 2756 ] .
24- صلاة الوتر: عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا )) [ متفق عليه:998 - 1755].
25- الصلاة في النعلين إذا تحققت طهارتهما: سُئل أنس بن مالك رضي الله عنه : أكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي في نعليه؟ قال: (( نعم )) [ رواه البخاري: 386 ] .
26- الصلاة في مسجد قباء: عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: (( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأتي قباء راكبًا وماشيًا )) زاد ابن نمير: حدثنا عبيدالله،عن نافع: (( فيصلي فيه ركعتين )) [ متفق عليه: 1194, 3390 ]
27- أداء صلاة النافلة في البيت : عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته ، ف! إن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا )) [ رواه مسلم: 1822 ] .
28- صلاة الاستخارة: عن جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنه ـ قال: (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن )) [ رواه البخاري: 1162 ].
• وصفتها كما ورد في الحديث السابق: أن يصلي المرء ركعتين ، ثم يقول : (( اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ( ويسمي حاجته) خير لي في ديني ، ومعاشي ، وعاقبة أمري ، فاقدره لي ، ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ، و معاشي ، وعاقبة أمري ، فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به )) .
29- الجلوس في المصلى بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه : ( أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسنا ) [ رواه مسلم: 1526] .(3/437)
30- الاغتسال يوم الجمعة : عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل )) [ متفق عليه: 877 -1951 ] .
31- التبكير إلى صلاة الجمعة: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا كان يوم الجمعة ، وقفت الملائكة على باب المسجد ، يكتبون الأول فالأول ، ومثل المُهَجِّر ( أي: المبكر) كمثل الذي يهدي بدنة ، ثم كالذي يهدي بقرة ، ثم كبشاً ، ثم دجاجة، ثم بيضة ، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ، ويستمعون الذكر )) [ متفق عليه: 929 - 1964 ] .
32- تحري ساعة الإجابة يوم الجمعة: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذَكَرَ يوم الجمعة فقال: ! (( فيه ساعة، لا يوافقها عبد مسلم ، وهو قائم يصلي ، يسأل الله تعالى شيئا ، إلا أعطاه إياه )) وأشار بيده يقللها. [ متفق عليه: 935 - 1969 ].
33- الذهاب إلى مصلى العيد من طريق، والعودة من طريق آخر: عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: (( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا كان يوم عيد خالف الطريق )) [ رواه البخاري: 986 ].
34- الصلاة على الجنازة: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان )) قيل: وما القيراطان؟ قال: (( مثل الجبلين العظيمين )) [ رواه مسلم: 2189 ] .
35- زيارة المقابر: عن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ... الحديث)) [ رواه مسلم: 2260 ].
• ملحوظة: النساء محرم عليهن زيارة المقابر كما أفتى بذلك الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ وجمع من العلماء.
سنن الصيام
36- السحور: عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( تسحروا ؛ فإن في السحور بركة )) [ متفق عليه: 1923 - 2549 ].
37- تعجيل الفطر ، وذلك إذا تحقق غروب الشمس : عن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر )) [ متفق عليه: 1957 - 2554 ].
38- قيام رمضان : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه )) [ متفق عليه: 37-1779 ]
39- الاعتكاف في رمضان ، وخاصة في العشر الأواخر منه: عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعتكف العشر الآواخر من رمضان )) [ رواه البخاري: 2025 ] .
40- صوم ستة أيام من شوال: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( من صام رمضان ، ثم أتبعه ستًا من شوال ،كان كصيام الدهر )) [ رواه مسلم: 2758 ]
41- صوم ثلاثة أيام من كل شهر: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: (( أوصاني خليلي بثلاث ، لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر ، وصلاة الضحى ، ونوم على وتر )) [ متفق عليه: 1178-1672 ].
42- صوم يوم عرفة: عن أبي قتادة رضي الله عنه ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن ! يكفر السنة التي قبلة، والسنة التي بعده )) [ رواه مسلم: 3746 ] .
43- صوم يوم عاشوراء: عن أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( صيام يوم عاشوراء ، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله )) [ رواه مسلم: 3746 ].
سنن السفر
44- اختيار أمير في السفر: عن أبي سعيد ، وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم )) [ رواه أبو داود: 2608 ] .
45- التكبير عند الصعود والتسبيح عند النزول: عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: (( كنا إذا صعدنا كبرنا ، وإذا نزلنا سبحنا )) [ رواه البخاري: 2994 ] .
• يكون التكبير عند صعود المرتفعات ، والتسبيح عند النزول وانحدار الطريق.
46- الدعاء حين نزول منزل : عن خولة بنت حكيم ـ رضي الله عنها ـ قالت: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (( من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء ، حتى يرتحل من منزله ذلك )) [ رواه مسلم: 6878 ] .
47- البدء بالمسجد إذا قدم من السفر: عن كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: (( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه )) [ متفق عليه: 443-1659 ] .
سنن اللباس و الطعام(3/438)
48- الدعاء عند لبس ثوب جديد: عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا استجد ثوبا سماه باسمه : إما قميصا ، أو عمامة، ثم يقول: (( اللهم لك الحمد ، أنت كسوتنيه ، أسألك من خيره ، وخير ما صنع له ، وأعوذ بك من شره، وشر ما صنع له )) [ رواه أبو داود: 4020 ].
49- لبس النعل باليمين : عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى ، وإذا خلع فليبدأ بالشمال، ولينعلهما جميعًا، أو ليخلعهما جميعًا )) [ متفق عليه:5855 - 5495 ].
50- التسمية عند الأكل: عن عمر بن أبي سلمة ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت في حجر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانت يدي تطيش في الصحفة ، فقال لي: (( يا غلام سم الله ، وكل بيمينك، وكل مما يليك )) [ متفق عليه: 5376 - 5269 ] .
51- حمد الله بعد الأكل والشرب: عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة فيحمده عليها )) [ رواه مسلم: 6932 ] .
52- الجلوس عند الشرب : عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( أنه نهى أن يشرب الرجل قائمًا )) [ رواه مسلم: 5275 ] .
53- المضمضة من اللبن: عن ابن عباس رضي الله عنه ،أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرب لبنًا فمضمض، وقال: (( إن له دسمًا )) [ متفق عليه:798- 5609 ].
54- عدم عيب الطعام: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: (( ما عاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طعامًا قط ، كان إذا اشتهاه أكله ، وإن كرهه تركه )) [ متفق عليه:5409 - 5380 ]
55- الأكل بثلاثة أصابع: عن كعب بن مال ـ رضي الله عنه ـ قال: (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأكل بثلاث أصابع ، ويلعق يده قبل أن يمسحها )) [ رواه مسلم: 5297 ! ]
56- الشرب والاستشفاء من ماء زمزم: عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ماء زمزم: (( إنها مباركة ، إنها طعام طُعم )) [ رواه مسلم: 6359 ] زاد الطيالسي: (( وشفاء سُقم ))
57- الأكل يوم عيد الفطر قبل الذهاب للمصلى: عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات )) وفي رواية: (( ويأكلهن وترًا )) [ رواه البخاري: 953 ]
الذكر والدعاء
58- الإكثار من قراءة القرآن : عن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (( اقرؤوا القرآن ، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه ! )) [ رواه مسلم: 1874 ].
59- تحسين الصوت بقراءة القرآن: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (( ما أَذِنَ الله لشيء ما أَذِنَ لنبي حسن الصوت ، يتغنى بالقرآن يجهر به )) [ متفق عليه:5024 - 1847 ].
60- ذكر الله على كل حال: عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكر الله على كل أحيانه )) [ رواه مسلم: 826 ] .
61- التسبيح : عن جويرية رضي الله عنها ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج من عندها بُكرة حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أنْ أضحى ، وهي جالسة ، فقال: (( ما زلتِ على الحال التي فارقتك عليها ؟ )) قالت: نعم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لقد قُلتُ بعدك أربَعَ كلماتٍ ، ثلاث مراتٍ ، لو وُزِنَت بما قلتِ مُنذ اليوم لَوَزَنتهُن: سبحان الله وبحمده ، عدد خلقه، ورضا نفس! هِ ، وزِنةَ عرشهِ ، ومِدادَ كلماته )) [ رواه مسلم: 2726]
62- تشميت العاطس: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( إذا عطس أحدُكُم فليقل: الحمد لله ، وليقل له أخوه أو صاحبه : يرحمك الله. فإذا قال له: يرحمك الله ، فليقل: يهديكم اللهُ ويُصْلِحُ بالكم )) [ رواه البخاري: 6224 ]
63- الدعاء للمريض: عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل على رجل يعوده ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( لا بأس طهور ، إن شاء الله )) [ رواه البخاري: 5662]
64- وضع اليد على موضع الألم ، مع الدعاء: عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه ، أنه شكا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعًا، يجده في جسده مُنذ أسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ضع يدك! على الذي يألم من جسدك، وقل: باسم الله ، ثلاثًا ، وقل سبع مرات: أعوذُ بالله وقدرتهِ من شَر ما أجد وأُحَاذر )) [ رواه مسلم: 5737 ](3/439)
65- الدعاء عند سماع صياح الديك ، والتعوذ عند سماع نهيق الحمار: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت مَلَكًا ، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنها رأت شيطانًا )) [ متفق عليه:3303 - 6920 ] .
66- الدعاء عند نزول المطر: عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا رأى المطر قال: (( اللهم صيبًا نافعًا )) [ رواه البخاري: 1032 ] .
67- ذكر الله عند دخول المنزل : عن جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (( إذا دخل الرجل بيته فذكر الله ـ عز وجل ـ عند دخوله ، وعند ! طعامه، قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله ، قال الشيطان : أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه ، قال : أدركتم المبيت والعشاء)) [ رواه مسلم: 5262 ].
68- ذكر الله في المجلس: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه ، ولم يُصَلوا على نبيهم،إلا كان عليهم تِرَة ( أي: حسرة) فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم )) [ رواه الترمذي: 3380 ] .
69- الدعاء عند دخول الخلاء: عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا دخل ( أي: أراد دخول) الخلاء قال: (( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )) [ متفق عليه: 6322-831]
70- الدعاء عندما تعصف الريح: عن عائشة ـ رضي الله عنه ـ قال! ت: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا عصفت الريح قال: (( اللهم إني أ سألك خيرها ، وخير ما فيها ، وخير ما أُرسلت به، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما فيها ، وشر ما أُرسلت به )) [ رواه مسلم: 2085 ]
71- الدعاء للمسلمين بظهر الغيب: عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (( من دعا لأخيه بظهر الغيب، قال المَلَكُ المُوَكَّلُ به: آمين ، ولك بمثل)) [ رواه مسلم: 6928 ].
72- الدعاء عند المصيبة: عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت ، سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (( ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أُجُرني في مُصيبتي وأَخلِف لي خيرًا منها ـ إلا أخلف الله له خيرًا منها )) [ رواه مسلم: 2126]
73- إفشاء السلام: عن البَراءِ بن عازِب ـ رضي الله عنه ـ قال: (( أمَرنا النبي ـ صلى ! الله عليه وسلم ـ بسبع ، ونهانا عن سَبع: أمرنا بعِيادة المريض، ... وإفشَاء السلام ،... الحديث )) [ متفق عليه: 5175 - 5388 ] .
سنن متنوعة
74- طلب العلم: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة )) [ رواه مسلم: 6853 ] .
75- الاستئذان قبل الدخول ثلاثاً: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( الاستئذان ثلاثٌ، فإن أُذن لك، و إلا فارجع )) [ متفق عليه:6245- 5633 ].
76- تحنيك المولود : عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: (( وُلد لي غلام ، فأتيت به النبي ـ صلى الله عليه! وسلم ـ فسماه إبراهيم ، فحنكه بتمرة ودعا له بالبركة ... الحديث )) [ متفق عليه: 5467 - 5615]
• التحنيك: هو مضغ طعام حلو ، وتحريكه في فم المولود ، والأفضل أن يكون التحنيك بالتمر.
77- العقيقة عن المولود: عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : (( أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نعق عن الجارية شاة ، وعن الغلام شاتين )) [ رواه أحمد: 25764 ] .
78- كشف بعض البدن ليصيبه المطر: عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: أصابنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مطر . قال: فحسر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ثوبه حتى أصابه من المطر ، فقلنا: يا رسول الله! لم صنعت هذا؟ قال: (( لأنه حديث عهد بربه)) [ رواه مسلم: 2083 ] .
• حسر عن ثوبه أي: كشف بعض بدنه.
79- عيادة المريض: عن ثوبان ، مولى رسول الله صلى الله عليه وس! لم ، عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( من عاد مريضا ، لم يزل في خُرفَة الجنة )) قيل : يا رسول الله! وما خُرفة الجنة؟ قال: (( جناها )) [ رواه مسلم: 6554 ] .
80- التبسم: عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق )) [ رواه مسلم: 6690 ] .(3/440)
81- التزاور في الله : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى ، فأرصد الله له على مدرجته ملكًا ( أي: أقعده على الطريق يرقبه ) فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا ، غير أني أحببته في الله عز وجل ، قال: فإني رسول الله إليك ، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه )) [ رواه مسلم: 6549 ].
82- إعلام الرجل أخيه أنه يحبه : عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه ، أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( إذا أحب أحدكم أخاه ، فليُعْلِمه أنه يحبه )) [ رواه أحمد: 16303 ] .
83- رد التثاؤب: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التثاؤب من الشيطان ، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع ، فإن أحدكم إذا قال: ها ، ضحك الشيطان )) [ متفق عليه:3289 - 7490 ].
84- إحسان الظن بالناس: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( إياكم والظن، فإنَّ الظن أكذب الحديث )) [ متفق عليه: 6067-6536 ] .
85- معاونة الأهل في أعمال المنزل: عن الأسود قال: سَألتُ عائشة ـ رضي الله عنها ـ ما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصنع في بيته؟ قالت: (( كان يكون في مهنة أهله ( أي: خدمتهم) ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة )) [ رواه البخاري: 676 ] .
86- سُنن الفطرة: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان ، والاستحداد ( حلق شعر العانة) ، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار ، وقص الشارب )) [ متفق عليه: 5889 - 597 ] .
87- كفالة اليتيم: عن سهل بن سعد رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا )) . و قال بإصبعيه السبابة والوسطى.[ رواه البخاري: 6005 ] .
88- تجنب الغضب: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني ، قال: (( لا تغضب )) . فردد مرارًا ، قال: (( لا تغضب )) [ رواه البخاري: 6116 ] .
89 - البكاء من خشية الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( سبعة يظلهم الله في ظله ، يوم لا ظل إلا ظله ... وذكر منهم : ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه )) [ متفق عليه: 660-1031 ].
90- الصدقة الجارية: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له )) [ رواه مسلم: 4223]
91- بناء المساجد: عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قال عند قول الناس فيه حين بنى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم أكثرتم وإني سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (( من بنى مسجدًا ـ قال بُكير: حسبت أنه قال: يبتغي به وجه الله ـ بنى الله له مثله في الجنة )) [ متفق عليه: 450- 533]
92- السماحة في البيع والشراء: عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع ، و إذا اشترى ، وإذا اقتضى )) [ رواه البخاري: 2076]
93- إزالة الأذى عن الطريق: عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( بينما رجل يمشي بطريق ، وجد غُصن شوك على الطريق ، فأخره ، فشكر الله له ، فغفر له )) [ رواه مسلم: 4940]
94- الصدقة : عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فإن الله يتقبلها بيمينه ، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلُوة حتى تكون مثل الجبل )) [ متفق عليه: 1410-1014]
95- الإكثار من الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة: عن بن عباس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: (( ما العمل في أيام أفضل منها في هذه ( يعني أيام العشر) )) قالوا: ولا الجهاد؟ قال: (( ولا الجهاد ، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء )) [ رواه البخاري: 969]
96- قتل الوزغ : عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من قتل وزغا في أول ضربة كتبت له مئة حسنة ، وفي الثانية دون ذلك ، وفي الثالثة دون ذلك )) [ رواه مسلم 8547 ]
97- النهي عن أن يُحَدِّث المرء بكل ما سمع: عن حفص بن عاصم ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كفى بالمرء إثمًا أن يُحَدِّث بكل ما سمع )) [ رواه مسلم: 7 ]
98- احتساب النفقة على الأهل: عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه ، عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (( إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة ، ! وهو يحتسبُها، كانت له صدقة )) [ رواه مسلم: 2322](3/441)
99- الرَّمَل في الطواف: عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا طاف الطواف الأول، خبَّ ( أي: رَمَلَ) ثلاثًا ومشى أربعًا ... الحديث )) [ متفق عليه :1644- 3048 ]
• الرَّمَل: هو الإسراع بالمشي مع مقاربة الخطى. ويكون في الأشواط الثلاثة من الطواف الذي يأتي به المسلم أول ما يقدم إلى مكة ، سواء كان حاجًا أو معتمرًا.
100- المداومة على العمل الصالح وإن قل: عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (( أدوَمها وإن قلَّ )) [ متفق عليه:6465- 1828 ]
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وآله وصحبه أجمعين.
41. ... من وصايا الرسول الكريم
إعداد/ محمد توفيق
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. أما بعد:
ورد عن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بعض الوصايا الجامعة المانعة عظيمة القدر والفائدة التي لا غنى لمسلم عنها في حياته اليومية وأحواله العامة والخاصة، وبين يديك بعض الوصايا مع اعتراف العجز عن الإحاطة بكل وصاياه صلى الله عليه وسلم:
1. وصايا سبع جامعة من النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أمرني خليلي بسبع:
1. أمرني بحب المساكين والدنو منهم.
2. وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي.
3. وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت.
4. وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا.
5. وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مُرًّا.
6. وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم.
7. وأمرني أن أُكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن من كنز تحت العرش.
2. الوصية بزيارة القبور والاعتبار بالموتى:
عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله أوصاه فقال له: "زُر القبور تذكر الآخرة، واغسل الموتى، فإن معالجة جسد خاوٍ موعظة بليغة".
3. وصايا سبع بليغة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصاني ربي بسبع أوصيكم بها:
1. أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية.
2. والعدل في الرضا والغضب.
3. والقصد في الغنى والفقر.
4. وأن أعفو عمّن ظلمني.
5. وأُعطي من حرمني.
6. وأصل من قطعني.
7. وأن يكون: صمتي فكرًا، ونُطقي ذكرًا، ونظري عِبَرًا".
4. خمس وصايا نافعات:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يأخذ عني هذه الكلمات فيعمل بهن أو يُعلِّم من يعمل بهن؟" فقال أبو هريرة: قلت: أنا يا رسول الله فأخذ بيدي فعدّ خمسًا فقال:"
1. اتّقِ المحارم تكن أعبد الناس.
2. وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس.
3. وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا.
4. وأحبَّ للناس ما تُحبّ لنفسك تكن مسلمًا.
5. ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب".
5. الوصية بذكر الله بعد الصلاة:
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله أخذ بيده وقال: "يا معاذ والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فقال: "أوصيك يا معاذ لا تدعنّ في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
6. من حقوق المسلم على المسلم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ مسلم من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه".
7. وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف".
8. مقدمات دخول الجنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرّت عيني فأنبئني عن كل شيء؟ فقال:" كل شيء خُلق من ماء" قال: قلت يا رسول الله أنبئني عن أمر إذا أخذت به دخلت الجنّة؟ قال: "أفشِ السلام، وأطعم الطعام، وصلِ الأرحام، وقُم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام".
9. ثلاث وصايا من النبي صلى الله عليه لأبي هريرة رضي الله عنه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت:
1. صوم ثلاثة أيام من كل شهر.
2. وصلاة الضحى.
3. ونوم على وتر".
10. الوصية بالإحسان في ذبح الحيوان:
عن شدّاد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليُحدّ أحدكم شفرته، وليُرِح ذبيحته".(3/442)
11. النهي عن الإسراف والخيلاء:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله : "كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة".
12. ستة أمور يضمن بها الجنة
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم أضمن لكم الجنة:
1. اصدقوا إذا حدّثتم.
2. وأوفوا إذا وعدتم.
3. وأدّوا إذا اؤتمنتم.
4. واحفظوا فروجكم.
5. وغضوا أبصاركم.
6. وكُفّوا أيديكم".
13. اغتنم خمسًا قبل خمس:
قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: اغتنم خمسًا قبل خمس:
1. شبابك قبل هرمك.
2. وصحتك قبل سقمك.
3. وغناك قبل فقرك.
4. وفراغك قبل شغلك.
5. وحياتك قبل موتك".
14. كن في الدنيا كأنك غريب:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".
15. من وصاياه في السفر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السّفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه، وشرابه، ونومه فإذا قضى نهمته فليعجّل إلى أهله".
16. من أذكار الصباح والمساء:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: "ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيّوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين".
17. من صفات المؤمن:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى اله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".
18. في ذم الظلم والشُّح:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُّحّ، فإن الشُّحّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم".
19. النهي عن الدعاء على النفس والأولاد والمال:
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم".
20. اجتنبوا السبع الموبقات:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله وما هُنّ؟ قال:
1. الشرك بالله.
2. والسحر.
3. وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق.
4. وأكل الربا.
5. وأكل مال اليتيم.
6. والتولّي يوم الزحف.
7. وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات".
21. إعاذة من استعاذ بالله:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعاذكم بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه".
22. في فضل يوم الجمعة:
عن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خُلِق آدم وفيه قُبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ".
23. عشر وصايا من النبي لمعاذ
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:
أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات فقال:
1. لا تُشرك بالله وإن قُتلت وحُرقت.
2. ولا تعُقنّ والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك.
3. ولا تتركنّ صلاة مكتوبة متعمدًا، فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمّدًا فقد برئت منه ذمة الله.
4. ولا تشربنّ خمرًا فإنه رأس كل فاحشة.
5. وإياك والمعصية فإن بالمعصية حلّ سخط الله.
6. وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس.
7. وإن أصاب الناس موت فاثبت.
8. وأنفق على أهلك من طولك.
9. ولا ترفع عنهم عصاك أدبًا.
10. وخِفهم في الله".
000000000000
هذه الوصايا ملخص ما جاء في كتاب بعنوان وصايا الرسول (ثلاثون وصية من وصايا الرسول) للشيخ الجليل محمد متولي الشعراوي رحمه الله تعالى.
42. ... خطيب العالم
د.سلمان بن فهد العودة(3/443)
في الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّفَا؛ فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِي، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: (أَرَأَيْتَكُمْ، لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟).
قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا.
قَالَ: (فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ!).
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الخطبة أيضاً: (يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَي، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنْ النَّارِ؛ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا). رواه مسلم هكذا كانت أشهر خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وبها انتقلت الدعوة من السر إلى العلن، كانت تبليغاً وإنذاراً وتبشيراً بكلمات قلائل، ووقت يسير، ولم تأخذ هذه الخطبة وقتاً طويلاً ولا شرحاً مملاً، ولا سجعاً متكلفاً مما تنوء به بعض الخطب.
بهذه الخطبة أوجز النبي - صلى الله عليه وسلم - كلامه، وأوتي في كل حديثه جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، ومع أهمية هذه الخطبة وتاريخيتها ودورها في فجر هذا الدين الإسلامي؛ فإنها لم تتشعب في التفاصيل، ولم تسهب في الشرح، فهي خطبة عظيمة لعظم المعنى الذي تحمله، والألفاظ التي عبّرت عن هذا المعنى، وجزالة الحرف، وصدق اللهجة، وشرف الموقف.
ومثل ذلك كانت خطبه صلى الله عليه وسلم، ولقد تعجبت يوم اطلعت على كتب السنة المعروفة؛ كالصحيحين، والسنن وغيرها، فلم أجد تلك الخطب الطويلة، والأحاديث المسهبة، وما يمكن وصفه بالطول تجد أن له متعلقاً بقصة أو معركة، فخطبته - صلى الله عليه وسلم - كلمات معدودة، لكنها تمتاز بخصائص نموذجية عالية مثل (الشمولية) في المعالجة للموضوعات المختلفة في شتى شؤون الحياة والعلم والدعوة، والسياسة والفقه، والعسكرية والإيمان؛ فهي ليست وعظاً محضاً مجرداً، بل يمتزج فيها الترغيب بالترهيب، والقصة بالعبرة، والحدث بالتحليل، والماضي بالحاضر بالمستقبل، وقضايا الإيمان واليقين بمسائل التشريع والتوجيه والتربية.
في لغة سهلة قريبة يفهمها الجميع، ولم تكن خطاباً خاصاً موجهاً للنخبة أو العلية، ولا لشريحة معينة؛ فالصغار والبسطاء والعامة مخاطبون بشكل مباشر، ولهم أهميتهم وقدرهم في خطاب لا تستهلكه الأحداث عن التوجيه والتربية العامة، كما لا يغيب عنها طرفة عين، كيف؟ وهو الصانع الرئيس لأهم الأحداث عليه السلام، والمشارك الأساس للناس في همومهم ومعايشة أدق التفاصيل في حياتهم.
ومن أعمق الملاحظات في وصف خطبه - صلى الله عليه وسلم - القول بأنها لغة (حوارية)؛ ممتلئة بكل أشكال تفاعل الناس والتفاعل معهم، والكثير الكثير من خطبه تجد أن أحداً يقوم فيسأل، وآخر يقوم فيستشكل، وثالث يشكو، ورابع يحكي..
وفي الصحيحين - فقط - من ذلك شيء عجيب، مثل حديث أنس، حينما كان صلى الله عليه وسلم يخطب، فدخل رجل فقال: يا رسول الله ألا تستسقي لنا؟!
فاستسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقاهم الله، ثم في الجمعة القادمة دخل رجل؛ فقال: يا رسول الله: ادع الله أن يمسكه عنا (أي: المطر).
ففعل صلى الله عليه وسلم، فأمسكه الله.
وفي خطبة عيد الأضحى، قام أبو برزة فقال: يا رسول الله إني ذبحت عناقاً.. إلخ وما أكثر الذين يقومون أو يدخلون من باب مسجده؛ فيسألونه وهو يخطب.
ومن ألطف هذا التفاعل نزوله - صلى الله عليه وسلم - من منبره وقد أَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ - رضي الله عنهما - عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ فَأَخَذَهُمَا، فَصَعِدَ بِهِمَا الْمِنْبَرَ ثُمَّ قَالَ: (صَدَقَ اللَّهُ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ). ثم أكمل خطبته. كما عند أهل السنن وأحمد.(3/444)
وهو صلى الله عليه وسلم بدوره كان يسأل ويوجّه، ويقيّم الذين لم يؤدوا تحية المسجد، ليعلم الناس أن هذه الخطب النبوية الشريفة تعايش واقع الناس، وتفهمه، وتوجهه إلى أرشد سبيل وأقوم نهج، بأسلوب علمي وعملي، دون أن تلحقه آفات التجريد والتنظير التي شغل بها بعض المعاصرين، أو سيئات التحزب والتصعيد التي فتن بها آخرون، وطريق الاعتدال هو بين الغياب عن هموم الناس وأحداثهم وبين أن تستهلكه مجموعة من الأحداث التي تفقده توازنه وتماسكه.
وأذكر لمّا دخل النظام البعثي الكويت صليت الجمعة مع أحد الخطباء، وكان الناس ينتظرون توجيهه حول الحدث والتعليق عليه، لكن فوجئت وفوجئ المستمعون بأنه كان يتحدث عن عذاب القبر، ولا أحد يقلل من قيمة الحديث عن ذلك، ولكن الموقف كان يستدعي نوعاً من الكلام المختلف، يتطلب شيئاً من التوعية والإضاءة للناس، فلو تكلم عن الإيمان أو التوكل أو الصبر أو أي شيء قريب من ذلك يمكن ربطه بالحدث؛ لكان أقرب إلى عقول الناس وحديثهم.
إن على من يريد توجيه الناس وإصلاحهم وبث الوعي الإيجابي ودعوتهم للإسلام أن يطالب نفسه باستخدام لهجة يفهمها الناس ويعرفونها، واستعمال أسلوب يتعاطى مع حسهم قبل أن يصف الناس بقلة الفهم وانحطاط الوعي والإدراك، وقبل أن يصفهم بالبعد عن الدين والعلم. إن اللغة السهلة القريبة الرقيقة هي جسر التواصل بين الخطباء والناس؛ فتأهيل الخطيب بفقه عام لأحوال الناس ولغتهم بُنْيةٌ أساسية لتحقيق فهم الناس للخطبة أولاً، وتفاعلهم واستجابتهم لها ثانياً، وهذا التأهيل أو قريب منه هو الذي اعترف به قوم صالح لنبيهم صالح عليه السلام، حين قالوا عنه: {يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} (سورة هود:62)، لقد كان (مَرْجُوًّا) لأنهم يعرفونه، وعاش معهم لحظات الوجود أولاً بأول، فكان خطابه محرجاً للجميع؛ لأنه جاء بالحق والدين والإيمان في واقع يعرفه جيداً، ولأناس هم قومه الذين عرفهم وعرفوه فكان (مَرْجُوًّا) فيهم.
ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - خير من أثبت في خطبته معنى الاهتمام بمخاطبة الناس، حتى إنه كان يفرق صلى الله عليه وسلم بين فئات المجتمع، ويدرك الفروق، وفي الصحيحين قصة خطبته للنساء، ووعظه لهن، وتفاعل النساء وأسئلتهن له صلى الله عليه وسلم، فالنساء تقوم، فتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتستفسر وتستوضح في جو من التفاهم بديع.
وحتى منبره - صلى الله عليه وسلم - كان أرفع من الناس قليلاً، ليكون أقرب لشد انتباه الناس، واسترعاء اهتمامهم.
وكذا صوته صلى الله عليه وسلم، فلم يكن على وتيرة واحدة، فالطريقة الواحدة تبعث الملل، فكان يرفع صوته ويخفضه، ولذا كانت خطبة الجمعة خطبتين، بينهما جلسة قصداً لتيسير فهم الخطبة، والاستجابة لها.
ويقول جابر: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب يرفع صوته ويخفضه، ويحمر وجهه، وتنتفخ أوداجه؛ كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم ومسَّاكم. رواه مسلم وابن ماجه وغيرهما.
وبالطبع فهذه ليست كل أحواله في خطبه، فهي تختلف في احتياجها لمثل هذا الشعور، فالموضوع والحدث يفرض أحياناً نوعاً من الاهتمام يختلف عن موضوع وحدث آخر.
لكن؛ بهذه الأوصاف جميعاً تدرك دقة المتابعة، ورقي الإحساس النبوي في الخطبة، وترى في الوقت ذاته غفلة بعض الخطباء عن هذه المعاني والأوصاف، وترى بُعدهم عن الهدي النبوي، فتشاهد إما طولاً مفرطاً، أو لغة رديئة، أو بعداً عن هموم الناس ومشاعرهم، أو ركاكة في التعبير، أو انفعالاً يبتعد عن سبيل الاعتدال الذي هو سمة هذه الأمة حين تُخاطب الناس، لتكون شهيدة عليهم، ومبلغة لرسالة الدين والحق، على خطى نبيها محمد صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (سورة البقرة: 143).
43. ... هدي النبي صلى الله عليه وسلم في سفره وترحاله
زاد المعاد - (ج 1 / ص 444)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَفَرِهِ وَعِبَادَتِهِ فِيهِ(3/445)
كَانَتْ أَسْفَارُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَائِرَةً بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَسْفَارٍ سَفَرُهُ لِهِجْرَتِهِ وَسَفَرُهُ لِلْجِهَادِ وَهُوَ أَكْثَرُهَا وَسَفَرُهُ لِلْعُمْرَةِ وَسَفَرُهُ لِلْحَجّ . [ ص 445 ] وَكَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيّتُهُنّ خَرَجَ سَهْمُهَا سَافَرَ بِهَا مَعَهُ وَلَمّا حَجّ سَافَرَ بِهِنّ جَمِيعًا . وَكَانَ إذَا سَافَرَ خَرَجَ مِنْ أَوّلِ النّهَارِ وَكَانَ يَسْتَحِبّ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَدَعَا اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُبَارِكَ لِأُمّتِهِ فِي بُكُورِهَا وَكَانَ إذَا بَعَثَ سَرِيّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوّلِ النّهَارِ وَأَمَرَ الْمُسَافِرِينَ إذَا كَانُوا ثَلَاثَةً أَنْ يُؤَمّرُوا أَحَدَهُمْ وَنَهَى أَنْ يُسَافِرَ الرّجُلُ وَحْدَه وَأَخْبَرَ أَنّ الرّاكِبَ شَيْطَانٌ وَالرّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثّلَاثَةُ رَكْبٌ وَذُكِرَ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ حِينَ يَنْهَضُ لِلسّفَرِ اللّهُمّ إلَيْك تَوَجّهْت وَبِكَ اعْتَصَمْت اللّهُمّ اكْفِنِي مَا أَهَمّنِي وَمَا لَا أَهْتَمّ بِهِ اللّهُمّ زَوّدْنِي التّقْوَى وَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَوَجّهْنِي لِلْخَيْرِ أَيْنَمَا تَوَجّهْتُ [ ص 446 ] وَكَانَ إذَا قَدِمَتْ إلَيْهِ دَابّتُهُ لِيَرْكَبَهَا يَقُولُ بِسْمِ اللّهِ حِينَ يَضَعُ رِجْلَهُ فِي الرّكَابِ وَإِذَا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنّا إلَى رَبّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ثُمّ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلّهِ الْحَمْدُ لِلّهِ الْحَمْدُ لِلّهِ ثُمّ يَقُولُ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ ثُمّ يَقُولُ سُبْحَانَكَ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إنّهُ لَا يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلّا أَنْتَ وَكَانَ يَقُولُ ( اللّهُمّ إنّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرّ وَالتّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللّهُمّ هَوّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنّا بُعْدَهُ اللّهُمّ أَنْتَ الصّاحِبُ فِي السّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنّ وَزَادَ فِيهِنّ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إذَا عَلَوْا الثّنَايَا كَبّرُوا وَإِذَا هَبَطُوا الْأَوْدِيَةَ سَبّحُوا . وَكَانَ إذَا أَشْرَفَ عَلَى قَرْيَةٍ يُرِيدُ دُخُولَهَا يَقُولُ اللّهُمّ رَبّ السّمَوَاتِ السّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ وَرَبّ الْأَرَضِينَ السّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبّ الشّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ وَرَبّ الرّيَاحِ وَمَا ذَرّيْنَ أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّهَا وَشَرّ أَهْلِهَا وَشَرّ مَا فِيهَا [ ص 447 ] وَذُكِرَ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ . وَخَيْرِ مَا جَمَعْتَ فِيهَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّهَا وَشَرّ مَا جَمَعْتَ فِيهَا اللّهُمّ اُرْزُقْنَا جَنَاهَا وَأَعِذْنَا مِنْ وَبَاهَا وَحَبّبْنَا إلَى أَهْلِهَا وَحَبّبْ صَالِحِي أَهْلِهَا إلَيْنَا
[ مَبْحَثٌ فِي قَصْرِ الصّلَاةِ ](3/446)
وَكَانَ يَقْصِرُ الرّبَاعِيّةَ فَيُصَلّيهَا رَكْعَتَيْنِ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنّهُ أَتَمّ الرّبَاعِيّةَ فِي سَفَرِهِ أَلْبَتّةَ وَأَمّا حَدِيثُ عَائِشَةَ : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقْصُرُ فِي السّفَرِ وَيُتِمّ وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ فَلَا يَصِحّ . وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيّةَ يَقُولُ هُوَ كَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْتَهَى وَقَدْ رُوِيَ كَانَ يَقْصِرُ وَتُتِمّ الْأَوّلُ بِالْيَاءِ آخِرَ الْحُرُوفِ وَالثّانِي بِالتّاءِ الْمُثَنّاةِ مِنْ فَوْقٍ وَكَذَلِكَ يُفْطِرُ وَتَصُومُ أَيْ تَأْخُذُ هِيَ بِالْعَزِيمَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَالَ شَيْخُنَا ابْنُ تَيْمِيّةَ : وَهَذَا بَاطِلٌ مَا كَانَتْ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ [ ص 448 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ فَتُصَلّيَ خِلَافَ صَلَاتِهِمْ كَيْفَ وَالصّحِيحُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ إنّ اللّهَ فَرَضَ الصّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمّا هَاجَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرّتْ صَلَاةُ السّفَر فَكَيْفَ يُظَنّ بِهَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ تُصَلّيَ بِخِلَافِ صَلَاةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ . قُلْت : وَقَدْ أَتَمّتْ عَائِشَةُ بَعْدَ مَوْتِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ وَغَيْرُهُ إنّهَا تَأَوّلَتْ كَمَا تَأَوّلَ عُثْمَانُ وَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقْصِرُ دَائِمًا فَرَكّبَ بَعْضُ الرّوَاةِ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا وَقَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْصُرُ وَتُتِمّ هِيَ فَغَلِطَ بَعْضُ الرّوَاةِ فَقَالَ كَانَ يَقْصُرُ وَيُتِمّ أَيْ هُوَ . وَالتّأْوِيلُ الّذِي تَأَوّلَتْهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ ظَنّتْ أَنّ الْقَصْرَ مَشْرُوطٌ بِالْخَوْفِ فِي السّفَرِ فَإِذَا زَالَ الْخَوْفُ زَالَ سَبَبُ الْقَصْرِ وَهَذَا التّأْوِيلُ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَافَرَ آمِنًا وَكَانَ يَقْصِرُ الصّلَاةَ وَالْآيَةُ قَدْ أَشْكَلَتْ عَلَى عُمَرَ وَعَلَى غَيْرِهِ فَسَأَلَ عَنْهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَجَابَهُ بِالشّفَاءِ وَأَنّ هَذَا صَدَقَةٌ مِنْ اللّهِ وَشَرْعٌ شَرَعَهُ لِلْأُمّةِ وَكَانَ هَذَا بَيَانَ أَنّ حُكْمَ الْمَفْهُومِ غَيْرُ مُرَادٍ [ ص 449 ] يُقَالُ إنّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ قَصْرًا يَتَنَاوَلُ قَصْرَ الْأَرْكَانِ بِالتّخْفِيفِ وَقَصْرَ الْعَدَدِ بِنُقْصَانِ رَكْعَتَيْنِ وَقُيّدَ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ الضّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفِ فَإِذَا وُجِدَ الْأَمْرَانِ أُبِيحَ الْقَصْرَانِ فَيُصَلّونَ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَقْصُورَةً عَدَدَهَا وَأَرْكَانَهَا وَإِنْ انْتَفَى الْأَمْرَانِ فَكَانُوا آمِنِينَ مُقِيمِينَ انْتَفَى الْقَصْرَانِ فَيُصَلّونَ صَلَاةً تَامّةً كَامِلَة وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُ السّبَبَيْنِ تَرَتّبَ عَلَيْهِ قَصْرُهُ وَحْدَهُ فَإِذَا وُجِدَ الْخَوْفُ وَالْإِقَامَةُ قُصِرَتْ الْأَرْكَانُ وَاسْتُوْفِيَ الْعَدَدُ وَهَذَا نَوْعُ قَصْرٍ وَلَيْسَ بِالْقَصْرِ الْمُطْلَقِ فِي الْآيَةِ فَإِنْ وُجِدَ السّفَرُ وَالْأَمْنُ قُصِرَ الْعَدَدُ وَاسْتُوْفِيَ الْأَرْكَانُ وَسُمّيَتْ صَلَاةَ أَمْنٍ وَهَذَا نَوْعُ قَصْرٍ وَلَيْسَ بِالْقَصْرِ الْمُطْلَقِ وَقَدْ تُسَمّى هَذِهِ الصّلَاةُ مَقْصُورَةً بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْعَدَدِ وَقَدْ تُسَمّى تَامّةً بِاعْتِبَارِ إتْمَامِ أَرْكَانِهَا وَأَنّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي قَصْرِ الْآيَةِ وَالْأَوّلُ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخّرِينَ وَالثّانِي يَدُلّ عَلَيْهِ كَلَامُ الصّحَابَةِ كَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبّاسٍ وَغَيْرِهِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ : فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمّا هَاجَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرّتْ صَلَاةُ السّفَرِ فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ صَلَاةَ السّفَرِ عِنْدَهَا غَيْرُ مَقْصُورَةٍ مِنْ أَرْبَعٍ وَإِنّمَا هِيَ مَفْرُوضَةٌ كَذَلِكَ وَأَنّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ . وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : فَرَضَ اللّهُ الصّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً مُتّفَقٌ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ(3/447)
اللّهُ عَنْهُ صَلَاةُ السّفَرِ رَكْعَتَانِ وَالْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَالْعِيدِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى [ ص 450 ] عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهُوَ الّذِي سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا بَالُنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنّا ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدَقَةٌ تَصَدّقَ بِهَا اللّهُ عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ حَدِيثَيْهِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا أَجَابَهُ بِأَنّ هَذِهِ صَدَقَةُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَدِينُهُ الْيُسْرُ السّمْحُ عَلِمَ عُمَرُ أَنّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ قَصْرَ الْعَدَدِ كَمَا فَهِمَهُ كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ فَقَالَ صَلَاةُ السّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ . وَعَلَى هَذَا فَلَا دِلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنّ قَصْرَ الْعَدَدِ مُبَاحٌ مَنْفِيّ عَنْهُ الْجُنَاحُ فَإِنْ شَاءَ الْمُصَلّي فَعَلَهُ وَإِنْ شَاءَ أَتَمّ . وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُوَاظِبُ فِي أَسْفَارِهِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يُرَبّعْ قَطّ إلّا شَيْئًا فَعَلَهُ فِي بَعْضِ صَلَاةِ الْخَوْفِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ وَنُبَيّنُ مَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . وَقَالَ أَنَسٌ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ فَكَانَ يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتّى رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ مُتّفَقٌ عَلَيْهِ . وَلَمّا بَلَغَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ صَلّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَالَ إنّا لِلّهِ وَإِنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ صَلّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْر ٍ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَصَلّيْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ فَلَيْتَ حَظّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبّلَتَانِ [ ص 451 ] ابْنُ مَسْعُودٍ لِيَسْتَرْجِعَ مِنْ فِعْلِ عُثْمَانَ أَحَدَ الْجَائِزَيْنِ الْمُخَيّرِ بَيْنَهُمَا بَلْ الْأَوْلَى عَلَى قَوْلِ وَإِنّمَا اسْتَرْجَعَ لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ مُدَاوَمَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخُلَفَائِهِ عَلَى صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ فِي السّفَرِ . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ صَحِبْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانَ فِي السّفَرِ لَا يَزِيدُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ . يَعْنِي فِي صَدْرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَإِلّا فَعُثْمَانُ قَدْ أَتَمّ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَحَدَ الْأَسْبَابِ الّتِي أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ . وَقَدْ خَرَجَ لِفِعْلِهِ تَأْوِيلَاتٌ أَحَدُهَا : أَنّ الْأَعْرَابَ كَانُوا قَدْ حَجّوا تِلْكَ السّنَةِ فَأَرَادَ أَنْ يُعَلّمَهُمْ أَنّ فَرْضَ الصّلَاةِ أَرْبَعٌ لِئَلّا يَتَوَهّمُوا أَنّهَا رَكْعَتَانِ فِي الْحَضَرِ وَالسّفَرِ وَرُدّ هَذَا التّأْوِيلُ بِأَنّهُمْ كَانُوا أَحْرَى بِذَلِكَ فِي حَجّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَالْعَهْدُ بِالصّلَاةِ قَرِيبٌ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يُرَبّعْ بِهِمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . التّأْوِيلُ الثّانِي : أَنّهُ كَانَ إمَامًا لِلنّاسِ وَالْإِمَامُ حَيْثُ نَزَلَ فَهُوَ عَمَلُهُ وَمَحَلّ وِلَايَتِهِ فَكَأَنّهُ وَطَنُهُ وَرُدّ هَذَا التّأْوِيلُ بِأَنّ إمَامَ الْخَلَائِقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِذَلِكَ وَكَانَ هُوَ الْإِمَامَ الْمُطْلَقَ وَلَمْ يُرَبّعْ . التّأْوِيلُ الثّالِثُ أَنّ مِنًى كَانَتْ قَدْ بُنِيَتْ وَصَارَتْ قَرْيَةً كَثُرَ فِيهَا الْمَسَاكِنُ فِي عَهْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ كَانَتْ فَضَاءً وَلِهَذَا قِيلَ [ ص 452 ] بِمِنًى بَيْتًا يُظِلّكَ مِنْ الْحَرّ ؟ فَقَالَ لَا . مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ فَتَأَوّلَ عُثْمَانُ أَنّ الْقَصْرَ إنّمَا يَكُونُ فِي حَالِ السّفَرِ . وَرُدّ هَذَا التّأْوِيلُ بِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَقَامَ بِمَكّةَ عَشْرًا يَقْصُرُ الصّلَاةَ . التّأْوِيلُ الرّابِعُ أَنّهُ أَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا فَسَمّاهُ(3/448)
مُقِيمًا وَالْمُقِيمُ غَيْرُ مُسَافِرٍ وَرُدّ هَذَا التّأْوِيلُ بِأَنّ هَذِهِ إقَامَةٌ مُقَيّدَةٌ فِي أَثْنَاءِ السّفَرِ لَيْسَتْ بِالْإِقَامَةِ الّتِي هِيَ قَسِيمُ السّفَرِ وَقَدْ أَقَامَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ عَشْرًا يَقْصُرُ الصّلَاةَ وَأَقَامَ بِمِنًى بَعْدَ نُسُكِهِ أَيّامَ الْجِمَارِ الثّلَاثِ يَقْصُرُ الصّلَاةَ . التّأْوِيلُ الْخَامِسُ أَنّهُ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ وَالِاسْتِيطَانِ بِمِنًى وَاِتّخَاذِهَا دَارَ الْخِلَافَةِ فَلِهَذَا أَتَمّ ثُمّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَهَذَا التّأْوِيلُ أَيْضًا مِمّا لَا يَقْوَى فَإِنّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوّلِينَ وَقَدْ مَنَعَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ الْإِقَامَةِ بِمَكّةَ بَعْدَ نُسُكِهِمْ وَرَخّصَ لَهُمْ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ فَقَطْ فَلَمْ يَكُنْ عُثْمَانُ لِيُقِيمَ بِهَا وَقَدْ مَنَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ ذَلِكَ وَإِنّمَا رَخّصَ فِيهَا ثَلَاثًا وَذَلِكَ لِأَنّهُمْ تَرَكُوهَا لِلّهِ وَمَا تُرِكَ لِلّهِ فَإِنّهُ لَا يُعَادُ فِيهِ وَلَا يُسْتَرْجَعُ وَلِهَذَا مَنَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ شِرَاءِ الْمُتَصَدّقِ لِصَدَقَتِهِ وَقَالَ لِعُمَرَ : لَا تَشْتَرِهَا وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ [ ص 453 ] فَجَعَلَهُ عَائِدًا فِي صَدَقَتِهِ مَعَ أَخْذِهَا بِالثّمَنِ . التّأْوِيلُ السّادِسُ أَنّهُ كَانَ قَدْ تَأَهّلَ بِمِنًى وَالْمُسَافِرُ إذَا أَقَامَ فِي مَوْضِعٍ وَتَزَوّجَ فِيهِ أَوْ كَانَ لَهُ بِهِ زَوْجَةٌ أَتَمّ وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَرَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْأَزْدِيّ عَنْ ابْنِ أَبِي ذُبَابٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَلّى عُثْمَانُ بِأَهْلِ مِنًى أَرْبَعًا وَقَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ لَمّا قَدِمْتُ تَأَهّلْت بِهَا وَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ إذَا تَأَهّلَ الرّجُلُ بِبَلْدَةٍ فَإِنّهُ يُصَلّي بِهَا صَلَاةَ مُقِيم رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ فِي " مُسْنَدِهِ " وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ الْحُمَيْدِيّ فِي " مُسْنَدِهِ " أَيْضًا وَقَدْ أَعَلّهُ الْبَيْهَقِيّ بِانْقِطَاعِهِ وَتَضْعِيفِهِ عِكْرِمَةَ بْنِ إبْرَاهِيمَ . قَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ تَيْمِيّةَ : وَيُمْكِنُ الْمُطَالَبَةُ بِسَبَبِ الضّعْفِ فَإِنّ الْبُخَارِيّ ذَكَرَهُ فِي " تَارِيخِهِ " وَلَمْ يَطْعَنْ فِيهِ وَعَادَتُهُ ذِكْرُ الْجَرْحِ وَالْمَجْرُوحِينَ وَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ وَابْنُ عَبّاسٍ قَبْلَهُ أَنّ الْمُسَافِرَ إذَا تَزَوّجَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِمَا وَهَذَا أَحْسَنُ مَا اُعْتُذِرَ بِهِ عَنْ عُثْمَانَ . وَقَدْ اُعْتُذِرَ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا كَانَتْ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ فَحَيْثُ نَزَلَتْ كَانَ وَطَنَهَا وَهُوَ أَيْضًا اعْتِذَارٌ ضَعِيفٌ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبُو الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا وَأُمُومَةُ أَزْوَاجِهِ فَرْعٌ عَنْ أُبُوّتِهِ وَلَمْ يَكُنْ يُتِمّ لِهَذَا السّبَبِ . وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنّهَا كَانَتْ تُصَلّي فِي السّفَرِ أَرْبَعًا فَقُلْت لَهَا : لَوْ صَلّيْتِ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِي إنّهُ لَا يَشُقّ عَلَيّ [ ص 454 ] قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ لَوْ كَانَ فَرْضُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ لَمَا أَتَمّهَا عُثْمَانُ وَلَا عَائِشَةُ وَلَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتِمّهَا مُسَافِرٌ مَعَ مُقِيمٍ وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ : كُلّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَمّ وَقَصَرَ ثُمّ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُلّ ذَلِكَ فَعَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَصَرَ الصّلَاةَ فِي السّفَرِ وَأَتَمّ . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ عَطَاءٍ وَأَصَحّ إسْنَادٍ فِيهِ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيّ عَنْ الدّارَقُطْنِيّ عَنْ الْمَحَامِلِيّ حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ ثَوّابٍ حَدّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقْصِرُ فِي الصّلَاةِ وَيُتِمّ وَيُفْطِرُ وَيَصُومُ قَالَ الدّارَقُطْنِيّ : وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ . ثُمّ(3/449)
سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ النّيْسَابُورِي ّ عَنْ عَبّاسٍ الدّوْرِيّ أَنْبَأَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَد ِ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا اعْتَمَرَتْ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ حَتّى إذَا قَدِمَتْ مَكّةَ قَالَتْ يَا رَسُول اللّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي قَصَرْت وَأَتْمَمْت وَصُمْت وَأَفْطَرْت . قَالَ أَحْسَنْت يَا عَائِشَةُ وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيّةَ يَقُولُ هَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ عَلَى عَائِشَةَ وَلَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ لِتُصَلّيَ بِخِلَافِ صَلَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَائِرِ الصّحَابَةِ وَهِيَ تُشَاهِدُهُمْ يَقْصُرُونَ ثُمّ تُتِمّ هِيَ وَحْدَهَا بِلَا مُوجِبٍ . كَيْفَ وَهِيَ الْقَائِلَةُ [ ص 455 ] فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرّتْ صَلَاةُ السّفَرِ فَكَيْفَ يُظَنّ أَنّهَا تَزِيدُ عَلَى مَا فَرَضَ اللّهُ وَتُخَالِفُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابَهُ . قَالَ الزّهْرِيّ لِعُرْوَةِ لَمّا حَدّثَهُ عَنْهَا بِذَلِكَ فَمَا شَأْنُهَا كَانَتْ تُتِمّ الصّلَاةَ ؟ فَقَالَ تَأَوّلَتْ كَمَا تَأَوّلَ عُثْمَانُ . فَإِذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ حَسّنَ فِعْلَهَا وَأَقَرّهَا عَلَيْهِ فَمَا لِلتّأْوِيلِ حِينَئِذٍ وَجْهٌ وَلَا يَصِحّ أَنْ يُضَافَ إتْمَامُهَا إلَى التّأْوِيلِ عَلَى هَذَا التّقْدِيرِ وَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ يَزِيدُ فِي السّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَلَا أَبُو بَكْر ٍ وَلَا عُمَرُ . أَفَيُظَنّ بِعَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ مُخَالَفَتُهُمْ وَهِيَ تَرَاهُمْ يَقْصُرُونَ ؟ وَأَمّا بَعْدَ مَوْتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهَا أَتَمّتْ كَمَا أَتَمّ عُثْمَانُ وَكِلَاهُمَا تَأَوّلَ تَأْوِيلًا وَالْحُجّةُ فِي رِوَايَتِهِمْ لَا فِي تَأْوِيلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِ لَهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ قَالَ أُمَيّةُ بْنُ خَالِدٍ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَر َ إنّا نَجِدُ صَلَاةَ الْحَضَرِ وَصَلَاةَ الْخَوْفِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا نَجِدُ صَلَاةَ السّفَرِ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَر َ يَا أَخِي إنّ اللّهَ بَعَثَ مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا فَإِنّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَا مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَفْعَلُ وَقَدْ قَالَ أَنَسٌ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَكّةَ فَكَانَ يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتّى رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَ ابْنُ عُمَر َ : صَحِبْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأَبَا بَكْر ٍ وَعُمَر َ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَهَذِهِ كُلّهَا أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ . [ ص 456 ]
000000000000000000
(الشبكة الإسلامية)
يمنح السفر الإنسان لحظة يبتعد فيها عن مجريات العمل ومتاعب الحياة اليومية، ولذا قال الشافعي رحمه الله:-
تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج همٍ واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد
ومن المعلوم أن السياحة في الأرض والتأمل في عجائب الدنيا عند السفر مما يزيد العبد المؤمن معرفة بالله جل وعلا، ويقيناً بأن لهذا الكون رباً ومدبراً يستحق العبادة وحده دون ما سواه، قال تعالى: {وفي الأرض آيات للموقنين} (الذاريات:20)، ويعتبر السفر من جملة حاجات الإنسان التي جاءت الشريعة بتنظيمها، فينبغي لمن أراد السفر أن يحافظ على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي جاءت السنة ببيانه:-
فقد كانت أسفاره صلى الله عليه وسلم دائرة بين أربعة أسفار: سفر لهجرته، وسفر للجهاد، وسفر للعمرة وسفر للحج.
وكان عليه الصلاة السلام قبل أن يخرج يودع أهله وأصحابه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعنا فيقول: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك) رواه الترمذي، وكان يوصيهم بتقوى الله في كل حين.
وكان صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بالجماعة في السفر، وينهى عن الوحدة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم، ما سار راكب بليلٍ وحده) رواه البخاري، فعلى المسافر أن يصطحب معه رفيقاً يكون له عوناً على سفره، يرغبه في الخير ويبعده عن الشر، إن نسي ذكره، وإن تعب شد من أزره.(3/450)
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه إذا خرجوا لسفر أن يجعلوا عليهم أميراً، حتى يكون رأيهم واحداً، ولا يقع بينهم الاختلاف، وكل ذلك حرصاً منه عليه الصلاة والسلام على لزوم الجماعة وتجنب أسباب الفرقة.
وكان يستحب – صلى الله عليه وسلم - الخروج يوم الخميس في أول النهار، فعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: " لقلَّما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس" رواه البخاري، وكان عليه السلام يدعو الله تبارك وتعالى أن يبارك لأمته في بكورها.
وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة من الأذكار والأدعية للمسافر:-
منها أنه إذا ركب على دابته، واستقر عليها قال: (الحمد لله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، سبحانك إني ظلمت نفسي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) رواه أبو داود ثم يقول: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب، في المال والأهل) رواه مسلم.
ومما ورد عنه من الأذكار أثناء المسير أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا علا شرفاً – وهو المكان المرتفع- كبَّر الله تعالى، وإذا هبط وادياً سبح الله تعالى، ففي حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا) رواه البخاري.
ومن جملة الأدعية في هذا الشأن، أنه صلى الله عليه وسلم إذا دخل قرية أو شارف على دخولها، قال:- (اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها، وشر أهلها، وشر ما فيها) رواه النسائي ، وكان إذا نزل منزلاً قال: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) رواه مسلم.
وكان إذا قضى حاجته من سفره، ورجع إلى أهله، ذكر دعاء السفر السابق، وزاد: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون) رواه البخاري .
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في السفر أخذه بما رخصه الله له، ومن ذلك قصر الصلاة الرباعية ركعتين، والفطر إذا شق عليه الصوم، والمسح على الخفين مدة ثلاث أيام بلياليهن، ولم يحفظ عنه أنه صلى في أسفاره السنن الرواتب، إلا سنة الفجر والوتر، فإنه لم يكن يدعهما في حضر ولا سفر.
ومن جملة ما نهى عنه – صلى الله عليه وسلم- في السفر: اصطحاب الكلب والجرس، وفي هذا جاء قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس) رواه مسلم.
ومما نهى عنه عليه الصلاة والسلام سفر المرأة بدون محرم، لما يترتب عليه من حصول الفتنة والأذية لها، فقد قال – صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر امرأة إلا ومعها محرم) رواه البخاري.
وكذلك نهى – صلى الله عليه وسلم – أن يطرق المسافر أهله ليلاً، ففي الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- ( إذا طال أحدكم الغيبة ، فلا يطرق أهله ليلاً) رواه البخاري، وعنه أيضاً أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخونهم أو يطلب عثراتهم) رواه البخاري .
فالزم هدي نبيك صلى الله عليه وسلم في حياتك كلها، تنعم بالسعادة في الدنيا والآخرة
44-هدبه صلى الله عليه وسلم في خصال الفطرة
زاد المعاد - (ج 1 / ص 167)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْفِطْرَةِ وَتَوَابِعِهَا(3/451)
قَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ هَلْ وُلِدَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَخْتُونًا أَوْ خَتَنَتْهُ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ شُقّ صَدْرُهُ لِأَوّلِ مَرّةٍ أَوْ خَتَنَهُ جَدّهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ؟ وَكَانَ يُعْجِبُهُ التّيَمّنُ فِي تَنَعّلِهِ وَتَرَجّلِهِ وَطُهُورِهِ وَأَخْذِهِ وَعَطَائِهِ وَكَانَتْ يَمِينُهُ لِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَطَهُورِهِ وَيَسَارُهُ لِخَلَائِهِ وَنَحْوِهِ مِنْ إزَالَةِ الْأَذَى . وَكَانَ هَدْيُهُ فِي حَلْقِ الرّأْسِ تَرْكَهُ كُلّهُ أَوْ أَخْذَهُ كُلّهُ وَلَمْ يَكُنْ يَحْلِقُ بَعْضَهُ وَيَدَعُ بَعْضَهُ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ حَلْقُهُ إلّا فِي نُسُكٍ . وَكَانَ يُحِبّ السّوَاكَ وَكَانَ يَسْتَاكُ مُفْطِرًا وَصَائِمًا وَيَسْتَاكُ عِنْدَ الِانْتِبَاهِ مِنْ النّوْمِ وَعِنْدَ الْوُضُوءِ وَعِنْدَ الصّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَنْزِلِ وَكَانَ يَسْتَاكُ بِعُودِ الْأَرَاكِ . وَكَانَ يُكْثِرُ التّطَيّبَ وَيُحِبّ الطّيبَ وَذُكِرَ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَطّلِي بِالنّورَةِ [ ص 168 ] وَكَانَ أَوّلًا يَسْدُلُ شَعْرَهُ ثُمّ فَرَقَهُ وَالْفَرْقُ أَنْ يَجْعَلَ شَعْرَهُ فِرْقَتَيْنِ كُلّ فِرْقَةٍ ذُؤَابَةٌ وَالسّدْلُ أَنْ يَسْدُلَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَلَا يَجْعَلُهُ فِرْقَتَيْنِ . وَلَمْ يَدْخُلْ حَمّامًا قَطّ وَلَعَلّهُ مَا رَآهُ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يَصِحّ فِي الْحَمّامِ حَدِيثٌ [ ص 169 ] وَكَانَ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا كُلّ لَيْلَة ٍ ثلَاثًا عِنْدَ النّوْمِ فِي كُلّ عَيْنٍ . وَاخْتَلَفَ الصّحَابَةُ فِي خِضَابِهِ فَقَالَ أَنَسٌ : لَمْ يَخْضِبْ . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : خَضّبَ وَقَدْ رَوَى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْد عَنْ أَنَسٍ قَالَ رَأَيْتُ شَعْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَخْضُوبًا قَالَ حَمّادٌ وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَقِيلٍ قَالَ رَأَيْت شَعْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَخْضُوبًا وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِمّا يُكْثِرُ الطّيبَ قَدْ احْمَرّ شَعْرُهُ فَكَانَ يُظَنّ مَخْضُوبًا . وَلَمْ يَخْضِبْ . وَقَالَ أَبُو رِمْثَة : أَتَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ ابْنٍ لِي فَقَالَ : أَهَذَا ابْنُكَ ؟ قُلْتُ نَعَمْ أَشْهَدُ بِهِ فَقَالَ لَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَلَا يَجْنِي عَلَيْكَ قَالَ وَرَأَيْت الشّيْبَ أَحْمَرَ . قَالَ التّرْمِذِي ّ : هَذَا أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَفْسَرُهُ لِأَنّ الرّوَايَاتِ الصّحِيحَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَبْلُغْ الشّيْبَ . قَالَ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ : قِيلَ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ : أَكَانَ فِي رَأْسِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْبٌ ؟ قَالَ لَمْ يَكُنْ فِي رَأْسِهِ شَيْب ٌ إلّا شَعَرَاتٌ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ إذَا ادّهَنَ وَارَاهُنّ الدّهْنُ قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُكْثِرُ دُهْنَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَيُكْثِرُ الْقِنَاعَ كَأَنّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيّات [ ص 170 ] وَكَانَ يُحِبّ التّرَجّلَ وَكَانَ يُرَجّلُ نَفْسَهُ تَارَةً وَتُرَجّلُهُ عَائِشَةُ تَارَةً . وَكَانَ شَعْرُهُ فَوْقَ الْجُمّةِ وَدُونَ الْوَفْرَةِ وَكَانَتْ جُمّتُهُ تَضْرِبُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ وَإِذَا طَالَ جَعَلَهُ غَدَائِرَ أَرْبَعًا قَالَتْ أُمّ هَانِئٍ قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ قَدْمَةً وَلَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ وَالْغَدَائِرُ الضّفَائِرُ وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَرُدّ الطّيبَ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي حَدِيثِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنّهُ قَالَ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدّهُ فَإِنّهُ طَيّبُ الرّائِحَةِ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدّهُ وَلَيْسَ بِمَعْنَاهُ فَإِنّ الرّيْحَانَ لَا تَكْثُرُ الْمِنّةُ بِأَخْذِهِ وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالتّسَامُحِ فِي بَذْلِهِ بِخِلَافِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْغَالِيَةِ وَنَحْوِهَا وَلَكِنّ الّذِي ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ عَزْرة بْنِ ثَابِتٍ عَنْ ثُمَامَةَ قَالَ أَنَسٌ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَرُدّ الطّيبَ [ ص 171 ] ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ ثَلَاثٌ لَا تُرَدّ : الْوَسَائِدُ وَالدّهْنُ وَاللّبَنُ فَحَدِيثٌ مَعْلُولٌ رَوَاهُ التّرْمِذِي ّ وَذَكَرَ عِلّتَهُ وَلَا أَحْفَظُ الْآنَ مَا قِيلَ فِيهِ إلّا أَنّهُ مِنْ(3/452)
رِوَايَةِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَمِنْ مَرَاسِيلِ أَبِي عُثْمَانَ النّهْدِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أُعْطِيَ أَحَدُكُمْ الرّيْحَانَ فَلَا يَرُدّهُ فَإِنّهُ خَرَجَ مِنْ الْجَنّةِ وَكَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُكّةٌ يَتَطَيّبُ مِنْهَا وَكَانَ أَحَبّ الطّيبِ إلَيْهِ الْمِسْكَ وَكَانَ يُعْجِبُهُ الْفَاغِيَةُ قِيلَ وَهِيَ نُورُ الْحِنّاءِ.
زاد المعاد - (ج 1 / ص 171)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَصّ الشّارِبِ(3/453)
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرّ : رَوَى الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقُصّ شَارِبَه وَيُذْكَرُ أَنّ إبْرَاهِيمَ كَانَ يَقُصّ شَارِبَه وَوَقّفَهُ طَائِفَةٌ عَلَى ابْنِ عَبّاسٍ . وَرَوَى التّرْمِذِيّ مِنْ [ ص 172 ] أَرْقَمَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنّا وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُصّوا الشّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ وَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَوَفّرُوا اللّحَى وَأَحْفُوا الشّوَارِبَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ وَقّتَ لَنَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَصّ الشّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ أَلّا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَاخْتَلَفَ السّلَفُ فِي قَصّ الشّارِبِ وَحَلْقِهِ أَيّهُمَا أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ مَالِكٌ فِي مُوَطّئِه ِ يُؤْخَذُ مِنْ الشّارِبِ حَتّى تَبْدُوَ أَطْرَافُ الشّفَةِ وَهُوَ الْإِطَارُ وَلَا يَجُزّهُ فَيُمَثّلَ بِنَفْسِهِ . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ يُحْفِي الشّارِبَ وَيُعْفِي اللّحَى وَلَيْسَ إحْفَاءُ الشّارِبِ حَلْقَهُ وَأَرَى أَنْ يُؤَدّبَ مَنْ حَلَقَ شَارِبَهُ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ إحْفَاءُ الشّارِبِ وَحَلْقُهُ عِنْدِي مُثْلَةٌ قَالَ مَالِكٌ وَتَفْسِيرُ حَدِيثِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي إحْفَاءِ الشّارِبِ إنّمَا هُوَ الْإِطَارُ وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَعْلَاهُ . [ ص 173 ] وَقَالَ أَشْهَدُ فِي حَلْقِ الشّارِبِ أَنّهُ بِدْعَةٌ وَأَرَى أَنْ يُوجَعَ ضَرْبًا مَنْ فَعَلَهُ قَالَ مَالِكٌ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ إذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ نَفَخَ فَجَعَلَ رِجْلَهُ بِرِدَائِهِ وَهُوَ يَفْتِلُ شَارِبَهُ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : السّنّةُ فِي الشّارِبِ الْإِطَارُ وَقَالَ الطّحَاوِيّ : وَلَمْ أَجِدْ عَنْ الشّافِعِيّ شَيْئًا مَنْصُوصًا فِي هَذَا وَأَصْحَابُهُ الّذِينَ رَأَيْنَا الْمُزَنِيّ وَالرّبِيعُ كَانَا يُحْفِيَانِ شَوَارِبَهُمَا وَيَدُلّ ذَلِكَ عَلَى أَنّهُمَا أَخَذَاهُ عَنْ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ قَالَ وَأَمّا أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمّدٌ فَكَانَ مَذْهَبُهُمْ فِي شَعْرِ الرّأْسِ وَالشّوَارِبِ أَنّ الْإِحْفَاءَ أَفْضَلُ مِنْ التّقْصِيرِ وَذَكَرَ ابْنُ خُويز مَنْدَادٍ الْمَالِكِيّ عَنْ الشّافِعِيّ أَنّ مَذْهَبَهُ فِي حَلْقِ الشّارِبِ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُمَرَ . وَأَمّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ الْأَثْرَمُ : رَأَيْتُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُحْفِي شَارِبَهُ شَدِيدًا وَسَمِعْته يُسْأَلُ عَنْ السّنّةِ فِي إحْفَاءِ الشّارِبِ ؟ فَقَالَ يُحْفِي كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحْفُوا الشّوَارِبَ وَقَالَ حَنْبَلٌ قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ تَرَى الرّجُلَ يَأْخُذُ شَارِبَهُ أَوْ يُحْفِيهِ ؟ أَمْ كَيْفَ يَأْخُذُهُ ؟ قَالَ إنْ أَحْفَاهُ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ أَخَذَهُ قَصّا فَلَا بَأْسَ . وَقَالَ أَبُو مُحَمّدِ بْنِ قُدامة الْمَقْدِسِيّ فِي الْمُغْنِي : وَهُوَ مُخَيّرٌ بَيْنَ أَنْ يُحْفِيَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَقُصّهُ مِنْ غَيْرِ إحْفَاءٍ . قَالَ الطّحَاوِيّ : وَرَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ عَلَى سِوَاكٍ وَهَذَا لَا يَكُونُ مَعَهُ إحْفَاءٌ . وَاحْتَجّ مَنْ لَمْ يَرَ إحْفَاءَهُ بِحَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعَيْنِ عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَة فَذَكَرَ مِنْهَا قَصّ الشّارِبِ . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتّفَقِ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ خَمْس [ ص 174 ] وَذَكَرَ مِنْهَا قَصّ الشّارِبِ . وَاحْتَجّ الْمُحْفُونَ بِأَحَادِيثِ الْأَمْرِ بِالْإِحْفَاءِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَجُزّ شَارِبَهُ قَالَ الطّحَاوِيّ : وَهَذَا الْأَغْلَبُ فِيهِ الْإِحْفَاءُ وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ . وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ جُزّوا الشّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللّحَى قَالَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ الْإِحْفَاءَ(3/454)
أَيْضًا وَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي أُسَيْدٍ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُمْ كَانُوا يُحْفُونَ شَوَارِبَهُمْ . وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ حَاطِبٍ : رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يُحْفِي شَارِبَهُ كَأَنّهُ يَنْتِفُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ حَتّى يُرَى بَيَاضُ الْجِلْدِ . قَالَ الطّحَاوِيّ : وَلَمّا كَانَ التّقْصِيرُ مَسْنُونًا عِنْدَ الْجَمِيعِ كَانَ الْحَلْقُ فِيهِ أَفْضَلَ قِيَاسًا عَلَى الرّأْسِ وَقَدْ دَعَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْمُحَلّقِينَ [ ص 175 ] وَاحِدَةً فَجَعَلَ حَلْقَ الرّأْسِ أَفْضَلَ مِنْ تَقْصِيرِهِ فَكَذَلِكَ الشّارِبُ .
45- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّكُوبِ
زاد المعاد - (ج 1 / ص 153)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّكُوبِ
رَكِبَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ وَرَكِبَ الْفَرَسَ مُسْرَجَةً تَارَةً وَعَرِيّا أُخْرَى وَكَانَ يُجْرِيهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَكَانَ يَرْكَبُ وَحْدَهُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَرُبّمَا أَرْدَفَ خَلْفَهُ عَلَى الْبَعِيرِ وَرُبّمَا أَرْدَفَ خَلْفَهُ وَأَرْكَبَ أَمَامَهُ وَكَانُوا ثَلَاثَةً عَلَى بَعِيرٍ وَأَرْدَفَ الرّجَالَ وَأَرْدَفَ بَعْضَ نِسَائِهِ وَكَانَ أَكْثَرَ مَرَاكِبِهِ الْخَيْلُ وَالْإِبِلُ . وَأَمّا الْبِغَالُ فَالْمَعْرُوفُ أَنّهُ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا بَغْلَةٌ وَاحِدَةٌ أَهْدَاهَا لَهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ وَلَمْ تَكُنْ الْبِغَالُ مَشْهُورَةً بِأَرْضِ الْعَرَبِ بَلْ لَمّا أُهْدِيَتْ لَهُ الْبَغْلَةُ قِيلَ أَلّا نُنَزّيَ الْخَيْلَ عَلَى الْحُمُرِ ؟ فَقَالَ إنّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
46-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سُجُودِ السّهْوِ
زاد المعاد - (ج 1 / ص 276)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سُجُودِ السّهْوِ
ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكّرُونِي [ ص 277 ] وَكَانَ سَهْوُهُ فِي الصّلَاةِ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللّهِ عَلَى أُمّتِهِ وَإِكْمَالِ دِينِهِمْ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِيمَا يَشْرَعُهُ لَهُمْ عِنْدَ السّهْوِ وَهَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمُنْقَطِعِ الّذِي فِي " الْمُوَطّأِ " : إنّمَا أَنْسَى أَوْ أُنَسّى لِأَسُن
[ الْمَوَاضِعُ الّتِي سَجَدَ فِيهَا لِلسّهْوِ ](3/455)
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْسَى فَيَتَرَتّبُ عَلَى سَهْوِهِ أَحْكَامٌ شَرْعِيّةٌ تَجْرِي عَلَى سَهْوِ أُمّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَامَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فِي الرّبَاعِيّةِ وَلَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُمَا فَلَمّا قَضَى صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ السّلَامِ ثُمّ سَلّمَ فَأُخِذَ مِنْ هَذَا قَاعِدَةً أَنّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَجْزَاءِ الصّلَاةِ الّتِي لَيْسَتْ بِأَرْكَانٍ سَهْوًا سَجَدَ لَهُ قَبْلَ السّلَامِ وَأُخِذَ مِنْ بَعْضِ طُرُقِهِ أَنّهُ إذَا تَرَكَ ذَلِكَ وَشَرَعَ فِي رُكْنٍ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْمَتْرُوكِ لِأَنّهُ لَمّا قَامَ سَبّحُوا فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ قُومُوا . وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي مَحَلّ هَذَا السّجُودِ فَفِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَامَ مِنْ اثْنَتَيْنِ مِنْ الظّهْرِ وَلَمْ يَجْلِسْ بَيْنَهُمَا فَلَمّا قَضَى صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمّ سَلّمَ بَعْدَ ذَلِكَ . وَفِي رِوَايَةٍ مُتّفَقٍ عَلَيْهَا : يُكَبّرُ فِي كُلّ سَجْدَةٍ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ أَنْ يُسَلّمَ [ ص 278 ] الْمُسْنَدِ " مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ الْمَسْعُودِيّ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَلَاقَةَ قَالَ صَلّى بِنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَلَمّا صَلّى رَكْعَتَيْنِ قَامَ وَلَمْ يَجْلِسْ فَسَبّحَ بِهِ مَنْ خَلْفَهُ فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ قُومُوا فَلَمّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ سَلّمَ ثُمّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ هَكَذَا صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصَحّحَهُ التّرْمِذِي ّ . وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيّ قَالَ صَلّى بِنَا عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيّ فَقَامَ وَعَلَيْهِ جُلُوسٌ فَقَالَ النّاسُ سُبْحَانَ اللّهِ سُبْحَانَ اللّهِ فَلَمْ يَجْلِسْ وَمَضَى عَلَى قِيَامِهِ فَلَمّا كَانَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السّهْوِ وَهُوَ جَالِسٌ فَلَمّا سَلّمَ قَالَ إنّي سَمِعْتُكُمْ آنِفًا تَقُولُونَ سُبْحَانَ اللّهِ لَكَيْمَا أَجْلِسَ لَكِنّ السّنّةَ الّذِي صَنَعْتُ وَحَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ أَوْلَى لِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنّهُ أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ . الثّانِي : أَنّهُ أَصْرَحُ مِنْهُ فَإِنّ قَوْلَ الْمُغِيرَةِ وَهَكَذَا صَنَعَ بِنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَجُوزُ أَنْ يُرْجَعَ إلَى جَمِيعِ مَا فَعَلَ الْمُغِيرَةِ وَيَكُونُ قَدْ سَجَدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَذَا [ ص 279 ] بُحَيْنَةَ مَا شَاهَدَهُ وَحَكَى الْمُغِيرَةُ مَا شَاهَدَهُ فَيَكُونُ كِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزًا وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْمُغِيرَةُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَامَ وَلَمْ يَرْجِعْ ثُمّ سَجَدَ لِلسّهْوِ . الثّالِثُ أَنّ الْمُغِيرَةَ لَعَلّهُ نَسِيَ السّجُودَ قَبْلَ السّلَامِ وَسَجَدَهُ بَعْدَهُ وَهَذِهِ صِفَةُ السّهْوِ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي السّجُودِ قَبْلَ السّلَامِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ(3/456)
وَسَلّمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيّ إمّا الظّهْرُ وَإِمّا الْعَصْرُ ثُمّ تَكَلّمَ ثُمّ أَتَمّهَا ثُمّ سَلّمَ ثُمّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السّلَامِ وَالْكَلَامِ يُكَبّرُ حِينَ يَسْجُدُ ثُمّ يُكَبّرُ حِينَ يَرْفَعُ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد وَالتّرْمِذِيّ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى بِهِمْ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمّ تَشَهّدَ ثُمّ سَلّمَ وَقَالَ التّرْمِذِيّ : حَسَنٌ غَرِيبٌ . [ ص 280 ] وَصَلّى يَوْمًا فَسَلّمَ وَانْصَرَفَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الصّلَاةِ رَكْعَةٌ فَأَدْرَكَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ فَقَالَ نَسِيت مِنْ الصّلَاةِ رَكْعَةً فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصّلَاةَ فَصَلّى لِلنّاسِ رَكْعَةً ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ . وَصَلّى الظّهْرَ خَمْسًا فَقِيلَ لَهُ زِيدَ فِي الصّلَاةِ ؟ قَالَ وَمَا ذَاكَ ؟ قَالُوا : صَلّيْتَ خَمْسًا فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلّم مُتّفَقٌ عَلَيْهِ . وَصَلّى الْعَصْرَ ثَلَاثًا ثُمّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَذَكَرَهُ النّاسُ فَخَرَجَ فَصَلّى بِهِمْ رَكْعَةً ثُمّ سَلّمَ ثُمّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمّ سَلّمَ فَهَذَا مَجْمُوعُ مَا حُفِظَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ سَهْوِهِ فِي الصّلَاةِ وَهُوَ خَمْسَةُ مَوَاضِعَ وَقَدْ تَضَمّنَ سُجُودُهُ فِي بَعْضِهِ قَبْلَ السّلَامِ وَفِي بَعْضِهِ بَعْدَهُ . فَقَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ كُلّهُ قَبْلَ السّلَامِ . [ ص 281 ] وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة َ رَحِمَهُ اللّهُ كُلّهُ بَعْدَ السّلَامِ . وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ كُلّ سَهْوٍ كَانَ نُقْصَانًا فِي الصّلَاةِ فَإِنّ سُجُودَهُ قَبْلَ السّلَامِ وَكُلّ سَهْوٍ كَانَ زِيَادَةً فِي الصّلَاةِ فَإِنّ سُجُودَهُ بَعْدَ السّلَامِ وَإِذَا اجْتَمَعَ سَهْوَانِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ فَالسّجُودُ لَهُمَا قَبْلَ السّلَامِ . قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرّ : هَذَا مَذْهَبُهُ لَا خِلَافَ عَنْهُ فِيهِ وَلَوْ سَجَدَ أَحَدٌ عِنْدَهُ لِسَهْوِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَجَعَلَ السّجُودَ كُلّهُ بَعْدَ السّلَامِ أَوْ كُلّهُ قَبْلَ السّلَامِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنّهُ عِنْدَهُ مِنْ بَابِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ لِاخْتِلَافِ الْآثَارِ الْمَرْفُوعَةِ وَالسّلَفِ مِنْ هَذِهِ الْأُمّةِ فِي ذَلِكَ . وَأَمّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ فَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَسْأَلُ عَنْ سُجُودِ السّهْوِ قَبْلَ السّلَامِ أَمْ بَعْدَهُ ؟ فَقَالَ فِي مَوَاضِعَ قَبْلَ السّلَامِ وَفِي مَوَاضِعَ بَعْدَهُ كَمَا صَنَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ سَلّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ ثُمّ سَجَدَ بَعْدَ السّلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة َ فِي قِصّةِ ذِي الْيَدَيْنِ . وَمَنْ سَلّمَ مِنْ ثَلَاثٍ سَجَدَ أَيْضًا بَعْدَ السّلَامِ عَلَى حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ . وَفِي التّحَرّي يَسْجُدُ بَعْدَ السّلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِي الْقِيَامِ مِنْ اثْنَتَيْنِ يَسْجُدُ قَبْلَ السّلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ وَفِي الشّكّ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَيَسْجُدُ قَبْلَ السّلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ وَحَدِيثِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ . [ ص 282 ] قَالَ الْأَثْرَمُ : فَقُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَمَا كَانَ سِوَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ؟ قَالَ يَسْجُدُ فِيهَا كُلّهَا قَبْلَ السّلَامِ لِأَنّهُ يُتِمّ مَا نَقَصَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ وَلَوْلَا مَا رُوِيَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَرَأَيْتُ السّجُودَ كُلّهُ قَبْلَ السّلَامِ لِأَنّهُ مِنْ شَأْنِ الصّلَاةِ فَيَقْضِيهِ قَبْلَ السّلَامِ وَلَكِنْ أَقُولُ كُلّ مَا رُوِيَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ سَجَدَ فِيهِ بَعْدَ السّلَامِ فَإِنّهُ يَسْجُدُ فِيهِ بَعْدَ السّلَامِ وَسَائِرِ السّهْوِ يَسْجُدُ فِيهِ قَبْلَ السّلَامِ . وَقَالَ دَاوُد بْنُ عَلِيّ : لَا يَسْجُدُ أَحَدٌ لِلسّهْوِ إلّا فِي الْخَمْسَةِ الْمَوَاضِعِ الّتِي سَجَدَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . انْتَهَى . وَأَمّا الشّكّ فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ أَمَرَ فِيهِ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ وَإِسْقَاطِ الشّكّ وَالسّجُودِ قَبْلَ السّلَامِ . فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الشّكّ عَلَى وَجْهَيْنِ الْيَقِينُ وَالتّحَرّي فَمَنْ رَجَعَ إلَى الْيَقِينِ أَلْغَى الشّكّ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْ السّهْوِ قَبْلَ السّلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي(3/457)
سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ وَإِذَا رَجَعَ إلَى التّحَرّي وَهُوَ أَكْثَرُ الْوَهْمِ سَجَدَ سَجْدَتَيْ السّهْوِ بَعْدَ السّلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الّذِي يَرْوِيهِ مَنْصُورٌ . انْتَهَى . وَأَمّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَهُوَ إذَا شَكّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلّى أَثَلَاثَا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشّكّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ ثُمّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلّمَ وَأَمّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهُوَ إذَا شَكّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرّ الصّوَابَ ثُمّ لِيَسْجُدْ سَجْدَتَيْن مُتّفَقٌ عَلَيْهِمَا . وَفِي لَفْظِ " الصّحِيحَيْنِ " : تُمّ يُسَلّمُ ثُمّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ وَهَذَا هُوَ الّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَإِذَا رَجَعَ إلَى التّحَرّي سَجَدَ بَعْدَ السّلَامِ . وَالْفَرْقُ عِنْدَهُ بَيْنَ التّحَرّي وَالْيَقِينِ أَنّ الْمُصَلّيَ إذَا كَانَ إمَامًا بَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنّهِ وَأَكْثَرِ وَهْمِهِ وَهَذَا هُوَ التّحَرّي فَيَسْجُدُ لَهُ بَعْدَ السّلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَسَجَدَ قَبْلَ السّلَامِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ فِي تَحْصِيلِ ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ . وَعَنْهُ رِوَايَتَانِ [ ص 283 ] مَذْهَبُ الشّافِعِيّ وَمَالِكٍ وَالْأُخْرَى : عَلَى غَالِبِ ظَنّهِ مُطْلَقًا وَظَاهِرُ نُصُوصِهِ إنّمَا يَدُلّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الشّكّ وَبَيْنَ الظّنّ الْغَالِبِ الْقَوِيّ فَمَعَ الشّكّ يَبْنِي عَلَى الْيَقِينِ وَمَعَ أَكْثَرِ الْوَهْمِ أَوْ الظّنّ الْغَالِبِ يَتَحَرّى وَعَلَى هَذَا مَدَارُ أَجْوِبَتِهِ . وَعَلَى الْحَالَيْنِ حَمْلُ الْحَدِيثَيْنِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللّهُ فِي الشّكّ إذَا كَانَ أَوّلَ مَا عَرَضَ لَهُ اسْتَأْنَفَ الصّلَاةَ فَإِنْ عَرَضَ لَهُ كَثِيرًا فَإِنْ كَانَ لَهُ ظَنّ غَالِبٌ بَنَى عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ظَنّ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ .
47-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صَلَاةِ الضّحَى
زاد المعاد - (ج 1 / ص 330)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صَلَاةِ الضّحَى
[ مَنْ رَوَى تَرْكَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِعْلَهَا ]
رَوَى الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي سُبْحَةَ الضّحَى وَإِنّي لَأُسَبّحُهَا وَرَوَى أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ [ ص 331 ] مُوَرّقٍ الْعِجْلِيّ قُلْتُ لِابْنِ عُمَر َ أَتُصَلّي الضّحَى ؟ قَالَ لَا قُلْتُ فَعُمَرُ ؟ قَالَ لَا قُلْتُ فَأَبُو بَكْرٍ ؟ قَالَ لَا . قُلْت : فَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالَ لَا . إخَالُه وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ مَا حَدّثَنَا أَحَدٌ أَنّهُ رَأَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي الضّحَى غَيْرَ أُمّ هَانِئٍ فَإِنّهَا قَالَتْ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ بَيْتَهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ فَاغْتَسَلَ وَصَلّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ فَلَمْ أَرَ صَلَاةً قَطّ أَخَفّ مِنْهَا غَيْرَ أَنّهُ يُتِمّ الرّكُوعَ وَالسّجُودَ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ سَأَلْت عَائِشَةَ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي الضّحَى ؟ قَالَتْ لَا إلّا أَنْ يَجِيءَ مِنْ مَغِيبِهِ . قُلْتُ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْرُنُ بَيْنَ السّوَرِ ؟ قَالَتْ مِنْ الْمُفَصّل
[ مَنْ رَوَى صَلَاةَ النّبِيّ لَهَا وَعَدَدَ رَكَعَاتِهَا ](3/458)
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي الضّحَى أَرْبَعًا وَيَزِيدُ مَا شَاءَ اللّهُ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أُمّ هَانِئ ٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى يَوْمَ الْفَتْحِ ثَمَانَ رَكَعَاتٍ وَذَلِكَ ضُحًى وَقَالَ الْحَاكِم ُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " : حَدّثَنَا الْأَصَمّ حَدّثَنَا الصّغَانِيّ حَدّثَنَا ابْنُ [ ص 332 ] أَبِي مَرْيَمَ حَدّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ حَدّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بَكْرِ بْنِ الْأَشَجّ عَنْ الضّحّاكِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى فِي سَفَرٍ سُبْحَةَ الضّحَى صَلّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ فَلَمّا انْصَرَفَ قَالَ إنّي صَلّيْتُ صَلَاةَ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ فَسَأَلْتُ رَبّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُهُ أَلّا يَقْتُلَ أُمّتِي بِالسّنِينَ فَفَعَلَ وَسَأَلْتُهُ أَلّا يُظْهِرَ عَلَيْهِمْ عَدُوّا فَفَعَلَ وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُلْبِسَهُمْ شِيَعًا فَأَبَى عَلَيّ قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ . قُلْت : الضّحّاكُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ هَذَا يُنْظَرُ مَنْ هُوَ وَمَا حَالُهُ ؟ وَقَالَ الْحَاكِمُ : فِي كِتَابِ " فَضْلِ الضّحَى " : حَدّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ يَحْيَى حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ الدّولَابِيّ حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ عَنْ زَاذَانَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الضّحَى ثُمّ قَالَ اللّهُمّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَتُبْ عَلَيّ إنّكَ أَنْتَ التّوَابُ الرّحِيمُ الْغَفُورُ حَتّى قَالَهَا مِائَةَ مَرّةٍ حَدّثَنَا أَبُو الْعَبّاسِ الْأَصَمّ حَدّثَنَا أَسَدُ بْنُ عَاصِمٍ حَدّثَنَا الْحُصَيْنُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عُمَرَ بْنَ ذَرّ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى الضّحَى رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعًا وَسِتّا وَثَمَانِيًا وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعُمَرِيّ حَدّثَتْنَا عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ عَنْ أُمّ ذَرّةَ قَالَتْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تُصَلّي الضّحَى وَتَقُولُ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي إلّا أَرْبَعَ [ ص 333 ] وَقَالَ الْحَاكِمُ أَيْضًا : أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بَكْرُ بْنُ مُحَمّدٍ الْمَرْوَزِيّ حَدّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ حَدّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ عَنْ عِمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ رَأَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي صَلَاةَ الضّحَى . قَالَ الْحَاكِمُ أَيْضًا : حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمّدٍ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عُدَيّ بْنِ كَامِلٍ حَدّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيّةَ الْوَاسِطِيّ حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى الضّحَى سِتَ رَكَعَات ثُمّ رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ بَشِيرٍ الْمَحَامِلِيّ حَدّثَنَا عِيسَى بْنُ مُوسَى عَنْ جَابِرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ صُبْحٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيّانَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَتَا : كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي صَلَاةَ الضّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا . وَقَالَ الْحَاكِمُ : أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ مُحَمّدٍ الصّيْرَفِيّ حَدّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ الرّقَاشِيّ حَدّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضُمْرَةَ [ ص 334 ] عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُصَلّي الضّحَى وَبِهِ إلَى أَبِي الْوَلِيدِ . حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ عَنْ عِمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ الْعَبْدِيّ عَنْ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِم عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ رَأَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي الضّحَى قَالَ الْحَاكِمُ : وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ(3/459)
الْخُدْرِيّ وَأَبِي ذَرّ الْغِفَارِيّ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَبُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيّ وَأَبِي الدّرْدَاءِ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَعِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ السّلَمِيّ وَنُعَيْمِ بْنِ هَمّارٍ الْغَطَفَانِيّ وَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَمِنْ النّسَاءِ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَأُمّ هَانِئٍ وَأُمّ سَلَمَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُنّ كُلّهِمْ شَهِدُوا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُصَلّيهَا . وَذَكَرَ الطّبَرَانِيّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ وَأَنَسٍ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُصَلّي الضّحَى سِتّ رَكَعَاتٍ
[ بَيَانُ أَدِلّةِ مَنْ رَجّحَ الْفِعْلَ عَلَى التّرْكِ مَعَ بَيَانِ الْعَدَدِ ]
فَاخْتَلَفَ النّاسُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى طَرْقٍ مِنْهُمْ مَنْ رَجّحَ رِوَايَةَ الْفِعْلِ عَلَى التّرْكِ بِأَنّهَا مُثْبِتَةٌ تَتَضَمّنُ زِيَادَةَ عِلْمٍ خَفِيَتْ عَلَى النّافِي . قَالُوا : وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَذْهَبَ عِلْمُ مِثْلِ هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النّاسِ وَيُوجَدُ عِنْدَ الْأَقَلّ . قَالُوا : [ ص 335 ] عَائِشَةُ وَأَنَسٌ وَجَابِرٌ وَأُمّ هَانِئٍ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنّهُ صَلّاهَا . قَالُوا : وَيُؤَيّدُ هَذَا الْأَحَادِيثُ الصّحِيحَةُ الْمُتَضَمّنَةُ لِلْوَصِيّةِ بِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَمَدْحِ فَاعِلِهَا وَالثّنَاءِ عَلَيْهِ فَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ أَوْصَانِي خَلِيلِي مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ مِنْ كُلّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيْ الضّحَى وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " نَحْوُهُ عَنْ أَبِي الدّرْدَاءِ . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي ذَرّ يَرْفَعُهُ قَالَ يُصْبِحُ عَلَى كُلّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ فَكُلّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلّ تَحْمِيْدَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضّحَى وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَنْ قَعَدَ فِي مُصَلّاهُ حِينَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ الصّبْحِ حَتّى يُسَبّحَ رَكْعَتَيْ الضّحَى لَا يَقُولُ إلّا خَيْرًا غَفَرَ اللّهُ لَهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ وَفِي التّرْمِذِيّ و " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ حَافَظَ عَلَى سَبْحَةِ الضّحَى غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ [ ص 336 ] وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَالسّنَنِ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَمّارٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ يَا ابْنَ آدَمَ لَا تَعْجِزَنّ عَنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي أَوّلِ النّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ وَرَوَاهُ التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرّ . وَفِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " و " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا مَنْ صَلّى الضّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللّهُ لَهُ قَصْرًا مِنْ ذَهَبٍ فِي الْجَنّةِ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنّهُ رَأَى قَوْمًا يُصَلّونَ مِنْ الضّحَى فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فَقَالَ أَمَا لَقَدْ عَلِمُوا أَنّ الصّلَاةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السّاعَةِ أَفْضَلُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ " صَلَاةُ الْأَوّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَال " . وَقَوْلُهُ تَرْمَضُ الْفِصَالُ أَيْ يَشْتَدّ حَرّ النّهَارِ فَتَجِدُ الْفِصَالَ حَرَارَةَ الرّمْضَاءِ . وَفِي " الصّحِيحِ " أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى الضّحَى فِي بَيْتِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ [ ص 337 ]
48-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ
زاد المعاد - (ج 1 / ص 351)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ(3/460)
كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا مَرّ بِسَجْدَةٍ كَبّرَ وَسَجَدَ وَرُبّمَا قَالَ فِي سُجُودِهِ سَجَدَ وَجْهِي لِلّذِي خَلَقَهُ وَصَوّرَهُ وَشَقّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوّتِهِ وَرُبّمَا قَالَ اللّهُمّ اُحْطُطْ عَنّي بِهَا وِزْرًا وَاكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَكَ ذُخْرًا وَتَقَبّلْهَا مِنّي كَمَا تَقَبّلْتَهَا مِنْ عَبْدِكَ دَاوُد ذَكَرَهُمَا أَهْلُ السّنَنِ . وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يُكَبّرُ لِلرّفْعِ مِنْ هَذَا السّجُودِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْهُ [ ص 352 ] أَحْمَدُ وَالشّافِعِيّ السّلَامَ فِيهِ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ الشّافِعِيّ : إنّهُ لَا تَشَهّدٌ فِيهِ وَلَا تَسْلِيمٌ وَقَالَ أَحْمَدُ : أَمّا التّسْلِيمُ فَلَا أَدْرِي مَا هُوَ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ الّذِي لَا يَنْبَغِي غَيْرُهُ . وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ سَجَدَ فِي ( الم تَنْزِيلُ ) وَفِي ( ص ) وَفِي ( النّجْمِ ) وَفِي { إِذَا السّمَاءُ انْشَقّتْ } وَفِي { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ } وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصّلِ وَفِي سُورَةِ الْحَجّ سَجْدَتَانِ وَأَمّا حَدِيثُ أَبِي الدّرْدَاءِ سَجَدْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِيهَا مِنْ الْمُفَصّلِ شَيْءٌ ( الْأَعْرَافُ) وَ ( الرّعْدُ) وَ ( النّحْلُ) وَ ( بَنِي إسْرَائِيلَ وَ ( مَرْيَمُ ) وَ ( الْحَجّ ) وَ ( سَجْدَةُ الْفُرْقَانِ ) وَ ( النّمْلُ ) وَ ( السّجْدَةُ ) وَ ( ص وَ ( سَجْدَةُ الْحَوَامِيمِ ) فَقَالَ أَبُو دَاوُد : رَوَى أَبُو الدّرْدَاءِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً وَإِسْنَادَهُ وَاهٍ . وَأَمّا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَسْجُدْ فِي الْمُفَصّلِ مُنْذُ تَحَوّلَ إلَى الْمَدِينَةِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ فِي إسْنَادِهِ أَبُو قَدَامَةَ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ لَا يُحْتَجّ بِحَدِيثِهِ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : أَبُو قُدامة مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : ضَعِيفٌ وَقَالَ النّسَائِيّ : صَدُوقٌ عِنْدَهُ [ ص 353 ] وَقَالَ أَبُو حَاتِم الْبُسْتِيّ : كَانَ شَيْخًا صَالِحًا مِمّنْ كَثُرَ وَهْمُهُ . وَعَلّلَهُ ابْنُ الْقَطّانِ بِمَطَرٍ الْوَرّاقِ وَقَالَ كَانَ يُشْبِهُهُ فِي سُوءِ الْحِفْظِ مُحَمّدَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى وَعِيبَ عَلَى مُسْلِمٍ إخْرَاجُ حَدِيثِهِ . انْتَهَى كَلَامُهُ . وَلَا عَيْبَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي إخْرَاجِ حَدِيثِهِ لِأَنّهُ يَنْتَقِي مِنْ أَحَادِيثِ هَذَا الضّرْبِ مَا يَعْلَمُ أَنّهُ حَفِظَهُ كَمَا يَطْرَحُ مِنْ أَحَادِيثِ الثّقَةِ مَا يَعْلَمُ أَنّهُ غَلِطَ فِيهِ فَغَلِطَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَنْ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ إخْرَاجَ جَمِيعِ حَدِيثِ الثّقَةِ وَمَنْ ضَعّفَ جَمِيعَ حَدِيثِ سَيّئِ الْحِفْظِ فَالْأُولَى : طَرِيقَةُ الْحَاكِمِ وَأَمْثَالِهِ وَالثّانِيَةُ طَرِيقَةُ أَبِي مُحَمّدِ بْنِ حَزْم ٍ وَأَشْكَالِهِ وَطَرِيقَةُ مُسْلِمٍ هِيَ طَرِيقَةُ أَئِمّةِ هَذَا الشّأْنِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَقَدْ صَحّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ سَجَدَ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ } وَفِي { إِذَا السّمَاءُ انْشَقّتْ } وَهُوَ إنّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ مَقْدِمِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ بِسِتّ سِنِينَ أَوْ سَبْعٍ فَلَوْ تَعَارَضَ الْحَدِيثَانِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ وَتَقَاوَمَا فِي الصّحّةِ لَتَعَيّنَ تَقْدِيمُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأَنّهُ مُثْبِتٌ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ خَفِيَتْ عَلَى ابْنِ عَبّاسٍ فَكَيْفَ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَايَةِ الصّحّةِ مُتّفَقٌ عَلَى صِحّتِهِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ فِيهِ مِنْ الضّعْفِ مَا فِيهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ.
49- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَفَرِهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْفَرْضِ
زاد المعاد - (ج 1 / ص 456)
فَصْلٌ [ كَانَ يَقْتَصِرُ فِي سَفَرِهِ عَلَى الْفَرْضِ وَالْوِتْرِ وَسُنّةِ الْفَجْرِ مِنْ الرّوَاتِبِ ](3/461)
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَفَرِهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْفَرْضِ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ أَنّهُ صَلّى سُنّةَ الصّلَاةِ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا إلّا مَا كَانَ مِنْ الْوِتْرِ وَسُنّةِ الْفَجْرِ فَإِنّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَهُمَا حَضَرًا وَلَا سَفَرًا . قَالَ ابْنُ عُمَر َ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَحِبْتُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ أَرَهُ يُسَبّحُ فِي السّفَرِ وَقَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الْأَحْزَابُ 21 ] وَمُرَادُهُ بِالتّسْبِيحِ السّنّةُ الرّاتِبَةُ وَإِلّا فَقَدَ صَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يُسَبّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ ابْنِ عُمَر َ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي فِي السّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجّهَتْ يُومِئُ إيمَاءَ صَلَاةِ اللّيْلِ إلّا الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِه ِ قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ وَثَبَتَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يَتَنَفّلُ لَيْلًا وَهُوَ يَقْصُرُ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنّهُ رَأَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي السّبْحَةَ بِاللّيْلِ فِي السّفَرِ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ فَهَذَا قِيَامُ اللّيْلِ . وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد ُ رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ التّطَوّعِ فِي السّفَرِ ؟ فَقَالَ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِالتّطَوّعِ فِي السّفَرِ بَأْسٌ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُسَافِرُونَ فَيَتَطَوّعُونَ قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْدَهَا وَرُوِيَ هَذَا عَنْ [ ص 457 ] عُمَرَ وَعَلِيّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ وَابْنِ عَبّاسٍ وَأَبِي ذَر ّ . وَأَمّا ابْنُ عُمَر َ فَكَانَ لَا يَتَطَوّعُ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ وَلَا بَعْدَهَا إلّا مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ مَعَ الْوِتْرِ وَهَذَا هُوَ الظّاهِرُ مِنْ هَدْيِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ لَا يُصَلّي قَبْلَ الْفَرِيضَةِ الْمَقْصُورَةِ وَلَا بَعْدَهَا شَيْئًا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُ مِنْ التّطَوّعِ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا فَهُوَ كَالتّطَوّعِ الْمُطْلَقِ لَا أَنّهُ سُنّةٌ رَاتِبَةٌ لِلصّلَاةِ كَسُنّةِ صَلَاةِ الْإِقَامَةِ وَيُؤَيّدُ هَذَا أَنّ الرّبَاعِيّةَ قَدْ خُفّفَتْ إلَى رَكْعَتَيْنِ تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسَافِرِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ لَهَا سُنّةٌ رَاتِبَةٌ يُحَافَظُ عَلَيْهَا وَقَدْ خَفّفَ الْفَرْضَ إلَى رَكْعَتَيْنِ فَلَوْلَا قَصْدُ التّخْفِيفِ عَلَى الْمُسَافِرِ وَإِلّا كَانَ الْإِتْمَامُ أَوْلَى بِهِ وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ : لَوْ كُنْت مُسَبّحًا لَأَتْمَمْت وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ صَلّى يَوْمَ الْفَتْحِ ثَمَانِ رَكَعَاتٍ ضُحًى وَهُوَ إذْ ذَاكَ مُسَافِرٌ . وَأَمّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَاَلتّرْمِذِيّ فِي السّنَنِ مِنْ حَدِيثِ اللّيْثِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِي بُسْرَةَ الْغِفَارِي ّ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ سَافَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَفَرًا فَلَمْ أَرَهُ تَرَكَ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ زَيْغِ الشّمْسِ قَبْلَ الظّهْر قَالَ التّرْمِذِيّ : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ . قَالَ وَسَأَلْت مُحَمّدًا عَنْهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ إلّا مِنْ حَدِيثِ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَلَمْ يَعْرِفْ اسْمُ أَبِي بُسْرَةَ وَرَآهُ حَسَنًا . وَبُسْرَةُ : بِالْبَاءِ الْمُوَحّدَةِ الْمَضْمُومَةِ وَسُكُونِ السّينِ الْمُهْمَلَةِ . وَأَمّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ لَا يَدَعُ أَرْبَعًا قَبْلَ الظّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا فَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " وَلَكِنّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ فِي السّفَرِ وَلَعَلّهَا أَخْبَرَتْ عَنْ أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ وَالرّجَالُ أَعْلَمُ بِسَفَرِهِ مِنْ النّسَاءِ وَقَدْ أَخْبَرَ ابْنُ عُمَر َ أَنّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ [ ص 458 ] ابْنُ عُمَر َ يُصَلّي قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا شَيْئًا . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ صَلَاتُهُ عَلَى رَاحِلَتِه ]ِ(3/462)
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلَاةُ التّطَوّعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجّهَتْ بِهِ وَكَانَ يُومِئُ إيمَاءً بِرَأْسِهِ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ وَسُجُودُهُ أَخْفَضُ مِنْ رُكُوعِهِ وَرَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو داوُد َ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ بِنَاقَتِهِ الْقِبْلَةَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ ثُمّ يُصَلّي سَائِرَ الصّلَاةِ حَيْثُ تَوَجّهَتْ بِهِ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ وَسَائِرُ مَنْ وَصَفَ صَلَاتَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَطْلَقُوا أَنّهُ كَانَ يُصَلّي عَلَيْهَا قِبَلَ أَيّ جِهَةٍ تَوَجّهَتْ بِهِ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا مِنْ ذَلِكَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَلَا غَيْرَهَا كَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَة َ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَأَحَادِيثُهُمْ أَصَحّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَصَلّى عَلَى الرّاحِلَةِ وَعَلَى الْحِمَارِ إنْ صَحّ عَنْهُ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَر َ . وَصَلّى الْفَرْضَ بِهِمْ عَلَى الرّوَاحِلِ لِأَجْلِ الْمَطَرِ وَالطّينِ إنْ صَحّ الْخَبَرُ بِذَلِكَ وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَاَلتّرْمِذِيّ وَالنّسَائِيّ أَنّهُ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ انْتَهَى إلَى مَضِيقٍ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَالسّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَالْبِلّةُ مِنْ أَسْفَلَ [ ص 459 ] فَأَمَرَ الْمُؤَذّنَ فَأَذّنَ وَأَقَامَ ثُمّ تَقَدّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَصَلّى بِهِمْ يُومِئُ إيمَاءً فَجَعَلَ السّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرّكُوعِ . قَالَ الترمذي حَدِيثٌ غَرِيبٌ تفرد بِهِ عُمَرُ بْنُ الرّمّاحِ وثبت ذلك عن أَنَسٍ من فِعْلِهِ
50- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ
زاد المعاد - (ج 1 / ص 507)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ
كَانَ إذَا زَارَ قُبُورَ أَصْحَابِهِ يَزُورُهَا لِلدّعَاءِ لَهُمْ وَالتّرَحّمِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَهَذِهِ هِيَ الزّيَارَةُ الّتِي سَنّهَا لِأُمّتِهِ وَشَرَعَهَا لَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إذَا زَارُوهَا : السّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنّا إنْ شَاءَ اللّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ نَسْأَلُ اللّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ . وَكَانَ هَدْيُهُ أَنْ يَقُولَ وَيَفْعَلَ عِنْدَ زِيَارَتِهَا مِنْ جِنْسِ مَا يَقُولُهُ عِنْدَ الصّلَاةِ عَلَى الْمَيّتِ مِنْ الدّعَاءِ وَالتّرَحّمِ وَالِاسْتِغْفَارِ . فَأَبَى الْمُشْرِكُونَ إلّا دُعَاءَ الْمَيّتِ وَالْإِشْرَاكَ بِهِ وَالْإِقْسَامَ عَلَى اللّهِ بِهِ وَسُؤَالَهُ الْحَوَائِجَ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ وَالتّوَجّهَ إلَيْهِ بِعَكْسِ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُ هَدْيُ تَوْحِيدٍ وَإِحْسَانٍ إلَى الْمَيّتِ وَهَدْيُ هَؤُلَاءِ شِرْكٌ وَإِسَاءَةٌ إلَى نَفُوسِهِمْ وَإِلَى الْمَيّتِ وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ إمّا أَنْ يَدْعُوَا الْمَيّتَ أَوْ يَدْعُوَا بِهِ أَوْ عِنْدَهُ وَيَرَوْنَ الدّعَاءَ عِنْدَهُ أَوْجَبَ وَأَوْلَى مِنْ الدّعَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ [ ص 508 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ تَبَيّنَ لَهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ
51- أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدُورِ وَحُصُولِهَا عَلَى الْكَمَالِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
زاد المعاد - (ج 2 / ص 22)
فَصْلٌ فِي أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدُورِ وَحُصُولِهَا عَلَى الْكَمَالِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ(3/463)
فَأَعْظَمُ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ التّوْحِيدُ وَعَلَى حَسَبِ كَمَالِهِ وَقُوّتِهِ وَزِيَادَتِهِ يَكُونُ انْشِرَاحُ صَدْرِ صَاحِبِهِ . قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِ } [ الزّمَرُ 22 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقًا حَرَجًا كَأَنّمَا يَصّعّدُ فِي السّمَاءِ } [ الْأَنْعَامُ 125 ] [ ص 23 ] فَالْهُدَى وَالتّوْحِيدُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ وَالشّرْكُ وَالضّلَالُ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصّدْرِ وَانْحِرَاجِهِ وَمِنْهَا : النّورُ الّذِي يَقْذِفُهُ اللّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَهُوَ نُورُ الْإِيمَانِ فَإِنّهُ يَشْرَحُ الصّدْرَ وَيُوَسّعُهُ وَيُفْرِحُ الْقَلْبَ . فَإِذَا فُقِدَ هَذَا النّورُ مِنْ قَلْبِ الْعَبْدِ ضَاقَ وَحَرَجَ وَصَارَ فِي أَضْيَقِ سِجْنٍ وَأَصْعَبِهِ . وَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إذَا دَخَلَ النّورُ الْقَلْبَ انْفَسَحَ وَانْشَرَحَ . قَالُوا : وَمَا عَلاَمَةُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ الْإِنَابَةُ إلَى دَارِ الْخُلُودِ وَالتّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ فَيُصِيبُ الْعَبْدَ مِنْ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِحَسْبِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذَا النّورِ وَكَذَلِكَ النّورُ الْحِسّيّ وَالظّلْمَةُ الْحِسّيّةُ هَذِهِ تَشْرَحُ الصّدْرَ وَهَذِهِ تُضَيّقُهُ . وَمِنْهَا : الْعِلْمُ فَإِنّهُ يَشْرَحُ الصّدْرَ وَيُوَسّعُهُ حَتّى يَكُونَ أَوْسَعَ مِنْ الدّنْيَا وَالْجَهْلُ يُورِثُهُ الضّيقُ وَالْحَصْرُ وَالْحَبْسُ فَكُلّمَا اتّسَعَ عِلْمُ الْعَبْدِ انْشَرَحَ صَدْرُهُ وَاتّسَعَ وَلَيْسَ هَذَا لِكُلّ عِلْمٍ بَلْ لِلْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ الْعِلْمُ النّافِعُ فَأَهْلُهُ أَشْرَحُ النّاسِ صَدْرًا وَأَوْسَعُهُمْ قُلُوبًا وَأَحْسَنُهُمْ أَخْلَاقًا وَأَطْيَبُهُمْ عَيْشًا . وَمِنْهَا : الْإِنَابَةُ إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَحَبّتُهُ بِكُلّ الْقَلْبِ وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَالتّنَعّمُ بِعِبَادَتِهِ فَلَا شَيْءَ أَشْرَحُ لِصَدْرِ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ . حَتّى إنّهُ لَيَقُولُ أَحْيَانًا : إنْ [ ص 24 ] كُنْتُ فِي الْجَنّةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنّي إذًا فِي عَيْشٍ طَيّبٍ وَلِلْمَحَبّةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصّدْرِ وَطِيبِ النّفْسِ وَنَعِيمُ الْقَلْبِ لَا يَعْرِفُهُ إلّا مَنْ لَهُ حِسّ بِهِ وَكُلّمَا كَانَتْ الْمَحَبّةُ أَقْوَى وَأَشَدّ كَانَ الصّدْرُ أَفْسَحَ وَأَشْرَحَ وَلَا يَضِيقُ إلّا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَطّالِينَ الْفَارِغِينَ مِنْ هَذَا الشّأْنِ فَرُؤْيَتُهُمْ قَذَى عَيْنِهِ وَمُخَالَطَتُهُمْ حُمّى رُوحِهِ . وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضِيقِ الصّدْرِ الْإِعْرَاضُ عَنْ اللّهِ تَعَالَى وَتَعَلّقُ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ وَالْغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبّةُ سِوَاهُ فَإِنّ مَنْ أَحَبّ شَيْئًا غَيْرَ اللّهِ عُذّبَ بِهِ وَسُجِنَ قَلْبُهُ فِي مَحَبّةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْهُ وَلَا أَكْسَفَ بَالًا وَلَا أَنْكَدُ عَيْشًا وَلَا أَتْعَبُ قَلْبًا فَهُمَا مَحَبّتَانِ مَحَبّةٌ هِيَ جَنّةُ الدّنْيَا وَسُرُورُ النّفْسِ وَلَذّةُ الْقَلْبِ وَنَعِيمُ الرّوحِ وَغِذَاؤُهَا وَدَوَاؤُهَا بَلْ حَيَاتُهَا وَقُرّةُ عَيْنِهَا وَهِيَ مَحَبّةُ اللّهِ وَحْدَهُ بِكُلّ الْقَلْبِ وَانْجِذَابُ قُوَى الْمَيْلِ وَالْإِرَادَةُ وَالْمَحَبّةُ كُلّهَا إلَيْهِ . وَمَحَبّةٌ هِيَ عَذَابُ الرّوحِ وَغَمّ النّفْسِ وَسِجْنُ الْقَلْبِ وَضِيقُ الصّدْرِ وَهِيَ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالنّكَدِ وَالْعَنَاءِ وَهِيَ مَحَبّةُ مَا سِوَاهُ سُبْحَانَهُ . وَمِنْ أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدْرِ دَوَامُ ذِكْرِهِ عَلَى كُلّ حَالٍ وَفِي كُلّ مَوْطِنٍ فَلِلذّكْرِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي انْشِرَاحِ الصّدْرِ وَنَعِيمِ الْقَلْبِ وَلِلْغَفْلَةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي ضِيقِهِ وَحَبْسِهِ وَعَذَابِهِ . وَمِنْهَا : الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ وَنَفْعُهُمْ بِمَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالنّفْعِ بِالْبَدَنِ وَأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ فَإِنّ الْكَرِيمَ الْمُحْسِنَ أَشْرَحُ النّاسِ صَدْرًا وَأَطْيَبُهُمْ نَفْسًا وَأَنْعَمُهُمْ قَلْبًا وَالْبَخِيلُ الّذِي لَيْسَ فِيهِ إحْسَانٌ أَضْيَقُ النّاسِ صَدْرًا وَأَنْكَدُهُمْ عَيْشًا وَأَعْظَمُهُمْ همّا وَغَمّا . وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى(3/464)
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّحِيحِ مَثَلًا لِلْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيُنِ عَلَيْهِمَا جُنّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ كُلّمَا هَمّ الْمُتَصَدّقُ بِصَدَقَةِ اتّسَعَتْ عَلَيْهِ وَانْبَسَطَتْ حَتّى يَجُرّ ثِيَابَهُ وَيُعْفِيَ أَثَرَهُ وَكُلّمَا هَمّ الْبَخِيلُ بِالصّدَقَةِ لَزِمَتْ كُلّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا وَلَمْ تَتّسِعْ عَلَيْهِ فَهَذَا مَثَلُ انْشِرَاحِ صَدْرِ الْمُؤْمِنِ الْمُتَصَدّقِ وَانْفِسَاحِ قَلْبِهِ وَمَثَلُ ضِيقِ صَدْرِ الْبَخِيلِ وَانْحِصَارِ قَلْبِهِ [ ص 25 ] وَمِنْهَا الشّجَاعَةُ فَإِنّ الشّجَاعَ مُنْشَرِحُ الصّدْرِ وَاسِعُ الْبِطَان مُتّسِعُ الْقَلْبِ وَالْجَبَانُ أَضْيَقُ النّاسِ صَدْرًا وَأَحْصَرُهُمْ قَلْبًا لَا فَرْحَةٌ لَهُ وَلَا سُرُورٌ وَلَا لَذّةٌ لَهُ وَلَا نَعِيمٌ إلّا مِنْ جِنْسِ مَا لِلْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيّ وَأَمّا سُرُورُ الرّوحِ وَلَذّتُهَا وَنَعِيمُهَا وَابْتِهَاجُهَا فَمُحَرّمٌ عَلَى كُلّ جَبَانٍ كَمَا هُوَ مُحَرّمٌ عَلَى كُلّ بَخِيلٍ وَعَلَى كُلّ مُعْرِضٍ عَنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ غَافِلٍ عَنْ ذِكْرِهِ جَاهِلٍ بِهِ وَبِأَسْمَائِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَدِينِهِ مُتَعَلّقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِهِ .
وَإِنّ هَذَا النّعِيمَ وَالسّرُورَ يَصِيرُ فِي الْقَبْرِ رِيَاضًا وَجَنّةً وَذَلِكَ الضّيقُ وَالْحَصْرُ يَنْقَلِبُ فِي الْقَبْرِ عَذَابًا وَسِجْنًا . فَحَالُ الْعَبْدِ فِي الْقَبْرِ كَحَالِ الْقَلْبِ فِي الصّدْرِ نَعِيمًا وَعَذَابًا وَسِجْنًا وَانْطِلَاقًا وَلَا عِبْرَةَ بِانْشِرَاحِ صَدْرِ هَذَا لِعَارِضِ وَلَا بِضِيقِ صَدْرِ هَذَا لِعَارِضِ فَإِنّ الْعَوَارِضَ تَزُولُ بِزَوَالِ أَسْبَابِهَا وَإِنّمَا الْمُعَوّلُ عَلَى الصّفَةِ الّتِي قَامَتْ بِالْقَلْبِ تُوجِبُ انْشِرَاحَهُ وَحَبْسَهُ فَهِيَ الْمِيزَانُ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَمِنْهَا بَلْ مِنْ أَعْظَمِهَا : إخْرَاجُ دَغَلِ القْلبِ مِنْ الصّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ الّتِي [ ص 26 ] يَكُونَ لَهُ مَادّتَانِ تَعْتَوِرَانِ عَلَى قَلْبِهِ وَهُوَ لِلْمَادّةِ الْغَالِبَةِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا . وَمِنْهَا : تَرْكُ فُضُولِ النّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالِاسْتِمَاعِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالْأَكْلِ وَالنّوُمِ فَإِنّ هَذِهِ الْفُضُولَ تَسْتَحِيلُ آلَامًا وَغُمُومًا وَهُمُومًا فِي الْقَلْبِ تَحْصُرُهُ وَتَحْبِسُهُ وَتُضَيّقُهُ وَيَتَعَذّبُ بِهَا بَلْ غَالِبُ عَذَابِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْهَا فَلَا إلَهَ إلّا اللّهُ مَا أَضْيَقَ صَدْرَ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلّ آفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ بِسَهْمِ وَمَا أَنْكَدَ عَيْشَهُ وَمَا أَسْوَأَ حَالِهِ وَمَا أَشَدّ حَصْرِ قَلْبِهِ وَلَا إلَهَ إلّا اللّهُ مَا أَنْعَمَ عَيْشِ مَنْ ضَرَبَ فِي كُلّ خَصْلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ بِسَهْمِ وَكَانَتْ هِمّتُهُ دَائِرَةً عَلَيْهَا حَائِمَةً حَوْلَهَا فَلِهَذَا نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } [ الِانْفِطَارُ 13 ] وَلِذَلِكَ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الِانْفِطَارُ 14 ] وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُحْصِيهَا إلّا اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وَالْمَقْصُودُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ أَكْمَلَ الْخَلْقِ فِي كُلّ صِفَةٍ يَحْصُلُ بِهَا انْشِرَاحُ الصّدْرِ وَاتّسَاعُ الْقَلْبِ وَقُرّةُ الْعَيْنِ وَحَيَاةُ الرّوحِ فَهُوَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ فِي هَذَا الشّرْحِ وَالْحَيَاةِ وَقُرّةِ الْعَيْنِ مَعَ مَا خُصّ بِهِ مِنْ الشّرْحِ الْحِسّيّ وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ مُتَابَعَةً لَهُ أَكْمَلُهُمْ انْشِرَاحًا وَلَذّةً وَقُرّةَ عَيْنٍ وَعَلَى حَسَبِ مُتَابَعَتِهِ يَنَالُ الْعَبْدُ مِنْ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ وَقُرّةِ عَيْنِهِ وَلَذّةِ رُوحِهِ مَا يَنَالُ فَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذُرْوَةِ الْكَمَالِ مِنْ شَرْحِ الصّدْرِ وَرَفْعِ الذّكْرِ وَوَضْعِ الْوِزْرِ وَلِأَتْبَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ بِحَسْبِ نَصِيبِهِمْ مِنْ اتّبَاعِهِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَهَكَذَا لِأَتْبَاعِهِ نَصِيبٌ مِنْ حِفْظِ اللّهِ لَهُمْ وَعِصْمَتِهِ إيّاهُمْ وَدِفَاعِهِ عَنْهُمْ وَإِعْزَازِهِ لَهُمْ وَنَصْرِهِ لَهُمْ بِحَسْبِ نَصِيبِهِمْ مِنْ الْمُتَابَعَةِ فَمُسْتَقِلّ وَمُسْتَكْثِرٌ . فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللّهَ . وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ
52-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاعْتِكَافِ
زاد المعاد - (ج 2 / ص 82)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاعْتِكَافِ(3/465)
[ مَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ عُكُوفُ الْقَلْبِ إلَى اللّهِ ]
لَمّا كَانَ صَلَاحُ الْقَلْبِ وَاسْتِقَامَتُهُ عَلَى طَرِيقِ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى ، مُتَوَقّفًا عَلَى جَمْعِيّتِهِ عَلَى اللّهِ وَلَمّ شَعَثِهِ بِإِقْبَالِهِ بِالْكُلّيّةِ عَلَى اللّهِ تَعَالَى ، فَإِنّ شَعَثَ الْقَلْبِ لَا يَلُمّهُ إلّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَكَانَ فُضُولُ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَفُضُولُ مُخَالَطَةِ الْأَنَامِ وَفُضُولُ الْكَلَامِ وَفُضُولُ الْمَنَامِ مِمّا يَزِيدُهُ شَعَثًا ، وَيُشَتّتُهُ فِي كُلّ وَادٍ وَيَقْطَعُهُ عَنْ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى ، أَوْ يُضْعِفُهُ أَوْ يَعُوقُهُ وَيُوقِفُهُ اقْتَضَتْ رَحْمَةُ الْعَزِيزِ الرّحِيمِ بِعِبَادِهِ أَنْ شَرَعَ لَهُمْ مِنْ الصّوْمِ مَا يُذْهِبُ فُضُولَ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَيَسْتَفْرِغُ مِنْ الْقَلْبِ أَخْلَاطَ الشّهَوَاتِ الْمَعُوقَةِ لَهُ عَنْ سَيْرِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَشَرْعِهِ بِقَدْرِ الْمَصْلَحَةِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بَهْ الْعَبْدُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ وَلَا يَضُرّهُ وَلَا يَقْطَعُهُ عَنْ مَصَالِحِهِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ
وَشَرَعَ لَهُمْ الِاعْتِكَافَ الّذِي مَقْصُودُهُ وَرُوحُهُ عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَجَمْعِيّتُهُ عَلَيْهِ وَالْخَلْوَةُ بِهِ وَالِانْقِطَاعُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذِكْرُهُ وَحُبّهُ وَالْإِقْبَالُ [ ص 83 ] بَدَلَهَا ، وَيَصِيرُ الْهَمّ كُلّهُ بِهِ وَالْخَطَرَاتُ كُلّهَا بِذِكْرِهِ وَالتّفَكّرِ فِي تَحْصِيلِ مَرَاضِيهِ وَمَا يُقَرّبُ مِنْهُ فَيَصِيرُ أُنْسُهُ بِاَللّهِ بَدَلًا عَنْ أُنْسِهِ بِالْخَلْقِ فَيَعُدّهُ بِذَلِكَ لِأُنْسِهِ بِهِ يَوْمَ الْوَحْشَةِ فِي الْقُبُورِ حِينَ لَا أَنِيسَ لَهُ وَلَا مَا يَفْرَحُ بِهِ سِوَاهُ فَهَذَا مَقْصُودُ الِاعْتِكَافِ الْأَعْظَمِ
[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ أَنّ الصّوْمَ شَرْطٌ لِلِاعْتِكَافِ ](3/466)
وَلَمّا كَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ إنّمَا يَتِمّ مَعَ الصّوْمِ شُرِعَ الِاعْتِكَافُ فِي أَفْضَلِ أَيّامِ الصّوْمِ وَهُوَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ اعْتَكَفَ مُفْطِرًا قَطّ ، بَلْ قَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ : لَا اعْتِكَافَ إلّا بِصَوْمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ اللّهُ سُبْحَانَهُ الِاعْتِكَافَ إلّا مَعَ الصّوْمِ وَلَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا مَعَ الصّوْمِ . فَالْقَوْلُ الرّاجِحُ فِي الدّلِيلِ الّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ السّلَفِ أَنّ الصّوْمَ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ وَهُوَ الّذِي كَانَ يُرَجّحُهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبّاسِ ابْنُ تَيْمِيّةَ . وَأَمّا الْكَلَامُ فَإِنّهُ شُرِعَ لِلْأُمّةِ حَبْسُ اللّسَانِ عَنْ كُلّ مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ . وَأَمّا فُضُولُ الْمَنَامِ فَإِنّهُ شُرِعَ لَهُمْ مِنْ قِيَامِ اللّيْلِ مَا هُوَ مِنْ أَفْضَلِ السّهَرِ وَأَحْمَدِهِ عَاقِبَةً وَهُوَ السّهَرُ الْمُتَوَسّطُ الّذِي يَنْفَعُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ وَلَا يَعُوقُ عَنْ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ وَمَدَارُ رِيَاضَةِ أَرْبَابِ الرّيَاضَاتِ وَالسّلُوكِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ [ ص 84 ] وَأَسْعَدُهُمْ بِهَا مَنْ سَلَكَ فِيهَا الْمِنْهَاجَ النّبَوِيّ الْمُحَمّدِيّ وَلَمْ يَنْحَرِفْ انْحِرَافَ الْغَالّينَ وَلَا قَصّرَ تَقْصِيرَ الْمُفَرّطِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَدْيَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صِيَامِهِ وَقِيَامِهِ وَكَلَامِهِ فَلْنَذْكُرْ هَدْيَهُ فِي اعْتِكَافِهِ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتّى تَوَفّاهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ وَتَرَكَهُ مَرّةً فَقَضَاهُ فِي شَوّالٍ . وَاعْتَكَفَ مَرّةً فِي الْعَشْرِ الْأَوّلِ ثُمّ الْأَوْسَطِ ثُمّ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمّ تَبَيّنَ لَهُ أَنّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ فَدَاوَمَ عَلَى اعْتِكَافِهِ حَتّى لَحِقَ بِرَبّهِ عَزّ وَجَلّ . وَكَانَ يَأْمُرُ بِخِبَاءٍ فَيُضْرَبُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ يَخْلُو فِيهِ بِرَبّهِ عَزّ وَجَلّ . وَكَانَ إذَا أَرَادَ الِاعْتِكَافَ صَلّى الْفَجْرَ ثُمّ دَخَلَهُ فَأَمَرَ بِهِ مَرّةً فَضُرِبَ فَأَمَرَ أَزْوَاجَهُ بِأَخْبِيَتِهِنّ فَضُرِبَتْ فَلَمّا صَلّى الْفَجْرَ نَظَرَ فَرَأَى تِلْكَ الْأَخْبِيَةَ فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوّضَ ، وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتّى اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوّلِ مِنْ شَوّالٍ . وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلّ سَنَةٍ عَشَرَةَ أَيّامٍ فَلَمّا كَانَ فِي الْعَامِ الّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا ، وَكَانَ يُعَارِضُهُ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ كُلّ سَنَةٍ مَرّةً فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ [ ص 85 ] وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ أَيْضًا فِي كُلّ سَنَةٍ مَرّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ تِلْكَ السّنَةِ مَرّتَيْنِ . وَكَانَ إذَا اعْتَكَفَ دَخَلَ قُبّتَهُ وَحْدَهُ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ بَيْتَهُ فِي حَالِ اعْتِكَافِهِ إلّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَكَانَ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَيْتِ عَائِشَةَ فَتُرَجّلُهُ وَتَغْسِلُهُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَانَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ . فَإِذَا قَامَتْ تَذْهَبُ قَامَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا ، وَلَمْ يُبَاشِرْ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ لَا بِقُبْلَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ، وَكَانَ إذَا اعْتَكَفَ طُرِحَ لَهُ فِرَاشُهُ وَوُضِعَ لَهُ سَرِيرُهُ فِي مُعْتَكَفِهِ ، وَكَانَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ مَرّ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ عَلَى طَرِيقِهِ فَلَا يَعْرُجْ عَلَيْهِ وَلَا يَسْأَلْ عَنْهُ . وَاعْتَكَفَ مَرّةً فِي قُبّةٍ تُرْكِيّةٍ ، وَجَعَلَ عَلَى سُدّتِهَا حَصِيرًا ، كُلّ [ ص 86 ] اتّخَاذِ الْمُعْتَكِفِ مَوْضِعَ عِشْرَةٍ وَمَجْلَبَةٍ لِلزّائِرِينَ وَأَخْذِهِمْ بِأَطْرَافِ الْأَحَادِيثِ بَيْنَهُمْ فَهَذَا لَوْنٌ وَالِاعْتِكَافُ النّبَوِيّ لَوْنٌ . وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ .
53-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَقِيقَةِ
زاد المعاد - (ج 2 / ص 296)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَقِيقَةِ(3/467)
فِي " الْمُوَطّأِ " أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُئِلَ عَنْ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ لَا أُحِبّ الْعُقُوقَ كَأَنّهُ كَرِهَ الِاسْمَ ذَكَرَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ ، عَنْ أَبِيهِ . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ : وَأَحْسَنُ أَسَانِيدِهِ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرّزّاقِ : أَنْبَأَ دَاوُد بْنُ قَيْسٍ ، قَالَ [ ص 297 ] عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ يُحَدّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ لَا أُحِبّ الْعُقُوقَ وَكَأَنّهُ كَرِهَ الِاسْمَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ يَنْسُكُ أَحَدُنَا عَنْ وَلَدِهِ ؟ فَقَالَ مَنْ أَحَبّ مِنْكُمْ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَفْعَلْ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ وصح عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ
[ مَعْنَى كُلّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ ]
" وَقَالَ كُلّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السّابِعِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُسَمّى قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد ُ مَعْنَاهُ أَنّهُ مَحْبُوسٌ عَنْ الشّفَاعَةِ فِي أَبَوَيْهِ وَالرّهْنُ فِي اللّغَةِ الْحَبْسُ قَالَ تَعَالَى : { كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ الْمُدّثّرُ 38 ] وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنّهُ رَهِينَةٌ فِي نَفْسِهِ مَمْنُوعٌ مَحْبُوسٌ عَنْ خَيْرٍ يُرَادُ بِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ حُبِسَ بِتَرْكِ أَبَوَيْهِ الْعَقِيقَةَ عَمّا يَنَالُهُ مَنْ عَقّ عَنْهُ أَبَوَاهُ وَقَدْ يَفُوتُ الْوَلَدَ خَيْرٌ بِسَبَبِ تَفْرِيطِ الْأَبَوَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا أَنّهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ إذَا سَمّى أَبُوهُ لَمْ يَضُرّ الشّيْطَانُ وَلَدَهُ وَإِذَا تَرَكَ التّسْمِيَةَ لَمْ يَحْصُلْ لِلْوَلَدِ هَذَا الْحِفْظُ . وَأَيْضًا فَإِنّ هَذَا إنّمَا يَدُلّ عَلَى أَنّهَا لَازِمَةٌ لَا بُدّ مِنْهَا ، فَشَبّهَ لُزُومَهَا وَعَدَمَ [ ص 298 ] كَاللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيّ ، وَأَهْلِ الظّاهِرِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ هَلْ التّدْمِيَةُ مِنْ الْعَقِيقَةِ صَحِيحَةٌ أَوْ غَلَطٌ ؟](3/468)
فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي رِوَايَةِ هَمّامٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " وَيُدَمّى " قَالَ هَمّامٌ سُئِلَ قَتَادَةُ عَنْ قَوْلِهِ و " يُدَمّى " كَيْفَ يَصْنَعُ بِالدّمِ ؟ فَقَالَ إذَا ذُبِحَتْ الْعَقِيقَةُ أُخِذَتْ مِنْهَا صُوفَةٌ وَاسْتُقْبِلَتْ بِهَا أَوْدَاجُهَا ، ثُمّ تُوضَعُ عَلَى يَافُوخِ الصّبِيّ حَتّى تَسِيلَ عَلَى رَأْسِهِ مِثْلَ الْخَيْطِ ثُمّ يُغْسَلُ رَأْسُهُ بَعْدُ وَيُحْلَقُ قِيلَ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي ذَلِكَ فَمِنْ قَائِلٍ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ وَلَا يَصِحّ سَمَاعُهُ عَنْهُ وَمِنْ قَائِلٍ سَمَاعٌ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ هَذَا صَحِيحٌ صَحّحَهُ التّرْمِذِي ّ وَغَيْرُهُ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشّهِيدِ قَالَ قَالَ لِي مُحَمّدُ بْنُ سِيرِينَ : اذْهَبْ فَسَلْ الْحَسَنَ مِمّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ سَمِعْته مِنْ سَمُرَةَ . ثُمّ اُخْتُلِفَ فِي التّدْمِيَةِ بَعْدُ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَوْ غَلَطٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ " : هِيَ وَهْمٌ مِنْ هَمّامِ بْنِ يَحْيَى . وَقَوْلُهُ وَيُدَمّى ، إنّمَا هُوَ " وَيُسَمّى " وَقَالَ غَيْرُهُ كَانَ فِي لِسَانِ هَمّامٍ لُثْغَةٌ فَقَالَ " وَيُدَمّى " وَإِنّمَا أَرَادَ أَنْ يُسَمّى ، وَهَذَا لَا يَصِحّ ، فَإِنّ هَمّامًا وَإِنْ كَانَ وَهْم فِي اللّفْظِ وَلَمْ يُقِمْهُ لِسَانُهُ فَقَدْ حَكَى عَنْ قَتَادَةَ صِفّةَ التّدْمِيَةِ وَأَنّهُ سُئِلَ عَنْهَا فَأَجَابَ بِذَلِكَ وَهَذَا لَا تَحْتَمِلُهُ اللّثْغَةُ بِوَجْهٍ . فَإِنْ كَانَ لَفْظُ التّدْمِيَةِ هُنَا وَهْمًا ، فَهُوَ مِنْ قَتَادَةَ ، أَوْ مِنْ الْحَسَنِ وَاَلّذِينَ أَثْبَتُوا لَفْظَ التّدْمِيَةِ قَالُوا : إنّهُ مِنْ سُنّةِ الْعَقِيقَةِ وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ ، وَاَلّذِينَ مَنَعُوا التّدْمِيَةَ كَمَالِكٍ ، وَالشّافِعِيّ ، وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ ، قَالُوا : " وَيُدَمّى " غَلَطٌ وَإِنّمَا هُوَ " وَيُسَمّى " قَالُوا : وَهَذَا كَانَ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيّةِ فَأَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ قَالَ كُنّا فِي الْجَاهِلِيّةِ إذَا وُلِدَ لِأَحَدِنَا غُلَامٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطّخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا ، فَلَمّا جَاءَ اللّهُ بِالْإِسْلَامِ كُنّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ [ ص 299 ] قَالُوا : وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي إسْنَادِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ ، وَلَا يُحْتَجّ بِهِ فَإِذَا انْضَافَ إلَى قَوْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى وَالدّمُ أَذًى ، فَكَيْفَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُلَطّخُوهُ بِالْأَذَى ؟ قَالُوا : وَمَعْلُومٌ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَقّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بِكَبْشٍ كَبْشٍ وَلَمْ يُدَمّهِمَا ، وَلَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ هَدْيِهِ وَهَدْيِ أَصْحَابِهِ قَالُوا : وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ سُنّتِهِ تَنْجِيسُ رَأْسِ الْمَوْلُودِ وَأَيْنَ لِهَذَا شَاهِدٌ وَنَظِيرٌ فِي سُنّتِهِ وَإِنّمَا يَلِيقُ هَذَا بِأَهْلِ الْجَاهِلِيّةِ .
54- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ وَخِتَانِهِ
زاد المعاد - (ج 2 / ص 304)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ وَخِتَانِهِ(3/469)
قَدْ تَقَدّمَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَة َ فِي الْعَقِيقَةِ تُذْبَحُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُسَمّى قَالَ الْمَيْمُونِيّ : تَذَاكَرْنَا لِكَمْ يُسَمّى الصّبِيّ ؟ قَالَ لَنَا أَبُو عَبْدِ اللّهِ يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ أَنّهُ يُسْمَى لِثَلَاثَةٍ وَأَمّا سَمُرَةُ فَقَالَ يُسَمّى فِي الْيَوْمِ السّابِعِ . فَأَمّا الْخِتَانُ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : كَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الْغُلَامَ حَتّى يُدْرِكَ . قَالَ الْمَيْمُونِيّ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ كَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُ أَنْ يُخْتَنَ الصّبِيّ يَوْمَ سَابِعِهِ وَقَالَ حَنْبَلٌ إنّ أَبَا عَبْدِ اللّهِ قَالَ وَإِنْ خُتِنَ يَوْمَ السّابِعِ فَلَا بَأْسَ وَإِنّمَا كَرِهَ الْحَسَنُ ذَلِكَ لِئَلّا يَتَشَبّهَ بِالْيَهُودِ وَلَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ . قَالَ مَكْحُولٌ : خَتَنَ إبْرَاهِيمُ ابْنَهُ إسْحَاقَ لِسَبْعَةِ أَيّامٍ وَخَتَنَ إسْمَاعِيل َ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ذَكَرَهُ الْخَلّالُ . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ : فَصَارَ خِتَانُ إسْحَاقَ سُنّةً فِي وَلَدِهِ وَخِتَانُ إسْمَاعِيلَ سُنّةً فِي وَلَدِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ الْخِلَافُ فِي خِتَانِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَتَى كَانَ ذَلِكَ . [ ص 305 ]
زاد المعاد - (ج 2 / ص 305)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى
ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّ أَخْنَعَ اسْمٍ عِنْدَ اللّهِ رَجُلٌ تَسَمّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ لَا مَلِكَ إلّا اللّهُ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ أَحَبّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللّهِ عَبْدُ اللّهِ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمّامٌ وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرّةُ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَا تُسَمّيَن غُلَامَكَ يَسَارًا وَلَا رَبَاحًا وَلَا نَجِيحًا وَلَا أَفْلَحَ فَإِنّكَ تَقُولُ أَثَمّتَ هُوَ ؟ فَلَا يَكُونُ فَيُقَالُ لَا [ ص 306 ] وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ غَيّرَ اسْمَ عَاصِيَةَ وَقَالَ أَنْتِ جَمِيلَةٌ وَكَانَ اسْمُ جُوَيْرِيَةَ بَرّةً فَغَيّرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِاسْمِ جُوَيْرِيَةَ . وَقَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمّ سَلَمَةَ : نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُسَمّى بِهَذَا الِاسْمِ فَقَالَ لَا تُزَكّوا أَنْفُسَكُمْ اللّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرّ مِنْكُمْ . وَغَيّرَ اسْمَ أَصْرَمَ بِزُرْعَةَ وَغَيّرَ اسْمَ أَبِي الْحَكَمِ بِأَبِي شُرَيْحٍ وَغَيّرَ اسْمَ حَزْنٍ جَدّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَجَعَلَهُ سَهْلًا فَأَبَى ، وَقَالَ " السّهْلُ يُوطَأُ وَيُمْتَهَنُ " . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَغَيّرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْمَ الْعَاصِ وَعَزِيزٍ وَعَتْلَةَ وَشَيْطَانٍ وَالْحَكَمِ وَغُرَابٍ وَحُبَابٍ وَشِهَابٍ ، فَسَمّاهُ هِشَامًا ، وَسَمّى حَرْبًا سِلْمًا ، وَسَمّى الْمُضْطَجِعَ الْمُنْبَعِثَ وَأَرْضًا عَفْرَةً سَمّاهَا خَضِرَةً ، وَشِعْبُ الضّلَالَةِ سَمّاهُ شِعْبَ الْهُدَى ، وَبَنُو الزّنْيَةِ سَمّاهُمْ بَنِي الرّشْدَةِ ، وَسَمّى بَنِي مُغْوِيَةَ بَنِي رِشْدَةَ [ ص 307 ]
55- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاسْتِئْذَانِ
زاد المعاد - (ج 2 / ص 391)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاسْتِئْذَانِ
وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ فَإِنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلّا فَارْجِعْ وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ أَرَادَ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الّذِي نَظَرَ إلَيْهِ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجْرَتِهِ [ ص 392 ] وَقَالَ إنّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَوْ أَنّ امْرَأً اطّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنٍ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مَنْ اطّلَعَ عَلَى قَوْمٍ فِي بَيْتِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ، فَقَدْ حَلّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مَنْ اطّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ، فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ
[ التّسْلِيمُ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ ](3/470)
وَصَحّ عَنْهُ التّسْلِيمُ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ فِعْلًا وَتَعْلِيمًا ، وَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ أَأَلِجُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِرَجُلٍ اُخْرُجْ إلَى هَذَا ، فَعَلّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ " . فَقَالَ لَهُ قُلْ السّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ ؟ فَسَمِعَهُ الرّجُلُ فَقَالَ السّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ ؟ فَأَذِنَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَخَلَ وَلَمّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهُوَ فِي مَشْرُبَتِهِ مُؤْلِيًا مِنْ نِسَائِهِ قَالَ السّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللّهِ ، السّلَامُ عَلَيْكُمْ أَيَدْخُلُ عُمَر ؟ [ ص 393 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِكَلَدَةَ بْنِ حَنْبَلٍ لَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسَلّمْ ارْجِعْ فَقُلْ السّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُل ؟ وَفِي هَذِهِ السّنَنِ رَدّ عَلَى مَنْ قَالَ وَيُقَدّمُ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى السّلَامِ وَرَدّ عَلَى مَنْ قَالَ إنْ وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ قَبْلَ دُخُولِهِ بَدَأَ بِالسّلَامِ وَإِنْ لَمْ تَقَعْ عَيْنُهُ عَلَيْهِ بَدَأَ بِالِاسْتِئْذَانِ وَالْقَوْلَانِ مُخَالِفَانِ لِلسّنّةِ .
[ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثًا ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ انْصَرَفَ وَهُوَ رَدّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنْ ظَنّ أَنّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا ، زَادَ عَلَى الثّلَاثِ وَرَدّ عَلَى مَنْ قَالَ يُعِيدُهُ بِلَفْظٍ آخَرَ وَالْقَوْلَانِ مُخَالِفَانِ لِلسّنّةِ .
فَصْلٌ [ ذِكْرُ الْمُسْتَأْذِنِ مَا يَدُلّ عَلَيْهِ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ أَنّ الْمُسْتَأْذِنَ إذَا قِيلَ لَهُ مَنْ أَنْتَ ؟ يَقُول : فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَوْ يَذْكُرُ كُنْيَتَهُ أَوْ لَقَبَهُ وَلَا يَقُولُ أَنَا ، كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ لَمّا اسْتَفْتَحَ بَابَ السّمَاءِ فَسَأَلُوهُ مَنْ ؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ . وَاسْتَمَرّ ذَلِكَ فِي كُلّ سَمَاءٍ سَمَاءٍ . وَكَذَلِكَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " لَمّا جَلَسَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْبُسْتَانِ وَجَاءَ أَبُو بَكْر ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَاسْتَأْذَنَ فَقَالَ مَنْ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ، ثُمّ جَاءَ عُمَرُ ، فَاسْتَأْذَنَ فَقَالَ مَنْ ؟ قَالَ عُمَرُ ثُمّ عُثْمَان ُ كَذَلِك [ ص 394 ] الصّحِيحَيْنِ " ، عَنْ جَابِرٍ ، أَتَيْتُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَقَقْتُ الْبَابَ فَقَالَ " مَنْ ذَا ؟ " فَقُلْت : أَنَا ، فَقَالَ " أَنَا أَنَا " ، كَأَنّهُ كَرِهَهَا وَلَمّا اسْتَأْذَنَتْ أُمّ هَانِئٍ ، قَالَ لَهَا : " مَنْ هَذِهِ ؟ " قَالَتْ أُمّ هَانِئٍ فَلَمْ يَكْرَهْ ذِكْرَهَا الْكُنْيَةَ وَكَذَلِكَ لَمّا قَالَ لِأَبِي ذَرّ : " مَنْ هَذَا ؟ " قَالَ أَبُو ذَر وَكَذَلِكَ لَمّا قَالَ لِأَبِي قَتَادَةَ " مَنْ هَذَا ؟ " قَالَ أَبُو قَتَادَةَ
56- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَذْكَارِ الْعُطَاسِ
زاد المعاد - (ج 2 / ص 397)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَذْكَارِ الْعُطَاسِ(3/471)
ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ اللّهَ يُحِبّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التّثَاؤُبَ ، فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللّهَ كَانَ حَقّا عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللّهُ ، وَأَمّا التّثَاؤُبُ فَإِنّمَا هُوَ مِنْ الشّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدّهُ مَا اسْتَطَاَع ، فَإِنّ أَحَدَكُمْ إذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشّيْطَانُ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " صَحِيحِهِ " : إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلّهِ وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللّهُ ، فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللّهُ ، فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُمْ اللّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ : أَنّهُ عَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ فَشَمّتَ أَحَدَهُمَا ، وَلَمْ يُشَمّتْ الْآخَرَ فَقَال الّذِي لَمْ يُشَمّتْهُ عَطَسَ فُلَانٌ فَشَمّتَهُ وَعَطَسْتُ فَلَمْ تُشَمّتْنِي ، فَقَالَ هَذَا حَمِدَ اللّهَ وَأَنْتَ لَمْ تَحْمَدْ اللّهَ [ ص 398 ] وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللّهَ فَشَمّتُوهُ ، فَإِنْ لَمْ يَحْمَدْ اللّهَ فَلَا تُشَمّتُوهُ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " صَحِيحِهِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَقّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتّ : إذَا لَقِيته ، فَسَلّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ وَحَمِدَ اللّهَ فَشَمّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلّهِ عَلَى كُلّ حَالٍ وَلْيَقُلْ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللّهُ ، وَلْيَقُلْ هُوَ يَهْدِيكُمْ اللّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم وَرَوَى التّرْمِذِي ّ ، أَنّ رَجُلًا عَطَسَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ ، فَقَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ وَالسّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ . فَقَال ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَقُولُ الْحَمْدُ لِلّهِ وَالسّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَيْسَ هَكَذَا عَلّمَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنْ عَلّمَنَا أَنْ نَقُولَ الْحَمْدُ لِلّهِ عَلَى كُلّ حَال [ ص 399 ] وَذَكَرَ مَالِكٌ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ " كَانَ إذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللّه ، قَالَ يَرْحَمُنَا اللّهُ وَإِيّاكُمْ وَيَغْفِرُ لَنَا وَلَكُم
[ حُكْمُ التّشْمِيتِ ]
فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمَبْدُوءِ بِهِ أَنّ التّشْمِيتَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلّ مَنْ سَمِعَ الْعَاطِسَ يَحْمَدُ اللّهَ وَلَا يُجْزِئُ تَشْمِيتُ الْوَاحِدِ عَنْهُمْ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ ، وَأَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيّ الْمَالِكِيّانِ ، وَلَا دَافِعَ لَهُ .
[ لَيْسَ مَحَلّ السّلَامِ عِنْدَ الْعُطَاسِ ]
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ : أَنّ رَجُلًا عَطَسَ عِنْدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ السّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَلَيْكَ السّلَامُ وَعَلَى أُمّك َ " ثُمّ قَالَ " إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَحْمَدْ اللّهَ " قَالَ فَذَكَرَ بَعْضَ الْمَحَامِدِ وَلْيَقُلْ لَهُ مَنْ عِنْدَهُ يَرْحَمُكَ اللّهُ ، وَلْيَرُدّ - يَعْنِي عَلَيْهِمْ - يَغْفِرُ اللّهُ لَنَا وَلَكُم وَفِي السّلَامِ عَلَى أُمّ هَذَا الْمُسَلّمِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ وَهِيَ إشْعَارُهُ بِأَنّ سَلَامَهُ قَدْ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَوْقِعِهِ اللّائِقِ بِهِ كَمَا وَقَعَ هَذَا السّلَامُ عَلَى أُمّهِ فَكَمَا أَنّ سَلَامَهُ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَذَلِكَ سَلَامُهُ هُوَ .
[ مَعَانِي كَلِمَةِ أُمّي ](3/472)
وَنُكْتَةٌ أُخْرَى أَلْطَفُ مِنْهَا ، وَهِيَ تَذْكِيرُهُ بِأُمّهِ وَنَسَبِهِ إلَيْهَا ، فَكَأَنّهُ أُمّيّ مَحْضٌ [ ص 400 ] أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْأُمّيّ أَنّهُ الْبَاقِي عَلَى نِسْبَتِهِ إلَى الْأُمّ . وَأَمّا النّبِيّ الْأُمّيّ : فَهُوَ الّذِي لَا يُحِسنُ الْكِتَابَةَ وَلَا يَقْرَأُ الْكِتَابَ . وَأَمّا الْأُمّيّ الّذِي لَا تَصِحّ الصّلَاةُ خَلْفَهُ فَهُوَ الّذِي لَا يُصَحّحُ الْفَاتِحَةَ وَلَوْ كَانَ عَالِمًا بِعُلُومٍ كَثِيرَةٍ . وَنَظِيرُ ذِكْرِ الْأُمّ هَاهُنَا ذِكْرُ هَنِ الْأَبِ لِمَنْ تَعَزّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيّةِ فَيُقَالُ لَهُ اعضُضْ هَنَ أَبِيكَ وَكَانَ ذِكْرُ هَنِ الْأَبِ هَاهُنَا أَحْسَنَ تَذْكِيرًا لِهَذَا الْمُتَكَبّرِ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ بِالْعُضْوِ الّذِي خَرَجَ مِنْهُ وَهُوَ هَنُ أَبِيهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَدّى طَوْرَهُ كَمَا أَنّ ذِكْرَ الْأُمّ هَاهُنَا أَحْسَنُ تَذْكِيرًا لَهُ بِأَنّهُ بَاقٍ عَلَى أُمّيّتِهِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
[ عِلّةُ الْحَمْدِ بَعْدَ الْعُطَاسِ ]
[ مَعْنَى التّشْمِيتِ ]
وَلَمّا كَانَ الْعَاطِسُ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ بِالْعُطَاسِ نِعْمَةٌ وَمَنْفَعَةٌ بِخُرُوجِ الْأَبْخِرَةِ الْمُحْتَقِنَةِ فِي دِمَاغِهِ الّتِي لَوْ بَقِيَتْ فِيهِ أَحْدَثَتْ لَهُ أَدْوَاءً عَسِرَةً شُرِعَ لَهُ حَمْدُ اللّهِ عَلَى هَذِهِ النّعْمَةِ مَعَ بَقَاءِ أَعْضَائِهِ عَلَى الْتِئَامِهَا وَهَيْئَتِهَا بَعْدَ هَذِهِ الزّلْزَلَةِ الّتِي هِيَ لِلْبَدَنِ كَزَلْزَلَةِ الْأَرْضِ لَهَا ، وَلِهَذَا يُقَالُ سَمّتَهُ وَشَمّتَهُ بِالسّينِ وَالشّينِ فَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ . قَالَ وَكُلّ دَاعٍ بِخَيْرٍ فَهُوَ مُشَمّتٌ وَمُسَمّتٌ . وَقِيلَ بِالْمُهْمَلَةِ دُعَاءٌ لَهُ بِحُسْنِ السّمْتِ وَبِعَوْدِهِ إلَى حَالَتِهِ مِنْ السّكُونِ وَالدّعَةِ فَإِنّ الْعُطَاسَ يُحْدِثُ فِي الْأَعْضَاءِ حَرَكَةً وَانْزِعَاجًا . وَبِالْمُعْجَمَةِ دُعَاءٌ لَهُ بِأَنْ يَصْرِفَ اللّهُ عَنْهُ مَا يُشَمّتُ بِهِ أَعْدَاءَهُ فَشَمّتَهُ إذَا أَزَالَ عَنْهُ الشّمَاتَةَ " ك " قَرّدَ الْبَعِيرَ إذَا أَزَالَ [ ص 401 ] وَقِيلَ هُوَ دُعَاءٌ لَهُ بِثَبَاتِهِ عَلَى قَوَائِمِهِ فِي طَاعَةِ اللّهِ مَأْخُوذٌ مِنْ الشّوَامِتِ وَهِيَ الْقَوَائِمُ . وَقِيلَ هُوَ تَشْمِيتٌ لَهُ بِالشّيْطَانِ لِإِغَاظَتِهِ بِحَمْدِ اللّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْعُطَاسِ وَمَا حَصَلَ لَهُ بِهِ مِنْ مُحَابّ اللّهِ فَإِنّ اللّهَ يُحِبّهُ فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ اللّهَ وَحَمِدَهُ سَاءَ ذَلِكَ الشّيْطَانُ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا : نَفْسُ الْعُطَاسِ الّذِي يُحِبّهُ اللّهُ وَحَمْدُ اللّهِ عَلَيْهِ وَدُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ بِالرّحْمَةِ وَدُعَاؤُهُ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَإِصْلَاحُ الْبَالِ وَذَلِك كُلّهُ غَائِظٌ لِلشّيْطَانِ مُحْزِنٌ لَهُ فَتَشْمِيتُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْظِ عَدُوّهِ وَحُزْنِهِ وَكَآبَتِهِ فَسُمّيَ الدّعَاءُ لَهُ بِالرّحْمَةِ تَشْمِيتًا لَهُ لِمَا فِي ضِمْنِهِ مِنْ شَمَاتَتِهِ بِعَدُوّهِ وَهَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ إذَا تَنَبّهَ لَهُ الْعَاطِسُ وَالْمُشَمّتُ انْتَفَعَا بِهِ وَعَظُمَتْ عِنْدَهُمَا مَنْفَعَةُ نِعْمَةِ الْعُطَاسِ فِي الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ وَتَبَيّنَ السّرّ فِي مَحَبّةِ اللّهِ لَهُ فَلِلّهِ الْحَمْدُ الّذِي هُوَ أَهْلُهُ كَمَا يَنْبَغِي لِكَرِيمِ وَجْهِهِ وَعِزّ جَلَالِهِ .
فَصْلٌ [ آدَابُ الْعُطَاسِ ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعُطَاسِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد َ وَالتّرْمِذِيّ ، عَن ْ أَبِي هُرَيْرَةَ : كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا عَطَسَ وَضَعَ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ وَخَفَضَ أَوْ غَضّ بَهْ صَوْتَه قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ التَثَاؤُبَ الشّدِيدَ وَالْعَطْسَةَ الشّدِيدَةَ مِنْ الشّيْطَانِ وَيُذْكَرُ عَنْهُ إنّ اللّهَ يَكْرَهُ رَفْعَ الصّوْتِ بِالتّثَاؤُبِ وَالْعُطَاسِ [ ص 402 ]
[ مَتَى يُقْطَعُ التّشْمِيتُ ](3/473)
وَصَحّ عَنْهُ إنّهُ عَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ " يَرْحَمُكَ اللّهُ " . ثُمّ عَطَسَ أُخْرَى ، فَقَالَ الرّجُلُ مَزْكُومٌ . هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ أَنّهُ قَالَ فِي الْمَرّةِ الثّانِيَةِ وَأَمّا التّرْمِذِيّ : فَقَالَ فِيهِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ : عَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا شَاهِدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " يَرْحَمُكَ اللّهُ " ، ثُمّ عَطَسَ الثّانِيَةَ وَالثّالِثَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " هَذَا رَجُلٌ مَزْكُومٌ . قَالَ التّرْمِذِيّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ شَمّتْ أَخَاكَ ثَلَاثًا ، فَمَا زَادَ ، فَهُوَ زُكَامٌ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَعِيدٍ قَالَ لَا أَعْلَمُهُ إلّا أَنّهُ رَفَعَ الْحَدِيثَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَعْنَاهُ . قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ ، عَنْ مُوسَى بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَجْلَانَ ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْتَهَى . وَمُوسَى بْنُ قَيْسٍ هَذَا الّذِي رَفَعَهُ هُوَ الْحَضْرَمِيّ الْكُوفِيّ يُعْرَفُ بِعُصْفُورِ الْجَنّةِ . قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : ثِقَةٌ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرّازِيّ : لَا بَأْسَ بِهِ . وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ الزّرَقِيّ ، عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ تُشَمّتُ الْعَاطِسَ ثَلَاثًا ، فَإِنْ شِئْتَ فَشَمّتْهُ وَإِنْ شِئْتَ فَكُف وَلَكِنْ لَهُ عِلّتَانِ إحْدَاهُمَا : إرْسَالُهُ فَإِنّ عُبَيْدًا هَذَا لَيْسَتْ لَهُ صُحْبَةٌ وَالثّانِيَةُ أَنّ فِيهِ أَبَا خَالِدٍ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَن ِ الدّالَانِيّ ، وَقَدْ تُكُلّمَ فِيهِ . [ ص 403 ] أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيُشَمّتْهُ جَلِيسُهُ فَإِنْ زَادَ عَلَى الثّلَاثَةِ فَهُوَ مَزْكُومٌ وَلَا تُشَمّتْهُ بَعْدَ الثّلَاثِ وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ الّذِي قَالَ فِيهِ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ ، عَنْ مُوسَى بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَجْلَانَ ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ بَهْ زُكَامٌ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُدْعَى لَهُ مِمّنْ لَا عِلّةَ بِهِ ؟ قِيلَ يُدْعَى لَهُ كَمَا يُدْعَى لِلْمَرِيضِ وَمَنْ بِهِ دَاءٌ وَوَجَعٌ . وَأَمّا سُنّةُ الْعُطَاسِ الّذِي يُحِبّهُ اللّهُ وَهُوَ نِعْمَةٌ وَيَدُلّ عَلَى خِفّةِ الْبَدَنِ وَخُرُوجِ الْأَبْخِرَةِ الْمُحْتَقِنَةِ فَإِنّمَا يَكُونُ إلَى تَمَامِ الثّلَاثِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا يُدْعَى لِصَاحِبِهِ بِالْعَافِيَةِ . وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الرّجُلُ مَزْكُومٌ تَنْبِيهٌ عَلَى الدّعَاءِ لَهُ بِالْعَافِيَةِ لِأَنّ الزّكْمَةَ عِلّةٌ وَفِيهِ اعْتِذَارٌ مِنْ تَرْكِ تَشْمِيتِهِ بَعْدَ الثّلَاثِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْعِلّةِ لِيَتَدَارَكَهَا وَلَا يُهْمِلُهَا ، فَيَصْعُبُ أَمْرُهَا ، فَكَلَامُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلّهُ حِكْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَعِلْمٌ وَهُدًى .
[ هَلْ التّشْمِيتُ عَلَى مَنْ سَمِعَ حَمْدَ الْعَاطِسِ ] ؟
وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : أَنّ الْعَاطِسَ إذَا حَمِدَ اللّهَ فَسَمِعَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ دُونَ بَعْضٍ هَلْ يُسَنّ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ تَشْمِيتُهُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَالْأَظْهَرُ أَنّهُ يُشَمّتُهُ إذَا تَحَقّقَ أَنّهُ حَمِدَ اللّهَ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ سَمَاعَ الْمُشَمّتِ لِلْحَمْدِ وَإِنّمَا الْمَقْصُودُ نَفْسُ حَمْدِهِ فَمَتَى تَحَقّقَ تَرَتّبَ عَلَيْهِ التّشْمِيتُ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشَمّتُ أَخْرَسَ وَرَأَى حَرَكَةَ شَفَتَيْهِ بِالْحَمْدِ . وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فَإِنْ حَمِدَ اللّهَ فَشَمّتُوهُ هَذَا هُوَ الصّوَابُ .
[ هَلْ يُسْتَحَبّ تَذْكِيرُ الْعَاطِسِ بِالْحَمْدِ ](3/474)
الثّانِيَةُ إذَا تَرَكَ الْحَمْدَ فَهَلْ يُسْتَحَبّ لِمَنْ حَضَرَهُ أَنْ يُذَكّرَهُ الْحَمْدَ ؟ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيّ : لَا يُذَكّرُهُ قَالَ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ فَاعِلِهِ . وَقَالَ النّوَوِيّ : أَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ [ ص 404 ] إبْرَاهِيمَ النّخَعِيّ . قَالَ وَهُوَ مِنْ بَابِ النّصِيحَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالتّعَاوُنِ عَلَى الْبِرّ وَالتّقْوَى ، وَظَاهِرُ السّنّةِ يُقَوّي قَوْلَ ابْنِ الْعَرَبِيّ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُشَمّتْ الّذِي عَطَسَ وَلَمْ يَحْمَدْ اللّهَ وَلَمْ يُذَكّرْهُ وَهَذَا تَعْزِيرٌ لَهُ وَحِرْمَانٌ لِبَرَكَةِ الدّعَاءِ لَمّا حَرَمَ نَفْسَهُ بَرَكَةَ الْحَمْدِ فَنَسِيَ اللّهَ فَصَرَفَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْسِنَتَهُمْ عَنْ تَشْمِيتِهِ وَالدّعَاءِ لَهُ وَلَوْ كَانَ تَذْكِيرُهُ سُنّةً لَكَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْلَى بِفِعْلِهَا وَتَعْلِيمِهَا ، وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهَا .
فَصْلٌ [ الرّدّ عَلَى مَنْ عَطَسَ مِنْ الْيَهُودِ ]
وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْيَهُودَ كَانُوا يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَهُ يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ يَرْحَمُكُمْ اللّهُ فَكَانَ يَقُولُ يَهْدِيكُمْ اللّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم
57-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْجِهَادِ وَالْمَغَازِي وَالسّرَايَا وَالْبُعُوثِ
زاد المعاد - (ج 3 / ص 5)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْجِهَادِ وَالْمَغَازِي وَالسّرَايَا وَالْبُعُوثِ
[ ص 5 ] كَانَ الْجِهَادُ ذِرْوَةَ سَنَامِ الْإِسْلَامِ وَقُبّتَهُ وَمَنَازِلُ أَهْلِهِ أَعْلَى الْمَنَازِلِ فِي الْجَنّةِ كَمَا لَهُمْ الرّفْعَةُ فِي الدّنْيَا فَهُمْ الْأَعْلَوْنَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الذّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْهُ وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْوَاعِهِ كُلّهَا فَجَاهَدَ فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ بِالْقَلْبِ وَالْجِنَانِ وَالدّعْوَةِ وَالْبَيَانِ وَالسّيْفِ وَالسّنَانِ وَكَانَتْ سَاعَاتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْجِهَادِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ . وَلِهَذَا كَانَ أَرْفَعَ الْعَالَمِينَ ذِكْرًا وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَ اللّهِ قَدْرًا .
[ كَانَ الْجِهَادُ فِي أَوّلِ الْإِسْلَامِ بِتَبْلِيغِ الْحُجّةِ ]
وَأَمَرَهُ اللّهُ تَعَالَى بِالْجِهَادِ مِنْ حِينِ بَعْثِهِ وَقَالَ { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } [ الْفُرْقَانُ : 52 ] فَهَذِهِ سُورَةٌ مَكّيّةٌ أَمَرَ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفّارِ بِالْحُجّةِ وَالْبَيَانِ وَتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ إنّمَا هُوَ بِتَبْلِيغِ الْحُجّةِ وَإِلّا فَهُمْ تَحْتَ قَهْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ التّوْبَةُ 73 ] فَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَصْعَبُ مِنْ جِهَادِ الْكُفّارِ وَهُوَ جِهَادُ خَوَاصّ الْأُمّةِ وَوَرَثَةُ الرّسُلِ وَالْقَائِمُونَ بِهِ أَفْرَادٌ فِي الْعَالَمِ وَالْمُشَارِكُونَ فِيهِ وَالْمُعَاوِنُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا هُمْ الْأَقَلّينَ عَدَدًا فَهُمْ الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللّهِ قَدْرًا . وَلَمّا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ قَوْلُ الْحَقّ مَعَ شِدّةِ الْمُعَارِضِ مِثْلَ أَنْ تَتَكَلّمَ بِهِ عِنْدَ مَنْ تَخَافُ سَطْوَتَهُ وَأَذَاهُ كَانَ لِلرّسُلِ - صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - مِنْ ذَلِكَ الْحَظّ الْأَوْفَرِ وَكَانَ لِنَبِيّنَا - صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - مِنْ ذَلِكَ أَكْمَلُ الْجِهَادِ وَأَتَمّهُ .
[ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللّهِ فَرْعٌ عَلَى جِهَادِ النّفْسِ ](3/475)
وَلَمّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللّهِ فِي الْخَارِجِ فَرْعًا عَلَى جِهَادِ الْعَبْدِ نَفْسِهِ فِي ذَاتِ [ ص 6 ] قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللّهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللّهُ عَنْهُ كَانَ جِهَادُ النّفْسِ مُقَدّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوّ فِي الْخَارِجِ وَأَصْلًا لَهُ فَإِنّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوّلًا لِتَفْعَلَ مَا أُمِرْت بِهِ وَتَتْرُكَ مَا نُهِيت عَنْهُ وَيُحَارِبُهَا فِي اللّهِ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوّهِ فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوّهِ وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ وَعَدُوّهُ الّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ مُتَسَلّطٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجَاهِدْهُ وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللّهِ بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَى عَدُوّهِ حَتّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ .
[ هُنَاكَ جِهَادٌ ثَالِثٌ هُوَ جِهَادُ الشّيْطَانِ ]
فَهَذَانِ عَدُوّانِ قَدْ اُمْتُحِنَ الْعَبْدُ بِجِهَادِهِمَا وَبَيْنَهُمَا عَدْوٌ ثَالِثٌ لَا يُمْكِنُهُ جِهَادُهُمَا إلّا بِجِهَادِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَهُمَا يُثَبّطُ الْعَبْدَ عَنْ جِهَادِهِمَا وَيَخْذُلُهُ وَيَرْجُفُ بِهِ وَلَا يَزَالُ يُخَيّلُ لَهُ مَا فِي جِهَادِهِمَا مِنْ الْمَشَاقّ وَتَرْكِ الْحُظُوظِ وَفَوْتِ اللّذّاتِ وَالْمُشْتَهَيَاتِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَاهِدَ ذَيْنِكَ الْعَدُوّيْنِ إلّا بِجِهَادِهِ فَكَانَ جِهَادُهُ هُوَ الْأَصْلُ لِجِهَادِهِمَا وَهُوَ الشّيْطَانُ قَالَ تَعَالَى : { إِنّ الشّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتّخِذُوهُ عَدُوّا } [ فَاطِرٌ 6 ] وَالْأَمْرُ بِاِتّخَاذِهِ عَدْوًا تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي مُحَارَبَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ كَأَنّهُ عَدُوّ لَا يَفْتُرُ وَلَا يُقَصّرُ عَنْ مُحَارَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى عَدَدِ الْأَنْفَاسِ .
[ جِهَادُ هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ الثّلَاثَةِ لِيَمْتَحِنَ مَنْ يَتَوَلّاهُ ]
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَعْدَاءٍ أُمِرَ الْعَبْدُ بِمُحَارَبَتِهَا وَجِهَادِهَا وَقَدْ بُلِيَ بِمُحَارَبَتِهَا فِي هَذِهِ الدّارِ وَسُلّطَتْ عَلَيْهِ امْتِحَانًا مِنْ اللّهِ لَهُ وَابْتِلَاءً فَأَعْطَى اللّهُ الْعَبْدَ مَدَدًا وَعُدّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا لِهَذَا الْجِهَادِ وَأَعْطَى أَعْدَاءَهُ مَدَدًا وَعُدّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا وَبَلَا أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآخَرِ وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً لِيَبْلُوَ أَخْبَارَهُمْ وَيَمْتَحِنَ مَنْ يَتَوَلّاهُ وَيَتَوَلّى رُسُلَهُ مِمّنْ يَتَوَلّى الشّيْطَانَ وَحِزْبَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيرًا } [ الْفُرْقَانُ : 20 ] [ ص 7 ] وَقَالَ تَعَالَى { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } [ مُحَمّدٌ 4 ] وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ مُحَمّدٌ 31 ] فَأَعْطَى عِبَادَهُ الْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْعُقُولَ وَالْقُوَى وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ وَأَمَدّهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ وَقَالَ لَهُمْ { أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُوا الّذِينَ آمَنُوا } [ الْأَنْفَالُ 12 ] وَأَمَرَهُمْ مِنْ أَمْرِهِ بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعَوْنِ لَهُمْ عَلَى حَرْبِ عَدُوّهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُمْ إنْ امْتَثَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ لَمْ يَزَالُوا مَنْصُورِينَ عَلَى عَدُوّهِ وَعَدُوّهِمْ وَأَنّهُ إنْ سَلّطَهُ عَلَيْهِمْ فَلِتَرْكِهِمْ بَعْضَ مَا أُمِرُوا بِهِ وَلِمَعْصِيَتِهِمْ لَهُ ثُمّ لَمْ يُؤَيّسْهُمْ وَلَمْ يُقَنّطْهُمْ بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا أَمْرَهُمْ وَيُدَاوُوا جِرَاحَهُمْ وَيَعُودُوا إلَى مُنَاهَضَةِ عَدُوّهِمْ فَيَنْصُرُهُمْ عَلَيْهِ وَيُظْفِرُهُمْ بِهِمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ مَعَ الْمُتّقِينَ مِنْهُمْ وَمَعَ الْمُحْسِنِينَ وَمَعَ الصّابِرِينَ وَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنّهُ يُدَافِعُ عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَا لَا يُدَافِعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بَلْ بِدِفَاعِهِ عَنْهُمْ انْتَصَرُوا عَلَى عَدُوّهِمْ وَلَوْلَا دِفَاعُهُ عَنْهُمْ لَتَخَطّفَهُمْ عَدُوّهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ . وَهَذِهِ الْمُدَافَعَةُ عَنْهُمْ بِحَسْبِ إيمَانِهِمْ وَعَلَى قَدْرِهِ فَإِنْ قَوِيَ الْإِيمَانُ قَوِيَتْ الْمُدَافَعَةُ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
[ مَعْنَى وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ ](3/476)
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِيهِ حَقّ جِهَادِهِ كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَتّقُوهُ حَقّ تُقَاتِهِ وَكَمَا أَنّ حَقّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ فَحَقّ جِهَادِهِ أَنْ يُجَاهِدَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ لِيُسْلِمَ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ وَجَوَارِحَهُ لِلّهِ فَيَكُونُ كُلّهُ لِلّهِ وَبِاَللّهِ لَا لِنَفْسِهِ وَلَا بِنَفْسِهِ وَيُجَاهِدُ شَيْطَانَهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ وَارْتِكَابِ نَهْيِهِ فَإِنّهُ يَعِدُ الْأَمَانِيّ وَيُمَنّي الْغُرُورَ وَيَعِدُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَيَنْهَى عَنْ التّقَى وَالْهُدَى وَالْعِفّةِ وَالصّبْرِ [ ص 8 ] الْإِيمَانِ كُلّهَا فَجَاهِدْهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ فَيَنْشَأُ لَهُ مِنْ هَذَيْنِ الْجَهَادَيْنِ قُوّةٌ وَسُلْطَانٌ وَعُدّةٌ يُجَاهِدُ بِهَا أَعْدَاءَ اللّهِ فِي الْخَارِجِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَمَالِهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا . وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السّلَفِ فِي حَقّ الْجِهَادِ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : هُوَ اسْتِفْرَاغُ الطّاقَةِ فِيهِ وَأَلّا يَخَافَ فِي اللّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : اعْمَلُوا لِلّهِ حَقّ عَمَلِهِ وَاعْبُدُوهُ حَقّ عِبَادَتِهِ . وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : هُوَ مُجَاهَدَةُ النّفْسِ وَالْهَوَى . وَلَمْ يُصِبْ مَنْ قَالَ إنّ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَتَانِ لِظَنّهِ أَنّهُمَا تَضَمّنَتَا الْأَمْرَ بِمَا لَا يُطَاقُ وَحَقّ تُقَاتِهِ وَحَقّ جِهَادِهِ هُوَ مَا يُطِيقُهُ كُلّ عَبْدٍ فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُكَلّفِينَ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ . فَحَقّ التّقْوَى وَحَقّ الْجِهَادِ بِالنّسْبَةِ إلَى الْقَادِرِ الْمُتَمَكّنِ الْعَالِمِ شَيْءٌ وَبِالنّسْبَةِ إلَى الْعَاجِزِ الْجَاهِلِ الضّعِيفِ شَيْءٌ وَتَأَمّلْ كَيْفَ عَقّبَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الْحَجّ 78 ] وَالْحَرَجُ الضّيقُ بَلْ جَعَلَهُ وَاسِعًا يَسَعُ كُلّ أَحَدٍ كَمَا جَعَلَ رِزْقَهُ يَسَعُ كُلّ حَيّ وَكَلّفَ الْعَبْدَ بِمَا يَسَعُهُ الْعَبْدُ وَرَزَقَ الْعَبْدَ مَا يَسَعُ الْعَبْدَ فَهُوَ يَسَعُ تَكْلِيفَهُ وَيَسَعُهُ رِزْقُهُ وَمَا جَعَلَ عَلَى عَبْدِهِ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ بِوَجْهِ مَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيّةِ السّمْحَةِ أَيْ بِالْمِلّةِ فَهِيَ حَنِيفِيّةٌ فِي التّوْحِيدِ سَمْحَةٌ فِي الْعَمَلِ . وَقَدْ وَسّعَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ غَايَةَ التّوْسِعَةِ فِي دِينِهِ وَرِزْقِهِ وَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَبَسَطَ عَلَيْهِمْ التّوْبَةَ مَا دَامَتْ الرّوحُ فِي الْجَسَدِ وَفَتَحَ لَهُمْ بَابًا لَهَا لَا يُغْلِقُهُ عَنْهُمْ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا وَجَعَلَ لِكُلّ سَيّئَةٍ كَفّارَةً تُكَفّرُهَا مِنْ تَوْبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ حَسَنَةٍ مَاحِيَةٍ أَوْ مُصِيبَةٍ مُكَفّرَةٍ وَجَعَلَ بِكُلّ مَا حَرّمَ عَلَيْهِمْ عِوَضًا مِنْ الْحَلَالِ أَنْفَعَ لَهُمْ مِنْهُ وَأَطْيَبَ وَأَلَذّ فَيَقُومُ مَقَامَهُ لِيَسْتَغْنِيَ الْعَبْدُ [ ص 9 ] وَجَعَلَ لِكُلّ عُسْرٍ يَمْتَحِنُهُمْ بِهِ يُسْرًا قَبْلَهُ وَيُسْرًا بَعْدَهُ " فَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ " فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ سُبْحَانَهُ مَعَ عِبَادِهِ فَكَيْفَ يُكَلّفُهُمْ مَا لَا يَسَعُهُمْ فَضْلًا عَمّا لَا يُطِيقُونَهُ وَلَا يَقْدُرُونَ عَلَيْهِ .
فَصْلُ [ مَرَاتِبِ الْجِهَادِ ](3/477)
إذَا عُرِفَ هَذَا فَالْجِهَادُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ جِهَادُ النّفْسِ وَجِهَادُ الشّيْطَانِ وَجِهَادُ الْكُفّارِ وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ . مَرَاتِبُ جِهَادِ النّفْسِ فَجِهَادُ النّفْسِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ أَيْضًا : إحْدَاهَا : أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى تَعَلّمِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ الّذِي لَا فَلَاحَ لَهَا وَلَا سَعَادَةَ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا إلّا بِهِ وَمَتَى فَاتَهَا عَلِمَهُ شَقِيَتْ فِي الدّارَيْنِ . الثّانِيَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَإِلّا فَمُجَرّدُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ إنْ لَمْ يَضُرّهَا لَمْ يَنْفَعْهَا . الثّالِثَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الدّعْوَةِ إلَيْهِ وَتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ وَإِلّا كَانَ مِنْ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيّنَاتِ وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللّهِ . الرّابِعَةُ أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الصّبْرِ عَلَى مَشَاقّ الدّعْوَةِ إلَى اللّهِ وَأَذَى الْخَلْقِ وَيَتَحَمّلُ ذَلِكَ كُلّهُ لِلّهِ . فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ صَارَ مِنْ الرّبّانِيّينَ فَإِنّ السّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الْعَالِمَ لَا يَسْتَحِقّ أَنْ يُسَمّى رَبّانِيّا حَتّى يَعْرِفَ الْحَقّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلّمَهُ فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلّمَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ .
فَصْلٌ [مَرَاتِبُ جِهَادِ الشّيْطَانِ ]
[ ص 10 ] الشّيْطَانِ فَمَرْتَبَتَانِ إحْدَاهُمَا : جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَى الْعَبْدِ مِنْ الشّبُهَاتِ وَالشّكُوكِ الْقَادِحَةِ فِي الْإِيمَانِ . الثّانِيَةُ جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَيْهِ مِنْ الْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالشّهَوَاتِ فَالْجِهَادُ الْأَوّلُ يَكُونُ بَعْدَهُ الْيَقِينُ وَالثّانِي يَكُونُ بَعْدَهُ الصّبْرُ . قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السّجْدَةُ 24 ] فَأَخْبَرَ أَنّ إمَامَةَ الدّينِ إنّمَا تُنَالُ بِالصّبْرِ وَالْيَقِينِ فَالصّبْرُ يَدْفَعُ الشّهَوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةَ وَالْيَقِينُ يَدْفَعُ الشّكُوكَ وَالشّبُهَاتِ .
فَصْلٌ [ مَرَاتِبُ جِهَادِ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ ]
وَأَمّا جِهَادُ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَأَرْبَعُ مَرَاتِبَ بِالْقَلْبِ وَاللّسَانِ وَالْمَالِ وَالنّفْسِ وَجِهَادُ الْكُفّارِ أَخُصّ بِالْيَدِ وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَخُصّ بِاللّسَانِ .
فَصْلٌ [ جِهَادُ أَرْبَابِ الظّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ ]
وَأَمّا جِهَادُ أَرْبَابِ الظّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ فَثَلَاثُ مَرَاتِبَ الْأُولَى : بِالْيَدِ إذَا قَدَرَ فَإِنْ عَجَزَ انْتَقَلَ إلَى اللّسَانِ فَإِنْ عَجَزَ جَاهَدَ بِقَلْبِهِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مُرَتّبَةً مِنْ الْجِهَادِ وَ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ النّفَاقِ
فَصْلٌ [ شَرْطُ الْجِهَادِ ]
وَلَا يَتِمّ الْجِهَادُ إلّا بِالْهِجْرَةِ وَلَا الْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ إلّا بِالْإِيمَانِ وَالرّاجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ هُمْ الّذِينَ قَامُوا بِهَذِهِ الثّلَاثَةِ . قَالَ تَعَالَى : { إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الْبَقَرَةُ 218 ] وَكَمَا أَنّ الْإِيمَانَ فَرْضٌ عَلَى كُلّ أَحَدٍ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ هِجْرَتَانِ فِي كُلّ وَقْتٍ [ ص 11 ] عَزّ وَجَلّ بِالتّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْإِنَابَةِ وَالتّوَكّلِ وَالْخَوْفِ وَالرّجَاءِ وَالْمَحَبّةِ وَالتّوْبَةِ وَهِجْرَةٌ إلَى رَسُولِهِ بِالْمُتَابَعَةِ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ وَالتّصْدِيقِ بِخَبَرِهِ وَتَقْدِيمِ أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ عَلَى أَمْرِ غَيْرِهِ وَخَبَرِهِ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ وَفَرَضَ عَلَيْهِ جِهَادَ نَفْسِهِ فِي ذَاتِ اللّهِ وَجِهَادَ شَيْطَانِهِ فَهَذَا كُلّهُ فَرْضُ عَيْنٍ لَا يَنُوبُ فِيهِ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ . وَأَمّا جِهَادُ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فَقَدْ يُكْتَفَى فِيهِ بِبَعْضِ الْأُمّةِ إذَا حَصَلَ مِنْهُمْ مَقْصُودُ الْجِهَادِ .
فَصْلٌ [ أَكْمَلُ الْخَلْقِ مَنْ كَمّلَ مَرَاتِبَ الْجِهَادِ وَأَكْمَلُهُمْ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ](3/478)
وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللّهِ مَنْ كَمّلَ مَرَاتِبَ الْجِهَادِ كُلّهَا وَالْخَلْقُ مُتَفَاوِتُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ عِنْدَ اللّهِ تَفَاوُتُهُمْ فِي مَرَاتِبِ الْجِهَادِ وَلِهَذَا كَانَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللّهِ خَاتِمَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ فَإِنّهُ كَمّلَ مَرَاتِبَ الْجِهَادِ وَجَاهَدَ فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ وَشَرَعَ فِي الْجِهَادِ مِنْ حِينَ بُعِثَ إلَى أَنْ تَوَفّاهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فَإِنّهُ لَمّا نَزَلَ عَلَيْهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } [ الْمُدّثّرُ ا - 4 ] شَمّرَ عَنْ سَاقِ الدّعْوَةِ وَقَامَ فِي ذَاتِ اللّهِ أَتَمّ قِيَامٍ وَدَعَا إلَى اللّهِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَسِرّا وَجِهَارًا وَلَمّا نَزَلَ عَلَيْهِ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } [ الْحِجْرُ : 94 ] فَصَدَعَ بِأَمْرِ اللّهِ لَا تَأْخُذُهُ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ فَدَعَا إلَى اللّهِ الصّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالْحُرّ وَالْعَبْدَ وَالذّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالْأَحْمَرَ وَالْأَسْوَدَ وَالْجِنّ وَالْإِنْسَ . وَلَمّا صَدَعَ بِأَمْرِ اللّهِ وَصَرّحَ لِقَوْمِهِ بِالدّعْوَةِ وَنَادَاهُمْ بِسَبّ آلِهَتِهِمْ وَعَيّبَ دِينَهُمْ [ ص 12 ] وَنَالُوهُ وَنَالُوهُمْ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى وَهَذِهِ سُنّةُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فِي خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ } [ فُصّلَتْ 43 ] وَقَالَ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنّ } [ الْأَنْعَامُ 112 ] وَقَالَ { كَذَلِكَ مَا أَتَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [ الذّارِيَاتُ 52- 53 ] فَعَزّى سُبْحَانَهُ نَبِيّهُ بِذَلِكَ وَأَنّ لَهُ أُسْوَةً بِمَنْ تَقَدّمَهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ وَعَزّى أَتْبَاعَهُ بِقَوْلِهِ { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلَا إِنّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ } [ الْبَقَرَةُ 214 ] وَقَوْلُهُ { الم أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللّهِ فَإِنّ أَجَلَ اللّهِ لَآتٍ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنّ اللّهَ لَغَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَحْسَنَ الّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ وَوَصّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنّهُمْ فِي الصّالِحِينَ وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبّكَ لَيَقُولُنّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } [ الْعَنْكَبُوتُ 1 - 11 ] [ ص 13 ]
[ ذِكْرُ الِابْتِلَاءِ فِي أَوّلِ الدّعْوَةِ ]
فَلْيَتَأَمّلْ الْعَبْدُ سِيَاقَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا تَضَمّنَتْهُ مِنْ الْعِبَرِ وَكُنُوزِ الْحِكَمِ فَإِنّ النّاسَ إذَا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ الرّسُلُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمّا أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ آمَنّا وَإِمّا أَلّا يَقُولَ ذَلِكَ بَلْ يَسْتَمِرّ عَلَى السّيّئَاتِ وَالْكُفْرِ فَمَنْ قَالَ آمَنّا امْتَحَنَهُ رَبّهُ وَابْتَلَاهُ وَفَتَنَهُ وَالْفِتْنَةُ الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ لِيَتَبَيّنَ الصّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ آمَنّا فَلَا يَحْسِبْ أَنّهُ يُعْجِزُ اللّهَ وَيَفُوتُهُ وَيَسْبِقُهُ فَإِنّهُ إنّمَا يَطْوِي الْمَرَاحِلَ فِي يَدَيْهِ . وَكَيْفَ يَفِرّ الْمَرْءُ عَنْهُ بِذَنْبِهِ إذَا كَانَ تُطْوَى فِي يَدَيْهِ الْمَرَاحِلُ(3/479)
فَمَنْ آمَنَ بِالرّسُلِ وَأَطَاعَهُمْ عَادَاهُ أَعْدَاؤُهُمْ وَآذَوْهُ فَابْتُلِيَ بِمَا يُؤْلِمُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمْ وَلَمْ يُطِعْهُمْ عُوقِبَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَحَصَلَ لَهُ مَا يُؤْلِمُهُ وَكَانَ هَذَا الْمُؤْلِمُ لَهُ أَعْظَمَ أَلَمًا وَأَدُومَ مِنْ أَلَمِ اتّبَاعِهِمْ فَلَا بُدّ مِنْ حُصُولِ الْأَلَمِ لِكُلّ نَفْسٍ آمَنَتْ أَوْ رَغِبَتْ عَنْ الْإِيمَانِ لَكِنّ الْمُؤْمِنَ يَحْصُلُ لَهُ الْأَلَمُ فِي الدّنْيَا ابْتِدَاءً ثُمّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْمُعْرِضُ عَنْ الْإِيمَانِ تَحْصُلُ لَهُ اللّذّةُ ابْتِدَاءً ثُمّ يَصِيرُ إلَى الْأَلَمِ الدّائِمِ . وَسُئِلَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ أَيّمَا أَفْضَلُ لِلرّجُلِ أَنْ يُمَكّنَ أَوْ يُبْتَلَى ؟ فَقَالَ لَا يُمَكّنُ حَتّى يُبْتَلَى وَاَللّهُ تَعَالَى ابْتَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ فَلَمّا صَبَرُوا مَكّنَهُمْ فَلَا يَظُنّ أَحَدٌ أَنّهُ يَخْلُصُ مِنْ الْأَلَمِ الْبَتّةَ وَإِنّمَا يَتَفَاوَتُ أَهْلُ الْآلَامِ فِي الْعُقُولِ فَأَعْقَلُهُمْ مَنْ بَاعَ أَلَمًا مُسْتَمِرّا عَظِيمًا بِأَلَمٍ مُنْقَطِعٍ يَسِيرٍ وَأَشْقَاهُمْ مَنْ بَاعَ الْأَلَمَ الْمُنْقَطِعَ الْيَسِيرَ بِالْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرّ . فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَخْتَارُ الْعَاقِلُ هَذَا ؟ قِيلَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا النّقْدُ وَالنّسِيئَةُ . و َالنّفْسُ مُوَكّلَةٌ بِحُبّ الْعَاجِل ِ
[ مَنْ أَرْضَى النّاسَ بِسَخَطِ اللّهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ اللّهِ شَيْئًا ]
{ كَلّا بَلْ تُحِبّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ } [ الْقِيَامَةُ 20 ] { إِنّ هَؤُلَاءِ يُحِبّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا } [ الدّهْرُ 27 ] وَهَذَا يَحْصُلُ لِكُلّ أَحَدٍ فَإِنّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيّ بِالطّبْعِ لَا بُدّ لَهُ أَنْ يَعِيشَ مَعَ النّاسِ وَالنّاسُ لَهُمْ إرَادَاتٌ وَتَصَوّرَاتٌ فَيَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَيْهَا فَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ آذَوْهُ وَعَذّبُوهُ وَإِنْ [ ص 14 ] حَصَلَ لَهُ الْأَذَى وَالْعَذَابُ تَارَةً مِنْهُمْ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَنْ عِنْدَهُ دِينٌ وَتُقًى حَلّ بَيْنَ قَوْمٍ فُجّارٍ ظَلَمَةٍ وَلَا يَتَمَكّنُونَ مِنْ فُجُورِهِمْ وَظُلْمِهِمْ إلّا بِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ أَوْ سُكُوتِهِ عَنْهُمْ فَإِنْ وَافَقَهُمْ أَوْ سَكَتَ عَنْهُمْ سَلِمَ مِنْ شَرّهِمْ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمّ يَتَسَلّطُونَ عَلَيْهِ بِالْإِهَانَةِ وَالْأَذَى أَضْعَافَ مَا كَانَ يَخَافُهُ ابْتِدَاءً لَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَخَالَفَهُمْ وَإِنْ سَلِمَ مِنْهُمْ فَلَا بُدّ أَنْ يُهَانَ وَيُعَاقَبَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِمْ فَالْحَزْمُ كُلّ الْحَزْمِ فِي الْأَخْذِ بِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ لِمُعَاوِيَةَ : مَنْ أَرْضَى اللّهَ بِسَخَطِ النّاسِ كَفَاهُ اللّهُ مُؤْنَةَ النّاسِ وَمَنْ أَرْضَى النّاسَ بِسَخَطِ اللّهِ لَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ اللّهِ شَيْئًا وَمَنْ تَأَمّلَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ رَأَى هَذَا كَثِيرًا فِيمَنْ يُعِينُ الرّؤَسَاءَ عَلَى أَغْرَاضِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَفِيمَنْ يُعِينُ أَهْلَ الْبِدَعِ عَلَى بِدَعِهِمْ هَرَبًا مِنْ عُقُوبَتِهِمْ فَمَنْ هَدَاهُ اللّهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ وَوَقَاهُ شَرّ نَفْسِهِ امْتَنَعَ مِنْ الْمُوَافَقَةِ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرّمِ وَصَبَرَ عَلَى عِدْوَانِهِمْ ثُمّ تَكُونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا كَانَتْ لِلرّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ كَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ وَصَالِحِي الْوُلَاةِ وَالتّجّارِ وَغَيْرِهِمْ .
[ تَعْزِيَةُ اللّهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنّ الْحَيَاةَ الدّنْيَا قَصِيرَةٌ ](3/480)
وَلَمّا كَانَ الْأَلَمُ لَا مَحِيصَ مِنْهُ الْبَتّةَ عَزّى اللّهُ - سُبْحَانَهُ - مَنْ اخْتَارَ الْأَلَمَ الْيَسِيرَ الْمُنْقَطِعَ عَلَى الْأَلَمِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَمِرّ بِقَوْلِهِ { مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللّهِ فَإِنّ أَجَلَ اللّهِ لَآتٍ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ الْعَنْكَبُوتُ 5 ] فَضَرَبَ لِمُدّةِ هَذَا الْأَلَمِ أَجَلًا لَا بُدّ أَنْ يَأْتِيَ وَهُوَ يَوْمُ لِقَائِهِ فَيَلْتَذّ الْعَبْدُ أَعْظَمَ اللّذّةِ بِمَا تَحَمّلَ [ ص 15 ] أَجْلِهِ وَفِي مَرْضَاتِهِ وَتَكُونُ لَذّتُهُ وَسُرُورُهُ وَابْتِهَاجُهُ بِقَدْرِ مَا تَحَمّلَ مِنْ الْأَلَمِ فِي اللّهِ وَلِلّهِ وَأَكّدَ هَذَا الْعَزَاءَ وَالتّسْلِيَةَ بِرَجَاءِ لِقَائِهِ لِيَحْمِلَ الْعَبْدُ اشْتِيَاقَهُ إلَى لِقَاءِ رَبّهِ وَوَلِيّهِ عَلَى تَحَمّلِ مَشَقّةِ الْأَلَمِ الْعَاجِلِ بَلْ رُبّمَا غَيّبَهُ الشّوْقُ إلَى لِقَائِهِ عَنْ شُهُودِ الْأَلَمِ وَالْإِحْسَاسِ بِهِ وَلِهَذَا سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَبّهُ الشّوْقَ إلَى لِقَائِهِ فَقَالَ فِي الدّعَاءِ الّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبّانَ : اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي إذَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقّ فِي الْغَضَبِ وَالرّضَى وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَأَسْأَلُكَ قُرّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُكَ الرّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَسْأَلُكَ لَذّةَ النّظَرِ إلَى وَجْهِك وَأَسْأَلُكَ الشّوْقَ إلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرّاءَ مُضِرّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلّةٍ اللّهُمّ زَيّنّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ فَالشّوْقُ يَحْمِلُ الْمُشْتَاقَ عَلَى الْجِدّ فِي السّيْرِ إلَى مَحْبُوبِهِ وَيُقَرّبُ عَلَيْهِ الطّرِيقَ وَيَطْوِي لَهُ الْبَعِيدَ وَيُهَوّنُ عَلَيْهِ الْآلَامَ وَالْمَشَاقّ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللّهُ بِهَا عَلَى عَبْدِهِ وَلَكِنْ لِهَذِهِ النّعْمَةِ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ هُمَا السّبَبُ الّذِي تُنَالُ بِهِ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ لِتِلْكَ الْأَقْوَالِ عَلِيمٌ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذِهِ النّعْمَةِ وَيَشْكُرُهَا وَيَعْرِفُ قَدْرَهَا وَيُحِبّ الْمُنْعِمَ عَلَيْهِ [ ص 16 ] قَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ } [ الْأَنْعَامُ 53 ] فَإِذَا فَاتَتْ الْعَبْدَ نَعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ رَبّهِ فَلْيَقْرَأْ عَلَى نَفْسِهِ
{ أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ }
[ مَنْ جَاهَدَ فَإِنّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ]
ثُمّ عَزّاهُمْ تَعَالَى بِعَزَاءٍ آخَرَ وَهُوَ أَنّ جِهَادَهُمْ فِيهِ إنّمَا هُوَ لِأَنْفُسِهِمْ وَثَمَرَتُهُ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ وَأَنّهُ غَنِيّ عَنْ الْعَالَمِينَ وَمَصْلَحَةُ هَذَا الْجِهَادِ تَرْجِعُ إلَيْهِمْ لَا إلَيْهِ سُبْحَانَهُ ثُمّ أَخْبَرَ أَنّهُ يُدْخِلُهُمْ بِجِهَادِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ فِي زُمْرَةِ الصّالِحِينَ .
[ مَعْنَى فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ ](3/481)
ثُمّ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ الدّاخِلِ فِي الْإِيمَانِ بِلَا بَصِيرَةٍ وَأَنّهُ إذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ لَهُ كَعَذَابِ اللّهِ وَهِيَ أَذَاهُمْ لَهُ وَنَيْلُهُمْ إيّاهُ بِالْمَكْرُوهِ وَالْأَلَمِ الّذِي لَا بُدّ أَنْ يَنَالَهُ الرّسُلُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِمّنْ خَالَفَهُمْ جَعَلَ ذَلِكَ فِي فِرَارِهِ مِنْهُمْ وَتَرْكِهِ السّبَبَ الّذِي نَالَهُ كَعَذَابِ اللّهِ الّذِي فَرّ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْإِيمَانِ فَالْمُؤْمِنُونَ لِكَمَالِ بَصِيرَتِهِمْ فَرّوا مِنْ أَلَمِ عَذَابِ اللّهِ إلَى الْإِيمَانِ وَتَحَمّلُوا مَا فِيهِ مِنْ الْأَلَمِ الزّائِلِ الْمُفَارِقِ عَنْ قَرِيبٍ وَهَذَا لِضَعْفِ بَصِيرَتِهِ فَرّ مِنْ أَلَمِ عَذَابِ أَعْدَاءِ الرّسُلِ إلَى مُوَافَقَتِهِمْ وَمُتَابَعَتِهِمْ فَفَرّ مِنْ أَلَمِ عَذَابِهِمْ إلَى أَلَمِ عَذَابِ اللّهِ فَجَعَلَ أَلَمَ فِتْنَةِ النّاسِ فِي الْفِرَارِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ أَلَمِ عَذَابِ اللّهِ وَغُبِنَ كُلّ الْغَبْنِ إذْ اسْتَجَارَ مِنْ الرّمْضَاءِ بِالنّارِ وَفَرّ مِنْ أَلَمِ سَاعَةٍ إلَى أَلَمِ الْأَبَدِ وَإِذَا نَصَرَ اللّهُ جُنْدَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ قَالَ إنّي كُنْتُ مَعَكُمْ وَاَللّهُ عَلِيمٌ بِمَا انْطَوَى عَلَيْهِ صَدْرُهُ مِنْ النّفَاقِ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنّهُ لَا بُدّ أَنْ يَمْتَحِنَ النّفُوسَ وَيَبْتَلِيَهَا فَيُظْهِرُ بِالِامْتِحَانِ طَيّبَهَا مِنْ خَبِيثِهَا وَمَنْ يَصْلُحُ لِمُوَالَاتِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ وَلْيُمَحّصْ النّفُوسَ الّتِي تَصْلُحُ لَهُ وَيُخَلّصُهَا بِكِيرِ الِامْتِحَانِ كَالذّهَبِ الّذِي لَا يَخْلُصُ وَلَا يَصْفُو مِنْ غِشّهِ إلّا بِالِامْتِحَانِ إذْ النّفْسُ فِي الْأَصْلِ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ وَقَدْ حَصَلَ لَهَا بِالْجَهْلِ وَالظّلْمِ مِنْ الْخُبْثِ مَا يَحْتَاجُ خُرُوجُهُ إلَى السّبْكِ وَالتّصْفِيَةِ فَإِنْ خَرَجَ فِي هَذِهِ الدّارِ وَإِلّا فَفِي كِيرِ جَهَنّمَ فَإِذَا هُذّبَ الْعَبْدُ وَنُقّيَ أُذِنَ لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنّةِ . [ ص 17 ]
58- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حِفْظِ الصّحّةِ
زاد المعاد - (ج 4 / ص 195)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حِفْظِ الصّحّةِ
[ قِوَامُ الْبَدَنِ عَلَى الْحَرَارَةِ وَالرّطُوبَةِ ](3/482)
لَمّا كَانَ اعْتِدَالُ الْبَدَنِ وَصِحّتُهُ وَبَقَاؤُهُ إنّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ الرّطُوبَةِ الْمُقَاوِمَةِ لِلْحَرَارَةِ فَالرّطُوبَةُ مَادّتُهُ وَالْحَرَارَةُ تُنْضِجُهَا وَتَدْفَعُ فَضَلَاتِهَا وَتُصْلِحُهَا وَتُلَطّفُهَا وَإِلّا أَفْسَدَتْ الْبَدَنَ وَلَمْ يُمْكِنْ قِيَامُهُ وَكَذَلِكَ الرّطُوبَةُ هِيَ غِذَاءُ الْحَرَارَةِ فَلَوْلَا الرّطُوبَةُ لَأَحْرَقَتْ الْبَدَنَ وَأَيْبَسَتْهُ وَأَفْسَدَتْهُ فَقِوَامُ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبَتِهَا وَقِوَامُ الْبَدَنِ بِهِمَا جَمِيعًا وَكُلّ مِنْهُمَا مَادّةٌ لِلْأُخْرَى فَالْحَرَارَةُ مَادّةٌ لِلرّطُوبَةِ تَحْفَظُهَا وَتَمْنَعُهَا مِنْ الْفَسَادِ وَالِاسْتِحَالَةِ وَالرّطُوبَةُ مَادّةٌ لِلْحَرَارَةِ تَغْذُوهَا وَتَحْمِلُهَا وَمَتَى مَالَتْ إحْدَاهُمَا إلَى الزّيَادَةِ عَلَى الْأُخْرَى حَصَلَ لِمِزَاجِ الْبَدَنِ الِانْحِرَافُ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَالْحَرَارَةُ دَائِمًا تُحَلّلُ الرّطُوبَةَ فَيَحْتَاجُ الْبَدَنُ إلَى مَا بِهِ يُخْلَفُ عَلَيْهِ مَا حَلّلَتْهُ الْحَرَارَةُ - لِضَرُورَةِ بَقَائِهِ - وَهُوَ الطّعَامُ وَالشّرَابُ وَمَتَى زَادَ عَلَى مِقْدَارِ التّحَلّلِ ضَعُفَتْ الْحَرَارَةُ عَنْ تَحْلِيلِ فَضَلَاتِهِ فَاسْتَحَالَتْ مَوَادّ رَدِيئَةٍ فَعَاثَتْ فِي الْبَدَنِ وَأَفْسَدَتْ فَحَصَلَتْ الْأَمْرَاضُ الْمُتَنَوّعَةُ بِحَسَبِ تَنَوّعِ مَوَادّهَا وَقَبُولِ الْأَعْضَاءِ وَاسْتِعْدَادِهَا وَهَذَا كُلّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا } [ الْأَعْرَافِ 31 ] فَأَرْشَدَ عِبَادَهُ إلَى إدْخَالِ مَا يُقِيمُ الْبَدَنَ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ عِوَضَ مَا تَحَلّلَ مِنْهُ وَأَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَدَنُ فِي الْكَمّيّةِ وَالْكَيْفِيّةِ فَمَتَى جَاوَزَ ذَلِكَ كَانَ إسْرَافًا وَكِلَاهُمَا مَانِعٌ مِنْ الصّحّةِ جَالِبٌ لِلْمَرَضِ أَعْنِي عَدَمَ الْأَكْلِ وَالشّرْبِ أَوْ الْإِسْرَافَ فِيهِ . [ ص 196 ] دَائِمًا فِي التّحَلّلِ وَالِاسْتِخْلَافِ وَكُلّمَا كَثُرَ التّحَلّلُ ضَعُفَتْ الْحَرَارَةُ لِفَنَاءِ مَادّتِهَا فَإِنّ كَثْرَةَ التّحَلّلِ تُفْنِي الرّطُوبَةَ وَهِيَ مَادّةُ الْحَرَارَةِ وَإِذَا ضَعُفَتْ الْحَرَارَةُ ضَعُفَ الْهَضْمُ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتّى تَفْنَى الرّطُوبَةُ وَتَنْطَفِئَ الْحَرَارَةُ جُمْلَةً فَيَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ الْأَجَلَ الّذِي كَتَبَ اللّهُ لَهُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ .
[ غَايَةُ عِلَاجِ الْإِنْسَانِ الِاعْتِدَالُ بَيْنَ الْحَرَارَةِ وَالرّطُوبَةِ ]
فَغَايَةُ عِلَاجِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ حِرَاسَةُ الْبَدَنِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَا أَنّهُ يَسْتَلْزِمُ بَقَاءَ الْحَرَارَةِ وَالرّطُوبَةِ اللّتَيْنِ بَقَاءُ الشّبَابِ وَالصّحّةِ وَالْقُوّةِ بِهِمَا فَإِنّ هَذَا مِمّا لَمْ يَحْصُلْ لِبَشَرٍ فِي هَذِهِ الدّارِ وَإِنّمَا غَايَةُ الطّبِيبِ أَنْ يَحْمِيَ الرّطُوبَةَ عَنْ مُفْسِدَاتِهَا مِنْ الْعُفُونَةِ وَغَيْرِهِ وَيَحْمِيَ الْحَرَارَةَ عَنْ مُضْعِفَاتِهَا وَيَعْدِلَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ فِي التّدْبِيرِ الّذِي بِهِ قَامَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ كَمَا أَنّ بِهِ قَامَتْ السّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَسَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ إنّمَا قِوَامُهَا بِالْعَدْلِ وَمَنْ تَأَمّلَ هَدْيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَدَهُ أَفْضَلَ هَدْيٍ يُمْكِنُ حِفْظُ الصّحّةِ بِهِ فَإِنّ حِفْظَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى حُسْنِ تَدْبِيرِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْهَوَاءِ وَالنّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَالْحَرَكَةِ وَالسّكُونِ وَالْمَنْكَحِ وَالِاسْتِفْرَاغِ وَالِاحْتِبَاسِ فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَدِلِ الْمُوَافِقِ الْمُلَائِمِ لِلْبَدَنِ وَالْبَلَدِ وَالسّنّ وَالْعَادَةِ كَانَ أَقْرَبَ إلَى دَوَامِ الصّحّةِ أَوْ غَلَبَتِهَا إلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ .
[ الصّحّةُ مِنْ أَجَلّ النّعَمِ وَذِكْرُ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ ](3/483)
وَلَمّا كَانَتْ الصّحّةُ وَالْعَافِيَةُ مِنْ أَجَلّ نِعَم اللّهِ عَلَى عَبْدِهِ وَأَجْزَلِ عَطَايَاهُ وَأَوْفَرِ مِنَحِهِ بَلْ الْعَافِيَةُ الْمُطْلَقَةُ أَجَلّ النّعَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَحَقِيقٌ لِمَنْ رُزِقَ حَظّا مِنْ التّوْفِيقِ مُرَاعَاتُهَا وَحِفْظُهَا وَحِمَايَتُهَا عَمّا يُضَادّهَا وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ : الصّحّةُ وَالْفَرَاغُ وَفِي التّرْمِذِيّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيّ قَالَ قَالَ [ ص 197 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنّمَا حِيزَتْ لَهُ الدّنْيَا وَفِي التّرْمِذِيّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ أَوّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نُصِحّ لَكَ جِسْمَك وَنَرْوِك مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ وَمِنْ هَا هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمّ لَتُسْأَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } [ التّكَاثُرِ 8 ] قَالَ عَنْ الصّحّةِ . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِلْعَبّاسِ يَا عَبّاسُ يَا عَمّ رَسُولِ اللّهِ سَلْ اللّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ سَلُوا اللّهَ الْيَقِينَ وَالْمُعَافَاةَ فَمَا أُوتِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ فَجَمَعَ بَيْنَ عَافِيَتَيْ الدّينِ وَالدّنْيَا وَلَا يَتِمّ صَلَاحُ الْعَبْدِ فِي الدّارَيْنِ إلّا بِالْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ فَالْيَقِينُ يَدْفَعُ عَنْهُ عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ وَالْعَافِيَةُ تَدْفَعُ عَنْهُ أَمْرَاضَ الدّنْيَا فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ . وَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ [ ص 198 ] سَلُوا اللّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فَمَا أُوتِيَ أَحَدٌ بَعْدَ يَقِينٍ خَيْرًا مِنْ مُعَافَاةٍ وَهَذِهِ الثّلَاثَةُ تَتَضَمّنُ إزَالَةَ الشّرُورِ الْمَاضِيَةِ بِالْعَفْوِ وَالْحَاضِرَةِ بِالْعَافِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ بِالْمُعَافَاةِ فَإِنّهَا تَتَضَمّنُ الْمُدَاوَمَةَ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَى الْعَافِيَةِ . وَفِي التّرْمِذِيّ مَرْفُوعًا : مَا سُئِلَ اللّهُ شَيْئًا أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ الْعَافِيَةِ وَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى : عَنْ أَبِي الدّرْدَاءِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَسُولُ اللّهِ يُحِبّ مَعَكَ الْعَافِيَةَ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ أَعْرَابِيّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ مَا أَسْأَلُ اللّهَ بَعْدَ الصّلَوَاتِ الْخَمْسِ ؟ فَقَالَ سَلْ اللّهَ الْعَافِيَةَ " فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ فِي الثّالِثَةِ سَلْ اللّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ
[هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مُرَاعَاةِ أُمُورِ الصّحّةِ ]
وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ الْعَافِيَةِ وَالصّحّةِ فَنَذْكُرُ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَتَبَيّنُ لِمَنْ نَظَرَ فِيهِ أَنّهُ أَكْمَلُ هَدْيٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَنَالُ بِهِ حِفْظَ صِحّةِ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ وَحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ .
59-هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّيَاضَةِ
زاد المعاد - (ج 4 / ص 225)
فَصْلٌ [هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّيَاضَةِ ]
وَأَمّا تَدْبِيرُ الْحَرَكَةِ وَالسّكُونِ وَهُوَ الرّيَاضَةُ فَنَذْكُرُ مِنْهَا فَصْلًا يُعْلَمُ مِنْهُ مُطَابَقَةُ هَدْيِهِ فِي ذَلِكَ لِأَكْمَلِ أَنْوَاعِهِ وَأَحْمَدِهَا وَأَصْوَبِهَا فَنَقُولُ
[السّبَبُ الْمُوجِبُ لِلرّيَاضَةِ ](3/484)
مِنْ الْمَعْلُومِ افْتِقَارُ الْبَدَنِ فِي بَقَائِهِ إلَى الْغِذَاءِ وَالشّرَابِ وَلَا يَصِيرُ الْغِذَاءُ بِجُمْلَتِهِ جُزْءًا مِنْ الْبَدَنِ بَلْ لَا بُدّ أَنْ يَبْقَى مِنْهُ عِنْدَ كُلّ هَضْمٍ بَقِيّةٌ مَا إذَا كَثُرَتْ عَلَى مَمَرّ الزّمَانِ اجْتَمَعَ مِنْهَا شَيْءٌ لَهُ كَمّيّةٌ وَكَيْفِيّةٌ فَيَضُرّ بِكَمّيّتِهِ بِأَنْ يَسُدّ وَيُثْقِلَ الْبَدَنَ وَيُوجِبَ أَمْرَاضَ الِاحْتِبَاسِ وَإِنْ اسْتَفْرَغَ تَأَذّى الْبَدَنُ بِالْأَدْوِيَةِ لِأَنّ أَكْثَرَهَا سُمّيّةٌ وَلَا تَخْلُو مِنْ إخْرَاجِ الصّالِحِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ وَيَضُرّ بِكَيْفِيّتِهِ بِأَنْ يُسَخّنَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْعَفَنِ أَوْ يُبَرّدَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُضْعِفَ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ عَنْ إنْضَاجِهِ .
[فَوَائِدُ الرّيَاضَةِ ]
وَسُدَدُ الْفَضَلَاتِ لَا مَحَالَةَ ضَارّةٌ تُرِكَتْ أَوْ اُسْتُفْرِغَتْ وَالْحَرَكَةُ أَقْوَى [ ص 226 ] طُولِ الزّمَانِ وَتُعَوّدُ الْبَدَنَ الْخِفّةَ وَالنّشَاطَ وَتَجْعَلُهُ قَابِلًا لِلْغِذَاءِ وَتُصَلّبُ الْمَفَاصِلَ وَتُقَوّيَ الْأَوْتَارَ وَالرّبَاطَاتِ وَتُؤَمّنُ جَمِيعَ الْأَمْرَاضِ الْمَادّيّةِ وَأَكْثَرَ الْأَمْرَاضِ الْمِزَاجِيّةِ إذَا اُسْتُعْمِلَ الْقَدْرُ الْمُعْتَدِلُ مِنْهَا فِي وَقْتِهِ وَكَانَ بَاقِي التّدْبِيرِ صَوَابًا .
[وَقْتُهَا وَأَنْوَاعُهَا ]
وَوَقْتُ الرّيَاضَةِ بَعْدَ انْحِدَارِ الْغِذَاءِ وَكَمَالِ الْهَضْمِ وَالرّيَاضَةُ الْمُعْتَدِلَةُ هِيَ الّتِي تَحْمَرّ فِيهَا الْبَشَرَةُ وَتَرْبُو وَيَتَنَدّى بِهَا الْبَدَنُ وَأَمّا الّتِي يَلْزَمُهَا سَيَلَانُ الْعَرَقِ فَمُفْرِطَةٌ وَأَيّ عُضْوٍ كَثُرَتْ رِيَاضَتُهُ قَوِيَ وَخُصُوصًا عَلَى نَوْعِ تِلْكَ الرّيَاضَةِ بَلْ كُلّ قُوّةٍ فَهَذَا شَأْنُهَا فَإِنّ مَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الْحِفْظِ قَوِيَتْ حَافِظَتُهُ وَمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الْفِكْرِ قَوِيَتْ قُوّتُهُ الْمُفَكّرَةُ وَلِكُلّ عُضْوٍ رِيَاضَةٌ تَخُصّهُ فَلِلصّدْرِ الْقِرَاءَةُ فَلْيَبْتَدِئْ فِيهَا مِنْ الْخُفْيَةِ إلَى الْجَهْرِ بِتَدْرِيجٍ وَرِيَاضَةُ السّمْعِ بِسَمْعِ الْأَصْوَاتِ وَالْكَلَامِ بِالتّدْرِيجِ فَيَنْتَقِلُ مِنْ الْأَخَفّ إلَى الْأَثْقَلِ وَكَذَلِكَ رِيَاضَةُ اللّسَانِ فِي الْكَلَامِ وَكَذَلِكَ رِيَاضَةُ الْبَصَرِ وَكَذَلِكَ رِيَاضَةُ الْمَشْيِ بِالتّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا . وَأَمّا رُكُوبُ الْخَيْلِ وَرَمْيُ النّشَابِ وَالصّرَاعُ وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى الْأَقْدَامِ فَرِيَاضَةٌ لِلْبَدَنِ كُلّهِ وَهِيَ قَالِعَةٌ لِأَمْرَاضٍ مُزْمِنَةٍ كَالْجُذَامِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْقُولَنْجِ .
[رِيَاضَةُ النّفُوسِ ]
وَرِيَاضَةُ النّفُوسِ بِالتّعَلّمِ وَالتّأَدّبِ وَالْفَرَحِ وَالسّرُورِ وَالصّبْرِ وَالثّبَاتِ وَالْإِقْدَامِ وَالسّمَاحَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمّا تَرْتَاضُ بِهِ النّفُوسُ وَمِنْ أَعْظَمِ رِيَاضَتِهَا : الصّبْرُ وَالْحُبّ وَالشّجَاعَةُ وَالْإِحْسَانُ فَلَا تَزَالُ تَرْتَاضُ بِذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتّى تَصِيرَ لَهَا هَذِهِ الصّفَاتُ هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً وَمَلَكَاتٍ ثَابِتَةً . وَأَنْتَ إذَا تَأَمّلْتَ هَدْيَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَلِكَ وَجَدْتَهُ أَكْمَلَ هَدْيٍ حَافِظٍ لِلصّحّةِ وَالْقُوَى وَنَافِعٍ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ .
[فَائِدَةُ الصّلَاةِ ]
وَلَا رَيْبَ أَنّ الصّلَاةَ نَفْسَهَا فِيهَا مِنْ حِفْظِ صِحّةِ الْبَدَنِ وَإِذَابَةِ أَخْلَاطِهِ وَفَضَلَاتِهِ مَا هُوَ مِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ لَهُ سِوَى مَا فِيهَا مِنْ حِفْظِ صِحّةِ الْإِيمَانِ وَسَعَادَةِ [ ص 227 ] أَنْفَعِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ وَمِنْ أَمْنَعِ الْأُمُورِ لِكَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ وَمِنْ أَنْشَطِ شَيْءٍ لِلْبَدَنِ وَالرّوحِ وَالْقَلْبِ كَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ يَعْقِدُ الشّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ عَلَى كُلّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ فَإِنْ هُوَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللّهَ انْحَلّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ تَوَضّأَ انْحَلّتْ عُقْدَةٌ ثَانِيَةٌ فَإِنْ صَلّى انْحَلّتْ عُقَدُهُ كُلّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيّبَ النّفْسِ وَإِلّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النّفْسِ كَسْلَانَ
[فَائِدَةُ الصّوْمِ ]
وَفِي الصّوْمِ الشّرْعِيّ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ وَرِيَاضَةِ الْبَدَنِ وَالنّفْسِ مَا لَا يَدْفَعُهُ صَحِيحُ الْفِطْرَةِ .
[فَائِدَةُ الْجِهَادِ ](3/485)
وَأَمّا الْجِهَادُ وَمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ الْكُلّيّةِ الّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْقُوّةِ وَحِفْظِ الصّحّةِ وَصَلَابَةِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَدَفْعِ فَضَلَاتِهِمَا وَزَوَالِ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالْحُزْنِ فَأَمْرٌ إنّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ مِنْهُ نَصِيبٌ .
[رِيَاضَاتٌ أُخْرَى ]
وَكَذَلِكَ الْحَجّ وَفِعْلُ الْمَنَاسِكِ وَكَذَلِكَ الْمُسَابَقَةُ عَلَى الْخَيْلِ وَبِالنّصَالِ وَالْمَشْيُ فِي الْحَوَائِجِ وَإِلَى الْإِخْوَانِ وَقَضَاءُ حُقُوقِهِمْ وَعِيَادَةُ مَرْضَاهُمْ وَتَشْيِيعُ جَنَائِزِهِمْ وَالْمَشْيُ إلَى الْمَسَاجِدِ لِلْجُمُعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ وَحَرَكَةُ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَهَذَا أَقَلّ مَا فِيهِ الرّيَاضَةُ الْمُعِينَةُ عَلَى حِفْظِ الصّحّةِ وَدَفْعِ الْفَضَلَاتِ وَأَمّا مَا شُرِعَ لَهُ مِنْ التّوَصّلِ بِهِ إلَى خَيْرَاتِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَدَفْعِ شُرُورِهِمَا فَأَمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ .فَعَلِمْتَ أَنّ هَدْيَهُ فَوْقَ كُلّ هَدْيٍ فِي طِبّ الْأَبْدَانِ وَالْقُلُوبِ وَحِفْظِ صِحّتِهَا وَدَفْعِ أَسْقَامِهِمَا وَلَا مَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ لِمَنْ قَدْ أَحْضَرَ رُشْدَهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . [ ص 228 ]
60-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْعِشْقِ
زاد المعاد - (ج 4 / ص 244)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْعِشْقِ
هَذَا مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الْأَمْرَاضِ فِي ذَاتِهِ وَأَسْبَابِهِ وَعِلَاجِهِ وَإِذَا تَمَكّنَ وَاسْتَحْكَمَ عَزّ عَلَى الْأَطِبّاء دَوَاؤُهُ وَأَعْيَا الْعَلِيلَ دَاؤُهُ وَإِنّمَا حَكَاهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ طَائِفَتَيْنِ مِنْ النّاسِ مِنْ النّسَاءِ وَعُشّاقِ الصّبْيَانِ الْمُرْدَانِ فَحَكَاهُ عَنْ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِي شَأْنِ يُوسُفَ وَحَكَاهُ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ فَقَالَ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْهُمْ لَمّا جَاءَتْ الْمَلَائِكَةُ لُوطًا : { وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ وَاتّقُوا اللّهَ وَلَا تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الْحِجْرِ : 68 :73 ] .
[ سَبَبُ طَلَاقِ زَيْدٍ لِزَيْنَبَ ](3/486)
وَأَمّا مَا زَعَمَهُ بَعْضُ مَنْ لَمْ يُقَدّرْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَقّ قَدْرِهِ أَنّهُ اُبْتُلِيَ بِهِ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَأَنّهُ رَآهَا فَقَالَ سُبْحَانَ مُقَلّبَ الْقُلُوبِ وَأَخَذَتْ بِقَلْبِهِ وَجَعَلَ يَقُول لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ : أَمْسِكْهَا حَتّى أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ { وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَنْ تَخْشَاهُ } [ الْأَحْزَابِ 37 ] فَظَنّ هَذَا الزّاعِمُ أَنّ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْعِشْقِ [ ص 245 ] وَصَنّفَ بَعْضُهُمْ كِتَابًا فِي الْعِشْقِ وَذَكَرَ فِيهِ عِشْقَ الْأَنْبِيَاءِ وَذَكَرَ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ وَهَذَا مِنْ جَهْلِ هَذَا الْقَائِلِ بِالْقُرْآنِ وَبِالرّسُلِ وَتَحْمِيلِهِ كَلَامَ اللّهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَنِسْبَتِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَا بَرّأَهُ اللّهُ مِنْهُ فَإِنّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ كَانَتْ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ تَبَنّاهُ وَكَانَ يُدْعَى زَيْدَ بْنَ مُحَمّدٍ وَكَانَتْ زَيْنَبُ فِيهَا شَمَمٌ وَتَرَفّعَ عَلَيْهِ فَشَاوَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي طَلَاقِهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ } وَأَخْفَى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَتَزَوّجَهَا إنْ طَلّقَهَا زَيْدٌ وَكَانَ يَخْشَى مِنْ قَالَةِ النّاسِ أَنّهُ تَزَوّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ لِأَنّ زَيْدًا كَانَ يُدْعَى ابْنَهُ فَهَذَا هُوَ الّذِي أَخْفَاهُ فِي نَفْسِهِ وَهَذِهِ هِيَ الْخَشْيَةُ مِنْ النّاسِ الّتِي وَقَعَتْ لَهُ وَلِهَذَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُعَدّدُ فِيهَا نِعَمَهُ عَلَيْهِ لَا يُعَاتِبُهُ فِيهَا وَأَعْلَمَهُ أَنّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْشَى النّاسَ فِيمَا أَحَلّ اللّهُ لَهُ وَأَنّ اللّهَ أَحَقّ أَنْ يَخْشَاهُ فَلَا يَتَحَرّجُ مَا أَحَلّهُ لَهُ لِأَجْلِ قَوْلِ النّاسِ ثُمّ أَخْبَرَهُ أَنّهُ سُبْحَانَهُ زَوّجَهُ إيّاهَا بَعْدَ قَضَاءِ زَيْدٍ وَطَرَهُ مِنْهَا لِتَقْتَدِيَ أُمّتُهُ بِهِ فِي ذَلِكَ وَيَتَزَوّجَ الرّجُلُ بِامْرَأَةِ ابْنِهِ مِنْ التّبَنّي لَا امْرَأَةِ ابْنِهِ لِصُلْبِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي آيَةِ التّحْرِيمِ { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } [ النّسَاءِ 23 ] [ ص 246 ] وَقَالَ فِي هَذِهِ السّورَةِ { مَا كَانَ مُحَمّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [ الْأَحْزَابِ 40 ] وَقَالَ فِي أَوّلِهَا : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } [ الْأَحْزَابِ 4 ] فَتَأَمّلْ هَذَا الذّبّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَفْعَ طَعْنِ الطّاعِنِينَ عَنْهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . نَعَمْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُحِبّ نِسَاءَهُ وَكَانَ أَحَبّهُنّ إلَيْهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَلَمْ تَكُنْ تَبْلُغُ مَحَبّتُهُ لَهَا وَلَا لِأَحَدٍ سِوَى رَبّهِ نِهَايَةَ الْحُبّ بَلْ صَحّ أَنّهُ قَالَ لَوْ كُنْتُ مُتّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَفِي لَفْظٍ وَإِنّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الرّحْمَن
فَصْلٌ [ الْإِخْلَاصُ سَبَبٌ لِدَفْعِ الْعِشْق]
وَعِشْقُ الصّوَرِ إنّمَا تُبْتَلَى بِهِ الْقُلُوبُ الْفَارِغَةُ مِنْ مَحَبّةِ اللّهِ تَعَالَى الْمُعْرِضَةُ عَنْهُ الْمُتَعَوّضَةُ بِغَيْرِهِ عَنْهُ فَإِذَا امْتَلَأَ الْقَلْبُ مِنْ مَحَبّةِ اللّهِ وَالشّوْقِ إلَى لِقَائِهِ دَفَعَ ذَلِكَ عَنْهُ مَرَضَ عِشْقِ الصّوَرِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقّ يُوسُفَ { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [ يُوسُفَ 24 ] فَدَلّ عَلَى أَنّ الْإِخْلَاصَ سَبَبٌ لِدَفْعِ الْعِشْقِ وَمَا يَتَرَتّبُ عَلَيْهِ مِنْ السّوءِ وَالْفَحْشَاءِ الّتِي هِيَ ثَمَرَتُهُ وَنَتِيجَتُهُ فَصَرْفُ الْمُسَبّبِ صَرْفٌ لِسَبَبِهِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السّلَفِ الْعِشْقُ حَرَكَةُ قَلْبٍ فَارِغٍ يَعْنِي فَارِغًا مِمّا سِوَى مَعْشُوقِهِ . قَالَ تَعَالَى : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } [ الْقَصَصِ 11 ] أَيْ فَارِغًا مِنْ كُلّ شَيْءٍ إلّا مِنْ مُوسَى لِفَرْطِ مَحَبّتِهَا لَهُ وَتَعَلّقِ قَلْبِهَا بِهِ . [ ص 247 ]
[ عِلّةُ الْعِشْقِ ](3/487)
وَالْعِشْقُ مُرَكّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ اسْتِحْسَانٍ لِلْمَعْشُوقِ وَطَمَعٍ فِي الْوُصُولِ إلَيْهِ فَمَتَى انْتَفَى أَحَدُهُمَا انْتَفَى الْعِشْقُ وَقَدْ أَعْيَتْ عِلّةُ الْعِشْقِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ وَتَكَلّمَ فِيهَا بَعْضُهُمْ بِكَلَامٍ يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهِ إلَى الصّوَابِ . فَنَقُولُ قَدْ اسْتَقَرّتْ حِكْمَةُ اللّهِ - عَزّ وَجَلّ - فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ عَلَى وُقُوعِ التّنَاسُبِ وَالتّآلُفِ بَيْنَ الْأَشْبَاهِ وَانْجِذَابِ الشّيْءِ إلَى مُوَافِقِهِ وَمُجَانِسِهِ بِالطّبْعِ وَهُرُوبِهِ مِنْ مُخَالِفِهِ وَنُفْرَتِهِ عَنْهُ بِالطّبْعِ فَسِرّ التّمَازُجِ وَالِاتّصَالِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيّ وَالسّفْلِيّ إنّمَا هُوَ التّنَاسُبُ وَالتّشَاكُلُ وَالتّوَافُقُ وَسِرّ التّبَايُنِ وَالِانْفِصَالِ إنّمَا هُوَ بِعَدَمِ التّشَاكُلِ وَالتّنَاسُبِ وَعَلَى ذَلِكَ قَامَ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فَالْمِثْلُ إلَى مِثْلِهِ مَائِلٌ وَإِلَيْهِ صَائِرٌ وَالضّدّ عَنْ ضِدّهِ هَارِبٌ وَعَنْهُ نَافِرٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [ الْأَعْرَافِ 189 ] فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ عِلّةَ سُكُونِ الرّجُلِ إلَى امْرَأَتِهِ كَوْنَهَا مِنْ جِنْسِهِ وَجَوْهَرِهِ فَعِلّةُ السّكُونِ الْمَذْكُورِ - وَهُوَ الْحُبّ - كَوْنُهَا مِنْهُ فَدَلّ عَلَى أَنّ الْعِلّةَ لَيْسَتْ بِحُسْنِ الصّورَةِ وَلَا الْمُوَافَقَةِ فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَلَا فِي الْخُلُقِ وَالْهَدْيِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ أَيْضًا مِنْ أَسْبَابِ السّكُونِ وَالْمَحَبّةِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَف وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَغَيْرِهِ فِي سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنّ امْرَأَةً بِمَكّةَ كَانَتْ تُضْحِكُ النّاسَ فَجَاءَتْ إلَى الْمَدِينَةِ فَنَزَلَتْ عَلَى امْرَأَةٍ تُضْحِكُ النّاسَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنّدَةٌ الْحَدِيثَ . [ ص 248 ] وَقَدْ اسْتَقَرّتْ شَرِيعَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنّ حُكْمَ الشّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ فَلَا تُفَرّقُ شَرِيعَتُهُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ أَبَدًا وَلَا تَجْمَعُ بَيْنَ مُتَضَادّيْنِ وَمَنْ ظَنّ خِلَافَ ذَلِكَ فَإِمّا لِقِلّةِ عِلْمِهِ بِالشّرِيعَةِ وَإِمّا لِتَقْصِيرِهِ فِي مَعْرِفَةِ التّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ وَإِمّا لِنِسْبَتِهِ إلَى شَرِيعَتِهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَانًا بَلْ يَكُونُ مِنْ آرَاءِ الرّجَالِ فَبِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ ظَهَرَ خَلْقُهُ وَشَرْعُهُ وَبِالْعَدْلِ وَالْمِيزَانِ قَامَ الْخَلْقُ وَالشّرْعُ وَهُوَ التّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالتّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ . وَهَذَا كَمَا أَنّهُ ثَابِتٌ فِي الدّنْيَا فَهُوَ كَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . فَالَ تَعَالَى : { احْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [ الصّافّاتِ 22 ] . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَبَعْدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ أَزْوَاجُهُمْ أَشْبَاهُهُمْ وَنُظَرَاؤُهُم وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا النّفُوسُ زُوّجَتْ } [ التّكْوِيرِ 7 ] أَيْ قَرَنَ كُلّ صَاحِبِ عَمَلٍ بِشَكْلِهِ وَنَظِيرِهِ فَقَرَنَ بَيْنَ الْمُتَحَابّيْنِ فِي اللّهِ فِي الْجَنّةِ وَقَرَنَ بَيْنَ الْمُتَحَابّيْنِ فِي طَاعَةِ الشّيْطَانِ فِي الْجَحِيمِ فَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبّ شَاءَ أَوْ أَبَى وَفِي " مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ " وَغَيْرِهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُحِبّ الْمَرْءُ قَوْمًا إلّا حُشِرَ مَعَهُمْ [ ص 249 ]
[ أَنْوَاعُ الْمَحَبّةِ ](3/488)
وَالْمَحَبّةُ أَنْوَاعٌ مُتَعَدّدَةٌ فَأَفْضَلُهَا وَأَجَلّهَا : الْمَحَبّةُ فِي اللّهِ وَلِلّهِ وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ مَحَبّةَ مَا أَحَبّ اللّهُ وَتَسْتَلْزِمُ مَحَبّةَ اللّهِ وَرَسُولِهِ . وَمِنْهَا مَحَبّةُ الِاتّفَاقِ فِي طَرِيقَةٍ أَوْ دِينٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ نِحْلَةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ أَوْ مُرَادٍ مَا . وَمِنْهَا : مَحَبّةٌ لِنَيْلِ غَرَضٍ مِنْ الْمَحْبُوبِ إمّا مِنْ جَاهِهِ أَوْ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ أَوْ قَضَاءِ وَطَرٍ مِنْهُ وَهَذِهِ هِيَ الْمَحَبّةُ الْعَرَضِيّةُ الّتِي تَزُولُ بِزَوَالِ مُوجِبِهَا فَإِنّ مَنْ وَدّك لِأَمْرٍ وَلّى عَنْك عِنْدَ انْقِضَائِهِ . وَأَمّا مَحَبّةُ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ الّتِي بَيْنَ الْمُحِبّ وَالْمَحْبُوبِ فَمَحَبّةٌ لَازِمَةٌ لَا تَزُولُ إلّا لِعَارِضٍ يُزِيلُهَا وَمَحَبّةُ الْعِشْقِ مِنْ هَذَا النّوْعِ فَإِنّهَا اسْتِحْسَانٌ رُوحَانِيّ وَامْتِزَاجٌ نَفْسَانِيّ وَلَا يَعْرِضُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَحَبّةِ مِنْ الْوَسْوَاسِ وَالنّحُولِ وَشَغْلِ الْبَالِ وَالتّلَفِ مَا يَعْرِضُ مِنْ الْعِشْقِ .
[ سَبَبُ كَوْنِ الْعِشْقِ أَحْيَانًا مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ ]
فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْعِشْقِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الِاتّصَالِ وَالتّنَاسُبِ الرّوحَانِيّ فَمَا بَالُهُ لَا يَكُونُ دَائِمًا مِنْ الطّرَفَيْنِ بَلْ تَجِدُهُ كَثِيرًا مِنْ طَرَفِ الْعَاشِقِ وَحْدَهُ فَلَوْ كَانَ سَبَبُهُ الِاتّصَالَ النّفْسِيّ وَالِامْتِزَاجَ الرّوحَانِيّ لَكَانَتْ الْمَحَبّةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا . فَالْجَوَابُ أَنّ السّبَبَ قَدْ يَتَخَلّفُ عَنْهُ مُسَبّبِهِ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ وَتَخَلّفُ الْمَحَبّةِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ لَا بُدّ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ الْأَوّلُ عِلّةٌ فِي الْمَحَبّةِ وَأَنّهَا مَحَبّةٌ عَرَضِيّةٌ لَا ذَاتِيّةٌ وَلَا يَجِبُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَحَبّةِ الْعَرَضِيّةِ بَلْ قَدْ يَلْزَمُهَا نُفْرَةٌ مِنْ الْمَحْبُوبِ . الثّانِي : مَانِعٌ يَقُومُ بِالْمُحِبّ يَمْنَعُ مَحَبّةَ مَحْبُوبِهِ لَهُ إمّا فِي خُلُقِهِ أَوْ فِي خَلْقِهِ أَوْ هَدْيِهِ أَوْ فِعْلِهِ أَوْ هَيْئَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . [ ص 250 ] الثّالِثُ مَانِعٌ يَقُومُ بِالْمَحْبُوبِ يَمْنَعُ مُشَارَكَتَهُ لِلْمُحِبّ فِي مَحَبّتِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ الْمَانِعِ لَقَامَ بِهِ مِنْ الْمَحَبّةِ لِمُحِبّهِ مِثْلُ مَا قَامَ بِالْآخَرِ فَإِذَا انْتَفَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعُ وَكَانَتْ الْمَحَبّةُ ذَاتِيّةً فَلَا يَكُونُ قَطّ إلّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَوْلَا مَانِعُ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالرّيَاسَةِ وَالْمُعَادَاةِ فِي الْكُفّارِ لَكَانَتْ الرّسُلُ أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَلَمّا زَالَ هَذَا الْمَانِعُ مِنْ قُلُوبِ أَتْبَاعِهِمْ كَانَتْ مَحَبّتُهُمْ لَهُمْ فَوْقَ مَحَبّةِ الْأَنْفُسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ .
فَصْلٌ [ عِلَاجُ الْعِشْقِ بِالزّوَاجِ بِالْمَعْشُوقِ ](3/489)
وَالْمَقْصُودُ أَنّ الْعِشْقَ لَمّا كَانَ مَرَضًا مِنْ الْأَمْرَاضِ كَانَ قَابِلًا لِلْعِلَاجِ وَلَهُ أَنْوَاعٌ مِنْ الْعِلَاجِ فَإِنْ كَانَ مِمّا لِلْعَاشِقِ سَبِيلٌ إلَى وَصْلِ مَحْبُوبِهِ شَرْعًا وَقَدْرًا فَهُوَ عِلَاجُهُ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْن ِ " . مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا مَعْشَرَ الشّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصّوْمِ فَإِنّهُ لَهُ وِجَاءٌ فَدَلّ الْمُحِبّ عَلَى عِلَاجَيْنِ أَصْلِيّ وَبَدَلِيّ . وَأَمَرَهُ بِالْأَصْلِيّ وَهُوَ الْعِلَاجُ الّذِي وُضِعَ لِهَذَا الدّاءِ فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مَا وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَمْ نَرَ لِلْمُتَحَابّيْنِ مِثْلَ النّكَاحِ وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الّذِي أَشَارَ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ عَقِيبَ إحْلَالِ النّسَاءِ حَرَائِرِهِنّ وَإِمَائِهِنّ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِقَوْلِهِ { يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } [ النّسَاءِ 28 ] . فَذِكْرُ تَخْفِيفِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِخْبَارِهِ عَنْ ضَعْفِ الْإِنْسَانِ يَدُلّ عَلَى ضَعْفِهِ عَنْ احْتِمَالِ هَذِهِ الشّهْوَةِ وَأَنّهُ - سُبْحَانَهُ - خَفّفَ عَنْهُ أَمْرَهَا بِمَا أَبَاحَهُ لَهُ مِنْ أَطَايِبِ النّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَأَبَاحَ لَهُ مَا شَاءَ مِمّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ ثُمّ أَبَاحَ لَهُ أَنْ يَتَزَوّجَ بِالْإِمَاءِ إنْ احْتَاجَ [ ص 251 ]
فَصْلٌ [ وَمِنْ عِلَاجِ العشقِ إشْعَارُ النّفْسِ الْيَأْسَ مِنْهُ إنْ كَانَ الْوِصَالُ
مُتَعَذّرًا قَدْرًا وَشَرْعًا ]
وَإِنْ كَانَ لَا سَبِيلَ لِلْعَاشِقِ إلَى وِصَالِ مَعْشُوقِهِ قَدْرًا أَوْ شَرْعًا أَوْ هُوَ مُمْتَنِعٌ عَلْيِهِ مِنْ الْجِهَتَيْنِ وَهُوَ الدّاءُ الْعُضَالُ فَمِنْ عِلَاجِهِ إشْعَارُ نَفْسِهِ الْيَأْسَ مِنْهُ فَإِنّ النّفْسَ مَتَى يَئِسَتْ مِنْ الشّيْءِ اسْتَرَاحَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَلْتَفِتْ إلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَزَلْ مَرَضُ الْعِشْقِ مَعَ الْيَأْسِ فَقَدْ انْحَرَفَ الطّبْعُ انْحِرَافًا شَدِيدًا فَيَنْتَقِلُ إلَى عِلَاجٍ آخَرَ وَهُوَ عِلَاجُ عَقْلِهِ بِأَنْ يُعْلَمَ بِأَنّ تَعَلّقَ الْقَلْبِ بِمَا لَا مَطْمَعَ فِي حُصُولِهِ نَوْعٌ مِنْ الْجُنُونِ وَصَاحِبُهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْشَقُ الشّمْسَ وَرُوحُهُ مُتَعَلّقَةٌ بِالصّعُودِ إلَيْهَا وَالدّوَرَانِ مَعَهَا فِي فَلَكِهَا وَهَذَا مَعْدُودٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ فِي زُمْرَةِ الْمَجَانِينِ .
[ إنْ كَانَ الْوِصَالُ مُتَعَذّرًا شَرْعًا فَعِلَاجُهُ إنْزَالُهُ مَنْزِلَةَ الْمُتَعَذّرِ قَدْرًا وَذِكْرُ عِلَاجَاتٍ أُخْرَى ](3/490)
وَإِنْ كَانَ الْوِصَالُ مُتَعَذّرًا شَرْعًا لَا قَدْرًا فَعِلَاجُهُ بِأَنْ يُنْزِلَهُ مَنْزِلَةَ الْمُتَعَذّرِ قَدْرًا إذْ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ اللّهُ فَعِلَاجُ الْعَبْدِ وَنَجَاتُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِنَابِهِ فَلْيُشْعِرْ نَفْسَهُ أَنّهُ مَعْدُومٌ مُمْتَنِعٌ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ وَأَنّهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمُحَالَاتِ فَإِنْ لَمْ تُجِبْهُ النّفْسُ الْأَمّارَةُ فَلْيَتْرُكْهُ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمّا خَشْيَةٍ وَإِمّا فَوَاتِ مَحْبُوبٍ هُوَ أَحَبّ إلَيْهِ وَأَنْفَعُ لَهُ وَخَيْرٌ لَهُ مِنْهُ وَأَدْوَمُ لَذّةً وَسُرُورًا فَإِنّ الْعَاقِلَ مَتَى وَازَنَ بَيْنَ نَيْلِ مَحْبُوبٍ سَرِيعِ الزّوَالِ بِفَوَاتِ مَحْبُوبٍ أَعْظَمَ مِنْهُ وَأَدْوَمَ وَأَنْفَعَ وَأَلَذّ أَوْ بِالْعَكْسِ ظَهَرَ لَهُ التّفَاوُتُ فَلَا تَبِعْ لَذّةَ الْأَبَدِ الّتِي لَا خَطَرَ لَهَا بِلَذّةِ سَاعَةٍ تَنْقَلِبُ آلَامًا وَحَقِيقَتُهَا أَنّهَا أَحْلَامُ نَائِمٍ أَوْ خَيَالٌ لَا ثَبَاتَ لَهُ فَتَذْهَبُ اللّذّةُ وَتَبْقَى التّبِعَةُ وَتَزُولُ الشّهْوَةُ وَتَبْقَى الشّقْوَةُ . الثّانِي : حُصُولُ مَكْرُوهٍ أَشَقّ عَلْيِهِ مِنْ فَوَاتِ هَذَا الْمَحْبُوبِ بَلْ يَجْتَمِعُ لَهُ الْأَمْرَانِ أَعْنِي : فَوَاتَ مَا هُوَ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْمَحْبُوبِ وَحُصُولَ مَا هُوَ أَكْرَهُ إلَيْهِ مِنْ فَوَاتِ هَذَا الْمَحْبُوبِ فَإِذَا تَيَقّنَ أَنّ فِي إعْطَاءِ النّفْسِ حَظّهَا مِنْ هَذَا الْمَحْبُوبِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ هَانَ عَلَيْهِ تَرْكُهُ وَرَأَى أَنّ صَبْرَهُ عَلَى قُوّتِهِ أَسْهَلُ مِنْ صَبْرِهِ عَلَيْهِمَا بِكَثِيرٍ فَعَقْلُهُ وَدِينُهُ وَمُرُوءَتُهُ وَإِنْسَانِيّتُهُ تَأْمُرُهُ بِاحْتِمَالِ الضّرَرِ [ ص 252 ] وَهَوَاهُ وَظُلْمُهُ وَطَيْشُهُ وَخِفّتُهُ يَأْمُرُهُ بِإِيثَارِ هَذَا الْمَحْبُوبِ الْعَاجِلِ بِمَا فِيهِ جَالِبًا عَلَيْهِ مَا جَلَبَ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللّهُ . فَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ نَفْسُهُ هَذَا الدّوَاءَ وَلَمْ تُطَاوِعْهُ لِهَذِهِ الْمُعَالَجَةِ فَلْيَنْظُرْ مَا تَجْلِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الشّهْوَةُ مِنْ مَفَاسِدِ عَاجِلَتِهِ وَمَا تَمْنَعُهُ مِنْ مَصَالِحِهَا فَإِنّهَا أَجْلَبُ شَيْءٍ لِمَفَاسِدِ الدّنْيَا وَأَعْظَمُ شَيْءٍ تَعْطِيلًا لِمَصَالِحِهَا فَإِنّهَا تَحُولُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رُشْدِهِ الّذِي هُوَ مِلَاكُ أَمْرِهِ وَقِوَامُ مَصَالِحِهِ . فَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ نَفْسُهُ هَذَا الدّوَاءَ فَلْيَتَذَكّرْ قَبَائِحَ الْمَحْبُوبِ وَمَا يَدْعُوهُ إلَى النّفْرَةِ عَنْهُ فَإِنّهُ إنْ طَلَبَهَا وَتَأَمّلَهَا وَجَدَهَا أَضْعَافَ مَحَاسِنِهِ الّتِي تَدْعُو إلَى حُبّهِ وَلْيَسْأَلْ جِيرَانَهُ عَمّا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا فَإِنّهَا الْمَحَاسِنُ كَمَا هِيَ دَاعِيَةُ الْحُبّ وَالْإِرَادَةِ فَالْمَسَاوِئُ دَاعِيَةُ الْبُغْضِ وَالنّفْرَةِ فَلْيُوَازِنْ بَيْنَ الدّاعِيَيْنِ وَلْيُحِبّ أَسْبَقَهُمَا وَأَقْرَبَهُمَا مِنْهَا بَابًا وَلَا يَكُنْ مِمّنْ غَرّهُ لَوْنُ جَمَالٍ عَلَى جِسْمٍ أَبْرَصَ مَجْذُومٍ وَلْيُجَاوِزْ بَصَرُهُ حُسْنَ الصّورَةِ إلَى قُبْحِ الْفِعْلِ وَلْيَعْبُرْ مِنْ حُسْنِ الْمَنْظَرِ وَالْجِسْمِ إلَى قُبْحِ الْمَخْبَرِ وَالْقَلْبِ . فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْأَدْوِيَةُ كُلّهَا لَمْ يَبْقَ لَهُ إلّا صِدْقُ اللّجَأِ إلَى مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إذَا دَعَاهُ وَلْيَطْرَحْ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى بَابِهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ مُتَضَرّعًا مُتَذَلّلًا مُسْتَكِينًا فَمَتَى وُفّقَ لِذَلِكَ فَقَدْ قَرَعَ بَابَ التّوْفِيقِ فَلِيَعِفّ وَلْيَكْتُمْ وَلَا يُشَبّبْ بِذِكْرِ الْمَحْبُوبِ وَلَا يَفْضَحْهُ بَيْنَ النّاسِ وَيُعَرّضْهُ لِلْأَذَى فَإِنّهُ يَكُونُ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا .
61- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَقْضِيَةِ وَالْأَنْكِحَةِ وَالْبُيُوعِ
زاد المعاد - (ج 5 / ص 5)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَقْضِيَةِ وَالْأَنْكِحَةِ وَالْبُيُوعِ
[ ص 5 ] كَانَتْ أَقْضِيَتُهُ الْخَاصّةُ تَشْرِيعًا عَامّا وَإِنّمَا الْغَرَضُ ذِكْرُ هَدْيِهِ فِي الْحُكُومَاتِ الْجُزْئِيّةِ الّتِي فَصَلَ بِهَا بَيْنَ الْخُصُومِ وَكَيْفَ كَانَ هَدْيُهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النّاسِ وَنَذْكُرُ مَعَ ذَلِكَ قَضَايَا مِنْ أَحْكَامِهِ الْكُلّيّةِ .
*******************************
الفهرس العام :
الباب الثاني - هدي خير العباد ... 1
1. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم معَ الكفارِ و الْمُنَافِقِينَ ... 1
2. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ دَعْوَةِ الْمُلوكِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ إِلَيْهِمْ ... 21(3/491)
3. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ ... 30
4. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الأَمَانِ وَ الصُّلْحِ وَمُعَامَلَةِ الرُّسُلِ ... 40
5. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الأُسَارَى ... 41
6. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الْغَنَائِمِ وَالْفَيْءِ ... 43
7. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الْخُرُوجِ لِلْقِتَالِ ... 47
8. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ ... 60
9. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ مَبْدَإِ الدَّعْوَةِ ... 78
10. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في الْهَدَايَا وَالضَحَايَا وَالْعَقِيقَة ... 83
11. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الْحجِّ وَالْعُمْرَةِ ... 86
12. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الصَّوْمِ والاعْتِكَافِ ... 187
13. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ ... 195
14. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الجَنَائِزِ ... 200
15. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ صَلاَةِ الْخَوْفِ ... 205
16. ... هديه صلى الله عليه وسلم فيِ الاِستِسْقَاءِ ... 208
17. ... هديه صلى الله عليه وسلم فيِ الْكُسُوفِ ... 211
18. ... هديه صلى الله عليه وسلم فيِ الْعِيدَيْنِ ... 215
23. ... هديه صلى الله عليه وسلم فيِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ... 281
24. ... هديه صلى الله عليه وسلم فيِ بَيْعهِ وَشِرَائِهِ وَتَعَامُلاَتِهِ ... 283
25. ... هديه صلى الله عليه وسلم فيِ الذِّكْرِ ... 307
26. ... هديه صلى الله عليه وسلم فيِ عِلاَج الكَرّبِ وَالهَمِّ وَالغَمِّ وَالحَزَنِ ... 330
27. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الْعِلاَحِ بالأَدْوِيَةِ الطَّبِيعِيةِ ... 332
28. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في الْعِلاَجِ بِالأَدْوِيَةِ الإْلَهِيَّةِ ... 410
29. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في الطِّبِّ وَالتَّدَاوِي وَعِيَادَةِ المَرضىَ ... 419
30. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ... 439
31. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ الْسَّفَرِ ... 453
32. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ النَّوْمِ وَالاِسْتيِقَاظِ والرُؤْى ... 460
33. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في النِّكَاحِ والْمُعَاشَرَةِ ... 466
34. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في السَّلامِ والاِسْتِئْذَانِ ... 472
35. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في كلامهِ وَسُكُوتهِ، وفي اخْتِيار الأَلْفَاظِ وَالأَسْمَاءِ ... 476
36. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في مَشْيهِ وَجُلُوسِهِ ... 488
37. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم في الْفِطْرَةِ وَاللِّبَاسِ وَالْهَيْئَةِ وَالزِّينَةِ ... 490
38. ... هدي الحبيب في الممازحة ... 498
39. ... من هدي النبوة ... 509
40. ... مائة سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ... 512
41. ... من وصايا الرسول الكريم ... 527
42. ... خطيب العالم ... 532
43. ... هدي النبي صلى الله عليه وسلم في سفره وترحاله ... 536
44-هدبه صلى الله عليه وسلم في خصال الفطرة ... 544
45- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّكُوبِ ... 547
46-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سُجُودِ السّهْوِ ... 547
47-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صَلَاةِ الضّحَى ... 550
48-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ ... 553
49- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَفَرِهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْفَرْضِ ... 555
50- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ ... 557
51- أَسْبَابِ شَرْحِ الصّدُورِ وَحُصُولِهَا عَلَى الْكَمَالِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ... 557
52-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاعْتِكَافِ ... 560
53-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَقِيقَةِ ... 561
54- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ وَخِتَانِهِ ... 563
55- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاسْتِئْذَانِ ... 564
56- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَذْكَارِ الْعُطَاسِ ... 566
57-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْجِهَادِ وَالْمَغَازِي وَالسّرَايَا وَالْبُعُوثِ ... 570
58- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حِفْظِ الصّحّةِ ... 578
59-هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّيَاضَةِ ... 580
60-هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْعِشْقِ ... 582
61- هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَقْضِيَةِ وَالْأَنْكِحَةِ وَالْبُيُوعِ ... 588
زاد المعاد - (ج 5 / ص 5) ... 588(3/492)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَقْضِيَةِ وَالْأَنْكِحَةِ وَالْبُيُوعِ ... 588
[ ص 5 ] كَانَتْ أَقْضِيَتُهُ الْخَاصّةُ تَشْرِيعًا عَامّا وَإِنّمَا الْغَرَضُ ذِكْرُ هَدْيِهِ فِي الْحُكُومَاتِ الْجُزْئِيّةِ الّتِي فَصَلَ بِهَا بَيْنَ الْخُصُومِ وَكَيْفَ كَانَ هَدْيُهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النّاسِ وَنَذْكُرُ مَعَ ذَلِكَ قَضَايَا مِنْ أَحْكَامِهِ الْكُلّيّةِ . ... 588(3/493)
فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقبه وحقوقه(3)
الباب الثالث-حقوقه صلى الله عليه وسلم
1. ... حقوق النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب نصرته والتحذير من الغلو فيه
هشام برغش
الحمد لله الذي أنزل علينا خير كتبه، وأرسل إلينا خير رسله، وجعلنا خير أمة أرسلت للناس { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }. فأرسله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله وجعله شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وجعل طاعته من طاعته واتباعه دليل محبته، وأمر الأمة بتوقيره وإجلاله، وجعل ذلك دليل الإيمان والتقوى، وجعل حقه آكد من حق النفس والمال والولد فقال عز وجل: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد بلغت محبته ومكانته عليه الصلاة والسلام في قلوب أصحابه الغاية القصوى من المحبة والمنزلة التي تجوز لبشر، وقد شهد بهذه الحقيقة المشركون أنفسهم.
فهذا أبو سفيان، وقد كان مشركا يسأل زيد بن الدثنة وقد أتوا به ليقتلوه: أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن مكانك نضرب عنقه وأنت في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالس في أهلي!! فقال أبو سفيان للملأ من حوله: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا!!
وفي غزوة أحد حين انكشف المسلمون وتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لخطر شديد وقد أحاط به المشركون يريدون قتله عليه الصلاة والسلام حتى شجت جبهته الشريفة وأصيبت رباعيته ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته في هذه اللحظات العصيبة لم يكن أحد من أصحابه الكرام يفكر إلا في شيء واحد ألا يصل إليه عليه الصلاة والسلام أذى، فأحاطوا به بأجسادهم يصدون بها عنه الرماح وضربات السيوف.
روى ابن حبان في صحيحه عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق لما كان يوم أحد: انصرف الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أول من فاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه فقلت: كن طلحة فداك أبي وأمي. كن طلحة فداك أبي وأمي. فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني فدفعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طلحة بن يديه صريعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دونكم أخاكم فقد أوجب)).
وقد رمي النبي صلى الله عليه وسلم في وجنته حتى غابت حلقتان من حلق المغفر في وجنته فذهبت لأنزعهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: ناشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني قال: فأخذ بفيه فجعل ينضضه كراهية أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استل السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة قال أبو بكر: ثم ذهبت لآخذ الآخر فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني قال: فأخذه فجعل ينضضه حتى استله ندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دونكم أخاكم فقد أوجب)) قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه وقد أصابته بضع عشر ضربة.
فلما انتهت المعركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء أم في الأموات)) فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يا رسول الله ما فعل سعد فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق فقال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأموات أنت أم في الأحياء؟ قال: أنا في الأموات فأبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم عني السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبينا عن أمته وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله إن خلص لنبيكم وفيكم عين تطرف .. والأمثلة غير ذلك كثير.
ولكن بالرغم من كل هذه المحبة والإجلال والمكانة العظيمة له عليه الصلاة والسلام في قلوب صحابته الكرام فإنهم لم ينزلوه فوق منزلته صلى الله عليه وسلم ولم ينسبوا إليه شيئا من خصائص الألوهية .. كما يفعل كثير من الناس اليوم، قادهم إلى ذلك الغلو الذي حذرهم منه عليه الصلاة والسلام فقال: ((إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)) [رواه أحمد والترمذي وابن ماجه]. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله)).(4/1)
وهذه مسألة من المسائل العظيمة زلت فيها أقدام كثير من الناس فينبغي على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته التي لا يجوز صرفها لغيره وبين حقوق خلقه كحق النبي صلى الله عليه وسلم، فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبد الله رسول الله ونبيه وعبده لا يجوز هذه المنزلة وهو سيد ولد آدم والشافع لهم يوم الحشر بإذن الله كما قال تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد)) فكون الرسول بشرا لا ينقص من قدره ولا يجعلنا نرفض الاقتداء به كما قال المشركون: أبشراً منا واحداً نتبعه إنا إذاً لفي ضلال وسعر بل إن بشريته هي التي تجعل منه القدوة التي نقتدي بها والأسوة التي نتأساها لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة ربه كما أمر وتحمل في سبيل ذلك صنوف الأذى والإضطهاد وكابد المشقات حتى نصره الله وبلغ دينه، وله في ذلك بكل مسلم أجر، وله على كل مسلم حق.
فما هو حق الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته؟ أهو إطراؤه وقد نهى عنه؟ أم هو المدائح وفيها من الغلو الشيء الكثير؟ أم هو صرف شيء من العبادة إليه كالاستشفاع والإغاثة ودعائه من دون الله؟
والجواب أنها ليست شيئا من ذلك بل هذا يناقض أمره صلى الله عليه وسلم وقد نهى عنه أشد النهي إذن، ما هي حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته؟ يمكن أن نجمل هذه الحقوق في أربعة أمور:
الأول: تصديقه والإيمان به واتباع سنته وطاعته.
الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم ومحبة سنته ومحبة ما يحبه.
الثالث: توقيره وتعزيره.
الرابع: الصلاة والسلام عليه.
ونعرض لهذه الأمور بشيء من التفصيل:
الأمر الأول: وهو تصديقه عليه الصلاة والسلام والإيمان به واتباع سنته وطاعته :
وهذا هو معنى شهادة أن محمدا رسول الله قال تعالى: ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا اعتدنا للكافرين سعيرا ً وقد أمر الله عباده بطاعة نبيه فقال: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)).
وقد أمر الله عباده المؤمنين باتباعه صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسنته، وجعل ذلك شرط محبته عز وجل ودليلها فقال: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم وقال: فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ، ولا يتحقق إيمان أحد حتى يقبل حكمه ويسلم لقضائه ويرضى بأمره فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً .
وحذر من مخالفته والخروج عن أمره فقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أو تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم وقال: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً .
الأمر الثاني وهو محبته صلى الله عليه وسلم:
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الشيخان: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) وأخرجا عن أنس أيضا: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود للكفر بعد إذ نجاه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه)) فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((الآن يا عمر)).
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ((ما أعددت لها؟)) قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله قال: ((أنت مع من أحببت)).
ولمحبته صلى الله عليه وسلم علامات منها الاقتداء به وإيثار شرعه وتقديمه على أهواء النفس وذكره بالصلاة عليه كما شرع ومحبة أصحابه وما يحبه صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثالث: وهو تعزيره وتوقيره وتعظيم أمره صلى الله عليه وسلم:
فقد قال تعالى: إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله وتعذروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً وروى الإمام مسلم عن عمرو بن العاص قال: (وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه).(4/2)
وخير تعظيم لرسول الله تعظيم سنته وهديه عليه الصلاة والسلام وتعظيم أمره ونهيه وعدم تقديم رأي أحد مهما كان على رأيه، لا كما يفعل كثير من الناس اليوم فتقول لهم: قال الرسول .. فيقولون لك: إن الشيخ الفلاني يقول كذا أو الأستاذ فلان يقول كذا أو أخبار اليوم تقول كذا.
وقد أنكر ابن عباس على قوم يقول لهم: قال الله، وقال الرسول، فيقولون: قال أبو بكر وعمر، وحذرهم من أن يحل عليهم عذاب من الله.
وكذلك ما يفعله كثير من العوام وغيرهم ممن ينتسبون إلى الدعوة من السخرية بسنته عليه الصلاة والسلام وممن يحرص عليها في ملبسه وهيئته ومختلف أموره فيسخرون منهم، بل ذلك من أمور الكفر التي اتصف بها المنافقون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم .
ومن توقيره صلى الله عليه وسلم وتعزيره: الذب عن عرضه إذا تعرض له سفيه وبذل لأجل ذلك الغالي والنفيس ؛ وهذا مقتضى محبته صلى الله عليه وسلم وتعظيم شأنه وقدره ، وهو واجب على كل مسلم ، ولايتصور أن يوجد مسلم يحب الرسول صلى الله عليه وسلم بحق وصدق ثم لايهب لنصرته والذب عن عرضه الشريف.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يبذلون مهجهم وأرواحهم دون الشوكة تصيب قدمه الشريفة صلى الله عليه وسلم فكيف بما فوق ذلك وأعظم؟!!!
يقولُ شيخُ الإسلامِ :"التعزيرُ: هو اسمٌ جامعٌ لنصرهِ وتأييدهِ ومَنْعُهُ منْ كُلِّ ما يؤذِيهِ، والتوقيرُ : اسمٌ جامعٌ لكُلِّ مافيهِ سكينةٌ وطمأنينةٌ منْ الإجلالِ والإكرامِ ، وأنْ يُعاملَ منَ التَّشريفِ والتَّكريمِ والتَّعظيمِ بِما يَصونهُ عنْ كُلِّ ما يُخْرِجُهُ عنْ حَدِّ الوقارِ " اهـ.
وأمَّا سَابُّهُ ومُؤْذِيهُ والمُستهزيءُ بهِ فهو في أحطِّ منزلةٍ وأخَسِّ مرتبةٍ ، فإنْ كانَ مسلماً فإنَّهُ يُصِبحُ مُرتداً بإجماعِ أهلِ العلمِ ، ويُقتلُ كذلكَ بالإجماعِ ولا يُعلمُ لهُ مُخالفٌ بينَ علماءِ المسلمينَ ، وإنَّ كانَ معاهَداً أو ذِمِّياً أو مستأمناً فإنَّ عهدهُ مُنتقِضٌ ويستحقُ أنْ تُضربَ عُنُقُهُ بالسَّيفِ انتصاراً لرسولِ الإسلامِ ونَبِيِّ الأنامِ .
كيفَ لا وربُّنا جلَّ في عُلاه يقولُ : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } [الأحزاب57]، ويقول سبحانه : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة : 61]،واللهُ يقولُ : { وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } [التوبة12 ].
و قد تكفَّلَ اللهُ سبحانهُ بصيانةِ عرضِ النّّبِيِّ والانتقامِ لهُ فقالَ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) [الحجر : 94 و 95].
وفي" الصحيحين" عنْ أبي هريرة قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " ألا ترونَ كيف يَصْرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قريشٍ ولعنَهم، يشتمون مُذَمَّمَاً، ويلعنون مُذَمَّمَاً، وأنا مُحَمَّدٌ!".واللهُ سبحانهُ بيَّنَ أنَّ مُبْغِضَ النَِّبيِّ صلى الله عليه وسلم هو الأقطعُ الخاسرُ الذَّليلُ، فقالَ جلَّ شأنهُ { إنَّ شانِئَكَ هُوَ الأبترُ } .
ومنْ أوجهِ الكفايةِ أنَّ يُكْرِمَ اللهُ ويُنْعِمَ على بعضِ عبادهِ بالذَّوْدِ والدِّفاعِ عنْ نبيهِ بكُلِّ مايستطيعُ وهي مرتبةٌ عظيمةٌ وشرفٌ كبيرٌ لكُلِّ منْ تصدِّى للدِّفاع عنْ النَِّبيِّ صلى الله عليه وسلم فاللهُمَّ شَرِّفْنَا بالدِّفاعِ عنْ نبيكَ الكريمِ صلى الله عليه وسلم
الأمر الرابع من حقوقه عليه الصلاة والسلام هي الصلاة عليه:
لقوله تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما والصلاة من الله ثناؤه على أنبيائه، والصلاة من الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء والتعظيم والتكريم.
والصلاة عليه من أعظم الذكر روى الإمام أحمد بن عامر بن ربيعة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من صلى علي صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي فليقل عبد من ذلك أو ليكثر)) وروى الترمذي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)) وتتأكد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع وأعمال منها:-
1- إذا ورد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: ((البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة)).(4/3)
2- الصلاة عليه في المجالس لقوله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة: ((ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)).
3- الصلاة عليه عند سماع المؤذن لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه مسلم وغيره: ((إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة)).
4- الصلاة عليه عند دخول المسجد والخروج منه وعند المرور بالمساجد فكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال: ((اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك)) وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال: ((اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك)) ولقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا مررتم بالمساجد فصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم. رواه إسماعيل القاضي في كتاب الصلاة.
5- الصلاة عليه في التشهد الأخير، وهو ركن من أركان الصلاة أو واجب، وأما الصلاة عليه في التشهد الأول فهي مستحبة.
6- الصلاة عليه في صلاة الجنائز.
7- وتستحب الصلاة عليه عند ختم الدعاء لقول عمر: الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك.
8- يوم الجمعة يستحب فيه الإكثار من الصلاة عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أفضل أيامكم يوم الجمعة، ففيه خلق آدم وفيه قبض، فيه النفخة وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي)) قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت – يعني وقد بليت – قال: ((إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)) [رواه احمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة].
فعلينا معاشر المسلمين أن ننتبه من نومة الجهل وأن نعظم ربنا بامتثال أمره واجتناب نهيه وإخلاص العبادة له وتعظيم نبينا صلى الله عليه وسلم باتباعه والاقتداء به في تعظيم الله والإخلاص له والاقتداء به في كل ما جاء به وألا نفعل شيئاً يشعر بعدم التعظيم والاحترام كرفع الأصوات قرب قبره صلى الله عليه وسلم، نسأل الله عز وجل أن يشفعه فينا، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واسقنا من يديه الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدا وصل اللهم وبارك على نبينا محمد كما صليت وباركت على سيدنا لإبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
2. ... حُقُوقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
للنبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم حقوق على أمته وهي كثيرة, منها:
أولا: الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم، وتصديقه فيما أتى به: قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [سورة التغابن]. وقال تعالى: {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة الأعراف]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سورة الحديد]. وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [سورة الفتح]. وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ)) رواه مسلم.
والإيمان به صلّى الله عليه وسلّم هو: تصديق نبوته, وأن الله أرسله للجن والإنس, وتصديقه في جميع ما جاء به وقاله, ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان, بأنه رسول الله, فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة باللسان، ثم تطبيق ذلك العمل بما جاء به؛ تمَّ الإيمان به صلّى الله عليه وسلّم.(4/4)
ثانيًا: وجوب طاعته صلّى الله عليه وسلّم، والحذر من معصيته: فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتى به, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} [سورة الأنفال]. وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا...} [سورة الحشر]. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور]. وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة النساء].
وعَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ)) رواه البخاري ومسلم. وعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: ((مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)) رواه البخاري.
ثالثًا: اتباعه صلّى الله عليه وسلّم، واتخاذه قدوة في جميع الأمور، والاقتداء بهديه: قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سورة آل عمران]. وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة الأعراف]. فيجب السير على هديه والتزام سنته، والحذر من مخالفته, قال صلّى الله عليه وسلّم: ((مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)) رواه البخاري ومسلم.
رابعًا: محبته صلّى الله عليه وسلّم أكثر من الأهل والولد، والوالد، والناس أجمعين: قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [سورة التوبة]. وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) رواه البخاري ومسلم.
وقد ثبت في الحديث أن من ثواب محبته الاجتماع معه في الجنة:
وذلك عندما سأله رجل عن الساعة فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أَعْدَدْتَ لَهَا)) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلاةٍ وَلا صِيَامٍ وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ: ((فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)) رواه البخاري ومسلم.
ولما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ)) فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:'فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الآنَ يَا عُمَرُ)) رواه البخاري.
وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانِ؛ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)) رواه البخاري ومسلم.
ولاشك أن من وفَّقه الله تعالى لذلك ذاق طعم الإيمان ووجد حلاوته, فيستلذ الطاعة ويتحمل المشاقّ في رضى الله عز وجل، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم, ولا يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه رضي به رسولاً, وأحبه، ومن أحبه من قلبه صدقاً أطاعه صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا قال القائل:
تعصي الإله وأنت تُظْهر حُبَّهُ *** هذا لعمري في القياسِ بديعُ
لو كان حُبَّكَ صادقاً لأطعته *** إن المُحبَّ لمن يُحِبُّ مُطيعُ(4/5)
وعلامات محبته صلّى الله عليه وسلّم تظهر في الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم, واتباع سنته, وامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, والتأدب بآدابه, في الشدة والرخاء, وفي العسر واليسر, ولا شك أن من أحب شيئاً آثره, وآثر موافقته, وإلا لم يكن صادقاً في حبه ويكون مدّعياً.
ولا شك أن من علامات محبته: النصيحة له؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: ((لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)) رواه مسلم. والنصيحة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: التصديق بنبوته, وطاعته فيما أمر به, واجتناب ما نهى عنه, ومُؤازرته, ونصرته وحمايته حياً وميتاً, وإحياء سنته والعمل بها وتعلمها, وتعليمها والذب عنها, ونشرها, والتخلق بأخلاقه الكريمة, وآدابه الجميلة.
خامسًا: احترامه، وتوقيره، ونصرته: كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ...} [سورة الفتح]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الحجرات]. وقال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا...} [سورة النور]. وحرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موته, وتوقيره لازم كحال حياته وذلك عند ذكر حديثه, وسنته, وسماع اسمه وسيرته, وتعلم سنته, والدعوة إليها, ونصرتها.
سادسًا:الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة الأحزاب]. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) رواه مسلم.
وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَلا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)) رواه أبوداود وأحمد. وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْبَخِيلُ الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ)) رواه الترمذي وأحمد.
وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ)) رواه الترمذي وأحمد. وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ)) رواه الترمذي وأحمد.
من مواطن الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم:
وللصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم مواطن كثيرة ذكر منها الإمام ابن القيم رحمه لله في كتابه 'جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام' واحداً وأربعين موطناً، منها على سبيل المثال:
الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم عند دخول المسجد, وعند الخروج منه, وبعد إجابة المؤذن, وعند الإقامة, وعند الدعاء, وفي التشهد في الصلاة، وفي صلاة الجنازة، وفي الصباح والمساء، وفي يوم الجمعة, وعند اجتماع القوم قبل تفرقهم, وفي الخطب: كخطبتي صلاة الجمعة, وعند كتابة اسمه, وفي أثناء صلاة العيدين بين التكبيرات, وآخر دعاء القنوت, وعلى الصفا والمروة, وعند الوقوف على قبره, وعند الهم والشدائد وطلب المغفرة, وعقب الذنب إذا أراد أن يكفر عنه, وغير ذلك من المواطن التي ذكرها رحمه الله في كتابه.
ولو لم يرد في فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا هذا الحديث لكفى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ)) رواه النسائي وأحمد.
سابعًا: وجوب التحاكم إليه، والرضي بحكمه صلّى الله عليه وسلّم: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء]. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء]. ويكون التحاكم إلى سنته وشريعته بعده صلّى الله عليه وسلّم.(4/6)
ثامنًا: إنزاله مكانته صلّى الله عليه وسلّم بلا غلو ولا تقصير: فهو عبد لله ورسوله, وهو أفضل الأنبياء والمرسلين, وهو سيد الأولين والآخرين, وهو صاحب المقام المحمود، والحوض المورود, ولكنه مع ذلك بشر لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله كما قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ...} [سورة الأنعام]. وقال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف]. وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [سورة الجن].
وقد مات صلّى الله عليه وسلّم كغيره من الأنبياء، ولكن دينه باقٍ إلى يوم القيام {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر]. وبهذا يعلم أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأنعام]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
من كتاب:' وداع الرسول لأمته دروس، وصايا، وعبرٌ، وعظات '
للشيخ/ سعيد بن علي بن وهف القحطاني
3. ... الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (معناها ـ صيغها ـ أوقاتها ـ فوائدها)
الموجز البديع في الصلاة والسلام على الحبيب الشفيع
أحمد بن عبد العزيز الحمدان
قَالَ اللهُ تَعَالَى:
{ِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيْماً}
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْرًا)).
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَه، وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ الأَتَمَّانِ الأَكْمَلاَنِ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِه.
أَمَّا بَعْد:
فَإِنَّ مِنْ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِه: أَنْ فَطَرَهُمْ عَلَى الاعْتِرَافِ بِالْفَضْلِ لأَهْلِ الفَضْل.
وَإِنَّ أَعْظَمَ مَنْ نَدِيْنُ لَهُ بِالفَضْلِ وَالْمِنَّةِ – بَعْدَ اللهِ تَعَالَى –: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَهُوَ سَيِّدُ الخَلْقِ الَّذِي أَخْرَجَنَا اللهُ بِهِ مِنْ الضَّلاَلَةِ إِلَى الهُدَى، وَبَصَّرَنَا بِهِ مِنْ العَمَى؛ بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّه، وَجَاهَدَ في اللهِ حَقَّ جِهَادِه، فَجَزَاهُ اللهُ عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاء، وَصَلَّى عَلَيْهِ صَلاَةً تَمْلأُ أَقْطَارَ الأَرْضَ وَالسَّمَاء، وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً كَثِيْراً.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى مِنْ أَعْظَمِ وَسَائِلِ شُكْرِ فَضْلِه، وَأَدَاءِ حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم: الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْه، فَهُمَا مِنْ أَجَلِّ القُرُبَات، وَأَفْضَلِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَات، الْمُقَرِّبَةِ إِلَى رَبِّ الأَرْضِ َالسَّمَاوَات.
لِذَا اسْتَخَرْتُ اللهَ تَعَالَى في وَضْعِ مُوجَزٍ يَكُونُ تَذْكِرَةً لِي وَلِمَنْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ إِخْوَانِي؛ فِيْهِ مَعْنَى الصَّلاَةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَفَضْلُهَا، وَالْمَوَاطِنُ وَالأَزْمِنَةُ الَّتِي تُشَرَعُ فِيْهَا، وَشَيْءٌ مِنْ فَوَائِدِهَا.
وَاللهَ أَسْأَلُ أَنْ يَتَقَبَّلَهُ بِالْقَبُولِ الْحَسَن. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَآلِهِ وَصَحْبِه.
* معنى الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قَالَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُه:
{ِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}.
بَيَّنَ تَعَالَى – في الآيَةِ - أَنَّهُ يُثْنِي عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَلاَئِكَتِهِ الْمُقَرَّبِيْن، وَمَلاَئِكَتُهُ يُثْنُونَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَيَدْعُونَ لَه، فَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا أَنْتُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَلِّمُوا تَسْلِيْماً، لأَنَّكُمْ أَحَقُّ بِذَلِكَ، لِمَا نَالَكُمْ بِبَرَكَةِ رِسَالَتِهِ مِنْ شَرَفِ الدُّنْيَا وَالآخِرَة.
وَقَدْ عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْه:(4/7)
فَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْك، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((فَقُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد)).
قَولُهُ ((اللَّهُمَّ)) أَيْ: يَا الله.
وَقَولُهُ ((صَلِّ)):
ـ الصَّلاَةُ مِنْ اللهِ: ثَنَاؤُهُ سبحانه وتعالى عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم في الْمَلأ الأَعْلَى، وَرَفْعُهُ لِذِكْرِه.
ـ وَالصَّلاَةُ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ: سُؤَالُ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُعْلِي ذِكْرَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُثْنِي عَلَيْه.
ـ وَالصَّلاَةُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُصَلِّي: ثَنَاءٌ مِنْ الْمُصَلِّي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَسُؤَالُ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم في الْمَلأ الأَعْلَى.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، مُبَيِّناً مَعْنَى الصَّلاَة -:
صَلاَةُ اللَّهِ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلاَئِكَة، وَصَلاَةُ الْمَلاَئِكَةِ الدُّعَاء.
وَقَولُهُ ((مُحَمَّدٍ)) مَبْنِيٌّ عَلَى زِنَةِ ((مُفَعَّلٍ)) مِثْلِ: مُعَظَّمٍ وَمُبَجَّل، وَهُوَ بِنَاءٌ مَوضُوعٌ لِلْتَكْثِيْر. لِذَا فَمُحَمَّدٌ: هُوَ الَّذِي كَثُرَ حَمْدُ الْحَامِدِيْنَ لَهُ وَاسْتَحَقَّ أَنْ يُحْمَدَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.
وَقَولُهُ ((وَآلِ مُحَمَّدٍ)) هُمْ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنّ، وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِب.
وَاخْتَارَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّ ((آلَ مُحَمَّدٍ)) أَتْبَاعُهُ إِلَى يَومِ القِيَامَة؛ وَمِمَّنْ اخْتَارَه:
جَابِرٌ رضي الله عنه وَالثَّورِيُّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَالنَّوَويُّ، وَالأَزْهَرِيُّ – رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى -.
وَالصَّلاَةُ عَلَى آلِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَتَوَابِعُهَا، لأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَقَّرُّ بِهِ عَيْنُهُ صلى الله عليه وسلم، وَيَزِيْدُهُ اللهُ بِهَا شَرَفاً. صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْماً كَثِيْراً.
وَقَولُهُ ((آلِ إِبْرَاهِيْم)) مَعْلُومٌ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم هُوَ خَيْرُ آلِ إِبْرَاهِيْم.
فَعِنْدَمَا يَسْأَلُ الْمُصَلِّي رَبَّهُ عز وجل أَنْ يُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ كَمَا صَلَّى عَلَى إِبْرَاهِيْمَ وَعَلى آلِ إِبْرَاهِيْم، يَكُونُ قَدْ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَوَّلاً، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ثَانِياً مَعَ آلِ إِبْرَاهِيْمَ لأَنَّهُ دَاخِلٌ مَعَهُم، فَتَكُونُ الصَّلاَةُ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيْمَ أَفْضَلَ لأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الصَّلاَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ سَائِرُ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ ذُرِّيَةِ إِبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِمُ السَّلاَم.
وَهَذَا سِرُّ كَونِ الصَّلاَةِ الإِبْرَاهِيْمِيَّةِ أَفْضَلَ صِيَغِ الصَّلَوَاتِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لِكَونِهَا تَضَمَّنَتْ فَضَلَ الصَّلاَةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَفَضْلَ الصَّلاَةِ عَلَى إِبْرَاهِيْمَ وَذُرِّيَتِهِ مِنْ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، لِتَكُونَ كُلُّهَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَولُهُ ((وَبَارِك)) طَلَبُ مِثْلِ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ لإِبْرَاهِيْمَ وَآلِهِ، لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَآلِه، وَأَنْ يَدُومَ هَذَا الْخَيْرُ وَيَتَضَاعَف.
وَالْحَمِيْدُ هُوَ الَّذِي لَهُ مِنْ صِفَاتِ وَأَسْبَابِ الْحَمْدِ مَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُوداً في نَفْسِه.
وَالْمَجِيْدُ هَوَ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْعَظَمَةِ وَالْجَلاَل، وَالْحَمْدُ وَالْمَجْدُ إِلَيْهِمَا يَرْجِعُ الْكَمَالُ كُلُّه، فَنَاسَبَ أَنْ يُخْتَمَ بِهِمَا طَلَباً لِزِيَادَةِ الْكَمَالِ في حَمْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَمْجِيْدِهِ عِنْدَ اللهِ تَعَالى.
* أفضل صيغ الصلاة على النبِي صلى الله عليه وسلم:
أَفْضَلُ الصِّيَغِ مَا عَلَّمَنَاهُ صلى الله عليه وسلم:(4/8)
(1) فَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْك، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((فَقُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد)).
(2) وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ رضي الله عنه: أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِه، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيم، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِه، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد)).
(3) وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَحْسِنُوا الصَّلاَةَ عَلَيْه، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ لَعَلَّ ذَلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْه، قَالَ: فَقَالُوا لَهُ:فَعَلِّمْنَا، قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِين، وَإِمَامِ الْمُتَّقِين، وَخَاتَمِ النَّبِيِّين؛ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِك، إِمَامِ الْخَيْر، وَقَائِدِ الْخَيْر، وَرَسُولِ الرَّحْمَة.
اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُهُ بِهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُون. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد.
(4) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ شَفَاعَةَ مُحَمَّدٍ الْكُبْرَى، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ الْعُلْيَا، وَأَعْطِهِ سُؤْلَهُ فِي الآخِرَةِ وَالأُوْلَى كَمَا آتَيْتَ إِبْرَاهِيْمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلاَةُ وَالسَّلاَم.
* المواطن والأزمان التي تشرع فيها الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
شَرَعَ اللهُ لَنَا الصَّلاَةَ وَالسَّلاَمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُطلَقاً، وَشَرَعَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِك، وَأَكَّدَهُ في بَعْضِ الْمَوَاطِنِ وَالأَزْمَان؛ فَمِنْهَا:
(1) الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مُطْلَقاً:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلاَ تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيّ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُم)).
وَعَنْ عَمَار بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَكاً أَعْطَاهُ أَسْمَاعَ الْخَلاَئِقِ كُلِّهَا، فَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَبْرِي إِذَا مِتُّ إِلَى يَومِ القِيَامَة، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي يُصَلِّي عَلَيَّ صَلاَةً إِلاَّ سَمَّاهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيْه، قَالَ: يَا مُحَمَّد ! صَلَّى عَلَيْكَ فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَيُصَلِّي الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْراً)) صلى الله عليه وسلم.
(2) كُلَّمَا ذُكِرَ صلى الله عليه وسلم:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلْيُصَلِّ عَلَيّ)) صلى الله عليه وسلم.
وَعَنْ أَمِيْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((الْبَخِيلُ الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ)) صلى الله عليه وسلم.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ صلى الله عليه وسلم:
((مَنْ نَسِيَ الصَّلاَةَ عَلَيّ، خَطِيءَ طَرِيْقَ الْجَنَّة)) صلى الله عليه وسلم.
وَعَنْهُ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
((رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيّ)) صلى الله عليه وسلم.
(3) عِنْدَ كِتَابَةِ اسْمِهِ صلى الله عليه وسلم:(4/9)
وَهُوَ كَسَابِقِه، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رضي الله عنهم إِذَا كَتَبُوا اسْمَهُ صلى الله عليه وسلم في كُتُبِهِمْ أَثْبَتُوا الصَّلاَةَ وَالسَّلاَمَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَةً، وَلَوْ تَكَرَّرَتْ، وَلَوْ كَثُرَت، وَلاَ يَرْمُزُونَ لَهَا بِالرُّمُوز.
وَلِشَيْخِنَا سَمَاحَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيْزِ بْنِ بَازٍ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى – رِسَالَةً في النَّهِي عَنْ كِتَابَةِ الرُّمُوز؛ مِثْل: ((ص)) و ((صلعم)) بَدَلاً مِنْ الصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ نَفَعَ اللهُ تَعَالَى بِهَا حَتَّى كَانَتْ سَبَباً في اخْتِفَاءِ الرُّمُوزِ مِنْ الصُّحُفِ وَالكُتُب، فَجَزَاهُ اللهُ خَيْراً.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَيْمُونِي: رَأَيْتُ الشَّيْخَ الْحَسَنَ بْنَ عُيَيْنَةَ - في الْمَنَامِ - بَعْدَ مَوتِه، وَكَأَنَّ عَلَى أَصَابِعِ يَدَيْهِ شَيْءٌ مَكْتُوبٌ بِلَونِ الذَّهَب، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقُلْتُ: يَا أُسْتَاذ ! أَرَى عَلَى أَصَابِعِكَ شَيْئاً مَلِيْحاً مَكْتُوباً، مَا هُو؟ قَالَ: يَا بُنَيّ ! هَذَا لِكِتَابَتِي ((صلى الله عليه وسلم)) في حَدِيْثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
(4) إِذَا أَصْبَحَ الْمُسْلِمُ وَإِذَا أَمْسَى:
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ حِيْنَ يُصْبِحُ عَشْراً، وَحِيْنَ يُمْسِي عَشْراً؛ أَدْرَكَتْهُ شَفَاعَتِي)).
(5) كُلَّمَا جَلَسَ الْمُسْلِمُ مَجْلِساً:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
((مَا قَعَدَ قَوْمٌ مَقْعَدًا لاَ يَذْكُرُونَ اللهَ عز وجل وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ لِلثَّوَاب)).
وَعَنْهُ رضي الله عنه: عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيه، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ صلى الله عليه وسلم، إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَة، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُم، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُم)) تِرَة: نَدَامَة.
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَا اجْتَمَعَ قَومٌ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِ ذِكْرِ اللهِ عز وجل، وَصَلاَةٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ قَامُوا عَنْ أَنْتَنِ مِنْ جِيْفَة)).
(6) في يَومِ الْجُمُعَة:
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
((أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلاَةِ في كُلِّ يَومِ جُمُعَة، فَإِنَّ صَلاَةَ أُمَّتِي تُعْرَضُ عَلَيَّ في كُلِّ يَومِ جُمُعَة، فَمَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ عَلَيَّ صَلاَةً كَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنِّي مَنْزِلَة)).
(7) بَعْدَ سَمَاعِ الأَذَان:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ؛ فَقُولُوا: مِثْلَ مَا يَقُول، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَة، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّة، لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّه، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُو، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَة؛ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَة)).
(8) عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْه:
وَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك، فَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِك)).
(9) فِي آخِرِ التَّشَهُّدٍ الَّذِي يَعْقُبُهُ سَلاَم:
قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ رضي الله عنه: مَا أَرَى أَنَّ صَلاَةً لِي تَمَّتْ حَتَّى أُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.
وَعَنْ ابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لاَ تَكُونُ صَلاَةٌ إِلاَّ بِقِرَاءَةٍ وَتَشَهُّدٍ وَصَلاَةٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه، أَمَّا السَّلاَمُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاه، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ إِذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا فِي صَلاَتِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا أَنْتُمْ صَلَّيْتُمْ عَلَيَّ؛ فَقُولُوا)) وَذَكَرَ الصَّلاَةَ الإِبْرَاهِيْمِيَّة.(4/10)
(10) في كُلِّ خُطْبَة:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: رَفَعَ اللهُ ذِكْرَه، فَلاَ يُذْكَرُ إِلاَّ ذُكِرَ مَعَه. وَكَانَتْ الصَّلاَةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الْخُطَبِ – في زَمَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم - أَمْراً مَشْهُوراً مَعْرُوفاً.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كُنَّا بِالْخَيْفِ، وَمَعَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُتْبَةَ رضي الله عنه، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْه، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَدَعَا بِدَعَوَاتٍ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى بِنَا.
(11) في قُنُوتِ الوِتْر:
عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ فِي الْوِتْر، قَالَ: ((قُلْ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْت، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْت، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْت، فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْك، وَإِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْت، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْت. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّد)) صلى الله عليه وسلم.
وَلَمَّا جَمَعَ أَمِيْرُ الْمُؤْمِنِيْنَ عُمَرُ رضي الله عنه النَّاسَ في صَلاَةِ التَّرَاوِيْح، كَانُوا يَلْعَنُونَ الْكَفَرَةَ في قُنُوتِهِم، ثُمَّ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَدْعُونَ لِلْمُسْلِمِيْن، ثُمَّ يُكَبِّرُونَ وَيَسْجُدُون.
(12) إِذَا مَرَّ ذِكْرُهُ صلى الله عليه وسلم في صَلاَةِ نَافِلَة:
قَالَ الْحَسَنُ البَصْرِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: إِذَا مَرَّ بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلْيَقِفْ، وَلْيُصَلِّ عَلَيْهِ في التَّطَوع.
وَقَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: إِنْ كَانَ في نَفْلٍ صَلَّى عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم.
(13) بَيْنَ التَّكْبِيْرَاتِ الزَّوَائِدِ في صَلاَةِ الْعِيْد:
خَرَجَ الوَلِيْدُ بْنُ عُقْبَةَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَحُذَيْفَةَ رضي الله عنهم، فَقَالَ: كَيْفَ التَّكْبِيْرُ في العِيْد ؟ قَالَ عَبْدُ الله: تَبْدَأُ، فَتُكَبِّرُ تَكْبِيْرَةً تَفْتَتِحُ بِهَا الصَّلاَة، وَتَحْمَدُ رَبَّك وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تَدْعُو وَتُكَبِّر. فَقَالاَ: صَدَقَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَن.
(14) إِذَا صَلَّى عَلَى جَنَازَة:
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ: إِنَّ السُّنَّةَ فِي صَلاَةِ الْجَنَازَةِ: أَنْ يَقْرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يُخْلِصُ فِي الدُّعَاءِ لِلْمَيِّت.
(15) في حِلَقِ الذِّكْر:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ للهِ سَيَّارَةً مِنْ الْمَلاَئِكَة، إِذَا مَرُّوا بِحِلَقِ الذِّكْرِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اقْعُدُوا ! فَإِذَا دَعَا القَوْمُ أَمَّنُوا عَلَى دُعَائِهِم، فَإِذَا صَلُّوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلُّوا مَعَهُمْ حَتَّى يَفْرَغُوا، ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: طُوبَى لِهَؤُلاَءِ يَرْجِعُونَ مَغْفُوراً لَهُم)).
(16) حَالَ الدُّعَاء في قِيَامِ اللَّيْل:
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلاَةَ عَلَيْك، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاَتِي ؟ فَقَالَ: ((مَا شِئْت)) قُلْتُ: الرُّبُع ؟ قَالَ: ((مَا شِئْت، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَك))
قُلْتُ: النِّصْف ؟ قَالَ: ((مَا شِئْت، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَك)) قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْن ؟ قَالَ:
((مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ)) قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلاَتِي كُلَّهَا ؟ قَالَ: ((إِذًا تُكْفَى هَمَّك، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُك)). وَفي رِوَايَةٍ: ((إِذاً يَكْفِيْكَ اللهُ مَا أَهَمَّكَ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِك)).
قَوْلُهُ ((أَجْعَلُ لَكَ صَلاَتِي كُلَّهَا)) أَيْ أَصْرِفُ جَمِيعَ زَمَنِ دُعَائِي لِنَفْسِي صَلاَةً عَلَيْك.
((تُكْفَى هَمَّك)) تُعْطَى مَرَامَ الدُّنْيَا وَالآخِرَة.
(17) في أَوَّلِ الدُّعَاءِ وَآخِرِهِ وَفِي أَثْنَائِه:(4/11)
عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَدْعُو فِي صَلاَتِه، لَمْ يُمَجِّدْ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((عَجِلَ هَذَا)) ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيْدِ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَالثَّنَاءِ عَلَيْه، ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاء)).
وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يُصَلِّي، فَمَجَّدَ اللَّهَ وَحَمِدَه، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((ادْعُ تُجَب، وَسَلْ تُعْط)).
وَعَنْ أَمِيْرِ الْمُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: إِذَا سَأَلْت اللَّهَ حَاجَةً فَابْدَأْ بِالصَّلاَةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ اُدْعُ بِمَا شِئْت، ثُمَّ اِخْتِمْ بِالصَّلاَةِ عَلَيْه، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِكَرَمِهِ يَقْبَلُ الصَّلاَتَيْن، وَهُوَ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَدَعَ مَا بَيْنَهُمَا.
(18) عِنْدَ زِيَارَةِ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم:
كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ وَقَفَ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَزُورُهُ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ يَمَسُّ القَبْر.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ – رَحِمَهُ الله -: ثُمَّ يَأْتِي قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَسْتَقْبِلَ جِدَارَ القَبْر، وَلاَ يَمَسَّه، وَلاَ يُقَبِّلَه، وَيَقِفَ مُتَبَاعِداً كَمَا يَقِفُ لَوْ ظَهَرَ في حَيَاتِه، بِخُشُوعٍ وَسُكُون، مُنَكِّسَ الرَّأْس، غَاضَّ البَصَر، مُسْتَحْضِراً بِقَلْبِهِ جَلاَلَةَ مَوْقِفِه، ثُمَّ يَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه، السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللهِ وَخِيْرَتِهِ مِنْ خَلْقِه، السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمَ النَّبِييّنَ وَقَائِدَ الغُرِّ الْمُحَجَّلِين، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ رِسَالاَتِ رَبِّك، وَنَصَحتَ لأُمَّتِك، وَدَعَوْتَ إِلَى سَبِيْلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوعِظَةِ الْحَسَنَة، وَعَبَدتَ اللهَ حَتَّى أَتَاكَ اليَقِين، فَجَزَاكَ اللهُ أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيَّاً وَرَسُولاً عَنْ أُمَّتِه. اللَّهُمَّ آتِهِ الوَسِيْلَةَ وَالفَضِيْلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الَّذِي وَعَدتَهُ يَغْبِطُهُ بِهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُون. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيْم، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيْد، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيْم، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيْد، اللَّهُمَّ احشُرنَا فِي زُمْرَتِه، وَتَوَفَّنَا عَلَى سُنَّتِه، وَأَوْرِدنَا حَوضَه، وَاسْقِنَا بِكَأْسِهِ مَشْرَباً رَوِّياً لاَ نَظْمَأُ بَعدَهُ أَبَداً.
ثُمَّ يَأْتِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَيَقُول: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيق، السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا عُمَرَ الفَارُوق، السَّلاَمُ عَلَيْكُمَا يَا صَاحِبَي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَضَجِيْعَيْهِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه، جَزَاكُمَا اللهُ عَنْ صُحبَةِ نَبِيِّكُمَا وَعَنْ الإِسْلاَمِ خَيْراً، سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار.
(19) بَعْدَ التَّلْبِيَة:
لأَنَّ التَّلْبِيَةَ مِنْ تَوَابِعِ الدُّعَاء، قَالَ القَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ – رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -:
كَانَ يُسْتَحَبُّ لِلْرَّجُلِ – إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ– أَنْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(20) في الطَّوَاف:
كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ؛ قَالَ: اللَّهُمَّ إِيْمَاناً بِكَ، وَتَصْدِيْقاً بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعاً لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
(21) عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَة:(4/12)
قَالَ أَمِيْرُ الْمُؤْمِنِيْنَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَبْدَأُ بِالصَّفَا، فَيَقُومَ عَلَيْهَا، وَيَسْتَقْبِلَ البَيْتِ فَيُكَبِّر سَبْعَ تَكْبِيْرَات، بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيْرَتَيْنِ حَمْدُ اللهِ عز وجل وَثَنَاءٌ عَلَيْه، وَصَلاَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْأَلَةٌ لِنَفْسِه، وَعَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلُ ذَلِك.
* فوائد الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لِلْصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَائِدُ عَظِيْمَةٌ؛ فَمِنْهَا، وَقَدْ مَرَّتْ بَعْضُ أَدِلَّتِهَا:
(1) امْتِثَالُ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
(2) صَلاَةُ وَسَلاَمُ اللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ عَلَى الْمُصَلِّي: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيْلُ آنِفاً، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد ! مِنْ صَلَّى عَلَيْكَ مَرَّةً كَتَبَ اللهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَات، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِئَات، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا عَشْرَ دَرَجَات، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ عَشْرَ مَرَّات)).
وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالْبِشْرُ يُرَى فِي وَجْهِه، فَقُلْنَا: إِنَّا لَنَرَى الْبِشْرَ فِي وَجْهِك، فَقَالَ: ((إِنَّهُ أَتَانِي مَلَكٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: أَمَا يُرْضِيكَ أَنْ لاَ يُصَلِّيَ عَلَيْكَ أَحَدٌ - مِنْ أُمَّتِكَ - إِلاَّ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَلاَ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ إِلاَّ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا)).
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ عَشْرًا)).
(3) أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى، وَالإِيْمَانَ بِه، وَالإِيْمَانَ بِرَسُولِهِ وَرِسَالَتِه، فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ الإِيْمَانَ كُلَّه، لِذَا كَانَتْ مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَال.
(4) أَنَّهَا سَبَبٌ لِهِدَايَةِ الْمُصَلِّي وَحَيَاةِ قَلْبِه.
(5) أَنَّهَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ مَحَبَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبْد.
(6) أَنَّهَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ مَحَبَّةِ العَبْدِ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
(7) أَنَّهَا سَبَبُ قُربِ العَبْدِ مِنْ رَبِّهِ يَومَ القِيَامَة.
(8) أَنَّهَا سَبَبُ قُربِ العَبْدِ مِنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
(9) أَنَّهَا أَدَاءٌ لِشَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم.
(10) أَنَّهَا دَلِيْلُ إِيْثَارِ العَبْدِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفْسِهِ حِيْنَ قَدَّمَ الصَّلاَةَ وَالسَّلاَمَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَلَبِ حَاجَاتِِه، فَيُكَافِئُهُ اللهُ تَعَالَى بِغُفْرَانِ ذُنُوبِه، وَكِفَايَتِهِ هُمُومَه، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَل.
(11) أَنَّهَا سَبَبُ مَغْفِرَةِ الذُّنُوب.
(12) أَنَّهَا سَبَبُ كَفَايَةِ اللهِ عَبْدَهُ مَا أَهَمَّه.
(13) أَنَّهَا سَبَبُ إِجَابَةِ الدُّعَاء.
(14) أَنَّهَا سَبَبُ نَيْلِ شَفَاعَتِهِ صلى الله عليه وسلم.
(15) أَنَّهَا زَكَاةٌ وَطَهَارَةٌ لِلْمُصَلِّي.
(16) أَنَّهَا تَطْيِيّبٌ لِلْمَجَالِس.
(17) أَنَّهَا تَنْفِي عَنْ العَبْدِ صِفَةَ البُخْل.
(18) أَنَّهَا تَنْفِي عَنْ العَبْدِ صِفَةَ الْجَفَاء.
(19) أَنَّهَا سَبَبٌ في أَنْ لاَ تَكُونَ الْمَجَالِسُ حَسْرَةً وَنَدَامَةً عَلَى أَصْحَابِهَا يَومَ القِيَامَة.
(20) أَنَّهَا تُنْجِي صَاحِبَهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَجَالِسُهُ أَنْتَنَ مِنْ جِيْفَة.
(21) أَنَّهَا نَجَاةٌ لِصَاحِبِهَا مِنْ أَنْ تَتَحَقَّقَ عَلَيْهِ دَعْوَةُ جِبْرِيْلَ عليه السلام وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في أَنْ يُذَلّ.
(22) أَنَّهَا نَجَاةٌ لِصَاحِبِهَا مِنْ أَنْ تَتَحَقَّقَ عَلَيْهِ دَعْوَةُ جِبْرِيْلَ عليه السلام وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في أَنْ يُبْعِدَهُ الله.
(23) أَنَّهَا نَجَاةٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُخْطِيءَ طَرِيْقَ الْجَنَّة.
(24) أَنَّهَا سَبَبٌ لِتَبْلِيْغِ الْمَلاَئِكَةِ اسْمَ الْمُصَلِّي وَالْمُسَلِّمِ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
(25) أَنَّهَا سَبَبٌ لِنَيْلِ الْمُصَلِّي رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى.
(26) أَنَّهَا سَبَبٌ لِرَدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ وَالسَّلاَمَ عَلَى مَنْ يُصَلِّي وَيُسَلِّمُ عَلَيْه.
(27) أَنَّهَا سَبَبٌ لِنَشْرِ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ عَنْ العَبْدِ في الْمَلأ الأَعْلَى.
(28) أَنَّهَا سَبَبٌ لِلْبَرَكَةِ في ذَاتِ الْمُصَلِّي، وَعَمَلِه، وَعُمُرِه، وَمَصَالِحِه.(4/13)
(29) أَنَّهَا سَبَبٌ لِتَثْبِيْتِ قَدَمِ العَبْدِ عَلَى الصِّرَاط وَالْجَوَازِ عَلَيْه. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((رَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي يَزْحَفُ عَلَى الصِّرَاطِ وَيَحْبُو أَحْيَاناً وَيَتَعَلَّقُ أَحْيَاناً، فَجَاءَتْهُ صَلاَتُهُ عَلَيَّ فَأَقَامَتْهُ عَلَى قَدَمِيْه، وَأَنْقَذَتْه)).
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ، مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِين. آمِين.
4. ... من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته: "نصرته"
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
وهو واجب على جميع المسلمين: ذكورًا وإناثًا، علماء وولاة أمر وعوامًا، قولاً وفعلاً، كل بحسب قدرته واستطاعته، أدناها بالقلب، ثم باللسان، ثم باليد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:
-(من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
وأي منكر أعظم من العدوان على مقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟!
فهو فرض على الكفاية، إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الآخرين، مع وجوب إنكار القلب في كل حال، سواء تعيّن الذبّ والنصرة أو لم يتعيّن على آحاد المؤمنين؛ لأن الإنكار القلبي علامة الإيمان.
والدليل على وجوب نصرته، قوله تعالى:
- {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. فعلّق الفلاح بالنصرة؛ فمن لم ينصره فليس من المفلحين.
- {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ..}؛ فنصرة المؤمنين واجبة، والنبي أوجب.
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }. ونصرة النبي من نصرة الله تعالى.
- وقوله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)، فهذا في حق المؤمنين، وفي حق النبي أعظم.
ووقت النصرة: وجود الظلم والعدوان على مقام النبي، صلى الله عليه وسلم، في ذاته، أو أخلاقه، أو دينه.
فمتى وجِد هذا النوع من الظلم والعدوان: وجب على المؤمنين الذبّ عنه، صلى الله عليه وسلم.
ولا يحل لهم أن يسكتوا أو يخضعوا ويرضوا..!!
فإن فعلوا ذلك؛ دلّ على خلل في إيمانهم، وضعف في ولائهم لله ورسوله، صلى الله عليه وسلم؛ فلا يرضى بالطعن في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا منافق أو كافر، أما المؤمن فيغضب ويتمعّر وجهه لأدنى من ذلك، لأذى يلقاه عوام المسلمين؛ لما بينه وبينهم من أخوة الإيمان؛ فأي عدوان على رأس المؤمنين وقائدهم ومقدمهم فهو عليه أشد وأنكى.
بل حاله كحال "خبيب بن عدي" لمّا أخرجه أهل مكة من الحرم ليقتلوه، فقال له أبو سفيان:
" أنشدك الله يا خبيب! أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك يضرب عنقه، وأنك في أهلك"؟.
فقال خبيب: "والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة، وإني جالس في أهلي".
فقال أبو سفيان: "ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا".
وسبب وجوب نصرة النبي، صلى الله عليه وسلم، أمران:
- الأول: منّته على أمته.
إذ هداهم الله تعالى به؛ فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ولولا فضل الله عليهم به لكان الناس في ضلالة وعمى، ولأصابهم من عذاب الآخرة..
وإذا كان الإنسان يحفظ جميلاً صنعه إنسان إليه: بتفريج كربة، أو وقاية من فتنة، أو محنة، أو منع مصيبة. يبقى عمره لا ينسى جميله.. يترصد، ويترقب متى يقدر على المكافأة والمجازاة بالمثل، وهذا كله في أمور الدنيا، بل في بعضها، وجزء منها، فكيف بمن كان له الجميل على الناس في:
- فتح أبواب السعادة لهم في الدنيا والآخرة.
- وتفريج كرباتهم وهمومهم بالإيمان.
- وبيان مواطن الرحمة والخير والقرب من الله تعالى.
- وإزالة ما بينهم من العداوة والشحناء والتباغض، وزرع الألفة بين قلوبهم، وعطف بعضهم على بعض.
- وإرشادهم إلى أحسن الدساتير والقوانين التي بها يسيّرون شئونهم الدنيوية.
- وإقرار العدل، ونفي الظلم ومنع أسبابه.
- وزادهم أن كان سببًا في نيلهم عظيم الثواب وجزيل الأجر في الآخرة، فما مؤمن يدخل الجنة، لينعم فيها النعيم الذي لا ينتهي، إلا وللنبي، صلى الله عليه وسلم، منّة عليه في ذلك.
فهل أحد من البشر أعظم منه منّة على العالمين؟!!
ولذا قال تعالى ممتنًا على عباده بهذا النبي:
- { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}.
- وقال النبي، صلى الله عليه وسلم، للأنصار: (ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ).
- الثاني: أن الطعن في صاحب الشريعة طعن في الشريعة ذاتها:(4/14)
والذبّ عن الشريعة واجب على كل مسلم بما يستطيع.
فهذا الذي يطعن في النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليطعن فيه لولا الشريعة التي حملها وبلّغها من عند الله تعالى، فلو كان شخصًا كسائر الناس لم يتوجّه إليه بالطعن، فما طعن فيه إلا كاره وباغض لهذا الدين؛ فنصرته إذن من نصرة الله تعالى ونصرة دينه، ليس نصرة لذاته، قال تعالى:
- { وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
الحاجة إلى نصرة النبي، صلى الله عليه وسلم، في هذا الوقت:
الحاجة متجددة؛ لتجدد الطعونات، فانتقاص النبي، صلى الله عليه وسلم، أمر قديم قِدم الإسلام، اضطلع به فريقان هما: الكافرون، والمنافقون.
اتفقا على العداوة والطعن؛ لأن دعوة الإسلام تقضي على أحلامهم وطموحهم في العلو في الأرض بغير الحق، والإفساد واتباع الهوى وعبادة الذات والمصالح الشخصية، فالإسلام يريد أن تكون الكلمة العليا في الأرض لله تعالى، والناس سواسية، لا يفضلون إلا بالتقوى، مهما تباينت أجناسهم وألوانهم ومراتبهم، والكل يجب أن يخضع لحكم الله تعالى، لا فرق بين شريف أو وضيع.
وهذه الأمور لا تعجب الفريقان؛ فلذا يعادون الإسلام، والرسول الذي جاء به وبلّغه.
فأما الكافرون فعداوتهم ظاهرة، وعداوة المنافقين مبطنة، تظهر في مواقف: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}.
الكافرون قالوا عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: شاعر، مجنون، كاهن، ساحر، يعلمه بشر، قال تعالى:
- {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}.
- { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ }.
- { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ }.
أما المنافقون فقالوا في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقبح القول، كقول مقدمهم عبد الله بن أبي ابن سلول، كما جاء في القرآن الكريم، سورة المنافقون:
- {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ }.
هذان الصنفان موجودان في كل زمان، وأهدافهم هي الأهداف نفسها، ودوافعهم هي الدوافع نفسها، فكلما شعروا بخطر الإسلام على طموحاتهم في العلو والفساد أظهروا الطعن والسب والشتم بالشريعة وصاحبها.
فالعدو الكافر المحارب اليوم يمثله الصهاينة أو الأصولية الإنجيلية، التي تقود العالم إلى خططها المهلكة، فهي التي خططت لقيام دولة إسرائيل في فلسطين؛ بزعم أن المسيح عيسى عليه السلام لن يعود إلا بعد اجتماع اليهود في فلسطين، وقيام دولة إسرائيل، وبناء هيكل سليمان، ولذا هم ماضون في هذه المهمة، وهم الذين يريدون حكم العالم، تحت دعوى العولمة، وحرب الإرهاب والخارجين عن القانون الدولي..!
وليس ثمة أحد يقف في طريقهم في تنفيذ تلك الخطط الإجرامية إلا حملة الإسلام وأتباع محمد، صلى الله عليه وسلم؛ ومن هنا سبب حنقهم وطعنهم في هذا النبي الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، بقصد تشويه صورة الإسلام؛ لإضعافه والتنفير منه، فهم يرددون اليوم ما قاله أجدادهم المستشرقون من قبل من أنه:
- سفاك للدماء، إرهابي، لم ينتشر دينه إلا بالقتل والسيف.. شهواني همه النساء.. لا يعترف بالآخر..
وغير ذلك، وغير مستغرب أن يقولوا ذلك وأكثر من ذلك؛ فقد كفروا وباعوا أنفسهم للشيطان.
وسائل النصرة:
وفي هذا الحال واجب على الأمة أن يهبوا لنصرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودينه، كل بحسب قدرته واستطاعته، ووسائل النصرة تكون من طريقين:
- الأول: بعرض سيرته، صلى الله عليه وسلم.
- الثاني: بدفع الشبهات والطعونات حوله.
الأول: عرض سيرته، صلى الله عليه وسلم.
وذلك من خلال كل الوسائل المتاحة، بالمقالة، والمطوية، والنشرة، والكتاب الصغير، والكبير، والبرامج المرئية والمسموعة، ومن خلال المدارس، والمساجد، والبيوت، والمحافل.
وعلى وسائل الإعلام الإسلامية: أن تُعنى بهذه القضية؛ فتعطيها قدرًا يتلاءم مع كونها إسلامية، ولا يليق بها أن تهمل حقوق النبي، صلى الله عليه وسلم، ونصرته في وقت ينتقص فيه من مقامه..!!(4/15)
وأضعف الإيمان أن تخصص له، صلى الله عليه وسلم، من البرامج وقتًا كسائر البرامج الأخرى؛ حتى يقف الصغير والكبير على تفاصيل سيرته وسنته، صلى الله عليه وسلم، فهذا الرجل أعظم رجل في التاريخ، وهو منا، ونحن منه، وقد فزنا به، وشرفنا بالنسبة إليه، فلا يليق بنا أن نجهل تاريخه وسيرته؛ فلا نعرف منها إلا القليل، ثم يجب التركيز حين عرض سيرته على الجانب الأهم، وهو حقيقة دعوته:
1- أنها جاءت رحمة للبشرية: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }.
2- أنها جاءت للسلام والأمن: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً }.
3- أنها جاءت لإسعاد البشرية، لا لشقائها، كما يروج لذلك الكافرون والمنافقون: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.
4- جاءت لإخراج الناس من ظلمات البغي والظلم إلى نور العدل والإحسان: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }، وكما قال ربعي ابن عامر لرستم قائد الفرس، لما سأله عن سبب مجيئهم: "إن الله ابتعثنا لإخراج العباد، من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
فقد جاء النبي، صلى الله عليه وسلم، بهذا الإسلام لتحصيل كل خير، ولمنع كل شر.
ويدل على صدق هذا: دخول الناس في الإسلام أفواجًا، ودخول كثير منهم بدون قتال، بل بالدعوة وحدها، فلولا صدق تلك المبادئ لم ينتشر الإسلام، ولم يدخل الناس فيه أفواجا، بل لو صح ادعاء أعداء الإسلام لما بقي للإسلام قائمة، ولرفضه حتى أهله، لكن الأمر عكس ذلك، فكل يوم يدخل الناس في هذا الدين عن رضا.
الثاني: دفع الشبهات والطعونات حول النبي، صلى الله عليه سلم.
كافة ما يثار حوله، صلى الله عليه وسلم، من شبهات هي قديمة، وكل السباب والشتائم والطعونات قد أجيب عنها إجابات شافية؛ لمّا طرحها المستشرقون.
والمطلوب إعادة صياغتها بأساليب ملائمة ميسرة؛ لحفظ عوام المسلمين من الانجراف خلف تلك الشبهات.
ثم إن مما ينبغي التنبه له في هذا المقام:
أن بعض ما يطرحه هؤلاء الطاعنون قاصدين تشويه صورة الإسلام، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم، هي في عرف وحكم الشريعة: حق، وصدق، وعدل.؟
كقولهم عن الإسلام:
- أنه دين لا يصحح الأديان الأخرى، ويتعالى عليها، فلا يعترف بالمساواة بينها وبين الإسلام.
وهذا عندهم من الطعونات، وهو عند المسلمين من الحقائق، ومما دله عليه كلام ربهم سبحانه وتعالى:
- { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ }.
- { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }.
- { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }.
- وقال صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ).
نعم من أصول الإسلام، أنه يعلو ولا يعلى عليه..
فهو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، ولم يرتضِ لهم غيره..
وهو الذي يقبله ولا يقبل غيره، حتى لو كانت اليهودية والنصرانية..
فهو شامل خاتم باقٍ إلى قيام الساعة..
فلو كان ثمة شريعة من الشرائع السابقة صحيحة باقية دون تحريف إلى اليوم لكان الإسلام أحسن منها، وعلى أتباعها تركها واتباع الإسلام؛ لأنه الناسخ لجميع الشرائع السابقة..
فكيف الحال إذا كانت محرّفة مبدّلة، قد تبرأ الله منها، وحكم بضلال أتباعها؟!
فالإسلام هو الدين الصحيح، ولا دين صحيح غيره؛ فاليهودية محرّفة والنصرانية كذلك، دع عنك ما سواهما، والإسلام خاتم لجميع ما سبق، للناس كافة، فلا دين غيره يقبل الله به.
وعلى المسلمين أن يعلموا هذا ويتمسكوا به، وليس لهم خيار غيره، إن أرادوا البقاء مسلمين.
فإذا جاءهم من يجعل هذه الخاصية للإسلام طعنًا وذمًا، فهذا دينه هو..!!
وليس لنا أن ندفع تهمة بإلغاء أصل من أصول الإسلام، كما يفعل البعض حينما يزعم أن النصرانية واليهودية والإسلام في مرتبة سواء لا فرق بينها، يريد أن يذبّ عن الإسلام، فهذا من أبطل الباطل، فالدفاع عن الحق لا يكون بإحقاق الباطل بل بإبطاله، ودفاعنا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما يكون بتقرير الدين كما جاء به دون تحريف، لا بتحريف ما جاء به فذلك ليس دفاعًا، بل خدمة تُقدم للطاعنين فيه، وليس شيء أفرح لقلوبهم: من أن يقرّ لهم المسلمون بصحة دينهم الباطل بخبر الله تعالى.
5. ... كتاب "التأدب مع الرسول في ضوء الكتاب والسنة" [الجزء الأول]
بسم الله الرحمن الرحيم
التأدب مع رسول الله في ضوء الكتاب والسنة
تأليف/ حسن نور حسن
شكر وتقدير:(4/16)
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد.. فإن شكر النعمة أمر واجب لمعطيها ولمن كان سببًا لها لقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
ومن هذا المنطلق، أشكر الله تعالى على ما أسداه إليّ من نعم وفضل وبخاصة نعمة التوفيق والانتساب لجامعة أم القرى العريقة لأنهل من مواردها الصافية وبخاصة في مجال دراسة علوم القرآن والحديث.
وبعد شكر الله تعالى أتوجه بالشكر لعباده الخيرين القائمين على أمر كلية الدعوة وأصول الدين وعلى رأسهم سعادة عميد الكلية وسعادة وكيله وسعادة رئيس قسم الكتاب والسنة.
ولا يفوتني أن أوجه الشكر لسعادة الأستاذ الدكتور أحمد أحمد علوش على ما بذله معي في هذه الرسالة من نصح خالص وتوجيه سديد وإرشاد مستمر، وتشجيع صادق.
كما أني أشكر الأخ الفاضل الذي سعى إلى طبع هذه الرسالة والله أسأل أن يجزيه عني خير الجزاء.
وأخيرًا وليس آخرًا أشكر للقائمين على إدارة دار المجتمع بجدة التي تولت طبع هذه الرسالة.
وختامًا أشكر لكل من ساعدني ولو بالدعاء والأماني الطيبة وجزى الله الجميع خيرًا والله الموفق.
المؤلف
المقدّمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنّ لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد: فإنّ كل مسلم مخلص يجد نفسه مرتبطًا برسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الفضل في إيصال الإسلام إلى الناس كافة فهو الذي بواسطته جاء الوحي بشقيه القرآن والسنة إلى البشر أجمعين، يأخذون منهما منهج السعادة في الدنيا والآخرة.
وقد أراد الله ـ سبحانه وتعالى ـ بفضله ومنّه الخير لي إذ جعلني من طلاب العلم الذين يدرسون العلوم الشرعية، وبالأخص علوم القرآن الكريم والسنة النبوية اللذين هما مصدرا الإسلام الأساسيان.
وهذه نعمة من نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:18].
وأشكر الله على ذلك آملاً في المزيد.
{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
وقد ازداد هذا الخير بأن مكّنني الله من الاستمرار في نفس التخصص في مرحلة الدراسات العليا؛ حيث قبلت بالدراسات العليا الشرعية بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى فرع الكتاب والسنة في بلد الله الحرام الذي تهوى إليه أفئدة المؤمنين من أنحاء المعمورة تحقيقًا لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام كما حكى لنا القرآن الكريم: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
وهذه نعمة أخرى أحمد الله سبحانه وتعالى عليها وأشكره وأنا راض سعيد، حيث ازدادت صلتي بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحققت أمنيتي بالاستمرار في هذا الطريق الحبيب.
ولمّا حان موعد كتابة رسالة الماجستير لم أجد أفضل من أن أعيش مع صاحب الرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله أسوة وقدوة للمؤمنين ليقتدوا به. حيث يقول سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
وقد عشت مع هذا الأمل ووفقني الله لاختيار موضوع: (التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ضوء الكتاب والسنة) عساي أن أوضح هذا الجانب الهام الذي يحتاج إليه البشر عمومًا والمسلمون على وجه الخصوص.
وأهمية كل دراسة ترتبط بموضوعها، وبذلك يأخذ موضوعي هذا أهمية كبرى لتعلقه بأسلوب التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وتعاليمه حيًا وميتا.
فلقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق للناس جميعًا، يدعوهم للهدى، ويوجههم للخير، ويحرص على تحقيق المصلحة يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28].
ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:4546].
ويقول تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].(4/17)
ويقول تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فضل على أمته، فلقد بلغهم الوحي ونصحهم وأتم لهم الدين وكمل لهم الرسالة وأدى الأمانة المكلف بها من قبل الله على أتم وجه بشهادة الصحابة في حجة الوداع حينما قال لهم أثناء خطبته بوادي عرنة يوم عرفة قال: (وأنتم مسؤولون عنّى فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنّك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها[1] إلى الناس: اللهم أشهد اللهم أشهد) ثلاث مرات[2].
وقد منّ الله على المؤمنين ببعثه صلى الله عليه وسلم فيهم معلمًا ومزكيًا ورسولاً يأخذهم إلى طريق الفوز والنجاة.
يقول تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
يقول بعض المفسرين: (اعلم أنّ بعثة الرسول إحسان من الله إلى الخلق، ثم أنّها لمّا كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الإنعام في بعثه الرسل أكثر. وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت مشتملة على الأمرين:
أحدهما: المنافع الحاصلة من أصل البعثة.
الثاني: المنافع الحاصلة بسبب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره.
أما المنفعة بسبب أصل البعثة فهي التي ذكرها الله تعالى في قوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:165].
وأمّا المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمد صلى الله عليه وسلم من الصفات فأمور ذكرها الله تعالى في هذه الآية)[3].
والخصال التي تشير إليها هذه الآية هي: أنّه صلى الله عليه وسلم من أنفسهم لا من غيرهم من الأجناس الأخرى من الأمم ولا من المخلوقات الأخرى كالملائكة وأنّه يبلغ إليهم الوحي ويزكيهم من كل مخلفات الجاهلية من عبادة الأصنام والأوثان ويعلمهم القرآن والسنة مع أنهم كانوا قومًا أميين كما تشير إليه آية أخرى وهي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
وكما منّ الله تعالى على المؤمنين ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم، وجههم إلى ضرورة التأدّب معه وذلك يتم بعدة وجوه تشير إليها الآيات التالية: يقول تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1].
ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:2].
ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
ويقول تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63].
ومجمل الآيات يوضح مسؤولية المسلم إزاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من ناحية الطاعة العملية والاعتقاد القلبي والسلوك الخلقي والكيفية التي يجب على المسلم أن يتعامل بها مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع شرعه حيًّا وميّتا. وعلى الجملة أهمية الموضوع تنحصر فيما يلي:
أولاً: أنّ المسلم يجد نفسه مرتبطًا برسول الله صلى الله عليه وسلم بذكره آناء الليل وأطراف النهار، فهو يشهد له بالرسالة في كلمة التوحيد وفي التشهد وفي الأذان ويصلي عليه في الصلوات المكررة كل يوم ويراه في كل عبادة، وحياة المؤمن كلها عبادة وحيث أنّ الأمر كذلك فهو في حاجة إلى أن يعرف مقام رسول الله بحق حتى يتأدب معه بطريقة مشروعة وبمنهج مثاب عليه.
ثانيًا: هنالك من الناس من يغفل عن التأدب مع رسول الله ـ عن جهل أو عن تقصير ـ ويحتاج هذا الأمر إلى بيان كيفية التأدب مع رسول الله لكي يلتزم المقصر باقتناع ويصحو الغافل بعلم.
ثالثًا: وهناك فريق من المسلمين يغالون في التأدّب مع الرسول ويتصورون المغالاة دينًا، ولذا وجب أن يحدد الأدب المشروع بدليله الصحيح لتبطل المغالاة، ويستقيم الناس على الحق والصواب.(4/18)
رابعًا: ظهرت بعض مذاهب منحرفة تدعي حب الرسول والتوجه إليه بأدب، وتخترع في سبيل ذلك شرائع وعقائد بقصد تشويه تعاليم الإسلام الصحيحة، وصرف المسلمين عن حقيقة الإسلام وتطبيقاته، وهذا أمر يحتاج إلى التصدي بالعلم وبالأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة ليتبين الرشد من الغي ويحيا من يحيا عن بيّنة، ويضل من يضل عن بينة كذلك.
خامسًا: الأدب مع الرسول بصورة عامة من القضايا التي يحتاج إليها كل مسلم في كل عصر ومصر، ولذا فإن جمعه في مؤلف واحد يوضح الطريق وييسر الاستفادة أمر يستحق الاهتمام وخاصة في عصرنا الحاضر المليء بالنظريات الهدامة.
ولتحقيق تلك الأهداف التي أشرت إليها اتبعت منهجًا علميًا يعتمد على الأسس التالية:
(أ) قسّمت الموضوع إلى أبواب وفصول ومباحث حسب ما تتطلبه الدراسية وعلى ضوء التسلسل العلمي السليم.
(ب) في كل مبحث أبيّن المراد منه ثم أوضّح آراء العلماء فيه.
(ج) أورد أدلة كل فريق من العلماء في المسائل المختلف فيها مع توجيه الأدلة نحو الرأي التي سيقت له كما ذكر العلماء أنفسهم.
(د) أعقد مناقشة بين الأدلة وذلك بمواجهة أدلة كل فريق بأدلة معارضيه.
(هـ) انتهي من المسألة ببيان الرأي الراجح مع بيان وجه الترجيح.
وقد اعتمدت على القرآن الكريم والسنة النبوية وعلى عديد من المصادر والمراجع الأصلية التي لها صلة بالموضوع ككتب التفسير وكتب السنة وشروحها وكتب السيرة والمغازي وكتب الشمائل والخصائص وكتب العقيدة والفرق، وكتب الفقه وأصوله، وغيرها من الكتب.
(و) بالنسبة لآيات القرآن وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم فسوف أجعلها في قوسين، واحد في بدايتها وآخر في نهايتها مع وضع نقاط في البداية إذا كان النص جزءًا ممّا قبله، وأمّا إذا كان ما بعده جزءًا منه فسوف أضع النقاط في آخر الكلام لبيان أنّ النص لم ينقل بأكمله، وأمّا إذا حذفت بعض النص من الوسط فسوف أضع النقط في الوسط للعلة نفسها بشرط أن يكون الحديث من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة للنصوص المقتبسة من غير القرآن الكريم والسنة النبوية فسوف أحصرها بعلامات الاقتباس "" هكذا مع وضع النقاط في مواطن الحذف التي أشرت إليها.
وكل هذا في النصوص التي لم أتعرض لها بالتصرف، وأمّا إذا أحلتها إلى أسلوبي الخاص فسوف أكتفي بالإشارة إلى مصدرها أو مرجعها في الهامش مع الذكر أني تصرفت فيها تحقيقا للأمانة العلمية.
وسوف أقوم أيضًا بعزو كل نص مقتبس إلى موضعه الأصلي وفق المنهج الآتي:
أولاً: النصوص القرآنية: أشير في الهامش إلى اسم السورة ورقم الآية.
ثانيًا: أما النصوص النبوية فسوف أقوم بعزوها إلى مصادرها الأصلية مكتفيًا بمصدر واحد إذا لم يكن هناك ما يقتضي ذكر أكثر من مصدر مع الإشارة إلى اسم الكتاب والباب والجزء والصفحة في الهامش.
وبالنسبة لدرجة الحديث، فسوف أذكر من نص من الأئمة على ذلك صحة وضعفًا إذا كان في غير الصحيحين لاتفاق الأمة على قبول ما ورد فيهما مرفوعًا مسندًا.
ومن ناحية أسانيد الأحاديث فلا أتطرق إلى رجالها إلا ما ورد في الباب الثالث من هذه الرسالة وخاصة أسانيد الأحاديث من طرف الخصم المرجوح مع الاكتفاء بذكر الرجل المجروح من قبل أئمة هذا الشأن لا كل الرجال في السند لحصول الغرض بواحد أو اثنين منهم في مقام التضعيف والرد بعكس ما هو مطلوب في مقام التصحيح والقبول إذ أن وجود رجل واحد في السند يكفي لرد قبول الاحتجاج بالحديث وليس العكس كما هو معلوم.
من ناحية النصوص المقتبسة من كتب المعاجم والقواميس فأذكر المادة أحيانًا مع الإشارة إلى اسم الكتاب والجزء والصفحة.
من ناحية النصوص المقتبسة من المراجع والمصادر غير ما ذكرت فسوف أقوم بعزوها إلى مرجعها مع الإشارة إلى الاسم المتعارف عليه للكتاب والجزء والصفحة في الهامش وأؤخر اسم الكتاب كاملاً في ثبت المراجع مع ذكر الطبعة وتاريخها ودار النشر ومكانها إن أمكن.
بالنسبة لمؤلفي المصادر والمراجع فلا أتطرق إلى الترجمة لكل واحد بل أكتفي بذكر اسمه المشهور مع كتابه في أول وروده وأؤخر ذكر اسمه الكامل مع كتابه في ثبت المراجع إذا كان المؤلف من المشهورين أو المعاصرين، وأمّا غيرهم فسوف أضيف إلى ذلك ترجمة موجزة لهم أذكر فيها أسماءهم كاملة وتاريخ ولادتهم ووفاتهم كلما أمكن ذلك.
هذا هو المنهج الذي اتبعته مع النصوص الواردة في هذا البحث، وقد جاء مشتملاً على مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة.
ففي المقدمة: تحدثت عن أهمية الموضوع وسبب اختياري له، والمنهج الذي اتبعت في بحثه، وأهم المشاكل التي واجهتني وخطة البحث بإجمال.
وأما في التمهيد: فقد تحدثت فيه عن تعريف الأدب في اللغة وفي الاصطلاح وضرورة الالتزام بالتأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم بما جاء في القرآَن الكريم والسنة النبوية الثابتة.(4/19)
وفي الباب الأول: تحدثت فيه عن أسباب قيام الأمة بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت فيه نسبه الطاهر وتربيته وأهم صفاته قبل النبوة وبعد النبوة ومواقفه من المشركين المعاندين لرسالته من احتمال الأذى وعدم خضوعه لمغرياتهم، وإكمال الدين على يديه.
وفي الباب الثاني: وهو أهم الأبواب فقد تحدثت فيه عن أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قسّمتها إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الأدب القلبي ـ وهو ما كان محله القلب كالإيمان بنبوته ـ صلى الله عليه وسلم ومحبته.
النوع الثاني: الأدب القولي ـ وهو ما كان محله اللسان ـ مثل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الثالث: الأدب العملي ـ وهو ما كان محله الجوارح غير اللسان ـ مثل اتباعه صلى الله عليه وسلم وتنفيذ أمره.
وفي الباب الثالث: فقد تحدثت فيه عمّا ينافي التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان يقصد فاعله التأدب بعينه عن جهل أو تأويل أو غير ذلك مثل الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم وشد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم دون مسجده وغيرها من البدع الأخرى التي تصحب ذلك أو تفعل في مسجده صلى الله عليه وسلم.
وفي الخاتمة: فقد ذكرت أهم النتائج التي توصلت إليها أثناء البحث.
ولا شك أنّ عملاً كهذا يتطلب جهدًا كبيرًا لإنجازه حتى يخرج إلى حيز الوجود في أكمل صورته.
وقد بذلت جهدًا متواصلاً تجاه هذا البحث مع أنّي لاقيت صعوبات كثيرة وأهمها ما هو متعلق بمراجع الموضوع من بحث وتنقيب في الكتب المطبوعة وغير المطبوعة ومن تنسيق وترتيب واستنباط وغير ذلك. وأخيرًا: أسجل هنا أهم الصعوبات التي واجهتني:
(أ) لم أجد من تكلم عن هذا الموضوع في مؤلف واحد مما كلفني مراجعة بطون الكتب التي لها صلة بهذا الموضوع من قريب ومن بعيد ككتب التفسير وكتب الحديث وشروحها وكتب السيرة والمغازي وكتب الشمائل وغير ذلك من مطبوع ومخطوط.
(ب) الذين تطرقوا إلى موضوع من مواضيع هذه الرسالة ينقسمون إلى فئتين:
الفئة الأولى: تذكر النصوص الواردة في المسألة من القرآن والسنة سردًا دون تعليق.
وأما الفئة الثانية: فهي على نقيض ذلك إذ تخصص كتابًا كاملاً لموضوع من مواضيع رسالتي وتتكلم عنه بالتفصيل، وحينئذٍ أجد صعوبة في استخلاص المعلومات التي تتمشى مع حجم رسالتي وخاصة المبحث الذي خصصت لتلك المسألة إذ أنّ كتابًا واحدًا من تلك المؤلفات يوازي ما في هذه الرسالة أو أكثر، فما بال المبحث الذي هو جزء من فصل ضمن باب من رسالة مكونة من عدة أبواب.
(ج) بعض المراجع لهذا الموضوع ما زالت مخطوطة ولم أتمكن من الوصول إليها، ولذلك اضطررت إلى اقتباس بعض النصوص المعزوة إلى تلك المخطوطات من مراجع فرعية.
(د) بعض المراجع التي رجعت إليها واقتبست منها يعزو أصحابها بعض النصوص التي لها علاقة وثيقة بالموضوع إلى شخص غير مشهور ويذكرون كنيته أو نسبته إلى قبيلة، أو بلد دون المؤلف أو الاسم الكامل للشخص والقرن الذي عاش فيه مع أنّ هذه النسبة أو الكنية مشتركة بين عدة أشخاص عاشوا قبل صاحب ذلك المرجع أو من أقرانه، وحينئذ أجد صعوبة في الوصول إلى الشخص المقصود منهم.
التمهيد
يحتاج موضوع بحثي هذا (التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم) إلى بيان بعض المسائل التي تبيّن المراد منه حتى تكون الدراسة محددة من ناحية الموضوع ومن ناحية الهدف معًا.
وهذه المسائل هي:
1 بيان المراد بالتأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
2 ضرورة الالتزام في التأدّب معه صلى الله عليه وسلم بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية.
وسوف أتناول بحث هاتين النقطتين فيما يلي:
1 بيان المراد بالتأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
التأدب مصدر من الفعل الخماسي (تأدّب) بتشديد الدال، وله معان متعددة يشترك فيها مع كلمة الأدب مع الزيادة بسبب ما فيه من تضعيف. ولذا حسن أن أبدأ ببيان معنى الأدب أولاً، وبعدها أبيّن معنى التأدّب مع ملاحظة الفرق بين الصيغتين.
أ الأدب في اللغة:
يقول ابن فارس[4]: (الهمزة والدال والباء أصل واحد تتفرع مسائله وترجع إليه، فالأدْب أن تجمع الناس إلى طعامك، ومن هذا القياس، الأدب أيضًا لأنّه مجمع على استحسانه...)[5].
ولهذا قال ابن منظور[6]: (أصل الأدب الدعاء)[7].
هذا أصل كلمة الأدب، وأمّا عن اشتقاقها، فيقول الجواليقي[8]: (واشتقاقه من شيئين يجوز أن يكون من الأدب وهو العجب، ومن الأدب مصدر قولك: أدب فلان القوم يؤدبهم أدبًا بالكسر إذا دعاهم... ثم قال: فإذا كانت من الأدب الذي هو العجب فكأنّه الشيء الذي يعجب منه لحسنه ولأنّ صاحبه هو الرجل الذي يعجب منه لفضله، وإذا كان من الأدب الذي هو العجب فكأنه الشيء الذي يدعو الناس إلى المحامد والفضل وينهاهم عن المقابح والجهل)[9].(4/20)
وأمّا عن استعمالاتها فيقول الشيخ أحمد رضا: (الأدب: ملكة تقصى من قامت به عن كل ما يشينه، ويقع على كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان من فضيلة من الفضائل: حسن الخلق، فعل المكارم، الظرف، حسن التناول، وهذا كله أدب النفس. والأدب: درس العلوم العربية مولد، وهذا أدب الدرس)[10].
ولهذا قال الجوهري[11]: (الأدب: أدب النفس والدرس، تقول منه: أدب الرجل بالضم فهو أديب وأدّبته فتأدّب)[12].
ومعنى ذلك أنّ لكلمة الأدب استعمالين: حسن الخلق ودرس العلوم العربية.
وهذا ما عبّر عنه ابن هذيل [13] بالأدب الطبيعي والأدب الكسبي، حيث قال:
فالطبيعي: ما يفطر عليه الإنسان من الأخلاق الحسنة السنية والاتصاف بالصفات المرضية مثل الحلم والكرم وحسن الخلق والحياء والتواضع والصدق وغير ذلك من الصفات الحميدة.
والكسبي: فهو ما يكتسبه الإنسان بالدرس والقراءة والحفظ والنظر، وهو عبارة عن ستة أشياء: الكتاب والسنة والنحو، واللغة والشعر، وأيام الناس)[14].
والاستعمال الأول هو الشائع ولهذا قال الجواليقي: (والأدب الذي كانت العرب تعرفه هو ما يحسن من الأخلاق وفعل المكارم مثل ترك السفه، وبذل المجهود وحسن اللقاء)[15].
وأمّا الاستعمال الثاني: فهو اصطلاح مولد جاء بعد الإسلام.
يقول الجواليقي: (واصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة على أنّ يسمّوا العالم بالنحو والشعر وعلوم العربية أديبًا، ويسمون هذه العلوم أدبًا. وذلك كلام مولد، لأنّ هذه العلوم حدثت في الإسلام).
وخلاصة القول أنّ كلمة الأدب كانت تطلق عند العرب على الأخلاق الحسنة، وأمّا بعد الإسلام فقد أطلق بجانب ذلك على الكلام الحسن والجيد من الأقوال سواء كان نثرًا أو شعرًا.
والاستعمال الأول هو الذي يتمشى مع مقامنا هذا.
ولهذا نقول: إنّ كلمة الأدب في بحثي هذا تعني الأخلاق الحسنة والاتصاف بالصفات الحميدة.
وعلى ضوء معنى الأدب المذكور يمكن فهم المراد من التأدّب لأنّهما من أصل واحد، ويشتركان في معانٍ كثيرة مع ملاحظة ما بين الصيغتين تركيبًا ومعنى؛ لأنّ الأولى من المجرد، والثانية من المزيد. لأنّه يقال: إنّ الزيادة في المبنى تفيد الزيادة في المعنى غالبًا.
وكلمة تأدّب وزنها تفعّل، في الميزان الصرفي، وهي تأتي لعدة معان ولكن المعنى الذي يتمشى مع مقامنا هذا هو أنّها مطاوع أدّب على وزن (فعّل) لأنّه يقال: أدّبته فتأدّب أي تلقى الأدب، والتأدّب مصدرها. وعلى هذا فمعنى التأدّب: المبالغة في التخلق بالصفات الحسنة والمكارم الجميلة.
ب الأدب في اصطلاح الشرع:
وكلمة الأدب في اصطلاح الشرع لا تخرج عن المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه آنفًا.
ولهذا قال الجرجاني[16]: (الأدب عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ، وأدب القاضي، وهو ما ندب إليه الشرع من بسط العدل ورفع الظلم وترك الميل)[17].
ويقول صاحب البحر الرائق[18]: (كتاب أدب القاضي: أي ما ينبغي للقاضي أن يفعله وما ينبغي أن ينتهي عنه، والأولى التعبير بالملكة؛ لأنها الصفة الراسخة للنفس فما لم يكن كذلك لا يكون أدبًا كما لا يخفى)[19].
وكلمة الأدب في التعريفين السابقين تعني الاتصاف بالأخلاق الجميلة، والاحتراز عما يقابلها من سفاسف الأمور.
وهذا هو المعنى المتبادر من إطلاقها إلاّ أنّها قد تطلق على المظهر الخارجي للخلق.
يقول محمد جمال الدين رفعت في التفريق بين الأدب والخلق: (فكلمة الآداب تعني السلوك كما تعني الأسلوب الذي يسير عليه الإنسان في تصرفاته الشخصية أو حين يتعامل مع الناس.. أمّا كلمة الأخلاق فتطلق لغة على الطبع والسجية والعادة بل وعلى غريزة الإنسان العاقلة)[20].
وخلاصة القول، أنّ كلمة الأدب تعني المظهر الخارجي للأخلاق الجميلة أو السلوك الذي ينبغي أن يراعي الشخص مع غيره.
ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وحقيقة الأدب استعمال الخلق الجميل)[21].
وأما كلمة التأدّب في عنوان رسالتنا فنقصد بها ـ استنتاجًا مما سبق من معنى كلمة الأدب ـ ما ينبني أن يفعله المسلم تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبًا وإيجابًا مما يدخل في حقوقه على الأمة من احترام وتقدير وطاعة وأتباع وغير ذلك والاحتراز مما يخالف ذلك من مخالفة ورفع الصوت وغيرها.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (فرأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولاً أو يحمله شبهة أو شكًا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه)[22].(4/21)
2 ضرورة الالتزام في التأدب بما جاء في القرآن والسنة:
إن هذا الدين الذي لا يقبل عند الله سواه له أصلان هما الكتاب والسنة النبوية الثابتة.
يقول الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
وهذان المصدران هما القرآن الكريم والسنة النبوية.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59].
والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله هو الرد إليه في حال حياته وإلى سنته في حال وفاته كما قال المفسرون.
كما أنّهما المصدران اللذان تركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرنا بالتمسك بهما لئلا نضل بقوله صلى الله عليه وسلم:
(تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي)[23].
وعلى هذا الأساس فهذا الدين غني عن الزيادة والإضافة أيًا كان نوعها، بعدما أكمله الله سبحانه وتعالى كما تشير آية المائدة وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
وقد لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى بعد نزول هذه الآية بأشهر.
وبناء على هذا، عندما نتعامل أو نتأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب أن نلتزم بما جاء في القرآن وفي السنة النبوية الثابتة دون أن نختلق من تلقاء أنفسنا أمورًا لم تثبت عن الشارع بقصد حسن النية ثم التقرب بها إلى الله راجيًا منه الثواب والمغفرة؛ لأنّ الأمور التي يتقرب بها المسلم إلى الله لا بد أن تجتمع فيها أربعة شروط:
1 أن تكون مشروعة بنص من الكتاب أو السنة الثابتة أو باجتهاد معتمد عليه.
2 أن تقع في الحدود المقرر لها من الزمان والمكان.
3 أن تقع بالكيفية التي أمر بها الشارع.
4 الإخلاص في القربى إلى الله تعالى.
وإذا انتفى شرط من هذه الشروط فلا تعتبر قربة بل تكون بدعة حينئذ.
ونحن نرى اليوم أناسًا يغالون في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدح يرفعونه إلى مرتبة الألوهية أو يصفونه بصفات لا تليق إلا بالله أو يطلبون طلبات لا دخل له في حصولها أثناء حياته فضلاً عن بعد مماته صلى الله عليه وسلم.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الغلو بقوله: (لا تطروني [24] كما أطرت النصارى ابن مريم فإنّما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله)[25].
وعندما نرفض الغلو في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعني بالضرورة أن نقصر في توقيره وتعظيمه وحبه ولكن نعني أن نلتزم بما هو مشروع في حقه صلى الله عليه وسلم دون إفراط أو تفريط بعيدين عن الغلو والتقصير لنتصف بالوسطية التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
ومعنى الوسطية هنا الخيار والأجود ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات[26].
ومع هذا فلا نضطر بالضرورة عندما نرد على المغالين إلى أن نصف الرسول صلى الله عليه وسلم بصفات قد وصفه بها الشارع دون أن نبيّن معناها من جميع الجهات.
مثال ذلك: أن نقول أن الرسول بشر ونجتهد في إثباتها مستدلين بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110].
والمثلية يقصد بها هنا أنه يعتريه ما يعتري الإنسان من جوع وظمأ ومرض غير منفر وغير ذلك ولكن هو بشر يوحى إليه كما تدل عليه بقية الآية.
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...} [الكهف:110].
لأنّ المثلية قد يفهم منها أنّه كآحاد الناس إذا لم نبيّن القصد من ذلك...
وغالبًا عندما يريد شخص أن يصحّح انحرافاَ معينًا ويجتهد في تصحيحه قد يقع في انحراف آخر مضاد للأول دون أن يشعر بذلك.(4/22)
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: (إن استحضار انحراف معين أو نقص معين والاستغراق في دفعه... منهج شديد الخطر، وله معقباته في إنشاء انحراف جديد لدفع انحراف قديم، والانحراف انحراف على كل حال[27]. ثم ضرب مثلاً لذلك قائلاً: (يتّعمد بعض الصليبيين والصهيونيين مثلاً أن يتهم الإسلام بأنّه دين السيف، وأنّه انتشر بحد السيف فيقوم منّا مدافعون عن الإسلام يدفعون عنه هذا الاتهام، وبينما هم مشتطون في حماسة (الدفاع) يسقطون قيمة (الجهاد) في الإسلام، ويضيقون نطاقه ويعتذرون عن كل حركة من حركاته بأنّها كانت لمجرد (الدفاع)! بمعناه الاصطلاحي الحاضر الضيق! وينسون أنّ للإسلام بوصفه المنهج الإلهي الأخير للبشرية حقه الأصيل في أن يقيم (نظامه) الخاص في الأرض لتستمتع البشرية كلها بخيرات هذا النظام بحرية العقيدة التي اختارها حيث (لا إكراه في الدين) من ناحية العقيدة أمّا إقامة (النظام الإسلامي) ليظلل البشرية كلها ممن يعتنقون عقيدة الإسلام وممن لا يعتنقوها فتقتضي الجهاد لإنشاء هذا النظام وصيانته، وترك الناس أحرارًا في عقائدهم الخاصة في نطاقه، ولا يتم ذلك إلاّ بإقامة سلطان خير وقانون خير ونظام يحسب حسابه كل من يفكر في الاعتداء على حرية الدعوة وحرية الاعتقاد في الأرض)[28].
وهكذا شأن بعض الذين يردون على المغالين في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يصفونه بالبشرية دون أن يصفوه بالرسالة؛ ويجتهدون في إثبات ذلك الجانب دون قصد إلى تقليل قيمة الرسول صلى الله عليه وسلم بل إلى نفي غلو هؤلاء المغالين عنه إلا أن المغالين بدورهم يأخذون عبارات هؤلاء التي ظاهرها الجفاء ومن ثم يكيلون لهم شتائم عدة ويصفونهم بأنهم جفاة وأنّه نزع من قلوبهم حب الرسول صلى الله عليه وسلم بينما حبّه هو الاتباع لما جاء به صلى الله عليه وسلم.
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ...} [آل عمران:31].
وعلى هذا يجب على المسلم الغيور على دينه أن يلتزم بما شرعه الله سبحانه وتعالى حين يرد على غيره، وحين يصحح انحرافًا معينًا حق لا يقع في انحراف آخر مقابل تصحيح انحراف قديم.
ويجب على المسلم ـ أيضًا ـ أن يلتزم بصورة دقيقة بكل ما ثبتت مشروعيته في كل حياته بصورة عامة، وبما يتصل بالتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة لأنّ ذلك حق وهو الصراط المستقيم.
الباب الأول
أسباب قيام الأمة بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم
الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب فضل كبير على أمته لأنه صلى الله عليه وسلم بواسطته وصل إلينا الوحي بشقيه القرآن الكريم والسنة النبوية اللذين هما مصدرا الشريعة الإسلامية وأساس الدين كله.
ووصول الوحي إلى الناس لم يتم بسهولة ويسر، وإنّما تم بجهود متواصلة وصبر كبير وتحمّل لمشقات متنوعة من صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
وقد تحمّل عليه الصلاة والسلام هذه كلها حتى تحقق منهج الله سبحانه وتعالى في الأرض وكمل الدين وتمّت النعمة.
يقول تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
وبتمام النعمة قامت الأمة وتحقق وعد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بالاستخلاف والتمكين في الأرض.
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
وتقديرًا لهذه النعمة التي أنعم الله بها على المؤمنين عليهم أن يشكروا الله ويعرفوا حق صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
ولا يتم الشكر والعرفان إلاّ بالتأدب معه صلى الله عليه وسلم حيًّا وميّتًا، سرًا وجهرًا، في المنشط والمكره.
وهناك من الأسباب الأخرى ما يدفع إلى ضرورة التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك ككرم محتذه، ورفعة نسبه، واتصافه بالأخلاق الكريمة وتمتعه بالصفات النبيلة طوال حياته عليه الصلاة والسلام. ومنها أيضًا ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من صفات ساعدت على نشر الدين، وتبليغ الأمانة.
وفي هذا الباب سوف أتكلم عن الأسباب التي من أجلها كان التأدّب معه صلى الله عليه وسلم وهي في مجملها ترجع إلى أمرين:
أولهما: ما يرجع إلى ذاته صلى الله عليه وسلم من ناحية عراقة الأصل، وكرم الخلق في تبليغ الله تعالى.
ثانيهما: ما يرجع إلى عمله صلى الله عليه وسلم وحرصه على هداية الناس وإسعادهم بمنهج الله تعالى.
وقد عقدت لكل من الأمرين فصلاً مستقلاً: ولذلك اشتمل الباب على الفصلين التاليين:
الفصل الأول: نسبه وصفاته صلى الله عليه وسلم.(4/23)
الفصل الثاني: عمله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة وحرصه على هداية الناس. وسيأتي تفصيل ذلك فيما يلي بمشيئة الله تعالى.
الفصل الأول
نسبه صلى الله عليه وسلم ونشأته وصفاته
منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى أبا البشر آدم عليه السلام وأهبطه هو وزوجه إلى الأرض لم يترك الناس سدى يتصرفون برؤية عقولهم واتجاهاتهم لأن عقل البشر مهما كانت قدرته قاصر عن إدراك الطريق المستقيم ومعرفة الحق بصورة تامة، وإن أدرك بعض الجوانب بالفطرة التي فطر الله الناس عليها.
ولكي تستقيم الفطرة وتكمل نحو الأفضل كانت تأتي هداية الله سبحانه وتعالى للناس متتابعة على ألسنة الرسل عليهم السلام فكلما انحرفت البشرية عن طريق الله القويم جاءها مبعوث من الله سبحانه وتعالى لهدايتها، ودعوتها.
يقول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].
فكل أمة جاءها رسول من بينها مبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا مضيئًا ينير الطريق. ويهدي للتي هي أقوم. وبذلك تقوم الحجةعلى الناس.
يقول تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: (أنّه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة، وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه لئلا يبقى للمعتذر عذر)[29].
ومما يؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله من أجل ذلك حرّم الفواحش، وليس أحد أحب إيه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل)[30].
وكانت الرسل قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم يأتون أقوامهم خاصة ليكون التبليغ مناسبًا للناس، وليدينوا الله بشريعة يستطيعون القيام بتكاليفها. وقد ختم الله سبحانه وتعالى الرسل عليهم الصلاة والسلام بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة رحمة لهم.
يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28].
ويقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
وبذلك بعث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم للناس جميعًا وختم الله به الرسل وقضى باستمرار رسالته إلى يوم القيامة. وأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم اللبنة الأخيرة في البناء العظيم الذي يمثل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لبناته. كما أخبر صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأجمله إلا موقع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين)[31].
واختيار الرسول صلى الله عليه وسلم للرسالة كانت بمشيئة الله تعالى الذي خلق الناس جميعًا، وهو العليم بذواتهم وخصائص كل منهم يقول الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ويقول الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124].
يقول الآلوسي في تفسير هذه الآية: (إنّ منصب الرسالة ليس مما ينال مما يزعمون من كثرة المال والولد وتعاضد الأسباب وإنما ينال بفضائل نفسانية ونفس قدسية أفاضها الله تعالى بمحض الكرم والجود على من كمل استمداده. ونص بعضهم على أنه تابع للاستعداد الذاتي وهو لا يستلزم الإيجاب الذي يقول به الفلاسفة لأنه سبحانه إن شاء أعطى وإن شاء أمسك، وإن استعد المحل)[32]. ومن ثم اختار الله للدعوة الإسلامية التي ختم الله بها كل الرسالات المكان الملائم واختار لحملها خير أمة أخرجت للناس كما اختار رجلها المتميز وهو الرسول صلى الله عليه وسلم بصفات جعلته خير من يتلقى الوحي ويبلغه للناس ويتحمل في سبيل ذلك كل اضطهاد وعنت كما هي سنة الله مع كل رسالاته ورسله[33].
وقبل اختيار الرسول للتبليغ صنعه الله، وهيأه، وكفل الله له التنشئة السليمة حتى يكون أهلاً للرسالة والتبليغ، ومن المعلوم أن اصطفاء الله للرسل يتم على مرحلتين، مرحلة تهيئة، ومرحلة تكليف وإبلاغ. ولولا أن النبوة اصطفاء وإحسان لقلنا أن الرسل بصفاتهم يستحقونها كسبًا لكنّ جمهور المسلمين أجمعوا على أن الرسالة لا تكتسب فلا بد أن يخلق الله لها استعدادًا خاصًا عند صاحبها بحيث يجعله أهلاً لحملها وإبلاغها. وبعد ذلك يصطفيه للرسالة[34].
وفي هذا الفصل سوف أتحدث فيه عن مرحلة تهيئة الرسول صلى الله عليه وسلم لحمل الرسالة الخاتمة وإبلاغها إلى الناس كافة.
ولذا سيأتي مكونًا من ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: عراقة أصله.
المبحث الثاني: نشأته وتربيته.
المبحث الثالث: اتصافه بصفات طيبة وأخلاق فاضلة.
وذلك فيما يلي:
المبحث الأول
عراقة أصله(4/24)
يذكر علماء الوراثة أنّ الشخص يتأثر بنسبه سواء من ناحية الجسم والبنية أو من ناحية الذكاء والعقل أو من ناحية الفكر والعقيدة.
يقول د. محمد بيصار: (ولا تكون الوراثة عاملاً هامًا في نقل الصفات الحسية فحسب وإنما كذلك عن طريقها تنتقل الصفات الأدبية كالأمزجة والميول والغرائز، والصفات العقلية كالذكاء والبلادة وحسن تقدير الأمور أو سوء أو شدة الانتباه أو ضعفه إلى غير ذلك من صفات يكون لها الأثر الأقوى في تكوين أخلاق المرء وتكييفها وطبعها بطابع معيّن خيرًا كان ذلك الطابع أو شرًا حسنًا أو قبيحًا).
ويؤيد هذا علم القيافة. الذي أقره الرسول صلى الله عليه وسلم فعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها سرورًا تبرق أسارير وجهه فقال: (ألم تسمعي ما قال المدلجي لزيد وأسامة ورأى أقدامهما فقال: إنّ بعض هذا الأقدام من بعض)[35].
يدل عليه قوله تعالى حاكيًا عن نبي الله نوح عليه السلام: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:2627].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي فاجرًا في الأعمال كافر القلب وذلك لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عامًا)[36].
ويدخل في هذا المفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة [37] فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"[38]. يقول أبو هريرة راوي الحديث: واقرأوا إن شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] [39].
وبهذا يثبت أنّ الولد يتأثر بأبويه من ناحية الجسم والبنية، ومن ناحية العقل والذكاء، ومن ناحية الفكر والعقيدة، قليلاً أو كثيرًا، سلبًا أو إيجابًا، وذلك بإرادة الله وقدرته. إذا عرف هذا ننظر إلى نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدى تأثره به.
يقول الأستاذ الدكتور/ أحمد غلوش: (هيأت عناية الله تعالى سلسلة ممتازة من الآباء والأجداد للنبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ منها عن طريق الوراثة كثيرًا من الخلق والطبائع)[40].
وقد وردت في هذا المضمار نصوص كثيرة تدل على أنّ نسب النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الناس نسبًا.
من ذلك ما أخرجه الإمام مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) [41].
وقد أشار النووي رحمه الله إلى أنّ بني هاشم أفضل العرب لا يدانيهم في الأفضلية إلاّ بنو المطلب مستدلاً بهذا الحديث[42].
ويقول المباركفوري عند شرحه لهذا الحديث: قوله: (إن الله اصطفى) أي اختار. يقال استصفاه واصطفاه، إذا اختاره وأخذ صفوته والصفوة من كل شيء خالصه وخياره)[43].
ومن ذلك أيضًا ما أخرجه الترمذي عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم وخير الفريقين ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة ثم خص البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسًا وخيرهم بيتًا) [44].
أي: أصلاً إذا جئت من طيب إلى طيب إلى صلب عبد الله بنكاح لا سفاح[45].
ومما يدل على أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كانت له مكانة عند قومه من جهة النسب شهادة أعدائه كما ورد في قصة أبي سفيان وهو مشرك ومن ألد أعداء صاحب الرسالة آنذاك مع هرقل ملك الروم عندما وجه إليه أسئلة عديدة تتعلق بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم من بينها: (كيف نسبه فيكم؟ قال أي أبو سفيان: هو فينا ذو نسب. ثم قال هرقل في آخر القصة: سألتك عن نسبه فذكرت أنّه فيكم ذو نسب فكذلك تبعث الرسل في أنساب قومها)[46].
يقول النووي: (أي في أفضل أنسابهم)[47]. ومما يدل على ذلك أيضًا ما جاء على لسان مفوض مشركي قريش عتبة ابن أبي ربيعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال عند افتتاح كلامه مع الرسول: (يا ابن أخي إنّك منّا حيث قد علمت من السطة [48] في العشيرة والمكانة في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم...) [49].
وهاتان القصتان تشهدان بما للرسول صلى الله عليه وسلم من المكانة في النسب عند قومه لإقرار أعدائه وأعداء رسالته حيث لم يستطيعوا أن يخفوا هذه الحقيقة مع أنهم كانوا يتهمونه بتهم باطلة، مرة بالسحر، ومرة بالجنون، ومرة بالشعر والكهانة. ومع هذا لم ينقل إلينا عن أحدهم تهمة واحدة يقدحون بها الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة النسب، كما أن النصوص الأخرى التي أوردناها تدل على أن العرب أفضل الناس من ناحية النسب وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم من أفضلها نسبًا، وأن هذه سنة الله في اختيار رسله جميعًا كما جاء في قول هرقل السابق.(4/25)
يقول الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: (الظاهر أن إخبار هرقل بذلك بالجزم كان على العلم المقرر في الكتب السالفة)[50].
والحكمة في ذلك كما قال النووي رحمه الله أنه أبعد من انتحاله الباطل وأقرب إلى انقياد الناس له لأن الناس يأنفون من الانقياد إلى رجل وضيع من جهة وكذلك الوضيع لا تسول نفسه له قيادة الناس عن جهة أخرى[51].
ولهذا كان نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم له تأثير على نفسه من ناحية وعلى قومه من ناحية أخرى، كما ذكر غير واحد من العلماء.
يقول د. محمد قلعت في هذا المقام: (هذا النسب له أثره في رسول الله وكان له أثر فيمن يبلغهم رسول الله شريعة الله، أمّا أثره في رسول الله فقد شب عليه الصلاة والسلام مرفوع الرأس رغم يتمه لا يعرف الذل ولا الخنوع. جريئًا في إعلان رأيه، تملأ الثقة نفسه، أما أثره فيمن دعاهم رسول الله إلى الإيمان والانضواء تحت راية الإسلام فإن أكبر شخصية في العرب لا تجد غضاضة من الانضواء تحت راية الإسلام، وقبول محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وحاكمًا لأنهم يعترفون بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم من أعرق بيوت قريش نسبًا)[52].
وهذه حقيقة ثابتة لا جدال فيها وإن كان هناك من يعارضه من قومه لكن ليس هذا من جهة نسبه ولا رفضًا لشخصيته وإنما كان رفضًا موجهًا لرسالته صلى الله عليه وسلم.
وصدق الله إذ يقول: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
وممَا يؤيد ذلك ما جاء على لسان أبي جهل عدو الله وعدو رسوله إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (قد نعلم يا محمد أنك تصل الرحم وتصدق الحديث ولا نكذبك ولكنّ نكذب الذي جئت به) [53] فأنزل الله عز وجل: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
أي إن رفض قريش كان موجهًا للدعوة التي دعاهم إليها الرسول صلى الله عليه وسلم لا لشخصيته كما يفيد منطوق قول أبي جهل السابق. ولهذا ورد أنهم عرضوا عليه الجاه والسيادة والملك وجمع الأموال والمغريات الأخرى مقابل ترك هذه الدعوة كلية أو جزءًا منها كحل وسط [54] ولكنهم لم ينجحوا فيها لأن موقف الرسول صلى الله عليه وسلم كان ثابتًا. وعرض هذه الأمور عليه يدل على سمو مكانة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة النسب عند قومه قريش الذين كانوا يأنفون أن يخضعوا للوضيع مهما كان الأمر وخاصة إذا جاء بأمر يخالف عاداتهم وتقاليدهم مثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين الحنيف والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك والأوثان وما كان سائدًا في مجتمع مكة من عادات وتقاليد جاهلية.
المبحث الثاني
نشأته وتربيته
كما هو معروف في كتب السيرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل يتيمًا حيث مات أبوه وهو في بطن أمّه، وماتت أمّه وهو ابن ست سنوات، ولهذا لم يتنعم بحنين الأبوين، وقد كفله جده عبد المطلب حتى مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثماني سنوات[55].
وبعد وفاة جده عبد المطلب كفله عمّه أبو طالب الذي بذل كل ما في وسعه في رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن طفولته وشبابه، وكذلك بعد البعثة حيث دافع عنه تعصبًا وحمية مع أنه لم يؤمن به حتى فارق الحياة. يقول الغزالي: (فالمجتمع العربي الأول كان يقوم على العصبيات القبلية الحادة، التي تفنى القبيلة كلها دفاعًا عن كرامتها الخاصة وكرامة من يمت إليها بالصلة، وقد ظل الإسلام حينًا من الدهر يعيش في حمى هذه التقاليد المرعية حتى استغنى بنفسه كما تستغني الشجرة عمّا يحملها بعدما تغلظ وتستوي)[56].
وقد كان أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً حيًا لهذه العصبيات لقيامه بالدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنّه جوزي وهو كافر بما جاء به من عند الله بتخفيف العذاب عنه يوم القيامة مقابل دفاعه عنه لما ثبت في الصحيح عن العباس بن عبد المطلب أنّه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "نعم هو في ضحضاح [57] من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"[58]، وفي رواية أخرى: "وجدته غمرات [59] من النار فأخرجته إلى ضحضاح"[60].
ولقد مرّ الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بمراحل عديدة، واجه حياة كدح صعبة وشاقةْ حيث أنه أصبح يتيمًا فقيرًا إلى أن أغناه الله فاتجه إلى الانعزال والعبادة في غار حراء.(4/26)
فلقد كان عليه الصلاة والسلام في صباه يشتغل برعاية الغنم كما هو سنة الأنبياء، لأنّه ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط، وهو عليه الصلاة والسلام القائل: "ما بعث الله نبيًا إلا ورعى الغنم"، فقال له أصحابه رضي الله عنهم: وأنت؟ فقال:، "نعم كنت أرعاها على قراريط [61] لأهل مكة" [62]. وهذا الحديث إنّما يدل على أنّه صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على نفسه في فترة مبكرة من عمره.
وبجانب رعايته للغنم كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الشام مع عمّه أبي طالب للتجارة.
أخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: (خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش فلمّا أشرفوا على الراهب هبط فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب...) [63].
هذا ما ورد في فترة صباه، وأمّا بعد بلوغه، فقد ورد أيضًا أنّه كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الشام للتجارة بأموال خديجة رضي الله عنها قبل اقترانه بها.
يقول ابن إسحاق: (وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء وتجعله لهم وكانت قريش قومًا تجارًا، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه وعظيم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام[64].
فقام صلى الله عليه وسلم بواجبه في التجارة خير قيام حتى كانت سببًا في زواجه إياها إثر رجوعه من ذلك السفر بعدما عرضت نفسها عليه بناء على ما رأته فيه من صدق وأمانة، وما سمعته من ميسرة في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم من خير طوال مرافقته له في تلك الرحلة الميمونة.
يقول ابن كثير في السيرة: (فلمّا أخبرها ميسرة ما أخبرها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له فيما يزعمون: يا ابن عم إنّي قد رغبت فيك لقرابتك ووسطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، ثم عرضت نفسها عليه، فلمّا قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره لأعمامه فخرج معه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة والسلام[65]. وبعد اقترانه صلى الله عليه وسلم بخديجة أم المؤمنين رضي الله عنها استغنى بمالها عن الكسب والضرب في الأرض لأنّه لم يرد في كتب السيرة أنّه زاول نشاطًا اقتصاديًا بعد ذلك بل ورد أنّه كان يذهب إلى غار حراء ليتعبد فيه فترة يرجع بعدها إلى خديجة ليتزود بمثلها حتى جاءه الملك بأول آيات من القرآن وهي صدر العلق من قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] إلى قوله تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5].
عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: (أول ما بدئ رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك [66] فقال: إقرأ.. إلى قوله: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5].
وهذه هي المراحل التي مر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وقد أشار القرآن الكريم إليها في آيات من سورة الضحى وهي قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:68].
قال قتادة في هذه الآيات: (كانت هذه هي منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله عز وجل)[67].
وقد ذكر أكثر المفسرين هذه المراحل التي مرّ بها الرسول صلى الله عليه وسلم عند تفسيرهم هذه الآيات من سورة الضحى إلاّ أنهم يذكرون في كل مرحلة عدة أقوال محتملة ومعان متقاربة لا يتسع لذكرها هذا المقام لأن القصد هنا ليس ذكر أقوال المفسرين قاطبة وإنّما ذكر ما يشير إلى هذه المراحل.
وقد لخّص الشهيد سيد قطب معنى هذه الآيات فيقول: (لقد ولدت يتيمًا فآواك إليه وعطف عليك القلوب.. ولقد كنت فقيرًا فأغنى الله نفسك بالقناعة كما أغناك بكسبك ومال أهل بيتك خديجة رضي الله عنها عن أن تحس الفقر أو تتطلع إلى ما حولك من ثراء. ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصورات والعقائد منحرفة السلوك والأوضاع فلم تطمئن روحك إليها ولكنّك لم تكن تجد لك طريقًا واضحًا مطمئنًا لا فيما عند الجاهلية ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى الذين حرّفوا وبدّلوا وانحرفوا وتاهوا ثم هداك الله بالأمر الذي أوحى به إليك وبالمنهج الذي يصلك به)[68].(4/27)
ويفهم من تفسير سيد قطب للآيات الثلاث من سورة الضحى كغيره من المفسرين أن المراحل الثلاثة ليست على ترتيب الآيات من المصحف حيث أنّ مرحلة الإغناء مقدمة على مرحلة الهداية.
يقول الدكتور محمد عزت دروزة ملخصًا ما ذكره المفسرون في هذا الصدد: (إن الآية تحتوي إشارة إلى حادث تيهان وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في طفولته أو في إحدى رحلاته ورووا في ذلك روايات كما قالوا أنّها تعني أنّه كان غافلاً عن الشريعة التي لا تتقرر إلا بالوحي الرباني أو أنّه كان حائرًا في أسلوب العبادة لله ونفوا عنه أي حال أن يكون ضالاً أي مندمجًا في العقائد والتقاليد الشركية والنفس لا تطمئن إلى رواية تيهان النبي صلى الله عليه وسلم مضمونًا وسندًا بل إنّها ليست متسقة مع ما تضمنته الآية من منّ الله على النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم أفضاله عليه، وتفسير ضال بحائر يحمل معنى الآية على أنه المقصود الحيرة في الطريق التي يجب أن يسار فيها إلى الله وعبادته على أفضل وجه. وهو المعنى الذي نراه)[69].
والحكمة في تلك المراحل التي مرّ بها الرسول صلى الله عليه وسلم هو أنّ الله سبحانه وتعالى كان يدربه حتى يكون مهيأ ومؤهلاً لحمل عبء الرسالة الخاتمة وإبلاغها إلى الناس المنغمسين في بحر من الفساد في كل ناحية من نواحي الحياة حتى يصدق عليهم قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41].
يقول صاحب كتاب "دراسة في السيرة" مشيرًا إلى الحكمة من تلك المراحل:
"ومن مرارة اليتم ووحشية العزلة وانقطاع معين العطف والحنان قبس الرسول صلى الله عليه وسلم الصلابة والاستقلال والقدرة على التحمل... وبالفقر والحرمان تربى ونما بعيدًا عن ترف الغنى وميوعة الدلال.. وعبر رحلته إلى الشام في رعاية عمّه فتح الرسول صلى الله عليه وسلم عينيه ووعيه تجاه العالم الذي يتجاوز حدود الصحراء وسكونها إلى حيث المجتمعات المدنية التي تضطرب نشاطًا وقلقًا... وفي رحلته الثانية إلى الشام مسؤولاً عن تجارة للسيدة خديجة تعلّم الرسول الكثير الكثير عمّق في حسّه معطيات المرحلة الأولى وزاد عليها إدراكًا أكثر لما يحدث في أطراف عالمه العربي من علاقات بين الغالب والمغلوب... كما علمه الانشقاق الأخلاقي عن الوضع المكي القدرة على مجابهة الأحداث[70].
المبحث الثالث
سمو صفاته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه:
نشأ الرسول صلى الله عليه وسلم في بيئة وثنية يعبد أهلها الأصنام والأوثان، ويستعبد القوي منهم الضعيف حتى أصبح الظلم شيئًا معروفًا كما تنبئ به أشعارهم المأثورة كقول زهير بن أبي سلمى:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم[71]
إضافة إلى ما كانوا عليه من فساد في العادات والسلوك مثل وأد البنات خوفًا من العار والفقر، وأكل أموال اليتامى بحجة أنهم ضعفاء لا يستطيعون حمل السلاح والدفاع عن القبيلة، وأكل الربا واستحلاله راضين بذلك حتى اشتهر فيهم تعريف البيع به كما حكى لنا القرآن الكريم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275].
وقد وصف جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة أثناء الهجرة الثانية إلى الحبشة أحوال المجتمع المكي آنذاك وصفًا دقيقًا فقال:
"أيها الملك، كنّا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسبي الجوار، ويأكل القوي منّا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وأمانته وعفافه، فدعا إلى توحيد الله وأن لا نشرك به شيئًا ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل أموال اليتيم..."[72].
هكذا كانت حالة المجتمع المكي آنذاك ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برعاية من الله لم يتأثر ببيئته مع اشتراكه في بعض الأعمال مع قومه لأنّها كانت أعمالاً لا تخدش نبله أو لا تسيء إلى سمعته، وأخلاقه الطيبة.
نذكر في هذا الصدد ما روي من الأعمال التي اشترك فيها الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه.
فلقد اشترك الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة في حلف الفضول الذي وقع بين بطون من قريش لرد المظالم إلى أهلها. يروي ابن هشام بسنده عن ابن إسحاق قال[73]: "تداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جُدعان لشرفه وسنه... فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا في مكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممّن دخلها من سائر الناس إلاّ قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته فسمّت قريش ذلك الحلف حلف الفضول"[74].
ويقول ابن كثير رحمه الله بعد إيراده ذلك الحلف: "وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب"[75].(4/28)
وعلى هذا فكان اشتراكه صلى الله عليه وسلم في ذلك الحلف أمرًا ذا أهمية كبيرة لأنّ ردّ المظالم إلى أهلها أمر هام وقد جاء به الإسلام فيما بعد ولهذا أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك الحلف بعد البعثة، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدعان حلفًا ما أحب لي به حمر النعم ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت"[76].
ومن الأعمال التي اشترك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه قبل البعثة، حرب الفِجار التي وقعت وعمره صلى الله عليه وسلم عشرون سنة كما ذكر ابن إسحاق صاحب السيرة[77].
وسبب ذلك الحرب [78] كما ذكر ابن هشام في سيرته أنّ عروة الرحال بن عتبة من هوازن أجار لطيمة [79] للنعمان بن المنذر فقال له البراض بن قيس أحد بني ضمرة: أتجيرها في كنانة؟ قال: نعم وعلى الخلق فخرج فيها عروة الرحال وخرج البراض لطلب غفلته حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام فلذلك سمي حرب الفجار[80].
وكانت دوره صلى الله عليه وسلم في تلك الحرب أن يرد على أعمامه نبل عدوهم إذا رموهم بها؛ لأنّه روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كنت أنبل على أعمامي"[81].
وفي اشتراكه صلى الله عليه وسلم في تلك الحرب ما يبرره وهو أنّ القتال لم يكن جائزًا في الأشهر الحرم زمن الجاهلية حتى أنّهم إذا أرادوا القتال في الأشهر الحرم أخّروها إلى شهر آخر لكي يستحلوا فيها القتال كما بينها الله سبحانه وتعالى في القرآن معيبًا عليهم: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة:37].
وعلى هذا فما دامت تلك الحرب دفاعًا عن انتهاك حرمة الأشهر الحرم فلا بأس في اشتراكه صلى الله عليه وسلم فيها.
وقد أقر الله ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].
ومن الأعمال التي اشترك فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه قبل البعثة وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة حين بناء قريش لها بعد ما اختلفت بطونها في ذلك حيث كانت كل قبيلة تريد أن تنفرد بمزية وضع الحجر الأسود في مكانه وكادوا أن يقتتلوا لولا مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه فيهم حكمًا يرضى كل الأطراف المتنازعة على ذلك.
عن عبد الله بن السائب قال: كنت فيمن بنى البيت وأخذت حجرًا فسويته ووضعته إلى جنب البيت.. وأن قريشًا اختلفوا في الحجر حيث أرادوا أن يضعوه حتى كاد أن يكون بينهم قتال بالسيوف فقال: اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذا الأمين وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين، فقالوا: يا محمد قد رضينا بك فدعا بثوب فبسطه ووضع الحجر فيه ثم قال لهذا البطن، ولهذا البطن، غير أنّه سمى بطونًا: "ليأخذ كل بطن منكم بناحية من الثوب" ففعلوا ثم رفعوه وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه بيده[82].
واشتراكه صلى الله عليه وسلم في هذا العمل يظهر مدى فطانته ورجاحة عقله حيث حل المشكلة بسهولة ويسر بعدما كادت أن تؤدي إلى إسالة الدماء والحرب كما أنّه يدل على مكانته صلى الله عليه وسلم عند قومه بحيث إنّهم رضوا بحكمه دون تردد.
هذه هي أهم الأعمال التي وردت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اشترك فيها قبل البعثة مع قومه، وكلها كما ذكرت سابقًا من أعالي الأمور ومن مكارم الأخلاق التي من شأنها أن ترفع مكانته وشأنه وبخاصة إذا علم أن بيئته قد عم فيها الفساد وانتشرت فيها الرذائل التي عصمه الله سبحانه وتعالى منها وأبعده عنها لينشأ خاليًا من الدنايا والشوائب.(4/29)
يؤيد ذلك ما رواه أبو نعيم بسنده عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون بها إلا مرتين الدهر كلتاهما يعصمني الله عز وجل منها، قلت ليلة لفتى من قريش بأعلى مكة في أغنام لأهلنا نرعاها: أنظر غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان قال: نعم، فخرجت فجئت أدنى دار من دور مكة فسمعت غناء وضرب دفوف وزمرًا فقلت ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة المرجل من قريش, فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مسَّ الشمس ثم رجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فأخبرته ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ففعل فخرجت فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مسّ الشمس ثم رجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالله ما هممت بعدهما بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته"[83].
وهذا الحديث دليل واضح على بعده صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن أمور الجاهلية التي كانت سائدة آنذاك في المجتمع المكي ومن حوله بعناية من الله سبحانه وتعالى وبجانب ذلك كان صلى الله عليه وسلم متصفًا بصفات فاضلة وأخلاق حميدة أقر له بها المؤيدون والمعاندون على السواء.
وقد أوجزت لنا خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها صفاته وأخلاقه بقولها بعد فزعه إليها من شدة بدء الوحي: "كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا فوالله إنك تصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل [84] وتكسب المعدوم [85] وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.."[86].
وخديجة رضي الله عنها أقرب شخصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تصفه بهذه الصفات بناء على تجربة دقيقة وممارسة طويلة ابتداء من ائتمانها له أن يتاجر في مالها ثم اقترانها به ومعاشرته فترة تبلغ خمس عشرة سنة.
وهذه شهادة من جانب أحد المؤمنين بدعوته صلى الله عليه وسلم وهى شهادة حق وصدق أقر بها وبحقيقتها من لم يتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا بدعوته.
من ذلك ما أخرجه الشيخان بسندهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف "يا صباحاه"، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ "قالوا: ما جربنا عليكَ كذبًا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" قال أبو لهب: تبًا لك ما جمعتنا إلا لهذا ثم قام: فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1][87].
ففي قولهم: ما جربنا عليك كذبًا دليل واضح على اتصافه صلى الله عليه وسلم بالصدق التام قبل الرسالة بشهادة أعدائه الذين وقفوا في وجه نشر الدعوة الإسلامية.
وهذه الشهادة قد صدرت من مجموع المشركين ومثلها صدرت من أفرادهم، وقد قالها أبو سفيان رضي الله عنه وهو مشرك عند هرقل ملك الروم الذي وجه إليه عدة أسئلة تتعلق بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم من بينها قول هرقل: "فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ "قلت: لا، ثم قال هرقل: في آخر القصة لأبي سفيان:
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا فعرفت أنّه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب ويكذب على الله"[88].
تلك شهادة الخصوم والمؤمنين تنطق صريحة في أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكذب أبدًا قبل البعثة، بل كان صادقًا دائمًا.
والصدق أساس الفضائل الأخلاقية وعنوان الإنسانية الكريمة، وقد انطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله تعالى.
وكما اتصف صلى الله عليه وسلم بالصدق اتصف بكل مكارم الأخلاق ومنها الأمانة.
وخير ما يدل على ذلك قصة وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة أثناء تجديد بنائها حينما اختلفت قريش في ذلك حيث أتفقوا على تحكيم أول رجل يدخل من الباب فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين فقالوا: "قد دخل الأمين، فقالوا يا محمد رضينا بك"[89].
وهذه شهادة صدرت من مجموع المشركين وإن لم يكن بينه وبينهم عداوة حين نطقوا بذلك القول لأنّ ذلك كان قبل البعثة إلا أنّها تشهد على اتصافه صلى الله عليه وسلم بالأمانة حتى أصبحت لقبًا له.
وعلى هذا نجزم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان متصفًا بصفات فاضلة وأخلاق حميدة قبل البعثة اعترف بها أعداؤه وآمن بها أصحابه مع شيوع الظلم والعدوان وسوء الأخلاق في المجتمع المكي يومذاك. وذلك بفضل الله وعنايته ورعايته.
وأمّا بعد البعثة فقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن كما ورد في حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حيث قالت: "... فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن"[90].(4/30)
وهذه الأخلاق الكريمة كانت سببًا في تقريب قلوب أصحابه رضوان الله عليهم له ولولا اتصافه بها لما تمكن من تأثير دعوته عليهم وخاصة في أيامها الأولى في مكة.
وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى تأثير اتصافه صلى الله عليه وسلم بالأخلاق الفاضلة على أصحابه رضوان الله عليهم بقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران:159].
وكما أن الأخلاق الفاضلة لها تأثير كبير على الأصحاب كذلك أيضًا لها تأثير كبير على الأعداء كما يدل عليه قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:3435].
وقد شهد الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالخلق العظيم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
ـــــــــــــــ
الهوامش:
[1] ينكتها بتاء مثناة من فوق في رواية مسلم والصواب ينكبها بباء موحدة كما قال القاضي عياض ومعناه يقلبها ويرددها إلى الناس مشيرًا إليهم من نكب كنانته إذا قلبها. وهكذا في شرح النووي على صحيح مسلم (8/184)، ويشهد له رواية أبي داود وابن ماجة حيث وردت فيها بالباء الموحدة. انظر سنن أبي داود، كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/85)، وسنن ابن ماجة، كتاب المناسك، باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2/1025).
[2] صحيح مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
[3] التفسير الكبير للأمام فخر الدين الرازي (9/78).
[4] هو أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفى سنة (395هـ). انظر ترجمته في بغية الدعاة للسيوطي (1/352).
[5] معجم مقاييس اللغة (1/7485).
[6] هو محمد بن مكرم بن علي بن أحمد الأنصاري الأفريقي ثم المصري جمال الدين أبو الفضل المتوفى سنة (711هـ). انظر ترجمته في بنية الوعاة (1/248).
[7] لسان العرب (1/206).
[8] هو أبو منصور موهوب بن أحمد الجواليقي المتوفى سنة (465هـ)، وقيل غير ذلك. انظر ترجمته في بغية الوعاة (2/308).
[9] شرح أدب الكتب للجواليقي (13).
[10] معجم متن اللغة (1/153).
[11] هو إسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى سنة (393هـ)، وقيل: في حدود الأربعمائة. انظر ترجمته في بغية الوعاة (1/446447).
[12] الصحاح: (1/86).
[13] أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن هذيل، من أعيان القرن الثامن.
[14] عين الأدب: (95).
[15] شرح أدب الكاتب: (13).
[16] هو علي بن محمد الشريف الجرجاني المتوفى سنة (816هـ). انظر ترجمته في بغية الوعاة (2/196، 197).
[17] كتاب التعريفات: (14).
[18] هو الإمام العلامة زين الدين بن إبراهيم بن محمد الشهير بابن نجيم المتوفى سنة (969هـ).
[19] البحر الرائق شرح كنز الدقائق: (6/377).
[20] آداب المجتمع في الإسلام: (910).
[21] مدارج السالكين: (2/381).
[22] مدارج السالكين: (2/387).
[23] رواه الإمام مالك بلاغًا في الموطأ (2/899) وقال الألباني في تعليقاته على مشكاة المصابيح (1/66) له شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الحاكم.
[24] من الإطراء: وهو مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/123).
[25] صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها.) (2/256).
[26] انظر تفسير ابن كثير (1/190).
[27] خصائص التصور الإسلامي (ص:25).
[28] المصدر السابق (ص:26).
[29] تفسير القرآن العظيم (1/588).
[30] البخاري كتاب التفسير باب قوله: (ولا تقربوا الفواحش) (3/129). ومسلم كتاب التوبة باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش (4/2114) واللفظ لمسلم.
[31] البخاري كتاب المناقب باب خاتم النبيون (2/270).
[32] روح المعاني (8/2122).
[33] انظر الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها للدكتور أحمد غلوش (ص:114).
[34] انظر الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها للدكتور أحمد غلوش (ص:114).
[35] العقيدة والأخلاق وأثرهما في حياة الفرد والمجتمع (ص:240) البخاري كتاب المناقب باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (2/272)
[36] تفسير ابن كثير (4/427).
[37] على الفطرة: على معرفة الله فلست واحدًا أحدًا إلا ويقر بأن له صانعًا وإن سمّاه بغير اسمه أو عبد غيره. غريب الحديث لابن الجوزي (2/199).
[38] جدعاء: أي مقطوعة الأطراف. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/247).
[39] صحيح مسلم كتاب القدر باب معنى: (كل مولود على الفطرة وحكم أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/2047).
[40] الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها (ص:114).(4/31)
[41] صحيح مسلم كتاب الفضائل باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم (4/1782) والترمذي في سننه، أبواب المناقب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في فضل النبى صلى الله عليه وسلم (5/245).
[42] شرح النووي على صحيح مسلم (15/36).
[43] تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (10/74).
[44] أخرجه الترمذي في سننه في أبواب المناقب باب ما جاء في فضل النبي صلى الله عليه وسلم انظر (5/244)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
[45] انظر: تحفة الأحوذي (10/76).
[46] صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/8)، وصحيح مسلم، كتاب الجهاد باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ليدعوه إلى الإسلام (3/1394) واللفظ للبخاري.
[47] شرح النووي على صحيح مسلم (12/105).
[48] السطة: أي عن أوساطهم حسبًا ونسبًا.
[49] تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/91)، وحسّن الألباني هذه القصة في تعليقه على فقه السيرة للغزالي. انظر هامش (ص:113).
[50] فتح الباري شرح صحيح البخاري (1/36).
[51] شرح النووي على صحيح مسلم (12/35).
[52] التفسير السياسي للسيرة (ص:1112).
[53] أخرجه الحاكم في مستدركه (2/315) وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه قال الذهبي: ما أخرجاه لناجية، وقال الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير (5/25): (وهذا صحيح فإن الشيخين لم يخرجا لناجية بن كعب الأسدي ولكنه تابعي ثقة والحديث صحيح وإن لم يكن على شرطهما).
[54] انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير: (4/91).
[55] انظر سيرة ابن هشام: (1/167) وما بعدها.
[56] فقه السيرة: (ص:58).
[57] ضحضاح: ما رق من الماء على وجه الأرض، غريب الحديث لابن الجوزي (2/6).
[58] صحيح مسلم كتاب الإيمان باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (1/195).
[59] غمرات: أي المواضع التي تكثر فيها النار. واحدتها غمرة. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (3/383، 384).
[60] صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب شفاعة الني صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (1/195).
[61] قراريط: مفردها قيراط وهو جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشر في أكثر البلاد وأهل الشام يجعلونه جزءًا من أربعة وعشرين. والياء فيه بدل الراء فإن أصله من قّراط، النهاية في غريب الحديث (4/42).
[62] أخرجه البخاري في كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط: (2/3233).
[63] سنن الترمذي، أبواب المناقب باب ما جاء في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم (5/250)، وقال: (هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه).
[64] سيرة ابن هشام: (1/171172).
[65] السيرة النبوية: (1/263).
[66] أخرجه البخاري في صحيحه: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/6).
[67] تفسير ابن كثير: (4/523).
[68] في ظلال القرآن: (6/3927).
[69] سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: (1/32).
[70] دراسة ني السيرة للدكتور عماد الدين خليل (ص:4749) مع تصرف يسير.
[71] في ديوانه: (ص:88).
[72] الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد مع شرحه بلوغ الأماني من أسرار الفتح الربّاني (20/226) كلاهما لاْحمد البنا "وقال البنا عقب هذا الحديث: "الحديث صحيح ورواه ابن هشام في سيرته بطوله عن ابن إسحاق، وأورده الهيثمي وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير ابن إسحاق وقد صرّح بالسماع".
[73] سيرة ابن هشام: (1/122123).
[74] سمي هذا الحلف بالفضول إما نسبة إلى الأشخاص المتحالفين الثلاث الذين سمى كل واحد منهم بالفضل أو إما السبب الذي من أجله تحالفوا وهو أن ترد الفضول على أهلها. السيرة النبوية لابن كثير (1/258261) مع التصرف.
[75] السيرة النبوية (1/259).
[76] انظر سيرة ابن هشام (1/123124).
[77] المصدر السابق (1/170).
[78] في حرب الفجار التي وقعت بين قريش ومن معه من كنانة وبين قيس عيلان. انظر سيرة ابن هشام (1/168).
[79] اللطيم تحمل العطر والبزّ غير الميرة. النهاية في غريب الحديث (4/251).
[80] انظر سيرة ابن هشام (1/169) بتصرف.
[81] انظر السيرة النبوية لابن كثير (1/256).
[82] أخرجه الحاكم في مستدركه (1/458) وقال: صحيح على شرط مسلم وله شاهد صحيح على شرطه ووافقه الذهبي.
[83] دلائل النبوة لأبي نعيم (ص:54) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/226) رواه البزار ورجاله ثقات.
[84] الكل: العيال والثقل. غريب الحديث لابن الجوزي (2/293).
[85] وتكسب المعدوم يقال: فلان يكسب المعدوم إذا كان مجذوذًا محظوظًا أي يكسب ما يحرمه غيره، وقيل أرادت أي خديجة رضي الله عنها تكسب الشيء المعدوم الذي لا يجدونه مما يحتاجون إليه، وقيل أرادت بالمعدوم الفقير الذي صار من شدة حاجته كالمعدوم نفسه. النياية في غريب الحديث (3/191192).
[86] صحيح البخاري في كتاب التفسير باب تفسير سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق (3/218).(4/32)
[87] صحيح البخاري في كتاب التفسير باب تفسير سورة: (تبت يدا أبي لهب وتب) (3/222). وصحيح مسلم في كتاب الإيمان، باب (وأنذر عشيرتك الأقربين) (1/194).
[88] جزء من الحديث الطويل المتفق عليه؛ انظر صحيح البخاري باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/8)، وصحيح مسلم في كتاب الجهاد باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (3/1394)(1395هـ)، واللفظ له.
[89] جزء من الحديث الذي أخرجه الحاكم في مستدركه (1/458). وقد تقدم تخريجه في (ص:73).
[90] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (1/513).
6. ... كتاب "التأدب مع الرسول في ضوء الكتاب والسنة" [الجزء الثاني]
الفصل الثاني
عمله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة وحرصه على هداية الناس
إن نزول الوحي الإلهى للناس يحتاج إلى رسول يتلقاه ويبلغه للمدعوين، ولذلك اختار الله رسله عليهم السلام قادرين على تحمل المسؤولية مهيئين بفضل الله للقيام بواجب الدعوة خير قيام.
ومن هنا كان إرسال الرسل مسقطًا لحجة الناس بأن الدعوة لم تبلغهم.
يقول الله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
وعمل الرسل مع الدعوة يحتاج إلى جهد كبير وصبر واضح، ومثابرة شاقة بالإضافة إلى تحمل أذى القوم وعنتهم وعدوانهم القولي والفعلي على الرسول والذين معه.
وتلك سنة عامة مع كل الرسل وسائر الدعوات من لدن نوح عليه السلام إلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
ولقد تحدث القرآن الكريم عن الرسل السابقة عليهم الصلاة والسلام وبين ما لقوا من أقوامهم من أذى وتعنت أو قتل أو تشريد، ولكن لا يتسع المقام لأن أسرد كل قصصهم إلاّ أنّي أذكر ما يدل على ذلك من الكتاب والسنة على وجه الإجمال.
فمن الكتاب قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34].
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية: "ويستطرد من تطييب خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم وبيان الأسباب الحقيقية لموقف المكذبين منه ومن دعوته، ومن آيات الله الناطقة بصدقه وصدق ما جاء به... يستطرد من هذا إلى تذكيره بما وقع لإخوانه الرسل قبله، وقد جاءه من أخبارهم في هذا القرآن ثم ما كان منهم من الصبر والمضي في الطريق حتى جاءهم نصر الله ليقرر أنّ هذه سنة الدعوات التي لا تبديل ولا يغير منها اقتراحات المقترحين كما أنها لا تستعجل مهما ينزل بالدعاة من الأذى والتكذيب والضيق"[1].
وأما السنة فمنها ما جاء على لسان ورقة بن نوفل حينما ذهبت خديجة أم المؤمنين رضى الله عنها بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه بعد فزع الرسول من رؤية الملك جبريل عليه السلام في بداية الوحي كما رواه البخاري عن عائشة رضى الله عنها: وفيه:.. فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب وكان شيخًا كبيرًا قد عمي فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك؟ فقال ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟! فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس[2] الذي نزّل الله على موسى يا ليتني فيها جذعًا[3] ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمخرجيّ هم" قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا ثم لم ينشب[4] ورقة أن توفي وفتر الوحي"[5].
وهذا الحديث نص صريح في الموضوع الذي نحن بصدده إذ أنّه يعطينا صورة واضحة عن معاداة الأمم السابقة لرسلهم من غير استثناء رسول واحد من الرسل عليهم السلام ابتداء من نبي الله نوح عليه السلام وانتهاء بخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كما هي سنة الله تعالى في إرسال الرسل.
وما دامت سنة الله في كل دعوة من دعوات الرسل عليهم الصلاة والسلام أن تواجه الابتلاء والاختبار فلا بد لدعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن تواجه أيضًا ذلك من قبل المعاندين من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم.
وفي هذا الفصل أتحدث عن ما لاقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أعداء الدعوة الإسلامية وكيف قاومهم ومدى ما تحمل من المتاعب في سبيل نشر الدعوة الإسلامية مع مراعاة ظروف ذلك الزمان.
وقد قسمت هذا الفصل إلى ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تحمل مشاق نشر الدعوة.
المبحث الثاني: الصبر على الأذى والعدوان من قبل الخصوم.
المبحث الثالث: إكمال الله تعالى الدين على يده صلى الله عليه وسلم.
وذلك على النحو التالي:
المبحث الأول
تحمل مشاق نشر الدعوة(4/33)
من المعلوم أنّ الإسلام بدأ غريبًا كما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء)[6].
وتلك الغربة قد زالت بفضل الله تعالى ثم بفضل جهود رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة الإسلامية في مراحلها الخمسة وتحمله المشاق في سبيل إنجاحها.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تلك المراحل الخمس وهي على النحو التالي:
المرحلة الأولى: النبوة.
المرحلة الثانية: إنذار عشيرته الأقربين.
المرحلة الثالثة: إنذار قومه.
المرحلة الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة.
المرحلة الخامسة: إنذار جميع من بلغته الدعوة من الجن والإنس إلى آخر الدهر[7].
ويمكن تقسيم هذه المراحل التي أشرتها آنفًا إلى مرحلتين: المرحلة المكية، والمرحلة المدنية أي بعد الهجرة.
أولاً: المرحلة المكية:
وهذه المرحلة هي أصعب المرحلتين لقلة المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم وضعفهم وقوة المعادين له وكثرتهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان على ثقة بالله سبحانه وتعالى في أن يتم هذا الأمر فلم يتزحزح عن طريق الحق قيد شبر طيلة المدة التي كان يدعو الناس إلى الله.
وفي السنوات الثلاث الأولى من هذه المرحلة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسر دعوته ولا يدعو الناس إلا فرادى، ويأمر من آمن به أن لا يظهر إسلامه خوفًا على نفسه.
ويؤيد هذا ما أخرجه الحاكم عن عمر بن عبسة رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بعث وهو يومئذ مستخف فقلت أنت ما أنت؟ قال: "أنا نبي" قلت: وما نبى؟ قال: "رسول الله" قلت: أرسلك الله؟ قال: "نعم" قلت: بم أرسلك؟ قال: "بأن تعبدوا الله وتكسروا الأوثان وتصلوا الرحم" قلت: نعما أرسلت فمن تبعك على هذا؟ قال: "حر وعبد" يعني أبا بكر وبلالاً، فكان عمر بن عبسة يقول: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام فأسلمت فقلت: أتبعك يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكن الحق بأرض قومك فإذا ظهرت فأتني"[8].
ويشير ابن القيم رحمه الله إلى هذه المرحلة قائلاً:
"وأقام صلى الله عليه وسلم بعد ذلك[9] ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه وتعالى مستخفيًا ثم نزل عليه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]. فأعلن صلى الله عليه وسلم بالدعوة وجاهر قومه بالعداوة واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين حتى أذن الله لهم بالهجرتين"[10].
ولا يخفى ما لهذه الفترة من مشقة نفسية بالنسبة لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين على السواء بحيث أنّهم كانوا لا يقدرون أن ينطقوا بالحق الذي آمنوا به أمام الناس فضلاً عن دعوة الناس إليه جهرًا خائفين على أنفسهم لأنّه من المحتمل وأد الدعوة في مهدها إذا أعلنوها آنذاك إمّا بقتل صاحبها أو معتنقيها أو افتتانهم عن دينهم والفتنة أشد من القتل.
إضافة إلى ذلك فقد كان صلى الله عليه وسلم يعاني مشقة أخرى ينفرد بها عن أصحابه وهي شدة تلقي الوحي وخاصة في أيامه الأولى التي لم يتعوده بعد حتى أنّه كان يفزع من رؤية الملك جبريل عليه السلام أمين الوحي.
ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1].. إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] فحمى الوحي وتتابع)[11]. وَمن شدائد الوحي أيضًا ما لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم من حفظه وقراءته حتى إنه كان يسابق الملك في القراءة إلى أن نزل قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:1617].
يقول ابن عباس رضي الله عنه ما في هاتين الآيتين المذكورتين: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه فأنزل الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:1617] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أَتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه"[12].
يقول ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين: "هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك فإنّه كان يبادر إلى أخذه ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك أن يستمع له، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره وأن ييسره لأدائه على الذي ألقاه إليه وأن يبينه له ويفسره ويوضحه، فالحالة الأولى جمعه في صدره والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه"[13].(4/34)
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنّه كان يعاني من الوحي شدة طوال فترة بعثته غير أنّه تعود وتحمل دون رعب وفزع منه ومن الملك بخلاف ما كان يعاني وقت بدايته.
ويؤيد هذا ما روته عائشة رضي الله عنها أنّ الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة[14] الجرس وهو أشده عليَّ حتى يفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول"، قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا"[15].
وأما بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة إلى الله فقد ازدادت الشدة عليه وعلى المؤمنين بسبب معاداة قومه دعوته وإيذائه هو وأصحابه بكل ما أوتي لهم من قوة حسيًّا ومعنويًا.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بذل أقصى جهده في إبلاغ الدعوة إلى الناس وهو لا يخاف لومة لائم مهما كانت قوته وسلطته وتحمل المشاق في سبيل إنجاحها.
وقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم في إبلاغ قومه في هذه المرحلة طرقًا شتى وهي إمّا أن يطلب الناس إلى التجمع ليبلغ رسالة ربّه أو أن يذهب إلى أماكن تجمعهم كالمواسم والأسواق، أو أن يذهب إلى مواطنهم ومكان إقامتهم..
وأذكر هنا ما يؤيد ذلك من النصوص الصحيحة:
الطريقة الأولى: تجمع الناس لدعوتهم: ومما يدل على ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا: من هذا فاجتمعوا إليه فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أفكنتم مصدقي؟" قالوا: نعم ما جربنا عليك كذبًا. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد" قال أبو لهب: تبًا لك ما جمعتنا إلا لهذا؟[16]
وهذا الحديث يدل على مدى اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاغ الدعوة إلى قومه بحيث وقف على جبل الصفا في الصباح الباكر قائلاً بأعلى صوته: يا صباحاه لينبه هؤلاء حتى يجتمعوا له ومن ثم يبلغهم ما كلف به من قبل الله سبحانه وتعالى كما أنّه يدل على ما عانى الرسول صلى الله عليه وسلم من قومه من الاستهزاء والاستكبار والإعراض عنه والدعاء عليه وخاصة من أقرب شخص إليه وهو عمه أبو لهب الخاسر.
ولا يخفى ما لهذه الواقعة من المشقة إذ أنها تؤدي إلى اليأس بالنسبة لصاحب الرسالة وللمؤمنين من هؤلاء لولا لطف الله وعنايته المستمرين عليهم وكذلك إخبار الله تعالى عن الأمم السابقة وموقفهم من الرسل عليهم الصلاة والسلام من تكذيب وتعنت تسلية له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه.
الطريقة الثانية: وهي الذهاب إلى أماكن تجمعهم كالمواسم: ومما يدل على ذلك ما أخرجه الحاكم عن جابر بن عبد الله قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: "هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" فأتاه رجل من همدان فقال: أنا فقال: "وهل عند قومك منعة؟" قال: نعم وسأله من أين هو؟ فقال: من همدان ثم إن الرجل الهمداني خشي أن يحفزه قومه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: آتي قومي فأخبرهم ثم ألقاك من عام قابل قال: نعم، فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب)[17].
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على ما قام به مشركو قريش في وقف الدعوة الإسلامية حتى اضطر صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم أن يبحث عن قوم آخرين يوجه إليهم الدعوة التي كلف بتبليغها.
وفي ترك وطنه مشقة كبرى لا يشعرها إلا من مارس ذلك بالفعل لأنّه يقال ليس الخبر كالمعاينة مع الالتفات إلى الأسباب الداعية إلى ذلك وهي ما لقي من مشركي قريش من الأذى حسيًا كان أو معنويًا.
ومن ذلك أيضًا ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة[18] إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلاّ وأنا بقرن الثعالب[19] فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين[20]. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا"[21].(4/35)
من هذه النصوص التي نقلتها آنفًا يتبين لنا مدى اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بنشر الدعوة الإسلامية واستفادته من كل فرصة متاحة في إبلاغ الدعوة إلى قومه وتحمله المشاق في سبيل ذلك من سفر وترحال مع مراعاة وسائل النقل المتاحة له في ذلك الزمان إضافة إلى ما يلقاه من أعدائه المشركين الذين بذلوا كل الجهد واستعملوا كل الوسائل المتاحة لهم بإيقاف الدعوة الإسلامية.
ثانيًا: المرحلة المدنية:
بعدما أذن الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم والذين معه بالهجرة إلى المدينة ووصلوا هناك نشأت الدولة الإسلامية الأولى قائدها الرسول صلى الله عليه وسلم ودستورها القرآن الكريم.
وقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله طرقًا أخرى غير الذي ذكرت في المرحلة السابقة حسب ما يقتضيه المقام.
من تلك الطرق إرسال الرسل ينوبون عنه ويعلمون الدين الأقوام الذين أرسل إليهم مثل اليمن.
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "إنّك ستأتي قومًا من أهل الكتاب فإذا جئتم فادعهم إلى أن يشهدوا أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنّه ليس بينه وبين الله حجاب"[22].
ومن ذلك أيضًا ما أخرجه البخاري بسنده عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه قال: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم جده أبا موسى ومعاذ إلى اليمن فقال: "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا"[23].
من تلك الطرق التي سلك الرسول صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة إلى الله إرسال الرسائل إلى ملوك الأمم في ذلك الزمان مثل هرقل عظيم الروم وكسرى ملك الفرس وغيرهم.
وقد أخرج الإمام مسلم عن أنس: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي[24] وإلى كل جبار. يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم[25].
وأذكر هنا رسالة واحدة من تلك الرسائل إلى ملوك الكفار آنذاك كنموذج يشهد لما نحن بصدده. والرسالة التي نختارها لهذا المقام هي التي وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم ونصها كما يرويها الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما هو الآتي: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين[26].
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64][27].
وبجانب هاتين الطريقتين في الفترة المدنية فقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم مسلكًا آخر في نشر الدعوة الإسلامية، وهو مسلك الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته تنفيذًا لأمر الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39].
ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة...)[28].
وقد نفذ الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر بواسطة إرسال سرايا وبواسطة غزوات اشترك فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى أنّه جرح في بعضها مثل غزوة أحد.
ولا شك أن هذا الأمر يحتاج إلى جهد كبير وصبر على الأذى وثبات في المعركة وتحمل مشقة السفر والترحال إلى مكان العدو الذي يبعد عن المدينة عاصمة الدولة في أكثر الأوقات مع مراعاة الظروف في ذلك الزمان ووسائل النقل المتاحة له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه رضوان الله عليهم.
وبالإضافة إلى ذلك هناك معارضة داخلية وهي المتمثلة في اليهود وأعوانهم المنافقين الذين وقفوا في وجه نشر الدعوة الإسلامية بكل ما لديهم من قوة من غدر وتشكيك وتثبيط المؤمنين عن القتال وموالاة المشركين والتآلب مع أعداء الإسلام بغية القضاء على الإسلام ومعتنقيه.
ولا يتسع هذا المقام لأن أذكر بالتفصيل كل المؤامرات التي قام بها كلا المعسكرين اليهود والمنافقين في سبيل إيقاف نشر الدعوة الإسلامية إلى الآفاق إلا أن الحقيقة التي لا بد من ذكرها هي أنهم كانوا حجر عثرة على طريق الدعوة إلى الله طوال الفترة المدنية.
وأذكر هنا على سبيل الإجمال بعض جرائم معسكري اليهود والمنافقين:
أولاً: أهم جرائم اليهود:(4/36)
(أ) الكفر بآيات الله كما يدل عليه قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران:70].
(ب) تضليل الناس كما يدل عليه قوله تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} [آل عمران:69].
(ج) تلبيس الحق بالباطل وكتمان الحق كما يدل عليه قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:71].
(د) تحريف الكلم عن مواضعه كما يدل عليه قوله تعالى: {مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء:46].
(هـ) الحسد على صاحب الرسالة وعلى المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105].
وأما جرائم المنافقين فهي الآتي:
(أ) تثبيط همم المسلمين عن القتال كما يدل عليه قوله تعالى: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81].
(ب) السعي في التفريق بين المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107].
(ج) القدح في أعراض المسلمين كما يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].
(د) مظاهرة أعداء الله كما يدل عليه قوله تعالى: {بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:138139].
وبفضل الله سبحانه وتعالى فقد تغلب الرسول صلى الله عليه وسلم على هذين الفريقين اليهود والمنافقين.
أما اليهود فقد قضى عليهم بواسطة إجلاء فريق منهم وهم بنو النضير وغيرهم وبقتل رجال الفريق الآخر وسبي نسائهم وذريتهم وأموالهم كما هو معروف في كتب السيرة.
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حاربت قريظة والنضير فأجلي بني النضير وأقر قريظة ومنّ عليهم حتى حاربت قريظة، فقتل رجالهم، وقسم نسائهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا وأسلموا، وأجلي يهود المدينة كلهم، بني قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكل يهود المدينة "[29].
وأمّا بالنسبة للمنافقين فقد اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم بالجهاد معهم باللسان دون السنان والغلظة عليهم لإظهارهم الإسلام دون الاعتقاد به حقيقة.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73].
يقول الشهيد سيد قطب في تفسير هذه الآية: "وقد اختلف في الجهاد والغلظة على المنافقين، أتكون بالسيف.. أم تكون في المعاملة والمواجهة وكشف خبيئاتهم للأنظار.. والذي وقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين"[30].
وهذه الأمور التي ذكرتها كلها تدل على اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بنشر الدعوة الإسلامية طيلة ثلاثة وعشرين عامًا في مكة والمدينة.
المبحث الثاني
الصبر على الأذى في سبيل الدعوة
لقي النبي صلى الله عليه وسلم صنوفًا من الأذى من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين وغيرهم محاولين إيقاف الدعوة أو إضعافها على الأقل.
وسوف أتحدث في هذا المبحث عما لقي الرسول صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الأعداء وأثر ذلك عليه صلى الله عليه وسلم وأقتصر هنا على بيان موقف المشركين لأنّ اليهود والمنافقين قد ظهر أذاهم للرسول صلى الله عليه وسلم بعدما قويت شوكة الإسلام وقامت دولته في المدينة بعد الهجرة على يدي رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.(4/37)
وقد سلك المشركون من قريش سبلاً شتى في إضعاف الدعوة الإسلامية وإيقافها ومحاولة وأدها في مهدها بعد ظهورها في مكة وذلك بإيذاء صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام وبمنع الناس من الإيمان به وبالتحذير منه تارة وبتعذيب المؤمنين تارة أخرى.
ولقد اتخذ العدوان الجاهلي على رسول الله وأصحابه صورًا شتى وألوانًا عديدة.
ومنه ما كان يتمثل في الدعايات الكلامية الموجهة إلى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى التهجم على الوحي بقسميه القرآن الكريم والسنة النبوية.
فلقد وجه كفار قريش اتهامات باطلة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حيث وصفوه بالجنون وبالسحر، وإنشاء الشعر مع إيمانهم وتيقنهم بأنه صلى الله عليه وسلم بريء من كل هذا.
وممَّا يؤيد ذلك ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً. فقال: لم؟ قال: ليعطوكه، وإنك آتيت محمدًا لتعرض لما قبله قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك إنك منكر له أو إنّك كاره له. قال: وماذا أقول؟، فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي ولا أعلم برجز ولا بقصيدة منّي ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا والله إنّ قوله الذي يقول لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة[31] وإنه لمثمر أعلاه مغدق[32] أسفله، وإنه ليعلوا وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر، ففكر، فلمّا فكر قال: هذا سحر يؤثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11][33].
هكذا كان شأنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنهم يقرّون الحق في ضميرهم دون النطق به، بل ينكرونه ويجحدونه مصداقًا لقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، ومصداقًا لقوله تعالى أيضًا:
{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
وقد صور الله تعالى بعض أقاويلهم في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى حاكيًا عن أقوالهم حيث قالوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6].
وقالوا: {هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4].
وقالوا: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا} [الإسراء:47].
وقالوا: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36].
وقالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} [ص:7].
وقالوا: {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14].
وأمّا تهجمهم على القرآن فكثير أذكر طرفًا منه على سبيل المثال لا الحصر كما يحكي ربّنا عنهم.
من ذلك قولهم: {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5].
ومنها قولهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].
ومنها قولهم: {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24].
ومنها قولهم: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:32].
ومنها قولهمِ: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
وكان هذا دأب كل قوم مع رسولهم كما يدل عليه قوله تعالى حاكيًا عن موقف الأمم السابقة من رسلهم: {كَذَلِكَ مَا أتَى الذِينَ مِن قبلِهم مِن رَسُولِ إلا قَالُوا سَاحِر أو مَجنُونٌ * أتَوَاصَوا بهٍ بَل هُم قومٌ طَاغُونَ}.
يقول الشوكاني عند تفسيره هاتين الآيتين: "في هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان أنّ هذا شأن الأمم المتقدمة وأنّ ما وقع من العرب من التكذيب لرسول الله ووصفه بالسحر والجنون قد كان ممن قبلهم لرسلهم"[34].
ويقول الشهيد سيد قطب في هذا الصدد: " فهي جبلة واحدة وطبيعة واحدة للمكذبين وهو استقبال واحد للحق وللرسل يستقبلهم به المنحرفون"[35].
وهذه الاتهامات التي ذكرتها يعتبر قطرة من بحر بالنسبة لما وجه إلى صاحب الرسالة ورسالته من اتهامات وافتراءات إلا أنها تدل دلالة واضحة على تعنت هؤلاء المشركين وموقفهم المتزمت تجاه الدعوة وصاحبها صلى الله عليه وسلم طيلة المدة التي أقام المصطفى بين أظهرهم.
وقد رد الله سبحانه وتعالى عن رسوله وعن دينه هذه التهم في كثير من الآيات: منها قوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2].
ومنها قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69].(4/38)
ومنها قوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:24].
ومنها قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:4142].
ومن العدوان الذي قام به المشركون أيضًا ما كان يتمثل في إيذائه صلى الله عليه وسلم جسديًا بغية أن يعدل عن دعوته كلية أو جزءًا منها.
من ذلك إيذاؤه صلى الله عليه وسلم بالخنق بواسطة ثوبه كما فعل عقبة بن أبي معيط.
يدل على ذلك ما أخرجه البخاري بسنده عن عمرو بن العاص لما سأله عروة بن الزبير عن أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفع عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ} [غافر:28][36].
ومن ذلك إلقاء القاذورات عليه صلى الله عليه وسلم كما فعل عقبة بن معيط أيضًا.
أخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة ابن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرفع رأسه فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره ودعت على من صنع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم عليك بالملأ من قريش أبا جهل بن هشام بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف أو أبي بن خلف"[37] "شعبة الشاك" فرأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر إلا أمية أو أبي تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر"[38].
ومن ذلك أيضًا المقاطعة العامة التي فرضت عليه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين من أقربائه وغير المؤمنين الذي وقفوا بجانبه تعصبًا وحميّة.
وقد ذكر أصحاب السير هذه المقاطعة العامة ومن بينهم الإمام ابن كثير رحمه الله في كتابه السيرة النبوية يروي ذلك تعليقًا عن ابن إسحاق صاحب المغازي قال: " فلما رأت قريش أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزلوا بلدًا أصابوا منه أمنًا وقرارًا، وأنّ النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم وأن عمر قد أسلم، فكان هو وحمزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وجعل الإسلام يفشوا في القبائل فاجتمعوا وأتمروا على أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على ألا ينكحوا إليهم ولا يناكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم"[39].
ويقول ابن إسحاق أيضًا: " فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثًا، حتى جهدوا ولم يصل إليهم بشيء إلا يسرًا مستخفيًا من أراد صلتهم من قريش "[40].
وقد ظل الحصار مفروضًا عليهم في تلك المدة حين كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع[41].
ومن ذلك محاولة إغرائه صلى الله عليه وسلم بواسطة ما عرضوا عليه من مغريات مادية عساه أن يجنح لبعضها حسب ما تقتضي عقولهم وأهواؤهم وحسب ما تقتضي الموازين الأرضية.
يروى أنّ عتبة بن ربيعة وكان سيدًا قال يومًا وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها فيعطيه أيها شاء ويكف عنّا وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منّا حيث علمت من السلطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع" قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: "أفرغت يا أبا الوليد؟" قال: نعم، قال: "فاستمع مني" قال: أفعل، فقرأ صلى الله عليه وسلم صدر سورة فصلت إلى السجدة منها ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك"[42].
ومن إيذائهم أيضًا التآمر على قتله صلى الله عليه وسلم.(4/39)
ويؤيد هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف [43] لو قد رأينا محمدًا لقمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة تبكي حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قومك قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقاموا إليك فقتلوك فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك[44].
وقد أشار القرآن إلى تلك الحادثة بقوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجههم بالصبر على أذاهم والثبات على مبدئه طيلة الفترة المكية إيمانًا بأنّ الله عز وجل سوف ينصره وينصر دينه وإن تأثر بإيذائهم له صلى الله عليه وسلم تأثرًا حتى نبهه الله سبحانه تعالى بذلك في عدة مواضع من القرآن على سبيل التسلية والتوجيه.
يقول تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ} [الحجر:9798].
ويقول الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود:12].
ويقول تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6].
ويقول تعالى: {...فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8].
المبحث الثالث
تكميل الدين وإتمام النعمة
لقد جعل الله سبحانه وتعالى نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين.
يقول تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40].
ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة قال: فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين"[45].
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي"[46].
فهذه النصوص من القرآن والسنة كلها تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإن ادّعى المدعون النبوة قديمًا وحديثًا.
يقول ابن كثير عند تفسيره الآية السابقة: "فهذه الآية نص في أنّه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإنّ كل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم"[47].
وعلى هذا فإن رسالته ختمت بها الرسالات السابقة كلها ومن ثم لا يقبل الله أن يدين أحد بسواها بعد نزولها لنسخها ما قبلها سواء كان يدين برسالة سماوية سابقة كاليهودية والنصرانية أو لا كعبدة الأوثان والأصنام. يقول تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
ويقول صلى الله عليه وسلم مؤكدًا ذلك: "لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلاّ أن يتبعني"[48].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"[49].
يؤيد هذا قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].
يقول ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية التي نحن بصددها: "ما بعث الله نبيًا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدًا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه"[50].
ويروى مثل هذا القول عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه[51].
وقد تميزت رسالته صلى الله عليه وسلم بأمور ثلاثة تفوق بها على الرسالات التي قبلها وتؤهلها لأن تكون خاتمة:
أولاً: العموم: بمعنى أن رسالة الإسلام ليست محددة بزمن من الأزمان ولا بمكان من الأمكنة ولا بأمة دون الأمم منذ نزولها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(4/40)
يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28].
ويقول تعالى أيضًا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
ويقول تعالى أيضًا آمرًا إعلان هذا الأمر: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] وهذه النصوص كلها تدل على عمومية رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وهي من إحدى خصائصه كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي... ثم ذكر من بينها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس كافة"[52].
ويؤيد خصوصية الرسالات السابقة قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].
ثانيًا: الحفظ: حيث تكفل الله بحفظها باقية كما نزلت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها دون تغيير شيء منها بالنقص منها أو الزيادة عليها.
يقول تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وهذا أمر مشاهد اليوم لا ينكره أحد بحيث لم يتغير منها شيء بعد أربعة عشر قرنًا وستبقى كذلك إلى حين يشاء الله تعالى، بخلاف الكتب السابقة التي تعرضت للتحريف والتبديل من قبل أصحابها كالتوراة والإنجيل.
ثالثًا: الكمال والتمام: ولقد أكملها سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
وقد نزلت هذه الآية في حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم كما ورد في الحديث الصحيح.
روى البخاري بسنده عن طارق بن شهاب قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدًا فقال عمر: "إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت يوم عرفة، وإنا والله بعرفة"[53].
ومن هنا أقول إنّ هذه الآية نزلت بعد جهاد طويل دام ثلاثة وعشرين سنة وفي وقت أظهر الله دينه وفي حجة الوداع الذي لم يحج فيه مشرك لما ورد في الصحيح.
روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان"[54].
وكان ذلك في العام التاسع من الهجرة. ولهذا لم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك.
كما أني أقول أيضًا: إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أبلغ الأمة ما كلف به دون كتمان شيء تنفيذًا لأمر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67].
وتقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في هذا الصدد: "من حدثك أنّ محمدًا قد كتم شيئًا مما أنزل عليه، فقد كذب، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67][55][56].
وقد شهد له بذلك جموع من أصحابه رضوان الله عليهم في حجة الوداع حينما قال لهم أثناء خطبته بوادي عرنة في يوم عرفة: ".. أنتم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: "نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت" فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها[57] إلى الناس: "اللهم أشهد اللهم أشهد، ثلاث مرات.. "[58].
ولا يخفى أن مثل هذا الأمر يتطلب جهدًا وتحملاً للمشقة كما أنّه يتطلب الصبر على الأذى والثبات أمام المغريات.
وقد تحمل صلى الله عليه وسلم مشقة كبيرة في سبيل نشر الدعوة وإبلاغها إلى الناس كما أنه تحمل أذى المشركين والمنافقين واليهود ومن في حكمهم بالصبر تارة وبالجهاد معهم تارة أخرى طيلة ربع قرن من الزمن تقريبًا.(4/41)
وقد ذكر محمد رشيد رضا خلاصة عمله صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة حيث قال: "أقام صلى الله عليه وسلم في مكة بعد بدء التبليغ عشر سنين، يدعو إلى أصول الإيمان وكليات الدين، من التوحيد الخالص، والعمل الصالح، وتزكية النفس بتطهيرها من أدران الرذائل، وتحليتها بأحاسن الأخلاق وعقائل الفضائل، واستعمال نعم الله تعالى من بدنية وعقلية، وسماوية وأرضية، فيما تظهر به حكمه ونشاهد آياته في الخلق، وتتسع بها العلوم التي يعرف بها الحق وتكثر موارد الرزق، صابرًا مع السابقين من المؤمنين، على الاضطهاد والأذى من المشركين، على أنهم عرضوا عليه الملك والمال والدثر، على أن يترك هذا الأمر، ولو كان لطلب الرياسة لآثر على الضعف والفقر، ثم دخل الإسلام بالهجرة في عهد الحرية، وتكونت له قوة العصبية، وجاء الوحي فيه مفصلاً لما أجمل في السور المكية من الأحكام، وبيان الحلال والحرام، وفيه فرضت الزكاة والحج والصيام، وكانت الصلاة فرضت بمكة في أول الإسلام وبينت السنة النبوية جميع فروع العبادات، وكل ما يحتاج إليه من النصوص والقواعد السياسية وأنواع المعاملات، فبذلك كله أكمل الله الدين وأتم نعمته على المؤمنين وقد تربى على ذلك الألوف من المهاجرين والأنصار".
وهذه الأمور التي ذكرها تمت كلها في فترة وجيزة للغاية لا تتجاوز ربع قرن من الزمن بل أقل من ذلك. بحيث تقتضي هنا الإعجاب والتقدير معًا لمن قام بها وحققها في واقع الحياة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل من الله سبحانه وتعالى: يقول أبو الحسن الندوي معربًا إعجابه بذلك: "لقد كان الانقلاب[59] الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا الانقلاب غريبًا في كل شيء، كان غريبًا في سرعته، وكان غريبًا في عمقه، وكان غريبًا في سمعته وشموله، وكان غريبًا في وضوحه وقربه إلى الفهم. فلم يكن غامضًا ككثير من الحوادث الخارقة للعادة ولم يكن لغزًا من الألغاز "[60].
وقد نتج عن عمله صلى الله عليه وسلم الأمور التالية:
1ـ القضاء على الوثنية وإحلال محلها الإيمان بالله واليوم الآخر.
2ـ القضاء على الرذائل الجاهلية وأقام مقامها الفضائل ومكارم الأخلاق.
3ـ إقامة الدين الحق الذي يصل بالإنسان إلى أقصى ما قدر له.
4ـ إحداث انقلاب[61] وتغيير شامل للأوضاع ونظام الحياة الذي درج عليه أهل الجاهلية.
5ـ توحيد الأمة العربية تحت راية القرآن في فترة وجيزة[62].
يقول سيد سابق بعد ذكره النقاط السابقة: "هذه هي الأعمال التي تمثل نجاح الرسول صلى الله عليه وسلم في مهمته وهي كما تبدو كلها أمور كبيرة وإقامتها بل إقامة واحد منها من الخطورة بمكان وأنّه لا يمكن أن يتأتى النجاح لفرد في بعض هذه الأعمال فضلاً عن توفر النجاح في كل ناحية من هذه النواحي"[63].
وعلى هذا فعلى المسلم أن يتأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم تقديرًا لما قام به من أعمال جليلة في سبيل وصول الإسلام إلى الناس في زمانه وإلى الذين من بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها ولما أثر عنه صلى الله عليه وسلم من صفات حميدة من ناحية الخلقية والخلقية والتي بينتها في الفصل الأول من هذا الباب مع ما أنعم الله عليه من النبوة والرسالة التي ختم الله بها الرسالات كلها.
ـــــــــــــ
الهوامش:
[1] في ظلال القرآن (2/1077).
[2] الناموس: صاحب سر الملك، وقيل صاحب سر الخير، وأراد به جبريل عليه السلام لأنّ الله تعالى خصّه بالوحي والغيب اللذين لا طلع عليهما غيره. النهاية في غريب الحديث (5/119).
[3] يا ليتني كنت جذعًا: أي يا ليتني كنت شابًا عند ظهورها حتى أبالغ في نصرتها وحمايتها. وأصل الجذع من أسنان الدواب وهو ما كان شابًا فتيًا. النهاية في غريب الحديث (1/250).
[4] لم ينشب: من نشب. يقال نشب في الشيء إذا وقع فيما لا مخلص له منه، ولم ينشب أن فعل كذا أي لم يلبث، وحقيقته لم يتملق بشيء غيره ولا اشتعل بسواه. وهنا لم يلبث حتى مات. النهاية في غريب الحديث (5/52).
[5] صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/7).
[6] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنّ الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا (1/130).
[7] انظر: زاد المعاد (1/86).
[8] مستدرك الحاكم (3/617)، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
[9] بعد بدء نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم.
[10] زاد المعاد (1/86).
[11] صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/7).
[12] صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/7).
[13] تفسير القرآن العظيم: (4/449).
[14] الصلصة: صوت الحديد إذا حرك. انظر النهاية في غريب الحديث (3/46).
[15] صحيح البخاري، كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/6).(4/42)
[16] صحيح البخاري في كتاب التفسير، باب تفسير سورة (تبت يدا أبي لهب وتب) (3/222)، ومسلم في كتاب الإيمان باب (وأنذر عشيرتك الأقربين) (1/194) واللفظ للبخاري.
[17] مستدرك الحاكم (2/612613) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/35) رواه أحمد ورجاله ثقات.
[18] يوم العقبة: هو اليوم الذي وقف صلى الله عليه وسلم على العقبة التي بمنى داعيًا الناس إلى الإسلام.
[19] قرن الثعالب: قرن المنازل ميقات أهل نجد النهاية في غريب الحديث (4/54).
[20] الأخشبين الجبلان المطيفان بمكة وهما أبو قيس والأحمر وهو جبل مشرف على قيقعان والأخشب كل جبل غليظ الحجارة. النهاية في غريب الحديث (2/32).
[21] صحيح البخاري، في كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة (2/214)، وصحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين (3/1420)، واللفظ لمسلم.
[22] صحيح البخاري في كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذًا إلى اليمن (3/7273).
[23] صحيح البخاري في كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذًا إلى اليمن (3/7273).
[24] لقب لكل من ملك الحبشة.
[25] صحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار ودعوتهم إلى الله عز وجل.
[26] الأرسيون: هم الخدم والخول وقيل هم الأكارون النهاية في غريب الحديث (1/38).
[27] صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/9). وصحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (3/1396) واللفظ لمسلم.
[28] صحيح البخاري في كتاب الإيمان، باب: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلو سبيلهم (1/13)، وصحيح مسلم في كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حق يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله (1/53) واللفظ لمسلم.
[29] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حديث بنى النضير (3/15).
[30] في ظلال القرآن: (3/1677).
[31] طلاوة: رونقًا وحسنًا، وقد تفتح الطاء. النهاية في غريب الحديث (3/137).
[32] مغدق: من غدق، والغدق بفتح الدال المطر الكبير القطر، يقول: أغدق المطر يغدق إغداقًا فهو مغدق. النهاية في غريب الحديث (3/345).
[33] مستدرك الحاكم (2/507) وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[34] تفسير فتح القدير (5/9192).
[35] في ظلال القرآن الكريم: (6/3386).
[36] كتاب المناقب باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة (2/321).
[37] والصحيح أمية لأن أبي قد قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد كما هو مشهور في كتب السيرة. انظر زاد المعاد (3/199).
[38] صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المشركين بمكة (2/321).
[39] السيرة النبوية: (2/4748).
[40] المصدر السابق: (2/50).
[41] انظر المصدر السابق: (2/47).
[42] انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/91) ويروي البنوي هذه القصة في تفسيره (6/107) عن جابر رضي الله عنه وحسن الألباني سندها في تعليقاته على فقه السيرة للغزالي. انظر هامش (ص:113) من فقه السيرة.
[43] الخمسة أسماء لآلهة المشركين.
[44] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/303)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/228) رواه أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح، وقال الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (4/2763) كلا الإسنادين صحيح.
[45] صحيح البخاري كتاب المناقب، باب خاتم النبيين (2/370).
[46] صحيح البخاري كتاب المغازي، باب غزوة تبوك (3/86).
[47] تفسير القرآن العظيم: (3/493).
[48] رواه الدارمي (1/115116) وحسنه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/63).
[49] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (1/134).
[50] انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/378).
[51] انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/378).
[52] صحيح البخاري، كتاب التيمم (1/70).
[53] صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: (اليوم أكملت لكم دينكم) (3/123).
[54] صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج) (3/134).
[55] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) (3/125).
[56] قال القاضي عياض: كذا الرواية فيه بالتاء المثناة فوق وهو بعيد المعنى، قيل صوابه ينكبها. ومعناه ويرددها إلى الناس مثيرًا إليهم، ومنه نكب كنانته إذا قلبها. شرح النووي على صحيح مسلم (8/184) وانظر مقدمة هذا البحث.
[57] صحيح مسلم، كتاب الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم (2/890).
[58] ذكرى المولد النبوي (ص:4142).(4/43)
[59] الانقلاب مصطلح حديث يستعمل للخير والشر معًا وخاصة للشر في هذا العصر لذلك من الأفضل والأولى وصف الإسلام بالتغيير الكلي أو الإصلاح الجذري.
[60] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (ص:8889).
[61] انظر هامش رقم (2) في الصفحة السابقة.
[62] العقائد الإسلامية (ص:200201) مع التصرف.
[63] المصدر السابق (ص:201).
7. ... كتاب "التأدب مع الرسول في ضوء الكتاب والسنة" [الجزء الثالث]
الباب الثاني
أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم
الأدب مفهوم يتعلق بأعمال الإنسان بصورة عامة، وأنواع الأعمال تبعًا للتقسيم الواقعي لا تتعدى ثلاثة أنواع لأنها إمّا أن يكون مصدرها القلب وهي الأعمال القلبية كالحب والألفة والسرور، وإمّا أن يكون مصدرها اللسان وهي الأقوال والألفاظ، وإمّا أن يكون مصدرها الجوارح وهي الحركة والمشي وهكذا.
والأدب متصل بهذه الأنواع الثلاثة، ولذلك كان على المسلم أن يلتزم بكل منها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره ولا بد من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ولا بد من اتباعه وطاعته واتخاذه أسوة وقدوة.
وقد عقدت هذا الباب للحديث عن أنواع الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولذلك جاء في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: الأدب القلبي.
الفصل الثاني: الأدب القولي.
الفصل الثالث: الأدب العملي.
وسوف أبحثها بعون الله بنفس الترتيب فيما يلي:
الفصل الأول
الأدب القلبي
الأدب القلبي هو ما كان مصدره القلب مثل التصديق، والحب، والإخلاص وهكذا..
والآداب القلبية لها شأن عظيم تبعًا لأهمية مصدرها، لأنّ القلب سيد أعضاء الجسد يقودها ويوجهها، ويصبغها بصبغته ومحتواه.
لقوله صلى الله عليه وسلم: "...ألا إن في الجسد مضغة [1] فإذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب "[2].
ولهذا يعتبر القلب طاقة ذات أهمية كبيرة بالنسبة لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
فهو أساس الأعمال الظاهرة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنّما الأعمال بالنيات وإنّما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها أو لدنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه "[3].
وبه يكون قبول الأعمال عند الله تعالى لقوله سبحانه: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225].
وهو محل الإيمان لقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7].
ولقوله تعالى: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22].
وهو أيضًا محل الهداية لقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]. كما أنّه محل للتقوى. لقوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
والقلب كما يوجه صاحبه للإيمان والهداية إذا استقام على الفطرة، وتدبر آيات الله واستفاد منها، يوجه صاحبه كذلك إلى المعصية والضلال إن بعد عن فطرته. وانشغل بالهوى والشهوات وحينئذ يكون مصدر الكفر لقوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93].
ومحل الشك والريب لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:45].
ومحل التعصب وحمية الجاهلية لقوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح:26].
يقول النيسابوري: "القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان وصالح لأن يميل إلى الكفر وكل منهما يتوقف على داعية ينشئها الله تعالى فيه، إذ لو حدثت بنفسها لزم سد باب إثبات الصانع فإن كانت داعية الكفر فهو الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والريبة وغيرها مما ورد في القرآن، وإن كانت داعية الإيمان فهو التوفيق والرشاد والهداية والتثبيت والعصمة ونحوها"[4]. ثم استشهد بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"[5].
ومن هنا قيل سمي القلب قلبًا لتقلبه وتغايره.
وعلى هذا سأل الرسول صلى الله عليه وسلم ربّه عز وجل أن يثبت قلبه على طاعته قائلاً: "اللهم مصرف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك"[6].
وفي هذا الفصل سوف نتحدث عن الآداب التي محلها القلب وسيأتي مكونًا من مبحثين هما:
المبحث الأول: الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثاني: محبته صلى الله عليه وسلم.
وذلك فيما يلي:
المبحث الأول
الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم(4/44)
من الآداب القلبية المتصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم بل هو رأس الآداب كلها لأن الإيمان به صلى الله عليه وسلم ركن من أركان العقيدة وأساس من أسس الدين وأما غيره من الآداب فتابعة له بحيث إذا اختل هذا الركن يختل معه الآداب الأخرى.
وعلى هذا، فأول ما يطلب من الأنام تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان به صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان بالله عز وجل بل إنهما متلازمان لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا *وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:150152].
ولأهمية الإيمان به صلى الله عليه وسلم جعلت الكلام عنه في صدارة الباب المتعلق بالآداب مع رسول صلى الله عليه وسلم.
وسوف نتطرق في هذا المبحث إلى المسائل المتعلقة بهذا الموضوع وهي على النحو التالي:
1ـ تعريف الإيمان لغة واصطلاحًا.
2ـ حكم الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
3ـ أصناف الناس في الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
4ـ ثمرة الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
وسوف أبحثها بمشيئة الله وفق هذا الترتيب.
1ـ تعريف الإيمان: يعد التعريف اللغوي مدخلاً للتعريف الاصطلاحي ولذلك سأبدأ بتعريف الإيمان لغة وبعده أعرّفه بما قال علماء الاصطلاح. وذلك فيما يلي:
(أ) تعريف الإيمان في اللغة: يقول الأزهري[7]: "الإيمان: مصدر آمن يؤمن إيمانًا، واتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم على أنّ الإيمان معناه التصديق"[8].
ويقول ابن فارس[9]: "الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة ومعناها سكون القلب، والآخر التصديق، والمعنيان كما قلنا متدانيان"[10].
ويقول الفيروزأبادي [11] في مادة (آمن): " آمن به إيمانًا صدقه "[12].
ويقول ابن منظور [13] في مادة (آمن): " والإيمان بمعنى التصديق، وضده التكذيب، ويقال آمن به قوم وكذبه قوم"[14]. أي: صدقه بعضهم دون بعض.
وهذه التعاريف التي نقلتها عن أهل اللغة تدور حول معنى واحد وهو التصديق ومنه قوله تعالى حكاية عن قول إخوة يوسف عليه السلام لأبيهم يعقوب عليه السلام.
{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] أي بمصدق لنا.
يقول الأزهري بعد ذكر الآية السابقة: " لم يختلف أهل التفسير أنّ معناه وما أنت بمصدق لنا "[15].
ولهذا نقول: اتفق أهل التفسير مع أهل اللغة على أنّ الإيمان في اللغة هو التصديق.
(ب) الإيمان في الشرع: الإيمان عند جهور أهل السنة هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، أي عقد وقول وعمل.
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى حكاية عن أقوال السلف في تفسير الإيمان: " فتارة يقولون: قول وعمل.
وتارة يقولون: قول وعمل ونية.
وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح "[16].
وكل هذه الأقوال المنقولة عن السلف والمتعلقة في تفسير الإيمان تؤول إلى معنى واحد وإن اختلفت ألفاظها كمًّا وكيفًا كما وضح ذلك شيخ الإسلام حيث قال: " إن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأى أنّ لفظ القول لا يفهم منه إلاّ القول الظاهر أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية، قال القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأمّا العمل فقد لا يفهم منه فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوبًا لله إلاّ باتباع السنة "[17].
وإذا نظرنا إلى التعاريف الاصطلاحية التي ذكرناها لتفسير الإيمان نجد أنه لا يوجد تعريف خال عن عمل القلب أو ما يفيد معناه.
ولهذا السبب تكلمت عن الإيمان بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الفصل الذي عقدته للأدب القلبي وإن كان يشمل الأعمال الظاهرة على قول أهل السنة إلا أنّ النية عمود الأعمال الظاهرة وأساسها وبها الثواب والعقاب وإن لم يصاحبها عمل أحيانًا، والنية محلها القلب كما هو معلوم.
يقول ابن القيم رحمه الله: " الإيمان له ظاهر وباطن، وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح، وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته، فلا ينفع ظاهر لا باطن له، وإن حقن الدماء وعصم به الأموال والذرية، ولا يجزئ باطن لا ظاهر له، إلاّ إذا تعذر بعجز وإكراه أو ضعف وإكراه "[18].(4/45)
هذا هو تعريف الإيمان بصورة عامة، وأمّا تعريف الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم فهو الإقرار بنبوته صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا والتسليم له بما جاء به صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً عند العلم به.
يقول القاضى عياض: " والإيمان به صلى الله عليه وسلم هو تصديق بنبوته ورسالة الله تعالى له وتصديقه في جميع ما جاء به وما قاله، ومطابقة تصديق القلب بذلك بشهادة اللسان بأنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة بذلك باللسان، تم الإيمان به عليه الصلاة والسلام والتصديق له صلى الله عليه وسلم[19].
ومن هذا يتبيّن أنّ الإيمان به صلى الله عليه وسلم يستلزم ثلاثة أمور هي:
1ـ الإيمان به صلى الله عليه وسلم باطنًا جازمًا بذلك دون شك.
2ـ شهادة اللسان بذلك إظهارًا لما في قلبه ما لم يكن صاحبه عاجزًا عن ذلك.
3ـ العمل بمقتضى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم دون اعتراض أو ترك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " فلا يكون الرجل مؤمنًا حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو تحقيق شهادة أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمدًا رسول الله، فمن شهد أنّه رسول الله شهد أنّه صادق فيما يخبر به عن الله تعالى، فإنّ هذا حقيقة الشهادة بالرسالة.. وبالجملة فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام لا يحتاج إلى دليل، وهو الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو نفس ما جاء به القرآن وجاءت به السنة "[20].
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: " والإيمان هو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علمًا والتصديق به عقدًا، والإقرار به نطقًا، والانقياد به محبة وْخضوعًا، والعمل به باطنًا وظاهرًا، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان "[21].
هذا هو الإيمان المعتد به عند الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، وأمّا إذا فقد أمر من الأمور الثلاثة التي ذكرناها فلكل حكمه الخاص كما سوف نبينه عند كلامنا عن أصناف الناس في الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
حكم الإيمان به صلى الله عليه وسلم: الإيمان به صلى الله عليه وسلم واجب على كل مكلف بلغته الدعوة الإسلامية على وجهها الصحيح، والأدلة على ذلك كثيرة في القرآن وفي السنة.
أمّا أدلة القرآن الكريم فإنّها تنقسم إلى قسمين: قسم يشهد له ولغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقسم يشهد له صلى الله عليه وسلم خاصة.
أمّا ما يشهد له ولغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فمنه قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:149150].
وأمّا ما يشهد له صلى الله عليه وسلم خاصة فكثيرة: منها قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].
ومنها قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن:8].
ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح:13].
وأمّا أدلة السنة فإنها تنقسم إلى قسمين على نمط أدلة القرآن الكريم ولذلك ترى في السنة ما يشهد لرسول الله ولغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام، وما يشهد له صلى الله عليه وسلم خاصة.
أمّا ما يشهد له ولغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعًا: فمنه إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام بعد ما سأله عن الإيمان حيث قال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث"[22].
وأمّا ما يشهد له صلى الله عليه وسلم فكثيرة منها ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله "[23].
ومنها ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاّ كان من أصحاب النار "[24].(4/46)
والنصوص السابقة تفيد وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم من عدة وجوه:
الأول: الأمر بالإيمان به صلى الله عليه وسلم كما يفيده قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف:158].
وقوله تعالى أيضًا: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن:8].
الثاني: تسمية من لم يؤمن به كافرًا كما يفيد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150151].
الثالث: الوعيد لمن لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم بإدخال العذاب.
كما يدل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح:13].
الرابع: الأمر بقتال من لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله"[25].
الحاصل أنّ الإيمان به صلى الله عليه وسلم يستلزم الإيمان بالرسل السابقين جميعًا عليهم الصلاة والسلام وأنّ الكفر بأحد منهم كفر بهمِ جميعًا كما يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150151].
وكل هذه الأمور التي استنبطت من الأدلة السابقة في القرآن وفي السنة تدل على وجوب الإيمان به صلى الله عليه وسلم لورود الأمر به والأمر يقتضي الوجوب ما لم يعارض ولا معارض له هنا، ولورود الوعيد على عدم الإيمان به صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنّ الوعيد لا يتأتى إلاّ على ترك أمر واجب أو فعل محرم، ووصف من لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم بالكفر، ولا يوصف بالكفر إلا من ترك واجبًا متعمدًا، ولورود الأمر بقتال من لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم ولا يقاتل إلا على ترك واجب.
3ـ أصناف الناس في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم: الناس في الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أصناف: الأول: صنف آمن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا وعمل بمقتضى ذلك.
الثاني: صنف آمن به صلى الله عليه وسلم ظاهرًا دون الباطن.
الثالث: من آمن به صلى الله عليه وسلم ولم يظهر ما يؤيد ذلك أو يخالفه.
أما الصنف الأول فهو المسلم الذي يقبل الله إيمانه ويجازيه عليه في الدنيا والآخرة، وأمّا الصنف الثاني فهو المنافق الذي لا يقبل إيمانه عند الله، وأمّا عند الناس فيقبل بناء على ما أظهره لنا كالنطق بالشهادتين إذ أنّه لا سبيل لأحد إلى معرفة ما في قلبه إلاّ الله ومن ثم يحقن دمه ويعصم ماله وذريته ويجري عليه ما يجري على المسلمين في الظاهر بالنسبة للأمور الدنيوية في معاشه وعند موته، أمّا في الآخرة فسوف يجد جزاءه العادل عند الله تعالى.
يقول القاضي عياض: " وأمّا الحالة المذمومة فالشهادة باللسان دون تصديق القلب وهذا هو النفاق، فلما لم تصدق ذلك ضمائرهم لم ينفعهم أن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فخرجوا عن اسم الإيمان ولم يكن لهم في الآخرة حكمة إذ لم يكن معهم إيمان، وألحقوا بالكافرين في الدرك الأسفل من النار، وبقي عليهم حكم الإسلام بإظهار شهادة اللسان في أحكام الدنيا المتعلقة بالأعمال وحكام المسلمين الذين أحكامهم على الظواهر بما أظهروه من علامة الإسلام إذ لم يجعل الله للبشر سبيل إلى السرائر ولا أمروا بالبحث عنها بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحكم عليها وذم ذلك [26] وقال: "... هلا شققت قلبه... "[27].
وأمّا الصنف الثالث فقد فصّل القاضي عياض رحمه الله في شأنه حيث قال بعد ذكر الصنفين السابقين: "بقيت حالتان أخريان بين هذين الصنفين: إحداهما: أن يصدق بقلبه ثم يخترم قبل أن يتسع الوقت للشهادة بلسانه فاختلف فيه، فشرط بعضهم من تمام الإيمان القول والشهادة، ورآه بعضهم مؤمنًا موجبًا للجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: "... يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" [28] فلم يذكر سوى ما في القلب وهذا مؤمن بقلبه غير عاص ولا مفرط بترك غيره. وهذا هو الصحيح في هذا الوجه.(4/47)
الثانية: أن يصدق بقلبه ويطول مهلة، وعلم ما يلزمه من الشهادة فلم ينطق بها جملة ولا استشهد بها في عمره مرة، فهذا اختلف فيه أيضًا، فقيل: هو مؤمن لأنّه مصدق، والشهادة من جملة الأعمال فهو عاص بتركها غير مخل، وقيل: ليس بمؤمن حتى يقارن عقده شهادة اللسان، إذ الشهادة إنشاء عقد والتزام إيمان وهي مرتبطة مع العقد ولا يتم التصديق مع المهلة إلا بها وهذا هو الصحيح)[29].
4ـ ثمرة الإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم: إذا أطلق الإيمان في لسان الشرع فإنّه يفيد الإيمان بالله ورسوله وما يتبع ذلك من شعب الإيمان لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62]. قال الإمام الشافعي رحمه الله في تأويل هذه الآية: "جعل الله كمال الإيمان الذي ما سواه تبع له الإيمان بالله ثم برسوله فلو آمن عبد بالله ولم يؤمن بَرسوله لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبدًا حتى يؤمن برسوله معه "[30].
وثمرة الإيمان كثيرة نذكر طرفًا منها:
1ـ الاستخلاف والتمكين في الأرض والاستقرار فيها كما يقول تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
2ـ البشرى في الدنيا والآخرة. كما يدل عليه قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:6264].
والمراد بالبشرى في الدنيا الرؤيا الصالحة، وأما في الآخرة فهي الجنة[31].
3ـ الهداية إلى الصراط المستقيم، كما يدل عليه قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:54].
4ـ الحياة الطيبة والجزاء الحسن. كما يفيد قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
5ـ النصر في الدنيا وفي الآخرة. كما يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
وقوله تعالى أيضًا: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
6ـ قبول الأعمال. كما يدل عليه قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء:94].
7ـ دخول الجنة. كما يدل عليه قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة:72].
وهذه أهم الثمرات الحاصلة بالإيمان بنبوته صلى الله عليه وسلم وما يتبع ذلك من شعب الإيمان الأخرى الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق..."[32].
المبحث الثاني
محبته صلى الله عليه وسلم
من الآداب القلبية محبته صلى الله عليه وسلم وهي من الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلاّ الله سبحانه وتعالى ويمكن معرفتها بالعلامات الظاهرة مثل الاتباع والطاعة. ولهذا قال تعالى في شأن من ادعى محبة الله اختبارًا لهم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31].
ويفهم من هذه الآية أنّ محبة العبد لله تستلزم اتباعه باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع الرسول يستلزم محبة الله للعبد.
ومحبته صلى الله عليه وسلم من موجبات الإيمان بل من الإيمان نفسه كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدًا حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"[33].
وفي هذا الحديث جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسام المحبة التي تكون بين الناس وهي ثلاثة:
1ـ محبة إجلال وإعظام كمحبة الولد والده.
2ـ محبة إشفاق ورحمة كمحبة الوالد ولده.
3ـ محبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس.
ومحبته صلى الله عليه وسلم فوق هذا كله كما يفيد أفعل التفضيل في قوله: " أحب إليه ".
وفي هذا المبحث سوف نتحدث عن المسائل المتعلقة بهذا الموضوع وهي على النحو التالي:
1ـ معنى المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
2ـ أنواعها.
3ـ علاماتها.
4ـ ثمرتها.(4/48)
5ـ صور من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم.
وسوف أبحثها إن شاء الله تعالى وفق هذا الترتيب.
1ـ معنى المحبة: ذكر العلماء في أصل اشتقاق المحبة عدة أقوال. وإني هنا أذكر أهم ما قيل فيها: يقول الفيروزأبادي: "وهذه المادة تدور في اللغة على خمسة أشياء:
أحدها: الصفاء والبياض ومنه قيل: حبب الأسنان لبياضها ونضارتها.
الثاني: العلو والظهور ومنه حبب الماء وحبابه وهو ما يعلو من النفخات عند المطر وحبب الكأس منه.
الثالث: اللزوم والثبات ومنه حب البعير وأحب إذا برك ولم يقم.
الرابع: اللباب والخلوص ومنه حبة القلب للبه وداخله، ومنه الحبة الواحدة الحبوب إذ هي أصل الشيء ومادته وقوامه.
الخامس: الإمساك والحفظ ومنه حبب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه ويمسكه. وفيه معنى الثبوت.
ثم قال: ولا ريب أنّ هذه الخمسة من لوازم المحبة[34].
هذه أصل اشتقاق المحبة، وأمّا معناها اللغوي فيقول الفيروزأبادي في مادة (الحب): " الحب: الوداد كالحباب والحب بكسرها والمحبة والحباب بالضم "[35].
ويقول ابن منظور في مادة "حبب " ما يلي: "الحب نقيض البغض، والحب الوداد والمحبة وكذلك الحب بالكسر"[36].
وهذا هو المعنى اللغوي للمحبة وهو يدور حول الود أو نقيض الكراهية والبغض.
وأمّا علماء الاصطلاح فقد ذهبوا إلى أنّ لفظها يدل عليها وتحديد معناها بألفاظ أخرى لا يحقق الغرض من أتضاحها.
ولهذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلاّ خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها، وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة "[37].
وبذلك فمن الصعب أن نجد لها حداَ جامعًا، ومع ذلك فإنّي أحاول أن أجليها بذكر آراء العلماء فيها.
يقول القاضي عياض مبينًا ذلك: "اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك وليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ولكنّها اختلاف أحوال، فقال سفيان[38]: المحبة اتباع الرسول كأنه التفت إلى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31] وقال بعضهم: محبة الرسول اعتقاد نصرته والذب عن سنته والانقياد لها وهيبة مخالفته، وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب، وقال آخر: إيثار المحبوب وقال بعضهم: المحبة الشوق إلى المحبوب، وقال بعضهم: المحبة مواطأة القلب لمراد الرب بحب ما أحب وبكره ما كره، وقال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له، ثم قال: وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها، وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان "[39].
وكذلك الراغب الأصفهاني حدّها بتعريف مماثل لقول الأخير قائلاً: " المحبة ميل النفس إلى ما تراه أو تظنّه خيرًا، وذلك ضربان أحدهما: طبيعي وذلك في الإنسان والحيوان وقيل قد يكون بين الجمادات كالألفة بين الحديد وحجر المغناطيس.
والثاني: اختياري وذلك يختص به الإنسان "[40].
والذي يهمنا في هذا المقام المحبة الاختيارية التي بين الناس وهي لا تكون إلاّ لأسباب مثل اللذة والنفع والفضل. وسيأتي تفصيلها عند حديثي عن أنواع المحبة وأقسامها.
وأما المحبة التي أقرها الشرع فتكون في ثلاثة: محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة المؤمنين.
يقول أبو عبد الله المحاسبي: "والمحبة في ثلاثة أشياء لا يسمى محبًا لله عز وجل إلاّ بها:
1ـ محبة المؤمنين في الله عز وجل.
2ـ محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل.
3ـ محبة الله عز وجل في إيثار الطاعة على المعصية "[41].
وعلى هذا فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم هي ميل القلب المؤمن إليه مودة لسبب من الأسباب الموجبة على ذلك لله عز وجل ثم الانتفاع برسالته والفضل الذي أوثر عنه مثل مكارم الأخلاق والاتصاف بصفات حميدة.
2ـ أنواع المحبة: قسّم العلماء المحبة إلى عدة أنواع: فمنهم من قسّمها إلى طبيعية واختيارية، ومنهم من قسّمها إلى حسيّة ومعنوية، ومنهم من قسّمها حسب الأسباب الموجبة لها مثل اللذة والنفع والفضل، ومنهم من قسّمها بحسب الرتب والدرجات.
وقد قسّم الراغب الأصفهاني المحبة إلى قسمين حيث قال:
أحدهما: طبيعي وذلك في الإنسان والحيوان، وقيل: قد يكون بين الجمادات كألفة بين الحديد وحجر المغناطيس.
الثاني: اختياري وذلك يختص به الإنسان فأما ما يكون بين الحيوانين فألفة، وهذا الثاني أربعة أضرب:
الأول: للشهوة وأكثر ما يكون ذلك بين الأحداث.
والثاني: للمنفعة ومن جهة ما يكون بين التجار وأرباب الصناعات المهنية.
والثالث: ما يكون مركبًا من ضربين كمن يحب آخر للنفع وذلك يحبه للشهوة.(4/49)
والرابع للفضيلة كمحبة المتعلم للعالم. ثم قال: وهذه المحبة أي الأخيرة باقية على مرور الأوقات وهي المستثناة بقوله تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، وأمّا الضروب الأخر فقد تطول مدتها وتقصر بحسب دوام أسبابها "[42].
وقال الراغب الأصفهاني أيضًا في مكان آخر: وهي على ثلاثة أوجه: محبة للذة كمحبة الرجل المرأة ومنه {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا} [الإنسان:8] ومحبة النفع كمحبة شيء ينتفع به ومنه {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13]، ومحبة للفضل كمحبة أهل العلم بعضهم لبعض لأجل العلم"[43].
وهذه الأنواع التي نقلناها مبنية غالبًا على الأسباب الموجبة للمحبة الاختيارية سواء كانت حسية أو معنوية وخاصة التقسيم الأخير وهو الذي يتمشى مع هذا المقام الذي نحن بصدده.
وقد ذكر القاضي عياض رحمه الله تعالى هذه الأقسام الثلاثة المسببة للمحبة حيث قال: "وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان وتكون موافقته إمّا لاستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف المأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم والتشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم واحترام النفوس أو يكون حبه إيّاه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها "[44].
ثم ذكر بعد ذلك أنّ هذه الأنواع المسببة للمحبة كلها مجتمعة في شخصيته صلى الله عليه وسلم على أتم وجه حيث قال: "فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنّه صلى الله عليه وسلم جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة. فقد تميّز بجمال الصورة والظاهر وكمال الأخلاق والباطن، كما تميّز بإحسانه وإنعامه على أمته. وقد ذكر الله تعالى في أوصافه رأفته بهم ورحمته لهم وهدايته إياهم وشفقته عليم واستنقاذهم من النار وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم ورحمة للعالمين ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم، فأي إحسان أجلّ قدرًا وأعظم خطرًا من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأي إفضال أعمّ منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين، إذ كان ذريعتهم إلى الهداية، ومنقذهم من العماية وداعيهم إلى الفلاح والكرامة، ووسيلتهم إلى ربّهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمدي فقد استبان لك أنّه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعًا... إلى أن قال: فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفًا أو أستنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذي بها قليل منقطع فمن منحة ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملك لحسن سيرته أو حاكم لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال كلها على غاية مراقب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل "[45].
3ـ علامات محبته صلى الله عليه وسلم: المحبة من الأمور القلبية التي لا يطلع عليها أحد إلاّ من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولذلك جعل الله لها دليلاً عمليًا وعلامات كثيرة.
ونذكر هنا طرفًا من علاماتها: منها الإيثار أي إيثار النبي صلى الله عليه وسلم على النفس كما يدل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
والآية وإن كانت عامة في إيثار المهاجرين إلا أنه صلى الله عليه وسلم هو رئيس المهاجرين وقائدهم، وهو المحبوب الأول من الخلق أساسًا، وأمّا غيره فتبع له بحسب قربهم إليه صلى الله عليه وسلم ومتابعتهم إيّاه.
ومنها: بغض من أبغض الله ورسوله مهما كانت صلته ورتبته لقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22].(4/50)
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "قيل في قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} [المجادلة:22]: نزلت في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر {أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [المجادلة:22]: في الصديق همّ يومئذ ابنه عبد الرحمن {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} [المجادلة:22]: في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ، {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]: في عمر قتل قريبًا له يومئذ أيضًا.."[46].
وهؤلاء قاموا بقتل أقرب أقربائهم في معركة بدر لأن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي قتل من حاد الله ورسوله وبغض من أبغض الله ورسوله.
ومنها: حب من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عكس الصورة السابقة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضًا بعدي فمن أحبم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أنْ يأخذه"[47].
4ـ ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم: وثمرة محبته صلى الله عليه وسلم كثيرة ولكن نذكر هنا أهمها وشواهدها: من ذلك: أنّ محبته صلى الله عليه وسلم تؤدي إلى مرافقته في الجنة.
ومما يدل على ذلك ما أخرجه الإمام مسلم رحمه الله عن أنس بن مالك قال: "بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجين من المسجد فلقينا رجلاً عند سدة [48] المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أعددت لها؟" قال: فكأن الرجل استكان ثم قال: ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكنّي أحب الله ورسوله، قال: "فأنت مع من أحببت"[49].
ومن ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم أنّها من الخصال الموجبة لحلاوة الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"[50].
ومن ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنّك لأحبّ إليّ من نفسي وإنّك لأحب إليّ من ولدي وإنّي لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتك عرفت إنّك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإنّي إذا دخلت خشيت أن لا أراك فأنزل الله تعالى[51]: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
ومن ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم إتمام إيمان من اتصف بها لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين"[52].
5ـ صور من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم: هناك صور متعددة من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم نذكر طرفًا منها في هذا المقام وخاصة ما روي في حب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين للرسول صلى الله عليه وسلم: من ذلك ما أخرجه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: لمّا فرض عمر لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وفرض لي ألفين وخمسمائة فقلت له: يا أبت لم تفرض لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وتفرض لي ألفين وخمسمائة والله ما شهد أسامة مشهدًا غبت عنه ولا شهد أبوه مشهدًا غاب عنه أبي قال: صدقت يا بني، ولكنّي أشهد لأبوه كان أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك ولهو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك "[53].
ومنها ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " أنَّ خياطًا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يتتبع الدباء [54] من حوالي القصعة قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ "[55].
ومنها ما روي أنّه لما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك بالله يا زيد: أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك لضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحبّ أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإنّي جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا "[56].
ومنها ما أخرجه الإمام مسلم عن أنس بن مالك أن أعرابيًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أعددت لها؟" قال: حب الله ورسوله، قال: "أنت مع من أحببت"[57].
ومنها ما روي أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها فأخبروها بذلك فقالت: ما فعل الله برسول الله؟ قالوا: بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظره، فلما رأت قالت: كل مصيبة بعدك جلل [58] "[59].
الفصل الثاني
الأدب القولي(4/51)
التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم متعدد الجوانب متنوع الصور، وقد تحدثت عن التأدّب القلبي في الفصل السابق وأتبعه بعون الله تعالى بالحديث عن التأدّب القولي. ونقصد بالتأدّب القولي ما كان متلفظًا به وهو عمل اللسان.
والآداب سواء كانت قلبية أو قولية أو فعلية مترابطة إلاّ أن التقسيم منهجي للتوضيح والدراسة لأنّ من استقام قلبه استقام لسانه واستقامت جوراحه.
والأدب اللساني له أهميته لأنّ اللسان هو دليل القلب وهو الوسيلة الرئيسية التي تساعد الإنسان على الاتصال بالآخرين وبواسطته تتضح معالم شخصية صاحبه، وبه تقوم الدعوة ويتم البلاغ.
ولهذا السبب سأل موسى عليه الصلاة والسلام ربّه عز وجل حل العقدة من لسانه حتى يقوم بتبليغ الدعوة على وجهها خير قيام، وذلك حين كلفه ربّه بالرسالة وأمره بدعوة فرعون وقومه يقول تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:2728].
كما أنه عليه الصلاة والسلام طلب من ربّه أن يرسل معه أخاه هارون عليه الصلاة والسلام لفصاحة لسانه ووضوح بيانه يقول تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص:34].
يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: "ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى، وإنّما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل الكفار، فهذا هو التصديق المفيد "[60].
والبيان ميزة الإنسان عن سائر المخلوقات، وبه يستطيع الإنسان أن يعبر عن مراده بأسلوب واضح وبطريقة مفهومة.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الميزة على وجه الامتنان فقال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:14].
يقول الفخر الرازي في تفسيره: "لم يقل وعلمه البيان لأنه لو عطفه عليه لكان مغايرًا له، أمّا إذا ترك الحرف العاطف صار قوله: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4] كالتفسير لقوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن:3] كأنه إنما يكون خالقًا للإنسان إذ علمه البيان، وذلك يرجع إلى الكلام المشهور من أنّ ماهية الإنسان هو الحيوان الناطق "[61].
ولهذا اعتبر اللسان نصف الإنسان لأنّه يقال: المرء بأصغريه قلبه ولسانه.
يقول زهير بن أبي سلمى مشيرًا إلى ذلك:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلاّ صورة اللحم والدم[62]
واللسان مع أهميته مثل آلة ذات حدين حيث يستعمل للخير كالصدق في القول والإرشاد والتعليم والذكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدفاع عن الحق، كما أنه يستعمل للشر من إيذاء الناس بالشتم أو بالنميمة والدفاع عن الباطل ومساندته لأن البيان قوة مؤثرة في تحريك النفوس وتوجيه الناس.
يقول صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا"[63].
ويقول ابن حبان البستي معلقًا على هذا الحديث: "وشبه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا البيان بالسحر إذ الساحر يستميل قلب الناظر إليه بسحره وشعوذته، والفصيح الذرب اللسان يستميل قلوب الناس إليه بحسن فصاحته ونظم كلامه، فالأنفس تكون إليه تائقة والأعين إليه رامقة "[64].
ولذا كان مجال اللسان واسعًا سواء في الخير أو في الشر.
يقول الفخر الرازي مبينًا ذلك: "ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق معلوم أو موهوم إلاّ واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، فإن كل ما يتناوله الضمير يعبر عنه بحق أو باطل، وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء فإنّ العين لا تصل إلى غير الألوان والصور، والآذان لا تصل إلى غير الأصوات والحروف، واليد لا تصل إلى غير الأجسام وكذلك سائر الأعضاء بخلاف اللسان فإنّه رحب الميدان ليس له نهاية ولا حد له فله في الخير مجال رحب وله في الشر بحر سحب.. "[65].
وفي هذا الفصل نبين مجاله في التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم من حيث مخاطبته صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه وما يتبع ذلك.
لذا يتكون هذا الفصل من مبحثين:
المبحث الأول: مخاطبته صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثاني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول
مخاطبته صلى الله عليه وسلم
الخطاب توجيه الكلام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه السؤال أو الجواب أو المحادثة، وقد تكون نداء مباشرًا له عليه الصلاة والسلام أثناء حياته.
ولذلك تضمن هذا المبحث دراسة مسألتين:
الأولى: غض الصوت وقت مخاطبته صلى الله عليه وسلم.
الثانية: استخدام النداء اللائق بمقامه صلى الله عليه وسلم.
وذلك فيما يلي:(4/52)
1ـ غض الصوت وقت مخاطبته صلى الله عليه وسلم: من المعلوم أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو المصدر الوحيد الذي يتلقى عنه المسلمون تعاليم الله سبحانه وتعالى سواء كان قرآنًا أو سنة أو حديثًا قدسيًا، لذلك يجب عليهم أن يتأدبوا معه صلى الله عليه وسلم أثناء كلامه معهم أو كلامهم معه، وذلك بخفض الصوت وترك الجهر العالي كما يكون بين الإنسان وصديقه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "هذا أدب ثان أدّب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته)[66].
والأدب هنا يحصل بمجانبة أمرين اثنين: أولاهما: رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم أخذًا من النهي الوارد في قوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2].
ثانيهما: الجهر بالقول له صلى الله عليه وسلم كالجهر بعضهم بعضًا أخذًا من النهي الوارد في قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:2].
وقد فرّق المفسرون بين النهيين الواردين في الآية حيث قالوا: إن الأول يتعلق برفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم أثناء كلامه معهم. وأمّا الثاني يتعلق بالجهر له صلى الله عليه وسلم وقت صمته.
ومنهم من يقول: إنّ النهي الأول يتعلق وقت خطابه معهم أو خطابهم معه أو صمته، وأن الثاني يتعلق بندائه صلى الله عليه وسلم باسمه المجرد أو بكنيته، مثل: يا محمد، يا أبا القاسم.
وأكثر المفسرين ذهبوا إلى القول الأول الذي مفاده أنّ النهي الأول يتعلق وقت خطابه صلى الله عليه وسلم معهم، وأمّا الثاني فيتعلق وقت خطابهم معه، وصمته، وهو الأرجح لأنّ النهي عن النداء غير اللائق به صلى الله عليه وسلم ورد في آية أخرى بعد هذه الآية بآية واحدة وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4].
وقد أجمل النيسابوري رحمه الله ما ورد في التفريق بين هذين النهيين قائلاً: "والجمهور على أنّ بين النهيين فرقًا ثم اختلفوا فقيل: الأول: فيما إذا نطق ونطقتم أو أنصت ونطقوا في أثناء كلامه فنهوا أن يكون جهرهم باهر الجهر.
والثاني: فيما إذا سكت ونطقوا ونهوا عن جهر مقيد بما اعتادوه فيما بينهم وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوة.
وقيل: النهي الأول أعم مما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا والمراد بالنهي الثاني أن لا يتمادى وقت الخطاب باسمه أو كنيته كنداء بعضكم لبعض فلا يقال: يا أحمد يا محمد يا أبا القاسم، ولكن يا نبي الله يا رسول الله "[67].
نستنتج من النهيين السابقين وجوب غض الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم ولزوم الأدب في مخاطبته سواء كان ذلك أثناء كلامه أو صمته لأنّ رفع الصوت والجهر عنده يؤدي إلى سوء الأدب معه وقلة الاحتشام منه ومجانبة توقيره ومعاملته معاملة الأقران بعضهم لبعض ومن ثم يترتب إحباط عمل المؤمن والعياذ بالله وهو لا يشعر.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية: والأدب الثاني هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب وتوقيرهم له في قلوبهم توقيرًا ينعكس على نبراتهم وأصواتهم، ويميز شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ويميز مجلسه فيهم، والله يدعوهم إلى ذلك النداء الحبيب ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب[68].
والتحذير الرهيب هو إحباط العمل الصالح بِدون شعور صاحبه أخذًا من قوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] بمعنى أنّ عمل المؤمن يحبط بالذنوب والمعاصي دون الشرك لأن الآية خطاب للمؤمنين بدليل ابتدائها بالنداء الموجه للمؤمنين.
وعلى هذا استشكل المفسرون في توجيه هذه الآية التي ظاهرها يفيد بطلان العمل الصالح بالذنوب والمعاصي مع أن القاعدة هي أن الأعمال لا تبطل إلا بالشرك بدليل قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]. ومن ثم اختلفت آراؤهم: فمنهم: من يقول إن الذنوب تحبط العمل الصالح ومن ثم يكفر صاحبها.
ومنهم من يقول: إن الإحباط يقصد به نقص المنزلة دون إحباط أصلها.
ومنهم من يقول: إن قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم تحبط العمل الصالح وإن كان لا يكفر صاحبها.
وممّن قال بالقول الأول شيخ الإسلام ابن تيمية قائلاً: "ومن ذلك أنّه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، وحرم رفع الصوت فوق صوته، وأن يجهر له بالقول كما يجهر الرجل للرجل، وأخبر أن ذلك سبب حبوط العمل، فهذا يدل على أنه يقتضي الكفر لأنّ العمل لا يحبط إلا به"[69].(4/53)
وممّن قال بالقول الثاني أبو سليمان الدمشقي: حيث ذهب إلى أن معنى الإحباط هاهنا نقص المنزلة لا لإسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر" [70] وممّن قال بالقول الثالث ابن جزي الكلبي: وهذا الإحباط، لأن قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم والتقصير في توقيره يحبط الحسنات، وإن فعله مؤمن لعظيم ما وقع فيه من ذلك"[71].
ومع الاختلاف الموجود بين هذه الآراء فإنها مجمعة على أن الذنوب تؤثر في العمل الصالح وتنقصه غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أنّه يترتب على ذلك أمر آخر وهو الكفر أخذًا من ظاهر الآية.
وأحسن ما قيل في تأويل هذه الآية ما ذكره ابن المنير رحمه الله حيث يقول: " والقاعدة المختارة أنّ إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق، فورد النهي عمّا هو مظنّة لأذى النبي صلى الله عليه وسلم سواء وجد هذا المعنى أو لا حماية للذريعة وحسمًا للمادة، ثم لما كان هذا المنهي عنه هو رفع الصوت منقسمًا إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولاً، ولا دليل عليه يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقًا وخوف أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الإيذاء إذ لا دليل ظاهر يميزه، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله سبحانه[72].
{أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]
ومن هذا الكلام الذي نقلناه عن ابن المنير يتبيّن لنا أن النهي في الآية يحتمل ما يؤدي إلى الكفر وهو ما يترتب عليه إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم أو الاستخفاف به ويحتمل ما دون ذلك، فإن كان الأول فلا غبار أنّ من فعل هذا يكفر ومن ثم يحبط عمله وعليه يتنزل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية السابق، وإن كان الثاني فأقل ما يقال فيه: أنّ صاحبه يأثم إثمًا كبيرًا قد يؤدي إلى منزلق خطير دون أن يترتب عليه كفر، إلا أن عمله ينقص أو يحبط وعليه يتنزل قولا أبي سليمان الدمشقي وابن جزي الكلبي لأن الحسنات يذهبن السيئات لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وكذلك العكس أي أنّ الذنوب تحبط العمل أو تنقصه ولكن هنا بدون علم صاحبه أو حسه.
وهذا على غرار قوله تعالى في قضية الإفك: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه إليه بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم"[73].
وقد التزم الصحابة رضوان الله عليهم بهذا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده كما ورد في الآثار.
منها قول أبي بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك ألا كأخي السرار حتى ألقى الله عز وجل"[74].
ومنها ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير رضي الله عنه قال: " فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه "[75].
وهذان النموذجان من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يمثلان سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين الذين شاهدوا التنزيل وتأدبّوا بآدابه ووقفوا عند حدوده ينفذون أوامره ويتركون نواهيه دون إبطاء أو تأخير.
وفي هذا المقام يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: " فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب، وذلك التحذير الرهيب، وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم ولكنّ هذا المترلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم فاخافوه واتقوه "[76].
ولأجل هذا الامتثال السريع من قبل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مدحهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3].
هكذا كان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم وأمّا بعد مماته فكذلك يجب على المسلم أن يتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لا يرفع صوته عند سماع أحاديثه صلى الله عليه وسلم لأن حرمته ميتًا كحرمته حيًا سواء بسواء وأن أحاديثه تقوم مقامه.(4/54)
يقول ابن العربي رحمه الله: "حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتًا كحرمته حيًا وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي وله الحرمة مثل ما للقرآن إلاّ معاني مستثناة بيانها في كتب الفقه. والله أعلم "[77].
ويراعى هذا الأدب وهو عدم رفع الصوت أيضًا في مسجده صلى الله عليه وسلم لما أخرجه البخاري بسنده عنْ السائب بن يزيد قال: كنت قائمًا في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم[78].
هذا في المسجد وكذلك الحال عند قبره صلى الله عليه وسلم يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عند تفسيره هذه الآية: " ومعلوم أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في أيام حياته وبه تعلم أنّ ما جرت به العادة من اجتماع الناس قرب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط وأصواتهم مرتفعة ارتفاعًا مزعجًا كله لا يجوز ولا يليق وإقرارهم عليه من المنكر "[79].
وممّا سبق ذكره يتبين لنا أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتًا كحرمته في حياته على الوجه الذي شرحناه آنفًا وأنه يجب التأدب معه في الصوت بعد وفاته كما كان الحال وقت حياته للآية الكريمة التي نحن بصددها لأنّ حكمها يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولا ينقطع بموته صلى الله عليه وسلم.
كما أنّ هذا الأدب المستفاد من الآية يكون مع العلماء لأنهم ورثة الأنبياء وكذلك مع الأبوين وغيرهما لمن له فضل على الإنسان المسلم.
يقول الجصاص في هذا المقام: " وهذه الآيات وإن كانت نازلة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب الفرق بينه وبين الأمة فيه فإنه تأديب لنا فيمن يلزمنا تعظيمه من والد وعالم وناسك وقائم بأمر الدين وذي سن وصلاح ونحو ذلك إذ تعظيمه بهذا الضرب من التعظيم في ترك رفع الصوت عليه وترك الجهر عليه والتمييز بينه وبين غيره ممن ليس في مثل حاله "[80].
قلت: لا شك أنّ هؤلاء الأشخاص يأخذون هذا الحكم وينبغي التأدب معهم وتوقيرهم بالشكل اللائق بهم مع مراعاة الفرق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ مقامه أرفع من هؤلاء جميعًا وهو صلى الله عليه وسلم المعنى بالآية أصلاً وهؤلاء تبعًا وليس الفرع كالأصل وإن اشتركا في أمور، والله تعالى يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] بل ينبغي أن يحترم العبد النبي صلى الله عليه وسلم أَكثر من سيده.
يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: "إن هذا أفاد أنّه لا ينبغي أن يتكلم المؤمن عند النبي صلى الله عليه وسلم كما يتكلم العبد عند سيده لأن العبد داخل تحت قوله: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:2]. لأنه للعموم فلا ينبغي أن يجهر المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم كما يجهر العبد للسيد وإلا لكان قد جهر له كما يجهر بعضهم لبعض.. ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:6]. والسيد ليس أولى عند عبده من نفسه حتى لو كان في مخمصة ووجد العبد ما لو لم يأكله لمات لا يجب عليه بذله لسيده ويجب البذل للنبي صلى الله عليه وسلم... وأن الحكمة تقتضي ذلك كما أن العضو الرئيسي أولى بالرعاية من غيره، لأنّ عند خلل القلب مثلاً لا يبقى لليدين والرجلين استقامة، فلو حفظ الإنسان نفسه وترك النبي صلى الله عليه وسلم لهلك هو أيضًا بخلاف العبد والسيد "[81].
2ـ النداء اللائق به صلى الله عليه وسلم: النداء لون من ألوان الخطاب إلا أنه يتميز عنه بتوجيهه إلى شخص المنادى مباشرة، الأمر الذي يجعل له أثرًا عند من ينادي عليه.
وفي مجال التأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم جاء التنبيه في القرآن الكريم على ضرورة عدم مناداته بطريقة جافة ومزعجة بل لا بد من مراعاة مقامه وقدره وبالأخص عندما يكون في بيته مع نسائه وأولاده.
يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:45].(4/55)
عن الأقرع بن حابس رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخرج إلينا، فلم يجبه، فقال: يا محمد إن حمدي زين وإنّ ذمي شين، فقال: فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4][82].
ويقول ابن كثير: "وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي رضي الله عنه فيما أورده غير واحد "[83].
وقد ذكر المفّسرون عدّة أسباب لنزول هذه الآية التي نحن بصددها ولكنّ الذي يهمنا في هذا المقام هو ما يستفاد من الآية سواء نزلت في الأقرع بن حابس رضي الله عنه أو في غيره لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد تضمنت الآية أمرين:
أولهما: عدم إزعاج الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت خلوته في بيته مع نسائه بالنداء غير اللائق به.
وثانيهما: الإرشاد إلى ما ينبغي أن يفعل في هذه الحالة وهو الانتظار إلى أن يحين وقت خروجه.
يقول ابن كثير في تفسيره هذه الآية: " ثم إنه تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه كما يصنع أجلاف الأعراب فقال: {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4]. ثم أرشد إلى الأدب في ذلك فقال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات:5] أي: لكان في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة "[84].
وهذا لا يعني أنه لا يجوز مناداته صلى الله عليه وسلم بتاتًا، وإنما المحظور مناداته في وقت خلوته مع نسائه في بيته كما في هذه الحالة، وكذلك مناداته بصوت مرتفع خال من الاحترام والتقدير بل ينبغي أن ينادي له بصوت منخفض وبصيغة معينة تتناسب مع قدره وعظمته ووقاره مثل: يا رسول الله، يا نبي الله، لا مجرد اسمه مثل: يا محمد، ويا أحمد، ويا أبا القاسم. كما يفعل بعضهم لبعض.
وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63].
وهذه الآية تشير إلى أحد المعاني الآتية:
الأول: أنه نهي عن التعرض لإسخاطه صلى الله عليه وسلم لأنه إذا دعا على شخص فدعوته مستجابة.
الثاني: أنهم أمروا أن يقولوا: يا رسول الله ونهوا أن يقولوا: يا محمد وما يساويها.
الثالث: أنه نهي لهم عن الإبطاء إذا أمرهم والتأخر إذا دعاهم[85]. وقد ذكر أكثر المفسرين هذه التأويلات مع ترجيح واحد منها والسكوت عن المعنيين الآخرين إلا أن ابن عطية [86] رد معنى الأول حيث قال: " ولفظ الآية يدفع هذا المعنى "[87].
وهناك من ذكر التأويلات الثلاثة دون ترجيح إيذانًا بأن الآية تحتمل المعاني الثلاثة.
وقد أيّد كل مفسّر ما ذهب إليه بترجيحات مقبولة ونذكر بعضها هنا.
فمن الذين رجحوا التأويل الثاني الفخر الرازي بعد إيراده التأويل المذكور حيث قال: "والذي يدل على هذا عقب هذا[88]: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] وذهب إلى ذلك أيضًا أبو حيان الأندلسي حيث قال بعد إيراده هذا التأويل: " وهذا موافق لمساق الآية ونظمها "[89].
وأمّا من الذين رجحوا القول الثالث فمنهم الإمام ابن كثير رحمه الله حيث قال: " وهذا قول وهو الظاهر من السياق كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة:104] إلى آخر الآية.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2].
إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} [الحجرات:4] إلى آخر الآية، ثم قال: فهذا كله من باب الأدب في مخاطبته صلى الله عليه وسلم والكلام معه كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته "[90].
يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي بعد ذكره الأقوال الثلاثة: " وهذه الوجوه الثلاثة وإن كان كل واحد منها صحيحًا حسب الألفاظ القرآنية، ولكن الوجه الأول [91] هو أقرب إلى نظم الآية عندنا وهو الذي يؤيده قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] بعد هذه الآية[92].
والذي ينبغي في هذا المقام عدم ترجيح أحد الأقوال على آخر ما دامت ألفاظ الآية تحتمل المعاني المذكورة كلها ولا تعارض بينها وخاصة إذا كان هناك مرجحات مباشرة وغير مباشرة لكل من القولين اللذين أخذ بهما المفسرون.(4/56)
وأحسن ما قيل في معنى هذه الآية التي نحن بصددها قول ابن قيم الجوزية رحمه الله والذي يقول فيه: " إنّ المصدر هنا لم يضف إضافته إلى فاعل ولا مفعول وإنما أضيف إضافة الأسماء المحضة، ويكون المعنى لا تجعلوا الدعاء المتعلق بالرسول المضاف إليه كدعاء بعضكم بعضًا، وعلى هذا فيعم الأمرين معًا ويكون النهي عن دعائهم له باسمه كما يدعو بعضهم بعضًا وعن تأخير إجابته صلى الله عليه وسلم، وعلى كل تقدير أمر الله سبحانه بأن يتميز عن غيره في خطابه ودعائه إياهم، قيامًا للأمة بما يجب عليهم من تعظيمه وإجلاله "[93].
وخلاصة القول: إن الغرض الذي من أجله أوردنا هذه الآية هو بيان ما يجب على المسلم أن يتحلى به في ندائه صلى الله عليه وسلم حيث يخفض صوته ويتخير ألفاظ التقدير والتعظيم لندائه بيا رسول الله، ويا نبي الله، يا خير خلق الله. ويدع هذه النداءات السوقية في لفظها وكيفيتها مثل: يا محمد، ويا أحمد، أو كنيته مثل: يا أبا القاسم كما كانوا يفعلونه من قبل، بل بندائه صلى الله عليه وسلم نداء يتناسب مع مقامه ومكانته مثل: يا رسول الله ويا نبي الله اقتداء بما في القرآن من نداء الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم بحيث أنّ الله سبحانه وتعالى لم يناد رسوله في القرآن بمجرد اسمه ولو مرة واحدة وإنما ناداه بصفة النبوة والرسالة وغيرهما من الصفات الثابتة له في القرآن.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند كلامه عن حقوق الرسول الزائدة على مجرد التصديق [94] والإيمان:
"ومن ذلك حضّه في المخاطبة بما يليق به فقال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] فنهى أن يقولوا يا محمد أو يا أحمد أو يا أبا القاسم ولكن يقولوا، يا رسول الله، يا نبي الله، وكيف لا يخاطبونه بذلك والله سبحانه وتعالى أكرمه في مخاطبته إياه مما لم يكرم به أحدًا من الأنبياء فلم يناد باسمه في القرآن قط بل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأحزاب:28].
و{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67].
و{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:12].
و{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1].
مع أنه سبحانه قد قال: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة:35].
{يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46].
{يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:76].
{يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144].
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26].
{يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ} [المائدة:110].
وعلى هذا دلت الآية التي نحن بصددها الغرض الذي من أجله أوردناها وهو الذي يهمنا هنا لاحتمالها احتمالاً قويًا أو المتبادر إلى الفهم كما ذكر ابن القيم رحمه الله ولوجود مرجحات غير مجاورة ترجح هذا المعنى كما ذكر ابن كثير في تفسيره، ومرجحًا آخر متقدم ومجاور لهذه الآية يرجح هذا المعنى وهو قوله تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62] كما أفاد الشهيد سيد قطب في تفسيره المسمى في ظلال القرآن إذ أن مناسبة الآية لما بعدها ليست أولى من مناسبتها لما قبلها إن وجدت وهنا وجدت.
يقول الشهيد سيد قطب: "ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول صلى الله عليه وسلم عند الاستئذان وفي كل الأحوال فلا يدعى باسمه يا محمد أو كنيته يا أبا القاسم كما يدعو المسلمون بعضهم بعضًا إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه يا نبي الله، يا رسول الله "[95].
المبحث الثاني
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
شرع الله تعالى الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وقد شمل موضوع الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم حيزًا واسعًا في فكر العلماء وحياة المسلمين مما جعلني أعقد هذا المبحث للوصول إلى الحق فيه.
والأمر هنا يحتاج إلى بيان عدد من النقاط المتصلة بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي:
1ـ مفهوم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لغة واصطلاحًا.
2ـ حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
3ـ صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
4ـ مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
5ـ ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وسوف تأتي هذه المسائل وفق الترتيب المذكور فما يلي:(4/57)
تعريف الصلاة لغة واصطلاحًا: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الصلاة المفروضة التي هي الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، ولذلك كان تعريفها ضروريًا لتتضح حقيقتها المرادة من هذا المبحث.
وكما هو منهجي فإني أبدأ بالتعريف اللغوي وبعده يكون التعريف الاصطلاحي.
تعريف الصلاة لغة: يقول الجوهري: " الصلاة: الدعاء "[96].
ويقول الفيروزآبادي: " الصلاة: الدعاء والرحمة الاستغفار "[97].
ويقول صاحب مصباح المنير[98]: " الصلاة في اللغة مشتركة بين الدعاء والتعظيم والرحمة والبركة "[99].
وإذا نظرنا إلى التعريفات السابقة للصلاة في اللغة نرى أن لها عدة معان، فى الدعاء وبمعنى التعظيم وبمعنى الرحمة وبمعنى البركة.
وأمّا الصلاة في الاصطلاح الشرعي: فلا تخرج عن معاني اللغة المذكورة إذا قيدت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي فمعناها باق على ما كان عليه في الاستعمال اللغوي.
وعلى هذا فلم يذكر العلماء تعريفًا لها عند كلامهم عن هذا الموضوع وإنّما جلّ كلامهم ينصب على التفريق بين صلاة الله وصلاة المخلوقين، ولكن نحاول هنا أن نذكر تعريفًا للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من خلال كلامهم. يقول الفيروزآبادي: " والصلاة حسن الثناء من الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم.... "[100].
ويقول الجرجاني بعد تعريفه الصلاة المكتوبة: " والصلاة أيضًا طلب التعظيم بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة "[101].
والصلاة في تعريف الفيروزآبادي السابق يتضمن جانبًا واحدًا وهو إذا كانت الصلاة من الله عز وجل وأما جانب المخلوقين فلم يتعرض له ولهذا كان هذا التعريف ناقصًا.
وأما تعريف الجرجاني السابق فمعناه طلب التعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الطلب يمكن أن يكون طلب أمر وطلب دعاء.
وإذا كان الطلب أمرًا فيستقيم في حق الله تعالى، وأما إذا كان دعاءً فيستقيم في حق المخلوقين دون الله عز وجل لأن الدعاء طلب الإعانة من الغير وهذا محال على الله سبحانه وتعالى.
ويلاحظ أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. يدل على أن الله سبحانه وتعالى، والملائكة يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم بحيث جمع الله صلاته وصلاة الملائكة في فعل واحد وبصيغة الأخبار وأمر المؤمنين بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فرّق العلماء بين معنى صلاة الله على النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى صلاة المخلوقين حتى يستقيم معنى الصلاة في حق الله عز وجل وحق ملائكته وحق المؤمنين.
ولإزالة هذا الإشكال ذكر العلماء أقوالاً عدة في بيان المعنى المراد من الصلاة على اختلاف فاعلها.
يقول أبو العالية: " صلاة الله عز وجل ثناؤه عليه وصلاة الملائكة عليه الدعاء "[102].
ويقول الضحاك: " صلاة الله رحمته وصلاة الملائكة الدعاء "[103].
ويقول الضحاك أيضًا: " صلاة الله مغفرته وصلاة الملائكة الدعاء "[104].
وإذا نظرنا إلى الأقوال السابقة الواردة في معنى الصلاة نرى أن الصلاة من الله على النبي صلى الله عليه وسلم هي الثناء والرحمة والمغفرة، وأمّا الصلاة من الملائكة فله معنى واحد وهو الدعاء إلا أن هذه الأقوال لا تسلم عن مقال ومآخذ إذ يترتب عليها وجود معنيين على الأقل في فعل واحد وفي استعمال واحد مع أنه أسند إلى الاثنين معًا.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله القولين الأخيرين من الأقوال السابقة في معنى الصلاة من جانب الله تعالى وجانب الملائكة وضعفهما وأسهب في ذلك حيث ذكر خمسة عشر وجهًا تدل على ضعفهما. ومن أحسن ما ضعفهما به قوله: "إن الله سبحانه وتعالى فرّق بين صلاته على عباده ورحمته فقال: {وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155157]. فعطف الرحمة على الصلاة فاقتضى تغايرهما. هذا أصل العطف، وإن الله سبحانه فرّق بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعهما في فعل واحد فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ...} [الأحزاب:56]. وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة وإنّما هي ثناؤه سبحانه وثناء ملائكته عليه، ولا يقال الصلاة لفظ مشترك ويجوز أن يستعمل في معنييه معًا لأنّ في ذلك محاذير متعددة"[105].
ومن هنا نجزم بأنّ صلاة الله وصلاة الملائكة عليه صلى الله عليه وسلم في الآية التي نحن بصددها لها معنى واحد وهو الثناء عليه، وأمّا صلاتنا نحن عليه صلى الله عليه وسلم فهي طلب المزيد من الثناء من الله عز وجل طلب دعاء لا طلب أمر.(4/58)
يقول الحليمي رحمه الله: " فيدل على أنَّ قولنا: اللهم صل على محمد صلاة منّا عليه إنّا لا نملك إيصال ما يعظم به أمره ويعلو به قدره إليه وإنّما ذلك على الله تعالى فيصح أن صلاتنا عليه الدعاء له بذلك وابتغاؤه من الله عز وجل "[106].
وقد أيد ابن القيم هذا الرأي القائل بأنّ صلاتنا هي طلب المزيد من الثناء من الله عز وجل حيث قال: "الصلاة المأمور بها فيها هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته، وهي ثناء عليه وإظهار لفضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه فهي تتضمن الخبر والطلب وسمى هذا السؤال والدعاء منّا نحن صلاة عليه لوجهين:
أحدهما: أنّه يتضمن ثناء المصلي عليه والإشارة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبة كذلك من الله تعالى، فقد تضمنت الخبر والطلب.
الوجه الثاني: أن ذلك سمي منّا صلاة لسؤالنا من الله أن يصلي عليه فصلاة الله عليه ثناؤه وإرادته لرفع ذكره وتقريبه، وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به وضد هذا في لعنة أعدائه الشائنين لما جاء به فإنها تضاف إلى الله وتضاف إلى العبد كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ} [البقرة:159]. فلعنة الله لهم تتضمن مقته وإبعاده وبغضه لهم ولعنة العبد تتضمن سؤال الله تعالى أن يفعل ذلك بمن هو أهل اللعنة"[107].
وعلى هذا فمعنى صلاة الله عز وجل وصلاة الملائكة على النبي صلى الله عليه وسلم الثناء، وأمّا في حق المؤمنين في طلب ذلك الثناء من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم.
حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر السخاوي عن شيخه [108] في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عشرة أقوال:
القول الأول: إنها مستحبة.
الثاني: إنها واجبة في الجملة بغير حصر لكن أقل ما يحصل به الأجزاء مرة.
الثالث: أنّها تجب في العمر في صلاة أو في غيرها وهي مثل كلمة التوحيد.
الرابع: تجب في القعود مرة آخر الصلاة بين قول التشهد وسلام التحليل.
الخامس: تجب في التشهد فقط.
السادس: تجب في الصلاة من غير تعيين المحل.
السابع: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد.
الثامن: تجب كلما ذكر صلى الله عليه وسلم.
التاسع: تجب في كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره مرارًا.
العاشر: تجب في كل دعاء[109].
هذه عشرة أقوال في حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولكنّها في الحقيقة والواقع قولان: أولهما: أنّها مستحبة.
ثانيهما: أنّها واجبة ولكن الذين يقولون بوجوبها اختلفوا في عدد المرات وفي المواطن التي تجب فيها حتى بلغت أقوالهم تسعة أقوال إلا أنّ أغلب هذه الأقوال متعلقة بالمواطن التي تجب الصلاة فيها.
وأصح ما قيل في حكمها أنّها تجب في الجملة بدون تقييد بعدد أو وقت مع مراعاة المواطن التي يتأكد وجوبها أو استحبابها.
يقول صاحب بهجة المحافل[110]: "وأما حكمها فهي واجبة إجماعًا للآية الكريمة [111] لكنّه غير محدد بوقت ولا عدد"[112].
وهذا الإجماع الذي ادعاه فيه نظر لأنّ من العلماء من يقول باستحبابها مطلقًا إلاّ إذا حملنا الاستحباب بما زاد على المرة الواحدة.
يقول السخاوي: "وقد أول بعض العلماء هذا القول بما زاد على المرة الواحدة وهو متعين والله أعلم "[113].
صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صيغ كثيرة ذكرها العلماء في كتبهم يروونها عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد بعضها صحيحة وبعضها حسنة وبعضها ضعيفة أو يلفقونها مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من صيغ الصلاة أو يؤلفونها من عندهم.
وهنا نكتفي بذكر الصيغ الصحيحة لأنّ الغرض يتم بها وأمّا غيرها من الصيغ الضعيفة أو الملفقة فلا يتم بها بل نص بعض العلماء على عدم جوازها لعدم ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية السند أو بالكيفية الملفقة.
وعلى هذا فلابد للمسلم أن يلتزم بالصيغ المأثورة الصحيحة أو الحسنة.
وقد ذكر الشيخ ناصر الدين الألباني سبع صيغ صحيحة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم[114].
ونذكر هذه الصيغ كما وردت في كتابه " صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وبنفس الترتيب.
الصيغة الأولى: عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان يقول: "اللهم صلّ على محمد وعلى أهل بيته وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل أبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل بيته وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد"[115].
الصيغة الثانية: عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"[116].(4/59)
الصيغة الثالثة: عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: قل: "اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد"[117].
الصيغة الرابعة: عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس عبادة فقال بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنّه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: "اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد"[118].
الصيغة الخامسة: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: "اللهم صلّ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم"[119].
الصيغة السادسة: عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنّهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا: "اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد"[120].
الصيغة السابعة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: "اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد"[121].
هذه هي صيغ الصلاة التي علّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد ما سألوا عنها والتي وردت بأسانيد صحيحة كما بينّا، ولهذا ذهب بعض العلماء على التزامها دون تغيير أو تلفيق لأنّها أفضل الكيفيات في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم يقول السخاوي: "استدل بتعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه كيفية الصلاة عليه بعد سؤالهم عنها أنّها أفضل الكيفيات؛ لأنّه لا يختار لنفسه إلا الأشرف والأفضل، ويترتب على ذلك لو حلف أن يصلي عليه أفضل الصلوات فطريق البر أن يأتي بذلك "[122].
ومع ورود هذه الصيغ الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد أجاز بعض العلماء الصلاة عليه بلفظ جميل: يقول الفاكهي[123]: "ونقل ابن مندة عن جمع من الصحابة وغيرهم أنّ من رزقه الله بيانًا شافيًا عن المعاني الصحيحة بالألفاظ الفصيحة فأبان عن الشرف النبوي كان كمن سلك السنن السنية "[124].
وجاء في كتاب حسن التوسل: "والصلاة بلفظ صلى الله عليه وسلم أمر حسن متضمن للبلاغة والإيجاز الموفي بالمقصود على أكمل وجه[125] ولذا تواطأ المؤلفون وغيرهم من العلماء المتقدمين والمتأخرين على التزامها"[126].
وأمّا التلفيق بين صيغ الصلاة فقد استحسنه بعض العلماء وكرهه بعضهم.
ومن الذين استحسنوه الإمام النووي رحمه الله حيث يقول: "وينبغي أن يجمع ما في الأحاديث الصحيحة فيقول: "اللهم صل على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد"[127].
ومع هذا فقد فاته شيء، ولعلها توازي قدر ما زاده وتزيد عليه كما ذكر السخاوي عن شيخه ابن حجر العسقلاني مثل قوله: عبدك ورسولك ومثل قوله في العالمين في الأولى ومثل قوله: " اللهم صلّ وبارك لأنهما ثبتا معًا وغير ذلك "[128].
وأما الذين كرهوا التلفيق بين صيغ الصلاة فمنهم ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: "ولبعض المتأخرين في بعض هذه الأدعية والأذكار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقولها ويعلمها بألفاظ متنوعة ورويت بألفاظ متنوعة طريقة محدثة بأن جمع تلك الألفاظ واستحب ورأى ذلك أفضل ما يقال فيها مثال الحديث الذي في الصحيحين [129] عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنّه سأل رسول الله: علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: " اللهم إنّي ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا... " قد روي كثيرًا وروي كبيرًا فيقول هذا القائل يستحب أن يقول كثيرًا كبيرًا وكذلك إذا روي: " اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد " وروي " اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته " وأمثال ذلك. وهذه طريقة محدثة لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين وطرد هذه الطريقة أن يذكر التشهد بجميع هذه الألفاظ المأثورة وأن يقال الاستفتاح بجميع الألفاظ المأثورة. وهذا مع أنّه مخالف لعمل المسلمين لم يستحبه أحد من أئمتهم، بل عملوا بخلافه فهو بدعة في الشريعة، فاسد في العقل، ثم قال: إذ قال هذا تارة على آل محمد وتارة على أزواجه وذريته كان حسنًا... "[130].(4/60)
وتبعه في ذلك تلميذه ابن قيم الجوزية رحمه الله حيث يقول: " إنّ هذه الطريقة أي طريقة التلفيق بين جمع صيغ الصلاة طريقة محدثة لم يسبق إليها أحد من الأئمة المعروفين وأنّ صاحبها إن طردها لزمه أن يستحب للمصلي أن يستفتح بجميع الاستفتاحات وأن يستشهد بجميع التشهدات وأن يقول في ركوعه وسجوده جميع الأذكار الواردة فيه. وهذا باطل فإنه خلاف عمل الناس ولم يستحبه أحد من أهل العلم وهو بدعة وإن لم يطردها تناقض وفرق بين متماثلين "[131].
والرأي الأخير هو الأصح لأن هذه الصيغ تثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكيفية وأنه علّم أصحابه بهذه الكيفية، بعد ما سألوه عنها ولأن التلفيق يترتب عنه صيغة مصطنعة مؤتلفة لم يقل بها الرسول صلى الله عليه وسلم وعلينا الاتباع لا الابتداع.
هذا ما يتعلق بصيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قولاً. وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كتابة فقد اصطلح المؤلفون على كتابة عبارة " صلى الله عليه وسلم " بعد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يكره أن يقتصر على الصلاة دون السلام أو السلام دون الصلاة كما أنه يكره أن يرمز إليهما بحرفين أو نحو ذلك مثل صعم أو "صلعم" أو "ص" أو "صلم" وما شابه ذلك.
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى نقلاً عن ابن الصلاح: " وليحافظ على الثناء على الله عز وجل والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن تكرر فلا يسأم فإن فيه خيرًا كثيرًا. بحيث يكتب الصلاة والتسليم كاملة لا رمزًا ولا يقتصر على قوله "عليه السلام" يعني وليكتب "صلى الله عليه وسلم" واضحة كاملة[132].
ومستند الجمع بين الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بهما معًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]. ومعنى السلام فقيل السلام الذي هو اسم من أسماء الله عليك وتأويله لا خلوت من الخيرات والبركات وسلمت من المكاره والآفات....
ويحتمل أن يكون بمعنى السلام أي ليكن قضاء الله عليك السلام وهو السلامة كالمقام والمقامة... أي يسلمك الله من الملام والنقائص...
ويحتمل أن يكون بمعنى المسالمة له والانقياد[133].
وأما حكم السلام عليه صلى الله عليه وسلم فتابع لحكم الصلاة عليه لأمر الوارد بهما معًا في الآية السابقة.
وأما صيغة السلام عليه فهي "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته الواردة في التشهد" كما هو الظاهر[134].
وأما مواطنها المتفق عليها فهي في التشهد وعند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي.
وأما ثوابها فتشترك الصلاة في كثير من ذلك.
مواطن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر العلماء مواطن كثيرة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من ذكر أربعين موطنًا كابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في جلاء الأفهام [135]، وكذلك السخاوي في القول البديع [136] نحو عدد المواطن التي ذكرها ابن القيم. ومنهم من ذكر اثنين وثلاثين موطنًا كصاحب بهجة المحافل[137].
ونذكر هنا أهم ما صح من هذه المواطن وخاصة المرفوع من ذلك.
الموطن الأول: في الصلوات عامة بعد التشهد لحديث فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصلّ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجل هذا، ثم دعاه فقال له ولغيره: "إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتمجيد اللّه والثناء عليه ثم يصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بعد بما شاء"[138].
وهذا الحديث يدل في منطوقه على أنّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مطلوبة في الصلاة.
الموطن الثاني: صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية: لحديث الزهري قال: سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف يحدث سعيد بن المسيب قال: "إن السنة في صلاة الجنازة أن يقرأ بفاتحة الكتاب، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يخلص الدعاء للميت متى يفرغ ولا يقرأ إلا مرّة واحدة ثم يسلم في نفسه "[139].
الموطن الثالث: عقب إجابة المؤذن: لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا سمع المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ فإنّ من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا ثم سلوا لي الوسيلة فإنَّها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له شفاعتي"[140].
وهذه الصلاة ينبغي أن يقولها القائل سرًّا لا جهرًا خلافًا لما يفعله الناس وخاصة المؤذنون من الجهر بالآية[141] ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.(4/61)
يقول الشيخ ناصر الدين الألباني: " ومن العجيب أن ترى بعض المتهاونين بهذه السنن أشد الناس تعصبًا وتمسكًا ببدعة جهر المؤذن بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عقب الأذان مع كونه بدعة اتفاقًا، فإن كانوا يفعلون ذلك حبًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم فهلا اتبعوه في هذه السنة [142] وتركوا تلك البدعة "[143].
الموطن الرابع: طوال يوم الجمعة: لحديث أوس بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ "، فقالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: "يقول بليت؟ قال: إن الله حرّم على الأرض أجساد الأنبياء "[144].
الموطن الخامس: في كل مجلس: لحديث أبي هريرة رضي الله عنه موقوفًا عليه قال: " ما جلس قوم مجلسًا ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله ويصلوا عليه فيه إلاّ كان عليهم حسرة يوم القيامة "[145].
الموطن السادس: كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم: لقوله صلى الله عليه وسلم: " البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ.. "[146]. ثواب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: ذكر العلماء ثوابًا كثيرًا للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من ذكر ما يقارب أربعين ثوابًا كابن القيم رحمه الله في جلاء الأفهام [147]، والسخاوي في القول البديع[148].
وهذا الثواب المذكور منه ما يستند إلى دليل صحيح، ومنه ما يستند إلى أدلةٍ ضعيفة، كما أنّ بعضًا منه يدخل في بعض الآخر.
وأذكر هنا أهم ما ذكره العلماء:
أولها: كتابة عشر حسنات لمن صلّى عليه صلى الله عليه وسلم صلاة واحدة لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "... من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا "[149].
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من صلّى عليَّ صلاة واحدة صلّى الله عليه عشرًا "[150].
ثانيها: محو عشر سيئات عمن صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم لحديث عبد الرحمن بن عمرو قال: "من صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات... "[151].
ثالثها: رفع عشر درجات لمن صلى عليه صلى الله عليه وسلم لحديث عبد الرحمن بن عمرو قال: "من صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات"[152].
رابعها: مغفرة الذنب كله لمن صلّى على النبي صلى الله عليه وسلم لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في ثلثي الليل فيقول: "جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه " وقال أبيّ: يا رسول الله إنّي أصلّي من الليل أفأجعل لك ثلث صلاتي؟ [153] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشطر قال: أفأجعل لك شطر صلاتي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الثلثان أكثر، قال: أفأجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذن يغفر لك ذنبك كله "[154].
خامسها: القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة"[155].
سادسها: أن من صلّى عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره ينجو من أن يوصف بالبخل لحديث علي رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ علىّ"[156].
سابعها: أنّه من صلى عليه لا يخطئ أبواب الجنة لحديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ينسى الصلاة عليَّ خطئ طريق الجنة"[157].
وهذان الحديثان الأخيران يدلان على الثواب بدليل المخالفة.
ثامنها: أنها سبب لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرنها بسؤال الوسيلة له.
لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليَّ فإن من صلّى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها مترلة في الجنة لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلّت له شفاعتي"[158].
ــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] المضغة: القطعة من اللحم، قدر ما يمضغ، وجمعها مضغ، وهنا تعني القلب، لأنه قطعة لحم من الجسد. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (4/339).
[2] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب من استبرأ لدينه (1/1920).
[3] صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/6).
[4] غرائب القرآن، (3/131132).
[5] صحيح مسلم، كتاب القدر، بات تصريف الله القلب كيف شاء (4/2045).
[6] صحيح مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله القلب كيف شاء (4/2045).
[7] هو أبو منصور محمد بن أحمد الأْزهري (292370هـ).
[8] تهذيب اللغة مادة أمن (15/513).
[9] تقدمت ترجمته في (ص:25).
[10] معجم مقاييس اللغة (1/133).(4/62)
[11] مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي المتوفى سنة (817هـ). انظر ترجمته في بغية الوعاة (2/273275).
[12] القاموس المحيط (4/199).
[13] تقدمت ترجمته في (ص:25).
[14] لسان العرب (13/21).
[15] تهذيب اللغة، (15/514).
[16] الإيمان (146).
[17] المصدر السابق: (146147).
[18] الفوائد: (85).
[19] الشفا بتعريف حقوق المصطفى: القاضي عياض (2/539).
[20] القاعدة المراكشية: (2425).
[21] الفوائد (107).
[22] البخاري في كتاب الأيمان في باب سؤال جبريل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة (1/18).
[23] البخاري في كتاب الإيمان، باب: (فأن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (1/13). واللفظ له، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. (1/53).
[24] مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته (1348).
[25] تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
[26] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/540).
[27] جزء من حديث أسامة، وتمامه: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا في الخرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقال: لا إله إلاّ الله وقتلته؟" قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح. قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟" فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أنّي أسلمت يومئذ. انظر صحيح مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلاّ الله (1/56).
[28] الحديث في صحيح البخاري، في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان (1/13) بلفظ: "يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان".
[29] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/541).
[30] موسوعة سماحة الإسلام لمحمد صادق عرجون (1/82).
[31] انظر تفسير ابن كثير (2/422).
[32] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها (1/63).
[33] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (1/12).
[34] بصائر ذوي التمييز: (2/416417).
[35] القاموس المحيط: (1/52).
[36] لسان العرب: (1/289).
[37] مدارج السالكين: (3/10).
[38] يحتمل أنّه ابن عيينة أو الثوري كما ذكر الخفاجي في شرح الشفا (3/371).
[39] الشفا بتعريف حقوق المصطفى: (2/578579).
[40] الذريعة إلى مكارم الشريعة: (190).
[41] رسالة المسترشدين: (177179).
[42] الذريعة إلى مكارم الشريعة: (190).
[43] مفردات في غريب القرآن: (105).
[44] الشفا: (2/579).
[45] الشفا: (2/580581).
[46] تفسير القرآن العظيم: (4/329).
[47] أخرجه الترمذي في سننه، أبواب المناقب، باب فيمن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (5/358) وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
[48] سدة المسجد: يعني الظلال التي حوله. النهاية في غريب الحديث: (2/353).
[49] صحيح مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (4/2033).
[50] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان (1/12)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (1/66) واللفظ له.
[51] مجمع الزوائد (7/7) وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران الغامدي وهو ثقة.
[52] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (1/12).
[53] مستدرك الحاكم (3/559)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[54] الدباء: القرع واحدتها دباءة. النهاية في غريب الحديث (2/96).
[55] صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب من تتبع حوالي القصعة مع صاحبه إذا لم يعرف منه كراهية (3/291).
[56] انظر سيرة ابن هشام: (3/95).
[57] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (4/2032).
[58] جلل: هين يسير، والجلل من الأضداد، يكون للحقير والعظيم. النهاية في غريب الحديث (10/289).
[59] انظر سيرة ابن هشام (3/43).
[60] تفسير الفخر الرازي: (24/249).
[61] تفسير الفخر الرازي: (22/46).
[62] في ديوانه: (89).
[63] صحيح البخاري، كتاب الطب، باب من البيان سحرا (4/21).
[64] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء: (219).
[65] تفسير الفحر الرازي: (22/47).
[66] تفسير القرآن العظيم: (4/205).
[67] تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري (26/57).
[68] في ظلال القرآن: (6/3339).
[69] الصارم المسلول على شاتم الرشول (ص:423).
[70] زاد المسير (8/457).
[71] التسهيل (4/104).(4/63)
[72] الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال الذي بهامش الكشاني (3/556).
[73] صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب حفد اللسان (4/126).
[74] الحاكم في مستدركه (2/462)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[75] صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الحجرات (3/191).
[76] في ظلال القرآن: (6/3339).
[77] أحكام القرآن لابن العربي: (4/1702 1703).
[78] صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد (1/93).
[79] أضواء البيان: (7/617).
[80] أحكام القرآن للجصاص (3/398).
[81] تفسير الفخر الرازي: (28/113).
[82] الدر المنثور بالتفسير بالمأثور للسيوطي، (7/552)، وقال السيوطي: رواه أحمد والطبراني وغيرهما بسند صحيح.
[83] تفسير القرآن العظيم: (4/208).
[84] تفسير القرآن العظيم: (4/208).
[85] انظر زاد المسير (6/68).
[86] هو عبد الحق بن غالب المعروف بابن عطية المتوفى سنة (541هـ) انظر ترجمته في طبقات المفسرين للداودي (1/260261).
[87] انظر البحر المحيط: (6/476).
[88] تفسير الفخر الرازي (24/40).
[89] البحر المحيط: (6/476).
[90] تفسير القرآن العظيم: (3/306307).
[91] الثاني عندنا.
[92] تفسير سورة النور (ص:231).
[93] جلاء الأفهام: (ص:235).
[94] الصارم المسلول (ص:422423) بتصرف.
[95] في ظلال القرآن: (4/2535).
[96] الصحاح (6/2402).
[97] القاموس المحيط (4/335).
[98] وتأتي ترجمته في (ص:261).
[99] مصباح المنير (1/371).
[100] القاموس المحيط: (1/371).
[101] كتاب التعريفات: (139).
[102] انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:80) للقاضي إسماعيل الجهضمي.
[103] انظر المصدر السابق: (8081).
[104] انظر المصدر السابق: (8081).
[105] جلاء الأفهام: (ص:83).
[106] المنهاج في شعب الإيمان: (2/134).
[107] جلاء الأفهام: (ص:86).
[108] يقصد به الحافظ ابن حجر العسقلاني كما صرح به السخاوي نفسه في آخر القول البديع (ص:264).
[109] انظر القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع (ص:14) وما بعدها.
[110] هو عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري.
[111] وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
[112] بهجة المحافل وبغية الأماثل (2/416).
[113] القول البديع (ص:14).
[114] صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (ص:146) وما بعدها، وانظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بتحقيق الألباني هامش (ص:54).
[115] أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3/74)، وذكر السخاوي هذه الرواية في القول البديع (ص:42)، وصحيح الألباني هذه الرواية بعد عزوه إلى الإمام أحمد والطحاوي في صفة صلاة النبي (ص:147).
[116] صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.) (3/178)، وصحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/305).
[117] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/162)، والنسائي في سننه (1/190) وقد ذكر ابن القيم هذه الرواية في جلاء الأفهام (ص:9) والسخاوي في القول البديع (ص:34) بألفاظ متقاربة، وصحح الألباني هذه الرواية في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (ص:147) بعد عزوها إلى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما.
[118] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/305).
[119] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.) (3/178).
[120] صحيح البخاري، كتاب الأنبياء باب يزفون القسلان في المشي (2/239)، وصحيح مسلم، كتاب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد (1/306).
[121] أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3/75)، وقد ذكر ابن القيم في جلاء الأفهام (ص:13) هذه الصيغة وصححها، وكذلك السخاوي في القول البديع (ص:40) وصححها، والألباني في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:148)، وصححها بعد عزوها إلى الطحاوي وغيره.
[122] القول البديع (ص:47).
[123] حسن التوسل: (ص:196).
[124] حسن التوسل في آداب زيارة أفضل الرسل (ص:196).
[125] ففيه نظر، لأنها لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكيفية، والأكمل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم لا غير وخاصة في الأمور الدينية. وهذا الاعتراض يرد أيضًا على قول الفاكهي السابق المبني على نقل ابن مندة عن جمع من الصحابة وغيرهم.
[126] هو عبد الله بن أحمد الفاكهي المتوفي سنة (972هـ). انظر ترجمته في الأعلام (4/193).
[127] المجموع شرح المهذب (3/447).
[128] انظر القول البديع (ص:6162).(4/64)
[129] الحديث في صحيح البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب الدعاء قبل السلام (1/151)، وفي صحيح مسلم، في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر (4/2078).
[130] مجموع الفتاوى (1/161162).
[131] جلاء الأفهام: (ص:190).
[132] انظر الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير (ص:135136).
[133] القول البديع: (6768).
[134] انظر المصدر السابق: (66).
[135] انظر (ص:193) وما بعدها.
[136] انظر (ص:170) وما بعدها.
[137] انظر بهجة المحافل. (2/416417).
[138] رواه الإمام أحمد في مسنده (6/18)، وحسنه الألباني، في تعليقاته على كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم انظر هامش (ص:86).
[139] أخرجه الحاكم في مستدركه (1/360) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
[140] صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله له الوسيلة (1/288).
[141] وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
[142] وهي أن يقولوا مثل ما يقول المؤذن ثم يصلّوا على النبي صلى الله عليه وسلم سرًا.
[143] انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للقاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي هامش (ص:50).
[144] الحاكم في مستدركه (1/278) وصححه ووافقه الذهبي.
[145] رواه الحاكم في مستدركه (1/492).
[146] أخرجه الحاكم في مستدركه (1/549) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
[147] انظر (ص:262) وما بعدها.
[148] انظر (ص:151) وما بعدها.
[149] صحيح مسلم، (1/288289) وقد تقدم في (ص:209).
[150] رواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:26)، وصحح الألباني إسناد هذا الحديث في تعليقاته على الكتاب المذكور. انظر هامش (ص:26).
[151] رواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص:38). وقال الألباني في تعليقاته على الكتاب المذكور إسناده ضعيف، لكن له شاهد مرفوع عن أنس، أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح. انظر هامش (ص:28)، قلت: رواية أنس التي أشار إليها هي بلفظ: "من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات". سنن النسائي في كتاب السهو، باب الفضل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (3/50).
[152] الحديث هو نفس الحديث الذي قبله.
[153] صلاتي هنا تعني دعائي.
[154] أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (2930) وقال الألباني: حديث جيد. انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هامش (ص:30).
[155] رواه الترمذي في سننه، أبواب التطوع، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (2/302)، وقال: هذا حديث حسن غريب.
[156] أخرجه الحاكم في مستدركه (1/549) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
[157] رواه ابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (1/294)، وقال الألباني والحديث يرتقي إلى درجة الحسن على أقل الدرجات. انظر فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هامش (45).
[158] صحيح مسلم (1/288289) وقد تقدم في (ص:209)، وفي (ص:211) أيضًا.
8. ... كتاب "التأدب مع الرسول في ضوء الكتاب والسنة" [الجزء الرابع]
لفصل الثالث
الأدب العملي
في بداية هذا الباب قسمت الأدب إلى ثلاثة أنواع وذكرت في الفصلين السابقين نوعين منها وهما الأدب القلبي والأدب القولي، وفي هذا الفصل سوف أتحدث عن النوع الثالث والأخير وهو الأدب الفعلي والعملي، ونقصد بالأدب العملي الأدب الذي يتعلق بالجوارح، ويكون عمليًا محسوسًا. وبذا يتكون هذا الفصل من مبحثين:
المبحث الأول: الطاعة والاتباع.
المبحث الثاني: مجالسته صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول
الطاعة والاتباع
وردت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم مرّات كثيرة بصيغ مختلفة، حيث جاءت أمرًا بطاعته ونهيًا عن مخالفته، وإخبارًا بأن طاعته صلى الله عليه وسلم يترتب عليها ثوابًا عظيم في الدنيا والآخرة.
والصيغ التي تدل على أنّ طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على الأمة هي صيغتا الأمر بطاعته والنهي عن مخالفته أو ما يجري مجراهما من تحذير عن مخالفته أو توعد بعقاب لمن يخالف.
وأمّا الصيغة الأولى وهي الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد وردت في القرآن الكريم مقترنة بطاعة الله مع تكرير الفعل "أطيعوا" مرة مع الله، ومرة مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59].(4/65)
ومرة بعدم تكرير الفعل مثل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1].
ولكل من التعبيرين مدلول خاص كما ذكر المفسرون قائلين: إذا كان الفعل أطيعوا متكررًا يفيد على أن للرسول صلى الله عليه وسلم نوع استقلال من الطاعة مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59].
يقول الألوسي رحمه الله في تفسيره هذه الآية: "وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله تعالى اعتناء بشأنه عليه الصلاة والسلام وقطعًا لتوهم أنه لا يحب امتثال ما ليس في القرآن وإيذانًا بأن له صلى الله عليه وسلم استقلالاً بالطاعة لم يثبت لغيره من البشر ومن ثم لم يعد في قوله سبحانه: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] إيذانًا بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم[1].
وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا المفهوم الخاطئ وهو الاكتفاء بما جاء في القرآن دون الرجوع إلى السنة المبينة للقرآن الكريم بقوله صلى الله عليه وسلم.
"لا ألفين أحدًا متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"[2].
وفي رواية المقدام زيادة: "ألا وإن ما حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله"[3].
وأمّا إذا كانت الفعل غير متكرر مثل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1]. فيفيد أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طاعة الله تعالى.
يقول الألوسي رحمه الله في تفسيره هذه الآية: "وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى أولاً وآخرًا لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى، وقال غير واحد أنّ الجمع بين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أولاً لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلى الله عليه وسلم بالامتثال"[4].
ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20]. حيث أفرد الضمير وأعيد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم دون الله عز وجل بعد الأمر بطاعتهما معًا لأنّ الضمير يرجع إلى أقرب المذكور كما هو معروف في علم النحو للإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو الوسيلة بين الله وبين خلقه في تبليغ مراد الله تعالى وبيانه، وأنّ طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله على غرار قوله تعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
يقول الألوسي رحمه الله: "وأعيد الضمير إليه عليه الصلاة والسلام لأنّ المقصود طاعته صلى الله عليه وسلم وذكر طاعة الله توطئة لطاعته وهي مستلزمة لطاعة الله تعالى لأنّه مبلغ عنه فكان الراجع إليه كالراجع إلى الله تعالى"[5].
ومن هذه النماذج التي ذكرناها سابقًا في موضوع طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يتبين لنا أنّ طاعته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم في كل أمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر ثبت بالقرآن أو بالسنة لأنّ طاعته طاعة الله تعالى كما يدل عليه قوله تعالى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يتكلم عن الهوى وإنما عن وحي من الله سبحانه وتعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:34].
ويدخل في مفهوم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعه لأنّ مدلول الاتباع والطاعة يكادْ يكون واحدًا حيث أنها من المترادفات وشأن المترادفات أن يكون معناها واحدًا مع وجود فروق طفيفة مثل كلمتي قعد وجلس حيث أن الأولى من الاضطجاع والثانية من القيام مع أنّ مدلولهما واحد.
وهكذا شأن كل المترادفات، وأما كلمتي الاتباع والطاعة، فقد ذكر أبو هلال العسكري عند كلامه عن الفرق بين العبادة والطاعة أنّ مدلول الاتباع والطاعة واحد فقال: "والطاعة الفعل الواقع على حسب ما أراده المريد متى كان المريد أعلى رتبة ممن يفعل ذلك وتكون للخالق والمخلوق والعبادة لا تكون إلا للخالق، والطاعة في مجاز اللّغة تكون اتباع المدعو والداعي إلى ما دعاه إليه وإن لم يقصد التبع كالإنسان يكون مطيعًا للشيطان وإن لم يقصد أن يطيعه ولكنّه اتبع دعاءه وإرادته "[6].(4/66)
وكلام أبي هلال العسكري يفيد أن الاتباع والطاعة يؤديان معنى واحدًا تجوزًا كما أنّهما يكونان عن قصد وعن غير قصد، وحديثي هنا يدور حول الاتباع والطاعة التي يكون عن قصد وإرادة من صاحبها مع نيّة صالحة لأنّ المنافق هو الذي يظهر اتباع الرسول ويبطن مخالفته، وعلى هذا نفى الله سبحانه وتعالى عنهم سمة الإيمان في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47].
ومع أن الاتباع والطاعة معناهما واحد كما ذكرنا إلاّ أننا نذكر هنا النصوص التي وردت بصيغة الاتباع أو ما يجري مجراها.
وقد وردت نصوص كثيرة من القرآن والسنة التي تأمرنا تارة باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتارة باتباع طريقة الله التي هي طريقته وتارة باتباع القرآن.
من الآيات التي تدل على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:31].
وقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].
وأمّا ما يدل على وجوب اتباع طريقة الله التي هي طريقته فمنه قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
وقد ورد في السنة ما يبين معنى هذه الآية وهي ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن عبد الله هو ابن مسعود[7] قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا بيده ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيمًا وخط عن يمينه وشماله خطوطًا ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعوا إليه ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
وأمّا ما يدل على وجوب اتباع القرآن فمنه قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155][8].
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: " فيه الدعوة إلى اتباع القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة "[9].
ومجموع هذه النصوص من القرآن والسنة التي أوردناها في موضوع الاتباع كلما تفيد على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كانت تتعلق باتباع سبيل الله أو اتباع القرآن لأن اتباع سبيل الله اتباع سبيله صلى الله عليه وسلم لأنه هو الداعي إلى ذلك.
قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
وكذلك فاتباع القرآن هو اتباعه صلى الله عليه وسلم لأنّه هو المبلغ عن الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67].
هذا ما يتعلق بموضوع وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه الواردة بصيغة الأمر، وأمّا الآن فسوف نتحدث عن وجوب الانتهاء عن مخالفته صلى الله عليه وسلم وهي طريقة أخرى لوجوب اتباعه لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وكذلك العكس.
وقد ورد في هذا المعنى آيات كثيرة: منها قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
ومنها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} [الأحزاب:36].
ومنها قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
ومجموع هذه الآيات التي أوردناها تدل على حرمة مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا المعنى أي مخالفة أمره التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
وقد ذكر المفسرون عدة أسباب لنزول هذه الآية التي تبين المعاني المختلفة للتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأوجه التي يحصل بها التقدم بين يديه صلى الله عليه وسلم.
منها كما ذكر ابن العربي: أنّ قومًا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا وكذا فأنزل الله هذه الآية.
ومنها نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.(4/67)
ومنها لا تفتاتوا على الله ورسوله في أمر حتى يقضي الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها أنها نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
ومنها لا تقدموا أعمال الطاعة على وقتها[10].
قال القاضي: "هذه الأقوال كلها صحيحة تدخل تحت العموم فالله أعلم بما كان السبب المثير للآية ولعلها نزلت دون سبب"[11].
وقال أيضًا: "هذه الآية أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه والاقتداء به "[12].
نعم، هذه الوجوه المذكورة في أسباب نزول الآية محتملة وكلها تفسر الآية من زاوية معينة، كما أنّها تحتمل وجوهًا أخرى لم يذكرها ومجمل معناها هو وجوب الانتهاء عن التقدم بين يدي الله ورسوله في كل أمر من الأمور حتى يقضي الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في حال حياته، وأمّا بعد مماته فمعناها وجوب الانتهاء عن التقدم بين يدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر من الأمور الدنيوية والأخروية.
يقول ابن القيم رحمه الله: "ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمره وينهي ويأذن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1].
وهذا باق إلى يوم القيامة لم ينسخ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ولا فرق بينهما عند كل ذي عقل سليم "[13].
وممّا يدخل في هذا المعنى أي التِقدم بين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم تقديم القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية في هذا العصر حتى لو لم يصرّح واضعو هذه القوانين أو الذين استوردوها أنها أفضل من الشريعة الإسلامية أو لا، لأن مجرد إقصاء الشريعة الإسلامية عن الحياة البشرية ووضع القوانين الوضعية مكانها وإجبار الناس على التحاكم إليها والتوعد لمن يخالفها بالعقاب الشديد وإن خالفت الشريعة الإسلامية مخالفة صريحة كما هو مشاهد في واقعنا اليوم، وكذلك إذا وافقت الشريعة الإسلامية لاختلاف مصدر تلقيهما لأن هذه مصدرها هو الله سبحانه وتعالى وبواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك مصدرها الطاغوت وهوى النفس الأمارة بالسوء وإن زعم أصحابها أنهم يؤمنون بالله ورسوله مئات المرات.
وكيف يكون لهم إيمان بعد قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
يقول الشنقيطي في تفسيره الآية التي نحن بصددها: "وهذه الآية الكريمة فيها التصريح بالنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ويدخل دخولاً أوليًا تشريع ما لم يأذن به الله وتحريم ما لم يحرمه وتحليل ما لم يحلله لأنه لا حرام إلاّ ما حرمه الله ولا حلال إلا ما حلله الله ولا شرع إلا ما شرعه الله "[14].
ويقول الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
"ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهداف والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يصنعونها بآَرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم "جنكيز خان" الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بيئته شرعًا متبعًا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم في سواه في قليل ولا كثير"[15].
ثواب الاتباع والطاعة: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه يترتب عليها ثواب كثير في الدنيا والآخرة.
وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على ذلك نذكر طرفًا منها.
من ذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة له {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
كما أنه سبحانه وتعالى جعل طاعته شرطًا للهداية: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54].
وجعل طاعة الرسول أيضًا شرطًا لدخول الجنة.
{وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [النساء:13].
كما أنها تؤدي إلى مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في الجنة.(4/68)
يقول تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. كما أنه يترتب عليها الفوز العظيم في الدارين.
يقول تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
ويقول الله تعالى أيضًا: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} [النور:52] كما أنها تكون سببًا لرحمة الله لقوله تعالى: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ} [التوبة:71].
سلوك السلف في الاتباع: تعد الجماعة الأولى التي تلقت الدين وأخذته من رسول الله مباشرة خير من قام بما شرع لها من طاعة واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"[16].
وإنّي هنا أحاول إبراز بعض الصور التطبيقية للطاعة والاتباع لتكون أمثلة توضح ما شرع للمسلمين في هذا الجانب الهام. وسأجعل هذه الأمثلة مرتبة على النحو التالي:
أولاً: سلوكهم في الاتباع وهم جماعة: أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منّا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدًا منهم "[17].
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على مدى إسراع الصحابة رضوان الله عليهم في تنفيذ أمره صلى الله عليه وسلم باذلين في ذلك أقصى الجهد.
ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني اتخذت خاتمًا من ذهب فنبذه وقال: إنّي لن ألبسه أبدًا، فنبذ الناس خواتيمهم"[18].
وهذا الحديث أيضًا يدل دلالة واضحة على مدى إسراع الصحابة رضوان الله عنهم في اتباع فعل الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو لم يأمرهم بفعل ذلك الفعل وبدون أن يسألوا العلة في ذلك أو أنّ ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم أو يعم الأمة جميعًا.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة
فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة "[19].
وفي هذا الحديث يدل دلالة واضحة على مدى استجابة الصحابة لأوامر الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أثناء الصلاة دون تردد أو إبطاء وبدون استفسار أو تأخير.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فصلوا بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس ثم قال: "أمّا بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكنّي خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك[20].
وهذا الحديث أيضًا يدل على أنّ الصحابة رضوان الله عنهم كانوا يحرصون على الاقتداء بالمصطفى صلى الله عليه وسلم في كل فعل من أفعاله إذا لم يكن هناك خصوصية حتى ولو لم يأمرهم بذلك الفعل.
وهذه النصوص التي ذكرناها نموذج لاستجابة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بفعله وتنفيذ أمره جماعة، ولكن هناك نصوص أخرى كثيرة تدل على ذلك يصعب حصرها في هذا المقام.
ثانيًا: ما يفيد أيضًا سلوك السلف في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فرادى: من ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عمر رضي الله عنه "أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: إنّي أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك"[21].
وهذا الحديث يدل دلالة واضحة أنّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه صرح بأنّ تقبيله للحجر الأسود هو مجرد التأسّي بالنبي صلى الله عليه وسلم مع إيمانه ويقينه أنّه لا يضر ولا ينفع لذاته.
ومن ذلك ما أخرجه البخاري أيضًا في صحيحه عن مروان بن الحكم قال: "شهدت عثمان وعليًا رضي الله عنهما وعثمان ينهى عن المتعة [22] وأن يجمع بينهما فلمّا رأى علي أهل بهما لبيك بعمرة وحجة قال: ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد"[23].(4/69)
وهذا يدل على أنّ الصحابة رضي الله عنهم يقدمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم على أي قول صدر من غيره مهما كانت رتبته كما فعل علي رضى الله عنه مع عثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا الأمر الذي اختلفت وجهة نظرهما لأنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه وإن كان أميرًا للمؤمنين آنذاك إلا أن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء.
ومن ذلك أيضًا ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن وبرة قال: كنت جالسًا عند ابن عمر فجاءه رجل فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ فقال: نعم. فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف فقال ابن عمر: فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف [24]، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن نأخذ أم بقول ابن عباس أن كنت صادقًا[25].
وهذه أيضًا حادثة أخرى اختلفت فيها وجهة نظر الصحابة رضي الله عنهم ومضمونها يؤكد حرص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ثبتت وترك قول أي أحد من الناس مهما كانت رتبته إذا كان ذلك القول يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا أنكر ابن عمر رضي الله عنهما على السائل حينما ذكر فتوى ابن عباس رضي الله عنه بعد إخباره ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام، ورحم الله الإمام مالك حينما قال: "ما من قول أحد إلا ويؤخذ قوله ويترك إلا صاحب ذلك القبر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه القاعدة هي الفيصل في هذا الموضوع.
وأما المراجعات التي وقعت بينه صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة رضوان الله عليهم في بعض الأمور أثناء حياته فلا يعتبر قدحًا في اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ هذه المراجعات كانت مجرد استفسار لبعض الأمور التي لم يتضح لهم الغرض منها أو التبست عليهم أو لم يستسيغوها في أول الأمر ظنًّا منهم أنّهم لا يقدرون على تحملها غيرة للرسول صلى الله عليه وسلم وللإسلام لا للاستهزاء أو الانتقاص من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان يفعله المنافقون لعنهم الله تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء به وبرسالته والانتقاص من توقيره صلى الله عليه وسلم متسترين تحت ما أظهروا من الإسلام.
وقد قسّم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه المراجعات للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أقسام حيث قال:
"وبالجملة فالكلمات في هذا الباب ثلاثة أقسام: أحدهما: ما هو كفر مثل قوله: إنَّ هذه القسمة ما أريد بها وجه الله.
الثاني: ما هو ذنب ومعصية يخاف على صاحبه أن يحبط عمله، مثل رفع الصوت فوق صوته، ومثل مراجعة من راجعه عام الحديبية بعد ثباته على الصلح [26]، ومجادلة من جادله يوم بدر بعد ما تبيّن له الحق [27]، وهذا كله يدخل في المخالفة عن أمره.
الثالث: ما ليس من ذلك بل يحمد عليه صاحبه أو لا يحمد كقول عمر: ما بالنا نقصر الصلاة وقد آمنا [28]؟ وكقول عائشة: ألم يقل الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71]، وكمراجعة الحباب في منزل بدر[29].
ونحو ذلك ممّا فيه سؤال عن إشكال ليتبين لهم، أو عرض لمصلحة قد يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم"[30].
المقالة الأولى: من هذه الأقسام لم تصدر عن الصحابة رضوان الله عليهم وإنّما صدرت عن بعض المنافقين الذين كانوا مع الصحابة ظاهرًا لا باطنًا لأنّ هذه المقالة هي عين ما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم في كتابه كقوله تعالى: {وَمِنْهُم مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
وأما المقالة الثانية: فقد صدرت من بعض الصحابة رضوان الله عليهم عن غفلة أو اجتهاد أو عن عجلة إلا أنهم لم يصرّوا على خطأهم وإنما تنازلوا عن رأيهم الذي رأوه إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمانًا منهم ويقينا أنّ ما ذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم هو الصواب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فهذه أمور صدرت عن شهوة وعجلة لا عن شك في الدين"[31].
وأما المقالة الأخيرة: فقد صدرت من الصحابة أيضًا رضوان الله عليهم ولكنّها لا تعتبر ذنبًا ولا معصية أو مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنّما الاستفسار عن دين الله عز وجل وطلب المزيد من التفقه إيمانًا منهم بأنّ مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التبيين لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44] كما أنّها صدرت منهم لأجل الإشارة لبعض الأمور إذا كان المقام يتطلب المشورة لأن الله تعالى يقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].(4/70)
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وكانت المراجعة المشهورة منهم لا تعدو إمّا لتكميل نظره صلى الله عليه وسلم في ذلك إن كان من الأمور السياسية التي للاجتهاد فيها مساغ، أو ليتبين لهم وجه ذلك إذا ذكر، ويزدادوا علمًا وإيمانًا، وينفتح لهم طريق التفقه فيه"[32].
المبحث الثاني
في مجالسته صلى الله عليه وسلم
ذكرنا في المبحث الأول من هذا الفصل جانبًا من جوانب الأدب العملي وهو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه. وأمّا في هذا المبحث فسوف نتناول جانبًا آخر من جوانب الأدب العملي وهو الأدب المتعلق بمجالسة الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما ينبغي للمسلم أن يفعل نحو مقام النبوة، أثناء حضوره عنده صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك في بيته أو في الأماكن العامة مع أنّ بعض هذه الآداب لا تتأتى إلا في حال حياته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضوان الله عليهم.
وننظر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم من زاويتين:
الزاوية الأولى: في حال وجوده في بيته مع نسائه.
الزاوية الثانية: في حالة وجوده في الأماكن العامة.
الزاوية الأولى: وهي حالة وجوده صلى الله عليه وسلم في بيته مع نسائه: في هذه الحالة ينبغي أو يجب على المسلم تجاه مقام النبوة عدم إزعاجه سواء في الحضور عنده بغير إذن أو الجلوس في بيته فترة من الزمن والانشغال بالحديث بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن له لما يترتب عليه من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم في حين أنه لا يقدر أن ينبه على من تصدر عنه هذه الأفعال حياء منه كما تشير إليه الفقرة الأولى من آية الحجاب، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ} [الأحزاب:53].
من هذه الفقرة من الآية الكريمة يتبين لنا عدة أمور مرغوب عنها في المجتمع الإسلامي وخاصة في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: دخول البيوت بغير إذن والتطفل أو انتظار نضج الطعام والمكث في البيوت بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن لهم.
وهذه الأمور التي ذكرنا هي أمور ينبغي أن يطهر من المجتمع الإسلامي في ذلك الحين وإلى الأبد لأنها من الأمور المتبقية من العادات الجاهلية التي لا تتمشى مع روح الإسلام السامية.
قال ابن عطية في تفسير هذه الآية: "وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك، فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين والتزم الناس أدب الله لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلاّ بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار الطعام"[33] وخلاصة القول: الآية تشير إلى أنّه يجب على المسلم أن لا يتطفل على النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يحضر عند نضج الطعام فيشارك فيه لأنه ربما أعد الطعام لأناس معدودين وأنّ زيادة العدد قد تضر صاحب البيت وتحمله على تقديم شيء زائد ربما لا تكون في حوزته وأما إذا أذن للطعام فعلى المسلم أن لا يأتي قبل نضج الطعام بل في وقت مناسب لأن أهل البيت مشغولون بإعداد الطعام وقد يحمل الحضور قبل نضج الطعام على الإسراع في إعداد الطعام كما هو المألوف، وكذلك إذا حضر في الوقت المناسب فعليه أن يخرج من البيت بعد الطعام لا أن يمكث فترة للحديث والاستئناس مع غيره لأنَّ ذلك يؤدي إلى مضايقات لأهل البيت والاستماع إلى ما يجري في البيت من كلام أو إلى النظر إلى ما لا ينبغي أن ينظر قصدًا أو بغير قصد ولا سيما إذا كان هناك منافقون.
وأمر واحد من هذه الأمور المذكورة ممّا يتأذى به صاحب كل بيت عادة فما بال إذا كانت مجتمعة مع أنّه لا يقدر أن يفصح بها حياء منه كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الرهط الذين تخلفوا في البيت بعد الطعام عشية بناءه صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها كما يظهر من بعض الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية.(4/71)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب لما أهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معه في البيت، صنع طعامًا دعا إليه القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53]. فضرب الحجاب وقام القوم "[34].
وفي رواية أخرى: " وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء "[35].
ومن هنا نقول: إنّ الله سبحانه وتعالى قد أعطى اهتمامًا كبيرًا حال وجود النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مع نسائه، أخذًا من هذه الآية وغيرها من الآيات الأخرى التي جاءت لمناسبات شتى.
من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:45].
وقد فصلنا القول في ذلك عند الكلام عن مناداته صلى الله عليه وسلم في الفصل السابق الذي عقدنا للأدب القولي وإن كانت متصلة بالآداب المتعلقة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد بسبب نزولها إلا أننا تحدثنا هناك حسب ما يقتضي التقسيم المنهجي لأنها تتعلق بالآداب القولية وهنا الآداب العملية.
وعلى هذا فنكتفي بالإشارة إلى موضعها وإن كانت الآداب كلها مترابطة سواء كانت قلبية أو قولية أو عملية إلا أننا قسمناها إلى ذلك للتوضيح والدراسة.
وقبل أن أنتقل إلى الفقرة الأخيرة من الآية والتي تتعلق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لا بد من الإشارة إلى فقرة تتوسط بين الفقرة الأولى المتعلقة في حياته صلى الله عليه وسلم والفقرة الأخيرة التي تتعلق بعد وفاته وهي الفقرة التي تشير إلى وجوب سؤال أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب أخذًا من قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] لأن سؤالهن قد تكون في حياته صلى الله عليه وسلم وقد تكون بعد وفاته وإنَّ سؤالهن بعد وفاته أولى وخاصة فيما يتعلق بأمور الدين لأنّ جزءًا كبيرًا من الأحكام الشرعية قد وصلنا عن طريقهن.
وهذا الحكم وإن كان يعم النسوة كلهن لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن تخصيص الآية بنسائه صلى الله عليه وسلم له مزيته بحيث يتأكد هذا الحكم في جانبهن لارتباطهن بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم خير خلق الله الذي يتأذى بذلك الفعل كما يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الجزئية: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب:53].
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه المزية لنساء النبي صلى الله عليه وسلم في آية أخرى وهي قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32].
ونأتي إلى الفقرة الأخيرة من آية الحجاب: بينما الفقرة الأولى من هذه الآية تتعلق ببيت النبي ونسائه وقت حياته صلى الله عليه وسلم هذه الفقرة الأخيرة أيضًا تتعلق ببيت النبي ونسائه ولكن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بحيث تنهي المؤمنين نهيًا قاطعًا عن الزواج بإحدى زوجاته بعده على التأبيد كما يدل عليه قوله تعالى: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب:53].
وكيف يتزوج أحد من المسلمين إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وصفهن الله تعالى بأمهات المؤمنين بقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6].(4/72)
يقول الدكتور حسن باجودة في تأملاته: "وبما أن حديث الآية الكريمة في الجزئية السابقة قد صرّح بأنه لا يصح للمؤمنين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا فإنّ الجزئية الكريمة التالية تصرّح بأنه لا يصح أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتًا عن طريق زواج إحدى زوجاته. فقد خص ربّ العزة المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياته الزوجية بالعديد من الخصائص التي من بينها هذه الخصيصة وهي، أنّه لا يحل لأحد أن يتزوج إحدى زوجاته لأنهن أمهات المؤمنين كما صرحت بذلك هذه السورة. وكيف يتزوج المرء أمه. لأن منزلة الأمومة لهن رضوان الله عليهن أجمعين بالنسبة لرجال الأمة مستمرة إلى أن يلحقن كلهن بالرفيق الأعلى"[36].
وقد عد المفسرون هذه الآية من الآيات التي تتحدث عن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا وميتًا.
يقول الزمخشري في تفسير هذه الآية: "وسمي نكاحهن بعده عظيمًا عنده وهو من أعلام تعظيم الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وإيجاب حرمته حيًّا وميتًا، وإعلامه بذلك مما طيب نفسه وسر قلبه واستغزر شكره فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلى منه فكره ومن الناس من تفرط غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده "[37].
وهذه الآداب التي ذكرناها في هذه الزاوية المتعلقة ببيت النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت وردت في حقه صلى الله عليه وسلم وقت حياته يلتزم المسلمون فيما بينهم أثناء حياته صلى الله عليه وسلم وبعد مماته لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا ما خص به صلى الله عليه وسلم من عدم الاقتران بإحدى زوجاته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مع أن هذا الحكم لا يمكن تطبيقه بعد لحوقهن بالرفيق الأعلى، وأما وقت حياتهن فكان ملتزمًا به من قبل الموجودين وقتئذ.
الزاوية الثانية: في حالة وجوده في الأماكن العامة: كانت الزاوية السابقة تتعلق بحالة وجوده صلى الله عليه وسلم مع نسائه في بيته وما ينبغي المسلم أن يتجنب عنه من إيذائه صلى الله عليه وسلم من دخول بيته بغير إذن أو عدم الانصراف بعد انتهاء الغرض الذي من أجله أذن له والأمور الأخرى التي فصلناها فأما في هذه الزاوية، فسوف نتحدث عن الأمور التي ينبغي للمسلم أن يرعى تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالة وجوده في الأماكن العامة وفي ملأ من الناس. وهذه الحالة العامة تتطلب عدم الخروج من مجلسه إلا بإذن بل البقاء معه إلا لضرورة قصوى وخاصة إذا كان هناك أمر مهم يتطلب المشاورة والاستعانة بأهل الرأي مثل أوقات الحرب والشدة على عكس ما كان مطلوبًا في حالة وجوده مع نسائه في بيته صلى الله عليه وسلم لأنه يقال لكل مقام مقال ولكل مقال مقام، وهنا اختلفت المقالتان لاختلاف المقامين.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى مراعاة مقام النبوة في حالة وجوده في ملأ من الناس في القرآن الكريم وشهد لمن يلتزم مراعاة ذلك الجانب الإيمان بالله ورسوله في أسلوب حصر كأنهم هم المؤمنون وحدهم كما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:62]
ويتبين من نص الآية الكريمة الآداب التي ينبغي أن يراعى بها في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاستئذان إذا نوى أحد أن يخرج منه وإن كان ذلك خلاف الأولى لتذييل الآية بطلب الاستغفار من الرسول لمن يستأذن مع تفويض للرسول صلى الله عليه وسلم قبول الاستئذان وعدمه لمن يشاء تقديرًا للموقف والملابسات المحيطة به.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية: "ومع هذا يشير إلى مغالبة الضرورة وعدم الانصراف هو الأولى وأن الاستئذان والذهاب فيها تقصير أو قصور يقتضي استغفار النبي صلى الله عليه وسلم للمعتذرين: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:62]. وبذلك يقيد ضمير المؤمن فلا يَستأذن وله مندوحة لقهر العذر الذي يدفع به الاستئذان"[38].
ويدخل تحت هذا المفهوم أي الاستئذان من الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج من مجلسه وقت خطبته صلى الله عليه وسلم وإن كان هناك خلاف حول معنى الأمر الجامع في الآية الكريمة، هل هو في الحرب خاصة أم يعم جميع الاجتماعات الأخرى كالجمعة والعيدين؟ وقد ذهب الإمام ابن العربي إلى القول بأنّ الأمر الجامع مخصوص في الحرب مؤيدًا ما ذهب إليه بأدلة نوردها هنا:(4/73)
يقول ابن العربي رحمه الله: "وقد روى أشهب ويحيى بن بكير وعبد الله بن عبد الحكم عن مالك أنّ هذه الآية إنّما كانت في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وكذلك قال محمد بن إسحاق.
والذي بيّن ذلك أنّ الآية مخصوص في الحرب أمران صحيحان:
أما أحدهما: فهو قوله تعالى في الآية الأخرى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور:63] وذلك أن المنافقين كانوا يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله جميعهم بألاّ يخرج أحد حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك يتبين إيمانه.
وأما الثاني: فهو قوله تعالى: {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:62]. فأي إذن في الحدث والإمام يخطب. وليس للإمام خيار في منعه ولا إيقافه وقد قال: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:62].
فيبين ذلك أنه مخصوص في الحرب التي يؤثر فيها التفرق "[39].
وهناك فريق آخر من العلماء الذين ذهبوا إلى أنّ الأمر الجامع يعم جميع الاجتماعات من حرب وصلاة جمعة وصلاة العيدين وغيرها من الأمور الأخرى التي تقتضي اجتماع المسلمين مع قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هؤلاء الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى حيث يقول في تفسير هذه الآية: "وهذا أيضًا أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك أمرهم الله أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلاّ بعد استئذانه ومشاورته، وأنّ من يفعل ذلك فإنّه من المؤمنين الكاملين "[40].
ويقول الإمام القرطبي رحمه الله بعد إيراده قول الإمام ابن العربي: " القول بالعموم أولى وأرفع وأحسن وأعلى "[41].
وممّا يرجح القول الثاني وهو أنّ الأمر الجامع يعم كل الاجتماعات قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11].
يظهر من سياق هذه الآية أن بعض الصحابة أو جلهم خرجوا من عند رسول الله وهو قائم يخطب لأمور دنيوية بحتة وهي التجارة بحيث آثروا التجارة القادمة إلى المدينة على استماع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا نبههم الله سبحانه وتعالى على أن البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لهم بخلاف ما صدر عنهم الذي لا يليق لمقام النبوة.
يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى: " وتشير إلى حادث معين حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبهم في المسجد للجمعة حين حضرت قافلة من قوافلهم التجارية، فما أعلن نبأ قدومها حتى انفض المستمعون منصرفين إلى التجارة واللهو الذي كانت القافلة تحاط به على عادة الجاهلية، من ضرب بالدفوف وحداء وهيصة وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا فيما عدا اثني عشر من الراسخين فيهم أبو بكر وعمر بقوا يستمعون كما تذكر الروايات[42].
والرواية التي تحدد العدد هي ما أخرجه البخاري رحمه الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال[43]: أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم فثار الناس إلاّ اثني عشر رجلاً فأنزل الله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11].
وخلاصة القول أنّ الآيتين اللتين ذكرناهما في هذه الزاوية ترشدان المسلمين إلى الآداب التي تجب على المسلم أن يتحلى بها في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء قلنا أنّ الأمر الجامع خاص بالحرب أو أنّه يعم كل الاجتماعات، أو أنّ الآية الأولى تتعلق بالحرب بينما الآية الثانية تتعلق بالخطبة وما يجري مجراها.
وهذه الآداب محلها في حال حياته صلى الله عليه وسلم وأمّا بعد مماته فتنتقل إلى ما بعده من الخلفاء الراشدين ومن في حكمهم.
يقول القرطبي رحمه الله: " وظاهر الآية يقضي أن يستأذن أمير الأمرة الذي هو في مقعد النبوة، فإنّه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين"44].
ـــــــــــــــ
الهوامش:
[1] روح المعاني: (5/65).
[2] أخرجه الحاكم في مستدركه (1/108) وقال: "هو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
[3] أخرجه الحاكم في مستدركه (1/109) وصححه.
[4] روح المعاني: (9/164).
[5] روح المعاني: (9/188).
[6] الفروق في اللغة (ص:215).
[7] كما صرح ابن كثير عند تفسير هذه الآية. انظر تفسيره (2/190).
[8] مستدرك الحاكم (2/139)، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
[9] ابن كثير: (2/192).
[10] أحكام القرآن (4/1700) مع التصرف.
[11] المصدر السابق (4/1701).
[12] المصدر السابق (4/17011702).
[13] مدارج السالكين: (2/389).
[14] أضواء البيان (7/614).
[15] تفسير القرآن العظيم: (2/67).(4/74)
[16] صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4/1963).
[17] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ومحاصرته إياهم (3/34).
[18] صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم (4/260).
[19] البخاري في كتاب التراويح، باب فضل من قام رمضان (1/343).
[20] صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة (1/375).
[21] صحيح البخاري في كتاب الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود (1/278).
[22] يعني التمتع في الحج وهو نوع من أنواع الحج الثلاثة المعروفة.
[23] صحيح البخاري في كتاب الحج في باب التمتع والإقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي (1/272273).
[24] يعني عرفة.
[25] صحيح مسلم في كتاب الحج، باب ما يلزم من أحرم بالحج ثم قدم مكة، من الطواف والسعي (2/905).
[26] مثل قصة عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وفيها: جاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على باطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فقال: (بلى) قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال: (يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدًا)، فرجع متغيظًا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: يا ابن الخطاب، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يضيعه الله أبدًا ". انظر صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب: (إذ يبايعوك تحت الشجرة) (3/190).
[27] يشير إلى قوله تعالى: (يجادلونك في الحق بعدما تبين.). سورة الأنفال: آية (6).
[28] احتجاجًا بقوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم.) سورة النساء، آية 101. أجاب صلى الله عليه وسلم عن ذلك: (صدقة تصدق الله بها عليكم) انظر صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة المسافرين وقصرها (1/478).
[29] حيث أشار إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يغير المكان الذي نزل فيه أولاً إلى مكان آخر أحسن بالنسبة للأهمية الحربية ووافقه على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كما في كتب السيرة. انظر السيرة النبوية لابن كثير (2/402).
[30] الصارم المسلول: (ص:119).
[31] الصارم المسلول: (ص:197).
[32] الصارم المسلول: (ص:191).
[33] تفسير القرطبي: (14/225).
[34] صحيح البخاري، كتاب التفسير: باب في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) (3/176177).
[35] صحيح البخاري، كتاب التفسير: باب في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) (3/176177).
[36] تأملات في سورة الأحزاب (ص:460461) مع التصرف.
[37] تفسير الكشاف: (3/272).
[38] في ظلال القران: (4/2534).
[39] أحكام القرآن: (3/1398).
[40] تفسير ابن كثير: (3/306).
[41] تفسير القرطبي: (12/321).
[42] في ظلال القرآن: (6/3563).
[43] صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة الجمعة (3/202).
[44] تفسير القرطبي: (13/320).
9. ... كتاب "التأدب مع الرسول في ضوء الكتاب والسنة" [الجزء الخامس]
الباب الثالث
البدع الملحقة بالأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم
غالى بعض الناس في حبّهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعوّدوا القيام ببعض الأعمال التي لم يرد بها دليل شرعي، كما استغل بعض المنافقين حب المسلمين لرسولهم وأدخلوا عليهم ما لا يجوز ولا يصح اعتمادًا على دليل واه، أو تأويل غير صحيح.
ومن هنا ظهرت بدع في مجال التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن تعرف لتترك ويتخلص منها المؤمنون الصادقون.
وقد اتبعت في دراسة هذا الموضوع عرض الآراء الواردة في كل مسألة مع ذكر أدلتها ومناقشتها جلاء للحق وبيانًا للصواب.
وقد قسّمتها إلى بدع ألحقت بمولده صلى الله عليه وسلم، وأخرى ألحقت بزيارة مسجده صلى الله عليه وسلم، وثالثة بزيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم، وتناولت هذه البدع بالدراسة بعد تعريف مفصل للبدعة لغة واصطلاحًا.
ولذا جاء هذا الباب مشتملاً على أربعة فصول هي:
الفصل الأول: تعريف البدعة لغة واصطلاحًا.
الفصل الثاني: البدع الملحقة بمولده صلى الله عليه وسلم.
الفصل الثالث: البدع الملحقة بمسجده صلى الله عليه وسلم.
الفصل الرابع: البدع الملحقة بزيارة قبره الشريف صلى الله عليه وسلم.
وذلك فيما يلي بنفس الترتيب.
الفصل الأول
تعريف البدعة لغة واصطلاحًا
أولاً: تعريف البدعة لغة:(4/75)
يقول صاحب معجم مقاييس اللغة[1]: "الباء والدال والعين أصلان أحدهما ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال، والآخر الانقطاع والكلال. فالأول قولهم: أبدعت الشيء قولاً أو فعلاً إذا ابتدائه لا عن مثال والله بديع السماوات والأرض[2] والعرب تقول: ابتدع فلان الركيّ إذا استنبطه وفلان بدع في هذا الأمر. قال الله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي ما كنت أول "[3].
ويقول صاحب مصباح المنير[4]: "أبدعت الشيء وأبدعته: استخرجته وأحدثته ومنه قيل للحالة المخالفة بدعة وهي اسم من الابتداع كالرفعة من الارتفاع ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة... وفلان بدع في الأمر أي هو أول من فعله. فيكون اسم فاعل بمعنى مبتدع والبديع فعيل من هذا فكأن معناه هو منفرد بذلك من بين نظائره، وفيه معنى التعجب، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي ما كنت أول من جاء بالوحي من عند الله تعالى وتشريع الشرائع بل أرسل الله تعالى الرسل قبلي مبشرين ومنذرين فأنا على هداهم..[5].
ويقول ابن منظور: " بدع الشيء يبدعه بدعًا، وابتدعه: أنشأه وبدأه ويبدع الشيء الذي يكون أولاً وفي التنزيل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي ما كنت أول من أرسل قد أرسل قبلي رسل كثير..
وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال والبديع من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء وإحداثه إيّاها وهو البديع الأول قبل كل شيء ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117] أي خالقها ومبدعها فهو سبحانه المخترع لها لا عن مثال سابق "[6].
ونستنتج من هذه التعريفات اللغوية السابقة لكلمة البدعة ومشتقاتها أمرين اثنين:
أ) أنّ معناها يدور حول الاختراع والإحداث والابتداء والإنشاء وكلها معان متقاربة كما ترى.
ب) أنّ البدعة اللغوية تشمل المحدث المذموم والحسن لأن الأمر المخترع قد يترتب عليه مصلحة فيكون حسنًا، وقد يترتب عليه مفسدة فيكون مذمومًا.
ثانيًا: تعريف البدعة في اصطلاح أهل الشرع:
اختلفت أنظار العلماء في تحديد معنى البدعة. فمنهم من حددها بـ "ما أحدث في الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أطلقها على ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين وفي غيره من العادات.
ويمثل الفريق الأول ابن رجب الحنبلي[7] والشاطبي[8] والحافظ ابن حجر العسقلاني وغيرهم. بينما يمثل الفريق الآخر العز بن عبد السلام [9] والنووي وغيرهما.
وسوف أفصل تعريف كل فريق لنصل إلى التعريف المختار.
تعريف البدعة عند الفريق الأول: يقول ابن رجب الحنبلي في تعريف البدعة: "والمراد بالبدعة: "ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أمّا ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا وإن كان بدعة لغة"[10].
وعرّف الشاطبي البدعة بتعريفين: الأول: هو أن البدعة عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه[11].
والثاني: هو أنّ البدعة طريقة في الدين تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالشرعية "[12].
ويقول الحافظ ابن حجر في تعريف البدعة: " ما أحدث وليس له أصل في الشرع يسمى في عرف الشرع بدعة. وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة "[13].
يظهر لنا مما تقدم أن تعريفات هذا الفريق تقيد البدعة بأمور ثلاثة:
أ) الإحداث في الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ب) أن يقصد بها التقرب إلى الله.
ج) أن لا يدل عليها دليل شرعي.
وعلى هذا تكون البدعة اللغوية أعم لاشتمالها على ما أحدث في الدين وفي غيره بينما البدعة الشرعية لا تشمل إلا ما أحدث في الدين على وجه التقرب إلى الله مع عدم وجود الدليل الشرعي. ومن ثم فلا تكون البدعة في نظر هذا الفريق إلا مذمومة شرعًا بخلاف البدعة اللغوية ولا تدخل في العادات التي ليس لها شائبة التعبد.
يقول الشاطبي: " ثبت في الأصول الشرعية أنّه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد، لأنّ ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي، والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي، لأن أحكامها معقولة المعنى ولا بد فيها من التعبد، إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها..
وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد، فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه صح دخوله في العاديات كالعبادات وإلاّ فلا[14].
ويقول ابن حجر العسقلاني: "فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محمودًا أو مذمومًا وكذا القول في المحدثة، والأمر المحدث "[15].(4/76)
تعريف البدعة عند الفريق الثاني: يقول العز بن عبد السلام: "البدعة: هي فعل ما لم يعهد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة. والطريقة في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المباحات فهي مباحة [16] ثم ضرب أمثلة لكل نوع منها وهي على النحو التالي:
والبدعة الواجبة مثل الاشتغال بالنحو، والبدعة المحرمة مثل الاشتغال بمذهب القدرية والجبرية، والبدعة المندوبة مثل جمع الناس في صلاة التراويح، والبدعة المكروهة مثل زخرفة المساجد، والبدعة المباحة مثل المصافحة عقب الصبح والعصر[17].
ويقول النووي رحمه الله تعالى: "والبدعة بكسر الباء في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة "[18].
وهذا الفريق يقيّد تعريف البدعة بقيد واحد وهو إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن البدعة عندهم ليست مذمومة كلها، بل منها ما هو واجب يلزم فعله، ومنها ما هو حرام يلزم تركه، وما هو وسط بين هذا وذاك. حيث إنها تخضع للأحكام الشرعية الخمسة من وجوب، وحرام، ومندوب، ومكروه، ومباح، ومندوب.
وعلى هذا فإنّ البدعة عندهم تساوي البدعة اللغوية لأنها تشمل الحدث المذموم والحسن بخلاف الفريق الأول الذي يرى انحصارها في الحدث المذموم ومن ثم فإن النسبة بين الفريقين عموم وخصوص مطلق.
أدلة الفريقين: يستدل كلا الفريقين بأدلة تؤيد ما ذهب إليه ونذكر هنا طرفًا من أدلة كلا الفريقين مع بيان وجهة الاستدلال لكل منهما.
أولاً: أدلة الفريق الأول: هذا الفريق يستدل بالنصوص التي يفيد منطوقها ذم البدعة على وجه العموم.
1ـ من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنّ خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة "[19].
أنّ قوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة " عام يفيد أن البدعة مذمومة كلها بغير استثناء نوع منها ولم يرد ما يخصص ذلك العموم، ولذلك فليس هناك بدعة حسنة بل كلها مذمومة شرعًا.
2ـ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"[20] أي: مردود.
ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو: أنّ الإحداث في الدين أمر مردود مهما كان ذلك الإحداث صغيرًا أو كبيرًا لأنّ الإحداث في الدين بدعة، ومن ثم فلا يوجد بدعة حسنة.
3ـ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن عبد حبشي فإنّه من يعش منكم ير اختلافًا كثيرًا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنّها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ"[21].
ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد حذر من المحدثات ووصفها بأنّها بدعة كما وصف البدعة بأنّها ضلالة على وجه العموم، وهذا يقتضي أنّه ليس هناك بدعة حسنة وأخرى قبيحة بل كلها قبيحة.
ثانيًا: أدلة الفريق الثاني: يستدل هذا الفريق بأدلة نوجزها فيما يلي:
1ـ قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح بعد ما جمعهم على أبي بن كعب رضي الله عنه: "نعمت البدعة"[22].
ووجه الاستدلال بهذا القول هو أن عمر رضي الله عنه قد سمى صلاة التراويح بدعة مع إقراره بل بأمره ذلك.
وهذا يدل على أنه يقصد بها البدعة الحسنة لا القبيحة ومن ثمّ فإن البدعة تنقسم إلى حسنة وقبيحة.
2ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فيعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة وعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء"[23].
ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو أنه إذا أحدث أحد شيئًا حسنًا يثاب عليه وأنّه غير مذموم وكذلك العكس وبالتالي هناك اختراع حسن وأخرى غير حسن ومن ثم البدعة تنقسم إلى حسنة وقبيحة.
3ـ قول ابن مسعود رضي الله عنه: "فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ"[24].
ووجه الاستدلال بهذا الأثر هو أنّه ما فعل المسلمون واستحسنوه لا يكون مذمومًا بشرط أن لا يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع. وعلى هذا فلا يعتبر البدعة كلها قبيحة بل منها ما هو حسن.
وخلاصة القول: أنّ طريقة الفريق الأول مبنية على ثلاثة أمور:
1ـ البدعة حقيقة فيما لم يفعل في الصدر الأول ولم يكن له أصل من أصول الشرع ومجاز في غير ذلك.
2ـ أنّ جميع ما ورد في ذم البدع من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة" [25] باق على عمومه.
3ـ القول بأنّ البدع لا تدخل إلاّ في العاديات التي لا بد فيها من التعبد.
وأمّا طريقة الفريق الثاني فهي مبنية على أمور ثلاثة أيضًا:(4/77)
1ـ أنّ البدعة حقيقة فيما لم يفعل في الصدر الأول كان له أصل من أصول الشرع أم لا.
2ـ أنّ جميع ما ورد في البدع من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن كل بدعة ضلالة" [26] عام مخصوص.
3ـ القول بأن جميع المخترعات من العاديات ولو لم يلحقها شائبة تعبد تلحق بالبدع وتصير كالعبادات المخترعة)[27].
مناقشة الأدلة والترجيح: نبدأ بمناقشة أدلة الفريق الثاني ثم نتبعها بأدلة الفريق الأول: أولاً: استدلالهم بقول عمر رضي الله عنه: "نعمت البدعة "، ليس بدليل لهم لعدة أمور:
1ـ أن صلاة التراويح جماعة ليست بدعة شرعية بل صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته جماعة عدة ليالي ثم بعد ذلك تركها مخافة أن تفرض عليهم ثم لا يطيقوها. ومما يدل على ذلك ما أخرجه الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس يتحدثون بذلك فاجتمع أكثر منهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: "أما بعد فإنّه لم يخف عليّ مكانكم ولكنّي خشيت أن تفترض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها" [28] وفي رواية وذلك في رمضان.
وما دام الرسول صلى الله عليه وسلم ترك صلاة التراويح جماعة مخافة أن تفرض عليهم وقد زال ذلك الخوف بموته صلى الله عليه وسلم فلا مانع أن يرجع الأمر كله إلى ما كان عليه وهو أن يصلى بها جماعة.
2ـ أنّ صلاة التراويح جماعة تدخل في ضمن سنة الخلفاء الراشدين، وبالتالي فهي سنة سنّها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقوله صلى الله عليه وسلم "... وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين... "[29].
3ـ إن عمر رضي الله عنه أمر ذلك بمرأى ومسمع من الصحابة رضوان الله عليهم ولم ينقل من عارض ذلك.
وعلى هذا فلا يكون قول عمر رضي الله عنه دليلاً لهذا الفريق ولكن يبقى لماذا سمى عمر هذا الفعل بدعة؟ وقد أوّل العلماء هذا القول بعدة تأويلات وأحسنها هو أن يقصد بها البدعة اللغوية لاشتمالها البدعة السيئة والبدعة الحسنة.
يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا المقام: "ما سمي بدعة وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم إمّا أن يقال ليس ببدعة في الدين وإن كان يسمى بدعة في اللغة كما قال عمر: نعمت البدعة، وإما أن يقال هذا عام خصت منه هذه الصورة لمعارض راجح كما يبقى عداها على مقتضى العموم كسائر عمومات الكتاب والسنة"[30].
ويقول أيضًا: "أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة أي صلاة التراويح جماعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أنّ البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق، وأمّا البدعة الشرعية فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي"[31].
ثانيًا: استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها.... ".
ليس بدليل لهم لأن معناه هو من أحيا سنة من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فله ثوابها وثواب من اتبعه بها كما يدل عليه سبب حديث جرير بن عبد الله حيث قال: "جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصرف[32] فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة فأبطأوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه قال: ثم إنّ رجلاً من الأنصار جاء بصرة من ورق ثم جاء آخر ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء"[33].
وهذا يدل على أن الغرض من ذلك إحياء ما ثبت في الإسلام، وهنا الصدقة وليس ابتداع شيء لا أصل له في الشريعة الإسلامية.
وهناك حديث آخر يفسر هذا الحديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا سنّة من سنن قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئًا"[34].(4/78)
ثالثًا: وأمّا قول ابن مسعود رضي الله عنه: "فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن "[35] فهو أثر موقوف على ابن مسعود وليس بحجة، وأما على فرض حجته فليس المراد جنس المسلمين الصادق بالمجتهد وغيره لاقتضائه أن كل ما رآه آحاد المسلمين حسنًا فهو حسن، وكذلك العكس، كما أنه يقتضي كون العمل الواحد حسنًا عند البعض الآخر لا يصح التقرب به إلى الله تعالى قبيحًا عند البعض الآخر لا يصح التقرب به إليه، وهو باطل[36].
وعلى هذا يحمل معنى هذا الأثر على ما اجتمعت عليه الأمة لعصمتها من الإجماع على ضلال، والإجماع حجة لاستناده إلى دليل شرعي، وعلى هذا فلا يوجد دليل واحد يدل إلى ما ذهبوا إليه وأنّ الأمثلة التي ذكروها للبدعة الحسنة والقبيحة تدخل تحت ما يناسبها من القواعد الشرعية.
وأما أدلة الفريق الأول: فهي مقبولة ومسلمة من ناحية ثبوتها ومن ناحية الاستدلال معًا، وبالتالي فلا تحتاج إلى مناقشة.
وعلى هذا نرجّح ما ذهب إليه الفريق الأول وهو أن البدعة لا تكون إلاّ مذمومة لعموم النصوص التي وردت في ذم البدعة شرعًا ولعدم وجود ما يخصص ذلك، وبالتالي ليست مقسمة إلى حسنة وقبيحة.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله مؤيدًا ذلك: "إنّه قد ثبت في الأصول العلمية أنّ كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص مع تكرارها، وإعادة تقررها فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعالى: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:3839] وما أشبه ذلك...
فما نحن بصدده من هذا القبيل. إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال المختلفة أنّ كل بدعة ضلالة وأنّ كل محدثة بدعة وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أنّ البدع مذمومة ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم خلاف ظاهر الكلية فيها، فدل ذلك دلالة واضحة على أنّها على عمومها وإجمالها"[37] وأمّا البدع المنقسمة إلى حسنة وقبيحة فهي البدعة اللغوية المتعلقة بالاختراعات وبأمور المعاش ووسائله ومقاصده [38]، فما كان ضارًا فنترك، وما كان نافعًا فنفعل ونستعمل.
وكل هذه أمور تدخل تحت ما فرضّه لنا الشارع بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم... "[39].
هذا ما يتعلق بالبدعة الحقيقة وأما البدعة الإضافية فهي كما ذكر الشاطبي رحمه الله التي لها شائبتان: إحداهما لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة، والأخرى ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية. فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضعنا له هذه التسمية "البدعة الإضافية" أي أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة لأنها مستندة إلى دليل، وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل أو غير مستندة إلى دليل.
والفرق بينهما من جهة المعنى، أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العاديات المحضة[40].
ومثال ذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الأذان جهرًا مع أن الشارع طلب منا ذلك سرًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلّوا عليّ، فإن من صلّى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا..."[41].
والبدعة تدخل من جهة الكيفية لا من جهة أصل مشروعية ذلك، ومن ثم تأخذ حكم البدعة الحقيقية بحسب قربها لها أو بعدها منها.
يقول الشاطبي رحمه الله: "فقلما تختص أي البدعة الحقيقية بحكم دون الإضافية بل هما معًا يشتركان في أكثر الأحكام إلا أن الإضافية على ضربين: أحدهما: يقرب من الحقيقة حتى تكاد البدعة تعد حقيقية.
والآخر: يبعد منها حتى يكاد يعد سنة محضة[42].
الفصل الثاني
البدع الملحقة بمولده صلى الله عليه وسلم
يقصد بالمولد تلك الاحتفالات التي تقام في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام، وهو اليوم الذي ولد فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم على أرجح الأقوال.
ولذا كان الاحتفال المذكور، أحياء لذكراه عليه الصلاة والسلام وإظهارًا للفرح بمولد نبي الثقلين كما يقول المحتفلون.
وفي ذلك اليوم يقرأ المحتفلون أورادًا كثيرة ويتذاكرون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنّهم يقومون بجانب ذلك بأعمال كثيرة مثل الذبح وإعداد الطعام للمجتمعين وللتوزيع على الفقراء حتى أصبح ذلك اليوم يوم أكل وشرب مثل يومي العيد الفطر والأضحى أو أكثر.
وقد يتوسع بعضهم في ذلك الاحتفال حتى أنه يقام من بداية شهر ربيع الأول ويستمر إلى اليوم الثاني عشر أو إلى نهاية الشهر أو يقام في كل يوم الاثنين أو يوم الجمعة من كل أسبوع.(4/79)
يقول الشيخ علي محفوظ: "الموالد هي الاجتماعات التي تقام لتكريم الماضين من الأنبياء والأولياء والأصل فيها أن يتحرى الوقت الذي ولد فيه من يقصد بعمل المولد وقد يتوسع فيها حتى تتكرر في العام الواحد"[43].
ونتحدث في هذا الفصل عن ذلك اليوم وما يفعل فيه من الأعمال مع عرض كافة الآراء بأدلتها ومناقشتها بموضوعية وحياد كاملين ليظهر الحق بدليله ويزهق الباطل بمزاعمه وأوهامه وليعيش الناس مع الإسلام عن بينة ووضوح.
وسوف يتكون هذا الفصل من مبحثين:
المبحث الأول: تحديد وقت الاحتفال بالمولد ونشأته.
المبحث الثاني: حكم الاحتفال بالمولد.
المبحث الأول
تحديد وقت الاحتفال بالمولد ونشأته
تحديد وقت الاحتفال بالمولد مرتبط بتحديد الوقت الذي ولد فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنّ ذلك الاحتفال يقصد به إحياء ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم كما قلنا آنفًا.
ومعنى ذلك أنّ ذلك الاحتفال يخضع للاختلاف الوارد في تحديد وقت ولادته صلى الله عليه وسلم ولكن الذي لا جدال فيه أنّه ولد في يوم الاثنين للحديث الصحيح الذي ورد في هذا الشأن وأمّا ما عدا ذلك فمختلف فيه.
أخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل عليّ"[44].
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله الخلاف الوارد في ذلك في كتابه السيرة النبوية قائلاً:
"أنّ ذلك كان في شهر ربيع الأول، فقيل لليلتين خلتا منه.. وقيل لثمان خلون فيه. وقيل لعشر خلون منه.. وقيل لاثنتي عشر خلت منه.."[45].
ولأجل هذا الخلاف كان الملك المظفر صاحب إربل [46] يحتفل بالمولد الشريف مرة في ثامن شهر ربيع الأول ومرة في الثاني عشر منه [47] ولكن المشهور هو أنّه ولد في يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول وهو الراجح.
يقول ابن كثير بعد نقله هذا القول: "وهذا هو المشهور عند الجمهور والله أعلم"[48].
وأمّا ما ذكر من أنّه ولد في رمضان أو في يوم الجمعة وفي غيرهما فغير صحيح كما ذكر الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى.
وأمّا نشأة الاحتفال بالمولد الشريف فمختلف فيه أيضًا بين العلماء، فمنهم من يقول إنّ الاحتفال بدأ في القاهرة أيام الدولة الفاطمية، ومنهم من يقول إنّ ذلك قد أحدثه الملك مظفر صاحب إربل بإربل في آخر القرن السادس أو أوائل القرن السابع.
الأقوال التي تؤيد القول الأول: يقول المقريزي: " كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم وهي: موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومولد الحسن ومولد الحسين رضي الله عنه ومولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها ومولد الخليفة الحاضر"[49].
ويقول القلقشندي عند كلامه عن جلسات الخلفاء الفاطميين: "الجلوس الثالث جلوسه في مولد النبي صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من شهر ربيع الأول وكان عادتهم فيه أن يعمل في دار الفطرة عشرون قنطارًا من السكر الفائق حلوى من طرائف الأصناف وتعبأ ثلاثمائة صينية نحاس فإذا كان ليلة ذلك المولد تفرق في أرباب الرسوم كقاضي القضاة وداعي الدعاة وقراءة الحضرة... "[50].
ويفهم من كلام المقريزي وكلام القلقشندي أنّ الفاطميين كانوا يعملون الاحتفال بالمولد النبوي وغير ذلك من الموالد وإن لم يصرحا بأنّهم أول من أحدث ذلك ولكن صرح في ذلك حسن السندوبي في كتابه تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي قائلاً: "لقد دلني البحث والتنقيب والتحري والاستقصاء على أن الفاطميين هم أول من ابتدع فكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف وجعلوه من الأعياد العامة في كل أمة من الأمم الإسلامية كما ابتدعوا غيره من الاحتفالات الدورية التي عدّت من مواسمها، وكذلك صرفوا الكثير من اهتمامهم إلى إحياء ما يكون معروفًا من المواسم والأعياد قبل الإسلام"[51].
وممن ذهب إلى القول الثاني السيوطي حيث يقول: "أول من أحدث فعل ذلك الاحتفال بالمولد صاحب إربل الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري بن زين الدين بن علي بن بكتكين أحد ملوك الأمجاد والكبراء الأجواد وكان له آثار حسنة"[52].
وتبعه في ذلك محمد رشيد رضا صاحب المنار حيث يقول: "إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قد صار عادة عامة، والمشهور أنّ المحدث لها هو أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين التركماني الجنس الملقب بالملك العظيم مظفر الدين صاحب إربل أحدثها في أوائل القرن السابع أو أواخر القرن السادس فإن السلطان صلاح الدين ولاّه على إربل في ذي الحجة سنة 580 هـ "[53].
وهذان القولان هما المشهوران في الموضوع الذي نحن بصدده ولم أقف على أقوال أخر تتعلق بهذا الموضوع.(4/80)
وقد ذهب بعض العلماء إلى التوفيق بين الرأيين: يقول الشيخ علي محفوظ: "أول من أحدثها بالقاهرة الخلفاء الفاطميون في القرن الرابع فابتدعوا ستة موالد: المولد النبوي، ومولد الإمام علي رضي الله عنه ومولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها ومولد الحسن والحسين رضي الله عنهما ومولد الخليفة الحاضر. وبقيت الموالد على رسومها إلى أن أبطلها الأفضل أمير الجيوش ثم أعيدت في خلافة الآمر بأحكام الله في سنة أربع وعشرين وخمسمائة بعدما كاد الناس ينسونها، وأول من أحدث المولد النبوي بمدينة إربل الملك المظفر أبو سعيد في القرن السابع، وقد استمر العمل بالمولد إلى يومنا هذا وتوسع الناس فيها وابتدعوا بكل ما تهواه أنفسهم وتوحيه شياطين الإنس والجن"[54].
وذهب إلى ذلك أيضًا الدكتور عزت عطية حيث يقول: "وأول من أحدثه بالقاهرة المعز لدين الله الفاطمي سنة 362هـ ودام الاحتفال به إلى أن أبطله أمير الجيوش بدر الدين الجمالي سنة 488هـ في عهد المستعلي بالله، ولمّا ولي الخلافة الآمر بأحكام الله ابن المستعلي أعاد الاحتفال في سنة 495هـ وأول من أحدث هذا الاحتفال بإربل الملك المظفر أبو سعيد في القرن السادس أو السابع[55]. ويفهم من كلامهما أنّ الابتداء نسبي بحيث أن الفاطميين هم أول من أحدث ذلك الاحتفال بالنسبة لمدينة القاهرة، وأما بالنسبة لإربل فصاحب إربل الملك المظفر هو أول من أحدث فيها ولكن أرجح الأقوال هو الأول الذي يقول بأنّ الفاطميين هم الذين أحدثوا ذلك ولم يسبقهم أحد في ذلك بل انتشرت من عندهم إلى البلاد الإسلامية.
والذي يؤيد ذلك أنّ الدولة الفاطمية قد سقطت قبل وجود الملك المظفر صاحب إربل وبالتحديد سنة 567 هـ [56] وكذلك صاحب إربل نفسه لم يبتدع ذلك الاحتفال بالمولد بل اقتدى بالشيخ عمر الملا[57].
يقول أبو شامة: "وكان أول من فعل ذلك أي الاحتفال بالمولد الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره رحمهم الله تعالى[58].
وخلاصة القول أنّ الاحتفال بالمولد النبوي لم يكن معروفًا في القرون الثلاثة الأولى التي شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهلها بالخيرية بقوله: "خير الناس قرني في ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..."[59].
وإنّما بدأ ذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الهجري على يد أحد ملوك الفاطميين وهو المعز لدين الله.
والغرض من ابتداع الاحتفال بالمولد النبوي هو جذب قلوب العامة إلى الدولة الفاطمية الجديدة في مصر كما جزم غير واحد.
يقول السندوني: " ولمّا استقر له الحكم أي المعز لدين الله أخذ يفكر في الوسائل الكفيلة باستمالة القلوب، وامتلاك النفوس، واستثارة العواطف حتى تألف الأمة المصرية تصرفات هذه الحكومة الجديدة وترضى عن سياستها في إدارة البلاد، ولمّا كانت الميول العامة لطبقات الأمة المصرية متجهة إلى حب آل بيت الرسول مع الاعتدال في التشيع لهم... رأى المعز لدين الله أنّ أقرب الأسباب للوصول إلى أغراضه من هذا الميل العام الالتجاء إلى الأمور التي تمت بصلة إلى المظهر الديني، فهداه تفكيره إلى أن يقرر إقامة مواسم حافلة وأعياد شاملة في مواعيد مقررة وكان من أولها وأجلّها وأفضلها الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف"[60].
وبجانب هذه المناسبات والأعياد الدينية فقد كان الخلفاء الفاطميون يشتركون في الاحتفالات التي تقام للأعياد الأخرى مثل عيد الميلاد عند الأقباط في مصر وغيرها من الأعياد والمواسم للغرض نفسه حتى ينالوا رضاء أهل الملل المختلفة القاطنين في مصر.
يقول د. حسن إبراهيم حسن وصاحبه في كتابهما "المعز لدين الله": "وكان الفاطميون يتخذون هذه الأعياد وسيلة لجذب الرعايا إليهم، لذلك شارك المعز القبط في الاحتفال بعيد الميلاد وغيرها"[61].
ومن هنا نقول إنّ إحداث الاحتفال بالمولد النبوي من قبل الخلفاء الفاطميين كان لغرض سياسي بحت دون النظر إلى دوافع دينية أو اعتبارات أخرى بل الغرض الوحيد هو كسب احترام رعايا المسلمين في مصر كما كانوا يعملون مع رعايا غير المسلمين هناك بحيث يشتركون معهم في احتفالاتهم التي ليست لها صلة بالدين.
وهذه سمة عامة الخلفاء الفاطميين منذ أن نشأت دولتهم في مصر عام 357هـ إلى أن سقطت في سنة 5670هـ وإن كان فيهم من أبطل الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من الموالد فترة مثل الأفضل أمير الجيوش في سنة 488هـ ولكن أعيد الاحتفال في عهد الآمر بأحكام الله في سنة 495 هـ وبعد ذلك استمر إلى يومنا هذا. وقد أصبح ذلك اليوم في بعض البلاد عيدًا رسميًا حيث تعطل المصالح الحكومية والشركات والمؤسسات وتقفل المدارس وتقام حفلات هائلة وتعمل إنارة الطرقات وتزيينها.(4/81)
والأغرب من ذلك كله أن بعض الحكومات التي تدور في فلك المعسكر الشيوعي الملحد الذي لا يعترف بوجود الله تجعل ذلك اليوم عيدًا رسميًا مثل الأعياد الوطنية في عصرنا الحاضر لكسب تأييد رعايا المسلمين فقط دون النظر إلى دوافع دينية لأنّ الدين عندهم أفيون الشعب بناء على مبدئهم القائل: الغاية تبرر الوسيلة.
وعلى هذا فغرضهم يتفق مع غرض الدولة الفاطمية في مصر التي أحدثت ذلك الاحتفال وإن اختلفت الأزمنة وبعدت الأمكنة.
المبحث الثاني
حكم الاحتفال بالمولد النبوي
ذكرنا في المبحث السابق أن الاحتفال بالمولد النبوي في أقدم الأقوال قد بدأ في النصف الأخير من القرن الرابع الهجري.
ومعنى ذلك أنّ الاحتفال بالمولد النبوي لم يكن معروفًا في القرون الفاضلة الثلاثة المشهود لأهلها بالخيرية.
ومع هذا فقد جوز بعض العلماء الاحتفال بالمولد النبوي، بل ذهبوا إلى استحسان الشرع له مستدلين بأدلة نوردها قريبًا ولكن هناك فريقًا آخر من العلماء ذهبوا إلى عدم جوازه ورأوا أنّه بدعة محدثة يرفضها الشرع ويأباها، ولهم على ذلك أدلة أخرى.
ومحل النزاع بين الفريقين هو إذا كان ذلك الاحتفال خاليًا ممّا يصحبه عادة من المنكرات كاختلاط الرجال بالنساء وغيرها من الأمور المنهية عنها شرعًا وأما إذا صحبته شيء من ذلك فهم مجمعون على عدم جوازه لتلك العلة عند الفريق الأول.
وأمّا عند الفريق الثاني، فالعلة عندهم هي إحداثه وبدعيته حتى وإن خلا من المنهيات المصاحبة عادة. وبالتالي فمن باب أولى أن يقولوا بعدم جوازه إذا صاحبته الأمور المنهية عنها شرعًا.
ونذكر هنا آراء كل من الفريقين مع الأدلة التي يستدلون بها ووجهة استدلالهم بها.
أولاً: الفريق الأول: هذا الفريق هو الذي ذهب إلى جواز الاحتفال بالمولد النبوي بل إلى استحسانه بشرط خلوه من المنكرات مثل الطرب والرقص واختلاط الرجال والنساء.
ومن علماء هذا الفريق ابن ناصر الدين الدمشقي [62] وابن الجزري [63] وابن حجر العسقلاني والسيوطي وغيرهم.
وقد استدل كل منهم بما رأى من دليل ومن أهمها:
1ـ رأي ابن ناصر الدين: يقول ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه، مورد الصادي في مولد الهادي: "ثويبة أول من أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد أمه وهي مولاة أبي لهب عمه أعتقها سرورًا بميلاد خير الثقلين فلهذا صح أنّه يخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الاثنين ثم أنشد:
إذا كان هذا كافرًا جاء ذمه وتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائمًا يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره بأحمد مسرورًا ومات موحدا[64]
3ـ رأي ابن الجزري: يقول ابن الجزري في هذا المقام: (وقد روي أنّ أبا لهب بعد موته رؤي في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار إلاّ أنّه يخفف عنّي كل ليلة اثنين وأمص من بين أصبعي ماء بقدر هذا، وأشار إلى ثغرة إبهامه وأنّ ذلك بإعتاقي ثويبة عندما بشرتني بولادة محمد صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له، ثم قال: إذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم فما بال المسلم الموحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يسر بمولده ويبذل ما تتصل إليه قدرته في محبته صلى الله عليه وسلم لعمري إنّما جزاؤه من الله الكريم يدخله بفضله جنات النعيم)[65].
ويلاحظ أن ابن ناصر الدين وابن الجزري استدلا بدليل واحد هو ما روي أن أبا لهب رؤي في النوم بعد موته وذكر بعد سؤال حاله أنّه يخفف عنهْ العذاب في كل يوم الاثنين لإعتاقه ثويبة بعد ما بشرته بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم سرورًا بذلك ومن ثم يجعلون ذلك دليلاً على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي لأنّ الكافر وهو أبو لهب يثاب على سروره بمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث يخفف عنه العذاب في كل يوم الاثنين، فمن باب أولى أن يثاب المسلم إذا احتفل بالمولد النبوي والثواب لا يكون إلاّ على عمل مشروع فدل ذلك أن الاحتفال بالمولد النبوي عمل مشروع في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول. من كل عام.(4/82)
3ـ رأي ابن حجر العسقلاني: يقول ابن حجر العسقلاني: (أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا، قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ثابت في الصحيحين من أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هذا يوم أغرق الله فرعون ونجّى موسى فنحن نصومه شكرًا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير اليوم من كل سنة والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى أي يوم من السنة وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلق بأصل عمله)[66].
ووجه استدلال الحافظ بهذا الحديث أنّ النعمة تقابل بالشكر، فكما نقابل يوم نجاة موسى عليه السلام بالصوم فلا مانع من أن نقابل يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم بلون من ألوان العبادة كالصيام والصدقة والتلاوة وهكذا.
رأي السيوطي: ينقل السيوطي رأي ابن حجر مع دليله ثم يقول: (وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس رضي الله عنه "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة " [67] مع أنّه قد ورد أن جدّه عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه. لذلك فيستحب لنا أيضًا إظهارًا للشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام. ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات)[68].
وتوجيه هذا الدليل يقوم على أن الشكر على النعمة يجوز تكراره، فكما كرر النبي صلى الله عليه وسلم العقيقة عن نفسه يجوز أن يكرر المسلمون الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم شكرًا لله على مولد رسولهم الكريم.
ونضيف إلى هذا دليلاً آخر استدل به بعضهم وهو ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل عليّ" [69] ووجه الاستدلال بهذا الحديث هو ما دام أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد خصّص عبادة في هذا اليوم شكرًا لله على نعمة إيجاده صلى الله عليه وسلم فكذلك يجوز لنا أن نحتفل في هذا اليوم إظهارًا للسرور بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وشكرًا لله على هذه النعمة لأنّه كما قابل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه النعمة بالصوم فلا مانع أن نقابل هذه النعمة بألوان من العبادة كالصدقة والتلاوة وغيرها.
والآراء المذكورة تمثل رأي فريق واسع، إلاّ أنّي اكتفيت بما ذكرت لأنّه يصور واقع هذا الفريق قديمًا وحديثًا وكلهم يعتمدون على هذه الأدلة أو بعضها.
ومجمل الآراء يقوم على أن الاحتفال بالمولد النبوي في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام عمل مشروع.
وقبل أن نتكلم عن أدلة هذا الفريق من ناحية صحتها أو ضعفها، ومقدار قربها أو بعدها عما سيقت له نذكر رأي الفريق الثاني والأدلة التي يستدل بها من جانبه.
ثانيًا: الفريق الثاني: ذهب هذا الفريق إلى عدم جواز الاحتفال بالمولد النبوي سواء صاحبته المنكرات أم لا.
وجمهور العلماء على هذا الرأي ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن الحاج [70] والفاكهاني [71]، ومن أهم آرائهم ما يلي:
1ـ رأي شيخ الإسلام ابن تيمية: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المقام: (ما يحدثه بعض الناس من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا بدعة لأنّ هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرًا محضًا، أو راجحًا، لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منّا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم له منا وهم على الخير أحرص وإنما كمال متابعته وطاعته، واتباع أمره، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك، بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان)[72].
وملخص هذا الرأي أنّ الاحتفال بالمولد أمر غير مشروع ومن ثم فهو بدعة لأنّ السلف الصالح لم يحتفلوا به مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه حيث كانت الفطرة سليمة، والحرص على التدين أصيل، ولا يسعنا إلا ما وسعهم، وعلينا أن نتبع لا أن نبتدع. ولله در القائل: لن يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.(4/83)
2ـ رأي ابن الحاج: يقول ابن الحاج بعد أن تكلم عن المفاسد المصاحبة للاحتفال بالمولد كالطرب وغيرها: (وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسماع فإن خلا منه وعمل طعامًا فقط ونوى به المولد ودعا إليه الإخوان وسلم من كل ما تقدم ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط، إذ أنّ ذلك زيادة في الدين وليس من عمل السلف الماضيين، واتباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد من مخالفة ما كانوا عليه، لأنهم أشد الناس اتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له ولسنته صلى الله عليه وسلم ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك ولم ينقل عن أحد منهم أنّه نوى المولد، ونحن لهم تبع فيسعنا ما وسعهم)[73].
وهذا الرأي يقوم على ما قام به رأي ابن تيمية تمامًا وهو بدعية الاحتفال بالمولد لأنّ السلف لم يحتفلوا به ولا يسعنا إلاّ ما وسعهم.
3ـ رأي الفاكهاني: يقول الفاكهاني رحمه الله: (لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة الذين هم القدوة في الدين المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون وشهوة نفس اعتنى بها الأكّالون بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا إمّا أن يكون واجبًا أو مندوبًا أو مباحًا أو مكروهًا أو محرمًا، وليس بواجب إجماعًا ولا مندوبًا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن به الشرع ولا يفعله الصحابة والتابعون ولا العلماء المتدينون فيما علمت، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت، ولا جائزًا أن يكون مباحًا، لأن الابتداع في الدين ليس مباحًا بإجماع المسلمين، فلم يبق إلاّ أن يكون مكروهًا أو محرمًا)[74].
وملخص هذا الرأي يقوم على أنّ الاحتفال بالمولد قد أحدثه البطالون والأكالون ومن ثم فهو بدعة لعدم ورود ما يدل على مشروعيته من كتاب ولا سنة صحيحة. ولهذا لا يكون واجبًا ولا مندوبًا ولا مباحًا وإنما يكون حكمه إمّا مكروهًا أو حرامًا.
هذه مجمل ما قيل في هذا الموضوع وهو الاحتفال بالمولد النبوي، وكما نرى أنّ كل فريق من الفريقين يستدل بأدلة تؤيد رأيه.
وقبل أن نصل إلى حكم الاحتفال بالمولد، لا بد من مناقشة الأدلة والنظر فيها لنرى مدى صحتها أو ضعفها ومدى قربها أو بعدها لما استدل بها له.
مناقشة الأدلة: ونبدأ بأدلة الفريق الأول:
1ـ استدلالهم بأن أبا لهب قد رؤي في النوم وإخباره بأنّه يخفف عنه العذاب في كل يوم الاثنين جزاء إعتاقه ثويبة عند ما بشرته بميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم وسروره بذلك.
قبل أن نرفض الاستدلال بمثل هذا النص الوارد عن رؤيا منامية نذكر سند الحديث ومتنه لأنّه خير ما يساعدنا في الرفض.
قال البخاري رحمه الله تعالى: (حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال أخبرني عروة بن الزبير قال: "وثوبية مولاة لأبي لهب كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة[75].
قال: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم غير أنّي سقيت في هذه بعتاقي ثويبة"[76].
وهذا الحديث لم يسلم عن مقال لا من ناحية السند ولا من ناحية المتن والاستشهاد به مردود لعدة أسباب:
أ) إمّا من ناحية السند فهو حديث مرسل أرسله عروة كما هو واضح.
ب) وإمّا من ناحية المتن فهو مخالف لما دلّ عليه القرآن حيث يقول الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
وقد ذكر علماء التفسير في معنى الآية أنّ الكافر إذا فعل عمل خير لا يثاب عليه لفقده الإيمان الذي هو أساس قبول الأعمال كلها ومن ثم عمله يكون كالهباء المنثور[77]. ولذلك بانت معارضة الحديث للآية.
وأخيرًا فإنّ مثل هذا النص مع فرض صحته ومع تصوّر عدم معارضته للقرآن الكريم لا يفيد حكمًا شرعيًا لأنّه تصوير لرؤيا منامية رآها كافر وهو العباس بن عبد المطلب الذي لم يسلم بعد وقت الرؤيا، ورؤيا الناس عمومًا ما عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تفيد حكمًا شرعيًا، ومن باب أولى إذا كانت رؤية الكفار.
وأمّا ما ثبت [78] في حق أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم من تخفيف العذاب عنه في النار مع كفره وبقائه في الشرك حتى فارق الحياة فمخصوص ولا يتعدى إلى غيره.
وهذا الحديث لا يصح للأمور التي ذكرناها، ومن ثم لا تقوم به الحجة.
وإذا كان كذلك فلننظر الأدلة الأخرى التي يستدلون بها:(4/84)
استدلالهم بالحديث المتعلق بصيام يوم عاشوراء على جواز الاحتفال بالمولد قياسًا على ذلك لعلة حصول النعمة فيهما فمردود لأن إظهار الشكر فيهما على طرفي نقيض، وذلك أن يوم عاشوراء يوم صوم، وأن الاحتفال بالمولد يوم أكل وشرب، ولو عمل في يوم المولد من جنس ما يعمل في يوم عاشوراء وهو الصيام لكان أقرب وإن كان هذا لا يخرجه عن البدعة لعدم مشروعيته في ذلك اليوم الموافق الثاني عشر من ربيع الأول، ولأنّ مثل هذه الأعمال التي يتقرب بها إلى الله لا تثبت بالقياس كما يقال: أنّ الأصل في العادات أن لا يشرع فيها إلا ما يشرعه الله وأن الأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله.
ولهذا لا يمكن الاستدلال بهذا الحديث مع ثبوته لعدم مطابقته هذا المقام الذي نحن بصدده.
استدلالهم بالحديث الذي أخرجه البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عق عن نفسه بعد النبوة فهو حديث لا يستدل به، وسند الحديث ونصّه هو الآتي: قال البيهقي رحمه الله: (أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي رحمه الله أنبأنا حاجب بن أحمد بن سفيان الطوسي، ثنا محمد بن حماد الايبردي ثنا عبد الرزاق، أنبأنا عبد الله بن محرر، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد عقّ عن نفسه بعد النبوة "[79]. ففي إسناد هذا الحديث رجل قد جرحه غير واحد من النقاد وهو عبد الله بن محرر.
ونذكر هنا أقوال العلماء فيه: يقول البخاري: (عبد الله بن المحرر عن قتادة، متروك الحديث [80]، وهنا عن قتادة.
يقول النسائي: (عبد الله بن محرر يروي عن قتادة متروك الحديث)[81].
ويقول ابن أبي حاتم عن أبيه: (عبد الله بن محرر متروك)[82].
ويقول ابن حبان: (كان من خيار عباد الله، ممن يكذب ولا يعلم ويقلب الإسناد ولا يفهم)[83].
ويقول البيهقي عن عبد الرزاق [84] قال: (إنّما تركوا عبد الله بن محرر لأجل هذا الحديث[85].
من هذه الأقوال التي أوردتها يتبين لنا أنّ هذا الحديث لا يصح سنده لوجود راوٍ متروك في سنده ومن ثم لا يمكن الاستدلال به في هذا المقام.
هذا من ناحية السند، وأمّا من ناحية المتن فلا يمكن أن يستدل به أيضًا لما نحن بصدده وهو الاحتفال بالمولد وإنّما غاية ما يستدل به عليه مشروعية العقيقة بعد البلوغ أن فرضنا صحته، وهيهات أن يصح.
4ـ استدلالهم بصيامه صلى الله عليه وسلم في كل يوم الاثنين معللاً بأنّه اليوم الذي ولد فيه واليوم الذي أنزل عليه فمردود لأن صيامه صلى الله عليه وسلم لم يكن في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام وإنما كان في يوم الاثنين من كل أسبوع وفي كل شهر من شهور السنة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فعلينا أن نشكر الله بمثل ما شكره به صلى الله عليه وسلم وهو الصيام مع مراعاة الوقت الذي شرع فيه لا أن نحتفل ونأكل ونشرب.
من هذه المناقشة يتبيّن لنا أنّ ما ذهب إليه هذا الفريق وهو جواز الاحتفال بالمولد النبوي واستحبابه غير صحيح، لاستدلالهم بأدلة بعضها واهٍ وبعضها غير مطابق لما استدل به عليه كما ذكرنا وإن كانت ثابتة.
وأمّا أدلة الفريق الثاني: فيدور استدلالهم على ضرورة الاتباع لما كان عليه السلف الصالح فهم خير من نقل دين الله إلينا كما أخذوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنّه لم ينقل أحد منهم جواز الاحتفال بالمولد النبوي ولا خطر في بالهم يومًا ما مع حبّهم واحترامهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بل نقل عنهم الاختلاف في وقت ولادته، وهذا يدل على أنّ السلف الصالح كانوا لا يرون تخصيص يوم ولادته بعبادة معينة أو إقامة احتفال.
وعلى هذا فإنّ الاحتفال بالمولد يدخل في ضمن البدع المنهي عنها في كثير من الأحاديث.
منها قوله صلى الله عليه وسلم: ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"[86].
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"[87].
ومن هنا نقول إنّ رأي الفريق الثاني هو الراجح لأنّه مبني على الاتباع وترك الابتداع.
ولا يفهم من هذا أنّ ترك الاحتفال بالمولد النبوي جفوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإهمال لحبه كما يقول الجهال لأنّ الاتباع الدقيق هو الحب الحقيقي ويكون مستمرًا طول الحياة في كل يوم وليلة ولا يختص بيوم من السنة دون غيره من الأيام كما يفعله المحتفلون المبتدعون. وبالإضافة إلى ذلك فإن الابتداع يعتبر زيادة في الدين خارجة عنه بعد أن أكمله الله تعالى بنزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] وبالتالي يقف المبتدع موقف المستدرك على الشارع سبحانه وتعالى وعلى صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله عز وجل.(4/85)
وهذا سوء الأدب بعينه مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم وإن لم يقصد بذلك وحسنت نيته لأنّ حسن النية لا يحلل حرامًا ولا يحرم حلالاً كما أنها لا يكون مبررًا لزيادة في دين الله أو النقصان منه لأنّ المرجع في كل ما يتعلق بأمر الدين هو كتاب الإله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعلى المسلم أن يراعي ذلك الجانب حتى لا يقع في منزلق لا يحمد عقباه وأن ينظر ما يتقرب به إلى الله قبل أن يقدم عليه فيعرف سنده من الكتاب والسنة عملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
الفصل الثالث
البدع الملحقة بمسجده صلى الله عليه وسلم
من المعلوم أنّ المسجد النبوي الشريف هو أول مسجد بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد وصوله إياها مهاجرًا وله فضائل كثيرة يشترك فيها معه المسجد الحرام والمسجد الأقصى وأخرى خاصة به، ولكنّ الناس ابتدعوا أمورًا يفعلونها في المسجد النبوي تقربًا إلى الله تعالى في ظنهم وتأدبًا مع الرسول صلى الله عليه وسلم كما يزعمون بناء على أدلة واهية لا تثبت بمثلها الأحكام أو على استحسان منهم دون الرجوع إلى أدلة الشرع من الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
وكثير من هذه المبتدعات من وضع أعداء الإسلام الذين يقصدون تشويه الحق، وصرف المسلمين عن التدين الصادق الذي يجعل التوجه كله لله عبودية واستقامة. وبذلك يتوصلون إلى صرف الناس إلى الانغماس في اللهو والبدع بلا فائدة.
وبجانب فعلهم هذه المنكرات في المسجد النبوي الشريف فإن المبتدعين يرمون من ينهاهم عن هذه الأفعال بأنه لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لقيامه بواجبه الذي كلف به من قبل الله سبحانه وتعالى وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح الذي هو لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم.
وهذا ما سوف نبينه في هذا الفصل الذي يتكون من مبحثين:
المبحث الأول: فضائل المسجد النبوي.
المبحث الثاني: ما يفعله الجهّال من البدع في مسجده صلى الله عليه وسلم.
وذلك فيما يلي:
المبحث الأول
فضائل المسجد النبوي
للمسجد النبوي الشريف على صاحبه أفضل الصلاة والسلام فضائل كثيرة منها ما يشترك فيها مع المسجد الحرام بمكة والمسجد الأقصى، ومنها ما هو خاص به.
أمّا الفضائل المشتركة: فمنها مشروعية شد الرحال إليه لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى"[88].
وهذه فضيلة مشتركة بين المساجد الثلاثة كما يفيد منطوق الحديث ولا تتعدى هذه الفضيلة إلى غير هذه الثلاثة المنصوصة في الحديث كما جزم بذلك العلماء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكره هذا الحديث: " فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة للصلاة فيها والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف من الأعمال الصالحة، وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة ولا يشرع شد الرحال إليه"[89].
ومن تلك الفضائل مضاعفة ثواب الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام"[90].
هذه الفضيلة ثابتة للمسجد النبوي الشريف بنص الحديث، لكنّ استشكل العلماء حول المراد من هذا الاستثناء، هل هو أن الصلاة في المسجد النبوي أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون الألف أم أنّ الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في المسجد النبوي الشريف.
وممن قال بالقول الأول: الإمام مالك وطائفة من العلماء: وأمّا الإمام الشافعي وجماهير العلماء، فقد ذهبوا إلى الثاني.
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى عند شرحه هذا الحديث: "اختلف العلماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيتهما أفضل، ومذهب الشافعي وجماهير العلماء أنّ مكة أفضل من المدينة وأنّ مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة، وعكسه مالك وطائفة.
فعند الشافعي والجمهور معناه إلاّ المسجد الحرام فإنّ الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي، وعند مالك وموافقيه إلا المسجد الحرام فإنّ الصلاة في مسجدي تفضله بدون الألف"[91].
وكلا التأويلين محتمل إذا لم نجد من الخارج ما يرجح أحدهما من الآخر كما أنّ هناك تأويلاً ثالثًا محتملاً وهو أنّ الصلاة فيهما سواء.(4/86)
وقد ذكر ابن حزم الظاهري التأويل الثالث عند ذكره هذا الحديث حيث قال: "تأوّلوا أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بدون الألف، وقلنا نحن: بل هذا الاستثناء أنّ الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد المدينة، ثم قال: فكلا التأويلين محتمل نعم وتأويل ثالث وهو المسجد الحرام فإنّ الصلاة في كليهما سواء ولا يجوز المصير إلى أحد هذه التأويلات دون الآخر إلاّ بنص آخر وبطل أن يكون في هذا الخبر بيان فضل المدينة على مكة"[92].
ممّا سبق يتضح لنا أن التأويلات الثلاثة محتملة ولكن تأويل الجمهور هو الأصح لثبوت ما يرجح ذلك وهو الحديث الذي في مسند الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا"[93].
ومن العلماء من صحّح هذا الحديث ومنهم من حسّنه فمن الأولين ابن حزم الظاهري حيث قال: "حديث ابن الزبير صحيح فارتفع الإشكال"[94].
ومن الفريق الثاني النووي حيث قال: "حديث حسن رواه أحمد بن حنبل في مسنده"[95].
وسواء قلنا أنّ هذا الحديث الذي نحن بصدده صحيح أو حسن فلا يخرج من دائرة الاحتجاج به والغرض الذي من أجله أوردناه وهو ثبوت أفضلية مسجد مكة على مسجد المدينة وكذلك مضاعفة ثواب الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم وهو ما يهمنا في هذا المقام، وإن اشترك في ذلك المسجد الحرام وزاد عليه.
ومن تلك الفضائل كونه حرمًا مثل المسجد الحرام لدخوله في حدود حرم المدينة المنورة التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنّ إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها[96] ولا يصاد صيدها[97].
وبقوله صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور... "[98].
هذان الحديثان يحددان لنا حدود حرم المدينة المنورة بحيث أنّ الحديث الأول يحدد الحرم من ناحية العرض وأنه يقع ما بين لابتي المدينة وهما الحرتان الوبرة والواقم أولاهما تقع في غرب المدينة وثانيهما تقع في شرق المدينة.
يقول الدكتور/محمد حسن هيكل: "تحد هذه الحرة وهي الواقم المدينة من الشرق وتحدها حرة الوبرة بن الغرب"[99].
وأما الحديث الثاني فيحد لنا حرم المدينة المنورة من جهة الطول بحيث يقع الحرم ما بين عير إلى ثور وهما أي عير وثور جبلان يقع أولاهما جنوب المدينة وثانيهما يقع في شمال المدينة.
يقول عبد القدوس الأنصاري: "عير وثور اسما جبلين من جبال المدينة أولهما عظيم شامخ يقع بجنوبي المدينة على مسافة ساعتين عنها تقريبًا بسير الأقدام غير المستعجل، وثانيهما أحمر صغير يقع شمال أحد، ويحدان حرم المدينة جنوبًا وشمالا"[100].
وعلى هذا فيدخل جبل أحد في حدود حرم المدينة المنورة.
يقول صاحب[101] حسن التوسل في آداب زيارة أفضل الرسل عند تحديده حرم المدينة: "وحرمها من عير بفتح العين المهملة إلى ثور طولا، وثور جبل صغير خلف أحد وعرضا ما بين لابتيها، واللابتان الحرتان السود"[102].
وخلاصة القول أن حرم المدينة المنورة تحده من الشرق الواقم ومن الغرب الوبرة ومن الجنوب جبل يسمى عيرًا ومن الشمال جبل يسمى ثور وهو غير ثور الذي بمكة على الأصح خلافًا لمن نفى ذلك عن المدينة كأبي عبيد القاسم بن سلام ومن تبعه في ذلك كالزمخشري حيث قال: "هما جبلان بالمدينة وقيل لا يعرف بالمدينة جبل يسمى ثورًا وإنما ثور بمكة ولعل الحديث ما بين عير إلى أحد"[103].
وهذا وهم منهم كما جزم غير واحد من العلماء.
يقول الفيروزآبادي: "ثور جبل بالمدينة ومنه الحديث الصحيح:
"المدينة حرم ما بين عير إلى ثور" [104]، وأمّا قول أبي عبيد القاسم بن سلام وغيره من أكابر الأعلام أنّ هذا تصحيف والصواب إلى أحد لأنّ ثورًا إنما هو بمكة فغير جيّد"[105].
هذا ما يتعلق بالفضائل المشتركة بين المسجد النبوي الشريف وبين المسجد الحرام أو المسجد الأقصى. وأمّا الفضيلة الهامة التي يختص بها المسجد النبوي فهي الروضة التي بين بيته ومنبره صلى الله عليه وسلم حيث وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها روضة من رياض الجنة في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن عبد الله بن زيد المازني أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"[106].
وفي رواية: "ما بين قبري ومنبري"[107].(4/87)
والرواية الثانية: لا تصح وإنما هي رواية بالمعنى كما جزم ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكره هذا الحديث حيث قال: "هذا هو الثابت الصحيح ولكنّ بعضهم رووه بالمعنى فقال: "قبري" وهو صلى الله عليه وسلم حين قال هذا القول لم يكن قد قبر صلى الله عليه وسلم. ولهذا لم يحتج بهذا أحد من الصحابة حينما تنازعوا في موضع دفنه، ولو كان هذا عندهم لكان نصًا في محل النزاع ولكن دفن في حجرة عائشة في الموضع الذي مات فيه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه"[108].
وعلى هذا لا نحتاج إلى تكلف في الجمع بين الروايتين كما فعل الطحاوي في مشكل الآثار بل وعده من علامات النبوة قائلاً: "في هذا الحديث معنى يجب أن يوقف عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة"[109].
على أكثر ما في هذه الآثار وعلى ما في سواه منها: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" [110] فكان تصحيحها يجب به أن يكون بيته هو قبره وكون ذلك علامة من علامات النبوة جليلة المقدار لأنّ الله عز وجل قد أخفى على كل نفس سواه الأرض التي يموت بها لقوله عز وجل: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] فأعلمه الموضع الذي يموت فيه والموضع الذي فيه قبره حتى علم بذلك في حياته وحتى أعلمه من أعلمه من أمته فهذه منزلة لا منزلة فوقها زادها الله شرفًا وخيرًا"[111].
وخلاصة القول: أن هذه الفضيلة ثابتة لا يشترك فيها غيره من المساجد ولكنّ العلماء اختلفوا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "روضة من رياض الجنة"[112].
هل هذه البقعة بعينها من الجنة أم أن العمل فيها يؤدي إلى دخول الجنة؟.
يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى: "قوله: "روضة من رياض الجنة" [113] يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه موجب لذلك وأنَّ الدعاء والصلاة فيه يستحق ذلك من الثواب.
الثاني: أنّ تلك البقعة قد ينقلها الله فتكون في الجنة بعينها"[114].
والمعنى الأول هو الأولى وهو المعنى الذي أيده ابن حزم وذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني. يقول ابن حزم رحمه الله: "وهذا الحديث ليس على ما يظنه أهل الجهل من أنّ تلك الروضة قطعة منقطعة من الجنة، هذا كذب وباطل لأنّ الله يقول في الجنة: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118119]. فهذه صفة الجنة بلا شك، وليست هذه صفة الروضة، ورسول الله لا يقول إلا الحق، فصح أن تكون تلك الروضة من الجنة إنما هو لفضلها وأن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة"[115].
ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "إنه كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذكر، لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم فيكون تشبيهًا بغير أداة، أو المعنى أن العبادة فيه تؤدي إلى الجنة فيكون مجازًا"[116].
المبحث الثاني
ما يفعله الجهال من البدع في مسجده صلى الله عليه وسلم
كثير من الناس يفعلون أمورًا منكرة لا أساس لها من الدين عند زيارتهم المسجد النبوي الشريف وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ويحتجون على أعمالهم تلك بالاستحسان العقلي أو بأدلة واهية باطلة.
وفي هذا المبحث سنذكر بمشيئة الله تعالى أهم تلك البدع التي تقع في مسجده صلى الله عليه وسلم مبينين بدعيتها تذكيرًا لهؤلاء الجهال ومن في حكمهم حتى لا يقعوا فيها بعد البيان ولإقامة الحجة عليهم أمام الله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42].
من تلك البدع التزام الزوار الإقامة في المدينة المنورة أسبوعًا أو ثمانية أيام حتى يتمكنوا من الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم أربعين صلاة لكي يكتب لهم البراءة من النار والنجاة من العذاب والبراءة من النفاق محتجين بالحديث الآتي:
قال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن موسى حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن نبيط بن عمرو عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا يفوته صلاة كتبت به براءة من النار ونجاة من النار وبرئ من النفاق"[117].
واستدلالهم بهذا الحديث مأخوذ من ظاهره فهو يفيد أن من صلى أربعين صلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبرأ من النار والنفاق ونجا منهما، وهم بهذا الحديث يتمسكون ببدعتهم هذه، وهذا استدلال صحيح لو كان الحديث مما يحتج به.
وقد تكلم العلماء عن هذا الحديث حيث قال العلماء القدماء في صحته ما يلي: قال المنذري: "رواه أحمد ورواته رواة الصحيح والطبراني في الأوسط وهو عند الترمذي بغير هذا اللفظ"[118].
وقال الهيثمي: "روى الترمذي بعضه، ورواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات"[119].(4/88)
هذه أقوال العلماء القدماء في هذا الحديث ولكن محمد ناصر الدين الألباني قد ضعّف هذا الحديث بسبب وجود راو مجهول في سنده وهو نبيط بن عمرو: قال الألباني: "وهذا سند أي سند هذا الحديث الذي نحن بصدده ضعيف، نبيط هذا لا يعرف إلا في هذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات على قاعدته توثيق المجهولين، وهو عمدة الهيثمي في قوله في المجمع 4/8: رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات وأمّا قول المنذري في الترغيب (2/136) رواه أحمد ورواته رواة الصحيح والطبراني في الأوسط فوهم واضح لأن نبيط هذا ليس من رواة الصحيح ولا روى له أحد من بقية الستة"[120].
وقد تتبعت نبيط هذا في كتاب الجرح والتعديل وكتب التراجم الأخرى فلم أجد من ترجم له إلا ابن حبان في الثقات [121] والحافظ ابن حجر العسقلاني في تعجيل المنفعة [122] الذي اكتفى بقوله: ذكره ابن حبان في الثقات.
وعلى هذا نقول: إن سند هذا الحديث ضعيف لوجود راوٍ مجهول كما بينا وهو نبيط بن عمرو، ومن ثم لا يمكن الاحتجاج به في هذا المقام.
وإذا كان كذلك فيكون التزام الزوار الإقامة في المدينة بثمانية أيام بدعة لغرض الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم أربعين صلاة حتى يبرأوا من النفاق ومن العذاب.
والبدعة تأتي من ناحية تحديد الأيام وعدد الصلوات ومن ناحية الثواب المترتب على ذلك لا من ناحية مجرد الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بل ثبت أن ثواب الصلاة فيه يضاعف كما بينا في المبحث السابق عند حديثنا عن الفضائل الثابتة لمسجده صلى الله عليه وسلم.
ومن تلك البدع الخروج من المسجد النبوي الشريف القهقرى تأدبًا معه وتوقيرًا له وإيمانًا منهم أنّ الخروج العادي يترتب عليه الإدبار عن المسجد وهو سوء أدب عندهم حسب عقولهم بينما هذا سوء أدب لأن هذا الفعل غير مشروع ولأنه يترتب عليه أن يفعلوا هذا الفعل مع شيوخهم وكبرائهم سواء كانوا أحياء أو أمواتًا، ولأن الشرع لا يثبت بالرأي ولا باستحسان المستحسنين.
ولله در الإمام علي رضي الله عنه حيث قال: "لو كان الدين بالرأي لمسح أسفل القدم أولى من ظهرها"[123].
يقول ابن الحاج في هذا المقام: "وليحذر ما يفعله بعضهم من هذه البدعة وهو أنّهم إذا خرجوا من مكة يخرجون من المسجد القهقرى وكذلك يفعلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم حين وداعهم له عليه الصلاة والسلام ويزعمون أن ذلك من باب الأدب. وذلك من البدع المكروهة التي لا أصل لها في الشرع الشريف ولم يفعلها أحد من السلف رضي الله عنهم وهم أشد الناس حرصًا على اتباع سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ثم أدت هذه البدعة التي أحدثوها وعللوها إلى أن صاروا يفعلونها مع مشائخهم ومع كبرائهم وعند المقابر التي يحترمونها ويعظمون أهلها ويزعمون أن ذلك من باب الأدب"[124].
ومن تلك البدع رفع الصوت بالصلاة والسلام في المسجد النبوي الشريف لأن ذلك يؤدي إلى سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع المسجد وإن كان هذا الحكم يتعدى إلى غيره من المساجد إلا أنه يتأكد في هذا المسجد لمكانته عند الله وعند المسلمين.
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمنع أن يرفع الأصوات في المسجد النبوي الشريف بل كان يتوعد على من يفعل ذلك بالعقاب الشديد.
والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن السائب بن يزيد قال: "كنت قائمًا في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما قال: من أنتما أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"[125].
هذا الحديث يدل على أن رفع الصوت ممنوع في مسجده صلى الله عليه وسلم لأنّ ذلك ينافي الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في عموم النهي عن رفع الصوت فوق صوته والجهر له في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].
ومنها أكل التمر الصيحاني في الروضة الشريفة [126] تبركًا بها لزعمهم أنّه صاح بالنبي صلى الله عليه وسلم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما التمر الصيحاني فلا فضيلة فيه بل غيره من التمر البرني والعجوة خير منه والأحاديث إنما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك كما جاء في الصحيح: "من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر"[127].
ولم يجئ عنه في الصيحاني شيء، وقول بعض الناس أنّه صاح بالنبي صلى الله عليه وسلم جهل منه، بل إنما سمي بذلك ليبسه فإنه يقال تصوح التمر إذا يبس"[128].
ومن ذلك وقوف بعضهم أمام القبر بغاية الخشوع واضعًا يمينه على يساره كما يفعل في الصلاة.
ومنها استقبال القبر للدعاء عنده رجاء الإجابة[129].(4/89)
ومنها قصد الصلاة تجاه القبر[130].
ومنها زيارة قبره صلى الله عليه وسلم قبل الصلاة في مسجده.
ومنها تخصيص ليلة سبع وعشرين من رمضان بموعظة التي يلقيها إمام المسجد النبوي للاعتقاد أنها ليلة القدر.
ومنها قراءة دعاء ختم القرآن في آخر ليلة من رمضان جماعة.
ومنها الأذان الأول في يوم الجمعة في المسجد النبوي قبل صعود الإمام على المنبر بزمن يسير جدًا لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه فعل ذلك قبل الأذان الثاني بزمن كاف لاستعداد أهل البلد لحضور الخطبة.
وهذه مجمل البدع التي تفعل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جهل أو استحسان من بعض الناس حسب ما تسول لهم أنفسهم دون الرجوع إلى الكتاب والسنة.
وما ذكرنا من البدع في هذا المبحث يعتبر نموذجًا لما يفعل في المسجد النبوي وليس للحصر لأن المقام لا يتسع لأكثر من ذلك.
ـــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] تقدمت ترجمته في (ص:25).
[2] إشارة إلى قوله تعالى: (بديع السموات والأرض) سورة البقرة، آية (117) وسورة الأنعام، آية (101).
[3] معجم مقاييس اللغة (1/209) مادة (بديع).
[4] هو أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي المتوفي سنة (770هـ) انظر ترجمته في بغية الوعاة (1/389).
[5] مصباح المنير: 1/44 مادة (بدع).
[6] لسان العرب: 8/6 مادة (بدع).
[7] هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي.
[8] هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير بالشاطبي المتوفي سنة (790هـ) انظر ترجمته في الإعلام (4/144).
[9] هو عز الدين بن عبد السلام بن أبي القاسم شيخ الإسلام المتوفي سنة (660هـ) بمصر. انظر ترجمته في الإعلام (4/144).
[10] جامع العلوم والحكم (ص:160).
[11] الاعتصام: (1/37).
[12] الاعتصام: (1/37).
[13] فتح الباري: (3/253).
[14] الاعتصام: (2/790800).
[15] فتح الباري: (13/253).
[16] قواعد الأحكام في مصالح الأنام: (2/204).
[17] انظر المصدر السابق (2/204205).
[18] تهذيب الأسماء واللغات (2/22).
[19] صحيح مسلم كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (2/592).
[20] صحيح مسلم كتاب الأقضية، باب رد الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (3/1342).
[21] أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (4/150)، وقال هذا حديث حسن صحيح.
[22] والحديث كما أخرجه البخاري بسنده عن عبد الرحمن قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسحد فإذا الناس أوزاع متفرقون. يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي صلاته الرجل، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قاريء واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر: نعمت البدعة هذه ". صحيح البخاري (1/342)، كتاب التراويح، باب فضل من قام رمضان.
[23] صحيح مسلم كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/2059).
[24] رواه الإمام أحمد في مسنده (1/379).
[25] صحيح مسلم كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (3/592).
[26] صحيح مسلم كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (3/592).
[27] انظر تهذيب الفروق (4/229).
[28] صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان (1/343).
[29] رواه الترمذي في سنة، في كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (4/150).
[30] مجموع الفتاوي (10/371).
[31] اقتضاء الصراط المستقيم (ص:376).
[32] صحيح مسلم كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة (4/2059).
[33] الصرف بالكسر الخالص من كل شيء. انظر النهاية (3/24).
[34] أخرجه الترمذي في سننه كتاب العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة (4/50ا151) وقال: هذا حديث حسن.
[35] رواه الإمام أحمد في مسنده (1/379).
[36] الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ (ص:128).
[37] الاعتصام (1/141142).
[38] انظر إصلاح المساجد من البدع والعوائد، لجمال الدين القاسمي (ص:16).
[39] صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي (4/1836).
[40] انظر: الاعتصام للشاطبي (1/286287).
[41] صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله له الوسيلة (1/288).
[42] انظر الاعتصام (1/287).
[43] الإبداع في مضار الابتداع: (ص:250251).
[44] صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة، وعاشوراء والاثنين والخميس (2/820).
[45] السيرة النبوية (6/199).
[46] هو الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ين زين الدين بن تبكتكين المتوفى سنة (630هـ). له ترجمة في البداية والنهاية (13/136).
[47] انظر وفيات الأعيان لابن خلكان (1/437).
[48] السيرة النبوية (1/199200).(4/90)
[49] المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (1/490)، مع التصرف.
[50] صبح الأعشي في صناعة الإنشاء (13/498).
[51] تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي (ص:62) وما بعدها.
[52] الحاوي للفتاوي: (1/189).
[53] ذكرى المولد النبوي (ص:أ).
[54] الإبداع في مضار الابتداع (ص:251).
[55] البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها (ص:481).
[56] انظر كتاب ظهور خلافة الفاطميين وسقوطها في مصر الدكتور/عبد المنعم ماجد (ص:487).
[57] هو الشيخ عمر بن محمد الملا له ترجمة في مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي (8/310).
[58] الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص:16).
[59] صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4/1963).
[60] تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي (ص:63).
[61] المعز لدين الله (ص:285) وما بعدها.
[62] هو محمد بن أبي بكر بن عبد الله القيسي الدمشقي شمس الدين الشهير بابن ناصر الدين الدمشقي المتوفى سنة (842هـ) انظر ترجمته في لحظ الألحاظ لتقي الدين محمد بن فهد المكي (ص:317).
[63] هو محمد بن محمد بن علي أبو الخير شمس الدين الدمشقي الشهير بابن الجزري المتوفى سنة (833هـ) انظر ترجمته في مفتاح السعادة لأحمد المصطفى طامش كبري زادة (2/55).
[64] مورد الصادي في مولد الهادي، ورقة (14).
[65] عرف التعريف بالمولد الشريف، ورقة (143).
[66] الحاوي للفتاوي للسيوطي (1/196).
[67] السنن الكبري: (9/300).
[68] الحاوي الفتاوي: (1/196).
[69] صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس (2/820).
[70] هو محمد بن عبد الله بن محمد المبدري المعروف بابن الحاج المتوفي سنة (641هـ) انظر ترجمته في الأعلام للزركلى (7/110).
[71] هو عمر بن أبي اليمن بن سالم اللخمي المالكي الشهير بتاج الدين الفاكهاني المتوفي سنة (734هـ). انظر ترجمته في الديباج المذهب لابن فرحون (2/8082).
[72] اقتضاء الصراط المستقيم: ص (254295).
[73] المدخل (2/10).
[74] الحاوي للفتاوي: (1/190191).
[75] أي بشر حال، والحيبة والحوبة: الهم والحزن، والحيبة أيضًا الحاجة والمسكنة، النياية في غريب الحديث (1/466).
[76] صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب (وأمهاتهم اللاتي أرضعنكم) يحرم من الرضاعة ما حرم من النسب (3/243).
[77] انظر تفسير القرطيى: (13/2122).
[78] إشارة إلى الحديث الذي أخرجه الأمام مسلم عن العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول الله، هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: "نعم في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار". انظر صحيح مسلم كتاب الإيمان، باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب والتخفيف عنه بسببه (1/155).
[79] السنن الكبرى: (5/300).
[80] الضعفاء الصغير: (ص:67).
[81] الضعفاء والمتروكين: (ص:63).
[82] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.
[83] المجروحين: (2/23).
[84] هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني صاحب المصنف.
[85] السنن الكبرى: (9/300).
[86] صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (2/552).
[87] صحيح مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة. محدثات الأمور (3/1343).
[88] صحيح البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/206) واللفظ للبخاري. وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (2/1014).
[89] اقتضاء الصراط المستقيم (430).
[90] صحيح البخاري في أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1/206) واللفظ للبخاري. وصحيح مسلم في كتاب الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (2/1012).
[91] صحيح مسلم بشرح النووي (9/163).
[92] المحلى (7/284).
[93] مسند أحمد (4/5).
[94] المحلى (7/290).
[95] صحيح مسلم بشرح النووي (9/164).
[96] عضاة: كل شجر عظيم له شوك. انظر النهاية في غريب الحديث (3/255).
[97] صحيح مسلم في كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/992).
[98] صحيح مسلم كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/995).
[99] في منزل الوحي (ص:582).
[100] آثار المدينة (209).
[101] تقدمت ترجمته في (ص:204).
[102] حسن التوسل في آداب زيارة أفضل الرسل (ص:223).
[103] الفائق (3/429).
[104] مسلم في كتاب الحج باب فضل المدينة (2/995).
[105] القاموس المحيط مادة ثور (1/398).
[106] صحيح البخاري أبواب التطوع فضل ما بين القبر والمنبر ص (1/207).
[107] صحيح مسلم في كتاب الحج باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة (2/1010).
[108] القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة (ص:74).
[109] مشكل الآثار (4/72).
[110] تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
[111] مشكل الآثار: (4/72).
[112] جزء من الحديث المتفق عليه الذي تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
[113] جزء من الحديث المتفق عليه الذي تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
[114] الشفا (2/683).(4/91)
[115] المحلى: (7/283285) مع التصرف.
[116] فتح الباري: (4/100).
[117] المسند: (3/155).
[118] الترغيب والترهيب: (2/136).
[119] مجمع الزوائد: (44/8).
[120] سلسلة الأحاديث الضعيفة م (1/366).
[121] انظر الثقات: (5/483).
[122] تعجيل المنفعة: (421).
[123] رواه الدارمي في سننه (1/181) بلفظ: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت لرأيت أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما.
[124] المدخل: (4/238).
[125] صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المساجد (1/93).
[126] الباعث على إنكار البدع (ص:70).
[127] صحيح البخاري، كتاب الأطعمة، باب العجوة (3/301). وصحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب فضل تمر المدينة (3/1618)، واللفظ للبخاري.
[128] مجموعة الرسائل الكبرى: (2/413).
[129] المصدر السابق: (2/390).
130] حجة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (ص:140).
10. ... كتاب "التأدب مع الرسول في ضوء الكتاب والسنة" [الجزء السادس والأخير]
الفصل الرابع
البدع الملحقة بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم
قبر النبي صلى الله عليه وسلم ملحق بمسجده الشريف وزيارة القبر سنة مشروعة لمن كان في المدينة وضواحيها كزيارة سائر القبور للاتعاظ والعبرة والدعاء للميت وتذكر ما كان وما سيكون بإذن الله تعالى.
وقد ألحق أهل البدع مخترعات لا أصل لها وهم يزورون قبر النبي صلى الله عليه وسلم ظانين أن ذلك حب له عليه الصلاة والسلام وتعظيم وتوقير مثل التبرك والتمسح بقبره والدعاء عنده معتقدين أن ذلك أولى من الدعاء في المساجد.
ونتحدث في هذا الفصل عن البدع الملحقة بزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف يأتي هذا الفصل مكونًا من المباحث التالية:
المبحث الأول: بيان معنى الزيارة وأنواعها وحدود مشروعيتها.
المبحث الثاني: حكم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول
الزيارة أنواعها وأغراضها
الزيارة في اللغة: القصد وهي مصدر زار.
يقول صاحب مصباح المنير: زار يزور زيارة وزورا قصده.. والمزار يكون مصدرًا وموضع الزيارة، هذا في اللغة، وأمّا الزيارة في العرف: فهي قصد المزور إكرامًا له واستئناسًا به[1].
يقول الخفاجي: والزيارة تختص بمجيء بعض الأحياء لبعض مودة ومحبة، هذا أصل معناها لغة واستعمالها في القبر للأموات لإعطائهم حكم الأحياء وصار حقيقة عرفية لشيوعها فيها[2].
وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:12].
ومعناها أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال من التفاخر وعبر عن موتهم بزيارة المقابر لأن الميت قد صار إلى قبره كما يصير الزائر إلى الموضع الذي يزوره [3] ويقول ابن كثير في تفسيره: "والصحيح أنّ المراد بقوله: (زُزتُم المَقَابِرَ) أي صرتم إليها ودفنتم" [4] ثم استشهد عما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده قال له: "لا بأس طهور إن شاء الله" قال: قلت: طهور كلا بل هي حمى تفور وتثور على شيخ كبير تزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فنعم إذًا"[5].
وعلى ذلك فمعنى الزيارة اصطلاحًا هو الانتقال من مكان إلى مكان آخر لغرض ما وغالبًا تضاف إلى القبور فيكون معناها إتيان القبور لغرض السلام على الأموات والدعاء لهم والاتعاظ بهم.
أنواع الزيارة: تتنوع الزيارة إلى نوعين وهما:
النوع الأول: هو زيارة الأحياء للأموات.
النوع الثاني: زيارة الأحياء بعضهم لبعض مودة ومحبة وعبادة.
أما النوع الأول وهو زيارة الأحياء للأموات فتنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1ـ زيارة شرعية .
2ـ زيارة بدعية.
3ـ زيارة شركية.
وبيانها كالآتي:
1ـ الزيارة الشرعية: وهي التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة بها بعد أن نهى عنها كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"[6].
وقد شرعت هذه الزيارة للرجال اتفاقًا لأجل حكم سامية وأغراض نافعة تعود المزور وللزائر معًا كما دلت عليه السنة النبوية إذ أنها بالنسبة للميت تكون بمنزلة الصلاة عليه حيث يقال فيها من جنس ما يقال في الصلاة عليه من الدعاء والترحم والاستغفار وبالنسبة للزائر تكون عظة وعبرة وتذكرة للآخرة.
وسوف أجمل الأغراض التي من أجلها شرعت الزيارة فيما يلي:
أولاً: الاتعاظ والاعتبار بمعنى أن يتذكر الزائر أن مصيره الموت مثل المزور فيتدارك أمره كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "...فزوروا القبور فإنها تذكر الموت..."[7].
وهذا لا فرق بين قبر فيه كافر وبين قبر فيه مسلم؛ لأن الاعتبار والاتعاظ يحصل بالميت المقبور سواء كان كافرًا أم مسلمًا بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ".... واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي". أي قبر أمه صلى الله عليه وسلم بينما لم يؤذن له أن يستغفر لها لأنها ماتت على الشرك في أيام الجاهلية.(4/92)
والاستغفار لأهل الشرك ممنوع بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].
ثانيًا: الدعاء للأموات والسلام عليهم عسى الله أن يقبل لهم ذلك فينتفعوا به، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارته مقابر البقيع حيث كان يقول: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين... اللهم اغفر لأهل البقيع الغرقد[8])[9].
وهذا الغرض خاص بمقابر المسلمين عابدهم وعاصيهم لأن كلاً منهم ينتفع بذلك الدعاء والسلام.
2ـ الزيارة البدعية: وهي التي لا يقتصر فاعلها على أداء ما هو مشروع بل يضيف إليها أمورًا منكرة في الشريعة الإسلامية دون أن يترتب عليها أمور شركية.
ونذكر هنا أهمها أو أكثرها شيوعًا في هذا العصر.
من تلك الزيارة البدعية التبرك والتمسح بالقبر سواء كان المقبور نبيًا أو وليًا أو غير ذلك لعدم ورود ما يدل على ذلك من الشارع.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا المقام: (وقد اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل بمقام إبراهيم الذي ذكره الله تعالى في القرآن وقال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]. فإذا كان هذا بالسنة المتواترة وباتفاق الأئمة لا يشرع تقبيله بالفم ولا مسحه باليد فغيره من مقامات الأنبياء وغيرهم أولى أن لا يشرع تقبيلها بالفم ولا مسحها باليد[10].
ومن الزيارة البدعية: السفر إلى القبور لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى"[11].
وزيارة القبور ليست من الأماكن التي شرع السفر إليها قربة لخروجها من منطوق الحديث الذي نحن بصدده.
ومنها الدعاء عند القبر أو القبور رجاء الإجابة لعدم ورود ما يدل على ذلك كما ذكر الشيخ محمد بشير السهسواني: "إن ظن أحد أن الدعاء عند القبر مستجاب وأنه أفضل من الدعاء في المسجد فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه. فهو من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعًا بين أئمة الدين وإن كان كثيرًا من المتأخرين يفعل ذلك ويقول بعضهم قبر فلان ترياق مجرب"[12].
ومنها القراءة عند القبور سواء كان المقروء قرآنًا أو غيره لعدم ورود ما يدل على ذلك. ويؤيد هذا ما أورده نعمان بن المفسر الألوسي في كتابه الآيات البينات في عدم سماع الأموات حيث ذكر أن القراءة على القبر ذات خلاف، وقال الإمام يعني أبا حنيفة: تكره لأن أهلها جيفة ولم يصح فيها شيء عنده[13].
ويقول الألباني في تعليقه على هذا القول: "وهذا التعليل الثاني هو المعتمد"[14].
وأما ما ورد في هذا المقام من الأحاديث مثل حديث: "من دخل المقابر فقرأ سورة "يس" خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد ما فيها حسنات" فموضوع وكذلك حديث: "من مر بالمقابر فقرأ: (قل هو الله أحد) أحد عشر مرة"[15].
وهذه الأمور التي ذكرناها هنا تعتبر ذريعة إلى الشرك أو تفضي إليه في المآل كما هو مشاهد في وقتنا الحاضر. ويؤيد هذا بما أورده محمد بشير السهسواني في كتابه صيانة الإنسان حيث أن الشيطان له تلطف في الدعوة فيدعوه أولاً إلى الدعاء عنده فيدعو العبد عنده بحرقة وانكسار وذلة فيجيب الله دعوته لما قام بقلبه لا لأجل القبر فيظن الجاهل أن للقبر تأثيرًا، فإذا وقع ما يريده الشيطان من الإنسان من استحسان الدعاء عند القبور وأنه أرجح من دعائه في بيته ومسجده نقله درجة أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به وهذا أعظم من الذي قبله[16].
3ـ الزيارة الشركية: وهي التي يترتب عنها الإشراك بالله وهي كثيرة ولها صور مختلفة ومن أهمها:
الذبح للمقبور لدخول ذلك في معنى ما أهل لغير الله تعالى.
يقول الشوكاني رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة:173] ما ذكر عليه اسم غير الله كاللات والعزى إذا كان الذابح وثنيًا والنار إذا كان الذابح مجوسيًا... لا خلاف في تحريم هذا وأمثاله، ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهل لغير الله ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن"[17].
ومن السنة ما يؤيد هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من لعن والديه ولعن الله من ذبح لغير الله......"[18].(4/93)
يقول النووي رحمه الله تعالى عند شرحه هذا الحديث: "وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما أو للكعبة ونحو ذلك فكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلمًا أو نصرانيًا أو يهوديًا كما نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرًا. فإن كان الذابح مسلمًا قبل ذلك صار بالذبح مرتدًا"[19].
ومن الزيارة الشركية دعاء الأموات وسؤال المقبور تفريج الكربات مما لا يقدر عليه الأحياء من البشر فضلاً عن الأموات لأن سؤال المحلوف لا بد أن تجتمع فيه ثلاثة شروط:
1ـ القدرة على التصرف بمعنى أن يكون المدعو قادرًا على التصرف فيعطي ويمنع. فالعاجز عن التصرف لا ينفع نفسه فضلاً عن أن ينفع غيره.
2ـ السمع أي بأن يكون المدعو سامعًا للنداء ومدركًا للخطاب.
3ـ الملك أي بأن يكون المدعو مالكًا لما يطلبه السائل إذ أن فاقد الشيء لا يعطيه. وشرط واحد من تلك الشروط لا ينطبق على الأموات كما ترى.
يقول الألوسي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس:22]. فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر، دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس ومنهم من يتضرع إلى شيخ من مشائخ الأمة ولا ترى أحدًا منهم يخص مولاه بتضرعه ودعاه، ولا يكاد يمر له ببال، أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال فبالله عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلاً، وأي الداعيين أقوم فيه وإلى الله المشتكى من زمن عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الضلالة وخرقت سفينة الشريعة واتخذت الاستعانة بغير الله للنجاة ذريعة وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف"[20].
ولذلك أقول: إن مشركي هذا الزمان يفوقون مشركي العرب زمن البعثة بأمرين:
1ـ أن مشركي العرب في زمن البعثة كانوا يخلصون الدعاء لله سبحانه وتعالى في وقت الشدة وإنما يشركون في زمن الرخاء كما دلت عليه الآية السابقة بينما مشركو هذا الزمان يدعون غير الله في وقت الشدة وفي وقت الرخاء كما هو معلوم.
2ـ إن مشركي العرب في زمن البعثة كانوا يدعون الملائكة والصالحين والحجر الذي لا ذنب له وأما مشركي هذا الزمان فهم يدعون أناسًا ماتوا ولم يكونوا صالحين بل فيهم من يجهر بالفسق ومن لا يصلي أبدًا.
ومما يدخل في هذا المعنى أي دعاء الأموات الاستغاثة والاستعانة بهم كما يدل عليه قول الألوسي السابق لأن الاستغاثة فيها طلب وسؤال المقبور وكذلك الاستعانة.
وعلى هذا فعلى المسلم أن يقتصر في مجال الزيارة على ما هو مشروع فقط دون الإضافات البدعية والشركية التي لم يأذن بها الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما النوع الثاني: وهو زيارة الأحياء بعضهم البعض مودة ومحبة وعيادة فمشروعة أيضًا إذا لم تصحبها أغراض فاسدة لورود أحاديث ثابتة تدل على ذلك: من ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أنس قال: "قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها"[21].
ومنها ما أخرجه الإمام مسلم أيضًا في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى فأرصده الله له على مدرجته ملكًا فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ [22] قال: لا غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك لما أحببته فيه"[23].
ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أنّ غلامًا ليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعيده، فقال: "أسلم تسلم"[24].
يتبين لنا من هذه الأحاديث أن زيارة الأحياء بعضهم لبعض مشروعة أيضًا وأن الغرض منها أمران: الأول: محبة الزائر للمزور ومودته كما يدل عليه حديث أبي هريرة الآنف الذكر.
وهذا الغرض يخص المسلمين لأنهم وحدهم هم الذين يحبون في الله عز وجل، وأما غيرهم فيحبون لأغراض دنيوية بحتة، وأما في الآخرة فبينهم عداوة كما يدل عليه قوله تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].(4/94)
الثاني: عيادة المريض سواء كان مسلمًا أو كافرًا كما يدل عليه حديث أنس السابق.
وهذا الغرض يعم المسلم والكافر كما يدل عليه منطوق ذلك الحديث.
هذه هي الأغراض المشروعة لزيارة الأحياء بعضهم لبعض التي لا يجوز غيرها مثل الطلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والاستعانة بهم وغيرها من الأمور الأخرى التي ذكرناها سابقًا عند كلامنا عن زيارة القبور وأغراضها إلا ما كان في مقدور البشر عقلاً وشرعًا لأن الأحياء لهم نوع من السمع ونوع من الملك ونوع من القدرة.
وبهذا تنطبق عليهم الشروط الثلاثة التي تبيح سؤال المخلوق بشرط أن يكون ذلك في حدود الشرع وفي مقدور البشر لا أن يسند إليهم أو يسألهم ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى مثل جلب المنفعة وسد المضرة بدون أخذ الأسباب فيترتب عليه الشرك والعياذ بالله.
المبحث الثاني
حكم السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
ذكرنا في المبحث السابق أن زيارة القبور مشروعة عمومًا إذا لم تصحبها أمور مشروعة سواء كانت الزيارة إلى قبر نبي أو أتباعه وغيرهم كالكفار، وأمّا في هذا المبحث فسوف نتكلم فيه عن حكم السفر إلى المزارات وخاصة السفر لزيارة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى بمعنى إذا منعنا من السفر لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى نمنع من السفر إلى زيارة قبر من دونه مهما كانت رتبته.
وقد اختلف العلماء في حكم السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من يقول بجواز ذلك بل يجعلونه من الأمور المستحبة، ومنهم من يقول بعدم جوازه ويعدونه من الأمور المحرمة. ولكل من الفريقين أدلتهم: أولاً: القائلون بالجواز: هذا الفريق استدل بأدلة من الكتاب والسنة: أما أدلة الكتاب فقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64].
ووجه الاستدلال بهذه الآية كما يقول السبكي: "دلت الآية على الحث على المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم وذلك وإن ورد في حال الحياة فهي رتبة له صلى الله عليه وسلم لا تنقطع بموته تعظيمًا له"[25].
ويقول أيضًا: "والمجيء صادق على المجيء من قرب ومن بعد بسفر وغير سفر ولا يقال (إن جاءوك) مطلق والمطلق لا دلالة له على كل فرد وإن كان صالحًا لها لأنّا نقول هو في سياق الشرط فيعم، فمن حصل منه الوصف المذكور وجد الله توابًا رحيمًا"[26].
وأما من السنة فقد ذكروا أدلة كثيرة نذكر منها ما هو نص في هذا الموضوع: أولاً: ما أخرجه الدارقطني بسنده قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أنبأنا أبو الربيع بن أبي داود عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي"[27].
ثانيًا: ما أخرجه ابن عدي في الكامل قال: حدثنا علي بن إسحاق حدثنا محمد بن النعمان بن شبل حدثني مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني"[28].
هذان الحديثان اللذان أوردناهما في هذا المقام هما نصان في الموضوع الذي نحن بصدده ولم أجد غيرهما من الأحاديث ما يكون نصًا في الموضوع وإنما هناك أحاديث أخرى تدل على مطلق زيارة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا نتكلم في هذا المكان إلا على ما يكون نصًا في الموضوع.
وهذان الحديثان يحتاجان إلى النظر فيهما من ناحية السند صحة وضعفًا لكي تتبين حجيتهما فيما استدل له بهما ولكن قبل أن نتطرق إلى ذلك نذكر أدلة القائلين بالمنع ثم نناقش أدلة الفريقين معًا.
ثانيًا: أدلة القائلين بالمنع: هذا الفريق استدل بالأدلة التالية:
(أ) ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد. المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى"[29].
(ب) ما أخرجه الإمام مالك بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال: لقيت بصرة [30] بن أبي بصرة الغفاري فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور. فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعمل المطي إلاّ إلى ثلاثة مساجد: إلى المسجد الحرام وإلى مسجدي هذا وإلى مسجد إيليا أو بيت المقدس يشك"[31].(4/95)
ووجه الاستدلال بهذين الحديثين من وجهة نظر هذا الفريق هو أن الشارع قد نهى عن السفر إلى أي مكان للعبادة غير المساجد الثلاثة المستثناة في أسلوب حصر بمعنى أن السفر إلى أي مكان للعبادة محصور في المساجد الثلاثة. وعلى هذا فالسفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدخل في النهي العام لعدم ورود ما يخرجه عن ذلك ولأنّ الصحابة قد فهموا ذلك كما يدل عليه قول أبي بصرة الغفاري في الحديث الثاني ومن ثم يعدون ذلك أنّه من البدع المحرمة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المقام: "إذا كانت المساجد التي هي من بيوت الله التي أمر فيها بالصلوات الخمس قد نهى عن السفر إليها حتى مسجد قباء الذي يستحب لمن كان بالمدينة أن يذهب إليه لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنّه كان يأتي قباء كل سبت راكبًا وماشيًا" [32] إلى أن قال مؤكدًا ذلك: وروى الترمذي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال من تطهر في بيته فأحسن الطهور ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلاّ الصلاة فيه كان له كعمرة" [33]، وكذلك ينهى عن السفر إلى الطور المذكور في القرآن فمن باب أولى أن ينهى عن السفر إلى غيرها من الأمكنة"[34].
ويقول شيخ الإسلام أيضًا في مكان آخر: "قال بعض العلماء: قوله: "من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء.." تنبيه على أنه لا يشرع قصده بشد الرحال بل إنما يأتيه الرجل في بيته الذي يصلح أن يتطهر فيه ثم يأتيه فيقصده كما يقصد الرجل مسجد مصره دون المساجد التي يسافر إليها، وأمّا المساجد الثلاثة فقد اتفق العلماء على استحباب إتيانها للصلاة ونحوها"[35].
ويقول محيي الدين البركوي: "السفر إلى زيارة قبور الأنبياء بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول ربّ العالمين، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك قربة. وطاعة فقد خالف السنة والإجماع ولو سافر إليها بذلك الاعتقاد يحرم بإجماع المسلمين فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة، ومعلوم أن أحدًا لا يسافر إليها إلاّ لذلك"[36].
ويقول ناصر الدين الألباني في هذا المقام: "المستثنى منه في هذا الحديث ليس هو المساجد فقط كما يظن كثيرون بل هو كل مكان يقصد للتقرب إلى الله فيه سواء كان مسجدًا أو قبرًا أو غير ذلك بدليل ما رواه أبو هريرة قال في حديث له: فلقيت بصرة [37] بن أبي بصرة الغفاري فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد.. الحديث"[38]. فهدا دليل على أنّ الصحابة فهموا الحديث على عمومه ويؤيده أنه لم ينقل عن أحد منهم أنّه شد الرحل لزيارة قبر ما"[39].
هذه مجمل ما ورد في هذا الشأن من قبل الفريقين المجوزين السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والمانعين لها، ولكن هذه الأدلة تحتاج إلى مناقشة حتى يتبين الصواب من الخطأ ومن ثم يمكن لنا أن نرجح ما نراه صوابًا أو أقرب إلى روح الشريعة الإسلامية السمحاء التي ختم الله سبحانه وتعالى بها كل الرسالات بواسطة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم دون تعصب إلى فئة من الفريقين.
مناقشة الأدلة: إذا نظرنا إلى الأدلة السابقة التي استدل بها كل فريق من الفريقين نجد أنّ كل فريق يستدل بأدلة تتناقض مع أدلة الفريق الآخر مع أنّ الحق في هذا الموضوع الذي نحن بصدده لا بد أن يكون بجانب فريق واحد لأنّ الحق لا يتعدد ولا يكون لصالح الفريقين المتناقضين في آن واحد لأنّ ذلك من المستحيلات.
نناقش أولاً أدلة القائلين بجواز السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ونبدأ بالآية الكريمة التي استدلوا بها وهي قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64].
قبل أن نصل إلى القول بأن الآية تصلح للاستدلال لما نحن بصدده أو عدم صلاحيتها نذكر أقوال المفسرين سلفًا وخلفًا ومعاصرين في تفسيرها ومن ثم يتبين صلاحيتها لما استدل بها له.
يقول أبو جعفر الطبري رحمه الله: يعني بذلك جل ثناؤه، ولو أنّ هؤلاء المنافقين الذين وصف صفتهم في هاتين الآيتين[40] الذي إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صدوا صدودًا.
إذ ظلموا أنفسهم باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله إذا دعوا إليها... جاءوك تائبين منيبين، فسألوا الله أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم وسأل الله رسوله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، وذلك هو معنى قوله: {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ} [النساء:64] وأمّا قوله: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64] يقول رجعًا لهم مما يكرهون إلى ما يحبون: (رحيمًا) بهم في تركه عقوبتهم على ذنبهم الذي تابوا منه"[41].(4/96)
ويقول ابن كثير رحمه الله: "يرشد تعالى العصاة المنيبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ولهذا قال: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64].
ويقول ابن الجوزي رحمه الله: وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [النساء:64] يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما. قال ابن عباس: ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرسول: {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} [النساء:64] من صنيعهم"[42].
ويقول الشوكاني رحمه الله: "{ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [النساء:64] بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك {جَاءُوكَ} [النساء:64] متوسلين إليك منتصلين عن جناياتهم ومخالفتهم (فاستغفروا الله) لذنوبهم وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعًا فاستغفرت لهم"[43].
ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله: "... والذين يتناولهم هذا النص ابتداء كان لديهم فرصة استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد انقضت فرصتها، وبقي باب الله مفتوحًا لا يغلق، ووعده قائم لا ينقضي، فمن أراد فليقدم، ومن عزم فليتقدم"[44].
من هذه الأقوال التي ذكرناها في هذا المقام يتبين لنا أن المفسرين سلفًا وخلفًا، ومعاصرين فهموا أنّ الآية وردت في قوم معينين في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تتعدى إلى ما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأنّ حياته البرزخية مخالفة تمامًا لحياته في الدنيا ولا يأخذان حكمًا واحدًا[45].
يقول ناصر الدين الألباني: "... فحياة الأنبياء بعد الموت حياة برزخية، ولنبينا صلى الله عليه وسلم فيها من الخصائص ما ليس لغيره... ولكن لا يجوز التوسع في ذلك بالأقيسة والأهواء"[46].
وعلى هذا لا يمكن الاستدلال بها لما نحن بصدده، وكذلك لا يقال أنّ المجيء إلى قبر الرجل مثل المجيء إلى الرجل لا لغة ولا شرعًا ولا عرفًا.
يقول محمد بن بشير السهسواني في كتابه صيانة الإنسان: "والمجيء إلى قبر الرجل ليس من أفراد المجيء إلى الرجل لا لغة ولا شرعًا ولا عرفًا، فإن المجيء إلى الرجل ليس معناه إلا المجيء إلى عين الرجل، ولا يفهم منه أصلاً أمر زائد على هذا "[47].
وأما توبة الله ورحمته المذكورتان في الآية التي نحن بصددها فلا يمكن أن ينالهما أحد بعد موته صلى الله عليه وسلم، لأنّ محلهما وقت حياته صلى الله عليه وسلم كما يظهر من أقوال المفسرين السابقة الذكر.
يقول صاحب كتاب صيانة الإنسان: "فإن الأمور الموجبة لتوبة الله ورحمته هي المذكورة في الآية وإنما هي المجيء إليه صلى الله عليه وسلم في الحياة بعد الظلم واستغفارهم عنده في الحياة بعد الظلم، واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم في الحياة بعد الظلم، وفي زيارة القبر لا يوجد واحد من هذا"[48].
وخلاصة القول أن هذه الآية لا يمكن أن يستدل بها للموضوع الذي نحن بصدده للأمور التي بيناها سابقًا لأنّ حكمها منحصر في حال حياته صلى الله عليه وسلم ولا يتعدى إلى ما بعد وفاته.
وإذا بطل استدلالهم بالآية الكريمة فلننظر إلى ما يستدلون به من السنة لنرى مدى صلاحيتها للاستدلال الذي ذهبوا إليه.
الحديث الأول: قال الدارقطني: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ثنا أبو الربيع ابن أبي داود عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج فزار قبري بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي"[49].
ففي إسناد هذا الحديث راويان ضعيفان وهما حفص بن أبي داود ويقال حفص بن سليمان أبو عمر الأسدي الكوفي البزار القاري فقد جرحه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل، ونذكر هنا طرفًا من أقوالهم تجاه هذا الشخص الذي نحن بصدده. قال البخاري رحمه الله: "تركوه"[50].
وقال أيضًا: "سكتوا عنه"[51].
وقال ابن حبان: "كان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، وكان يأخذ كتب الناس فينسخها ويرويها من غير سماع"[52].
وقال أبو حاتم الرازي: "لا يكتب حديثه وهو ضعيف الحديث"[53].
وقال الذهبي: "ثبت في القراءة والحروف، واه في الحديث"[54].
وأما الشخص الثاني وهو ليث بن أبي سليم فقد ضعفه غير واحد من أئمة هذا الشأن.
ونذكر هنا طرفًا من أقوالهم تجاهه: قال الإمام أحمد بن حنبل: " ليث بن أبي سليم مضطرب الحديث"[55].
وقال النسائي: " ليث بن أبي سليم ضعيف "[56].
وقال ابن حبان: "اختلط في آخر عمره حتى كان لا يدري ما يحدث به فكان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ويأتي عن الثقات بما ليس في أحاديثهم، كل ذلك كان منه في اختلاطه"[57].
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "صدوق اختلط أخيرًا ولم يتميز حديثه فترك"[58].
من هذه الأقوال يتبين لنا أن هذا الحديث ضعيف وآفته وجود شخصين ضعيفين في إسناده ومن ثم لا يمكن أن يحتج به في هذا المقام لخروجه من دائرة الاحتجاج.(4/97)
الحديث الثاني: قال ابن عدي: حدثنا علي بن إسحاق ثنا محمد بن النعمان بن شبل حدثني جدي عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني"[59].
ففي إسناد هذا الحديث شخصان ضعيفان وهما النعمان بن شبل وحفيده محمد بن محمد بن النعمان بن شبل.
وأما الأول وهو النعمان بن شبل فقد جرحه غير واحد من أئمة هذا الشأن.
ونذكر هنا طرفًا من أقوالهم تجاه هذا الشخص: قال ابن حبان: " يأتي عن الثقات بالطامات وعن الأثبات بالمقلوب "[60].
وقال ابن عدي: "لم أر في حديثه حديثًا قد جاوز الحد "[61].
وقال أيضًا: " ثنا صالح بن أحمد بن أبي مقاتل ثنا عمران بن موسى ثنا النعمان بن شبل وكان ثقة "[62].
وقال أيضًا: "سمعت إبراهيم بن محمد بن عيسى يقول: سمعت موسى بن هارون الحمال يقول: النعمان بن شبل البصري كان متهمًا "[63].
وقال الذهبي في ترجمة محمد بن محمد بن النعمان بن شبل: "وأنا رأيت له عن جده النعمان بن شبل عن مالك، فما أعتقده لقي مالكًا "[64].
وأما الشخص الثاني وهو محمد بن محمد بن النعمان بن شبل فقد جرحه غير واحد من النقاد.
ونذكر هنا طرفًا من أقوالهم تجاهه: قال الذهبي: "روى عنه أبو روق الهزاني، قد طعن فيه الدارقطني واتهمه"[65].
وقال أيضًا: "شيخ أبي روق، طعن فيه الدارقطني واتهمه، وأنا فقد رأيت له عن جده عن مالك، فما أعتقد لقي مالكًا"[66].
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "روى عنه أبو روق الهزاني وقد طعن فيه الدارقطني"[67].
وقال أيضًا: "متروك" [68] من هذه الأقوال التي أوردناها في هذا المقام يتبين لنا أن هذا الحديث ضعيف لوجود شخصين ضعيفين ومن ثم لا يمكن أن يستدل به لما نحن بصدده لخروجه من دائرة الاحتجاج. إضافة إلى ذلك أن ابن الجوزي قد أورد هذا الحديث في الموضوعات[69].
وخلاصة القول أنّ هذا الفريق ليس لهم أدلة صحيحة تدل على ما ذهبوا إليه من تجويز السفر إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا من الكتاب ولا من السنة كما يظهر من مناقشة أدلتهم بل لم يرد حديث صحيح في زيارة قبره لا من قريب ولا من بعيد كما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص ولا روى أحد في ذلك شيئًا لا أهل الصحيح ولا السنن ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره. وأجلّ حديث روي في ذلك ما رواه الدارقطني وهو ضعيف باتفاق أهل العلم بل الأحاديث المروية في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم مكذوبة وموضوعة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور مطلقاَ بعد أن كان قد نهى عنها"[70].
ولهذا نرجّح ما ذهب إليه الفريق الآخر من منع شد الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لعدم مشروعيتها لا في الكتاب ولا في السنة بل أنها داخلة في عموم النهي عن شد الرحال إلى أي مكان للعبادة إلاّ المساجد الثلاثة مع أنّه لم يثبت ما يخصص ذلك العموم.
ولا يفهم من هذا أنّ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم غير مشروعة كما يقول المرجفون وإنّما هي مشروعة لمن كان في المدينة وضواحيها وإن لم يرد بها نص صحيح بها خاصة لدخولها دخولاً أوليًا في ترخيصه صلى الله عليه وسلم زيارة القبور مطلقًا بشرط أن لا يترتب عنها شد الرحال، وأما إن ترتب عنها شد الرحال فالأدلة الثابتة ناطقة بالمنع لأن الفاصل بين الزيارة الشرعية والزيارة البديلة هو شدّ الرحال إذا اقتصر على الفعل المشروع من دعاء للأموات والسلام عليهم والاستغفار لهم.
الخاتمة:
لقد تم بعون الله تعالى وتوفيقه هذا البحث المتواضع مع أنّي أعترف أنّه لا يخلو من نقص بشري الذي هو سمة البشر لأنّ الكمال لله وحده وأنّ العصمة لمن عصمه الله من نبي من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام. وعلى هذا ينطبق على بحثنا هذا ما قيل قديمًا أنّه لا يكتب إنسان كتابًا إلاّ قال في غده لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هنا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على البشر.
ومع أنّ البحث كله يعتبر نتائج فإنّي أسجل أهمّ النتائج التي توصلت إليها أثناء البحث:
1ـ أن الله سبحانه وتعالى اختار نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم لحمل الرسالة الخاتمة ليبلغه للناس كافة بعد إعداده إعدادًا يؤهله لحملها.
2ـ أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد مارس الدعوة سرًا وجهرًا وأدّى الأمانة على أكمل وجه طوال فترة البعثة.
3ـ أنّ الابتلاء سنّة من سنن الله في طريق الدعاة لا ينفك منها أحد من الرسل ومن سلك طريقهم، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد مر بذلك الابتلاء ونجح فيه بفضل الله ومنَّه.(4/98)
4ـ أنّ الله سبحانه وتعالى قد أكمل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد طبقها في واقع الحياة طوال فترة البعثة ومن ثمّ فإنّ الدين الإسلامي غني عن الإضافات والزيادات والتغييرات مهما كان شكلها.
5ـ أنّ الزيادة في الدين يعتبر استدراكًا على الشارع وسوء أدب مع رسوله صلى الله عليه وسلم.
6ـ أنّ مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله عظيمة ومن ثم فقد أوجب الله على المسلمين أن يتأدّبوا معه صلى الله عليه وسلم حيًّا وميّتًا بأنواع من الآداب التي تليق بمكانته من توقير وتعظيم.
7ـ أنّ تأدّب المسلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى الالتزام بضوابط الشريعة في كل ناحية من نواحي الحياة وبالتالي يفوز في الدارين.
8ـ أنّ تأدّب المسلم مع الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي إلى استحضار سيرته والمنهج الذي رسمه طوال ثلاث وعشرين سنة وبالتالي يؤدي إلى القيام بالإسلام قولاً وعملاً، وتطبيقه تطبيقًا شاملاً لكليات الإسلام وجزئياته.
9ـ أنّ التأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل تحته الدين كله، لأنّ التأدّب معه يؤدي بالضرورة إلى التأدّب مع شرعه والالتزام بما جاء به صلى الله عليه وسلم من وحي سواء كان قرآنًا أو سنة.
10ـ أن التأدب معه صلى الله عليه وسلم وسط بين الغلو والتقصير وأنّ العاطفة والمحبة لا يصلحان أن يكونا مصدرًا للتأدب معه دون الرجوع إلى الكتاب والسنة والالتزام بهما في هذا المجال.
11ـ أن كثيرًا من الأمور التي تفعل حبًّا له صلى الله عليه وسلم مصدرها أدلّة واهية أو منامات أو استحسان بعض العلماء أو قياس مع الفارق أو تأويلات باطلة أو أغراض دنيوية بحتة.
12ـ أن ما عليه الأكثرية لا يؤدي بالضرورة إلى أنّه حق، بل إنّ الحق ما ثبت في القرآن أو في السنة أو فيهما معًا وليس للأكثرية وزن ما دامت لا تستند إلى أدلّة صحيحة.
13ـ أن كثيرًا من البدع قد انتشرت وخاصة في مجال التأدّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب سكوت أهل العلم عن إنكارها وبيان حقيقتها حتى انقلب الأمر رأسًا على عقب وأصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين...
قائمة المصادر والمراجع
ثبت المصادر والمراجع غير القرآن الكريم على حروف المعجم.
(أ)
1) آثار المدينة لعبد القدوس الأنصاري الطبعة الثالثة (1393هـ1973م)، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
2) آداب المجتمع في الإسلام لمحمد جمال الدين رفعت الناشر: إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر.
3) الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان.
4) أحكام القرآن للإمام أبي بكر محمد بن عبيد الله المعروف بابن العربي بتحقيق علي محمد البجاوي الطبعة الأولى 1376هـ 1957 م. دار إحياء الكتب العربية.
5) أحكام القرآن للإمام أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
6) إصلاح المساجد من البدع والعوائد لمحمد جمال الدين القاسمي خرج أحاديثه وعلق عليه محمد ناصر الدين الألباني الطبعة الخامسة 1403هـ 1983 م، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان.
7) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي الطبعة الثانية (1400هـ1979م).
8) الاعتصام للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد الشاطبي دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع 1403هـ 1982م. بيروت، لبنان.
9) الأعلام لخير الدين بن محمود الزركلي الطبعة الثالثة.
10) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية. بتحقيق محمد حامد الفقي الطبعة الثانية 1369هـ 1950م مطبعة السنة المحمدية.
11) الآيات البينات في عدم سماع الأموات عند الحنفية السادات للعلامة نعمان بن محمود الألوسي بتحقيق وتعليق: محمد ناصر الدين الألباني الطبعة الثالثة 1402 هـ المكتب الإسلامي.
12) الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية بتصحيح وتعليق د. محمد خليل هراس دار الطباعة المحمدية مصر.
13) الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير مع شرح وتعليق أحمد محمد شاكر الطبعة الثالثة مكتبة ومطبعة علي صبيح وأولاده بالقاهرة.
(ب)
14) الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المعروف بأبي شامة دار الأصفهاني وشركاه بجدة.
15) البحر الرائق شرح كنز الدقائق للعلامة زين الدين بن نجيم الحنفي الطبعة الثانية، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع.
16) البداية والنهاية لأبي الفداء إسماعيل بن كثير الطبعة الثانية 1977 م، مكتبة المعارف، بيروت، لبنان.
17) البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها للدكتور عزت علي عيد عطية دار الكتب الحديثة 1391هـ 1971 م القاهرة.(4/99)
18) بشائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز لمحمد بن محمد بن يعقوب الفيروزأبادي الناشر: المجلس الأعلى للشئون الإسلامية لجنة إحياء التراث الإسلامي 1383 هـ القاهرة.
19) بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الطبعة الأولى 1384هـ 1964 م مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه.
20) بهجة المحافل وبغية الأماثل: للإمام عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
(ت)
21) تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي لحسن السندوني مطبعة الاستقامة 1948 م.
22) التاريخ الصغير لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. بتحقيق محمود إبراهيم زايد الطبعة الأولى 1397هـ 1977م دار الوعي بحلب.
23) التاريخ الكبير لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
24) تأملات في سورة الأحزاب للدكتور حسن محمد باجودة مطابع الصفا 1403 هـ مكة المكرمة.
25) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي للحافظ أبي العلى محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، بمراجعة وتصحيح عبد الرحمن محمد عثمان الطبعة الثالثة 1399هـ 1979م دار الفكر للنشر والتوزيع.
26) الترغيب والترهيب لزكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. مكتبة الإرشاد.
27) التسهيل في علوم التنزيل للإمام أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي بتحقيق محمد عبد المنعم اليونسي، وإبراهيم عطوة عوض دار الكتب الحديثة.
28) تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الناشر: دار الكتب العربية بيروت، لبنان.
29) التعريفات للعلامة علي بن محمد الشريف الجرجاني مكتبة لبنان 1969م لبنان.
30) تفسير البحر المحيط لمحمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي. الطبعة الثانية 1403هـ 1983 م دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
31) تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل المطبوع بهامش تفسير الخازن. لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الطبعة الثانية 1375هـ 1955م طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
32) تفسير سورة النور لأبي الأعلى المودودي تعريب محمد عاصم الحداد، دار الفكر.
33) التفسير السياسي للسيرة للدكتور محمد قلعت جي دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع 1399هـ 1979م، بيروت/حلب.
34) تفسير القرآن العظيم المعروف بتفسير ابن كثير لأبي الفداء إسماعيل بن كثير دار المعرفة، بيروت 1403هـ 1983م.
35) تفسير الكبير للإمام الفخر الرازي الطبعة الثانية الناشر: دار الكتب العلمية، طهران.
36) تقريب التهذيب للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني بتحقيق وتعليق عبد الوهاب عبد اللطيف الطبعة الثانية 1395هـ 1975م دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان.
37) تهذيب الأسماء واللغات للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي. المطبعة المنيرة.
38) تهذيب الفروق المطبوع بهامش الفروق للشيخ محمد علي بن الشيخ الحسين دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع.
39) تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري بتحقيق عبد السلام محمد هارون ومراجعة محمد علي النجار دار القومية العربية للطباعة 1383هـ 1964م.
(ث)
40) الثقات للإمام الحافظ محمد بن حبان البستي الطبعة الأولى 1393هـ 1973م طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن الهند.
(ج)
41) جامع بيان العلم وفضله للإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري دار الفكر بيروت لبنان.
42) جامع البيان في أحكام القرآن المعروف بتفسير الطبري. تحقيق محمود محمد شاكر ومراجعة أحمد محمد شاكر مطبعة المعارف بمصر.
43) جامع العلوم والحكم لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي دار الفكر بيروت لبنان.
44) الجامع لأحكام القرآن المعروف بتفسير القرطبي لأبي عبد الله محمد ابن أحمد الأنصاري القرطبي الطبعة الثانية.
45) جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام للإمام ابن قيم الجوزية بتحقيق الشيخ طه يوسف شاهين.
(ح)
46) الهاوي للفتاوي لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. دار الكتب العلمية بيروت 1402هـ 1982م.
47) حجة النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد ناصر الدين الألباني الطبعة السابعة 1405 هـ 1985م المكتب الإسلامي.
48) حسن التوسل في زيارة أفضل الرسل لعبد الله بن أحمد الفاكهي. وهو بهامش كتاب إتحاف الأشراف للشبراوي المطبعة الأدبية 1319هـ القاهرة.
(خ)
49) خصائص التصور الإسلامي للشهيد سيد قطب دار القرآن الكريم 1398هـ 1978م. بيروت دمشق.
(د)
50) دراسة في السيرة للدكتور عماد الدين خليل الطبعة السادسة 1402هـ 1982م طبعة مؤسسة الرسالة دار النفائس بيروت لبنان.
51) الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي الطبعة الأولى 1403هـ 1983م دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان.(4/100)
52) الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها للدكتور أحمد أحمد غلوش. طبعة دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني.
53) دلائل النبوة: للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني. طبعة عالم الكتب.
54) الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب بتحقيق د. محمد الأحمدي أبو النور دار التراث للطباعة والنشر القاهرة.
55) ديوان زهير بن أبي سلمى بتحقيق وشرح كرم البستاني دار صادر للطباعة والنشر، ودار بيروت للطباعة والنشر بيروت 1379هـ 1960م.
56) الذريعة إلى مكارم الشريعة للشيخ أبي القاسم الحسن بن محمد الراغب الأصفهاني الطبعة الأولى 1393هـ 1973م مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة.
57) ذكرى المولد النبوي خلاصة السيرة النبوية وحقيقة الدعوة الإسلامية لمحمد رشيد رضا الطبعة الأولى 1335 هـ مطبعة المنار بمصر.
(ر)
58) رسالة المسترشدين لأبي عبد الله الحارث بن راشد المحاسبي. تحقيق عبد الفتاح أبو غدة الطبعة الثانية 1391هـ 1971 م مكتب المطبوعات الإسلامية بيروت لبنان.
59) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم للعلامة أبي الفضل محمود الألوسي دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.
60) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للحافظ محمد بن حبان البستي. بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، ومحمد عبد الرزاق حمزة، ومحمد حامد الفقي دار الكتب العلمية 1397هـ 1977م بيروت.
61) روضة المحبين ونزهة المشتاقين لشمس الدين ابن قيم الجوزية. مكتبة الجامعة القاهرة.
(ز)
62) زاد المسير في علم التفسير للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الطبعة الأولى 1383هـ 1964م المكتب الإسلامي للطباعة والنشر. بيروت لبنان.
63) زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية بتحقيق شعيب الأرناؤوط وأخيه عبد القادر الطبعة الثانية 1401هـ 1981م مؤسسة الرسالة، بيروت.
64) زيارة القبور الشركية والشرعية للإمام الحجة محيي الدين محمد البركوي مؤسسة النور للطباعة والتجليد الرياض.
(س)
65) سلسلة الأحاديث الضعيفة لمحمد ناصر الدين الألباني الطبعة الرابعة 1398هـ المكتب الإسلامي بيروت دمشق.
66) سنن ابن ماجة للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني. بتحقيق وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء الكتب العربية 1377هـ 1953م.
67) سنن أبي داود للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني بمراجعة وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد الناشر: دار إحياء السنة النبوية.
68) سنن الترمذي للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي. تحقيق وتصحيح عبد الوهاب عبد اللطيف الطبعة الثانية 1403هـ 1983م دار الفكر بيروت.
69) سنن الدارقطني للحافظ علي بن عمر الدارقطني. وبذيله التعليق المغني على الدارقطني لأبي الطيب محمد شمس الحق أبادي شركة الطباعة الفنية المتحدة.
70) سنن الدارمي للإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. دار الفكر 1398هـ 1978م القاهرة.
71) السنن الكبرى للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي. وبذيله الجوهر النقي لعلاء الدين المعروف بابن التركماني.
72) سنن النسائي للإمام الحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي مع شرح السيوطي وحاشية السندي الطبعة الأولى 1348هـ 1930م المطبعة المصرية بالأزهر.
73) سيرة ابن هشام لأبي محمد عبد الملك بن هشام المعافري. بتحقيق طه عبد الرؤوف سعد مطبعة شركة الطباعة الفنية المتحدة القاهرة.
74) سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للدكتور محمد عزت دروزة الطبعة الثانية 1384هـ 1965م مطبعة عيسى الحلبي.
75) السيرة النبوية للإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير بتحقيق مصطفى عبد الواحد الطبعة الثانية 1398هـ 1978م دار الفكر بيروت لبنان.
(ش)
76) شرح أدب الكاتب لأبي منصور موهوب بن أحمد الجواليقي. مكتبة القدس 1350هـ القاهرة.
77) الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض بن موسى بن عياض اليحصبي بتحقيق علي محمد البجاوي دار الكتب العربي بيروت 1404هـ 1984م.
78) شفاء السقام للشيخ علي بن عبد الكافي تقي الدين السبكي. مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن الهند 1371هـ 1952م.
(ص)
79) الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية. بتحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد دار الفكر.
80) صبح الأعشى في صناعة الإنشا لأبي العباس أحمد بن علي القلقشندي مطابع كوستاسوماس وشركاه.
81) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية لإسماعيل بن حماد الجوهري بتحقيق أحمد عبد الغفور عطار الطبعة الثانية 1399هـ 1979م دار العلم للملايين بيروت.
82) صحيح البخاري للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. ومعه حاشية السندي دار المعرفة للنشر والتوزيع بيروت لبنان.
83) صحيح مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري بتصحيح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.(4/101)
84) صحيح مسلم بشرح النووي للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي دار الفكر للنشر والتوزيع 1401هـ 1981م.
85) صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لمحمد ناصر الدين الألباني الطبعة الحادية عشر 1403هـ 1981م المكتب الإسلامي بيروت لبنان.
86) صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان للعلامة محمد بشير السهسواني الطبعة الثانية 1378هـ المطبعة السلفية ومكتبتها مصر.
(ض)
87) الضعفاء الصغير للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. بتحقيق محمود بن إبراهيم زايد الطبعة الأولى 1396 هـ دار الوعي بحلب.
88) الضعفاء والمتروكون للحافظ أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني. بتحقيق ودراسة موفق بن عبد الله بن عبد القادر الطبعة الأولى 1404هـ 1984م مكتبة المعارف الرياض.
89) الضعفاء والمتروكون للإمام الحافظ أبي عبد الرحمن بن أحمد بن شعيب النسائي بتحقيق محمود إبراهيم زايد دار الوعي حلب.
(ط)
90) طبقات المفسرين للحافظ شمس الدين محمد بن علي أحمد الداودي بتحقيق علي محمد عمر الطبعة الأولى 1392هـ 1972م مطبعة الاستقلال الكبرى.
91) ظهور دولة الفاطميين وسقوطهما في مصر للدكتور عبد المنعم ماجد الطبعة الثانية 1976م دار المعارف بمصر.
(ع)
92) عرف التعريف بالمولد الشريف لشمس الدين محمد بن محمد المعروف بابن الجزري مخطوط بمكتبة الحرم الشريف ضمن مجاميع 6/473 سيرة نبوية وصورة منه في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى.
93) العقائد الإسلامية دار الكتب الحديثة 1387هـ 1987م القاهرة.
94) العقيدة والأخلاق وأثرها في حياة الفرد والمجتمع للدكتور محمد بيصار الطبعة الرابعة 1973م دار الكتاب اللبناني بيروت.
95) عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير اختيار وتحقيق أحمد محمد شاكر دار المعارف بمصر 1377هـ 1957م.
96) عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة لأبي الحسن علي بن محمد بن عبد الرحمن بن هذيل الطبعة الثانية 1353هـ 1938م مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
(غ)
97) غرائب القرآن ورغائب الفرقان لنظام الدين الحسن بن محمد بن الحسين النيسابوري بتحقيق إبراهيم عطوة عوض الطبعة الأولى 1381هـ 1962م شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر.
98) غريب الحديث لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي بتعليق الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
(ف)
99) الفائق في غريب الحديث لجار الله محمود بن عمر الزمخشري. بتحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم الطبعة الثانية طبعة عيسى البابي الحلبي.
100) فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني بتحقيق وتصحيح الشيخ عبد العزيز بن باز دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
101) الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد لأحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي الطبعة الأولى طبعة الإخوان المسلمون القاهرة.
102) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني الطبعة الثانية 1383هـ 1964م شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
103) الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري الطبعة الأولى 1393هـ 1973م منشورات دار الآفاق الجديدة بيروت لبنان.
104) فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للإمام إسماعيل بن إسحاق القاضي بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني الطبعة الثالثة 1397هـ 1977م المكتب الإسلامي بيروت.
105) فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي خرج أحاديثه محمد ناصر الدين الألباني. طبع على نفقة أمير قطر.
106) الفوائد لشمس الدين ابن قيم الجوزية الطبعة الثانية 1393هـ 1973م، دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
107) في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب الطبعة الشرعية التاسعة 1400هـ 1980م دار الشروق بيروت.
108) في منزل الوحي لمحمد حسن هيكل الطبعة الخامسة دار المعارف بمصر.
(ق)
109) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية. المطبعة السلفية ومكتبتها 1374هـ القاهرة.
110) القاعدة المراكشية لشيخ الإسلام ابن تيمية بتحقيق د. ناصر بن سعيد الرشيد والأستاذ رضا نعسان معطي الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع الرياض.
111) القاموس المحيط لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي. المؤسسة العربية للطباعة والنشر بيروت لبنان.
112) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للإمام أبي محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي مكتبة الكليات الأزهرية 1388هـ 1968م القاهرة.
113) القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع للحافظ محمد بن عبد الرحمن السخاوي الطبعة الثانية 1383هـ 1963م مطبعة الأنصار بيروت.
(ك)
114) الكامل في ضعفاء الرجال للحافظ أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني الطبعة الأولى 1404 هـ 1984م دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان.(4/102)
115) الكشاف في حقائق التنزيل وعيون الأقاويل لجار الله محمود بن عمر الزمخشري. مع كتاب الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال. للإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري دار الفكر بيروت لبنان.
(ل)
116) لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ الحافظ تقي الدين محمد بن فهد المكي مطبعة التوفيق 1347هـ. دمشق.
117) لسان العرب لابن منظور محمد بن مكرم الأنصاري دار صادر ودار بيروت 1375هـ 1956م.
118) لسان الميزان الحافظ أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الطبعة الثانية 1390هـ 1971م منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.
(م)
119) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن علي الندوي. الطبعة السادسة 1965م 1385هـ دار الكتاب العربي بيروت.
120) المجروحون عن المحدثين والضعفاء والمتروكين للأمام محمد بن حبان البستي. بتحقيق محمود إبراهيم زايد الطبعة الأولى 1396هـ دار الوعى بحلب.
121) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي الطبعة الثانية 1967م دار الكتب العربية بيروت.
122) المجموع شرح المهذب للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي. مطبعة الإمام بالقلعة مصر.
123) مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية مكتبة المعارف الرباط المغرب.
124) مجموعة الرسائل الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية. مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده مصر.
125) المحلى لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري. بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان.
126) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين للإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية بتحقيق محمد حامد الفقي دار الكتاب العربي 1392هـ 1972م بيروت لبنان.
127) المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات لأبي عبد الله محمد ابن محمد العبدري المعروف بابن الحاج مكتبة مصطفى الحلبي 1380هـ مصر.
128) مرآة الزمان في تاريخ الأعيان ليوسف بن عزاوغلي المعروف بسبط ابن الجوزي مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن الهند.
129) المستدرك على الصحيحين الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم النيسابوري. مع ذيله تلخيص المستدرك للذهبي دار الفكر بيروت 1398هـ 1978م.
130) المسند للإمام أحمد بن حنبل وبهامشه منتخب من كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للمتقي الهندي.
131) مسند الإمام أحمد مع شرح الشيخ أحمد محمد شاكر دار المعارف بمصر 1369هـ 1950م.
132) مشكاة المصابيح الشيخ ولي الله محمد بن الخطيب العمري التبريزي بتحقيق محمد ناصر الدين الألباني الطبعة الأولى 1380هـ 1961م منشورات المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
133) مشكل الآثار للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي دار صادر بيروت لبنان.
134) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي لأحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي. بتصحيح مصطفى السقا مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
135) معجم متن اللغة الشيخ أحمد رضا دار مكتبة الحياة 1377هـ 1958م بيروت لبنان.
136) المعز لدين الله الدكتورين/حسن إبراهيم حسن، وطه أحمد شرف الطبعة الثانية 1963م مكتبة النهضة المصرية القاهرة.
137) المغني في الضعفاء الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي بتحقيق وتعليق د. نور الدين عتر الطبعة الأولى 1391هـ 1971م الناشر: دار المعارف بحلب.
138) مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم لأحمد بن مصطفى طاش كبرى زادة الطبعة الثانية 1400هـ 1980م مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدرأباد الدكن الهند.
139) مفردات في غريب القرآن الشيخ أبي القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني بتحقيق محمد سعيد الكيلاني الطبعة الأخيرة 1381هـ 1961م شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.
140) المنهاج في شعب الإيمان لأبي عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي بتحقيق حلمي محمد فودة الطبعة الأولى 1399هـ 1979م دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت.
141) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار لتقي الدين أحمد بن علي المقريزي مؤسسة الحلبي وشركاه للتوزيع والنشر القاهرة.
142) مورد الصادي في مولد الهادي لشمس الدين محمد بن أبي بكر الشهير بابن ناصر الدين الدمشقي مخطوط بمكتبة الحرم الشريف ضمن مجاميع 1/273 وصورة منه في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى.
143) الموسوعة في سماحة الإسلام لمحمد صادق عرجون الناشر: مؤسسة سجل العرب. القاهرة 1392هـ 1972م.
144) الموضوعات للإمام أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي. بتحقيق وتقديم عبد الرحمن محمد عثمان الطبعة الأولى 1386هـ 1966م المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
145) الموطأ للإمام مالك بن أنس بتصحيح وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي دار إحياء الكتب العربية 9370هـ 1951م.(4/103)
146) ميزن الاعتدال للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي بتحقيق علي محمد البجاوي الطبعة الأولى 1382هـ 1963م دار إحياء الكتب العربية.
147) (ن)
148) نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض العلامة أحمد شهاب الدين الخفاجي وبهامشه شرح الشفا لعلي القاري دار الفكر.
149) النهاية في غريب الحديث والأثر للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن الجزري المعروف بابن الأثير بتحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
(و)
150) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأبي العباس أحمد بن محمد ابن أبي بكر بن خلكان بتحقيق د. إحسان عباس دار صادر بيروت لبنان.
ـــــــــــــــ
الهوامش:
[1] مصباح المنير (1/279).
[2] نسيم الرياض في شرح الشفا (3/510511).
[3] انظر تفسير فتح القدير للشوكاني (5/448).
[4] تفسير القرآن العظيم (4/545).
[5] انظر صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب عيادة الأعراب (4/4).
[6] صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (3/673).
[7] صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (2/671) كالذي قبله.
[8] الغرقد: هو ضرب من شجر العضاه وشجر الشوك. والغرقدة واحدة ومنه قيل لمقبرة أهل المدينة بقيع الغرقدة لأنه كان فيه غرقد وقطع. النهاية (3/362).
[9] صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقول عند دخول القبور والدعاء لأهلها (2/669).
[10] اقتضاء الصراط المستقيم: (427).
[11] أخرجه البخاري في صحيحه، في أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة (1/206).
[12] صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان: (204).
[13] انظر الآيات البينات في عدم سماع الأموات: (94).
[14] انظر الآيات البينات في عدم سماع الأموات: (94)، تعليقة رقم (3).
[15] المصدر السابق، (ص:93) تعليقة رقم (3).
[16] انظر صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان (ص:205).
[17] تفسير فتح القدير (1/170).
[18] صحيح مسلم، كتاب الأضاحي والذبائح، باب تحريم الذبح لغير الله ولعن فاعله (3/1562).
[19] شرح النووي على صحيح مسلم (13/141).
[20] روح المعالي (11/98).
[21] صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة، فضائل أم أيمن: (4/1907).
[22] تربها: أي تقوم بإصلاحها وتنهض إليه بسبب ذلك.
[23] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل الحب في الله (4/1988).
[24] صحيح البخاري، كتاب المرض، باب عيادة المشرك (4/4).
[25] شفاء السقام (ص:8081).
[26] المرجع السابق (ص:100).
[27] سنن الدارقطني (2/278).
[28] الكامل لابن عدي (7/248).
[29] صحيح البخاري، أبواب التطوع، باب فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة (1/206). وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (2/1014) واللفظ للبخاري.
[30] الصحيح لقيت أبا بصرة الغفاري.
[31] الموطأ: (1/109).
[32] صحيح البخاري، كتاب فضل الصلاة، باب من أتى مسجد قباء كل سبت (1/206)، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته (2/1016).
[33] الحديث في سنن الترمذي، أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة. في سيد قباء (1/204) بلفظ: "الصلاة في مسجد قباء كعمرة".
[34] مجموع الرسائل الكبرى (2/59) بتصرف.
[35] اقتضاء الصراط المستقيم (ص:432).
[36] زيارة القبور الشركية والشرعية (ص:22).
[37] والصحيح فلقيت أبا بصرة الغفاري.
[38] الموطأ: (1/109).
[39] سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: (1/59).
[40] يقصد الآيتين (6061) من سورة النساء.
[41] جامع البيان عن تأويل القرآن المعروف بتفسير الطبري (8/517).
[42] زاد المسير (2/223).
[43] فتح القدير (1/483).
[44] في ظلال القرآن (2/696).
[45] وأما حكاية العتبي التي يوردها بعض المفسرين في تفسير هذه الآية فهي قصة لا يثبت بها حكم شرعي لأنها مترددة بين أن يكون مصدرها رؤيا منامية والرؤيا المنامية لا تصلح أن تكون دليلاً شرعيًا لاستثناء رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين أن يكون مصدرها نداء مجهول سمع من قبر النبي صلى الله عليه وسلم وروى بسند مرسل لا تقوم به الحجة أيضًا. انظر نص القصة في تفسير ابن كثير (1/52) وتفسير القرطبي (5/267).
[46] الآيات البينات في عدم سماع الأموات (ص:79) هامش رقم (2).
[47] صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان (24).
[48] المصدر السابق (ص:31).
[49] سنن الدارقطني (2/278).
[50] التاريخ الكبير (2/363).
[51] التاريخ الكبير (2/363).
[52] التاريخ الصغير (2/256).
[53] المجروحين (1/255).
[54] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/174).
[55] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/179).
[56] الضعفاء والمتروكين (ص:9).
[57] المجروحون (2/231).
[58] تقريب التهذيب (2/138).
[59] الكامل لابن عدي (7/2480).
[60] المجروحين (3/73).(4/104)
[61] الكامل لابن عدي (7/2480).
[62] الكامل لابن عدي (7/2480).
[63] الكامل لابن عدي (7/2480).
[64] المغني في الضعفاء (2/629).
[65] ميزان الاعتدال (4/26).
[66] المغني في الضعفاء (2/629).
[67] لسان الميزان (5/358).
[68] تقريب التهذيب (2/205).
[69] كتاب الموضوعات (2/217).
[70] اقتضاء الصراط المستقيم (400 401).
11. ... التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم من غير تأويل
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
مقدمة: عادت جذعا
إن ما حدث أخيرًا أحيا كثيرا من القضايا المتعلقة بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، كادت أن تغيب، فتموت بين الحوادث المتداخلة، من: حروب، واحتلال، وكوارث، وأموال وتجارات مهلية: أسهم، وملاهي.. وفتن وشهوات مفسدة، وغفلة عن الله تعالى والدار الآخرة!!.
لقد تسبب المسيئون في يقظة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيامها بدينها، واعتزازها بنبيها، وتعاليمه. فهمت حقيقة الصراع بين الإيمان والكفر، والولاء والبراء، وأدركت معاني الآيات:
- {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون * ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور * إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط}.
- {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}
- {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق}.
أدركت علو الإسلام على كل الأديان، وأنه الدين الحق وحده، وأن ما عداه باطل، لا يدانيه بحال.
هذه الأصول التي أراد لها الكافرون المحاربون لدين الله تعالى، أن تتوارى، وتندثر. تعاونهم فئة من الأمة، رضيت لنفسها أن تكون ضد نبيها، وقرآنها، ودينها، وأمتها..؟!!.
غير أن هذا الحدث، وما تبعها من حركة المسلمين، الممتلئة إيمانا، وتصديقا، ومحبة: أخرسهم، وحطم قدرا كبيرا من آمالهم، وقد كانوا قطعوا شوطًا في إعادة صياغة الإسلام، في صورة تختفي منها قضية الولاء والبراء، وعلو الإسلام، فجاء هذا الحدث فأعادها جذعا، فصار لزاما عليهم أن يبدءوا هذا التحريف والخلط من جديد، وبأسلوب آخر، وبجهد وحيلة أكبر، لإصلاح ما أفسده عليهم أولئك الذين يتكلمون بحقيقة ما في ضميرهم، وما تكنه قلوبهم، لعلهم يقدرون على تغيير عقيدة المسلم..!!.
وأنى لهم ذلك، والمسلمون اليوم أكثر فهما وإدراكا لحقيقة الولاء والبراء، بما رأوه من عدوانهم وعدواتهم للإسلام والمسلمين، بالحرب، والاحتلال، والتدمير، والنهب والحصار..؟!!. فما لم يفهموه على أيدي علمائهم، ومن كلام ربهم: فهموه من ظلم وعدوان الكافر.
ومن الحقائق التي عادت جذعا اليوم: الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم.
أدلة التصديق:
الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم يتضمن أمرين:
- الأول: تصديقه في رسالته ونبوته؛ أي كونه رسولا نبيا.
- الثاني: تصديقه فيما أخبر به، وأمر به؛ أي قبول خبره وأمره.
وهو فرض على كل: إنسان، عاقل، بالغ، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، ولا يصح الإسلام إلا به.
فالإسلام لا بد فيه من خضوع وانقياد، ولا يكون ذلك إلا بالتصديق. فمن كذب النبي ولم يصدق به في خبره، وفي أمره: لم يخضع له، ولم ينقد. ومن ثم لا يكون مسلما، فمن أنواع الكفر: كفر التكذيب ( وهو ضد التصديق)، والإعراض ( هو ضد الخضوع والانقياد).
وأدلة هذا الوجوب: شرعية، ومنطقية عقلية.
فالأدلة الشرعية، منها قوله تعالى:
الدليل الأول: {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا}.
فهذا نص صريح في وجوب الإيمان برسوليته صلى الله عليه وسلم: {ورسوله}. وبرسالته: {والنور الذي أنزلنا}، لا شيء يصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب.
الدليل الثاني: {ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرًا}.
وهذا النص عكس السابق، هناك أمر، وهنا وعيد لمن لم يؤمن، وفي كليهما قرن بين الإيمان بالله ورسوله، لكن هنا توعد من لم يؤمن بهما بالكفر والسعير، ومفهوم المخالفة: أن من آمن بهما نجى من الكفر والسعير.
الدليل الثالث: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين * والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون}.
ودلالة الآية: أن أظلم الظلم: الكذب على الله تعالى بنسبة الولد إليه والصاحبة، ونحو ذلك، وكذا التكذيب بما جاء من عنده من صدق؛ أي تكذيب الوحي الذي جاء به الرسول الأمين. فهؤلاء ظالمون، كافرون، مثواهم جهنم. وضدهم المتقون، وهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالصدق، وهو القرآن، والمؤمنون المصدقون له فيما جاء به. فهذا نص صريح في كفر من كذب برسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
في أي شيء يصدّق؟.(4/105)
إن مبنى تصديقه فيما أخبر، يقوم على الإقرار له صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فمن أقر له بالرسالة، وجب عليه تصديقه مطلقا.
أما الإقرار بأنه رسول من عند الله مع رد خبره وأمره الثابت، فهو تناقض وكفر.
والأخبار الواردة عنه صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أنحاء:
1- ثابت يقينا، قد تلقته الأمة بالقبول، مثل ما في الصحيحين عموما.
2- باطل يقينا، كالموضوعات والأحاديث الضعيفة غير المنجبرة.
3- ما بين ذلك، للعلماء فيها نظر واختلاف.
فأما الباطل، فرده وتكذيبه هو الواجب الذي لا ينبغي غيره؛ لأنه كذب على صاحب الشريعة.
وأما المختلف فيه، فلا إثم على من رده فلم يقبله، اعتمادا على بحث ونظر أدى إلى تضعيفه ورده، أو ثقة في قول عالم، من علماء الحديث والجرح والتعديل، رده بعلم ودراية.
لكن الشأن في الثابت يقينا، فلا يجوز رده ولا تكذيبه، فمن فعل ذلك فهو مكذب بالنبي غير مصدق له، أو مصدق لكنه معاند، ومن أنواع الكفر: العناد.
ووصف الثابت يقينا: هو ما أجمع أهل العلم بالحديث والجرح والتعديل، من أهل السنة والجماعة، على تلقيه بالقبول والتصحيح، والإجماع من الحجج الشرعية، التي لا يخالف فيها أحد من أهل العلم، لقوله تعالى:
- {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.
وفي هذا رد على من رفض قبول تصحيح أهل العلم بالحديث، بدعوى أنهم بشر يخطئون، فليست الحجة في آحادهم، بل في مجموعهم، ومجموعهم لا يجتمع على ضلالة، كما دلت الآية.
ومن أمثلة هذا الثابت بيقين:
1- جملة ما في صحيح البخاري ومسلم، دون جميع أفرادها، حيث انتقد بعض أحاديثهما، من جمع من المحدثين الثقات، المعروفين بالسنة والعدالة، لكن لا يصح أن يكون ذلك سببا في الطعن في شيء فيهما.
2- الآثار المتواترة، وهي التي رواها الجمع الكثير عن الجمع الكثير، العشرة فما فوق، حيث يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب.
3- أصول الآثار التي استقر اعتقاد أهل السنة والجماعة عليها، في أبواب الاعتقاد والشريعة.
وفرق بين الذي يرد الحديث باجتهاد في التصحيح والتضعيف، نظرا منه واجتهادا في تطبيق قواعد الجرح والتعديل، وبين الراد له بدون قاعدة، بل بالهوى والمزاج، فهذا قد يرد جميع الحديث، فلا يقبل ولا واحدا منه، إلا ما لاءمه ووافق ميولاته، فهذا مكذب غير مصدق؛ لأنه إن كان مصدقا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يصدق أن دينه محفوظ بمصادره، وهي الكتاب والسنة، لكن رده للسنة يتضمن إنكار أن يكون دينه محفوظا، وهذا فيه إنكار للرسالة من أصلها.
تأويل في معنى التكذيب.
والتكذيب كما يكون برد ما ثبت ردا صريحا، فكذلك يكون بتأويل الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم تأويلا يخرجه عن معناه، ويبطل دلالته بالكلية، بقصد وتعمد. وهو مسلك يتبعه المنافقون الذين يلقبون بالباطنية، وهم: القرامطة، والإسماعيلية، والنصيرية، والدروز، وطوائف من الصوفية، الذين يزعمون أن للشريعة ظاهرا وباطنا، فظاهرها للعوام، وباطنها للخواص، ويجعلون المعاني الباطنة مخالفة تماما لدلالات النصوص.
وهي أيضا: طريقة جماعة من المعاصرين، من أصحاب الفكر الحديث، المدعين التزام الإسلام وتعظيمه، لكن بتأويل الشريعة، تأويلاً يعطل: دلالتها، ومعانيها، وأحكامها. فما من حُكم ولا خبر لا يوافق أهواءهم، إلا ردوه وأولوه بما يتوافق مع أهوائهم، وركبوا لأجل ذلك طرق التحريف:
- فهذا النص والحكم كان لزمن ولظرف خاص، ولا ينفع في هذا العصر؛ لأن الظرف تغير.
- وهذا النص له تفسيرات أخرى في اللغة.
- وهذا النص يتعارض مع الحرية، والحرية من أسس الإسلام، فلا بد من تأويله.
- وفي هذه الأحاديث لسنا ملزمين بالأخذ بتصحيح بشر يخطئون.
وهكذا ما تركوا أمرا ولا خبرا، إلا ردوه معتمدين أهواءهم، مستدلين بكلام بعض العلماء مبتورًا، أو مسيئين الفهم، أو قاصدين إساءة الفهم، فما حالهم إلا حال المكذب، وما فعلهم إلا فعل المكذب.
فلا ريب أن هذا كفر، كفر التكذيب الصريح، بل هو أخبث، إذ يوهم أن صاحبه معظم للشريعة، عامل بها، بينما هو محرف لها، معطل لأصولها وحقائقها، وهذا النوع من التكذيب المبطن الخفي لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم يشتهر وينتعش في حالتين:
- في حال غلبة الشريعة وهيمنتها، فيخاف أولئك المحرفون من إظهار تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم علنا وجهارا، فليجئون إلى طريقة الشريعة الباطنة.
- وفي حال غلبة التدين على الناس، حيث تعتمد فئة هذا الأسلوب لإضلال الناس عن دينهم وصرفهم عنه، فيفعلون هذا بشريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما فعل بولس بشريعة عيسى عليه السلام.
أصول التصديق.
من أهم هذه الأصول:
اعتقاد هيمنة شريعته على سائر الشرائع، كما قال تعالى:
- {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه}.(4/106)
- {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقرتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين}.
وهذا الأصل ينضوي تحته ما يلي:
1- تصديقه أنه خاتم الأنبياء والرسل.
ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما}. قال ابن كثير( التفسير6/423):
"هذه الآية نص على أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده، فلا رسول بطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي، ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة".
فلو ادعى مدع أنه نبي فهو كاذب، والكذابون كثير، وهم على صنفين:
- الصنف الأول: من يدعي النبوة صراحة، فيتسمى بها، كمسيلمة والأسود العنسي.
- الثاني: من ادعى مقاما كمقام النبوة، ولو سماه بمقام الولاية، أو غير ذلك، يزعم فيه أنه يتلقى وحيا كوحي الأنبياء، ولو لم يسمه وحيا، بل: إلهاما، وكشفا، وفراسة. وهو كاذب، إذ النبوة اسم ومقام، يتلقى فيه الوحي من الله تعالى، ولا يكون لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع الأمة.
فكل من ادعاه فقد افترى كذبا، سواء ادعى الاسم، أو ادعى الحقيقة والمضمون.
2- تصديقه أنه أرسل للناس كافة.
ويشهد لهذا آيات في القرآن، كقوله تعالى:
- {وما أرسلنا إلا كافة للناس بشيرا نذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.
- {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا}.
- {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا}.
فرسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة لجميع البشر، بل والجن، كما هو ثابت من أخبار الجن في القرآن في سورة الجن، وآخر الأحقاف، وليست خاصة، وهي ميزة تفرد بها عن سائر الأنبياء، وبذلك لا يسع أحدا من العالمين أن يخرج عن شريعته، أو يرفض دعوته، أو يدعي أنها لا تلزمه.
3- تصديقه أن من لم يتبعه ولم يؤمن به فهو من أهل النار، سواء كان يهويا أو نصرانيا أو غير ذلك.
ويشهد لهذا أدلة كثيرة، كقوله تعالى:
- {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.
- وقال: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد}.
- وقال عليه الصلاة والسلام: (والله لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار).
4- تصديقه أن شريعته التي أتى بها هي أحسن الشرائع، وأن دين الإسلام هو أحسن الأديان وأعلاها، وأن اليهودية والنصرانية لا تساويها بحال.
ويشهد لهذا أدلة كثيرة منها:
- قال تعالى: {ولا تهنوا لا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
- وقال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه).
5- تصديقه في أن دينه شامل لكل أوجه الحياة ونشاطاتها، صغيرها وكبيرها، فلا يخرج عنه.
ويشهد لهذا قوله تعالى:
{قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
فهذه القضايا من الأصول التي يجب تصديقها، والإيمان بها، والحاجة إلى التذكير بها في الوقت ماسة، لكثرة من يدخل في نفوس الناس الريب فيها، ومن يريد تعطليها ومحوها، وليعلم أن محوها محو للإسلام من أصله، فلا إسلام إلا بعلو في الأرض، فهو دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده، قال تعالى:
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}.
تصديق مطلق:
هذا وإن من التصديق التصديق المطلق، ولو لم تدرك الحكمة، فإن من صدق أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ائتمنه على الشريعة، فهو مأمون، لا يكذب ولا يفتري، والله تعالى شهد له بهذا، فإذا كان كذلك وجب تصديقه من غير تردد، ولو لم تتبد له الحكمة، هذا حال المؤمنين:
- {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}.
- {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}.
- {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.
لما أسري برسول الله عاد فأخبر قومه فكذبوه وارتد كثير ممن أسلم، وذهب الناس إلى أبي بكر فقالوا له: "هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أن قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة".
فقال لهم أبو بكر: " والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك! فوالله إنه ليخبرني أن الخبر يأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه".
فسمي يومئذ الصديق.. "تهذيب السيرة" ص
12. ... آداب زيارة المسجد النبوي
بقلم / أحمد بن عبد العزيز الحمدان
* مقدمة:(4/107)
اعلم - أخي الكريم - أنَّ زيارة مسجد رسول الله - صلوات ربي وسلامه عليه،
وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغرِّ الميامين، وزوجاته أمهات المؤمنين –
سنة مستحبة بإجماع علماء الإسلام الأعلام، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
أحد ثلاثة مساجد لا تُشد الرِّحال إلاَّ إليها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".
وزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مستحبة طوال العام، وليست مخصوصة
بوقت، ولكن لمَّا كان الأيسر والأرفق لمن أتى الديار المقدسة لحجٍّ أو عمرة أن يزوره،
ويصعب عليه تخصيصه بزيارة فهؤلاء يستحب لهم ألا يفوتوا الفرصة على أنفسهم، بل
يبادروا إلى زيارة مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإنَّه أعظم لأجرهم، ويدركون
بالزيارة مالا يدركه غيرهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".
فإذا وصلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فادخله بأدب وسكينة، وتجنب رفع
الصوت فيه، مقدماً رجلك اليمنى عند دخولك، مصلياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصل في الروضة الشريفة ما يسر الله لك، فإنَّ الروضة لها شرف وفضل،
قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".
ثم اذهب لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه أبي بكر الصديق،
وعمر الفاروق رضي الله عنهما، وقف أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريف،
بأدب وخفض صوت، فإنَّ التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب حياً وميتاً؛ وقل:((السلام عليك -يا رسول الله- ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله،السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغرّ المحجلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى
آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أشهد أنك رسول الله حقاً، وأنك بلّغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت
في الله حق جهاده، فجزاك الله عنَّا أفضل الجزاء، وصلى عليك صلاة تملأ أقطار الأرض
والسماء وسلَّم تسليماً كثيراً)).
ثم خذ ذات اليمين قليلاً لتكون تجاه قبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وسلم عليه،
وسل الله تعالى له الرضوان.
ثم خذ ذات اليمين قليلاً لتكون تجاه قبر عمر الفارق رضي الله عنه وسلم عليه،
وسل الله تعالى له الرضوان.
واحذر ما يفعله بعض الجهلة من محاولة مسح الشبك الذي وضع حماية للحجرة الشريفة،
أو استقبال القبر الشريف حال الدعاء، أو الوقوف أمام القبر كهيئة المصلي، فإنَّ هذا من
الأمور التي لم يشرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي بدع محدثة.
وتستحب زيارة البقيع، وفيه قبور كثير من الصحابة والتابعين والصالحين رضي الله عنهم،
وزيارة قبور شهداء أحد رضي الله عنهم.
ويستحب لمن زارهم أن يقف عند مقابرهم؛ ويقول - كما علَّمنا رسول الهدى - صلى الله
عليه وسلم: ((السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنّا -إن شاء الله- بكم
لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)).
ثم احرص ـ بارك الله فيك ـ على أن تتطهر في مقر إقامتك، ثم تذهب لزيارة مسجد قباء،
والصلاة فيه، فإنَّه مما حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على زيارته، والصلاة فيه،
حيث جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة". وصلى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
13. ... أروع قصص الحب
شائع محمد الغبيشي
الحديث عن العظماء يأخذ بمجامع القلوب و تشرأب إليه أعناق أولي النهى تزدان بسيرهم المجالس و تعطر بأخبارهم الأندية و يتوق إلى معرفة سيرهم أصحاب الهمم و عشاق المعالي فما بالكم إخوتي إذا كان الحديث عن إمام العظماء و أشرف الشرفاء و سيد النبلاء ما بالكم إذا كان الحديث عن البدر يسري بضوئه متعة للسامرين و دليلاً للحائرين بل هو الشمس تهدي نورها وجه الأرض فيتلألأ ضياء و نوراً
ولد الهدى فالكائنات ضياء *** وفم الزمان تبسم و ثناء
الروح و الملأ الملائك حوله *** للدين و الدنيا به بشراء
و الوحي يقطر سلسلاً من سلسل *** و اللوح و القلم البديع رواء
يوم يتيه على الزمان صباحه *** و مساءه بمحمد وضاء
بك بشر الله السماء فزينت *** و تضوعت مسكاً بك الغبراء
يا من له الأخلاق ما تهو العلا *** منها و ما يتعشق الكبراء
زانتك في الخلق العظيم شمائل *** يغرى بهن و يولع الكرماء(4/108)
حديثنا عن الشمس التي أشرقت فعمت بنورها الكون كله و لكن البون بينها وبين شمسنا شاسع جداً فشمسنا تغرب و شمسه صلى الله عليه و سلم تبقى منيرة إلى قيام الساعة قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً *وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً )الأحزاب46
وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) المائدة15
قال الإمام الطبري رحمه الله : [{ من الله نور } يعني بالنور محمدا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به الحق وأظهر به الإسلام ومحق به الشرك فهو نور لمن استنار به...] تفسير الطبري ج4صـ501ـ
عن عرباض بن سارية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اني عبد الله وخاتم النبيين فذكر فيه إن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام ) قال: شعيب الأرنؤوط : حديث صحيح لغيره قال جابر رضي الله عنه : ( رأيت رسول الله في ليلة أضحيان ـ أي ليلة مضيئة لا غيم فيها ـ فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و إلى القمر و عليه حلة حمراء فإذا هو أحسن عندي من القمر ) رواه الترمذي
عن أنس بن مالك قال : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء ولما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا) رواه الترمذي و قال الألباني: صحيح
حديثنا أيها الكرام عن السراج المنير الذي امتن الله به علينا فأنار القلوب بعد ظلمتها و أحياها بعد مواتها و هداها بعد ضلالتها و أسعدها بعد شِقوتها فكان صلى الله عليه و سلم الصباح بعد ليل طويل مظلم بهيم :
بزغ الصباح بنور وجهك بعدما *** غشت البرية ظلمة سوداء
فتفتقت بالنور أركان الدجى *** و سعى على الكون الفسيح ضياء
و مضى السلام على البسيطة صافياً *** تروى به الفيحاء و الجرداء
حتى صفت للكون أعظم شرعة *** فاضت بجود سخائها الأنحاء
يا سيد الثقلين يا نبع الهدى *** يا خير من سعدت به الأرجاء
حديثنا عن الرحمة المهداة و النعمة المسداة كنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله به قال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران:103)
حديثا عن أروع قصص الحب و لكن من المُحب ؟ و من المحبوب ؟ و ما نوع الحب ؟
أما المُحب فالشجر و الحجر و والجبل و السهل و الحيوان و الطير , و الحديث عن حب البشر له فشيء آخر و حديث آخر ما بالكم بحب أعين اكتحلت بالنظر إلى وجهه الكريم و آذان تلذذت بسماح حديثه ما بالكم بحب من جالسه و عاشره صلى الله عليه و سلم لا شك أنه حبٌ لم يُشهد مثله على وجه البسيطة.
أما المحبوب فهو خير من مشى على الأرض و خير من طلعت عليه الشمس بل هو شمس الدنيا و ضياؤها بهجتها و سرورها ريقه دواء و نفثه شفاء و عرقه أطيب الطيب أجمل البشر و أبهى من الدرر يأسر القلوب و يجتذب الأفئدة متعة النظر و شفاء البصر إذا تكلم أساخت له لقلوب قبل الأسماع فلا تسل عما يحصل لها من السعادة و الإمتاع كم شفى قلباً ملتاعاً و كم هدى من أوشك على الهلاك و الضياع .
قال ابن الجوزي رحمه الله في وصفه : [ من تحركت لعظمته السواكن فحن إليه الجذع ، و كلمه الذئب ، و سبح في كفه الحصى ، و تزلزل له الجبل كلٌ كنى عن شوقه بلسانه يا جملة الجمال ، يا كل الكمال ، أنت واسطة العقد و زينة الدهر تزيد على الأنبياء زيادة الشمس على البدر ، و البحر على القطر و السماء على الأرض . أنت صدرهم و بدرهم و عليك يدور أمرهم ، أنت قطب فلكهم ، و عين كتبهم و واسطة قلادتهم ، و نقش فصهم و بيت قصدهم .
ليلة المعراج ظنت الملائكة أن الآيات تختص بالسماء فإذا آية الأرض قد علت .
ليس العجب ارتفاع صعودهم لأنهم ذوو أجنحة ، إنما العجب لارتفاع جسم طبعه الهبوط بلا جناح جسداني ... ] .
المحبوب هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم .
أما نوع الحب فيكفي أنه حب أنطق الحجر و حرك الشجر و أبكى الجذع و أسكب دمع البعير فما بالك بإنسان له جنان يفيض بالحب و الحنان ؟
فهيا أخي المبارك نتجول في بستان المحبة نختار من قصص الحب أروعها و نقتطف باقة عطرة من ذلك البستان الذي مُلئ بأجمل الأزهار و أعبقها :
القصة الأولى : الجذع يحن :(4/109)
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : ( كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها فلما صنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها فسكنت ) رواه البخاري
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة فقالت امرأة من الأنصار أو رجل يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا قال إن شئتم فجعلوا له منبرا فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر فصاحت النخلة صياح الصبي ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فضمها إليه تئن أنين الصبي الذي يسكن قال كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها ) رواه البخاري
و زاد في سنن الدارمي بسند صحيح قال : ( أما و الذي نفس محمد بيده لو لم التزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حزناً على رسول الله صلى الله عليه و سلم ) فأمر به فدفن .
كيف ترقى رقيك الأولياء *** يا سماء ما طاولتها سماء
إنما مثلوا صفاتك للناس *** كما مثّلَ النجومَ الماءُ
حن جذع إليك و هو جماد *** فعجيب أن يجمد الأحياء
كان الحسن رحمه الله يقول : يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إلى لقائه فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه .
عن عمرو بن سواد عن الشافعي رحمه الله : ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً فقلت : أعطى عيسى إحياء الموتى . قال: أعطي محمداً حنين الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك .
يحن الجذع من شوق إليك **** و يذرف دمعه حزناً عليك
و يجهش بالبكاء و بالنحيب **** لفقد حديثكم و كذا يديك
فمالي لا يحن إليك قلبي **** و حلمي أن أقبل مقلتيك
و أن ألقاك في يوم المعاد **** و ينعم ناظري من وجنتيك
فداك قرابتي و جميع مالي **** و أبذل مهجتي دوماً فداك
تدوم سعادتي و نعيم روحي **** إذا بذلت حياتي في رضاك
حبيب القلب عذر لا تلمني **** فحبي لا يحق في سماك
ذنوبي أقعدتني عن علو **** و أطمح أن أُقرب من علاك
لعل محبتي تسمو بروحي **** فتجبر ما تصدع من هواك
القصة الثانية : الحمامة تشتكي :
عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال : ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ومررنا بشجرة فيها فرخا حمرة فأخذناهما قال فجاءت الحمرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تصيح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من فجع هذه بفرخيها؟!! قال فقلنا نحن قال: فردوهما) رواه أبو داود والحاكم و قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه
جاءت إليك حمامة مشتاقة *** تشكو إليك بقلب صب واجف
من أخبر الورقاء أن مقامكم *** حرم و أنك منزل للخائف
القصة الثالثة : الجمل يبكي :
عن عبد بن جعفر قال : (أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفا أو حايش نخل فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه ناضح له فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه وسراته فسكن فقال من رب هذا الجمل؟! فجاء شاب من الأنصار فقال أنا فقال: ألا تتقى الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكاك إليّ وزعم أنك تجيعه وتدئبه) رواه الإمام أحمد قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم.
عن يعلى بن مرة الثقفي رضي الله تعالى عنه قال: ثلاثة أشياء رأيتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يسنى عليه قال فلما رآه البعير جرجر فوضع جرانه فوقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (أين صاحب هذا البعير؟!) فجاءه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (بعنيه) قال : بل نهبه لك وإنه لأهل بيت مآلهم معيشة غيره قال : (أما إذ ذكرت هذا من أمره فإنه شكا كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه ) قال: ثم سرنا حتى نزلنا منزلا فنام النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ثم رجعت إلى مكانها فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له فقال : ( هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم على رسول الله فأذن لها ) قال ثم سرنا فمررنا بماء فأتته امرأة بابن لها به جنة فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنخره ثم قال: ( اخرج إني محمد رسول الله ) قال ثم سرنا فلما رجعنا من مسيرنا مررنا بذلك الماء فأتته المرأة بجزر ولبن فأمرها أن ترد الجزر وأمر أصحابه فشربوا اللبن فسألها عن الصبي فقالت والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريبا بعدك ) . قال الهيثمي :رواه أحمد بإسنادين والطبراني بنحوه وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح و صححه الألباني.
القصة الثالثة : الحجر و الشجر يسلم من فرط الحب :
عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إني لا أعرف حجر بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ) رواه مسلم و الترمذي و الإمام أحمد(4/110)
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله.
القصة الرابعة : الطعام و الحجر يسبح :
روى علقمة عن عبد الله قال إنكم تعدون الآيات عذابا وإنا كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بركة لقد كنا نأكل الطعام مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع تسبيح الطعام قال وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بإناء فوضع يده فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم حي على الوضوء المبارك والبركة من السماء حتى توضأنا كلنا )رواه الترمذي و قال: هذا حديث حسن صحيح
عن أبي ذر رضي الله عنه قال :" إني لشاهد عند رسول الله في حلقة وفي يده حصى فسبحن في يده وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فسمع تسبيحهن من في الحلقة ". أخرجه الطبراني في الأوسط مجمع البحرين، والبزار وإسناد الطبراني صحيح رجاله ثقات .
لئن سبحت صم لجبال مجيبه *** لداود أو لان الحديد المصفح
فإن الصخور الصُمَّ لانت بكفه *** و إن الحصا في كفه ليسبِّح
وإن كان موسى أنبع الماء من العصا *** فمن كفه قد أصبح الماء يطفح
القصة الخامسة : الحجر والشجر يسجد :
عن ابن عباس قال : جاء رجل من بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يداوي ويعالج فقال : يا محمد إنك تقول أشياء هل لك أن أداويك ؟ قال : فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله ثم قال : ( هل لك أن أريك آية؟!) وعنده نخل وشجر فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عذقا منها قأقبل إليه وهو يسجد ويرفع رأسه ويسجد ويرفع رأسه حتى انتهى إليه صلى الله عليه وسلم فقام بين يديه ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ارجع إلى مكانك ) فقال العامري : والله لا أكذبك بشيء تقوله أبدا ثم قال : يا آل عامر بن صعصعة والله لا أكذبه بشيء) رواه ابن حبان و قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح
و في قصة رحلته صلى الله إلى الشام التي رواها الترمذي و صححها الألباني قال الراهب : (هذا سيد العالمين بعثه الله رحمة للعالمين . فقال له أشياخ من قريش ما علمك ؟ فقال : إنكم حيث أشرفتم منم العقبة لم يبق شجر و لا حجر إلا خر ساجدا و لا يسجدون إلا لنبي و إني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه ...الحديث
أكرم بَخَلق نبي زانه خُلُق *** بالحق مشتملٍ بالبشر مُتّسمِ
كالزهر في ترفٍ والبدر في شرفٍ *** والبحر في كرم والدهر في هِمَمِ
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة *** تمشي إليه على ساقٍ بلا قدمِ
ياربّ أزكى صلاةٍ منك دائمة *** على النبي بمنهَلًّ ومنسجمِ
ما رنّحت عذبات البان ريح صبا *** وأطربت نغمات الآي من أُمم
القصة السادسة : الجبل يهتز فرحاً برسول الله صلى الله .
عن أنس رضي الله عنه قال صعد النبي صلى الله عليه و سلم جبل أحد و معه أبو بكر و عمر و عثمان رضي الله عنهم فرجف بهم الجبل ، فقال : (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) رواه البخاري
قال بعض الدعاة و إنما اهتز فرحاً و طرباً و شوقاً للقاء رسول صلى الله عليه و سلم و صحبه
لا تلوموا أُحداً لاضطراب *** إذ علاه فالوجد داءُ
أُحد لا يلام فهو محبٌ *** ولكم أطرب المحب لقاءُ
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال : ( هذا جبل يحبنا ونحبه اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها) رواه البخاري
السابعة: الشجر يطيع النبي ويسارع إلى إجابته ويستأذن في السلام عليه:
وعن يعلى بن مرة عن أبيه قال : سافرت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأيت منه شيئاً عجباً ، نزلنا منزلاً ، فقال انطلق إلى هاتين الشجرتين ، فقل إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لكما أن تجتمعا ، فانطلقت فقلت لهما ذلك ، فانتزعت كل واحدة منهما من أصلها فمرت كل واحدة إلى صاحبتها فالتقيا جميعاً ، فقضى رسول الله حاجته من ورائها ثم قال : انطلق فقل لهما : لتعد كل واحدة إلى مكانها ، فأتيتهما فقلت ذلك لهما ، فعادت كل واحدة إلى مكانها ، و أتته امرأة ، فقالت إن ابني هذا به لمم ـ مس من الجن ـ منذ سبع سنين يأخذه كل يوم مرتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (أدنيه) فأدنته منه فتفل في فيه، وقال: اخرج عدو الله أنا رسول الله ثم قال لها رسول الله إذا رجعنا فأعلمينا ما صنع ، فلما رجع رسول الله استقبلته و معها كبشان و أقط و سمن ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم: خذ هذا الكبش واتخذ منه ما أردت، قالت والذي أكرمك ما رأينا شيئاً منذ فارقتنا ، ثم أتاه بعير ، فقام بين يديه ، فرأى عيناه تدمعان ، فعث إلى أصحابه ، فقال : ما لبعيركم هذا؟! البعير يشكوكم؟ فقالوا : كنا نعمل عليه ، فلما كبر و ذهب عمله تواعدنا عليه لننحره غداً فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (لا تنحروه ، و اجعلوه في الإبل يكون معها ) صححه الحاكم و وافق الذهبي و صححه الأرناؤط .(4/111)
و عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا قال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( أين تريد ) قال إلى أهلي قال :( هل لك في خير ؟ ) قال : ما هو ؟ قال ( تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمداً عبده و رسوله ) قال : من شاهدٌ على ما تقول ؟ قال ( هذه الشجرة ) فدعاها رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي بشاطئ الوادي فأقبلت تخد الأرض خداً حتى جاءت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً فشهدت أنه كما قال ثم رجعت إلى منبتها و رجع الأعرابي فقال إن يبايعوني آتك بهم و إلا رجعت إليك فكنت معك ) رواه الدارمي .
القصة الثامنة : الأسد يودع مولى رسول الله :
عن محمد بن المنكدر : أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها لوحا من ألواحها فطرحني اللوح في أجمة فيها الأسد فأقبل إلي يريدني فقلت : يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم فطأطأ رأسه و أقبل إلي فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة و وضعني على الطريق و همهم فظننت أنه يودعني فكان ذلك آخر عهدي به ) رواه الحاكم و قال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه
و وافقه الذهبي
فتأمل أخي إلى تعظيم هذا المخلوق وتوقيره و محبته لرسول الله فما إن سمع أسم رسول الله حتى طأطأ رأسه و بدل من أن يهم بمولاه دله على الطريق و ودعه .
نماذج من حب البشر :
القصة الأولى : أبو بكر الصديق
عن عروة بن الزبير قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال بينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ) رواه البخاري
القصة الثانية : الصديق يبكي فرحاً :
قالت عائشة رضي الله عنها : ( فرأيت أبا بكر يبكي و ما كنت أحسب أن أحداً يبكي من الفرح )
القصة الثالثة : خشيت ألا أراك
روى الطبراني عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي و إنك لأحب إلي من ولدي و إني لأكون في البيت فأذكرك فما اصبر حتى أتي فأنظر إليك و إذا ذكرت موتي و موتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين و أني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه و سلم شيئاً حتى نزل جبريل عليه السلم بهذه الآية : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69) قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمران و هو ثقة .
القصة الرابعة : أسألك مرافقتك في الجنة :
عن ربية بن كعب رضي الله عنه : ( كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتيته بوضوئه , و حاجته ، فقال لي : ( سل ) فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة . قال :(أو غير ذلك )
قلت : هو ذاك قال : ( فأعني على نفسك بكثرة السجود ) رواه مسلم .
القصة الخامسة : كل مصيبة بعد جلل
روى ابن جرير الطبري في التاريخ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار ، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحد ، فلما نُعوا لها قالت : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : خيرا يا أم فلان . هو بحمد الله كما تحبين قالت : أرنيه حتى أنظر إليه ، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل . تريد صغيرة .
القصة السادسة : لا أرضى أن يشاك بشوكة(4/112)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة وهو بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل كلهم رام فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة فقالوا هذا تمر يثرب فاقتصوا آثارهم فلما رآهم عاصم وأصحابه لجؤا إلى فدفد وأحاط بهم القوم فقالوا لهم : انزلوا وأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق ولا نقتل منكم أحدا قال عاصم بن ثابت أمير السرية أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر اللهم أخبر عنا نبيك فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق منهم خبيب الأنصاري وابن دثنة ورجل آخر فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم فقال الرجل الثالث هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن في هؤلاء لأسوة يريد القتلى فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى فقتلوه فانطلقوا بخبيب وابن دثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعه بدر فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر فلبث خبيب عندهم أسيرا فأخبرني عبيد الله بن عياض أن بنت الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته فأخذ ابنا لي وأنا غافلة حين أتاه قالت فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي فقال تخشين أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب والله لقد وجدته يوما يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر وكانت تقول إنه لرزق من الله رزقه خبيبا فلما خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب ذروني أركع ركعتين فتركوه فركع ركعتين ثم قال لو لا أن تظنوا أن ما بي جزع لطولتها اللهم أحصهم عددا
ولست أبالي حين أقتل مسلما *** على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزع
فقتله بن الحارث فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا فاستجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه خبرهم وما أصيبوا وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرف وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر فبعث على عاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسولهم فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا " . أخرجه البخاري و النسائي و أبو داود
و في بعض الروايات : فقال له أبو سفيان (أيسرك أن محمدا عندنا نضرب عنقه وإنك في أهلك؟ فقال: لا والله ما يسرني إني في أهلي وأن محمدا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه)
القصة السابعة: الصديق يتمنى سرعة اللحاق:
عن عائشة رضي اله عنها قالت : إن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال : ( أي يوم هذا ؟) قالوا يوم الاثنين قال : ( فإن مت من ليلتي فلا تنتظروا بي الغد فإن أحب الأيام و الليالي إليّ أقربها من رسول الله صلى الله عليه و سلم ) رواه أحمد و صححه أحمد شاكر .
القصة الثامنة : لا يخلص إلى رسول صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله (( صلى الله عليه وسلم)) يوم أحد أطلب سعد بن الربيع فقال لي إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له يقول لك رسول الله (( صلى الله عليه وسلم)) كيف تجدك ؟ قال فجعلت أطوف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق وبه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم فقلت يا سعد إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) يقرأ عليك السلام ويقول لك أخبرني كيف يجدك ؟ فقال وعلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) السلام قل له يا رسول الله أجد ريح الجنة . وقل لقومي الأنصار لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول ( صلى الله عليه وسلم) وفيكم عين تطرف ، وفاضت روحه من وقته ) رواه البخاري، 844، ومسلم 3408.
القصة التاسعة : غداً ألقى الأحبة
عندما احتضر بلال رضي الله عنه قالت امرأته: واحزناه فقال: (بل وا طرباه غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه) فمزج مرارة الموت بحلاوة الشوق إليه صلى الله عليه و سلم
القصة العاشرة : أطيب الطيب
عن أنس رضي الله عنه: دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عندها (أي من القيلولة) فعرق وجاءت أمي بقارورة، فجعلت تسلت العرق فيها فاستيقظ فقال: يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب ". رواه مسلم .
القصة الحادية عشرة : ابن الزبير يشرب الدم(4/113)
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد احتجم في طست فأعطاه عبد الله بن الزبير ليريقه فشربه فقال له : ( لا تمسك النار إلا تحلة القسم، وويل لك من الناس، وويل للناس منك). وفي رواية : أنه قال له : ( يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهريقه حيث لا يراك أحد ) فلما بعُد عمد إلى ذلك الدم فشربه، فلما رجع قال : ( ما صنعت بالدم ؟ ) قال : إني شربته لأزداد به علماً وإيماناً، وليكون شيء من جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم في جسدي، وجسدي أولى به من الأرض فقال : ( ابشر لا تمسك النار أبداً، وويل لك من الناس وويل للناس منك ) رواه الحاكم و الطبراني وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح غير هنيد بن القاسم
القصة الثانية عشرة : نحري دون نحرك
كان أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه يحمي رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة أحد و يرمي بين يديه ، و يقول ( بأبي أنت و أمي يا رسول الله لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك ) رواه البخاري
و عن قيس بن أبي حازم قال : ( رأيت يد طلحة شلاء ، وقى بها النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد ) رواه البخاري.
القصة الثالثة عشرة : آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك
روى ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح يعدل به القوم فمر بسواد بن غزية حليف بني علي ابن النجار وهو مستنتل من الصف فطعن في بطنه بالقدح وقال استو يا سواد فقال يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه فقال استقد قال فاعتنقه فقبل بطنه فقال ما حملك على هذا يا سواد؟! قال يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير ] رواه ابن إسحاق و قال الهيثمي في المجمع رواه الطبراني ورجاله ثقات.
القصة الرابعة عشرة : وما كنت أطيق أن أملأ عيني
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (... وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه ...) رواه مسلم
القصة الخامسة عشرة: رضينا برسول الله قسما وحظا
عن أبي سعيد الخدري قال : لما أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة حتى قال قائلهم لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه فدخل عليه سعد بن عبادة فقال يا رسول الله إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار شيء قال فأين أنت من ذلك يا سعد؟! قال يا رسول الله ما أنا إلا امرؤ من قومي وما أنا قال فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة قال: فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة قال فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار قال فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو له أهل ثم قال يا معشر الأنصار ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم ألم آتكم ضلالا فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف الله بين قلوبكم قالوا بل الله ورسوله أمن وأفضل قال ألا تجيبونني يا معشر الأنصار قالوا وبماذا نجيبك يا رسول الله ولله ولرسوله المن والفضل قال أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم أتيتنا مكذبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وطريدا فآويناك وعائلا فأغنيناك أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم أفلا ترضون يا معشر الأنصار ان يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار قال فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظا ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقنا) رواه الإمام أحمد وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن
فتأمل أخي المبارك إلى فرح الأنصار بفوزهم برسول الله قسماً تأمل إلى بكاء الفرح و هم يقولون بقلوبهم قبل ألسنتهم (رضينا برسول الله قسما وحظا )
طفح السور علي حتى أنني *** من كثر ما قد سرني أبكاني
القصة السادسة عشرة: عشر إليهم يحن قلبي
عن عبدة بنت خالد بن معدان قالت : [ ما كان خالد يأوي إلى فراش إلا و هو يذكر من شوقه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و إلى أصحابه من المهاجرين و الأنصار يسميهم و يقول : هم أصلي و فصلي و إليهم يحن قلبي طال شوقي إليهم فعجل ربي قبضي إليك حتى يغلبه النوم ](4/114)
القصة السابعة عشرة: البكاء عند ذكر النبي صلى الله عليه و سلم :
قال إسحاق التجيبي : كان أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا و اقشعرت جلودهم و بكوا
وقال مالك ـ وقد سئل عن أيوب السختياني : [ ما حدثتكم عن أحد إلا و أيوب أفضل منه:
وقال : وحج حجتين فكنت أرمقه و لا أسمع منه غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه و سلم بكى حتى أرحمه ] .
وقال مصعب بن عبد الله : [ كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه و سلم يتغير لونه و ينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه فقيل له يوما في ذلك فقال لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون و لقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه ] . الشفا ج2صـ32
القصة الثامنة عشرة: أعطني عينيك أقبلها
قال ثابت البناني لأنس بن مالك رضي الله عنه : أعطني عينيك التي رأيت بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أقبلها .
حُق له أن يُحب
لماذا كل هذا الحب ؟ سؤال يطرح و يكرر فإنه حب لم يشهد الكون علويه و سفليه مثله .
رجل كل شيء في الكون يحبه السماء بمن فيها و الأرض بمن عليها كل يحبه و يشتاق إليه فما أعظمه من رجل و ما أجله من نبي و أعزه من رسول صلى الله عليه و سلم .
كأن الثريا علقت في جبينه *** وفي جيده الشِّعرى وفي وجهه القمرُ
عليه جلال المجد لو أن وجهه *** أضاء بليلٍ هلَّل البدو والحضرُ
لقد نال صلى الله عليه و سلم كل هذا الحب و هو قليل في حقه لأنه جمع خصال و صفات لم ولن تجتمع في غيره من بني البشر و لعلي ألمح في السطور القادمة إلى بعض ذلك مع عجزي عن ذكر عُشرِ المعشار من عظيم ما حباه الله إياه من جميل الصفات و كريم الخصال صلوات ربي و سلامه عليه .
أولاً : عظم بركته و خيره صلى الله عليه و سلم على جميع المخلوقات :
فقد كان مولده صلى الله عليه و سلم بشارة خير و نور و بكرة و ضياء للكون بأسره فقد رأت أمه حين وضعته نوراً أضاءت منه قصور الشام , و جاء صلى الله عليه و سلم بالدين الذي إذا أقيم واقعاً في الحياة صبت السماء بركاتها و أخرجت الأرض خيراتها (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) الأعراف96
فما أعظم بركاته عليه الصلاة و السلام بركات ينعم بها الطير و الحيوان و الدواب و النبات و الإنسان . فأقل ما تهبه هذه المخلوقات لهذا النبي صلى الله عليه و سلم الحب الصادق فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان .
ثانياً : عظيم رحمته صلى الله عليه و سلم بجميع المخلوقات :
يقول الله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء107 و قال تعالى : ({فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ )آل عمران159
يقول سيد رحمه الله [ فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم ; فجعلته صلى الله عليه و سلم رحيما بهم , لينا معهم . ولو كان فظا غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب , ولا تجمعت حوله المشاعر . فالناس في حاجة إلى كنف رحيم , وإلى رعاية فائقة , وإلى بشاشة سمحة , وإلى ود يسعهم , وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم . . في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ; ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ; ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء . . وهكذا كان قلب رسول الله عليه صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع الناس . ما غضب لنفسه قط . ولا ضاق صدره بضعفهم البشري . ولا احتجز لنفسه شيئا من أعراض هذه الحياة , بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية . ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم . وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه ; نتيجة لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة الرحيبة ] الظلال ج1.
و قد عمت رحمته و شمل إحسانه صلى الله عليه و سلم كل شيء الطير و الحيوان والنمل و الشجر و الإنسان ألم يقل صلى الله عليه و سلم : ( إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء . فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة . وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح . وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) رواه ابن ماجه و صححه الألباني رحمه الله
ألم يقل صلى الله عليه و سلم ( في كل ذات كبد رطب أجر ) رواه مسلم ألم يوصي صلى الله عليه و سلم بالبهائم فقال : ( اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة ...) رواه أبو داود
و رأى صلى الله عليه و سلم قرية من النمل قد حرقت قال : ( من حرق هذه ؟ ) فقلنا نحن قال : ( إنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا رب النار ) رواه أبو داود و أحمد .
ألم يقل صلى الله عليه و سلم : (إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسلة فليغرسها) قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح(4/115)
ألم يقل: ( الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء ) رواه أبو داود و صححه الألباني.
فما أعظم رحمته صلى الله عليه و سلم فقد كان أرحم بنا من الآباء و الأمهات و صدق من قال:
و إذا رحمت فأنت أم أو أبٌ *** هذان في الدنيا هم الرحماء
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى *** و فعلت ما لم تفعل الأنواء
و صدق صلى الله عليه و سلم حين قال : ( إنما أنا رحمة مهداة ) رواه الحاكم و صححه .
ثالثاً :عظيم حرصه على هداية أمته :
وقال تعالى: ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) التوبة 128
قال الإمام السعدي رحمه الله تعالى :[ هذه المنة التي امتن الله بها على عباده هي اكبر النعم بل اجلها وهي الإمتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الضلالة وعصمهم به من التهلكة ] ا.هـ
وروى مسلم عن ابن عمرو: أن رسول الله تلا هذه الآية: ( رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) و ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم).
فرفع يديه وقال: (اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله يا جبريل: اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله فأتاه جبريل فسأله، فأخبره بما قال: وهو أعلم، فقال الله يا جبريل: اذهب إلى محمد فقال: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك).
وروى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي شاملة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً).
لقد وصل به الأمر صلى الله عليه و سلم إلى أن استولت عليه الحسرة و كاد يقتل نفسه حرصاً على أمته حتى عاتبه ربه فقال تعالى : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) الكهف6 و قال عز وجل : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )الشعراء3
و قال سبحانه : ( فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ) فاطر8
و تأمل في عظيم شفقته بأمته حين يضرب هذا المثل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها ) رواه البخاري
قال القاضي عياض رحمه الله : [أما إحسانه و أنعامه على أمته فكذلك قد مر منه في أوصاف الله تعالى له من رأفته بهم و رحمته لهم و هدايته إياهم و شفقته عليهم و استنفاذهم به من النار و أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم و رحمة للعالمين و مبشرا و نذيرا و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا و يتلوا عليهم آياته و يزكيهم و يعلهم الكتاب و الحكمة و يهديهم إلى صراط مستقيم
فأي إحسان أجل قدرا و أعظم خطرا من إحسانه إلى جميع المؤمنين ؟ و أي إفضال أعم منفعة و أكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين إذ كان ذريعتهم إلى الهداية و منقذهم من العماية و داعيهم إلى الفلاح و وسيلتهم إلى ربهم و شفيعهم و المتكلم عنهم و الشاهد لهم و الموجب لهم البقاء الدائم و النعيم السرمد
فقد استبان لك أنه صلى الله عليه و سلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعا بما قدمناه من صحيح الآثار و عادة و جبلة بما ذكرناه آنفا لأفاضته الإحسان و عمومه الإجمال فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفأ أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذي بها قليل منقطع ـ فمن منحه ما لا يبيد من النعيم و وقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب
و إذا كان يحب بالطبع ملك لحسن سيرته أو حاكم لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته ـ فمن جمع هذه الخصال على غاية مراتب الكمال أحق بالحب و أولى بالميل ] الشفا ج2 صـ24
ثالثاً : عظم تضحيته و شدة الأذى الذي لحقه في سبيل تبليغ الدين :(4/116)
عن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت : للنبي صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد ؟ قال ( لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ) رواه البخاري
و عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور فقذفه على ظهر رسول الله صلى : الله عليه وسلم فلم يرفع رأسه فجاءت فاطمة فأخذته من ظهره ودعت على من صنع ذلك وقال :( اللهم عليك الملأ من قريش : أبا جهل بن هشام و عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و عقبة بن أبي معيط و أمية بن خلف أو أبي بن خلف ـ شك شعبة ـ قال : فلقد رأيتهم يوم بدر وألقوا في بئر غير أن أمية تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر ) رواه ابن حبان
رابعاً : كمال نصحه للأمة.
لقد كان صلى الله عليه وسلم صادق النصح لأمته صلى الله عليه و سلم أفنى عمره دعوة و نصحاً و بيان و بلاغاً فنصح أعظم النصح و بلغ غاية البلاغ من قال الله له : ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنذِرْ) يقول سيد معلقاً على قوله تعالى (قُم) في سورة المزمل :[ إنها دعوة السماء , وصوت الكبير المتعال . . قم... قم .. . قم للأمر العظيم الذي ينتظرك , والعبء الثقيل المهيأ لك ...قم للجهد والنصب والكد والتعب . قم فقد مضى وقت النوم والراحة . . قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد . .
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش , في البيت الهادئ والحضن الدافئ . لتدفع به في الخضم , بين الزعازع والأنواء , وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء .
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا , ولكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا . فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير . . فماله والنوم ? وماله والراحة ? وماله والفراش الدافئ , والعيش الهادئ ? والمتاع المريح ?!
ولقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الأمر وقدره , فقال لخديجة - رضي الله عنها - وهي تدعوه أن يطمئن وينام: " مضى عهد النوم يا خديجة " ! أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق ! ] الظلال ج6 ص3744
بل بلغ به الأمر أن يعجز عن الصلاة قائما فعن عبد الله بن شقيق قال قلت لعائشة : ( ... أكان يصلي جالسا قالت بعد ما حطمه الناس ) رواه أحمد و قال شعيب الأرنؤوط إسناده صحيح .
فما أعظم المنة بمبعثه عليه الصلاة و السلام و صدق الله : (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) آل عمران 164, وقال تعالى: ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) آل عمران164
خامساً : عظيم أخلاقه
قال تعالى : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) القلم4 .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه الحاكم و قال صحيح على شرط مسلم و وافقه الذهبي .(4/117)
قال الإمام السعدي رحمه الله عند قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } أي: عاليًا به، مستعليًا بخلقك الذي من الله عليك به، وحاصل خلقه العظيم، ما فسرته به أم المؤمنين، [عائشة -رضي الله عنها-] لمن سألها عنه، فقالت: "كان خلقه القرآن"، وذلك نحو قوله تعالى له: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } [الآية]، { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيُصُ عَلَيْكُم بِالمْؤُمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، [والآيات] الحاثات على الخلق العظيم فكان له منها أكملها وأجلها، وهو في كل خصلة منها، في الذروة العليا، فكان صلى الله عليه وسلم سهلًا لينا، قريبًا من الناس، مجيبًا لدعوة من دعاه، قاضيًا لحاجة من استقضاه، جابرًا لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائبًا، وإذا أراد أصحابه منه أمرًا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليسًا له إلا أتم عشرة وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بشره، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلي عشيره غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم ].
و قال ابن القيم رحمه الله : [ومما يحمد عليه ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم فإن من نظر في أخلاقه وشيمه علم أنها خير أخلاق الخلق وأكرم شمائل الخلق فإنه كان أعلم الخلق وأعظمهم أمانة وأصدقهم حديثا وأحلمهم وأجودهم وأسخاهم وأشدهم احتمالا وأعظمهم عفوا ومغفرة وكان لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما
كما روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال في صفة رسول الله في التوراة : (محمد عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله وأفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا)
وأرحم الخلق وأرأفهم بهم وأعظم الخلق نفعا لهم في دينهم ودنياهم وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبيرا عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد وأصبرهم في مواطن الصبر وأصدقهم في مواطن اللقاء وأوفاهم بالعهد والذمة وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه وأشدهم تواضعا و أعظمهم إيثارا على نفسه وأشد الخلق ذبا عن أصحابه وحماية لهم ودفاعا عنهم وأقوم الخلق بما يأمر به وأتركهم لما ينهى عنه وأوصل الخلق لرحمه فهو أحق بقول القائل :
برد على الأدنى ومرحمة ... وعلى الأعادي مارنٌ جلد]
سادساً : جمال خلقته عليه الصلاة و السلام :
النفوس مجبولة على حب كل جميل و قد كان صلى الله عليه و سلم أجمل الناس خلقاً و لذا فقد أحبه الناس حباً عظيماً فقد جمع بين جمال الخلقة و الخلق عليه أفضل الصلاة و السلام
فتأمل أخي المبارك في وصف أصحابه له عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ إذا مشى تكفأ ولا مسست ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ) رواه مسلم و معنى ( أزهر اللون ) هو الأبيض المستنير وهو أحسن الألوان
عن البراء قال : ما رأيت أحدا أحسن في حلة حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمته تضرب منكبيه ) رواه النسائي وصححه الألباني
عن كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن تبوك قال فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه ) رواه البخاري
عن أبي جحيفة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة إلى البطحاء فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين وبين يديه عنزة . وزاد فيه عون عن أبيه عن أبي جحيفة قال كان يمر من ورائها المرأة وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بهما وجوههم قال فأخذت بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك ) رواه البخاري
عن البراء يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا ليس بالطويل البائن ولا بالقصير) رواه البخاري
عن علي قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطويل ولا بالقصير شئن الكفين والقدمين ضخم الرأس ضخم الكراديس طويل المسربة إذا مشى تكفأ تكفؤا كأنما انحط من صبب لم أر قبله ولا بعده مثله ) رواه الترمذي و صححه الألباني(4/118)
عن ابن عمر : ما رأيت أحدا أنجد ولا أجود ولا أشجع ولا أضوأ وأوضأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه الدارمي بسند صحيح .
فهو الذي تم معناه وصورته *** ثم اصطفاه حبيباً بارئُ النِّسمِ
أكرِم بخلق نبي زانه خلقٌ *** بالحسن مشتمل بالبشر متسم
كالزهر في ترف والبدر في شرف *** والبحر في كرم والدهر في هِمَمِ
إن نبياً بهذه الصفة و هذه المثابة حق له أن يُحب و أن تتعلق به القلوب و تحن إليه الأفئدة و تحلم برؤيته و تجعل هدفها الأعظم الورود على حوضه وعبور الصراط بمعيته ( َيوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )التحريم8
حكم محبة الرسول:
محبة النبي صلى الله عليه و سلم واجبة على كل مسلم و مسلمة قال تعالى (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) التوبة24. وفي حديث البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: ((فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)). وروى البخاري عن عبد الله بن هشام: كنا مع النبي وهو آخذ بيده عمر فقال عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال: ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال عمر: فإنه الآن، لأنت أحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر)).
مظاهر محبته للرسول صلى الله عليه و سلم :
1- طاعته : قال تعالى (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) النساء65 . و قال تعالى :( َلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النور63. و قال تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) الأحزاب36
2- الاقتداء و التأسي به و المتابعة له
قال تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) الأحزاب21
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : [هذه الاية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله ]
قال ابن القيم رحمه الله : [أعلم أن في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة حيا وميتا وفعلا وقولا وجميع أحواله عبرة للناظرين تبصرة للمستبصرين إذ لم يكن أحد أكرم على الله منه إذ كان خليل الله وحبيبه ونجيه وكان صفيه ورسوله ونبيه ] .إعلام الموقعين ج4 ص468
و قال تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) آل عمران31
فيجب على المحب الصادق أن يبادر إلى متابعة حبيبه و التأسي بسنته و الشعور بالفخر و العزة و العلو و الرفعة و أنت تتأسى بخير البشر عليه الصلاة و السلام
و مما زادني شرفاً و فخراً *** و كدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** و أن سيرت أحمد لي نبياً
إن من أعظم ما تعاني منه أمة الإسلام اليوم تغيب هدي النبي صلى الله عليه و سلم و سيرته و أخلاقه و آدابه عن أجيالها فعاش الجيل بعيداً عن هدي خير المرسلين فتاه في ظلمات الشبهات و الشهوات و غرق في بحارها و هو في أمس الحاجة إلى من يقتبس له جذوة من السراج النبوي تنير له طريق الحق و تبدد ظلمات الباطل فيجد الدواء الناجع لكل ما يعانيه من هموم و غموم و قلق و حيرة و تخبط و انحراف .
فهل نعيد عرض السيرة النبوية العطرة على أجيالنا ؟ و هل نتمثلها واقعاً حياً مشاهداً تراه الأجيال ماثلاً أمامها فتدرك أنه المخرج من شِقوتها ؟
3ـ تعظيم النبي وتوقيره :(4/119)