وعنه ـ رضي اللهُ عنه ـ قال: كان النبيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ يَقُومُ إلى جِذْعٍ قَبلَ أَن يُجعَلَ لَهُ المِنبَرُ، فَلَمَّا جُعِلَ المِنبَرُ حَنَّ الجِذعُ حتى سَمِعْنَا حَنِينَهُ، فَمَسَحَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ يَدَهُ عَلَيهِ فَسَكَنَ. وعن جابرِ بنِ سَمُرَةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال: قال رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ: ((إِنِّي لأَعرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كان يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبلَ أَن أُبعَثَ، إِنِّي لأَعرِفُهُ الآنَ)).
وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال: كُنتُ مَعَ النبيِّ بمكةَ، فَخَرَجْنَا في بَعضِ نَوَاحِيها، فَمَا استَقبَلَهُ جَبَلٌ ولا شَجَرٌ إلا هو يَقُولُ: السَّلامُ عَلَيكَ يَا رَسولَ اللهِ. ولمَّا هَاجَرَ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ إلى المدينةِ، وكانت مِن أَوبَأِ أَرضِ اللهِ، فَصَحَّحَهَا اللهُ بِبَرَكَةِ حُلُولِهِ بها وَدُعائِهِ لأَهلِهَا، حَيثُ دَعَا ـ عليه السلامُ ـ رَبَّهُ أَن يُذهِبَ حُمَّاهَا إِلى الجُحفَةِ، فَاستَجَابَ اللهُ له ذلك..
وعن أنسٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال: لمَّا كان اليَومُ الذي دَخَلَ النبيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ فِيهِ المَدِينَةَ، أَضَاءَ مِنها كُلُّ شَيءٍ، فَلَمَّا كان اليَومُ الذي مَاتَ فِيهِ، أَظلَمَ منها كُلُّ شَيءٍ... اللهُ أَكبرُ ـ أيها المسلمون ـ كُلُّ شَيءٍ يَعرِفُ رَسُولَ اللهِ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ وَيُحِبُّهُ، كُلُّ شَيءٍ يُؤمِنُ بِنُبُوَّتِهِ وَيُقِرُّ بِرِسالتِهِ، إِلا مَن أَرَادَ اللهُ ضَلالَتَهُم مِن أَشقِيَاءِ بَني الإِنسانِ، فَلَم يَزَالُوا مُنذُ مَبعَثِهِ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ ضَائِقَةً بِهِ صُدُورُهُم، غَاصَّةً بِهِ نُحُورُهُم، يَكِيدُونَ لَهُ وَيَمكُرونَ بِهِ، وَيُدَبِّرُونَ المُؤَامَرَاتِ ضِدَّهُ وَيُؤذُونَهُ، سَخِرُوا مِنهُ وَاستَهزَؤُوا بما جاء به، واتَّهَمُوهُ بِالجُنُونِ والكَهَانَةِ، وَقَالُوا عَنه إِنَّهُ شَاعِرٌ وَسَاحِرٌ، وَوَضَعُوا سَلا الجَزُورِ على ظَهرِهِ وهو سَاجِدٌ يُصَلِّي، وَرَمَوهُ بِالحِجارَةِ حَتى أَدمَوا عَقِبَيهِ، وَحَاصَرُوهُ في الشِّعبِ وَتَآمَرُوا لِقَتلِهِ، بَل لم يَزَالُوا به حتى أَخرجُوهُ مِن أَحَبِّ البِقَاعِ إِلَيهِ وَأَبعَدُوهُ عنها، وَمَنَعُوهُ مِن دُخُولِها لِعِبادَةِ رَبِّهِ وَزَيَارَةِ بَيتِهِ، ثم جَيَّشُوا الجُيُوشَ لِحَربِهِ وَجَابَهُوهُ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَّتَهُ وَشَجُّوا وجنَتَهُ وَأَدمَوا وَجهَهُ {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وَتِلكَ سُنَّةُ اللهِ في إِخوانِهِ الذين خَلَوا مِن قَبلِهِ مِنَ الأَنبِيَاءِ وَالمُرسَلِينَ، وَلَن تجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبدِيلا، وَلَن تجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تحويلا، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعضُهُم إِلى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُورًا، وَلَو شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفتَرُونَ} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}.
واليَومَ وفي ظِلِّ حَضَارَةِ الغَرْبِ النَّصرَانيِّ المُتَطَرِّفِ، والذي تَتَغَنَّى بِالتَّقَدُّمِ وَالتَّمَدُّنِ عَوَاصِمُهُ، وَيَتَشَدَّقُ بِالمَعَاني الإِنسَانِيَّةِ مُثَقَّفُوهُ، وَيَدَّعِي الحُرِّيَّةَ وَالتَّسَامُحَ كُبَرَاؤُهُ، تَأَبى الحَقَائِقُ إِلا أَن تَتَكَشَّفَ يَومًا بَعدَ يَومٍ، لِتُظهِرَ مَا تُكِنُّهُ صُدُورُ أولئك القَومِ مِن كُرهٍ وَبَغضَاءَ، وَتُظهِرُ مَا يَنطَوُونَ عَلَيهِ مِن حِقدٍ وَشَحنَاءَ، فَتَتَمَادَى وَسَائِلُ إِعلامِهِم وَيَتَنَاوَبُ مِنهُم أَشخَاصٌ مَوتُورُونَ، على الاستِهزَاءِ بِرَسولِ اللهِ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ وَتَتَكَرَّرُ مِنهُم محاولاتُ الإِسَاءَةِ إِلَيهِ بِأَلفَاظٍ نَابِيَةٍ وَرُسُومٍ بَغِيضَةٍ كَاذِبَةٍ، مُعلِنِينَ ذلك على المَلأِ في صُحُفِهِم وَوَسَائِلِ إِعلامِهِم، ضَارِبِينَ بِعُرضِ الحَائِطِ مَشَاعِرَ أَكثَرَ مِن أَلفِ مِليونِ مُسلِمٍ هُم أَتبَاعُهُ وَأَحبَابُهُ.(2/24)
وَلَئِنْ سَاءَ المُسلِمِينَ وَقَطَّعَ قُلُوبَهُم، وَأَغَاضَهُم وَقَرَّحَ أَكبَادَهُم، ما نُشِرَ في تِلكَ الصُّحُفِ خِلالَ الأَشهُرِ الماضِيَةِ، فَإِنَّ مِن عَقِيدَةِ أَهلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، أَنَّ اللهَ لم يَخْلُقْ شَرًّا مَحْضًا، بل كما قال ـ سبحانَه ـ: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فقد تَضَمَّنَ ذلك الشَّرُّ خَيرًا، وَأَظهَرَ ذلك السُّوءُ حُسنًا، وَلَو لم يَكُنْ إِلا أَنِ انكَشَفَتِ الحقِيقَةُ عَن وَجهِ الحَضَارَةِ الغَربِيَّةِ، وَظَهَرَ لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ زَيفُ مَا تَتَشَدَّقُ بِهِ مِن حُبٍّ لِلسَّلامِ، وَبَانَت عَدَاوَةُ النَّصَارَى وَكَذِبُهُم فِيمَا يَزعُمُونَ مِن صَدَاقَةٍ وَمَوَدَّةٍ لِلمُسلِمِينَ، وَاتَّضَحَ أَنَّ مَن يَطلُبُ رِضَاهُم وَيَنشُدُ وُدَّهُم، مُتَطَلِّبٌ في الماءِ جَذوَةَ نَارٍ.
وَصَدَقَ اللهُ إِذْ يَقُولُ: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} فَمَاذَا عَسَى المُغتَرُّونَ مِن قَومِنَا يَقُولُونَ؟ مَاذَا عَسَى أُغَيْلِمَةُ الصَّحَافَةِ وَسُفَهَاءُ الإِعلامِ يَكتُبُونَ؟ أَينَ الذين كانوا يُلمِّعُونَ الغَرْبَ تحتَ شِعَارِ (الآخَرِ) سَتْرًا لِلكَافِرِ؟! ألا إِنَّ الحقِيقَةَ قَد تجلَّتْ وَانكَشَفَتْ ! فَلْيَصمُتْ مَن كانوا يُنَادُونَ بِاحتِرَامِ (الآخَرِ) ! وَلْيَلْقَمْ حَجَرًا مَن كَانوا يَوَدُّونَ لَو صَمَتَ دُعَاةُ الإِسلامِ، مُنادِينَ بِـ (حُرِّيَّةِ الفِكرِ) بَل (حُرِّيَّةِ الكُفْرِ) ! إِذَا تَكَلَّمَ صَادِقٌ نَصَبُوا لَهُ العِدَاءَ، وَإِنْ تَبَجَّحَ كَافِرٌ سَكَتُوا وَكَأَنَّ الأَمرَ لا يَعنِيهِم. هَاهُو الكَافِرُ الذي سمَّوهُ (الآخَرَ) في مُحاوَلَةٍ لِتَميِيعِ المُصطَلَحَاتِ الشَّرعِيَّةِ، وَإِضعَافِ عقيدة البَرَاءِ في نُفُوسِ المُسلِمِينَ، هَا هُوَ ذلكم (الآخَرُ) يَتَطَاوَلُ على دِينِ اللهِ وَيَستَهزِئُ بِرَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ فماذا عَسَاهُم فَاعِلِينَ؟
إِنَّ هذا (الآخَرَ) الذي تَوَدَّدَ لَهُ بَعضُ سُفَهَاءِ المُسلِمِينَ وَطَلَبُوا رِضَاهُ، لم يَقبَلْهُم مِن قَبلُ، وَلَن يَقبَلَهُم بَعدُ، لَن يُحِبَّهُم وَلَن يُقَدِّرَهُم، وَلَن يَذهَبَ ما في صَدرِهِ عَلَيهِم، حتى يجتَمِعَ الماءُ والنَّارُ، وَحتى يَلتَقِيَ الضَّبُّ وَالحُوتُ، ولا يُقَالُ هذا رَجمًا بِالغَيبِ وَلا ادِّعَاءً كَاذِبًا، بل هُوَ مَا أَخبرَ اللهُ بِهِ في مُحكَمِ كِتَابِهِ، إِذْ قَالَ ـ سبحانَه ـ: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ، قُلْ مُوتُوا بِغَيظِكُمْ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} إنها عَدَاوَةٌ مُتَأَصِّلَةٌ وَإِحَنٌ مُنعَقِدَةٌ، لا يُذهِبُها زَمَانٌ ولا يُعالِجُها دَوَاءٌ، وَلا تَهدَأُ مَهمَا قَدَّمَ المسلمون مِن تَنَازُلاتٍ عَن دِينِهِم أَو مَيَّعُوا أَحكَامَ عَقِيدَتِهِم.
وَممَّا يُستَفَادُ مِن هَذِهِ الأَحدَاثِ ـ أيها المسلمون ـ تميُّزُ الطَّيِّبِ مِنَ الخَبِيثِ، وَظُهُورُ الصَّادِقِ مِنَ الكَاذِبِ، قال ـ سبحانَه ـ: {مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُم عَلَيهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، ثم إِنَّ في الغَربِ مُنصِفِينَ، فَقَد تُثِيرُهُم تِلكَ الحَملاتُ الشَّعوَاءُ وَتَحمِلُهُم على طَلَبِ الحَقَائِقِ، فَيَهدِي اللهُ مِنهُم رِجالاً وَنِسَاءً فَيَحمِلُونَ الإِسلامَ في بِلادِهِم، وَ((إِنَّ اللهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفَاجِرِ)).(2/25)
وَمَا قِصَّةُ إِسلامِ حمزَةَ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ ـ رضي اللهُ عنه ـ عنَّا بِبَعِيدٍ، فقد كان سَبَبُ إِسلامِهِ استِخفَافَ أبي جَهلٍ بِرَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ إِذْ مَرَّ بِرَسولٍ اللهِ يَومًا عِندَ الصَّفَا، فَآذَاهُ وَنَالَ مِنهُ، وَرَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ سَاكِتٌ وَلا يُكَلِّمُهُ، ثم ضَرَبَهُ أَبُو جَهلٍ بِحَجَرٍ في رَأسِهِ فَشَجَّهُ، حتى نَزَفَ مِنهُ الدَّمُ، ثم انصَرَفَ عنه إلى نادِي قُرَيشٍ عِندَ الكَعبَةِ، فَجَلَسَ مَعَهُم، وَكَانَت مَولاةٌ لِعَبدِاللهِ بنِ جدعانَ في مَسكَنٍ لها على الصَّفَا تَرَى ذلك، وَأَقبَلَ حمزَةُ مِنَ القَنصِ مُتَوَشِّحًا قَوسَهُ، فَأخَبرتْهُ المَولاةُ بما رَأَت مِن أَبي جَهلٍ، فَغَضِبَ وَخَرَجَ يَسعَى، لم يَقِفْ لأَحَدٍ حتى دَخَلَ المَسجِدَ وَفِيهِ أَبو جَهلٍ، فَقَامَ على رَأسِهِ، وقال له: يَا مُصفِرَ استِهِ، تَشتُمُ ابنَ أَخِي وَأَنَا على دِينِهِ؟ ثم ضَرَبَهُ بِالقَوسِ فَشَجَّهُ شَجَّةً مُنكَرَةً، فَثَارَ رِجَالٌ مِن بني مخزُومٍ، وَثَارَ بَنُو هاشِمٍ، فَقَالَ أَبو جَهلٍ: دَعُوا أَبَا عِمَارَةَ، فَإِني سَبَبْتُ ابنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا.
ثم شَرَحَ اللهُ صَدرَ حمزَةَ للإِسلامِ، فَاستَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقى، واعتَزَّ بِهِ المسلمون أَيَّمَا اعتِزَازٍ، وكان إِسلامُهُ نَصرًا عَظِيمًا للإِسلامِ، وَكَانَت تِلكَ المَسَبَّةُ وذلك الاستخفافُ مِن أبي جَهلٍ، سَبَبًا في النَّكبَةِ وَالخِزيِ وَالذُّلِّ لِلطُّغَاةِ المُعتَدِينَ.
وَإِنَّا لَنَرَى أَنَّ هذا الاستِخفَافَ وَالاستِهزَاءَ مِن هؤلاءِ الطُّغَاةِ في صُحُفِهِم وَوَسَائِلِ إِعلامِهِم، لَبِدَايَةُ نَصرٍ لِلإِسلامِ وَالمُسلِمِينَ، وَإِنَّ بَشَائِرَ النَّصرِ لَتَلُوحُ في الأُفُقِ... وإِنَّ مَا يُقالُ أَو يُثَارُ ضِدَّ الإِسلامِ أَو ضِدَّ نَبيِّهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ لَيَسُوءُ كُلَّ مُسلِمٍ وَيُحزِنُهُ ويُغضِبُهُ.. إِلا أَنَّ هذَا الشَّرَّ لا يَخلُو مِن خَيرٍ، هُم يُريدُون أَمرًا، وَالله يُرِيدُ أَمرًا {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ، وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ}.
لَقَد دَبَّرَ أَسلافُهُم مِن قَبلِهِم وَمَكرُوا، وَأعمَلُوا أَفكَارَهُم وَخَطَّطُوا، وَأَجَالُوا آرَاءَهُم وَتَآمَرُوا، وَابتَغَوُا الفِتنَةَ وَقَلَّبُوا الأُمُورَ، وَاستَهزَؤُوا وَخَاضُوا، فَأَبْطَلَ اللهُ سَعيَهُم، وَرَدَّ كَيدَهُم في نحُورِهِم، وحَاقَ بهم مَكرُهُم، وَنَصَرَ اللهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَه، قال ـ سبحانَه ـ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} وقال تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.
* * *
أما بعدُ، فاتَّقُوا اللهَ تعالى وأطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ ولا تَعصُوهُ.
أيها المسلمون، إِنَّهُ وَإِنِ استَهزَأَت صُحُفٌ غَربِيَّةٌ بِالحَبِيبِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ وَسَخِرَت مِنهُ، فَإِنَّ ذلك لَحَسرَةٌ عَلَيهِم مَا بَعدَهَا حَسرَةٌ، وَبُؤسٌ لهم مَا بَعدَهُ بُؤسٌ، إِنَّهُ لَمُؤذِنٌ بِخَرَابِ دِيَارِهِم وَتَمَزُّقِ مُلكِهِم وَذَهَابِ دَولَتِهِم، وَصَدَقَ اللهُ إِذْ يَقُولَ: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ، مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}.
لَقَد بَعَثَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ رَسَائِلَ إلى كِسرَى مَلِكِ الفُرسِ وَإِلى قَيصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، وَكِلاهما لم يُسْلِمْ ولم يَتَّبِعِ الهُدَى، لَكِنَّ قَيصَرَ أَكرَمَ كِتَابَ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ وَأكرَمَ رَسولَهُ، فَثَبَتََ مُلكُهُ، وَاستَمَرَّ في الأَجيَالِ اللاحِقَةِ، وَأَمَّا كِسرَى فَمَزَّقَ كِتَابَ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ واستَهزَأَ بِهِ، فَقَتَلَهُ اللهُ بَعدَ قَلِيلٍ، وَمَزَّقَ مُلكَهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، ولم يَبقَ للأَكَاسِرَةِ مُلكٌ ولم تَقُمْ لهم قَائِمَةٌ.(2/26)
فَأَبشِرُوا ـ أيها المسلمون ـ وَتَفَاءَلُوا، ولا تَيأَسُوا مِن نَصرِ اللهِ وَلا تَقنَطُوا، فَإِنها قَضِيَّةُ وَقتٍ لا أَقَلَّ وَلا أَكثَرَ، يَقُولُ شَيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ ـ رحمه اللهُ ـ: إِنَّ اللهَ مُنتَقِمٌ لِرَسولِهِ ممَّن طَعَنَ عَلَيهِ وَسَبَّهُ، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكَاذِبِ، إِذَا لم يُمكِنِ النَّاسَ أَن يُقِيمُوا عَلَيهِ الحَدَّ، وَنَظِيرُ هذا ما حَدَّثَنَاهُ أَعدَادٌ مِنَ المُسلِمِينَ العُدُولِ، أَهلِ الفِقهِ وَالخِبرَةِ، عَمَّا جَرَّبُوهُ مَرَّاتٍ متعددةٍ، في حَصْرِ الحُصُونِ وَالمَدَائِنِ التي بِالسَّوَاحِلِ الشَّامِيَّةِ، لمَّا حَصَرَ المسلمون فيها بَني الأَصفَرِ في زَمانِنا، قالوا: كُنَّا نحنُ نَحْصُرُ الحِصْنَ أَوِ المدينةَ الشَّهرَ أَو أَكثَرَ مِنَ الشَّهرِ وَهُو ممتَنِعٌ عَلَينَا، حتى نَكَادُ نَيأَسُ مِنهُ، حتى إِذَا تَعَرَّضَ أَهلُهُ لِسَبِّ رَسولِ اللهِ وَالوَقِيعَةِ في عِرضِهِ، تَعَجَّلْنَا فَتحَهُ وَتيَسَّرَ، وَلم يَكَدْ يَتَأَخَّرُ إِلا يَومًا أَو يَومَينِ أَو نحوَ ذَلك، ثم يُفتَحُ المَكانُ عُنوَةً، ويَكُونُ فِيهِم مَلحَمَةٌ عَظِيمَةٌ، قَالوا: حتى إِنْ كُنَّا لَنَتَبَاشَرُ بتَِعجِيلِ الفَتحِ إِذَا سَمِعنَاهُم يَقَعُونَ فيه، مَعَ امتِلاءِ القُلُوبِ غَيظًا عَلَيهِم بما قَالوا فِيهِ.. انتهى كلامُهُ.
وفي الصحيحِ عنِ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ قال: ((يَقُولُ اللهُ تعالى: مَن عَادَى لي وَليًّا، فَقَد آذنتُهُ بِالحَربِ)) فَكيفَ بِمَن عَادَى سَيِّدَ الأَولِيَاءِ؟ كَيفَ بِمَن استهزأَ سَيِّدَ الأَنبِيَاءَ؟ الذي أَمَرَ اللهُ تعالى بِتَعظِيمِهِ وَتَوقِيرِهِ، وَعَلَّقَ الفَلاحَ على نُصرتِهِ، وَأخبرَ أَنَّ مَن لم يَنصُرْهُ فَلَيس مِنَ المُفلِحِينَ، وَأَنَّ مَن آذَاهُ وَشَاقَّهُ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَأَنَّهُ ـ سبحانَه ـ كافِيهِ وَنَاصِرُهُ وَعَاصِمُهُ، فقال تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} وقال ـ سبحانَه ـ: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وقال ـ جل وعلا ـ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} وقال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} وقال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} وقال تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}.
عنِ ابنِ مسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال: بَينَمَا النبيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ يُصلِّي عِندَ البَيتِ، وأبو جهلٍ وأصحابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إذا قال بعضُهُم لِبَعضٍ: أَيُّكُم يجِيءُ بِسَلا جَزُورِ بني فُلانٍ، فَيَضَعَهُ على ظَهرِ محمدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانبَعَثَ أَشقَى القومِ فجاء به، فَنَظَرَ حتى سَجَدَ النبيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ وَوَضَعَهُ على ظَهرِهِ بَينَ كَتِفَيهِ، وَأَنَا أَنظُرُ لا أُغَيِّرُ شَيئًا، لَو كَان لي مَنَعَةٌ، قال: فَجَعَلُوا يَضحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعضُهُم على بَعضٍ، وَرَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ ساجدٌ لا يَرفَعُ رَأسَهُ، حتى جاءته فَاطِمَةُ، فَطَرَحَت عَن ظَهرِهِ، فَرَفَعَ رَأسَهُ ثم قال: ((اللهم عَلَيكَ بِقُريشٍ)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيهِم إِذْ دَعَا عَلَيهِم. قال: وكانوا يَرونَ أَنَّ الدَّعوَةَ في ذلك البَلَدِ مُستَجَابَةٌ. ثم سمَّى: اللهم عليك بأبي جهلٍ، وعليك بِعُتبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وَشَيبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وَالوَلِيدِ بنِ عُتبَةَ، وَأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، وَعُقبَةَ بنِ أَبي مُعَيطٍ. وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَم نحفَظْهُ، قال: فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ، لَقَد رَأَيتُ الذين عَدَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ صَرعَى في القَلِيبِ قَلِيبِ بَدرٍ.(2/27)
وعن أنسِ بنِ مالكٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال: كان رَجُلٌ نَصرَانيٌّ فَأَسلَمَ وَقَرَأَ البَقَرَةَ وآلَ عِمرَانَ، وكان يَكتُبُ لِلنَّبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ فَعَادَ نَصرَانِيًّا، وكان يَقُولُ: لا يَدرِي محمدٌ إلا ما كَتَبتُ له، فَأَمَاتَهُ اللهُ فَدَفنُوهُ، فَأَصبَحَ وَقَد لَفَظَتْهُ الأَرضُ، فقالوا: هذا فِعلُ محمدٍ وأَصحابِهِ لمَّا هَرَبَ مِنهُم، نَبَشُوا عن صاحبِنا فَأَلقَوهُ، فَحَفَرُوا له فَأَعمَقُوا له في الأَرضِ ما استَطَاعُوا، فَأَصبَحُوا وَقَد لَفَظَتْهُ الأَرضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيسَ مِنَ النَّاسِ فَأَلقَوه.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أيها المسلمون ـ وانصُرُوا رَسولَكُم وَذُبُّوا عَن عِرضِهِ بما تَستَطِيعُون، هُبُّوا للانتِقَامِ لَهُ كُلٌّ بِحَسَبِ قُدرَتِهِ وَاستِطَاعَتِهِ، اِقرَؤُوا سَيرَتَهُ، وَانشُرُوها مِن خِلالِ الوَسَائِلِ المُتَاحَةِ، بِالمَقَالَةِ وَالمَطوِيَّةِ، وَالنَّشرَةِ وَالكِتَابِ، وَالبَرَامِجِ المَرئِيَّةِ وَالمَسمُوعَةِ، مِن خِلالِ المَدَارِسِ وَالمَسَاجِدِ، في البُيُوتِ وَالمَحَافِلِ. قِفُوا على تَفَاصِيلِ سَيرتِهِ، وَتَأَمَّلُوا دَقَائِقَ سُنَّتِهِ، فَهُوَ أَعظَمُ رَجُلٍ في التاريخِ، وَهُوَ مِنَّا وَنحنُ مِنهُ، وَقَد فُزنَا بِهِ وَشَرُفنَا بِالنَّسبَةِ إِلَيهِ، فَلا يَلِيقُ بِنَا أَن نجهَلَ تَاريخَهُ وَسِيرتَهُ وَسُنَّتَهُ.
ثم عَلَيكُم بِتَفعِيلِ سِلاحِ المُقَاطَعَةِ لِمُنتَجَاتِ هذِهِ الدُّوَلِ التي سُبَّ فِيهَا وَاستُهزِئَ بِهِ في صُحُفِها، فَذَلِكَ مِن أَقَلِّ مَا يجِبُ نحوَهُ ـ عَلَيهِ الصلاةُ والسلامُ ـ وَارفَعُوا إِلى اللهِ أَكُفَّ الضَّرَاعَةِ أَن يُعِزَّ دِينَهُ وَيُعلِيَ كَلِمَتَهُ، وَأَن يُذِلَّ الكُفرَ وَيَمحَقَ الكَافِرِينَ، وَأَجزِلُوا الدُّعَاءَ وَأَخلِصُوهُ، لِوُلاةِ أَمرِنا، حَيثُ سَحَبُوا سَفِيرَهُم مِن تِلكَ البِلادَ، احتجاجًا منهم ـ وفقهم اللهُ ـ على استِهزَاءِ أَولئك بِرَسولِ اللهِ، فَادعُوا لهم ولمن قَاطَعَ سِلَعَ أَولئك مِن تُجَّارِنَا ـ وَسَّعَ اللهُ عَلَيهِم ـ وَادعَمُوا ذلك وَاحتَسِبُوا الأَجرَ مِن رَبَّكُم
---------------
12.أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
ما تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الدنيا، وإنما تمنى ما له علاقة بمنازل الآخرة، بل برفيع المنازل، وعالي الدرجات.
فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل. رواه البخاري ومسلم.
هذه كانت أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت النفوس كبار *** تعبت في مرادها الأجسامُ
أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشجع الشجعان حتى إنه ليحتمي به صناديد الأبطال عند اشتداد النِّزال.
قال البراء رضي الله عنه: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منّا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
وقال عليّ رضي الله عنه: كنا إذا احمرّ البأس، ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه. رواه الإمام أحمد وغيره.
من هنا كانت أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم عالية، كانت منزلة رفيعة، ألا وهي الشهادة في سبيل الله.
وليست مرة بل مرّات.
تأمل:
((والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)). وفي رواية للبخاري: ((والذي نفسي بيده وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا)).
وما ذلك إلا لكرامة الشهيد والشهادة على الله.
ولذا لما قُتِل من قُتِل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ولقوا ربهم تبارك وتعالى، فسألهم: ماذا يُريدون ما اختاروا غير العودة للدنيا من أجل أن يُقتلوا في سبيل الله مرة ثانية.
لما قُتل عبد الله بن عمرو بن حرام يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جابر ألا أخبرك ما قال الله عز وجل لأبيك ؟ قلت: بلى. قال: ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وكلّم أباك كفاحا، فقال: يا عبدي تمنّ عليّ أعطك. قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية ! قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله عز وجل هذه الآية {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه.(2/28)
وقال عليه الصلاة والسلام: لما أصيب إخوانكم بأُحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب. فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات على رسوله {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. رواه الإمام أحمد وأبو داود.
فأي كرامة يُكرم الله عز وجل بها الشهيد الذي قُتِل في سيل الله لإعلاء كلمة الله ؟
قال عليه الصلاة والسلام:
للشهيد عند الله عز وجل سبع خصال:
يُغفر له في أول دفعة من دمه.
ويرى مقعده من الجنة.
ويُحلى حلة الإيمان.
ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين.
ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر.
ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها.
ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه. رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وهو في صحيح الجامع.
فأي كرامة فوق هذه الكرامة ؟
وأي فضل فوق هذا الفضل سوى رؤية وجه الرب سبحانه وتعالى ؟
ولما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة. رواه النسائي.
تلك كانت أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عليه الصلاة والسلام لا يتمنى إلا ما كان يُقرّبه إلى الله عز وجل.
فهل نتمنى ما تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
أما إنها لو كانت أمنية صادقة لكفى.
قال صلى الله عليه وسلم: ((من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق)). رواه مسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه. رواه مسلم.
وأختم بوصية الصِّدِّيق رضي الله عنه: احرص على الموت توهب لك الحياة.
وإن تعجب فاعجب لمن قال تلك الكلمة ؟
لقد قالها أبو بكر رضي الله عنه لسيف الله المسلول رضي الله عنه.
وبقول الخنساء:
نهين النفوس وهَوْن النفوس *** يوم الكريهة أوقى لها
وما أروع قول الحصين المرّي:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياة مثل أن أتقدما
---------------
13.الوصف الكامل للرسول صلى الله عليه وسلم
من موقع مجلة السنة
قبل أن نبدأ هل تعلم كم هو مقدار ما ستجنيه من إحالتك لهذه الرسالة بعد قراءتها ولو لقارئ واحد من بعدك؟
- وردت (صلى الله عليه وسلم) في هذا المقال مائة واثنا عشرة مرة، وهذا معناه، أن الله جل وعلا سيصلي عليك بها ألفاً ومائة وعشرين مرة، وسيصلي عليك كل ملك مثلها، ملائكة لا يعلم عددهم إلا الخالق جل شأنه عالم الغيب والشهادة.
- وردت آية من القرآن الكريم في هذا المقال بلغت عدد حروفها ثلاث وستين حرفاً، والحرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها، وهذا يعني ستمائة وثلاثين حسنة.
- اعلم أن كل من سيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الرسالة ويكون سببها قراءة هذه الرسالة، فإن حسناتك منها وصلوات ربك وملائكته عليك في تصاعد مستمر.
تخيل أن تنتشر هذه الرسالة من بعدك تواتراً وتصل إلى مائة ألف مسلم على الأقل؟ فماهي غنيمتك من ذلك؟ سأجعل حساب ذلك لك.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
صفة لونه:
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أزهر اللون، ليس بالأدهم و لا بالأبيض الأمهق - أي لم يكن شديد البياض والبرص - يتلألأ نوراً).
صفة وجهه:
كان صلى الله عليه وسلم أسيل الوجه مسنون الخدين ولم يكن مستديراً غاية التدوير، بل كان بين الاستدارة والإسالة هو أجمل عند كل ذي ذوق سليم. وكان وجهه مثل الشمس والقمر في الإشراق والصفاء، مليحاً كأنما صيغ من فضة لا أوضأ ولا أضوأ منه وكان صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر. قال عنه البراء بن عازب: (كان أحسن الناس وجهًا و أحسنهم خلقاً).
صفة جبينه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيل الجبين). الأسيل: هو المستوي. أخرجه عبد الرازق والبيهقي وابن عساكر. وكان صلى الله عليه وسلم واسع الجبين أي ممتد الجبين طولاً وعرضاً، والجبين هو غير الجبهة، هو ما اكتنف الجبهة من يمين وشمال، فهما جبينان، فتكون الجبهة بين جبينين. وسعة الجبين محمودة عند كل ذي ذوق سليم. وقد صفه ابن أبي خيثمة فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى الجبين، إذا طلع جبينه بين الشعر أو طلع من فلق الشعر أو عند الليل أو طلع بوجهه على الناس، تراءى جبينه كأنه السراج المتوقد يتلألأ).
صفة حاجبيه:
كان حاجباه صلى الله عليه وسلم قويان مقوسان، متصلان اتصالاً خفيفاً، لا يرى اتصالهما إلا أن يكون مسافراً وذلك بسبب غبار السفر.
صفة عينيه:(2/29)
كان صلى الله عليه وسلم مشرب العينين بحمرة، وقوله مشرب العين بحمرة: هي عروق حمر رقاق وهي من علاماته صلى الله عليه وسلم التي في الكتب السالفة. وكانت عيناه واسعتين جميلتين، شديدتي سواد الحدقة، ذات أهداب طويلة - أي رموش العينين - ناصعتي البياض وكان صلى الله عليه وسلم أشكل العينين. قال القسطلاني في المواهب: الشكلة بضم الشين هي الحمرة تكون في بياض العين وهو محبوب محمود. وقال الزرقاني: قال الحافظ العراقي: هي إحدى علامات نبوته صلى الله عليه وسلم، ولما سافر مع ميسرة إلى الشام سأل عنه الراهب ميسرة فقال: في عينيه حمرة؟ فقال: ما تفارقه، قال الراهب: هو شرح المواهب. وكان صلى الله عليه وسلم (إذا نظرت إليه قلت أكحل العينين وليس بأكحل) رواه الترمذي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت عيناه صلى الله عليه وسلم نجلاوان أدعجهما - والعين النجلاء الواسعة الحسنة والدعج: شدة سواد الحدقة، ولا يكون الدعج في شيء إلا في سواد الحدقة - وكان أهدب الأشفار حتى تكاد تلتبس من كثرتها). أخرجه البيهقي في الدلائل وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق.
صفة أنفه:
يحسبه من لم يتأمله صلى الله عليه وسلم أشماً ولم يكن أشماً وكان مستقيماً، أقنى أي طويلاً في وسطه بعض ارتفاع، مع دقة أرنبته والأرنبة هي ما لان من الأنف.
صفة خديه:
كان صلى الله عليه وسلم صلب الخدين. وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده). أخرجه ابن ماجه وقال مقبل الوادي: هذا حديث صحيح.
صفة فمه وأسنانه:
قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشنب مفلج الأسنان). الأشنب: هو الذي في أسنانه رقة وتحدد. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والترمذي في الشمائل وابن سعد في الطبقات والبغوي في شرح السنة. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضليع الفم (أي واسع الفم) جميله، وكان من أحسن عباد الله شفتين وألطفهم ختم فم. وكان صلى الله عليه وسلم وسيماً أشنب - أبيض الأسنان مفلج أي متفرق الأسنان، بعيد ما بين الثنايا والرباعيات- أفلج الثنيتين - الثنايا جمع ثنية بالتشديد وهي الأسنان الأربع التي في مقدم الفم، ثنتان من فوق وثنتان من تحت، والفلج هو تباعد بين الأسنان - إذا تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه، - النور المرئي يحتمل أن يكون حسياً كما يحتمل أن يكون معنوياً فيكون المقصود من التشبيه ما يخرج من بين ثناياه من أحاديثه الشريفة وكلامه الجامع لأنواع الفصاحة والهداية).
صفة ريقه:
لقد أعطى الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم خصائص كثيرة لريقه الشريف ومن ذلك أن ريقه صلى الله عليه وسلم فيه شفاء للعليل، ورواء للغليل وغذاء وقوة وبركة ونماء، فكم داوى صلى الله عليه وسلم بريقه الشريف من مريض فبرىء من ساعته بإذن الله. فقد جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلهم يرجو أن يعطاها ، فقال صلى الله عليه وسلم: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه. فأتي به وفي رواية مسلم: قال سلمة: فأرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي، فجئت به أقوده أرمد فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، فبرىء كأنه لم يكن به وجع). وروى الطبراني وأبو نعيم أن عميرة بنت مسعود الأنصارية وأخواتها دخلن على النبي صلى الله عليه وسلم يبايعنه، وهن خمس، فوجدنه يأكل قديداً (لحم مجفف)، فمضغ لهن قديدة، قالت عميرة: ثم ناولني القديدة فقسمتها بينهن، فمضغت كل واحدة قطعة فلقين الله تعالى وما وجد لأفواههن خلوف، أي تغير رائحة فم. ومما يروى في عجائب غزوة أحد، ما أصاب قتادة رضي الله عنه بسهم في عينه قد فقأتها له، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تدلت عينه، فأخذها صلى الله عليه وسلم بيده وأعادها ثم تفل بها ومسح عليها وقال (قم معافى بإذن الله) فعادت أبصر من أختها، فقال الشاعر (اللهم صل على من سمى ونمى ورد عين قتادة بعد العمى).
صفة لحيته:(2/30)
(كان رسول الله صلى الله عليه حسن اللحية)، أخرجه أحمد وصححه أحمد شاكر. وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، - والكث: الكثير منابت الشعر الملتفها - وكانت عنفقته بارزة، وحولها كبياض اللؤلؤ، في أسفل عنفقته شعر منقاد حتى يقع انقيادها على شعر اللحية حتى يكون كأنه منها)، أخرجه أبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق وابن أبي خيثمة في تاريخه. وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: (كان في عنفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرات بيض). أخرجه البخاري. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: (لم يختضب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان البياض في عنفقته). أخرجه مسلم. (وكان صلى الله عليه وسلم أسود كث اللحية، بمقدار قبضة اليد، يحسنها ويطيبها، أي يضع عليها الطيب. وكان صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته ويكثر القناع كأن ثوبه ثوب زيات). أخرجه الترمذي في الشمائل والبغوي في شرح السنة. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم حف الشارب وإعفاء اللحية.
صفة رأسه:
كان النبي صلى الله عليه وسلم ذا رأس ضخم.
صفة شعره:
كان صلى الله عليه وسلم شديد السواد رجلاً، أي ليس مسترسلاً كشعر الروم ولا جعداً كشعر السودان وإنما هو على هيئة المتمشط، يصل إلى أنصاف أذنيه حيناً ويرسله أحياناً فيصل إلى شحمة أذنيه أو بين أذنيه وعاتقه، وغاية طوله أن يضرب منكبيه إذا طال زمان إرساله بعد الحلق، وبهذا يجمع بين الروايات الواردة في هذا الشأن، حيث أخبر كل واحدٍ من الرواة عما رآه في حين من الأحيان. قال الإمام النووي: (هذا، ولم يحلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه (أي بالكلية) في سني الهجرة إلا عام الحديبية ثم عام عمرة القضاء ثم عام حجة الوداع). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير شعر الرأس راجله)، أخرجه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح. ولم يكن في رأس النبي صلى الله عليه وسلم شيب إلا شعيرات في مفرق
رأسه، فقد أخبر ابن سعيد أنه ما كان في لحية النبي صلى الله عليه وسلم ورأسه إلا سبع عشرة شعرة بيضاء وفي بعض الأحاديث ما يفيد أن شيبه لا يزيد على عشرة شعرات وكان صلى الله عليه وسلم إذا ادهن واراهن الدهن، أي أخفاهن، وكان يدهن بالطيب والحناء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد)، أخرجه البخاري ومسلم. وكان رجل الشعر حسناً ليس بالسبط ولا الجعد القطط، كما إذا مشطه بالمشط كأنه حبك الرمل، أو كأنه المتون التي تكون في الغدر إذا سفتها الرياح، فإذا مكث لم يرجل أخذ بعضه بعضاً، وتحلق حتى يكون متحلقاً كالخواتم، لما كان أول مرة سدل ناصيته بين عينيه كما تسدل نواصي الخيل جاءه جبريل عليه السلام بالفرق ففرق. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت إذا أردت أن أفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم صدعت الفرق من نافوخه وأرسل ناصيته بين عينيه). أخرجه أبو داود وابن ماجه. وكان صلى الله عليه وسلم يسدل شعره، أي يرسله ثم ترك ذلك وصار يفرقه، فكان الفرق مستحباً، وهو آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم. وفرق شعر الرأس هو قسمته في المفرق وهو وسط الرأس. وكان يبدأ في ترجيل شعره من الجهة اليمنى، فكان يفرق رأسه ثم يمشط الشق الأيمن ثم الشق الأيسر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترجل غباً، أي يمشط شعره ويتعهده من وقت إلى آخر. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في طهوره، أي الابتداء باليمين، إذا تطهر وفي ترجله إذا ترجل وفي انتعاله إذا انتعل). أخرجه البخاري.
صفة عنقه ورقبته:
رقبته فيها طول، أما عنقه فكأنه جيد دمية (الجيد: هو العنق، والدمية: هي الصورة التي بولغ في تحسينها). فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم إبريق فضة)، أخرجه ابن سعد في الطبقات والبيهقي. وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما قالت: (كان أحسن عباد الله عنقاً، لا ينسب إلى الطول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه للشمس والرياح فكأنه إبريق فضة يشوب ذهباً يتلألأ في بياض الفضة وحمرة الذهب، وما غيب في الثياب من عنقه فما تحتها فكأنه القمر ليلة البدر)، أخرجه البيهقي وابن عساكر.
صفة منكبيه:
كان صلى الله عليه وسلم أشعر المنكبين (أي عليهما شعر كثير)، واسع ما بينهما، والمنكب هو مجمع العضد والكتف. والمراد بكونه بعيد ما بين المنكبين أنه عريض أعلى الظهر ويلزمه أنه عريض الصدر مع الإشارة إلى أن بعد ما بين منكبيه لم يكن منافياً للاعتدال. وكان كتفاه عريضين عظيمين.
صفة خاتم النبوة:(2/31)
وهو خاتم أسود اللون مثل الهلال وفي رواية أنه أخضر اللون، وفي رواية أنه كان أحمراً، وفي رواية أخرى أنه كلون جسده. والحقيقة أنه لا يوجد تدافع بين هذه الروايات لأن لون الخاتم كان يتفاوت باختلاف الأوقات، فيكون تارة أحمراً وتارة كلون جسده وهكذا بحسب الأوقات. ويبلغ حجم الخاتم قدر بيضة الحمامة، وورد أنه كان على أعلى كتف النبي صلى الله عليه وسلم الأيسر. وقد عرف سلمان الفارسي رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخاتم. فعن عبد الله بن سرجس قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزاً ولحماً وقال ثريداً. فقيل له: أستغفر لك النبي؟ قال: نعم ولك، ثم تلى هذه الآية: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) محمد/19. قال: (ثم درت خلفه فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى عليه خيلان كأمثال الثآليل)، أخرجه مسلم. قال أبو زيد رضي الله عنه: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اقترب مني، فاقتربت منه، فقال: أدخل يدك فامسح ظهري، قال: فأدخلت يدي في قميصه فمسحت ظهره فوقع خاتم النبوة بين أصبعي قال: فسئل عن خاتم النبوة فقال: (شعرات بين كتفيه)، أخرجه أحمد والحاكم وقال (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. اللهم كما أكرمت أبا زيد رضي الله عنه بهذا فأكرمنا به يا ربنا يا إلهنا يا من تعطي السائلين من جودك وكرمك ولا تبالي.
صفة إبطيه:
كان صلى الله عليه وسلم أبيض الإبطين، وبياض الإبطين من علامة نبوته إذ إن الإبط من جميع الناس يكون عادة متغير اللون. قال عبد الله بن مالك رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد فرج بين يديه (أي باعد) حتى نرى بياض إبطيه). أخرجه البخاري. وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد جافى حتى يرى بياض إبطيه). أخرجه أحمد وقال الهيثمي في المجمع رجال أحمد رجال الصحيح.
صفة ذراعيه:
كان صلى الله عليه وسلم أشعر، طويل الزندين (أي الذراعين)، سبط القصب (القصب يريد به ساعديه).
صفة كفيه:
كان صلى الله عليه وسلم رحب الراحة (أي واسع الكف) كفه ممتلئة لحماً، غير أنها مع غاية ضخامتها كانت لينة أي ناعمة. قال أنس رضي الله عنه: (ما مسست ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأما ما ورد في روايات أخرى عن خشونة كفيه وغلاظتها، فهو محمول على ما إذا عمل في الجهاد أو مهنة أهله، فإن كفه الشريفة تصير خشنة للعارض المذكور (أي العمل) وإذا ترك رجعت إلى النعومة. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدي أحدهم واحداً واحداً. قال: وأما أنا فمسح خدي. قال: فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جونة عطار). أخرجه مسلم.
صفة أصابعه:
قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سائل الأطراف (سائل الأطراف: يريد الأصابع أنها طوال ليست بمنعقدة). أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والترمذي في الشمائل وابن سعد في الطبقات والحاكم مختصراً والبغوي في شرح السنة والحافظ في الاصابة.
صفة صدره:
كان صلى الله عليه وسلم عريض الصدر، ممتلئ لحماً، ليس بالسمين ولا بالنحيل، سواء البطن والظهر. وكان صلى الله عليه وسلم أشعر أعالي الصدر، عاري الثديين والبطن (أي لم يكن عليها شعر كثير) طويل المسربة وهو الشعر الدقيق.
صفة بطنه:
قالت أم معبد رضي الله عنها: (لم تعبه ثلجه). الثلجة: كبر البطن.
صفة سرته:
عن هند بن أبي هالة رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دقيق المسربة موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك: حديث هند تقدم تخريجه. واللبة المنحر وهو النقرة التي فوق الصدر.
صفة مفاصله وركبتيه:
كان صلى الله عليه وسلم ضخم الأعضاء كالركبتين والمرفقين والمنكبين والأصابع، وكل ذلك من دلائل قوته صلى الله عليه وسلم.
صفة ساقيه:
عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: (وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى بيض ساقيه). أخرجه البخاري في صحيحه.
صفة قدميه:
قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم خمصان الأخمصين مسيح القدمين ينبو عنهما الماء ششن الكفين والقدمين). قوله: خمصان الأخمصين: الأخمص من القدم ما بين صدرها وعقبها، وهو الذي لا يلتصق بالأرض من القدمين، يريد أن ذلك منه مرتفع. مسيح القدمين: يريد أنهما ملساوان ليس في ظهورهما تكسر لذا قال ينبو عنهما الماء، يعني أنه لا ثبات للماء عليها وسشن الكفين والقدمين أي غليظ الأصابع والراحة. رواه الترمذي في الشمائل والطبراني. وكان صلى الله عليه وسلم أشبه الناس بسيدنا إبراهيم عليه السلام، وكانت قدماه الشريفتان تشبهان قدمي سيدنا إبراهيم عليه السلام كما هي آثارها في مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام.
صفة عقبيه:(2/32)
كان رسول صلى الله عليه وسلم منهوس العقبين أي لحمهما قليل.
صفة قامته و طوله:
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربعة من القوم (أي مربوع القامة)، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وكان إلى الطول أقرب. وقد ورد عند البيهقي وابن عساكر أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يماشي أحداً من الناس إلا طاله، ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما فإذا فارقاه نسب إلى الربعة، وكان إذا جلس يكون كتفه أعلى من الجالس. فكان صلى الله عليه وسلم حسن الجسم، معتدل الخلق ومتناسب الأعضاء.
صفة عرقه:
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ (أي كان صافياً أبيضاً مثل اللؤلؤ). وقال أيضاً: (ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم). أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له. وعن أنس أيضاً قال: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (أي نام) عندنا، فعرق وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: عرق نجعله في طيبنا وهو أطيب الطيب). رواه مسلم، وفيه دليل أن الصحابة كانوا يتبركون بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم أم سليم على ذلك. وكان صلى الله عليه وسلم إذا صافحه الرجل وجد ريحه (أي تبقى رائحة النبي صلى الله عليه وسلم على يد الرجل الذي صافحه)، وإذا وضع يده على رأس صبي، فيظل يومه يعرف من بين الصبيان بريحه على رأسه.
ما جاء في اعتدال خلقه صلى الله عليه وسلم:
قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدل الخلق، بادن متماسك، سواء البطن والصدر). أخرجه الطبراني والترمذي في الشمائل والبغوي في شرح السنة وابن سعد وغيرهم. وقال البراء بن عازب رضي الله عنه: (كان رسول الله أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً). أخرجه البخاري ومسلم.
الرسول المبارك صلى الله عليه وسلم بوصفٍ شامل:
يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه ومولاه ودليلهما، خرجوا من مكة ومروا على خيمة امرأة عجوز تسمى (أم معبد)، كانت تجلس قرب الخيمة تسقي وتطعم، فسألوها لحماً وتمراً ليشتروا منها، فلم يجدوا عندها شيئاً. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في جانب الخيمة، وكان قد نفد زادهم وجاعوا. وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أم معبد: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد والضعف عن الغنم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بها من لبن؟ قالت: بأبي أنت وأمي، إن رأيت بها حلباً فاحلبها، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الشاة، ومسح بيده ضرعها، وسمى الله جل ثناؤه ثم دعا لأم معبد في شاتها حتى فتحت الشاة رجليها، ودرت. فدعا بإناء كبير، فحلب فيه حتى امتلأ، ثم سقى المرأة حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا (أي شبعوا)، ثم شرب آخرهم، ثم حلب في الإناء مرة ثانية حتى ملأ الإناء، ثم تركه عندها وارتحلوا عنها.
وبعد قليل أتى زوج المرأة (أبو معبد) يسوق عنزاً يتمايلن من الضعف، فرأى اللبن، فقال لزوجته: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاة عازب (أي الغنم) ولا حلوب في البيت!، فقالت: لا والله، إنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، فقال أبو معبد: صفيه لي يا أم معبد، فقالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه (أي مشرق الوجه)، لم تعبه نحلة (أي نحول الجسم) ولم تزر به صقلة (أنه ليس بناحلٍ ولا سمين)، وسيمٌ قسيم (أي حسن وضيء)، في عينيه دعج (أي سواد)، وفي أشفاره وطف (طويل شعر العين)، وفي صوته صحل (بحة وحسن)، وفي عنقه سطع (طول)، وفي لحيته كثاثة (كثرة شعر)، أزج أقرن (حاجباه طويلان ومقوسان ومتصلان)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأجلاهم وأحسنهم من قريب، حلو المنطق، فصل لا تذر ولا هذر (كلامه بين وسط ليس بالقليل ولا بالكثير)، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة (ليس بالطويل البائن ولا بالقصير)، لا يأس من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محشود محفود (أي عنده جماعة من أصحابه يطيعونه)، لا عابس ولا مفند (غير عابس الوجه، وكلامه خالٍ من الخرافة)، فقال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
وأصبح صوت بمكة عالياً يسمعه الناس، ولا يدرون من صاحبه وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين قالا خيمتي أم معبد. هما نزلاها بالهدى واهتدت به فقد فاز من أمسى رفيق محمد. حديث حسن قوي أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.(2/33)
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان، وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر، فإذا هو عندي أحسن من القمر). (إضحيان هي الليلة المقمرة من أولها إلى آخرها). وما أحسن ما قيل في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل. (ثمال: مطعم، عصمة: مانع من ظلمهم).
ما جاء في حسن النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد وصف بأنه كان مشرباً حمرة وقد صدق من نعته بذلك، ولكن إنما كان المشرب منه حمرة ما ضحا للشمس والرياح، فقد كان بياضه من ذلك قد أشرب حمرة، وما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر لا يشك فيه أحد ممن وصفه بأنه أبيض أزهر. يعرف رضاه وغضبه وسروره في وجهه وكان لا يغضب إلا لله، كان إذا رضى أو سر إستنار وجهه فكأن وجهه المرآة، وإذا غضب تلون وجهه واحمرت عيناه. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (استعرت من حفصة بنت رواحة إبرة كنت أخيط بها ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبتها فلم أقدر عليها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبينت الإبرة لشعاع وجهه). أخرجه ابن عساكر والأصبهاني في الدلائل والديلمي في مسند الفردوس كما في الجامع الكبير للسيوطي.
في ختام هذا العرض لبعض صفات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الخلقية التي هي أكثر من أن يحيط بها كتاب لا بد من الإشارة إلى أن تمام الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم هو الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلق بدنه الشريف في غاية الحسن والكمال على وجه لم يظهر لآدمي مثله.
رحم الله حسان بن ثابت رضي الله عنه إذ قال:
خلقت مبرءاً من كل عيب *** كأنك قد خلقت كما تشاء
ويرحم الله القائل:
فهو الذي تم معناه وصورته *** ثم اصطفاه حبيباً باريء النسم
فتنزه عن شريك في محاسنه *** فجوهر الحسن فيه غير منقسم
وقيل في شأنه صلى الله عليه وسلم أيضاً:
بلغ العلى بكماله *** كشف الدجى بجماله
حسنت جميع خصاله *** صلوا عليه وآله
ورحم الله ابن الفارض حيث قال:
وعلى تفنن واصف يفنى *** الزمان وفيه ما لم يوصف
مسألة:
من المعلوم أن النسوة قطعت أيديهم لما رأين يوسف عليه السلام إذ إنه عليه السلام أوتي شطر الحسن، فلماذا لم يحصل مثل هذا الأمر مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل يا ترى سبب ذلك أن يوسف عليه السلام كان يفوق الرسول صلى الله عليه وسلم حسناً وجمالاً؟
الجواب:
صحيح أن يوسف عليه السلام أوتي شطر الحسن ولكنه مع ذلك ما فاق جماله جمال وحسن النبي صلى الله عليه وسلم. فلقد نال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صفات كمال البشر جميعاً خلقاً وخلقاً، فهو أجمل الناس وأكرمهم وأشجعهم على الإطلاق وأذكاهم وأحلمهم وأعلمهم... إلخ هذا من جهة، ومن جهة أخرى وكما مر معنا سابقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلوه الوقار والهيبة من عظمة النور الذي كلله الله تعالى به، فكان الصحابة إذا جلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسهم الطير من الهيبة والإجلال فالطير تقف على الشيء الثابت الذي لا يتحرك. وما كان كبار الصحابة يستطيعون أن ينظروا في وجهه ويصفوه لنا لشدة الهيبة والإجلال الذي كان يملأ قلوبهم وإنما وصفه لنا صغار الصحابة، ولهذا السبب لم يحصل ما حصل مع يوسف عليه السلام.
* * *
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك وابن عبدك وابن أمتك، صفوة خلقك وخليلك الرحمة المهداة، نبيك ورسولك الأمين محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي، مادامت السموات والأرض وبقيت الحياة في هذا الكون، منذ أن خلقت الخلق وإلى أن تقوم الساعة، صلاة وسلاماً ترضيك عنا وتليق بقدره الطاهر عندك، وبالقدر الذي أمرت به بقولك الحق: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}، وأجعلها شاهدة لنا لا علينا، وأغنمنا شفاعته صلى الله عليه وسلم، يوم البعث وساعة الحشر ويوم يقوم الناس من القبور، ولا تحرمنا لذة النظر إليك، وجواره الكريم في جنة الخلد، صلواتك ربي وسلامك عليه وعلى آله وأصحابه أجميعن ونحن معهم يا رب العالمين. آمين.
---------------
14.الحياة الدنيوية لصفوة خلق الله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه
عبدالرحمن بن عبدالخالق
كانت الحياة الدنيوية لأشرف الرسل، وأكرم خلق الله، وخير البرية محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه، مثالاً وبرهاناً أن الله لا يختار الدنيا لأوليائه وأحبابه، وإنما يختار لهم الآخرة {وللآخرة خير لك من الدنيا}.
وكانت كذلك سلسلة متواصلة من الاختبارات والابتلاءات.
فقبل الرسالة نشأ النبي صلى الله عليه وسلم في أسرة فقيرة فقد مات أبوه قبل أن يولد، ولم يترك له من الميراث إلا أمة هي أم أيمن رضي الله عنها.(2/34)
وقد عانت أمه حتى وجدت مرضعاً له، وبقي في كفالة جده عبدالمطلب ثم لم تلبث والدته حتى توفيت وهو طفل صغير، ثم تبعها جده عبدالمطلب، فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى كفالة عمه أبي طالب، الذي كان فقيراً، كثير الأولاد، وهكذا نشأ النبي يتيماً فقيراً قد من الله عليه بالمأوى عند جده، ثم عمه. قال تعالى: {ألم يجدك يتيماً فآوى}.
وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام أجيراً في رعي غنم الأثرياء من أهل مكة فقال: [رعيت الغنم على قراريط لبعض أهل مكة]، والقيراط عمله صغيرة في قيمة الفلس.
ولما شب لم يكن له مال ليتاجر فيه كأهل مكة الذين كانت التجارة هي عملهم الأساس. فإن مكة ليست ببلد زرع، وإنما عيش أهلها على التجارة واستجلاب البضائع، والبيع في أسواق الحج.. وقد عمل النبي صلى الله عليه وسلم بالتجارة مرات قليلة في مال خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. وكان أهل مكة يقارضون بأموالهم. (والقراض أن يعطي رب المال ماله للعامل ليتاجر فيه ثم يكون الربح بينهما وإذا وقعت الخسارة وقعت في المال وخسر العامل عمله)، وهذه المعاملة التي كان أهل الجاهلية يتعاملون بها جاء الإسلام وأقرها، فهي صورة من صورة الشركة في الإسلام.
ولم يتوغل النبي في التجارة، ولا كانت هماً له.
وبعد أن تزوج من خديجة رضي الله عنها، انصرف إلى العزلة والتعبد، فكان يأخذ زاده من طعام وشراب، ويخرج خارج مكة، وقد اختار جبل حراء الذي وجد كهفاً (مغارة) في أعلاه سكنها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يمكث فيها الليالي ذوات العدد حتى إذا فنى الطعام الذي معه، ونفذ الماء رجع إلى مكة مرة ثانية، ثم يكون من شأنه أن يتزود من الطعام والشراب لأيام أخرى يقضيها وحده في غار حراء.
ووجد صلى الله عليه وسلم في هذه الخلوة راحته وسعادته واطمئنان قلبه، وحببت إليه هذه الخلوة والابتعاد عن الناس، ومن كان في مثل هذه الحال فإن الدنيا لا تكون له على بال.
وكان هذا إعداداً من الله له ليحمل بعد ذلك ما لا تستطيع حمله الجبال.
وأتاه الوحي من الله، وحمله الله سبحانه وتعالى رسالته إلى العالمين، وأمره بإبلاغ دينه إلى الناس كافة في الأرض كلها.
وهذه الرسالة تبديل كامل لما عليه الأمم كلها من العقائد والنظم والتشريع والآداب والأخلاق، وفيها إكفار أهل الأرض كلهم: اليهود والنصارى والعرب المشركين والمجوس، وتسفيه لأحلامهم وحكم عليهم بالنار والعذاب والخسران هم ومن مضى من آبائهم إن ظلوا على ما هم عليه من الدين والخلق والسلوك والتشريع..
ومع ضخامة هذه المهمة وثقلها، وتكاليفها الباهظة فإن الله سبحانه وتعالى لم يضع تحت يد النبي صلى الله عليه وسلم كنزاً من المال ينفق منه، ولا وسيلة معجزة خارقة للعادة تحمله هنا وهناك ليبلغ رسالة ربه، بل ولم يرفع عنه السعي الواجب ليكسب عيشه وعيش أولاده، وكان صلى الله عليه وسلم قد رزق بولدين القاسم وعبدالله ماتا سريعاً، وبأربعة من البنات هن زينب،ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، عليهن السلام جميعاً ظللن في كنفه. والبنت ليست كاسبة.
وكان على النبي صلى الله عليه وسلم الذي حمل هذه الأمانة العظمى أن يسعى فيها وأن يجد ويجتهد، فانتهى بذلك عهد السكون والخلوة والسلامة من الناس والبعد عن شرورهم..
يوم الطائف!! وما لقي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم من ماله في هذا الوقت دابة يركبها، ولو حماراً يحمله إلى مكان بعيد عن مكة ليبلغ رسالة ربه، ولما أراد الذهاب إلى الطائف لم يجد إلا قدميه، وعندما رآه أهل الطائف وهم أهل الغنى والثراء، وقد أتاهم من مكة ماشياً، وليس معه أحد.. لا صديق، ولا مرافق، ولا خادم، يقوم بخدمته.. ثم يقول لهم بعد ذلك: [أنا رسول رب العالمين]!!، استنكروا هذا جداً، ولم تتقبل عقولهم المريضة، ونفوسهم الخسيسة أن يكون هذا الذي أمامهم وهو على تلك الحال من الضعف والفقر هو رسول الله حقاً وصدقاً، إذ كيف يكون رسول الله خالق الكون الذي يكلفه بالبلاغ للناس جميعاً، ولا يضع له ولو ردابة في الخدمة ليبلغ عليها رسالة ربه!!(2/35)
وكان من شأنهم ما قصه النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قائلة: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: [لقيت من قومك ما لقيت!! وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذا عرضت نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكلال، فلم يجبني إلى ما أردت -فانطلقت وأنا مهموم- على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب -وهو المسمى بقرن المنازل- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم!! فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد، ذلك!! فما شئت؟! إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين - أي لفعلت، (والأخشبان هما جبلا مكة، أبو قبيس والذي يقابله وهو قعيقعان) - قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئاً].(متفق عليه).
النبي صلى الله عليه وسلم يستدين ثمن الراحلة التي يهاجر عليها إلى المدينة:
ولما أذن الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة بعد أن أجمعت قريش أمرها على قتله، رأت أن هذا هو السبب الوحيد الذي يمكن أن يوقف دعوته، وأن نفيه خارج مكة أو حبسه فيها، لن يمنع من انتشار دعوته في مكة وخارجها.. أقول لما عزم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج مكة وأذن الله له في الخروج منها لم يكن يملك راحلة يركبها، وهو رسول رب العالمين، الذي له ملك السموات والأرضين، ولما عرض النبي صلى الله عليه وسلم أمر الهجرة على الصديق أبي بكر رضي الله عنه، فرح أبو بكر بذلك فرحاً شديداً، وكان يعلم أنه لا بقاء له والرسول صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أن اشتد على المسلمين الأذى وهاجر عامتهم إلى الحبشة، ولم يبق إلا من له عهد مع قريش أو عصبة قوية تحميه، وكان أبو بكر قد اشترى راحلتين من ماله، وكان تاجراً ميسوراً فعرض على النبي صلى الله عليه وسلم إحداهما ليهاجر عليها فقبلها النبي بثمنها.
الصديق يرتب أمر الهجرة خطة ومالاً:
ورتب أبو بكر شأن الهجرة كله، الرواحل، والزاد، ودليل الطريق (عبدالله بن أريقط) وكان غلاماً للصديق، والاختفاء في نواحي مكة حتى يخف الطلب ويأمن الطريق، وكيفية وصول الزاد إليهما، ومعرفة أخبار قريش مدة الاختفاء حتى يخف الطلب، فقد كان رأس أبي بكر مطلوباً مع رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قريش جعلت مائة من الإبل لمن أتاها بالنبي أو صاحبه حياً أو ميتاً.
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على الصديق الذي لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الأرض كلهم ناصر بعد الله إلا هو، الذي رافقه في هجرته جاعلاً حياته مع حياة النبي صلى الله عليه وسلم وروحه دون روحه. قال تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذي كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا...} الآية
وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لا يحمل مالاً ولا متاعاً، والراحلة التي حملته كانت من مال الصديق ديناً على النبي صلى الله عليه وسلم، وحق للنبي صلى الله عليه وسلم قبل موته أن يذكر الصديق مشيداً بمنزلته وفضله فيقول: [إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن] (متفق عليه).
النبي صلى الله عليه وسلم ينزل المدينة بلا مال أو متاع:
ويسكن النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وينزل أولاً ضيفاً على أبي أيوب الأنصاري، ثم يعرض شراء أرض المسجد وكانت خربة فيها قبور لبعض المشركين، وبقايا نخل لا يثمر، فيقول أصحاب الأرض: والله لا نقبل ثمنها إلا من الله!!
فيكون وقفهم هذا أعظم وقف في الإسلام (المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم) ويشتري النبي بجوار المسجد أرضاً يقيم فيها حجرات لزوجاته. كانت الحجرة لا تسعه قائماً يصلي، وتسع امرأته. قالت أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها: (كنت أنام في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي من الليل فإذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما). (متفق عليه) وهذا من ضيق المكان.
فهل تتصور الآن غرفة لا تسع مصل ونائم!!
أنس بن مالك أعظم هدية في الإسلام:
ولما سكن الرسول بيته جاءته أم سليم الأنصارية الصحابة العابدة الفقيهة الحصيفة كاملة الدين والعقل فأهدت له ابنها، وقالت: يا رسول الله هذا خادمك أنس!!، فكان أنس بن مالك رضي الله عنه خادم النبي صلى الله عليه وسلم لعشر سنين!! لم يعرف خادم في الدنيا أشرف ولا أجل ولا أعظم منه فشرف الخادم بشرف المخدوم، وهل أجل وأعظم وأشرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو قدر لنا أن نرى خادم رسول الله لخدمناه لخدمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
منزل بلا أثاث أو رياش:(2/36)
وعاش النبي صلى الله عليه وسلم في منزل لا يعرف الأثاث ولا الرياش، فلم يكن فيه بساط قط، ولا كان يستر حيطانه من الطين شيء من الأصباغ بل ولا تسويه بالملاط.
ولما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم الطائي وهو ملك طيء وسيدهم وحبرهم، وقد علق صليباً من الذهب في صدره، واستضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم ما يقدم لضيفه ليجلس عليه إلا وسادة واحدة من ليف وضعها النبي صلى الله عليه وسلم لضيفه ليجلس عليها، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض!!.
منزل بلا مطبخ ولا نار!!
ولم يعرف بيت النبي صلى الله عليه وسلم مطبخاً قط، ولا كان فيه فرن قط، وكان يمر شهران كاملان ولا يوقد في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم نار قط، وكان يعيشون الشهر والشهرين على الماء والتمر فقط.. قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كنا نتراءى الهلال والهلال والهلال ثلاثة أهلة في شهرين، ولا يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار!! قيل: فما كان طعامكم. قالت: الأسودان: التمر والماء!!!
ولم يكن يجد آل محمد صلى الله عليه وسلم التمر في كل أوقاتهم، بل كان رسول الله يمضي عليه اليوم واليومين وهو لا يجد من الدقل (التمر الرديء) ما يملأ به بطنه.
ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبز الأبيض النقي قط، وسأل عروة بن الزبير رضي الله عنه خالته عائشة رضي الله عنها هل أكل رسول الله خبز النقي؟ فقالت: ما دخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً قط، ولا رأى رسول الله منخلاً قط.. قال: فكيف كنتم تأكلون الشعير؟ قالت: كنا نطحنه ثم نذريه (مع الهواء) ثم نثريه ونعجنه!! ومع ذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشبع من خبز الشعير هذا يومين متتالين حتى لقي الله عز وجل!!
قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتالين حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت تمر الأيام على أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجدون ما يأكلونه لا تمراً ولا شعيراً إلا الماء.
ولقد جاء للنبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أنا ضيفك اليوم!! فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى تسع زوجات عنده، ترد كل واحدة منهن (والله ما عندنا ما يأكله ذو كبير!! والمعنى من طعام يمكن أن يأكله إنسان أو حيوان) فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أخذه إلى المسجد عارضاً ضيافته على من يضيفه من المسلمين فقال: [من يضيف ضيف رسول الله!!]
وأقول: الله أكبر!! رسول رب العالمين، ومن له خزائن السموات والأراضين لا يوجد في بيته خبزة من شعير أو كف من تمر يقدمه لضيفه!!
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد الذي أرسلته رحمة للعالمين وسيداً للبشر أجمعين، وأعليت ذكره في الأولين والآخرين، واحشرني تحت لوائه يوم الدين.
وعاش النبي صلى الله عليه وسلم حياته لم يجلس في طعامه على خوان قط، ولا أكل في (سكرجة) قط (السكرجة: هي الصحون الصغيرة) ولم يعرف لا هو ولا أصحابه المناديل التي يجفف بها الأيدي بعد الطعام قط.
هذه ثياب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
وكان عامة أصحابه لا يجد أحدهم إزاراً ورداءاً معاً، بل عامتهم من كان له إزار لم يكن له رداء، ومن كان له رداء لم يكن له إزار!!
وكان يستحيون من رقة حالهم إذا جلسوا أو مشوا أن تظهر عوراتهم!!
وكان يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلوا وليس لإحدهم إلا الإزار أن يخالف بين طرفيه ويربطه في رقبته على عاتقيه!! حتى لا يسقط إزاره وهو يصلي!!
وفي عهد التابعين رأى أحدهم جابر بن عبدالله الأنصاري يصلي في إزار قد عقده من قبل قفاه!! وثيابه موضوعة على المشجب فقال له: تصلي في إزار واحد؟! فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك!! وأينا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
واختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيش حياته كلها متخففاً من الدنيا، مقبلاً على الآخرة، ولما فتحت له الفتوح، وكان له الخمس من مال بني النضير وخمس الخمس من خيبر، والخمس من فدك وكلها أراض ترد غلات كبيرة جعل كل ذلك في سبيل الله، وجاءته نساؤه يطلبن التوسعة في النفقة، فأنزل الله سبحانه وتعالى عليه: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً}.
ولما نزلت هذه الآية على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلم أن هذا الخيار قد يصعب على بعض زوجاته، وكان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة رضي الله عنها، وكانت في وقت نزول هذه الآية طفلة صغيرة لم تكمل الحادية عشرة من عمرها.
فبدأ النبي بها صلى الله عليه وسلم وقال لها: ((يا عائشة إني عارض عليك أمراً فلا تستعجلي فيه حتى تستأمري أبويك!!)).(2/37)
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن أبويها لا يمكن أن ينصحا لها بفراق النبي صلى الله عليه وسلم!! فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليها الآية وفيها تخيير بين الحياة مع النبي مع التقشف والتخفف من الدنيا، وترك التوسع فيها، وبين الطلاق. قالت: يا رسول الله أفيك أستأمر أبوي!! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة!!
الله أكبر... ما أعظم هذا!! هذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فتاة لم تبلغ الحادية عشرة من عمرها... أي فقه وفهم ورجاحة عقل ودين كانت تحمله هذه الحِصَان الرازن الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها. ثم قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ولكن يا رسول الله لا تخبر أحداً من زوجاتك بالذي اخترته!!
ومرة ثانية أقول الله أكبر... عائشة أم المؤمنين التي اختارت الله ورسوله والدار الآخرة وآثرت الحياة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع الزهد والتقشف والتقلل من الدنيا يظهر فيها كذلك معاني الأنثى الكاملة، والزوجة الغيور المحبة لزوجها التي تريد أن تستأثر به (وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، وترجو أن يسقط في الاختبار غيرها من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم!!
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: ((لا تسألني واحدة منهن عما اخترتيه إلا قلت لها!!)).
نعم المعلم أنت يا رسول الله!! فقد كنت كاملاً في كل نواحيك!!:
فأنت خير زوج لأزواجك، وخير صديق لأصدقائك، وخير صاحب لأصحابك، وخير شريك لشركائك، وخير جار لجيرانك، وفي النهاية خير رسول لأمته. فصلى الله عليك وعلى آلك وأزواجك الطيبين الطاهرين الذين صحبوك في هذه الحياة الدنيا على أتم صحبة، فكانت زوجاتك الطيبات الطاهرات خير النساء، ومن أجل ذلك جعلهن الله أمهات لكل مؤمن بمنزلة الأم الرؤوم الحنون. كما كنت يا رسول الله أباً لكل مؤمن بمنزلة الوالد الرؤوف الرحيم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهن}.
وفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا يوم فارقها وهو في ثوبه الخشن، ومنزله المتواضع، عيشه الكفاف، ولم يترك ديناراً ولا درهماً بل مات وهو مدين بثمن ثلاثين صاعاً من شعير طعاماً لأهل بيته كان قد اشتراها من يهودي ورهنه النبي درعه!!
وأخرجت عائشة رضي الله عنها للناس رداءاً وكساءاً غليظاً فقالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين!!
فسلام الله عليك ورحمته وبركاته عليك يا رسول الله في العالمين
---------------
15.التوازن النفسي والسلوكي في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
د/ خالد سعد النجار
إن الدارس لشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستلف نظره ذلك التوازن الدقيق بين معالمها مما لا يمكن أن تجده في أي بشر سواه، هذا التوازن - الذي يعد من أبرز دلائل نبوته - يتمثل في الكم الهائل من الشمائل ومحاسن الأخلاق التي اجتمعت في شخصيته صلى الله عليه وسلم على نسق متعادل لا تطغى صفة على صفة ولا توظف صفة في موقف لا تحتاجه ولا تليق به بل لكل مقام مقال ولكل حالة لبوسها حتى لا يستطيع ذو عقل أن يقول ليت ما أمر به نهى عنه أو ما نهى عنه أمر به أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه إذ كل منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل النظر، إنه الكمال البشرى الذي يقود المسلمين إلى مزيد من الإعجاب والحب لرسولهم الكريم مفاخرين الدنيا بأسرها أنهم أتباع سيد البشر.
التوازن النفسي في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم:
حقق التوازن النفسي في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم أسمى غاياته فكان ذو نفس سوية تتمتع بمثالية يدركها من له أدنى معرفة بالسلوك النفسي وأبعاده فما كان صلى الله عليه وسلم بالكئيب العبوس الذي تنفر منه الطباع ولا بالكثير الضحك الهزلى الذي تسقط مهابته من العيون ولم يكن حزنه وبكاؤه إلا مما يحزن ويبكى منه العقلاء في غير إفراط ولا إسراف.
وفي ذلك يقول ابن القيم: [وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فلم يكن بشهيق ورفع صوت ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا ويسمع لصدره أزيز وكان بكاؤه تارة رحمة للميت وتارة خوفا على أمته وشفقة عليها وتارة من خشية الله وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية ولما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له وقال: ((تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون))، وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض وبكى لما قرأ عليه ابن مسعود سورة النساء وانتهى فيها إلى قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} وبكى لما مات عثمان بن مظعون وبكى لما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف وجعل يبكى في صلاته وجعل ينفخ ويقول: ((رب ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون ونحن نستغفرك)) وبكى لما جلس على قبر إحدى بناته وكان يبكى أحيانا في صلاة الليل].(2/38)
أما ضحكه صلى الله عليه وسلم: فكان يضحك مما يُضحك منه وهو مما يُتعجب من مثله ويستغرب وقوعه ويستندر كما كان يداعب أصحابه. فعن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال (أتت امرأة يقال لها أم أيمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن زوجي يدعوك قال: ومن هو ؟ أهو الذي بعينه بياض ؟ قالت والله ما بعينه بياض فقال بلى إن بعينه بياضا فقالت لا والله فقال ما من أحد إلا وبعينه بياض) رواه أبو داود وعن أنس بن مالك أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستحمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنا حاملوك على ولد ناقة) فقال يا رسول الله ما أصنع بولد ناقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهل تلد الإبل إلا النوق) رواه الترمذى.
التوازن السلوكي في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم:
كان التوازن السلوكي في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد دلائل نبوته فلقد جعل هذا التوازن من رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة العليا التي تمثلت فيها كل جوانب الحياة فهو الأب والزوج ورئيس الدولة والقائد للجيش والمحارب الشجاع كما كان المستشار والقاضي والمربى والمعلم والعابد والزاهد … إلى آخر صفاته صلى الله عليه وسلم التي كانت من الخصب بحيث استوعبت كل جوانب حياة البشر الأمر الذي جعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للناس كافة على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم حتى تقوم الحجة على الناس مرتين مرة بالبيان النظري ومرة بالبيان العملي وإليك بعض مظاهر هذا التوازن السلوكي:-
(أ) التوازن النبوي بين القول والفعل:
(شهدت البشرية في تاريخها الطويل انفصالا بين المثل والواقع، بين المقال والفعال، بين الدعوى والحقيقة وكان دائما المثال والمقال والدعوى أكبر من الواقع والفعال والحقيقة وهذا شيء يعرفه من له أدنى معرفة بالتاريخ والحياة غير أن هذه الظاهرة تكاد تكون مفقودة في واقع الرسل وأتباعهم فهم وحدهم الذين دعوا الإنسانية إلى أعظم قمم السمو ومثلوا بسلوكهم العملي هذه الذروة بشكل رائع مدهش).
وظهور هذا التوازن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية كان على أعلى ما يخطر بقلب بشر فهو العابد والزاهد والمجاهد والزوج و … و … الذي ما كان يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ولا ينهى عن شر إلا كان أو تارك له.
فعن عبادته تقول السيدة عائشة رضي الله عنه (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقلت له لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال (أفلا أكون عبدا شكورا) رواه الشيخان، وعن أنس رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه شيئا ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته) رواه البخارى.
وعن زهده يروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنه قالت: دخلت علىّ امرأة من الأنصار فرأت فراش النبي صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية فرجعت إلى منزلها فبعثت إلىّ بفراش حشوه الصوف فدخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (ما هذا ؟) فقلت فلانة الأنصارية دخلت علىّ فرأت فراشك فبعثت إلىّ بهذا فقال (رديه) قالت فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي حتى قال ذلك ثلاث مرات ثم قال (يا عائشة رديه فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة) قالت: فرددته. وهو إمام الزاهدين الذي ما أكل على خوان قط وما رأى شاة سميطا قط وما رأى منخلا منذ أن بعثه الله إلى يوم قبض ما أخذ من الدنيا شيئا ولا أخذت منه شيئا وصدق صلى الله عليه وسلم إذ يقول (مالي وللدنيا إنما أنا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها) .
وأما عن شجاعته وجهاده فيروى أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول (لم تراعوا … لم تراعوا) وهو على فرس لأبى طلحة عرى ما عليه سرج في عنقه سيف فقال (لقد وجدته بحرا) ، وعن على رضي الله عنه قال: كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه. ولولا خوف الإطالة لسردنا شمائله صلى الله عليه وسلم التي نادى بها وعلّمها أمته وكان أول الممارسين العمليين لها.
(ب) الصدق النبوي في الجد والدعابة:(2/39)
(الصدق صفة أساسية لابد أن يتمتع بها صاحب الرسالة، هذا الصدق لابد أن يكون مطلقا لا يُنقض في أي حال بحيث لو امتحن صاحب الرسالة في كل قول له لكان مطابقا للواقع إذا وعد أو عاهد أو جد أو داعب أو أخبر أو تنبأ وإذا انتقضت هذه الصفة أي نقض فإن دعوى الرسالة تنتقض من أساسها؛ لأن الناس لا يثقون برسول غير صادق والرسول الصادق لا تجد في ثنايا كلامه شيئا من الباطل في أي حال من الأحوال) ولقد كان الصدق من أوضح السمات في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفي دلالة على هذا الصدق أن قومه لقبوه بالصادق الأمين بل إن أول انطباع يرسخ في نفس من يراه لأول مرة أنه من الصديقين فعن عبه الله بن سلام قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس وقيل قد قدم النبي صلى الله عليه وسلم وجئت فيمن جاء قال فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب فكان أول ما قال (يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا والناس نيام تدخلون الجنة بسلام) رواه الترمذى .
فهو الصادق في وعده وعهده فعن عبد الله بن أبى الخنساء قال بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبقيت له بقية فواعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك فنسيت يومي والغد فأتيته اليوم الثالث وهو في مكانه فقال (يا فتى لقد شققت علىّ أنا ههنا منذ ثلاث انتظرك) رواه أبو داود وبعد غزوة حنين جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم هوازن فوقف عليه رجل من الناس فقال إن لي عندك موعدا يا رسول الله قال (صدقت فاحتكم ما شئت) قال أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها قال (هي لك وقال احتكمت يسيرا) رواه الحاكم. وأخرج الحاكم عن حويطب بن عبد العزى في قصة إسلامه أنه عندما كان مشركا تولى مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجلاء عن مكة في عمرة القضاء بعد انقضاء مدة الثلاثة أيام المتفق عليها يقول حويطب: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء وخرجت قريش من مكة كنت فيمن تخلف بمكة أنا وسهيل بن عمرو لكى نخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مضى الوقت فلما انقضت الثلاثة أقبلت أنا وسهيل بن عمرو فقلنا: قد مضى شرطك فاخرج من بلدنا فصاح (يا بلال لا تغب الشمس وواحد من المسلمين بمكة ممن قدم معنا) وما حدث أن وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عاهد فأخلف أو غدر ولقد روى البخارى (أن هرقل لما سأل أبا سفيان عن محمد هل يغدر ؟ أجاب أبو سفيان لا فقال هرقل بعد ذلك وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر) بل إنه صلى الله عليه وسلم لا يحيد عن الصدق ولا حتى مجاملة لأحد فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك فكان يقبل بوجهه وحديثه علىّ حتى ظننت أنى خير القوم فقلت يا رسول الله أنا خير أم أبو بكر فقال أبو بكر فقلت يا رسول الله أن خير أم عمر فقال عمر فقلت أنا خير أم عثمان فقال عثمان فلما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقني فلوددت أنى لم أكن سألته) رواه الترمذى.
وحتى في أوقات الدعابة والمرح حيث يتخفف الكثيرون من قواعد الانضباط كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق في مزاحه فعن أبى هريرة قال (قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال إني لا أقول إلا حقا) رواه الترمذى.
(جـ) التوازن الأخلاقي في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من أبلغ وأجمع الكلمات التي وصفت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالته السيدة عائشة رضي الله عنه (كان خلقه القرآن) ولقد كانت هذه الأخلاق من السمو والتوازن ما جعل تواضعه لا يغلب حلمه ولا يغلب حلمه بره وكرمه ولا يغلب بره وكرمه صبره … وهكذا في كل شمائله صلوات الله وسلامه عليه هذا مع انعدام التصرفات الغير أخلاقية في حياته.
فعن تواضعه يروى أبو نعيم في دلائل النبوة عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس لطفا والله ما كان يمتنع في غداة باردة من عبد ولا من أمة ولا صبى أن يأتيه بالماء فيغسل وجهه وذراعيه وما سأله سائل قط إلا أصغى إليه أذنه فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف عنه وما تناول أحد بيده إلا ناوله إياها فلم ينزع حتى يكون هو الذي ينزعها منه.
وعن حلمه يروى البخاري يوم حنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم فقال رجل والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله فقلت -أي عبد الله راوي الحديث- والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخبرته فقال (من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر).(2/40)
وعن كرمه يروى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال لا ..) وأخرج أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسأل شيئا على الإسلام إلى أعطاه قال فأتاه رجل فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة فرجع الرجل إلى قومه فقال يا قوم أسلموا فإن محمد يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة وأخرج ابن عساكر في قصة إسلام صفوان بن أمية عن عبد الله بن الزبير قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هوازن وخرج معه صفوان وهو كافر وقد أرسل إليه يستعيره سلاحه فقال صفوان طوعا أو كرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية رادة فأعاره مائة درع بأداتها فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملها إلى حنين فشهد حنينا والطائف ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجعرانة فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في الغنائم ينظر إليها ومعه صفوان بن أمية جعل صفوان ينظر إلى شعب ملاء نعما وشاء ورعاء فأدام النظر إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه فقال (أبا وهب يعجبك هذا الشعب) قال نعم قال (هو لك وما فيه) فقال صفوان: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأسلم مكانه.
(د) التوازن النبوي بين الحزم واللين.
(فرغم ما حباه الله به من الحلم والرأفة إلا أنه الحلم والرأفة التي لا تجاوز حدها فكان صلى الله عليه وسلم يغضب للحق إذا انتهكت حرمات الله فإذا غضب فلا يقوم لغضبه شيء حتى يهدم الباطل وينتهى وفيما عدا ذلك فهو أحلم الناس عن جاهل لا يعرف أدب الخطاب أو مسئ للأدب أو منافق يتظاهر بغير ما يبطن).
فعن عائشة رضي الله عنها قالت (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له قط ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا خير بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه حتى تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله) رواه أحمد ، وعن جابر رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الوحي أو وعظ قلت نذير قوم أتاهم العذاب فإذا ذهب عنه ذلك رأيته أطلق الناس وجها وأكثرهم ضحكا وأحسنهم بشرا) رواه البزار.
ولما نكث بنو قريظة العهد وتحالفوا مع الأحزاب على حرب المسلمين ثم رد الله كيدهم في نحورهم وأمكن الله رسوله منهم رضوا بحكم سعد بن معاذ كما رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم سعد أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وزراريهم فتهلل وجه الرسول وقال (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات) فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم في يوم واحد أربعمائة رجل صبرا. وروى ابن إسحاق في قصة أسرى غزوة بدر قال: ومنهم أبو عزة الشاعر كان محتاجا ذا بنات فقال يا رسول الله لقد عرفت مالي من مال وإني لذو حاجة وذو عيال فامنن علىّ فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحد فقال أبو عزة في ذلك شعرا يمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن أبا عزة هذا نقض ما كان عاهد عليه الرسول ولعب المشركون بعقله فرجع إليهم فلما كان يوم أحد أُسر فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يمن عليه أيضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أدعك تمسح عارضيك وتقول خدعت محمدا مرتين)) ثم أمر به فضربت عنقه. وعن المسور بن مخرمه رضي الله عنه قال خطب علىّ بنت أبى جهل وعنده فاطمة فسمعت بذلك فاتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك وهذا على ناكح ابنه أبى جهل فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد وقال أما بعد فإني أنكحت أبى العاص بن الربيع فحدثني وصدقنى وإن فاطمة بضعة منى يريبنى ما يريبها والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله أبدا قال فترك علىّ الخطبة. إنه اللين الذي لا يعرف الخور والحزم الذي به تكون الرجال فصلوات الله وسلامه عليه.
لقد سجل لنا التاريخ سير آلاف المصلحين والزعماء الذين عاشوا مناضلين من أجل فكرة أو مبدأ أفاد شعوبهم أو الإنسانية عامة ولكن لم تجتمع كل المبادئ الطيبة إلا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت والقيادة والأخلاق والعبادة والكثير من أوجه الحياة التي استنارت بمبعثه فصلوات الله عليه في الأولين والآخري
---------------
16.اعرف نبيك صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي أوضح لنا سبيل الهداية، وأزاح عن بصائرنا ظلمة الغواية، والصلاة والسلام على النبي المصطفى والرسول المجتبى، المبعوث رحمة للعالمين، وقدوة للمالكين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(2/41)
أيها المسلمون: إن من خير ما بذلت فيه الأوقات، و شغلت به الساعات هو دراسة السيرة النبوية العطرة، والأيام المحمدية الخالدة، فهي تجعل المسلم كأنه يعيش تلك الأحداث العظام التي مرت بالمسلمين، وربما تخيل أنه واحد من هؤلاء الكرام البررة التي قامت على عواتقهم صروح المجد ونخوة البطولة.
وفي السيرة يتعرف المسلم على جوانب متعددة من شخصية النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ، وأسلوبه في حياته ومعيشته، ودعوته في السلم والحرب.
وفيها أيضاً: يتلمس المسلم نقاط الضعف والقوة؛ وأسباب النصر والهزيمة، وكيفية التعامل مع الأحداث وإن عظمت.
وبدراسة السيرة النبوية يستعيد المسلمون ثقتهم بأنفسهم، ويوقنون بأن الله معهم وناصرهم، إن هم قاموا بحقيقة العبودية، له والانقياد لشريعته: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]. {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
وهذه عبارة عن رؤوس أقلام وجمل يسيرة في سيرة النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام، قصد بها فتح الطريق أمام ناشئة المسلمين وشبيبتهم لدراسات أعمق لهذه السيرة النبوية الخالدة. قال الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29].
نسبه صلى الله عليه وسلم:
هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. هذا هو المتفق عليه في نسبه صلى الله عليه وسلم واتفقوا أيضاً أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام.
أسماؤه صلى الله عليه وسلم:
عن جبير بن مطعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لي أسماء، وأنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدميَّ، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد)) [متفق عليه]. وعن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال: ((أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة)) [مسلم].
طهارة نسبه صلى الله عليه وسلم:
اعلم رحمني الله وإياك أن نبينا المصطفى على الخلق كله قد صان الله أباه من زلة الزنا، فولد صلى الله عليه وسلم من نكاح صحيح ولم يولد من سفاح، فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)) [مسلم]، وحينما سأل هرقل أبا سفيان عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((هو فينا ذو نسب، فقال هرقل: كذلك الرسل تبعث في نسب قومها)) [البخاري].
ولادته صلى الله عليه وسلم:
ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، قيل في الثاني منه، وقيل في الثامن، وقيل في العاشر، وقيل في الثاني عشر. قال ابن كثير: والصحيح أنه ولد عام الفيل، وقد حكاه إبراهيم بن المنذر الحزامي شيخ البخاري، وخليفة بن خياط وغيرهما إجماعاً.
قال علماء السير: لما حملت به آمنة قالت: ما وجدت له ثقلاً، فلما ظهر خرج معه نور أضاء ما بين المشرق والمغرب.
وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدلٌ في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك، دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت، انه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام)) [أحمد والطبراني].
وتوفي أبوه صلى الله عليه وسلم وهو حَمْل في بطن أمه، وقيل بعد ولادته بأشهر وقيل بسنة، والمشهور الأول.
رضاعه صلى الله عليه وسلم:
أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب أياماً، ثم استُرضع له في بني سعد، فأرضعته حليمة السعدية، وأقام عندها في بني سعد نحواً من أربع سنين، وشُقَّ عن فؤاده هناك، واستخرج منه حظُّ النفس والشيطان، فردته حليمة إلى أمه إثر ذلك.
ثم ماتت أمه بالأبواء وهو ذاهب إلى مكة وهو ابن ست سنين، ولما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء وهو ذاهب إلى مكة عام الفتح، استأذن ربّه في زيارة قبر أمه فأذن له، فبكى وأبكى من حوله وقال: ((زوروا القبور فإنها تذكر بالموت)) [مسلم]. فلما ماتت أمه حضنته أم أيمن وهي مولاته ورثها من أبيه، وكفله جده عبد المطلب، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر ثماني سنين توفي جده، وأوصى به إلى عمه أبي طالب فكفله، وحاطه أتم حياطة، ونصره وآزره حين بعثه الله أعزّ نصر وأتم مؤازرة مع أنه كان مستمراً على شركه إلى أن مات، فخفف الله بذلك من عذابه كما صح الحديث بذلك.(2/42)
صيانة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم من دنس الجاهلية:
وكان الله سبحانه وتعالى قد صانه وحماه من صغره، وطهره من دنس الجاهلية ومن كل عيب، ومنحه كل خُلقٍ جميل، حتى لم يكن يعرف بين قومه إلا بالأمين، لما شاهدوه من طهارته وصدق حديثه وأمانته، حتى أنه لما أرادت قريش تجديد بناء الكعبة في سنة خمس وثلاثين من عمره، فوصلوا إلى موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يضعه أول داخل عليهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: جاء الأمين، فرضوا به، فأمر بثوبٍ، فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل قبيلة أن ترفع بجانب من جوانب الثوب، ثم أخذ الحجر فوضعه موضعه صلى الله عليه وسلم . [أحمد والحاكم وصححه].
زواجه صلى الله عليه وسلم:
تزوجته خديجة وله خمس وعشرون سنة، وكان قد خرج إلى الشام في تجارة لها مع غلامها ميسرة، فرأى ميسرة ما بهره من شأنه، وما كان يتحلى به من الصدق والأمانة، فلما رجع أخبر سيدته بما رأى، فرغبت إليه أن يتزوجها.
وماتت خديجة رضي الله عنها قبل الهجرة بثلاث سنين، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت، فلما ماتت خديجة رضي الله عنها تزوج عليه السلام سودة بنت زمعة، ثم تزوج صلى الله عليه وسلم عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ولم يتزوج بكراً غيرها، ثم تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ثم تزوج زينب بنت خزيمة بن الحارث رضي الله عنها، وتزوج أم سلمة واسمها هند بنت أمية رضي الله عنها، وتزوج زينب بنت جحش رضي الله عنها، ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، ثم تزوج أم حبيبة رضي الله عنها واسمها رملة وقيل هند بنت أبي سفيان. وتزوج إثر فتح خيبر صفية بنت حييّ بن أخطب رضي الله عنها، ثم تزوج ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، وهي آخر من تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أولاده صلى الله عليه وسلم:
كل أولاده صلى الله عليه وسلم من ذكر وأنثى من خديجة بنت خويلد، إلا إبراهيم، فإنه من مارية القبطية التي أهداها له المقوقس.
فالذكور من ولده:
القاسم وبه كان يُكنى، وعاش أياماً يسيرة، والطاهر والطيب.
وقيل: ولدت له عبدالله في الإسلام فلقب بالطاهر والطيب. أما إبراهيم فولد بالمدينة وعاش عامين غير شهرين ومات قبله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر.
بناته صلى الله عليه وسلم:
زينب وهي أكبر بناته، وتزوجها أبو العاص بن الربيع وهو ابن خالتها، ورقية تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفاطمة تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأنجبت له الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأم كلثوم تزوجها عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد رقية رضي الله عنهن جميعاً. قال النووي: فالبنات أربع بلا خلاف. والبنون ثلاثة على الصحيح.
مبعثه صلى الله عليه وسلم:
بعث صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فنزل عليه الملك بحراء يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وكان إذا نزل عليه الوحي اشتد ذلك عليه وتغيّر وجهه وعرق جبينه.
فلما نزل عليه الملك قال له: اقرأ.. قال: لست بقارئ، فغطاه الملك حتى بلغ منه الجهد، ثم قال له: اقرأ.. فقال: لست بقارئ ثلاثاً. ثم قال: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذي خَلَقَ، خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ ورَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5]. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة رضي الله عنها يرتجف، فأخبرها بما حدث له، فثبتته وقالت: أبشر، وكلا والله لا يخزيك أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحملُّ الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر.
ثم فتر الوحي، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يمكث لا يرى شيئاً، فاغتم لذلك واشتاق إلى نزول الوحي، ثم تبدى له الملك بين السماء والأرض على كرسيّ، وثبته، وبشره بأنه رسول الله حقاً، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف منه وذهب إلى خديجة وقال: زملوني.. دثروني، فأنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّر، وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} [المدثر:1-4]. فأمر الله تعالى في هذه الآيات أن ينذر قومه، ويدعوهم إلى الله، فشمَّر صلى الله عليه وسلم عن ساق التكليف، وقام في طاعة الله أتم قيام، يدعو إلى الله تعالى الكبير والصغير، والحر والعبد، والرجال والنساء، والأسود والأحمر، فاستجاب له عباد الله من كل قبيلة ممن أراد الله تعالى فوزهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، فدخلوا في الإسلام على نور وبصيرة، فأخذهم سفهاء مكة بالأذى والعقوبة، وصان الله رسوله وحماه بعمه أبي طالب، فقد كان شريفاً مطاعاً فيهم، نبيلاً بينهم، لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من محبته له.(2/43)
قال ابن الجوزي: وبقي ثلاث سنين يتستر بالنبوة، ثم نزل عليه: {فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر} [الحجر:94]. فأعلن الدعاء. فلما نزل قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف ((يا صباحاه!)) فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد! فاجتمعوا إليه فقال: ((أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟)) قالوا: ما جربنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك، أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فنزل قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ وَتَبْ} إلى آخر السورة. [متفق عليه].
صبره صلى الله عليه وسلم على الأذى:
ولقي صلى الله عليه وسلم الشدائد من قومه وهو صابر محتسب، وأمر أصحابه أن يخرجوا إلى أرض الحبشة فرارا من الظلم والاضطهاد فخرجوا.
قال ابن إسحاق: فلما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع فيه حياته، وروى أبو نعيم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما مات أبو طالب تجهَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك).
وفي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي، وسلا جزورٍ قريب منه، فأخذه عقبة بن أبي معيط، فألقاه على ظهره، فلم يزل ساجداً، حتى جاءت فاطمة فألقنه عن ظهره، فقال حينئذ: ((اللهم عليك بالملأ من قريش)). وفي أفراد البخاري: أن عقبة بن أبي معيط أخذ يوماً بمنكبه صلى الله عليه وسلم ، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه به خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر فدفعه عنه وقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟
رحمته صلى الله عليه وسلم بقومه:
فلما اشتد الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فدعا قبائل ثقيف إلى الإسلام، فلم يجد منهم إلا العناد والسخرية والأذى، ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، فقرر صلى الله عليه وسلم الرجوع إلى مكة. قال صلى الله عليه وسلم: ((انطلقت – يعني من الطائف – وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب – ميقات أهل نجد – فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد أرسل لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين – جبلان بمكة – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)) [متفق عليه].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في كل موسم، فيعرض نفسه على القبائل ويقول: ((من يؤويني؟ من ينصرني؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي!)).
ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة في الموسم ستة نفر فدعاهم فأسلموا، ثم رجعوا إلى المدينة فدعوا قومهم، حتى فشا الإسلام فيهم، ثم كانت بيعة العقبة الأولى والثانية، وكانت سراً، فلما تمت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، فخرجوا أرسالاً.
هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة:
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر إلى المدينة فتوجه إلى غار ثور، فأقاما فيه ثلاثاً، وعني أمرهم على قريش، ثم دخل المدينة فتلقاه أهلها بالرحب والسعة، فبنى فيها مسجده ومنزله.
غزواته صلى الله عليه وسلم:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون، لَيهَلِكُنَّ، فأنزل الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]. وهي أول آية نزلت في القتال. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً وعشرين غزاة، قاتل منها في تسع: بدر، وأحد، والريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، وبعثَ ستاً وخمسين سرية.
حج النبي صلى الله عليه وسلم واعتماره:
لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة إلا حجة واحدة، وهي حجة الوداع. فالأولى عمرة الحديبية التي صدّه المشركون عنها. والثانية عمرة القضاء، والثالثة عمرة الجعرانة، والرابعة عمرته مع حجته.
صفته صلى الله عليه وسلم:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربعة، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون - أي أبيض بياضاً مشرباً بحمرة - أشعر، أدعج العينين –أي شديد سوادهما – أجرد –أي لا يغطي الشعر صدره وبطنه -، ذو مَسرُبه – أي له شعر يكون في وسط الصدر والبطن.
أخلاقه صلى الله عليه وسلم:(2/44)
كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وأصدقهم لهجة، وألينهم طبعاً، وأكرمهم عشرة، قال تعالى: {إنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظيمٍ} [القلم:4]. وكان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأعف الناس وأكثرهم تواضعاً، وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، يقبل الهدية ويكافئ عليها، ولا يقبل الصدقة ولا يأكلها، ولا يغضب لنفسه، وإنما يغضب لربه، وكان صلى الله عليه وسلم يأكل ما وجد، ولا يدُّ ما حضر، ولا يتكلف ما لم يحضره، وكان لا يأكل متكئاً ولا على خوان، وكان يمر به الهلال ثم الهلال ثم الهلال، وما يوقد في أبياته صلى الله عليه وسلم نار، وكان صلى الله عليه وسلم يجالس الفقراء والمساكين ويعود المرضى ويمشي في الجنائز.
وكان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، ويضحك من غير قهقهة، وكان صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله، وقال: {خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي} [الترمذي وصححه الألباني]، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله، ألا فعلت كذا!!
وما زال صلى الله عليه وسلم يلطف بالخلق ويريهم المعجزات، فانشق له القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وحنَّ إليه الجذع، وشكا إليه الجمل، وأخبر بالغيوب فكانت كما قال.
فضله صلى الله عليه وسلم:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس كافة)) [متفق عليه]. وفي أفراد مسلم من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أنا أول الناس يشفع يوم القيامة، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة)). وفي أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشقُّ عنه القبر، وأول شافع وأول مُشفع)).
عبادته ومعيشته صلى الله عليه وسلم:
قالت عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطر قدماه، فقيل له في ذلك، فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً) [متفق عليه]، وقالت: وكان مضجعه الذي ينام عليه في الليل من أَدَمَ محشوّاً ليفاً!! وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظلُّ اليوم يَلتَوي ما يجد دِقْلاً يملأ بطنه – والدقل ردئ التمر -!! ما ضره من الدنيا ما فات وهو سيد الأحياء والأموات، فالحمد لله الذي جعلنا من أمته، ووفقنا الله لطاعته، وحشرنا على كتابه وسنته آمين، آمين.
من أهم الأحداث:
الإسراء والمعراج: وكان قبل الهجرة بثلاث سنين وفيه فرضت الصلاة.
السنة الأولى: الهجرة - بناء المسجد - الانطلاق نحو تأسيس الدولة - فرض الزكاة.
السنة الثانية: غزوة بدر الكبرى وفيها أعز الله المؤمنين ونصرهم على عدوهم.
السنة الثالثة: غزوة أحد وفيها حدثت الهزيمة بسبب مخالفة تعليمات النبي صلى الله عليه وسلم ونظر الجنود إلى الغنائم.
السنة الرابعة: غزوة بني النضير وفيها أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير عن المدينة لأنهم نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين.
السنة الخامسة: غزوة بني المصطلق وغزوة الأحزاب وغزوة بني قريظة.
السنة السادسة: صلح الحديبية، وفي هذه السنة حُرّمت الخمر تحريماً قاطعاً.
السنة السابعة: غزوة خيبر، وفي هذه السنة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون مكة واعتمروا، وفيها أيضاً تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت حُيَيّ.
السنة الثامنة: غزوة مؤتة بين المسلمين والروم، وفتح مكة وغزوة حُنين ضد قبائل هوازن وثقيف.
السنة التاسعة: غزوة تبوك وهي آخر غزواته صلى الله عليه وسلم ، وفي هذه السنة قدمت الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وسمي هذا العام عام الوفود.
السنة العاشرة: حجة الوداع، و حج فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة ألف مسلم.
السنة الحادية عشرة: وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في يوم الاثنين من شهر ربيع الأول مع اختلاف في تحديد هذا اليوم من الشهر. وتوفي صلى الله عليه وسلم وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها أربعون سنة قبل النبوة، وثلاث وعشرون سنة نبياً رسولاً، منها ثلاث عشرة سنة في مكة، وعشر سنين بالمدينة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
المصادر:
- تهذيب الأسماء واللغات للنووي.
- التبصرة والحدائق لابن الجوزي.
- زاد المعاد لابن القيم.
- السيرة النبوية للذهبي.
- جوامع السيرة النبوية لابن حزم.
- الفصول في سيرة الرسول (ابن كثير).
- صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي.(2/45)
وأصلي على النبي الأكرم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وما كان من صواب فمن الله عز وجل وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان.
---------------
17.العظمة المحمدية
محمد بن إبراهيم الحمد
الحديث عن السيرة النبوية حديث تنشرح له الصدور، وتنطلق له الأسارير، وتخفق له الأفئدة.
كيف لا وهو حديث عن أكرم البشرية، وأزكاها وأبرها، وعظيم لو طالعت كتب التاريخ والسير عربية وغير عربية، وأمعنت النظر في أحوال عظماء الرجال من مبدأ الخليقة إلى هذا اليوم - فإنك لا تستطيع أن تضع يدك على اسم رجل من أولئك العظماء، وتقص علينا سيرته ومزاياه وأعماله الجليلة حديثاً يضاهي أو يداني ما تُحدَّث به عن هذا الرسول العظيم.
وغير خفي على مَنْ يَقْدُر هذا النبي قدره أن ليس في طوق كاتب -ولو ألقت إليها البلاغة أعنتها- تقصي المعاني التي انطوت في هذه السيرة العظيمة.
وإن من يبتغي عظمةَ رجلٍ بحق فليبحث عنها في ناحية عقله، وعلمه، وخلقه، وإخلاصه، وعزمه، وعمله، وحسن بيانه.
ولقد كان محمد -صلى الله عليه وسلم- راجحَ العقل، غزيرَ العلم، عظيم الخلق، شديد الإخلاص، صادق العزم، جليل العمل، رائع البيان.
أما رجحان عقله فمن دلائله بعد اختصاص الله له بالرسالة أنه نشأ بين قوم يعبدون الأصنام، ويتنافسون في مظاهر الأبهة والخيلاء، وينحطون في شهواتهم إلى المنزلة السفلى، فلم يكن لهذه البيئة المظلمة من أثر في نفس محمد -صلى الله عليه وسلم- قليل أو كثير؛ فانبذ بين هذه الظلمات المتراكمة مكاناً يخلو فيه بنفسه، ويقدح فيه زناد فكره، ويناجي فيه ربه؛ فإذا نورُ النبوة يتلألأ بين جنبيه، وحكمة الله تتدفق بين شفتيه.
وأما علمه فهو ما يزكي النفوس، وينقي الأبصار، ويرفع الأمم إلى ذروة العز والشرف، حتى تحرز الحياة الطيبة في الأولى والسعادة الباقية في الأخرى.
ومَنْ يتدبر القرآنَ والأحاديث الثابتة حتى يتفقه فيما انطويا عليه من حقائق وحكم وآداب -يلف رأسه حياءً من أن ينفي عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عظمة العلم تحت اسم الفلسفة متكئاً على أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.
وقد خرج من بين يدي محمد -صلى الله عليه وسلم- رجال عظماء، ولم يتلقوا من العلم غير ما كانوا يتلقونه في مجلسه من حكمته، فكانوا منبع علم وأدب، وأدركوا في حصافة الرأي وقوة الحجة الأمد الأقصى.
وأما خُلقه فهذه السيرة المستفيضة في القرآن وعلى ألسنة الرواة وأقلامهم تنطق وتلوح بأنه قد بلغ الذروة في كل خلق كريم، وبَسْطُ القول في هذا الصدد لا يغني فيه سفر، بل أسفار.
وأما إخلاصه فقد كان صافي السريرة لا يبغي إلا هدياً، ولا ينوي إلا إصلاحاً، والإخلاص روح العظمة وقطب مدارها.
وأقرب شاهد على إخلاصه في دعوته أنه لم يحد عن سبيل الزهد في هذه الحياة قيد أنملة؛ فعيشه يوم كان يتعبد في غار حراء كعيشه يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر من ناحية تبوك.
وأما صدق عزيمته فقد قام -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى العدل ودين الحق ويلقى من الطغاة والطغام أذىً كثيراً، فيضرب عنه صفحاً أو عفواً، ويمضي في سبيل الدعوة لا يأخذه يأس، ولا يقعد به ملل، ولا يثنيه جزع، وقد ظهر دين الله وَعَلتْ حكمته بهذا العزم الذي تخمد النار ولا يخمد.
وأما عمله فتهجد وصيام، وتشريع وقضاء، ووعظ وإرشاد، وسياسة وجهاد، وهل من سيرة تُبْتَغى لعظمة يرضى عنها الله، ويسعد بها البشر غير هذه السيرة؟
وهل يستطيع أحد أن يدلنا على رجل كان ناسكاً مخلصاً، ومشرعاً حكيماً، وقاضياً عادلاً، ومرشداً ناصحاً، وواعظاً بليغاً، وسياسياً أميناً، ومجاهداً مصلحاً، وفاتحاً ظافراً، وسيداً تذوب في محبته القلوب، غير المصطفى -عليه الصلاة والسلام-؟
وأما حسن بيانه فقد أحرز -عليه الصلاة والسلام- من خصلتي الفصاحة والبلاغة الغاية التي ليس وراءها لمخلوق غاية، فانظروا إن شئتم إلى مخاطباته وخطبه وما يضربه من الأمثال، وينطق به من جوامع الكلم تجدوا جزالة اللفظ، ومتانة التركيب، وسهولة المأخذ، إلى رفعة الأسلوب، إلى حكمة المعنى.
عَظَمَةٌ انتظمت من هذه المزايا العالية؛ فبلغت حد الإعجاز، وكل درة في عقد حياة محمد -عليه الصلاة والسلام- معجزة.
هذا وإن مما يبعث على الأسى، ويدعو إلى الأسف والحسرة ما تناقلته وسائل الإعلام في الأيام الماضية، حيث تناولت ما تبثه صحف الدانمارك والنرويج تلك الصحف التي ما فتئت تنال من مقام النبوة بأسلوب ساخر، ينم عن حقد دفين، وحسد يأكل قلوبهم، ويأبى لها إلا تغالط محل الحقائق، وتتيه في أودية الزور والبهتان؛ ظانين أن ذلك ينزل من مقام النبوة الأعظم فتيلاً أو قطميراً.
وفي تعب من يحسد الشمس نورها *** ويجهد أن يأتي لها بضريب
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].(2/46)
ولقد ساء ذلك الفعل الشائن قلوب المسلمين، وتتابعت أقلام الكتاب في رد ذلك الزيف، وإبطال ذلك الكيد؛ فكان من ذلك بعثٌ لفضائل هذا النبي الكريم -عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم-.
وإذا أراد الله نشر فضيلة *** طويت أتاح لها لسان حسود
وفضيلة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تطوَ، وإنما تتجدد، وتتلألأ كالبدر في سماء صاحية، وكالشمس في رأْد الضحى.
---------------
18.محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. د. سفر الحوالي
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
الشيخ/ سفر الحوالي
1 - معنى المحبة وتعريفها:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
معنى المحبة في اللغة معروف، وهي في الشرع: أمر زائد على مجرد الميل الطبيعي للمحبوب؛ فمحبة الله تعالى، ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومحبة المؤمنين، ومحبة ما شرع الله من الدين، هي أمر زائد على مجرد الميل الطبيعي إلى شيء من ذلك؛ إذ لا بد فيها من جانب اختياري تكليفي.
وباصطلاحاتنا المعاصرة أقول: إن المحبة الشرعية ليست مجرد عاطفة متعلقة بالوجدان وحده، وإنما هي متعلقة بالوجدان والعاطفة، والعقل والإرداة، والعمل: عمل القلب، وعمل الجوارح؛ إذ أنها جزء مهم من الإيمان.
والإيمان عند أهل السنة والجماعة كما هو معلوم للجميع قول وعمل، أي: قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، كما هو مبين في مواضعه.
وعلى هذا فمن ظن أن محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي مجرد الميل الطبيعي والوجداني له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو غالط غلطاً بيناً؛ لأن هذا الظن هو الذي أوقع طوائف من الأمة في التفريط في اتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وترك سنته، ونبذ شريعته، وترك تحكيمه، وترك التأدب معه، وأوقعهم في التقديم بين يدي هديه وحكمه، هذا مع تعلقهم العاطفي بذاته، وتغنيهم بشمائله، وإعجابهم بكماله، وربما بكائهم لتذكره، ولهجهم بالصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذلك من قال: إن معنى محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي طاعته، وامتثال أمره، والتمسك بسنته، فهو مقصر عن إصابة كبد الحقيقة في هذا، إذ أن هذا هو تفسير لها باللازم والمقتضى.
فالطاعة والامتثال هو لازم المحبة ومقتضاها لا حقيقتها، ومعناها والتحقيق في ذلك: أنها أمر زائد على ذلك يجمع ويشمل ما ذكرنا آنفاً، فالمحبة بهذا الاعتبار أمر عظيم من أمور الإيمان.
وقد بين ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله تعالى، يقول 'إذا كان الحب أصل كل عمل من حقٍ أو باطل، وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها، وأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله، فالعملان القلبيان العظيمان إذاً هما المحبة والتصديق، المحبة هي أصل جميع الأعمال والتصديق هو أصل جميع الأقوال الإيمانية'.
ويقول رحمه الله في موضع آخر:
'أصل الإيمان العملي هو حب الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحب الله هو أصل التوحيد العملي وهو أصل التأليه الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن العبادة أصلها أكمل أنواع المحبة مع أكمل أنواع الخضوع وهذا هو الإسلام'.
وقال: 'أصل الإشراك العملي في الله الإشراك في المحبة، كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165].
وكما هو معلوم أن تأليه الله تبارك وتعالى أو الشهادة بأنه لا إله إلا الله، قيل: إنها مشتقة من الأله أو من الوله، فالأله هو: العبادة، كما في الآية وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف:127] وأما إن كان من الوله فالمقصود بالوله هو: درجة عليا من درجات المحبة، وهي تعلق القلب بهذا المألوه الذي هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، المعبود وحده لا شريك له.
ومن هنا وقع شرك المشركين حين أحبوا غير الله، وتعلقت قلوبهم به، ونتج عن ذلك أن دعوهم واستغاثوا بهم وعبدوهم من دون الله سبحانه، وصرفوا لهم الحق الخالص لله عز وجل، وهذا المعنى الواسع العميق للمحبة عند أهل السنة والجماعة هو الذي يميز محبتهم عن المحبة العاطفية الهائمة، التي يدَّعيها الصوفية دون أي أساس من الشرع.
وهذه المحبة التي يدعونها هي شحنه عاطفية يمكن أن تفرغ بقصيدة من الشعر أو حفلة أو ذكر أو حضرة، أو بأي نوع من أنواع المتفرغات العاطفية وينتهي مفعولها، بخلافها عند أهل السنة والجماعة؛ حيث تشمل عمل القلب وعمل الجوارح التي ترتبط بعمل القلب، فيكون المحب في هذه الحالة مطيعاً وذاكراً ومتعلق القلب بالمحبوب.(2/47)
وأما المحبة الصوفية أو المحبة البدعية الهائمة، فهي تلك المحبة التي عبَّر عنها السلف الصالح بأنها زندقة، حيث قالوا: 'من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن' وهذا هو القول الصحيح، وقد عبَّر عن هذه المحبة الزنديقية تصديقاً لهذا القول القديم المأثور الشاعر الصوفي المشهور ابن عربي حين قال قاتله الله:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة فمرعىً لغزلان، وديراً لرهبان
وبيتاً لأوثان، وكعبةَ طائف وألواحَ توراةٍ، ومصحفَ قرآن
أدينُ بدينِ الحبِّ أَنَّى تَوَجَهَت رَكَائِبُه فَالحُبُّ ديني وإيماني
فلما أصبحت المحبة بهذا المعنى، وأصبحت محبة الله ومحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي هذا الهيام العاطفي الذي لا يحده ضابط ولا قيد؛ وقعت الأمة أو الطوائف التي اعتنقت هذه المحبة في الغلو العظيم، على ما سوف نوضحه -إن شاء الله- في الفقرة المناسبة له، وخرج بذلك عن حد المحبة الشرعية، وحقيقتها، وما ذلك إلا لجهلهم لهذه المحبة التي شرعها الله والتي لا يقبل الله تبارك وتعالى إلا هي.
2 - مقتضيات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم:
لوازم ومقتضيات محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيرة جداً، نرجو الله تعالى أن يوفقنا لنظم أشتات الحديث فيها:
(1) تحقيق الشهادة له صلى الله عليه وسلم:
وأعظم ذلك هو تحقيق الشهادة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه رسول الله، هذه الشهادة التي هي ركن التوحيد، والشهادة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة التي تعني طاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما أمر، وتعني كذلك اجتناب كل ما نهى عنه وزجر، وتعني تصديقه في كل ما أخبر به، وتعني ألاَّ يعبد الله إلا بما شرع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا قال الله تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:32].
فلا بد من اتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا بد من طاعته؛ وهذا الاتباع والطاعة يرث العبد بهما محبة الله فتورث محبة الله تبارك وتعالى بذلك، وهذه هي الغاية العظمى التي يسعى إليها كل المؤمنين، كما قال بعض السلف: 'ليست العبرة بأن تُحِبْ، ولكن العبرة بأن تُحَبَّ'.
فمن أحبه الله تبارك وتعالى، فقد وفقه لكل خير، وتحقق محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للعبد لا يكون إلا بأن يحقق العبد اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] وبالطبع اتباع الله واتباع دين الله وشرعه.
(2) الاقتداء به صلى الله عليه وسلم:
ومن ذلك الاقتداء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتأسي به، كما قال عز وجل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] فلا بد من الاقتداء به والتأسي به في هديه وخلقه ومعاملته وكل أحواله في البيت، والمسجد، وفي الطريق، في السِّلْم، والحرب، وفي كل الأحوال، وهذا الاقتداء هو حقيقة أو هو علامة ولازم تلك المحبة، التي يجب أن تكون كما أشرنا.
وقد ورد حديث عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه حسنه الشيخ الألباني بل ذكره في سلسلة الأحاديث الصحيحة في الجزء الذي لم يخرج، قال: { أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ يوماً فجعل الصحابة يتمسحون بوضوئه وذلك تبركاً منهم بوضوئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يحملكم على هذا -أي: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: حب الله ورسوله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله، فليصدق حديثه إذا حدَّث، وليؤد أمانته إذا اؤتمن، وليحسن جوار من جاوره }.
ولو تأملنا خلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجدنا أنه أصدق الناس لهجة، وأنه أعظم الناس أمانةً، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن الناس جواراً، فهذا نوع وجزء من شمائله العظمى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجب الاقتداء به فيها، وهذا هو تحقيق محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولازمها ومقتضاها.
(3) تحكيمه في كل موضع نزاع:(2/48)
ومن أعظم لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحكيمه في كل موضع نزاع، فلا يقدم قول أحد ولا رأيه ولا اجتهاده ولا نظره، ولا حكمه على قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحكمه، يقول الله تبارك وتعالى في هذا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].
وهذه الآية كما ذكر ابن القيم رحمه الله في شرح المنازل، هذه الآية شملت مراتب الدين الثلاثه، ففيها المقامات الثلاثة: مقام الإسلام ومقام الإيمان ومقام الإحسان، فالتحكيم في مقام الإسلام فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ [النساء:65].
فمن لم يحكم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا يكون مسلماً، والإيمان في مقام نفي الحرج فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ [النساء:65] فمن انتفى عنه الحرج فهو مؤمن -أي: حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتفى عنه الحرج بما حكم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا هو المؤمن.
وأعلى من ذلك وأجل هو تحقيق مرتبة الإحسان وهي التسليم المطلق وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] فيسلم المؤمن تسليماً مطلقاً لما حكم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما أمر ولما أخبر به من خبر فلا يعرضه لا على عقله ولا على رأيه ولا على مذهبه ولا على قول شيخه، ولا على أي مخلوق أو أي فكر بشري.
وإنَّ مما يجب أن ننبه عليه في هذا المقام، هو ذلك المنكر العظيم الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية أو طوائف كبيرة منها مع دعوى محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع إظهار بعض الشكليات التي يظنون بها أنهم قد أدوا حقه وأظهروا محبته وزعموها، وذلك هو: تحكيم القوانين الوضعية في شئون حياتهم، ومعارضة سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهديه وحكمه وشريعته بتلك الأحكام.
فهذه جرأة على الله، وجرأة على مقام النبوة، بل هي إهدار وحط من مقام الرسالة؛ لأن معنى الشهادة بأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أن يشهد العبد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أرسل هذا الرسول إلينا لنطيعه ونتبع أوامره، ونلتزم بكل ما يأمرنا به فيما هو إلا رسول مبلغ من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فالذين يرفضون حكم الله ورسوله ولا يقيمون شرع الله ودينه في أنفسهم ولا في مجتمعاتهم ولا في شئون السياسة أو الحكم أو الاقتصاد أو الاجتماع أو مناهج التعليم، أو أي ناحية من نواحي الحياة فلا ينفعهم أنهم يقيمون له الموالد أو ينشدون له الأناشيد، أو يحيون ذكريات بدعية في ليلة الإسراء والمعراج وما أشبهها، ويزعمون بعد ذلك أنهم مؤمنون وأنهم يعظمون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وربما ذهب بهم الشيطان إلى أبعد من هذا فَعَادوا من يُطبِّق سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتمسك بها ويقتدي بهديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بحجة أنه مبغض للرسول، أو أنه خارج عن هديه، وينبزونه بأشنع التهم، والألقاب.
فهذا من أعظم المنكرات الدالة على أن هؤلاء الناس تركوا محبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يقيمون له وزناً، ولا لرسالته ولا لمقام نبوته ولا لمنزلته عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي فضله الله تعالى بها على العالمين أجمعين.
ولا شك أن هذا مخالف لحال المؤمنين من السلف الكرام والصحابة رضوان الله تعالى عليهم الذين حالهم كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [النور:51] فلا اعتراض، ولا منازعة، ولا مدافعة، ولا تردد، ولهذا قال: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51].
فلا يكون الفلاح إلا لهؤلاء الذين حكَّموا سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع أعمالهم وحركاتهم ولم تكن لهم الخيرة فيما يقضي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].(2/49)
فلا اختيار مع أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل التنفيذ والامتثال، هذه هي لوازم محبته وهذا هو تحقيقها، وقد أمر الله تبارك وتعالى تبعاً لذلك بالرد إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59] والرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه عز وجل، إلى هذا الذكر الحكيم، والرد إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو: الرد إلى سنته، بأن يُسأل في حياته ويرجع إليه في الأمور، وبعد مماته يرجع إلى دينه وسنته، وهديه، فلا يكون لأحدٍ إيماناً إلا بذلك، كما قال: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59].
فمن ادَّعى الإيمان والمحبة مع عدم الرد إلى الله ورسوله في مواضع النزاع والاشتباه في أي حال من الأحوال فقد نقض تلك المحبة وهو كاذب في دعواها، ولم يأتِ بلوازمها، ومقتضياتها.
وكما هو معلوم عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الثابت: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد }، وقد أشار الشراح رحمهم الله إلى أن هذه اللفظة (عليه أمرنا) فيها الجار والمجرور متعلق بمحذوف يقدر بـ(حاكماً أو قاضياً)، من عمل عملاً ليس أمرنا حاكماً عليه أو قاضياً عليه أو خاتماً عليه فهو رد، فمعنى ذلك: أن أعمال العباد يجب أن تكون تحت أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتحت سنته وهديه وشرعه.
وكذلك في الحديث الآخر يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {فمن رغب عن سنتي فليس مني } فمهما ادَّعى من مدعي محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو راغب عن سنته فليس منه.
وأما صحابته الكرام الذين أحبوه ذلك الحب العظيم فإنهم رضي الله عنهم كانوا متمسكين بسنته، حريصين على التأدب معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والاقتداء به والاهتداء بهديه، والتأدب معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدم التقديم بين يديه.
(4) عدم التقديم بين يديه وغضّ الصوت:
وأيضاً مما يجب لتحقيق هذه المحبة وهو لازم عظيم من لوازمها:
التقديم بين يديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغض الصوت عنده يكون في حياته كما هو معلوم بالنسبة لشخصه ولذاته، وبعد مماته يكون بالتأدب مع سنته وغض الصوت، فلا يرتفع صوت رأي، ولا فكرة، ولا مذهب، ولا قياس فوق سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد كان الصحابة الكرام، يدركون هذا المعنى غاية الإدراك كما ورد في صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه قال:{كنا عند عمران بن حصين في رهط منا، وفينا بشير بن كعب، فحدثنا عمران يومئذٍ، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحياء خير كله -قال- أو قال: الحياء كله خير }.
الحديث المشهور المعروف { والحياء شعبة من الإيمان } والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الحياء خير كله أو الحياء كله خير } هذا بلفظ عام لم يخصص بشيء، فقال بشير بن كعب: {إنا لنجد في بعض الكتب، أو الحكمة أن منه سكينة ووقاراً لله ومنه ضعف } يقول: نجد في بعض الكتب أو في بعض موروثات كتب الأولين أن من الحياء سكينةً ووقاراً ولكن أيضاً، أن منه ضعف.
{قال أبو قتادة: فغضب عمران حتى احمرتا عيناه، وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعارض فيه، ثم يقول أبو قتادة: فأعاد عمران الحديث، فأعاد بشير، فغضب عمران }.
ولا شك أن الغضب الثاني أشد من الغضب الأول، فلما رأى أولئك الرهط ثورة عمران، أخذوا يهدئونه قال أبو قتادة: {فما زلنا نقول فيه: إنه منا يا أبا نجيد إنه لا بأس به }.
يقولون: يا أبا نجيد، إن بشيراً هذا منا، إنه ليس من أهل البدع ولا من أهل النفاق ولا من أهل الزيغ والضلال، فما حصل منه هو عمل أهل الزيغ وأهل الضلال وأهل النفاق الذين إذا قيل لهم: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: إن الأمر كذا، ولكن فلاناً قال كذا، ولكن العلماء قالوا كذا، ولكن المذهب فيه كذا، ولكن الشيخ الفلاني أفتى بكذا، إلى آخر ذلك.
ولذلك الإمام الشافعي رحمة الله عليه، عبَّر عن ذلك تعبيراً عظيماً حين جاءه رجل يسأله عن أمر من الأمور، فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا -وتلا عليه حديثاً- فقال له الرجل: فما رأيك أنت؟ فغضب الإمام الشافعي رضي الله عنه، غضباً شديداً، وقال: أتراني في كنيسة؟! أترى عليَّ زناراً؟! أقول لك: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقول ما رأيك أنت. فكانوا يعلمون ويدركون أنه لا رأي لأحد مع كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع هديه، ومع سنته.
(5) الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم:(2/50)
يجب أو ينبغي أن ننبه إلى أمر عظيم من لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الأمر العظيم قد جاء تفصيله في الشرع؛ فهناك مواضع تجب فيها الصلاة والسلام عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصيغة أو بالصيغ الشرعية الواردة في الأحاديث الصحيحة، وهناك مواضع تستحب فيها هذه الصلاة وتتأكد، وهناك أحوال بل نقول: إنها في كل حال، وفي كل وقت الصلاة والسلام على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي قربة وذكر ونافلة وعبادة من أعظم العبادات وأجلِّها.
(6) عدم أذيته صلى الله عليه وسلم:
مما يجب أن يعلم أن من لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدم أذيته، كما تفضل الشيخ عبد الله في مسألة الاستهزاء؛ بل إن الله سبحانه بيَّن أن أذيته هي شأن المنافقين وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة:61].
فأي قول فيه نوع من التحقير، أو التقليل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو الحط من قيمته، أو الأذية له أو لسنته فإنه من عمل المنافقين وهذا النفاق هو نفاق أكبر -نسأل الله العفو والعافية- وما من قلب ينعقد على شيء من بغض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو كراهيته ويكون صاحبه مؤمناً قط.
نعم. الناس يتفاوتون في محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفاوتاً عظيماً، ولكن المؤمن المسلم لا يخلو قلبه أبداً من شيء من محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن قل، أما أن يشتمل قلب أحدٍ من البشر بشيء من كراهيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا هو الكفر عياذاً بالله، ولا يجتمع الإيمان مع بغضه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، ومن ذلك عدم إيذائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زوجاته، وعدم إيذائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحابته الكرام.
فإن من آذاه في زوجاته أو في صحابته فكأنما آذاه في نفسه وفي شخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الواحد من الناس أو الواحد من البشر من آذاه في زوجته أو في صديقه، أو في حبيبه فلا شك أنه آذاه هو، فكيف بمن آذى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من ذلك؟! وهذا مما هو معلوم من جميع المسلمين -ولله الحمد- وإنما أحببنا أن ننبه فيه لأهميته.
[وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم]
---------------
19.وأين الشمس من دنس وعار
ماجد عبد الله
majed77744@hotmail.com
بكالوريوس في كلية الشريعة
مفكرة الإسلام: إن من الظلم لمحمد صلى الله عليه وسلم وإن من الظلم للحقيقة أن نقيسه بواحد من هؤلاء الآلاف من العظماء الذين لمعت أسماؤهم في دياجي التاريخ من يوم وجد التاريخ, فإن من العظماء من كان عظيم العقل ولكنه فقير في العاطفة والبيان, ومن كان بليغ القول وثّاب الخيال ولكنه عادي الفكر, ومن برع في الإدارة أو القيادة ولكن سيرته وأخلاقه كانت أخلاق السوقة الفجار.
ومحمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي جمع العظمة من أطرافها, وما من أحد من هؤلاء إلا كانت له نواح يحرص على سترها وكتمان أمرها، ويخشى أن يطّلع الناس على خبرها، نواحٍ تتصل بالشهوة أو ترتبط بأسرته، أو تدل على ضعفه وشذوذه، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي كشف حياته للناس جميعًا فكانت كتابًا مفتوحًا، ليس فيه صفحة مطبّقة ولا سطر مطموس، يقرأ فيه من شاء ما شاء, وهو وحده الذي أذن لأصحابه أن يذيعوا عنه كل ما يكون منه ويبلغوه، فرووا كل ما رأوا من أحواله في ساعات الصفاء، وفي ساعات الضعف البشري وهي ساعات الغضب والرغبة والانفعال, وروى نساؤه كل ما كان بينه وبينهنّ، هاكم زوجته عائشة رضي الله عنها تعلن في حياته وبإذنه أوضاعه في بيته، وأحواله مع أهله؛ لأن فعله كله دين وشريعة، وكتب الحديث والسير والفقه ممتلئة بها, لقد رووا عنه في كل شيء حتى ما يكون في حالات الضرورة البشرية، فعرفنا كيف يأكل، وكيف يلبس، وكيف ينام، وكيف يقضي حاجته، وكيف يتنظف من آثارها.
فأروني عظيماً آخر جَرؤ أن يغامر فيقول للناس: هاكم سيرتي كلها، وأفعالي جميعا، فاطّلعوا عليها، وارووها للصديق والعدو، وليجد من شاء مطناً عليها؟ أروني عظيماً آخر دُوّنت سيرته بهذا التفصيل، وعُرفت وقائعها وخفاياها بعد ألف وأربعمائة سنة، مثل معرفتنا بسيرة نبينا!!
والعظمة إما أن تكون بالطباع والأخلاق والمزايا والصفات الشخصية، وإما أن تكون بالأعمال الجليلة التي عملها العظيم، وإما أن تكون بالآثار التي أبقاها في تاريخ أمته وفي تاريخ العالم، ولكل عظيم جانب من هذه المقاييس تُقاس بها عظمته.(2/51)
أما عظمة محمد صلى الله عليه وسلم فتقاس بها جميعها، لأنه جمع أسباب العظمة، فكان عظيم المزايا، عظيم الأعمال، عظيم الآثار, والعظماء إما أن يكونوا عظماء في أقوامهم فقط، نفعوها بقدر ما ضروا غيرها، كعظمة الأبطال المحاربين والقواد الفاتحين، وإما أن تكون عظمته عالمية، ولكن في جانب محدود، في كشف قانون من القوانين التي وضعها الله في هذه الطبيعة وأخفاها حتى نُعمل العقل في الوصول إليها، أو معرفة دواء من أدوية المرض، أو وضع نظيرة من نظريات الفلسفة، أو صَوغ آية من آيات البيان، قصة عبقرية، أو ديوان شعر بليغ، أما محمد فكانت عظمته عالمية في مداها، وكانت شاملة في موضوعها.
والذي جرّني إلى الحديث عن هذا الجزء اليسير من هذه السيرة العطرة ما انتشر وذاع من قيام بعض من لا خلاق له بالتطاول على نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم واستهتارهم بالمسلمين, فالواجب علينا نحن المسلمين تجاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم القيام بهذه الأمور:
1- الدعاء عليهم.
2- المقاطعة الاقتصادية, فهي والله أشد عليهم من الاستنكار وغيرها، ونشرها في كل مكان.
3- الاستنكار لهذه الحادثة بكل وسيلة مستطاعة
---------------
20.محمد صلى الله عليه وسلم
هو نبينا وحبيبنا ، محمد صلى الله عليه وسلم .. النبي المصطفى .. والرسول المجتبى .. سيد الأولين والآخرين .. شفيع المذنبين بإذن الله .. قائد الغر المحجلين .
ذلكم النبي الذي أخرجه ربه من أفضل المعادن منبتا ، وأعز الأرومات مغرسا ، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه ، وانتخب منها أمناءه ، عترته خير العتر ، وأسرته خير الأسر ، وشجرته خير الشجر ، نبتت في حرم ، وبسقت في كرم ، لها فروع طوال ، وثمرة لا تنال ، فهو إمام من اتقى ، وبصيرة من اهتدى ، سراج لمع ضوؤه ، وشهاب سطع نوره .
سيرته القصد ، وسنته الرشد ، وكلامه الفصل ، وحكمه العدل ، أرسله ربه على فترة من الرسل، فترة ضل الناس فيها رشادهم ، ومجدوا عقولهم ، وملأوا الأرض جورا وظلما ، حتى استغاثت الأرض بالسماء ، فلطف الله بعباده فأرسله ربه رحمة للعالمين.
فكان أعدل الناس..
وأصدقهم لهجة ..
وأعظمهم أمانة ..
وأشجع الناس وأكرمهم ، اعترف له بذلك مجاوروه وأعداؤه ..
وكان أشد الناس تواضعا ..
وأبعدهم عن الكبر ..
كان أوفى الناس بالعهود..
وأوصلهم للرحم..
وأعظمهم شفقة ورأفة..
وأحسنهم عشرة وأدبا ..
كان يحب المساكين ويجالسهم ويشهد جنائزهم ..
كان لا يحقر فقيرا لفقره ، ولا يحسد غنيا لغناه ..
كان متواصل الأحزان ، دائم الفكرة..
ليست له راحة ، ولا يتكلم في غير حاجة ..
طويل السكوت ، يتكلم بجوامع الكلم ..
يعظم النعمة وإن دقت ، ويشكر إن كثرت أو قلت..
يؤلف أصحابه ولا يفرقهم..
يكرم كريم كل قوم ، ويوليه عليهم..
ويتفقد أصحابه ويسأل عنهم..
كان خلقه القرآن ، بل كان وكأنه قرآن يمشي على الأرض..
كان أجود الناس بالخير..
كان أشد الناس حياء..
كان أطيبهم كفا ، وأزكاهم رائحة ..
كان كما وصفه ربه ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب :45] ،
وقد وصف بذلك في التوراة كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : « والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفاته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، فيقولوا : لا إله إلا الله ، فيفتح به أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غلفا ، فيهدي به بعد الضلالة ، ويعلم به الجهالة ... » .
هو السراج المنير ، وفي القرآن الكريم سراجان : {سِرَاجاً وَهَّاجاً} ، و {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} ، فالسراج الوهاج هو الشمس في ضحاها ، والسراج المنير هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في جماله وبهائه وكماله ، فما الفرق بين السراجين ؟
السراج الوهاج : فيه نور وحرارة ، والسراج المنير : فيه نور وليس فيه حرارة ..
الشمس تؤذيك بحرها صيفا ، ونور الحبيب محمد يهديك صيفا وشتاء ..
الشمس إذا ازددت منها قربا تصيبك بالأمراض ، والحبيب محمد إذا ازددت منه قربا ازددت من الرحمن حبا..
الشمس تغيب ليلا ، ونور الحبيب محمد لا يغيب ليلا ولا نهارا ..
حبيبي يا رسول الله ، لقد زكاك ربك في كل شيء :
زكاك في عقلك فقال : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم :2] .
زكاك في بصرك فقال : { مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم :17] .
زكاك في قلبك فقال : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح :1] .
زكاك في ذكرك فقال : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح :4] .
زكاك في علمك فقال : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى} [النجم :5] .
وزكاك كلك فقال : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم :4] .(2/52)
قال الحسن بن الفضل : لم يجمع الله تعالى لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ،
فإنه قال عن نفسه سبحانه وتعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحج :65] ،
وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم : { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة 128] .
لما فقده الجذع الذي كان يخطب عليه قبل أن يتخذ المنبر حن إليه الجذع وصاح كما يصيح الصبي ، فنزل صلى الله عليه وسلم إليه ، فاعتنقه ، فجعل يهذي كما يهذي الصبي الذي يسكن عند بكائه ، فقال صلى الله عليه وسلم : « لو لم أعتنقه لحن إلى يوم القيامة » .
فكان الحسن البصري إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال : هذه خشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه .
ينزل عليه جبريل عليه السلام ذات ليلة فيجده يبكي ، فيقول : يا رسول الله ما يبكيك ؟ فقال الحبيب المصطفى : لقد قرأت قول الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم :36] ، وقرأت قوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [المائدة :118] ، ثم رفع يديه إلى السماء وقال : « اللهم أمتي » وبكى ، فقال الله عز وجل لجبريل عليه السلام : اذهب إلى محمد فسله : ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل فسأله ، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم ، فقال الله تعالى : يا جبريل ، اذهب إلى محمد فقل له : « إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك».
إذا كان رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يحبنا هذا الحب ، فلماذا لا نتأدب معه ؟!
بل إنه يحبنا أكثر من ذلك ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مثلي كمثل رجل استوقد نارا ، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمونها » .
لذلك فإن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل فيما يلي :
الإيمان به صلى الله عليه وسلم :
قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف :158] .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : (والإيمان هو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علما ، والتصديق به عقدا ، والإقرار به نطقا ، والانقياد به محبة وخضوعا ، والعمل به باطنا وظاهرا ، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان) .
والإيمان به صلى الله عليه وسلم هو تصديق بنبوته ورسالة الله تعالى له وتصديقه في جميع ما جاء به وما قاله ، ومطابقة تصديق القلب بذلك ، بشهادة اللسان بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة بذلك اللسان ، ثم الإيمان به صلى الله عليه وسلم والتصديق له .
• وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار )
يقول الإمام النووي معلقا على هذا الحديث : (وفي هذا الحديث نسخ الملل كلها برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي مفهومه دلالة على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور) .
وقوله :« لا يسمع بي أحد من هذه الأمة » أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة ، فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته ، وإنما ذكر اليهود والنصارى تنبيها على من سواهما، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب،فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى )
محبته صلى الله عليه وسلم :
ومن الأدب مع الرسول الأعظم ، والنبي الأكرم ، أن يحبه المؤمن أكثر من نفسه وماله وأهله وولده والناس أجمعين .
• قال تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب :6] ،
• ولقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله : « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين » .
• وعن عبد الله بن هشام قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له عمر : يا رسول الله ، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا ، والذي نفسي بيده ، حتى أكون أحب إليك من نفسك » ، فقال عمر : والله لأنت أحب إلي من نفسي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الآن يا عمر » ، أي الآن كمل إيمانك.(2/53)
• قال ابن بطال والقاضي عياض : المحبة ثلاثة أقسام :
1) محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد .
2) ومحبة شفقة ورحمة كمحبة الولد .
3) ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس .
فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأصناف في محبته .
• وقال القاضي عياض رحمه الله : ومن محبته نصرة سنته والذب عن شريعته ، وتمني حضور حياته فيبذل ماله ونفسه دونه .
لماذا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
نحب رسول الله
أولا : لأن الله أمرنا بذلك و تعبدنا بذلك وجعل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شروط الإيمان به
ثانيا : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله الله سبب كل خير نحن غيه من خيري الدنيا والآخرة، ولولاه لهلكنا ومتنا على الكفر ، واستحققنا الخلود في النار ، فبه عرفنا طريق الله ، وبه عرفنا مكائد الشيطان ، جعله الله رحمة مهداة ، ونعمة مسداة ، لولاه لنزل العذاب بالأمة ، رحمة لأتباعه ، رحمة لأعدائه .
- أما أتباعه فنالوا به كرامة في الدنيا والآخرة .
- وأما أعداؤه المحاربون له : فالذين عجل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم ، لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة ، وهم قد كتب الله عليهم الشقاء ، فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر .
- وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته ، وهم أقل شرا بذلك العهد من المحاربين له .
- وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم وجريان أحكام المسلمين عليهم.
- وأما الأمم النائية عنه فإن الله سبحانه وتعالى رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض ، فأصاب كل العالمين النفع برسالته .
ومن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : توقيره :
• قال الله تعالى : {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8)لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9)} [الفتح :8-9] ،
• وقال سبحانه : { لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} [النور :63] ، فلا تجعلوا أيها المؤمنون دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعوتموه ونداءكم له إذا ما ناديتموه كدعاء أو نداء بعضكم لبعض ، وإنما عليكم إذا ما ناديتموه أن تنادوه بقولكم : يا نبي الله ، أو يا رسول الله ، ولا يليق بكم أن تنادوه باسمه مجردا ، فلا تقولوا : يا محمد .
فإن مولاه لم يناده باسمه مجردا كسائر الأنبياء والمرسلين كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، ولكنه كان يناديه بقوله : يا أيها المدثر ، يا أيها المزمل ، يا أيها النبي ، يا أيها الرسول ، وإن كان قد ورد في أكثر من موضع ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم ، فإن وروده لم يكن على سبيل النداء .
فمن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نناديه باسمه مجردا ، وإنما علينا أن نوقره ونعظمه في أقوالنا وفي قلوبنا .
الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته :
والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كذلك يكون المؤمن مؤدبا معه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ، والأدب معه بعد موته يتمثل في :
توقيره :
إنه أدب ممتد في حياته وبعد مماته ، لأن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته وهو حي .
ولقد شدد فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك الأمر تشديدا عظيما ، فقد كان يعاقب من يرفع صوته في المسجد النبوي الشريف بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فعن السائب بن يزيد قال : كنت قائما في المسجد فحصبني – أي رماني بحصاة – رجل ، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب ، فقال : اذهب فأتني بهذين ، فجئته بهما ، قال : من أنتما ؟ من أين أنتما ؟ قالا : من أهل الطائف ، قال : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا ، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؟
قال ابن العربي : حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا ، وكلامه المأثور بعد موته ككلامه المسموع من لفظه صلى الله عليه وسلم ، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ، ولا يعرض عنه كما كان يلزمه في مجلسه صلى الله عليه وسلم .
و انظر إلى أدب الإمام مالك رحمه الله ، فقد كان إذا جاءه طلاب العلم ، خرجت إليهم الجارية فتقول لهم : يقول لكم الشيخ : تريدون الحديث أو المسائل ؟ فإن قالوا : المسائل خرج إليهم ، وإن قالوا الحديث دخل مغتسله ، واغتسل وتطيب ، ولبس ثيابا جددا ، وتعمم ووضع عليه الرداء ، وارتقى على كرسي ، ويخرج وعليه الخشوع والوقار ، ولايزال يبخر بالعود حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان يكره أن يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق أو وهو قائم أو مستعجل .(2/54)
قال مصعب بن عبد الله : كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه ، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه ، فقيل له يوما في ذلك فقال : لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون .
ومن الأدب معه : التأسي به في كل الأقوال والأفعال :
قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب : 21] .
قال ابن كثير : هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله ، ولهذا أمر الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته ، وانتظاره الفرج من ربه .
كان عبد الله بن عمر يتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله ، حتى في الأعمال الحياتية التي لا دخل لها في التشريع ولم نؤمر باتباعها .فعن نافع أن ابن عمر كان يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي في كل مكان صلى فيه ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل تحت شجرة فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة فيصب في أصلها الماء لكيلا تيبس .
قال مجاهد : كنا مع ابن عمر رضي الله عنهما في سفر فمر بمكان فحاد عنه ، فسئل لم فعلت ذلك ؟ قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ففعلته .
وينقل إلينا نافع وصفا لحاله وهو يتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : لو نظرت إلى ابن عمر إذ اتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم لقلت : هذا مجنون .
- ونحن كذلك يجب علينا أن نتأسى به صلى الله عليه وسلم .
- نتأسى به في شجاعته ، فقد كان أشجع الناس .
- نتأسى به في أخلاقه فقد كان خلقه القرآن .
* « كَانَ رَسُولُ الله أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا » .
* « كَانَ رَسُولُ الله أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ » .
* « كَانَ رَسُولُ الله أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً» .
* « لَمْ يَكُنْ رَسُولَ الله فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا وَلا صَخَّابًا في الأَسْوَاقِ وَلا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ » .
* « كَانَ رَسُولُ الله يَعُودُ المَرِيض وَيَتْبَعُ الجَنَازَةِ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ المَمْلُوكِ وَيَرْكَبُ الحِمَارِ»
* « كَانَ رَسُولُ الله إِذَا صَافَحَ الرَّجُلَ لَمْ يَنْزَعُ يَدَهُ وَلَمْ يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ وَجْهِهِ ، وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمَ رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَي جَلِيسٍ لَهُ » .
* « كَانَ رَسُولُ الله طَوِيلُ الصَّمْتِ »
* « كَانَ رَسُولُ الله يُكْثِرُ الذِّكْرِ وَيُقِلُّ اللَّغْوِ وَيُطِيلُ الصَّلاةِ وَيُقَصِّرُ خُطْبَتَهْ ، وَلا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِي مَعَ الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ فَيَقْضِي الحَاجَةَ» .
*« مَا سُئِلَ رَسُولُ الله شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ لا » .
• قال الجنيد بن محمد : الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الله عز وجل يقول : ( وعزتي وجلالي ، لو أتوني من كل طريق ، واستفتحوا من كل باب ، لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك يا محمد .
ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم الانتهاء عما نهى عنه وزجر :
فكما أن طاعته صلى الله عليه وسلم في كل الأمور واجبة ، فإنه يتبعه حتما وجوب الانتهاء عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزجر .
• عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أكلت الحمر .. فسكت ، ثم أتاه الثانية فقال : أكلت الحمر .. فسكت ، ثم أتاه الثالثة ، فقال : « أفنيت الحمر » .
فأمر مناديا فنادى في الناس : ( إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية) ، فأكفيت القدور ، وإنها لتفور باللحم .
إن هؤلاء الأبرار لم يفكروا في حيلة ، ولم يبحثوا عن فرصة أو استثناء ، ولم يجادلوا ويقولوا : إنما حرم رسول الله ما يذبح بعد ذلك لا ما تفور به القدور ، لكنهم انطاعوا للأمر ، وهكذا يكون الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن الأدب مع رسول الله توقير أصحابه والتأدب معهم :
• يقول القاضي عياض : ومن توقيره صلى الله عليه وسلم وبره:
- توقير أصحابه وبرهم.
- ومعرفة حقهم والاقتداء بهم.
- وحسن الثناء عليهم.
- والاستغفار لهم.
- والإمساك عما شجر بينهم.
- ومعاداة من عاداهم.
- والإضراب عن أخبار المؤرخين وجهلة الرواة وضلال الشيعة والمبتدعين القادحة في أحد منهم.
- وأن يلتمس لهم في ما نقل عنهم من مثل ذلك في ما كان بينهم من الفتن أحسن التأويلات ،
- ويخرج لهم أصوب المخارج ، إذ هم أهل لذلك.
- ولا يذكر أحد منهم بسوء ، بل تذكر حسناتهم وفضائلهم وحميد سيرتهم ، ويسكت عما وراء ذلك.
• فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لعن الله من سب أصحابي » ، وقال صلى الله عليه وسلم :« من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» .
ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم أن نزور مسجده ونصلي فيه:(2/55)
• قال القاسمي : من قصد زيارة المدينة ، فليصل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه كثيرا ، وليتطيب ويلبس أنظف ثيابه ، فإذا دخلها فليدخلها متواضعا معظما ، ويقصد المسجد ويصلي فيه بجانب المنبر ركعتين ، ثم يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيقف عند وجهه .
فيقف ويقول : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا نبي الله ، ويصلي ويسلم عليه كثيرا ، ثم يسلم على أبي بكر وعمر .
ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم الصلاة والسلام عليه:
• لقوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ،
- والصلاة من الله: ثناؤه على أنبيائه.
- والصلاة من الملائكة:الاستغفار.
- ومن الناس: الدعاء والتعظيم والتكريم.
والصلاة عليه من أعظم الذكر.
• عن عامر بن ربيعة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلى عليّ صلاة لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلَّى عليَّ ، فليقلَّ عبدٌ من ذلك أو ليكثر».
• وروى عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن جبريل أتاني فبشرني: أن الله عز وجل يقول لك: من صلى عليك صليتُ عليه ، ومن سلم عليك سلمتُ عليه ، فسجدتُ لله عز وجل شكراً » .
• وعن ابن مسعود : أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : « أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة » .
وتتأكد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع وأعمال ، منها :
إذا ورد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ،
لقوله : « البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليَّ ».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة»، ومثل هذا الحديث يدل على مشروعية الصلاة عليه كما ذكر، وقال بعضهم بوجوبها كلما ذكر ، وقال بعض آخر: تجب أول مرة ، وتسن فيما بعد.
الصلاة عليه في المجالس:
• لقوله صلى الله عليه وسلم : «ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة ،فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم».
الصلاة عليه عند سماع المؤذن:
• لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا سمعتم مؤذناً فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلى الله عليه بها عشراً ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة» .
الصلاة عليه عند دخول المسجد والخروج منه ، وعند المرور بالمساجد:
• لأنه صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال: (اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك) . وإذا خرج: «صلى على محمد وسلَّم ، ثم قال: (اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك) » .
• ولقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : (إذا مررتم بالمساجد فصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم) .
الصلاة عليه في التشهد الأخير ، وهو ركن من أركان الصلاة أو واجب ، وأما الصلاة عليه في التشهد الأول: فهي مستحبة.
الصلاة عليه في صلاة الجنائز، فإن من السنة:
• أن يقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب ،
• وفي الثانية يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ،
• وفي الثالثة يدعو للميت ،
• وفي الرابعة يقول : اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنَّا بعده .
الصلاة عليه بين تكبيرات صلاة العيد.
تستحب الصلاة عليه عند ختم الدعاء:
• لقول عمر رضي الله عنه : « الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك » .
يوم الجمعة وليلته يستحب الإكثار فيه من الصلاة عليه:
• لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أفضل أيامكم يوم الجمعة ، ففيه خلق آدم ، وفيه قبض ، وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا علي من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة علي ، قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت يعنى: وقد بليت ؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء » ،
• وقد ذهب الإمامان الشافعي وأحمد إلى وجوب الصلاة عليه والسلام في خطبتي الجمعة. ولا تصح الخطبتان إلا بذلك.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يؤدبنا بآداب المصطفى ، ويعلمنا سنته ، ويجعلنا متمسكين بها في الدنيا ، وأن يحشرنا مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن يسقينا من حوضه الشريف شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدا .
---------------
21.صور من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته
محمد السمان
خطيب جامع الجهيمي بالرياض
الصورة الأولى :(2/56)
جاء في صحيح البخاري في حديث الشفاعة العظمى عن أنس رضي الله عنه وفي الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيأتوني ، فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، فيقول : ارفع محمد ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعط ، قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، فيحد لي حدا ، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وسمعته أيضا يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - ثم أعود فأستأذن على ربي في داره ، فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقول : ارفع محمد ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعط ، قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، قال : ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وسمعته يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - ثم أعود الثالثة ، فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت له ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقول : ارفع محمد ، وقل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ، قال : فأرفع رأسي ، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، قال : ثم أشفع فيحد لي حدا ، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وقد سمعته يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن) . أي وجب عليه الخلود . قال : ثم تلا هذه الآية : {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} . قال : وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم .
الصورة الثانية ..
جاء عند البخاري أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة العظمى أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم (فأنطلق فآتي تحت العرش ، فأقع ساجدا لربي عز وجل ، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ، ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك ، سل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأقول : أمتي يا رب ، أمتي يا رب ، فيقال : يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ، ثم قال : والذي نفسي بيده ، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير ، أو : كما بين مكة وبصرى).
الصورة الثالثة ..
قرأ صلى الله عليه وسلم يوماً قول الله فى إبراهيم: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم: 36]
وقرأ قول الله فى عيسى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118].
فبكى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله إليه جبريل عليه السلام وقال: يا جبريل سل محمدًا ما الذي يبكيك؟ - وهو أعلم-، فنزل جبريل وقال: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: أمتي.. أمتي يا جبريل، فصعد جبريل إلى الملك الجليل. وقال: يبكى على أمته والله أعلم، فقال لجبريل: انزل إلى محمد وقل له إنا سنرضيك فى أمتك) رواه مسلم .
الصورة الرابعة
قول النبي صلى الله عليه وسلم (لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها ، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة) رواه البخاري .
الصورة الخامسة
أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله : {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} . فقال الرجل: يا رسول الله، ألي هذا ؟ قال : (لجميع أمتي كلهم). رواه البخاري .
الصورة السادسة
قول النبي صلى الله عليه وسلم (لولا أن أشق على أمتي ، أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة) رواه البخاري .
الصورة السابعة
روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قوله: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال : (عرضت علي الأمم ، فجعل يمر النبي معه الرجل ، والنبي معه الرجلان ، والنبي معه الرهط ، والنبي ليس معه أحد ، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فرجوت أن يكون أمتي ، فقيل : هذا موسى وقومه ، ثم قيل لي : انظر ، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل لي : انظر هكذا وهكذا ، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل : هؤلاء أمتك ، ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب). فتفرق الناس ولم يبين لهم ، فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أما نحن فولدنا في الشرك ، ولكنا آمنا بالله ورسوله ، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هم الذين لا يتطيرون ، ولا يسترقون ، ولا يكتوون ، وعلى ربهم يتوكلون). فقام عكاشة بن محصن فقال: أمنهم أنا يا رسول الله ؟ قال: (نعم). فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ فقال: (سبقك بها عكاشة).
الصورة الثامنة ..(2/57)
جاء في حديث الإسراء والمعراج الطويل ..قال النبي صلى الله عليه وسلم: ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام . قال ابن حزم وأنس بن مالك : قال النبي صلى الله عليه وسلم: ففرض الله على أمتي خمسين صلاة ، فرجعت بذلك ، حتى مررت على موسى ، فقال : ما فرض الله لك على أمتك ؟ قلت : فرض خمسين صلاة ، قال : فارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فراجعني فوضع شطرها ، فرجعت إلى موسى ، قلت : وضع شطرها ، فقال : راجع ربك ، فإن أمتك لا تطيق ، فراجعت فوضع شطرها ، فرجعت إليه ، فقال ارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فراجعته ، فقال : هي خمس ، وهي خمسون ، لا يبدل القول لدي ، فرجعت إلى موسى ، فقال : راجع ربك ، فقلت : استحييت من ربي ، ثم انطلق بي ، حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى ، وغشيها ألوان لا أدري ما هي ، ثم أدخلت الجنة ، فإذا فيها حبايل اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك. رواه البخاري.
الصورة التاسعة ..
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: "سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه". قالت فقلت: يا رسول الله! أراك تكثر من قول: "سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه؟" فقال: "خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي . فإذا رأيتها أكثرت من قول : سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه . فقد رأيتها . إذا جاء نصر الله والفتح . فتح مكة . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا . فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا". رواه مسلم .
الصورة العاشرة ..
قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! من قتل في سبيل الله فهو شهيد . قال : إن شهداء أمتي إذا لقليل ، قالوا : فمن هم ؟ يا رسول الله ! قال : من قتل في سبيل الله فهو شهيد . ومن مات في سبيل الله فهو شهيد . ومن مات في الطاعون فهو شهيد . ومن مات في البطن فهو شهيد . قال ابن مقسم : أشهد على أبيك ، في هذا الحديث ؛ أنه قال : والغريق شهيد . وفي رواية : قال عبيد الله بن مقسم : أشهد على أخيك أنه زاد في هذا الحديث: ومن غرق فهو شهيد. وفي رواية : زاد فيه: والغرق شهيد) رواه مسلم.
الصورة الحادية عشرة ..
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم ، عرف ذلك في وجهه ، وأقبل وأدبر. فإذا أمطرت ، سر به ، وذهب عنه ذلك . قالت عائشة : فسألته . فقال: "إني خشيت أن يكون عذابا سلطا على أمتي" . ويقول ، إذا رأى المطر "رحمة". رواه مسلم .
الصورة الثانية عشرة ..
عن عبد الله بن عمر؛ قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة . فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده . فلا ندري أشيء شغله في أهله أو غير ذلك . فقال حين خرج: إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم . ولولا أن يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة. ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلى. رواه مسلم
الصورة الثالثة عشرة ..
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية. حتى إذا مر بمسجد بني معاوية ، دخل فركع فيه ركعتين . وصلينا معه . ودعا ربه طويلا . ثم انصرف إلينا . فقال صلى الله عليه وسلم "سألت ربي ثلاثا . فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة . سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها . وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها . وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها" . وفي رواية : أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه . فمر بمسجد بني معاوية. رواه مسلم .
الصورة الرابع عشرة ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار. قال فأتاه جبريل عليه السلام, فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف . فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته, وإن أمتي لا تطيق ذلك" . ثم أتاه الثانية . فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين . فقال "أسأل الله معافاته ومغفرته . وإن أمتي لا تطيق ذلك" . ثم جاءه الثالثة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف . فقال "أسأل الله معافاته ومغفرته . وإن أمتي لا تطيق ذلك" . ثم جاءه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف. فأيما حرف قرءوا عليه ، فقد أصابوا. رواه مسلم.
---------------
22.قطوف من الشمائل المحمدية
محمد بن جميل زينو
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد فإن أقدم لإخواني القراء المسلمين الكرام :(2/58)
قطوفاً من الشمائل المحمدية ، والأخلاق النبوية ، والآداب الإسلامية ليطلعوا عليها ، ويقتدوا بهذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، في أخلاقه ، وآدابه ، وتواضعه ، وحلمه ، وشجاعته ، وكرمه ، وتوحيده لربه ، ولا سيما نحن في عصر نحتاج إلى نشر التوحيد والأخلاق اللذين انتصر بهما المسلمون ، وانتشر الإسلام .
وما أحسن قول الشاعر :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
والله أسأل أن ينفع بهذا الكتاب المسلمين ، ويجعله خالصاً لوجهه الكريم .
مولد الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}
2- ... وقال الله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ }
3- ... وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن صوم يوم الاثنين قال : ( ذلك يوم ولدت فيه ، وفيه بعثت ، وفيه أنزل الحق) .
4- ... لقد ولد الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين من شهر ربيع الأول في مكة المكرمة عام الفيل عام 571م من أبوين معروفين : أبوه عبدالله بن عبدالمطلب ، وأمه آمنة بنت وهب ، سماه جده محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقد مات أبوه قبل ولادته .
5- ... إن من واجب المسلمين أن يعرفوا قدر هذا الرسول الكريم ، فيحكموا بالقرآن الذي أُنزل عليه ، ويتخلقوا بأخلاقه ، ويهتموا بالدعوة إلى التوحيد التي بدأ بها رسالته متمثلة في قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} .
اسم ونسب الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} .
2- ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لي خمسة أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي .
3- ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسمي لنا نفسه أسماء فقال : "أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا المقفى ، والحاشر ، ونبي التوبة ، ونبي الرحمة"(المقفى : آخر الأنبياء)
4- ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ، ولعنهم ؟ يشتمون مذمماً ، ويلعنون مذمماً ، وأنا محمد) .
5- ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم) .
6- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( تسموا باسمي ، ولا تكنوا بكنيتي ، فإنما أنا قاسم أقسم بينكم) .
الرسول كأنك تراه صلى الله عليه وسلم :
1- ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً ، ليس بالطويل البائن ولا القصير .
2- ... كان الرسول صلى الله عليه وسلم ، أبيض مليح الوجه .
3- ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مربوعاً ( ) ، عريض ما بين المنكبين ، كث اللحية ، تعلوه حُمرة ، جمته إلى شحمة أذنيه ، لقد رأيته في حُلة حمراء ، ما رأيت أحسن منه . (كث اللحية : كثير الشعر) (جمته : شعره) .
4- ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم الرأس واليدين والقدمين ، حسن الوجه ، لم أر قبله ولا بعده مثله .
5- ... كان وجهه مثل الشمس والقمر وكان مستديراً .
6- ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرّ استنار وجهه ، حتى كأن وجهه قطعة قمر ، وكنا نعرف ذلك .
7- ... كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يضحك إلا تبسماً ، وكنت إذا نظرت إليه قلت أكحل العينين وليس بأكحل .
8- ... وعن عائشة قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً ، حتى أرى منه لهواته ، إنما كان ضحكه التبسم . ( لهواته : أقصى حلقه) .
9- ... وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في ليلة إضحيان فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والى القمر ، وعليه حلة حمراء ، فإذا هو عندي أحسن من القمر . ( إضحيان : مضيئة مقمرة) .
10- ... وما أحسن من قال في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم :
... وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ... ثمال اليتامي عصمة للأرامل .
... هذا الشعر من كلام أبي طالب أنشده ابن عمر وغيره ، لما أصاب المسلمين قحط ، فدعا لهم الرسول قائلاً : (اللهم أسقنا) فنزل المطر . (ثمال : مُطعم ، عِصمة : مانع من ظلمهم) .(2/59)
... والمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم المنعوت بالبياض يسأله الناس أن يتوجه إلى الله بوجهه الكريم ودعائه أن يُنزل عليهم المطر وذلك في حال حياته صلى الله عليه وسلم ، أما بعد مماته فقد توسل الخليفة عمر بالعباس أن يدعو لهم بنزول المطر ولم يتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم : وأنشد من كنانة فقال :
لك الحمد والحمد ممن شكر
... *** ... سُقينا بوجه النبي المطر
دعا الله خالقه دعوة
... *** ... إليه وأشخص منه البصر
فلم يك إلا كإلقاء الرداء
... *** ... وأسرع حتى رأينا الدرر
وكان كما قال له عمه
... *** ... أبو طالب أبيض ذو غرر
به الله يسقى صوب الغمام
... *** ... وهذا العيان لذاك الخير
فمن يشكر الله يلق المزيد
... *** ... ومن يكفر الله يلق الغير
قال الشاعر أبو رواحة عبدالله بن عيسى اليمني :
هذا رسول الله يبدو في الدنيا
... *** ... شمساً تضئ لسائر الأكوان
فهو الذي كان الختام لرسلنا
... *** ... كختام مسك فاح في البلدان
ذو الصورة البيضاء والوجه الذي
... *** ... أضحى لنا قمراً بكل مكان
وإذا لمست الكف قلت : حريرة
... *** ... من لينة كالزبد في فنجان
وإذا سمعت كلامه مترسلاً
... *** ... يصل القلوب يهز كل جنان
وجوامع الكلم البليغ أحاطتها
... *** ... إذا أنها فاقت لكل بيان
أبو معبد والرسول صلى الله عليه وسلم :
اشتهر في كتب السيرة والحديث خبر نزول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بخيمة أم مبعد (بقرير) طالبين القرى ، فاعتذرت لهم لعدم وجود طعام عندها إلا شاة هزيلة لا تدر لبناً ، فأخذ الشاة فمسح ضرعها بيده ، ودعا الله ، وحلب في إناء حتى علت الرغوة ، وشرب الجميع ، ولكن هذه الرواية طرقها ما بين ضعيفة وواهية إلا طريقاً واحداً يريوها الصحابي قيس بن النعمان السكوني ونصها :
(لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يستخفيان نزلا بأبي معبد فقال : والله ما لنا شاة ، وإن شاءنا لحوامل فما بقي لنا لبن .
الرسول صلى الله عليه وسلم : فما تلك الشاة ؟
أبو معبد : أتى بها .
الرسول صلى الله عليه وسلم : دعا بالبركة عليها ، ثم حلب عُسا فسقاه ثم شربوا . (عُساً : قدحاً كبيراً) .
أبو معبد : أنت الذي يزعم قريش أنك صابئ .
الرسول صلى الله عليه وسلم : إنهم ليقولون .
أبو معبد : أشهد أن ما جئت به حق .
أبو معبد : أتبعك .
الرسول صلى الله عليه وسلم : لا ، حتى تسمع أنا قد ظهرنا : (أي انتصرنا) .
أبو معبد : فاتبعه بعد : ( أي لحقه بعد أن ظهر في المدينة) .
من فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} .
2- ... {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} .
3- ... {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }
4- ... وقال صلى الله عيه وسلم : ( أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة ، وأنا أول من يقرع باب الجنة) .
5- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أول شفيع في الجنة ، لم يُصدق نبي من الأنبياء ما صدقت ، وإن نبياً من الأنبياء ما صدقه من أمته إلا رجل واحد) .
6- ... وقال صلى الله عليه وسلم : سألت ربي ثلاثاً ، فأعطاني ثنتين ، ومنعني واحدة : سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسِّنة ، فأعطانيها ، وسألته أن يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها) . (السنة : القحط) .
... وفي رواية : (فسألته أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها) .
7- ... وقال أنس بن مالك في حديث الإسراء وفيه :
... (والنبي صلى الله عليه وسلم ، نائمة عيناه ، ولا ينام قلبه) .
8- ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيام ، وأول من تنشق عه الأرض ، شافع ومشفع) .
9- ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون) .
10- ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً ، حتى كنت في القرن الذي كنت منه) .
11- ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي ، كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله ، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال : فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين) .(2/60)
12- ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني عند الله مكتوب خاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأخبركم بأول أمري : دعوة إبراهيم ، وبشارة عيسى ، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتنا ، وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام) . (لمنجدل : ملقى على الأرض) .
12- ... جاء الملك جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء فقال : (إقرأ باسم ربك الذي خلق) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد وأخبرها : لقد خشيت على نفسي ، فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ( ) ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل ، فقالت له خديجة ، يا ابن عم : أسمع من إبن أخيك ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس ( ) الذي نزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أومرجي هم ؟ قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً) .
خاتم نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... عن جابر بن سمرة قال : رأيت الخاتم بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غُدة حمراء مثل بيضة الحمامة يشبه جسده .
2- ... عن عبدالله بن سرجس قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ، ودخلت عليه ، وأكلت من طعامه ، وشربت من شرابه ، ورأيت خاتم النبوة في ناغض كتفه اليسرى ، جُمعاً عليه خيلان كأمثال التآليل .
3- ... عن الجعد بن عبدالرحمن قال : سمعت السائب بن يزيد يقول : ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن ابن أختي وجع فمسح رأسي ، ودعا لي بالبركة ، ثم توضأ فشربت من وضوئه ( ) ثم قمت خلف ظهره ، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة ( ) .
طيب رائحة النبي صلى الله عليه وسلم :
1- ... عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ ، إذا مشا تكفأ ( ) ، وما مسحت ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شممت مسكاً ولا عنبراً أطيب من رائحة النبي صلى الله عليه وسلم .
2- ... عن أنس قال : دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال ( ) عندنا فعَرق ، فجاءت أمي بقارورة ، فجعلت تسلُت العرق فيها فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( يا أم سليم ، ما هذا الذي تصنعين ؟ قالت : هذا عرقك نجعله طيبنا ، وهو من أطيب الطيب .
3- ... كان صلى الله عليه وسلم ، يعرف بريح الطيب إذا أقبل .
4- ... وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان لا يرد الطيب) .
5- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( أطيب الطيب المسك) .
صفة نوم الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... كان ينام أول ، ويُحيي آخره .
2- ... كان النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا أوى إلى فراشه قال : (باسمك اللهم أموت وأحيا) وإذا استيقظ قال : ( الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا ، واليه النشور) .
3- ... كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه وضع كفه اليمنى تحت خده الأيمن ، وقال : ( رب قني عذابك يوم تبعث عبادك) .
4- ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه فنفث فيهما وقرأ فيهما : ( قل هو الله أحد) و (قل أعوذ برب الفلق) و ( قل أعوذ برب الناس) ثم مسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، ينصع ذلك ثلاث مرات .
5- ... كانت وسادته التي ينام عليها بالليل من أدم (جلد) حشوها من ليف .
6- ... كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه من أدم (أي جلد) حشوه ليف.
7- ... قال عائشة : يا رسول الله ، أتنام قبل أن توتر ؟ فقال : ( يا عائشة : إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) .
قراءة الرسول وصلاته صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} .
2- ... كان لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاثة (أيام) .
3- ... كان يقطع قراءته آية آية : (الحمد لله رب العالمين) ثم يقف (الرحمن الرحيم) ثم يقف.
4- ... كان صلى الله عليه وسلم يقول : ( زينوا القرآن بأصواتكم ، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً) .
5- ... كان يمد صوته بالقرآن مداً .
6- ... كان يقوم إذا سمع الصارخ (الديك) .
7- ... كان يصلي في نعليه : ( إذا كان المكان غير مفروش) .
8- ... كان إذا حزبه أمر صلى (حزبه : كربه) .
9- ... كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها .
10- ... كان يُحرك إصبعه اليمنى يدعو بها .
... (السبابة عند الجلوس في الصلاة) .
... ويقول : ( لهي أشد على الشيطان من الحديد) .(2/61)
11- ... كان يضع يده اليمنى على اليسرى على صدره (في الصلاة) .
12- ... إن الأئمة الأربعة أجمعت على قول : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، فيكون التحريك ، وضع اليدين على اليدين على الصدر في الصلاة من مذهبهم ، وهو من سنن الصلاة .
13- ... لقد أخذ بسنة تحريك الأصبع (السبابة) في الصلاة الإمام مالك وغيره ، وبعض الشافعية – رحمهم الله – كما في شرح المهذب للنووي 3/454 ذكر ذلك محقق جامع الأصول .
14- ... وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ، الحكمة من تحريكها في الحديث المذكور أعلاه ، لأن تحريك الأصبع يشير إلى توحيد الله ، وهذا التحريك أشد على الشيطان من ضرب الحديد ، لأنه يكره التوحيد ، فعلى المسلم أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا ينكر سنته ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي) .
15- ... كان يعقد التسبيح (بيمينه) .
صوم النبي صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال صلى الله عليه وسلم : ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه) .
2- ... قال صلى الله عليه وسلم : ( من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصوم الدهر) .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ثلاث من كل شهر ، ورمضان إلى رمضان ، فهذا صيام الدهر كله ، صيام يوم عرفة ( ) احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ، والسنة التي بعده ، وصيام (يوم) عاشوراء ( ) احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) .
4- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) ( ) .
5- ... سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين والخميس ؟قال : يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين ، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) .
6- ... نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن صوم يوم الفطر والأضحى .
7- ... ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استكمل صيام شهر قط ، إلا رمضان .
قيام الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} .
2- ... عن عائشة : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ، ولا في غيره ، على إحدى عشرة ركعة ، يصلي أربعاً ، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثاً ، فقلت : أتنام قبل أن توتر ؟ فقال : ( ياعائشة : إن عيني تنامان ، ولا ينام قلبي) .
3- ... عن الأسود بن يزيد قال : سألت عائشة رضي الله عنها ، عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالليل ، فقالت : كان ينام أول الليل ، ثم يقوم ، فإذا كان من السحر أوتر ، ثم أتى فراشه ، فإذا كان له حاجة ، ألم بأهله ، فإذا سمع الأذان وثب ، فإذا كان جنباً أفاض عليه من الماء ، والا توضأ وخرج للصلاة .
4- ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقوم حتى تنتفخ قدماه فيقال له : يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : ( أفلا أكون عبداً شكوراً) .
صفة كلام الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
2- ... وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو : (أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق) .
3- ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بجوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، فبينما أنا نائم رأيتني أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض ، فوضعت في يدي) .
... قال أبو هريرة : ذهب رسول الله وأنتم تنتقلونها .
(جوامع الكلام : الكلام القليل ذو المعنى الكثير)
... مفاتيح خزائن الأرض : تسهيل فتح البلاد) .
4- ... عن عائشة قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يسردكسردكم هذا ، ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه) .
... (فصل : ظاهر) .
5- ... كان يحدث حديثاً لو عدة العادة لأحصاه .
6- ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، طويل الصمت .
7- ... كان صلى الله عليه وسلم يُعيد الكلمة ثلاثاً لُتِغقل عنه .
... وفي رواية ( حتى تُفهم عنه) .
... والمراد : الكلمة الصعبة التي تحتاج للإعادة) .
8- ... كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يحب الجوامع من الدعاء ، ويدع ما بين ذلك .
... (الجوامع : الكلام القليل ذو المعنى الكثير) .
9- ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا خطب احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه ، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم .
صفة حوض الرسول صلى الله عليه وسلم :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حوضي مسيرة شهر ، ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء من شرب منه فلا يظمأ أبداً) .
(كيزان : جمع كوز وهو الإبريق) .
من زهد الرسول صلى الله عليه وسلم :(2/62)
1- ... قال الله تعالى : {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
2- ... وعن عمر بن الخطاب في حديث إيلاء ( ) رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه ألا يدخل عليهن شهراً ، واعتزل عنهن في عُلية ، فلما دخل عليه عمر في تلك العُلية ، فإذا فيها سوى صُبرة ( ) من قرظ ( ) وأهبةٍ ( ) وصُبرة من شعير ، وإذا هو مضطجع عل رمال حصير ، وقد أثر في جنبه ، فهملت عينا عمر ، فقال : مالك ؟ قلت يا رسول الله أنت صفوة الله من خلقه ، وكسرى وقيصر فيما هما فيه ، فجلس مُحمراً وجهه ، فقال : أوفي شك يا ابن الخطاب ؟ ثم قال : أولئك قوم عُجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا .
... وفي رواية مسلم : ( أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ، ولنا الآخرة ؟ فقلت : بلى يا رسول الله ، قال : فاحمد الله عز وجل .
3- ... وعن علقمة عن ابن مسعود قال : اضطجع رسول الله على حصير ، فأثر الحصير بجلده ، فجعلت أمسحه وأقول : بأبي أنت وأمي : ألا آذنتنا فنبسط لك شيئاً يقيك منه تنام عليه ؟ قال : (مالي وللدنيا ، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)
4- ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو كان لي مثل أُحد ذهباً لسرني أن لا تمر عليّ ثلاث ليالي وعندي منه شئ إلا شيئاً أرصده لدين) .
5- ... وعن عمرو بن الحارث رضي الله عنهما قال ك ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً ، ولا عبداً ولا أمة ، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها ، وسلاحه ، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة .
جوع الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم :
يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فإذا هو بأبي بكر قاعد وعمر معه خارج بيوتهما
الرسول صلى الله عليه وسلم : ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة ؟
أبو بكر وعمر : الجوع يا رسول الله .
الرسول صلى الله عليه وسلم : وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما .
يأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن يقوموا فقاموا معه ، فذهبوا إلى بيت رجل من الأنصار اسمه (أبو الهيثم مالك بن التيهان) فلم يجدوه في بيته .
المرأة : (تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه) : مرحباً وأهلاً .
الرسول صلى الله عليه وسلم : أين فلان (يعني أبا هيثم) .
المرأة : ذهب يستعذب لنا الماء ( يأتي بالماء الحلو) .
يأتي أبو الهيثم فينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، ويلتزم النبي ويفديه بأبيه وأمه .
أبو الهيثم : الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني .
ينطلق أبو الهيثم فيأتي بغصن نخيل فيه بُسر وتمر ورُطب .
(أنواع التمر حين ينضج) .
أبو الهيثم : كلوا من هذه :
ينطلق أبو الهيثم ومعه السكين ليذبح لهم شاة :
الرسول صلى الله عليه وسلم : إياك والحلوب (احذر الشاة ذات اللبن) .
الرسول صلى الله عليه وسلم يأكلون التمر واللحم ويشربون الماء العذب ، حتى شبعوا ورووا .
الرسول صلى الله عليه وسلم : (لأبي بكر وعمر) والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم .
يستفاد من الحديث :
1- ... كان الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصحابته يشتد به الجوع ، فيخرجون من بيوتهم ، لعلهم يجدون طعاماً ، آخذين بالأسباب .
2- ... لا بأس أن يذهب الرجل إلى تناول الطعام في بيت أحد أصحابه ، إذا كان يعلم أن ذلك يسره .
3- ... يجوز للرجل سؤال المرأة من وراء حجاب إذا لم يكن وحده .
4- ... التنبيه على فضل النعمة ، وشكر خالقها ، وعدم الاشتغال بها عن المنعم ، قال الله تعالى : {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ}
عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}
... (أي كنت فقيراً ذا عيال ، فأغناك الله عمن سواه) .
2- ... وعن عائشة أنها قالت : إن كنا آل محمد ، ليمر بنا الهلال ، ما نوقد ناراً ، إنما هما الأسودان ، التمر والماء ، إلا أنه كان حولنا أهل دور من الأنصار ، يبعثون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن منائحهم ( ) ، فيشر ويسقينا من ذلك اللبن .
3- ... وعن أنس قال : ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى رغيفاً مرققاً ، حتى لحق الله ، ولا شاة سميطاً ( ) بعينه قط .
4- ... وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتلوى من الجوع ، ما يجد ما يملأ من الدقل بطنه .(الدقل : ردئ التمر) .
5- ... وعن أنس رضي الله عنه أنه مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بخبز وإهالة سنخة ( ) ، ولقد رهن درعه عند يهودي ، فأخذ لأهله شعيراً ، ولقد سمعته ذات يوم يقول : ( ما أمسي عند آل محمد صاع تمر ، ولا صاع حب) .(2/63)
6- ... كان يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله ، ولا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم الشعير.
7- ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدموا المدينة – ثلاثة أيام تباعاً – من خبر بر ، حتى مضى لسبيله (أي مات) .
8- ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم أجعل رزق آل محمد قوتاً) (أي ما يسد الجوع) .
بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم :
الحديث الأول : الرسول جالس مع عبدالله بن مسعود :
الرسول صلى الله عليه وسلم : إقرأ عليّ .
ابن مسعود : أقرأ عليك ، وعليك أنزل ؟ .
الرسول صلى الله عليه وسلم : أحب أن أسمعه من غير .
عبدالله بن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى أتى إلى هذه الآية : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا} .
الرسول صلى الله عليه وسلم : حسبك الآن .
يلتفت ابن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا عيناه تذرفان (أي تدمعان) .
يستفاد من الحديث :
1- ... قول الرسول صلى الله عليه وسلم للقارئ (حسبك الآن) ولم يقل صدق الله العظيم .
2- ... كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب سماع القرآن من غيره .
3- ... أن الخشوع عند سماع القرآن يكون بالبكاء لا بالصياح .
الحديث الثاني : يدخل الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على ولده إبراهيم وهو عند مرضعته ، فيأخذه ويقبله ويشمه ، ثم يدخل الصحابة عليه بعد ذلك فيجدون إبراهيم يجود بنفسه (أي يموت) فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان (تدمعان) .
عبدالرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله (تبكي) .
الرسول صلى الله عليه وسلم : إنها رحمة ... إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون .
يستفاد من الحديث :
1- ... جواز البكاء على المبيت بدون صراخ ولا نواح .
2- ... جواز الحزن على الميت ، مع تجنب الكلام الذي يدل على السخط والغضب ، والرضا بالقدر والتسليم .
3- ... البكاء رحمة .
4- ... الصبر والاحتساب .
رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال صلى الله عليه وسلم : ( من رآني في المنام ، فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بي) .
2- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (من رآني فقد رأى الحق ، فإن الشيطان لا يتزياً بي) .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ، ولا يتمثل الشيطان بي) .
يستفاد من هذه الأحاديث :
1- ... أن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم ، ممكنة على الوجه الذي ورد في شمائله . من طوله ، ولونه ، وهيبته ، ولحيته ، وغير ذلك .
2- ... لقد ذكر المناوي في تفسير هذه الأحاديث أن الرؤيا الصحيحة ، أن يراه بصورته الثابتة بالنقل الصحيح ، فإن رآه بغيرها كطويل أو قصير ، أو شديد السمرة ، لم يكن رآه .
3- ... وذكر المناوي أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم : فسيراني في اليقظة رؤية خاصة بصفة القرب والشفاعة (يوم القيامة) .
4- ... يدعى بعض الصوفية أنهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم : في الدنيا يقظة ، استناداً للحديث الثالث ، ورد عليهم ابن حجر بقوله : ( يلزم عليه أن هؤلاء صحابة ، وبقاء الصحبة إلى يوم القيامة) وهذا لا يقوله مسلم .
5- ... قرأت في أحد كتب الصوفية قوله : قال أبو المواهب الشاذلي قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ....إلى آخر الحديث المكذوب) وسألت المؤلف عن هذا الشخص هل هو صحابي ؟ قال : لا ، بل بينه وبين أبي الحسن الشاذلي خمسة مشايخ وقد رأى الرسول يقظة ، قلت له : الصحابة لم يروا الرسول يقظة بعد موته ، فلم يقتنع ، فقلت في نفسي : هذا من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حذر منه بقوله : (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) .
6- ... سئل شيخ الإسلام زكريا الأنصاري عن رجل زعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ، يأمر بشئ ، فقال : يكره ، بل يحرم ، ونص العلماء على أن الرؤيا لا يؤخذ منها أحكام .
7- ... يدعي بعض الصوفية كابن عربي أنهم يأخذون علوم الشريعة من الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة مخالفين قوله تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} .
8- ... إن أكبر رد على من يدعي رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته قوله تعالى : {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} .(2/64)
2- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها ، وإذا أراد هلكة أمة ، عذبها ونبيها حي ، فأهلكها وهو ينظر ، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه ، وعصوا أمره) - فرطاً وسلفاً : أجراً متقدماً - .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله خير عبداً بين الدنيا ، وبين ما عند الله ، فاختار ذلك العبد ما عند الله) فبكى أبو بكر .
4- ... وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كشف الستارة يوم الاثنين فنظرت إلى وجهه ، كأنه ورقة مصحف ، والناس خلف أبي بكر ، فكاد الناس أن يضطربوا ، فأشار إلى الناس أن أثبتوا ، وأبو بكر يؤمهم ، وألقى السجف (الستر) وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من آخر ذلك اليوم .
5- ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قبضه الله ، وإن رأسه لبين نحري وسحري (أرادت أنه مات في حضنها) .
6- ... وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( لما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من كرب الموت ما وجد ، قالت فاطمة رضي الله عنها : واكرباه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا كرب على أبيك بعد اليوم ، إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك مه أحداً ( ) الموافاة يوم القيامة ( ) .
7- ... وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه ، وبالمدينة عشراً ، وتوفى وهو ابن ثلاث وستين) .
8- ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبوبكر بالسنح (يعني بالعالية بالمدينة) فقام عمر يقول : والله ما مات رسول الله ,, فجاء أبو بكر ، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبله ، وقال : بأبي أنت ، طبت حياً وميتاً ، والذي نفسي بيده ، لا يذيقنك الله الموتتين أبداً ( ) ، ثم خرج أبو بكر ، فقال : أيها الحالف على رسلك (أي لا تعجل يا عمر) فلما تكلم أبو بكر جلس عمر ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : ألا من كان يعبد محمداً ، فإن محمد قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، وقال : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } ، وقال تعالى : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} .
... قال : فنشج الناس (بكى الناس) .
9- ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح : ( إنه لم يُقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ، ثم يخير بين الدنيا والآخرة) .
... قالت عائشة رضي الله عنها : لما نزل به – ورأسه على فخذي – غُشي عليه ، ثم أفاق فأشخص بصره إلى السقف ، ثم قال : (اللهم الرفيق الأعلى) ، قلت : إذاً لا يختارنا ، قالت : وعرفت أنه الحديث الذي كان يُحدثنا به وهو صحيح .
10- ... والمعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، توفى يوم الاثنين سنة 11 هجرية بعد أن بلّغ رسالته ، وأكمل الله به الدين .
من أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} .
2- ... وقال الله تعالى : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
3- ... كان صلى الله عليه وسلم ، خلقه القرآن .
4- ... كان أبغض الخلق إليه الكذب .
5- ... لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً ، ولا لعاناً وكان يقول : (عن من خياركم أحسنكم أخلاقاً) .
6- ... وعن أنس قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا لعاناً ولا سباباً ، وكان يقول عند المعتبة : (المعاتبة) ماله ترب جبينه ، ( ترب جبينه : كلمة تقال عند التعجب).
7- ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن الناس وجهاً ، وأحسنهم خُلقاً .
8- ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله أدع على المشركين ، قال : (إني لم أُبعث لعاناً ، وإنما بعثت رحمة) .
9- ... كان يتفاءل ولا يتطير (يتشاءم) ، ويُعجبه الاسم الحسن .
10- ... عن عمرو بن العاص قال : كان رسول الله يُقبل بوجهه وحديثه عليّ ، حتى ظننت إني خير القوم .
... عمر بن العاص : يا رسول الله ، أنا خير ، أو أبو بكر ؟ .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : أبو بكر .
... عمرو بن العاص : يا رسول الله أنا خير أو عمر ؟ .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : عمر .
... عمر بن العاص : يا رسول الله أنا خير أو عثمان ؟ .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : عثمان .(2/65)
... عمر بن العاص : فلما سألت رسول الله صدقني ، فلوددت أني لم أكن أسأله .
11- ... وعن عطاء بن يسار قال : لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، فقال : أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وحرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن يقبضه الله حتى يُقيم به الملة والعوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، ويفتح به أعيناً عُمياً , وآذاناً صُماً ، وقلوباً غُلفاً) .
12- ... وعن عائشة رضي الله عنه قالت : ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط ، إلا اختار أيسرهما ، ما لم يكن إثماً ، كان أبعد الناس منه ، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لنفسه في شئ قط إلا أن تنتهك حرمة الله ، فينتقم بها .
13- ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شيئاً قط بيده ، ولا امرأة ، ولا خادماً ، إلا أن يجاهد في سبيل الله ، وما نيل منه شئ قط ، فينتقم من صاحبه ، إلا أن ينتهك شئ من محارم الله فينتقم لله .
14- ... وكان صلى الله عليه وسلم ، إذا أتاه السائل ، أو صاحب الحاجة قال ك ( اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء) .
15- ... وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً ، فأرسلني يوماً لحاجة ، فقلت : والله لا أذهب ، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجت حتى أمر على صبيان ، وهم يلعبون في السوق ، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقفاي من ورائي ، فنظرت إليه وهو يضحك .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : يا أنيس ذهبت حيث أمرتك ؟ .
... أنس بن مالك : أنا أذهب يا رسول الله .
... قال أنس : والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشئ صنعته : لم فعلت كذا وكذا ؟ ولا عاب عليّ شيئاً قط ، والله ما قال لي أفّ قط .
16- ... أسر الصحابة سيداً اسمه "ثمامة" وربطوه بسارية المسجد ، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ماذا عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي يا محمد خير ، ان تقتل تقتل ذا دم ، وإن تُنعم تُنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أطلقوا ثمامة) ، فانطلق ثمامة فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحسن الوجوه كلها إليّ ، وما كان من دين أبغض إليّ من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إليّ ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك ، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ ، ولما قدم مكة قال له قائل : أصبوت ؟
... قال : لا ولكن أسلمت .
أحاديث في الأخلاق :
1- ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن من خياركم أحاسنكم أخلاقاً).
2- ... (إن من أحبكم اليّ أحسنكم أخلاقاً) .
3- ... (أكمل المؤمنين إيماناً ، أحسنهم خلقاً ، وخياركم خياركم لنسائهم)
4- ... (إن لكل دين خلقاً ، وإن خلق الإسلام الحياء) .
5- ... (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) .
6- ... (إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً ، وألطفهم بأهله) .
7- ... (ما من شئ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وإن الله يبغض الفاحش البذئ) .
8- ... ( إن من أحبكم اليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً ، وإن أبغضكم اليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون ، والمتشدقون والمتفيهقون ، قالوا : يا رسول الله ما المتفيهقون ؟ قال : المتكبرون . (الثرثارون : المكثرون من الكلام تكلفاً) ، (المتشدقون : المتكلمون تفاصحاً وتعظيماً لنطقهم) .
9- ... (البرُ حُسن الخُلق) .
10- ... (اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن) .
11- ... (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) .
12- ... (ألا أخبركم بمن يحرم على النار ، أو بمن تحرم عليه النار ؟ على كل قريب سهل لين)
13- ... (أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً) .
14- ... (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ، الموطئون أكنافاً ، الذين يألفون ، ويؤلفون ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) .
15- ... سُئل صلى الله عليه وسلم ، عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة فقال : (تقوى الله وحُسن الخلق) .
16- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن غر كريم ، والفاجر خب لئيم) .
17- ... (المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف ، إن قيد انقاد ، وان أنيخ على صخرة استناخ).(2/66)
18- ... (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) .
19- ... (ألا أنبئكم بخياركم ؟ قالوا : بلى ، قال : خياركم أطولكم أعماراً وأحسنكم أخلاقاً) .
20- ... (أربع إذا كن فيك ، فلا عليك ما فاتك من الدنيا ، صدق الحديث ، وحفظ الأمانة ، وحسن الخلق ، وعفة مطعم) .
21- ... (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ، ولكن بعثني مُعلماً وميسراً) .
(المعنت : من يشق على الناس ، المتعنت : طالب المشقة) .
22- ... (أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان مُحقاً ، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً ، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) .
... (ربض : أسفل ، المراء : الجدال) .
من دعاء الرسول في الأخلاق :
1- ... (اللهم أهدني لأحسن الأعمال ، وأحسن الأخلاق ، لا يهدي لأحسنا إلا أنت ، وقني سيئ الأعمال ، وسيئ الأخلاق ، لا يقي سيئها إلا أنت ) .
2- ... (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء) .
3- ... (اللهم ألف بين قلوبنا ، وأصلح ذات بيننا) .
4- ... (اللهم إنما أنا بشر ، فأي المسلمين سببته أو لعنته ، فأجعلها له زكاة وأجراً) .
5- ... (اللهم من ولى من أمر أمتي شيئاً ، فشق عليهم ، فاشقق عليه ، ومن ولى من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم ، فارفق له) .
6- ... (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع) .
7- ... (اللهم كما حسنت خَلقي فأحسن خُلقي) .
العفو عند الخصام :
1- ... عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلاً شتم أبا بكر ، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس يتعجب ويبتسم ، فلما أكثر رد عليه بعض قوله ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقام فلحقه أبوب بكر :
... أبو بكر : يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس ، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : كان معك ملك يرد عليه ، فلما رددت عليه وقع الشيطان (أي حضر) ، يا أبا بكر : ثلاث كلهن حق :
... ما من عبد ظُلم بمظلمة ، فيغضي ( ) عنها الله عز وجل ، إلا أعز الله بها نصره ، وما فتح رجب باب عطية ( ) يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة ، وما فتح رجب باب مسألة ( ) يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قلة) .
2- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (المستبان ما قالا ، فعل البادئ ما لم يعتد المظلوم) .
... دل الحديث على جواز مجازاة من ابتدأ الإنسان بالأذية أو السب بمثله ، وأن إثم ذلك عائد على البادئ ، لأنه المتسبب لكل ما قاله المجيب ، إلا أن يعتدي المجيب في أذيته بالكلام،فيختص به إثم عدوانه ، لأنه إنما أذن في مثل ما عوقب به .
... قال تعالى : {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} .
... وعدم المجازاة والصبر والاحتمال أفضل ، كما مر في حديث أبي هريرة الأول .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) .
... ومعناه أن الله يبغض من كان شديد المراء الذي يحج صاحبه ، وحقيقة المراء طعنك في كلام غيرك ، لإظهار خلل فيه ، لغير غرض سوى تحقير قائله ، وإظهار مزيتك عليه .
من تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
2- ... عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن الناس خُلقاً ، وكان لي أخ يقال له : أبو عمير ، وهو فطيم ، كان إذا جاءنا ، قال : يا أبا عمير ، ما فعل النغير؟ النغير كان يعلب به (طائر يشبه العصفور) .
3- ... وعن الأسود بن يزيد النخعي رحمه الله قال : سألت عائشة رضي الله عنها : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : يكون في مهنة ( ) أهله ، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج للصلاة .
4- ... وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن كانت الأمة ( ) لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنطلق به حيث شاءت .
5- ... وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له ، لما يعلمون من كراهيته لذلك .
6- ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا عبدالله ورسوله) .
... (الإطراء : الزيادة في المدح) .
7- ... كان يزور الأنصار ويُسلم على صبيانهم ، ويمسح رؤوسهم .
8- ... كان لا يُسأل شيئاً إلا أعطاه ، وسكت .
9- ... كان يأتي ضعفاء المسلمين ، ويزورهم ، ويعود مرضاهم ، ويشهد جنائزهم .
10- ... كان يتخلف في المسير ، فيُزجى الضعيف ، ويُردف ويدعو لهم .
... (يزجي : يسوق الضعيف ليلحق بأهله ، يُردف : يُركب خلفه) .(2/67)
11- ... كان يكثر الذكر ، ويقل اللغو ، ويطيل الصلاة ، ويقصر الخطبة ، وكان لا يأنف ولا يستكبر أن يمضي مع الأرملة والمسكين ، والعبد ، حتى يقضي له حاجته .
... ( لا يأنف : لا يمتنع) .
12- ... كان يجلس على الأرض ، ويأكل على الأرض ، ويعقل الشاة .
13- ... كان لا يدفع عنه الناس ولا يضربوا عنه .
14- ... كان لا يرد الطيب .
15- ... كان يلاعب زينب بنت أم سلمة ، ويقول : ( يا زوينب ، يا زوينب مراراً) .
16- ... عن جابر رضي الله عنه قال : أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر يمشيان .
17- ... وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : مر على صبيان يلعبون فسلم عليهم .
18- ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخصف نعله ، ويخيط ثوبه ، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته ، وقالت : كان بشراً من البشر يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ويخدم نفسه .
19- ... وعن أنس قال : خدمت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وأنا ابن ثمان سنين فما لامني على شئ قط أتي فيه (أي أهلك وأتلف) فإن لامني لائم من أهله قال : "دعوه ، فإنه لو قُضي شئ كان" .
أحاديث في التواضع :
1- ... قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد) .
2- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه) .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( لو دُعيت إلى كراع ، أو ذراع لأجبت ، ولو أهدي اليّ ذراع أو كراع لقبلت) .
4- ... وعن أنس رضي الله عنه قال : كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم : (العضباء) لا تسبق ، أو لا تكاد تسبق ، فجاء أعرابي على قعود له (جمل) فسبقها ، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حق على الله أن لا يرتفع شئ من الدنيا إلا وضعه .
5- ... وقال صلى الله صلى الله عليه وسلم : (ما بعث الله نبياً إلا رعي الغنم ، قال أصحابه : وأنت ؟ فقال نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) .
6- ... وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسل كان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث وقال : (إذا سقطت لُقمة أحدكم فليأخذها ، وليمط عنها الأذى ، وليأكلها ، ولا يدعها للشيطان ، وأمرنا أن نسلت القصعة ، وقال : إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ) .
عاقبة المتكبرين :
1- ... قال الله تعالى : {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} .
2- ... وقال تعالى : {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : ( العز إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني شيئاً منهما عذبته) .
... المعنى : شُبه العز والكبرياء بالإزار والرداء ، لأن المتصف بهما يشملانه ، كما يشمل الإنسان الإزار والرداء ، وأنه لا يشاركه في إزاره وردائه أحد ، فكذلك الله عز وجل : العز والكبرياء إزاره ورداؤه ، فلا ينبغي أن يشركه فيهما أحد ، فضربه مثلاً لذلك ، ولله المثل الأعلى .
4- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ، ونعله حسنة ، قال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر : بطر الحق ، وغمط الناس) .
... (بطر الحق : رده تكبراً وتجبراً ، غمط الناس : احتقارهم) .
... وفي رواية : ( لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبر) .
معنى الحديث :
1- ... ذكر الإمام النووي في شرح صحيح مسلم هذا الحديث : (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) أي لا يدخلها مع المتقين أولاً ، حتى ينظر الله فيه ، فإما أن يجازيه ، وإما أن يعفو عنه) .
2- ... وقوله : ( لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ) يعني به دخول تخليد وتأبيد .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال ، يغشاهم الذل من كل مكان ، يساقون إلى سجن جهنم يقال له : (بولس) تعلوهم نار الأنيار ، يسقون عصارة أهل النار طينة الخبال) .
4- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (قد أذهب الله عنكم عبية الجاهلية ، وفخرها بالآباء ، مؤمن تقي ، وفاجر شقي ، الناس بنو آدم ، وآدم خلق من تراب) عبية الجاهلية : كبرها) .(2/68)
5- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( بينما رجل يمشي في حالة تعجبه نفسه ، مرجل رأسه ، يختال في مشيته ، إذا خسف الله به ، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة) مرجل : أي مسرح ، يتجلجل : يغوص في الأرض .
من حلم النبي صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} .
2- ... عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وعليه بُرد نجراني غلظ الحاشية ، فأدركه أعرابي ، فجذبه بردائه جبذة شديدة ، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد أثرت بها حاشية البُرد من شدة جبذته ، قال ، يا محمد ، مُر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ضحك ، ثم أمر له بعطاء .
3- ... وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبدالقيس (إن فيك لخصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة) .
4- ... نزل النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه ، ثم نام ، فاستيقظ وعنده رجل وهو لا يشعر به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن هذا اخترط سيقي ، فقال : من يمنعك ؟ قلت : الله ، فشام السيف ، فها هو ذا جالس ، ثم لم يعاقبه . (واللفظ للبخاري مختصراً - اخترط سيفي : سله من غمده ، فشام السيف : أعاده لغمده) .
الغضب وعلاجه :
1- ... قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} .
2- ... وقال الله تعالى : {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
3- ... وعن عائشة قالت : ( ...... وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله ، فينتقم لله بها) .
... وقال صلى الله عليه وسلم : (من كظم غيظاً وهو يقدر أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، حتى يخبره في أي الحور شاء) .
4- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( ليس الشديد بالصُرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عن الغضب) .
5- ... جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أوصني ولا تكثر عليّ ، لعلي أحفظ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تغضب .
6- ... وعن سليمان بن صُرد قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن عنده جلوس ، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً ، قد احمر وجهه .
... النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد : "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" .
... الصحابة للرجل : ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم .
... الرجل الغاضب : إني لست بمجنون .
7- ... وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} .
... قال : الصبر عند الغضب ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا عصمهم الله ، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم .
8- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (إذا غضب أحدكم وهو قائم ، فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب ، وإلا فليضطجع) .
من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... عن عبدالله بن مسعود قال : كنا نعد الآيات بركة ، وأنتم تعدونها تخويفاً ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في سفر فقل الماء :
... الرسول صلى الله عليه وسلم : أطلبوا إلى فضله من ماء . (الصحابة يجيئون بإناء فيه ماء قليل ، فيدخل الرسول صلى الله عليه وسلم يده في الإناء) .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : حي على الطهور المبارك ، والبركة من الله .
... ابن مسعود : لقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل .
2- ... وعن عمران بن حصين قال : سرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في سفر هو وأصحابه ، فأصابهم عطش شديد ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم ، رجلين من أصحابه : أحسبهما علياً والزبير ، أو غيرهما :
... الرسول صلى الله عليه وسلم : إنكما ستجدان امرأة بمكان كذا وكذا ، ومعها بعير عليه مزادتان ، فأتياني بها :-
... الصحابيان يأتيان المرأة فيجدانها قد ركبت بين مُزادتين على البعير (مزادتان : قربتان من جلد) .
... الصحابيان للمرأة : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
... المرأة تسأل : ومن رسول الله ؟ هذا الصابئ . (أي التارك لدين آبائه)
... الصحابيان : هو الذي تعنين ، هو رسول الله حقاً .
... تأتي المرأة إلى الرسول ، فيأمر أن يؤخذ من مُزادتبها ، ويوضع في الإناء ، ثم يقول في الماء ما شاء الله أن يقول ، ثم أعاد الماء في المزادتين ، ثم أمر بفتح المزادتين ففتحتا ، ثم أمر الناس فملؤوا آنيتهم ، وأسقيتهم ، فلم يدعوا (يتركوا) إناء ولا سقاء إلا ملؤوه .(2/69)
... قال عمران : حتى يُخيل اليّ أنها لم تزدد إلا امتلاء .
... يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم : أن يبسط ثوب المرأة ، ثم أمر الصحابة أن يحضروا شيئاً من زادهم ، حتى ملأ لها ثوبها .
... الرسول صلى الله عليه وسلم (للمرأة) : اذهبي فإنا لم نأخذ من مائك شيئاً ، ولكن الله سقانا .
... تأخذ المرأة الزاد والمزادتين وتأتي أهلها :
... المرأة لأهلها : جئتكم من عند أسحر الناس ، أو إنه لرسول الله حقاً
... يأتي أهل ذلك الحواء (الحي) إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيسلموا كلهم .
يستفاد من هذه المعجزة :
1- ... قد يُطلع الله رسوله على بعض المغيبات عندما يريد ، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، أصحابه عن مكان المرأة التي تحمل الماء .
2- ... يلفت الرسول صلى الله عليه وسلم نظر الصحابة إلى أن الماء المبارك الذي ينبع من بين أصابعه إنما بركته من الله وحده الذي خلق هذه المعجزة ، وهذا حرس من الرسول صلى الله عليه و سلم ، على توجيه أمته إلى التوحيد ، وتعلقهم بالله وحده ولذلك قال : "البركة من الله" .
3- ... كان المشركون يقولون لمن أسلم (صابئ) (أي تارك دين آبائه الذين يدعون الأولياء من دون الله) ليصرفوا الناس عنه ويذمونه ، وفي عصرنا من دعا إلى التوحيد ، وأمر بدعاء الله وحده ، وحذر من دعاء غير الله من الأنبياء والأولياء ، حسب أمر الله ورسوله قال الناس عنه (وهابي) ليصرفوا الناس عن دعوته ، لأنه في نظرهم كالصابئ في نظر المشركين ، وشاء الله أن تكون كلمة (وهابي) نسبة إلى (الوهاب) وهو اسم من أسماء الله الذي وهب له التوحيد .
4- ... المكافأة على الإحسان : أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن تكافأ المرأة التي أعطتهم قليلاً من الماء ، فملأ ثوبها زاداً بعد أن أعاد لها الماء ، ولم ينقص منه شئ ، وقال لها : ( ولكن الله سقانا) .
5- ... لقد تأثرت المرأة بهذه المعجزة والمعاملة الطيبة التي لقيتها من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ، فعادت إلى قومها تقول لهم : إنه لرسول الله حقاً ، وتكون النتيجة أن يُسلم أهلها ومن معهم جميعاً .
6- ... بهذا الحرص على التوحيد ، وبهذه الأخلاق الحسنة ، نصر الله المسلمين ، وانتشر الاسم في المعمورة ، ويوم ترك المسلمون التوحيد والأخلاق الفاضلة أصابهم الذل والهوان ، ولا عز لهم إلا بالرجوع إلى التوحيد والأخلاق .
... {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
7- ... ترجيح المرأة الرسالة على السحر لأن السحرة يأخذون المال والرسول صلى الله عليه وسلم ، أعطاها الزاد .
من صبر النبي صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} .
2- ... حديث متفق عليه :
عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد ؟
الرسول صلى الله عليه وسلم : لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبدالليل بن عبدكلال ، فلم يجبن إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب ( ) ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت ، فإذا فيها جبريل .
جبريل (ينادي) : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمر بما شئت فيهم .
ملك الجبال : (يسلم على الرسول ويقول) : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (جبلان بمكة) .
الرسول صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، ولا يشرك به شيئاً .
3- ... حديث متفق عليه :
... وعن ابن مسعود قال : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قسماً
... رجل يقول : ما أريد بهذا وجه الله .
... ابن مسعود يذكر كلام الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم : فيتمعر وجهه (أي يتغير)
... الرسول صلى الله عليه وسلم : يرحم الله موسى ، قد أوذي بما هو أشد من هذا فصبر.
4- ... حديث رواه مسلم :
... الرسول صلى الله عليه وسلم : في غزوة أحد تكسر رباعيته ، ويشج رأسه ، فجعل يسلت الدم عنه ويقول :
... الرسول صلى الله عليه وسلم : كيف يُفلح قوم شجوا نبيهم ، وكسروا رباعيته ، وهو يدعوهم إلى الله ؟
... القرآن ينزل : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} .(2/70)
5- ... عن خباب بن الأرث قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ، ألا تدعوا لنا ؟ فقال : (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، فما يصده ذلك عن دينه .
... والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون .
من رفق الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} .
الحديث الأول : عن انس رضي الله عنه قال : بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد .
أصحاب الرسول : ( يصيحون به) مه مه (أي أترك) .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : لا تزرموه دعوه ( لا تقطعوا بوله) .
... يترك الصحابة الأعرابي يقضي بوله ثم يدعو الرسول الأعرابي .
... الرسول للأعرابي : إن المساجد لا تصلح لشئ من هذا البول والقذر ، إنما هي لذكر الله ، والصلاة ، وقراءة القرآن .
... الرسول (لأصحابه) : إنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين ، صبوا عليه دلواً من الماء .
... الأعرابي : اللهم أرحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا أحداً .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : لقد تحجرت واسعاً ( أي ضيقت واسعاً) .
... الحديث الثاني : وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال : بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا عطس رجل من القوم (أي المصلين)
... معاوية (للعاطس) : يرحمك الله .
... المصلون : ينظرون لي منكرين .
... معاوية يخاطبهم : وأثكل أماه ، ما شأنكم تنظرون إليّ ؟ .
... المصلون يضربون بأيديهم على أفخاذهم ليسكت فسكت عندما رآهم يصمتونه حتى انتهت الصلاة .
... معاوية يمدح الرسول : بأي هو وأمي : ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ، فوالله ما كهرني ، ولا ضربني ، ولا شتمني (كهرني : قهرني) .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس ، إنما هي التسبيح والتكبير ، وقراءة القرآن .
معاوية : يا رسول الله ، إني حديث عهد بجاهلية ، وقد جاء الله بالإسلام ، وإن منا رجالاً يأتون الكهان (الذي يدعون علم الغيب) .
الرسول صلى الله عليه وسلم : فلا تأتهم .
معاوية : ومنا رجال يتطيرون (يتشاءمون) . ...
الرسول صلى الله عليه وسلم : ذاك شئ يجدونه في صدورهم ، فلا يصدنهم (أي لا يمنعهم ذلك عن وجهتهم ، فإن ذلك لا يؤثر نفعاً ولا ضراً) .
... الحديث الثالث : وعن عائشة قالت : إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم :
... اليهود : السام عليكم (الموت عليك) .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : وعليكم .
... عائشة : السام عليكم ، ولعنكم الله وغضب عليكم .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : مهلاً يا عائشة ، عليك بالرفق ، وإياك والعنف والفحش .
... عائشة : أو لم تسمع ما قالوا ؟
... الرسول : أو لم تسمعي ما قلت : رددت عليهم فيستجاب لي ، ولا يستجاب لهم فيّ .
... وفي رواية لسلم : ( لاتكوني فاحشة ، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش)
أحاديث الرفق :
1- ... قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، وما لا يعطي على سواه) .
2- ... وقال صلى الله عليه وسلم ، لعائشة : (عليكم بالرفق ، وإياك والعنف ، والفحش ، إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه ، ولا ينزع من شئ إلا شانه) (أي عابه) .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (يا عائشة إرفقي ، فإن الله إذا أراد بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق) .
4- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (من يُحرم الرفق ، يُحرم الخير كله) .
5- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( من أعطى حظه من الرفق ، فقد أُعطي حظه من الخير ، ومن حُرم حظه من الرفق ، فقد حُرم حظه من الخير) .
6- ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره ، قال : بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا .
7- ... وقال صلى الله عليه وسلم : إني لأدخل في الصلاة ، وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه (أتجوز : لا أطيل ، وجد أمه : حزن أمه) .
من شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} .(2/71)
2- ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحسن الناس وجهاً ، وكان أجود الناس ، وكان أشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة ، فانطلق ناس من قِبل الصوت ، فلتقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، راجعاً ، وقد سبقهم إلى الصوت ، وفي رواية : وقد استبرأ الخبر وهو على فرس عُري لأبي طلحة ، في عنقه السيف ، وهو يقول ك لن تراعوا ، قال : وجدناه بحراً ، أو إنه لبحر ، قال : وكان فرساً يُبطأ . (وجدناه بحراً : وجدنا الفرس سريعاً) .
3- ... جاء رجل إلى البراء ، فقال : أكتم وليتم يوم حنين ، يا أبا عمارة ؟ فقال : أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى ، ولكنه انطلق أخفاء من الناس ، وحسر إلى هذا الحي من هوازن ، وهم قوم رماة ، فرموهم برشق من نبل ، كأنها رجل من جراد ، فانكشفوا ، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته ، فنزل ودعا واستنصر ، وهو يقول : (أنا النبي لا أكذب ، أنا ابن عبدالمطلب ، اللهم أنزل نصرك) .
4- ... قال البراء : كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا الذي يُحاذي به (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) .
5- ... وعن علي رضي الله عنه قال : لقد رأيتني يوم بدر ، ونحن نلوذ (أي نحتمي) بالنبي عليه السلام ، وهو أقربنا إلى العدو ، وكان من أشد الناس يومئذٍ بأساً .
6- ... وعن جابر رضي الله عنه قال : إنا كنا نحفر ، فعرضت كدي شديدة (صخرة قوية) فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
... الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم : هذه كُدية عرضت لنا .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : أنا نازل .
... يقوم الرسول وبطنه معصوب بحجر من الجوع فيأخذ المعول فيضرب الصخرة ، فتعود كثيباً أهيل (تراباً ناعماً) .
محمد صلى الله عليه وسلم أعظم رجل في التاريخ :
لقد شهد العالم بهذه العظمة ومنه العالِم الأمريكي الدكتور (مايكل هارت) في كتابه (مائة رجل من التاريخ ) والذي ترجم منه الأستاذ (أحمد بهاء الدين) ونشره في (مجلة العربي) في عددها رقم (241) ، أخذنا منه ما قاله في عظمة هذا الرسول الكريم .
(إن اختياري محمداً ، ليكون الأول في أهم رجال التاريخ ، قد يدهش القراء ، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين : الديني والدنيوي .
فهناك رُسل وأنبياء وحكماء بدأوا رسالات عظيمة ، ولكنهم ماتوا دون إتمامها ، كالمسيح في المسيحية ( ) أو شاركهم فيها غيرهم ، أو سبقهم إليهم سواهم ، كموسى في اليهودية ، ولكن محمداً هو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية ، وتحددت أحكامها ، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته ، ولأنه أقام جانب الدين دولة جديدة ، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضاً ، وحّد القبائل في شعب ، والشعوب في أمة ، ووضع لها كل أسس حياتها ، ورسم أمور دنياها ، ووضعها في موضع الانطلاق إلى العالم ، أيضاً في حياته ،، فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية ، وأتمها .
الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين :
قال الله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ، وأصح القولين أنه على عمومه ، وفيه على هذا التقدير وجهان :
أحدهما : أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته :
1- ... أما اتباعه فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة .
2- ... وأما أعداؤه المحاربون له ، فالذين عجل قتلهم وموتهم خير لهم من حياتهم ، لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة ، وهم قد كتب عليهم الشقاء فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر .
3- ... وأما المعاهدون له فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته ، وهم أقل شراً بذلك العهد من المحاربين له .
4- ... وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الإيمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهلهم ، واحترامها ، وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيرها .
5- ... وأما الأمم النائية عنه فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض فأصاب كل العالمين النفع برسالته .
الوجه الثاني : أنه رحمة لكل أحد ، لكن المؤمنون قبلوا هذه الرحمة ، فانتفعوا بها دنيا وأخرى ، والكفار ردوها ، فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم ، لكن لم يقبلوها .
الرحمة عند الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } .
2- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بالرحمة) .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنا رحمة مهداة) .
4- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) .
5- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (لا تنزع الرحمة إلا من شقي) .
6- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى : أرحموا من في الأرض ، يرحمكم من في السماء) . "أي على السماء وهو الله" .(2/72)
7- ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي ، وعنده الأقرع بن حابس التميمي ، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبّلتُ منهم أحداً ، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : (من لا يرحم لا يُرحم) .
8- ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنكم تقبلوا الصبيان ، ولا نُقبلهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك) .
9- ... كان صلى الله عليه وسلم ، رحيماً ، لا يأتيه أحد إلا وعده وأنجز له إن كان عنده .
10- ... وعن أنس بن مالك قال : ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالحيوان :
1- ... وعن سهيل بن الحنظلية قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ببعير قد لحق ظهره ببطنه ، فقال : (اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فأركبوها صالحة ، وكلوها صالحة) . "المعجمة : التي لا تنطق" .
2- ... وعن عبدالله ، عن أبيه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فانطلق لحاجته ، فرأينا (حُمرة) معها فرخان ، فأخذنا فرخيها ، فجاءت الحمرة ، فجعلت تُعرش ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : من فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها ، ورأى قرية نمل قد أحرقناها ، فقال : من أحرق هذه ؟ قلنا : نحن ، قال : لا ينبغي أن يُذب بالنار إلا رب النار.
... (الحمرة : طائر يشبه العصفور) ، ( تُعرش : ترفرف) .
3- ... كان صلى الله عليه وسلم ، يُصغي للهرة الإناء ، فتشرب ثم يتوضأ ، بفضلها ، (يصغي ، يميل) .
4- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله كتب الإحسان على كل شئ ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته) .
5- ... وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته ، وهي تلحظ إليه ببصرها ، فقال : أتريد أن تميتها موتتين ؟ هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها ؟ (تلحظ : تنظر) .
6- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( عُذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت ، فدخلت فيها النار ، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ، ولا هي تركتها تأكل خشاش الأرض) . " خشاش الأرض : حشراتها " .
من عدل الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} .
2- ... وقال تعالى : {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} .
3- ... وعن عائشة قالت : إن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد ، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
... أتشفع في حد من حدود الله ؟ ثم قام فاختطب ، ثم قال : إنما أهلك الذين قبلكم ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها .
... ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقُطعت يدها ، قالت عائشة : فحسنت توبتها بعد وتزوجت ، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الحياء عن الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} .
2- ... كان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها ، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( الحياء من الإيمان ) و (الحياء خير كله) .
4- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنة ، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار) . " البذاء : الفحش" .
5- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (الحياء والإيمان قرنا جميعاً ، فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر) .
6- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (الحياء لا يأتي إلا بخير) .
7- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (الحياء والعي شعبتان من الإيمان ، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق) .
... (والمعنى أن الحياء وقلة الكلام من شعب الإيمان ، والفحش والتشدق في الكلام من شعب النفاق) .
8- ... وعن يعلى بن أمية قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى رجلاً يغتسل بالبراز (أي بالفضاء) فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : (إن الله حي ستير ، يحب الحياء والتستر ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر) .(2/73)
9- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن لكل دين خلقاً وإن خلق الإسلام الحياء) .
10- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت) .
11- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة ، فأفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان) .
12- ... وعن سالم بن عبدالله عن أبيه قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، برجل وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول : إنه ليستحي يعني كأنه يقول : قد أضر بك الحياء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعه فإن الحياء من الإيمان .
13- ... وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما كان الفحش في شئ إلا شانه ، ولا كان الحياء في شئ إلا زانه) "شانه : عابه" .
من آداب الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول : (السلام عليكم ، السلام عليكم) .
2- ... كان إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال : (بشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا) .
3- ... كان يقبل الهدية ويُثيب عليها .
4- ... كان يُغير الاسم القبيح .
5- ... كان إذا دخل على مريض يعوده قال : ( لا بأس طهور إن شاء الله) .
6- ... كان إذا شرب تنفس ثلاثاً ، (خارج الإناء) .
7- ... كان إذا مشى مشى أصحابه أمامه ، وتركوا ظهره للملائكة .
8- ... كان لا يصافح النساء في البيعة . (ولا في غيرها) .
9- ... كان يجعل يمينه لأكله وشربه ووضوئه وثيابه وأخذه وعطائه ، وشماله لما سوى ذلك .
10- ... كان إذا طلع على أحد من أهل بيته كذبة ، لم يزل مُعرضاً عنه ، حتى يحدث توبة.
11- ... وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : ائذنوا له ، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت له يا رسول الله ، قلت ما قلت ثم ألنت له في القول ، فقال : (إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه) .
... (وقد اعتبر العلماء قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فيه وهو غائب ، وإلانته له القول وهو حاضر ، من باب المداراة والتأليف ليُسلم قومه) .
من جود النبي صلى الله عليه وسلم :
1- ... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان ، حتى ينسلخ ، فيأتيه جبريل ، فيعرض عليه القرآن ، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة .
2- ... عن أنس رضي الله عنه قال : ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه ، قال : فجاءه رجل فأعطه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه فقال : يا قوم : أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء لا يخشى الفاقة .
3- ... وعن أنس : أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين فأعطاه إياه ، فأتى قومه فقال : أي قوم أسلموا فوالله إن محمداً ليُعطي عطاء ما يخاف الفقر ، فقال أنس : إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا ، فما يُسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها .
4- ... وعن شهاب قال : غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح : فتح مكة ، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين ، فاقتتلوا بحنين ، فنصر الله دينه والمسلمين ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يومئذٍ صفوان بن أمية مائة من النعم ، ثم مائة ، ثم مائة (النعم :الإبل) .
... قال ابن شهاب : حدثني سعيد بن المسيب أن صفوان قال : والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس اليّ ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس اليّ .
5- ... لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين تبعه الأعراب يسألونه ، فألجؤوه إلى شجرة ، فخطفت رداؤه ، وهو على راحلته ، فقال : (ردوا عليّ ردائي ، أتخشون عليّ البخل ؟ فوالله لو كان لي عدد هذه العضاة نعماً لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً) .
6- ... بايع الرسول صلى الله عليه وسلم جابر بن عبدالله في جمل له كان قد كلّ في السفر ، فباعه إياه بكذا درهم ، ولما جاء يتقاضاه الثمن أعطاه الثمن والجمل معاً .
من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... كان إذا أتاه الأمر يسره قال : (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات) وإذا أتاه الأمر يكرهه قال : ( الحمد لله على كل حال) .
2- ... كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ، ومسح عنه بيده .
3- ... كان إذا جاءه أمر يسر به ، خرّ ساجداً ، شكراً لله .
4- ... كان إذا خاف قوماً قال : ( اللهم إنا نجعلك في نحورهم ، ونعوذ بك من شرورهم) .
5- ... كان إذا راعه شئ قال : (الله ربي ، الله ربي ، لا شريك له) .
6- ... كان إذ كربه أمر قال : ( يا حي يا قيوم ، برحمتك استغيث) .(2/74)
7- ... كان يتعوذ من الجان ، وعين الإنسان ، حتى نزلت المعوذتان ، فلما نزلت أخذ بهما وترك ما سواهما .
8- ... كان يتعوذ من جهد البلاء ، ودرك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء .
9- ... كان يخطب بـ (قاف) يوم الجمعة (أي يقرأ سورة "ق") .
10- ... كان إذا غزا قال : (اللهم أنت عضدي ، وأنت نصيري ، بك أحول ، وبك أصول ، وبك أقاتل) .
11- ... كان لا يقوم من مجلسه إلا قال : ( سبحانك اللهم ربي وبحمدك ، لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك) ، وقال : ( لا يقولن أحد حيث يقوم من مجلسه إلا غفر له ما كان منه في ذلك المجلس) .
12- ... كان ينهانا عن كثير من الإرفاء . (أي التنعيم) .
... كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يأمرنا أن نحتفي أحياناً ،
(نحتفي : نمشي حفاة) .
13- ... كان أكثر دعوة يدعو بها يقول : ( اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) .
من مزاح الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... عن أنس قال : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ، ليخالطنا ، حتى يقول لأخ لي صغير (يا أبا عُمير ما فعل النُغير) ، كان له نُغير يلعب فمات . (النُغير : طائر يشبه العصفور ، أحمر المنقار) .
2- ... وعن أبي هريرة قال : يا رسول الله ، إنك تداعبنا ، قال : ( أني لا أقول إلا حقاً) (صدقاً) .
3- ... وعن أنس أن رجلاً استحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( إني حاملك على ولد ناقة) فاق : وما أصنع بولد ناقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وهل تلد الإبل إلا النوق) . (استحمل : أي طلب منه أن يحمله على دابة) .
4- ... وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (يا ذا الأذنين) .
5- ... وعن أنس أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام وكان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم من البادية ، فيُجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن زاهراً باديتنا ، ونحن حاضروه) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ، وكان دميماً ، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، يوماً وهو يبيع متاعه ، فاحتضنه من خلاله ولا يُبصره .
... زاهر بن حرام : أرسلني من هذا ؟ .
... يلتفت زاهر فيرى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيجعل يُلزق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم ، حين عرفه .
... النبي صلى الله عليه وسلم للناس : من يشتري العبد ؟ .
... زاهر بن حرام للرسول : إذاً والله تجدني كاسداً .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : لكن عند الله لست بكاسد ، أو قال : لكن عند الله أنت غال .
المزاح : بكسر الميم الانبساط مع الغير من غير تنقيص أو تحقير له ، والمزاح المنهى عنه هو الذي فيه كذب أو إفراط ، ويداوم عليه ، فإنه يورث كثرة الضحك وقسوة القلب ، ويورث الأحقاد ، ويسقط المهابة والوقار .
الشعر الذي تمثل به الرسول صلى الله عليه وسلم :
1- ... قال الله تعالى : {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} .
2- ... عن شريح قال : قلت لعائشة : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتمثل بشئ من الشعر ؟ قالت : كان يتمثل من شعر ابن رواحة ، قالت : وربما قال : ويأتيك بالأخبار من لم تزود . (هذا الشعر لطرفة من معلقته) .
3- ... وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : ألا كلُ شئ ما خلا الله باطل .
... وكاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم
... قال ذلك الرسول عندما سمع شعره
4- ... وعن جندب بن سفيان البجلي قال : أصاب حجر إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدميت فقال :
... هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
... (هذا الشعر لابن رواحة) .
5- ... عن البراء بن عازب قال : قال له رجل أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يا أبا عمارة ؟ فقال : لا والله ما ولّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن ولى سرعانُ الناس ، تلقتهم هوازن بالنبل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، على بغلته ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب آخذ بلجامها ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
... أنا النبي لا أكذب ، أنا ابن عبدالمطلب
6- ... وعن البراء قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ينقل التراب يوم الخندق حتى أغبرّ بطنه يقول :
والله لولا الله ما اهتدينا
... ** ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
... ** ... وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بقوا علينا
... ** ... إذا أرادوا فتنة أبينا
يرفع بها صوته : (أبينا ، أبينا) .
7- ... وعن أنس قال : جعل المهاجرون والأنصار يحفرون الخندق ، وينقلون الترب وهم يقولون .
نحن الذين بايعوا محمداً
... ** ... على الجهاد ما بقينا أبدا
يقول النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يجيبهم :
اللهم لا عيش إلا عيشُ الآخرة
... ** ... فأغفر للأنصار والمهاجرة
حسان يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم :
أغرّ ( ) عليه للنبوة خاتم(2/75)
... ** ... من الله مشهود يلوح ويشهد
وضمّ الإله اسم النبي إلى إسمه
... ** ... إذ قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله
... ** ... فذو العرش محمود وهذا محمد
نبي أتانا بعد يأس وفترة
... ** ... من الرسول والأوثان في الأرض تعبد
فأمسى سراجاً مستنيراً وهادياً
... ** ... يلوك كما لاح الصقيل المهند
وأنذرنا ناراً وبشر جنة
... ** ... وعلمنا الإسلام فالله نحمد
وأنت إله الخلق ربي وخالقي
... ** ... لذلك ما عمرت في الناس أشهد
تعاليت رب الناس عن قول من دعا
... ** ... سواك إلهاً أنت أعلى وأمجد
لك الخلق والنعماء والأمر كله
... ** ... فإياك نستهدي وإياك نعبد
*********
بطيبة رسم للرسول ومعهد
... ** ... منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
عرفت بها رسم الرسول وعهده
... ** ... وقبراً به وأرى التراب وملحد
*********
أعني الرسول فإن الله فضله
... ** ... على البرية بالتقوى والجود
فينا الرسول وفينا الحق نتبعه
... ** ... حتى الممات ونصر غير محدود
لباس الرجل المسلم :
1- ... قال الله تعالى : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} .
... (أغسلها بالماء ، وطهر نفسك من الذنوب والمعاصي) .
2- ... عن أم سلمة قالت : كان أحب الثياب إلى رسول ا لله صلى الله عليه وسلم ، القميص
... (القميص : ثوب طويل إلى نصف ساقيه) .
3- ... وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : (لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ ثوبه خيلاء) .
... (الخيلاء : الكبر والعجب) .
4- ... وعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أسفل الكعبين من الإزار في النار) .
5- ... وعن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أعتم سدل عمامته بين كتفيه .
6- ... وعن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (الإسبال في الإزار والقميص والعمامة ، من جرّ منها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) .
7- ... وعن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : (إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما أسفل من ذلك ففي النار ، قال ذلك ثلاث مرات ، ولا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّ إزاره بطراً) . أي تكبراً .
8- ... وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي إزاري استرخاء فقال : يا عبد الله ، ارفع إزارك ، فرفعته ، ثم قال : زد ، فزدت ، فما زلت أتحراها بعد ، فقال بعض القوم : إلى أين ؟ قال : إلى أنصاف الساقين .
9- ... وعن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : (البسوا الثياب البيض ، فإنها أطهر وأطيب ، وكفنوا فيها موتاكم) .
10- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (من لبس ثوب شهرة في الدنيا ، ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة) .
11- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة) .
... (أي اجتنب الإسراف والتكبر في الأكل والشرب والملبس) .
الخلاصة :
1- ... ذكر الإمام النووي بعد ذكر أحاديث اللبس ما خلاصته :
... إن الإسبال يكون في الإزار والقميص والعمامة والثوب ، وأنه لا يجوز إسباله تحت الكعبين إن كان للخيلاء ، فإن كان لغيرها فهو مكروه ، فالمستحق إلى نصف الساقين ، والجائز بلا كراهية إلى الكعبين ، فما نزع عن الكعبين فهو ممنوع .
2- ... وقد ذكر ابن حجر في الفتح رأيه ، وهو عدم الجواز في اللباس تحت الكعبين فقال :
... وقد نقل القاضي عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء (أي تطويل اللباس تحت الكعبين) .
... ثم قال ابن حجر : والحاصل أن للرجال حالين : حال استحباب ، وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق ، وحال جواز وهو إلى الكعبين .
... ومفهوم كلامه أن إطالة الإزار ، مثل الثوب والسروال والبنطال تحت الكعبين غير جائز .
3- ... وعن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى عليه ثوبين مُعصفرَين فقال : ( إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسهما) .
يستفاد من الحديث :
1- ... لا يجوز للمسلم أن يلبس ثياب الكفار ، وأن يتزين بزيهم لقوله صلى الله عليه وسلم : (من تشبه بقوم فهو منهم) .
... لقد انتشر في كثير من البلاد الإسلامية التشبه بالكفار كلباس البنطال الضيق الذي يسمونه (كوبوي ، أو شارلستون وغيرها) وسمعت أحد العلماء يجيب شاباً عن سؤاله على لباس البنطال الضيق ، فقال : حرام ، لأنه يجسم العورة ، وفيه تشبه بالكفار .(2/76)
2- ... أما لبسا الرأس فهو شعار الأمم ، وقد تشبه بعض المسلمين فلبسوا البرنيطة ، وتسمى القبعة ، وقد فرضت على الجنود فألبسوهم القبعة التي يلبسها الكفار ، ويلبسها بعض الأغنياء وبعض العمال بحجة ستر الرأس من الشمس ، ولو ستروا الرأس بقلنسوة أو عمامة ، أو منديل لكان أصح لرؤوسهم ، وأبعد عن التشبه بالكفار ، وشاع هذا التشبه حتى أصبح الناس لا يشعرون أنه فيه مخالفة شرعية ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، فكيف نحارب الكفار ونحن نتشبه بهم في لباسهم وعاداتهم ؟ وكان الواجب أن نقلدهم في الأمور النافعة كصنع الطائرة ، والدبابة ، والمدفع ، وغير ذلك مما يساعد على الدفاع عن ديننا وأرضنا .
لباس المرأة المسلمة :
1- ... قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} .
2- ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ، فقالت أم سلمة : فكيف ينصع النساء بذيولهن ؟ قال ك يُرخين شبراً ، قالت : إذاً تنكشف أقدامهن ، قال : فيُرخين ذراعاً لا يزدن عليه) .
يستفاد من الآية والحديث :
1- ... أن لباس المرأة يجب أن يكون عريضاً وطويلاً يغطي القدمين ، بعكس الرجال الذين أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن يقصروا الثياب إلى نصف الساق ، ولا يزيدوا عن الكعبين ، وفي عصرنا انعكس الأمر ، فأصبح الرجال يطيلون ثيابهم أسفل الكعبين ، ويتعرضون لدخول النار ، وأصبح النساء يقصرن إلى الركبة ، أو ما فوقها ، ويتعرضن بهذا العمل إلى حرمانهن من دخول الجنة ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( ونساء كاسيات عاريات ، مميلات مائلات ، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة ، لا يدخلن الجنة ، ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا .
... (والمعنى أن المرأة التي تكشف ساقها أو شيئاً من جسمها ، وتتمايل في مشيتها ، ورأسها مرتفع بشعرها كأنه سنام جمل ، لا يتدخل الجنة حتى تلقى جزاءها) .
2- ... إذا كان قدم المرأة لا يجوز كشفها ، فوجهها بالأولى ، لأنها تعرف به ، وفيه الفتنة أكثر ، وسفور المرأة تقليد للكفار والأجانب وتشبه بهم ، وفي الحديث : ( من تشبه بقوم فهو منهم) .
... وليتنا قلدناهم في المخترعات النافعة كصنع الغواصات وغيرها مما يفيدنا ، ولكن كما قال الشاعر :
... قلدوني الغربى لكن بالفجور ... وعن اللب استعاضوا بالقشور
3- ... المسئول هو الأب والزوج والأخ ، وكل راع يقوم على النساء ، قال صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع ، وكلكم مسئول عن رعيته) .
لبس الذهب والخاتم :
1- ... عن أنس رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم ، اتخذ خاتماً من فضلة ، ونقش فيه : محمد رسول الله .
2- ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن خاتم الذهب .
3- ... وعن عبدالله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأى خاتماً من ذهب على يد رجل ، فنزعه وطرحه ، وقال : (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيطرحها في يده) فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ خاتمك انتفع به ، قال : لا والله ، لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
4- ... وعن علي بن أبي طالب قال : نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن ألبس خاتمي في هذه ، أو في التي تليها ، وأشار إلى الوسطى والتي تليها .
... وفي رواية النسائي : نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الخاتم في السبابة والوسطى .
5- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يلبس حريراً ولا ذهباً) .
6- ... وقال صلى الله عليه وسلم : عن الذهب والحرير : ( هذان حرام على ذكور أمتي ، حلال لإناثها) .
... (المراد الحرير الأصلي المستخرج من دودة القز ، لا الحرير الاصطناعي الموجود الآن) .
7- ... وعن عبدالله بن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، رأى على بعض أصحابه خاتماً من ذهب ، فأعرض عنه ، واتخذ خاتماً من حديد ، فقال : هذا شر ، هذا حلية أهل النار ، فألقاها ، فاتخذ خاتماً من ورق (فضة) فسكت عنه .
8- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( من لبس الذهب من أمتي فمات وهو يلبسه حرم الله عليه ذهب الجنة) .
يستفاد من الأحاديث
1- ... أن الذهب محرم على الرجال ، حلال للنساء ، والمسلم هو الذي يستسلم لأوامر الله ورسوله .
2- ... إذا لبس الرجل خاتم الذهب للزواج الذي يسمونه خاتم الخطبة ، فهو حرام من الكبائر لأنه خالف أوامر دينه ، وقلد الكفار والنصارى الذين ابتدعوا خاتم الخطبة ، ومن تشبه بقوم فهو منهم ، وفي لبس خاتم الذهب تشبه بالنساء ، وفي الحديث : ( لعن النبي المتشبهين من الرجال بالنساء) .(2/77)
3- ... يباح للرجال خاتم الفضة ، ما لم يكن للخطبة تجنباً لمشابهة الكفرة .
الزينة في اللباس :
1- ... قال الله تعالى : {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} .
... ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية ما خلاصته :
... أغسلها ، وطهر نفسك من الذنوب والمعاصي وغيرها .
2- ... وقال الله تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .
... ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية : عن ابن عباس قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله بالزينة ، والزينة : اللباس ، وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البزّ والمتاع ، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد .
... ثم قال ابن كثير بعد ذلك :
... (ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة يُستحق التجمل عند الصلاة ، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد ، والطيب لأنه من الزينة ، والسواك لأنه تمام ذلك ، ومن أفضل اللباس البياض) .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( البسوا الثياب البيض ، فإنها أطهر وأطيب ، وكفنوا فيها موتاكم) .
4- ... وعن البراء بن عازب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مربوعاً وقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئاً قط أحسن منه) .
5- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ، ونعله حسنة ، قال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق ، وغمط الناس) "رد الحق تكبراً واحتقار الناس) .
6- ... وعن أبي الأحوص عن أبيه رضي الله عنه ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليّ ثوب دون (ردئ) .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : ألك مال ؟
... الرجل : نعم .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : من أي المال ؟
... الرجل : من الإبل والبقر والغنم والخيل والرقيق .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : فإذا آتاك الله مالاً ، فلُيرَ أثرُ نعمة الله عليك وكرامته .
7- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (من أنعم الله عليه نعمة ، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) .
الزينة للصلاة والناس :
1- ... قال صلى الله عليه وسلم : (ما على أحدكم إن وجد أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة ، سوى ثوبي مهنته) .
2- ... وعن جابر رضي الله عنه ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمار ، قال : فينما أنا تحت شجرة ، إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
... جابر : يا رسول الله ، هلُمّ إلى الظل .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : يأتي ويُسلم وينزل ، فيأتي جابر بصغار القثاء ويُقربه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : من أين لكم هذا ؟ .
... جابر : خرجنا به من المدينة .
... يخرج راع لجابر ، وعليه بُردان قد أخلقا (بليا وتلفا) فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : أما له ثوبان غير هذين .
... جابر : بل ، له ثوبان في العيبة كسوته إياهما .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : فادعُه فليلبسهما .
... يأتي الراعي ، ويلبس الثوبين ويذهب .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : ما له ؟ - ضرب الله عنقه – أليس هذا خيراً ؟
... الراعي يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم .
... الراعي يتفاءل : في سبيل الله يا رسول الله .
... الرسول صلى الله عليه وسلم : في سبيل الله .
... الرجل يُقتل في سبيل الله .
النظافة من الإسلام :
1- ... عن جابر بن عبدالله قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، زائراً في منزلنا فرأى رجلاً شعثاً قد تفرق شعره فقال : أما كان يجد هذا ما يُسكن به شعره ؟ ورأى رجلاً آخر وعليه ثياب وسخة فقال : أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه ؟ .
2- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( من كان له شعر فليكرمه) .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : عشرة من الفطرة : قص الشارب ، وإعفاء اللحية ، والسواك ، واستنشاق الماء ، وقص الأظافر ، وغسل البراجم (عقد الأصابع) ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وانتقاصُ الماء (يعني الاستنجاء) والمضمضة .
4- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (خمس من الفطرة : الختان ، والاستحداد "حلق العانة" وتقليم الأظافر ، ونتف الإبط ، وقص الشارب) .
من آداب السلام :
1- ... قال الله تعالى : {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} .
2- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام) .
3- ... وعن عبدالله بن عمرو : أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي الإسلام خير ؟ قال : "تُطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرف ومن لم تعرف .
4- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده ، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ) .(2/78)
5- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (يُسَلم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، والقليل على الكثير) .
6- ... وعن أنس رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مرّ على صبيان فسَلم عليهم .
7- ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا سلم عليكم أهل الكتاب ، فقولوا : وعليكم) .
8- ... وعن عمران بن حصين ، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : السلام عليكم ، فردّ عليه ثم جلس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "عشر" ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله ، فردّ عليه فجلس ، فقال : "عشرون" ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فردّ عليه فجلس ، فقال "ثلاثون" (أي حسنة) .
9- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (إذا دخلتم بيتاً ، فسلموا على أهله ، وإذا خرجتم فأودعوا أهله بالسلام) .
10- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( يا بُني إذا دخلت على أهلك ، فسلم يكن بركة عليك وعلى أهلك) .
11- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( من بدأ بالكلام قبل السلام ، فلا تجيبوه) .
12- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا لقي أحدكم أخاه فليُسلم عليه ، فإن حالت بينهما شجرة ، أو جدار ، أو ح جر ، ثم لقيه فليُسلم عليه) .
13- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (يُجزئ عن الجماعة إذا مرُوا أن يُسلم أحدهم ويُجزئ عن الجلوس أن يردّ أحدهم) .
14- ... وعن جابر أنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعثني لحاجة ، ثم أدركته وهو يسير ( قال قتيبة يُصلي) فسلمت عليه ، فأشار اليّ ، فلما فرغ دعاني ، فقال : (إنك سلمت آنفاً وأنا أصلي) .
وهو مُوجه حينئذٍ قِبل المشرق ( أي موجه راحلته نحو الشرق)
15- ... وعن ابن عمر قال : قلت لبلال كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ، يرد عليهم حين يسلمون عليه وهو يصلي ؟ قال : يقول هكذا وبسط كفه .
والحديث دليل على أنه إذا سَلم أحد على المصلي رد عليه السلام بإشارة دون النطق : يسبط كافه اليمنى مستقيمة .
والسلام على القارئ والذاكر والمدرس وعند دخول المسجد جائز من باب أولى .
16- ... السلام تحية أهل الجنة ( تحيتهم يوم يلقونه سلام) .
17- ... السلام اسم من أسماء الله الحسنى .
18- ... السلام معناه الأمان التام من الغدر والخيانة والغش .
19- ... السلام طريق المحبة ، والمحبة طريق الإيمان ، والإيمان طريق الجنة .
المصافحة لا التقبيل :
1- ... عن أبي الخطاب قتادة قال : قلت لأنس : أكانت المصافحة في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم .
2- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا) .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (يقدم عليكم غداً أقوام هم أرق قلوباً للإسلام منكم ) "يعني أهل اليمن" فقدم الأشعريون ، فيهم أبو موسى الأشعري ، فلما دنوا من المدينة ، جعلوا يرتجزون ويقولون :
... غداً نلقى الأحبة ... محمد وصحبه
فلما قدموا تصافحوا ، فكانوا هم أول من أحدث المصافحة
4- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه ، وأخذ بيده ، فصافحه تناثرت خطاياهما ، كما يتناثر ورق الشجر) .
5- ... وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله ، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه ، أينحني له ؟ قال : لا ، قال : أفيلتزمه ويُقبله ؟ قال : لا ، قال : فيأخذ بيده ويصافحه ؟ قال : نعم .
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتعانقون إذا قدموا من سفر وأما تقبيل اليد ففي الباب أحاديث وآثار كثيرة يدل مجموعها على ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنرى جواز تقبيل يد العالم إذا لم يمد يده متكبراً ، ولا يكون على سبيل التبرك ، ولا يتخذ التقبيل عادة ، ولا يُعطل المصافحة ولا توضع على الجبهة .
لا أصافح النساء :
1- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (إني لا أصافح النساء ، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة) .
2- ... وقالت عائشة : لا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة وما بايعهن إلا بقوله : (قد بايعتك على ذلك) .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد ، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) .
آداب العطاس والتثاؤب :
1- ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب ، فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقاً على كل مسلم سمعه أني قول له : يرحمك الله ، فأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان ، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع ، فان أحدكم إذا تثاءب ضحك من الشيطان) .
وفي رواية لمسلم :فإن أحدكم إذا قال : ها ضحك الشيطان منه) .
2- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا عطس أحدكم فليقل : الحمد لله وليقل له أخوه أو صاحبه : يرحمك الله ، فإذا قال له : يرحمك الله ، فليقل : يهديكم الله ويصلح بالكم) .(2/79)
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه ( ) وغن لم يحمد الله فلا تشمتوه) .
4- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا تثاءب أحدكم فليمسك يده على فمه ، فإن الشيطان لا يدخل) .
5- ... وكان صلى الله عليه وسلم ، إذا عطس غطى وجهه بيده أو ثوبه ، وغض بها صوته .
6- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( شمت أخاك ثلاثاً فما زاد فإنما هي نزلة أو زكام) .
... (أي لا تشمته بعد الثالثة ، بل أدع له) .
7- ... وعن نافع أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر ، فقال : الحمد الله والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ابن عمر : وأنا أقول : الحمد لله والسلام على رسول الله ، وليس هكذا ، علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول : (الحمد لله على كل حال) .
يفيد هذا الحديث أن التقيد بتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم واجب .
غيروا الشيب واجتنبوا السواد :
1- ... قال الله تعالى : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} .
2- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( جزوا الشوارب ، وأعفوا اللحى ، خالفوا المجوس) .
3- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) .
4- ... وعن جابر رضي الله عنه قال : أتى بأبي قحافة يوم الفتح ولحيته ورأسه كالثغامة بياضاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( غيروا هذا بشئ ، واحتنبوا السواد) .
5- ... وقال صلى الله عليه وسلم : ( يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا السواد كحواصل الحمام ، لا يجدون ريح الجنة) .
6- ... وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس النعال السبتية ( ) ويُصفر لحيته بالورس ( ) والزعفران ، وكان ابن عمر يفعل ذلك .
7- ... وعن ابن عباس قال : مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم ، رجل قد خضب بالحناء ، فقال : ما أحسن هذا ، قال : فمرّ آخر قد خضب بالحناء والكتم ، فقال : وهذا أحسن من هذا ، ثم مرّ آخر قد خضب بالصفرة ، فقال : هذا أحسن من هذا كله .
8- ... وقال صلى الله عليه وسلم : (غيروا الشيب ، ولا تشبهوا باليهود) .
9- ... وعن عثمان بن عبدالله بن موهب قال : دخلت على أم سلمة ، فأخرجت إلينا شعرً من شعر النبي صلى الله عليه وسلم ، مخضوباً .
وفي رواية أخرى : أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أرته شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحمر .
10- ... خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال : (يا معشر الأنصار حمروا أو صفروا ، وخالفوا أهل الكتاب) .
11- ... وقد نقل عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه يجب ، وعنه يجب ولو مرة ، وعنه لا أحب لأحد ترك الخضب ، وتشبه بأهل الكتاب ، وفي السواد عنه كالشافعية روايتان : المشهورة : يكره ، وقيل يحرم ، ويتأكد المنع لمن دلس به (أي غش) .
واجبنا نحو الرسول صلى الله عليه وسلم :
إن للرسول صلى الله عليه وسلم حقوقاً وواجبات إذا أداها المسلم نفعه الله به ، وأسعده بشفاعته ، وأكرمه بورود حوضه ، وسقاه من ماء كوثره .
1- ... محبته صلى الله عليه وسلم ، أ:ثر من النفس والأهل والمال والولد .
2- ... طاعته في كل ما أمر به من دعاء الله وحده ، والاستعانة به ، والصدق والأمانة ، وحسن الخلق ، وغير ذلك مما جاء في القرآن وأحادثه الصحيحة .
3- ... التحذير من الشرك الذي حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو صرف العبادة لغير الله ، كدعاء الأنبياء والأولياء وطلب المدد والعون منهم ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) . "الند : المثل والشريك" .
4- ... إن نؤمن بما أخبر به القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم ، من الصفات ، كعلو الله على عرشه ، تحقيقاً لقوله تعالى : {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وقوله صلى الله عليه وسلم : (إن الله كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش) . وان الله مع عباده يسمعهم ويراهم ويعلم أحوالهم لقوله تعالى : {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } .
5- ... إن من واجب المسلمين أن يشكروا الله على بعثه ومولد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فيتمسكوا بسنته ، ومنها صيام يوم الاثنين الذي سئل عن صومه فقال : (ذاك يوم وُلدت فيه ، وفيه بُعثت ، وعليّ أُنزل) ، (أي القرآن) .
6- ... أما الاحتفال بيوم مولده صلى الله عليه وسلم ، الذي أحدثه المتأخرون ، فلم يعرفه الرسول والصحابة والتابعون ولو كان في الاحتفال خير لسبقونا إليه ، وأرشدنا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما أرشدنا في الحديث السابق إلى صوم يوم الاثنين الذي وُلد فيه ، علماً بأن الرسول صلى الله عيه وسلم ، مات يوم الاثنين ، فليس الفرع بأولى من الحزن على موته صلى الله عليه وسلم .(2/80)
7- ... إن الأموال التي تنفق في الاحتفالات ، ولو أُنفقت في بيان شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسيرته ، وأخلاقه ، وأدبه ، وتواضعه ، ومعجزاته ، وأحاديثه ، ودعوته للتوحيد التي بدأ بها رسالته وغيرها من الأمور النافعة ، لو فعل ذلك المسلمون لنصرهم الله كما نصر رسوله صلى الله عليه وسلم .
8- ... إن المحب الصادق للرسول صلى الله عليه وسلم ، يهمه إتباع أوامره ، والعمل بسنته ، والحكم بقرآنه والإكثار من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم .
التحلي بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم :
إذا كنت محباً صادقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتخلق بأخلاقه :
1- ... أترك الفحش ، وهو كل ما قبح وساء من قول أو فعل .
2- ... أخفض صوتك ، وأغضض منه إذا نطقت ، وخاصة في المجتمعات العامة ، كالأسواق والمساجد ، والحفلات وغيرها ، ما تكن خطيباً أو واعظاً .
3- ... أدفع السيئة التي تقد تصيبك من أحد بالحسنة ، بأن تعفو عن المسئ ، فلا تؤاخذه ، وتصفح عنه بأن لا تعاقبه ، ولا تهجره .
4- ... أترك التأنيب والتعنيف لخادمك ، أو زميلك أو ولدك ، أو تلميذك ، أو زوجتك إذا أخطأوا أو قصروا .
5- ... لا تُقصر في واجبك ، ولا تبخس حق غيرك ، حتى لا تضطره إلى أن يقول لك : لِمَ فعلت كذا ...؟ أو لِمَ لم لا تفعل كذا ؟ لائماً عليك ، أو عاتباً عليك .
6- ... أترك الضحك إلا قليلاً ، وليكن جلّ ضَحِكك التبسم .
7- ... لا تتأخر عن قضاء حاجة الضعيف والمسكين والمرأة ، والمشي معهم في غير تكبر ولا استنكاف .
8- ... مساعدة أهل البيت على شئون البيت ، ولو كان حلب شاة ، أو طهي طعام أو غيره .
9- ... البس أحسن الثياب التي عندك ، لا سيما وقت الصلاة ، والأعياد ، والحفلات .
10- ... لا تتكبر عن الأكل على الأرض ، وكل ما وجد من الطعام ، والاكتفاء بقليل الطعام ولا تعيبه .
11- ... العمل ومشاركة العاملين ، ولو بحفر الأرض ونقل التراب ، والسرور بذلك إظهاراً لعدم التكبر .
12- ... عدم الرضا بالمدح الزائد ، والإطراء المبالغ فيه ، والاكتفاء بما هو ثابت للعبد ، وبما قام به من صفات الحق والفضل والخير .
13- ... لا تنطق ببذاء ولا جفاء ، ولا كلام فاحش ولو مازحاً .
14- ... لا تقل سوءاً ولا تفعله .
15- ... لا تواجه أحداً من إخوانك بمكروه .
16- ... لازم سلامة النطق ، وحلو الكلام ( ) .
17- ... لا تكثر المزاح ، ولا تقل إلا الصدق .
18- ... أرحم الإنسان والحيوان حتى يرحمك الله .
19- ... احذر البخل ، فهو مكروه من الله والناس .
20- ... نم باكراً ، واستيقظ للعبادة والاجتهاد والعمل .
21- ... لا تتأخر عن صلاة الجماعة في المسجد .
22- ... احذر الغضب وما ينتج عنه ، وإذا غضبت فاستعذ من الشيطان الرجيم .
23- ... الزم الصمت ، ولا تكثر الكلام فهو مسجل عليك .
24- ... اقرأ القرآن بفهم وتدبر ، واسمعه من غيرك ، وأعمل به .
25- ... لا ترد الطيب ، واستعمله دائماً ، لا سيما عند الصلاة .
26- ... استعمل السواك فهو مفيد جداً ، لا سيما عند الصلاة .
27- ... كن شجاعاً ، وقل الحق ولو على نفسك .
28- ... أقبل النصيحة من كل إنسان واحذر ردها .
29- ... اعدل بين زوجاتك وأولادك وفي كل أعمالك .
30- ... اصبر على أذى الناس وسامحهم ، حتى يسامحك الله .
31- ... أحب للناس ما تحب لنفسك . ...
32- ... أكثر من السلام عند الدخول والخروج واللقاء وفي الأسواق .
33- ... تقيد بلفظ السلام الوارد في السنة ، وهو : "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" ولا يُغني عنه كلمة (صباح الخير ، ومساء الخير) أو (أهلاً ومرحباً) ويمكن قولها بعد السلام .
34- ... كن نظيفاً في مظهرك ولباسك .
35- ... غيّر شيبك بالأصفر أو الأحمر ، واحذر السواد امتثالاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم .
36- ... تمسك بسنن الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى تدخل في قوله : (إن من ورائكم أيام الصبر ، للمُتمسك فيهن بما أنتم عليه أجرُ خمسين منكم ، قالوا : يا نبي الله أو منهم ؟ قال : بل منكم) .
37- ... اللهم أرزقنا العمل بكتابك ، وسنة نبيك ، وأرزقنا حبه واتباعه وشفاعته صلى الله عليه وسلم ، يوم القيامة .
---------------
23.محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
المقدمة
الحمد لله الذي كرّم الإنسان بالإيمان ، ومَيّزه بالعقل ، ولم يَجعله كسائر المخلوقات ، تعيش بلا هدف ، أو تعيش لغيرها ، بل جَعَله مُفكِّراً ، يَسمو بِفكره ، ويُعمِل عقله .
ومن هنا قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [الإسراء:70] .
هذا التكريم الرباني هو في الأصل للأصل ، أي لِجنس النوع الإنساني ، إلا أن الإنسان بِنفسه يسمو بالإيمان ، أو يَنحطّ بانعدامه .(2/81)
وقد جَعَل الله له اختياراً ، وأعطاه عقلاً ، وأوضح له السَّبيل ، وأبَان له الطريق (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان:2 ، 3] .
وقال رب العزة سبحانه عن هذا الإنسان : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) [البلد:8-10] .
ومِن عدل الله وحِكمته أن أرسل الرُّسُل ، وأنْزَل الكُتب ، وأقام البيّنات ، ونَصَب الأدلّة على وحدانيته .
فأيّد رُسُله بالمعجزات والآيات الباهرات ، فلم يَبْق أمام أعداء الرُّسُل – بل وأعداء العَقْل – إلا المكابَرة والمعانَدة .
فإن إنكار الوحدانية لله دَفْع بِالصَّدْر ، وضَرب بالوجْه .
فإن النفوس شاهدة بأن الله ليس له شريك .
بل الوجود أجمع شاهد بذلك .
وقد ضرب الله الأمثلة على ذلك ، فمن ذلك قوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء:22] أي لو كان في الأرض والسماء آلهة مُتعددة لَفَسَدتِ السماوات والأرض ، فالعقل والمنطق يقول : إما أن يتغلّب إله على إله على آخر ، فيكون الغالِب هو المتفرِّد ، وإما أن يَذهب كل إلهٍ بما له من مُلك ومكان وخَلْق ، وهنا يَفسد أمر السماوات والأرض ، ولذا قال رب العزة سبحانه : (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون:91]
ومِن هنا فإننا ندعو كل إنسان مُنصف عاقل أن يتأمل في هذا المعنى ، وأن يَعلم أن دعوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لم تَخرج عن دعوات الأنبياء السابقين ، بل هي مُنتظمة في سِلكهم ، سائرة في طريقهم ، مُقتفية آثارهم ، ومن هنا قال رب العزة سبحانه : (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:9] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا أولى الناس بابن مريم ، والأنبياء أولاد علات ، ليس بيني وبينه نبي . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة . قالوا : كيف يا رسول الله ؟ قال : الأنبياء إخوة من علات ، وأمهاتهم شتى ، ودينهم واحد ، فليس بيننا نبي .
ودعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، حينما قال : (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة:129] .
هي بِشارة نبي الله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
قال الله تبارك وتعالى : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الصف:6] .
ونحن إذ نَضع بين يدي القارئ هذا الموضوع لنرجو الله وندعوه أن يَفتح به أعيناً عُمياً ، وآذانا صُمّا ، وقلوباً غُلْفا .
ونضع بين يدي القارئ أعظم إنسان في العالم [ محمد صلى الله عليه وسلم ] لِيَقف بنفسه على بعض البشارات التي وَرَدتْ في الكُتب المتقدمة من كُتُب أهل الكتابات ، والتي كانت سببا في إسلام الكثيرين من أهل الكتاب .
كما نضع بين يديه إشارات إلى البشارات من خلال واقع مُعاصِريه صلى الله عليه وسلم ، سواء ممن آمن به أو ممن لم يؤمن به ، وإن كان أضمر ذلك في نفسه ، وأقرّ به في قرارة نفسه.
كما نُشير إلى طريقة القرآن في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وأشرنا إلى الأدلّة العقلية التي تقتضي صِدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
وأن دعوته ليست بِدعاً من الدعوات ، وهو لم يُخالِف الرُّسل والأنبياء في أصل الدعوة إلى وحدانية الله وإفراده بالعبودية .
بل هذا أمر اتّفقت عليه الرسالات ، وتتابع عليه الأنبياء ، وأقر به الموحِّدون على مرّ الأزمان، حتى كان ذلك الإقرار في فترات خَلتْ من الرُّسُل ، كتلك الفترة التي سَبَقتْ مَبعثه صلى الله عليه وسلم ، فقد وُجِد فيها من أفراد الناس من يُوحِّد الله ، ولا يأكل ما ذُبِح لغير الله ، وكان هؤلاء يُنكرون عِبادة غير الله .
وقد آن أن نترك القارئ مع محاور هذا الموضوع ، وهي كالتالي :
1- أعظم إنسان في العالم في القرآن والسنه.
2- أعظم إنسان في العالم في كتب أهل الكتاب.
(أعظم إنسان في العالم في القرآن والسنة)
محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة(2/82)
لقد قرر الله في كتابه الْمُبِين نبوة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم بِطُرق كثيرة مُتنوّعة ، " يُعرَف بها كمال صِدقه صلى الله عليه وسلم ، فأخْبَر أنه صدَّق المرسلين ، ودَعا إلى ما دَعوا إليه ، وأن جميع المحاسن التي في الأنبياء فهي في محمد صلى الله عليه وسلم ، وما نُزِّهوا عنه من النواقص والعيوب فمحمدٌ أولاهم وأحقّهم بهذا التنْزِيه ، وأن شريعته مُهيمنة على جميع الشرائع ، وكتابه مُهيمن على كل الكُتُب ، فجميع محاسن الأديان والكُتُب قد جَمعها هذا الكتاب وهذا الدِّين ، وفَاق عليها بِمحاسِن وأوصاف لو تُوجَد في غيره ، وقرّره نبوته بأنه أميّ لا يَكتب ولا يَقرأ ، ولا جَالَس أحدا من أهل العلم بالكُتُب السابقة ، بل لم يُفجأ الناس حتى جاءهم بهذا الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما أتوا ، ولا قَدَروا ، ولا هُوَ في استطاعتهم ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، وأنه مُحال مع هذا أن يكون من تلقاء نفسه ، أو مُتقوّل ، أو متوهّم فيما جاء به . وأعاد في القرآن وأبدى في هذا النوع ، وقرّر ذلك بأنه يُخبِر بقصص الأنبياء السابقين مُطوّلة على الوجه الواقع الذي لا يستريب فيه أحد ، ثم يُخبر تعالى أنه ليس له طريق ولا وصول إلى هذا إلا بما آتاه الله من الوحي ، كمثل قوله تعالى لما ذَكَر قصة موسى مُطوّلة : (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ، (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ) ، وكما في قوله : (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ، ولما ذَكَر قصة يوسف وإخوته مُطوّلة قال : (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) .
فهذه الأمور والإخْبَارات المفصّلة التي يُفصِّلها تفصيلا لم يتمكّن أهل الكتاب الذين في وقته ولا من بعدهم على تكذيبه فيها ولا مُعارَضته – من أكبر الأدلة على أنه رسول الله حقّاً .
وتارة يُقرِّر نبوته بِكمال حكمة الله وتمام قُدرته ، وأن تأييده لرسوله ، ونَصْرِه على أعدائه ، وتمكينه في الأرض موافق غاية الموافقة لِحكمة الله ، وان مَن قَدَح في رسالته فقد قَدَح في حِكْمَة الله وفي قُدْرَته .
وكذلك نَصْره وتأييده الباهر على الأمم الذين هم أقوى أهل الأرض من آيات رسالته ، وأدلة توحيده ، كما هو ظاهر للمتأمّلين .
وتارة يُقرِّر نبوته ورسالته بما حازَه من أوصاف الكمال ، وما هو عليه من الأخلاق الجميلة ، وأن كل خُلُق عال سامٍ فَلِرَسول الله صلى الله عليه وسلم منه أعلاه وأكمله ؛ فَمَن عظُمت صِفته وفاقَتْ نُعُوته جميع الْخَلْق التي أعلاها الصِّدق . أليس هذا أكبر الأدلة على أنه رسول رب العالمين ، والمصطفى المختار من الْخَلْق أجمعين ؟
وتارة يُقرِّرها بما هو موجود في كُتُب الأولين ، وبشارات الأنبياء والمرسلين ، إما باسمه الْعَلَم ، أو بأوصافه الجليلة ، وأوصاف أمّته ، وأوصاف دِينه .
وتارة يُقرِّر رسالته بما أخبَر به من الغيوب الماضية ، والغيوب المستقبَلة ، التي وَقَعتْ في زمانه ، والتي لا تزال تَقَع في كل وقت ، فلولا الوحي ما وصل إليه شيء من هذا ، ولا له ولا لِغيره طريق إلى العلم به .
وتارة يُقرِّرها بِحفظه إياه ، وعِصمته له من الْخَلْق ، مع تكالب الأعداء وضغطهم ، وجدّهم التام في الإيقاع به بكل ما في وسعهم ، والله يَعصِمه ، ويمنعه ، وينصره ! وما ذاك إلا لأنه رسوله حقاً ، وأمِينه على وحيه .
وتارة يُقرِّر رسالته بِذِكْر عظمة ما جاء به ، وهو القرآن الذي ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) وتحدّى أعداءه ومَنْ كَفَر به أن يأتوا بمثله ، أو بِعشر سور مثله ، أو بِسورة واحدة ، فعجزوا ، ونكصوا ، وباؤوا بالخيبة والفَشَل ! وهذا القرآن أكبر أدلّة رسالته ، وأجلّها ، وأعمّها .
وتارة يُقرِّر رسالته بما أظهر على يديه من المعجزات ، وما أجرى له من الخوارق والكرامات الدالّة – كل واحد بِمفرَدِه منها ، فكيف إذا اجتمعت – على أنه رسول الله الصادق المصدوق ، الذي لا يَنطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يُوحى .
وتارة يُقرِّرها بِعظيم شفقته على الْخَلْق ، وحُنوّه الكامل على أمّته ، وانه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، وانه لم يُوجد ، ولن يُوجَد أحد من الْخَلْق أعظم شفقة وبِراً وإحساناً إلى الخلق منه ، وآثار ذلك ظاهرة للناظرين .
فهذه الأمور والطُّرُق قد أكثر الله من ذِكرها في كتابه ، وقرّرها بِعبارات مُتنوّعة ، ومعاني مفصّلة ، وأساليب عجيبة ، وأمثلتها تَفوق العد والإحصاء " [ بطوله من القاعدة السابعة من : " القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن " للشيخ السعدي رحمه الله ] .(2/83)
فهذه الأمور التي قرّرها الشيخ وبسطها هي من ألأدلة العقلية المتّفقة مع الأدلة النقلية ، فالله تبارك وتعالى خاطَب العقول ، ولذا نَعى على العرب أنهم لا يُعمِلون عقولهم في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفيما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فمن ذلك :
قوله تعالى : ( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [الأعراف:169] .
وقوله تعالى : ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [يونس:16] .
وقوله سبحانه وتعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [يوسف:2] .
وقوله عز وجل : ( لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [الأنبياء:10] .
إلى غير ذلك من الآيات التي خاطَبتْ عقول الناس ، أفلا ترون إلى هذا النبي الذي أُرسل إليكم، لم يكن قبل اليوم يتلو من كتاب ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) [العنكبوت:48] ؟
كما أن هذا النبي الذي أُرسِل إليكم لبِث فيكم سنين عددا قبل بعثته ، فأنتم تعرفون خُلُقَه ، وتعرفون أمانته ، وهو ذو نسب فيكم ، بل هو من أشرافكم .
هذا خطاب للعقول السليمة أن تتفكّر وتتأمّل قبل أن تُكذِّب هذا الرسول الذي يأتيهم بأنباء الغيب، والتي لم يَجِدوا لها مَدْفَع ، إلا أن يُدفَع في الصَّدْر ، ويُقال عن الشمس في رابعة النهار ليس دونها غيم : هذا ليل !
فمن ذلك أنه أخبر بنبأ غَلَبة الرُّوم – النصارى – فيما بعد ، وذلك في أَمَدٍ قريب :
( غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) [الروم:2-6] .
وقد وَقَع هذا خلال الزمن الذي جاء به الوحي ، والذي حُدِّد بـ (بِضْعِ سِنِينَ) من الثلاث إلى التسع سنوات .
ودارت الأيام ، ودَالَتْ الرّوم على فارس ، وانتصرتْ الروم من بعد غَلَبِهم .
هذه آيات باهرات ، ومعجزات ظاهرات ، لم يستطيعوا دَفعها ولا ردّها في حقيقة الأمر ، وإنما ردّوها ظلما وعُلوّاً ، كما قال تعالى عن آل فرعون مع موسى عليه الصلاة والسلام : ( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) [النمل:13، 14] .
ثم يُذكّرهم مع جحودهم ، بأن هذا النبي لو كان كاذباً لم يُمكّن له في الأرض ، ولا نَصَره الله على أعدائه ، فقال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) [الحاقة:40-46]
وهذه أدلة عقلية تُخاطِب العقول إن كانت تَعِي !
كيف يُمكِّن الله لمن كَذَب عليه ؟
وكيف يَنصر الله من زَعم أن الله أرسله ؟
( أي : لو كان كاذبا على الله لَقَصَمه ولم يُمكِّن له ولم يَنصره )
فإن سُنّة الله أنه يأخذ الظالم أخذ عزيز مُقتَدر ، وأنه يُملي للظالِم فإذا أخذه لم يُفلِتْه
والله لا يُحب الظالمين ، ولا يُحب الكاذِبين ، ولا يُصلِح أعمال المفسِدِين ، قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:81] .
وقد نصر الله نبيَّه مُحمدا صلى الله عليه وسلم ، وأظهر صدقه ، وأيّده على أعدائه ، ونَصَره عليهم ، حتى طأطأت أمامه رؤوس الجبابرة ، وخضعت له صناديد قريش ، وبَلَغتْ دعوته المشارق والمغارِب ، واعترف بِصدقه القريب والبعيد ، والعدو الْمُحارِب .
وقد صدّقه أهل الكتاب ، وعرفوه بصفاته المذكورة في كُتبهم .(2/84)
روى البخاري من طريق عطاء بن يسار قال : لَقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة . قال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صِفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحِرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سَمّيتُك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سَخّاب في الأسواق ، ولا يَدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يُقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ، ويفتح بها أعينا عُميا ، وآذانا صُما ، وقلوبا غُلفا .
ومِن هنا فإننا نُخاطِب العقول التي تَعِي أن تتأمل في حياة ذلك الرجل العظيم ، الذي شهِد بنبوته كل مُنصِف من أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام الذي كان يَهوديا فأسلَم لما رأى وجه النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئتُ في الناس لأنظر إليه ، فلما استثبتّ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أن وجهه ليس بوجه كذّاب . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
وهو الذي قال الله في شأنه : ( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ) ولذا ذهب غير واحد من المفسِّرين إلى أن المقصود بالآية هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه .
فهو قد شهد شهادة الحق ، وأخبر أن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة .
وقصة إسلامه في صحيح البخاري .
وشهِد كذلك هرقل ( رئيس النصارى في زمانه ) بصدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فإنه لما جاء كتاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى هرقل – عظيم الرُّوم – لم يَقُل : هذه رسالة خاصة بالعرب ، ولا بالأعراب ، كما لم يَقُل : هذا غير صادق ، وإنما قال لأبي سفيان – وكان أبو سفيان آنذاك مُشرِكاً – : فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشّمتُ لقاءه ، ولو كُنْتُ عنده لَغَسَلْتُ عن قَدَمِه . رواه البخاري ومسلم .
وآمن به ملِك الحبشة ( النجاشي ) ، وقال عن القرآن – وقد سَمِع آيات من سورة مريم – فبكى حتى أخضل لحيته ، وبَكَتْ أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تُلْيَ عليهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . رواه الإمام أحمد .
كما شهِد بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم غير واحد من اليهود ، مع أنهم لم يُؤمِنوا به إلا أنهم اعترفوا أنه هو الذي ذُكِر ووُصِف في التوراة .
يهود يشهدون بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم
شهِدت اليهود بصدق نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الله عز وجل : ( وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ )
وعن أنس رضي الله عنه قال : كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له : أسلم . فنظر إلى أبيه وهو عنده ، فقال له : أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ، فأسْلَمَ ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار . رواه البخاري .
فهذا اليهودي أمر ابنه أن يُطيع أبا القاسم ، مما يدلّ على أنه يعلم في قرارة نفسه بصدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم .
وحدّث سلمة بن سلامة بن وقش - وكان من أصحاب بدر - قال : كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال : فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير فوقف على مجلس عبد الأشهل . قال سلمة : وأنا يومئذ أحْدَث من فيه سِناً على بردة مضطجعا فيها بفناء أهلي فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار ، فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أنّ بعثاً كائن بعد الموت ، فقالوا له : ويحك يا فلان ترى هذا كائناً أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ، يُجزون فيها بأعمالهم ؟ قال : نعم ، والذي يحلف به لودّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه ، وأن ينجو من تلك النار غدا . قالوا له : ويحك وما آية ذلك ؟ قال : نبي يُبعث من نحو هذه البلاد ، وأشار بيده نحو مكة واليمن . قالوا : ومتى تراه ؟ قال : فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سناً ، فقال : إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه . قال سلمة : فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا ، فآمنا به وكفر به بغياً وحسداً ، فقلنا : ويلك يا فلان ! ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال : بلى ، وليس به !(2/85)
وحدّثت صفية – رضي الله عنها – فقالت : كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه . قالت : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حُيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين ، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس ، فأتيا كالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا . قالت : فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الغمّ . قالت : وسمعت عمي أبا
ياسر وهو يقول لأبي حُيي بن أخطب : أهو هو ؟ قال : نعم والله ! قال : أتعرفه وتثبته ؟ قال : نعم . قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله ! رواه ابن إسحاق في السيرة فيما ذكره ابن هشام .
ها هم اليهود يشهدون بنبوة سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك جحدوا بها .
( فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ) .
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : لو آمن بي عشرة من اليهود ، لآمن بي اليهود . رواه البخاري ومسلم .
وفي رواية لمسلم : لو تابعني عشرة من اليهود ، لم يبق على ظهرها يهودي إلا أسلم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
التواضع والبَسَاطَة في حياة سيّد السّادة
لقد تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يدَع لمتواضِع قولاً ، ولم يترك لِمُتَكَبِّر حجة.
فهو عليه الصلاة والسلام المؤيّد بالوحي ، وهو خليل الرحمن ، وهو من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم عُرِج به إلى السماوات العُلى ، وهو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم ، بل هو أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام ، ومع ذلك كان يتواضع لله فَرَفَعه الله عز وجل .
كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي السوق ، ويُمازحُ أصحابه ، وكان رجل من أهل البادية اسمه زاهر ، كان يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية ، فيجهزَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن زاهراً باديتنا ونحن حاضرته ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ، وكان رجلا دميما ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه ، فقال له : من هذا ؟ أرسلني ، والتفت ، فعرف النبيَّ صلى الله عليه وسلم فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول : من يشتري مني هذا العبد ؟ وجعل هو يلصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول : إذا تجدني كاسداً ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لكنك عند الله لست بكاسد . رواه الإمام أحمد وغيره وهو حديث صحيح .
ويُمازِح أصحابه ، وينام معهم, روى الإمام مسلم عن المقداد رضي الله عنه قال : أقبلت أنا وصاحبان لي ، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الْجَهْد ، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس أحد منهم يقبلنا ، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : احتلبوا هذا اللبن بيننا .
قال : فكنا نحتلب فيشرب كل إنسان منا نصيبه ، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه .
قال : فيجيء من الليل فيسلم تسليما لا يُوقظ نائما ويُسمع اليقظان .
قال : ثم يأتي المسجد فيُصلي ، ثم يأتي شرابه فيشرب ، فأتاني الشيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي ، فقال : محمد يأتي الأنصار فيتحفونه ، ويصيب عندهم ما به حاجة إلى هذه الجرعة ! فأتيتها فشربتها فلما أن وَغلت في بطني وعلمت أنه ليس إليها سبيل ، ندمني الشيطان ! فقال : ويحك ما صنعت ؟ أشربت شراب محمد ؟ فيجيء فلا يجده فيدعو عليك فتهلك ، فتذهب دنياك وأخرتك ، وعَلَيّ شملة إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي ، وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي ، وجعل لا يجيئني النوم ، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت .
قال : فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسلّم كما كان يسلم ، ثم أتى المسجد فصلى ، ثم أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئا ، فرفع رأسه إلى السماء ، فقلت : الآن يدعو عَلَيّ فأهلك ، فقال : اللهم أطعم من أطعمني وأسق من أسقاني .
قال : فعمدت إلى الشملة فشددتها عليّ ، وأخذت الشفرة فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هي حافلة وإذا هن حُفل كلهن ، فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه ، قال : فحلبت فيه حتى عَلَته رغوة ، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أشربتم شرابكم الليلة ؟
قال : قلت : يا رسول الله اشرب ، فشرِب ، ثم ناولني فقلت: يا رسول الله اشرب ، فشرِب ، ثم ناولني فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روى وأصبت دعوته ضَحِكْتُ حتى ألقيت إلى الأرض.
قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إحدى سوآتك يا مقداد !(2/86)
فقلت : يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا ، وفعلت كذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما هذه إلا رحمة من الله ، أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها ؟
قال : فقلت : والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك من أصابها من الناس .
فأي تواضع تكتنفه عَظَمة هذا النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ؟
يُغضي حياءً ويُغضى من مَهَابتِه *** فلا يُكلّم إلا حين يبتسمُ
النبي صلى الله عليه وسلم يبيت مع أصحابه وهو قائد الأمة ، بل ويقتسمون اللبن بينهم بالسّوية !
واليوم نرى من ينتسب إلى العلم أو إلى المناصب الدنيوية لا يُكلِّمون الناس إلا من أطراف أنوفهم!
وربما لا يردّون السلام خشية أن تذهب الهيبة !
نبي الله يُسابِق أصحابه رضي الله عنهم
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابَقَ بين الخيل التي أُضمرت من الحفياء ، وأمدها ثنية الوداع ، وسابَقَ بين الخيل التي لم تُضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق .
وروى البخاري عن أنس قال : كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تُسمى العضباء وكانت لا تسبق ، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها ، فاشتدّ ذلك على المسلمين ، وقالوا : سُبِقَت العضباء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه .
سيّد ولد آدم يُدخل السرور على أهله ، فيُسابِق زوجته
قالت عائشة رضي الله عنها : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا خفيفة اللحم فنزلنا منزلا ، فقال لأصحابه : تقدموا ، ثم قال لي : تعالي حتى أسابقك ، فسابقني فسبقته ، ثم خرجت معه في سفر آخر ، وقد حملت اللحم ، فنزلنا منزلا ، فقال لأصحابه : تقدموا ، ثم قال لي : تعالي أسابقك ، فسابقني فسبقني ، فضرب بيده كتفي وقال : هذه بتلك . رواه أحمد وأبو داود والنسائي في الكبرى ، وغيرهم ، وهو حديث صحيح .
نبي الله صلى الله عليه وسلم يُجيب الدعوة ولو كانت على يسير الطعام
روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ له , فَأَكَلَ مِنْهُ , ثُمَّ قَالَ : قُومُوا فَلأُصَلِّ لَكُمْ .
قَالَ أَنَسٌ : فَقُمْتُ إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ , فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ , فَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَصَفَفْتُ أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ , وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا . فَصَلَّى لَنَا رَكْعَتَيْنِ , ثُمَّ انْصَرَفَ .
ويُجيب الدعوة ولو كانت من رجل فقير
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه . قال أنس : فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام ، فقرّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزا ومرقا فيه دباء وقديد ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة .
وعند الإمام أحمد : أن خياطا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام فأتاه بطعام وقد جعله بإهالة سنخة وقرع .
والإهالة : ما أذيب من الشحم ، وقيل : الإهالة الشحم والزيت ، وقيل كل دُهنٍ أُوتُدِمَ به . ذكره العيني .
والسَّنِخَة : أي المتغيرة الرِّيح . قاله ابن حجر .
بل يُجيب الدعوة ولو كانت من يهودي أو يهودية !
فقد أجاب صلى الله عليه وسلم دعوة امرأة يهودية حينما دعته إلى الطعام .
روى الشيخان عن أنس أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك ، فقالت : أردت لأقتلك. قال : ما كان الله ليسلِّطك على ذاك .
وقال مُؤكِّدا على هذا المعنى : لو دُعيت إلى ذراع أو كراع لأجبتُ ، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقَبِلْتُ . رواه البخاري .
سيد ولد آدم يجلس بين أصحابه فيأتي الرجل الغريب فلا يُميِّزه من بينهم حتى يسأل عنه !
فعن أبي هريرة قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه جاءهم رجل من أهل البادية فقال : أيكم ابن عبد المطلب ؟
قالوا : هذا الأمغر المرتفق .
قال حمزة – أحد رواة الحديث – : الأمغر الأبيض المشرب حمرة .
قال : إني سائلك فَمُشْتدّ عليك في المسألة .
قال : سل عمّا بدا لك .
قال : أنشدك بربِّ من قبلك ورب من بعدك آلله أرسلك ؟
قال : اللهم نعم .
قال : وأنشدك به آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات في كل يوم وليلة ؟
قال : اللهم نعم .
قال : وأنشدك به آلله أمرك أن تأخذ من أموال الأغنياء فتردّه على فقرائنا ؟
قال : اللهم نعم .
قال : وأنشدك به آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من اثني عشر شهرا ؟
قال : اللهم نعم .
قال : وأنشدك به آلله أمرك أن نَحُجّ هذا البيت من استطاع إليه سبيلا ؟
قال : اللهم نعم .
قال : فإني آمنت وصدّقت ، وأنا ضمام بن ثعلبة . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .(2/87)
وعن أبي جري جابر بن سليم قال : رأيت رجلا يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئا إلا صدَرُوا عنه .
قلت : من هذا ؟
قالوا : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قلت : عليك السلام يا رسول الله مرتين .
قال : لا تقل عليك السلام ، فإن عليك السلام تحية الميت قل : السلام عليك .
قال : قلت : أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرّ فدعوته كشفه عنك ، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك ، وإذا كنت بأرض قفراء أو فلاة فَضَلّت راحلتك فدعوته ردّها عليك .
قلت : اعهد إليّ .
قال : لا تسبن أحدا .
قال : فما سببت بعده حُرّا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة .
قال : ولا تحقرن شيئا من المعروف ، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف ، وارفع إزارك إلى نصف الساق ، فإن أبيت فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة ، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه ، فإنما وبال ذلك عليه . رواه الإمام أحمد وأبو داود .
من أجل ذلك لجأ أصحابه إلى تمييزه
فعن أبي ذر وأبي هريرة قالا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل ، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يَعرفه الغريب إذا أتاه . قال : فبنينا له دُكاناً من طين فجلس عليه ، وكنا نجلس بجنبتيه . رواه أبو داود والنسائي .
قال ابن الأثير : الدكان الدَّكة المبنية للجلوس عليها .
نبي الله صلى الله عليه وسلم يستمع لامرأة في عقلها شيء
روى الإمام مسلم عن أنس أن امرأة كان في عقلها شيء ، فقالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة ، فقال : يا أم فلان ! انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك ، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها .
اسْتَمَعَ صلى الله عليه وسلم إلى ما تريد أن تقوله فلم يضع ذلك من قدره بل رفع الله منزلته صلى الله عليه وسلم .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهم حوائجهم
فعن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر الذكر ، ويُقلّ اللغو، ويُطيل الصلاة ويقصر الخطبة ، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له حاجته . رواه النسائي .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه في بستان ويُدلِّي رجليه مع أرجلهم في البئر
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط بالمدينة على قُفّ البئر مُدلِّياً رجليه ، فَدَقّ الباب أبو بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى : ائذن له وبشِّره بالجنة ، ففعل فدخل أبو بكر فَدَلَّى رجليه ، ثم دقّ الباب عمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائذن له وبشِّره بالجنة ، ففعل ، ثم دقّ عثمان الباب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائذن له وبشِّره بالجنة ، وسيلقى بلاء . رواه الإمام أحمد .
ارتعد منه رجل فقال له : هوِّن عليك ! فإني لست بملك إنما أنا بن امرأة تأكل القديد !
طأطأت أمامه رقاب أعدائه ، فطأطأ رأسه تواضعاً لله
دَخَل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً مُتواضعاً حتى إن ذقنه ليمس رَحْلَه .
كان عليه الصلاة والسلام يركب الحمار ، ويُجيب دعوة المملوك ، ويأكل على الأرض ، ويعتقِل الشاة .
وكان يُردِف بعض أصحابه خَلْفَه
فقد أردف ابن عمِّه ابن عباس رضي الله عنهما
وأردف معاذ بن جبل رضي الله عنه
وهذا لا يفعله أرباب المناصب ولا أصحاب الأموال !
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه ، ويخصف نعله
كان في بيته يكون في مهنة أهله ، يعني في خدمتهم
سُئلت عائشة رضي الله عنها : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة .
وقيل لعائشة رضي الله عنها : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ؟ قالت : كما يصنع أحدكم : يخصف نعله ، ويرقع ثوبه . رواه الإمام أحمد .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير حتى أثّر في جنبه
قال عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء ، وتحت رأسه وسادة من أدَم حشوها ليف ، وإن عند رجليه قرظا مصبوبا ، وعند رأسه أُهُب معلقة ، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت ، فقال : ما يبكيك ؟ فقلت : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت رسول الله ! فقال : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ رواه البخاري ومسلم .
وسجد على الأرض من غير حائل بينه وبينها ، حتى سجد في ماء وطين من أثر المطر(2/88)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ، وقد أُرِيت هذه الليلة ثم أنسيتها ، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر ، فمطرت السماء تلك الليلة ، وكان المسجد على عريش فَوَكَف المسجد فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين . رواه البخاري ومسلم .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقبِّل الصبيان ويُلاعبهم
وكان يَمُرّ بهم فيُسلِّم عليهم
لو شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسير معه الجبال ذهبا لكان ، ذلك أنه خُيِّر بين أن يكون عبداً نبياً وبين أن يكون نبيّاً ملِكاً ، فاختار أن يكون نبيّاً عبدا .
قال المسيح عليه الصلاة والسلام : طوبى للمتواضعين في الدنيا ، هم أصحاب المنابر يوم القيامة . طوبى للمُصلِحين بين الناس في الدنيا، هم الذين يرثون الفردوس يوم القيامة .
---------------
24.بشارات العهد القديم بمحمد صلى الله عليه وسلم
د. محمد بن عبد الله السحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عبده المصطفى .. أما بعد
فقد طلب مني الأخوة الفضلاء القائمون على موقع (شبكة مشكاة الإسلامية) أن أذكر لهم شيئاً مما كُتب عن نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كتب أهل الكتاب فنقلت لهم بعض ما أوردته في كتابي: (مسلمو أهل الكتاب وأثرهم في الدفاع عن القضايا القرآنية) وهذه البشارات نقلتها من مسلمي أهل الكتاب بمعنى أنني لم أدون أي نص أو بشارة إلا ما شهد عليه مسلم من أهل الكتاب أنه وجد هذا النص في كتابه. وقد أشرت في نهاية كل بشارة إلى اسم المهتدي الذي نقلتها منه ورقم الصفحة من كتابه ثم طابقتها على الطبعات المحدثة من ما يسمى "بالكتاب المقدس" ونتيجته لأن بعض هؤلاء المهتدين ينقلون لنا من نسخ قديمة جداً كالطبري الذي كان معاصراً للمتوكل ولأن اليهود والنصارى يقومون بعمل تصحيح لكتابهم بين آونة وأخرى ويضيفون ويحذفون من العبارات ما يشاؤون فقد يجد الباحث صعوبة المقارنة بين النص الذي أورده المهتدي والنص الموجود في الطبعات الحديثة للكتاب المقدس المزعوم لكن العبرة بشهادة هؤلاء المهتدين ونقلهم لهذه النصوص.
وليعلم القارئ أن هذه البشارات موجودة في كتب كثيرة سواء في بعض دواوين السيرة أو في مصنفات الجدل مع أهل الكتاب مثل كتاب الجواب الصحيح لابن تيمية وهداية الحيارى لابن القيم .
وإظهار الحق لرحمة الله الهندي والفارق بين المخلوق والخالق لعبدالرحمن باجه جي أو كتاب أحمد السقا البشارة بنبي الإسلام وكذلك مصنفات المهتدين من أهل الكتاب مثل كتاب:
1. الدين والدولة لعلي بن ربّن الطبري.
2. تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب لعبد الله الترجمان.
3. النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية للمتطبب.
4. إفحام اليهود للمسئول بن يحيى المغربي.
5. مسالك النظر في نبوة سيد البشر لسعيد بن الحسن الاسكندراني.
6. محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس لعبد الأحد داود.
7. محمد نبي الحق لمجدي مرجان.
8. محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن لإبراهيم خليل أحمد.
وغيرها كثير. وقد جمعت جميع الأدلة والبشارات التي استدل بها هؤلاء وغيرهم وضمنتها كتابي السابق ذكره.
كما أن هناك من صنف مصنفات خاصة ببشارات أصحاب الأديان السابقة بهذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وكذا صنفت مصنفات خاصة تحمل بين دفتيها شهادات الكتاب المعاصرين المعتبرين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ككتاب : إلى الدين الفطري الأبدي.. تأليف مبشر الطرازي الحسيني من علماء تركستان. وهو من منشورات مكتبة الخانجي – القاهرة.
د. محمد بن عبد الله السحيم
بشارات العهد القديم
البشارة الأولى: رؤيا رآها يعقوب عليه السلام في منامه، وذلك أنه رأى سلماً منصوباً من الأرض إلى السماء، وله خمس درجات، ورأى في منامه أمة عظيمة صاعدة في ذلك الدرج والملائكة يعضدونهم، وأبواب السماء مفتوحة فتجلى له ربه قائلاً: يا يعقوب أنا معك أسمع وأرى، تمن يا يعقوب. فقال: يا رب من أولئك الصاعدون في ذلك الدرج ؟ فقال الله له: هم ذرية إسماعيل. فقال يا رب بماذا وصلوا إليك ؟ فقال: بخمس صلوات فرضتهن عليهم في اليوم والليلة فقبلوهن وعملوا بهن فلما استيقظ يعقوب من منامه فرض على ذريته الخمس الصلوات، ولم يكن الله سبحانه وتعالى قد فرض على بني إسرائيل صلاة في التوراة إلا القرابين يقربونها، وما زالت بنو إسرائيل وعلماؤهم يصلون الصلوات الخمس إتباعاً لسنة جدهم يعقوب عليه السلام، ولم تزل أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام يبشرون بظهور محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتمنون أن يكونوا في زمانه.(2/89)
البشارة الثانية: أن يعقوب عليه السلام لما دنت وفاته جمع أولاده وقال لهم: (تقربوا إليّ أقول لكم ما يظهر آخر الزمان. فلما اجتمعوا قال لهم: ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً، قال الإسكندراني: (ولم يوجد في التوراة أنه ذُكر شيء مما وعد به، بل مكتوب في التوراة أنه دعا لهم وتوفى، علم من ذلك أنهم محوا اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم من هذه الآية.
قلت: إن الله صرفهم عن محو اسم النبي صلى الله عليه وسلم من وصية يعقوب، ففي هذا الإصحاح وبعد هذه الفقرة بفقرات يسيرة يرد إخبار يعقوب لأبنائه بما سيكون في آخر الزمان، وقد بقى هذا الإخبار إلى الآن يحمل بعض ألفاظه العبرية، وهو قول يعقوب عليه السلام: (لا يزول صولجان من يهوذا أو مشرّعٌ من بين قدميه حتى يأتي شيلوه، ويكون له خضوع الشعوب)، وقد منّ الله على المهتدي عبد الأحد داود فكشف اللثام عن هذه الوصية، وفي الأسطر التالية اقتبس بعض استدلالاته واستنتاجاته على أن هذه البشارة خاصة برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذه الاستدلالات هي:
1. أن كلمة "شيلوه" كلمة فريدة في العهد القديم، ولا تكرر في أي مكان آخر في العهد القديم
2. أن كلمة شيلوه تتكون من أربعة أحرف عبرية هي: "شين"، "يود"، "لاميد"، "وهي"، وتوجد بلدة اسمها شيلوه ولكن لا يوجد فيها حرف "يود"، ولذلك لا يمكن أن يكون الاسم مطابقا أو مشيراً للبلدة، إذاً فالكلمة حيثما وجدت تشير إلى شخص وليس إلى مكان.
3. أن هذه العبارة اشتملت على ضمير لغير العاقل، وقد يشير إلى القضيب أو الصولجان، أو المشرع بصورة منفصلة أو مجتمعة، وربما يشير للطاعة، وعليه فإن معنى العبارة: (إن الطابع الملكي المتنبي لن ينقطع من يهوذا إلى أن يجئ الشخص الذي يخصه هذا الطابع، ويكون له خضوع الشعوب).
4. بعد أن أورد بعض تحولات الترجمة لهذه الكلمة بين العبرية والسريانية قال: يمكن أن تقرأ هذه العبارة بالصورة التالية: (حتى يأتي الشخص الذي تخصه..)
5. أن الكلمة "شيلوه" مشتقة من الفعل العبري "شله" وهي تعني المسالم والهاي والوديع والموثوق.
6. من المحتمل أنه تم على هذه العبارة تحريف متعمد فتكون "شالوه" فحينئذ يكون معناها "شيلوح" وهذه العبارة مرادفة لكلمة "رسول ياه" وهو نفس اللقب الموصوف به محمد صلى الله عليه وسلم "وشيلواح إلوهيم" تعني: رسول الله.
7. لا يمكن أن تنطبق هذه البشارة على المسيح حتى لو آمن اليهود بنبوته، لأنه لا توجد أي من العلامات أو الخصائص التي توقعها اليهود في هذا النبي المنتظر في المسيح عليه السلام، فاليهود كانوا ينتظرون مسيحاً له سيف وسلطة، كما أن المسيح رفض هذه الفكرة القائلة بأنه هو المسيح المنتظر الذي تنتظره اليهود.
8. أن هذه النبوة قد تحققت حرفيا وعملياً في محمد صلى الله عليه وسلم ، فالتعابير المجازية "الصولجان" و "المشرع" قد أجمع الشراح المعلقون على أن معناها السلطة الملكية والنبوة. وهذا يعني علمياً أنه صاحب الصولجان والشريعة، أو الذي يملك حق التشريع وتخضع له الشعوب.
9. لا يمكن أن تنطبق هذه البشارة في حق موسى، لأنه أول منظم لأسباط بني إسرائيل، ولا في حق داود، لأنه أول ملك فيهم.
10. لو تم تفسير "شيلوه" بـ "شالا" الآرامية فهي تعني: هادي ومسالم وأمين، وهذا يتفق مع تفسير "شله" العبرية. وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة هو الأمين، وهو محل الثقة، وهو المسالم الهادي الصادق. وبعد هذه المحاولات التفسيرية والترجمة ينتقل المهتدي عبد الأحد إلى إلزام الخصم بهذه النبوة ومدلولاتها وهي ما يلي:
1. أن الصولجان والمشرع سيظلان في سبط يهوذا طالما أن شيلوه لم يظهر.
2. بموجب ادعاء اليهود في هذا "الشيلوه" فإن شيلوه لم يظهر، وأن الصولجان الملكي والخلافة تخصان ذلك السبط، وقد انقرضنا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً.
3. أن سبط يهوذا اختفى مع سلطته الملكية وشقيقتها الخلافة النبوية، ومن الشروط الأساسية لظهور "الشيلوه" إبقاء السبط على وجه الأرض يعيض في أرض آبائه، أو في مكان آخر بصورة جماعية.
4. اليهود مضطرون أن يقبلوا واحداً من الخيارين: إما التسليم بأن "شيلوه" قد جاء من قبل، وأن أجدادهم لم يتعرفوا عليه. أو أن يتقبلوا أن سبط يهوذا لم يعد موجوداً، وهو السبط الذي ينحدر منه "شيلوه".(2/90)
5. أن النص يتضمن بصورة واضحة ومعاكسة جداً للاعتقاد اليهودي والنصراني – أن "شيلوه" غريب تماماً على سبط يهوذا وبقية الأسباط، لأن النبوة تدل على أنه عندما يجيء "شيلوه" فإن الصولجان والمشرع سوف يختفيان من سبط يهوذا، وهذا لا يتحقق إلا إذا كان "شيلوه" غريباً عن يهوذا، فإن كان "شيلوه" منحدراً من يهوذا فكيف ينقطع هذان العنصران من ذلك السبط، ولا يمكن أن يكون "شيلوه" منحدراً من أي سبط آخر، لأن الصولجان والمشرع كانا لمصلحة إسرائيل كلها، وليس لمصلحة سبط واحد. وهذه الملاحظة الأخيرة تقضي على الادعاء النصراني في أن المسيح هو "شيلوه"، لأن المسيح منحدر من يهوذا من جهة أمه.
وقد أورد هذه البشارة النجار وقال إن المعنى: أن النبوة تبقى في سبط يهوذا – أكبر أولاد سيدنا يعقوب – حتى يأتي "شيلون" أي الإسلام، وتخضع له الأمم.
أولاً : بشارة سفر العدد: ما ورد في قصة بلعام بن باعوراء أنه قال: (انظروا كوكباً قد ظهر من آل إسماعيل، وعضده سبط من العرب، ولظهوره تزلزلت الأرض ومن عليها) وقال المهتدي الإسكندراني: (ولم يظهر من نسل إسماعيل إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، وما تزلزلت الأرض إلا لظهوره صلى الله عليه وسلم. حقا إنه كوكب آل إسماعيل، وهو الذي تغير الكون لمبعثه صلى الله عليه وسلم ، فقد حرست السماء من استراق السمع، وانطفأت نيران فارس، وسقطت أصنام بابل، ودكت عروش الظلم على أيدي أتباعه.
وقد حرف هذا النص في الطبعات المحدثة إلى: (يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل، فيحطم موآب، ويهلك من الوغى).
ثانياً: بشارات سفر التثنية:
البشارة الأولى: لما هُزمت جيوش بني إسرائيل أمام العمالقة، توسل موسى إلى الله سبحانه وتعالى مستشفعاً بمحمد صلى الله عليه وسلم قائلاً: (اذكر عهد إبراهيم الذي وعدته به من نسل إسماعيل أن تنصر جيوش المؤمنين، فأجاب الله دعاءه ونصر بني إسرائيل على العمالقة ببركات محمد صلى الله عليه وسلم) وقد استبدل هذا النص بالعبارات التالية: (اذكر عبيدك إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا تلتفت إلى غلاظة هذا الشعب وإثمه وخطيئته) ولا يمكن أن يكون هذا الدعاء – الذي في النص الأول – قد صدر من موسى عليه السلام ، لأنه ينافي كمال التوحيد.
البشارة الثانية: في الفصل الحادي عشر أن موسى قال لبني إسرائيل: (إن الرب إلهكم يقيم نبياً مثلي من بينكم، ومن إخوتكم فاسمعوا له) وقد ورد في هذا الإصحاح ما يؤكد هذا القول ويوضحه، وهو ما ورد في التوراة أن الله قال لموسى: (إني مقيم لهم نبياً مثلك من بين إخوتهم، وأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها ذلك الرجل باسمي أنا أنتقم منه) وتكاد أن تكون هذه البشارة محل إجماع من كل من كتب في هذا الجانب، وقد بين هؤلاء المهتدون كيف تنطبق هذه البشارة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من خلال الوجوه التالية:
1. اليهود مجمعون على أن جميع الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل من بعد موسى لم يكن فيهم مثله. والمراد بالمثلية هنا أن يأتي بشرع خاص تتبعه عليه الأمم من بعده، وهذه صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه من إخوتهم العرب، وقد جاء بشريعة ناسخة لجميع الشرائع السابقة، وتبعته الأمم عليها، فهو كموسى، هذا فضلاً عن أن لفظه (من بينهم) الواردة في البشارة قد أكدت وحددت الشخص المراد.
2. هذا النص يدل على أن النبي الذي يقيمه الله لبني إسرائيل ليس من نسلهم، ولكنه من إخوتهم، وكل نبي بعث من بعد موس كان من بني إسرائيل وآخرهم عيسى عليه السلام، فلم يبق رسول من إخوتهم سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
3. أن إسماعيل وذريته كانوا يسمون إخوة لبني إبراهيم عليه السلام، لأن الله قال في التوراة لهاجر – حسب رواية العهد القديم – عن ابنها إسماعيل: (بأنه قبالة إخوته ينصب المضارب) كما دعى إسحاق وذريته إخوة لإسماعيل وذريته.
4. أن في هذه الآية إشارة خفية غير صريحة، فائقة الحكمة، لأن موسى لو كان قصد بالنبي الموعود أنه من بني إسرائيل، لكان ينبغي أن يقول بدلا من (من إخوتكم): منكم، أو من نسلكم، أو من أسباطكم، أو من خلفكم، وبما أنه ترك هذا الإيضاح، علمنا أنه قصد بهذه الإشارة أنه من بني إسماعيل المباينين لهم.
5. إشتمل هذا النص على مفردة كافية للتدليل على أن هذه النبوة خاصة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهي قوله: "انتقم منه". وفي بعض الترجمات (وكل نفس لا تسمع لذلك النبي وتطيعه تستأصل). فهي تدل على أن من لا يسمع له ويطعه ينتقم منه ويستأصل. وهذا ينطبق تماماً مع حال المخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يمكن أن تنطبق على عيسى عليه السلام الذي طارده وحاربه اليهود، ولم يقع عليهم الإنتقام منه أو من أتباعه، وهذه المفردة كافية للتدليل على صدقها على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(2/91)
البشارة الثالثة: جاء في الفصل العشرين: (أن الرب جاء من طور سينين، وطلع لنا من ساعير، وظهر من جبل فاران، ومعه عن يمينه ربوات القديسين فمنحهم العز، وحببهم إلى الشعوب، ودعا بجميع قديسيه بالبركة) وهذه البشارة كالتي قبلها كادت أن تكون محل إجماع وقبول ممن كتب في هذا الجانب.
وفاران هي مكة وأرض الحجاز، وقد سكنها إسماعيل، ونصت على ذلك التوراة (وأقام في برية فاران، وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر) وإذا كانت التوراة أشارت إلى نبوة تنزل على جبل فاران لزم أن تلك النبوة على آل إسماعيل، لأنهم سكان فاران.
أما من توهم أن فاران الواردة في هذه البشارة هي التي بقرب جبل سيناء – فليس ظنه صحيحاً، لأن فاران تلك هي برية فاران كما أفادت عنها التوراة. وهنا ذكر جيلاً. ودعيت تلك فاران بسبب أنها ظليلة من الأشجار. ولفظة فاران عبرية تحتمل الوجهين، فإذا ذكرت البرية لزم أنها ظليلة، وإن ذكر الجبل ينبغي أن يفهم بأنه جبل ذو غار، وفي هذه البشارة ذكر جبل فعلم أنه جبل فاران الذي فيه المغارة. كما أن لفظة فاران مشتقه من فاري بالعبرية وعربيتها: المتجمل. أي المتجمل بوجود بيت الله. وهذه الجبال قد تجملت ببيت الله.
ومعنى جاء الرب: أي ظهر دينه ودعي إلى توحيده. كما أن لفظة "رب" هنا تقع على موسى وعيسى ومحمد وهي مستعملة بهذا الإطلاق في اللغة السريانية والعربية فتقول العرب رب البيت بمعنى صاحب البيت ويقول السريان لمن أرادوا تفخيمه "مار" ومار بالسريانية هو الرب.
وقد أورد المهتدي الإسكندراني هذه البشارة باللغة العبرية ثم ترجمها إلى اللغة العربية ونص ترجمته هكذا: (جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران، وظهر من ربوات قدسه عن يمينه نور وعن شماله نار، إليه تجتمع الأمم، وعليه تجتمع الشعوب) وقال: (إن علماء بني إسرائيل الشارحين للتوراة شرحوا ذلك وفسروه بأن النار هي سيف محمد القاهر، والنور هي شريعته الهادية صلى الله عليه وسلم.
وقد يقول قائل: إن موسى تكلم بهذه البشارة بصيغة الماضي فلا تنطبق على محمد صلى الله عليه وسلم. والجواب أن من عادة الكتب الإلهية أن تستعمل الماضي في معنى المستقبل، ألم تر أنه أخبر عن عيسى في هذه البشارة كذلك بصيغة الماضي، فإن قبلت هذه البشارة في حق عيسى فهي في حق محمد ادعى للقبول.
وفي الإشارة إلى هذه الأماكن الثلاثة التي كانت مقام نبوة هؤلاء الأنبياء ما يقتضي للعقلاء أن يبحثوا عن المعنى المراد منه المؤدي به إلى إتباع دينهم. وقد ربط المهتدي إبراهيم خليل بين هذه البشارة وبين صدر سورة التين واستنتج منه تطابقاً كاملاً في الوسيلة والتعبير.
البشارة الرابعة: لما بعث المسيح عليه السلام إلى بني إسرائيل، وأظهر لهم المعجزات، نهض إليه عالم من علمائهم يقال له شمعون بلقيش وقال له: (لا نؤمن بك ولا نسلم لك فيما ادعيته، ولا فيما أتيت به، لأن موسى عليه السلام أخبرنا في شريعته عن الله عز وجل أن النبي المبعوث في آخر الزمان هو من نسل إسماعيل، وأنت من بني إسرائيل. واستدل على ذلك بقول موسى في التوراة: (لا يقوم في بني إسرائيل مثل موسى) وأفتوا بقتل عيسى عليه السلام. وعيسى لم يدع أنه مثل موسى، وإنما دعاهم إلى عبادة الله وحده، والعمل والتصديق بما في التوراة.
ثالثاً: بشارة إلياس:
ذكر المهتدي الإسكندراني أنه جاء في صحف إلياس عليه السلام أنه خرج في سياحته وصحبه سبعون رجلاً، فلما رأى العرب بأرض الحجاز قال لمن معه: انظروا هؤلاء الذين يملكون حصونكم العظيمة فقالوا: يا نبي الله ! ما الذي يكون معبودهم ؟ فقال عليه السلام: يوحدون الله تبارك وتعالى فوق كل منبر عال، فقال له أتباعه يا نبي الله ! من يدلهم على ذلك ؟ فقال: ولد يولد من نسل إسماعيل، اسمه مقرون باسم الله، حيث يذكر اسم الله تعالى يذكر اسمه. قال المهتدي الإسكندراني: ولم يكن ذلك إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
رابعا: بشارات المزامير:
البشارة الأولى: قول داود عليه السلام في المزمور الخامس والأربعين: (من أجل هذا بارك الله عليك إلى الأبد فتقلد السيف أيها الجبار، لأن بهاءك وحمدك البهاء الغالب، وأركب كلمة الحق، وسميت التأله، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، وسهامك مسنونه، والأمم يخرون تحتك) وقد أورد هذه البشارة المهتدي الشيخ زيادة في البحث الصريح بصورة أطول من هذه، وكل الصفات الواردة في كلا النصين تنطبق تماماً على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.(2/92)
البشارة الثانية: قول داود عليه السلام في المزمور الثامن والأربعين: (إن ربنا عظيم محمود جداً، وفي قرية إلهنا وفي جبله قدوس ومحمد، وعمت الأرض كلها فرحا) فقد صرح وأبان عن اسمه، وذكر مبعثه وهي أم القرى، ووصف حال الكون بعد مبعثه وهو الاستبشار والفرح، ألم تتلق الشعوب المغلوبة على أمرها جنوده بالفرح والاستبشار كما هو مدون في كتب السير والتأريخ. وقد حرف هذا النص في الطبعة التي بين يدي إلى: (عظيم هو الرب وحميد جداً في مدينة إلهنا قدسه) وقد يتضح القصد من إبدال القرية بالمدينة، حتى تنطبق هذه البشارة على أنبياء بني إسرائيل المبعوثين في مدنهم. وقد أعماهم الله عن تحريف الجزء الأول منه فلله الحمد والمنة.
البشارة الثالثة: قول داود عليه السلام في المزمور الخمسين: (إن الله صهيون إكليلاً محموداً، فالله يأتي ولا يهمل، وتحرق النيران بين يديه، وتضطرم حواليه اضطراماً) وقال المهتدي الطبري تعليقاً على هذه البشارة: (أفما ترون أنه لا يخلى داود عليه السلام شيئاً من نبواته من ذكر محمد أو محمود، كما تقرءون، ومعنى قوله إكليلاً محموداً: أي أنه رأس وإمام محمد محمود، ومعنى محمد ومحمود وحميد شيء واحد في اللغة، وإنما ضرب بالإكليل مثلاً للربانية والإمامية) وقد حرف هذا النص إلى: (من صهيون كمال الجمال الله أشرق، يأتي إلهنا ولا يصمت).
البشارة الرابعة: قول داود في المزمور الثاني والسبعين: (إنه يجوز من البحر إلى البحر، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، وأنه يخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم، وتلحس أعداؤه التراب، تأتيه ملوك تاريس والجزائر بالقرابين، وتقرّب إليه ملوك سابا القرابين، وتسجد له الملوك كلهم، وتدين له الأمم كلها بالطاعة والانقياد، لأنه يخلص المضطهد البائس ممن هو أقوى منه، ويفتقد الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالضعفاء والمساكين، وينجي أنفسهم من الضر والضيم، وتعز عليه دماؤهم، وأنه يبقى ويعطى من ذهب سبأ، ويصلى عليه في كل وقت، ويبارك عليه كل يوم مثل الزروع الكثيرة على وجه الأرض، ويطلع ثماره على رؤوس الجبال، كالتي تطلع من لبنان، وينبت في مدينته مثل عشب الأرض، ويدوم ذكره إلى الأبد، وأن اسمه لموجود قبل الشمس، فالأمم كلهم يتبكون به، وكلهم يحمدونه) وقال المهتدي الطبري: (ولا نعلم أحداً يصلى عليه في كل وقت غير محمد صلى الله عليه وسلم) وغني هذا النص عن زيادة تعليق أو شرح، فلم تتحقق هذه الصفات متكاملة لنبي أو ملك قبل محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما تحققت له، وبمقارنة سريعة بين الآيات التي سأوردها وهذا النص يتضح التماثل التام بينهما، قال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم) وقال عز وجل: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأة فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار).
قد تضمن المزمور الذي وردت فيه هذه البشارة بعض الألفاظ التي لا تزال مشرقة وشاهدة وهي قول داود: (ويشرق في أيامه الصديق وكثرة السلام إلى أن يضمحل القمر) وهذا اللفظ يقع مباشرة قبل قوله: (إنه يجوز من البحر إلى البحر..) ولنفاسه هذا اللفظ أحببت إيراده. وقد ضُبطت لفظة "الصديق" بالشكل الذي نقلته، فهل بعد هذا الإيضاح يبقى إشكال لذي عقل؟ وقد ذكر صاحبه الصديق رضي الله عنه، وذكر سنة من سنن دينه وهي كثرة السلام إلى أن يضمحل القمر، واضمحلال القمر تعبير عن الساعة يشهد له أول سورة التكوير والانفطار، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة أن يكون السلام على الخاصة.
البشارة الخامسة: قال داود في المزمور الحادي عشر بعد المائة: (قال يهوه لسيدي: اجلس على يميني إلى أن أجعل أعداءك مسنداً لقدميك) ويبرر المهتدي عبد الأحد داود إطلاق داود عليه السلام لهذا الوصف "سيدي" بما يلي:
1. أن داود كان ملكاً قوياً، ولا يتأتى أن يكون خادماً لأي كائن بشري.
2. لا يمكن أن نتصور أنه كان يعني بهذا اللقب أحد الأنبياء المتوفين.
3. لا يمكن لداود أن يدعو أحداً من سلالته "سيدي"، لأن اللقب المعقول حينئذ سيكون: يا بني.
4. لا يمكن أن يكون المسيح عليه السلام هو الذي عناه داود بسيدي، لأن المسيح قد استثنى نفسه من هذا اللقب بنص إنجيل برنابا.
أما الحجج التي احتج بها عبد الأحد على أن الموصوف بـ "سيدي" في هذا النص هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كالتالي:
1. أنه أعظم نبي، لأنه هو الذي نشر التوحيد، وقضى على الشرك، وطهّر الكعبة من الأصنام، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، إذاً ليس لداود فحسب، بل سيد الأنبياء ولا فخر.
2. أن عيسى اعترف أنه لم يكن سيد داود، فلم يبق سوى محمد صلى الله عليه وسلم سيداً لداود.(2/93)
3. بمقارنة ما قدمه محمد صلى الله عليه وسلم للبشرية مع ما قدمه كافة الأنبياء، نخرج بنتيجة تفرض نفسها وهي أن محمد صلى الله عليه وسلم وحده هو الذي يستحق هذا اللقب المميز.
4. تفوقه صلى الله عليه وسلم في التنديد بالشرك والوثنية وبالثالوث النصراني.
5. أن هذا التشريف قد تم ليلة المعراج.
البشارة السادسة: قول داود عليه السلام في المزمور التاسع والأربعين بعد المائة: (من أجل أن الرب أتاح لشعبه وتطول على المساكين بالخلاص، فليتعزز الأبرار بالكرامة، ويسبحونه على مضاجعهم، ويكرمون الله بحناجرهم، لأن في أيديهم السيف ذا الشفرتين للانتقام من الشعوب وتوبيخ الأمم، وإثقال ملوكهم بالقيود، وعليّتهم ومكرّميهم بالسلاسل، ليحملهم على القَدَر المكتوب المبرم، فالحمد لجميع أبراره) ألم تحقق هذه النبوة في محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه؟ ألم يقل الحق عنهم: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) أما قوله: ويكرمون الله بحناجرهم. فهذا من أخص خصائص هذه الأمة، وهو الأذان والإقامة والتكبير والتسبيح والذكر. وقال المهتدي الطبري معلقاً على هذه البشارة: (أما ترون – يهديكم الله – هذه الصفات خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته ؟ فهو الذي معه السيف ذو الشفرتين، وهو المنتقم بأمته من جبابرة فارس وطغاة الروم وغيرهم، وهو الذي قيّدت أمته الملوك، وساقت جلّتهم وأولادهم في السلاسل والأغلال).
البشارة السابعة: قول داود عليه السلام في المزمور الثاني والخمسين بعد المائة: (لترتاح البوادي وقراها، ولتصر أرض قيدار مروجاً، وليسبح سكان الكهوف، ويهتفوا من قلل الجبال بحمد الرب، ويذيعوا تسابيحه في الجزائر، لأن الرب يجئ كالجبار، كالرجل المجرب المتلظي للتكبر، فهو يزجر ويتجبر، ويقتل أعداءه) قال المهتدي الطبري: (من قيدار؟ إلا ولد إسماعيل عليه السلام، وهم سكان الكهوف الذي يحمدون الرب ويذيعون تسابيحه في الهواجر والأسحار) ولم يختص أبناء إسماعيل بسكنى الكهوف، وإنما ذكر في هذه البشارة سكان البوادي والقرى والكهوف وقلل الجبال والجزائر إشارة إلى شمول رسالته صلى الله عليه وسلم كافة أرجاء المعمورة، ولجميع الأماكن الممكنة لسكنى البشر كالبوادي والقرى والكهوف والجزائر وقلل الجبال، وليس وراء هذه الأماكن ما ينفع لإقامة البشر فيها واتخاذها مسكناً.
البشارة الثامنة: قول داود عليه السلام: (طوبى لكم يا بني إسماعيل سيبعث منكم نبي تكون يده عالية على كل الأمم، وكل الأمم تحت يده) وعلق الإسكندراني على هذه البشارة بقوله: (ومن المعلوم أن إسماعيل عليه السلام لم يكن ظهر له ملك، ولا علت يده على إخوته، ولا نزل إلى الشام ولا سكن، ولم يكن ذلك إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته هم الذين سكنوا بمساكن بني إسرائيل بمصر والشام) وهذه البشارة مماثلة للبشارة الأولى في سفر التكوين – وقد سبق إيرادها في هذا المبحث.
البشارة التاسعة: قول داود في المزمور: (عظموا الله يا كل الأمم، ووحدوا الله يا أهل الأرض، سيبعث لكم نبي الرحمة) فهل بعد هذا التصريح من تصريح؟ ومن غير محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ؟ .
خامساً : بشارات إشعياء:
البشارة الأولى: قول إشعياء في الإصحاح الأول: (اسمعي يا سموات، وقرّي يا أرض، ولماذا تقلقي؟ سيبعث عليك نبي به ترحمي) وهذه النبوة توافق النبوة الماضية في مزامير داود عليه السلام التي قال فيها: سيبعث لكم نبي الرحمة.
البشارة الثانية: قول إشعياء في الفصل الثالث: (إني رافع آية للأمم، من بلد بعيد، وأصفر لهم من أقاصي الأرض صفيراً، فيأتون سراعاً عجالاً، ولا يميلون ولا يتعثرون ولا ينعسون ولا ينامون ولا يحلون مناطقهم، ولا ينقطع معقد خفافهم، سهامهم مسنونة، وقسيهم موترة، وحوافر خيلهم كالجلاميد صلابة، وعجلهم مسرعة مثل الزوابع، وزئيرهم كنهيم الليوث، وكشبل الأسد الذي يزأر وينهم للفريسة، فلا ينجو منهم ناج، ويرهقهم يومئذ مثل دوي البحر واصطكاكه، ويرمون بأبصارهم إلى الأرض فلا يرون إلا النكبات والظلمات، وينكشف النور عن عجاج جموعهم) وقد استنبط المهتدي الشيخ زيادة من هذا النص الدلالات التالية:
1. هذه البشارة منطبقة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من كل وجه، بدليل قوله رابع آية للأمم. ومحمد صلى الله عليه وسلم هو العلامة المرفوعة لسائر الأمم.
2. أن قوله: من بلد بعيد، إشارة إلى أن هذه العلامة ترفع للأمم من خارج أرض بني إسرائيل، ويتضح ذلك من قوله بعده: من أقاصي الأرض. فكأنه قال: إن أقصى أرض إسرائيل هي الأرض التي يخرج منها ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
3. نفى التعب والإعياء والنوم عن جيوشه، وإثبات السرعة، برهان ظاهر على أن المراد بهذه النبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الملائكة كانت تشارك في جيوشه، وهم الذين لا ينامون ولا يسأمون.. كما أن نفي النوم عنه يدل أيضا على نبينا، لأنه كان يقضي الليل في العبادة والذكر والصلاة، حتى تورمت قدماه.(2/94)
4. الشهادة لحوافر خيله بأنها مثل الصوان، مطابق لوصف الله لها في القرآن بقوله: (والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا) ولا يمكن أن تنطبق هذه البشارة على عيسى عليه السلام، لأنه لم يكن له خيل.
ولعل المراد من قوله: وأصفر لهم من أقاصي الأرض فيأتون سراعاً عجالاً. هو النداء بالحج إلى بيت الله الحرام الوارد في قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق). وعبر بالصفير عن النداء والأذان.
البشارة الثالثة: قول إشعياء في الفصل الخامس مفسراً ما تقدم من نبواته: (إن الأمة التي كانت في الظلمات رأت نوراً باهراً، والذين كانوا في الدجى وتحت ظلال الموت سطع عليهم الضوء، أكثرت من التبع والأحزاب، ولم تستكثر بهم، فأما هم فإنهم فرحوا بين يديك كمن يفرح يوم الحصاد، وكالذين يفرحون عند اقتسام الغنائم، لأنك فككت النير الذي كان أذلهم، والعصا التي كانت على أكتافهم، وكسرت القضيب الذي كان يستبعد بهم مثل كسرك من كسرت في يوم مدين وقال الطبري: (وذلك شبيه بما وصف الله تعالى عن النبي في القرآن وقال إنه يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).
وهذا النص يصور حال أمته قبل بعثته، فقد كانت ترتع في ظلمات الجهل والشرك، ثم أضاء لها نور الوحدانية فاتبعته، وبعد أن كانت أمة مستضعفة، كثر أتباعها، وفرحوا بانضمامهم إليها، وبسبب هذه الرسالة رفع الله عنهم استبعاد الأمم لهم، وانقلبت حالهم فإذا هم المسيطرون على بني البشر.
البشارة الرابعة: قول إشعياء في الفصل الخامس: (إنه ولد لنا مولود، ووهب لنا ابن سلطانه على كتفه) هذا النص عن الترجمة السريانية، أما ترجمته عن اللغة العبرية فهو: (إن على كتفه علامة النبوة).
وقد أورد المهتدي الشيخ زيادة هذه البشارة بالنص العبري ثم ترجمها إلى اللغة العربية، وكانت بصورة أطول مما ذكره الطبري هنا، واستنتج منها الأدلة التالية الدالة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهي:
1. أن اسمه عجيب، فلم يتسم أحد بهذا الاسم الشريف من قبل.
2. أنه من سلالة إسماعيل الذي لم يظهر منهم سواه.
3. أن لفظه "عجيباً" التي تضمنتها البشارة قد وجدت في التوراة اليونانية "رسولاً" وهو الاسم المتغلب عليه صلى الله عليه وسلم.
4. هذه النبوة تضمنت أن إشعياء سماه "مشاوراً"، ولم يكن أحد أكثر منه مشاورة لأصحابه صلى الله عليه وسلم.
5. أن إشعياء قال عنه: "سيد سلام"، وهذا يدل على أنه رئيس الإسلام والمسلمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين. ولا تنطبق هذه الأوصاف على عيسى عليه السلام، لأنه لا توجد على كتفه علامة النبوة، ولم يكن اسمه عجيباً فقد سبقه من تسمى بمثل اسمه، ولم يأت بشريعة مستقلة.
والمقصود بهذه البشارة الإشارة إلى خاتم النبوة الذي كان على كتفه الشريف، وقد استفاضت كتب السنة والسيرة والدلائل بذكر خبره وصفته، وكذلك القصص والحوادث المتعلقة به كقصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقصة بحيرا الراهب.
البشارة الخامسة: قول إشعياء في الفصل العاشر: (هكذا يقول الرب إنك تأتي من جهة التيمن، من بلد بعيد، ومن أرض البادية مسرعاً، مقداً مثل الزعازع من الرياح، ورأينا منظراً رائعاً هائلاً ظالماً يظلم، ومنتهياً ينتهب ... ولتقم السادة والقادة إلى أترستهم، فيدهنوها لأن الرب قال لي: هكذا أمض فأقم الربيئة على المنظرة، ليخبر بما يرى، فكان الذي رأى راكبين: أحدهما راكب حمار، والآخر راكب جمل.. فبينما أنا كذلك إذ أقبل أحد الراكبين وهو يقول: هوت بابل وتكسرت جميع آلهتها المنجورة على الأرض، فهذا الذي سمعت من الرب إله إسرائيل العزيز قد أنبأتكم). ويستنتج من هذا النص الدلالات التالية المؤكدة على أن المعنى بهذه البشارة هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم :
1. أن إشعياء قال: ستأتي من جهة التيمن، من بلد بعيد، من أرض البادية، لئلا يدع حجة لمحتج، لأنه لم يأت أحد بهذه النوبة من أرض التيمن الواقعة في البادية البعيدة عن أرض إسرائيل سوى محمد صلى الله عليه وسلم.
2. أنه قال: (هوت بابل وانكسرت جميع آلهتها). ولم تزل الأوثان تعبد في بابل حتى ظهر محمد صلى الله عليه وسلم ، فأطفأ نيرانهم، وهدم أوثانهم، واذعنوا لدين الله طوعاً أو كرهاً.
3. إذا كان راكب الحمار ينطبق على المسيح، فليس في الدنيا راكب جمل أولى بهذه النبوة من محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أورد المهتدي الإسكندراني النص العبري المتعلق براكب الحمار وراكب الجمل، ثم اتبعه بالترجمة العربية وجاء فيه: (فرأى ركب رديف خيل، ركب رديف حمار، ركب رديف جمل) وقال: هذه حال جيوشه صلى الله عليه وسلم، خلاف عساكر الملوك، لأن الملوك لا تركب جيوشها مراديف، ولا يركبون الحمير والجمال.
أما قوله: (ظالماً بظلم، ومنتهبا ينتهب). فقصد به الإمبراطورية الفارسية والرومانية.(2/95)
البشارة السادسة: قول إشعياء في الفصل السادس عشر: (لتفرح أهل البادية العطشى، ولتبتهج البراري والفلوات، ولتخرج نوراً كنور الشسلبذ، ولتستر وتزه مثل الوعل، لأنها ستعطى بأحمد محاسن لبنان، وكمثل الدساكر والرياض، وسيرون جلال الله عز وجل وبهاء إلهنا) وقد اشتملت هذه البشارة على ذكر بلده وحال أمته، وصرحت باسمه، وتضمنت ما وعدوا به من النظر إلى وجهه تعالى في الآخرة.
البشارة السابعة: قول إشعياء في الفصل التاسع عشر: (هتف هاتف في البدو وقال: خلوا الطريق للرب، وسهلوا لإلهنا السبيل في القفر، فستمتلئ الأودية كلها مياهاً، وتنخفض الجبال انخفاضاً، وتصير الآكام دكا دكاً، والأرض الوعرة ملساء، وتظهر كرامة الرب، ويراه كل أحد، من أجل أن الرب يقول ذلك). ولم تدع أمه من البادية وتكرم هذا التكريم سوى الأمة الإسلامية. وقد أول الطري الجبال والروابي في هذه البشارة على أنهم الملوك والجبابرة، وأن الأودية الواردة هنا حقيقية.
ولعل الأولى أن يتم تأويل هذه الأودية على معنى معنوي كما أول الجبال والآكام فيكون المقصود بفيضان الأودية بالماء هو انتشار الإسلام، وإشاعة العلم الشرعي الذي لا تستغني عنه الأمة، كما أنها لا تستغني عن الماء، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم ما بُعث به بالغيث أصاب الأرض.
البشارة الثامنة: قول إشعياء في الفصل التاسع عشر: (من الذي نبه البر من المشرق، ودعاه إلى موطئ قدمه ليسلم إليه الأمم، ويذهل عنه الملوك، ويجعل سيوفه في عدد الثرى .. وقسيه في عدد الحزم المنثورة، فهو يغلبهم ويضرب وجوههم، ثم يحدث سلماً، ولا يطأ برجله سفراً). قال الطبري: (فإن الحجاز والعراق وما ولاها عند أهل الشام مشرق). ومعنى قوله من الذي نبه البر. لعله بمعنى من الذي نبه البار من المشرق، أو لعل المقصود بالبر الإيمان، كما جاء في قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر). أما بقية النص فهو متحقق في النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو الذي سلمت إليه الأمم قيادها، وذهل منه الملوك، وكانت سيوفه بعدد الثرى، وهو الذي تغلب على الكفار وخذلهم، ولم تجتمع هذه الصفات لأحد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
البشارة التاسعة: قول إشعياء في الفصل العشرين: (يا آل إبراهيم خليلي الذي قويتك، ودعوتك من أقاصي الأرض، ومن نجودها وعواليها، ناديتك وقلت لك: إنك عبدي وأنا اجتبيتك، ولم أستر ذلك، فلا تخف، لأني معك، ولا ترهب فها أنا إلهك أيدتك ثم أعنتك، وبيميني العزيزة البرة مهدت لك، ولذلك يبهت ويخزي المستطيلون عليك، ويضمحل ويتلاشى الذين يمارونك ويشاقونك، ويبيد القوم المنازعون لك، وتطلبهم فلا تحس منم أثراً، لأنهم يبطلون، ويصيرون كالنسئ المنسي أمامك لأني أنا الرب قويت يمينك، وقلت لك لا تخف، فإني أنا عونك ومخلصك، هو قدوس إسرائيلل، يقول الله الرب: (أنا جاعلك مثل الجرجر الحديد الذي يدق ما يأتي عليه دقاً، ويسحقه سحقاً، وكذلك تفعل أنت أيضاً، تدوس الجبال، وتدقها، وتجعل المدائن والتلال هشيماً تذروه العواصف، وتلوى به هوج الرياح، وتبتهج أنت حينئذ، وترتاح بالرب، وتكون محمداً بقدوس إسرائيل). وقد استبدل أول هذا النص بـ (وأما أنت يا إسرائيل عبدي، يا يعقوب الذي اخترته من نسل إبراهيم). كما استبدل آخره بـ (وأنت لتبتهج بالرب بقدوس إسرائيل تفتخر).
وقد تقدم في البشارات السابقة أن أرض الحجاز واقعة في أقاصي أرض إسرائيل، أما قوله: (فلا تخف لأني معك، ولا ترهب فها أنا إلهك أيدتك ثم أعنتك). فهو متفق مع قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس). أما قوله: (يبهت ويخزي المستطيلون عليك). فهو متفق مع قوله تعالى: (إنا كفيناك المستهزئين) وقوله: (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) كما أنه متفق مع حال المناوئين له والمخالفين لأمره ممن كانوا أمما أو أفراداً. ومعنى قوله: (تدوس الجبال وتدقها) .. فقد سبق تأويل الجبال بالملوك والجبابرة، وقد سحقوا أمام جيوشه وجيوش أصحابه، وأصبحوا هشيماً تذروه الرياح.
وقال المهتدي الطبري: (وإن شغب شاغب فأكثر ما يمكنه أن يقول: إن تفسير اللفظة السريانية هو: أن يكون محموداً وليس بمحمد. ومن عرف اللغة وفهم نحوها لم يخالفنا في أن معنى محمود ومحمد شيء واحد).(2/96)
البشارة العاشرة: قول إشعياء في الفصل العشرين: (إن المساكين والضعفاء يستسقون ماء ولا ماء لهم، فقد جفت ألسنتهم من الظمأ، وأنا الرب أجيب حينئذ دعوتهم، ولن أهملهم بل أفجر لهم في الجبال والأنهار وأجري بين القفار العيون، وأحدث في البدو آجاماً، وأجري في الأرض ماء معيناً، وأنبت في القفار البلاقع والصنوبر والآس والزيتون، وأغرس في القاع الصفصف والسرو البهية، ليروها جميعاً، وليعلموا ويتدبروا ثم يفهموا معاً أن يد الله فعلت ذلك، قدوس إسرائيل ابتدعه) وقد ذهب الطبري إلى أن الألفاظ الواردة في هذه النبوة على حقيقتها، فقال: (فأين لكم يا بني عمي المحيد عن هذه النبوة الواضحة الناطقة؟ وما عسيتم تقولون فيها؟ وقد سمى البلاد ووصف المعاطش والقفار البلاقع، وما فجر فيها من العيون، وأجرى من الأنهار، وغرس فيها من أنواع الأشجار، وسمي العطاش المساكين من أهل البوادي والحجاز..) ولكنني أرى أن المقصود بهذه الألفاظ هي المعاني المجازية التي يمكن تأويل هذه الألفاظ إليها استئناساً بقرينة الحال والواقع، لا أن المقصود بهذه الألفاظ المعاني الحقيقية، يؤكد ذلك أن الأرض التي أشرقت بنور الرسالة المحمدية لا تزال منذ أن سكنها إسماعيل عليه السلام إلى يوم الناس هذا واد غير ذي زرع، كما قال ذلك الخليل عليه السلام، فلم تنعم بالأنهار،ولم تتفجر فيها العيون، ولم تنبت الزيتون والآس. ولعل المراد من قوله: إن المساكين والضعفاء يستسقون ولا ماء لهم أن هذا كناية عن سؤالهم الله أن يغيثهم بالرسالة، ويزكيهم بالكتاب والحكمة وينزل على قلوبهم السكينة والطمأنينة، امتداداً لدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام لما قال – كما أخبر بذلك الله عنه في محكم تنزيله -: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم).
وقد أورد المهتدي الشيخ زيادة نصاً عن إشعياء يتضمن أن "دوما" – وهي إحدى البلاد التي عمرها أحد أبناء إسماعيل عليه السلام – تستغيث بلسان حالها إلى الله سبحانه وتعالى أن يرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ليخرجها من الظلمات إلى النور. فعلى ذلك يتيسر تأويل بقية النص الوارد إلى المعاني المجازية، فيكون المراد بالأنهار والعيون، وازدياد الخير والنماء وتبدل حال القفار ... هو انتشار الرسالة، وعموم نور الإسلام، وكثرة العلماء والدعاة الذين يرد إليهم الناس لسؤالهم والاستفادة من علمهم الذي هو للروح كالماء للجسد. وقد يكون من حكمة الله أن تظل هذه النصوص بهذه الألفاظ، لأنها لو وردت ظاهرة لتلقفتها أيدي اليهود النصارى بالتحريف والتغيير.
وبناء على ذلك يكون هذا النص – سواء كان ظاهراً أم مؤولاً – دالاً على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه ذكر الضعفاء والمساكين في البادية العطشى بين الجبال والقفار، وقد كانت أمته قبل بعثته على هذه الحال من الضعف والمسكنة والبداوة والسكنى بين الجبال وفي القفار والأودية العطشى.
البشارة الحادية عشر: قول إشعاء في الفصل الحادي والعشرين: (لتسبحني وتحمدني حيوانات البر من بنات آوى حتى النعائم، لأني أظهرت الماء في البدو، وأجريت الأنهار في بلد أشيمون، لتشرب منها أمتي المصطفاة فلتشرب منه أمتي التي اصطفيتها) وما ورد في هذه النبوة يؤكد ما جاء في النبوة السابقة، ويؤكد أيضاً تأويل الماء بالرسالة.
البشارة الثانية عشر: قول إشعياء في الفصل الثالث والعشرين متحدثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اسمعي أيتها الجزائر، وتفهمي يا أيتها الأمم، إن الرب أهاب بي من بعيد، وذكر اسمي وأنا في الرحم، جعل لساني كالسيف الصارم وأنا في البطن، وأحاطني بظل يمينه، وجعلني في كنانته كالسهم المختار وخزنتي لسره، وقال لي: إنك عبدي. فصرفي وعدلي قدام الرب حقا، وأعمالي بني يدي إلهي، وصرت محمداً عند الرب، وبإلهي حولي وقوتي) قال المهتدي الطبري: فإن أنكر منكر اسم محمد في الباب. فليكن محموداً، فلن يجد إلى غير ذلك من الدعاوي سبيلاً.(2/97)
البشارة الثالثة عشر: قول إشعياء في الفصل الرابع والعشرين: (هكذا يقول الرب قدوس إسرائيل للذي كانت نفسه مسترذلة مهانة، ولمن كانت الأمم تستخف به، وأتباع السلطان يهينونه، ستقوم له الملوك إذا رأوه، وتسجد له السلاطين، لأن وعد الله حق، وهو قدوس إسرائيل الذي انتخبك واختارك، وهو الذي يقول أجبتك عند الرضى، وترث تواريث الخرابات، وتقول للأسرى: أخرجوا وانفكوا، وللمحبسين اظهروا وانطلقوا.. ويتوافى القوم من بلد شاسع بعيد: بعض من جهة الجريباء، وبعض من البحر، وبعض من بحر سنيم. فسبحي أيتها السماء، واهتزي أيتها الأرض فرحاً، وابتهجي أيتها الجبال بالحمد، فقد تلاقى الرب شعبه، ورحم المساكين من خلقه) ولم تتحقق هذه المعاني مجتمعة إلا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد كانت أمته قبل بعثته أمة مسترذلة مستضعفة، وببعثته صلى الله عليه وسلم أذعنت لهم الملوك، واستسلمت لهم الجبابرة، وقضوا على الإمبراطوريات القائمة، وحكموا البلاد والعباد.
أما قوله: (جعلتك ميثاقاً للشعوب). فهو متفق مع قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) والذي جاء مصدقاً لما معهم هو محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه).
أما قوله: نوراً للأمم. فهو متفق أيضاً مع قوله تعالى: (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون). وقوله تعالى: (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء) وقوله تعالى: (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا).
أما قوله: (لتطمئن بك الأرض)، فهو مماثل لقوله تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم يذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
أما قوله: (وترث ثواريث الخرابات) فتستطيع أن تلمح منه وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف كما في قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم .. ). أما بقية هذه البشارة فهي تصوير لتوافد الأمة الإسلامية في موسم الحج، وإقامة شعائر الله في تلك البقاع الطاهرة المباركة..
البشارة الرابعة عشر: قول إشعياء في الفصل الرابع والعشرين مخاطباً مكة وهاجر: (أنا رسمتك على كفي فأسوارك أمامي في كل وقت، وسيأتيك ولدك سراعا، ويخرج عنك من أراد أن يتحيّفك ويخرّبك، فارفعي بصرك إلى ما فوقك، وانظري فإنهم يأتونك ويجتمعون عن آخرهم إليك يقول الله مقسماً باسمه: إني أنا الحي، لتلبسنهم مثل الحلة، ولتتزينين بالإكليل مثل العروس، ولتضيقن عنك قفارك وخراباتك، والأرض التي ألجئوك إليها، وضغطوك فيها من كثرة سكانها والراغبين فيها، وليهربن منك من كان يناويك ويهتضمك، وليقولن لك ولد عقمك: أيتها النزور الرقوب، إنه قد ضاقت بنا البلاد فتزحزحوا وانفرجوا فيها لتتسع في فيافيها، وستحدثين فتقولين: من رزقني هؤلاء كلهم، ومن تكفل لي بهم. وهذه البشارة لا تتطلب الشرح والتعليق لوضوحها، كما أنها لا تقبل أن تؤول على غير مكة أو هاجر، فمن الذي تكفل الله بحمايتها غير مكة؟ ومن الذي تكاثر عددها ونسلها، وضاقت عنهم أرضها، سوى هاجر ؟؟.
البشارة الخامسة عشرة: قول إشعياء في الفصل الرابع والعشرين: (هكذا يقول الرب: ها أنا رافع يدي على الأمم، وناصب لهم آية، وهي أن الناس يأتونك بأبنائك على أيديهم، ويحملون بناتك على أكتافهم وتكون الملوك ظؤوتك، وعقائل نسائهم مرضعاتك، ويخرون على وجوههم سجداً على الأرض، ويلحسون تراب أقدامك، وتعلمين حينئذ أني أنا الرب الذي لا يخزي الراجون لي لدى). وفي هذا النص تقرير لخضوع الأمم لهذه الأمة الإسلامية، فيكون أبناؤها وبناتها خدماً لأبناء الأمة الإسلامية، وتكون نساؤهم مرضعات لأطفال المسلمين، وقد حدث ذلك نتيجة الفتوحات الإسلامية التي أثمرت عن انتشار الرقيق من سبايا الكفار، كما أن في قوله: (ويلحسون تراب أقدامك). تصوير لحال الصغار والذل الذي يلازم دافع الجزية كما في قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). وقد وافق إشعياء داود في هذه النبوة، ولم لا، والمصدر واحد، والموضوع واحد، والوصف واحد، وهو قوله: (ويلحسون تراب أقدامك).(2/98)
البشارة السادسة عشر: قول إشعياء في الفصل الرابع والعشرين: (من الذي أقبل من أدوم؟ وثيابه أشد حمرة من البسر، وأراه بهياً في حلله ولباسه، عزيزاً لكثرة خيله وأجناده، وإني أنا الناطق بالحق والمخلص للأقوام، وإن لدينا ليوم الفتنة نكلاً، ولقد اقتربت ساعة النجاة، وحانت ساعة تخليصي، لأني نظرت فلم أجد من يعينني، وتعجبت إذ ليس من ينيب إلى رأيي، فخلصني عند ذلك ذراعي، وثبت بالغضب قدمي، ودست الأمم برجزي، وأشقيت حدودهم بغيظي واحتدامي، ودفنت عزهم تحت الأرض). تورد هذه النبوة بعضاً من صفاته صلى الله عليه وسلم في هيبته وجلاله، وطرفاً من ذكر بهائه، وإشارة إلى كثرة خيله وأجناده، وأن بمقدمه تتخلص الأقوام من قيد العبودية لغير الله، وتقترب ساعة نجاتها، كما تضمنت هذه النبوة صفة البشرية قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم ، وأنها لا تسمع لكلام الله، ولا تنصر المؤمنين به، فاستحقت بذلك غضب الله ومقته، فكانت بعثته صلى الله عليه وسلم عقاباً لأمم الكفر، إذ ناصبهم العداوة، وشهر السيف في وجوههم، وأرغمهم على الإذعان له، ودفن مجد الكافرين تحت الأرض.
وقد يقول قائل: إن هذه البشارة ذكرت أنه أقبل من أدوم. ومحمد صلى الله عليه وسلم كان في أرض الحجاز، فلا تنطبق عليه هذه النبوة. والجواب على ذلك: أن الصفات الواردة في بقية النبوة لا تنطبق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، أما قوله: أقبل من "أدوم" فمن المعلوم أن المتحدث في هذه البشارة هو أحد أنبياء بني إسرائيل المقيمين في أرضها، و"أدوم" إقليم يقع بين الحجاز وفلسطين، إذ القادم من الحجاز إلى فلسطين لا بد أن يعبر من خلال "أدوم"، ويجب أن لا نغفل أن المتحدث – وهو إشعياء – يتحدث عن أمر غيبي مستقبلي فلا يمكن إذاً أن يقول: من الذي أقبل من الحجاز. لأنه سيقال له: أين منا الحجاز ؟؟. ولكنه يتحدث عن هذا النبي القادم بيقين لا شك فيه، حتى لكأنه يراه في أطراف أرض إسرائيل فيقول لهم: من هذا الذي أقبل من أدوم؟؟ وهو على يقين منه، لأنه ذكر صفاته، ولكنه طرح الخبر بصيغة التساؤل حتى تستشرف النفوس، وتهفو الأرواح للقائه.
البشارة السابعة عشر: قول إشعياء في الفصل الرابع والعشرين عن الله عز وجل أنه قال مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: (إني جعلت اسمك محمداً، فانظر من محالك ومساكنك يا محمد، يا قدوس، .. واسمك موجود منذ الأبد) فذكر اسمه مرتين في هذه النبوة، وهذه مماثلة لما ورد في نبوة داود عليه السلام عنه في المزامير من قول داود: (في جبله قدوس ومحمد). فليس وراء هذا مجل لمدعٍ أن يتمحل أو يجادل.
وقال الطبري: (إن القدوس في اللغة السريانية: الرجل البر الطاهر ... فإن غالط مغالط فقال: (يا محمد يا قدوس)، إنما يقع على المساكن التي ذكرها. فإن الكتاب السرياني يكذبه، لأنه لو أراد بذلك المساكن لقال: يا قدوسين ومحمدين. ولم يقل قدوساً ومحمداً.
البشارة الثامنة عشر: قول إشعياء في الفصل الرابع والعشرين: (اعبروا اعبروا الباب، وردوا الطريق على الأمة، وسهلوا السبيل وذللوها، ونحوا الحجارة عن سبيلها، وارفعوا للأمة علماً ومناراً، فإن الرب أسمع نداءه من في أقطار الأرض، فقل لابنه صهيون إنه قد قرب مجيء من يخلصك، وأجره معه، وعمله قدامه، ويسمون شعباً طاهراً، يخلصهم الرب، وتسمين أنت أيتها القرية التي أدال الله لها من أعدائها ولم يخذلها ربها) وهذه البشارة شاهدة ومؤكدة للبشارة السابقة لإشعياء التي سبق إبرادها تحت مسمى البشارة التاسعة.
ويماثل قول إشعياء أسمع نداءه من في أقطار الأرض. قوله صلى الله عليه وسلم عن هذا الدين: (لا يبقي على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام، بعز عزيز، أو بذل ذليل: إما يعزه الله فيجعلهم من أهلها، أو يذلهم الله فيدينون لها.
أما قوله: فقل لابنة صهيون إنه قد قرب مجيء من يخلصك. فهو شاهد على أن هذا المخلص هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه ذكر شيئا من صفاته، وهو أن أجره معه فهو لا يبتغي على رسالته أجراً من أحد سوى الله، كما أنه لا يعمل لدنياه بل يعمل لآخرته فعمله أمامه، ولم تتخلص ابنة صهيون – ولعل ذلك تعبير عن بيت المقدس – من ربقة السيطرة اليهودية، وضلال الوثنية النصرانية إلا على يد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهو الذي ألبسها حلة الإيمان، وكساها رونق التوحيد، وكشف عنها ستار الجهالة. ويؤكد اختصاص هذه الأمة بهذه البشارة قوله: (ويسمون شعبا طاهراً ... وتسمين أيتها القرية التي أدال الله لها من أعدائها). فذكر حالهم وهو الطهارة، ولعنايتهم به جعله اسماً لهم، وهذا موافق لقوله r: (أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء). وأشار إلى موطنهم وهو مكة، فهي القرية وهي أم القرى.(2/99)
البشارة التاسعة عشر: قول إشعياء في الفصل السادس والعشرون مخاطباً هاجر عليها السلام: (سبحي أيتها النزور الرقوب، واغتبطي بالحمد أيتها العاقر، فقد زاد ولد الفارغة المجفية على ولد المشغولة الحظية. وقال لها الرب أوسعي مواضع خيامك، ومدي ستور مضاريك، لأنك لا تنفسي ولا تضني، بل طوّلي أطنابك، واستوثقي من أوتادك، من أجل أنك تتبسطين وتنتشرين في الأرض يميناً وشمالاً، وترث ذريتك الأمم، ويسكنون القرى المعطلة اليبات). فذكر حال هاجر عليها السلام. وبشر هاجر بهذه الآمال العظيمة التي تستحق الحمد والشكر والاغتباط، وما ينتظر ذريتها من التوسع والسيطرة والغلبة على سائر الأمم، وبمقارنة هذا الوعد الذي وعد به إشعياء هاجر عليها السلام – مع الفتوحات التي تحققت للأمة الإسلامية على أيدي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد أنه قد تحقق فعلاً، وليس بعد شهادة الواقع وتصديقه لهذه النبوة مجال لمجادل أن يجادل أو يغالط فيدعي أن هذه البشارة لا تصدق هنا، وأنها دالة على قوم آخرين .. ويكفي في هذه النبوة حجة ودليلاً أنه نص على أن أبناء المجفية قد زادوا على أبناء المشغولة الحظية، ومن المجفية إلا هاجر؟ ومن الحظية إلا سارة؟. ولم تحصل هذه الزيادة، ولم تتحقق هذه الغلبة إلا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
البشارة العشرون: قال إشعياء في الفصل الثامن والعشرين مخاطباً هاجر عليها السلام: (أيتها المنغمسة المتغلغلة في الهموم التي لم تنل حظوة ولا سلوا، إن جاعل حجرك بلوراً .. ويعرفني هنالك جميع ولدك ولا ينكرونني، وأعلم أبناءك بالسلم، وتكونين مزينة بالصلاح والبر، فتنحي عن الأذى والمكارة، لأنك آمنة منها، فانحرفي عن الانكسار والانخذال فلن يقرباك، ومن انبعث من بين يدي فإليك يكون وفيك حلوله، وتصيرين وزراً وملجأً لقاطنيك وساكانك). قال الطبري: (فأي شهادة أعظم من شهادة الله لهم أنهم جميعاً يعرفونه ولا يجهلونه؟ وأنه صيّر بلدهم وزراً وملجأً للناس، أي حرماً آمناً).
البشارة الواحد والعشرون: قول إشعياء في الفصل الثامن والعشرين: (يا معشر العطاش توجهوا إلى الماء والورود، ومن ليس له فضة فليذهب ويمتار ويستسقي ويأكل من الخمر واللبن بلا فضة ولا ثمن). قال المهتدي الطبري: (فهذا من نبوة إشعياء دال على ما أنعم الله به على ولد هاجر من أمة النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى أنهم صائرون إلى ما وعدهم الله تعالى في الآخرة من أنهار من خمر، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين. فانظروا إلى هذه المشاكلة والموافقة التي بين النبوتين جميعاً). وهذا إشارة منه إلى قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم).
البشارة الثانية والعشرون: قول إشعياء في الفصل الثامن والعشرين: (إني أقمتك شاهداً للشعوب، ومدبراً وسلطاناً للأمم، لتدعو الأمم الذين لم تعرفهم، وتأتيك الأمم الذين لم يعرفوك هرولة وشداً، من أجل الرب إلهك قدوس إسرائيل الذي أحمدك، فاطلبوا ما عند الرب، فإذا عرفتموه فاستجيبوا له، وإذا قرب منكم فليرجع عن خطيئته، والفاجر عن سبيله، وليرجع إليّ لأرحمه، ولينب إلى إلهنا الذي عمّت رحمته وفضله) قال الطبري: (فقد سمي النبي صلى الله عليه وسلم باسمه، وقال: إن الله جعلك محمداً. فإن آثر المخالف أن يقول: ليس بمحمد، بل محمود وافقناه فيه، لأن معناهما واحد).
أما قوله: (أقمتك شاهداً للشعوب). فهو مماثل لقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) وقوله عز وجل: (ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس). وقوله عز من قائل: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً).
أما قوله: سلطاناً للأمم. فيحتمل أن يكون المراد منه المعنى المتبادر للذهن وهو السيادة والقيادة، وقد تحققت له هذه على الأمم في حياته وحياة أصحابه. ويحتمل أن يكون المراد منه أنه سلطان بمعنى حجة على الأمم، لأن السلطان في لغة التنزيل تأتي بمعنى حجة.
وأما قوله: (لتدعو الأمم الذين لم تعرفهم). فقد تحقق ذلك بإرساله صلى الله عليه وسلم الرسل والكتب إلى الملوك كهرقل وكسرى والمقوقس وغيرهم ممن لا يعرفهم كما هو مشهور في كتب السنة والسيرة.
وأما قوله: تأتيك الأمم الذين لم يعرفوك هرولة وشداً. فمصداق ذلك في انضواء الأمم التي لم تكن تعرفه من قبل، والتي لا تعد ولا تحصى تحت لوائه، والإذعان لأمره. كما أن هذه البشارة لا تنطبق على الأنبياء قبله، لأنهم دعوا أقوامهم وهم يعرفونهم، واستجابت لهم الأمم التي تعرفهم، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد دعا من لم يعرفه، واستجاب له من لا يعرفه.(2/100)
وبقية النص تتعلق بالرحمة والمغفرة والتوبة، وهي معان ظاهرة في شريعته، أظهر من الشمس في رائعة النهار، ولا يمكن أن تكون هذه البشارة دالة على اليهودية أو على النصرانية لما يأتي.
1. أن اليهودية تعتقد أنها دين خاص ببني إسرائيل، وهذه البشارة قد تضمنت أنه يدعو الأمم ، وتأتيه الأمم، وهذا يناقض اعتقادها.
2. أن هذا النص تضمن أن صاحب هذه الرسالة يبشر بالتوبة والمغفرة والرحمة، وهذا يخالف اعتقاد اليهود والنصارى: فاليهود تعتقد أن من حق الكاهن المغفرة ومحو الخطايا كما أن النصرانية تعتقد أن البشرية كانت مثقلة بالخطيئة الموروثة التي رفعت عنهم بعد صلب المسيح – كما زعموا – ثم غفلت النصرانية عن كونها محت الخطيئة الموروثة فمنحت رجال الدين حق مغفرة الخطايا.
3. المسيحية ديانة خاصة ببني إسرائيل، لأن المسيح عليه السلام أرسل إلى بني إسرائيل حيث يقول لتلاميذه: (إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة).
البشارة الثالثة والعشرون: قول إشعياء في الفصل الثامن والعشرين عن الله سبحانه وتعالى أنه قال: (إني أقسمت بنفسي وأخرجت من فمي كلمة الحق التي لا خلف لها ولا تبديل، وإنه تخرّ لي كل ركبة، ويقسم بي كل لسان، ويقولون معا: إن النعمة من عند الرب). قال المهتدي الطبري: (فمن هذه الأمة التي تقسم باسم الله؟ ومن ذا الذي يخر على الركب لاسم الفرد الواحد، ويحدث بنعم الله صباحاً ومساء، ويفرده بالدعاء والابتهال غير هذه الأمة ؟ فأما جماعة النصارى فإنهم ينسبون النعم إلى المسيح).
البشارة الرابعة والعشرون: قال إشعياء في الفصل الثامن والعشرين: (إن الله نظر ولم ير عدلاً، وأنكر ذلك، ورأى أنه ليس أحد يعين على الحق، فعجب الرب منه، وبعث وليه فأنقذه بذراعه، ومهد له بفضله، فاستلأم العفاف كالدرع، ووضع على رأسه سنور الإعانة والفلح، ولبس لباس الخلاص، لينتقم من المبغضين له والمعادين، ويجازي أهل الجزائر جزاءهم أجمعين، ليتقي اسم الله في مغارب الأرض، وليخشع في مشارقها لجلاله) وفي هذه النبوة تصوير لواقع البشرية قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام، كما أن فيها إشارة إلى اختيار الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ووصفاً لجهاده صلى الله عليه وسلم الكافرين والمعاندين، وبياناً للنتيجة التي تحققت على يديه وهي: دخول الأمم في دين الله أفواجاً، حتى شمل ذلك المشرق والمغرب.
البشارة الخامسة والعشرون: قول إشعياء مخاطباً هاجر عليها السلام وبلادها وهي مكة: (قومي وأزهري مصباحك فقد دنا وقتك، وكرامة الله طالعة عليك، فقد تخللت الأرض الظلام، وغطي على الأمم الضباب، فالرب يشرق عليك إشراقاً، وتظهر كرامته عليك، وتسير الأمم إلى نورك، والملوك إلى ضوء طلوعك، ارفعي بصرك إلى ما حولك وتأملي، فإنهم سيجتمعون كلهم إليك ويحجونك، ويأتيك ولدك من بلد بعيد، وتحج إليك عساكر الأمم حتى تعمرك الإبل المربلة، وتضيق أرضك عن القطرات التي تجتمع إليك، ويساق إليك كباش مدين وكباش أعفا، وتأتيك أهل سبأ ويتحدثون بنعم الله ويمجدونه، وتسير إليك أغنام قيدار كلها، وتخدمك رخلات نبايوت، ويرفع إلى مذبحي ما يرضيني، وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمداً). فذكر هاجر وذكر البلد، وصرح بالحج وما يصاحبه من توافد الأمم، وسوق الهدي، كما صرح بأسماء بعض هذه الأمم الوافدة إلى الحج كأهل سبأ ومدين وغيرهما. أما قوله: (قيدار ونبايوت). فقال الطبري: هما من أولاد إسماعيل عليه السلام.(2/101)
البشارة السادسة والعشرون: قال إشعياء في الفصل الثامن والعشرين: (سيترجاني أهل الجزائر، ومن في سفن تارسيس كما فعلوا من قبل، ويوردون عليك أبناءك من بلد بعيد ومعهم فضتهم وذهبهم، من أجل اسم الرب إلهك قدوس إسرائيل الذي أحمدك وأكرمك، ويبني أبناء الغرباء سورك، وملوكهم يخدمونك، وتفتح أبوابك في كل وقت وأوان من آناء الليل والنهار فلا تغلق، ويدخل إليك أرسال الأمم، ويقاد إليك ملوكهم أسرى، لأن كل أمة ومملكة لا تخضع لك تتبدد ستورها، وتصطلم الشعوب بالسيف اصطلاماً، وتأتيك الكرامة من صنوبر لبنان البهي، ومن أبهلها ليبخر به بيتي، ويعظم به موضع قدمي ومستقر كرامتي، وتأتيك أبناء القوم الذين كانوا يذلونك، ويقبل آثار أقدامك جميع من كان يؤذيك ويضطهدك، وأجعلك كرامة إلى الأبد، وغبطة وفرحاً إلى دهر الداهرين، وسترضعين ألبان الشعوب، وستصيبين من غنائم الملوك، وتتمززين من غاراتك عليهم ... وأجعل السالمة مدبرك، والصلاح والبر سلطانك، ويكون الرب نورك ومصباحك إلى الأبد). فلم تتحقق هذه الصفات مجتمعة إلا لهذه الأمة الإسلامية، فتغلبت على الأمم، وقادت ملوكهم أسرى، وتبدد من أمامها الأمم التي لم تذعن لها. وكتب الله لها الغلبة والظهور إلى قيام الساعة وهو ما أشار إليه أشعياء في قوله: إلى دهر الداهرين .. إلى الأبد. وهو مماثل لقوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض). وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال ناس من أمتي ظاهرين، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون).
البشارة السابعة والعشرون: قال إشعياء في الإصحاح الثاني والأربعين: (إن عبدي المجتبى عندي، ابن حبيبي اخترته وأرسلته إلى الأمم بأحكام صادقة).
وقد أورد المهتدي الترجمان وغيره هذا النص بصورة أطول، واشتمل على صفات هي ألصق بمحمد صلى الله عليه وسلم من غيره وهو قوله: (إن الرب سبحانه وتعالى سيبعث في آخر الزمان عبده الذي اصطفاه لنفسه، ويبعث له الروح الأمين، يعلمه دينه، ويعلم الناس ما علمه الروح الأمين، ويحكم بين الناس بالحق، ويمشي بينهم بالعدل، وما يقول للناس هو نور يخرجهم من الظلمات التي كانوا فيها، وعليها رقود، وقد عرّفتكم ما عرفني الرب سبحانه قبل أن يكون). فمحمد صلى الله عليه وسلم هو المبعوث في آخر الزمان، وهو الذي نزل عليه الروح الأمين، وهو الذي حكم بين الناس بالعدل وأخرجهم من الظلمات إلى النور.
البشارة الثامنة والعشرون: قول إشعياء في الإصحاح الثاني والأربعين: (لترفع البرية ومدنها صوتها، والديار التي سكنها قيدار، ولتترنم سالع من رؤوس الجبال، ليهتفوا ليعطوا مجداً، ويخبروا بتسبيحه في الجزائر الرب كالجبار، يخرج كرجل حروب ينهض غيرته، يهتف ويصرخ على أعدائه). تضمن هذا النص الإشارة إلى مساكن العرب وهم ذرية قيدار أحد أبناء إسماعيل عليه السلام، والتصريح بذكر جبال المدينة المنورة وهو سالع، إذاً فلا تقبل هذه البشارة أن تنطبق على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقبل الانتقال إلى نبوات إرميا لا بد لي من الإشارة على أن النبوات التي أوردها إشعياء تكاد أن تأخذ طابعاً معيناً وهو: المباشرة في الطرح والتصريح بذكر الأسماء كمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإسماعيل، ومكة والعرب، أو الإشارة إلى صفته وصفات أمته وأصحابه كذكر الدروع والسيوف والجهاد .. كما مر سابقاً.
سادساً: بشارات إرميا:
البشارة الأولى: خاطب الله بها النبي صلى الله عليه وسلم على لسان إرميا في الفصل الأول فقال: (من قبل أن أصورك في الرحم عرفتك، ومن قبل أن تخرج من البطن قدستك، وجعلتك نبياً للأمم، لأنك بكل ما آمرك تصدع، وإلى كل من أرسلك تتوجه، فأنا معك لخلاصك، يقول الرب: وأفرغت كلامي في فمك إفراغاً، فتأمل وانظر، فقد سلطتك اليوم على الأمم والمملكات، لتنسف وتهدم وتتبر وتسحق، وتغرس من رأيت) قال المهتدي الطبري عن هذه البشارة: (هي شبيهة بنبوات إشعياء وغيره) وهو يقصد قول إشعياء: (إن الرب أهاب بي من بعيد، وذكر اسمي وأنا في الرحم، وجعل لساني كالسيف الصارم) وهذه هي البشارة الرابعة عشرة من بشارات إشعياء حسب ترتيب هذا البحث.
ويتفق أول هذه البشارة مع قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بالحق مصدقاً لما معهم بدليل قوله تعالى عنه: (بل جاء بالحق وصدّق المرسلين) وقوله تعالى: (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه).
أما قول إرميا: (لأنك بكل ما أمرك تصدع). فيصدقه قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين). ويشهد لقوله: (وأفرغت كلامي في فمك). قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى). وبقية النص متوافق مع البشارات التي تحدثت عن جهاده صلى الله عليه وسلم.(2/102)
البشارة الثانية: قال إرميا في الفصل التاسع عشر مخبراً عن الله عز وجل أنه قال: (إني جاعل بعد تلك الأيام شريعتي في أفواههم، وأكتبها في قلوبهم، فأكون لهم إلها، ويكونون لي شعبا، ولا يحتاج الرجل أن يعلم أخاه وقريبه الدين والملة، ولا إلى أن يقول له أعرف الرب، لأن جميعهم يعرفونه صغارهم وكبارهم، وأنا أغفر لذلك ذنوبهم، ولا أذكرهم بخطاياهم). قال المهتدي الطبري معلقاً على هذه النبوة: (وقد صدق وعد الله، وازدرع حبه في قلوب هذه الأمة صغارها وكبارها، وأنطق ألسنتهم بشرائعه وتحاميده، وكل عارف بالله مؤمن به). واقرأ قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، وقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). وقوله عز من قائل (والذين آمنوا أشد حبا لله)، وقوله عز وجل: (يحبهم ويحبونه) وتأمل ما وصف الله به هذه الأمة في هذه النصوص من صفات خيّرة مباركة، فستجد أنها مماثلة لما وصفها الله به على لسان إرميا.
البشارة الثالثة: قول إرميا في الإصحاح الثامن والعشرين: (النبي الذي تنبأ بالسلام، فعند حصول كلمة النبي عرف ذلك النبي أن الله أرسله حقاً). هذه النبوة أوردها المهتدي عبد الأحد داود بالمعنى، ويرى أنها بمعنى: (إن النبي الذي تدور نبوءاته حول الإسلام "شالوم" عند ورود كلمة النبي، ذلك النبي المعروف أنه المرسل من قبل الله الحق) وبعد دراسته للنص السابق خرج منه بالنتائج التالية:
1. أنه لا يمكن أن يكون النبي صادقاً إلا إذا بشر بدين الإسلام ونشره، (إن الدين عند الله الإسلام).
2. من الحقائق المسلّم بها أن كلمة "شالوم" العبرية و "سلام" السريانية و "إسلام" العربية كلها من نفس الجذر السامي "شلام" وتحمل نفس المعنى، وهذا أمر يعترف به جميع علماء اللغات السامية، وفعل "شلام" يدل على الخضوع أو الاستسلام، ولا يوجد نظام ديني في العالم يحمل اسماً أو وصفاً أفضل وأشمل من الإسلام. فالدين الحق لله الحق.
3. أن إرميا هو النبي الوحيد قبل المسيح عليه السلام الذي استخدم كلمة "شالوم" بمعنى الدين، وهو النبي الوحيد الذي يستخدم هذه الكلمة بهدف إثبات صدق أحد من رسل الله. أي أن إرميا هو الوحيد قبل المسيح الذي جعل الإسلام هو المقياس الذي يعرف من خلاله النبي الصادق من الكاذب، وإلا فإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وكافة الرسل عليهم السلام كانوا مسلمين، واتخذوا الإسلام ديناً.
4. أن دين الإسلام – أي الإسلام – هو وحده القادر على تحديد الخصائص المميزة للنبي الصادق من النبي الكاذب، كما أنه لا يوجد في العالم دين يتبنى ويدافع عن هذه الوحدانية المطلقة سوى الإسلام.
البشارة الرابعة: قال إرميا في الفصل الثاني والثلاثين مخاطبا النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدوا لي آلات الحرب، فإني أبدد بك الشعوب، وأبدد بك الخيل وفرسانها وأبدد بك الطغاة والولاة، وأجازي بابل، وجميع سكان بلاد الكلدانيين بجميع أوزارهم التي ارتكبوها. هذا قول الرب). وبمقارنة النهاية التي آلت إليها الإمبراطورية الفارسية على أيدي المسلمين بما ورد في هذه النبوة، نجد أن هذا الوعد لهذه الأمة الإسلامية، وذلك الوعيد المتوعد به الأمة الفارسية قد تحقق فعلا، وأقامه الله شاهداً من شواهد التاريخ مصدقاً لما وعد الله به المؤمنين على ألسنة رسله وأوليائه.
سابعاً: بشارة حزقيال:
قال حزقيال في الفصل التاسع: (إن أمّك مغروسة على الماء بدمك، فهي كالكرمة التي أخرجت ثمارها وأغصانها من مياه كثيرة، وتفرعت منها أغصان كالعصى قوية مشرفة على أغصان الأكابر والسادات، وارتفعت وبسقت أفنانهن على غيرهن، وحسنت أقدارهن بارتفاعهن والتفاف سعفهن، فلم تلبث الكرمة أن قلعت بالسخط، ورمى بها على الأرض، وأحرقت السمائم ثمارها، وتفرق قواها، ويبس عصي عزها، وأتت عليها النار فأكلتها، فعند ذلك غرس في البدو وفي الأرض المهملة العطشى، وخرجت من أغصانه الفاضلة نار أكلت ثمار تلك حتى لم يوجد فيها عصا قوية بعدها ولا قضيب ينهض بأمر السلطان). فتأمل ما في هذا النص من بلاغة في التصوير، ودقة في التعبير، فشبه الأمة اليهودية إبان عزها وسؤددها – لما كانت تعيش تحت مظلة الأنبياء – بالكرمة الحسنة، وبعد أن نزعت منها النبوة، وأغضبت ربها استأصل شأفتها، واقتلع جذورها، فذرتها الرياح، وأكلتها النار، وانتهى مجدها. واستبدل الله بها أمة هي خير أمة أخرجت للناس، وشبهها بشجرة قد غرست في أرض البادية العطشى من الماء المعنوي والحسي، فأثمرت هذه الشجرة الأغصان الفاضلة التي قضت على تلك الشجرة الأولى ولم تبق فيها عصا ولا قضيباً. وهذا حال الأمة اليهودية والأمة الإسلامية التي أشرق عزها، وتوسع نفوذها، حتى شمل بلاد بني إسرائيل وغيرها.(2/103)
البشارة الأولى: قال دانيال في الإصحاح السابع: (إن ملكوت الله وعظمة المملكة الممتدة تحت رقعة السماء كلها سوف تعطي لعباد الله تعالى وأوليائه. وسيكون ملكوتهم هذا مملكة أبدية، تخدمها جميع الممالك الأخرى، وتعمل بطاعتها) إن هذه البشارة لتدل بوضوح على أن في الإسلام توجد وحدة لا انفصام لها بين الدين والدولة. فالإسلام ليس ديناً فحسب، بل أيضاً المملكة الدنيوية. ولا بد من إلقاء نظرة خاطفة على التدرج التأريخي لهذا الملكوت حتى بلغ غايته، واكتمل بناؤه على يد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا التدرج هو كما يلي:
1. أن الإسلام قبل محمد صلى الله عليه وسلم لم تمثله دولة تحكم باسمه وتدافع عنه، وإنما كان الإسلام ديناً قائماً في حياة الأقوام التي آمنت به، ولم تقم له دولة في حياتهم، بل كان السلطان والقوة في أيدي الكفرة الوثنيين، في العموم الغالب، ويستثنى من ذلك فترات حكم كل من سليمان وداود ويوشع عليهم السلام.
2. إن المسيح عليه السلام قد بشر تلاميذه باقتراب ملكوت الله. وهذا الملكوت يعني وجود دين ومجتمع قوي من المؤمنين بالله، وهذا المجتمع يتسلح بالإيمان بالله وبالسيف لقتال أعدائهم الذين يريدون أن يحولوا بينهم وبين تبليغ كلمة الله إلى البشرية، أو بمعنى أوضح: إن ملكوت الله هو الإسلام. إذاً فالمسيح عليه السلام بشر تلاميذه باقتراب ظهور الإسلام على يد محمد صلى الله عليه وسلم ، وأكد لليهود أن النبي الذي تنتظره اليهود ليس يهودياً، ولا من نسل داود عليه السلام، بل هو من نسل إسماعيل عليه السلام واسمه أحمد، وسيقيم الدولة الإسلامية وفق المنهج الذي ارتضاه الله لهم، وهذه الدولة مؤيدة بنصر الله ثم بسواعد المجاهدين في سبيله.
3. طبيعة هذا الملكوت وتكوينه: يتألف هذا الملكوت من المؤمنين بالله الذين يلازمهم ذكر الله سبحانه وتعالى في كل أحوالهم، فلا يقومون بأي عمل إلا ويبدءونه بذكر الله، ويحمدونه بعد الانتهاء منه.
وطبيعة هذا الملكوت أنه يتكون في جوهره من شقين: الأول: دين صحيح قائم على وجه الأرض وفق المنهج الذي ارتضاه الله في كتابه القرآن. والثاني: دولة إسلامية تقوم على هذا المنهج ويتصف المؤمنون بهذا المنهج بما يأتي:
أ ) أنهم يكونون أمة واحدة تربطهم أخوة واحدة هي أخوة الدين.
ب) أنهم كما وصفهم دانيال: جماعة القديسين. وهذه صفة تنطبق على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار وعلى سائر المؤمنين بالله.
4. ديمومة هذه المملكة ورفعة شأنها: هذه الحقيقة أكدها دانيال بقوله: إن جميع الأمم تحت قبة السماء تخدم شعب الأبرار العامل بطاعة الله. ولم تتحقق هذه الصفة – وهي خدمة الأمم – إلا للأمة الإسلامية التي خدمتها الأمم في مشارق الأرض ومغاربها. ومن دواعي استمرار هذه الأمة وديمومتها أنها لا تعرف التمييز الطبقي في تشريعاتها بين أفرادها فالكل سواء أمام شرع الله، لا فرق بين الأبيض والأسود أو بين الحاكم والمحكوم.
البشارة الثانية: قال دانيال: (طوبى لمن أمل أن يدرك الأيام الألف والثلاثمائة والخمسة والثلاثين). قال المهتدي الطبري: (فأعملت فيه الفكر فوجدته يوحي إلى هذا الدين، وهذه الدولة العباسية خاصة، وذلك أنه لا يخلو دانيال من أن يكون أراد بهذا العدد: الأيام والشهور والسنين، أو سرا من أسرار النبوة بخرجه الحساب. فإن قال قائل: إنه أراد به الأيام. فإنه لم يحدث لبني إسرائيل، ولا في العالم بعد أربع سنين فرح ولا حادثة سارة، ولا بعد ألف والثلاثمائة وخمسة وثلاثين شهراً، فإن ذلك مائة وإحدى عشر سنة وأشهر. فإن قالوا: عني به السنين. فإنما ينتهي ذلك إلى هذه الدولة، لأن من زمن دانيال إلى المسيح نحواً من خمسمائة سنة... ومن المسيح إلى سنتنا هذه ثمانمائة وسبع وستون سنة ينتهي ذلك إلى هذه الدولة العباسية منذ ثلاثين سنة، أو يزيد شيئاً).
وبمقارنة هذا التاريخ الميلادي بالتاريخ الهجري تكون السنة التي أشار إليها هي سنة 253هـ تقريباً. ولعل في هذه البشارة سراً عجيباً وهو الإشارة إلى بلوغ الدولة الإسلامية غاية مجدها، وكمال سيطرتها، ونهاية فتوحاتها.
ثامناً: بشارات هوشاع:
البشارة الأولى: قول هوشاع: (قال الرب: إني أنا الرب الإله الذي رعيتك في البدو، وفي أرض خراب قفر غير مأهول، ليس بها أنيس). قال المهتدي الطبري: فلسنا نعرف أحداً رعاه الله في البدو، وفي أرض قفر غير النبي صلى الله عليه وسلم.
البشارة الثانية: قال هوشاع يصف أمة محمد صلى الله عليه وسلم: (إنها أمة عزيزة لم يكن مثلها قط ولا يكون، وإن النار تحرق أمامها، وتتوقد خلفها الضرائر). ولم تنل أمة من العز والمنعة والسلطان في فترة طويلة وعلى رقعة واسعة كما نالت الأمة الإسلامية.
تاسعاً : بشارة ميخا:(2/104)
قال ميخا: (إنه يكون في آخر الأيام جبل بيت الرب مبنياً على قلال الجبال، وفي أرفع رؤوس العوالي، وتأتيه جميع الأمم، وتسير إليه أمم كثيرة، وهم يقولون: تعالوا نطلع جبل الرب). ويرى الطبري أن هذا النص يتضمن صفة مكة. بينما يرى الترجمان أن الجبل المشار إليه هو جبل عرفات، وأن الأمة المشار إليها في النص الذي أورده الترجمان هي الأمة الإسلامية. وعلى كلا الحالين فهذه النبوة شاهدة ومبشرة بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومبينة صفة أمته، ومشاعر ملته.
وقد حرف آخر هذا النص في الطبعة التي بين يدي فصار هكذا (... هلم نصعد إلى جبل الرب، وإلى بيت إله يعقوب من طرقه، ونسلك في سبيله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب). وقد أعماهم الله عن تحريف أول هذا النص، حتى يبقى شاهداً على الحقيقة، دالاً على النبوة. وقد توقع المهتدي الطبري مثل هذا التحريف فقال: عني بيت المقدس. فكيف يصح له ذلك ؟ وقد بين الله أن يكون ذلك في آخر الأيام, وكان بيت المقدس في زمان هذا النبي موجوداً، وإنما تنبأ النبي على شيء يحدث، لا على ما كان ومضى).
عاشراً : بشارة حبقوق:
قال حبقوق: (إن الله جاء من التيمن، والقدوس من جبل فاران. لقد انكسفت السماء من بهاء محمد، وامتلأت الأرض من حمده، ويكون شعاع منظره مثل النور، يحوط بلده بعزه، وتسير المنايا أمامه، وتصحب الطير أجناده. قام فمسح الأرض، ثم تأمل الأمم وبحث عنها، فتضعضعت الجبال القديمة، واتضعت الروابي الدهرية، وتزعزعت ستور أهل مدين، ولقد حاز المساعي القديمة، وغضب الرب على الأنهار. فرجزك في الأنهار، واحتدام صولتك في البحار، ركبت الخيول، وعلوت مراكب الإنقاذ والغوث، وستترع في قسيك إغراقاً وترعاً، وترتوي السهم بأمرك يا محمد ارتواءً، وتحرث الأرض بالأنهار. ولقد رأتك الجبال فارتاعت، وانحرف عنك شئويوب السيل، ونعرت المهاوي نعيراً ورعياً، ورفعت أيديها وجلاً وخوفاً، وتوقفت الشمس والقمر عن مجراهما، وسارت العساكر في بريق سهامك ولمعان نيازكك، تدوخ الأرض غضباً، وتدوس الأمم رجزاً، لأنك ظهرت لخلاص أمتك، وإنقاذ شريعة آبائك). هذا النص أورده المهتدي الطبري بهذه الصيغة، وورد لدى كل من الشيخ زيادة، والترجمان، وإبراهيم خليل أحمد: بصور مختلفة طولاً وقصراً، مع اختلاف يسير في العبارات، واتفاقهم على محتوى السطر الأول. واتفق أيضاً كل من الترجمان والشيخ زيادة وإبراهيم خليل على أن المراد بجبال فاران هي جبال مكة. وأشار الطبري والشيخ زيادة إلى أن هذه النبوة موافقة لنبوة موسى عليه السلام الواردة في سفر التثنية وهي قوله: (جاء الله من سيناء، وأشرق من ساعير، وتلألأ من جبال فاران). كما أشار الشيخ زيادة إلى أن هذه النبوة موافقة لنبوة أشعياء التي ذكر فيها أن حوافر خيله مثل الصوان الذي ينبعث منه الشرر. وقد سبق الحديث عنهما. وأكد المهتدي الطبري والشيخ زيادة على أن هذا الوصف الوارد في هذه النبوة عن الخيل والسهام والسيوف، إنما ينطبق على جيوش محمد صلى الله عليه وسلم وقال المهتدي الطبري بعد أن أورد تطابق هذه النبوة مع حالة صلى الله عليه وسلم. (فإن لم يكن هو الذي وصفتا – أي محمد صلى الله عليه وسلم – فمن إذاً ؟ لعلهم بنو إسرائيل المأسورون المسببون، أو النصارى الخاضعون المستسلمون. وكيف يكون ذلك وقد سمي فيها النبي مرتين ووصف عساكره وحروبه ...).
وإن الاستفاضة في تأمل هذه النبوة ، واستخراج ما أشارت إليه، وبسطه، لتعجز عنه هذه الصفحات ، لأنه يستغرق كتاباً، وليس المجال هنا مجال البسط والتوسع، وإنما هو الاستدلال والإشارة فقط. ولكن استوقفتني بعض العبارات التي اشتمل عليها هذا النص، ولم أر هؤلاء الذين مر ذكرهم تعرضوا لها، فأردت أن أقف عندها وقفة يسيرة تكشف ما في النفس، ولا تطيل البحث. وأول هذه العبارات هي قوله: (قام فمسح الأرض). وهذه العبارة تحاكي قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها ...) أما الثانية فهي قوله: (لأنك ظهرت لخلاص أمتك، وإنقاذ تراث آبائك). فمن أباؤه؟ إنهم إبراهيم وإسماعيل، وما هو إرثهم ؟ هل هو الملك أم الأموال أم ماذا ؟؟ إنه التوحيد والرسالة قال تعالى (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) وقال تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين آمنوا معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله).
الحادي عشر: بشارة صفتيا:(2/105)
قال صفتيا: (يقول الرب: أيها الناس ترجوا اليوم الذي أقوم فيه للشهادة، فقد حان أن أظهر حكمي بحشر الأمم كلها وجميع الملوك، لأصب عليهم رجزي، وأليم سخطي، فستحترق الأرض كلها احتراقاً بسخطي ونكيري. هناك أجدد للأمم اللغة المختارة، ليذوقوا اسم الرب جميعاً، ويعبدوه في ربقة واحدة معاً ويأتون بالذبائح في تلك الأيام من معابر أنهار كوش). قال المهتدي الطبري معلقاً على هذه النبوة: وهذا صفنيا قد نطق بالوحي وأخبر عن الله بمثل ما أدى أصحابه، ووصف الأمة التي تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتجتمع على عبادته، وتأتيه بالذبائح من سواحل السودان ومعابر الأنهار واللغة المختارة هي اللسان العربي المبين ... وهي التي قد شاعت في الأمم فنطقوا بها.
الثاني عشر: بشارة حجي:
قال حجي: (ولسوف أزلزل كل الأمم، وسوف يأتي "حمدا" "Himada" لكل الأمم، وسوف أملأ هذا البيت بالمجد، هكذا قال رب الجنود، ولي الفضة، ولي الذهب، هكذا يقول رب الجنود، وإن مجد ذلك البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول. هكذا يقول رب الجنود، وفي هذا المكان أعطى السلام. هكذا يقول رب الجنود). وقد ترجمت كلمتي "حمدا" و "شالوم" العبريتين إلى الأمنية، أو المشتهى، أو السلام. وعندئذ تفقد هذه النبوة ما اشتملت عليه من معنى وتصبح ولا قيمة لها. ولكن الترجمة الصحيحة لهذه العبارات هي أن "شالوم" أو "شلاما" و "حمدا" تترجم إلى الإسلام، وأحمد. وتؤدي نفس الدلالة التي تؤديها تلك العبارات السابقة وبنفس الأهمية. وبين المهتدي عبد الأحد داود أصول هذه الكلمات ووضح ما ذهب إليه من أنها تترجم إلى الإسلام، وأحمد، فقال:
أ ) إن كلمة "حمدا" تقرأ باللغة العبرية الأصلية هكذا: (في يافوا حمداث كول هاجوييم) والتي تعني حرفياً: (وسوف يأتي حمداً لكل الأمم). وعليه فإن الحقيقة الناصعة تبقى بأن كلمة "أحمد" هي الصيغة العربية لكلمة "حمدا" العبرية، وهذا التفسير تفسير قاطع لا ريب فيه. ولقد جاء في القرآن الكريم في سورة الصف: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوارة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد).
ب) إن كلمة "شالوم" و "شلاما" بالعبرية و "سلام" و "إسلام" باللغة العربية هما مشتقتان من أصل واحد، وتعنيان نفس المعنى وهو السلام والإذعان أو الاستسلام.
وبعد هذا التوضيح من قبل هذا المهتدي لهذه الألفاظ ذكر عدداً من البراهين التي استند إليها فيما ذهب إليه، وهي:
1. إن القرابة والعلاقة والتشابه بين هذين التعبيرين "حمدا" و "أحمد" وكذلك التشابه في الأصل الذي اشتق الاسم منهما لا يترك أدنى جزء من الشك، لأن المفهوم من الجملة هو (وسوف يأتي حمدا لكل الأمم) إنما هو "أحمد" أي محمد، ولا يوجد أدنى صلة في أصل الألفاظ ولا في تعليلها بين كلمة "حمد" وبين الأسماء الأخرى كمثل يسوع أو المسيح أو المخلص.
2. لو سلمنا جدلاً بالصيغة العبرية لكلمة "حمده" وأنها مجرد معنى اسمي لكلمات "أمنية أو مشتهى أو شهوة أو مدح" فإن هذا الجدل هو في صالح ما نطرحه من بحث هنا، وذلك لأن الصيغة العبرية تكون بحسب أصول الكلمات متساوية تماماً بالمعنى والتشبيه أو حتى في التطابق لكلمة "حمدا" وعلى أية حال فإن صلتها بـ "أحمد" أو "أحمدية" هي صلة قاطعة، وليس لها علاقة أبداً بـ "يسوع" أو "اليسوعية".,
3. إن هيكل "زورو بابل" كان يجب أن يكون أعظم مجداً من هيكل سليمان عليه السلام، ذلك لأن "ملاخي" تنبأ بأن الرسول العظيم لا بد أن يزوره فجأة، وهذا احصل فعلاً عندما زاره الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء.
4. إن "أحمد" وهي الصيغة الأخرى لاسم محمد ومن نفس المصدر والتعبير ومعناه "الأمجد"، وفي خلال رحلته الليلية صلى الله عليه وسلم زار تلك البقعة المقدسة كما ينص القرآن الكريم على ذلك، وهناك أدى الصلاة المباركة بحضور جميع الأنبياء عليهم السلام كما تدل أحاديثه الشريفة، وبهذا يتحقق المجد.
5. إن تسمية خاتم الأنبياء بـ "محمد" أو "أحمد" من أعظم المعجزات، لأنه أول اسم عرف بهذه الصفة في تاريخ البشرية.
الثالث عشر: بشارات زكريا عليه السلام:
البشارة الأولى: قال النبي زكريا عليه السلام في الإصحاح الثامن: (هكذا يقول رب الجنود: في تلك الأيام يجتمع عشرة رجال من كل لسانات الشعوب ويتمسكون بذيل رجل حميد، أعني أبو حيد، ويقولون: لنذهب معك، لأننا سمعنا أن الله معك) أورد المهتدي الشيخ زيادة هذه البشارة بلفظها العبري ثم ترجمها إلى اللغة العربية، وأطال الكلام حول هذه البشارة واشتقاقات اسم "حميد وأحمد" وبين أنه ظل سنين طويلة وهو يقرأ هذه النبوة ويفهمها على وفق الترجمة اليهودية، حتى يسر الله له كتب أصول اللغة العبرية – وكانت شبه معدومة – فوقف من خلالها على حقيقة هذا اللفظ "يا أودي" وأنه إذا ترجم إلى اللغة العربية صار: "حميد".
الرابع عشر: بشارات ملاخي:(2/106)
البشارة الأولى: قال ملاخي مخبراً عن الله أنه قال: (انظروا، إنني أبعث برسولي، وسوف يمهد السبيل أمامي، وسوف يأتي فجأة إلى هيكله السيد الذي تبحثون عنه، ورسول العهد الذي ترغبون. انظروا إنه قادم. هكذا يقول رب الجيوش أو الجموع) ويرى المهتدي عبد الأحد داود أن التحديد الدقيق لموضوع هذه النبوة أمر في غاية الأهمية، لأن الكنائس المسيحية اعتقدت منذئذ أن المقصود بها شخصان. ومما يدحض هذا الزعم انتهجته الكنائس ما يلي:
1. أن السيد أو الرسول الموعود كلف بتأسيس وإقامة دين قويم صالح، ومكلف بإزالة كافة العقبات التي تحول بين البشرية وربها، ومكلف أيضاً بأن يجعل الطريق سهلاً ممهداً مستنيراً ... وبالتأكيد فإن الرسول الرفيع الشأن المبعوث من الله لم يكن قادماً لإصلاح الطريق من أجل حفنة من اليهود، ولكن من أجل إقامة دين عام وثابت للناس كافة، والديانة اليهودية ديانة خاصة لشعب خاص، هذا بالإضافة إلى ما تشتمل عليه من طقوس وتضحيات، وخلوها من العقائد الإيمانية الإيجابية، كل ذلك يفقد هذه الديانة جوهرها، ويجعلها غير ملائمة إطلاقا، وغير واقعية باحتياجات الشعوب المختلفة، أما الديانة النصرانية فإن طقوسها السبعة، واعتقادها بالخطيئة الأصلية، وتجسد الإله والتثليث – وهي أمور لم تعهد في الديانات السابقة – بالإضافة إلى افتقادها إلى كتابها الأصلي الذي أنزل على مؤسسها عليه السلام، كل ذلك يجعلها غير مؤهلة لأن تقدم خيراً للبشر. وإذا كان الرسول الخاتم مكلفاً بإلغاء هذين الدينين، وإقامة دين إبراهيم وإسماعيل ودين كافة الأنبياء على أسس وتعاليم تصلح للبشر كافة، فإن هذا الدين الذي أقامه ودعا إليه هو الصراط المستقيم، وهو أقرب الطرق الموصلة إلى الله عز وجل، وأسهل الأديان لعبادته، وأسلم العقائد الباقية على طهارتها ونقائها الأبدي. إذا كان منوطاً بهذا الرسول المبشر به في هذا النص أن يرسخ هذا الدين، ويقيم الوحدانية، ويحول دون تدخل الوسطاء بين الله والناس.
2. هذا النص أكد على أن هذا الرسول المبشر به لا بد أن يصل بصورة مفاجئة إلى بيت المقدس، منطلقاً من الحرم الأول "مكة" وهذا ما تحقق في ليلة الإسراء، وهذا يعني أن مهمة هذا الرسول تطهير هذه البقاع من الوثنية، ويلقن روادها الوحدانية، والإيمان بالله الواحد الأحد. وإذا تحقق هذا فهو بمثابة بناء طريق جديد يربط العبد بربه، وهذا الطريق الذي شرعه هو دين عالمي شامل يدعو إلى إلغاء الوسائط بين الله وعباده، فلا قديس ولا قسيس، ولا سر مقدس. وهذا لم يتحقق إلا على يد الرسول المنعوت بأنه "محمد صلى الله عليه وسلم ".
البشارة الثانية: قول ملاخي: (هاأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب، اليوم العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء على الأبناء، وقلب الأبناء على آبائهم، لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن). قال المهتدي النجار: (والمعنى أن الله يرسل قرب الساعة النبي أحمد صلى الله عليه وسلم "فيرد قلب الآباء على الأبناء" يرد بني إسماعيل – أعمام بني إسرائيل – إلى حقيقة وحي الأنبياء والمرسلين من أبناء أخيهم إسحاق "وقلب الأبناء على آبائهم" ويرد اليهود والنصارى على دين آبائهم الأنبياء نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى، قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه).
تأمل ما في هذه البشارة من الوعد بمجيئه صلى الله عليه وسلم قبل يوم القيامة مع قوله صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة هكذا. ويشير بأصبعيه فيمد بهما).
هذه أسفار العهد القديم شاهدة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، شهادة لا تقبل التضليل، مصرحة باسمه ولغته وصفة أمته صراحة لا تحتمل التأويل، فمن كان طالباً للحق اتبعه إذا قام عليه الدليل، فكيف إذا تظافرت عليه الأدلة والبراهين، والحق هنا شهادة العهد التقديم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فمن أراد أن يدفع اليقين بأوهن الشكوك، وأفسد التأويل، ويدعي – مماحكة ومجادلة – أن هذه النبوات والشهادات وردت في حق عيسى عليه السلام – فيقال له ليس بعد التصريح بذكر اسمه وصفته وخبره وبلده وأمته – مجال للتأويل والاحتمال. كيف وقد شهد المسيح عليه السلام بنبوته وأخبر تلامذته باقتراب ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ؟؟ وهذه الشهادة ما يماثلها من شهادات العهد الجديد هي ما سيكون الحديث عنه في المطلب التالي.
---------------
25.بشارات العهد الجديد بمحمد صلى الله عليه وسلم
د. محمد بن عبد الله السحيم
بشارات العهد الجديد
بشارات متى:(2/107)
البشارة الأولى: قال متى في الإصحاح الثالث مخبراً عن يوحنا المعمدان – يحيى عليه السلام – أنه قال: (أنا أعمدكم بالماء – وذلك للتوبة وغفران الخطايا – ولكن هناك شخص قادم بعدي وهو أقوى مني، لدرجة أنني لا أستحق حل سيور حذائه، وسيعمدكم بالروح والنار). هذه البشارة أوردها كل من المهتدي عبد الأحد داود والنجار، وأضاف إليها النجار بعض العبارات التي تذكر صفة هذا القادم المنتظر، وهو قوله: (الذي رفشه بيده، وينقي بيدره، ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ) وأوضح هذه العبارات فقال: (قوله: الذي رفشه بيده. ونسخة الآباء العيسويين: (الذي بيده المذري). إشارة إلى ما قام من حروب وجهاد مع الكفار لنصرة دين الله وإعلاء كلمته. وقوله: (وينقي بيدره) بمعنى يطهر موطنه من الأصنام ومن عبدتها المشركين. وقوله: (ويجمع قمحه إلى المخزن) أي يجمع صحابته والمؤمنين به عند بيت الله الحرام. (أما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ). أي يقضي على عناصر الشر والفساد في العالم، ويناهض أهل الشرك والضلالة وعبادة الأصنام).
أما عبد الأحد داود فقد اكتفى بهذا النص الذي أوردته، وأشار على هذه الزيادة في ثنايا الشرح والتحليل. كما أنه أطال النفس في استنطاق هذه النبوة من جانبين: الجانب الأول: نفى فيه أن يكون النبي الذي تنبأ به يوحنا هو عيسى عليه السلام. وفي الجانب الثاني: أثبت أن هذا النبي المبشر هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد قدم في الجانب الأول البراهين التالية:
1. أن نفس كلمة "بعد" تستبعد عيسى بكل وضوح من أن يكون هو النبي المبشر به، لأن عيسى ويوحنا ولدا في سنة واحدة وعاصر أحدهما الآخر، وكلمة "بعد" هذه تدل على مستقبل غير معلوم بعده.
2. أن يوحنا قدم المسيح عليه السلام إلى قومه وطلب منهم طاعته واتباعه، إلا أنه أخبرهم بوضوح أن ثمة كوكباً آخر عظيماً هو الأخير الخاتم الممجد عند الله.
3. لم يكن عيسى هو المقصود عند يوحنا، لأنه لو كان الأمر كذلك لتبع عيسى وخضع له، ولكنا نجده على العكس من ذلك إذ نجده يعظ ويعمد ويستقبل الأتباع في حياة المسيح عليهما السلام.
4. مع اعتقاد الكنائس النصرانية بأن المسيح إله أو ابن إله، إلا أن كونه معمداً على يد يوحنا المعمدان يثبت أن الأمر بالعكس تماما، فلو كان عيسى هو الشخص الذي تنبأ به يوحنا على أنه أقوى منه، وأنه سيعمد بالروح وبالنار – لما كان هناك ضرورة أو معنى لتعميده في النهر على يد يوحنا وهو الشخص الأقل منه .
5. تضاربت الأناجيل في موقف يوحنا من عيسى: فهو في أحدها يرسل التلاميذ يسألونه: هل أنت النبي الذي سيأتي أم ننتظر واحداً آخر؟ أما يوحنا كاتب الإنجيل فقد أثبت أن يوحنا لما رأى عيسى قال: انظروا حمل الله. ففي النص الأول: يتبين أن يوحنا لم يكن يعرف حقيقة المسيح، وفي النص: ذكر وصفاً مغايراً للنبي المبشر به.
6. لا يمكن أن يكون يوحنا هو سلف عيسى المبشر به بالمعنى الذي تفسر فيه الكنائس بعثته، لأن من مهام هذا الرسول المبشر به أنه يمهد الطريق، وأنه يأتي فجأة إلى هيكله ويقيم السلام. فإذا اعتبر أن هذه المهام قد أسندت إلى يوحنا – فنستطيع أن نؤكد أنه فشل في تحقيقها فشلاً ذريعاً، لأن كل الذي قام به يوحنا تجاه عيسى عليهما السلام أنه استقبله على نهر الأردن وعمده فيه – كما زعموا -.
أما البراهين أو الأدلة التي قدمها هذا المهتدي على أن يوحنا قد بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم فهي:
1. يتأكد من هذه النبوة شيء واحد وهو أن النبي الذي تمت البشارة بقدومه معروف لدى كافة الرسل والأنبياء، وإلا لما اعترف شخص معصوم هذا الاعتراف المتواضع.
2. أن إنكار الرسالة المحمدية هو إنكار أساسي لكل الوحي الإلهي، وكافة الرسل الذين بشروا به، لأن جميع الأنبياء معاً لم ينجزوا العمل الهائل الذي أنجزه محمد صلى الله عليه وسلم وحده في فترة قصيرة لم تتجاوز ثلاثة وعشرين عاما.
3. اعتراف يوحنا بأن "محمداً" صلى الله عليه وسلم أعلى منه وأسمى قدراً، يتضح ذلك من قوله "هو أقوى مني" وبمقارنة ما كان عليه يوحنا بما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم ، نجد أن الواقع يشهد أن محمداً ص كان هو الأقوى الذي بشر به يوحنا، يتضح ذلك من خلال الصورة المأساوية التي ترسمها الأناجيل لنهاية يوحنا حيث يسجن ثم يقطع رأسه ويقدم على طبق، بينما نرى محمداً صلى الله عليه وسلم يدخل مكة دخول الفاتح العظيم، ويدمر الأصنام، ويطهر الكعبة، والكفار مستسلمون له ينتظرون حكمه فيهم.(2/108)
4. أخبر يوحنا عن الغضب القادم أو العذاب القادم على اليهود والكفار المعاندين للرسل. وهذا العذاب الذي تنبأ عنه، منه ما تحقق بعد ثلاثين سنة في بني إسرائيل، ومنه ما أعلنه هو وأخوه المسيح عليهما السلام عن قدوم رسول الله الذي سوف ينتزع جميع الامتيازات من اليهود، ولم يتحقق هذا إلا على يد محمد صلى الله عليه وسلم الذي دمر حصونهم، وطردهم من ديارهم، ولقد أنذرهم يوحنا من هذا العذاب الآتي إذا لم يؤمنوا برسل الله الصادقين وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم – بقوله: (من الذي أخبركم أن تهربوا من الغضب الآتي).
5. أن هدف محمد صلى الله عليه وسلم هو: إقامة دين الإسلام على الأرض، فقد اختفت الأوثان والأصنام من أمامه، وانهارت الإمبراطوريات أمام سيفه، وأصبح المسلمون في ملته متساوين، وتكونت منهم الجماعة المؤمنة، وتحققت بينهم المساواة إذ لا كهنوت ولا طقوس، وليس هناك مسلم مرتفع، ولا مسلم منخفض، ولا توجد طبقية أو تمايز يقوم على العنصر والرتبة، فالإسلام هو الدين الوحيد الذي لا يعترف بأي كائن مهما عظم، ومهما كان مقدسا – كوسيط مطلق بين الله والبشر.
6. أن أتباع يوحنا كانوا يعرفون كل المعرفة أن عيسى عليه السلام لم يكن هو الشخص المقصود، وقد اعتنقوا الإسلام عندما جاء محمد صلى الله عليه وسلم.
البشارة الثانية: قال متى في الإصحاح الخامس مخبراً عن المسيح أنه قال: (الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض، ولا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل) قال المهتدي الهاشمي موضحاً هذه البشارة: (الكل هنا – كما سبقت إليه الإشارة هو القرآن الكريم الذي فيه نبأ السلف، وأخبار الخلف، فيه قصص من سبق من الأنبياء وابتلاؤهم على أيدي أقوامهم، فيه هدى للمتقين، ووعيد للكافرين، وتنظيم للحياتين الدنيا والآخرة، روح من رب العالمين نزل على قلب بشر لم يؤت من قبل فنون الكلام).
وفي هذا النص إشارة إلى وجوب العمل بالتوراة والإنجيل إلى غاية محدودة وهي مجيء الكل، فإذا جاء الكل – وهو القرآن الكريم – بطل العمل بها، وحان نسخهما، وأذن الله بزوالهما. والمراد بالزوال هنا زوال الحكم لا زوال الوجود.
ولعل مقصود عيسى عليه السلام من قوله "الأصغر" أي الأصغر سنا. هذا على فرض صحة نسبة هذا النص إلى عيسى عليه السلام.
البشارة الثالثة: قال متى في الإصحاح الحادي عشر: (وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيلياء المزمع أن يأتي). قال المهتدي النجار بعد هذه النبوة: (أي إن أردتم أن تتبعوا فاتبعوا أحمد الذي سيبعث، وشدد عليهم في التمسك بهذه الوصية والمحافظة عليها فقال: "من له أذنان للسمع فليسمع". وهذه البشارة مماثلة وشاهدة ومصدقة لنبوة ملاخي، وقد سبق إيرادها في هذا البحث تحت عنوان: البشارة الثانية من بشارات ملاخي.
البشارة الرابعة: روى متى في الإصحاح السابع عشر ذلك الحوار الذي دار بين المسيح عليه السلام وتلامذته وهو: (قولهم: لماذا يقول الكتبة: إن إيلياء ينبغي أن يأتي أولا؟. فأجاب وقال لهم: إن إيلياء يأتي أولا، ويرد كل شيء) وأردف المهتدي النجار هذه البشارة بقوله: (ونجد المحرفين يشيرون بأن هذا الكلام على يوحنا – أي سيدي يحيى – مع أن سيدنا يحيى ليس له شرع ولا كتاب).
البشارة الخامسة: قال متى في الإصحاح العشرين مخبراً عن المسيح أنه قال: (أما قرأتم قط في الكتب: أن الحجر الذي رذله البناؤون، هذا صار رأساً للزاوية، من قبل الرب كانت هذه، وهي عجيبة في أعيننا، من أجل هذا أقول لكم: إن ملكوت الله تنزع منكم، وتعطي لآخرين، لأمة يصنعون ثمرتها، ومن سقط على هذا الحجر يترضض، ومن يسقط عليه يطحنه).
أجدني مضطراً أمام هذه البشارة إلى تقسيم الكلام عنها إلى قسمين حسب ما ورد عن هؤلاء المهتدين:
القسم الأول: يختص بالكلام عن الحجر الذي رفضه البناؤون، وهذا الحجر المشار إليه هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو الحجر المتمم للبناء الذي ابتدأه الأنبياء من آدم حتى المسيح، وبين المسيح عليه السلام ما خص به محمد صلى الله عليه وسلم ، من النصر والتأييد بقوله: (ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن يسقط عليه يطحنه). وإلى هذا ذهب كل من المهتدي الشيخ زيادة والنجار والهاشمي. بينما يرى المهتدي إبراهيم خليل: أن الحجر المشار إليه هو إسماعيل عليه السلام الذي رفضه قومه. ولكن الذي رفضه قومه، ورفضه اليهود والنصارى هو محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: (من قبل الرب): أي مرسل من قبل الله حقاً وصدقا.
قوله: (عجيب في أعيننا). هذا القول يطابق قول إشعياء: إن اسمه عجيب. أو أن تكون بمعنى عجيب، لأنه كريم في طبعه عربي غريب من غير بني إسرائيل.
وإن قيل إن المسيح عني نفسه بهذا المثل فيقال:
1. أنه قال: (في أعيننا) ولم يقل في أعينكم.(2/109)
2. أن خاتمة البشارة وهي قوله: (من سقط على هذا الحجر يترضض). تفيد جليا أن هذه العبارة واردة في حق شخص آخر غير المسيح عليه السلام، لأن عيسى عليه السلام لم يرض غيره، ولم يسحق من سقط عليه.
3. لا يجوز عند علماء اللغة أن يعود اسم الإشارة على المتكلم وهو عيسى، إذاً فلابد أن يعود على شخص أشار إليه عيسى وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه البشارة تماثل قوله صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين).
وهذا القول منه صلى الله عليه وسلم معجزة وأي معجزة، فمن أخبره صلى الله عليه وسلم بوصفهم له بأنه حجر الزاوية ؟ وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتتلمذ على يد معلم أو راهب!! ولكنه الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والحق الذي لا يختلف في كل عصر ومصر، فلا عجب أن تماثلت أقوالهم، واتفقت أمثالهم، أليس الجميع يخرج من مشكاة واحدة ؟؟!!.
القسم الثاني: يختص بالكلام عن نزع ملكوت الله من بني إسرائيل، ووضعه في أمة أخرى:
والحديث عن ملكوت الله يتطلب الحديث عن حقيقته، وصفات أتباعه، وملكوت الله في تفسير الكنائس، وبيان أن النصرانية ليست ضمن ملكوت الله، وأن الملكوت نزع من بني إسرائيل وأعطي لأمة أخرى، وهذه الأمة هي الأمة الإسلامية.
بشارات يوحنا:
البشارة الأولى: لما ابتدأ يوحنا يعمد الناس في نهر الأردن، وكان ذلك في زمن المسيح عليه السلام، تصدى له اليهود – المكتوب عندهم في التوراة أن المسيح آت وسيأتي بعده نبي – وسألوه سؤالا كما جاء في الإصحاح الأول: (هل أنت المسيح ؟ هل أنت إيلياء ؟، هل أنت النبي؟ وعندما أجابهم بالنفي قالوا إذا لم تكن المسيح ولا إيلياء ولا ذلك النبي المنتظر، إذاً فلماذا تعمد ؟؟) قال المهتدي الهاشمي بعد هذه البشارة: (من سؤال اليهود ليوحنا نستطيع أن نستنتج أن هناك نبياً بشرت به كتبهم، حيث أن السؤال كان في عهد السيد المسيح، وأن إيلياء كان نبيا من أنبياء بني إسرائيل جاء بعد موسى وقبل المسيح). ويطرح المهتدي عبد الأحد داود عدة تساؤلات ملزمة حول هذا النص وهي:
من يعني أولئك الأحبار اليهود واللاويون بقولهم: ذلك النبي؟ وإذا كنتم تدعون معرفتكم مقصد رجال الدين العبرانيين، فهل يعرف باباواتكم وبطارقتكم من هو ذلك النبي؟ وإذا كانوا لا يعرفون فما الفائدة الدنيوية من هذه الأناجيل المشكوك في صحتها؟ وإذا كان الأمر على العكس، وكنتم تعرفون من هو ذلك النبي فلماذا تبقون صامتين ؟؟!.
ويستنتج المهتدي الشيخ زيادة من هذه البشارة: أن اليهود منذ زمن موسى إلى زمن مجيء المسيح عليهما السلام كان يتداول بينهم – نقلا عن آبائهم وأجدادهم – أن الله يرسل نبيا. وهم بانتظار ثلاثة أفراد عظام هم: إيلياء والمسيح والنبي فحيث جاء إيلياء والمسيح لم يبق إلا "النبي" الذي ينتظرونه، وقد ورد في هذا النص بعد المسيح فتعين أن هذا النبي هو محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه قد جاء بعد المسيح عليهما الصلاة والسلام.
وهذه البشارة تفند ادعاء اليهود أن بشارة موسى عن نبي يقيمه الله لهم. دالة على يوشع بن نون، لأنه لو كان المقصود لما ظل اليهود إلى زمن المسيح يسألونه عن ذلك النبي. وتفند – أيضاً – ادعاء النصارى بأن بشارة موسى السابقة مقولة على المسيح عليهما السلام، لأن علماء اليهود قالوا ليوحنا: (إن كنت لست المسيح ولا إيلياء ولا النبي وهذا يدل على أن هذا النبي غير المسيح عليه السلام.
البشارة الثانية: قال يوحنا في الفصل الخامس عشر من إنجيله إن المسيح عليه السلام قال: (إن الفارقليط الذي يرسله أبي باسمي يعلمكم كل شيء) وقال – أيضا – في الفصل السادس عشر: (إن الفارقليط لن يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه شيئاً، لكنه يسوسكم بالحق كله، ويخبركم بالحوادث والغيوب) وقال – أيضا – : (إني سائل أبي أن يرسل إليكم فارقليطاً آخر يكون معكم إلى الأبد) ويرى المهتدي عبد الأحد داود أن النص الأخير لا يتضح المعنى المراد منه إلا بإعادة الكلمات المسروقة أو المحرفة فتكون الصيغة الصحيحة كالتالي: (وسوف أذهب إلى الأب، وسيرسل لكم رسولاً سيكون اسمه "البرقليطوس"، لكي يبقى معكم إلى الأبد) والكلمات التي أضافها هي ما تحتها خط.
هذه البشارة تكاد أن تكون محل إجماع من هؤلاء المهتدين، وسيكون الحديث عنها من جانبين:
الجانب الأول: بشارة المسيح عليه السلام بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال النقاط التالية:
1. أن هذا النبي الذي بشر به المسيح عليه السلام علّم الناس مالم يعلموه من قبل، ولم يكن في تلاميذ المسيح ومن بعدهم من علّم الناس شيئاً غير الذي كان علمهم المسيح.(2/110)
2. تضمن النص أن هذا الشخص المبشر به لا يتكلم من تلقاء نفسه، وأنه يخبر بالحوادث والغيوب، ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقد تواتر عنه إخباره بالحوادث المقبلة والغيوب التي تحققت في حياته وبعد مماته. وتتفق هذه البشارة مع بشارة موسى عن هذا النبي المنتظر عندما أخبر أن الله قال: (وأجعل كلامي في فيه). وقد سبق الحديث عن هذه البشارة ضمن بشارات العهد القديم.
3. أن هذا النبي المنتظر بكت العالم على الخطيئة، ولا خطيئة أعظم من الشرك، ولم يقتصر عمل محمد صلى الله عليه وسلم على اقتلاع الشرك من جزيرة العرب، وبعث رسله وكتبه إلى ما جاوره من الدول والإمبراطوريات يدعوهم إلى عبادة الله وحده، بل لما لم تقبل دعوته استل سيفه مؤذنا بإعلان الحرب على الشرك مهما كان موقعه.
4. أن الشخص المبشر به يؤنب العالم. ولقد اعتقد اليهود أنهم صلبوا المسيح عليه السلام وقتلوه. واعتقد النصارى أن المسيح قد صلب وأنه الله أو ابن الله. ولم يزل العالم يعتقد هذا الاعتقاد حتى جاء محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وجلّى كل الحقيقة عن المسيح من أنه عبد الله ورسوله، وأنه لم يصلب ولم يقتل، بل رفع إلى السماء.
5. في هذا النص صرح المسيح عليه السلام أن الشخص المبشر به هو "روح الحقيقة" ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أظهر كل الحقيقة عن الله وعن وحدانيته ورسله وكتبه ودينه، وصحح كثيراً من الافتراءات والأكاذيب التي كانت مدونة ومعتقداً بها، فهو الذي وبخ النصارى على اعتقادهم في الثالوث، وادعائهم أن المسيح هو ابن الله، وكشف مفتريات اليهود والنصارى ضد أنبياء الله ورسله، وطهر ساحتهم من الدنس والعيب الذي ألحقه بهم اليهود.
6. ذكر المهتدي الترجمان في سبب إسلامه أن أحبار النصارى كان لهم مجلس يجتمعون فيه، ويتذاكرون فيه أنماطاً من المسائل، فاختلفوا يوماً حول النبي الذي يأتي بعد المسيح والمسمى في الإنجيل "البارقليط" وانفض المجلس في ذلك اليوم ولم يصلوا إلى حقيقة هذا اللفظ، وقد تخلف عنهم في ذلك اليوم أكبر علمائهم، فلما رجع الترجمان إليه أخبره الخبر، وطلب الترجمان من هذا العالم أن يبين له الحقيقة فأخبره: أن "البارقليط" هو اسم من أسماء نبي المسلمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
7. قال المهتدي الهاشمي: (إنه جاء في الإنجيل المكتوب باللغة القبطية الذي كتبه أحد البطاركة في سنة 506م ما معناه: الآتي بعدي يسمى: الفارقليط بندكراطور. أي الروح المنشق اسمه من اسم الحمد، سيبعث الحياة في أمه ليست لها من الحياة نصيب إلا الضلال في برية فاران كجحاش الأتن. وذكر أن هذا الإنجيل منزوع الغلاف، وذكر كاتبه في ديباجته أنه نقله من أصول الإنجيل الحقيقي.
8. استخرج هؤلاء المهتدون تطابق كلمة "البارقليط" مع اسم محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وبيان هذا التطابق كما يلي:
أ ) هذا الاسم "بارقليط" يوناني. وتفسيره باللغة العربية أحمد أو محمد أو محمود. وقال المهتدي عبد الأحد داود: ومن المدهش أن الاسم الفريد الذي لم يعط لأحد من قبل كان محجوزاً بصورة معجزة لأشهر رسل الله وأجدرهم بالثناء، ونحن لا نجد أبداً أي يوناني كان يحمل اسم "برقليطس" ولا أي عربي كان يحمل اسم أحمد.
ب) قال المهتدي عبد الأحد داود موضحاً هذا التطابق: (إن التنزيل القرآني القائل بأن عيسى ابن مريم أعلن لبني إسرائيل أنه كان "مبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" – واحد من أقوى البراهين على أن محمداً كان حقيقة نبياً، وأن القرآن تنزيل إلهي فعلاً، إذ لم يكن في وسعه أبداً أن يعرف أن كلمة البارقليط كانت تعني أحمد إلا من خلال الوحي والتنزيل الإلهي، وحجة القرآن قاطعة ونهائية، لأن الدلالة الحرفية للاسم اليوناني تعادل بالدقة ودون شك كلمتي "أحمد" و "محمد" صلى الله عليه وسلم.
ج ) أن اسم البارقليط لفظة يونانية يجتمع من معانيها في القواميس المعزي، والناصر، والمنذر، والداعي. وإذا ترجمت حرفاً بحرف إلى اللغة العربية صارت بمعنى "الداعي" وهو من أسمائه صلى الله عليه وسلم ، وقد وصف في القرآن الكريم بمثل ذلك في قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً. وداعياً إلى الله بإذنه) وقد فهم أوائل النصارى أن هذه اللفظة إنما تعني الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .(2/111)
البشارة الثالثة: قال يوحنا في إنجيله الإصحاح السادس عشر مخبراً أن المسيح قال: (إن أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما أمتي جاء ذاك روح الحق فهو سيرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدني). قال المهتدي النجار: (وهذه البشارة في معنى قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى). وقال المهتدي الهاشمي معلقاً على هذه البشارة: (والمسيح يبصر أمته بأن لديه أموراً كثيرة تفوق طاقة احتمالهم، وأنه سيأتي الوقت المناسب لمجيء الرسول الذي يعنيه بالروح الحق. فتكون العقول قد تفتحت، والقلوب قد ذهب عنها رينها، والنفوس قد ألهمت بعد فجورها تقواها، في هذه اللحظة – فقد – يكون الناس قد استعدت إفهامهم، واتسعت مداركهم، لاحتمال كل ما يلقى إليهم على لسان هذا النبي الذي لا يتكلم من نفسه، وإنما من وحي يوحى إليه من ربه بالقرآن).
ويذكر المسيح عليه السلام بعض أوصاف هذا الرسول الخاتم التي تساعد على تمييز شخصيته منها قوله: (ذاك يمجدني). فمن صفات هذا الرسول أنه يمجد المسيح، ولم يأت أحد بعد المسيح ويمنحه من التمجيد والثناء ما يستحقه، ويرفع عنه وعن أمه افتراءات اليهود، ويضعه في المنزلة التي وضعه الله فيها – وهي العبودية والرسالة – سوى محمد صلى الله عليه وسلم. ومن صفات هذا الرسول أنه سيرشد الخلق إلى أمور وحقائق لم يبلغها المسيح، وذلك في قوله: (ويخبركم بأمور آتية).
بشارة سفر أعمال الرسل:
قال المهتدي الطبري أنه جاء في كتاب فراكسيس قول رئيس الحواريين: (إنه قد حان أن يبتدأ من بيت الله) قال المهتدي الطبري: (وتفسير ذلك أن بيت الله الذي ذكره الحواري هو مكة، وفيها كان ابتداء الحكم الجديد لا من غيرها. فإن قال قائل: إنه عني به حكم اليهود. فقد كان أخبرهم المسيح أنه لا يترك في بيت المقدس حجر على حجر حتى ينسف ويبقى على الخراب إلى يوم القيامة، فقد وضح أن الحكم الجديد الذي ذكره الحواري هو دين الإسلام وحكمه).
بشارة بولس في رسالته إلى أهل غلاطية:
قال فولس في رسالته إلى أهل غلاطية: (إنه كان لإبراهيم ابنان أحدهما من أمة والآخر من حرة، وقد كان مولد ابنه الذي من الأمة كمولد سائر البشر، فأما مولد الذي من الحرة فإنه ولد بالعدة من الله.
فهما مثالان مشبهان بالفرضين والناموسين، فأما هاجر فإنها تشبه بجبل سينا الذي في بلاد أرابيا الذي هو نظير أوراشلم هذه، فأما أوراشلم التي في السماء فهي نظير امرأته الحرة) قال المهتدي الطبري: (فقد ثبت فولس في قوله هذا معاني جمة:
أولهما: أن إسماعيل وهاجر قد كانا استوطنا بلاد العرب، وهي التي سماها بلاد أرابيا.
الثاني: أن جبل سيناء الذي بالشام يتصل ببلاد البوادي بقوله: إن هاجر تشبه بطور سينا الذي ببلاد أرابيا. وسينا هو الذي ذكرته التوارة في صدر هذه النبوات في قولها: (إن الرب جاء من سينا، وطلع لها من ساعير، وظهر من جبل فاران). فشهد فولس هذا بأن الذي قالت عنه التوراة: إنه جاء من سينا: هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي ظهر في بلاد أرابيا. وأين يكون من الإبانة والإيضاح أكثر من تسمية بلاد أرابيا التي عني بها بلاد العرب.
الثالث: أن بيت المقدس هو نظير مكة.
الرابع: أن هذا الناموس الثاني والفريضة الثانية وهي "الشريعة الإسلامية" سماوية لا شك فيها، فقد سماهما باسم واحد، ولم يفرق بينهما بمعنى من المعاني.
فأما تقديمه الحرة، وقوله: (ابن الأمة لم يولد بالعدة) فذلك منه بالعصبية والميل، وفيما استشهدت به من قوارع التوراة على إسماعيل ما فيه كفاية وبرهان على أنه – أيضاً – ولد ليس بعده واحدة بل بعدات كثيرة.
الخاتمة
ليست هذه البشارات التي أوردتها هي كل ما في التوراة والإنجيل، وليست – أيضاً – هي كل ما استطاع هؤلاء المهتدون استنباطه منهما، لأنهم أوردوا أمثالاً وصوراً منها للتدليل على نبوته صلى الله عليه وسلم ، ويؤكد ذلك قول المهتدي الترجمان: (ولو ذكرت جميع ما في كتب الأنبياء المتقدمين من ذلك –أي البشارات- لطال الكتاب، وأنا أرجو أن أجمع لبشارات جميع الأنبياء به كتاباً مجرداً لذلك). وقال المهتدي النجار بعد ذكره لعدد من البشارات: (وهذا قليل من كثير).
وقد استخلص المهتدي إبراهيم خليل خلاصة هذه البشارات بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوجد أنها تؤكد جانبين هما:
1. أنه الرسول الخاتم ولا نبي بعده.
2. أنه رسول الله للعالمين كافة. وأيد هذين الجانبين أو الوصفين بعشرين سبباً استخرجها من نصوص العهد القديم والجديد.
وقال المهتدي الطبري بعد فراغه من الاستدلال بالبشارات: (ولقد صرح عدة منهم – أي من أنبياء بني إسرائيل – باسم النبي صلى الله عليه وسلم ، ووصفوه أيضاً وسيافيه ورماته، وسير المنايا وسباع الطير أمام عساكره ... فهذه – أي البشارات – كلها محققة لدينه، ومفخمة لشأنه، ومصدقة لما أدت دعاته عنه).(2/112)
هذه البشارات التي استعرضت جانبا منها تبين اتفاق كثير منها في ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم ، وصفته، وصفة جهاده وجنوده، وبلده وأمته ولغته ... فماذا يعني هذا التوافق والتعاضد ؟ إن هذا التعاضد يعني أموراً كثيرة لعل من أبرزها ما يلي:
1. أن هذه الرسالات كلها من عند الله، وهذه التحريف الذي طرأ عليها وأثبته القرآن، ولا ننفيه عنها – لم يستطع أن يخفي المعنى الذي ورد أصلا في اللفظ المنزل.
2. أن كتب الله ورسله يصدق بعضها بعضاً، ويؤمن بعضها ببعض، فالسابق يبشر باللاحق، واللاحق يؤمن بالسابق، فإبراهيم آمن بمن سبقه من رسل، وسأل الله أن يبعث في ذريته رسولاً يزكيهم يعلمهم الكتاب والحكمة، وموسى آمن بإبراهيم وبمن سبقه وبشر بعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وعيسى آمن بمن سبقه وبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
3. أن ما ورد من الحق فلا يخرج عن الصدق، ولا يناقض بعضه بعضاً، وأن ما ورد من الباطل فلا يكون حقاً أبداً.
4. يتأكد من هذه النبوات شيء واحد، وهو أن هذا النبي الذي بشرت به الأنبياء معروف لديهم كافة.
5. أن ظهور الرسالة المحمدية والملة الإسلامية على يد خاتم الرسل يعتبر آية لنبوتهم، إذ تحقق صدق ما أخبروا به، وظهور ما بشروا به، ولو لم يظهر لبطلت النبوات فيه وفي إسماعيل عليهما السلام.
6. توافق هذه النبوات في حق محمد صلى الله عليه وسلم يدل على فضيلته وانفراده بهذا الشرف الرفيع بين سائر الأنبياء صلوات عليهم وسلامه.
7. توافق هذه النصوص مؤيد لما أخبر به صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة من أنه مذكور في الكتب المتقدمة.
8. نستنتج من هذا التوافق عناية الله بهذه الأمة، ورعايته لها، وحفظه لدينها، فمن حفظه لدينها حفظ هذه الأدلة الدالة عليه والمبشرة – لا لحاجة هذا الدين إليها، وإنما لإقامة الحجة على أهلها.
9. أن البشر على عتوهم وتمردهم لوحي الشيطان في محاولة طمس نور الله وإضلال عباده – لا يستطيعون أن يطفئوا نور الله، يقول الحق تبارك وتعالى بعد ذكره بشارة المسيح عليه السلام بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم : (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون).
10. رأينا في البشارات السابقة كيف أثبت هؤلاء المهتدون اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفته في التوراة والإنجيل، ورأينا كذلك كيف استبدلت هذه الأسماء وغيرت الأوصاف في الطبعات الحديثة، كفراً وحسداً وحقداً.
---------------
26.هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم
محمد شندي الراوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالَمين وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدِّين …
أوجب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين طاعته والاقتداء بهديه واتِّباع سُنَّته وتوقيره ومحبته صلى الله عليه وسلم فوق محبة الآباء والأبناء والأزواج والعشيرة، والتجارة والأموال، وأوعد من تخلف عن تحقيق ذلك بالعقاب، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
كان محمد صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأدباً وأكرمهم و أتقاهم وأنقاهم معاملة . قال عنه ربه عز وجل مادحاً وواصفاً خُلقه الكريم صلى الله عليه وسلم (( وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ )) [القلم 4].
عن أنس رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا " - متفق عليه.
وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: "ما رأيت أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم" - رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.
وعن عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام ، قالت : (كان خلقه القرآن) صحيح مسلم.
عن عطاء رضي الله عنه قال : قلت لعبد الله بن عمرو أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، قال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزًا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا لا إله إلا الله ، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا - رواه البخاري
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أكمل الناس شرفاً وألطفهم طبعاً وأعدلهم مزاجاً وأسمحهم صلة وأنداهم يداً, لأنه مستغن عن الفانيات بالباقيات الصالحات.
محمد وما أدراك من هو محمد.. بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم(2/113)
- محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم المرسلين وهو سيد الأولين والآخرين : قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)
- محمد صلى الله عليه وسلم هو نبي الرحمة قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) .
- محمد صلى الله عليه وسلم أرسل للناس كافة قال تعالى : { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }
وقال تعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (الأعراف 158)
- محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب الشفاعة العظمى :
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( فيأتوني ، فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ، فأنطلق فآتي تحت العرش ، فأقع ساجداً لربي عز وجل ، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ، ثم يقال يا محمد ارفع رأسك ، سل تعطى ، واشفع تشفع ) متفق عليه.
- محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب المقام المحمود :
قال تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} (الإسراء: 79)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا - جلوسا على الركب - ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود ) رواه البخاري .
- محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد يوم القيامة
قال صلى الله عليه وسلم : (( وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ))
- محمد صلى الله عليه وسلم هو أول من تفتح له أبواب الجنة :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( آتى باب الجنة يوم القيامة فاستفتح ، فيقول الخازن : من أنت ؟ قال : فأقول : محمد. قال : يقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك (رواه مسلم . )
- محمد صلى الله عليه وسلم أخبره ربه بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال الله تعالى : (إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر و يتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ) الآيتان 1و2من سورة الفتح.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان من أعبد الناس :
عن عبد الله بن الشخير ـ رضي الله عنه ـ قال : ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء) رواه أبو داود .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فقالت عائشة : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : (أفلا أكون عبداً شكوراً) رواه البخاري.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يحب الذكر :
قال صلى الله عليه وسلم : (لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم : (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره ، مثل الحي والميت) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم : (ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله) أخرجه الطبراني بسندٍ حسن.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس دعاءً ، وكان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) متفق عليه .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل) رواه النسائي .
- محمد صلى الله عليه وسلم معجزته باقية خالدة ما بقيت السموات و الارض بعكس معجزات الأنبياء السابقين ، ومعجزة سيد الأولين والآخرين وهي القرآن العظيم باقية إلى يوم الدين .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان متواضعا وكان أبعد الناس عن الكبر ، كيف لا وهو الذي يقول صلى الله عليه وسلم : (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان شفيقا بمن يخطئ أو من يخالف الحق وكان يُحسن إليه ويعلمه بأحسن أسلوب ، بألطف عبارة وأحسن إشارة ، من ذلك لما جاءه الفتى يستأذنه في الزنا.(2/114)
فعن أبي أُمامة ـ رضي الله عنه ـ قال : إن فتىً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا: مه مه فقال له: (ادنو) ، فدنا منه قريباً ، قال: (أتحبّه لأمّك؟) قال : لا والله ، جعلني الله فداءك ، قال : (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم) قال: أفتحبه لابنتك؟) قال: لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداءك . قال : (ولا الناس جميعاً يحبونه لبناتهم) قال : (أفتحبه لأختك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك . قال : ولا الناس جميعاً يحبونه لأخواتهم). قال: (أفتحبه لعمتك؟) قال: لا والله ، جعلني الله فداءك . قال: (ولا الناس جميعاً يحبونه لعماتهم). قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس جميعاً يحبونه لخالاتهم) قال: فوضع يده عليه ، وقال : اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصّن فرجه) فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء . رواه أحمد.
- محمد صلى الله عليه وسلم خير الناس لأهله يصبر عليهم ، ويغض الطرف عن أخطائهم قال عليه الصلاة والسلام: (( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي )) سنن الترمذي .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يعين أهله ويساعدهم في أمورهم ويكون في حاجتهم
عن الأسود قال : سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت : ( كان يكون في مهنة أهله ، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة) رواه مسلم والترمذي.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يخصف نعله ، ويخيط ثوبه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم - رواه أحمد.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يمازح أهله ويلاعبهم ويسابقهم..
عن عائشة رضي الله عنها قالت " : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن ، فقال للناس : اقدموا فتقدموا ، ثم قال لي : تعالي حتى أسابقك فسبقته ، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت خرجت معه في بعض أسفاره ، فقال للناس: تقدموا فتقدموا ، ثم قال لي : تعالي أسابقك فسبقني ، فجعل يضحك وهو يقول هذه بتلك " رواه أحمد.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان عادلا يقيم شرع الله تعالى ولو على أقرب الأقربين.
قال تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَو ِالْوَالِدَيْنِ وَ الأقْرَبِينَ) (النساء:135)
قال عليه الصلاة والسلام في قصة المرأة المخزومية التي سرقت : ( والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد , لقطعت يدها
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يعدل بين نسائه صلى الله عليه وسلم ويتحمل ما قد يقع من بعضهن من غيرة كما كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ غيورة.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم تكلم بكلام فَصْلٍ مبين ، يعده العاد ليس بسريع لا يُحفظ ، ولا بكلام منقطع لا يُدركُه السامع ، بل هديه فيه أكمل الهديِّ ، كما وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فصل يتحفظه من جلس إليه) متفق عليه
- محمد صلى الله عليه وسلم , كان يتفقّد أصحابه ويسأل عنهم ، ويواسيهم ويقدم لهم النصيحة
في الحديث كان يزور الأنصار، ويُسَلِّم على صبيانهم ، و يمسح رؤوسهم "، حديث صحيح رواه النسائي.
- محمد صلى الله عليه وسلم يسلم كان يحيى مع أصحابه حياة فطرية عادية ، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم ، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال : " نعم غير أني لا أقول إلا حقاً".
وجاءت إليه امرأة عجوز تقول له: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها: "يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز" ! فبكت المرأة حيث أخذت الكلام على ظاهره ، فأفهمها : أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزًا ، بل شابة حسناء.
وتلا عليها قول الله تعالي في نساء الجنة: (إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارًا. عربًا أترابًا).(الواقعة: 35-37( أخرجه الترمذي
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يجالس أصحابه ويماشيهم وإذا مشى مع أصحابه يمشون بين يديه وهو خلفهم ويقول دعوا ظهري للملائكة .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يماشي أصحابه فرادى وجماعة ومشى في بعض غزواته مرة فدميت أصبعه وسال منها الدم فقال :
هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
- محمد صلى الله عليه وسلم كان في السفر ساقه أصحابه يزجي الضعيف ويردفه ويدعو لهم .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يكرم ضيفه ويجالسهم وكان يجلس على الأرض
لما قدم عليه عدي بن حاتم دعاه إلى منزله فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها فجعلها بينه وبين عدي وجلس صلى الله عليه وسلم على الأرض .
قال عدي : فعرفت أنه ليس بملك
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يخفض طرفه(2/115)
عن أبي هالة عن الحسن بن علي قال أن النبي عليه الصلاة والسلام كان خافض الطرف (من الخفض ضد الرفع ) فكان إذا نظر لم ينظر إلى شيء يخفض بصره لأن هذا من شأن من يكون دائم الفكرة لاشتغال قلبه بربه)، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، وكان جل نظره الملاحظة (المراد أنه لم يكن نظره إلى الأشياء كنظر أهل الحرص والشره بل بقدر الحاجة).
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة خيره الله تعالى بين أن يكون ملكا نبيا أو يكون عبدا نبيا فاختار أن يكون عبدا نبيا.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان ينامُ على الفراش تارة ، وعلى النِّطع تارة، وعلى الحصير تارة ، وعلى الأرض تارة ، وعلى السرير تارة بين رِمَالهِ ، وتارة على كِساء أسود قال أنس بن مالك رضي الله عنه : ( دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير مزمول بالشريط وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف ودخل عمر وناس من الصحابة فانحرف النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عمر أثر الشريط في جنبه فبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا عمر قال : ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى فقال يا عمر : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة قال : بلى قال: هو كذلك )
- محمد صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله وأعذبهم كلاما وأسرعهم أداء وأحلاهم منطقا حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويسبي الأرواح ويشهد له بذلك أعداؤه .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم ؛ تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد ليس بمسرع لا يحفظ ولا منقطع تخلله السكتات بين أفراد الكلام بل هديه فيه أكمل الهدي قالت عائشة : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه ويتكلم بجوامع الكلام فصل لا فضول ولا تقصير وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه وإذا كره الشيء عرف في وجهه ولم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان جل ضحكه التبسم بل كله التبسم فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه .
وفي الحديث : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضحك إلا تَبَسُّماً، وكنتَ إذا نظرتَ إليه قُلتَ أكحل العينين وليس بأكحل "، حسن رواه الترمذي .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس معاملة ، وكان إذا استسلف سلفا قضى خيرا منه .
ذكر البزار أنه صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل أربعين صاعا فاحتاج الأنصاري فأتاه فقال صلى الله عليه وسلم : ما جاءنا من شيء بعد فقال الرجل وأراد أن يتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقل إلا خيرا فأنا خير من تسلف فأعطاه أربعين فضلا وأربعين سلفة فأعطاه ثمانين.
وباعه يهودي بيعا إلى أجل فجاءه قبل الأجل يتقاضاه ثمنه فقال : لم يحل الأجل فقال اليهودي : إنكم لمطل يا بني عبد المطلب فهم به أصحابه فنهاهم فلم يزده ذلك إلا حلما فقال اليهودي : كل شيء منه قد عرفته من علامات النبوة وبقيت واحدة وهي أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما فأردت أن أعرفها فأسلم اليهودي.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يسلم على الأطفال ويداعبهم.
عن أنس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم - رواه البخاري واللفظ له ومسلم.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع بكاء الصبي يسرع في الصلاة مخافة أن تفتتن أمه.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يحمل ابنة ابنته وهو يصلي بالناس إذا قام حملها وإذا سجد وضعها وجاء الحسن والحسين وهما ابنا ابنته وهو يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما حتى ووضعهما بين يديه .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان لطيفا رحيماً فلم يكن فاحشاً ولا متفحشا ولا صخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح.
عن أنس رضي الله عنه قال : "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، والله ما قال أف قط ، ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا" - رواه الشيخان وأبو داود و الترمذي.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما له ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله متفق عليه.
- محمد صلى الله عليه وسلم نبي التيسير على أمته وعلى الناس أجمعين.
عن عائشة رضي الله عنها قالت " ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا ، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه وما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم".(2/116)
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يحب أمته ويدعو على من آذاها : ( اللهم من وليَ من أمرِ أمتي شيئاً ، فشقَّ عليهم ، فاشقُق عليه ، و من ولي من أمر أمتي شيئاً ، فرفق بهم ، فارفق به )
- محمد صلى الله عليه وسلم عندما قيل له ادع على المشركين قال صلى الله عليه وسلم " إني لم أبعث لعانًا ، وإنما بعثت رحمة " - رواه مسلم
- محمد صلى الله عليه وسلم كان رحيما في تعامله مع الناس حكيما في توجيههم
عن أنس رضي الله عنه قال : " بينما نحن في المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فصاح به أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : مَه مَه ( أي اترك) !!.قال النبي عليه الصلاة و السلام : لا تُزرموه، (لا تقطعوا بوله).
فترك الصحابة الأعرابي يقضي بَوله ، ثم دعاه الرسول صلى الله عليه و سلم وقال له:
"إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنَّما هي لِذِكر الله والصلاة و قراءة القرآن"، ثم قال لأصحابه صلى الله عليه و سلم: "إنَّما بُعِثتم مُبَشِرين ، ولم تُبعَثوا معسرين، صُبّوا عليه دلواً من الماء".
عندها قال الأعرابي: "اللهم ارحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا أحداً ".
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : "لقد تحجَّرتَ واسعاً"، (أي ضَيَّقتَ واسعاً)، متفق عليه.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوتهم دعوة الحر والعبد والغني والفقير ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر.
عن أنس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب - رواه الترمذي .
الإهالة السنخة : أي الدهن الجامد المتغير الريح من طوال المكث.
وقال صلى الله عليه وسلم (لو أُهدي إليَّ كراعٌ لقبلتُ ولو دُعيت عليه لأجبت) رواه الترمذي .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يقضي حوائج الناس :
عن ابن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي له حاجته. رواه النسائي والحاكم.
- محمد صلى الله عليه وسلم يأتيه الصغير، فيأخذ بيده يريد أن يحدثه في أمر، فيذهب معه حيث شاء.
- محمد صلى الله عليه وسلم وقاره عجب ، لا يضحك إلا تبسما ، ولا يتكلم إلا عند الحاجة ، بكلام يعد يحوي جوامع الكلم ، حسن السمت.
- محمد صلى الله عليه وسلم لا يحب النميمة ويقول لأصحابه : " لا يبلغني أحد عن أحد شيئا ، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خلقا ، قال أنس : "خدمت رسول الله عشر سنين ، والله ما قال لي: أف قط ولا لشيء فعلته : لم فعلت كذا ؟، وهلا فعلت كذا؟". مسلم
محمد صلى الله عليه وسلم لا يقابل أحدا بشيء يكرهه ، وإنما يقول: (ما بال أقوام )
- محمد صلى الله عليه وسلم لا يغضب ولا ينتقم لنفسه ، إلا إذا انتهكت حرمات الله تعالى ، فينتقم لله.
* محمد صلى الله عليه وسلم دخل في فتح مكة إلى الحرم خاشعا مستكينا ، ذقنه يكاد يمس ظهر راحلته من الذلة لله تعالى والشكر له.. لم يدخل متكبرا، متجبرا، مفتخرا، شامتا.
* محمد صلى الله عليه وسلم وقف أمامه رجل وهو يطوف بالبيت ، فأخذته رعدة ، وهو يظنه كملك من ملوك الأرض ، فقال له رسول الله : " هون عليك ، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة ".
* محمد صلى الله عليه وسلم يمر الشهر وليس له طعام إلا التمر.. يتلوى من الجوع ما يجد ما يملأ بطنه ، فما شبع ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى فارق الدنيا .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان رحيما بأمته.
- محمد صلى الله عليه وسلم أعطاه الله دعوة مستجابة ، فادخرها لأمته يوم القيامة شفاعة ، قال: ( لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته ، وإني أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا ) [البخاري] ؛ ولذا قال تعالى عنه : {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يمر عليه الشهران والثلاثة ولا يوقد في بيته نار
عن عروة رضي الله عنه قال : عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تقول : والله يا ابن أختي كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قلت: يا خالة فما كان عيشكم؟ قالت : الأسودان ـ التمر والماء ـ) متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم الشعير) رواه الترمذي وابن ماجه.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما عاب شيئا قط.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما عاب طعاما قط ؛ إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
- محمد صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسلام.
- محمد صلى الله عليه وسلم يجالس الفقراء.
- محمد صلى الله عليه وسلم يجلس حيث انتهى به المجلس.(2/117)
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس
- محمد صلى الله عليه وسلم أشجع الناس
- محمد صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما سئل شيئا فقال: "لا" .
- محمد صلى الله عليه وسلم يحلم على الجاهل ، ويصبر على الأذى.
- محمد صلى الله عليه وسلم يتبسم في وجه محدثه، ويأخذ بيده ، ولا ينزعها قبله.
- محمد صلى الله عليه وسلم يقبل على من يحدثه ، حتى يظن أنه أحب الناس إليه.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما أراد أحد أن يسره بحديث ، إلا واستمع إليه بإنصات.
- محمد صلى الله عليه وسلم يكره أن يقوم له أحد ، كما ينهى عن الغلو في مدحه.
- محمد صلى الله عليه وسلم إذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيمينه قط إلا في سبيل الله.
- محمد صلى الله عليه وسلم لا تأخذه النشوة والكبر عن النصر.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان زاهدا في الدنيا.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يبغض الكذب.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أحب العمل إليه ما دوم عليه وإن قل
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أخف الناس صلاة على الناس وأطول الناس صلاة لنفسه
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه جعل يده اليمنى تحت خده الأيمن .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء أمرا أسره يخر ساجداً شكرا لله تعالى.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما يحب قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا رأى ما يكره قال الحمد لله على كل حال .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا بدا بنفسه .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال استغفروا الله لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان لا ينام إلا والسواك عند رأسه فإذا استيقظ بدأ بالسواك .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاثة أصابع ويلعق يده قبل أن يمسحها .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن ما استطاع في طهوره وتنعله وترجله وفي شأنه كله.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله تعالى في كل وقت .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس .
- محمد صلى الله عليه وسلم يضطجع على الحصير، ويرضى باليسير، وسادته من أدم حشوها ليف.
- محمد صلى الله عليه وسلم على الرغم من حُسن خلقه كان يدعو الله بأن يحسّن أخلاقه ويتعوذ من سوء الأخلاق عليه الصلاة والسلام .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم كما أحسنت خلقي فأحسن خلقي " - رواه أحمد ورواته ثقات.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول " اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق " - رواه أبو داود والنسائي
وختاماً :
قال تعالى : (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً *ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً ) [سورة النساء:69-70].
وقال تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) [سورة الأحزاب:21].
فالمؤمن الحق هو المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وآدابه صلى الله عليه وسلم والمستن بسنته وهديه .
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)).
قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن؛ وإن الله يبغض الفاحش البذيء)).
وقال صلى الله عليه وسلم : ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، وخياركم خياركم لأهله)).
ومن ها هنا نعلم اضطرارنا فوق كل ضرورة إلى معرفة نبينا صلى الله عليه وسلم لتقوى محبتنا له ، فإذا ما أحببناه اقتدينا بهديه وتأدبنا بآدابه وتعاليمه ، فبمتابعته يتميز أهل الهدى من أهل الضلال.
أخي المسلم وبعد هذا أسالك سؤالا فأقول هل تحب نبيك صلى الله عليه وسلم ؟؟؟
هل تريد نصرته ؟؟
فلماذا لا تهتدي بهديه وتستن بسنته وتطيعه ولا تعصيه حتى تكون من أهل سنته؟؟؟
نسأل المولى عز وجل أن يرزقنا حسن متابعته صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأن ينفعنا بهديه ، لنفوز بشفاعته ومحبته صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة وأن يعيننا على خدمة السُنَّة النبوية المُطَهَّرة وأن يجمعنا وإياكم تحت لواء المصطفى صلى الله عليه وسلم.(2/118)
اللهم اجعل حبك وحب رسولك أحب إلينا من أنفسنا وأبنائنا ومن الماء البارد على الظمأ ، اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد وأوردنا حوضه ، وارزقنا مرافقته في الجنة ، اللهم صلى وسلم وبارك أطيب وأزكى صلاة وسلام وبركة على رسولك وخليلك محمد وعلى آله وصحبه.
وصلى الله على نبينا وحبينا وقرة أعيننا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إعداد: محمد شندي الراوي
المصدر: موقع طريق الجنة http://www.aljannahway.com
---------------
27.بيتٌ .. وبيت!!
بيتٌ .. وبيت!!
نتكلم اليوم عن نموذجين لبيتين مختلفين تمام الاختلاف في التعامل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
البيت الأول: بيت أبي لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم:
وهو بيت آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكثر من إيذائه. وأبو لهب هذا هو أحد أعمام النبي صلى الله عليه وسلم. ونتساءل لماذا خُص أبو لهب من بين سائر الكفار من صناديد قريش بالتوعد بالعقوبة في القرآن الكريم؟ والسبب في ذلك هو شدة معاداته له صلى الله عليه وسلم، فقد كان كثير الأذية والبغض له، والازدراء به والتنقص له ولدينه.
فمع بداية مرحلة الدعوة الجهرية، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول آية ? وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ ? ] الشعراء: 214 [، فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسة وأربعين رجلاً . فلما أراد أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بادره أبو لهب وقال : هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم، ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس .
ثم دعاهم ثانية وقال : " الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له " . ثم قال : " إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا " .
فقال أبو طالب : ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقًا لحديثك . وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أُمرت به . فوالله، لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب . فقال أبو لهب : هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم. فقال أبو طالب : والله لنمنعه ما بقينا . [1]
ثم بعد أن تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته وهو يبلّغ عن ربه، صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا، فعلا أعلاها حجرًا، ثم جعل ينادى بطون قريش، ويدعوهم قبيلة قبيلة.
فلما سمعوا قالوا : من هذا الذي يهتف ؟ قالوا : محمد . فأسرع الناس إليه، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش . فلما اجتمعوا أخذ يدعوهم إلى الحق، وأنذرهم من عذاب الله ، فخص وعم. ولما تم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا، ولا يُذكر عنهم أي ردة فعل، سوى أن أبا لهب واجه النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء، وقال : تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت فيه : ? تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ? [المسد:1] . [2]
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عُكَاظ ومَجَنَّة وذى المَجَاز، يدعوهم إلى الله ، وأبو لهب وراءه يقول : لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب . وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها .[3]
وقد رُوي ما يفيد أن أبا لهب كان لا يقتصر على التكذيب، بل كان يضربه بالحجر حتى يدمى عقباه .[4]
ولما بدأت قريش في التنكيل بالمسلمين، لم تستطع في بادئ الأمر الاجتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن مع استمراره صلى الله عليه وسلم في دعوته، بدأت في مد يد الاعتداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما كانت تأتيه من السخرية والاستهزاء والتشويه والتلبيس والتشويش وغير ذلك . وكان من الطبيعي أن يكون أبو لهب في مقدمتهم وعلى رأسهم، فإنه كان أحد رؤوس بني هاشم، فلم يكن يخشى ما يخشاه الآخرون، وكان عدوًا لدودًا للإسلام وأهله، وقد وقف موقف العداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول، واعتدى عليه قبل أن تفكر فيه قريش. [5](2/119)
وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدة حتى طلقاهما . ولما مات عبد الله - الابن الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم - استبشر أبو لهب، وذهب إلى المشركين يبشرهم بأن محمدًا صار أبتر . [6]
كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاره، فكان بيته ملصقا ببيته. كما كان غيره من جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذونه وهو في بيته . قال ابن إسحاق : كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدى بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلى - وكانوا جيرانه - لم يُسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص. فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرًا ليستتر به منهم إذا صلى الله عليه وسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول : " يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟" ثم يلقيه في الطريق .[7]
ولما أبرمت قريش قرارها بإهدار دم النبي صلى الله عليه وسلم، كان أبو لهب من بين أكابر مجرمي قريش الذين قضوا نهارهم في الإعداد سرا لتنفيذ الخطة المرسومة، بل وكان من النفر الذين اختيروا لتنفيذ تلك المؤامرة اللئيمة.
فماذا كانت العاقبة؟! رماه الله بالعدسة[8] فقتلته!! فلقد تركه ابناه بعد موته ثلاثا، ما دفناه حتى أنتن. وكانت قريش تتقي هذه العدسة، كما تتقي الطاعون. حتى قال لهم رجل من قريش: ويحكما! ألا تستحيان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تدفنانه؟ فقالا: إنما نخشى عدوى هذه القرحة!! فقال: انطلقا، فأنا أعينكما عليه! فوالله ما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يدنون منه، ثم احتملوه إلى أعلى مكة، فأسندوه إلى جدار، ثم رجموا عليه بالحجارة.[9]
وكانت امرأة أبي لهب - أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان، والتي سماها المسلمون أم قبيح من كثرة ما تؤذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم. فقد كانت تحمل الشوك، وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى بابه ليلاً. وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حربًا شعواء على النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب .
ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فِهْرٌ[10] من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت : يا أبا بكر، أين صاحبك ؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة . ثم قالت :
مُذَمَّما عصينا * وأمره أبينا * ودينه قَلَيْنا
ثم انصرفت، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أما تراها رأتك ؟ فقال : " ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني ".
وروى أبو بكر البزار هذه القصة، وفيها : أنها لما وقفت على أبي بكر قالت : أبا بكر! هجانا صاحبك. فقال أبو بكر : لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به، فقالت : إنك لمُصدَّق . [11]
فماذا كانت نهايتها؟ كانت أم جميل تأتي كل يوم بإبالة[12] من الحسك[13] فتطرحها في طريق المسلمين. فبينما هي حاملة ذات يوم حُزمة، إذ أَعْيَت، فقعدت على حجر لتستريح. فجُذبت من خلفها، فهلكت. خنقها الله بحبلها!! وقيل: لما كانت تعيّر النبي صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف, فخنقها الله جل وعز به فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار.[14]
ومما تروي لنا كتب السنة والسيرة: أن عتيبة بن أبي لهب أتى يومًا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنا أكفر بـ ? وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ? ] النجم: 1 [، وبالذي ?دَنَا فَتَدَلَّى? ] النجم: 8 [ . ثم تسلط عليه بالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه صلى الله عليه وسلم، إلا أن البزاق لم يقع عليه. وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال : " اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك".(2/120)
فماذا كانت عاقبة ذلك؟ لقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم!! فقد خرج عتيبة إثر ذلك في نفر من قريش، فلما نزلوا بالزرقاء من الشام طاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول : يا ويل أخي هو والله آكلي، كما دعا محمد علىّ، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام. ثم جعلوه بينهم، وناموا من حوله، ولكن جاء الأسد وتخطاهم إليه، فضغم[15] رأسه .[16] وانظر رحمك الله... لما تفل عتيبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى إليه الأسد، فشم وجهه، ثم ضغم رأسه!! لم يأكله من يديه أو رجليه، وإنما رأسًا برأس!!![17]
والبيت الثاني: بيت أبي بكر الصديق:
لما بدأت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، كان من الطبيعي أن يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام أولاً على ألصق الناس به من أهل بيته، وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا إليه كل من توسم فيه الخير ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الحق والخير، ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح. وكان من أوائل من دُعوا إلى الإسلام، صديقه الحميم أبو بكر الصديق ، الذي أسلم في أول يوم للدعوة . [18]
ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلاً مألفاً محبباً سهلاً ذا خلق ومعروف. وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته. فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعوته عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله . [19]
واشترى أبو بكر رضي الله عنه الكثير من الإماء والعبيد رضي الله عنهم وعنهن أجمعين، فأعتقهم جميعًا . وقد عاتبه في ذلك أبوه أبو قحافة وقال : أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالاً جلدًا لمنعوك . قال : إني أريد وجه الله . فأنزل الله قرآنًا مدح فيه أبا بكر، وذم أعداءه . قال تعالى : ? فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ اْلأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ? ] الليل: 14 - 16 [ ، وهو أمية بن خلف، ومن كان على شاكلته، ? وَسَيُجَنَّبُهَا اْلأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا ِلأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إَِّلا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ اْلأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ? ] الليل: 17 - 21 [ ، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه .[20]
وأُوذي أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا كثيرا من كفار قريش بسبب إسلامه، وبسبب منافحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أشد المواقف التي صنعها المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم، كان بجانبه صديقه الحميم أبو بكر الصديق رضي الله عنه. فبينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا. فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ؟ [21]
ومن أكثر مواقف الصديق رضي الله عنه عظمة مع النبي صلى الله عليه وسلم، موقفه معه هو وأسرته أثناء الهجرة. [22] فبعد أن أذن الله تعالى إلى نبيه بالهجرة، ذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة - حين يستريح الناس في بيوتهم - إلى أبي بكر رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة. قالت عائشة رضي الله عنها : بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر .
قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأذن، فأذن له فدخل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " أخرج مَنْ عندك " . فقال أبو بكر : إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله . قال : " فإني قد أذن لي في الخروج ". فقال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم" .
ثم أبرم معه خطة الهجرة، ورجع إلى بيته ينتظر مجيء الليل . وقد استمر في أعماله اليومية حسب المعتاد حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة، أو لأي أمر آخر اتقاء مما قررته قريش .
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، وأتى إلى دار رفيقه - وأمنّ الناس عليه في صحبته وماله - أبي بكر رضي الله عنه . ثم غادر منزل الأخير من باب خلفي، ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر .(2/121)
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا سَتَجِدُّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالاً، فسلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن. سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال، حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثَوْر، وهو جبل شامخ، وَعِر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل : بل كان يمشى في الطريق على أطراف قدميه كي يخفي أثره فحفيت قدماه. وأيا ما كان فقد حمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهي به إلى غار في قمة الجبل، عُرف في التاريخ بغار ثور .
ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر : والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك! فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبًا فشق إزاره وسدها به، وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادخل. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام. فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : " ما لك يا أبا بكر "؟ قال : لُدغت، فداك أبي وأمي. فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده .
وكَمُنَا في الغار ثلاث ليال. وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما . قالت عائشة : وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيُدْلِج من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.
أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة . فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليًا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما .
ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها : أين أبوك ؟ قالت : لا أدرى والله أين أبي ؟ فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشًا خبيثًا - فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها .
وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، كائنًا من كان . وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره. روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم. فقلت : يا نبي الله! لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا . قال : " اسكت يا أبا بكر، اثنان، الله ثالثهما" ، وفي لفظ : " ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما" .
وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة . وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة .
وتستمر أيادي الخير الممتدة من أبي بكر، وتستمر مواقفه العظيمة في خدمة الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم والمسلمين. وقد جاء في الحديث الذي رواه أَبو هُرَيْرَةَ عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: "مَا ِلأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إَِّلا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ، مَا خَلاَ أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِيهِ اللَّهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ. وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً َلاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً، أَلاَ وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ ".[23]
هذه بعض من مواقف أبي بكر الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم. فماذا كانت مواقف أهل بيته من النبي صلى اله عليه وسلم ودعوته؟ قد علمنا فيما مضى الدور العظيم الذي لعبه عبد الله بن أبي بكر في الهجرة، فقد كان يبقى في النهار بين أهل مكة يسمع أخبارهم، ثم يتسلل في الليل لينقل هذه الأخبار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيه. ويبيت عندهما، ويخرج من السحر، فيصبح مع قريش.[24](2/122)
وبنته أسماء بنت أبي بكر، ذات النطاقين، وهي أسن من عائشة. سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات النطاقين لأنها صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبيها سفرة لما هاجرا، فلم تجد ما تشدها به، فشقت نطاقها وشدت به السفرة، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وهي زوجة الزبير بن العوام، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمته صفية بنت عبد المطلب. هاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزبير، فولدته بعد الهجرة، فكان أول مولود يُولد في الإسلام بعد الهجرة. بلغت مائة سنة، ولم يُنكر من عقلها شيء، ولم يسقط لها سن.[25] عاشت إلى أن ولي ابنها عبد الله الخلافة، ثم إلى أن قُتل، وماتت بعده بقليل.[26]
وزوجه أم رومان، التي أسلمت مبكرا وبايعت[27]، ثم هاجرت إلى المدينة. وهي والدة عبد الرحمن وعائشة. توفيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم قبرها، واستغفر لها وقال: " اللهم لم يخف عليك ما لقيت أم رومان فيك وفي رسولك ". وقيل: لما دُليت أم رومان في قبرها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى هذه ".[28]
وغني عن البيان بنته الأخرى، الصديقة بنت الصديق، أم المؤمنين، عائشة رضي الله عنها وأرضاها، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وفي الآخرة. وهي أعلم النساء، كنّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم عبد الله، وكان حبه لها مثالا للزوجية الصالحة.
وبعد... فهذان نموذجان لبيتين تفاعلا مع النبي صلى الله عليه ودعوته. ويمثل هذان البيتان طرفي نقيض في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم. وتتفاوت باقي البيوت في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته في نطاق هذا الإطار. فانظر أخي وحبيبي في الله، أي بيت تود أن يكون بيتك!! هل تريد أن يكون بيتك مثل بيت أبي لهب أو قريبًا منه، أم تريد أن يكون بيتك دائرًا في فلك بيت أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. وهاهو موقف يحتاج منك لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ تنشر الصحف الدانمركية – ومن بعدها صحف أوروبا كلها - الصور الكاريكاتورية التي تنال منه صلى الله عليه وسلم! فتخيل نفسك في موقف أبي بكر وبيته، وانظر ماذا كان سيفعل رضي الله عنه في مثل هذا الموقف، وحاول أن تقتدي به!!
5 من المحرم عام 1427 من الهجرة (الموافق في تقويم النصارى 4 من فبراير عام 2006).
ـــــــــــــ
الهوامش:
[1] الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، ص: 69-70.
[2] الرحيق المختوم، ص: 70.
[3] الرحيق المختوم، ص: 73.
[4] الرحيق المختوم، ص: 77، نقلا عن سيرة ابن هشام.
[5] الرحيق المختوم، ص: 76.
[6] الرحيق المختوم، ص: 76.
[7] الرحيق المختوم، ص: 77 – 78.
[8] بثرة تخرج في البدن كالطاعون، وقلما يسلم صاحبها.
[9] الجزاء من جنس العمل، د/ سيد حسين العفاني، الجزء الأول، ص: 255-256.
[10] أي بمقدار ملء الكف.
[11] الرحيق المختوم، ص: 77.
[12] حزمة كبيرة.
[13] نبات له ثمرة ذات شوك تعلق بأصواف الغنم، وهو السعدان.
[14] الجزاء من جنس العمل، الجزء الأول، ص: 257، وكذا تفسير القرطبي، تفسير سورة المسد، الآية الخامسة.
[15] عضه شديدا بملء الفم.
[16] الرحيق المختوم، ص: 89، وكذلك: الجزاء من جنس العمل، الجزء الأول، ص: 254 – 255.
[17] الجزاء من جنس العمل، الجزء الأول، ص: 255.
[18] الرحيق المختوم، ص: 66، نقلا عن: رحمة للعالمين.
[19] الرحيق المختوم، ص: 66 – 67.
[20] وانظر بسط هذا الموضوع بالتفصيل في: الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبي بكر الصديق، د/ علي محمد محمد الصلابي، ص: 39 - 42. والرواية المذكورة ذكرها ابن جرير في تفسيره، انظر: الأساس في التفسير، سعيد حوى، المجلد الحادي عشر، ص: 6560.
[21] الرحيق المختوم، ص: 90، نقلا عن رواية في صحيح البخاري.
[22] انظر قصة الهجرة في: الرحيق المختوم، ص: 149 – 162.
[23] رواه الترمذي في سننه (3661)، وقال عنه الألباني في صحيح سنن الترمذي: " ضعيف، دون قوله: " وما نفعني ... "، فصحيح ". وانظر جامع الأصول: المجلد الثامن (ح/ 6405).
[24] الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، المجلد الرابع، ص: 24 (ت/ 4586).
[25] الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبي بكر الصديق، ص: 23.
[26] الإصابة في تمييز الصحابة، المجلد الثامن، ص: 12 - 14 (ت/ 10804).
[27] الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبي بكر الصديق، ص: 22.
[28] الإصابة في تمييز الصحابة، المجلد الثامن، ص: 391 – 392 (ت/ 12027).
---------------
28.القدوة الحسنة !
موسى محمد هجاد الزهراني
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ سُورَةُ التَّوْبِةِ : 128 ] ..(2/123)
إن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليجد أنها حوت جميع مكارم الأخلاق التي تواطأ عليها فضلاء ونجباء البشر ونبلاؤهم، حتى إنها لتجيب على كل ما يختلج في الفؤاد من أسئلة قد تبدو محيرة لمن لم يذق طعم الإيمان بالله تعالى من الذين كفروا ، والغريب في الأمر أن بعض بني قومنا من المسلمين هداهم الله لا يحفلون بهذه الميزة العظيمة التي ميزنا الله بها وهي كون النبي صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة حسنة رغم أنها تمثل الرادع الفعلي عن ارتكاب ما يخل بخلق المسلم ، وهي المحرك الأساس إلى الارتقاء بالذات إلي معالي الأمور وقممها السامقات .
إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم قرآنٌ يمشي على الأرض وكان خلقه القرآن ، ولذلك تجد كثيراً من عامة المسلمين اليوم إذا سألتهم ولو كان ذلك بطريقة عشوائية عن : من هو قدوتك أو مثلك الأعلى؟!
لسمعت الإجابة: النبي صلى الله عليه سلم!
أتعرف شيئاً عن سيرته؟!
فسيحدثك ولو بالقدر القليل عن سيرته عليه السلام من ولادته ونشأته وعبادته وشجاعته وحسن خلقه وغزواته وغير ذلك إلى الوفاة.
وإنك لتسمع من البعض أيضاً عبارة: هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وما ذلك إلاَّ دلالة واضحة على أن المسلمين عموماً لديهم الرجوع الذهني إلى القدوة المطلقة وهو النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .. فيفعلون ما فعل وينتهون عما نهى ويخجلون من فعل شيء لم يفعله.
* * *
أين هذا من الكثرة الكاثرة في الأرض اليوم بكل في كل زمان من الكافرين على جميع أصنافهم وتنوع مذاهبهم وتنوع مذاهبهم ومشاربهم؟
خذ مثلاً .. النصارى الموجودين اليوم .. لو سألت أحدهم أو مجموعة منهم عن قدوته في الحياة لما حار جواباً إلاَّ بعد تفكير مضطرب قد تأتي الإجابة بعده ليست كما تريد .. وينسى (المسيح عليه السلام) أو (يسوع كما يحلو لهم أن يعبروا) لأنه يجهل سيرته تماماً ولا يعلم منها إلا الجزء المظلم في نظرة النصرانية من أنه أحد الأقانيم الثلاثة .. ثلاثة في واحد .. وأنه ابن الإله ، وهو المصلوب لإنقاذ الجنس البشري من تبعات خطيئة أبيهم آدم .. وهو الذي نزل باسم الإله تارة أو ابنه تارة أو ما إلى ذلك من خرافاتهم ..
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ، بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 158 ]
فإذا أردت منه شيئاً يسيراً عنه ولادة عيسى عليه السلام .. لربما غضب منك لأنه يعلم أنك تريد تسفيه عقيدته في ابن الإله (حسب زعمهم).. وإذا أردت شيئاً من سيرته لم تسمع من في الخاصة منهم إلاَّ العبارة المشهورة عن المسيح عندهم " إذا صفعك أحدهم على الخد الأيسر فأدر له الخد الأيمن ومن جاءك يريد أخذ شيئاً من مالك فأعطه مالك كله " على أنها لا سند لها من شرع ولا عقل إلاَّ إنها لا تمثل ما عليه واقع حال النصرانية المحرفة أبداً ولا يحفل قسسهم ولا باباوتهم ورهبانهم وساستهم – وبوش الظالم المعتدي على أفغانستان والعراق أكبر مثال – لا يحفلون بهذا النص عن المسيح عندهم ولا يُعملونه في واقعهم، وواقعهم المرّ يشهد بذلك .
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 171 ]
* * *
أين المسلمون عن شكر نعمة القدوة المطلقة محمد صلى الله عليه وسلم وأين العمل بسنته والافتخار بها؟
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [سُورَةُ الأَحْزَابِ : 21 ]
وبقي أن نعلم أن القدوات ثلاثة .. القدوة المطلقة وهو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والقدوة الثانية : من مات على الإسلام الصحيح من سلف الأمة المخلصين ومن كانت سيرته نبراساً لمن بعده كالصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان .. وعلماء الأمة الأربعة فمن بعدهم وشمسهم الوهاجة شيخ الإسلام بن تيميه .. إلى آخر عالمٍ مات منهم .. بالشرط المتقدم .
القدوة الثالثة : من يصلح الاقتداء به في هذا الزمان من الأخيار ، على أن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ..
ولله در الشيخ الدكتور عائض القرني على روعة وصفة لقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم ، في رائعته : تاج المدائح :(2/124)
أنصت لميميةٍ جاءتك من أَمَمِ **** مُدادها من معاني نون والقلم
سالت قريحةُ صبٍّ في محبتكم***** فيضاً تدفق مثل الهاطلِ العممِ
كالسيل كالليل كالفجر اللحوح غدا * يطوي الروابي ولا يلوي على الأكم
أجش كالرعد في ليل السعود ولا *** يشابه الرعد في بطش وفي غشم
كدمع عيني إذا ما عشت ذكركم *** أو خفق قلب بنار الشوق مضطرم
يزري بنابغة النعمان رونقها ***** ومن زهير ؟ وماذا قال في هَرِمِ
دع سيف ذي يزنٍ صفحاً ومادحه ***** وتبّعاً وبني شداد في إرم
ولا تعرج على كسرى ودولته ***** وكل أصْيد أو ذي هالة ٍوكمي
وانسخ مدائح أرباب المديح كما ***** كانت شريعته نسخا لدينهم
رصّع بها هامة التأريخ رائعة ***** كالتاج في مفرق بالمجد مرتسم
فالهجر والوصل والدنيا وما حملت **** وحب مجنون ليلى ضلة لعمي
دع المغاني وأطلال الحبيب ولا***** تلمح بعينك برقا لاح في أضم
وأنس الخمائل والأفنان مائلة ***** وخيمة وشويهات بذي سلم
هنا ضياء هنا ري هنا أمل ***** هنا رواء هنا الرضوان فاستلم
لو زينت لامرء القيس انزوى خجلا ***** ولو رآها لبيد الشعر لم يقم
ميمية لو فتى بوصير أبصرها ***** لعوذوه برب الحل والحرم
سل شعر شوقي أيروي مثل قافيتي *** أو أحمد بن حسين في بني حكم
ما زار سوق عكاظ مثل طلعتها***** هامت قلوب بها من روعة النغم
أثني على من ؟ أتدري من أبجله ؟ ***** أما علمت بمن أهديته كلمي
في أشجع الناس قلبا غير منتقم ***** وأصدق الخلق طرّا غير متهم
أبهى من البدر في ليل التمام وقل * أسخى من البحر بل أرسى من العلم
أصفى من الشمس في نطق وموعظة ** *أمضى من السيف في حكم وفي حكم
أغر تشرق من عينيه ملحمة ***** من الضياء لتجلو الظلم والظلم
في همة عصفت كالدهر واتقدت *** كم مزقت من أبي جهل ومن صنم
أتى اليتيم أبو الأيتام في قدر ***** أنهى لأمته ما كان من يتم
محرر العقل باني المجد باعثنا ***** من رقدة في دثار الشرك واللمم
بنور هديك كحلنا محاجرنا ***** لما كتبنا حروفا صغتها بدم
من نحن قبلك إلا نقطة غرقت **** في اليم بل دمعة خرساء في القدم
أكاد أقتلع الآهات من حُرَقي ***** إذا ذكرتُك أو أرتاعُ من ندمي
لما مدحتك خلت النجم يحملني ***** وخاطري بالسنا كالجيش محتدم
أقسمتُ بالله أن يشدو بقافية ***** من القريض كوجه الصبح مبتسم
صه شكسبير من التهريج أسعدنا **** عن كل إلياذة ما جاء في الحكم
الفرس والروم واليونان إن ذكروا ***** فعند ذكراه أسمال على قزم
هم نمقوا لوحة للرق هائمة ***** وأنت لوحك محفوظ من التهم
أهديتنا منبر الدنيا وغار حرا ***** وليلة القدر والإسراء للقمم
والحوض والكوثر الرقراق جئت به*** أنت المزمل في ثوب الهدى فقم
الكون يسأل والأفلاك ذاهلة ***** والجن والإنس بين اللاء والنعم
والدهر محتفلٌ والجو مبتهج ***** والبدر ينشق والأيام في حلم
سرب الشياطين لما جئتنا احترقت **** ونار فارس تخبو منك في ندم
وصُفّدَ الظلم والأوثان قد سقطت ***** وماء ساوة لما جئت كالحمم
قحطان عدنان حازوا منك عزتهم ***** بك التشرف للتأريخ لا بهم
عقود نصرك في بدر وفي أحد ***** وعدلا فيك لا في هيئة الأمم
شادوا بعلمك حمراء وقرطبة ***** لنهرك العذب هب الجيل وهو ظمي
ومن عمامتك البيضاء قد لبست ***** دمشق تاج سناها غير منثلم
رداء بغداد من برديك تنسجه ***** أيدي رشيد ومأمون ومعتصم
وسدرة المنتهى أولتك بهجتها ***** على بساط من التبجيل محترم
دارست جبريل آيات الكتاب فلم***** ينس المعلم أو يسهو ولم يهم
اقرأ ودفترك الأيام خُط به ***** وثيقة العهد يا من بر في القسم
قربت للعالم العلوي أنفسنا ***** مسكتنا متن حبل غير منصرم
نصرت بالرعب شهرا قبل موقعة *** كأن خصمك قبل الحرب في صمم
إذا رأوا طفلا في الجو أذهلهم ***** ظنوك بين بنود الجيش والحشم
بك استفقنا على صبح يؤرقه ***** بلال بالنغمة الحرّى على الأطم
إن كان أحببت بعد الله مثلك في **** بدو وحضر ومن عرب ومن عجم
فلا اشتفى ناظري من منظر حسن *****ولا تفوه بالقول السديد فمي
* * *
بعد ، فهذه كلمات يسيرة كتبتها على عجل ، أثارها في صدري ما قرأته عن مقارنه الأديان[1] وتخبطاتها حاشا الإسلام.
أسأل الله أن يجعلنا من المهتدين المقتدين بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ويرزقنا أتباع سنته وشفاعته يوم القيامة .
القاهرة
في 12/5/1425هـ
0000000000000
[1] انظر كتاب أستاذنا الفاضل أ د / مصطفى حلمي ( الإسلام ومقارنة الأديان )
---------------
29.بأبي أنت وأمي يا رسول الله
محمد بن شاكر الشريف(2/125)
تدلهم على الناس الخطوب وتفجؤهم المصائب الكبيرة، فإذا تأملوها حق التأمل وجدوا فيها من فضل الله وإحسانه ما تعجز الألفاظ عن التعبير عنه، لقد فوجئ المسلمون بحفنة من الحاقدين النصارى الذين أعمى بصيرتهم شعاع الحق الظاهر من دين الإسلام، الدين الذي رضيه الله تعالى لعباده ولم يرض دينا سواه، فذهب هؤلاء المنكوسين يفرغون حقدهم وضلالهم في العيب والذم لرسول الله تعالى الذي أرسله ربه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، لقد كانت فاجعة وأي فاجعة ومصيبة وأي مصيبة، لكن جعل الله من ذلك فرصة عظيمة للمسلمين لبيان حبهم لدينهم وشدة تمسكهم به، وبذل الغالي والنفس والنفيس للذود عن حبيبهم، ومهما كتب الكاتبون ومدح المادحون ونافح المنافحون فلن يستطيعوا أن يوفوه حقه اللائق به صلى الله عليه وسلم، ولكنها كلمات يكتبها المسلم المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليعبر بها عن بعض ما بداخله، وليؤدي جزءًا مما يجب عليه نحوه، كيف لا وقد أخرجنا الله تعالى به من الظلمات إلى النور وهدانا به الصراط المستقيم، فمن أقل ما يجب علينا أن ننتهز هذه الفرصة لنعبر عما يجيش بصدورنا تجاه هذا الرسول الأكرم الذي لم تعرف له البشرية نظيرًا أو مدانيًا، وما مثل الكاتبون ومثل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا كمثل رجل دخل بستانا مثمرًا من كل أنواع الثمار التي تحبها النفوس وتشتهيها، وذلك وقت نضجها، فلم يدر من شدة جمالها وحسنها ماذا يأخذ وماذا يدع.
كيف كان العالم قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم:
كان العالم كله يعيش في ظلمات الجهل والضلالة والشرك، إلا عددًا قليلاً جدًا ممن حافظ على دينه من أهل الكتاب، فلم يحرفوه أو يقبلوا تحريفه ممن قام به، يقول الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم:"إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال:إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظان.." الحديث، فهذا الحديث يصور الحالة البشعة التي كان عليها العالم قبل مبعث خير البرية، حيث استوجبت من الله تعالى أشد البغض، وهذا لا يكون إلا مع الانغماس التام في الضلالة والبعد عن سنن الرشاد.(2/126)
فقد كان العرب يئدون البنات ويحرمون أشياء مما رزقهم الله تعالى بغير حجة أو برهان، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام:" قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ" [الأنعام:140] ، وكانوا يأكلون الميتة ويشربون الدم، كما قال الله تعالى مبينا حالهم، وآمرا رسوله أن يقول لهم:" قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [الأنعام:145]، وفوق ذلك كله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله، ويحرمون على أنفسهم الاستفادة من بعض حيواناتهم، ويجعلون إنتاجها للطواغيت، كما نعى الله عليهم ذلك في قوله:"مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" [المائدة :103]، ولم يكن أهل الكتاب بأحسن حالاً منهم فحرفوا كتابهم المنزل على رسولهم، وافتروا على الله الكذب وأشركوا بالله، وادعى اليهود أن لله تعالى ولدًا، كما ادعت النصارى أن لله تعالى ولدًا :"وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ"[التوبة:30 ]، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى، قال الله تعالى في وصف ذلك:" اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" [التوبة:31]، ولم يكونوا يتناهون عن المنكرات التي تحدث بينهم كما قال الله عنهم:"لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ" [المائدة:78-79]، وكانوا المجوس يعبدون النار ويستحلون نكاح المحارم فينكح الرجل منهم أخته أو ابنته، وبالجملة فقد كان العالم في ظلام دامس وشرك وضلال، حتى جاءهم الرسول الكريم بالرسالة الشاملة الهادية إلى صراط مستقيم، فبأبي أنت وأمي يا رسول الله.
كما يبين الحديث الغرض الذي لأجله بعثه الله تعالى، وهو دعوة الناس إلى الله تعالى ومجانبة طريق الشرك والضلال، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، قال النووي:"إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك، معناه لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة، وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله تعالى وغير ذلك، وأبتلى بك من أرسلتك إليهم فمنهم من يظهر إيمانه ويخلص في طاعاته، ومن يتخلف ويتأبد بالعداوة والكفر، ومن ينافق" ، ولم ينس الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان العدل والإنصاف من شمائله أن يستثني من الشرك والضلالة طائفة من أهل الكتاب ظلت محافظة على عهد الله تعالى إليهم، فقال:"إلا بقايا من أهل الكتاب"، فالإسلام دين يحث على العدل والإنصاف وعدم غمط الناس، يقول الله تعالى:" لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113] وقال:"وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" [آل عمران:199]، وقال:"وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" [آل عمران:75 ]وغير ذلك من الآيات.
ماذا قدمت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للعالمين:(2/127)
بعد أن عم الشرك والجهل والضلال والظلم العالم كله، وكان في حاجة ماسة إلى من يخرجه من كل هذه الظلمات منَّ الله تعالى على العالمين ببعثته كما قال تعالى:"الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ"، [إبراهيم:1]، فهو صلى الله عليه وسلم مرسل ليخرج الناس كلهم-وليس جنسا دون جنس، إذ دعوته صلى الله عليه وسلم ليست قومية أو عنصرية- من أنواع الظلمات كلها إلى النور التام، كما قال تعالى:"هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ"، [الحديد:9]، فكان صلى الله عليه وسلم بذلك رحمة للناس جميعًا، كما قال تعالى:"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، [الأنبياء:107].
فدعا الناس إلى الله ربهم، لا يطلب منهم على ذلك أجرًا أو مقابل، وتحمل منهم في سبيل ذلك الأذى الكثير، ومنع العدوان على الناس حتى لو كانوا من الكافرين، فبلغ عن ربه قوله:" وََلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [المائدة:2] والشنآن هو البغض.
ومنع الظلم بين الناس ولم يقبله حتى من أتباعه على أعدائه، وأمر بالعدل حتى مع الأعداء فبلغ عن ربه تعالى قوله:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة:8].
ودعا الناس إلى الوفاء بالعهود والعقود حتى مع الأعداء، ولم يكونوا كالذين قالوا:ليس لمن خالفنا في ديننا علينا أية حقوق، يستحلون بذلك ظلم من يخالفهم ويكذبون على الله وينسون ذلك إليه، فبلغ عن ربه تعالى قوله:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ" [المائدة:1]، وقوله:"وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" [النحل:91].
وقد كان النهي عن الخيانة من الأحكام التي جاء بها الرسول الكريم وبلغها للناس حتى من يُخشى من خيانتهم من الأعداء فلا ينبغي خيانتهم لأن الخيانة خلق ذميم والله لا يحب الخائنين، قال الله تعالى:"وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ" [الأنفال:58] فإذا خاف الرسول صلى الله عليه وسلم أو أتباعه من قوم عاهدوهم خيانة بإمارة تلوح أو ترشد إلى ذلك، فلا ينبغي للمسلم أن يخون بناء على ما ظهر من إقدام العدو على الخيانة، ولكن عليه أن يبين لهم أن العهد الذي بيننا وبينهم قد ألغي قال ابن كثير:" أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم، وهم حرب لك، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء، أي تستوي أنت وهم في ذلك" ، فإن غير ذلك من الخيانة والله لا يحب الخائنين.
وقد كان لتعليماته صلى الله عليه وسلم على أصحابه أكبر التأثير فالتزموا بها حتى ضربوا أروع الأمثلة في كل ذلك، فعن سليم بن عامر رجل من حمير قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول:الله أكبر الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء، فرجع معاوية "
فما أحسن أثر دعوته على العالمين جميعًا، وما أقبح موقف الكافرين منه، الذين ناصبوه العداء وعاندوا دعوته، فبأبي أنت وأمي يا رسول الله.
احتماله صلى الله عليه وسلم الأذى في تبليغ الدعوة:(2/128)
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في التمسك بالحق والثبات عليه وعدم التضعضع أمام الباطل وسلطانه، فعن عقيل بن أبي طالب قال:جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا:إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا وفي مجلسنا فانهه عن أذانا، فقال لي:يا عقيل ائت محمدًا قال فانطلقت إليه، فجاء في الظهر من شدة الحر فجعل يطلب الفيء يمشي فيه من شدة حر الرمضاء، فأتيناهم، فقال أبو طالب:إن بني عمك زعموا إنك تؤذيهم في ناديهم وفي مجلسهم، فانته عن ذلك، فحلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال: أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم، قال: ما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها شعلة، فقال أبو طالب:ما كذبنا بن أخي قط فارجعوا" ، يبين لهم شدة تمسكه بالحق الذي هداه الله إليه واستحالة تركه أو ترك الدعوة إليه، فكما أنهم عاجزون عن أن يشعلوا شعلة من الشمس فهو لا يمكنه ترك ما أوحاه الله إليه، وإزاء هذا الإباء والثبات، عادته قريش وآذوه وصدوا الناس عنه، حتى بلغ بهم الأمر أن يتعاقدوا ويتعاهدوا على مقاطعة الرسول والمؤمنين ومن يسانده من أقربائه حتى لو كانوا على دين قريش، فقاطعوهم مقاطعة اجتماعية لا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم ولا يكلموهم ولا يجالسوهم وقاطعوهم مقاطعة اقتصادية لا يبيعون منهم ولا يبيعون لهم، وكتبوا يذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، وظلت هذه المقاطعة ثلاث سنوات، وانظر تصويرًا لتلك الحالة الصعبة التي كان فيها المسلمون، يقول سعد بن أبي وقاص: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجت من الليل أبول، فإذا أنا أسمع قعقعة شيء تحت بولي، فنظرت فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها، فرضضتها بين حجرين ثم استففتها، فشربت عليها من الماء فقويت عليها ثلاثا" ، "وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئًا من الطعام لعياله، فيقوم أبو لهب عدو الله، فيقول: يا معشر التجار:غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئا، فقد علمتم ما لي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا، حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يديه شيء يطعمهم به" فما رده ذلك عن دعوته، وقد بلغ الإيذاء بأصحابه مبلغه حتى اضطرهم ذلك إلى مغادرة الأوطان والهجرة منها، وترك التجارات والأموال والأهلين، وانتهى الأمر به صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة وهو صابر محتسب صامد كالطود الأشم، تميد الجبال الشم وهو صلى الله عليه وسلم ثابت لا ينحني، ولم يقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساوم على دعوته، أو يقبل بما يدعونه من الحلول الوسط، بأن يكتم بعض ما أنزل الله إليه في سبيل أن يمتنع الكافرون عن معاداته أو محاربته، أو أن يلين في الحق في مقابل أن يلينوا معه في مواقفهم، بل رفض كل ذلك وظل صامدا فصلى الله تعالى عليه وسلم.
وقد سجل القرآن الكريم هذا الموقف بقوله تعالى:" وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" [القلم:9 ]، وقال لهم في قوة وصلابة في الحق كما أمره ربه:" قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ" [الكافرون:1-6] وعرضوا عليه الأموال والنساء والملك، فيأبى كل ذلك ولسان حاله يقول: والله لو وضعوا الشمس في يمني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله تعالى أو أهلك دونه".(2/129)
ولما مكنه الله تعالى وأظهره لم يطغى أو يظلم أحد ولم يبغ العلو في الأرض وإنما جاهد في الله حق جهاده، وبذل نفسه في سبيل ذلك، وسنَّ في ذلك سننًا هي في غاية العدل والكمال، فلا ظلم ولا اعتداء ولا إفساد، ولا رغبة في العلو في الأرض بالباطل، ولا رغبة في التوسع على حساب الشعوب، بل كان يدعوهم إلى الله تعالى لا إلى نفسه ولا إلى قومه، حتى كان العربي والعجمي في كنفه سواء، فهذا بلال الحبشي مؤذن لصلاة المسلمين بين يدي رسول الله، وهذا صهيب الرومي الذي ترك ماله لقريش حتى لا يمنعوه من الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول له : ربح البيع، وهذا سلمان الفارسي الذي يقول فيه الرسول: سلمان منا أهل البيت، وكان يدعو الناس فمن قبل منهم دعوة الله كان واحدا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم من غير تفرقة بلون أو لغة أو جنس، وهذه هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن خرج مجاهدا في سبيل الله تعالى مما يبين بكل وضوح نبل غاية الجهاد وأنه جهاد لإحقاق الحق وليس للعلو في الأرض أو الإفساد فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم..الحديث " فبأبي أنت وأمي يا رسول الله.
الأمانة في تبليغه صلى الله عليه وسلم الدعوة:
حيثما توجهت مع الرسول الكريم لا تجد إلا الطهر والنقاء، والثبات والقوة، والصدق والأمانة، يبلغ ما أوحاه الله إليه، ولا يُخفي منه شيئًا، حتى لو كان فيما أمر بتبليغه ما يدل على معاتبته على أحد التصرفات، فبلغ قوله تعالى:" عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى" [عبس:1-4]، قال ابن كثير: "ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطب بعض عظماء قريش، وقد طمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم، وكان ممن أسلم قديما، فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ويلح عليه، وود النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعا ورغبة في هدايته، وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر فأنزل الله تعالى: "عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى" ، فما انصرف عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وعبس رغبة عنه أو استهانة به، وإنما حمله على ذلك رغبته في إسلام أولئك العظماء، ليعز بهم المسلمون، ومع ذلك فقد بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكتمها.
وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مولى اسمه زيد بن حارثة تبناه الرسول قبل البعثة، وكانت عادة العرب أن زوجة الابن تحرم على الوالد ولو لم يكن ابنا للصلب وإنما كان ابنا بالتبني، وأراد الله تعالى أن يهدم هذا العرف الجاهلي، فلما طُلقت زينب زوجة زيد، شرع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم زواجها ليكون هو أول من يهدم هذا العرف الجاهلي، لكن هذا الأمر كان صعبًا على تلك البيئة لتأصل تلك العادة فيهم، فأخفى صلى الله عليه وسلم في نفسه هذه المشروعية، فقال الله تعالى له في شأن زينب بنت جحش وزوجها حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم: "وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" فبلغها ولم يكتمها، قال أنس:"جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اتق الله وأمسك عليك زوجك، قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتمًا شيئًا لكتم هذه، قال فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات " ، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمين على وحي الله تعالى، يبلغه كما أنزله الله عليه، لا يزيد فيه ولا ينقص منه.
رحمته صلى الله عليه وسلم بالعالمين:(2/130)
قال الله له:"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، [الأنبياء:107]، فما أرسله تعالى إلا ليكون إرساله رحمة للعالمين جميعا فمن قبل رسالته فهو ممن رحمهم الله تعالى ومن أعرض فعلى نفسه جنى، ولقد شملت رحمته صلى الله عليه وسلم حتى الحيوانات، فعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها، ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: من حرق هذه؟ قلنا:نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار" . فالنبي صلى الله عليه وسلم يرق لحال هذا الطائر الذي فقد ولديه، ويرحمه ويأمر من أخذهما بإطلاقهما، مع أن صيد البر حلال لكن الرحمة التي ملأت جوانح الرسول الكريم لم يقدر معها على رؤية هذا الطائر المسكين المفجوع في ولده، حتى أمر بإطلاقه، وها هو ذا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى رحمة كل ما فيها روح ويحث على ذلك ببيان ما فيه من الأجر فيقول: "بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرا فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال:لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر" . وكان صلى الله عليه وسلم يرحم الصبية الصغار ويقبلهم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:من لا يَرحم لا يُرحم" ، ودعا أمته إلى رحمة الخلق جميعهم-من في الأرض- من يعقل كالإنس ومن لا يعقل كالحيوانات، فقال:"الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله " ، وقد سجلت لنا السيدة خديجة رضي الله تعالى عنها شمائله التي طبعه الله تعالى عليها حتى من قبل أن تأتيه الرسالة، فقالت له لما جاءه الوحي:" والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" فكانت هذه خلاله صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه، فلما جاءه الوحي زادت نورًا وتلألؤًا وجلالاً، فصلى الله عليك يا من أرسلك ربك رحمة للعالمين.
الحلم والعفو والصفح من شمائله صلى الله عليه وسلم:(2/131)
كان الحلم والعفو والصفح شيمة هذا الرسول الكريم، حتى إنه لم ينتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حدود الله تعالى، فقد كان لرجل من اليهود دين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه يتقاضاه منه وأغلظ له في الكلام فرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بحلم وصفح-على ما يتبين من هذه الرواية-حتى أداه ذلك إلى الإسلام، فقد كان زيد بن سعنة من أحبار اليهود وأتى النبي صلى الله عليه وسلم "يتقاضاه فجبذ ثوبه عن منكبه الأيمن، ثم قال:إنكم يا بني عبد المطلب أصحاب مطل، وأني بكم لعارف، فانتهره عمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عمر أنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج:أن تأمرني بحسن القضاء، وتأمره بحسن التقاضي، انطلق يا عمر أوفه حقه، أما أنه قد بقي من أجله ثلاث [أي لم يحن أجل الدين بعدُ، بل بقي منه ثلاث] فزده ثلاثين صاعًا، لتزويرك عليه" ، ورواه ابن حبان وفيه: "فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه، فلما صلى على الجنازة دنا من جدار فجلس إليه، فأخذت بمجامع قميصه ونظرت إليه بوجه غليظ، ثم قلت: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فو الله ما علمتكم بني عبد المطلب بمطل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، قال: ونظرت إلى عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره، وقال: أي عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتفعل به ما أرى؟ فو الذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي هذا عنقك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: إنا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعًا من غيره، مكان ما رعته، قال زيد فذهب بي عمر فقضاني حقي وزادني عشرين صاعًا من تمر، فقلت:ما هذه الزيادة؟ قال:أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعتك، فقلت:أتعرفني يا عمر؟ قال:لا فمن أنت؟ قلت:أنا زيد بن سعنة، قال:الحَبْر؟ قلت:نعم الحَبْر، قال:فما دعاك أن تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت وتفعل به ما فعلت؟ فقلت: يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أختبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فقد أختبرتهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا، وأشهدك أن شطر مالي-فإني أكثرها مالاً-صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أو على بعضهم؟ فإنك لا تسعهم كلهم، قلت:أو على بعضهم، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ..الحديث" فحلم عليه، ولم يرد عليه بمثل ما قال، بل زاده في حقه من أجل انتهار عمر له، وعن أنس بن مالك قال كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء" فلم يقابل جفاء الأعرابي وغلظته وقسوته عليه إلا أن التفت إليه وضحك، ثم أعطاه ما سأل، فما أحلمك يا رسول الله.
وقد حاربته قريش أشد المحاربة، وألَّبوا عليه القبائل وآذوه وآذوا أصحابه، فلما أمكنه الله منهم وأظهره عليهم ودخل مكة فاتحًا في عام الفتح في موقف النصر والعزة والتمكين، لم يعاملهم بما يستحقونه من العقاب البليغ، بل عفا عنهم "وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد: ما ترون أني صانع بكم؟ قالوا:خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال:اذهبوا فأنتم الطلقاء" .
شجاعته صلى الله عليه وسلم:(2/132)
كان لرسول صلى الله عليه وسلم في الشجاعة القدح المعلى فكان أسرع الناس إلى العدو وأقربهم إليه، ولم يفر صلى الله عليه وسلم من أية معركة رغم شدتها والتحام الصفوف فعن أبي إسحق قال:"جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة، فقال أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولىَّ، ولكنه انطلق أخِفَّاء من الناس وحُسَّر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول:أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، اللهم نزل نصرك، قال البراء:كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم" وكان صلى الله عليه وسلم إذا دهم المدينة خطر يكون أسرع الناس لاستجلائه، فعن أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: لن تراعوا، لن تراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج، في عنقه سيف، فقال: لقد وجدته بحرًا أو إنه لبحر" فلفرط شجاعته صلى الله عليه وسلم كان أول من فزع حتى استجلى الأمر، حتى إن أسرع الناس من بعده لم يلحقه إلا وهو راجع، وذهب على فرس عري ليس عليه سرج والسيف في عنقه، فأي شجاعة هذه التي تجعل من صاحبها يقدم بمفرده ولا ينتظر من يعاونه أو يساعده على هذا الوضع الصعب، و عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبر:"أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه، قال جابر فنمنا نومة ثم إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله فها هو ذا جالس، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، في هذا الوضع الصعب حيث الرجل ممسك بالسيف، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس معه سلاح، لكنه ظل رابط الجأش واثقا من معية الله، ولم يظهر منه خوف أو جزع، بل ثبات ويقين، قال ابن حجر:"وفي الحديث فرط شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوة يقينه وصبره على الأذى وحلمه عن الجهال" .
وجوب نصرة النبي صلى الله عليه وسلم:
نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم من لوازم الإيمان، وقد ضمن الله تعالى الفلاح لمن آمن برسوله ونَصَرَه، فقال تعالى: "فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف:157]، فالذين عزروه هم الذين وقَّروه، والذين نصروه هم الذين أعانوه على أعداء الله وأعدائه بجهادهم ونصب الحرب لهم، وقد مدح الله تعالى المهاجرين الذين نصروا رسوله وشهد لهم بالصدق في إيمانهم فقال تعالى:" لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ"[الحشر:8 ] كما شهد لمن آوى المهاجرين ونصر الرسول بأنهم هم المؤمنون حقا فقال تعالى:"وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" [الأنفال:74] فكان البذل والعطاء في سبيل الله سواء بالهجرة أو بالنصرة دليل الإيمان الحق.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة قبل الهجرة يطوف على الناس يطلب النصرة حتى يتمكن من إبلاغ رسالة الله تعالى للعالمين،"فعن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة، وفي المواسم بمنى، يقول:من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي، وله الجنة،.." الحديث، وعندما أراد الهجرة إليهم في المدينة أخذ البيعة عليهم أن ينصروه وأن يمنعوه مما يمنعون من أهليهم، ففي الحديث المتقدم قال لهم:"وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة" .(2/133)
وقد أخذ الله تعالى الميثاق على من تقدمنا من الأمم بنصرة الرسول الكريم، فما أتعس قوم أخذ عليهم الميثاق بنصرته صلى الله عليه وسلم فإذا هم يسخرون ويستهزئون، قال الله تعالى في أخذه الميثاق على من سبق من الأمم: "وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ" [آل عمران:81]، فأخذ الميثاق على النبيين كلهم وأممهم تبع لهم فيه، قال ابن كثير :"قال علي بن أبي طالب وابن عمه ابن عباس رضي الله عنهما:ما بعث الله نبيًا من الأنبياء إلا أُخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدًا وهو حي ليؤمنن به وينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه" .
وقد بين الله تعالى أنه ناصر رسوله، وأن رسوله ليس في حاجة إلى نصرهم، والمسلم عندما ينصر الرسول فإنما يسعى لخير نفسه، وإذا تقاعس فلن يضر إلا نفسه، وقد نصر الله رسوله في أحلك الظروف وأصعب الأوقات عندما هاجر من مكة إلى المدينة وقريش كلها تطارده بخيلها ورجلها تأمل في العثور عليه، لكن الله أنجاه منهم مع ضعف الإمكانات وقلة الزاد والمعين، قال الله تعالى يبين ذلك :" إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [التوبة:40] فمن تقاعس عن نصرة الرسول فلا يُزري إلا بنفسه، وهي منزلة من العز والشرف قد حرمها منه.
وإذا كانت هناك وسائل كثيرة لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم والانتصار له ممن سخر أو استهزأ من الكفرة والملحدين، فإن من النصرة التي يقدر عليها كل مسلم، ولا يعذر في التخلف عنها: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وموالاته واتباع سنته، وترك الابتداع في الدين، إذ لا يستقيم أن يكون المسلم ناصرًا حقًا للرسول الكريم في الوقت الذي يعصيه فيه ويخالف سنته، ويبتدع في دينه، أو يوالي أعداءه، ويناصرهم ويقف معهم في ملماتهم، وكيف تكون هناك موالاة بين المسلم وبين الكافر الذي يسخر أو يسب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: "لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [المجادلة:22]
وجوب تعزيره وتوقيره صلى الله عليه وسلم:(2/134)
التعزير النصرة والحماية والتوقير التعظيم والإجلال وكل ذلك يستحقه الرسول الكريم وبذلك أمرنا رب السموات والأرضين قال الله تعالى:"إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً" [الفتح:8-9]، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره يرجع إلى أمرين: أمر إلى صفاته الشخصية وشمائله التي تحلى بها، والتي لا تدع لأحد منصف اطلع عليها إلا محبة هذا الرسول وتوقيره وتعظيمه، وهذه تكون من المسلمين كما تكون من المنصفين من غير المسلمين، وهناك كم كبير من أقوالهم في ذلك، وآخر إلى أمر الله بذلك وإيجابه على المسلمين وهذه يختص بها الذين آمنوا بالله ورسوله، حتى يفديه المؤمن بأبيه وأمه، بل يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من كل شيء فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" ، بل لا بد أن يكون الرسول أحب إلى المسلم من نفسه التي بين جوانحه فيؤثر مرضاة الرسول على ما تطمح إليه نفسه، ويقدم أمره وسنته على محبوباته ورغباته، فعن عبد الله بن هشام قال:"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر:يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر" ، وقد كان المسلمون من محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضون أنفسهم للمهالك والردى في سبيل حفظ الرسول ونجاته فعن أنس رضي الله عنه قال:"لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوب به عليه بحجفة له، وكان أبو طلحة رجلا راميا شديد القد يكسر يومئذ قوسين أو ثلاثًا، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول انثرها لأبي طلحة، فأشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك" ، وإزاء كل ما تقدم لم يكن من المسلمين لرسولهم إلا الحب والإجلال والإكبار والرغبة في فدائه بكل ما يملكون، ولم يكن أحد من أصحابه يطيق أن يسمع شيئًا مما قد يكون فيه أدني نقص من قدره صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"استب رجلان: رجل من المسلمين ورجل من اليهود، قال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش جانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله" فلم يحتمل الصحابي الجليل أن يسمع من اليهودي تفضيل موسى صلى الله عليه وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قصة تبين مدى حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعنه " أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه فأخذ المغول فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا اشهدوا أن دمها هدر " .(2/135)
ولم يكن يتصور أن يقوم أحد ممن آمن به بانتقاصه أو سبه أو السخرية منه أو الاستهزاء به، وقد أجمع علماء المسلمين على أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد من أنبياء الله ورسله أنه مرتد ويجب قتله، كما أن من سبه من أهل العهد والذمة فإن عهده ينتقض بذلك ويجب قتله فإنا لم نعاهدهم على سب رسولنا أو الانتقاص منه، قال محمد بن سحنون:" أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم و المتنقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله له و حكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره و عذابه كفر" وقال ابن تيمية:" و تحرير القول فيه: إن الساب إن كان مسلمًا فإنه يكفر و يقتل بغير خلاف و هو مذهب الأئمة الأربعة و غيرهم و قد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه و غيره، و إن كان ذميًا فإنه يقتل أيضًا في مذهب مالك و أهل المدينة، و سيأتي حكاية ألفاظهم وهو مذهب أحمد و فقهاء الحديث و قد نص أحمد على ذلك في مواضع متعددة قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: [ كل من شتم النبي صلى الله عليه و سلم أو تنقصه ـ مسلمًا كان أو كافرًاـ فعليه القتل و أرى أن يقتل و لا يستتاب" .
وبعد فهل وفيتُ حق الرسول صلى الله عليه وسلم، لا وألف لا، بل ولا قطرة في بحر حقه وفضله، فبأبي أنت وأمي يا رسول الله.
اللهم إنا قد أحببنا نبيك وأصحاب نبيك فاللهم احشرنا في زمرتهم.
---------------
30.مكانة الرسول في القرآن الكريم
د. طلعت عفيفي**
ذكر لنا ربنا في كتابه هذه المنة التي تطوق عنق كل مسلم في كل زمان ومكان، فقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
ومن ثم يؤكد القرآن الكريم على موقع النبي صلى الله عليه وسلم لدى كل مسلم؛ فيقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]. فهو أقرب إلينا من قلوبنا، وأحب إلى نفوسنا من نفوسنا، وهو عند كل مسلم منا أعز لديه، وأغلى من جميع الخلق دونما استثناء، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" [متفق عليه].
نداء متميز
وقد اشتمل القرآن الكريم على الكثير من الإشارات التي تتحدث عن مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم عند ربه، ولا يتسع المجال هنا للتفصيل في كل ما يتعلق بهذا الجانب، ونكتفي بذكر بعض ما ورد بهذا الشأن.
فمثلا من علامات بر الله به وتعظيمه لشأنه أنه جل شأنه نادى جميع الأنبياء بأسمائهم، فقال: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا عيسى، يا زكريا، يا يحيى... إلخ، بينما نادى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله له: يا أيها النبي – يا أيها الرسول – يا أيها المزمل- يا أيها المدثر.
وحين أثنى الله على أنبيائه السابقين بما فيهم من أخلاق كريمة؛ كان يذكر لكل نبي صفات محددة. فقال عن خليله إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} وقال عن إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا} وقال عن موسى: {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا} وقال عن أيوب {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} وحين تحدث عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بين أنه حاز الكمالات كلها فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
رحمة للعالمين
ومن الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم أن كل نبي مبعوثا إلى قومه خاصة؛ وفي القرآن ما يشير إلى هذا. فيقول الله عن عيسى: {وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وعن هود قال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا}... إلخ، في حين أن رسولنا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة في زمانه وفيما بعد زمانه، فهو خاتم النبيين، قال تعال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}. وقال جل ذكره: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.
وفي الحديث الذي رواه الشيخان: "عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وكمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قال فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين" {صححه الألباني}.(2/136)
ومن مظاهر تكريم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما أخذه من العهد على جميع الأنبياء من الإيمان به ونصرة دينه، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}.
ومن مظاهر تكريم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما جاء في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} قال قتادة: "رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس هناك خطيب ولا مستشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ضم الإله اسم النبي إلى اسمه ** إذ قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله ** فذو العرش محمود وهذا محمد
ثناء متتالي
ومن مظاهر تكريم الله تعالى لنبيه وثنائه عليه ما جاء في مطلع سورة النجم مع غيرها من السور حيث أثنى الله على عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} وأثنى على لسانه. فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} وأثنى على جليسه ومعلمه جبريل فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} وأثنى على بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وأثنى على صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وأثنى على أخلاقه كلها فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
ونكتفي بهذا القدر من الإشارات القرآنية على علو مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم وعظيم منزلته عند ربه، فالكلام فيها يطول ويطول.
وقد أشار العلماء رحمهم الله إلى أن خصال الكمال والجلال إذا وقعت منها واحدة أو اثنتان لشخص ما عظم قدره، وضربت باسمه الأمثال، فيقال: أحلم من الأحنف، وأكرم من حاتم، وأذكى من إياس... إلخ.. فكيف بمن عظم قدره حتى اجتمعت فيه كل هذه الخصال؟.
يقول القاضي عياض اليحصبي في كتابه "الشفا بتعريف حقوق المصطفى": "ما ظنك بعظيم قدر من اجتمعت فيه خصال الخير كلها مما لا يحصيه عد، ولا يعبر عنه مقال، ولا ينال بكسب ولا حيلة إلا بتخصيص الكبير المتعال، من فضيلة النبوة والرسالة والخلة والمحبة والاصطفاء والإسراء والرؤية والقرب والدنو والوحي والشفاعة والوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة والمقام المحمود والبراق والمعراج، والبعث إلى الأحمر والأسود، والصلاة بالأنبياء والشهادة بين الأنبياء، وسيادة ولد آدم، والرحمة للعالمين، وشرح الصدور، ورفع الذكر، والتأييد بالملائكة، وإيتاء الكتاب والحكمة، وصلاة الله تعالى والملائكة عليه، ووضع الإصر، والأغلال عن الخلق ببعثه، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير القليل وانشقاق القمر، والنصر بالرعب، والإطلاع على الغيب، وظل الغمام وتسبيح الحصى، والعصمة من الناس، إلى ما لا يحصيه عد ولا يحيط بعلمه إلا الله تعالى إضافة إلى ما أعد الله له في الدار الآخرة من منازل الكرامة، ودرجات القدس، ومراتب السعادة والحسنى والزيادة التي تقف دونها العقول، وتحار دون إدراكها الأفهام" ا. هـ بتصرف.
وصدق من قال:
فإن فضل رسول الله ليس له ** حد فيعرب عنه ناطق بفم
واجب المحب للنبي
ولا يملك المسلم أمام هذا البنيان الشامخ إلا التوقير والإجلال لمقام هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن يقتفي أثر الصحب الكرام الذين تفانوا في حب رسولهم صلى الله عليه وسلم حتى شهد بذلك الأعداء والأصدقاء على السواء. يقول أبو سفيان بن حرب قبل أن يعلن إسلامه: "ما رأيت أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا".
ومن حق هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم علينا أن نقف بالمرصاد لكل من تسول له نفسه النيل من مقامه الشريف بأي لون من الألوان. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا}. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
وقد أدبنا ربنا تبارك وتعالى بأدب المقاطعة، والبغض لأولئك المتطاولين على مقامه الكريم صلى الله عليه وسلم. فقال: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.(2/137)
فليعتذر كل مسلم إلى الله عز وجل عما يقال، أو ينشر في حق نبيه صلى الله عليه وسلم مما لا يليق بمقامه الشريف، وليكن ذلك بصورة عملية تتناسب مع موقع كل منهم ومدى تأثيره، بدءا من إظهار الاحتجاج واستدعاء السفراء ومخاطبة المسئولين في الدول التي تنطلق منها هذه المواقف، ومرورا بالمقاطعة الاقتصادية لسلع ومنتجات تلك الدول، وكل ما في وسع المسلم أن يفعله لنصرة الحبيب المصطفى. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
---------------
31.العظمة المحمدية
محمد بن إبراهيم الحمد *
الحديث عن السيرة النبوية حديث تنشرح له الصدور، وتنطلق له الأسارير، وتخفق له الأفئدة.
كيف لا وهو حديث عن أكرم البشرية، وأزكاها وأبرها، وعظيم لو طالعت كتب التاريخ والسير عربية وغير عربية، وأمعنت النظر في أحوال عظماء الرجال من مبدأ الخليقة إلى هذا اليوم - فإنك لا تستطيع أن تضع يدك على اسم رجل من أولئك العظماء، وتقص علينا سيرته ومزاياه وأعماله الجليلة حديثاً يضاهي أو يداني ما تُحدَّث به عن هذا الرسول العظيم.
وغير خفي على مَنْ يَقْدُر هذا النبي قدره أن ليس في طوق كاتب -ولو ألقت إليها البلاغة أعنتها- تقصي المعاني التي انطوت في هذه السيرة العظيمة.
وإن من يبتغي عظمةَ رجلٍ بحق فليبحث عنها في ناحية عقله، وعلمه، وخلقه، وإخلاصه، وعزمه، وعمله، وحسن بيانه.
ولقد كان محمد -صلى الله عليه وسلم- راجحَ العقل، غزيرَ العلم، عظيم الخلق، شديد الإخلاص، صادق العزم، جليل العمل، رائع البيان.
أما رجحان عقله/ فمن دلائله بعد اختصاص الله له بالرسالة أنه نشأ بين قوم يعبدون الأصنام، ويتنافسون في مظاهر الأبهة والخيلاء، وينحطون في شهواتهم إلى المنزلة السفلى، فلم يكن لهذه البيئة المظلمة من أثر في نفس محمد -صلى الله عليه وسلم- قليل أو كثير؛ فانبذ بين هذه الظلمات المتراكمة مكاناً يخلو فيه بنفسه، ويقدح فيه زناد فكره، ويناجي فيه ربه؛ فإذا نورُ النبوة يتلألأ بين جنبيه، وحكمة الله تتدفق بين شفتيه.
وأما علمه/ فهو ما يزكي النفوس، وينقي الأبصار، ويرفع الأمم إلى ذروة العز والشرف، حتى تحرز الحياة الطيبة في الأولى والسعادة الباقية في الأخرى.
ومَنْ يتدبر القرآنَ والأحاديث الثابتة حتى يتفقه فيما انطويا عليه من حقائق وحكم وآداب -يلف رأسه حياءً من أن ينفي عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عظمة العلم تحت اسم الفلسفة متكئاً على أنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب.
وقد خرج من بين يدي محمد -صلى الله عليه وسلم- رجال عظماء، ولم يتلقوا من العلم غير ما كانوا يتلقونه في مجلسه من حكمته، فكانوا منبع علم وأدب، وأدركوا في حصافة الرأي وقوة الحجة الأمد الأقصى.
وأما خُلقه/ فهذه السيرة المستفيضة في القرآن وعلى ألسنة الرواة وأقلامهم تنطق وتلوح بأنه قد بلغ الذروة في كل خلق كريم، وبَسْطُ القول في هذا الصدد لا يغني فيه سفر، بل أسفار.
وأما إخلاصه/ فقد كان صافي السريرة لا يبغي إلا هدياً، ولا ينوي إلا إصلاحاً، والإخلاص روح العظمة وقطب مدارها.
وأقرب شاهد على إخلاصه في دعوته أنه لم يحد عن سبيل الزهد في هذه الحياة قيد أنملة؛ فعيشه يوم كان يتعبد في غار حراء كعيشه يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر من ناحية تبوك.
وأما صدق عزيمته/ فقد قام -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى العدل ودين الحق ويلقى من الطغاة أذىً كثيراً، فيضرب عنه صفحاً أو عفواً، ويمضي في سبيل الدعوة لا يأخذه يأس، ولا يقعد به ملل، ولا يثنيه جزع، وقد ظهر دين الله وَعَلتْ حكمته بهذا العزم الذي تخمد النار ولا يخمد، وينام المشرفي ولا ينام.
وأما عمله/ فتهجد وصيام، وتشريع وقضاء، ووعظ وإرشاد، وسياسة وجهاد، وهل من سيرة تُبْتَغى لعظمة يرضى عنها الله، ويسعد بها البشر غير هذه السيرة؟
وهل يستطيع أحد أن يدلنا على رجل كان ناسكاً مخلصاً، ومشرعاً حكيماً، وقاضياً عادلاً، ومرشداً ناصحاً، وواعظاً بليغاً، وسياسياً أميناً، ومجاهداً مصلحاً، وفاتحاً ظافراً، وسيداً تذوب في محبته القلوب، غير المصطفى -عليه الصلاة والسلام-؟
وأما حسن بيانه/ فقد أحرز -عليه الصلاة والسلام- من خصلتي الفصاحة والبلاغة الغاية التي ليس وراءها لمخلوق غاية، فانظروا إن شئتم إلى مخاطباته وخطبه وما يضربه من الأمثال، وينطق به من جوامع الكلم تجدوا جزالة اللفظ، ومتانة التركيب، وسهولة المأخذ، إلى رفعة الأسلوب، إلى حكمة المعنى.
عَظَمَةٌ انتظمت من هذه المزايا العالية؛ فبلغت حد الإعجاز، وكل درة في عقد حياة محمد -عليه الصلاة والسلام- معجزة[2].(2/138)
هذا وإن مما يبعث على الأسى، ويدعو إلى الأسف والحسرة ما تناقلته وسائل الإعلام في الأيام الماضية، حيث تناولت ما تبثه صحف الدانمرك والنرويج تلك الصحف التي ما فتئت تنال من مقام النبوة بأسلوب ساخر، ينم عن حقد دفين، وحسد يأكل قلوبهم، ويأبى لها إلا تغالط محل الحقائق، وتتيه في أودية الزور والبهتان؛ ظانين أن ذلك ينزل من مقام النبوة الأعظم فتيلاً أو قطميراً.
وفي تعب من يحسد الشمس نورها ويجهد أن يأتي لها بضريب
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة:32].
ولقد ساء ذلك الفعل الشائن قلوب المسلمين، وتتابعت أقلام الكتاب في رد ذلك الزيف، وإبطال ذلك الكيد؛ فكان من ذلك بعثٌ لفضائل هذا النبي الكريم -عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم-.
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
وفضيلة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تطوَ، وإنما تتجدد، وتتلألأ كالبدر في سماء صاحية، وكالشمس في رأْد الضحى.
ــــــــــــــــ
[1] المقالة مقتطفة من مقدمة لكتاب سيصدر قريباً –بإذن الله- تحت عنوان (نبي الإسلام – مقالات نادرة في السيرة النبوية).
[2] انظر محمد رسول الله وخاتم النبيين للشيخ محمد الخضر حسين5-7، 204-206.
* عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
---------------
32.مع الحبيب صلى الله عليه وسلم
إعداد/ علاء خضر
قال اللَّه عز وجل: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون (156) الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) [الأعراف: 156، 157].
أخلاقه صلى الله عليه وسلم:
عن سعد بن هشام أنه قال لعائشة: يا أم المؤمنين أخبريني عن خلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألست تقرأ القرآن ؟ قال: بلى. قالت: فإن خلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان القرآن. [صحيح مسلم].
صفته صلى الله عليه وسلم:
عن البراء قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها، وأحسنه خلقا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير» [صحيح البخاري].
وعن أنس بن مالك قال: ما مسست بيدي ديباجًا ولا حريرًا ولا شيئًا ألين من كف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا شممت رائحة قط أطيب من ريح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. [صحيح البخاري]
جهاده صلى الله عليه وسلم:
عن سهل بن سعد رضي اللَّه عنه أنه سئل عن جرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووي، قال: كانت فاطمة _ رضي اللَّه عنها بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تغسله وعليُّ يسكب الماء بالمجنَّ. فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم. وكُسرت رباعيته يومئذ، وجُرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه. [صحيح البخاري]
شجاعته صلى الله عليه وسلم:
عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأشجع الناس, أجود الناس. ولقد فزع أهل المدينة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم سبقهم على فرس، وقال: «وجدناه بحرًا».
[صحيح البخاري]
خاتم النبوة:
عن ابن السائب قال: ذهبت بي خالتي إلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه! إن ابن أختي وَجِع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلي خاتمه بين كتفيه، مثل زر الحجلة.[صحيح البخاري]
أسماؤه صلى الله عليه وسلم:
عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، الذي يمحو اللَّه بي الكفر، وأنا الحاشر، الذي يحشر الناس علي قدمي، وأنا العاقب، الذي ليس بعدى نبي".[صحيح البخاري]
حب الصحابة له صلى الله عليه وسلم:
سئل علي بن أبى طالب رضي اللَّه عنه كيف كان حبكم لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ. [الشفا
للقاضي عياض]
جزاء من نال منه صلى الله عليه وسلم:(2/139)
عن المهاجر بن أبي أمية، وكان أميراً على اليمامة ونواحيها - أن امرأتين مغنيتين غنت إحداهما بشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع يدها، ونزع ثنيتها وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها، ونزع ثنيتها، فكتب أبو بكر: بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمَّرت بشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فلولا قد سبقتني فيها لأمرتك بقتلها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر. [الصارم المسلول]
علامة محبته صلى الله عليه وسلم:
قال القاضي عياض: اعلم أن من أحب شيء آثره وآثر موافقته و إلا لم يكن صادقاً في حبه وكان مدعياً، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه وأولها: الإقتداء به واستعمال سنته وإتباع أقواله وأفعاله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران: 31] وإيثار ما شرعه وحض عليه على هوى نفسه وموافقة شهواته. [الشفا للقاضي عياض]
تعظيم سنته صلى الله عليه وسلم:
عن المقدام بن معدي كرب عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه وإن ما حرم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما حرم اللَّه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا أكل ذي ناب من السبع". الحديث. [رواه أبو داود]
ذم من لم يصل عليه صلى الله عليه وسلم:
عن أبى هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذُكرتُ عنده فلم يصل عليَّ، ورغم أنف رجل دخل رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة». [رواه البخاري]
توقير النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته:
قال القاضى عياض: واعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وعترته، وتعظيم أهل بيته وصحابته.
[الشفا القاضى عياض]
حب الصحابة دليل لحب النبي صلى الله عليه وسلم:
عن أيوب السختاني قال: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استضاء بنور اللَّه، ومن أحب علي فقد أخذ بالعروة الوثقى، ومن أحسن الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق، ومن انتقص أحدًا منهم فهو مبتدع مخالف للسنة.[الشفا: القاضى عياض]
من درر العلماء هذا هو المنهج!
قال ابن تيمية: في قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) إلى قوله: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) قال: وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول لله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة، لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون اللَّه ورسوله النصر التام، فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذى اللَّه ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. [الصارم المسلول ص 413/2]
دعوة الأمة إلى نبذ الفرقة:
إن الغضب العارم الذي اجتاح العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها علي الذين استهزءوا بالمصطفى صلى الله عليه وسلم يجعلنا نتساءل: أين نحن من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، لقد تفرقت الأمة إلى فرق وجماعات، كل حزب بما لديهم فرحون، والرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا من الفرقة، كما أخرج ابن ماجه: عن عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار».
قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال: «الجماعة». فإن التوحد الذي حدث للأمة الإسلامية أمام أعدائها دفاعًا عن المصطفى صلى الله عليه وسلم يجعلنا ندعو جميع المسلمين في جميع البلدان الإسلامية إلي نبذ الفرقة والخلافات، والاجتماع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بفهم سلف الأمة رضوان الله عليهم، وأن نلتف حول العلماء الرافعين لواء التوحيد والسنة.
---------------
33.رسولنا الذي لم يعرفوه
إعداد/ اللجنة العلمية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وبعد:(2/140)
فلقد عمد أعداء الإسلام والحاقدون عليه والحاسدون له والكارهون للهدى ودين الحق إلى مهاجمته في جولة جديدة من جولات الظلم والعدوان، والكراهية والبهتان، تمثلت هذه الجولة في الاستهزاء بسيد البشر، سيد ولد آدم، وإن ما فعلوه سيندمون عليه في الدنيا والآخرة ولن ينفعهم الندم، فمن ندمهم في الدنيا؛ تلك المكاسب والمغانم العظيمة للمسلمين التي لا تعدلها الملايين من الأموال، والممثلة في تميز المسلمين بعد ذوبانهم في غيرهم، وانحيازهم إلى نبيهم بعد أن أهملوا كثيرًا من سيرته وسنته، فضلاً عن الحجم الباهظ من المؤلفات والمقالات والرسائل والكتب والإذاعات المرئية والمسموعة والخطب والدروس التي تعرّف بالنبي صلى الله عليه وسلم وتحث الأمة على طاعته واتباع هديه، إضافة إلى ترسيخ الكراهية في قلوب المسلمين تجاه أهل الضلال والانحراف، وشحنها إيمانيًا بتعظيم اللَّه ورسوله، ومعه احتقار الباطل والكفر به، بل من النتائج والمكاسب أيضًا تفتح عيون اللا دينيين والمنصرفين إلى دنياهم ليعرفوا الكثير عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان المجرمون الذين أساءوا للإسلام والمسلمين بالاستهزاء بنبيهم يعلمون أن كل ذلك سيحدث لما فعلوه، ولو أعطيناهم أغلى ما يملكه أهل الإسلام من مال ودنيا، ومن النتائج أيضًا؛ تلك الخسائر الفادحة في اقتصادهم وأموالهم ودنياهم التي هم أحرص الناس عليها، مما يورث الفتن والشحناء بينهم والبأس الشديد، قال تعالى:(تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) [الحشر:14]، ومن النتائج أنهم استجلبوا مزيدًا من سخط اللَّه عليهم وتعجيلاً لتنكيل اللَّه تعالى بهم، (فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) [البقرة]، (فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) [العنكبوت].
عند هذا كله يعرف المسلمون جيدًا ما قاله اللَّه تعالى في أمثال هؤلاء المنحرفين من قبل: (لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) [النور: 11].
إنهم وإن كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم على الإجمال كما أخبر اللَّه تعالى عنهم بقوله: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)، لكنهم لطول الأمد وقسوة القلوب وامتلائها بالحقد والكراهية والتعصب الأعمى البغيض نسوا الجوانب الهامة العظيمة التي أودعها اللَّه تعالى في أخلاق هذا النبي الكريم وشخصيته.
لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين ليبين لهم هدفًا من أهداف بعثته فيقول: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». [السلسلة الصحيحة (54)]، تلك الأخلاق التي يتشدقون بحمايتها ويزعمون كذبًا صيانتها ويسمونها حرية وحضارة، وهم في الحقيقة أعداء الحرية والحضارة، جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليريح المظلومين من شبح العنصرية المبنية على اختلاف الأديان والأوطان والألوان والألسنة، فيعلن النبي وهو عربي للبشرية جمعاء «إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، فلا فضل لعربي على أعجمي ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى». [غاية المرام (803)] ويذيع لهم خبر السماء الذي انطلق منه وبه: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات] ثم يعرفهم الأصل الذي ينتمون إليه ليلتفوا حوله جميعًا: «الناس ولد آدم وآدب من تراب». [السلسلة الصحيحة (9001)] ويزيح ستار الظلم والبغي: «إن اللَّه أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد». [السلسلة الصحيحة (075)]
هذه المعاني وأكثر منها لو ذكرت أمام الغربيين الحاقدين لقالوا نحن الدعاة إليها، بل يحاولون عند احتلالهم لقطر من الأقطار أن يذيعوا ويشيعوا أنهم جاءوا حماة لهذه المبادئ، فكيف لو عرفوا أن الداعية الأول إليها هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بدون احتلال، ولا خداع واحتيال، فمن كان يؤمن بذلك بعد توحيد اللَّه تعالى فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، دمه وماله وعرضه حرام على من طمع فيه.
وهذه نماذج مشرفة ومواقف خالدة لهذا النبي العظيم في معاملة المنافقين وغير المسلمين:
أولها: موقفه صلى الله عليه وسلم من كبير المنافقين ابن سلول لمَّا أهانه:(2/141)
عن أسامة بن زيد رضي اللَّه عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلس فيه عبد اللَّه بن أبي بن سلول، وذلك قبل أن يُسلم عبد اللَّه بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبد اللَّه ابن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خَمَّر عبد اللَّه بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى اللَّه وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد اللَّه بن أبي بن سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقًا، فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد اللَّه بن رواحة: بلى يا رسول اللَّه، فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا سعد، ألم تسمع ما قال أبو حباب؟»- يريد عبد اللَّه بن أبي- قال كذا وكذا. قال سعد بن عبادة: يا رسول اللَّه، اعف عنه واصفح عنه، فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء اللَّه بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما أبى اللَّه ذلك بالحق الذي أعطاك اللَّه شَرِق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صلاته صلى الله عليه وسلم على ابن سلول عند موته وكان قد أسلم:
لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُ النبي قَمِيصَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِيهِ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي عَلَيْهِ فَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِثَوْبِهِ فَقَالَ: تُصَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ مُنَافِقٌ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ؟ قَالَ: «إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَنِي اللَّهُ فَقَالَ: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم. فَقَالَ: سَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ» قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَلَّيْنَا مَعَهُ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون). [رواه البخاري]
وفاء النبي صلى الله عليه وسلم مع من تعاهد معه من المشركين:
قال حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلا الْمَدِينَةَ فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلا نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: «انْصَرِفَا؛ نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ». [مسلم]
ومن وفائه صلى الله عليه وسلم بالعهود مع أهل الذمة من المشركين: ما حدث مع بني عامر:
ذكر الطبري في تاريخه قال: خرج عمرو بن أمية (رجل من المسلمين) حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر (من الكفار) حتى نزلا معه في ظل هو فيه، وكان مع العامريين عقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار لم يعلم به عمرو بن أمية وقد سألهما حين نزلا ممن أنتما؟ فقالا: من بني عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر بما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد قتلت قتيلين، لا دينهما». يعني أن يدفع الدية. [تاريخ الطبري]
والموقف الثالث هنا وفاؤه لقريش بعهدها الذي عاهدته إياه في صلح الحديبية:
قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: آت محمدًا وصالحه، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فو الله لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوة أبدًا. فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً، قال: قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.
فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام، وتراجعا ثم جرى بينهما الصلح.(2/142)
فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب (العهد)، وثب عمر فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى. قال أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى قال أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنِية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله: ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال أو لسنا بالمسلمين؟ قال: بلى. قال أو ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال: "أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني".
وكان عمر رضي الله عنه يقول ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرًا.
قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال: فقال سهل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب «باسمك اللهم» فكتبها، ثم قال: اكتب «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو». فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك. ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا إسلال ولا إغلال، وإنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه".
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.
قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد، قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، فلما رأى سهيل أبا جندل ابنه قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلابيبه وقال: يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال: صدقت فجعل ينتره بتلبيبه ويجره يعني يرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أُرد إلى المشركين يفتنونني في ديني! فزاد ذلك الناس إلى ما بهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم " قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب. قال: ويدني قائم السيف منه. قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه. قال فضن الرجل بأبيه ونفذت القضية.
فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصلح قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فلما رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون. [البداية والنهاية لابن كثير]
منعه صلى الله عليه وسلم الغدر بالكفار:
وكثيرًا ما منع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في كل مواقفهم من الغدر ولو بالمشركين.(2/143)
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا وَلاَ تَغْدِرُوا وَلاَ تَمْثُلُوا وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ أَوْ خِلاَلٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ.
[مسلم]
وينهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والأطفال:
عن نافع أن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه أخبره أن امرأة وُجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان.[البخاري]
عفوه صلى الله عليه وسلم عن أعدائه بعد قدرته عليهم عند فتح مكة وغيرها:
عندما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال: «يا معشر قريش؛ ما ترون أني فاعل فيكم؟» قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». [البداية والنهاية]
وعن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما أخبره أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه فتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر فنزل النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه ثم نام فاستيقظ وعنده رجل وهو لا يشعر به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا اخترط سيفي فقال من يمنعك؟ قلت: اللَّه، فشام السيف فها هو ذا جالس». ثم لم يعاقبه. [البخاري ومسلم]
---------------
34.وداع الرسول لأمته
دروس، وصايا، وعبرٌ، وعظات
تأليف الفقير إلى الله تعالى
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فهذه الرسالة مختصرة في وداع النبي الكريم والرسول العظيم صلّى الله عليه وسلّم لأمته، بينت فيه باختصار: خلاصة نسب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وولادته، ووظيفته، واجتهاده وجهاده، وخير أعماله، ووداعه لأمته في عرفات، ومنى، والمدينة، ووداعه للأحياء والأموات، ووصاياه في تلك المواضع، ثم بداية مرضه، واشتداده، ووصاياه لأمته ووداعه لهم عند احتضاره، واختياره الرفيق الأعلى، وأنه مات شهيداً، ومصيبة المسلمين بموته، وميراثه، ثم حقوقه على أمته، وذكرت الدروس والفوائد والعبر والعظات المستنبطة في آخر كل مبحث من هذه المباحث.
والله أسأل أن يجعله عملاً مقبولاً نافعًا لي ولإخواني المسلمين؛ فإنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وأن يعلمنا جميعًا ما ينفعنا، ويوفق جميع المسلمين إلى الاهتداء بهدي سيد المرسلين. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله وعلى آله و أصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
المؤلف(2/144)
حرر في ليلة الخميس 21/3/1416هـ
المبحث الأول: خلاصة نسبه ووظيفته صلّى الله عليه وسلّم
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كِلاَب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مُضر بن نزار بن معدَ بن عدنان([1])، فهو عليه الصلاة والسلام من قريش، وقريش من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام([2]).
ولد صلّى الله عليه وسلّم عام الفيل بمكة في شهر ربيع الأول([3]) يوم الاثنين([4]) الموافق 571م([5])، وتوفي صلّى الله عليه وسلّم وله من العمر ثلاث وستون سنة، منها: أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبيّاً رسولاً، نُبِّئَ بإقرأ، وأرسل بالمدثر، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة، بعثه الله بالنذارة عن الشرك، ويدعو إلى التوحيد، أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد، وبعد العشر عُرج به إلى السماء، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين، وبعدها أُمِر بالهجرة إلى المدينة، فلما استقر بالمدينة([6]) أُمِر ببقية شرائع الإسلام مثل: الزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، والأذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، أخذ على هذا عشر سنين وبعدها توفي صلّى الله عليه وسلّم، ودينه باقٍ وهذا دينه، لا خير إلا دلَّ أمته عليه، ولا شر إلا حذَّرها منه، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين لا نبي بعده، وقد بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على الجن والإنس، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار([7]).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر والعظات في هذا المبحث كثيرة منها:
1- إن النبي صلّى الله عليه وسلّم خيار من خيار من خيار، فهو أحسن الناس وخيرهم نسباً، وأرجح العالمين عقلاً، وأفضل الخلق منزلة في الدنيا والآخرة، وأرفع الناس ذكراً، وأكثر الأنبياء أتباعاً يوم القيامة.
2- إن إقامة الاحتفالات بمولد النبي صلّى الله عليه وسلّم كل عام في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول بدعة منكرة؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفعل ذلك في حياته، ولم يفعله الصحابة من بعده رضي الله عنهم، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، ومع ذلك فإن تحديد ميلاد النبي باليوم الثاني عشر من ربيع الأول لم يُجْزَم به، وإنما فيه خلاف وحتى ولو ثبت فالاحتفال به بدعة لما تقدم؛ ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد“([8]). وفي رواية لمسلم: ”من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد“([9]).
3- إن وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم هي الدعوة إلى التوحيد، وإنقاذ الناس من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن ظلمات المعاصي والسيئات إلى نور الطاعات والأعمال الصالحات، ومن الجهل إلى المعرفة والعلم، فلا خير إلا دلَّ أمته عليه، ولا شر إلا حذَّرها منه صلّى الله عليه وسلّم.
4- المبحث الثاني: جهاده واجتهاده وأخلاقه
كان صلّى الله عليه وسلّم أسوة وقدوة وإماماً يُقتدى به؛ لقوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}([10])؛ ولهذا كان صلّى الله عليه وسلّم يصلي حتى تفطَّرت قدماه وانتفخت وورمت فقيل له: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ”أفلا أكون عبداً شكوراً“([11]). وكان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، وربما صلى ثلاث عشرة ركعة([12])، وكان يصلي الرواتب اثنتي عشرة ركعة([13]) وربما صلاها عشر ركعات([14])، وكان يصلي الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء الله([15])، وكان يطيل صلاة الليل فربما صلى ما يقرب من خمسة أجزاء في الركعة الواحدة([16])، فكان ورده من الصلاة كل يوم وليلة أكثر من أربعين ركعة منها الفرائض سبع عشر ركعة([17]).
وكان يصوم غير رمضان ثلاثة أيام من كل شهر([18]) ويتحرَّى صيام الاثنين والخميس([19])، وكان يصوم شعبان إلا قليلاً، بل كان يصومه كله([20])، ورغَّب في صيام ست من شوال([21])، وكان صلّى الله عليه وسلّم يصوم حتى يقال: لا يفطر، ويفطر حتى يقال: لا يصوم([22])، وما استكمل شهر غير رمضان إلا ما كان منه في شعبان، وكان يصوم يوم عاشوراء([23])، وروي عنه صوم تسع ذي الحجة([24])، وكان يواصل الصيام اليومين والثلاثة وينهى عن الوصال، وبيَّن أنه صلّى الله عليه وسلّم ليس كأمته؛ فإنه يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه([25])، وهذا على الصحيح: ما يجد من لذة العبادة والأنس والراحة وقرة العين بمناجاة الله تعالى؛ ولهذا قال: ”يا بلال أرحنا بالصلاة“([26])، وقال: ”وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة“([27]).(2/145)
5- وكان يكثر الصدقة، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة حينما يلقاه جبريل عليه الصلاة والسلام([28])؛ فكان يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة؛ ولهذا أعطى رجلاً غنماً بين جبلين فرجع الرجل إلى قومه وقال: يا قومي أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة([29])، فكان صلّى الله عليه وسلّم أكرم الناس، وأشجع الناس([30])، وأرحم الناس وأعظمهم تواضعاً، وعدلاً، وصبراً، ورفقاً، وأناة، وعفواً، وحلماً، وحياءً، وثباتاً على الحق.
6- وجاهد صلّى الله عليه وسلّم في جميع ميادين الجهاد: جهاد النفس وله أربع مراتب: جهادها على تعلم أمور الدين، والعمل به، والدعوة إليه على بصيرة، والصبر على مشاق الدعوة، وجهاد الشيطان وله مرتبتان: جهاده على دفع ما يلقي من الشبهات، ودفع ما يلقي من الشهوات، وجهاد الكفار وله أربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، واليد. وجهاد أصحاب الظلم وله ثلاث مراتب: باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب. فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، وأكمل الناس فيها محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه كمل مراتب الجهاد كله، فكانت ساعاته موقوفة على الجهاد: بقلبه، ولسانه، ويده، وماله؛ ولهذا كان أرفع العالمين ذكراً وأعظمهم عند الله قدراً([31]). وقد دارت المعارك الحربية بينه وبين أعداء التوحيد، فكان عدد غزواته التي قادها بنفسه سبع وعشرون غزوة، وقاتل في تسع منها، أما المعارك التي أرسل جيشها ولم يقدها فيقال لها سرايا فقد بلغت ستة وخمسين سرية([32]).
7- وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس معاملة، فإذا استسلف سلفًا قضى خيراً منه؛ ولهذا جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يتقاضاه بعيراً فأغلظ له في القول، فهم به أصحابه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً“ فقالوا: يا رسول الله: لا نجد إلا سنًّا هو خير من سنّه فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”أعطوه“ فقال الرجل: أوفيتني أوفاك الله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”إن خير عباد الله أحسنهم قضاءً“([33]). واشترى من جابر بن عبد الله رضي الله عنه بعيراً، فلما جاء جابر بالبعير قال له صلّى الله عليه وسلّم: ”أتراني ماكستك“؟ قال: لا يا رسول الله، فقال: ”خذ الجمل والثمن“([34]).
8- وكان صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس خلقاً؛ لأن خلقه القرآن، لقول عائشة رضي الله عنهما: ”كان خلقه القرآن“([35])؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: ”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“([36]).
9- وكان صلّى الله عليه وسلّم أزهد الناس في الدنيا، فقد ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه اضطجع على الحصير فأثَّر في جنبه، فدخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولما استيقظ جعل يمسح جنبه فقال: رسول الله لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”مالي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها“([37]). وقال: ”لو كان لي مثلُ أُحُدٍ ذهباً ما يَسُرُّني أن لا يمر عليَّ ثلاثٌ وعندي منه شيء، إلا شيءٌ أرصُدُهُ لدين“([38]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام حتى قبض"([39]). والمقصود أنهم لم يشبعوا ثلاثة أيام بلياليها متوالية، والظاهر أن سبب عدم شبعهم غالباً كان بسبب قلة الشيء عندهم على أنهم قد يجدون ولكن يؤثرون على أنفسهم([40])؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير"([41]). وقالت: "ما أكل آل محمد صلّى الله عليه وسلّم أُكلتين في يوم إلا إحداهما تمر"([42]). وقالت: "إنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أُوقدت في أبيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار. فقال عروة: ما كان يقيتكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء"([43]). والمقصود بالهلال الثالث: وهو يُرى عند انقضاء الشهرين. وعن عائشة رضي الله عنهما قالت: ”كان فراشُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أدَم وحشوُهُ ليفٌ“([44]). ومع هذا كان يقول صلّى الله عليه وسلّم: ”اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتاً“([45]).
10- وكان صلّى الله عليه وسلّم من أورع الناس؛ ولهذا قال: ”إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي أو في بيتي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها“([46]). وأخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”ِكَخْ ِكَخْ ارمِ بها أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة“؟([47]).(2/146)
11- ومع هذه الأعمال المباركة العظيمة فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا، وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل“ وكان آلُ محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا عَمِلُوا عملاً أثبتوه([48]). ”وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا صلى صلاة داوم عليها“([49]). وقد تقالَّ عبادة النبي صلّى الله عليه وسلّم نفر من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: وأين نحن من النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال بعضهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال بعضهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال بعضهم: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً [وقال بعضهم: لا آكل اللحم] فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فجاء إليهم فقال: ”أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم الله أتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني“([50]). والمراد بالسنة الهدي والطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره. ومع هذه الأعمال الجليلة فقد كان يقول عليه الصلاة والسلام: ”سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله“ قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ”ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل“. وفي رواية: ”سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيءٌ من الدُّلجة، والقَصْدَ القَصْدَ تبلغوا“([51]). وكان يقول: ”يا مقلّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك“([52]). ويقول: ”اللهم مصرِّف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك“([53]).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر والعظات في هذا المبحث كثيرة منها:
1. إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قدوة كل مسلم صادق مع الله تعالى في كل الأمور؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}([54]).(2/147)
2. إن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحسن الناس خَلْقاً، وخُلُقاً، وألينهم كفّاً، وأطيبهم ريحاً، وأكملهم عقلاً، وأحسنهم عشرة، وأعلمهم بالله وأشدهم له خشية([55])، وأشجع الناس، وأكرم الناس، وأحسنهم قضاء، وأسمحهم معاملة، وأكثرهم اجتهاداً في طاعة ربه، وأصبرهم وأقواهم تحمّلاً، وأشدهم حياء، ولا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، ولكنه إذا انتُهِكت حرمات الله، فإنها ينتقم الله تعالى، وإذا غضب الله لم يقم لغضبه أحد، والقوي والضعيف، والقريب والبعيد، والشريف وغيره عنده في الحق سواء، وما عاب طعاماً قطاً إن اشتهاه أكله، وإن لم يشتهه تركه، ويأكل من الطعام المباح ما تيسر ولا يتكلف في ذلك، ويقبل الهدية ويكافئ عليها، ويخصف نعليه ويرقع ثوبه، ويخدم في مهنة أهله، ويحلِبُ شاته، ويخدِمُ نفسه، وكان أشد الناس تواضعاً، ويجيب الداعي: من غني أو فقير، أو دنيء أو شريف، وكان يحب المساكين ويشهد جنائزهم ويعود مرضاهم، ولا يحقر فقير لفقره، ولا يهاب مَلكاً لملكه، وكان يركب الفرس، والبعير، والحمار، والبغلة، ويردف خلفه، ولا يدع أحداً يمشي خلفه([56]). وخاتمه فضة وفصه منه، يلبسه في خنصره الأيمن وربما يلبسه في الأيسر، وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وقد آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض، ولكنه اختار الآخرة، وكان يكثر الذكر، دائم الفكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ويحب الطيب ولا يرده، ويكره الروائح الكريهة، وكان أكثر الناس تبسماً، وضحك في أوقات حتى بدت نواجذه([57]) ويمزح ولا يقول إلا حقّاً، ولا يجفو أحداً، ويقبل عذر المعتذر إليه، وكان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقهن، ويتنفس في الشرب ثلاثاً خارج الإناء، ويتكلم بجوامع الكلام، وإذا تكلم تكلَّم بكلام بيِّنٍ فَصْلٍ، يحفظه من جلس إليه، ويعيد الكلام ثلاثاً إذا لم تفهم حتى تُفهم عنه، ولا يتكلم من غير حاجة، وقد جمع الله له مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، فكانت معاتبته تعريضاً، وكان يأمر بالرفق ويحثّ عليه، وينهي عن العنف، ويحث على العفو والصفح، والحلم، والأناة، وحسن الخلق ومكارم الأخلاق، وكان يحب التيمن في طهوره وتنعُّله، وترجُّله، وفي شأنه كله، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى، وإذا اضطجع اضطجع على جنبه الأيمن، ووضع كفه اليمنى تحته خده الأيمن، وإذا عرَّس([58]) قُبيل الصبح نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه، وكان مجلسه: مجلس علم، وحلم، وحياء، وأمانة، وصيانة، وصبر، وسكينة، ولا ترفع فيه الأصوات، ولا تنتهك فيه الحرمات، يتفاضلون في مجلسه بالتقوى، ويتواضعون، ويًوقِّرون الكبار، ويرحَمُون الصغار، ويؤثرون المحتاج، ويخرجون دعاة إلى الخير، وكان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، وكان يمشي مع الأرملة والمسكين، والعبد، حتى يقضي له حاجته. ومر على الصبيان يلعبون فسلَّم عليهم، وكان لا يصافح النساء غير المحارم. وكان يتألف أصحابه ويتفقدهم، ويكرم الكريم كل قوم، ويقبل بوجهه وحديثه على من يحادثه، حتى على أشرِّ القوم يتألفهم بذلك، ولم يكن فاحشاً ولا متفحشأ ولا صخَّاباً([59])، ولا يجزي بالسيئة السيئة بل يعفو ويصفح ويحلم، ولم يضرب خادماً ولا امرأة ولا شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى، وما خُيِّر بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه.
وقد جمع الله له كمال الأخلاق ومحاسن الشيم وآتاه من العلم والفضل وما فيه النجاة والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة ما لم يؤت أحداً من العالمين، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا معلم له من البشر، واختاره الله على جميع الأولين والآخرين، وجعل دينه للجن والناس أجمعين إلى يوم الدين، فصلوات الله وسلامه عليه صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين؛ فإن خلقه كان من القرآن.
فينبغي الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم والتأسي في جميع أعماله، وأقواله، وجده واجتهاده، وجهاده، وزهده، وورعه، وصدقه وإخلاصه، إلا في ما كان خاصّاً به، أو ما لا يُقدر على فعله؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا([60])“([61])؛ ولقوله: ”ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم“([62]).
المبحث الثالث: خير أعماله وخواتمها
كان صلّى الله عليه وسلّم إذا عمل عملاً أثبته وداوم عليه؛ ولهذا قال: ”إن أحب الأعمال إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبه وإن قل“([63]). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ”كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً، وكان يعرض عليه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قُبض فيه عرض القرآن مرتين“([64]).(2/148)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر القول قبل أن يموت: ”سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك“. قالت: قلت: يا رسول الله، ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها تقولها؟ قال: ”جُعلت لي علامةٌ في أمتي إذا رأيتها قلتها {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}([65]). وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما لعمر عن هذه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إنها: أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه إياه، فقال: ما أعلم منها إلا ما تعلم“([66]). وقيل: نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} يوم النحر والنبي صلّى الله عليه وسلّم في منى بحجة الوداع([67])، وقيل: نزلت أيام التشريق([68])، وعند الطبراني أنها لما نزلت هذه السورة أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدَّ ما كان اجتهاداً في أمر الآخرة([69])؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ”سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي“ يتأول القرآن([70]). ومعنى ذلك أنه يفعل ما أمر به فيه وهو قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}([71]).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستنبطة من هذا المبحث كثيرة، ومنها:
1 ـ الحث على المداومة على العمل الصالح، وأن قليلاً دائماً خير من كثير منقطع؛ لأن بدوام العمل الصالح القليل تدوم الطاعة والذكر، والمراقبة، والنية، والإخلاص، والإقبال على الخالق، والقليل الدائم يثمر؛ لأنه يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة([72]).
2 ـ من أجهد نفسه في شيء من العبادات لا يطيق العمل به خُشِيَ عليه أن يمل فيفضي ذلك إلى تركه([73]).
3 ـ الإنسان المسلم كلما تقدم في العمر اجتهد في العمل على حسب القدرة والطاقة، ليلقى الله على خير أحواله؛ ولأن الأعمال بالخواتيم، وخير الأعمال الصالحة خواتيمها([74]).
المبحث الرابع: وداعه لأمته ووصاياه في حجة الوداع
1 ـ أذانه في الناس بالحج:
1 ـ بعد أن بلَّغ صلّى الله عليه وسلّم البلاغ المبين وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، أعلن في الناس وأذَّن فيهم وأعلمهم أنه حاج في السنة العاشرة – بعد أن مكث في المدينة تسع سنين كلها معمورة بالجهاد والدعوة والتعليم – وبعد هذا النداء العظيم الذي قصد به صلّى الله عليه وسلّم إبلاغ الناس فريضة الحج، ليتعلموا المناسك منه صلّى الله عليه وسلّم؛ وليشهدوا أقواله، وأفعاله، ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب، وتشيع دعوة الإسلام، وتبلغ الرسالة القريب والبعيد([75]). قال جابر رضي الله عنه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكث تسع سنين لم يحج ثم أذَّن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجٌّ، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعمل مثل عمله... وساق الحديث وفيه: حتى إذا استوت به ناقته على البيداء([76]) نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك([77])، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن وهو يعلم تأويله وما عمل به من شيء عملنا به... وساق الحديث وقال: حتى إذا أتى عرفة فوجد القبة قد ضُرِبت له بنمرة فنزل بها.
2 ـ وداعه ووصيته لأمته في عرفات:
قال جابر رضي الله عنه: حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: ”إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع([78]) ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دمٍ أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله([79]) فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله([80]) ولكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم([81]) أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرِّح([82]) ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله([83])، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون“؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت. فقال بإصبعه السبَّابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ”اللهم اشهد، اللهم اشهد“ ثلاث مرات([84]). وقد كان في الموقف جمٌّ غفير لا يُحصي عددها إلا الله تعالى([85]).(2/149)
وأُنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم عرفة يوم الجمعة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}([86]) وهذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الجن والإنس فلا حلال إلا ما أحلَّه، ولا حرام إلا ما حرَّمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق، لا كذب فيه ولا خلف، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً}([87]) أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي، فلما أكمل الله لهم الدين تمت عليهم النعمة([88]).
وقد ذُكر أن عمر بكى عندما نزلت هذه الآية في يوم عرفة، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أُكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص([89])، وكأنه رضي الله عنه توقع موت النبي صلّى الله عليه وسلّم قريباً.
3 ـ وداعه ووصيته لأمنه عند الجمرات:
قال جابر رضي الله عنه: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: ”لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلِّي لا أحُجُّ بعد حجتي هذه“([90]).
وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت: حججت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة... فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قولاً كثيراً ثم سمعته يقول: ”إن أُمِّر عليكم عبد مجدَّع أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا“([91]).
4 ـ وصيته ووداعه لأمته يوم النحر:
عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قعد على بعيره وأمسك إنسان بحطامه – أو بزمامه – وخطب الناس فقال: ”أتدرون أيُّ يوم هذا“؟ قالوا: الله ورسوله أعلم [فسكت] حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: ”أليس بيوم النحر“؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: ”فأي شهر هذا“؟ قلنا: الله ورسوله أعلم [فسكت] حتى ظننا أنه سيسمه بغير اسمه، فقال: ”أليس بذي الحجة“؟ قلنا بلى يا رسول الله. قال: ”فأي بلد هذا“؟ قلنا الله ورسوله أعلم [فسكت] حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: ”أليست البلدة الحرام“؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ”فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا [وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعوا بعدي كفاراً [أو ضُلاَّلاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد [منكم] الغائب [فَرُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامع] ألا هل بلَّغت [ثم انكفأ([92]) إلى كبشين أملحين فذبحهما..“([93]) قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته فليبلغ الشاهد الغائب([94]).
وسكوته صلّى الله عليه وسلّم بعد كل سؤال من هذه الأسئلة الثلاثة كان لاستحضار فهومهم، وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه([95]).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "وقف النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم النحر بين الجمرات... وقال: ”هذا يوم الحج الأكبر“ وطَفِق([96]) النبي يقول: ”اللهم اشهد“ وودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع"([97]).
وقد فتح الله أسماع جميع الحجاج بمنى حتى سمعوا خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم النحر، هذا من معجزاته أن بارك في أسماعهم وقوَّاها حتى سمعها القاضي الداني حتى كانوا يسمعون وهم في منازلهم([98]). فعن عبد الرحمن بن معاذ التيمي رضي الله عنه قال: "خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن بمنى فَفُتِحت أسماعُنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا.."([99]).
5 ـ وصيته صلّى الله عليه وسلّم لأمته في أوسط أيام التشريق:(2/150)
وخطب صلّى الله عليه وسلّم الناس في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة وهو ثاني أيام التشريق ويقال له: يوم الرؤوس؛ لأن أهل مكة يسمونه بذلك؛ لأكلهم رؤوس الأضاحي فيه، وهو أوسط أيام التشريق([100])، فعن أبي نجيح عن رجلين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهما من بني بكر، قالا: رأينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته، وهي خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التي خطب([101]) بمنى([102])، وعن أبي نضرة قال: حدثني من سمع خطبة النبي صلّى الله عليه وسلّم وسْطَ أيام التشريق فقال: ”يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت“؟ قالوا: بلَّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم قال: ”أي يوم هذا“؟ قالوا: يوم حرام. ثم قال: ”أيُّ شهر هذا“؟ قالوا: شهر حرام. ثم قال: ”أي بلد هذا“؟ قالوا: بلد حرام. قال: ”فإن الله قد حرَّم بينكم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، أبلغت“؟ قالوا بلَّغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: ”ليبلغ الشاهد الغائب“([103]).
وهناك جمل من خطبه صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع في الأماكن المقدسة منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس في حجة الوداع فقال: ”إن الشيطان قد يئس أن يُعبد بأرضكم ولكن رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنة نبيه...“ الحديث([104]). وحديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو يخطب الناس على ناقته الجدعاء في حجة الوداع يقول: ”يا أيها الناس أطيعوا ربكم، وصلّوا خمسكم، وأدّوا زكاة أموالكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم“([105]).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستنبطة من هذا المبحث كثيرة، ومنها:
1 ـ إن كل من قدم المدينة إجابة لأذان النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحج فقد حج مع النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لقول جابر رضي الله عنه: "فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتمَّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويعمل مثل عمله"([106]).
2 ـ استحباب نزول الحاج إلى عرفات بعد زوال الشمس إن تيسر ذلك.
3 ـ استحباب خطبة الإمام بالحجاج بعرفات، يبين فيها للناس ما يحتاجون إليه، ويعتني ببيان التوحيد، وأصول الدين، ويحذر فيها من الشرك والبدع والمعاصي، ويوصي الناس بالعمل بالكتاب والسنة.
وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب في حجة الوداع ثلاث خطب: خطبة يوم عرفة، والخطبة الثانية يوم النحر في منى، والخطبة الثالثة في منى يوم الثاني عشر من ذي الحجة. ومذهب الشافعي أن الإمام يخطب يوم السابع من ذي الحجة كذلك([107])، ويعلم الإمام الناس في كل خطبة ما يحتاجون إليه إلى الخطبة لأخرى.
4 ـ تأكيد غلظ تحريم الدماء، والأعراض، والأموال، والأبشار الجلدية.
5 ـ استخدام ضرب الأمثال وإلحاق النظير بالنظير؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا“.
6 ـ إبطال أفعال الجاهلية، وربا الجاهلية، وأنه لا قصاص في قتلى الجاهلية.
7 ـ إن الإمام ومن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يجب أن يبدأ بنفسه وأهله؛ لأنه أقرب لقبول قوله، وطيب نفس من قرب عهده بالإسلام.
8 ـ الموضوع من الربا هو الزائد على رأس المال، أما رأس المال فلصاحبه.
9 ـ مراعاة حق النساء، ومعاشرتهن بالمعروف، وقد جاءت أحاديث كثيرة بذلك جمعها النووي أو معظمها في رياض الصالحين.
10 ـ وجوب نفقة الزوجة وكسوتها، وجواز تأديبها إذا أتت بما يقتضي التأديب لكن بالشروط والضوابط التي جاءت بالكتاب والسنة، وأن لا يحصل منكر من أجل ذلك التأديب.
11 ـ الوصية بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
12 ـ قوله: ”لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه“ ففي ذلك لام الأمر، والمعنى خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره: هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال، والأفعال، والهيئات هي أمور الحج وصفته وهي مناسككم فخذوها عني واقبلوها، واحفظوها واعملوا بها، وعلموها الناس، وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحج، فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”صلوا كما رأيتموني أصلي“([108]).
13 ـ وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”لعلي لا أحج بعد حجتي هذه“ إشارة إلى توديعهم، وإعلامهم بقرب وفاته صلّى الله عليه وسلّم، وحثهم على الأخذ عنه، وانتهاز الفرصة وملازمته، وبهذا سميت حجة الوداع.(2/151)
14 ـ الحث على تبليغ العلم ونشره، وأن الفهم ليس شرطاً في الأداء، وأنه قد يأتي في الآخر من يكون أفهم ممن تقدم ولكن بقلة، وأن الأفضل أن يكون الخطيب على مكان مرتفع؛ ليكون أبلغ في سماع الناس ورؤيتهم له.
15 ـ استخدام السؤال ثم السكوت والتفسير يدل على التفخيم، والتقرير والتنبيه.
16 ـ الأمر بطاعة ولي الأمر مادام يقود الناس بكتاب الله تعالى، وإذا ظهرت منه بعض المعاصي والمنكرات، وُعِظَ وَذُكِّر بالله وخُوِّف به لكن بالحكمة والأسلوب الحسن.
17 ـ الوصية بطاعة الله، والصلاة، والزكاة، والصيام، وأنه لا فرق بين أصناف الناس إلا بالتقوى.
18 ـ معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم الظاهرة الدالة على صدقه، وذلك بسماع الناس لخطبته يوم النحر وهم في منازلهم([109]) فقد فتح الله لأسماعهم كلهم لها.
19 ـ الضحية سنه مؤكدة على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهي في حق الحاج وغير الحاج فلا يجزئ عنها الهدي، وإنما هي سنة مستقلة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن خطب الناس بمنى انقلب فذبح كبشين أملحين([110]) وهذا غير الهدايا التي نحرها بيده وأشرك عليّاً في الهدي وأمره بنحر الباقي من البدن.
المبحث الخامس: توديعه للأحياء والأموات
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما كان ليلتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: ”السلام عليكم دار قول مؤمنين، وآتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد“([111]). وفي رواية أنه قال صلّى الله عليه وسلّم: ”فإن جبريل أتاني.. فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم“ قالت عائشة: يا رسول الله، كيف أقول لهم؟ قال: ”قولي: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون“([112]).
وقد ذكر الإمام الأبي رحمه الله تعالى أن خروجه هذا كان في آخر عمره صلّى الله عليه وسلّم([113]) وهذا والله أعلم يدل على توديعه للأموات كما فعل مع شهداء أحد؛ ولهذا والله أعلم كان يخرج في الليل ويقف في البقيع يدعو لهم كما قالت عائشة رضي الله عنها: ”ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات ثم انحرف...“([114]).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج يوماً فصلى على قتلى أُحد صلاة الميت([115]) بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع علي المنبر فقال: ”إني بين أيديكم فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن مقامي هذا، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي([116])، ولكني أخاف عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها [وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم] قال عقبة: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [على المنبر]“([117]).
فتوديعه صلّى الله عليه وسلّم للأحياء ظاهر؛ لأن سياق الأحاديث يشعر أن ذلك كان آخر حياته صلّى الله عليه وسلّم، وأما توديعه للأموات فباستغفاره لأهل البقيع ودعائه لأهل أحد، وانقطاعه بجسده عن زيارتهم([118]).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستنبطة من هذا المبحث كثيرة، منها:
1 ـ حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على نفع أمته، والنصح لهم في الحياة، وبعد الممات؛ ولهذا صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنوات، وزار أهل البقيع ودعا لهم، وأوصى الأحياء ونصحهم، ووعظهم وأمرهم ونهاهم فما ترك خيراً إلا دلهم عليه، ولا شرًا إلا حذرهم منه.
2 ـ التحذير من فتنة زهرة الدنيا لمن فتحت عليه، فينبغي له أن يحذر سوء عاقبتها، ولا يطمئن إلى زخارفها، ولا ينافس غيره فيها، ويستخدم ما عنده منها في طاعة الله تعالى([119]).
المبحث السادس: بداية مرضه صلّى الله عليه وسلّم وأمره لأبي بكر أن يصلي بالناس(2/152)
رجع صلّى الله عليه وسلّم من حجة الوداع في ذي الحجة فأقام بالمدينة بقية الشهر، والمحرم، وصفراً، وجهز جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه، فبينما الناس على ذلك ابتدئ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشكواه في ليال بقين من صفر: قيل في الثاني والعشرين منه، وقيل: في التاسع والعشرين، وقيل: بل في أول شهر ربيع الأول، وقد صلى على شهداء أحد فدعا لهم كما تقدم، وذهب إلى أهل البقيع وسلم عليهم ودعا لهم مودعاً لهم، ثم رجع مرة من البقيع فوجد عائشة وهي تشتكي من صداع برأسها وهي تقول: وارأساه. فقال: ”بل أنا والله يا عائشة وارأساه“. قالت عائشة رضي الله عنها: ثم قال: ”وما ضرك لو مت قبلي فقمت عليك وكفنتك، وصليت عليك، ودفنتك“ قالت: قلت: والله لكأني بك لو قد فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك. قالت: ”فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم“([120]) وتتام به وجعه حتى استعزبه([121]) وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتي([122]).
وأول ما اشتدَّ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه في بيت ميمونة رضي الله عنها فاستأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها([123])، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتي فأذنَّ له فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر([124]) وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما دخل بين واشتد به وجعه قال: ”هَرِيقوا([125]) عليَّ من سبع قرب([126]) لم تُحْلَلْ أوكيتهن لعلي أعهد([127]) إلى الناس، فأجلسناه في مِخضَب([128]) لحفصة زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم طفقنا([129]) نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن، ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم“([130]).
وعنها رضي الله عنها قالت: "ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ”أصلى الناس“؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! قال: ”ضعوا لي ماء في المخضب“ قالت: ففعلنا. فاغتسل فذهب لينوءَ([131]) فأُغمي عليه، ثم أفاق فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”أصلى الناس“؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: ”ضعوا لي ماء في المخضب“ قالت: ففعلنا [فقعد] فاغتسل. ثم ذهب لينوء فأُغمي عليه. ثم أفاق فقال: ”أصلى الناس“؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: ”ضعوا لي ماء في المخضب“ ففعلنا [فقعد] فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: ”أصلى الناس“؟ فقلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله! قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلّى الله عليه وسلّم لصلاة العشاء الآخرة، قالت: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أبي بكر؛ ليصلي بالناس، فأتاه الرسول([132]) فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك أن تصلي بالناس. فقال أبو بكر – وكان رجلاً رقيقاً – يا عمر! صلِّ بالناس. فقال له عمر: أنت أحقُّ بذلك. قالت: فصلَّى بهم أبو بكر تلك الأيام. ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد من نفسه خِفَّة فخرج بين رجلين – أحدهما العباس([133])– لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يتأخر، وقال لهما: ”أجلساني إلى جنبه“ فأجلساه إلى جنب أبي بكر، فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم يأتم بصلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلّى الله عليه وسلّم قاعد“([134]). وهذا صريح في أن هذه الصلاة هي صلاة الظهر([135]). وقد كان صلّى الله عليه وسلّم حريصاً على أن يكون أبو بكر هو الإمام وردد الأمر بذلك مراراً، فمن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثَقُل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: ”مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس“ فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف([136]) وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر؟ فقال: ”مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس“ قالت: فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر، فقالت له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إنكنَّ لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس“ فقالت حفصة لعائشة: [ما كنت لأصيب منك خيراً]. قالت عائشة: فأمروا أبا بكر يصلي بالناس فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض، حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”قم مكانك“ فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر“([137]).(2/153)
والسبب الذي جعل عائشة رضي الله عنها تراجع النبي صلّى الله عليه وسلّم في إمامة أبي بكر بالصلاة هو ما بيَّنَتْه في رواية أخرى قالت رضي الله عنها: ”لقد راجعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً، ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أبي بكر“([138])؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم لها ولحفصة: ”إنكن لأنتن صواحب يوسف“([139]).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وتقديمه صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر معلوم بالضرورة من دين الإسلام وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة، وأقرؤهم لما ثبت في الصحيح: ”يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله..“([140]) الحديث. نعم قد اجتمعت في أبي بكر هذه الصفات رضي الله عنه...([141]).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها:
1 ـ استحباب زيارة قبور الشهداء بأحد وقبور أهل البقيع والدعاء لهم بشرط عدم شد الرحال، وعدم إحداث البدع.
2 ـ جواز تغسل الرجل زوجته وتجهيزها والزوجة كذلك.
3 ـ جواز استئذان الرجل زوجاته أن يُمرِّض في بيت إحداهن كان الانتقال يشق عليه، وإذا لم يأذنَّ فحينئذ يقرع بينهن.
4 ـ جواز المرض والإغماء على الأنبياء بخلاف الجنون فإنه لا يجوز عليهم؛ لأنه نقص، والحملة من مرض الأنبياء؛ لتكثير أجرهم، ورفع درجاتهم، وتسلية الناس بهم؛ ولئلا يفتتن الناس بهم فيعبدونهم؛ لما يظهر على أيديهم من المعجزات والآيات البينات، وهم مع ذلك لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً إلا ما شاء الله.
5 ـ استحباب الغسل من الإغماء؛ لأنه ينشط ويزيل أو يخفف الحرارة.
6 ـ إذا تأخر الإمام تأخراً يسيراً ينتظر، فإذا شق الانتظار صلى أعلم الحاضرين.
7 ـ فضل أبي بكر وترجيحه على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وتنبيهه وتنبيه الناس أنه أحق بالخلافة من غيره؛ لأن الصلاة بالناس للخليفة؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم قالوا: ”رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا“.
8 ـ إذا عرض للإمام عارض أو شغل بأمر لا بد منه منعه من حضور الجماعة فإنه يستخلف من يصلي بهم ويكون أفضلهم.
9 ـ فضل عمر رضي الله منه؛ لأن أبا بكر وثق به، ولهذا أمره أن يصلي ولم يعدل إلى غيره.
10 ـ جواز الثناء والمدح في الوجه لمن أُمِنَ عليه الإعجاب والفتنة؛ لقول عمر رضي الله عنه: ”أنت أحق بذلك“.
11 ـ دفع الفضلاء الأمور العظيمة عن أنفسهم إذا كان هناك من يقول بها على وجه مقبول.
12 ـ يجوز للمستخلف في الصلاة ونحوها أن خلف غيره من الثقات لقول أبي بكر: ”صلِّ يا عمر“.
13 ـ الصلاة من أهم ما يسأل عنه.
14 ـ فضل عائشة رضي الله عنها على جميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم الموجودات ذلك الوقت وهن تسع إحداهن عائشة رضي الله عنهن.
15 ـ جواز مراجعة ولي الأمر على سبيل العرض والمشاورة والاستشارة بما يظهر أنه مصلحة، لكن بعبارة لطيفة تحمل الحكمة وحسن الأسلوب.
16 ـ جواز وقوف المأموم بجنب الإمام لحاجة أو مصلحة: كإسماع المأمومين التكبير في الجم الغفير الذين لا يسمعون الصوت، أو ضيق المكان، أو علة أخرى كصلاة المرأة بالنساء، أو المنفرد مع الإمام، أو إمام العراة.
17 ـ جواز رفع الصوت بالتكبير فينقل المبلغ للناس صوت الإمام إذا لم يسمع الناس تكبير الإمام.
18 ـ التنبيه على الحرص على حضور الصلاة مع الجماعة إلا عند العجز التام عن ذلك.
19 ـ الأعلم والأفضل أحق بالإمامة من العالم والفاضل.
20 ـ إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالساً صلي الناس جلوساً، وإذا صلى قائماً صلوا قياماً.
21 ـ البكاء في الصلاة من خشية الله لا حرج فيه لكن لا يتكلف ذلك ولا يطلبه، فإذا غلبه البكاء في الصلاة بدون اختياره فلا حرج([142]).
المبحث السابع: خطبته العظيمة ووصيته للناس(2/154)
خطب عليه الصلاة والسلام أصحابه في يوم الخميس قبل أن يموت بخمسة أيام خطبة عظيمة بيَّن فيها فضل الصدِّيق من سائر الصحابة، مع ما قد كان نص عليه أن يؤم الصحابة أجمعين، ولعل خطبته هذه كانت عوضاً أراد يكتبه في الكتاب، وقد اغتسل عليه الصلاة والسلام بين يدي هذه الخطبة العظيمة، فصبوا عليه من سبع قرب لم تُحلل أوكيتهن، وهذا من باب الاستشفاء بعدد السبع كما وردت به الأحاديث([143]) والمقصود أنه صلّى الله عليه وسلّم اغتسل ثم خرج وصلى بالناس ثم خطبهم. قال جندب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ”إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل([144])؛ فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك“([145]). وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ”إن الله خيَّر عبداً بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عند الله“، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: فديناك بآبائنا وأُمهاتنا، فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عبدٍ خيَّرَه الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو [العبد] المخيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”[يا أبا بكر لا تبكي] إن من أمنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله([146]) أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أُخوَّةُ الإسلام، ومودته، لا يَبْقَينَّ في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر“([147]).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها:
1 ـ أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بسد الأبواب إلا باب أبي بكر من جملة الإشارات التي تدل على أنه هو الخليفة.
2 ـ فضل أبي بكر رضي الله عنه وأنه أعلم الصحابة رضي الله عنهم، ومن كان أرفع في الفهم استحق أن يطلق عليه أعلم، وأنه أحب الصحابة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
3 ـ الترغيب في اختيار ما في الآخرة على ما في الدنيا، وأن الرغبة في البقاء في الدنيا وقتاً من الزمن إنما هي للرغبة في رفع الدرجات في الآخرة وذلك بالازدياد من الحسنات لرفع الدرجات.
4 ـ شكر المحسن والتنويه بفضله وإحسانه والثناء عليه؛ لأن من لم يشكر الناس لا يشكر الله تعالى.
5 ـ التحذير من اتخاذ المساجد على القبور وإدخال القبور في المساجد أو وضع الصور فيها، ولعن من فعل ذلك، وأنه من شرار الخلق عند الله كائناً من كان([148]).
6 ـ حب الصحابة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أكثر من النفس والولد والوالد والناس أجمعين ولهذا يفدونه بآبائهم وأمهاتهم.
المبحث الثامن: اشتداد مرضه صلّى الله عليه وسلّم ووصيته في تلك الشدة(2/155)
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات([149]) وينفث فلما اشتد [الذي توفي فيه] كنت أقرأ [وفي رواية أنفث] عليه بهن وأمسح بيده نفسه رجاء بركتها. قال ابن شهاب: ”ينفث على يديه ثم يمسح يهما وجهه“([150]). وفي صحيح مسلم قالت: ”كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي“([151]). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: اجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يغادر منهن امرأة فجاءت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: ”مرحباً بابنتي“ فأجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم إنه أسرَّ إليها حديثاً فبكت فاطمة. ثم إنه سارّها فضحكت أيضاً، فقلتُ لها ما يبكيك؟ فقالت: ما كنتُ لأفشي سرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حُزْنٍ، فقلت حين بكت أخصَّك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحديثه دوننا ثم تبكين؟ وسألتها عما قال: فقالت: ما كنت لأفشي سرَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت: عزمتُ عليك بمالي من الحق لما حدثتيني ما قال لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالت: أما الآن فنعم: أما حين سارَّني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن كل عام مرة وإنه عارضه به في العام مرتين ولا أُراني([152]) إلا قد حضر أجلي فاتقي الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: ”يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة“؟ قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت"([153]) وفي رواية: ”فأخبرني أني أول من يتبعه من أهله فضحكت“([154]).
وسبب ضحكها رضي الله عنها أنها سيدة نساء المؤمنين، وأول من يلحق به من أهله، وسبب الكباء أنه أخبرها بموته صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وروى النسائي في سبب الضحك الآمرين"([155]) أي بشارتها بأنها سيد ة نساء هذه الأمة، وكونها أول من يلحق به من أهله. وقد اتفقوا على أن فاطمة رضي الله عنها أول من مات من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بعده حتى من أزواجه([156]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت أحداً أشدَّ عليه الوجع([157]) من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم"([158]).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يوعك([159]) فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”أجل إني أُوعك كما رَجُلان منكم“ قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه [شوكة فما فوقها] إلا حط الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها“([160]).
وعن عائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نُزِلَ([161]) برسول الله صلّى الله عليه وسلّم طفق([162]) يطرح خميصة([163]) له على وجهه فإذا اغتم([164]) كشفها عن وجهه وهو كذلك يقول: ”لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد“ يُحذرُ ما صنعوا([165]).
وعن عائشة رضي الله عنها أنهم تذاكروا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه فذكرت أمُّ سلمة وأمُّ حبيبة كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصوير، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة“([166]).
وعن عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت: "قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي لم يقم منه: ”لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد“ قالت: فلولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أني أخشى أن يُتخذ مسجداً"([167]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ”لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم“([168]).
وعن أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل يتغشاه([169])، فقالت فاطمة رضي الله عنها: وا كرب أباه([170]) فقال لها: ”ليس على أبيك كرب بعد اليوم“ فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه، يا لأبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه([171]). فلما دُفن قالت فاطمة رضي الله عنها: يا أنس! أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التراب“؟([172]).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة ومنها:(2/156)
1 ـ استحباب الرقية بالقرآن، وبالأذكار، وإنما جاءت الرقية بالمعوذات؛ لأنها جامعة للاستعاذة من كل المكروهات جملة وتفصيلاً، ففيها الاستعاذة من شر ما خلق الله عز وجل، فيدخل في ذلك كل شيء، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر السواحر، ومن شر الحاسدين، ومن شر الوسواس الخناس([173]).
2 ـ عناية النبي صلّى الله عليه وسلّم ببنته فاطمة ومحبته لها؛ ولهذا قال: ”مرحباً بابنتي“ وقد جاءت الأخبار أنها كانت إذا دخلت عليه قام إليها وقبَّلها، وأجلسها في مجلسه، وإذا دخل عليها فعلت ذلك رضي الله عنها، فلما مرض دخلت عليه وأكتب عليه تقبله([174]).
3 ـ يؤخذ من قصة فاطمة رضي الله عنها أنه ينبغي العناية بالبنات، والعطف عليهن، والإحسان إليهن، ورحمتهن، وتربيتهن التربية الإسلامية، اقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن يختار لها الزوج الصالح المناسب.
4 ـ عناية الولد بالوالد كما فعلت فاطمة رضي الله عنها، فيجب على الولد أن يحسن إلى والديه، ويعتني ببرهما، ولا يعقهما، فيتعرض لعقوبة الله تعالى.
5 ـ معجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم التي تدل على صدقه وأنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن ذلك أنه أخبر أن فاطمة أول من يلحقه من أهله، فكانت أول من مات من أهله بالاتفاق.
6 ـ سرور أهل الإيمان بالانتقال إلى الآخرة، وإيثارهم حب الآخرة على الدنيا لحبهم للقاء الله تعالى، ولكنهم لا يتمنون الموت لضر نزل بهم؛ لرغبتهم في الإكثار من الأعمال الصالحة؛ لأن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث كما بين النبي عليه الصلاة والسلام.
7 ـ المريض إذا قرب أجله ينبغي له أن يوصي أهله بالصبر؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة: ”فاتقي الله واصبري“.
8 ـ فضل فاطمة رضي الله عنها وأنها سيدة نساء المؤمنين.
9 ـ المرض إذا احتسب المسلم ثوابه، فإنه يكفر الخطايا، ويرفع الدرجات، ويزاد به الحسنات، وذلك عام في الأسقام، والأمراض ومصائب الدنيا، وهمومها وإن قلت مشقتها، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أشد الناس بلاء، ثم الأمثل فالأمثال؛ لأنهم مخصوصون بكمال الصبر والاحتساب، ومعرفة أن ذلك نعمة من الله تعالى ليتم لهم الخير ويضاعف لهم الأجر، ويظهر صبرهم ورضاهم، ويُلحق بالأنبياء الأمثال فالأمثل من أتباعهم؛ لقربهم منهم وإن كانت درجتهم أقل، السر في ذلك والله أعلم أن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد؛ ولهذا ضوعف حد الحر على حد العبد، وقال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}([175]). والقوي يُحمَّل ما حمل، والضيبف يرفق به، إلا أنه كلما قويت المعرفة هان البلاء، ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء، وأعلى من ذلك من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه فيسلم ويرضى ولا يعترض([176]).
10 ـ التحذير من بناء المساجد على القبور ومن إدخال القبور والصور في المساجد، ولعن من فعل ذلك، وأنه من شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة، وهذا من أعظم الوصايا التي أوصى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل موته بخمسة أيام([177]).
المبحث التاسع: وصايا النبي صلّى الله عليه وسلّم عند موته
عن ابن عباس رضي عنهما قال: يوم الخميس وما يوم الخميس([178]) اشتد برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: ”ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً“ فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي التنازع [فقال بعضهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله،] [فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، ومنهم من يقوم غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "[قوموا] وفي رواية: ”دعوني فالذي أنا فيه خير([179]) مما تدعونني إليه] أوصيكم بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به“([180]) وسكت عن الثالثة أو قال فأنسيتها"([181]) قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وأوصاهم بثلاث" أي في تلك الحالة، وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتبه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن أمراً متحتماً؛ لأنه لو كان مما أُمر بتبليغه لم يتركه لوقوع اختلافهم ولعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه، ولبلَّغه لهم لفظاً كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك، وقد عاش بعد هذه المقالة أياماً وحفظوا عنه أشياء لفظاً فيحتمل أن يكون مجموعها ما أراد أن يكتبه والله أعلم([182]).
والوصية الثالثة في هذا الحديث يحتمل أن تكون الوصية بالقرآن، أو الوصية بتنفيذ جيش أسامة رضي الله عنه. أو الوصية بالصلاة وما ملكت الأيمان، أو الوصية وما ملكت الأيمان، أو الوصية بأن لا يتخذ قبره صلّى الله عليه وسلّم وثناً يُعبد من دون الله، وقد ثبتت هذه الوصايا عنه صلّى الله عليه وسلّم([183]).(2/157)
وعن عبد الله بن أبي أوْفَى رضي الله عنه أنه سئل هل أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟... قال: ”أوصى بكتاب الله عز وجل“([184]). والمراد بالوصية بكتاب الله: حفظه حسّاً ومعنى، فيكرم ويصان، ويتبع ما فيه: فيعمل بأوامره، ويجتنب نواهيه، ويداوم على تلاوته وتعلمه وتعليمه ونحو ذلك([185]).
وأمر عليه الصلاة والسلام وأوصى بإنفاذ جيش أسامة رضي الله عنه، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى أنه كان تجهيز جيش أسامة يوم السبت قبل موت النبي صلّى الله عليه وسلّم بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم، فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر، ودعا أسامة وقال: ”سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش...“ فبدأ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه في اليوم الثالث فعقد لأسامة لواء بيده فأخذه أسامة، وكان ممن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين والأنصار، ثم اشتد برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعه فقال: ”أنفذوا جيش أسامة“ فجهزه أبو بكر بعد أن استخلف فسار عشرين ليلة إلى الجهة التي أمر بها، وقتل قاتل أبيه ورجع الجيش سالماً وقد غنموا..“([186]).
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم بعثاً وأمَّر عليهم أسامة بن زيد فطعن بعض الناس في إمارته فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقاً للإمارة([187]) وإن كان لمن أحبِّ الناس إليَّ، وإنَّ هذا لمن أحبّ الناس إليَّ بعده“([188]). وقد كان عُمْرُ أسامة رضي الله عنه حين توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم ثمان عشر سنة([189]).
وأوصي صلّى الله عليه وسلّم بالصلاة وما مكلت الأيمان، فعن أنس رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت: ”الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم“ حتى جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغرغر صدره ولا يكاد يفيض بها لسانه“([190]).
وعن علي رضي الله عنه قال: كان آخر كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم“([191]).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة ومنها:
1 ـ وجوب إخراج المشركين من جزيرة العرب؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى بذلك عند موته، وقد أخرجهم عمر رضي الله عنه في بداية خلافته، أما أبو بكر فقد انشغل بحروب الردة.
2 ـ إكرام الوفود وإعطاؤهم ضيافتهم كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى بذلك.
3 ـ وجوب العناية بكتاب الله حسّاً ومعنى: فيكرم، ويصان، ويتبع ما فيه في فيعمل بأوامره ويجتنب نواهيه، ويداوم على تلاوته، وتعلمه وتعليمه ونحو ذلك؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى به في عدة مناسبات، فدل ذلك على أهميته أهمية بالغة مع سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
4 ـ أهمية الصلاة؛ لأنها أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ ولهذا أوصى بها النبي صلّى الله عليه وسلّم عند موته أثناء الغرغرة.
5 ـ القيام بحقوق المماليك والخدم ومن كان تحت الولاية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أوصى بذلك فقال: ”الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم“.
6 ـ فضل أسامة بن زيد حيث أمَّره النبي صلّى الله عليه وسلّم على جيش عظيم فيه الكثير من المهاجرين والأنصار، وأوصى بإنفاذ جيشه([192]).
7 ـ فضل أبي بكر حيث أنفذ وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جيش أسامة فبعثه؛ لقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}([193]).
المبحث العاشر: اختياره صلّى الله عليه وسلّم الرفيق الأعلى
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخيَّر بين الدنيا والآخرة، فسمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بحَّةٌ([194]) [شديدة] يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}([195]) قالت فظننته خير حينئذ([196]).(2/158)
وفي رواية عنها رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو صحيح يقول: ”إنه لم يقبض نبي قط حتى يُرى مقعده من الجنة ثم يخيَّر“ قالت: فلما نزل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم([197]) ورأسه على فخذي غُشِيَ عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصرهُ إلى السقف ثم قال: ”اللهم في الرفيق الأعلى“ فقلت: إذاً لا يختارنا، وعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح، قالت: فكان آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”اللهم مع الرفيق الأعلى“([198]). وقالت رضي الله عنها: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو مسند إليَّ ظهره يقول: ”اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى“([199]) وكان صلّى الله عليه وسلّم متصل بربه وراغباً فيما عنده، ومحبّاً للقائه، ومحبّاً لما يحبه سبحانه، ومن ذلك السواك؛ لأنه مطهرة للفم مرضاة للرب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري([200])، ونحري([201])، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عليَّ عبد الرحمن [بن أبي بكر] وبيده السواك وأنا مسندة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [إلى صدري]([202]) فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ ”فأشار برأسه أن نعم“ فتناولته فاشتد عليه، وقلتُ أُليّنه لك؟ ”فأشار برأسه أن نعم“ فلينته [وفي رواية: فقصمته، ثم مضغته([203]) [وفي رواية فقضمته ونفضته وطيبته([204]) ثم دفعته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستنَّ به([205]) فما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استن استناناً قَطْ أحسن منه]([206]) وبين يديه ركوة([207]) أو علبة([208]) فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ”لا إله إلا الله إن للموت سكرات“ ثم نصب يده فجعل يقول: ”في الرفيق الأعلى“ حتى قبض ومالت يده"([209]) صلّى الله عليه وسلّم.
وقالت عائشة رضي الله عنها: مات النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنه لبين حاقنتي([210]) وذاقنتي([211])، فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم([212]).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها:
1 ـ إن الرفيق الأعلى: هم الجماعة المذكورون في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}([213]) فالصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم أن المراد بالرفيق الأعلى هم الأنبياء الساكنون أعلى عليين. ولفظة رفيق تطلق على الواحد والجمع؛ لقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}([214]).
2 ـ إن النبي صلّى الله عليه وسلّم اختار الرفيق الأعلى حين خُيِّر حبّاً للقاء الله تعالى، ثم حبّاً للرفيق الأعلى، وهو الذي يقول صلّى الله عليه وسلّم: ”من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه“([215]).
3 ـ فضل عائشة رضي الله عنها حيث نقلت العلم الكثير عنه صلّى الله عليه وسلّم، وقامت بخدمته حتى مات بين سحرها ونحرها؛ ولهذا قالت: ”إن من نعم الله عليَّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري“.
4 ـ عناية النبي صلّى الله عليه وسلّم بالسواك حتى وهو في أشد سكرات الموت، وهذا يدل على تأكد استحباب السواك؛ لأنه مطهرة للفم مرضاة للرب.
5 ـ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في سكرات الموت: ”لا إله الله إن للموت سكرات“ وهو الذي قد حقق لا إله إلا الله، يدل على تأكُّدِ استحبابها والعناية بها والإكثار من قولها وخاصة في مرض الموت؛ لأن ”من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة“.
6 ـ حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على مرافقة الأنبياء ودعاؤه بذلك يدل على أن المسلم ينبغي له أن يسأل الله تعالى أن يجمعه بهؤلاء بعد الموت في جنات النعيم، اللهم اجعلنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
7 ـ شدة الموت وسكراته العظيمة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما بالنا بغيره.
المبحث الحادي عشر: موت النبي صلّى الله عليه وسلّم شهيداً
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول في مرضه الذي مات فيه: ”يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام([216]) الذي أكلت بخيبر([217])، فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَري([218]) من ذلك السم“([219]).(2/159)
وقد عاش صلّى الله عليه وسلّم بعد أكله من الشاة المسمومة بخيبر ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي قُبض فيه([220]) وقد ذُكِرَ أن المرأة التي أعطته الشاة المسمومة أسلمت حينما قالت: من أخبرك؛ فأخبر صلّى الله عليه وسلّم أن الشاة المسمومة أخبرته، وأسلمت وعفى عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أولاً ثم قتلها بعد ذلك قصاصاً ببشر بن البراءة بعد أن مات رضي الله عنه([221]) وقد ثبت الحديث متصلاً أن سبب موته صلّى الله عليه وسلّم هو السم، فعن أبي سلمة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبل ولا يأكل الصدقة فأهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية سمَّتها، فأكل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها وأكل القول فقال: ”ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة“ فمات بشر بن البراء معرور الأنصاري، فأرسل إلى اليهودية: ”ما حملك على الذي صنعت“؟ قالت: إن كنت نبيّاً لم يضرك الذي صنعت، وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك ”فأمر بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقتلت“ ثم قال في وجعه الذي مات فيه: ”ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري“([222]). وقالت أم بشر للنبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي مات فيه: ما يتهم بك يا رسول الله؟ فإني لا أتهم بابني إلا الشاة المسمومة التي أكل معك بخيبر. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”وأنا لا أنهم بنفسي إلا ذلك فهذا أوان انقطاع أبهري“([223]).
وقد جزم ابن كثير رحمه الله تعالى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مات شهيداً([224])، ونقل: ”وإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة“([225]). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لئن أحلف تسعاً أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتل قتلاً أحب إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك؛ لأن الله اتخذه نبيّاً واتخذه شهيداً“([226]).
وعن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كان يصلي بهم في وجع النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي توفي فيه حتى إذا كلن يوم الاثنين وهم صفوف [في صلاة الفجر] ففاجأهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد كشف سِترَ حجرةِ عائشة رضي الله عنها [وهم في صفوف الصلاة] وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف([227]) ثم تبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحك [وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحاً] [برؤية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] [فنكص([228]) أبو بكر رضي الله عنه على عقبيه ليصل الصف، وظنَّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خارج إلى الصلاة] [فأشار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم [بيده] أن أتموا صلاتكم [ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] [الحجرة] وأرخى الستر فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يومه ذلك.
وفي رواية: [وتوفي من آخر ذلك اليوم]([229]). وفي رواية: [لم يخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثاً]([230]). فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم، فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجاب فرفعه فلما وضح وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم حين وضح لنا، فأومأ النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى النبي صلّى الله عليه وسلّم الحجاب فلم يُقدر عليه حتى مات([231]).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها:
1 ـ موت النبي صلّى الله عليه وسلّم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى شهيداً؛ لأن الله اتخذه نبيّاً واتخذه شهيداً صلّى الله عليه وسلّم.
2 ـ عداوة اليهود للإسلام وأهله ظاهرة من قديم الزمان فهم أعداء الله ورسله.
3 ـ عدم انتقام النبي صلّى الله عليه وسلّم لنفسه، بل يعفو ويصفح؛ ولهذا لم يعاقب من سمَّت الشاة المصلية، ولكنها قُتِلتْ بعد ذلك قصاصاً ببشر بن البراء بعد أن مات بِصُنعها.
4 ـ معجزة من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم وهي أن لحم الشاة المصلية نطق وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه مسموم.
5 ـ فضل الله تعالى على عباده أنه لم يقبض نبيهم إلا بعد أن أكمل به الدين وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
6 ـ محبة الصحابة رضي الله عنهم لنبيهم صلّى الله عليه وسلّم حتى أنهم فرحوا فرحاً عظيماً عندما كشف الستر في صباح يوم الاثنين وهو ينظر إليهم وصلاتهم فأدخل الله بذلك السرور في قلبه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه ناصح لأمته يحب لهم الخير؛ ولهذا ابتسم وهو في شدة المرض فرحاً وسروراً بعملهم المبارك.
المبحث الثاني عشر: من يعبد الله فإن الله حي لا يموت(2/160)
قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}([232]). {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}([233]). {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}([234]). {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}([235]).
مات محمد بن عبد الله أفضل الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليه وسلّم وكان آخر كلمة تكلم بها عند الغرغرة كما قالت عائشة رضي الله عنها: أنه كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده صلّى الله عليه وسلّم في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ”لا إله إلا الله إن للموت سكرات“ ثم نصب يده فجعل يقول: ”في الرفيق الأعلى“ حتى قبض ومالت يده([236]). فكان آخر كلمة تكلم بها: ”اللهم في الرفيق الأعلى“([237]).
وعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات وأبو بكر بالسُّنح([238]) فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قالت: وقال: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنَّه الله فلقطع أيدي رجال وأرجلهم([239])، فجاء أبو بكر رضي الله عنه [على فرسه من مسكنه بالسُّنْح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم([240]) رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مغشَّى بثوب حِبرة([241]) فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله([242]) [ثم بكى] فقال: بأبي أنت وأمي [يا نبي الله] [طبت حيّاً وميتًا والذي نفسي بيده] [لا يجمع الله عليك موتتين]([243]) [أبداً] [أما الموتة التي كُتبت عليك قد مُتَّها] [ثم] [خرج وعمر رضي الله عنه يكلم الناس فقال: [أيها الحالف على رسلك] [اجلس] [فأبى فقال: اجلس فأبى] [فتشهد أبو بكر] [فلما تكلم أبو بكر جلس عمر] [ومال إليه الناس وتركوا عمر] [فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه] وقال: [أما بعد فمن كان منكم يعبد محمداً صلّى الله عليه وسلّم فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، وقال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}([244]) وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}([245]) [فوا لله لكأن الناس لم يكونوا يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه فتلقاها منه الناس كلهم فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها [وأخبر سعيد بن المسيب] [أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت([246]) حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد مات] [قال: ونشج الناس([247]) يبكون، واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منَّا أمير ومنكم أمير([248])، فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيَّأت كلاماً قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر. ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل منَّا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب داراً وأعربهم أحساباً([249]) فبايعوا عمر أو أبا عبيدة فقال عمر: بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، فقال قائل: قتلتم سعد بن عبادة، فقال عمر: قتله الله([250]).
قالت عائشة رضي الله عنها: في شأن خطبة أبي بكر وعمر في يوم موت النبي صلّى الله عليه وسلّم: فما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها، فلقد خوَّف عمر الناس وإن فيهم لنفاقاً فردهم الله بذلك، ثم لقد بصَّر أبو بكر الناس الهُدى وعرَّفهم الحق الذي عليهم وخرجوا به يتلون {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}([251]). وخطب عمر ثم أبو بكر يوم الثلاثاء خطبة عظيمة مفيدة نفع الله بها والحمد لله.(2/161)
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر، وقام عمر فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة([252]) ما كانت وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهدها إليَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا – يقول: يكون آخرنا – وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه، فبايع الناس أبا بكر رضي الله عنه البيعة العامة بعد بيعة السقيفة. ثم تكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: ”أما بعد، أيها الناس فإني وليت عليكم ولست بخيركم([253]) فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته([254]) إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله“([255]) ثم استمر الأمر لأبي بكر والحمد لله.
وقد بُعِثَ صلّى الله عليه وسلّم فبقي بمكة يدعو إلى التوحيد ثلاث عشرة سنة يُوحى إليه، ثم هاجر إلى المدينة وبقي بها عشر سنين، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة صلى الله عليه وآله وسلم([256]).
ورجح الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى أن آخر صلاة صلاها صلّى الله عليه وسلّم مع أصحابه رضي الله عنهم هي صلاة الظهر يوم الخميس، وقد انقطع عنهم عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة، والسبت، والأحد، وهذه ثلاثة أيام كوامل([257]).
وبعد موته صلّى الله عليه وسلّم وخطبة أبي بكر رضي الله عنه دارت مشاورات – كما تقدم – وبايع الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في سقيفة بني ساعدة، وانشغل الصحابة ببيعة الصديق بقية يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ثم شرعوا في تجهيز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم([258]) وغُسل من أعلى ثيابه، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، ثم صلى عليه الناس فرادى لم يؤمهم أحد، وهذا أمر مجمع عليه: صلى عليه الرجال، ثم الصبيان، ثم النساء، والعبيد والإماء، وتوفي يوم الاثنين على المشهور([259])، ودفن ليلة الأربعاء، أُلحد لحداً صلّى الله عليه وسلّم ونصب عليه اللبن نصباً([260])، ورُفع قبره من الأرض نحواً من شبر([261])، وكان قبره صلّى الله عليه وسلّم مسنماً([262])، وقد تواترت الأخبار أنه دفن في حجرة عائشة رضي الله عنها شرقي مسجده صلّى الله عليه وسلّم في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة، ووسع المسجد النبوي الوليد بن عبد الملك عام 86هـ وقد كان نائبه بالمدينة عمر بن عبد العزيز فأمره بالتوسعة فوسعه حتى من ناحية الشرق فدخلت الحجرة النبوية فيه([263]).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها:
1 ـ إن الأنبياء والرسل أحب الخلق إلى الله تعالى وقد ماتوا؛ لأنه لا يبقى على وجه الكون أحد من المخلوقات، وهذا يدل على أن الدنيا متاع زائل، ومتاع الغرور الذي لا يدوم، لا يبقى للإنسان من تعبه وماله إلا ما كان يبتغي به وجه الله تعالى، وما عدا ذلك يكون هباءً منثوراً.
2 ـ حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون مع الرفيق الأعلى؛ ولهذا سأل الله تعالى ذلك مرات متعددة، وهذا يدل على عظم هذه المنازل لأنبيائه وأهل طاعته.
3 ـ استحباب تغطية الميت بعد تغميض عينيه، وشد لحييه؛ ولهذا سجِّي وغطي النبي صلّى الله عليه وسلّم بثوب حبرة.
4 ـ الدعاء للميت بعد موته؛ لأن الملائكة يؤمنون على ذلك؛ ولهذا قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ”طبت حيّاً وميتاً“.
5 ـ إذا أصيب المسلم بمصيبة فليقل: ”إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها“.
6 ـ جواز البكاء بالدمع والحزن بالقلب.
7 ـ النهي عن النياحة وشق الجيوب وحلق الشعر ونتفه والدعاء بدعوى الجاهلية وكل ذلك معلوم تحريمه بالأدلة الصحيحة.
8 ـ إن الرجل وإن كان عظيماً قد يفوته بعض الشيء ويكون الصواب مع غيره، وقد يخطئ سهواً ونسياناً.
9 ـ فضل أبي أبو بكر وعلمه وفقهه؛ ولهذا قال: ”من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت“.
10 ـ أدب عمر رضي الله عنه وأرضاه وحسن خلقه؛ ولهذا سكت عندما قام أبو بكر يخطب ولم يعارضه بل جلس يستمع مع الصحابة رضي الله عن الجميع.(2/162)
11 ـ حكمة عمر العظيمة في فض النزاع في سقيفة بني ساعدة، وذلك أنه بادر فأخذ بيد أبي بكر فبايعه فانصب الناس وتتابعوا في مبايعة أبي بكر، وانفض النزاع والحمد لله تعالى.
12 ـ بلاغة أبي بكر فقد تكلم في السقيفة فأجاد وأفاد حتى قال عمر عنه: ”فتكلم أبلغ الناس“.
13 ـ قد نفع الله بخطبة عمر يوم موت البني صلّى الله عليه وسلّم قبل دخول أبي بكر فخاف المنافقون، ثم نفع الله بخطبة أبي بكر فعرف الناس الحق.
14 ـ ظهرت حكمة أبي بكر وحسن سياسته في خطبته يوم الثلاثاء بعد الوفاة النبوية، وبين أن الصدق أمانة والكذب خيانة، وأن الضعيف قوي عنده حتى يأخذ له الحق، والقوي ضعيف عنده حتى يأخذ منه الحق، وطالب الناس بالطاعة له إذا أطاع الله ورسوله، فإذا عصى الله ورسوله فلا طاعة لهم عليه.
15 ـ حكمة عمر رضي الله عنه وشجاعته العقلية والقلبية حيث خطب الناس قبل أبي بكر ورجع عن قوله بالأمس واعتذر، وشد من أزر أبي بكر، وبين أن أبا بكر صاحب رسول الله وأحب الناس إليه، وثاني اثنين إذ هما في الغار.
16 ـ استحباب بياض الكفن للميت، وأن يكون ثلاثة أثواب ليس فيها قمص ولا عمامة، وأن يلحد لحداً، وأن ينصب عليه اللبن نصباً، وأن يكون مسنماً بقدر شبر فقط.
المبحث الثالث عشر: مصيبة المسلمين بموته صلّى الله عليه وسلّم
من المعلوم يقيناً أن محبة النبي صلّى الله عليه وسلّم محبة كاملة من أعظم درجات الإيمان الصادق؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: ”لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين“([264]). فإذا فقد الإنسان أهله، أو والده، أو ولده، لا شك أن هذه مصيبة عظيمة من مصائب الدنيا، فكيف إذا فقدهم كلَّهم جميعاً في وقت واحد؟
ولا شك أن مصيبة موت النبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم المصائب على المسلمين؛ ولهذا جاءت الأحاديث الصحيحة بذلك، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باباً بينه وبين الناس، أو كشف ستراً فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر، فحمد الله على ما رآه من حسن حالهم، ورجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم، فقال: ”يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أُصيب بمصيبة فلْيتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحداً من أُمتي لن يُصاب بمصيبة أشدَّ عليه من مُصيبتي“([265]).
وعن أنس رضي الله عنه قال: "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أضاء منها كل شيء([266])، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأيدي([267]) وإنا لفي دفنه([268]) حتى أنكرنا([269]) قلوبنا"([270]).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه – بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم – لعمر: انطلق بنا إلى أمِّ أيمن نزورها كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يزورها، فلما انتهيا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ فما عند الله خير لرسوله صلّى الله عليه وسلّم. قالت: إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها([271]).
وما أحسن ما قال القائل:
واعلم بأن المرء غير مخلَّد
... ... اصبر لكلِّ مصيبة وتجلد
فاذكر مصابك بالنبي محمد
... ... فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر المستفاد هذا المبعث كثيرة، ومنها:
1 ـ موت النبي صلّى الله عليه وسلّم أعظم مصيبة أصيب بها المسلمون.
2 ـ إنكار الصحابة قلوبهم بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لفراقهم نزول الوحي وانقطاعه من السماء.
3 ـ النبي صلّى الله عليه وسلّم أحب إلى المسلمين من النفس، والولد، والوالد، والناس أجمعين، وقد ظهر ذلك عند موته بين القريب والبعيد من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، بل وجميع المسلمين.
4 ـ محبة الصحابة للإقتداء والتأسي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كل شيء من أمور الدين حتى في زيارة النساء كبار السن، كما فعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
المبحث الرابع عشر: ميراثه صلّى الله عليه وسلّم
عن عمرو بن الحارث رضي الله عنه قال: "ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته: دِرْهماً، ولا ديناراً، ولا عبداً، ولا أمَةً، ولا شيئاً، إلا بغلته البيضاء [التي كان يركبها] وسلاحه، [وأرضاً بخيبر] جعلها [لابن السبيل] صدقة"([272]). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ديناراً، ولا درهماً، ولا شاة، ولا بعيراً، ولا أوصى بشيء([273])"([274]).(2/163)
وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”لا نورث ما تركنا فهو صدقة“([275]) وذلك لأنه لم يبعث صلّى الله عليه وسلّم جابياً للأموال وخازناً إنما بعث هادياً، ومبشراًًً، ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، وهذا هو شأن أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: ”إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر“([276]).
وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم ذلك، فعن سليمان بن مهران: بينما ابن مسعود رضي الله عنه يوماً معه نفر من أصحابه إذ مرّ أعرابي فقال: على ما اجتمع هؤلاء؟ قال ابن مسعود رضي الله عنه: "على ميراث محمد صلّى الله عليه وسلّم يقسّمونه"([277]).
فميراث النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الكتاب والسنة والعلم والاهتداء بهديه صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا توفي صلّى الله عليه وسلّم ولم يترك درهماً، ولا ديناراً، ولا عبداً، ولا أمة، ولا بعيراً، ولا شاة، ولا شيئاً، إلا بغلته وأرضاً جعلها صدقة لابن السبيل.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير"([278]). وهذا يبين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتقلل من الدنيا، ويستغني عن الناس؛ ولهذا لم يسأل الصحابة أموالهم أو يقترض منهم؛ لأن الصحابة لا يقبلون رهنه وربما لا يقبضوا منه الثمن، فعدل إلى معاملة اليهودي؛ لئلا يضيِّق على أحد من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم([279]). وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يصيبه الجوع وهو حي؛ ولهذا يمر ويمضي الشهر والشهران وما أوقدت في أبيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نار، قال عروة لعائشة رضي الله عن الجميع: ما كان يقيتكم؟ قالت: "الأسودان: التمر والماء..."([280]). ومع هذا كان يقول صلّى الله عليه وسلّم: ”مالي وللدنيا ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها“([281]).
وخلاصة القول: أن الدروس والفوائد والعبر في هذا المبحث كثيرة، ومنها:
1 ـ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا لجمع الأموال وإنما بعثوا لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور؛ لهذا لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
2 ـ زهد النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا وحطامها الفاني؛ وإنما هو كالركب الذي استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
3 ـ استغناء النبي صلّى الله عليه وسلّم عن سؤال الناس فهو يقترض ويرهن حتى لا يكلف لي أصحابه؛ ولهذا مات ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعاً من شعير.
4 ـ شدة الحال وقلة ما في اليد عند النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا يمضي الشهر والشهران ولم توقد في أبياته نار، وإنما كان يقيتهم الأسودان.
فصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وأسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا من أتباعه المخلصين، وأن يحشرنا في زمرته يوم الدين.
المبحث الخامس عشر: حقوقه صلّى الله عليه وسلّم على أمته
للنبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم حقوق على أمته وهي كثيرة، منها: الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم قولاً وفعلاً وتصديقه في كل ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم، وجوب طاعته والحذر من معصيته صلّى الله عليه وسلّم، ووجوب التحاكم إليه والرضى بحكمه، وإنزاله منزلته صلّى الله عليه وسلّم بلا غلو ولا تقصير، واتباعه واتخاذه قدوة وأسوة في جميع الأمور، ومحبته أكثر من النفس، الأهل والمال والولد والناس جميعاً، واحترامه وتوقيره ونصر دينه والذب عن سنته صلّى الله عليه وسلّم، والصلاة عليه؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه: خلق آدم، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليَّ“ فقال رجل: يا رسول الله! كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يعني بليت. قال: ”إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء“([282]).
وإليك هذه الحقوق بالتفصيل والإيجاز كالتالي:(2/164)
1 ـ الإيمان الصادق به صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه فيما أتى به قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}([283])، {فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}([284])، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}([285])، {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا}([286])، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به“([287]).
والإيمان به صلّى الله عليه وسلّم هو تصديق نبوته، وأن الله أرسله للجن والإنس، وتصديقه في جميع ما جاء به وقاله، ومطابقة تصديق القلب بذلك شهادة اللسان، بأنه رسول الله، فإذا اجتمع التصديق به بالقلب والنطق بالشهادة باللسان ثم تطبيق ذلك العمل بما جاء به تمَّ الإيمان به صلّى الله عليه وسلّم([288]).
2 ـ وجوب طاعته صلّى الله عليه وسلّم والحذر من معصيته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتى به، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ}([289])، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}([290])، {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}([291])، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}([292])، {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}([293])، {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا}([294])، {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}([295]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله“([296])، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”كل الناس يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى“([297]).
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجُعِلَ رزقي تحت ظلِّ رمحي، وجُعِلَ الذِّلُّ والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقول فهو منهم“([298]).
3 ـ اتباعه صلّى الله عليه وسلّم واتخاذه قدوة في جميع الأمور والاقتداء بهديه، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}([299])، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}([300])، وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}([301]) فيجب السير على هديه والتزام سنته والحذر من مخالفته، قال صلّى الله عليه وسلّم: ”فمن رغب عن سنتي فليس مني“([302]).(2/165)
4 ـ محبته صلّى الله عليه وسلّم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين، قال الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}([303])، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين“([304]). وقد ثبت في الحديث أن من ثواب محبته الاجتماع معه في الجنة وذلك عندما سأله رجل عن الساعة فقال: ”ما أعددت لها“؟ قال يا رسول الله ما أعددت لها كبير صيام، ولا صلاة، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: ”فأنت مع من أحببت“([305]). قال أنس فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”فإنك مع من أحببت“، فأنا أحب الله ورسوله، وأبا بكر، وعمر. فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم([306]).
ولما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك“، فقال له عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إليّ من نفسي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ”الآن يا عمر“([307])، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”المرء مع من أحب“([308]).
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً“([309]).
وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان اللهُ ورسولهُ أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار“([310]).
ولاشك أن من وفَّقه الله تعالى لذلك ذاق طعم الإيمان ووجد حلاوته، فيستلذ الطاعة ويتحمل المشاقة في رضى الله عز وجل ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه رضي به رسولاً، وأحبه، ومن أحبه من قلبه صدقاً أطاعه صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا قال القائل:
تعصي الإله وأنت تُظْهر حُبَّهُ هذا لعمري في القياسِ بديعُ
لو كان حُبَّكَ صادقاً لأطعته إن المُحبَّ لمن يُحِبُّ مُطيعُ([311])
وعلامات محبته صلّى الله عليه وسلّم تظهر في الاقتداء به صلّى الله عليه وسلّم، واتباع سنته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه، في الشدة والرخاء، وفي العسر واليسر، ولا شك أن من أحب شيئاً آثره، وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حبه ويكون مدّعياً([312]).
ولا شك أن من علامات محبته: النصيحة له؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: ”الدين النصيحة“ قلنا لمن؟ قال: ”لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم“([313])، والنصيحة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: التصديق بنبوته، وطاعته فيما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، ومُؤازرته، ونصرته وحمايته حياً وميتاً، وإحياء سنته والعمل بها وتعلمها، وتعليمها والذب عنها، ونشرها، والتخلق بأخلاقه الكريمة، وآدابه الجميلة([314]).
5 ـ احترامه وتوقيره ونصرته كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}([315])، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}([316])، {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا}([317]).
وحرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موته، وتوقيره لازم كحال حياته وذلك عند ذكر حديثه، وسنته، وسماع اسمه وسيرته، وتعلم سنته، والدعوة إليها، ونصرتها([318]).(2/166)
6 ـ الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}([319])، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”.. من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً“([320])، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم“([321])، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”البخيل من ذكرت عنده فلم يصلِّ عليّ“([322])، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”ما جاس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلّوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم“([323])، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ”إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام“([324])، وقال جبريل عليه السلام للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ”رغم أنف عبد – أو بعُد – ذُكِرتَ عنده فلم يصلّ عليك“ فقال صلّى الله عليه وسلّم: ”آمين“([325])، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”ما من أحد يسلّم عليَّ إلا ردّ الله عليَّ روحي حتى أردّ عليه السلام“([326]).
* وللصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم مواطن كثيرة ذكر منها الإمام ابن القيم رحمه لله تعالى واحداً وأربعين موطناً منها على سبيل المثال: الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم عند دخول المسجد، وعند الخروج منه، وبعد إجابة المؤذن، وعند الإقامة، وعند الدعاء، وفي التشهد في الصلاة، وفي صلاة الجنازة، وفي الصباح والمساء، وفي يوم الجمعة، وعند اجتماع القوم قبل تفرقهم، وفي الخطب: كخطبتي صلاة الجمعة، وعند كتابة اسمه، وفي أثناء صلاة العيدين بين التكبيرات، وآخر دعاء القنوت، وعلى الصفا والمروة، وعند الوقوف على قبره، وعند الهم والشدائد وطلب المغفرة، وعقب الذنب إذا أراد أن يكفر عنه، وغير ذلك من المواطن التي ذكرها رحمه الله في كتابه([327]).
ولو لم يرد في فضل الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا حديث أنس رضي الله عنه لكفى ”من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات([328]). [كتب الله له بها عشرة حسنات]([329]) وحط عنه بها عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات“([330]).
7 ـ وجوب التحاكم إليه والرضي بحكمه صلّى الله عليه وسلّم، قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}([331])، {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}([332]) ويكون التحاكم إلى سنته وشريعته بعده صلّى الله عليه وسلّم.
8 ـ إنزاله مكانته صلّى الله عليه وسلّم بلا غلو ولا تقصير فهو عبد لله ورسوله، وهو أفضل الأنبياء والمرسلين، وهو سيد الأولين والآخرين، وهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود، ولكنه مع ذلك بشر لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله كما قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}([333])، وقال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}([334])، {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا، قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا}([335])، وقد مات صلّى الله عليه وسلّم كغيره من الأنبياء ولكن دينه باقٍ إلى يوم القيام {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}([336])، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}([337])، وبهذا يعلم أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده لا شريك له {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}([338]).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
00000000000000
الهوامش:
([1]) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم 7/162.
([2]) انظر نسب النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى آدم: البداية والنهاية لابن كثير 2/195، وسيرة ابن هشام 1/1.(2/167)
([3]) هذا هو الصحيح المشهور أنه ولد صلّى الله عليه وسلّم عام الفيل في شهر ربيع الأول، وقد نقل بعضهم الإجماع على ذلك، انظر: تهذيب السيرة للإمام النووي ص 20.
([4]) التحديد بيوم الاثنين ثابت؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم حينما سئل عن صومه: "فيه ولدت وفيه أُنزِل عليَّ" مسلم 2/820. أما تحديد تاريخ اليوم ففيه عدة أقول: فقيل في اليوم الثاني، وقيل لثماني، وقيل لعشر، وقيل: لسبعة عشر، وقيل في الثاني عشر، وقيل غير ذلك، وأشهر وأقرب الأقوال قولان: الأول: أنه ولد لثماني مضين من ربيع الأول، ورجحه ابن عبد البر عن أصحاب التأريخ: انظر: البداية والنهاية 2/260 وقال: "هو أثبت". القول الثاني: أنه ولد في الثاني عشر من ربيع الأول، قال ابن كثير في البداية والنهاية: "وهذا هو المشهور عند الجمهور" 2/260، وجزم به ابن إسحاق: انظر: سيرة ابن هشام 1/171.
([5]) انظر: الرحيق المختوم ص 53.
([6]) وصل إلى المدينة صلّى الله عليه وسلّم يوم الاثنين من شهر ربيع الأول وحدده بعضهم باليوم الثاني عشر من ربيع الأول، انظر: فتح الباري 7/224.
([7]) انظر: الأصول الثلاثة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص75، 76.
([8]) البخاري برقم 2697، ومسلم 1718.
([9]) انظر: رسالة التحذير من البدع لسماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله ابن باز.
([10]) سورة الأحزاب، الآية 21.
([11]) البخاري برقم 1130، ومسلم برقم 2819.
([12]) البخاري برقم 1147، ومسلم برقم 737.
([13]) مسلم برقم 728.
([14]) مسلم برقم 729، والبخاري برقم 1172.
([15]) مسلم برقم 719.
([16]) مسلم برقم 772.
([17]) كتاب الصلاة لابن القيم ص 140.
([18]) مسلم برقم 1160.
([19]) الترمذي برقم 745، والنسائي 4/202 وغيرهما.
([20]) البخاري رقم 1969 و1970، ومسلم برقم 1156 و1157.
([21]) مسلم برقم 1164.
([22]) البخاري برقم 1971، ومسلم 1156.
([23]) البخاري برقم 2000 – 2007، ومسلم برقم 1125.
([24]) النسائي 4/205، وأبو داود برقم 2437، وأحمد 6/288، وانظر صحيح النسائي رقم 2236.
([25]) البخاري برقم 1961 - 1964 ومسلم 1102 - 1103.
([26]) أبو داود برقم 8549، وأحمد 5/393.
([27]) النسائي 7/61، وأحمد 3/128، وانظر: صحيح النسائي 3/827.
([28]) البخاري برقم 6، ومسلم رقم 2308.
([29]) مسلم 4/1806.
([30]) البخاري مع الفتح 10/455، ومسلم 4/1804.
([31]) زاد المعاد 3/5، 10، 12.
([32]) انظر: شرح النووي 12/95، وفتح الباري 7/279 - 281، و8/153.
([33]) البخاري رقم 2305، ومسلم 1600.
([34]) البخاري مع الفتح 3/67، ومسلم 3/1221.
([35]) مسلم 1/513.
([36]) البيهقي بلفظه 10/192، وأحمد 2/381، وانظر: الصحيحة للألباني رقم 45.
([37]) الترمذي وغيره، وانظر: الأحاديث الصحيحة برقم 439، وصحيح الترمذي 2/280.
([38]) البخاري برقم 2389، ومسلم برقم 991.
([39]) البخاري مع الفتح 9/517 و549.
([40]) انظر فتح الباري 9/517 و549 برقم 5374، ومن حديث عائشة رضي الله عنها برقم 5416.
([41]) البخاري مع الفتح 9/549.
([42]) البخاري مع الفتح 11/283.
([43]) البخاري مع الفتح 11/283.
([44]) البخاري برقم 6456.
([45]) البخاري برقم 6460، ومسلم برقم 1055 والقوت: هو ما يقوت البدن من غير إسراف وهو معنى الرواية الأخرى عند مسلم "كفافاً" ويكف عن الحاجة، وقال أهل اللغة: القوت: هو ما يسد رمق، وفي الكفاف سلامة من آفاق الغنى والفقر جميعاً والله أعلم. الفتح 11/293، وشرح النووي 7/152, والأبي 3/537.
([46]) مسلم 2/751.
([47]) مسلم 2/751.
([48]) البخاري مع الفتح 4/213، 11/294، ومسم 1/541 برقم 782، و2/811.
([49]) البخاري مع الفتح 4/213، وانظر: صحيح البخاري حديث رقم 6461 – 6467.
([50]) البخاري مع الفتح 9/104، ومسلم 2/1020 وما بين المعكوفين من رواية مسلم.
([51]) البخاري برقم 6463، 6464، ومسلم 4/2170.
([52]) الترمذي 5/238 وغيره، وانظر: صحيح الترمذي 3/171.
([53]) مسلم 4/2045.
([54]) سورة الأحزاب، الآية: 21.
([55]) ولهذا قال عبد الله بن الشَّخِّير: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المِرجل من البكاء، أبو داود برقم 904، وصححه الألباني في مختصر الشمائل برقم 276, ومعنى: أزير المرجل: أي غليان القدر.
([56]) أحمد 3/398، وابن ماجه برقم 246, والحاكم 4/481، وابن حبان موارد 2099 , وانظر: الأحاديث الصحيحة برقم 1557.
([57]) النواجذ: الأنياب.
([58]) التعريس: نزول مسافة آخر الليل نزلةً للنوم والاستراحة. انظر: النهاية في غريب الحديث 3/206.
([59]) الصّخَّاب: الصخب والسخب: الضجة واضطراب الأصوات للخصام، فهو صلّى الله عليه وسلّم لم يكن صخَّاباً في الأسواق ولا في غيرها. النهاية 3/14.
([60]) تقدم تخريجه.(2/168)
([61]) انظر: تهذيب السيرة النبوية للإمام النووي ص 56، ومختصر السيرة النبوية للحافظ عبد الغني المقدسي ص 77، وحقوق المصطفى للقاضي عياض 1/77 – 215، ومختصر الشمائل المحمدية للترمذي ص 112-188.
([62]) البخاري برقم 7288، ومسلم برقم 2619.
([63]) البخاري مع الفتح 9/43، برقم 4998، و 4/213، ومسلم 2/811 وتقدم تخريجه.
([64]) البخاري برقم 4433، ومسلم 2450.
([65]) مسلم 1/351.
([66]) البخاري مع الفتح 8/130.
([67]) انظر: الفتح 8/734، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوماً. فتح 8/734.
([68]) انظر: المرجع السابق 8/130.
([69]) انظر: فتح الباري 8/130.
([70]) البخاري برقم 794، ومسلم برقم 484.
([71]) انظر: شرح النووي 4/447.
([72]) انظر: فتح الباري 1/103، وشرح النووي 6/318.
([73]) انظر: فتح الباري 4/215.
([74]) انظر: فتح الباري 4/285، و 9/46.
([75]) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 8/422 , وشرح الأبي 4/244.
([76]) البيداء: اسم للمفازة والصحراء التي لا شيء فيها، وهي هنا موضع بذي الحليفة. فتح الملك المعبود 2/9.
([77]) قيل كان عددهم تسعين ألفاً، وقيل مائة وثلاثين ألفاً. انظر: المرجع السابق 2/9، و 105.
([78]) والمعنى أنه أبطل كل شيء من أمور الجاهلية وصار كالشيء الموضوع تحت القدمين فلا يعمل به في الإسلام، فجعله كالشيء الموضوع تحت القدم من حيث إهماله وعدم المبالاة به. انظر: شرح النووي 8/432، وشرح الأبي 4/255، وفتح الملك المعبود 2/18.
([79]) والمعنى الزائد على رأس المال باطل أما رأس المال فلصاحبه بنص القرآن، انظر: شرح النووي 8/433.
([80]) قيل: الكلمة هي: الأمر بالتسريح بالمعروف أو الإمساك بإحسان، وقيل: هي لا إله إلا الله، وقيل: الإيجاب والقبول، وقيل: هي قوله تعالى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ}، سورة النساء، الآية: 3. قال النووي 8/433، وشرح الأبي 4/256، وفتح الملك المعبود 2/19.
([81]) والمعنى لا يأذن لأحد من الرجال أو النساء تكرهون أن يدخل منازلكم، وليس المراد من ذلك الزنا؛ لأنه حرام سواء كرهه الزوج أو لم يكرهوه؛ ولأن فيه الحد. شرح النووي 8/433، والأبي 4/257, وفتح الملك المعبود 2/20.
([82]) غير المبرِّح: لا شديد ولا شاق، انظر: فتح الملك المعبود 2/19، وشرح النووي 8/434.
([83]) والمعنى قد تركت فيكم أمراً لن تخطئوا إن تمسكتم به في الاعتقاد والعمل وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه، وسكت عن السنة؛ لأن القرآن هو الأصل في الدين، أو لأن القرآن أمر باتباع السنة كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ}. سورة النساء، الآية: 59. وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}. سورة الحشر, الآية: 7. انظر: فتح الملك المعبود 2/20، وقد جاء عند الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما الوصية ب "... كتاب الله وسنة نبيه.." وصححه الألباني في صحيحه الترغيب برقم 36.
([84]) أخرجه مسلم برقم 1218.
([85]) قيل: مائة وثلاثون ألفاً. انظر: فتح الملك المعبود 2/105.
([86]) سورة المائدة, الآية: 3, والحديث أخرجه البخاري برقم 45, ومسلم برقم 3016, 3017.
([87]) سورة الأنعام, الآية: 115.
([88]) تفسير ابن كثير 2/12.
([89]) ذكره ابن كثير في تفسيره 2/12 وعزاه بإسناده إلى تفسير الطبري. وهذا يشهد له قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريبًا كما بدأ...“.
([90]) مسلم برقم 1297.
([91]) مسلم برقم 1298.
([92]) انكفأ: أي انقلب. انظر: شرح النووي 11/183.
([93]) البخاري 3/26 برقم 67, 105, 1741, 3197, 4406, 4662, 5550, 7078, 7447, ومسلم برقم 1679 والألفاظ من هذه المواضع.
([94]) البخاري برقم 1739.
([95]) انظر: فتح الباري 1/159.
([96]) طفق: جعل وشرع بقول.
([97]) البخاري برقم 1742.
([98]) انظر: عون المعبود 5/436, وفتح الملك المعبود 2/106.
([99]) أبو داود برقم 1957 وفي آخره قصة تدل على أنه يوم النحر, والحديث صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم 1724, 1/369.
([100]) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 5/432, وفتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود 2/100, وفتح الباري 3/574.
([101]) ومعنى قوله: "وهي خطبته التي خطب بمنى" أي مثل الخطبة التي خطبها يوم النحر بمنى, فالخطبتان: في يوم النحر, وفي ثاني أيام التشريق اليوم الثاني عشر متحدتان في المعنى. انظر: عون المعبود 5/431، وفتح الملك المعبود 2/100.
([102]) أبو داود برقم 1952 ويشهد له حديث سرَّاء بنت نبهان برقم 1953 وصحح حديث أبي نجيح الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/368 برقم 1720.(2/169)
([103]) أحمد بترتيب عبد الرحمن البناء 12/226 وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح 3/266. وانظر: حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه قال: كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أوسط أيام التشريق أذود عنه الناس... وذكر فيه جملاً تراجع ويراجع سند الحديث في مسند أحمد 5/72.
([104]) ذكره المنذري في الترغيب وعزاه إلى الحاكم, وحسنه الألباني صحيح الترغيب 1/21 برقم 36 وله أصل في صحيح مسلم. انظر: حديث رقم 2812, وانظر: مسند أحمد 2/368 والأحاديث الصحيحة برقم 472.
([105]) الحاكم 1/473 وصحيحه على شرط مسلم, ووافقه الذهبي.
([106]) تقدم تخريجه من حديث جابر رضي الله عنه.
([107]) انظر: فتح الملك المعبود في تكملة المنهل المورود 2/20.
([108]) البخاري برقم 7246.
([109]) البخاري, ومسلم برقم 1679 وتقدم تخريجه.
([110]) انظر: فتح الباري 3/574, 577, وشرح النووي 8/422 – 434 و9 /51-52 و11/182, وفتح الملك المعبود في تكملة المنهل المورود شرح سنن أبي داود 2/20 و2/54, 2/99-206.
([111]) البقيع هو مدفن أهل المدينة, وسمي بقيع الغرقد, لغرقد كان فيه, وهو ما عظم من العوسج. انظر: شرح النووي 7/46, وشرح الأبي على مسلم 3/390.
([112]) أخرجه مسلم برقم 974.
([113]) انظر: شرح الأبي على صحيح مسلم 3/388, وفتح الباري 7/349.
([114]) مسلم برقم 974.
([115]) الأحاديث الصحيحة دلت أن شهداء المعركة لا يصلى عليهم, أما هذا الحديث فكأنه صلّى الله عليه وسلّم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعاً لهم بذلك, كما ودع أهل البقيع بالاستغفار لهم. انظر: فتح الباري 3/210 و7/349 ورجح ذلك العلامة ابن باز في تعليقه على فتح الباري 6/611.
([116]) أي لا أخاف على مجموعكم؛ لأن الشرك قد وقع من بعض أمته بعده صلّى الله عليه وسلّم. فتح الباري 3/211.
([117]) البخاري من الألفاظ في جميع المواضع, برقم 1344, 3596, 4042, 4085، 6426, 6590، ومسلم برقم 2296, وما بين المعكوفين من صحيح مسلم.
([118]) الفتح 7/349.
([119]) انظر: فتح الباري 11/245.
([120]) ابن هشام بسند ابن إسحاق, انظر: سيرة ابن هشام 4/320, وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/224, وفتح الباري 8/ 129 - 130, وأخرجه أحمد 6/144 و228 لابن ماجه, والبيهقي, وقال الألباني: إن ابن إسحاق قد صرح بالتحديث في رواية ابن هشام فثبت الحديث والحمد لله. أحكام الجنائز ص 50.
([121]) استعزبه: اشتد عليه وغلبه على نفسه.
([122]) انظر: سيرة ابن هشام 4/320 والبداية والنهاية لا بن كثير 5/223 - 231, وقيل: كان ذلك في التاسع والعشرين من شهر صفر يوم الأربعاء, فبقي في مرضه ثلاثة عشر يوماً وهذا قول الأكثر.
انظر: الفتح 8/129.
([123]) صحيح مسلم برقم 418, وانظر: فتح الباري 8/129.
(6) هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما قال ابن عباس في آخر حديث البخاري رقم 687 ومسلم 418.
([125]) وفي رواية: أهريقوا: أي أريقوا وصبوا. الفتح 1/303.
([126]) هذا من باب التداوي؛ لأن لعدد السبع دخولاً في كثير من أمور الشريعة, وأصل الخلقة, وفي رواية لهذا الحديث عند الطبراني: ”... من آبار شتى“. الفتح 1/303 و8/141.
([127]) أعهد: أي أوصي. الفتح 1/303.
([128]) المخضب: هو إناء نحو المركن الذي يغسل فيه وتغسل فيه الثياب من أي جنس كان. النووي 4/379 والفتح 1/301 و303.
([129]) طفقنا: أي شرعنا: يقال: طفق يفعل كذا إذا شرع في فعل واستمر فيه. الفتح 3/303.
([130]) البخاري برقم 198 وذكر هنا له ستة عشر موضعاً, وقد جمع بين هذه المواضع الألباني في مختصر البخاري 1/170, ومسلم برقم 418.
([131]) لينوء: أي لينهض بجهد. الفتح 2/174.
([132]) أي الذي أرسله إليه النبي صلّى الله عليه وسلّم ليصلي بالناس.
([133]) والآخر علي رضي الله عنه كما تقدم.
([134]) البخاري برقم 687 ومسلم برقم 418 وقد اخترت بعض الألفاظ من البخاري وبعضها من مسلم.(2/170)
([135]) وزعم بعضهم أنها الصبح, واستدل برواية أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس: ”وأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القراءة من حيث بلغ أبو بكر, وهذا لفظ ابن ماجه وإسناده حسن؛ لكن في الاستدلال به نظر؛ لاحتمال أن يكون صلّى الله عليه وسلّم سمع لما قرب من أبي بكر الآية التي انتهى إليها أبو بكر خاصة, وقد كان هو يسمع الآية أحياناً في الصلاة السرية كما في حديث أبي قيادة, ثم لو سلم لم يكن فيه دليل على أنها الصبح بل يحتمل أن تكون المغرب فقد ثبت في الصحيحين من حديث أم الفضل قالت: "سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفاً, ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله" البخاري برقم 763 و4429, ومسلم برقم 462 قال ابن حجر: لكن وجدت في النسائي أن هذه الصلاة التي ذكرتها أم الفضل كانت في بيته وقد صرح الشافعي أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يصلِّ بالناس في مرض موته في المسجد إلا مرة واحدة وهي هذه التي صلى فيها قاعداً وكان أبو بكر فيها أولاً إماماً ثم صار مأموماً يسمع الناس التكبير. انظر: الفتح 2/175.
([136]) أسيف: شديد الحزن: والمراد أنه رقيق القلب إذا قرأ غلبه البكاء فلا يقدر على القراءة. فتح 2/152, 165, 203.
([137]) البخاري برقم 713 , 2/204 ومسلم برقم 418, قول حفصة رضي الله عنها: ما كنت لأصيب منك خيراً. البخاري برقم 679.
([138]) البخاري برقم 198, و4445, ومسلم برقم 418 رواية 93.
([139]) البخاري برقم 713, مسلم برقم 418 وتقدم تخريجه.
([140]) مسلم برقم 673.
([141]) البداية والنهاية 5/234 وروى البيهقي عن أنس رضي الله عنه أنه كان يقول: ”آخر صلاة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع القوم في ثوب واحد ملتحفاً به خلف أبي بكر“ قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية 5/234: ”وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح“ ورجح العلامة ابن باز حفظه الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يصلِّ خلف أحد من أمته إلا عبد الرحمن بن عوف. قلت: أما الصلاة التي صلاها مع أبي بكر فإنه هو الإمام كما تقدم والله أعلم.
([142]) انظر: شرح النووي 4/379 – 386 , وشرح الأبي 2/301- 302, وفتح الباري 2/ 151, 152, 164 و166, 173, 203, 206.
([143]) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/228.
([144]) الخُلَّة: الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خِلاله؛ أي في باطنه, وهي أعلى المحبة الخالصة, والخليل: الصديق الخالص؛ وإنما قال ذلك صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن خلته كانت مقصوره على حب الله تعالى فليس فيها لغيره متسع ولا شركة من محاب الدنيا والآخرة. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/72, والمصباح المنبر 1/180, وشرح النووي 5/16, شرح الأبي 2/426.
([145]) مسلم برقم 532.
([146]) معناه: أكثرهم جوداً لنا بنفسه وماله, انظر: فتح الباري 1/559, وشرح النووي 15/160.
([147]) البخاري برقم 466, 3654, 3904, ومسلم برقم 2382.
([148]) انظر: فتح الباري 1/559, 7/14, 16, والنووي 15/16.
([149]) المراد بالمعوذات: قل هو الله أحد, وقل أعوذ برب الفلق, وقل أعوذ برب الناس. انظر: الفتح 8/131 و9/62.
([150]) البخاري برقم 4439, 5016, 5735, 5751, ومسلم برقم 2192 وكان يفعل ذلك صلّى الله عليه وسلّم أيضاً إذا أوى إلى فراشه "فيقرأ بقل هو الله أحد, وبالمعوذتين جميعاً ثم يمسح يهما وجهه وما بلغت من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات" البخاري برقم 5748.
([151]) مسلم برقم 2192.
([152]) أي لا أظن.
([153]) البخاري برقم 4433, 4434, ومسلم برقم 2450, واللفظ لمسلم.
([154]) البخاري برقم 4433, 4434, ومسلم 2450.
([155]) انظر: فتح الباري 8/138.
([156]) انظر: فتح الباري 8/136.
([157]) المراد بالوجع: المرض, والعرب تسمي كل مرض وجعاً. انظر: الفتح 10/111, وشرح النووي 16/363.
([158]) البخاري برقم 5646, ومسلم 2570.
([159]) يوعك: قيل الحمى, وقيل ألمها , وقيل إرعادها الموعوك وتحريكها إياه. الفتح 10/111.
([160]) البخاري مع الفتح 10/111 برقم 5647, 5648, 5660, 5661, 5667, ومسلم 4/1991 برقم 2571 واللفظ له إلا ما بين المعكوفين.
([161]) نُزِل: أي لما حضرت المنية والوفاة. انظر: شرح السنوسي على صحيح مسلم بهامش الأبي 2/425, وفتح الباري 1/532.
([162]) طفق: أي شرح وجعل, انظر: شرح النووي 5/16, وشرح الأبي 2/425, حاشية السنوسي, وفتح الباري 1/532.
([163]) خميصة: كساء له أعلام.
([164]) اغتم: تسخن بالخميصة وأخذ بنفسه من شدة الحرارة.
([165]) البخاري مع الفتح 8/140 برقم 4443، 4444, ومسلم برقم 531.
([166]) البخاري برقم 427 و434, 1341, 3878, ومسلم برقم 528.
([167]) البخاري برقم 435, 1330، 1390, 3453, 4441, 4443, 5815, ومسلم برقم 529 ولفظ مسلم ”غير أنه خُشِيَ“, وعند البخاري برقم 1390 ”غير أنه خَشِيَ أو خُشِيَ“.
([168]) أبو داود 2/218, وأحمد 2/367, وانظر صحيح أبي داود 1/383.(2/171)
([169]) يتعشاه: يغطيه ما اشتدّ به من مرض فيأخذ بنفسه ويغمه.
([170]) لم ترفع صوتها رضي الله عنها بذلك, وإلا لنهاها صلّى الله عليه وسلّم. انظر: الفتح 8/149.
([171]) ننعاه: نَعَى الميت إذا أذاع موته وأخبر به.
([172]) البخاري برقم 4462.
([173]) انظر: شرح النووي 14/433, والأبي 7/375.
([174]) انظر: فتح الباري 8/135, 136.
([175]) سورة الأحزاب، الآية: 30, وانظر: شرح النووي 16/238, 365, 366, 5/14, والأبي 8/326.
([176]) انظر: فتح الباري 8/136, و10/112, و3/208.
([177]) انظر: فتح الباري 8/136, و10/112, و3/208.
([178]) يوم الخميس وما يوم الخميس؛ معناه: تفخيم أمره في الشدة والمكروه, والتعجب منه , وفي رواية في أواخر كتاب الجهاد عند البخاري: ”ثم بكى حتى خضب دمعه الحصى“. وفي رواية لمسلم: ”ثم جعلت تسيل دموعه حتى رأيتها على خديه...“ انظر: فتح الباري 8/132، وشرح النووي على صحيح مسلم.
([179]) المعنى: دعوني من النزاع والاختلاف الذي شرعتم فيه فالذي أنا فيه من مراقبة الله تعالى والتأهب للقائه, والفكر في ذلك خير مما أنتم فيه, أو فالذي أعانيه من كرامة الله تعالى الذي أعدها لي بعد فراق الدنيا خير مما أنا فيه من الحياة.. وقبل غير ذلك. انظر: فتح الباري 8/134, وشرح النووي.
([180]) وأجيزوا الوفد: أي أعطوهم, والجائزة العطية, وهذا أمر منه صلّى الله عليه وسلّم بإجازة الوفود وضيافتهم وإكرامهم تطييباً لنفوسهم وترغيباً لغيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم, وإعانة لهم على سفرهم. انظر: فتح الباري 7/135 وشرح النووي.
([181]) البخاري برقم 4431, 4432, ومسلم برقم 1637.
([182]) فتح الباري 8/134.
([183]) المرجع السابق 8/135.
([184]) مسلم برقم 1634, البخاري برقم 2740, 4460, 5022.
([185]) الفتح 9/67.
([186]) انظر: فتح الباري 8/152, وسيرة ابن هشام 4/328.
([187]) خليقاً: حقيقاً بها. النووي 15/205.
([188]) البخاري 7/86, برقم 3730, 4250, 4468, 4469, 6627, 7187, ومسلم برقم 2426.
([189]) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 15/205.
([190]) أحمد بلفظه 3/117, وإسناده صحيح, ورواه ابن ماجه 2/900, وانظر صحيح ابن ماجه 2/109.
([191]) أخرجه ابن ماجه 2/901, وأحمد برقم 585, وانظر: صحيح ابن ماجه 2/109.
([192]) انظر: فتح الباري 8/134 - 135 و9/67.
([193]) سورة النور، الآية: 63.
([194]) البُحةُ: غِلظٌ في الصوت. انظر: شرح النووي 15/219.
([195]) سورة النساء، الآية: 69.
([196]) البخاري برقم 4436, 4437, 4463, 4586، 6348, 6509, ومسلم برقم 2444.
([197]) وفي البخاري ”فلما اشتكى وحضره القبض“ رقم 4437.
([198]) البخاري برقم 4437, 4463 ومسلم 2444.
([199]) البخاري برقم 4440, 5664.
([200]) سحري: هو الصدر, وهو في الأصل: الرئة وما تعلق بها. الفتح 8/139, والنووي 15/218.
([201]) ونحري: النحر هو موضع النحر. الفتح 8/139.
([202]) في البخاري رقم 4438.
([203]) في البخاري برقم 980.
([204]) طيبته: بالماء, ويتحمل أن يكون تطييبه تأكيداً للينه, الفتح 8/139.
([205]) أي استاك به وأمره على أسنانه.
([206]) في البخاري برقم 4438.
([207]) الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء. انظر: النهاية في غريب الحديث 2/260.
([208]) شك بعض الرواة وهو عمر, انظر: الفتح 8/144.
([209]) البخاري 2/377, برقم 890, وأخرجه البخاري في تسعة مواضع, انظر: 2/377, ومسلم برقم 2444.
([210]) الحاقنة: ما سفل من الذقن وقيل غير ذلك, الفتح 8/139.
([211]) والذاقنة: ما علا من الذقن وقيل غير ذلك, الفتح 8/139, والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة: هو ما بين السحر والنحر, والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها. الفتح 8/139.
([212]) البخاري برقم 4446 , ومسلم برقم 2443.
([213]) سورة النساء، الآية: 69.
([214]) انظر: فتح الباري 8/138, وشرح النووي 15/219.
([215]) البخاري برقم 6507, ومسلم برقم 2683.
([216]) ما أزال أجد ألم لطعام: أي أحس الألم في جوفي بسبب الطعام. الفتح 8/131.
([217]) وذلك أنه عندما فتح خيبر أُهديت له صلّى الله عليه وسلّم شاة مشوية فيها سم, وكانت المرأة اليهودية سألت: أي عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل لها الذراع فأكثرت فيها من السم, فلما تناول الذراع لاك منها مضغة ولم يسغها, وأكل معه بشر بن البراء فأساع لقمته, ومات منها, وقال لأصحابه: أمسكوا عنها فإنها مسمومة, وقال لها: ما حملك على ذلك؟ فقالت: أردت إن كنت نبيّاً فيطلعك الله, وإن كنت كاذباً فأريح الناس منك... انظر: فتح الباري 7/197, والقصة في البخاري برقم 3169, و4249, 5777, والبداية والنهاية لابن كثير 4/208.
([218]) الأبهر عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه. الفتح 8/131.
([219]) البخاري مع الفتح 8/131 برقم 4428 وقد وصله الحاكم والإسماعيلي. انظر: الفتح 8/131.(2/172)
([220]) انظر: الفتح 8/131 فقد ساق آثاراً موصولة عند الحاكم وابن سعد. الفتح 8/131.
([221]) انظر: التفصيل في ففتح الباري 7/497, والبداية والنهاية لابن كثير 4/208- 212.
([222]) أبو داود برقم 4512, وقال الألباني: حسن صحيح. انظر: صحيح سنن أبي داود 3/855.
([223]) أبو داود برقم 4513 وصحح إسناده الألباني. انظر: صحيح سنن أبي داود 3/855.
([224]) انظر: البداية والنهاية 4/210 و211 و4/210 – 212 و5/223 – 244.
([225]) انظر: المرجع السابق 4/211.
([226]) ذكره ابن كثير وعزاه بإسناده إلى البيهقي. انظر: البداية والنهاية 5/227.
([227]) كأن وجهه ورقة مصحف: عبارة وكناية عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته. شرح الأبي على صحيح مسلم 2/310.
([228]) فنكص على عقبيه: أي رجع القهقرى فتأخر, لظنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج ليصلي بالناس, الفتح 2/165.
([229]) وقد ذكر ابن إسحاق أنه صلّى الله عليه وسلّم مات حين اشتد الضحى, ويجمع بينهما بأن إطلاق الأخير بمعنى: ابتداء الدخول في أول النصف الثاني من النهار وذلك عند الزوال واشتداد الضحي يقع قبل الزوال ويستمر حتى يتحقق زوال الشمس, وقد جزم موسى بن عقبة عن ابن شهاب بأنه صلّى الله عليه وسلّم مات حين زاغت الشمس. الفتح 8/143 -144.
([230]) ابتداء من صلاته بهم قاعد الخميس كما تقدم. انظر: فتح الباري 2/165, والبداية 5/235.
([231]) البخاري برقم 608, 681, 754, 1205, 4448, ومسلم برقم 419 والألفاظ مقتبسة من جميع المواضع, وانظر: مختصر صحيح الإمام البخاري للألباني 1/174 برقم 374.
([232]) سورة الزمر, الآية: 30.
([233]) سورة الأنبياء, الآية: 34.
([234]) سورة آل عمران, الآية: 185.
([235]) سورة الرحمن, الآيتان: 26, 27.
([236]) البخاري برقم 890 وما بعدها من المواضع, ومسلم 2444.
([237]) البخاري برقم 4437, 463, ومسلم 2444.
([238]) السُّنح: العالية وهو مسكن زوجة أبي بكر رضي الله عنه وهو منازل بني الحارث من الخزرج بيته وبين المسجد النبوي ميل. الفتح 8/145 و7/19, 29.
([239]) أي يبعثه في الدنيا ليقطع أيدي القائلين بموته. انظر: الفتح 7/29.
([240]) أي قصد. الفتح 3/115.
([241]) وفي رواية للبخاري: وهو مسجَّى ببرد حبرة. البخاري برقم 1241, ومعنى مغشى ومسجى أي مغطى, وبرد حبرة: نوع من برود اليمن مخططة غالية الثمن. الفتح 3/115.
([242]) أي قبله بين عينيه كما ترجم له النسائي. انظر: الفتح 3/115, وانظر: ما نقله ابن حجر من الروايات في أنه قبل جبهته. الفتح 8/147.
([243]) قوله: لا يجمع الله عليك موتتين: فيه أقوال: قيل هو على حقيقته وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال..؛ لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى.. وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها, وقيل أراد لا يموت موته أخرى في القبر كغيره إذ يحيا ليسئل ثم يموت, وهذا أحسن من الذي قبله؛ لأن حياته صلّى الله عليه وسلّم لا يعقبها موت بل يستمر حيّاً والأنبياء حياتهم برزخية لا تأكل أجسادهم الأرض, ولعل هذا هو الحكمة في تعريف الموتتين... أي المعروفتين المشهورتين الواقعتين لكل أحد غير الأنبياء. انظر: فتح الباري 3/114 و7/29.
([244]) سورة الزمر، الآية: 30.
([245]) سورة آل عمران, الآية: 144.
([246]) عقِرت: دهشت وتحيرت, أما بضم العين فالمعنى هلكت. الفتح 8/146.
([247]) نشج الناس: بكوا بغير انتحاب, والنشج ما يحصل للباكي من الغصة. انظر: الفتح 7/30.
([248]) إنما قالت الأنصار رضي الله عنهم: منا أمير ومنكم أمير على ما عرفوه من عادة العرب أنه لا يتأمر على القبيلة إلا من يكون منها فلما سمعوا حديث الأئمة من قريش رجعوا إلى ذلك وأذعنوا. الفتح 7/32.
([249]) أي قريش. انظر: الفتح 7/30.
([250]) البخاري برقم 1141, 142, 3/113, و3667, 3668, 7/19 و4452, 4453, 4454, 8/145. وقد جمعت هذه الألفاظ من هذه المواضع لتكتمل القصة وأسأل لله أن يجعل ذلك صواباً.
([251]) البخاري برقم 3669, 3671, والآية من سورة آل عمران, 144.
([252]) هي خطبته التي خطب يوم الاثنين حينما قال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يمت.
([253]) وهذا من باب التواضع منه رضي الله عنه وإلا فهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم رضي الله عنه. البداية والنهاية 5/248.
([254]) والمعنى: الضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له وأنصره وأعينه.
([255]) البداية والنهاية 5/248 وساق سند بن إسحاق قال: حدثني الزهري, حدثني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر... الحديث. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح 5/248.
([256]) انظر: البخاري مع الفتح 8/15 برقم 4466, وفتح الباري 8/151 مختصر الشمائل للترمذي للألباني ص192.
([257]) انظر: البداية والنهاية لابن كثير, 5/235.
([258]) انظر: المرجع السابق 5/245.(2/173)
([259]) توفي صلّى الله عليه وسلّم سنة إحدى عشرة للهجرة في ربيع الأول يوم الاثنين, أما تاريخ اليوم فقد اختلف فيه: فقيل لليلتين خلتا من ربيع الأول, وقيل لليلة خلت منه, وقيل غير ذلك, وقيل مرض في التاسع والعشرين من شهر صفر, وتوفي يوم الاثنين في الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة , فكان مرضه ثلاثة عشر يوماً, وهذا قول الأكثر. انظر: البداية والنهاية لابن كثير 5/255 – 256, وتهذيب السير للنووي ص 25, وفتح الباري 8/129-130.
([260]) مسلم برقم 966.
([261]) ابن حبان في صحيحه 14/602، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح.
([262]) كما قال سفيان التمار في البخاري مع الفتح 30/255.
([263]) انظر: البداية والنهاية 5/271-273، وفتح الباري 8/129-130.
([264]) البخاري مع الفتح 1/58 برقم 5, ومسلم 1/67.
([265]) أخرجه ابن ماجه برقم 1599, وغيره وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 1/267, والأحاديث الصحيحة برقم 1106, وانظر: البداية والنهاية 5/276.
([266]) أضاء منها كل شيء: أشرق من المدينة كل شيء. انظر: تحفة الأحوذي 10/87.
([267]) وما نفضنا: من النفض: وهو تحريك الشيء ليزول ما عليه من التراب والغبار ونحوهما. انظر تحفة الحوذي 10/88.
([268]) وإنا لفي دفنه: أي مشغولون بدفنه بعد. انظر: تحفة الحوذي 10/88.
([269]) حتى أنكرنا قلوبنا: يريد أنهم لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه من الصفاء والألفة لانقطاع مادة الوحي وفقدان ما كان يمدهم من الرسول صلّى الله عليه وسلّم من التأييد والتعليم, ولم يرد أنهم لم يجدوها على ما كانت عليه من التصديق؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم أكمل الناس إيماناً وتصديقاً. انظر: تحفة الحوذي 10/88.
([270]) الترمذي وصححه 5/589, وأحمد 3/68, وابن ماجه برقم 1631, وقال ابن كثير في البداية والنهاية: إسناده صحيح على شرط الصحيحين 5/274, وانظر: صحيح ابن ماجه 1/273.
([271]) مسلم برقم 2454, وابن ماجه برقم 1635, واللفظ من المصدرين. وانظر: شرحه في النووي 16/242.
([272]) البخاري 5/356, برقم 2739, 2873, 2912, 3098، 4461, واللفظ من هذه المواضع.
([273]) مسلم برقم 1635.
([274]) أي لم يوص بثلث ماله ولا غيره إذ لم له مال, أما أمور الدين فقد تقدم أنه أوصى بكتاب الله وسنه نبيه, وأهل بيته, وإخراج المشركين من جزيرة العرب, وبإجازة الوفد, والصلاة وملك اليمين وغير ذلك. انظر: شرح النووي 11/97.
([275]) البخاري في عدة مواضع من حديث عائشة ومالك بن أوس, وأبي بكر رضي الله عنهم, برقم 3093, 3712, 4036, 4240, 5358, 6726, و6727, 7305. ومسلم برقم 757, و1758, 1759, و1761, واللفظ لعائشة عند مسلم.
([276]) أبو داود 3/317, والترمذي 5/49, وابن ماجه 1/80, وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/43.
([277]) أخرجه الخطيب البغدادي بسنده في شرف أصحاب الحديث ص 45.
[278] ) البخاري برقم 2068 وكرره بفوائده في عشرة مواضع , ومسلم برقم 1603 , وانظر: جميعها في مختصر البخاري للألباني 2/21.
[279] ) انظر: شرح النووي 11/43.
[280] ) انظر: البخاري مع الفتح 11/283.
([281]) أحمد 6/154 وقال ابن كثير في البداية والنهاية 5/284, وإسناده جيد, وأخرجه الترمذي وغيره, وانظر: الأحاديث الصحيحة برقم 439, وصحيح الترمذي 2/280.
([282]) أبو داود 1/275, وابن ماجه 1/524, والنسائي 3/91, وصححه الألباني في صحيح النسائي 1/197.
([283]) سورة التغابن, الآية: 8.
([284]) سورة الأعراف, الآية: 158.
([285]) سورة الحديد, الآية: 28.
([286]) سورة الفتح, الآية: 13.
([287]) مسلم 1/52.
([288]) انظر: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم للقاضي عياض 2/539.
([289]) سورة الأنفال, الآية: 20.
([290]) سورة الحشر, الآية: 7.
([291]) سورة النور, الآية: 54.
([292]) سورة النور, الآية: 63.
([293]) سورة الأحزاب, الآية: 71.
([294]) سورة الأحزاب, الآية: 36.
([295]) سورة النساء, الآيتان: 13, 14.
([296]) البخاري مع الفتح 13/111 برقم 7137.
([297]) البخاري مع الفتح 13/249 برقم 7280.
([298]) أحمد في المسند 1/92, والبخاري مع الفتح معلقاً 6/98, وحسنه العلامة ابن باز, وانظر: صحيح الجامع 3/8.
([299]) سورة آل عمران, الآية: 31.
([300]) سورة الأحزاب, الآية: 21.
([301]) سورة الأعراف, الآية: 158.
([302]) البخاري مع الفتح 9/104 برقم 5063.
([303]) سورة التوبة, الآية: 24.
([304]) البخاري مع الفتح 1/58 برقم 15, مسلم 1/67.
([305]) البخاري مع الفتح 10/557 و13/131, ومسلم 4/2032.
([306]) مسلم 4/2032.
([307]) البخاري مع الفتح 11/523.
([308]) البخاري مع الفتح 10/557.
([309]) مسلم في صحيحه 1/62.
([310]) البخاري مع الفتح 1/72, ومسلم 1/66 وتقدم تخريجه ص66.
([311]) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم 2/549 و2/563.(2/174)
([312]) انظر: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم 2/571 –582.
([313]) مسلم 1/74.
([314]) الشفاء بتعريف حقوق المصطفي صلّى الله عليه وسلّم للقاضي حياض 2/582 -584.
([315]) سورة الفتح, الآية: 9.
([316]) سورة الحجرات, الآية: 1.
([317]) سورة النور, الآية: 63.
([318]) الشفاء 2/595 و612.
([319]) سورة الأحزاب, الآية: 56.
([320]) أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما 1/288.
([321]) أبو داود 2/218, وأحمد 2/367, وانظر: صحيح أبي داود 1/383.
([322]) الترمذي 5/551, وغيره, وانظر: صحيح الترمذي 3/177.
([323]) الترمذي, وانظر: صحيح الترمذي 3/140.
([324]) النسائي 3/43, وصححه الألباني في صحيح النسائي 1/274.
([325]) ابن خزينة 3/192, وأحمد 2/254, وصححه الأرنؤوط في الأفهام.
([326]) أخرجه أبو داود 2/218 برقم 2041, وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 1/283.
([327]) راجع كتاب جلاء الأفهام في الصلاة واللام على خير الأنام صلّى الله عليه وسلّم للإمام ابن القيم رحمه لله تعالى.
([328]) السياق يقتضي "و".
([329]) هذه الزيادة من حديث طلحة في مسند أحمد 4/29.
([330]) أحمد 3/261, وابن حبان الرقم 2390 (موارد), والحاكم 1/551، وصححه الأرنؤوط في تحقيقه لجلاء الأفهام ص 65.
([331]) سورة النساء الآية: 59.
([332]) سورة النساء, الآية: 65.
([333]) سورة الأنعام, الآية: 50.
([334]) سورة الأعراف, الآية: 188.
([335]) سورة الجن, الآيتان: 21، 22.
([336]) سورة الزمر, الآية: 30.
([337]) سورة الأنبياء, الآيتان: 34, 35.
([338]) سورة الأنعام, الآيتان: 162, 163.
---------------
35.الرحمة النبوية.. منهج إنساني نادر
محمد فتح الله كولن
لقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الممثل الوحيد لتجلي صفة الرحمة والرحمانية لله تعالى في الأرض. واستعمل هذه الصفة كإكسير شاف لفتح القلوب والتربع على عروشها.
فصفة الشفقة والرأفة واللين في الإنسان هي العامل الثاني في جذب الناس وفتح قلوبها بعد صفة الإخلاص والتجرد الحقيقي.
لقد كانت رقة وجمال العالم الداخلي للرسول صلى الله عليه وسلم وقابليته غير الاعتيادية ورحمته وشفقته -اللتان كانتا بُعدًا آخر من أبعاد فطنته- من عوامل نجاحه التي استعملها واستغلها، ومن دلائل نبوته كذلك.
أجل؛ لقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين. لقد كان مرآة مجلوة تعكس رحمة الله تعالى. كأنه كان نبعًا وسط الصحارى أو حوض كوثر تقاطر عليه الجميع وفي يد كل منهم وعاؤه، يشرب حتى يطفئ ظمأه ويروي غلته ويملأ وعاءه. إنه بسرّ بُعد الرحمة المتجلية فيه مثل حوض كوثر للجميع، لمن أراد واستطاع الاستفادة منه.
غير أنه بفطنته الرائعة جعل الرحمة الموجودة في فطرته شِبَاك رحمة لصيد القلوب، فمن وجد نفسه في ذلك الجو الساحر وجد نفسه في طريق الجنة، وفي قمة الوجد. هكذا كانت "الرحمة" في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاحًا سحريًّا. وبهذا المفتاح فتح مغاليق أقفال صدئة لم يكن أحد يتوقع فتحها بأي مفتاح، وأشعل شعلة الإيمان في القلوب.. أجل، لقد سلّم هذا المفتاح الذهبي إلى محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان أليق الناس به، والله تعالى دائمًا يسلم الأمانة لمن هو أهل لها.
لذا، سلّم مفتاح القلوب التي أعطاها أمانة للناس إلى من هو أكثر أهلية له من بين كل الناس وكل البشر؛ إلى محمد صلى الله عليه وسلم. لقد أرسله الله رحمة للعالمين، فقام صلى الله عليه وسلم بتقييم هذه الرحمة بشكل متوازن جدًّا؛ لأن التوازن شيء مهم في موضوع الرحمة.
الإفراط والتفريط في الرحمة
هناك إفراط وتفريط في مسألة الرحمة كما في المسائل الأخرى. ويمكن مشاهدة أفضل مثل على سوء استعمال الرحمة في فكر وتصرفات الماسونيين، فهم مع كونهم يتحدثون بمبالغة عن الحب وعن الإنسانية، نراهم لا يستطيعون إقامة أي علاقة حميمة مع أي شخص متدين، بل لو كان في مقدروهم أن يقتلوا كل شخص متدين ومسلم لفعلوا.
فالحب الذي يتحدثون عنه مقتصر عليهم وعلى من يفكر مثلهم، وهذا الحب في الحقيقة ليس الحب الخالص الذي نعرفه نحن، بل هو حب قائم على المنافع وعلى المصالح؛ بينما كانت رحمة سيد المرسلين رحمة متوازنة شاملة، لم تشمل الناس فقط، بل شملت الوجود بأجمعه.
يستطيع المؤمنون الاستفادة من الرحمة التي كان يمثلها النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذلك لأنه: {... بالمؤمنين رءوف رحيم} (التوبة: 128). ويستطيع الكافرون والمنافقون أيضًا -إلى جانب المؤمنين- الاستفادة من هذه الرحمة كذلك. حتى إن لجبريل حصة من هذه الرحمة.[1]
انظروا وتأملوا مدى شمولية وسعة هذه الرحمة؛ بحيث إن الشيطان نفسه بعدما شاهد هذه الرحمة انبعث فيه بعض الأمل فيها.[2] الرحمة التي يمثلها غير مقتصرة على أناس معينين ولا على جماعات معينة، ولم يقم أبدًا باستغلال هذه الرحمة كما فعل البعض.
خدعة "الإنسانية"(Humanizm)(2/175)
في أيامنا الحالية تيارات اتخذت من فكرة "الإنسانية" ستارًا لخداع الإنسان. وأنا أتساءل: ما الفرق بين هذا التصرف وبين تصرف العقارب والثعابين التي تقترب من الإنسان لتلدغه؟ إن الحب الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمثله لم يكن من هذا النوع أبدًا، ويجب ألا يخلط به.
إن مفهوم الحب في الإسلام حب متوازن يضم في إطاره الدنيا والآخرة كما هو شأنه في الأمور الأخرى كذلك. لقد احتضن محمد صلى الله عليه وسلم برسالته الإنسانية كلها، بل الوجود كله بالحب، غير أن حبه الواسع وشفقته الشاملة لم تبق في إطار الكلام أو في بطون الكتب كما فعل الآخرون، بل سرعان ما انعكست في الحياة العملية وبكل معانيها العميقة وأبعادها الشاملة. علمًا بأنه ما من فكر من أفكاره صلى الله عليه وسلم أو عمل من أعماله إلا وأخذ طريقه إلى التطبيق العملي؛ ذلك لأنه كان رجل فكر وحركة وعمل.
إن الرحمة الواسعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي ضمت الوجود كله بإخلاص؛ وجدت طريقها إلى التطبيق؛ لأنها كانت معنى منبعثًا بكل تجرد وإخلاص من قلب الوجود كله. فمثلاً نراه يعبر عن شفقته على الحيوان بمثالين حيين: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن امرأة بغيًّا رأت كلبًا في يوم حارٍّ يُطِيف ببئرٍ، قد أَدْلَعَ لسانَه من العطَش، فنَزَعَتْ له بِمُوقِها فغُفِر لها".[3]
ثم يروي صلى الله عليه وسلم حادثة مقابلة لذلك: "عُذِّبتْ امرأةٌ في هرّة سجنتْها حتى ماتت فدخلت فيها النارَ، لا هي أطعمتْها ولا سقتْها إذ حبستْها، ولا هي تركتْها تأكل من خَشَاش الأرض".[4]
كان ذروة في كل شيء
لقد جاء رسول الله ليبلغ رسالة الرحمة هذه، فقد كان المنهل العذب المورود. فمن جاءه وجد الرحمة عنده، ومن شرب ماء الحياة من يده فقد حصل ووصل إلى الخلود المعنوي. فيا ليت الذين سيقفون أمام حوض الكوثر بقدَر ولطف من الله تعالى يعلمون قدره وفضله صلى الله عليه وسلم حق العلم.
ولكي لا يبقى ما قلناه مفهومًا مجردًا؛ فإنني أود تقديم أمثلة ملموسة، غير أنني أود قبل هذا لفت انتباهكم إلى أنه كان ذروة في كل شيء. فهناك أناس يتقدمون الصفوف في بعض المسائل، ولكنا نجدهم في أواخر صفوف مسائل ومجالات أخرى.
مثلاً نرى القائد الموفق في ساحات القتال وفي فنون الحرب مهما بلغ في مهارته هذه، فإنه لا يكاد يبلغ درجة راعٍ بسيط في ساحات أخرى في الشفقة ورقة العاطفة والفهم، بل لكونه معتادًا على القتل، فلن يكون إنسانًا رحيمًا في معظم الأحوال. ذلك لأن عواطفه وأحاسيسه قد فقدت حساسيتها ورقتها من كثرة ما اقترف من أعمال القتل، فلا يشعر بأدنى عاطفة وهو يقوم بقتل إنسان.
وقد يكون هناك سياسي ناجح في ميدان السياسة، ولكنك قد تراه مبتعدًا عن الصدق بنسبة نجاحه هذا، وقد لا يحترم حقوق الناس. أي أن ابتعاده عن الصدق وعن المروءة بنسبة نجاحه في ميدان السياسة يكون أمرًا واردًا. وهذا يعني أن ارتفاعًا في ميدان ما قد يستتبعه هبوط في ميدان آخر.
كما تستطيع مشاهدة الإنسان الذي افتتن بتيار الوضعية (Positivism)؛ وهو يجري وراء إجراء التجارب على كل شيء. وكيف أن الحياة الروحية والقلبية لمثل هذا الرجل لا تتجاوز خط الصفر.
بل هناك أشخاص وصلوا بعقولهم إلى "قمة إفرست". ولكنهم في حياتهم القلبية والروحية هابطين إلى مستوى "البحر الميت" "بحيرة لوط". فكم من شخص انساب عقلُه إلى عينيه فلا يرى شيئًا سوى المادة، يقف ذاهلاً أحمق أمام منطق الوحي، قد عميت عيناه عن رؤية الحقيقة.
من هذا الشرح القصير نعرف أن هناك أشخاصاً ينجحون في ساحات وميادين معينة، ولكنهم يفشلون في ساحات وميادين أخرى أكثر أهمية. أي أن الصفات المتناقضة الموجودة في الإنسان تعمل إحداها ضد الأخرى. فعندما تتوسع صفة ما وتقوى يكن هذا ضد صفات أخرى، وعندما تنمو إحداها وتقوى تضمر الأخرى وتضعف.
ولكن هذا الأمر غير وارد بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو إلى جانب كونه محاربًا كان صاحب شفقة عظيمة. كان سياسيًّا ولكنه في الوقت نفسه صاحب مروءة كبيرة وقلب كبير.
وبينما كان يعطي أهمية للأمور الملموسة وللتجارب، فإنه كان ذروة في حياة الروح وفي حياة القلب. ويمكن العثور على أمثلة كثيرة بهذا الصدد في غزوة أُحد. ففي تلك الغزوة استشهد عمه حمزة رضي الله عنه الذي كان يراه شقيق نفسه. لم يُستشهد فقط، بل مُزّق جسده تمزيقاً.[5] كما مُزّق جسد ابن عمته عبد الله بن جحش تمزيقاً.[6] وشج رأسه المبارك، وكسرت أسنانه وغطى الدم جسده الشريف؛[7] وبينما كثّف أعداؤه الهجوم عليه جاهدين الوصول إليه لقتله كان هذا الإنسان العظيم فوق كل عظمة فاتحاً يديه يبتهل إلى الله تعالى قائلاً: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".[8] فما أعظم وما أروع هذه الشفقة من شخص يحاول أعداؤه قتله فلا يدعو عليهم، بل يبتهل لله تعالى أن يغفر لهم.(2/176)
حتى فتح مكة لم يبق في يد أعدائه أيُّ وسيلة للإيذاء لم يجربوها معه ولم يوجهوها نحوه. تأملوا معي كيف أنهم أخرجوه هو ومن يقف معه من بيوتهم إلى منطقة صحراوية معلنين عليهم المقاطعة، ومعلقين بنود هذه المقاطعة الشريرة على جدار الكعبة، وكانت تقضي بعدم التعامل معهم بيعًا وشراء وعدم التزوج من بناتهم أو تزويج بناتهم لهم.
وقد دامت هذه المقاطعة ثلاث سنوات بحيث اضطروا إلى أكل العشب والجذور وأوراق الأشجار، حتى هلك منهم الأطفال والشيوخ من الجوع دون أن تهتز منهم شعرة، أو تتحرك عندهم عاطفة رحمة. ولم يكتفوا بهذا، بل اضطروهم لترك بيوتهم وأوطانهم والهجرة إلى أماكن أخرى بعيدة. ولم يدعوهم في راحة هناك فبدسائسهم المختلفة سلبوا منهم طعم الراحة والاطمئنان.
وفي غزوات بدر وأُحد والخندق اشتبكوا معهم في معارك ضارية، وحرموهم حتى من أبسط حقوقهم كزيارة الكعبة، وأرجعوهم إلى ديارهم بعد إبرام معاهدة ذات شروط قاسية. ولكن الله تعالى أنعم عليهم ففتحوا مكة ودخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس جيش عظيم.
فكيف كانت معاملته لأهل مكة بعد كل هذا التاريخ المملوء عداوة وبغضًا؟ لقد قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلَقاء". ولولا أنني أخذت هذا الدرس منه لما كنت قد تصرفت هكذا لو كنت في موقعه، ولا أشك أنكم تشاطرونني رأيي هذا.
ويدخل مكة على مركبه والدرع على صدره والمغفر على رأسه والسيف في يده والنبال على ظهره. ولكنه مع كل مظاهر لباس الحرب هذه كان أنموذجًا للشفقة والرأفة. سأل أهل مكة: "ما ترون أني فاعل بكم؟" فأجابوه: "خيرًا.. أخٌ كريمٌ وابن أخ كريم". فقال لهم ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته: {لا تثريبَ عليكم اليوم يَغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} (يوسف: 29) [9].
لم يقصر في حياته أبداً من ناحية اتخاذ الحيطة. وليس هناك من استطاع مثله الجمع بقوة بين اتخاذ التدبير والتوكل. عندما خرج بأصحابه إلى بدر امتحنهم. كان كل منهم كالطود الشامخ لا يخاف الوقوف وحده أمام جيش بكامله، وعندما قال له سعد بن معاذ -وفي رواية سعد بن عبادة-: "يا رسول الله! والذي نفسي بيده لو أمرتَنا أن نخيضها البحار لأخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْكِ الغِمَاد لفعلنا ما تخلَّف منا أحد" [10].
فإنه كان يعطي أنموذجًا لهؤلاء، ثم ما أكثر المعاني التي يحملها قوله للرسول صلى الله عليه وسلم: "فصِلْ حِبال من شئتَ واقطعْ حبال من شئت وعادِ من شئت وسالِمْ من شئت وخذ من أموالنا ما شئت". [11].
كان المقاتلون متهيئين فكأن كل واحد منهم سعد بن معاذ، ومع ذلك لم يقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في اتخاذ التدابير، بل كان يهيئ كل الوسائل والأمور الضرورية للحرب. وبعد هذا الدعاء الفعلي -لأن اتخاذ الوسائل دعاء فعلي- رفع يديه إلى السماء مبتهلاً إلى الله من كل قلبه ضارعاً وملتجئاً إليه.
واندمج في دعائه بحيث كان رداؤه يسقط دون أن يشعر بذلك ولم يتحمل أبو بكر الذي كان يراقب هذا المنظر، فكان يعيد عليه رداءه ويقول: "يا نبيّ الله! كفاك مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك".[12] فمثل هذا المستوى الرفيع من التوكل على رب العالمين بعد اتخاذ كل هذه التدابير صفة تميز بها ذلك الإنسان.. إنسان الذروة صلى الله عليه وسلم.
الرحمة العالمية
لقد ذكرت في بداية هذا الموضوع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مثال الرحمة التي استفاد منها الكل؛ المؤمن والكافر والمنافق. يستفيد المؤمن من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يقول بأنه أقرب للمؤمنين من أنفسهم.
صحيح أن المفسرين يقولون إن الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون أعز وأحب إلى المؤمنين من أنفسهم، استناداً إلى الآية الكريمة: {النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: 6). ولكن الحقيقة أن المعنيين متقاربان من بعضهما، فنحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أنفسنا، والرسول صلى الله عليه وسلم يحب من يحمل له هذه العاطفة بالحب نفسه؛ ذلك لأنه رجل مروءة كبير.
هذا حب عقلي ومنطقي، ومع أن لهذا الحب جانبه العاطفي إلا أن بُعد المعرفة وعمق المنطق يشكلان الجانب الأساسي فيه. ولو تم بحث هذا الموضوع وتسليط الأضواء عليه، تجذر هذا الحب عند الإنسان وقوي إلى درجة أن يسير وراء ذكره كما سار "قيس" وراء ليلاه، وكلما ذكر اسمه أحس كأن دخاناً يخرج من أنفه، ويُعِدّ حياته التي انقضت دون رؤيته كأنها حياة منفى وهجر.
أجل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب إلينا من أنفسنا. كيف لا ونحن نرى الكثير من الشرور والآثام من أنفسنا، بينما لم نرَ منه سوى الكرم والرحمة والخير والشفقة والمروءة، فهو يمثل الرحمة الإلهية؛ لذا فلا شك أنه أقرب إلينا من أنفسنا.(2/177)
وعندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه أقرب إلى المؤمنين من أنفسهم فقد صدق، فالله تعالى يقول {النبي أَوْلَى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: 6). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفِّي وعليه ديْن فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته".[13]
وبداية هذا الحديث:... عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدين، فيسأل: "هل ترك لدينه من قضاء؟"، فإن حدث أنه ترك وفاء صلَّى عليه، وإلا قال: "صلّوا على صاحبكم". فلما فتح الله عليه الفتوح، قال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفِّي وعليه دين فعليّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته".[14] وكون الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم في الدنيا والآخرة يُعَدّ رحمة، وناحية الرحمة هذه مستمرة إلى الأبد.
كان رحمة للمنافقين أيضًا. فبسبب هذه الرحمة الواسعة لم يرَ المنافقون العذاب في الحياة الدنيا. فقد حضروا إلى المسجد واختلطوا بالمسلمين واستفادوا من كل الحقوق التي تمتع بها المسلمون. ولم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضحهم وإفشاء أسرار نفاقهم أبداً مع أنه كان يعرف دخائل نفوسهم ونفاقهم، حتى إنه أخبر حُذيفة رضي الله عنه بذلك [15]. لذا، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يراقب حُذيفة، فإن رآه لا يصلي على جنازة لم يصلها هو كذلك.[16]
ومع ذلك فلم يهتك الإسلام سرهم، فبقوا بين المؤمنين، وانقلب كفرهم المطلق إلى ريبة وشك على الأقل، فلم يحرموا من لذائذ الدنيا؛ لأن الإنسان الذي يعتقد أنه سيفنى ويذهب إلى العدم لا يمكن أن يهنأ في عيشه، ولكن إن انقلب كفره إلى شك وشبهة فإنه يقول في نفسه: "ربما توجد هناك حياة أخروية"، عندئذ لن تكفهر حياته تمام الاكفهرار. ومن هذا المنطلق كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة لهم بهذا المعنى.
كما استفاد الكفار من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى كان يهلك من قبل الأمم الكافرة بسبب كفرها وعصيانها هلاكاً جماعياًّ، بينما رفع الله تعالى بعد بعثة نبينا هذا الهلاك الجماعي، فاستفاد الناس من خلاصهم من مثل هذا العذاب، فكان ذلك نعمة دنيوية بالنسبة للكفار. يخاطب الله تعالى نبيه في هذا الخصوص فيقول: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} (الأنفال: 33).
أجل، فمن أجل حرمة النبي صلى الله عليه وسلم رفع الله تعالى العذاب والهلاك الجماعي. وبينما كان النبي عيسى عليه السلام يقول لله تعالى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} (المائدة: 118). نرى أن الله تعالى يقول لنبيه: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}.
فتأمل قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته عند الله، أي طالما أنت تعيش بينهم فلن يعذبهم الله. طالما أن ذكرك موجود، وتلهج به الألسنة، وطالما أن الناس يتبعون طريقك فلن يعذبهم الله ولن يهلكهم.
وإحدى الجهات التي استفاد الكفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لم أُبعث لعّاناً، وإنما بُعثت رحمة".[17] أي إنني بعثت رحمة من قبل الله تعالى للناس أجمعين، ولم أبعث لكي أستمطر اللعنة والبلايا والمصائب على الناس. ولهذا تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتداء ألدّ أعداء الإسلام، وبذل كل جهوده ومساعيه لتحقيق هذا.
حتى جبريل عليه السلام قد استفاد من النور الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يشير إلى القرآن: "هل أصابك من هذه الرحمة شيء؟" قال: "نعم، كنت أخشى العاقبة، فأمنت لثناء الله عز وجل عليّ بقوله: {ذي قوة عند ذي العرش مكين * مُطاعٍ ثَمّ أمين} (التكوير: 20-21)" [18].
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "أنا محمد وأحمد والمقفَّى[19]، وأنا الحاشر[20]، ونبي التوبة ونبي الرحمة".[21] وباب التوبة مفتوح حتى يوم القيامة؛ لأن رسول الله نبيُّ الرحمة والتوبة، ونبوته وحكمه ماض إلى يوم القيامة.
كان إذا رأى طفلاً أو صبيًّا يبكي جلس وبكى معه؛ إذ يشعر في وجدانه ألم الأم وعذابها. ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه نجد نموذج هذه الرحمة، وهذه الشفقة التي لهجت بها الألسن؛ إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأخفف من شدة وَجْد أمه به".[22]
كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلة، ولا سيما النوافل منها؛ إذ كانت تتجاوز طاقة الصحابة، ولكنه عندما يقف للصلاة يريد إطالتها ويسمع بكاء طفل في أثنائها؛ إذ به يخفف صلاته ويتَجوَّز فيها؛ ذلك لأن النساء كن يقفن للصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يشتركن في أداء صلاة الجماعة خلفه، فخوفاً من أن تكون أم ذلك الطفل موجودة بين المصليات فإنه كان يخفف صلاته، ويسرع بها لكي يريح قلب تلك الأم.(2/178)
كان في كل مسألة نموذجًا للشفقة؛ فبكاء طفل كان يؤلمه، بل كان يبكيه. ولكن المهم هو أنه بكل شفقته الواسعة الباهرة، ورحمته كان متوازنًا، فمثلاً رحمته الواسعة هذه لم تكن حائلة أمامه في تطبيق الحدود الشرعية؛ مهما كان شكل هذه الحدود وكيفيتها.
جاءه أحد الصحابة وهو ماعز رضي الله عنه قائلاً له: "طهِّرْني يا رسول الله". فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً له: "ويحك، اِرْجِعْ فاستغفر الله وتب إليه". إلا أن ماعزاً كان يُصِرّ على التطهر ويطلبه. وعندما كرّر طلبه للمرة الرابعة سأله الرسول صلى الله عليه وسلم: "فيم أطهرك؟"، فقال ماعز: من الزنى يا رسول الله.
كان ماعز متزوجًا، أي محصنًا، وعقاب الزنى للمحصن هو القتل رجماً. ولكي يبقى هذا الأمر منقوشاً في الأذهان حتى يوم القيامة فقد التفت إلى من حوله سائلاً: "أبه جنون؟" فأُخبر أنه ليس بمجنون. وفي رواية: ما نعلمه إلا وفيّ العقل، من صالحينا فيما نرى.
فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشَرب خمراً؟" فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لماعز: "أزَنيت؟" فقال: نعم. فأمر برجمه، فسيق ماعز إلى المصلى لرجمه، فلما أصابته الحجارة أدبر يشتد، فلقيه رجل بيده لحي جمل فضربه فصرعه، فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فراره. فقال: "فهلاَّ تركتموه".
فكان الناس فيه فرقتين، فقائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئة، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، إنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده، ثم قال: اقتلني بالحجارة. فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس، فسلّم ثم جلس فقال: "استغفروا لماعز بن مالك" فقالوا: غفر الله لماعز بن مالك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد تاب توبة لو قُسِّمت بين أمة لَوَسِعتهم"[23]. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل موازنة، ولو فرضنا المستحيل وقلنا إن ماعزًا عاد للحياة، واقترف الذنب نفسه لكرر الرسول صلى الله عليه وسلم العقاب نفسه.
كان لدى بني مقرّن خادمة، فلطمها أحدهم، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باكية، فاستدعى الرسول صلى الله عليه وسلم مالكها قائلاً له: "أَعتِقوها"، فقالوا: ليس لهم خادم غيرها. قال: "فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها، فليخلّوا سبيلها". [24] أجل، فلو بقي إثم هذه اللطمة الظالمة ليوم الحساب لكانت اللطمات هناك أشد وأقسى؛ لذا كان العتق هو بديل هذه اللطمة لكي تكن ديتها يوم القيامة عن عذاب جهنم[25].
الشفقة مع الأطفال
أما شفقته على أطفاله فكان أمراً مختلفاً تماماً، فكثيراً ما ذهب إلى الأسرة التي ترضع ابنه إبراهيم، حيث يأخذه في حجره طويلاً، ويقبله ويعطف عليه[26].
وعندما رأى الأقرع بن حابِس التميمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقبل الحسن والحسين رضي الله عنه ويأخذهما في حضنه، قال: "إن لي عشرة من الولد، ما قبَّلتُ منهم أحداً"، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "من لا يَرْحم لا يُرحم" [27].
وفي حديث آخر: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".[28] وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبّلون الصبيان؟ فما نقبّلهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوَ أملك لك إن نَزَع الله من قلبك الرحمة"[29].
وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطف على أقربائه، فإنه كان يعطف كذلك على أصدقائه القريبين منه أو البعيدين عنه. وفي رواية لابن عمر رضي الله عنه قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم جميعًا، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله فقال: "قد قضى؟". قالوا: لا يا رسول الله. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا. فقال: "ألا تسمعون، إن الله لا يعذِّب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا"، وأشار إلى لسانه[30].
أجل، إن الله لا يعذب بسبب دمع العين، على العكس من ذلك فهناك دموع يرفع الله بسببها العذاب، ففي حديث آخر يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرُس في سبيل الله". [31] إحدى العينين عين الرهبان، والأخرى عين الفرسان.
ففي الليل كانوا رهباناً يذرفون الدموع في عبادتهم وسجودهم. وفي النهار كانوا فرساناً يصولون ويجولون ويهاجمون الأعداء كالأسود. دموع هؤلاء كانت دموع المؤمنين الحقيقيين، والصحابة كانوا من هذا النوع من المؤمنين: رهبان في الليل فرسان في النهار.(2/179)
عندما أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوفاة عثمان بن مظعون رضي الله عنه أسرع إلى بيته، فقد كان عثمان رضي الله عنه من الصحابة القريبين إلى قلبه. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم عليه بكاء كثيراً. ولكن عندما قالت زوجة عثمان رضي الله عنه: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال النبي صلى الله عليه سلم: "وما يدريك أن الله أكرمه؟ والله ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي"[32].
أجل، لقد كان رجل توازن. فشفقته وبكاؤه لم يكن يمنعه من تصحيح خطأ. فالدموع التي سكبها على أحد أصحابه الأحبة؛ ما كانت لتحول بينه وبين تصحيح كلام مبالغ فيه أو خاطئ. فالوفاء شيء والحق شيء آخر. كان يزور شهداء أحد كل أسبوع[33]، ولكنه لم يكن يقول: لقد طِرتم إلى الجنة. ولا يقولن أحد منا: إن لم يذهب هؤلاء إلى الجنة؟! نعم هذا هو الأمر.
ثم ألا تكفي الرتبة والمقام الذي أعطاه لكافل اليتيم دليلاً على شفقته الواسعة؟ انظروا ماذا يقول صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا"، ثم أشار بالسبابة والوسطى، وفرّج بينهما شيئاً.[34] فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقول بأنه لن يدخل أحد بيني وبين كافل اليتيم في الجنة.
رحمة بالحيوانات.. أيضاً
كانت شفقته تشمل الحيوانات أيضاً، فقد مرّ سابقاً كيف أن امرأة دخلت النار بسبب هرة، وكيف أن بغياًّ دخلت الجنة بسبب سقيها الماء لكلب ظامئ. وهنا أنقل لكم حادثة أخرى بهذا الخصوص كخاتمة للموضوع:
عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته. فرأينا حُمَّرَة معها فرخان، فأخذْنا فرخيْها، فجاءت الحُمَّرَة فجعلت تَفْرُش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من فَجَع هذه بولدها؟ رُدُّوا ولدها إليها"[35].
أجل، لقد كانت شفقته تحتضن الحيوانات أيضًا. ثم ألا نتذكر أن الله تعالى عاتب أحد أنبيائه السابقين بسبب بيت نمل؟ إذ قام هذا النبي عن قصد أم عن دون قصد بحرق بيت نمل، فما لبث أن جاءه تأنيب من الله تعالى[36].
ونبينا الذي نقل لنا هذه الحادثة وأمثالها من الحوادث الأخرى أيمكن أن يتصرف إلا هكذا..؟ وظهر فيما بعد في أمته أشخاص عندما يُمدحون يقال عنهم: إنه لا يؤذي حتى نملة. هؤلاء الأشخاص كانوا يعلقون أجراساً صغيرة على أقدامهم لكي تبتعد الحشرات عن طريقهم عند سماعها لصوت الأجراس، ولا تنسحق تحت الأقدام... يا إلهي..! ما هذه الشفقة العميقة والشاملة!! وما هذا الأنموذج الرائع للرحمة..!.
أجل، حتى النمل لم تخرج عن دائرة رحمته صلى الله عليه وسلم ولم تستثنَ منها. وهل يكون في مقدور إنسان يتحرج عن سحق نملة القيام بظلم الناس الآخرين؟ كلا، لا يستطيع هذا عن علم وعن قصد أبداً.
عندما كان صلى الله عليه وسلم في "مِنًى" خرجت حية من بين بعض الصخور، فأسرع بعض الصحابة لقتلها، غير أنها استطاعت أن تنسلّ بين شقوق الصخور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يراقب المنظر عن بُعد: "وقاها الله شرّكم، ووقاكم شرّها"[37].
فالرسول كان يرى فيما هم به الصحابة شراًّ، والمقتول وإن كان حية إلا أن لها مكانًا أيضاً في نظام هذه الدنيا. فأي قتل غير ضروري سيضر بالتوازن البيئي، ويؤدي إلى أضرار لا يمكن تلافيها. والحقيقة أن إعلان الحرب على الحشرات باسم الزراعة والمحافظة عليها، يُعَدّ جريمة بالنسبة للتوازن البيئي، والغريب أن هذه الجرائم ترتكب اليوم باسم العلم.
يروي ابن عباس رضي الله عنه: أن رجلاً أضجع شاة يريد أن يذبحها، وهو يحد شفرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلاَّ حددتَ شفرتك قبل أن تضجعها".[38] كان هذا بمثابة عتاب لذلك الشخص.
يروي عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: جاء بعير يشتد حتى سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام بين يديه، فذرفت عيناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صاحب هذا البعير؟" قالوا: فلان. فقال: "ادعوه، فأتوا به"، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "يشكوك" فقال: يا رسول الله، هذا البعير كنا نسنو عليه منذ عشرين سنة، ثم أردنا نحره.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شكا ذلك، بئسما جازيتموه، استعملتموه عشرين سنة حتى إذا أرق عظمه، ورق جلده أردتم نحره بعينه" قال: بل هو لك يا رسول الله. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجه نحو الظهر، أي الإبل[39].
لقد كانت رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشفقته تتجاوز بكثير الرحمة المدعاة من قبل ما يطلق عليهم اليوم اسم "أنصار الإنسانية"، ولكنه استطاع أن يصون رحمته الواسعة من الإفراط ومن التفريط أيضاً، بفضل فطنته الكبيرة.
أجل، لم يتهاون أبداً مع أي شر أو إثم تحت اسم المرونة أو الرحمة أو المسامحة، ولم يدعْ له فرصة لوضع بنيانه ومد جذوره؛ لأنه كان يعرف جيداً أن أي مسامحة لمجرم أثيم ذي روح متوحش تعني الاعتداء على حقوق آلاف من الأبرياء.(2/180)
ونعترف بكل أسى أن أيامنا الحالية مملوءة بمثل هذه الاعتداءات أكثر من أي عهد مضى. فقد رأينا بأم أعيننا إلى أي حال جرّنا هذا التسامح مع الفوضويين ومع أعداء عقائدنا وتراثنا وماضينا. ولا نزال نرى ذلك ونشاهده، وقلوبنا تتفطر ألماً.
فإن لم تستخدم الرحمة والشفقة بشكل متوازن أدى ذلك إلى نتائج وخيمة جداًّ في مستوى الفرد، وفي مستوى المجتمع ككل. بينما لا يمكن الإشارة إلى أي مثال على هذا الاستعمال السلبي للرحمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أجل، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الناس إلى درجة يكاد يتلف فيها نفسه، والقرآن الكريم يشير إلى هذا الأمر في بعض المواضع؛ إذ يقول: {فلعلك باخع نفسك[40] على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} (الكهف: 6). هذا علماً بأنه عندما اقتربت منه نسائم النبوة كان معتكفاً في مغارة، وجاءه الوحي لأول مرة هناك. إذن، فقد كان يحب الناس، ونذر نفسه من أجل هذه الغاية.
--------------------------
* مقال مأخوذ من كتاب: "مفخرة الإنسانية: النور الخالد".
** من أشهر الدعاة في تركيا وواحد من أبرز المنظِّرين للفكر الدعوي بها. ولد في 27 نيسان عام 1941 في قرية صغيرة تابعة لقضاء (حسن قلعة) المرتبطة بمحافظة أرضروم، وهي قرية كوروجك ونشأ في عائلة متدينة، وكان والده (رامز أفندي) شخصاً مشهوداً له بالعلم والأدب والدين.
[1] الشفاء، للقاضي عياض 1/17.
[2] مجمع الزوائد، للهيثمي 10/216؛ "كنز العمال" للهندي 4/244
[3] البخاري، الأنبياء، 54؛ مسلم، السلام، 154
[4] البخاري، المساقاة، 9؛ مسلم، السلام، 151؛ الدرامي، الرقاق، 93؛ "المسند" للإمام أحمد 2/507
[5] البخاري، المغازي، 23
[6] السيرة النبوية، لابن هشام 3/103
[7] البخاري، المغازي، 24؛ مسلم، الجهاد، 100، 101
[8] البخاري، الأنبياء، 54؛ مسلم، الجهاد، 104، 105
[9] السيرة النبوية، لابن هشام 4/55؛ "البداية والنهاية" لابن كثير 4/344
[10] البداية والنهاية، لابن كثير 3/321، 322؛ "السيرة النبوية" لابن هشام 2/266
[11] البداية والنهاية، لابن كثير 3/322
[12] مسلم، الجهاد، 58؛ الترمذي، تفسير سورة (8) 3؛ "المسند" للإمام أحمد 1/32؛ "السيرة النبوية" لابن هشام 2/279؛ "البداية والنهاية" لابن كثير 3/332
[13] البخاري، الكفالة، 4؛ مسلم، الفرائض، 14
[14] البخاري، الاستقراض، 11؛ مسلم، الفرائض، 14؛ "المسند" للإمام أحمد 3/311
[15] البخاري، فضائل أصحاب النبي، 20؛ "أسد الغابة" لابن الأثير 1/468
[16] أسد الغابة، لابن الأثير 1/468
[17] مسلم، البر، 87
[18] الشفاء، للقاضي عياض 1/17
[19] المقفَّي: أي خاتم الأنبياء. (المترجم)
[20] الحاشر: أي ليس بينه وبين الحشر نبي آخر في معنى، وفي معنى آخر أن الله سيحشر الناس أمامه يوم القيامة. (المترجم)
[21] مسلم، الفضائل، 126؛ "المسند" للإمام أحمد 4/395
[22] البخاري، الأذان، 65؛ مسلم، الصلاة، 192
[23] مسلم، الحدود، 17-23؛ البخاري، الحدود، 28؛ "المسند" للإمام أحمد 1/238، 2/450
[24] مسلم، الأَيْمان، 31، 33؛ أبو داود، الأدب، 123؛ "المسند" للإمام أحمد 3/447
[25] مسلم، الأَيْمان، 30
[26] المسند، للإمام أحمد 3/112
[27] البخاري، الأدب، 18؛ مسلم، الفضائل، 65
[28] الترمذي، البر، 16؛ أبو داود، الأدب، 58
[29] البخاري، الأدب، 18؛ مسلم، الفضائل، 64؛ ابن ماجه، الأدب، 3؛ "المسند" للإمام أحمد 6/56
[30] البخاري، الجنائز، 45؛ مسلم، الجنائز، 12
[31] الترمذي، فضائل الجهاد، 12
[32] البخاري، الجنائز، 3
[33] البخاري، المغازي، 27؛ مسلم، الفضائل، 30؛ النسائي، الجنائز، 103؛ "الطبقات الكبرى" لابن سعد 2/205؛ "السيرة النبوية" لابن هشام 4/300
[34] البخاري، الطلاق، 25، الأدب، 24؛ مسلم، الزهد، 42
[35] أبو داود، الأدب، 164، الجهاد، 112؛ "المسند" للإمام أحمد 1/404
[36] البخاري، الجهاد، 153؛ مسلم، السلام، 148
[37] البخاري، جزاء الصيد، 7؛ مسلم، السلام، 137؛ النسائي، الحج، 114؛ "المسند" للإمام أحمد 1/385
[38] المستدرك، للحاكم 4/231، 233
[39] مجمع الزوائد، للهيثمي 9/9؛ "الخصائص الكبرى" للسيوطي 2/95
[40] باخع نفسك: قاتلها ومهلكها من شدة الغم (المترجم).
---------------
36.صبر النبي عليه الصلاة والسلام على الدعوة
د.عبد الوهاب بن ناصر الطريري
أيها الإخوة والأخوات والأبناء والبنات حياكم الله مع لقاء يتجدد نرحل به مع قلوبنا أرواحنا وجداننا، نرحل به إلى هناك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع رسول الله في دعوته، هذه الدعوة التي كان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ملحمة في الصبر، دأب وطول الأمل واليقين والثبات، هذه المعاني ليست معاني مجردة نذكرها سرداً وعداً لكنها حقائق تشرق من حال النبي صلى الله عليه وسلم.(2/181)
عندما نتقفى هذه السيرة نفوسنا ظمئة يرويها أن ترد معين السيرة ومعين حال النبي صلى الله عليه وسلم فتتروى من هديه وهداه، نحن أحوج ما نكون إلى أن نورد قلوبنا المكدودة معين سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتجد هناك مستراحها وأنسها، ولذلك استنهض نفوسكم أيها الإخوة والأخوات والأبناء والبنات أن نذهب إلى هناك، نرحل مع خبر تقصه علينا أمنا عائشة.
أمنا تستنطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتستروي خبره فيخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تستقرئه وتسترويه مسيرته مع دعوته، تستروي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تحضره من أحواله وقصته مع الدعوة، تفتح وعي أمنا عائشة رضي الله عنها مع الرسول والرسالة على حوادث وافتها لحداثة سنها وصغر عمرها، أحداث أخر ولذلك كان أشد ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم مما أدركه وعي عائشة يوم أحد وإذا بها تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما قبل يوم احد، فتقول له : يا رسول الله هل مر عليك يوم هو أشد عليك من يوم أحد؟ سؤال من أمنا عائشة وكانت صغيرة السن لكنها عبقرية ذكية ولماحة، هي تعلم ماذا لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، في يوم أحد شج جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، كسرت رباعيته، غاصت حلقتان من حلقات المغفر في وجنتيه صلى الله عليه وسلم.
صرع أصحابه حوله، وقف على جثمان عمه حمزة أحب الناس إليه وخيرة أهل بيته، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جثمانه وقد بقر بطنه، واستخرجت أحشائه، ومثل به، فوقف صلى الله عليه وسلم كاسفاً حزيناً على هذا الجثمان الطاهر وهو يقول: لن أصاب بعد اليوم بمثل مصيبتي فيك.
كل هذا أصاب النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، فهل أصاب النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أشد من ذلك؟ يا رسول الله هل أصابك ما هو أشد عليك مما أصابك يوم أحد، سؤال أمنا عائشة فما كان الجواب، ماذا كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنما تنكأ جراحاً غائرة في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد لقيت من قومك أذى شديداً كأنما كان سؤال عائشة يسترجع ذكريات مضى عليها زمن طمرتها السنين، فإذا بعائشة تستثيرها وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يجيب وكأنما عادت هذه المشاهد حية أمام ناظريه صلى الله عليه وسلم، لقد لقيت من قومك أذى كثيراً يعني نعم، مر عليّ ما هو أشد من يوم أحد فما الذي كان أشد من يوم أحد، ما الذي كان أشد من جرح في الجبين وكسر السن وأن تغار حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأن يرى أصحابه يصرعون حوله وأن يقف على جثمان عمه حمزة مشوهاً ممثلاً به، ما هو أشد من ذلك أشد من ذلك ما سيرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد من ذلك يوم عرضت دعوتي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال، ما هو خبر هذه الدعوة وخبر هذا العرض، نحتاج أن نذكر ما لم يذكر ونظهر المضمر، فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أزيد من عشر سنين قبل الهجرة وهو يدعو قريشاً ويصبر لها ويصابرها عشر سنين في دعوة وثبات وصبر على الأذى، حتى جرأ سفهاء قريش وملؤها على أنواع من أذى النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً بعد موت عمه أبي طالب، جرؤوا عليه جراءة شديدة فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد طول الصدود وكثرة الجحود، إذا به يبحث عن تربة يلقي فيها بذرة دعوته لعله يستنبت هذه الدعوة في أرض أخرى فتنمو فيها وتورق.
خرج من مكة إلى الطائف عله أن يجد في الطائف أذاناً صاغية تستجيب لدعوته وتتبع رسالته وتحمل هديه وهداه ودينه، خرج من مكة ماشياً إلى الطائف يقطع طريقاً يزيد الآن على مائة كيلو من الطريق المعروف الآن بطريق السيل، وكان يسمى أولا وادي نخلة، طريق وادي نخلة الذي هو طريق السيل الآن ووادي نخلة هو الذي يسمى الآن الزيمة، قطعه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه مولاه زيد ابن حارثة مشياً على الأقدام في وقت الصيف القائض، حتى وصل إلى الطائف وبقي هناك عشرة أيام يعرض فيها دينه ويبلغ رسالته، يغشاهم في نواديهم ويغشاهم في مجتمعاتهم يقرأ عليهم القرآن حتى قال بعض أهل الطائف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطائف يقرأ والسماء والطارق فحفظتها وأنا مشرك وقرأتها وأنا مسلم.(2/182)
عشرة أيام قضاها النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجه إلا بالصدود والإعراض فلما خشي ملأ أهل الطائف من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستميل الناس إليه أغروا به سفهائهم فردوا عليه أقبح الرد، حتى قال له بعضهم أما وجد الله غيرك رسولاً فيرسله إلينا، فلما أغروا به سفهائهم فواجهوه بأقبح الرد إذا به صلى الله عليه وسلم وهو يواجه بهذا الصدود وهذا الإعراض يرجع حزيناً مكلوم الفؤاد مغموم النفس، وهو الذي خرج من مكة بعد أن جحده قوم أهل الملأ فيها وجرؤوا عليه بالأذى أملاً أن يجد في الطائف مستنبتاًً لدعوته فيصد بهذا الصدود ويقابل بهذا الجحود، فإذا به صلى الله عليه وسلم وهو الحامل لهم رسالته يغتم لذلك أشد الغم، ويحزن لذلك أشد الحزن، وتتراكب الهموم على القلب الكريم الطيب فلا يتنفس ولا ينفس عن ذلك إلا بدعوات يصدع بها السماء "اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبة حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".
دعاء مكروب مغموم يصدع السماء، ثم ينقلب النبي صلى الله عليه وسلم بعد عشر ليال طوال قضاها في الدعوة والمصابرة يرجع إلى مكة لكن كيف كان الرجوع، ويسير في الطريق ولكن كيف كان المسير، كيف قطع الطريق من الطائف عائداً إلى مكة، مكة التي خرج منها وبمرأى وبمسمع من أهلها يرونه ويعلمون إلى أين سيذهب وما هي قضيته وما هو هدفه في ذهابه إلى الطائف، وسيرجع إليهم وقد سبقته إليهم أخبار أهل الطائف معه، فكيف سيدخل إلى بلد وكيف سيلقى قومه وهم الذين كانوا جرؤوا عليه فكيف سيكون حاله بعد أن يرجع إليهم، ولذلك عاد مكروباً مغموماً فإلى أي درجة بلغ غمه وعلى أي حال كان حزنه.
يصف ذلك فيقول "فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب"، قرن الثعالب هو السيل الكبير يبعد عن الطائف ستة وأربعين كيلو قطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشياً، ولكنه كان في حال من الاستغراق مع غمه وهمه وحزنه لأجل دعوته بحيث أنه لم يستفق ولم يشعر بما حوله إلا وهو في قرن
---------------
37.رسول الأُمِّّيين
د. سلمان بن فهد العودة
يا رسولَ الله..
حبُّكَ في مهجتي كالدّرِ في الصدف ِ
والشذى في الروضةِ الأُنف ِ
والفراتِ العذبِ في الدِّيم ِ
ليس كالمختارِ في البشر ِ ..
فهو كلُّ السمعِ والبصرِ ..
واحدُ التاريخِ والسيرِ ..
وإمامُ الرسلِ والأُمم ِِ
لقد قرأْتُ سير المصلحين والعظماء والزعماء وأئمة المذاهب الكبار, حتى إني قد أشعر حين أقرأ عن أحدهم أني أمام جبل وعر صعب المرتقى؛ لأنهم أخذوا أنفسهم بشيء من الجدّ الذي يصيب المرء بالعجز عن إدراكه وصعوبة الاقتداء به، وربما استحالته, أمّا إمام هؤلاء جميعاً وسيّدهم قاطبة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فتشعر وأنت تقرأ سيرته بالسهولة والقابليّة للتطبيق والقرب من النفس البشريّة وطباع الناس، وهذا سرّ بديع من أسرار إعجاز الشخصيّة النبويّة.
وهو صلى الله عليه وسلم قائد الركب وسيد ولد آدم:
وَكلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ مُلْتَمِسٌ غَرْفاً مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفاً مِنَ الدِّيَمِ
وهذا المعنى - والله أعلم- هو سر بشريّته وعظمته في آن.
وثمة شيء آخر: وهو أنه ما من إنسان إلا وفي شخصيّته جوانب غموض وخفاء والتباس من القدماء والمحدثين والعباقرة والفلاسفة وغيرهم، بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم - سيرته كتاب مفتوح مقروء، يقرؤها الأصدقاء والأعداء، والعلماء والبسطاء، وينزل عليه الوحي في أخص أموره عليه السلام؛ فيقوم ويقرؤه على الناس ويقرأ عليهم في مكة قوله تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) [الحاقة:44-47]، أمام المؤمن والمشرك والوثنيّون يحاربونه ويشنون عليه حملات إعلاميّة وكلاميّة باحثين عن أيّ ثغرة ينفذون منها للطعن في مصداقيّة الدعوة والداعية، فلم يكن ذلك يثنيه عن التبليغ بكل شيء ولو كان هذا الشيء معاتبة له من الله عز وجل.
وفي المدينة: يتربّص يهودها ومنافقوها بهذا الدين الدّوائر، ويرجعون البصر كرّة وكرّتين في حقيقة الرسالة:
هل يرون من فطور؟(2/183)
ومع ذلك كان يقرأ على الناس من القرآن قوله تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)[الأحزاب:37]، وقوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى)[عبس:2]، وكان يعلّمها أصحابه ويؤمّهم بها في الصلاة، وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكتبون كل كلمة وحرف ويدوّنون كل همسة ولمسة تصدر منه صلى الله عليه وسلم؛ فسيرته سجّل مفتوح للناس كلهم أجمعين ومدوّنة واضحة دقيقة في كل شيء يخصّه عليه أفضل الصلاة والسلام.
وبكل هذا الجلاء في سيرته دون استثناء كان أمثل خلق (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]؛ وأصدق لسان (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) [النجم:3]، وأبين حجة (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:195]، وهو في كل ذلك "إنسان" له صفات الإنسان؛ ليكون أيسر في الاتّباع وأسهل في الاقتداء، ولكي يعلم الأتباع المؤمنون - ولو بعد عدّة قرون - أن مشاعر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحاسيسه ليست بدعاً من المشاعر، وأن ما يلحق الناس من أذى ومضايقة من المشركين وغيرهم أو فرح وسرور ينال النبي -صلى الله عليه وسلم- منه أوفر الحظ والنصيب، فغدت هذه الأيام التي يداولها الله على الناس تبييناً لمعدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسمُوِّ أرومته، وطريقة تعامله مع الأحداث المختلفة والظروف العادية والاستثنائية (لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء:165].
وسيّد الرسل هو محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي كان كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فهل لهما من بديل أو عنهما من عِوض؟
ولا شك أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أكمل صورة بشريّة جاء للناس من أنفسهم فلم ينزل من السماء، ولم يكن ملكاً (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) [الأنعام:9]، بل كان بشراً رسولاً (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128] لقد كانوا يعرفونه عليه السلام ويعاملونه ويصفونه بالصادق الأمين، ولم يزل صلى الله عليه وسلم يترقّى في مدارج ومعارج الكمال حتى قُبض على أكمل ما يكون صلى الله عليه وسلم، قُبض وهو متلبّس بالعبادة والدعوة والتوجيه والإرشاد والأمر والنهي والوصيّة حتى في اللحظة التي انتقل فيها من هذه الدنيا- بأبي هو وأمي عليه السلام- عملا ً بقوله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99].
وقبل ذلك كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يرعى الغنم حتى بعثه الله فقاد الأمم، وكان يضرب في أسواق الشام إلى أن أرسله الله بشيراً ونذيراً إلى الناس كافة؛ شامها ويمنها وحجازها، وعربها وعجمها، وكان يتيماً عانى مشاكل فقدان الأب ثم الأم؛ فآواه الله ورعاه، وكان ضالاًّ فهداه الله -عز وجل- بهداه، وكان عائلاً يشتكي العوز والفاقة؛ فكفاه الله -عز وجل- وأغناه: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) [الضحى:6-8].
"مرسَلٌ" قد صاغهُ خالقُه من معاني الرسل بدْءاً وخِتاما
قد سعى والطرقُ نار ٌ ودمٌ يعبرُ السهلَ ويجتازُ الأكاما
نزل الأرضَ فأضحت جنةً وسماءً تحملُ البدرَ التّماما
وأتى الدنيا فقيراً فأتت نحوه الدنيا وأعطته الزّماما
ورعى الأغنامَ بالعدلِ إلى أن رعى في مرتعِ الحقِّ الأناما
عربيّ مدّن الصحرا كما علّم الناسَ إلى الحشرِ النظاما
يا رسولَ الحقِّ خلّدت الهدى وتركْت الظلمَ والبغيَ حُطاما
وإذا جاءت كل أمة بعظيمها ومتبوعها، وقدّمت زعيمها أتيناهم بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فظهر الحق، وبطل ما كانوا يعملون، ذلكم أن شخصيّته عظيمة بكل المقاييس، صالحةٌ لكل العصور والبيئات والمستويات والمجتمعات والحضارات، وبها تُحلّ مشكلات الأمم والعالم، وهو يحتسي قهوة الصباح!
فرسولنا -صلى الله عليه وسلم- نفسه معجزة في شخصيته, وأخلاقه, وهدْيه, وعبادته, وقيادته, تُضاف إلى معجزاته الأصلية المعروفة كمعجزة القرآن الكريم العظمى، ومعجزة الإسراء والمعراج، (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير) [سورة الإسراء:1].
ومعجزة انشقاق القمر، (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ) [سورة القمر:1]، ولما كان القرآن العظيم معجزة، كان صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن - كما وصفته عائشة (رضي الله عنها) – عند مسلم وأبي داود - فخلقه معجزة؛ في صبره وكفاحه, وبلائه وتجرّده وإنسانيّته.
فله صلى الله عليه وسلم كل خصائص الإنسان؛كما أن له - أيضاً– كل صفات العظمة البشرية مجتمعة ..
صلى عليك اللهُ يا علمَ الهدى ما ناحَ طيرٌ أو ترنّم حادي(2/184)
اللهم صلِّ على محمد, وعلى آل محمد, كما صلّيت على إبراهيم, وعلى آل إبراهيم, إنك حميد مجيد، وبارك على محمد, وعلى آل محمد, كما باركت على إبراهيم, وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
---------------
38.صلى الله عليه وسلم
سلمان بن فهد العودة
لم يكتب لأحدٍ من البشر من الأثر والخلود والعظمة ما كتب لصاحب النسب الشريف - صلى الله عليه وسلم- .
ولقد دونت في سيرته الكتب ، ودبجت في مديحه القصائد، وعمرت بذكره المجالس ، وبقيت عظمته قمة سامقة لا تطالها الظنون .
تقلبت به صروف الحياة من قوة وضعف ، وغنى وفقر ، وكثرة وقلة ، ونصر وهزيمة ، وظعن وإقامة ، وجوع وشبع ، وحزن وسرور ، فكان قدوة في ذلك كله، وحقق عبودية الموقف لربه كما ينبغي له .
ظل في مكة ثلاث عشرة سنة ، وما آمن معه إلا قليل ، فما تذمّر ولا ضجر ، وجاءه أصحابه يشتكون إليه ويسألونه الدعاء والاستنصار فحلف على نصر الدين وتمام الأمر ، وأنكر عليهم أنهم يستعجلون ، فكان الأمر كما وعد ، علماً من أعلام نبوته ، ونصراً لأمر الله ، لا للأشخاص .
وكان من نصره أن تأتيه وفود العرب من كل ناحية مبايعة على الإسلام والطاعة فما تغير ولا تكبّر ، ولا انتصر لنفسه من قوم حاربوه وآذوه وعاندوا دينه .
كما كان يقول أبو سفيان بن الحارث :
لعمرك إني يوم أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمدِ
لكالمدلج الحيران أظلم ليله فهذا أواني حين أهدى وأهتدي
هداني هادٍ غير نفسي ودلني على الله من طردته كل مطرد
وما حملت من ناقة فوق ظهرها أبر وأوفى ذمة من محمد
فاستل العداوات ، ومحا السخائم ، وألّف القلوب ، وأعاد اللُّحمة ، وعرف عدوُّه قبل صديقه أنها النبوة ، وأنه لم يكن صاحب طموح شخصي ولا باني مجد ذاتي ، وإن كان الطموح والمجد لبعض جنوده .
تعجب من عفويته وقلة تكلفه في سائر أمره ، واحتفاظ شخصيته بهدوئها وطبيعتها وتوازنها مهما تقلبت عليها الأحوال، واختلفت عليها الطرائق .
قل إنسان إلا وله طبعه الخاص الذي يبين في بعض الحال ويستتر في بعض ، ويترتب عليه استرواح لقوم دون آخرين ، ويحكم العديد من مواقفه وتصرفاته حاشاه -صلى الله عليه وسلم- .
فهو يُقْبِل بوجهه على كل جليس ، ويخاطب كل قوم بلغتهم ، ويحدثهم بما يعرفون ، ويعاملهم بغاية اللطف والرحمة والإشفاق ، إلا أن يكونوا محاربين حملوا السلاح في وجه الحق ، وأجلبوا لإطفاء نوره وحجب ضيائه .
كل طعام تيسر من الحلال فهو طعامه ، وكل فراش أتيح فهو وطاؤه ، وكل فرد أقبل فهو جليسه .
ما تكلف مفقوداً ، ولا رد موجوداً ، ولا عاب طعاماً ، ولا تجنب شيئاً قط لطيبه ، لا طعاماً ولا شراباً ولا فراشاً ولا كساءً، بل كان يحب الطيب، ولكن لا يتكلفه .
سيرته صفحة مكشوفة يعرفها محبوه وشانئوه ، ولقد نقل لنا الرواة دقيق وصف بدنه ، وقسمات وجهه ، وصفة شعره ، وكم شيبة في رأسه ولحيته ، وطريقة حديثه ، وحركة يده ، كما نقلوا تفصيل شأنه في مأكله ، ومشربه ، ومركبه ، وسفره ، وإقامته ، وعبادته ، ورضاه ، وغضبه ، حتى دخلوا في ذكر حاله مع أزواجه أمهات المؤمنين في المعاشرة ، والغسل ، والقسم ، والنفقة ، والمداعبة ، والمغاضبة ، والجد، والمزاح ، وفصلوا في خصوصيات الحياة وضروراتها .
ولعمر الله إن القارئ لسيرته اليوم ليعرف من تفصيل أمره ما لا يعرفه الناس عن متبوعيهم من الأحياء ، ومالا يعرفه الصديق عن صديقه ، ولا الزوج عن زوجه ، ولا كان أهل الكتاب يعرفونه شيئاً يقاربه أو يدانيه عن أنبيائهم وهم أحياء ؛ وذلك لتكون سيرته موضع القدوة والأسوة في كل الأحوال ، ولكل الناس.
فالرئيس والمدير والعالم والتاجر والزوج والأب والمعلم والغني والفقير ...
كلهم يجدون في سيرته الهداية التامة على تنوع أحوالهم وتفاوت طرائقهم .
والفرد الواحد لا يخرج عن محل القدوة به -صلى الله عليه وسلم- مهما تقلبت به الحال ، ومهما ركب من الأطوار، فهو القدوة والأسوة في ذلك كله.
وإنك لتقرأ سيرة علم من الأعلام فتندهش من جوانب العظمة في شخصيته فإذا تأملت صلاحيتها للأسوة علمت أنها تصلح لهذا العلم في صفته وطبعه وتكوينه ، ولكنها قد لا تصلح لغيره .
ولقد يرى الإنسان في أحوال السالفين من الجلد على العبادة ، أو على العلم ، أو على الزهد ما يشعر أنه أبعد ما يكون عن تحقيقه حتى يقول لنفسه :
لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ
فإذا قرأ سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحس بقرب التناول وسهولة المأخذ ، وواقعية الاتباع .
حتى لقد وقع من بعض أصحابه ما وقع فقال لهم : " أنا أخشاكم لله ، وأتقاكم له، وأعلمكم بما أتقي".
وقال : "اكلفوا من العمل ما تطيقون".
وقال : " إن هذا الدين يسر ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا ، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ، والقصدَ القصدَ تبلغوا ".(2/185)
ولهذا كان خير ما يربى عليه السالكون مدارسة سيرته وهديه وتقليب النظر فيها وإدمان مطالعتها واستحضار معناها وسرها ، وأخذها بكليتها دون اجتزاء أو اعتساف .
إن الله -عز وتعالى- لم يجعل لأحد وراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المنصب الشريف : منصب القدوة والأسوة ؛ لأنه جمع هدى السابقين الذين أمر أن يقتدي بهم " فبهداهم اقتده " إلى ما خصه الله -تعالى- وخيَّره به من صفات الكمال ونعوت الجمال ، ولهذا قال -سبحانه- : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ".
إن حياته -صلى الله عليه وسلم- وحياة خلفائه الراشدين هي المذكرة التفسيرية والترجمة العلمية لنصوص الشريعة .
ومن الخير أن تظل هذه السيرة بواقعيتها وصدقها محفوظة من تزيد الرواة ، ومبالغات النقلة التي ربما حولتها إلى ملحمة أسطورية تعتمد على الخوارق والمعجزات ، وبهذا يتخفف الناس من مقاربتها واتباعها ليكتفوا بقراءتها مع هزِّ الرؤوس وسكب الدموع وقشعريرة البدن .
إن الآيات التي تأتي مع الأنبياء حق ، لكنها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ، والقاعدة هي الجريان مع السنن الكونية كما هي .
وكثيرون من المسلمين ، وربما من خاصتهم يستهويهم التأسي بالأحوال العملية الظاهرة في السلوك والعبادة وغيرها ، فيقتدون به -صلى الله عليه وسلم- في صلاته " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحجّه " خذوا عني مناسككم " وسنن اللباس والدخول والخروج …
وهذا جزء من الاتباع المشروع ، بيد أنه ليس كله ، ولا أهم ما فيه ، فإن اتباع الهدي النبوي في المعاملة مع الله تعالى ، والتجرد والإخلاص ، ومراقبة النفس ، وتحقيق المعاني المشروعة من الحب والخوف والرجاء أولى بالعناية وأحق بالرعاية ، وإن كان ميدان التنافس في هذا ضعيفاً ؛ لأن الناس يتنافسون –عادة- فيما يكون مكسبة للحمد والثناء من الأمور الظاهرة التي يراها الناس ، ولا يجدون الشيء ذاته في الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلا الله ، وربما تحرى امرؤ صفة نبوية في عبادة أو عمل واعتنى بها وتكلف تمثلها فوق المشروع ، دون أن يكلف نفسه عناء التأمل في سر هذه الصفة وحكمتها وأثرها في النفس .
وهذه المسائل ، حتى التعبدية منها ؛ ما شرعت إلا لمنافع الناس ومصالحهم العاجلة والآجلة ، وليست قيمتها في ذاتها فحسب ، بل في الأثر الذي ينتج عنها فيراه صاحبه ويراه الآخرون وإنه لخليق بكل مسلم أن يجعل له ورداً من سيرة المصطفى -عليه السلام- ، إن كان ناشئاً فمثل ( بطل الأبطال ) لعزام، وإن كان شاباً فمثل ( الشمائل المحمدية ) لابن كثير أو الترمذي ، و (الفصول) لابن كثير ، أو ( مختصر السيرة ) أو ( الرحيق المختوم ) أو ( تهذيب سيرة ابن هشام ) وإن كان شيخاً فمثل ( سيرة ابن هشام ) أو ( ابن كثير ) وإن كان متضلعاً بالمطولات فمثل ( سبل الهدى والرشاد ) وكتاب (نضرة النعيم).
رزقنا الله حب نبيه وحسن اتباعه ظاهراً وباطناً وحشرنا في زمرته مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
---------------
39.إنهم يسبون مذممًا وهو محمد
محمد أبو الهيثم
بسم الله نبدأ، وعلى هدي نبيه صلى الله عليه وسلم نسير..
ابتلاء تلو ابتلاء..
وتتوالى الابتلاءات تترى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم..
اجتياح للديار، وسفك للدماء، وهتك للأعراض، وعبث بالعقائد..
وعمّت البلوى وطمّت بالإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم..
لمّا سبّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إنهم يشتمون مذمماً وأنا محمّد». وبنفس المنطق نقول لمن يسيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تسبون مذمماً وهو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي تضافرت وتواترت الأخبار من الكتب السماوية والمقالات الإنسانية لعقلاء الغرب والشرق قديماً وحديثاً على أنه بلغ الكمال الإنساني في الصفات.
قال القرآن عنه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
وجاء على لسان عيسى عليه السلام في الإنجيل: "أنطلق فإن لم أنطلق لم يأتكم المنحمنا، ذلك الي يوبخ العالم على خطيئته".(2/186)
والمنحمنا توافق في اللاتينية كثير الحمد، والتي توافق من الأسماء العربية محمد أو أحمد، وذلك مصداقاً لقول الله تعالى على لسان عيسى {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]. ويقول الإنجيل عن يحيى عليه السلام: "وانطلق يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهود توبوا فقد اقترب ملكوت السماء"، أي قانون السماء، فهذه بشارة باقتراب قانون سماوي جديد ولم يأتِ قانون من السماء بعد يحيى -الذي واكب حياة المسيح عليهما السلام- إلا القرآن الكريم الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
كما أقرّ عقلاء النصارى والمسلمين بكمال صفاته الإنسانية صلى الله عليه وسلم، فهذا قائد من أعظم قادتهم عبر التاريخ وعالم من أعلامهم وحكمائهم يقر بذلك، فيما روى البخاري من حديث قصة هرقل القائد الرومي الكبير والعالم النصراني الشهير وأبو سفيان بن حرب:
"حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِي قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِي؟
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا .
فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ.
ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَي كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ.
ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟
قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ.
قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟
قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟
قُلْتُ: لَا.
قالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟
فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ.
قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟
قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ.
قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟
قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟
قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟
قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِى مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا.
قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّى كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟
قُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟
قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ.
قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟
قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ. وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ.(2/187)
فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ: بِمَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَي هَاتَيْنِ. وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ.
ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ. سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ. فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].(2/188)
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا. فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِى الْأَصْفَرِ. فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ -صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ - سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ، أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاطورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِى النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِى النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ، أُتِى هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِى الْعِلْمِ. وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْى هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ نَبِي. فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّ ومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِي؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَى. وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِي.
صحيح البخاري.
وجاء من أقوال حكماء العالم في العصر الحديث ما أفردت قليله فيما يلي وقد نقلته من جمع الكتور خالد الشايع في محاضرة قيمة:
1- يقول (مهاتما غاندي) في حديث لجريدة "ينج إنديا": "أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر.. لقد أصبحت مقتنعاً كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول، مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته. هذه الصفات هي التي مهدت الطريق، وتخطت المصاعب وليس السيف. بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي أسِفاً لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة".
2- يقول البروفيسور (راما كريشنا راو) في كتابه (محمد النبيّ): "لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها. ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة.
فهناك محمد النبيّ، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا ".
3- يقول المستشرق الكندي الدكتور (زويمر) في كتابه (الشرق وعاداته) : إن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضاً بأنه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجريئاً مغواراً، ومفكراً عظيماً، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء".(2/189)
4- يقول المستشرق الألماني (برتلي سانت هيلر) في كتابه (الشرقيون وعقائدهم) : "كان محمد رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبيُّ بين ظهرانيها، فكان النبي داعياً إلى ديانة الإله الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه، وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية، وهما: العدالة والرحمة".
5- ويقول الانجليزي (برناردشو) في كتابه (محمد)، والذي أحرقته السلطة البريطانية: "إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والإجلال ، فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالداً خلود الأبد، وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا).
إنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمَّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوفّق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها".
6- ويقول (سنرستن الآسوجي) أستاذ اللغات السامية، في كتابه (تاريخ حياة محمد): "إننا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا، فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مصراً على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ".
7- ويقول المستشرق الأمريكي (سنكس) في كتابه (ديانة العرب): "ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة".
8- ويقول (مايكل هارت) في كتابه (مائة رجل في التاريخ): "إن اختياري محمداً، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي.
فهناك رُسل وأنبياء وحكماء بدءوا رسالات عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها، كالمسيح في المسيحية، أو شاركهم فيها غيرهم، أو سبقهم إليهم سواهم، كموسى في اليهودية، ولكن محمداً هو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية، وتحددت أحكامها، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته. ولأنه أقام جانب الدين دولة جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضاً، وحّد القبائل في شعب، والشعوب في أمة، ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها، ووضعها في موضع الانطلاق إلى العالم. أيضاً في حياته، فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية، وأتمها".
9- ويقول الأديب العالمي (ليف تولستوي) الذي يعد أدبه من أمتع ما كتب في التراث الإنساني قاطبة عن النفس البشرية: "يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة".
10- ويقول الدكتور (شبرك) النمساوي: "إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، إذا توصلنا إلى قمّته".
11- ويقول الفيلسوف الإنجليزي (توماس كارليل) الحائز على جائزة نوبل يقول في كتابه (الأبطال): "لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متحدث هذا العصر أن يصغي إلى ما يقال من أن دين الإسلام كذب ، وأن محمداً خدّاع مزوِّر .
وإن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة ؛ فإن الرسالة التي أدَّاها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لنحو مائتي مليون من الناس ، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟!".
12- جوتة الأديب الألماني: "إننا أهل أوربة بجميع مفاهيمنا، لم نصل بعد إلى ما وصل إليه محمد، وسوف لا يتقدم عليه أحد، ولقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي محمد... وهكذا وجب أن يظهر الحق ويعلو، كما نجح محمد الذي أخضع العالم كله بكلمة التوحيد".
تلك بعض أقوال مشاهير العالم في محمد نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام، فلماذا المزايدات التي تضر ولا تنفع، وتهدم ولا تبني!
وقد أوردت السنة النبوية صفاته صلى الله عليه وسلم صفاته الخلقية كما تراه فهل هذا الذي نورد صفاته هو من سبه الأفاكون من الدانمرك.
أولاً:(2/190)
صفاته الخَلقية: وبعد ذكر الصفات سألحق المصادر الحديثية وكتب السيرة.
أولاً: الوجه والشعر:
تصف أم معبد رضي الله عنها لزوجها.. الرسول صلى الله عليه وسلم لمّا مرّ بخيمتها في حادثة الهجرة قائلة: "ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه" (أي مستنير الوجه أبيضه)، ويقول على وهو ينعت الرسول صلى الله عليه وسلم: "وكان في الوجه تدوير وكان ابيضاً". وقال أبو الطفيل رضي الله عنه: "كان أبيض، مليح الوجه"، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: "كان أزهر اللون"، وقال البراء رضي الله عنه: "كان أحسن الناس وجهاً". وسُئل البراء رضي الله عنه: أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا بل كان مثل القمر، وفي رواية بل كان وجهه مستديراً. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله كأنّ الشمس تجري في وجهه". وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه: رأيته في ليلة أضحيان، فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر إلى القمر -وعليه حلة حمراء- فإذا هو أحسن عندي من القمر. وقال كعب بن مالك رضي الله عنه "كان إذا سر استنار وجهه، كأنه قطعة قمر" ، وعرِق مرة وهو عند عائشة فجعلت تبرك أسارير وجهه، فتمثّلت له بقول أبي كبير الهذلي:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه
برقت كبرق العارض المتهلل
وكان عمر رضي الله عنه ينشد قول زهير في هرم بن سنان:
لو كنت من شيء سوى البشر
كنت المضيء ليلة البدر
ثم يقول كذلك كان رسول الله صلى الله عليه و سلم.
أما تفاصيل وجهه صلى الله عليه وسلم فورد فيها ما يلي:
تقول أم معبد رضي الله عنها: "في عينيه دعج (سواد العين)، وفي أشفاره وطف (في شعر أجفانه طول)، وفي صوته صحل (بحة وخشونة)، وفي عنقه سطع (طول)، أحور أكحل، أزج (الحاجب الرقيق في الطول)". وقال ابن عباس رضي الله عنه: "كان أفلج الثنيتين (بعيد ما بين الأسنان)، إذا تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه.
وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه: "كان ضليع الفم (عظيم الفم -والعرب تمدح هذه الصفة-، أشكل العين (طويل شق العين)". وجاء في خلاصة السير أنه "أقنى العرنين (ارتفع أعلى أنفه واحدودب وسطه وضاق منخراه، وهي غاية الجمال لمنظر الأنف، والعرنين أي الأنف وما صلب منه)، وفي لحيته كثاثة. وقال أبو جحيفة رضي الله عنه: رأيت بياضاً تحت شفته السفلى: العنفقة". وقال عبد الله بن بسر رضي الله عنه: "كان في عنفقته شعرات بيض"، وجاء في مشكاة المصابيح "وكان إذا غضب احمرّ وجهه، حتى كأنه فقئ في وجنته حب الرمان".
وأما شعره صلى الله عليه وسلم: قالت أم معبد رضي الله عنها: "شديد سواد الشعر"، وقال علي رضي الله عنه: "لم يكن بالجعد القطط (الملتوي الشعر شديد الجعودة) ولا بالسبط (المسترسل شديد النعومة)". قال البراء: "له شعر يبلغ شحمة أذنيه"، "وكان يسدل شعره أولاً لحبه متابعة أهل الكتاب، ثم فرق رأسه بعد"، وقال أنس: "قبض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء".
ثانياً: باقي جسده الشريف:
تقول أم معبد رضي الله عنها: "لا تقحمه عين من قصر، ولا تشنؤه من طول". وقال عليّ رضي الله عنه: "لم يكن بالطويل الممغط، ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم" وقال أيضاً: "جليل المشاش والكتد (المشاش أي عظيم رؤوس العظام كالمرفقين والكتفين والركبتين أما الكتد فهو مجتمع الكتفين وهو الكاهل)، دقيق المسربة (الشعر الدقيق كأنه قضيب من الصدر إلى السرة"، أجرد (ليس في البدن شعر)، شثن الكفين والقدمين (الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين).
وقال البراء رضي الله عنه: "كان مربوعاً ما بين القدمين". وجاء في خلاصة السير "من لبته إلى سرته شعر يجري كالقضيب، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، أشعر الذراعين والمنكبين، سواء الصدر والبطن، مسيح الصدر عريضه، طويل الزند، رحب الراحة، سبط القصب (يريد ساعديه وساقيه بلا تعقد ولا نتوء)".
وقال أنس رضي الله عنه: "ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف النبي، ولا شممت ريحاً قط أو عرفاً قط، وفي رواية: ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح أو عرف رسول الله".
وقال أبو جحيفة رضي الله عنه: "أخذت بيده، فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك". وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه -وكان صبياً -: مسح خدّي، فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جونة عطار (التي يعد فيها الطيب). وقال أنس رضي الله عنه: كأن عرقه اللؤلؤ . وقالت أم سليم رضي الله عنها: هو من أطيب الطيب.
وفي مسلم "كان بين كتفيه خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده، وكان عند ناغص كتفه اليسرى، جمعاً عليه خيلان كأمثال الثآليل(الثآليل: الحبة التي تظهر في الجلد).
ثالثاً: مظهره العام صلى الله عليه وسلم:(2/191)
تقول أم معبد رضي الله عنها: "إذا صمت علاه الوقار، وإذا تكلّم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق، فضل لا نزر ولا هذر (لا قليل ولا كثير)، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، غصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفّون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود، محشود، لا عابس ولا مفند (المحفود: الذي يخدمه أصحابه ويعظمونه ويسارعون في طاعته، والمحشود: الذي يجتمع إليه الناس، ولا مفند: أي لا يهجن أحداً ويستقل عقله، بل جميل المعاشرة، حسن الصحبة، صاحبه كريم عليه".
وقال علي رضي الله عنه: "إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً، بين كتفيه خاتم النبوة وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفاً وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله".
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له، وإنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث".
فهل بعد كل هذا نقر لهم أنهم سبوا رسولنا صلى الله عليه وسلم؟!
والله ما سبوا إلا مذمماً هيئه لهم خيالهم المريض وخوائهم الروحي والعقائدي.
وأخيراً:
أذكّر أحبابي أنّ معرفة صفاته صلى الله عليه وسلم إنما غاية المقصود منها محبته، ولا تتمّ المحبة إلا بالاتباع، ولو لم يتم الاتباع فهو برئ من كل مبتدع غير دينه من بعده؛ يقول تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. قال ابن كثير رحمه الله : "أمره: أي منهجه وطريقته وسنته"
قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27].
فمن أعظم وسائل نصرته صلى الله عليه وسلم اتباع سنته واجتناب كل بدعة وضلالة نهى عنها صلى الله عليه وسلم، وكذا نشر صفاته وتعاليم دينه، إن لم يكن باللسان فبالمال من خلال نشر الشريط أو الكتاب أو الكتيب الإسلامي.
كذا أدعو الأمة شعوباً وحكومات لعقد مقاطعة شاملة لكل دولة تسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسيء لجنابه على مستوى الأفراد والحكومات، فأما الأفراد فبمقاطعة البضائع والمنتجات الخاصة بالدول المعتدية وعلى رأسها الدانمرك، وأما الحكومات بسحب السفراء وتعليق العلاقات حتى يتم الاعتذار الرسمي والوعد المحقق بالتوبة عن هذا الفعل الشنيع وعدم العودة لهذه الأفعال مرة أخرى.
وأخيراً، لو أننا طبقنا شرعه صلى الله عليه وسلم لتحقق لنا النصر والتمكين، ولخافنا وهابنا كل ماكر لعين..
اللهم حكّم شرعك، وانصر كتابك، وأذل من عادى نبيك، وانتصر لأوليائك..
00000000000000
المراجع: الصفات مجموعة بغير هذا الترتيب في كتاب "الرحيق المختوم/ لصفي الرحمن المباركفوري نقلاً عن صحيح البخاري ومسلم، زاد المعاد، ابن هشام، مشكاة المصابيح، جامع الترمذي، والشمائل للترمذي، خلاصة السير
---------------
40.عظمة محمد مع أطفال غير المسلمين
الدكتور رشاد لاشين**
من عظمة محمد صلي الله عليه وسلم مع الأطفال أن رحمته ورعايته إياهم تشمل الأطفال جميعًا، فهي تشمل أطفال غير المسلمين كما تشمل أطفال المسلمين، وتشمل الإناث كما تشمل الذكور، وتشمل المرضى كما تشمل الأصحاء، وتشمل أطفال المجتمع العام كما تشمل أطفال ذوي القربى؛ وتشمل الموهوبين كما تشمل ذوي الاحتياجات الخاصة، فالطفولة في منهجه صلي الله عليه وسلم لها وضع خاص ومعاملة مميزة عن غيرها، فإذا نظرنا إلى تعامله مع أطفال غير المسلمين لوجدنا منهجًا رائعًا يستحق التقدير والتحية والإكبار والإجلال وتتمثل في الآتي:
1 - الحرص عليهم وهم في أصلاب آبائهم:
لما تعرض أهل الطائف لرسول الله صلي الله عليه وسلم وآذوه ورموه بالحجارة عرض عليه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين (جبلين بمكة) عندها قال النبي الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم: "أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يوحد الله"، فقمة الرحمة أن يحفظ الإنسان على حياة عدوه ويرجو الخير لذريته التي تخرج من صلبه.
2 - النظرة نحوهم تتميز بالروح الطيبة:
وتصنفهم في إطار البراءة والفطرة وتربي المسلمين على سلامة الصدر نحوهم، وأن تخلو النظرة النفسية حتى من مجرد الكراهية تجاههم: ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصراه، أو يمجسانه..."، ويأتي ذلك أيضًا في إطار قوله صلى الله عليه وسلم: "رُفع القلم عن ثلاث (ومنهم) وعن الصبي حتى يبلغ الحلم".
3 - الحرص على الطفل الموهوب غير المسلم:(2/192)
ومن جوانب عظمته صلى الله عليه وسلم حرصه على الطفل الموهوب حتى لو كان غير مسلم، ويتبين لنا هذا من قصة الطفل الموهوب غير المسلم (أبو محذورة) صاحب الصوت الجميل الذي كان يستهزئ بأذان المسلمين وكيف أهتم به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه على استهزائه بأذان المسلمين، بل مسح على رأسه وقال: "اللهم بارك فيه واهده إلى الإسلام.. اللهم بارك فيه وأهده إلى الإسلام"، وقال له: "قل الله أكبر الله أكبر" حتى أذن أبو محذورة بمكة.
4 - الاهتمام بالأطفال المرضى غير المسلمين ودعوتهم:
فبرغم انتصار الإسلام وتأسيس الدولة بالمدينة المنورة كان حريصًا على زيارة مرضى أطفال غير المسلمين ودعوتهم والأخذ بأيديهم إلى الخير. ورد في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: "كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: "أسلِم". فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار".
وورد في الصحيحين (البخاري ومسلم): عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط قبل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة. وقد قارب ابن صياد، يومئذ، الحلم. فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره بيده. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صياد: "أتشهد أني رسول الله؟"، فنظر إليه ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول الأميين. فقال ابن صياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ فرفضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "آمنت بالله وبرسله"...، ورغم لؤم هذا الغلام ورفضه الإسلام بل وسخريته برسول الله صلي الله عليه وسلم فإنه صبر عليه ونهى سيدنا عمر بن الخطاب عن قتله.. وقد ورد في (أسد الغابة في معرفة الصحابة) خبر إسلام ابن صياد هذا بعد ذلك.
5 - عدم تكليف الأطفال غير المسلمين أعباء مالية أو ضريبية في ظل الدولة الإسلامية:
(عن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد: أن لا تضربوا الجزية على النساء ولا على الصبيان) {كنز العمال الإصدار للمتقي الهندي المجلد الرابع ومسند عمر رضي الله عنه:11412}.
6 - عدم إكراه الأبناء على اعتناق العقيدة:
وهذا من روعة منهج الإسلام الذي يحترم رأي الطفل ويعتمد الحوار والإقناع: روى أبو داود في (باب في الأسير يكره على الإسلام) عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كانت المرأة تكون مقلاتًا (المقلاة: التي لا يعيش لها ولد)، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولدٌ أن تُهَوِّدَهُ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عز وجل: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
7 - الحفاظ على حياة أطفال غير المسلمين وعدم التعرض لهم أثناء الحروب:
ما أعظم محمد صلي الله عليه وسلم في حرصه على حياة الأطفال، وما أعظم ممارسات أصحابه من بعده التي تنمّ عن عظيم الرأفة والرحمة؛ ورحمة محمد صلي الله عليه وسلم وأصحابه الفاتحين العظماء شهد بها القاصي والداني حتى قال جوستاف لوبون الفيلسوف الفرنسي: "ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب".
روى مسلم في صحيحه عن بريدة بن الحصيب الأسلمي (أن رسول الله كان إذا أمّر أمير على جيش أو سرية، أوصاه...)، وذكر من جملة ما أوصاه: "ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا".
وقد أجاب سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه عن سؤالاً ورد إليه: يقول: هَلْ كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ؟ فقال: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ فَلاَ تَقْتُلِ الصِّبْيَانَ" يقول الإمام النووي وفيه: النَّهي عن قتل صبيان أهل الحرب.
وقد ورد في كنز العمال للمتقي الهندي عن ابن عمر أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام وكان مما أوصاه به: ولا تقتلوا شيخًا كبيرًا ولا صبيًّا ولا صغيرًا ولا امرأة.
وورد في مسند الإمام أحمد عن الأسود بن سريع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وغزوت معه فأصبت ظفرًا، فقتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما بال أقوام جاوز بهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية؟"، فقال رجل: يا رسول الله إنما هم أبناء المشركين، فقال: "ألا إن خياركم أبناء المشركين"، ثم قال: "ألا لا تقتلوا ذرية، كل مولود يولد على الفطرة، فما يزال عليها حتى يعرب عنها لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
8. المسلم في حالة الأسر والظلم وعند الإعدام لا يغدر ولا يقتل أطفال الأعداء:(2/193)
روى البخاري، في باب غَزْوَةِ الرَّجِيعِ وَرِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبِئْرِ مَعُونَةَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ في شأن سيدنا خبيب بن عدي رضي الله عنه وهو الأسير المحجوز للقتل؛ لا يقتل طفل الأعداء وهو يقدر على قتله: (.. فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حَتَّى إِذَا أَجْمَعُوا قَتْلَهُ اسْتَعَارَ مُوسًى مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ لِيَسْتَحِدَّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ قَالَتْ فَغَفَلْتُ عَنْ صَبِيٍّ لِي فَدَرَجَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَاهُ فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ فَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَ ذَاكَ مِنِّي وَفِي يَدِهِ الْمُوسَى فَقَالَ أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَاكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَانَتْ تَقُولُ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ...).
0000000000000000
** ماجستير طب الأطفال - جامعة الزقازيق وليسانس الشريعة الإسلام
---------------
41.الحبيب كأنك تراه
إعداد: محمود أحمد إسماعيل **
بين يديك مختصر اشتمل على أهم الصفات الخَلْقية للنبي الكريم؛ وذلك لتتعرف أكثر على أشرف المخلوقين، وأفضل السابقين واللاحقين، فكلما ازدادت معرفتنا به ازداد حبنا له؛ لأن معرفته تقوي محبتنا له، وإذا ما أحببناه اقتدينا بهديه وتأدبنا بآدابه وتعاليمه.. فلا تجعل ذهنك يفارق صورة النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه وأخلاقه.
* اسمه:
1- قال الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ} (الفتح: 29).
2- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي" رواه مسلم.
3 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش، ولعنهم؟ يشتمون مذممًا، ويلعنون مذممًا، وأنا محمد".
4 - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" رواه مسلم.
5 - وقال صلى الله عليه وسلم: "تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم أقسم بينكم" رواه مسلم.
* فضائله:
1- قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللهِ فَضْلًا كَبِيرًا} (الأحزاب 45، 46).
2- {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الأحزاب: 40).
3- {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).
4- وقال صلى الله عيه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة" صحيح مسلم.
5- وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شفيع في الجنة، لم يُصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن نبيًا من الأنبياء ما صدقه من أمته إلا رجل واحد" صحيح مسلم.
6- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيام، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع ومشفع" صحيح مسلم.
7- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون" رواه الترمذي وابن ماجه وهو حديث حسن صحيح.
8- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي، كمثل رجل بنى بنيانًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين" رواه البخاري ومسلم.
9- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني، وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام". رواه أحمد والطبراني والبيهقي وصححه ابن حبان (لمنجدل: ملقى على الأرض).
* لونه:
عن أبي الطفيل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما على وجه الأرض رجل رآه غيري قال: فكيف رأيته؟ قال: كان أبيض مليحًا مقصدًا. رواه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم أزهر اللون ليس بأبيض أمهق ولا آدم. رواه البخاري ومسلم، والأزهر: هو الأبيض المستنير المشرق، وهو أحسن الألوان.
وعن أبي الطفيل رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم أبيض مليحًا مقصدًا. رواه مسلم.
وعن أبي جحيفة رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم أبيض قد شاب. رواه البخاري ومسلم.(2/194)
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم أبيض مشربًا بياضه حمرة. رواه أحمد والترمذي والبزار وابن سعد وأبو يعلى والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
* وجهه:
كان الرسول صلى الله عليه الصلاة والسلام أسيَل الوجه، مسنون الخدين ولم يكن مستديرًا غاية التدوير، بل كان بين الاستدارة والإسالة، وهو أجمل عند كل ذي ذوق سليم. وكان وجهه مثل الشمس والقمر في الإشراق والصفاء، مليحًا كأنما صيغ من فضة لا أوضأ ولا أضوأ منه.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر. رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي إسحاق قال: سُئل البراء أكان وجه النبي صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر. رواه البخاري.
وقال أبو هريرة: ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان( مقمرة)، وعليه حُلَّة حمراء، فجعلتُ أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر، فإذا هو عندي أحسنُ من القمر".
* جبينه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيل الجبين"، (الأسيل: هو المستوي)، أخرجه عبد الرازق والبيهقي وابن عساكر.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم أجلى الجبهة، إذا طلع جبينه من بين الشعر، أو طلع في فلق الصبح، أو عند طفل الليل، أو طلع بوجهه على الناس تراءوا جبينه كأنه ضوء السرج المتوقد يتلألأ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم واسع الجبهة. رواه البيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر.
* عيناه:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أكحل العينين أهدب الأشفار إذا وطئ بقدمه وطئ بكلّها ليس له أخمص إذا وضع رداءه عن منكبيه فكأنه سبيكة فضة" البيهقي وحسنه الألباني.
وكان صلى الله عليه وسلم "إذا نظرت إليه قُلت أكحل العينين وليس بأكحل"، رواه الترمذي.
وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم العينين، هَدِبُ الأشفار، مشرب العينين بحمرة. رواه أحمد وابن سعد والبزار. ومعنى مشرب العينين بحمرة: أي عروق حمراء رقاق.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كنت إذا نظرت إليه قلت: أكحل العينين وليس بأكحل صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي وأحمد وأبو يعلى والحاكم والطبراني في الكبير.
* أنفه:
يحسبه من لم يتأمله أشمًا ولم يكن أشمًا وكان مستقيمًا، أقنى أي طويلاً في وسطه بعض ارتفاع، مع دقة أرنبته (الأرنبة هي ما لان من الأنف).
* خدّاه:
عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسَلِّمُ عن يمينه وعن يساره حتى يُرى بياض خده"، أخرجه ابن ماجه وقال مقبل الوادي هذا حديث صحيح.
قال يزيد الفارسي رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميل دوائر الوجه. رواه أحمد.
* رأسه :
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم الرأس. رواه أحمد والبزار وابن سعد.
قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم الهامة. رواه الطبراني في الكبير والترمذي في الشمائل.
* فمه وأسنانه:
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم.. قال شعبة: قلت لسماك: ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم. رواه مسلم.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضليع الفم (أي واسع الفم) جميلهُ، وكان من أحسن عباد الله شفتين وألطفهم ختم فم. وكان وسيمًا أشنب أبيض الأسنان مفلج (متفرق الأسنان) بعيد ما بين الثنايا والرباعيات، أفلج الثنيَّتين (أي الأسنان الأربع التي في مقدم الفم، ثنتان من فوق وثنتان من تحت) إذا تكلم رُئِيَ كالنور يخرج من بين ثناياه".
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلج الثنيتين، إذا تكلم رُئي كالنور يخرج من بين ثناياه. رواه الدرامي والترمذي في الشمائل. وأفلج الثنيتين أي متفرق الأسنان الأربع التي في مقدم الفم، ثنتان من فوق وثنتان من تحت.
* سمعه:
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال: "من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟". فقال رجل: أنا. قال: "فمتى مات هؤلاء؟". قال: ماتوا على الإشراك. فقال: "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها. فلولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه". رواه مسلم.
* صوته:
عن أم معبد رضي الله عنها، قالت: كان في صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم صهل. رواه الطبراني في الكبير والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.(2/195)
عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، قالت: إني كنت لأسمع صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على عريشي. يعني قراءته في صلاة الليل. رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم والطبراني.
* ريقه:
لقد أعطى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم خصائص كثيرة لريقه الشريف، ومن ذلك أن ريقه صلى الله عليه و سلم فيه شفاء للعليل، ورواء للغليل وغذاء وقوة وبركة ونماء... فكم داوى صلى الله عليه وسلم بريقه الشريف من مريض فبرئ من ساعته!
جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: لأعطِيَنَّ الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلهم يرجو أن يُعطاها، فقال صلى الله عليه وسلم: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه.
فأُتِيَ به وفي رواية مسلم: قال سلمة: فأرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي، فجئت به أقوده أرمد فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، فبرئ كأنه لم يكن به وجع...
وعن يزيد بن أبي عبيد قال: "رأيت أثر ضربة في ساق سلمة فقلت: يا أبا مسلم ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتها يوم خيبر فقال الناس أصيب سلمة... فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيت حتى الساعة"، أخرجه البخاري.
وروي عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد عن جده قال: "أصيبت عين أبي ذر يوم أحد فبزق فيها النبي صلى الله عليه وسلم فكانت أصح عينيه"، أخرجه البخاري.
* عنقه ورقبته:
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "كأن عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم إبريق فضة"، أخرجه ابن سعد في الطبقات والبيهقي.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان أحسن عباد الله عنقًا، لا ينسب إلى الطول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه للشمس والرياح فكأنه إبريق فضة يشوب ذهباً يتلألأ في بياض الفضة وحمرة الذهب، وما غيب في الثياب من عنقه فما تحتها فكأنه القمر ليلة البدر"، أخرجه البيهقي وابن عساكر.
* منكِباه:
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بعيد ما بين المنكبين. رواه البخاري مسلم.
والمنكب هو مجمع العضد والكتف. والمراد بكونه بعيد ما بين المنكبين أنه عريض أعلى الظهر ويلزمه أنه عريض الصدر مع الإشارة إلى أن بُعد ما بين منكبيه لم يكن منافيًا للاعتدال. وكان كَتِفاه عريضين عظيمين.
* كفاه:
عن أنس أو جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضخم الكفين لم أر بعده شبهًا له. أخرجه البخاري.
لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم رحب الراحة (أي واسع الكف) كفه ممتلئة لحمًا، غير أنّها مع غاية ضخامتها كانت لَيِّنَة أي ناعمة.
وعن أنس رضي الله عنه قال: ما مسست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري ومسلم.
وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة إلى البطحاء... وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه، فيمسحون بها وجوههم. قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك. أخرجه البخاري.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله، وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهم واحدًا واحدًا. قال: وأما أنا فمسح خدي. قال: فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جونة عطار. أخرجه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود قال: "كنا نَعُد الآيات بَركة، وأنتم تَعُدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقَلَّ الماء، قال عليه الصلاة والسلام: اطلبوا لي فضلة من ماء. فأدخَل يده في الإناء وقال: حَيّ على الطَّهور المبارك، والبركة من الله. ويقول ابن مسعود: لقد رأيتُ الماء ينبع من بين أصابع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل"، رواه البخاري.
عن إياس بن سلمة، حدثني أبي، قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً إلى أن قال: ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته الشهباء.. فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: "شاهت الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانًا إلا ملأ عينيه ترابًا بتلك القبضة" فولوا مدبرين. أخرجه مسلم.
* صَدره:
قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء البطن والصدر، عريض الصدر. رواه الطبراني والترمذي في الشمائل.(2/196)
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عريض الصدر ممسوحة، كأنه المرايا في شدتها واستوائها، لا يعدو بعض لحمه بعضًا، على بياض القمر ليلة البدر، موصول ما بين لبته إلى سرته شعر منقاد كالقضيب، لم يكن في صدره ولا بطنه شعر غيره. رواه ابن نعيم وابن عساكر والبيهقي.
* ساقاه:
عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: "... وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى بيض ساقيه"، أخرجه البخاري في صحيحه.
* قدماه:
قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم خمصان الأخمصين (الأخمص من القدم ما بين صدرها وعقبها، وهو الذي لا يلتصق بالأرض من القدمين، يريد أن ذلك منه مرتفع) مسيح القدمين (أي ملساوين ليس في ظهورهما تكسر) وسشن الكفين والقدمين (أي غليظ الأصابع والراحة) رواه الترمذي في الشمائل والطبراني.
وكان صلى الله عليه و سلم أشبَهَ النَّاس بسيدنا إبراهيم عليه السلام، وكانت قدماه الشَّريفتان تشبهان قدمي سيدنا إبراهيم عليه السلام كما هي آثارها في مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء في وصف سيدنا إبراهيم عليه السلام: "ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به". صحيح البخاري.
وكان أبو جهم بن حذيفة القرشي العدوي الصحابي الجليل، يقول: ما رأيت شبهًا كشبه قدم النبي صلى الله عليه وسلم بقدم إبراهيم التي كنا نجدها في المقام.
* قامته وطوله:
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا وأحسنهم خلقًا، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير. رواه البخاري ومسلم.
* مشيته:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما رأيتُ شيئًا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّ الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدًا أسرع من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّما الأرض تطوى له، إنَّا لَنُجهد أنفسنا وإنَّه غير مكترث".
وعن أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى تَكَفَّأ (أي مال يميناً وشمالاً ومال إلى قصد المشية) ويمشي الهُوَينا (أي يُقارِب الخُطا).
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى، مشى مجتمعًا ليس فيه كسل"، (أي شديد الحركة، قوي الأعضاء غير مسترخ في المشي) رواه أحمد.
* التفاته:
كان صلى الله عليه وسلم إذا التفت التفت معًا أي بجميع أجزائه فلا يلوي عنقه يمنة أو يسرة إذا نظر إلى الشيء لما في ذلك من الخفة وعدم الصيانة وإنّما كان يقبل جميعًا ويُدبِر جميعًا لأن ذلك أليَق بجلالته ومهابته هذا بالنسبة للالتفات وراءه، أمّا لو التفت يمنة أو يسرة فالظاهر أنه كان يلتفت بعنقه الشريف.
* خاتم النبوة:
هو خاتم أسود اللون مثل الهلال وفي رواية أنه أخضر اللون، وفي رواية أنه كان أحمر، وفي رواية أخرى أنه كلون جسده. ويبلغ حجم الخاتم قدر بيضة الحمامة، وورد أنه كان على أعلى كتف النبي صلى الله عليه وسلم الأيسر.
1- عن جابر بن سمرة قال: رأيت الخاتم بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، غُدة حمراء مثل بيضة الحمامة يشبه جسده.
* رائحته:
عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ، إذا مشا تكفأ، وما مسحت ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكاً ولا عنبرًا أطيب من رائحة النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس أيضًا قال: "دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَال (أي نام) عندنا، فعرِقَ وجاءت أمي بقارورة فجعلت تَسلُتُ العَرَق، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أم سُلَيم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: عَرَق نجعله في طيبنا وهو أطيَب الطيب"، رواه مسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا صافحه الرجل وجد ريحه، وإذا وضع يده على رأس صبي فيظل يومه يُعرَف من بين الصبيان بريحه على رأسه.
يقول جابر بن سمرة: ما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقًا فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرقه، وقد كنت صبيًا - فمسح خدي فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جونة عطار.
* كلامه:
قال الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم 1-4).
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان، وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع، ونصاعة لفظ وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف، أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي، لذلك كان يقول لعبد الله بن عمرو:"اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق".(2/197)
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، فبينما أنا نائم رأيتني أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي" مسند الإمام أحمد.
وكان كلامه صلى الله عليه وسلم بَيِّن فَصْل ظاهر يحفظه من جَلَس إليه، وقد ورد في الحديث الصحيح: "كان يُحَدِّث حديثاً لو عَدَّه العادُّ لأحصاه".
"وكان صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاثاً لِتُعقَل عنه" رواه البخاري.
* ضحكه:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضحك إلا تَبَسُّماً، وكنتَ إذا نظرتَ إليه قُلتَ أكحل العينين وليس بأكحل"، حسن رواه الترمذي.
- وعن عبد الله بن الحارث قال: "ما رأيتُ أحداً أكثر تبسمًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُحَدِّث حديثاً إلا تبَسَّم وكان مِن أضحك الناس وأطيَبَهم نَفسًا".
وكان صلى الله عليه وسلم إذا ضحك بانت نواجذه أي أضراسه من غير أن يرفع صوته، وكان الغالب من أحواله التَّبَسُّم.
يقول خارجة بن زيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه لا يكاد يخرج شيئاً من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم بغير جميل، كان ضحكه تبسمًا، وكلامه فصلاً، لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم، توقيراً له واقتداءً به.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضحك كاد يتلألأ في الجدر. رواه عبد الرزاق في مصنفه.
* خاتمه:
كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة، نقش عليه من الأسفل إلى الأعلى "محمد رسول الله"، وذلك لكي لا تكون كلمة "محمد" صلى الله عليه وسلم فوق كلمة "الله" سبحانه وتعالى.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:" لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم، قيل له: إن العجم لا يقبلون إلا كتابًا عليه ختم، فاصطنع خاتمًا، فكأني أنظر إلى بياضه في كفه"، رواه الترمذي في الشمائل والبخاري ومسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورِق (أي من فضة) فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر ويد عمر، ثم كان في يد عثمان، حتى وقع في بئر أريس" وأريس بفتح الهمزة وكسر الراء، هي بئر بحديقة من مسجد قباء.
* وصف أم معبد:
قالت أم معبد الخزاعية في وصف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لزوجها، حين مر بخيمتها مهاجرًا:
رجل ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق لم تعبه تجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشعاره وطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطح، أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأحلاهم من قريب، حلو المنطق، فضل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، ربعة، لا تقحمه عين من قصر ولا تشنؤه من طول، غصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود، محشود، لا عابس ولا مفند.
* وصف علي بن أبي طالب:
قال علي رضي الله عنه وهو ينعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يكن بالطويل الممغط، ولا القصير المتردد، وكان ربعة من القوم، لم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، وكان جعداً رَجلاً، ولم يكن بالمطهم ولا بالمكلثم، وكان في الوجه تدوير، وكان أبيض مشرباً، أدعج العينين، أهدب الأشفار، جليل المشاش والكتد، دقيق المسربة، أجرد، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلع كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معاً، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.
* وصف هند بن أبي هالة:
كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه -لا بأطراف فمه- ويتكلم بجوامع الكلم، فصلاً لا فضول فيه ولا تقصير دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئاً، ولم يكن يذم ذواقاً -ما يطعم- ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها - سماح - وإذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام.
وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه. يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره.(2/198)
يتفقد أصحابه - ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجاوزه إلى غيره الذي يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن - لا يميز لنفسه مكاناً - إذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين. يتفاضلون عنده بالتقوى، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم -لا تخشى فلتاته- يتعاطفون بالتقوى، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب.
كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه قد ترك نفسه من ثلاث الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث لا يذم أحداً، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا. لا يتنازعون عنده الحديث. من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، ويقول إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ.
* وصف عمرو بن العاص رضي الله عنه :
عَنِ ابْنِ شَمَاسَةَ الْمَهْرِىِّ قَالَ حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ فِى سِيَاقَةِ الْمَوْتِ. فَبَكَى طَوِيلاً وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ يَا أَبَتَاهُ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِكَذَا أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِكَذَا قَالَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ. فَقَالَ إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِنِّى قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثٍ لَقَدْ رَأَيْتُنِى وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنِّى وَلاَ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ فِى قَلْبِى أَتَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ - قَالَ - فَقَبَضْتُ يَدِى. قَالَ « مَا لَكَ يَا عَمْرُو ». قَالَ قُلْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.
قَالَ « تَشْتَرِطُ بِمَاذَا ». قُلْتُ أَنْ يُغْفَرَ لِى. قَالَ « أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ». وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَىَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ أَجَلَّ فِى عَيْنِى مِنْهُ وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلأَ عَيْنَىَّ مِنْهُ إِجْلاَلاً لَهُ وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ لأَنِّى لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَىَّ مِنْهُ وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِى مَا حَالِى فِيهَا فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلاَ تَصْحَبْنِى نَائِحَةٌ وَلاَ نَارٌ فَإِذَا دَفَنْتُمُونِى فَشُنُّوا عَلَىَّ التُّرَابَ شَنًّا ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِى قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّى.أخرجه مسلم برقم ( 121 )
وصلى اللهم على خير الأنام سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
---------------
42.عظمة خُلُق الرسول عليه السلام
الشهيدسيد قطب رحمه الله:
ثم تجيء الشهادة الكبرى والتكريم العظيم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.. وتتجاوب أرجاء الوجود بهذا الثناء الفريد على النبي الكريم، ويثبت هذا الثناء العلوي في صميم الوجود! ويعجز كل قلم، ويعجز كل تصوّر، عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من رب الوجود، وهي شهادة من الله، في ميزان الله، لعبد الله، يقول له فيها {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
ومدلول الخُلُق العظيم هو ما هو عند الله، مما لا يبلغ إلى إدراك مداه أحد من العالمين!(2/199)
ودلالة هذه الكلمة العظيمة على عظمة محمد صلى الله عليه وسلم، تبرز من نواحٍ شتى:
تبرز من كونها كلمة من الله الكبير المتعال، يسجّلها ضمير الكون، وتثبت في كيانه، وتتردد في الملأ الأعلى إلى ما شاء الله.
وتبرز من جانب آخر، من جانب إطاقة محمد صلى الله عليه وسلم لتلقّيها. وهو يعلم من ربه هذا، قائل هذه الكلمة.
ما هو؟ ما عظمته؟ ما دلالة كلماته؟ ما مداها؟ ما صداها؟ ويعلم من هو إلى جانب هذه العظمة المطلقة، التي يدرك هو منها ما لا يدركه أحد من العالمين.
إن إطاقة محمد صلى الله عليه وسلم لتلقي هذه الكلمة من هذا المصدر، وهو ثابت، لا ينسحق تحت ضغطها الهائل -ولو أنها ثناء-، ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب.. تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن.. هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل.
ولقد رويت عن عظمة خُلُقِهِ في السيرة، وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة. وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه. ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر؛ أعظم بصدورها عن العلي الكبير، وأعظم بتلقّي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير، وبقائه بعدها ثابتاً راسخاً مطمئناً، لا يتكبّر على العباد، ولا ينتفخ، ولا يتعاظم، وهو الذي سمع ما سمع من العلي الكبير!
و{اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.. وما كان إلا محمد صلى الله عليه وسلم بعظمة نفسه هذه من يحمل هذه الرسالة الأخيرة، بكل عظمتها الكونية الكبرى؛ فيكون كفئاً لها، كما يكون صورة حية منها.
إن هذه الرسالة من الكمال والجمال، والعظمة والشمول، والصدق والحق، بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يثني عليه الله هذا الثناء. فتطيق شخصيته كذلك تلقي هذا الثناء في تماسك وفي توازن، وفي طمأنينة؛ طمأنينة القلب الكبير الذي يسع حقيقة تلك الرسالة وحقيقة هذا الثناء العظيم. ثم يتلقى -بعد ذلك- عتاب ربه له ومؤاخذته إياه على بعض تصرفاته، بذات التماسك وذات التوازن وذات الطمأنينة. ويعلن هذه كما يعلن تلك، لا يكتم من هذه شيئاً ولا تلك.. وهو هو في كلتا الحالتين النبي الكريم، والعبد الطائع، والمبلغ الأمين.
إن حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة، وإن عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة، وإن الحقيقة المحمدية كالحقيقة الإسلامية لأبعد من مدى أي مجهر يملكه بشر. وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدد مداها، وأن يشير إلى مسارها الكوني دون أن يحدد هذا المسار!
ومرة أخرى أجد نفسي مشدوداً للوقوف إلى جوار الدلالة الضخمة لتلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الكلمة من ربه، وهو ثابت راسخ متوازن مطمئن الكيان.. لقد كان -وهو بشر- يثني على أحد أصحابه، فيهتزّ كيان صاحبه هذا وأصحابه من وقع هذا الثناء العظيم.. وهو بشر وصاحبه يعلم أنه بشر، وأصحابه يدركون أنه بشر.. إنه نبي.. نعم، ولكن في الدائرة المعلومة الحدود؛ دائرة البشرية ذات الحدود.. فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من الله، وهو يعلم من هو الله، هو بخاصة يعلم من هو الله! هو يعلم منه ما لا يعلمه سواه، ثم يصطبر ويتماسك ويتلقى ويسير... إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير!!
إنه محمد -وحده-، هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة..
إنه محمد -وحده-، هو الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفخة الله في الكيان الإنساني..
إنه محمد -وحده- هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية; حتى لتتمثل في شخصه حية، تمشي على الأرض في إهاب إنسان..
إنه محمد -وحده-، الذي علم الله منه أنه أهل لهذا المقام، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم. وأعلن في الأخرى أنه، جلّ شأنه وتقدّست ذاته وصفاته، يصلي عليه هو وملائكته (إن الله وملائكته يصلون على النبي). وهو جل شأنه، وحده القادر على أن يهب عبداً من عباده ذلك الفضل العظيم..
ثم إن لهذه اللفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان الله، وأصالة هذا العنصر في الحقيقة الإسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية.
والناظر في هذه العقيدة، كالناظر في سيرة رسولها، يجد العنصر الأخلاقي بارزاً أصيلاً فيها، تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء.. الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد، ومطابقة القول للفعل، ومطابقتهما معاً للنية والضمير، والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل، والاعتداء على الحرمات والأعراض، وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور..
والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك، وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع، وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء.(2/200)
والرسول الكريم يقول: « إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ».. فيلخّص رسالته في هذا الهدف النبيل، وتتوارد أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم، وتقوم سيرته الشخصية مثالاً حياً، وصفحة نقية، وصورة رفيعة، تستحق من الله أن يقول عنها في كتابه الخالد { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }.. فيمجّد بهذا الثناء نبيه صلى الله عليه وسلم، كما يمجد به العنصر الأخلاقي في منهجه الذي جاء به هذا النبي الكريم، ويشد به الأرض إلى السماء، ويعلّق به قلوب الراغبين إليه -سبحانه- وهو يدلّهم على ما يحب ويرضى من الخلق القويم.
وهذا الاعتبار هو الاعتبار الفذّ في أخلاقية الإسلام؛ فهي أخلاقية لم تنبع من البيئة، ولا من اعتبارات أرضية إطلاقاً. وهي لا تستمد ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات التي كانت قائمة في الجيل؛ إنما تستمد من السماء وتعتمد على السماء.
تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق، وتستمد من صفات الله المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة، كي يحققوا إنسانيتهم العليا، وكي يصبحوا أهلاً لتكريم الله لهم واستخلافهم في الأرض، وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}.. ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود من أي اعتبارات قائمة في الأرض؛ إنما هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر. ثم إنها ليست فضائل مفردة: صدق وأمانة وعدل ورحمة وبر.... إنما هي منهج متكامل، تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية، وتقوم عليه فكرة الحياة كلها واتجاهاتها جميعاً، وتنتهي في خاتمة المطاف إلى الله.. لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة!
وقد تمثلت هذه الأخلاقية الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واطّرادها وثباتها في محمد صلى الله عليه وسلم وتمثلت في ثناء الله العظيم، وقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}..الظلال
---------------
43.الخلق الذي لا يفارق النبي!!
سلمان بن يحي المالكي
slman_955@hotmail.com
الابتسامة:
تُعدّ الابتسامة إحدى لغات الجسد التي منحها الله لبني الإنسان ، وهي وسيلة من وسائل الاتصال غير اللفظي لدى الكائن البشري ، تعتبر الابتسامة من أقل الضحك وأحسنه وهي عبارة عن إنفراج الشفتين وبروز الأسنان مع انبساط الأسارير نعم .. الابتسامة طريق مختصر لكسب القلوب ومفتاح لهداية الكثيرين وباب يوصل إلى النفوس ، وهي وسيلة حية للتعبير عما يجول في خاطر الإنسان تجاه أخيه المسلم ، الابتسامة سلاح قوي يُستخدم منذ الطفولة للاقتراب وحسن التوجيه والتودد للآخرين ، وهي تعبير صادق ورونقُ جمال وإشراقة أمل تَميّز بها الإنسان عن باقي الكائنات الحية لتضفي على وجهه قمة الراحة وذروة الانشراح ونهاية الانبساط ..
أخي الكريم .. أختي الكريمة ..
لا شك أن المسلم في حياته تعتريه أكدار وهموم وأحزان وغموم ، مما يحتاج حقيقة إلى من يجلوا حلكتها ، ويخترق ظلمتها بشيء من الابتسامة الرفيعة والضحكة المتزنة والدعابة المرموقة ، والجدّية سمة بارزة في حياة المسلم ، وهي مطلب ملح وأمر مهم ، فإذا كانت صارمة فإنها لا تزرع الابتسامة على الوجه ، ولا تدخل السرور على النفس..
إن البلسم الناجع والدواء النافع في ترويح النفس وطرد الآلام وتخفيف الأحزان عن المسلم ، رسم الابتسامة على شفتيه بضحكة متزنة ودعابة بريئة وابتسامة مشرقة ..
أحاديث في البسمة والابتسامة:
1. عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه يقول " ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسم في وجهي " [ رواه البخاري ]
2. يقول جابر بن سمرة رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: "...كان لا يضحك إلا تبسمًا..." [رواه الحاكم].
3. عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله عنه "ما رأيت أحدا أكثر تبسمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم" [رواه الترمذي]
4. عن سماك بن حرب قال : قلت لجابر بن سمرة : أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم كثيراً ، كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس ، فإذا طلعت قام ، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم " [رواه مسلم].
5. عن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال : ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسمًا [ رواه الترمذي]
6. "كان النبي صلى الله عليه وسلم كالرجل من رجالكم ، إلا أنه كان أكرم الناس ، وألين الناس ضحّاكا بسّاما " [ مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا ص 397 ]
7. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة" [رواه الترمذي]
8. وقال صلى الله عليه وسلم: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" [رواه مسلم].
الابتسامة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم:(2/201)
لقد كان رسول الهدى ونبي التقى محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه من أشرح الناس صدرا وأعظمهم قدرا ، وأعلاهم شرفا وأبهاهم وجها ، وأكثرهم تبسما صلى الله عليه وسلم ، وما كان يتكلف الضحك ، ولا يختلق الابتسامة ، بل كان يمتلك نفوس أصحابه رضي الله عنهم بابتسامته المشرقة ، وضحكته البريئة ، الهادئة اللطيفة ، ليكسب قلوبهم ويفوز بودهم ، ليقبلوا على هديه ، ويرتضوا نهجه ، ويجيبوا دعوته ، وانظر إلى هذه الابتسامة التي ملكت لبّ هذا الصحابي وأسرت فؤاده ، يقول فضالة بن عمير الليثي : قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو يطوف بالكعبة ، وكنت أريد قتله ، فلما اقتربت من الرسول صلى الله عليه وسلم قال لي : أفضالة ؟ قلت : نعم فضالة يا رسول الله ، قال : ماذا كنت تحدث نفسك ؟ قلت : لا شيء ، كنت أذكر الله ، قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال لي: استغفر الله ، ثم وضع يده على صدري ، فوالله ما رفعها حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه" [ الإصابة في معرفة الصحابة لابن رجب 8 / 6998 ] لقد مات المعصوم صلى الله عليه وسلم وما فتنة ولا مصيبة إلا نزلت به ، فما كدرت حياته ، وما مسحت السرور من تقاسيم وجهه ، لأن البسمة وربي لا تفارق محيّاه ، فهو يبتسم في الشدة والرخاء.
صلى الإله ومن يحفّ بعرشه والطيبون على المبارك أحمد
وللابتسامة أنواع:
1. ابتسامة المُغضب : يقول كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلفه وما كان من شأنه في غزوة تبوك : فجئته ـ أي النبي صلى الله عليه وسلم ـ فلما سلمت عليه تبسم تبسُّم المغضب " [رواه البخاري].
2. ابتسامة المُتعجِّب : كما في قصة النملة مع نبي الله سليمان عليه السلام إذ يقول الله: "فتبسم ضاحكاً من قولها" [النمل]
3. ابتسامة السخرية والاستهزاء والشماتة بالمسلمين ، وقد يصاحب البسمة صوت أو ضحك وقهقهة كما حكى الله عن قوم موسى عليه الصلاة والسلام في معرض استهزائهم بآيات الله " فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون " [ الزخرف ]
4. ابتسامة الملاطفة والترحيب والمضاحكة عند تسلية الناس ولقاؤهم : يقول جابر بن عبدالله رضى الله عنه قال : "ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي" [رواه البخاري]
5. ابتسامة التفاؤل والأمل والبشارة : عن أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها قالت : نام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم فقلت : ما أضحكك ، قال: أناسٌ من أمتي عرضوا عليّ يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة, قالت : فادعوا الله أن يجعلني منهم فدعا لها ... الحديث " [ البخاري ]
6. ابتسامة النفاق والعياذ بالله : وهي أكثر ما يروج بين كثير من الناس اليوم إلا ما رحم ربي فيبتسم هذا لهذا والقلوب في الغالب مليئة بنوع من البغضاء والشحناء والكراهية .
مواقف باسمة:
1. عن أنس رضي الله عنه قال : أصاب أهل المدينة قحط على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو يخطبنا يوم جمعة إذ قام رجل فقال يا رسول الله هلك الكراع هلك الشاء فادع الله أن يسقينا فمد يديه ودعا ، قال أنس : وإن السماء لمثل الزجاجة فهاجت ريح ثم أنشأت سحابة ثم اجتمعت ثم أرسلت السماء عزاليها فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا فلم يزل المطر إلى الجمعة الأخرى فقام إليه ذلك الرجل أو غيره فقال يا رسول الله تهدمت البيوت فادع الله أن يحبسه, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: حوالينا ولا علينا ، فنظرت إلى السحاب يتصدع حول المدينة كأنه إكليل [ رواه أبو داود ]
2. عن صهيب رضي الله عنه قال : قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ادن فكل ، فأخذت آكل من التمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم تأكل تمرا وبك رمد قال : فقلت إني أمضغ من ناحية أخرى, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم" [رواه ابن ماجة]
3. عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة ، قال أنس : فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته ، ثم قال : مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت فضحك ثم أمر له بعطاء" [ رواه البخاري].
4. عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي لهم لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة ثم تبسم يضحك" [رواه البخاري].
5. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين ـ في غزوة أحد ـ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم " ارم فداك أبي وأمي ، قال : فنزعت له بسهم له نصل ، فأصبت جنبه فسقط وانكشفت عورته ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم [رواه الطبراني في الكبير].(2/202)
فوائد الابتسامة:
1. أنها باب من أبواب الخير والصدقة " وتبسمك في وجه أخيك لك صدقة " [ رواه الترمذي ]
2. أنها سبب في كسب مودة الناس ومحبتهم وزرع الابتسامة على وجوههم " لن تسعوا الناس بأموالكم ، فليسعهم منكم بسط الوجه " [ رواه الحاكم ].
3. فيها ترويح للنفس وإجمام للروح ودواء للهموم وذهاب للغموم "وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة" [رواه الطبراني في الكبير].
4. تبعث على الاطمئنان بين المسلمين ، وتصفي القلوب من الغل والحسد وتجدد في النفس النشاط ، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه " إن هذه القلوب تمل كمل تملّ الأبدان ، فابتغوا لها طرف الحكمة".
5. أنها مظهر من مظاهر حسن الخلق التي يدعوا إليها الإسلام " لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق " [ رواه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان ].
6. فيها تأسٍّ بسيد الخلق وأعظمهم خُلُقا وأكثرهم ابتسامة صلى الله عليه وسلم.
وأخيرا..
ينبغي لمن كان عبوسا منقبض الوجه أن يتبسم ويحسّن خلقه ، ويمقت نفسه على رداءة خلقه ، فكل انحراف عن الاعتدال مذموم ، ولا بدّ للنفس من مجاهدة وتأديب..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
---------------
44.وإنك لعلى خلق عظيم
سلمان بن يحي المالكي
slman_955@hotmail.com
الحمد الله تقدست ذاتُه وعلت أسماؤه وصفاتُه ، أحمده سبحانه لا تحصى نعماؤُه ولا تحصر مكنوناتُه ، اللهم صل وسلم وبارك على محمد مصطفاه وخليله ، وأمينه على وحيه ، خصه بخصائص علت بها منزلتُه وبَهرت مُعجزاتُه ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .. أما بعد ..
لقد بعث الله عز وجل نبيه بالهدى والنور ، فهدى البرية وزكى البشرية ، واطمأنت إليه القلوب وانشرحت به الصدور ، بعثه رحمة للعالمين وقدوة للأخيار والصالحين ، بعثه ليتمم من الأخلاق مكارمها ، ومن المكارم أجملها ، فكان صلوات ربي وسلامه عليه إمامها وهاديها ، فأقسم له ربه جل وعلا من فوق سبع سموات أنه قد حاز أفضلها وأشرفها وأعظمها فقال جل وعلا " وإنك لعلى خلق عظيم " نعم .. كان عظيمًا وإمامًا في الأخلاق ، كَمُلَ أدبُهُ مع ذي العزة والجلال ، فزينه وكمله بأفضل الشمائل والخصال ، فهو مع ربه أكمل الناس أدبًا وأشدهم خشية له وخوفًا منه " إني أخشاكم لله وأتقاكم " قام في جوف الليل حتى تورمت قدماه من القيام وصام النهار فما مل ولا سَئم بل واصل الصيام .
كان عظيمًا وإمامًا في الأخلاق حينما كان دائم البِشْر طليق الوجه بالسرور ، يقول جرير بن عبد الله: "ما لقيت النبي إلا تبسم في وجهي ".
كان عظيمًا وإمامًا في الأخلاق حينما كان سيد الأنبياء وإمام الرحماء ، يرحم الصغير والكبير ويعطف على الجليل والحقير ، قال أنس بن مالك: " ما لمست حريرًا ولا ديباجًا ألين من كف رسول الله ولقد صحبت رسول الله عشر سنين ، ما قال لي يومًا لشيء فعلته: لمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لمَ لم تفعله.
كان عظيمًا وإمامًا في الأخلاق حينما كان جوادًا كريمًا ، يُعطي الشاة والبعير وما كان في بيته صاع من شعير و "ما سُئل عليه الصلاة والسلام شيئًا فقال : لا " يقول عنه تلميذه حبر الأمة وترجمان القرآن القبس والنبراس عبد الله بن عباس وعن أبيه " كان النبي أجودُ بالخير من الريح المرسلة " .
كان عظيمًا وإمامًا في الأخلاق حينما كان برًا بالعباد رحيمًا ، رحيمًا في دعوته ، رحيمًا في توجيهه وحكمته رحيمًا بالأمة حتى في صلاته وإمامته ، كان يصلي في الفجر بالستين إلى المائة آية ، فدخل ذات يوم يريد أن يطول فسمع بكاء صبي فقرأ بـ " إنا أعطيناك الكوثر " فلما انفتل من صلاته قال " إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه " وكان يوصي الأئمة ويقول "إذا أمّ أحدكم بالناس فليخفف، فإن وراءه الضعيف والسقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة.. "
كان عظيمًا وإمامًا في الأخلاق وهو على منبره يُفصّلُ الشريعةَ والأحكام ويأخذ بمجامع القلوب إلى طريق السلم والرحمة والسلام ، فما كان يجرّح ولا يعنف ولا يُشهِّرُ ولا يكسر الخواطر ، لم يكن جبارًا ولا فظًا ولا سخابًا ولا لعانًا ، كان يقول عليه الصلاة والسلام "ما بال أقوام ، ما بال أقوام".
كان جوادا عظيمًا في الأخلاق ، فما كان يُعرف من بين صحابته من تواضعه بأبي وأمي صلوات ربي وسلامه عليه ، حتى كان القادم يقول : أيكم محمد ؟ أيكم محمد ..؟.
كان رحيمًا بالأحياء والأموات ، إذا جن الليل وأرخى سدوله ، خرج إلى بقيع الغرقد يقف على قبور المؤمنين والمؤمنات ، يسأل ربه بصالح الدعوات أن يُسبغ عليهم الرحمات ، ولما توفيت المرأة السوداء التي كانت تَقُمُّ المسجد قال أوما أخبرتموني ، فصلى عليها ودعا لها .
كان عظيمًا وإمامًا في الأخلاق ، إذا دخل بيته ملك قلوب أزواجه بالعطف والإحسان والرحمة والحنان ، فقد كان خير الأزواج وأبرهم وأفضلهم .(2/203)
كان عظيمًا وإمامًا في الأخلاق ، ما عاب طعامًا وُضع بين يديه ، ولا سب امرأة ولا شتمها ولا ضربها ولا أهانها ، كان يُكرم ولا يهين ، يُعزُّ ولا يُذلُّ ، إذا جاءت زوجته بالشراب أقسم عليها أن تشرب قبله ، وإذا شربت من الإناء وضع فمه حيث وضعت فمها ، وكان يؤتى له بالمرق والعظم فيه اللحم فيقسم عليها أن تنهش منه قبله فإذا نهشت منه وضع فمه حيث وضعت فمها .
كان عظيمًا وإمامًا في الأخلاق ، حينما دخل عليه الأعرابي فبال في مسجده وهو جالس والصحابة ينظرون وينهرون ويمنعون ، فقال لهم " لا تزرموه " حتى إذا انتهى أمر بذنوب من ماء فصب على بوله ثم دعاه فوجهه وعلمه وأرشده , فدعا الأعرابي قائلا " اللهم ارحمني وارحم محمدًا ولا ترحم معنا أحدًا " وصلى بأصحابه يوما فصاح رجل وتكلم في الصلاة ، فما زال الصحابة يسكتونه حتى رمقوه بأبصارهم ، فصاح الرجل : واثُكل أماه ، فلما سلم قال الصحابي : فبأبي وأمي ما رأيت معلمًا كرسول الله فوالله ما كهرني ولا شتمني ، ولكن قال لي "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والاستغفار وقراءة القرآن" ما أكرمه من نبي وما أحلمه من رسول وما أرحمه من إنسان صلوات ربي وسلامه عليه ، وبعد أيها الأحبة ..
هذا فيض من غيظ ونقطة من بحر وقليل من كثير من سيرة البشير النذير السراج المنير فما أحوجنا أن نملأ بمحبته قلوبنا ، ما أحوجنا أن نربي على هذه السنة والأخلاق الكريمة صغارنا وكبارنا ، ما أحوجنا أن نتربى عليها مساء صباح ، ونعتقد فضلها سرًا وجهارًا ، لتظهر آثارها علينا ليلاً ونهارًا ، فبحسب متابعته تكون العزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد والهداية والفلاح والنجاة وطيب العيش في الدنيا والآخرة ، وإلى أن ألتقي بكم في حلقة قادمة وموعدٍ قريب ولقاء ماتع ، استودع الله دينكم وأمانتَكم وخواتيم أعمالِكم وسلام الله تعالى ورحمته وبركاته عليكم
---------------
45.الصفات الخَلقية للرسول صلى الله عليه وسلم
صفة كلامه:
كان كلامه صلى الله عليه وسلم بَيِّن فَصْل ظاهر يحفظه من جَلَس إليه.
ورد في حديث متفق عليه أنَّه عليه الصلاة والسلام: "كان يُحَدِّث حديثاً لو عَدَّه العادُّ لأحصاه".
"وكان صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاثاً لِتُعقَل عنه"، رواه البخاري.
ورُوِيَ أنه كان صلى الله عليه وسلم يُعرِض عن كل كلام قبيح و يُكَنِّي عن الأمور المُستَقبَحَة في العُرف إذا اضطره الكلام إلى ذكرها، وكان صلى الله عليه و سلم يذكر الله تعالى بين الخطوتين.
صفة ضحكه و بكائه:
- " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضحك إلا تَبَسُّماً، وكنتَ إذا نظرتَ إليه قُلتَ أكحل العينين وليس بأكحل "، حسن رواه الترمذي .
- وعن عبد الله بن الحارث قال: "ما رأيتُ أحداً أكثر تبسماً من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُحَدِّث حديثاً إلا تبَسَّم، وكان ضَحِك أصحابه صلى الله عليه وسلم عنده التبسُّم من غير صوت اقتِداءً به وتَوقيراً له، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جرى به الضحك وضع يده على فمه، وكان صلى الله عليه وسلم مِن أضحك الناس وأطيَبَهم نَفساً ".
وكان صلى الله عليه وسلم إذا ضحك بانت نواجذه أي أضراسه من غير أن يرفع صوته وكان الغالب من أحواله التَّبَسُّم. وبكاؤه صلى الله عليه وسلم كان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق و رفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن تدمع عيناه حتى تنهملان ويُسمَع لصدره أزيز، ويبكي رحمة لِمَيِّت وخوفاً على أمَّته وشفقة من خشية الله تعالى وعند سماع القرآن وفي صلاة الليل.
وعن عائشة قالت: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مُستَجمِعاً قط ضاحكاً، حتى أرى منه لهاته، (أي أقصى حَلقِه) ".
صفة لباسه:
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: " وكان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص ( وهو اسم لما يلبس من المخيط )، رواه الترمذي في الشمائل وصححه الحاكم. ولقد كانت سيرته صلى الله عليه وسلم في ملبسه أتَم و أنفع للبدن وأخَفَّ عليه، فلم تكن عمامته بالكبيرة التي يُؤذيه حملها أو يضعفه أو يجعله عرضة للآفات ، ولا بالصغيرة التي تقصُر عن وقاية الرأس من الحر والبرد وكذلك الأردِيَة (جمع رداء) والأزُر (جمع إزار) أخَفّ على البدن من غيرها. ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه و سلم نوعاً مُعيَّناً من الثياب، فقد لبس أنواعاً كثيرة ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يلبس ما يجده. وكان عليه الصلاة والسلام يلبس يوم الجمعة والعيد ثوباً خاصاً، وإذا قدِمَ عليه الوفد، لبس أحسن ثيابه وأمر أصحابه بذلك.
وعن أبي سعيد الخدري قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً سماه باسمه، (عمامة أو قميصاً أو رداء) ثم يقول: "اللهم لك الحمد كما كسوتنيه أسألك خير ما صنع له وأعوذ من شره وشر ما صنع له"، رواه الترمذي في الشمائل، والسنن في اللباس، وأبو داود.(2/204)
كان أحب الثياب إليه البيضاء . وكان صلى الله عليه وسلم لا يبدو منه إلا طيب، كان آية ذلك في بدنه الشريف أنه لا يتَّسِخ له ثوب أي كانت ثيابه لا يصيبها الوسخ من العرق أو ما سوى ذلك وكان الذباب لا يقع على ثيابه.
صفة عمامته:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس قلنسوة بيضاء، والقلنسوة هي غشاء مبطَّن يستر الرأس، وكان صلى الله عليه و سلم يلبس القلانس (جمع قلنسوة) أحياناً تحت العمائم وبغير العمائم، ويلبس العمائم بغير القلانس أحياناً. كان صلى الله عليه وسلم إذا اعتَمَّ ( أي لبس العمامة )، سدل عمامته بين كتفيه، وكان عليه الصلاة والسلام لا يُوَلّي والياً حتى يُعَمِّمه و يرخي له عذبة من الجانب الأيمن نحو الأذن. ولم يكن صلى الله عليه وسلم يُطَوِّل العمامة أو يُوَسِّعها. قال ابن القيم: لم تكن عمامته صلى الله عليه وسلم كبيرة يؤذي الرأس حملها ولا صغيرة تقصر عن وقاية الرأس بل كانت وسطاً بين ذلك وخير الأمور الوسط. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتم بعمامة بيضاء وأحياناً خضراء أو غير ذلك. وعن جابر رضي الله عنه قال: " دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء ". ولقد اعتم صلى الله عليه وسلم بعد بدر حيث رأى الملائكة تلبسها. وصحة لبس المصطفى للسواد ونزول الملائكة يوم بدر بعمائم صُفر لا يعارض عموم الخبر الصحيح الآمر بالبياض لأنه لمقاصد اقتضاها خصوص المقام كما بيّنه بعض الأعلام.
صفة نعله و خُفِّه:
كان لنعل رسول الله صلى الله عليه و سلم قِبالان مُثَنَّى شراكهما أي لكلٍ منهما قِبالان ، والقِبال هو زِمام يوضع بين الإصبع الوسطى و التي تليها ويُسمَّى شِسعاً، و كان النبي صلى الله عليه و سلم يضع أحد القِبالين بين الإبهام و التي تليها والآخر بين الوسطى و التي تليها و الشِّراك للسير (أي النعل). وكان يلبس النعل ليس فيها شعر، كما رُؤيَ بنعلين مخصوفتين أي مخروزتين مُخاطتين ضُمَّ فيها طاق إلى طاق. وطول نعله شِبر وإصبعان و عرضها مِمَّا يلي الكعبان سبع أصابع وبطن القدم خمس أصابع ورأسها مُحَدَّد. وكان عليه الصلاة والسلام يقول موصياً الناس: " إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين و إذا نزع فليبدأ بالشمال ".
صفة خاتمه:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:" لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى العجم ، قيل له: إن العجم لا يقبلون إلا كتاباً عليه ختمٍ، فاصطنع خاتماً، فكأني أنظر إلى بياضه في كفه"، رواه الترمذي في الشمائل والبخاري ومسلم. ولهذا الحديث فائدة أنه يندب معاشرة الناس بما يحبون وترك ما يكرهون و استئلاف العدو بما لا ضرر فيه ولا محذور شرعاً والله أعلم.
ولقد كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة و فَصُّه (أي حجره) كذلك ، وكان عليه الصلاة و السلام يجعل فَصَّ خاتمه مِمَّا يلي كفه ، نقش عليه من الأسفل إلى الأعلى (( محمد رسول الله ))، و ذلك لكي لا تكون كلمة "محمد" صلى الله عليه و سلم فوق لفظ الجلالة {الله} سبحانه وتعالى. وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: "اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورِق (أي من فضة) فكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر ويد عمر، ثم كان في يد عثمان، حتى وقع في بئر أريس نَقشُهُ ((محمد رسول الله )) "، رواه الترمذي في الشمائل ومسلم وأبو داود، وأريس بفتح الهمزة وكسر الراء ، هي بئر بحديقة من مسجد قباء.
و لقد ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يلبس الخاتم في يمينه و في روايات أخرى أنه كان يلبسه بيساره و يُجمع بين روايات اليمين و روايات اليسار بأن كُلاّ منهما وقع في بعض الأحوال أو أنه صلى الله عليه و سلم كان له خاتمان كل واحد في يد و قد أحسن الحافظ العراقي حيث نظم ذلك فقال:
يلبسه كما روى البخاري في خنصر يمين أو يسار
كلاهما في مسلم و يجمع بأن ذا في حالتين يقع
أو خاتمين كل واحد بيدْ كما بفص حبشي قد وردْ
ولكن الذي ورد في الصحيحين هو تعيين الخنصر ، فالسُنَّة جعل الخاتم في الخنصر فقط، والخنصر هو أصغر أصابع اليد وحكمته أنه أبعد عن الامتهان فيما يتعاطاه الإنسان باليد و أنه لا يشغل اليد عمّا تزاوله من الأعمال بخلاف ما لو كان في غير الخنصر.
صفة سيفه:
عن سعيد بن أبي الحسن البصري قال: " كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة ".
والمراد بالسيف هنا، ذو الفقار وكان لا يكاد يفارقه ولقد دخل به مكة يوم الفتح. والقبيعة كالطبيعة ما على طرف مقبض السيف يعتمد الكف عليها لئلا يزلق. وفي رواية ابن سعد عن عامر قال: " أخرج إلينا علي بن الحسين سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قبيعته من فضة وحلقته من فضة ". وعن جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان نعل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أسفله وحلقته وقبيعته من فضة.
صفة درعه:(2/205)
عن الزبير بن العوام قال: " كان على النبي صلى الله عليه و سلم يوم أُحُد درعان فنهض إلى الصخرة فلم يستطع ( أي فأسرع إلى الصخرة ليراه المسلمون فيعلمون أنه عليه الصلاة و السلام حيّ فيجتمعون عليه، فلم يقدر على الارتفاع على الصخرة قيل لما حصل من شج رأسه وجبينه الشريفين واستفراغ الدم الكثير منهما) فأقعد طلحة تحته (أي أجلسه فصار طلحة كالسلم) وصعد النبي صلى الله عليه وسلم (أي وضع رجله فوقه و ارتفع) حتى استوى على الصخرة (أي حتى استقر عليها)، قال: سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول: "أوجبَ طلحة" ( أي فعل فعلاً أوجب لنفسه بسببه الجنة وهو إعانته له صلى الله عليه وسلم على الارتفاع على الصخرة الذي ترتب عليه جمع شمل المسلمين وإدخال السرور على كل حزين ويحتمل أن ذلك الفعل هو جعله نفسه فداء له صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم حتى أصيب ببضعٍ وثمانين طعنة و شلَّت يده في دفع الأعداء عنه ) ". و قوله (كان عليه يوم أُحُد درعان) دليل على اهتمامه عليه الصلاة و السلام بأمر الحرب وإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون التوكل مقروناً بالتحصن لا مجرداً عنه. و لقد ورد في روايات أخرى أنه كان للنبي عليه الصلاة و السلام سبعة أدرعٍ.
صفة طيبه (أي عطره):
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ المِسك فيمسح به رأسه و لحيته و كان صلى الله عليه و سلم لا يردُّ الطيب، رواه البخاري. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه"، ورواه الترمذي في الأدب باب ما جاء في طيب الرجال والنساء، والنسائي في الزينة باب الفصل بين طيب الرجال والنساء، وهو حديث صحيح.
صفة كُحله:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه و سلم قال: "اكتحلوا بالإثمد فإنّه يجلو البصر و يُنبِت الشعر"، وزعم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم له مكحلة يكتحل منها كلَّ ليلةٍ ثلاثةً في هذه وثلاثة في هذه. قوله (اكتحلوا بالإثمد) المخاطَب بذلك الأصِحّاء أمّا العين المريضة فقد يضُرَّها الإثمِد، والإثمِد هو حجر الكحل المعدني المعروف ومعدنه بالمشرق وهو أسود يضرب إلى حمرة. وقوله (فإنّه يجلو البصر) أي يقوّيه و يدفع المواد الرديئة المنحدرة إليه من الرأس لاسيما إذا أُضيف إليه قليل من المسك. وأمّا قوله (يُنبت الشعر) أي يقوّي طبقات شعر العينين التي هي الأهداب وهذا إذا اكتحل به من اعتاده فإن اكتحل به من لم يعتده رمدت عينه.
صفة عيشه:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: " ما شَبِعَ آل محمد صلى الله عليه و سلم منذ قَدِموا المدينة ثلاثة أيام تِباعاً من خبز بُرّ، حتى مضى لسبيله أي مات صلى الله عليه وسلم".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً" (أي ما يسدُّ الجوع) متفق عليه.
صفة شرابه:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " دَخَلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وخالد بن الوليد على ميمونة فجاءتنا بإناء من لبن فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا على يمينه وخالد عن شماله فقال لي: الشَّربة لك فإن شئتَ آثرتَ بها خالداَ، فقُلتُ ما كنتُ لأوثِرَ على سؤرك أحداً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: من أطعَمَهُ الله طعاماً فليقُل: "اللهم بارِك لنا فيه وأطعِمنا خيراً منه، ومن سقاه الله عزّ و جلّ لبَناً فليقُل: اللهم بارك لنا فيه وزِدنا منه"، ثم قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس شيء يُجزئ مكان الطعام والشراب غير اللبن ".
صفة شُربه:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شرب من زمزم وهو قائم.
وعن أنَس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه و آله سلم كان يتنفَّس في الإناء ثلاثاً إذا شرب ويقول هو أمرَأُ و أروى، قوله (كان يتنفس في الإناء ثلاثاً) وفي رواية لمسلم (كان يتنفس في الشراب ثلاثاً ) المراد منه أنه يشرب من الإناء ثم يزيله عن فيه (أي فمه) ويتنفس خارجه ثم يشرب وهكذا لا أنه كان يتنفس في جوف الإناء أو الماء المشروب. وكان عليه الصلاة والسلام غالباً ما يشرب وهو قاعد.
صفة تكأته:
عن جابر بن سَمُرَة قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم مُتَّكئاً على وسادة على يساره ".
وعن عبد الرحمن بن أبي بَكرَة عن أبيه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أحدِّثكم بأكبر الكبائر؟! قالوا بلى يا ر سول الله ، قال: الإشراك بالله و عقوق الوالِدَين، قال وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مُتَّكِئاً، قال وشهادة الزور أو قول الزور، قال فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها حتى قلنا لَيته سكت ".
صفة فراشه:
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فراش من أدم. (أي من جلد مدبوغ) محشو بالليف.(2/206)
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على حصير قد أثَّر بجنبه فبكيت، فقال: ما يُبكيك يا عبد الله؟ قلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كسرى وقيصر قد يطئون على الخز والديباج والحرير وأنت نائم على هذا الحصير قد أثَّر في جنبك!. فقال: لا تبكِ يا عبد الله فإن لهم الدنيا و لنا الآخرة ".
صفة نومه:
كان عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم ينام أول الليل ، و يُحيي آخره. وكان إذا أوى إلى فِراشه قال: (باسمك اللهم أموت و أحيا) ، و إذا استيقظ قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا و إليه النُّشور).
عن البراء بن عازب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه، وضع كفه اليمنى تحت خده الأيمن، وقال: "ربِّ قِني عذابك يوم تبعث عبادك"، رواه أحمد في المسند والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن حبان وصححه الحافظ في الفتح.
وعن عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه فنفث فيهما وقرأ فيهما : قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يصنع ذلك ثلاث مرات"، رواه البخاري في الطب والترمذي والظاهر أنه كان يصنع ذلك في الصحة والمرض وقال النووي في الأذكار: "النفث نفخ لطيف بلا ريق". ويستفاد من الحديث أهمية التعوذ والقراءة عند النوم لأن الإنسان يكون عرضة لتسلط الشياطين.
وعن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عرَّس بليل ، اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عرَّس قبيل الصبح ، نصب ذراعه ووضع رأسه على كفه، رواه أحمد في المسند ومسلم في الصحيح ،كتاب المساجد باب قضاء الصلاة، والتعريس هو نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة قاله في النهاية لعل ذلك تعليماً للأمة لئلا يثقل بهم النوم فتفوتهم الصبح في أول وقتها. ويستفاد من الحديث أن من قارب وقت الصبح ينبغي أن يتجنب الاستغراق في النوم وأن يستلقي على هيئة تقتضي سرعة انتباهه إقتداءً بالمصطفى صلى الله عليه وسلم.
صفة عطاسه:
عن أبي هريرة رضي عنه: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض بها صوته"، رواه أبو داود والترمذي وصححه الحاكم وأقره الذهبي.
صفة مشيته:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " ما رأيتُ شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّ الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع من رسول الله صلى الله عليه و سلم كأنَّما الأرض تطوى له، إنَّا لَنُجهد أنفسنا وإنَّه غير مكترث ".
وعن أنس رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا مشى تَكَفَّأ ( أي مال يميناً وشمالاً ومال إلى قصد المشية) ويمشي الهُوَينا ( أي يُقارِب الخُطا ).
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى ، مشى مجتمعاً ليس فيه كسل "، (أي شديد الحركة ، قوي الأعضاء غير مسترخ في المشي) رواه أحمد.
كان صلى الله عليه و سلم إذا التفت التفت معاً أي بجميع أجزائه فلا يلوي عنقه يمنة أو يسرة إذا نظر إلى الشيء لما في ذلك من الخفة و عدم الصيانة وإنّما كان يقبل جميعاً و يُدبِر جميعاً لأن ذلك أليَق بجلالته ومهابته هذا بالنسبة لالتفاته وراءه، أمّا لو التفت يمنة أو يسرة فالظاهر أنه كان يلتفت بعنقه الشريف.
صفة دُعائه:
" كان النبي صلى الله عليه و سلم يُحب الجوامع من الدعاء و يدع ما بين ذلك " ، حديث صحيح رواه أحمد.
ومن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الأخلاق: (اللهم اهدني لأحسن الأعمال وأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، و قني سيئ الأعمال و سيئ الأخلاق، لا يقي سَيِّئها إلا أنت)، أخرجه النسائي.
صفة تسبيحه:
" كان يعقد التسبيح بيمينه"، حديث صحيح رواه البخاري و الترمذي و أبو داود ( أي يسبِّح على عقد أصابع يده اليمنى ).
من أخلاقه صلى الله عليه و سلم :
عن عائشة رضي الله عنها قالت: " ما خُيِّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد ما يكون عنه وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تُنهَكَ حُرمة الله، فينتقم للّه بها ".
وعن عائشة أيضاً قالت: " ما ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً بيده قط، و لا امرأة، و لا خدماً إلاّ أن يجاهد في سبيل الله، و ما نيلَ من شيء قط، فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيئاً من محارِم الله ، فينتقم لله ".(2/207)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه (خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خُلُقاً، فأرسلني يومًا لِحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لِما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم. فخرجتُ حتى أمُرَّ على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بقفاي (من ورائي)، فنظرتُ إليه وهو يضحك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أُنَيس ذهبتَ حيث أمرتُك، فقلت: أنا أذهب يا رسول الله!
قال أنس رضي الله عنه: والله لقد خدمته تسع سنين ما عَلِمته قال لشيء صنعتُه، لم فعلتَ كذا وكذا؟ ولا عاب علَيّ شيئاً قط، والله ما قال لي أُف قط"، رواه مسلم.
قلت فكم من مرة قلنا لوالدينا أفٍّ أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قال لخادمه أفٍّ قط!!.
وعن أبي هالة عن الحسن بن علي قال أن النبي عليه الصلاة والسلام كان خافض الطرف (من الخفض ضد الرفع فكان إذا نظر لم ينظر إلى شيء يخفض بصره لأن هذا من شأن من يكون دائم الفكرة لاشتغال قلبه بربه)، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، وكان جل نظره الملاحظة (المراد أنه لم يكن نظره إلى الأشياء كنظر أهل الحرص والشره بل بقدر الحاجة)، يسوق أصحابه أمامه (أي يقدمهم أمامه، ويمشي خلفهم تواضعاً، أو إشارة إلى أنه كالمربي، فينظر في أحوالهم وهيئتهم، أو رعاية للضعفاء وإغاثة للفقراء، أو تشريعاً، وتعليماً، وفي ذلك رد على أرباب الجاه وأصحاب التكبر والخيلاء )، وكان صلى الله عليه وسلم يبدر من لقي بالسلام.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أكمل الناس شرفاً وألطفهم طبعاً وأعدلهم مزاجاً وأسمحهم صلة وأنداهم يداً لأنه مستغن عن الفانيات بالباقيات الصالحات.
* وقد أكّد الرسول صلى الله عليه وسلم على التواضع في جملة في الأحاديث منها:
- قوله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً ، و خِياركم خِياركم لِنسائه خُلُقا".
- وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن لَيُدرك بِحُسن خُلُقه درجة الصائم القائم "، صحيح رواه أبو داود.
* العفو عند الخصام:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رجلاً شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس يتعجب ويبتسم، فلما أكثر ردّ عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، فلحقه أبو بكر قائلاً له: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبتَ وقُمتَ!!
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان معك مَلَك يرد عليه ، فلما رددتَ عليه وقع الشيطان (أي حضر) يا أبا بكر ثلاث كلهن حق : ما من عبد ظُلِمَ بمظلمة فيُغضي (أي يعفو) عنها لله عز و جل إلا أعزَّ الله بها نصره و ما فتح رجل باب عطِيَّة ( أي باب صدقة يعطيها لغيره) يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة، و ما فتح رجل باب مسألة (أي يسأل الناس المال ) يريد بها كثرة إلا زاده الله بها قِلَّة".
* من تواضع الرسول صلى الله عليه و سلم:
عن أنس رضي الله عنه قال: "ما كان شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لِما يعلمون من كراهيته لذلك "، رواه أحمد والترمذي بسند صحيح.
"كان يزور الأنصار، ويُسَلِّم على صبيانهم ، و يمسح رؤوسهم "، حديث صحيح رواه النسائي.
وكان عليه الصلاة والسلام يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم. وكان يجلس على الأرض و يأكل على الأرض ويجيب دعوة العبد، كما كان يدعى إلى خبز الشعير فيجيب.
عن أنس رضي الله عنه قال: " كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تُسبَق أو لا تكاد تُسبَق، فجاء أعرابي على قعود له (أي جمل) فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه، فقال الرسول صلى الله عليه و سلم: "حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه "، رواه البخاري.
* من رِفق الرسول صلى الله عليه و سلم :
قال الله تعالى: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
عن أنس رضي الله عنه قال: " بينما نحن في المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فصاح به أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم: مَه مَه (أي اترك)!!
قال النبي عليه الصلاة و السلام: لا تُزرموه، (لا تقطعوا بوله).
فترك الصحابة الأعرابي يقضي بَوله، ثم دعاه الرسول صلى الله عليه و سلم و قال له:
"إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنَّما هي لِذِكر الله والصلاة و قراءة القرآن"، ثم قال لأصحابه صلى الله عليه و سلم: " إنَّما بُعِثتم مُبَشِرين، ولم تُبعَثوا معسرين، صُبّوا عليه دلواً من الماء ".
عندها قال الأعرابي: "اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً ".
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : "لقد تحجَّرتَ واسعاً"، (أي ضَيَّقتَ واسعاً)، متفق عليه.(2/208)
وعن عائشة رضي الله عنها رَوَت أنَّ اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فدار بينهم الحوار الآتي:
- اليهود: السَّام عليك، (أي الموت عليك).
- الرسول صلى الله عليه و سلم : وعليكم.
- عائشة: السَّام عليكم، ولعنكم الله وغَضِبَ عليكم !.
- الرسول صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة! عليكِ بالرِّفق، و إيَّاكِ و العنف و الفُحش .
- عائشة: أوَلم تسمع ما قالوا ؟!!.
- الرسول صلى الله عليه و سلم: أوَلم تسمعي ما قُلت، رددتُ عليهم، فيُستَجاب لي ولا يُستَجاب لهم فيَّ.
وفي رواية لمسلم: (لا تكوني فاحشة، فإنَّ الله لا يحب الفُحش والتَّفَحُّش).
* الرحمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " قَبَّل رسول الله صلى الله عليه و سلم الحَسَن بن عليّ، وعنده الأقرع بن حابس التيمي، فقال الأقرع: إنَّ لي عشرة من الولد ما قَبَّلتُ منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "من لا يَرحم لا يُرحم "، متفق عليه.
* سِعة قلبه منذ طفولته إلى لحظة وفاته:
روى ابن اسحق و ابن هشام أنَّ حليمة لمَّا جاءت كان على صدرها ولد لا يشبع من ثديها و لا من ناقتها، فناقتها عجفاء وثديها جاف. وراحت تبحث عن طفل تُرضِعه وتأخذ من المال من أهله ما تأكل به طعاماً فيفيض حليباً. بحثت في الأطفال فلم تَرَ إلا اليتيم (محمد صلى الله عليه وسلم)، فأعرضت عنه و سألت عن غيره فما جاءها غيره، فعادت إليه، أخذته ومشت. تقول حليمة فيما رواه ابن اسحق: فلمَّا وضعته على ثديي ما أقبل عليه، وقد شعرتُ أن ثديي قد امتلأ بالحليب، أعطيه الثدي لا يقبله، انتبهت إلى أن أخاه يبكي من الجوع فوضعته فأخذت أخاه فأرضعته، فشرب، فشبع، ثم حملتُ ابني محمداً فوضعته على ثديي فأخذه ".
ما أخذ ثديها وله أخ جائع و هو طفل صغير. إن الله تعالى جعله محبوباً من اللحظة الأولى، فما كان يقبل أن يأكل حتى يأكل أخاه، وما كان يقبل أن يأكل حتى يفيض الطعام.
وما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل من إناء وانتهى الطعام الذي فيه أبداً.
قال عنه عمه أبو طالب:كان إذا جاء الأولاد للطعام ، امتنع حتى يأكل الأولاد جميعاً، و لا يقترب حتى يأكلوا لأنه لا يريد أن يُقَلِّل على أحد غذاءه، فهو يصبر ليشبع الآخرون، فما كان يوماً يُجاذِب الدنيا أحداً، فهو يعلم أن الحب ينبع من إعراضك عن الدنيا، فإذا أحببتَ الدنيا أعرض الناس عنك وإذا أحببتَ الله أقبَلَ الناس إليك.
من منَّا إذا دخلَت عليه ابنته يقوم لها؟ كان إذا دخلت فاطمة قام لها وقال: "مرحباً بمن أشبهَت خُلُقي وخلقي". و تعالوا نرى كيف عبَّر عليه الصلاة والسلام عن حبه للزهراء ، هل كان ذلك بمال أو بأثاث؟ أبداً و لكن بقربان إلى الله تعالى ، فكانت كلما جاء جبريل عليه السلام بكنز فيه قربة من الله، يقول صلى الله عليه وسلم: " يا فاطمة، جاءني جبريل بكنز من تحت العرش، تعالي أعطيكِ إيَّاه، فأنت أحبُّ الناس إلَيّ يا فاطمة. ولمَّا شَكَت له يوماً من أعمال المنزل وطلبت منه خادمة، قال لها عليه الصلاة والسلام: ألا أعطيكِ ما هو خير من ذلك؟ قالت: نعم فقال لها: تقولين بعد كل فريضة، سبحان الله ثلاثاً وثلاثين والحمد لله ثلاثاً وثلاثين و الله أكبر ثلاث و ثلاثين وتمام المئة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير ". فهذا خير لها من الخادمة في الدنيا والآخرة، فهو يُعينها في دنياها وينفعها في آخرتها، وقد قبلت فاطمة ما أعطاها والدها وهي مسرورة فرِحَة ...
* حبه لأمَّته صلى الله عليه وسلم:
بعد أن عُرِجَ بالنبي صلى الله عليه وسلم و كَرَّمه ربه، سأله رب العزة :"يا محمد، أبَقِيَ لكَ شيء؟ قال : نعم ربي. فقال سبحانه وتعالى: سَل تُعط. فقال: أمَّتي ، أمَّتي ". لم يقل أبنائي، لم يقل أصحابي، لم يقل أهلي، قال أمَّتي.
و قد ورد في بعض كتب التفسير عند قوله تعالى :{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، أنه لمَّا نزلت عليه هذه الآية قال: " اللهم لا أرضى يوم القيامة و واحد من أمَّتي في النار ".
لقد أرسل لنا عليه الصلاة والسلام نحن الذين نعيش في هذا الزمن ولكل الذين عاشوا بعده: " بلِّغوا السلام عني من آمن بي إلى يوم القيامة ". سَلَّمَ علينا قبل أن نكون شيئاً مذكوراً، و عرفنا قبل أن نعرفه ، فكيف لا نكافئ هذا الحب بحب؟!!!.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه عدد خلقك ورضاء نفسك و زنة عرشك ومداد كلماتك، كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرنا الغافلون.
* من كرم النبي صلى الله عليه و سلم:
عن أنس رضي الله عنه أنَّ رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنماً بين جبلين، فأتى قومه فقال:(2/209)
" أي قوم، أسلِموا، فإنَّ محمداً يُعطي عطاء ما يخاف الفاقة، فإنه كان الرجل لَيجيء إلى رسول الله ما يريد إلا الدنيا، فما يُمسي حتى يكون دينه أحَبُّ إليه و أعَزُّ عليه من الدنيا و ما فيها ".
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أجود الناس صدراَ، أي أن جوده كان عن طيب قلب وانشراح صدر لا عن تكلف وتصنع .
وورد في رواية أخرى أنه عليه الصلاة والسلام كان أوسع الناس صدراَ وهو كناية عن عدم الملل من الناس على اختلاف طباعهم وتباين أمزجتهم.
جامع صفاته صلى الله عليه وسلم:
عن إبراهيم بن محمد من ولد علي بن أبي طالب قال:
كان علي رضي الله عنه إذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: ...." أجود الناس صدراً وأصدق الناس لهجة وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة ، من رآه بديهةً هابه ، ومن خالطه معرفةً أحبه، يقول ناعِته لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم "، أخرجه الترمذي وابن سعد والبغوي في شرح السنة والبيهقي في شعب الأيمان.
عراقة أصله:
هو خير أهل الأرض نسباً على الإطلاق، فلِنَسَبِهِ من الشرف أعلى ذروة، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك، ولهذا شهد له به عدوه إذ ذاك أبو سفيان بين يدي ملك الروم، فأشرف القوم قومه وأشرف القبائل قبيلته. وصدق الله تبارك وتعالى إذ يقول: {فَإنَّهُمْ لاَ يُكَذَّبُونكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِنَ بآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ}.
ويؤيد ذلك ما جاء على لسان أبي جهل عدو الله وعدو رسوله إذ قال للنبي - صلى الله عليه وسلم-:
" قد نعلم يا محمد أنك تصل الرحم وتصدق الحديث ولا نكذبك ولكنّ نكذب الذي جئت به " أخرجه الحاكم في مستدركه هذا صحيح على شرط الشيخين. فأنزل الله -عز وجل-: {قَد نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذَّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِنَ بآيَاتِ الله يَجحَدُونَ}، [الأنعام: 33].
ولهذا ورد أنهم عرضوا عليه الجاه والسيادة والملك وجمع الأموال والمغريات الأخرى مقابل ترك هذه الدعوة أو جزءاً منها كحل وسط ولكنهم لم ينجحوا فيها لأنّ موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان ثابتاً.
وعرض هذه الأمور عليه يدل على سمو مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم - من جهة النسب عند قومه قريش الذين كانوا يأنفون أن يخضعوا للوضيع مهما كان الأمر وخاصة إذا جاء بأمر يخالف عاداتهم وتقاليدهم مثل ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الدين الحنيف والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك والأوثان وما كان سائداً في مجتمع مكة من عادات وتقاليد جاهلية.
عادة الصحابة في تعظيمه عليه الصلاة والسلام وتوقيره وإجلاله:
عن ابن شُمَاسَةَ المهَرِيِّ قال حضرنا عمرو ابن العاص فذكر لنا حديثاً طويلاً فيه: "وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيقُ أن أملأ عيني منهُ إجلالاً له، ولو سئلتُ أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن املأ عيني منه ".
وروى الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر، فلا يرفع أحدُ منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمرُ، فإنهما كانا ينظران إليه، وينظر إليهما، ويبتسمان إليه ، ويبتسمُ لهما.
ولما أذنت قريش لعثمان في الطواف بالبيت حين وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في القضية أبى وقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه و سلم.
وروى أسامة بن شريك قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله كأنما على رؤوسهم الطير ".
وفي رواية أخرى: " إذا تكلم أطرق جلساؤه وكأنما على رؤوسهم الطير".
وقال عروة بن مسعود حين وَجَّهَتْهُ قريش عام القضية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى من تعظيم أصحابه له ما رأى، وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوئه، وكادوا يقتتلون عليه ولا يبصق بصاقاً ولا يتنخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم، فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم ، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدَّونَ إليه النظر تعظيماً له، فلما رجع إلى قريش قال:
"يا معشر قريش ، إني جئتُ كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، وقد رأيت قوماً لا يسلمونه أبداً".
غض الصوت وقت مخاطبته صلى الله عليه وسلم:(2/210)
من المعلوم أنَ الرسول صلى الله عليه وسلم هو المصدر الوحيد الذي يتلقى عنه المسلمون تعاليم الله سبحانه وتعالى سواء كان قرآنا أو سنة أو حديثاً قدسياً، لذلك يجب عليهم أن يتأدبوا معه صلى الله عليه وسلم أثناء كلامه معهم أو كلامهم معه، وذلك بخفض الصوت وترك الجهر العالي كما يكون بين الإنسان وصديقه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ ءامنوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولاَ تَجْهَرُوا لَهُ بالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "هذا أدب ثان أدّب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته".
والأدب هنا يحصل بمجانبة أمرين أثنين:
أولاهما: رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم أخذا من النهي الوارد في قوله:
{لاَ تَرْفَعُوا أّصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتَ النَّبيِّ ..}.
ثانيهما: الجهر بالقول له صلى الله عليه وسلم كالجهر بعضكم بعضاً أخذا من النهي الوارد في قوله تعالى: {.... ولاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ...}.
وقد فرق المفسرون بين النهيين الواردين في الآية حيث قالوا: إن الأول يتعلق برفع الصوت فوق صوته - صلى الله عليه وسلم - أثناء كلامه معهم، وأما الثاني فيتعلق بالجهر له صلى الله عليه وسلم وقت صمته.
ومنهم من يقول: إن النهي الأول يتعلق وقت خطابه معهم أو خاطبهم معه أو صمته، وأنّ الثاني يتعلق بندائه صلى الله عليه وسلم باسمه المجرد أو بكنيته ، مثل يا محمد أو يا أبا القاسم.
وقد أجمل النيسابوري رحمه الله تعالى في ما ورد في التفريق بين هذين النهيين قائلاً:
"والجمهور على أن بين النهيين فرقاً ثم اختلفوا فقيل:
الأول: فيما إذا نطق ونطقتم أو أنصت ونطقوا في أثناء كلامه فنهوا أن يكون جهرهم باهر الجهر.
والثاني: فيما إذا سكت ونطقوا ونهوا عن جهر مقيد بما اعتادوه بما بينهم وهو الخالي عن مراعاة أبهة النبوة. وقيل: النهي الأول أعم مما إذا نطق ونطقوا أو أنصت ونطقوا والمراد بالنهي الثاني أن لا ينادى وقت الخطاب باسمه أو كنيته كنداء بعضكم لبعض فلا يقال : يا أحمد يا محمد يا أبا القاسم، ولكن يا نبي الله يا رسول الله.
والأدب الثاني هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب وتوقيرهم له في قلوبهم توقيراً ينعكس على نبراتهم وأصواتهم، ويميز شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ويمييز مجلسه فيهم، والله يدعوهم إلى ذلك النداء الحبيب ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب.
والتحذير الرهيب هو إحباط العمل الصالح بدون شعور صاحبه أخذاً من قوله تعالى:
{... أّنْ تَحْبَطَ أَعْمِالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}.
وأحسن ما قيل في تأويل هذه الآية ما ذكره ابن المنير- رحمه الله حيث يقول:
" والقاعدة المختارة أنّ إيذاءه - عليه الصلاة والسلام -يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق، فورد النهي عما هو مظنّة لأذى النبي- صلى الله عليه وسلم - سواء وجد هذا المعنى أو لا، حمايةً للذريعة وحسماً للمادة.
وهذا على غرار قوله تعالى في قضية الإفك: {... وَتَحْسَبُونَهُ هَيَّناً وَهوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ}.
وقوله صلى الله عليه وسلم" إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم"، صحيح البخاري.
وقد التزم الصحابة رضوان الله عليهم بهذا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده كما ورد في الآثار: منها قول أبي بكر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله عز وجل "، أورده الحاكم في مستدركه وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
هكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب، وذلك التحذير الرهيب، وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون وتداركوا أمرهم ولكنّ هذا المنزلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم فخافوه واتقوه:
{إنَّ الذينَ يَغُضُّونَ أَصوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِيْنَ امتَحَنَ اللهُ قُلوبَهُمْ للِتَّقْوَى لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3].
هكذا كان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم وأمَا بعد مماته فكذلك يجب على المسلم أن يتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث لا يرفع صوته عند سماع أحاديثه صلى الله عليه وسلم لأن حرمته ميتاً كحرمته حياً سواءً بسواء وأن أحاديثه تقوم مقامه.
يقول ابن العربي رحمه الله تعالى:(2/211)
" حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قُرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى:
{وإذا قُرِئَ القُرْآنُ فاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا ...} [الأعراف: 204].
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي وله الحرمة مثلما القرآن إلا معاني مستثناة بيانها في كتب الفقه، والله أعلم. ويُراعى هذا الأدب - وهو عدم رفع الصوت - أيضا في مسجده صلى الله عليه وسلم، لما أخرجه البخاري بسنده عن السائب بن يزيد قال: " كنتُ قائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتِني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، صحيح البخاري.
كما أن هذا الأدب المستفاد من الآية يكون مع العلماء لأنهم ورثة الأنبياء وكذلك مع الأبوين وغيرهما لمن له فضل على الإنسان المسلم ، فلا شك أنّ هؤلاء الأشخاص يأخذون هذا الحكم وينبغي التأدب معهم وتوقيرهم بالشكل اللائق بهم مع مراعاة الفرق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنَ مقامه أرفع من هؤلاء جميعاً وهو صلى الله عليه وسلم المعنيُّ بالآية أصلاً وهؤلاء تبعاً وليس الفرع كالأصل وإن اشتركا في أمور، والله تعالى يقول: {النَّبيُّ أَوْلَى بالمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ...} [الأحزاب: 6] بل ينبغي أن يحترم العبد النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سيده.
وفي مجال التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم جاء التنبيه في القرآن الكريم على ضرورة عدم مناداته بطريقة جافة ومزعجة بل لا بد من مراعاة مقامه وقدره وبالأخص عندما يكون في بيته مع نسائه وأولاده.
يقول تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهم لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 4] .
عن الأقرع بن حابس رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا محمد أخرج إلينا، فلم يجبه ، فقال: يا محمد إن حمدي زين وانّ ذمي شين"، فقال الله تعالى: {إنَّ الَّذِيْنَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}.
وقد تضمنت الآية أمرين :
أولهما: عدم إزعاج الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت خلوته في بيته مع نسائه بالنداء غير اللائق به.
وثانيهما: الإرشاد إلى ما ينبغي أن يفعل في هذه الحالة وهو الانتظار إلى أن يحين وقت خروجه.
وفي ذلك قال الله عز وجل: {وّلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} أي: لكان في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة.
وهذا لا يعني أنه لا يجوز مناداته صلى الله عليه وسلم بتاتاً ، وإنما المحظور مناداته في وقت خلوته مع نسائه في بيته كما في هذه الحالة، وكذلك مناداته بصوت مرتفع خالٍ من الاحترام والتقدير بل ينبغي أن ينادى بصوت منخفض وبصيغة معينة تتناسب مع قدره وعظمته ووقاره مثل: يا رسول الله، يا نبي الله ، لا مجرد اسمه مثل: يا محمد، ويا أحمد، ويا أبا القاسم . كما ينادي الناس بعضهم بعضاً.
وهذا ما أشار إليه قوله تعالى:
{لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ...} [النور: 63].
ومما تدل عليه هذه الآية أنه نهي لهم عن الإبطاء إذا أمرهم والتأخر إذا دعاهم.
يجب على المسلم أن يدع هذه النداءات السوقية في لفظها وكيفيتها مثل: يا محمد، ويا أحمد، أو كنيته مثل: يا أبا القاسم كما كانوا يفعلونه من قبل، وأن يناديه صلى الله عليه وسلم نداءً يتناسب مع مقامه ومكانته مثل: يا رسول الله ويا نبي الله ، اقتداءً بما في القرآن من نداء الله سبحانه وتعالى له صلى الله عليه وسلم بحيث لم يناد رسوله في القرآن بمجرد اسمه ولو مرة واحدة وإنما ناداه بصفة النبوة والرسالة وغيرها من الصفات الثابتة له في القرآن الكريم.
كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبيُّ قُلْ لأزْوَجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا...} [الأحزاب: 28] و {يا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ قمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً.. } و {يَا أّيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ }.
مع أنه سبحانه قد قال:
{ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ..} [البقرة: 35].
{ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ...} [هود: 46].
{ يَا إبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ...} [هود: 76].
{ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيْفَةً فِي الأَرْضِ ..} [ص: 26].
لزوم محبته صلى الله عليه وسلم :(2/212)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. [ التوبة: 24] .
فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحُجَّة على إلزام محبته، ووجوب فرضها وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرَّع الله تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوَعَّدهم بقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}. [التوبة: 24]. ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضَلّ ولم يهده الله سبحانه وتعالى.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلاثٌ مّنْ كُنَّ فيه وجَدَ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهمُا، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبهُ إلا لله، وأن يَكرَهَ أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار"، رواه مسلم ونسائي.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده ووالده والناس أجمعين"، أخرجه البخاري ومسلم.
حب الرسول صلى الله عليه وسلم من تمام الإيمان:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده ووالده والناس أجمعين "، أخرجه الشيخان وأحمد والنسائي.
وفي الحديث جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسام المحبة التي تكون بين الناس وهي ثلاثة:
1- محبة إجلال وإعظام كمحبة الولد والده.
2- محبة إشفاق ورحمة كمحبة الوالد ولده.
3- محبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس.
أما محبته صلى الله عليه وسلم فهي فوق هذا كله كما يفيد أفعل التفضيل في قوله:" أحب أليه".
وفي حديث عمر: " أنت أحبُّ إليّ يا رسول الله من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي. فقال له عليه الصلاة والسلام: لا تكون مؤمناً حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب، لأنت أحبُ إلىَّ من نفسي التي بين جنبي، فقال صلى الله عليه وسلم: "الآن يا عُمُر تم إيمانك"، أخرجه البخاري.
قال القاضي عياض:
"اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك وليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ولكنها اختلاف أحوال ، فقال سفيان: "المحبة اتِّباع الرسول، كأنه التفت إلى قوله تعالى: {قُل إنْ كُنْتُم تُحِبُّونَ الله فاَتَّبعُونِ يُحْبِبْكُمُ اللهُ ..} [آل عمران: 31] وقال بعضهم: محبة الرسول اعتقاد نصرته والذب عن سنته والانقياد لها وهيبة مخالفته ، وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب ، وقال آخر إيثار المحبوب وقال بعضهم: المحبة الشوق إلى المحبوب، وقال بعضهم : المحبة مواطأة القلب لمراد الرب بحُبِّ ما أحبَّ وبِكُرهِ ما كَرِهَ، وقال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له، ثم قال: وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها، وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان ".
ويقول أبو عبد الله المحاسبي:
"والمحبة في ثلاثة أشياء لا يسمى محباً لله عز وجل إلا بها:
1- محبة المؤمنين في الله عز وجل.
2- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل.
3- محبة الله عز وجل في إيثار الطاعة على المعصية.
"وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان وتكون موافقته إمّا لاستلذاذه بإدراكه كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها مما يميل كل طبع سليم إليها لموافقتها له ، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معاني باطنة شريفة كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف المأثور عنهم السِّيَر الجميلة والأفعال الحسنة ، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم والتشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم واحترام النفوس أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جُبِلَت النفوس على حب من أحسن إليها".
ثم ذكر بعد ذلك أنّ هذه الأنواع المسببة للمحبة كلها مجتمعة في شخصيته صلى الله عليه وسلم على أتم وجه حيث قال: " فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم فعلمت أنّه جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة . فقد تميّز بجمال الصورة والظاهرة وكمال الأخلاق والباطن، كما تميز بإحسانه وإنعامه على أمته.(2/213)
وقد ذكر الله تعالى في أوصافه رأفته بهم ورحمته لهم وهدايته إياهم وشفقته عليهم واستنقاذهم من النار وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم ورحمة للعالمين ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، ويتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم ، فأي إحسان أجل قدراً وأعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأي إفضال أعمّ منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين، إذ كان ذريعهم إلى الهداية، ومنقذهم من العماية وداعيهم إلى الفلاح والكرامة، ووسيلتهم إلى ربّهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمدي فقد استبان لك أنه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً.. إلى أن قال: فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذّي بها قليل منقطع فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملكاً لحسن سيرته أو حاكماً لما يؤثر من قوام طريقته أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال كلها على غاية مراتب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل".
علامة محبته صلى الله عليه وسلم:
إن من أحب شيئاً آثرَ موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حُبه، وكان مُدعياً، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها: الإقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عُسره ويُسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى:
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [ آل عمران: 31 ]، وإيثار ما شرعه، والحض عليه وتقديمه على هوى نفسه وموافقة شهوته.
قال الله تعالى:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بنيَّ إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غِشٌ لأحدٍ فافعل "، ثم قال لي: يا بُنَيَّ وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة ".
فمن اتصف بهذه الصفة فهو كامل المحبة لله ورسوله، ومن خالفها في بعض هذه الأمور فهو ناقص المحبة ولا يخرج عن اسمها.
ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم:
الإيثار أي إيثار النبي صلى الله عليه وسلم على النفس كما يدل عليه قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤا الدَّارَ وَ الإيمَانَ من قَبلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَان بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
والآية وإن كانت عامة في إيثار المهاجرين إلا أنه صلى الله عليه وسلم هو رئيس المهاجرين وقائدهم، وهو المحبوب الأول من الخلق أساساً، وأمّا غيره فتَبَعٌ له بحسب قربهم إليه صلى الله عليه وسلم ومتابعتهم إيّاه.
ومن علامات محبته صلى الله عليه و سلم أيضاً : بغض من أبغض الله ورسوله مهما كانت صلته ورتبته لقوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ باللهِ واليوم الآخر يُوادُّونَ مّنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءاباءهم أَو أَبناءهُمْ أَو إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيْمَان وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ...} [المجادلة: 22].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية:
قيل في قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا آباءهُمْ}: نزلت في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر، و{أَوْ أَبْنَاءهُمْ} في الصِدِّيق لابنه عبد الرحمن، {أَوْ عَشِيرَتُهُم}: في عمر قتل قريباً له يومئذ أيضاَ ..".
وهؤلاء قاموا بقتل أقرب أقربائهم في معركة بدر لأن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي قتل من حادَّ الله ورسوله وبغض من أبغض الله ورسوله.
ومن العلامات كذلك: حب من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عكس الصورة السابقة لقوله صلى الله عليه وسلم: " الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومنآذى الله يوشك أن يأخذه "، حديث حسن غريب.
ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم:(2/214)
من ثمرة محبته عليه الصلاة و السلام، مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين لحديث عائشة رضي الله عنها: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم،فقال يا رسول الله: إنّك لأحبَ إلى من نفسي وإنك لأحب إليَ من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك،وإذا ذكرت موتك عرفت إنَك دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإنّي إذا دخلت خشيت أن لا أراك فأنزل الله تعالى:
{وَمَنْ يُطع الله والرَّسُولَ فأُولَئكَ مع الذين أنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحيِنَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفيِقاً} [النساء: 69]، مجمع الزوائد وقال الهيثمي: ورواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران الغامدي وهو ثقة.
عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "متى الساعة يا رسول الله؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة، ولا صوم، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: "أنت مع من أحببت"، أخرجه البخاري ومسلم.
فهل من ثواب أرجى من أن يُحشَر المرء مع من أحب خاصة إذا كان المحبوب هو المصطفى صلى الله عليه و سلم!.
قال شهاب الدين الخفاجي رحمه الله تعالى:
وحق المصطفى لي فيه حب إذا مرض الرجاء يكون طباً
ولا أرضى سوى الفردوس مأوى إذا كان الفتى مع من أحبا
صور من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم:
هناك صور متعددة من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم نذكر طرفاً منها في هذا المقام وخاصة ما روي في حب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين للرسول صلى الله عليه وسلم:
من ذلك ما أخرجه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " لمّا فرض عمر لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وفرض لي ألفين وخمسمائة قلت له: يا أبَتِ لم تفرض لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وتفرض لي ألفين وخمسمائة, والله ما شهد أسامة مشهداً غبت عنه ولا شهد أبوه مشهداً غاب عنه أبي، فقال: صدقت يا بني، ولكني أشهد, لأبوه كان أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك ولهو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك "، رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
ومنها ما روي أنّه لما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان بن حرب: "أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك لضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحبّ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإنّي جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ".
ومنها ما روي أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها فأخبروها بذلك فقالت: " ما فعل الله برسول الله؟ قالوا: بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظره، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " أشدّ أمتي لي حباً قوم يكونون من بعدي ، يود أحدهم أنه فقد أهله وماله وأنه رآني"، أخرجه أحمد بسند حسن.
---------------
46.مع المصطفى.. حسن معاملة الأجير
د/ خالد سعد النجار
عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل، فقعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم؛ فكيف أنا منهم؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا كان يوم القيامة؛ يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم؛ فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم؛ كان كفافًا لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنبهم، كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم؛ اقتص لهم منك الفضل"، فتنحى الرجل وجعل يهتف ويبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ قول الله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) (1) فقال الرجل: يا رسول الله! ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم؛ أشهدك أنهم كلهم أحرار. (2)(2/215)
شاء الله عز وجل أن تتباين أدوار البشر وتتنوع مسؤولياتهم وتتعدد اهتماماتهم حتى تتكامل حركة الحياة وتعمر الأرض, واقتضت مشيئته وحكمته سبحانه أن يجعل بعض عباده أغنياء وبعضهم فقراء، وسخّر كلاّ من الطائفتين للأخرى، هذه تنمي المال وتنفق منه على تلك، وتلك تقوم بالعمل مقابل ذلك الإنفاق . والإسلام يوجه الأغنياء المخدومين إلى التواضع وعدم التكبر على الخادمين، ويجعل لهؤلاء حقوقًا على أولئك يجب عليهم أن يؤدوها بدون مماطلة ولا نقص, فالمخدوم ينبغي أن يتواضع مع خادمه ولا يترفع عليه لأنه قد يكون أعظم درجة منه عند الله، وليس الفضل بكثرة الأموال ولا بعظم الأجسام, ولا بغير ذلك من متاع الدنيا وزينتها ومظاهرها وإنما الفضل بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في معاملة الخادم, فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا"(3) والرسول صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة لأمته, وهي إذا لم تستطع أن تصل إلى درجة الكمال التي بلغها صلى الله عليه وسلم فلتسدد ولتقارب.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من لايمكم من خدمكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون , ومن لا يلايمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله) (4) وقال صلى الله عليه وسلم (لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم, لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجاب لكم) (5) وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي حره وعلاجه" (6) وبلغ من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يطيق أحدًا أن يقول: كان عبدي وأمتي وأنه أمر المسلمين أن يكفوا عن ذلك، وأن يقولوا فتاي وفتاتي (7)
وعن المعمور بن سويد قال: "رأيت أبا ذر الغفاري وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألناه عن ذلك فقال: ساببت رجلا فشكاني إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (أعيرته بأمه؟! ثم قال: إخوانكم خولكم جعلهم اللّه تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم) (8) وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلامًا لي , فسمعت من خلفي صوتًا (اعلم، أبا مسعود! لله أقدر عليك منك عليه) فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله, فقال (أما لو لم تفعل، للفحتك النار، أو لمستك النار) (9) وعن معاوية بن سويد قال: لطمت مولى لنا فهربت ثم جئت قبيل الظهر, فصليت خلف أبي فدعاه ودعاني ثم قال: امتثل منه ثم قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادم واحدة فلطمها أحدها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اعتقوها" قالوا: ليس لهم خادم غيرها قال: "فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فيخلوا سبيلها" (10)
وللخادم على سيده حقوق نذكر منها (11):
ــ أن يعامله معاملة حسنة ويحلم عليه إذا بدر منه خطأ، قال تعالى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} آل عمران 134
ــ أن يتواضع معه ولا يتكبر عليه فإن التواضع مع الخادم يؤنسه ويشعر معه بالطمأنينة وعدم الحرج من العسر والفقر، والتكبر عليه يوحشه ويشعر بسببه أنه محتقر لا قيمة له فيضطرب ويعيش كئيبا حزينا، وقد ذم الله الكبر والمتكبرين وأعدّ لهم عقابا أليما كما مدح التواضع والمتواضعين ووعدهم الجزاء الحسن قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الشعراء 215 وقال تعالى في وصف المؤمنين {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} المائدة 54, وعن عياض بن حمار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد" (12) وعن أنس رضي الله عنه قال: "إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت" (13)(2/216)
ــ قد يقوم الخادم بالخدمة في مقابل طعامه وشرابه وكسوته، وقد يقوم بها بأجر معلوم من النقود أو غيرها، وفي كلتا الحالتين يجب على المخدوم أن يؤدي إلى الخادم ما يستحق، ولا يجوز له أن يظلمه بنقص أجرته أو مماطلته فيها فإن فعل شيئا من ذلك فقد ظلمهن, والله تعالى ذم في كتابه الظلم والظالمين كما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه قال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} الحج 71 وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة" فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ فقال: "وإن كان قضيبًا من أراك"(14) وقد حذر الله المستأجر تحذيرًا شديدًا من عدم إعطاء الأجير أجره, قال البخاري رحمه الله: "باب إثم من منع أجر الأجير" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره" (15) وقال صلى الله عليه وسلم (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) (16) أي ينشف لأن أجره عمالة جسده وقد عجل منفعته فإذا عجلها استحق التعجيل، ومن شأن الباعة إذا سلموا قبضوا الثمن عند التسليم فهو أحق وأولى. إذ كان ثمن مهجته لا ثمن سلعته فيحرم مطله والتسويف به مع القدرة، فالأمر بإعطائه قبل جفاف عرقه إنما هو كناية عن وجوب المبادرة عقب فراغ العمل إذا طلب وإن لم يعرق أو عرق وجف (17).
ـ ومن أهم ما ينبغي أن يعتني به السيد للخادم تعليمه ما يجب عليه وما يحرم من أمور دينه, وحثه على التحلي بالأخلاق الفاضلة فإن في ذلك مصلحة عظيمة للسيد والخادم والمجتمع، كما ينبغي أن يحذره من الأخلاق الرذيلة واقتراف الأمور المحرمة ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لأنه أصبح مسئولا عنه كمسئوليته عن بقية أهل بيته.
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) الأنبياء 47.
(2) الحديث رواه الترمذي ــ كتاب التفسير رقم 3165 وصححه الألباني في صحيح الترمذي رقم 2531 والمشكاة رقم 5494 والفظ له.
(3) رواه مسلم رقم 2309
(4) رواه أحمد وأبو داود عن أبي ذر (صحيح) انظر حديث رقم: 6602 في صحيح الجامع.
(5) رواه أبو داود عن جابر (صحيح) انظر حديث رقم: 7267 في صحيح الجامع.
(6) البخاري رقم 5460
(7) البخاري رقم 2552
(8) البخاري رقم 2545
(9) مسلم 1659
(10)مسلم رقم 1658
(11) المسئولية في الإسلام الشيخ عبد الله قادري بتصرف.
(12)مسلم رقم 2865
(13) رواه البخاري تعليقا انظر رياض الصالحين بتحقيق الألباني رقم 610.
(14) صحيح مسلم من حديث أبي أمامة الحارثي رقم 137.
(15) البخاري رقم 2270.
(16) رواه ابن ماجة عن ابن عمر وصححه الألباني في الإرواء رقم 1498.
(17) فيض القدير ــ المناوي 1/254.
E-MAIL: alnaggar66@hotmail.com
---------------
47.من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم
إعداد/ محمد شعبان أبو قرن
أكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بفضائل جمّة، وصفات عدة، فأحسن خلْقَه وأتم خُلُقه، حتى وصفه تعالى بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم: 4)، ومنحه جل وعلا فضائل عديدة، وخصائص كثيرة، تميز بها صلى الله عليه وسلم عن غيره، فضلاً عن مكانة النبوة التي هي أشرف المراتب.
ونتناول في الأسطر التالية شيئًا يسيرًا من فضائله صلى الله عليه وسلم..
فمنها:
* أنه خليل الرحمن: فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله، ولو كنت متخذا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا، إن صاحبكم خليل الله" رواه مسلم. وهذه الفضيلة لم تثبت لأحد غير نبينا وإبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام.
* ومن فضائله أنه شهيد وبشير: فعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يومًا، فصلى على أهل أُحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: "إني فرط لكم -أي سابقكم-، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها" متفق عليه.
* ومن فضائله أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم: قال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} (الأحزاب: 6).
قال الشوكاني في تفسيره "فتح القدير": "فإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لشيء ودعتهم أنفسهم إلى غيره، وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه، ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم، ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم، وتطلبه خواطرهم".
* ومن فضائله صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد بني آدم: فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة، فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة، وقال: أنا سيد القوم يوم القيامة" متفق عليه.(2/217)
* وهو صلى الله عليه وسلم أمان لأمته: حيث جاء في الحديث الصحيح: "النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" رواه مسلم.
* ومن فضائله صلى الله عليه وسلم أنه أول من تنشق عنه الأرض: وأول من يشفع؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع" رواه مسلم.
وهو صاحب المقام المحمود؛ ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا -أي جالسين على ركبهم-، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود" رواه البخاري.
تلك هي بعض فضائل نبينا الكريم ورسولنا العظيم، الذي اختاره الله ليكون خاتم الرسل المكرمين ورحمة للخلق أجمعين، نسأل الله أن يجمعنا به، ويدخلنا مُدخله، وألا يحرمنا شفاعته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم آمين.
---------------
48.علماء الدين يؤكدون عظمة الرسول حتى لو لم يكن نبيًا
أ. ولاء الشمول
حدث جلل كهذا، كان يجب أن يكون للشريعة رأي فيه، لنقتدي بما ترى، فليس منا من يرضى الإساءة التي حصلت من الصحيفة الدنمركية ورد الفعل اللا مبالي حيال الاحتجاجات الكثيرة التي تقدم بها المسلمون من جميع أرجاء العالم..
لها أون لاين التقت بأساتذة وعلماء تبادلت معهم الأسف والاستياء لما حصل من تعدي كبير على الإسلام والمسلمين، ومن انتهاك لدينهم وعقيدتهم.. والذين أعربوا مشكورين عن آرائهم في هذه القضية الشائكة.
تفاهات ضد شخصية عظيمة
يقول الدكتور أحمد يوسف "أستاذ الشريعة بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة": في البداية الرسول صلى الله عليه وسلم أرفع وأعلى شأناً من هذه التفاهات.
وهو شخصية عظيمة حتى على المستوى الإنساني، لدرجة يعترف بها كل منصف، حتى لو كان مجرد شخص عادي وليس نبياً، فكل من قرأ سيرته بشيء من الموضوعية والإنصاف، يقر بعظمته حتى لو كان هذا الشخص غير مسلم.
وكون بعض الجهلاء أصحاب الأغراض السيئة يعيبونه فهذا لا يضيره في شيء، وهناك في الغرب ينشئون أولادهم على أفكار مشوشة ومشوهة عن الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، وينسبون له صفات لا يصح أن تنسب له بمقتضى المنهج العلمي الذي يتشدقون به.
ولكن هذه الأفكار المغلوطة مترسخة في أذهان الناس، ودورنا يتمثل في تجلية صورة الإسلام باستخدام اللغات المختلفة، وأن ننور العالم مستخدمين لغتهم، وهناك العديد من المراكز الإسلامية التي تستطيع أن تفعل هذا في الغرب.
كما علينا أن نستخدم الإعلام لتوضيح الجوانب الإنسانية من حياة الرسول صلي الله عليه وسلم، وتعريفهم بهذا الإنسان العظيم، لأن على كل إنسان تعظيمه واحترامه وتبجيله.
واجب وفرض
وبشكل أكثر تفصيلا يقول الدكتور محمد نبيل غنايم "أستاذ الشريعة بكلية دار العلوم بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة" لموقع لها أون لاين: إن احترام جميع الأنبياء والرسل واجب إلهي وفرض ديني، ومن يخرج على هذا الالتزام والواجب يعتبر كافراً.
فقد قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا).
ونحن معاشر المسلمين نؤمن بجميع الأنبياء والرسل ونحترمهم كما نحترم رسول الله صلي الله عليه وسلم عملاً بقوله تعالي: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير).
لذا فإننا لا نقبل من أحد كائن من كان أن يعتدي على الإسلام أو على شخصية الرسول صلي الله عليه وسلم سواء بالكلمة أو بالرسم أو بالصورة أو بأي وسيلة أخرى، لأن الرضا بذلك يعتبر مشاركة في هذا الاعتداء الذي بين الله تعالى أنه كفر.
وكذلك فإن جميع المسلمين قد قابلوا ما أشيع، وما أعلن عن قيام البعض في بعض البلاد من تشويه صورة الرسول صلي الله عليه وسلم ببعض الرسوم أو العبارات قاموا بشجب هذا واستنكاره.(2/218)
كما عقدت مجالس متعددة على المستوى الرسمي والشعبي، لإنكار ذلك، ومن أهم هذه المجالس جلسة مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، والتي قامت بشجب واستنكار هذه الأعمال غير المسئولة، وأبلغتها إلى سفارات البلاد التي صدر منها هذا الفعل المشين، وقام سفراء هذه البلاد بتقديم الاعتذار الرسمي عما حدث، وهذا أقل ما يمكن توقعه، ولكننا نريد تقديم هؤلاء المسيئين سواء إلى الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، أو إلى أي رسول من رسله تعالى إلى المحاكمة، وأن يردع بكل ما يمنعه من تكرار ذلك، ويكون عبرة لغيره في ذلك.
شذوذ وتطرف وجحود
ويؤكد الدكتور محمد نبيل غنايم بقوله:"وليكن معلوماً أن العدوان على الأنبياء والمرسلين لا يمت إلى حرية التعبير بصلة، بل إنه يعتبر شذوذاً وتطرفاً في التعبير والتفكير، ويكفي أن الله تعالى اعتبر فاعل هذا كافراً.
ويتساءل الدكتور محمد في استنكار:" ثم ماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره من المرسلين حتى يعتدى عليه هذا الشخص أو ذاك في هذا البلد أو غيره؟ وهم الذين اصطفاهم الله تعالى واختارهم ليكونوا مشاعل هداية وإصلاح للناس، فهل يكون جزاؤهم هذا الجحود والكفران؟
أم يكون الجزاء هو الشكر والتقدير؟
---------------
49.محمد صلى الله عليه وسلم المثال الأسمى
عداد: محمود إسماعيل
كثير من المستشرقين أعجبوا بشخصية الرسول العظيم محمد (صلى الله عليه وسلم)، ومع كونهم لم يرتدوا عباءة الإسلام إلا أنهم أحبوه لا لشيء إلا لأن أنصبته قد فاضت بكمٍّ من الرقي الشخصي والأخلاقي والحضاري يفوق الوصف، فانطلقت ألسنتهم بكلمات حق سطرها التاريخ في كتبهم وتراثهم.
وهذه بعض المقتطفات من كتاب "محمد نبي الإسلام" الذي ألفه ك. س. رامكرشنة، أستاذ الفلسفة بجامعة ميسور في الهند..
والكاظمين الغيظ:
كان العرب يتقاتلون لأربعين سنة بسبب حدث بسيط؛ كاقتحام جمل يملكه ضيف إحدى القبائل داخل مراعي القبيلة الأخرى، وتقاتل كلا الجانبين حتى إن سبعين ألف نفس قد حصدت؛ وهو ما هدد بفناء القبيلتين. لمثل هؤلاء العرب الشرسين جاء نبي الإسلام ليعلمهم ضبط النفس والاتزان إلى حد إقامة الصلاة في ساحة القتال.
الحرب دفاعًا عن النفس:
بعد أن أخفقت تمامًا الجهود المتكررة الرامية إلى المصالحة، وطرأت ظروف اضطرت محمدًا إلى ساحة القتال اضطرارًا دفاعًا عن النفس، بدل نبي الإسلام فن (إستراتيجية) القتال بالكامل. إن إجمالي الخسائر في الأنفس في جميع الحروب التي وقعت خلال حياته حين دانت له الجزيرة العربية كلها لا يتعدى بضع مئات.
التمدن والإنسانية في ساحة القتال:
إن ساحة القتال نفسها صارت مجالًا للتحضر الإنساني، وصدرت توجيهات صارمة بعدم الفساد أو الإتلاف، وعدم الغش، وعدم نقض المواثيق، وعدم انتهاك الحرمات، وعدم التمثيل بالقتلى، وعدم قتل الولدان ولا النساء ولا الشيوخ، وعدم قطع النخل أو حرقه، وعدم قطع شجرة مثمرة، وعدم التعرض للرهبان والأشخاص المشغولين بالعبادة.
إن معاملة محمد الشخصية لألد أعدائه هي المثال الأسمى لأتباعه؛ فقد كان في أوج قوته عند فتح مكة، تلك القرية التي عذبته هو وأتباعه وأخرجته هو وقومه إلى المغترب، واضطهدته وقاطعته بقسوة، حتى حينما لجأ إلى مكان يبعد عنها أكثر من مائتي ميل، هذه القرية كانت خاضعة له تمامًا في ذلك الحين، وقد كان يحق له -حسب قوانين الحرب- أن يثأر منها للأعمال الوحشية التي أنزلتها به وبقومه، ولكن أي معاملة تلك التي قابلهم بها؟ لقد فاض قلب محمد بفطرة الحب والرحمة حين صرح قائلا: "لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء".
العفو عن ألد الأعداء:
لقد كان أحد الأهداف الرئيسية التي أجاز بسببها الحرب دفاعًا عن النفس هو توحيد البشر، وحينما تحقق هذا الهدف عفا عن ألد أعدائه حتى أولئك الذين قتلوا عمه الحبيب حمزة وانتهكوا حرمة جسده ومثلوا به فشقوه ولاكوا جزءًا من كبده.
النظرية تمتزج بالتطبيق:
إن مبدأ الأخوة العالمية وعقيدة وتعاليم المساواة بين البشر التي أعلنها ونادى بها تمثل مساهمة عظيمة جدًا من محمد للارتقاء الاجتماعي للإنسانية. إن جميع الأديان الكبرى دعت أيضًا إلى نفس العقيدة والتعاليم، ولكن نبي الإسلام وضع هذه النظرية في التطبيق الواقعي.
وسوف يُعترف بقيمة هذه العقيدة بعد فترة، ربما حين يستيقظ الضمير العالمي فتختفي التحيزات والتحاملات والأحكام العنصرية المسبقة، ويخرج مفهوم أقوى لأخوة البشر إلى الوجود.
الفلاح والمَلِك متساويان أمام الله:
تقول الشاعرة الهندية "ساروجيني نايدو" عن هذا المظهر من مظاهر الإسلام: "لقد كان الإسلام أول دين يبشر بالديمقراطية ويمارسها؛ فيجتمع المصلون سويا في المساجد حين يرفع الأذان لتتجسد ديمقراطية الإسلام خمس مرات في اليوم عندما يركع ويسجد الفلاح والملك جنبا إلى جنب معلنين أن "الله أكبر".(2/219)
وتمضي شاعرة الهند العظيمة قائلة: "وقد أدهشتني مرة أخرى هذه الوحدة الإسلامية التي لا انفصام لها، التي تجعل المرء أخًا بالفطرة؛ فأنت حين تقابل مصريًا وجزائريًا وهنديًا وتركيًا في لندن فلا فرق، إلا أن مصر هي بلدة أحدهم والهند بلدة الآخر".
الحج شهادة حية:
يرى العالم كل عام في موسم الحج المشهد الرائع لهذا الاستعراض العالمي للإسلام وهو يسوي جميع الفروقات في الجنس واللون والمكانة، ولا يجتمع الأوربيون والأفارقة والفرس والهنود والصينيون سويا في مكة كأفراد أسرة ربانية واحدة فحسب، ولكنهم يرتدون زيا موحدًا أيضًا (إزار)؛ فيرتدي كل رجل منهم قطعتين ساذجتين من القماش الأبيض غير المخيط إحداهما حول سوءته والأخرى فوق كتفيه (رداء) وهو حاسر الرأس في غير خيلاء ولا تكلف مرددًا: "لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك". وبذلك لا يبقى ما يفرق بين الرفيع والوضيع. ويحمل كل حاج معه إلى بلده انطباعا بالمدلول العالمي للإسلام والإنسانية الحقة التي لن تصل إلى ما وصل إليه الإسلام.
الإسلام منارة لعالم ضل السبيل:
إن نبي الإسلام قد جاء بحكم الديمقراطية في أحسن أشكالها. إن الخليفة عمر، والخليفة علي زوج ابنة النبي، والخلفاء المنصور والعباس بن الخليفة المأمون، وخلفاء وملوك آخرون كثيرون كان عليهم أن يمثلوا أمام القضاة كرجال عاديين في المحاكم الإسلامية، ونحن نعلم كيف يُعامَل السود بواسطة الأجناس البيضاء المتحضرة حتى يومنا هذا.
ولنأخذ كمثال منزلة بلال العبد الحبشي في أيام نبي الإسلام زهاء أربعة عشر قرنا خلت، إن العمل كمؤذن لصلاة المسلمين كان يعتبر عملاً يدعو للاحترام في أيام الإسلام المبكرة. وقد أعطي هذا العمل لهذا العبد الحبشي وأمره النبي بعد فتح مكة أن ينادي للصلاة فوقف هذا العبد الحبشي ذو البشرة السوداء والشفتين الغليظتين على سطح الكعبة المشرفة؛ أكثر الأماكن عراقة وقداسة في العالم الإسلامي. هنالك صرخ أحد العرب المستكبرين بصوت عال متألمًا: " الويل لهذا العبد الحبشي الأسود؛ إنه يقف فوق سطح الكعبة المشرفة لينادي للصلاة". وقد ألقى نبي الإسلام خطبة كانت كأنها الرد على هذه الثورة التي تفوح منها رائحة الكبرياء والهوى اللذين عزم نبي الإسلام على استئصالهما، قال فيها ما معناه: "الحمد لله الذي أذهب عنا نخوة الجاهلية وتفاخرها بالأنساب. أيها الناس، اعلموا أن الناس فريقين: الأبرار المتقين الفائزين عند الله، والفجار القاسية قلوبهم السفلة الذين تزدريهم عين الله، وإلا فإن الناس كلهم لآدم وخلق الله آدم من تراب".
التحول فوق العادي:
إن نبي الإسلام أحدث تحولاً هو من العظم بحيث أن أكرم العرب وأخلصهم نسبًا عرضوا بناتهم للزواج من هذا العبد الحبشي. وكلما رأى خليفة الإسلام الثاني - المعروف في التاريخ بأمير المؤمنين عمر العظيم - هذا العبد الحبشي وقف له احترامًا ورحب به معلنا: "ها هو قد جاء سيدنا، ها هو قد جاء مولانا". فيا له من تحول هائل أحدثه القرآن والنبي محمد في العرب؛ أكثر الناس تفاخرا بالأنساب على الأرض في ذلك الحين. وهذا هو السبب الذي دعا جوته -أعظم الشعراء الألمان- يعلن وهو يتكلم عن القرآن الكريم أن "هذا الكتاب سيستمر في ممارسة تأثير قوي جدا عبر جميع العصور".
وهو السبب أيضا الذي دعا جورج برنارد شو لقول: "لو قدر لأي دين أن يسود إنجلترا، لا بل أوربا في غضون المائة عام المقلبة، فالإسلام هو هذا الدين".
00000000000
*أجزاء محددة من كتاب (Mohammed the Prophet of Islam). وترجمته: "محمد نبي الإسلام" من تأليف ك.س. رامكرشنة راو أستاذ الفلسفة بجامعة ميسور في الهند. وقد ترجمه الأستاذ محمد مختار عن الطبعة الإنجليزية الصادرة عن المركز العالمي للدعوة الإسلامية بدربان في جمهورية جنوب إفريقية الذي كان يرأسه الداعية الإسلامي المجاهد أحمد ديدات رحمه الله
---------------
50.التميز الإداري في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم[1]
إسلام عبد الله
الإدارة
هي فن قيادة الآخرين، فالإنسان يتشكل من مجموعة من العواطف والمشاعر، لذا فهو بحاجة إلى مرونة كاملة في التعامل معه، لذا فالواجب على الإدارة أن تكون مرنة، وعلى المدير الناجح أن يلاحظ ذلك جيداً..
ولنا في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة في كل نواحي الحياة على وجه الخصوص في قيادة الآخرين على الأسس السليمة التي رسخها الإسلام، وفي الرفق والتعاون حيث يقول الله -عز وجل- في كتابه الكريم: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).(2/220)
ولقد رسخ الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أسس ومبادئ الإدارة وفن قيادة الآخرين من خلال مواقفه مع أصحابه، فكل موقف كان يرسخ مبدأً جديداً في كيفية إنجاز الأعمال بنجاح وتميز دون إهدار حقوق الغير، ودون التقليل من المهام الموكولة للآخرين، بل يصبح تقسيم العمل والتعاون والاستماع للآخرين من الصفات التي ينبغي أن نتحلى بها في تعاملنا نحن في أعمالنا.
وقد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- أكبر الأثر في توجيه صحابته وتحفيزهم على العمل بكفاءة ،وبذلك فنجده صلى الله عليه وسلم قد وضع هذه الأسس قبل أن نكتب فيها بأربعة عشر قرناً فمن أولى هذه المبادئ:
مهارة تحفيز وتشجيع فريق العمل
يصف الواقدي تحركات الرسول - صلى الله عليه وسلم- بجيشه نحو حُنين حيث ينقل قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "ألا فارس يحرسنا الليلة؟" إذ أقبل أنيس بن أبي مرثد الغنوي على فرسه فقال: أنا ذا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "انطلق حتى تقف على جبل كذا وكذا فلا تنزلن إلا مصلياً أو قاضي حاجة ، ولا تغرن من خلفك".
قال: فبتنا حتى أضاء الفجر وحضرنا الصلاة فخرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: " أأحسستم فارسكم الليلة؟".
قلنا لا والله، فأقيمت الصلاة فصلى بنا ، فلما سلّم رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر خلال الشجر، فقال: "أبشروا جاء فارسكم " وعندئذ جاء (أي الفارس) وقال:
يا رسول الله إني وقفت على الجبل كما أمرتني فلم أنزل عن فرسي إلا مصلياً أو قاضي حاجة حتى أصبحت ، فلم أحس أحداً قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "انطلق فانزل عن فرسك وأقبل علينا، فقال: ما عليه أن يعمل بعد هذا عملاً".
كان من منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأداء أنه كان دائما ما يعمد إلى التخيير وبث روح المنافسة بين فريق عمله.. "ألا فارس يحرسنا الليلة ؟".
كما أنه استقبل حديث "أنيس " وهو يتحدث عن دوره وإجادته في تنفيذه بنفس طيبة " قال : يا رسول الله إني وقفت على الجبل كما أمرتني فلم أنزل عن فرسي إلا مصليًا أو قاضي حاجة حتى أصبحت فلم أحس أحداً ".
فلم يتهمه النبي -صلى الله عليه وسلم - وهو يعرض موقفه بنقص في إخلاصه لا سيما وأنه يدلي بهذا الحديث أمام جمع من صحابته -رضوان الله عليهم - ، ثم يبادر النبي بتشجيعه وتحفيزه: "ما عليه أن يعمل بعد هذا عملا".
وفي هذا الثناء والتشجيع والإشادة بالموقف.. ما يدعو كل مشرف أو مدير إلى استنفاذ طاقة فريقه وتفانيهم في العمل ، كما أن الرسول أتقن فن التحفيز والتشجيع من خلال الأوصاف المتميزة على صحابته، فأبو بكر الصديق وعمر الفاروق – رضي الله عنهما- كما ذكر محمد أحمد عبد الجواد في كتابه "أسرار التميز الإداري والمهاري في حياة الرسول".
مهارة بناء العلاقات مع الآخرين.. والتعامل مع الناس
إذا كانت الإدارة الناجحة في حقيقتها.. هي فن إدارة الآخرين لتحقيق هدف معين؛ فإن مناط نجاحها هو التعامل الأمثل مع هؤلاء البشر الذين يراد بهم تحقيق هذا الهدف..
ومن ثم تصبح من المسلمات لكل من يتولى مهمة الإدارة أو يتصدى لقيادة الآخرين أن يجيد هذا الفن، حيث إنه سيواجه أصنافاً من البشر تختلف عن بعضها في الأمزجة والميول والمشارب والاتجاهات، وإذا تأملنا هذه الصفة في سيد الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- وجدناها جلية واضحة..
يقول الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ:
".. فدخل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- على خديجة ـ رضي الله عنها ـ فقال زملوني.. زملوني " فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: "لقد خشيت على نفسي "، فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبداً.. "إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق.. ".
لننظر في هذه الصفات ولنتأمل فيما قالته السيدة خديجة -رضي الله عنها- عن رسول الله، ولكي ندرك أكثر هذه المهارة ونتعامل بها؛ فإن هنا بعض المنطلقات التي ينبغي الإيمان بها حتى تكون حركتنا في هذا المجال راشدة ومهدفة:
* في بناء العلاقات لابد من معاملة كل فرد على أنه مهم - وهو بالفعل كذلك- فلا يوجد إنسان بلا قيمة، وأنت لا تعرف من ستحتاج إليه غداً، كما أن العالم صغير حقيقة لا مجازاً، وستدهش عندما تكتشف أن كثيرين ممن تعرفهم سيتقلدون مناصب مهمة لم تكن تتوقعها.
* في مجال التعامل مع الآخرين ينبغي أن ننتبه إلى أن أنهم ليسوا نمطاً واحداً، وفي نفس الوقت مطلوب منا أن نتعامل معهم جميعاً، ومن ثم كان علينا أن نعرف الجهد في تنمية مهارات التعامل معهم بأنماطهم المختلفة، وليس الحكم عليهم وتقييمهم؛ لأننا لن نعدم أن نجد بعض نقاط التميز حتى في الشخصيات التي نختلف معها.
وفي حديث السيدة خديجة جعلت من صفات الرسول شخصية مجمعة:(2/221)
فهو يحمل الكلّ، ويكسب المعدوم، وفي هاتين الصفتين إشارة إلى ما ينبغي أن يتمتع به من يدير الآخرين تجاههم من عاطفة جياشة تجعله يسعى إلى خدمتهم والسهر على راحتهم والمسارعة في بذل الخير لهم، وهو صلى الله عليه وسلم يقري الضيف؛ لذا لابد للمدير الناجح أن يكون دائما كريمًا وجواداً يحسن استقبال ضيفه.
مهارة التفويض الفعال.. وتوزيع المسؤوليات
إن الأكتاف القوية لا تنمو إلا بالتدريب، والمساعدون الأكفاء لا يولدون من فراغ، والمؤسسات القوية هي التي تحسن إدارة عملية تفويض المسؤوليات والاختصاصات، ولا تعتمد على مستوى إداري واحد تحسن إعداده فحسب؛ وإنما تبني كل منطلقاتها وحركتها على إدارة عملية التفويض، حتى لا يمر في أية مرحلة من مراحله بمنعطفات أو مشكلات تنبع من عدم وجود المستوى المؤهل لتناول القيادة من سابقه، كما أن نجاح المدير أو المشرف يكمن في إدراكه لهذا الأمر في مؤسسته أو إدارته.
ولقد أدرك الرسول -صلى الله عليه وسلم- أهمية هذا الأمر، ومن ثم: أوجد النبي لكل طاقة ما يناسبها من عمل، ووزع المسؤوليات، وفرض المهام ومنح أجزاء متساوية من المسؤولية والسلطة لأصحابه رضي الله عنهم؛ ففي عهده صلى الله عليه وسلم تولى على بن أبي طالب وعثمان بن عفان كتابة الوحي، كما كان يقوم بذلك أيضاً أثناء غيابهما "أُبي بن كعب ، وزيد بن ثابت وكان الزبير بن العوام وجهيم بن الصلت يقومان بكتابة أموال الصدقات، وكان حذيفة بن اليمان يعد تقديرات الدخل من النخيل، وكان المغيرة بن شعبة والحسن بن نمر يكتبان الميزانيات والمعاملات بين الناس.
وفي هذا إشارة إلى أصحاب المسؤوليات في تفويض المهام، وأن يعهد ببعض مهامه إلى أحد معاونيه، ويعطيه سلطة اتخاذ القرارات اللازمة للنهوض بهذه المهمة على وجه مُرضٍ.
ومما لاشك فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أدى هذه الأدوار؛ فإنه سيكون أسرع وأفضل، ولكن على المدى القصير، وسيتحمل أكثر من طاقته، ويغرق في كثير من التفاصيل الروتينية وتصبح المسؤولية عبئاً ثقيلاً.
ومن ثم أدرك الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن قدرته على تحقيق النتائج ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأداء أصحابه.
وقد ظهر تفويض السلطة في عهد الخلفاء الراشدين حينما كان سيدنا عمر بن الخطاب يطلق الحرية لعماله في الشؤون الوظيفية، ويقيدهم في المسائل العامة، أي يفوضهم بعضاً من السلطات ويراقب عملهم في حدود ذلك التفويض، وكان يختبر موظفيه بين الحين والآخر ليتأكد من كفاءاتهم وقدرتهم.
ويبدو ذلك جليًا في موقفه مع (كعب بن سور) حينما كان جالسًا عند عمر فجاءته امرأة تشكو زوجها فقال " لكعب: اقض بينهما فلما قضي قضاءه قال لكعب: "اذهب قاضيًا على البصرة".
وهنا لا ينبغي للمشرف أن ينظر إلى التفويض على أنه تهرب من المسؤولية؛ لأنه المسؤول في النهاية عن نتائج إدارته، ومن ثم فهو يفوض طريقة العمل ولا يفوض المسؤولية.
كما أن التفويض ليس تخلصاً من المهام غير الممتعة، بأن يعهد بها المدير إلى أحد مرؤوسيه؛ إنما ينبغي أن ننظر إلى التفويض على أنه إيجاد البدائل القادرة على القيام بالصورة المثلى في المستقبل مستصحبة في أدائها الفعال ما سبق لها من تجربة ناضجة في أدائه.
---------------
51.التميز الإداري في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم[2]
إسلام عبد الله
نحن نعقد الاجتماعات لكي يعبر كل فرد فيها عن وجهة نظره في القضايا المطروحة، وحتى يتاح للمجتمعين هذا الأمر لابد من التركيز على الجوانب الإنسانية في الاجتماعات، وعدم الوقوف عند الجوانب الشكلية في الاجتماع، ومن ثم كان جواز المرور لأي مدير فعال في إدارة اجتماعاته هو أن يدع كل فرد يعبر عما يؤرقه، وأن يجمع الآخرين حوله، ولا ينحاز لأحد داخل الاجتماع؛ بل يسعى جاهداً في أن يجعل مجموعته صفًا واحداً.
والمتأمل في مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم- في إدارته لاجتماعاته يلمح هذا الأمر جلياً؛ فقد كان الرسول في اجتماعاته ومجالسه "لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها (أي اختصاص كل واحد بمجلس معين في المسجد أو غيره) وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه (وقف معه قائمًا) في حاجة صابَره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرد إلا بها أو بميسور من القول ".
أما عن سيرته في جلسائه: فقد " كان الرسول دائم البِشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ (سيئ الخلق)، ولا غليظ، ولا سخاب (صياح)، ولا فحاش ولا عياب، ولا مزّاح .. يتغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه راجيه ولا يخيب فيه ..".
فقد ترك نفسه من ثلاث: المراء (الجدل)، والإكثار، وما لا يعنيه.
وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه.(2/222)
إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير فإذا تكلم سكتوا، وإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده (أي لا يتكلمون سوياً)، ومن تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ.
مهارة المتابعة وتقويم الأداء
إن وجود هدف مخطط له في أية مؤسسة أو في أي عمل من أعمال الفريق لا يعني أن الهدف قد تحقق.
ومن ثم كان على المدير أو المشرف أن يقوم بمجموعة من الأساليب والإجراءات لكي يتأكد من أن ما تم إنجازه مطابق لما يجب أن يكون، ومحققا له، ولك أن تتخيل ماذا يحدث لو تركنا كل شئ يجري دون أن نتأكد من أن ما يتحقق أو ما تحقق مطابق للأهداف.
فالمدير الناجح أو المشرف الناجح مثل قائد السفينة، لا يمكن ولا يصح أن يترك عملية الرقابة حتى يكتشف أنه ضاع أو تاه؛ بل يجب عليه أن يتأكد أن سفينته في طريقها للهدف المحدد لها بالكفاءة المحددة مقدماً.
وقد تواترت المواقف النبوية التي تشير إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- قد أولى المتابعة أهمية خاصة، وصحح من خلالها كثيراً من الأخطاء التي وقع فيها الصحابة -رضوان الله عليهم-، وتعددت مناهج هذه المتابعة؛ فتارة نجدها قبل العمل، وتارة أثناء العمل، وتارة أخرى بعد انتهاء العمل .
في قصة "كعب بن مالك" وتخلفه عن غزوة تبوك قدوة ومثل؛ فقد جاء كعب بن مالك فلما سلم عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال له: تعال قال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه؛ فقال لي: " ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟" فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت إني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلاً، ولكني والله لقد علمت إن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به ليوشكن الله أن يسخطك عليّ ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو الله عني، والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك" فقمت .
كان من نهج النبي- صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع صحابته المتابعة وتقويم الأداء، فهو يسأل " كعب بن مالك " عن سبب تخلفه في الغزوة "ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟" فما كان رسول -الله صلى الله عليه وسلم- يترك كل فرد يتصرف من تلقاء نفسه، وإنما كان يتابع ويُسائل وإن كانت هناك فكان يحاسب.
ومن ثم كان على المدير أن يتابع وأن يقوّم أداء فريقه؛ لأنه إذا تُركت الأمور بغير متابعة فسوف تختلط الأمور، ويضيع جهد العاملين..، غير أن هذه المتابعة لا ينبغي أن تكون في كل دقائق أمورهم؛ فإن ذلك يبعث على النفور، ويشعرهم بأنهم في حصار مستمر، ومن ثم يضطرون لإخفاء الحقائق أو التورية، فيها ويفقده ذلك ثقته بنفسه.
فلا ينبغي للمشرف أن يجعل فريقه يصل إلى هذه الحال حرصاً على سلامة قلوبهم وصدق حديثهم وتحرر أفئدتهم ووجدانهم، وقد عزل النبي "العلاء بن الحضرمي" عمله في البحرين؛ لأن وفد عبد القيس شكاه وولى إبان بن سعيد، وقال له: "استوص بعبد القيس خيراً، وأكرم سراتهم ".
وكان صلى الله عليه وسلم يستوفي الحساب على العمال، ويحاسبهم على المستخرج والمصروف، وقد استعمل صلى الله عليه وسلم مرة رجلاً على الصدقات، فلما رجع حاسبه.
وعن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي أن رسول الله استعمل رجلاً من الأزد على صدقات بني سليم، فلما جاء بالمال حاسبه فقال الرجل هذا لكم وهذا هدية أُهدي إليّ؛ فقال النبي: "فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً ! " ثم قام صلى الله عليه وسلم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته ؟ والذي نفس محمد بيده لا نستعمل رجلاً على العمل بما ولانا الله فيغفل منه شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه ".
فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحاسب عماله، ويناقشهم من أين لهم ما يملكون؟ ومن أي طريق وصل إليهم؟
كما سار على هذا النهج عمر ـ رضي الله عنه ـ، أخرج البيقهي وابن عساكر عن طاووس أن عمر -رضي الله عنه- قال: أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمر بالعدل أقضيت ما عليّ ؟ قالوا: نعم ! قال لا حتى أنظر في عمله أعمِل بما أمرته أم لا؟ ..فهذه كانت بعض من تعاليم المدرسة النبوية في فن قيادة الآخرين.
---------------
52.الشدة والعناء في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
هشام عبد الله
للشدة أثر لا يخفى في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فقد نال في حياته من التعب قدراً عظيماً, وللثقل على نفسه موقع من سيرته - صلى الله عليه وسلم - إذ لاقى في حياته ما لاقى .
وما ألفته تلكم الشدة وذاك النصب إلا بعد مبعثه لا قبل, بعد أن بلغ من العمر أشده وبلغ أربعين سنة, إذ كانت شدة في الله - عز وجل - ودعوته.(2/223)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج شدة من نزول الوحي ويجد لذلك ثقلاً, تقول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد , فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا) فكان إذا أنزل عليه الوحي كَرُب لذلك وتربد وجهه, ولما جاءه الملك في غار حراء قال - صلى الله عليه وسلم -: (فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ..) فرجع - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده.
وقبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - كان أعظمهم أمانة في قومه وأرضاهم فيهم وأصدقهم حديثًا ما جربوا عليه كذبًا قط, فلما بلغ رسالة ربه اتهموه بالكذب, وأنه ساحر أو مجنون.
وامتد به الأذى حتى أُلقي سلا الجذور على ظهره وهو ساجد بين يدي الله في البيت الحرام, ونالت قريش منه ما نالت إذ طلع عليهم يوما فوثبوا وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا – لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم – فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم أنا الذي أقول ذلك, ورجل منهم أخذ بمجمع ردائه, فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله!
وحُوصِر - صلى الله عليه وسلم - في شعب أبي طالب مع بني هاشم وبني المطلب حتى سُمع صوت صبيانهم ونسائهم يتضاغون جوعاً وطعامهم الأوراق والجلود, ويعرض نفسه - صلى الله عليه وسلم - على القبائل ويخرج إلى الطائف يطلب النصرة فيقول له من يقول هو يمرط ثياب الكعبة: إن كان الله أرسلك!ويخاطبه آخر: أما وجد الله أحداً غيرك؟! ثم يجتمع عليه العبيد والصبيان يرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه.. سبحان الله يقدر الله - عز وجل - ذلك لخير رسول من أنبيائه.. ليعلم به صدق نبيه في بلاغ رسالته وهو جل وعلا به أعلم, أمن أجل إبلاغنا الهدى يُصاب - صلى الله عليه وسلم - بذلك؟
فما تردد - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ دعوة رب العالمين وما كُتب عليه فيها من الشدة, بل كان الأسوة الحسنة لأمته فكان - صلى الله عليه وسلم - يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, ثم هو يوعك كما يوعك الرجلان من أمته, قالت عائشة - رضي الله عنها -: (ما رأيت أحدا أشد عليه الوجع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وتصيبه الحمى في آخر حياته فيمسح وجهه بالماء ويقول: (لا إله إلا الله , إن للموت سكرات).
ولما دنا منه الرحيل - صلى الله عليه وسلم -, يسائل أمته في حجة الوداع: (وأنتم تسألون عني , فما أنتم قائلون ؟), أبعد كل ذلك يا رسول الله تسألهم؟ أما يكفيك ما لاقيت حتى تسألهم بما هم قائلون عنك؟
أما يكفيك يا رسول الله تكالب الكفار من قريش عليك يوم أُحُد وأنت تنافح عن دعوة ربك؟ وقد شُجَّ وجهُك, وكُسِرت رباعيتك, وكُلِمَت شفتك السفلي, ووَقعتَ لشِقك؟ أما يكفيك وقد ضُربتَ على عاتقك بالسيف ضربة عنيفة كنت تشكو لأجلها أكثر من شهر, وقد دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وَجْنَتِك وقد سال الدم من وجهك الشريف؟
أتسألهم يا رسول الله وقد كنت لهم الأسوة الحسنة وقد كنت تتهجد من الليل بآية من القرآن, وقد كان لصدرك أزيز كأزيز المرجل من البكاء من خشية الله؟
أتسألهم وأنت تربط حجرين على بطنك من الجوع, وقد كنت لا تجد من الدقل ما يملأ بطنك, وما شبعتَ وأهلُك من خبزِ شعير يومين متتابعين وتبيت الليالي طاوياً لا تجد عشاءً؟
أتسألهم وأنت تنام على حصير وقد أثر في جنبك وتقول: (ما لي وللدنيا, إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قَالَ في ظلِّ شجرة ثم راح وتركها) تقول ذلك وقد أُعْطِيْتَ مفاتيح خزائن الأرض, وتنام على وسادة من أدم حشوها لِيْف؟
أتسألهم يا رسول الله وقد فُعل بك ما فُعل لا لشيء إلا لتبلغ الرسالة وتؤدي الأمانة؟
بعد كل ذلك يسألهم - صلى الله عليه وسلم -: (وأنتم تسألون عني , فما أنتم قائلون ؟) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بأصابعه السبابة يرفعها إلى السماء, وينكتها إلى الناس: (اللهم اشهد) ثلاث مرات.
فما فعلت أمته من بعده؟ وقد رأى في حياته من الشدة ما رأى من أجل هدايتها, كيف به إذا جاء شهيداً عليها وقد جِيء من كل أمة بشهيد (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا) كيف بأمة يشهد عليها خير البشر وقد جاهد في إبلاغها رسالة ربه, ثم هي تعرض عنه وتوله ظهرها؟
أيرى سنته وقد بُدلت, ومنهجه وقد نُحيّ, وشريعته وقد أُقصيت؟
أيرى أقواماً من أمته وقد بدلوا وغيروا من بعده وما برحوا يرجعون على أعقابهم؟
أيرى من أمته من تخلى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويدعي له حباً ونسباً, ويزعم له فيه قدوة وأسوة؟
كيف يشهد على أقوام يعصون الله ورسوله ثم لا يعتذرون منها ولكن يعذرون لها.
أيرى من نساء أمته وقد بدا منهن ما بدا واستبدال هدية بهدى من لا خلاف له.
أيرى من أمته من يأكلون الربا, ومن يتسامرون على المعازف, ومن يتفكهون بأعراض الناس ..
عجبا لأمة هذا نبيها, ويكون هذا حالها.
---------------(2/224)
53.إنسانيّة محمد صلى الله عليه وسلم
حامد بن عبد العزيز الحامد
محمدٌ صفوةُ الباري ورحمتُه وبغيةُ اللهِ من خلقٍ ومن نسمِ
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيمٍ غيرِ منصرمِ
شريعةٌ لك فجّرْتَ العقولَ بها عن زاخرٍ بصنوفِ العلمِ ملتطمِ
هكذا قال أحمد شوقي عن خير البرية صلى الله عليه وسلم.
ومهما أكثرت من الثناء على هذا الإنسان فإنما تكثر من الثناء على الإنسانية التي لم تعرف مخلوقا تَمَثّلها كما تمثلها محمد صلى الله عليه وسلم.
وكفاه دليلاً على إنسانيته معجزته الخالدة، وهي القرآن، الذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).
ومن أي جانب أردتَ أن تتحدث عن الإنسانية فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم هي القِدْحُ المعلَّى.
إن الإنسانية ليست فلسفة وضعية يصطلح عليها مجموعة أناس يخالفهم فيها غيرهم، ولكنها فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي مجموعة قيم أخلاقية قد اتفق بنو آدم على استحسانها.
وأي مصلح يتكلم عن الإصلاح فإنما يتحدث عن هذه القيم الإنسانية.
ومهما بلغ هذا المصلح أو ذاك من العظمة فإنه إن استطاع تثبيت بعض القيم الإنسانية فإنه سيغفل عن جوانب أخرى تعجز نفسه عن إدراكها، بل حتى في الجوانب الإنسانية التي يريد تثبيتها، ويسخّر حياته من أجلها قد لا يعطيها حقها اللائق بها، ولا يزنها بميزان عدل، وإنما قد يتطرف بها ذات اليمين أو ذات الشمال.
وأما المصلح العظيم صلى الله عليه وسلم فهو أجل وأعظم من أن يبخس الإنسانية جانباً من جوانبها، وأعظم من ذلك فإنه قد أعطى كل جانب إنساني قدره من غير وكس ولا شطط.
ولكن هذا القسطاس المستقيم للقيم الإنسانية لن يرضي الظالمين؛ لأنه سيحدّ من جشعهم وشهواتهم؛ فتنطلق ألسنتهم وأيديهم لتعلن تمردها على مبدأ العدالة، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33).
ولو كان هذا التمرد الأخلاقي على عظيم من عظماء البشر لأمكن تحمّله؛ لأن أي عظيم
لا يستطيع أن يدّعي المثالية، بل لا بد أن يعترف بالتقصير في جانب من جوانبه الإنسانية، ولكنه يعتذر عن هذا بما عنده من حسنات تستر هذا النقص الذي هو فيه.
وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فهو كامل في مثاليته؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، قد أدّبه ربه فأحسن تأديبه، فاستحق الثناء من رب العالمين: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
والعجب أن يكون هذا التمرد على الإنسانية باسم الإنسانية؛ تبديلاً للحقائق، وتشكيكاً في المسلمات، ونتيجة لهذا التمرد تتحول القيم الإنسانية إلى نزغات بهيميّة تقوم على مبدأ الظلم والبغي والطغيان.
إن الحديث عن الجوانب الإنسانية كلها قد لا يتيسر، ولكن المتيسر هو أن نعرض بعض جوانبها على ضوء الشريعة المحمدية، حتى تستضيء البشرية بهذه الإشراقة الإنسانية.
ولعلنا نستغني عن كثير من المقدمات المنطقية حينما نعلم أن الذنب الذي جناه محمد صلى الله عليه وسلم -في نظر أعدائه- هو اعترافه بالمبادئ الإنسانية.
فاستخدام القوة -مثلاً- أمام القوى المقاتلة ليس مبدأ محمدياً ابتدًاء، وإنما هو مبدأ إنساني، وحيث إن الإنسانية ممثلة بمحمد صلى الله عليه وسلم أصبح استخدام القوة مبدأ محمدياً.
والإسلام -الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم - لم يقابل بقواته أمماً تقابله بالورود والرياحين، وإنما يقابل جيوشاً مدججة بالسلاح، فما معنى امتلاك تلك الأمم للسلاح؟!
بل إن الإسلام منع من استخدام القوة أمام من لا يملك القوة، كالأطفال، والنساء، والرهبان، ونحوهم، وهذا لأن الأصل في الإسلام هو السلام، وأما استخدام القوة فعارض ينتهي بانتهاء سببه.
ثم إن استخدام القوة في الإسلام لا يكون إلا أمام الجيوش المحاربة، وأما الأفراد فليس من دين الإسلام مقابلتهم بالسلاح، وإنما يُقابَلون بالهدى والصلاح.
ولعلك تعجب حينما ترى أن الإسلام قد وهب للأفراد حرية الاختيار -على عكس معتقدات الأمم الأخرى- ومع ذلك ترى الشعوب على اختلافها تتسابق إلى الدخول في دين الله أفواجاً، على عكس معتقدات الأمم الأخرى التي عجزت عن إدخال شعوبها في معتقداتها بالحديد والنار.
وأعظم من هذا حينما تجد الشعوب المختلفة تتسابق في تقديم أبنائها الأعلام لخدمة الإسلام، وهذا لإيمانها بأنها تعيش في ظل الإسلام على قاعدة: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى)، وتردّد صباح مساء قول ربها سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).
ولغتها:(2/225)
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
وإذا كانت هذه سياسة الإسلام أمام القوى الخارجية فإن الشريعة الإسلامية لم تهمل شؤونها الداخلية، ولأن المظاهر الإجرامية جزء من المجتمعات الإنسانية فقد وقف لها الإسلام بالمرصاد؛ ليدرأ شرها عن البلاد والعباد، فأعطى كل جريمة ما يناسبها من العقوبات التي ربما قد تصل إلى القتل، وهذه العقوبات تقرّ بها جميع الأمم، ولكنها تختلف في تحديد أنواع الجرائم التي تستحق تلك العقوبات.
وإذا كنا نريد برهاناً على صحة العقوبات الإسلامية وملاءمتها للحياة الإنسانية، فلسنا بحاجة إلى مقدمات منطقية، ولا نظريات فلسفية، وإنما يكفينا أن نلتفت إلى مجتمعات العالم أجمع؛ لنسألها:
أي المجتمعات نجحت في الحد من انتشار الجريمة؟!
ولنترك الجواب للأرقام.
ومن إنسانية الإسلام مراعاته لاختلاف القدرات العقلية لبني الإنسان، فيهب للعقول مساحة واسعة لتلعب دورها في بناء الحضارة الإسلامية، بل حتى في المسائل الشرعية يسمح بوجهات نظر مختلفة؛ اعترافاً بالطبيعة الإنسانية، وتيسيرًا للأمة الإسلامية، (ولن يشادّ الدين أحدٌ إلا غلبه).
ولكنه مع هذا لم يتجاهل التفريق بين المصالح العامة والمصالح الفردية؛ فيختار للرعاية نخبة من أولي الدّراية؛ ويَكِلُ إليهم النظر في مصالح الولاية.
وأما المصالح الفردية فقد شرع لكل فرد أن ينظر في أموره الخاصة على حسب ما تقتضيه مصلحته.
تلك هي الحرية التي يتكلم عنها الإسلام، وليست سفسطات وفلسفات تُسوَّد بها الصفحات، وتمتلئ بها المجلات، وليست شعارات ولافتات تتشدق بها المرئيات والإذاعات، حتى إذا ما أتيت إلى الواقع لم تجدها شيئاً، وإنما تجد واقعاً لا يحرر الإنسان من الطغيان والعصيان، وإنما يحرره من مبادئه الحسان.
وهو إن طالب بالحرية فإنما يطالب بحريته الشخصية، وتسخير الإنسان لمصالحه الذاتية، بل وشهواته البهيمية.
ولعلك لا تجد أحداً من بني الإنسان يطالب بحرية مطلقة، وإنما يقيدها كل أناس على حسب ما تشتهيه أهواؤهم، وتمليه عليهم خيالاتهم، وأفضل حرية عرفها الإسلام هي تلك التي قامت على مبدأ العدل بين الناس أجمعين، على قاعدة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]. هذه بعض الجوانب الإنسانية التي يتمثلها الإسلام على قائده أفضل الصلاة والسلام.
وهي جوانب تشهد على صحة هذا الدين السماوي، وأن محمداً رسول من رب العالمين.
ومن الحيف والظلم أن يصدق شخص بالدلائل الإنسانية على صحة الرسالة المحمدية، ثم يتهجم على أمر جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، مما قد يكون متوقفاً على الوحي الذي يأتي من رب العالمين، الذي خلق الإنسان، وعلّمه البيان، وهو أعلم بمصلحته.
فتعدد الزوجات -مثلاً- لا يستطيع العقل تحديد الأصلح فيه، فيقف عندئذ أمام الوحي السماوي موقف جاهل مسترشداً يريد الوصول إلى ما ينفعه.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم يختص ببعض الخصائص، -كتزوجه بأكثر من أربع نسوة- لا يزعزع ثقتنا به صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه قد جاءنا ببراهين ودلائل على صدقه ونصحه تجعلنا نقطع بأنه ما من خير إلا وقد دلّنا عليه، وما من شر إلا وقد حذّرنا منه، وأنه لا يأتي منه صلى الله عليه وسلم إلا ما فيه خير وصلاح.
والمريض الذي يتناول الدواء بناء على وصفة طبية إنما يتناوله بناء على ثقته بالطبيب، وأما هو فقد يكون جاهلاً بفاعلية هذا الدواء لدائه.
وسيرته صلى الله عليه وسلم كلها يشهد بعضها لبعض على أنه مصلح عظيم، وإمام قد أرسله الله رحمة للعالمين، عليه من الله أزكى الصلاة وأتم التسليم.
---------------
54.أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
ما تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من الدنيا، وإنما تمنى ما له علاقة بمنازل الآخرة، بل برفيع المنازل، وعالي الدرجات.
فقال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل. رواه البخاري ومسلم.
هذه كانت أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كانت النفوس كبارًا*** تعبت في مرادها الأجسامُ
أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشجع الشجعان حتى إنه ليحتمي به صناديد الأبطال عند اشتداد النِّزال.
قال البراء رضي الله عنه: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منّا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
وقال عليّ رضي الله عنه: كنا إذا احمرّ البأس، ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه. رواه الإمام أحمد وغيره.(2/226)
من هنا كانت أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم عالية، كانت منزلة رفيعة، ألا وهي الشهادة في سبيل الله.
وليست مرة بل مرّات
تأمل:
" والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل "
وفي رواية للبخاري:
"والذي نفسي بيده وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا".
وما ذلك إلا لكرامة الشهيد والشهادة على الله.
ولذا لما قُتِل من قُتِل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ولقوا ربهم تبارك وتعالى، فسألهم: ماذا يُريدون ما اختاروا غير العودة للدنيا من أجل أن يُقتلوا في سبيل الله مرة ثانية.
لما قُتل عبد الله بن عمرو بن حرام يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا جابر ألا أخبرك ما قال الله عز وجل لأبيك ؟ قلت : بلى. قال : ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وكلّم أباك كفاحا، فقال : يا عبدي تمنّ عليّ أعطك. قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية ! قال : إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال : يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله عز وجل هذه الآية (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه.
وقال عليه الصلاة والسلام: لما أصيب إخوانكم بأُحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب. فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات على رسوله (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). رواه الإمام أحمد وأبو داود.
فأي كرامة يُكرم الله عز وجل بها الشهيد الذي قُتِل في سيل الله لإعلاء كلمة الله؟
قال عليه الصلاة والسلام:
" للشهيد عند الله عز وجل سبع خصال:
يُغفر له في أول دفعة من دمه.
ويرى مقعده من الجنة.
ويُحلى حلة الإيمان.
ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين.
ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر.
ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها.
ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه، وهو في صحيح الجامع.
فأي كرامة فوق هذه الكرامة؟
وأي فضل فوق هذا الفضل سوى رؤية وجه الرب سبحانه وتعالى؟
ولما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة". رواه النسائي.
تلك كانت أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عليه الصلاة والسلام لا يتمنى إلا ما كان يُقرّبه إلى الله عز وجل.
فهل نتمنى ما تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أما إنها لو كانت أمنية صادقة لكفى.
قال صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق". رواه مسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: "من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه". رواه مسلم.
وأختم بوصية الصِّدِّيق رضي الله عنه: احرص على الموت توهب لك الحياة.
وإن تعجب فاعجب لمن قال تلك الكلمة؟
لقد قالها أبو بكر رضي الله عنه لسيف الله المسلول رضي الله عنه.
وبقول الخنساء :
نهين النفوس وهَوْن النفوس **** يوم الكريهة أوقى لها
وما أروع قول الحصين المرّي:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد *** لنفسي حياة مثل أن أتقدما
---------------
55.متن "الدرة المضية" في السيرة النبوية
بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي
قال الشيخ الإمام الحبر الحافظ أبو محمد، عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، ـ رضي الله عنه ـ وأرضاه:
الحمد لله خالق الأرض والسماء، وجاعل النور والظلماء، وجامع الخلق لفصل القضاء، لفوز المحسنين وشقوة أهل الشقاء، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة يسعد بها قائلها يوم الجزاء، وصلى الله على سيد المرسلين والأنبياء، محمد، وآله، وصحبه النجباء.
أما بعد:
فهذه جملة مختصرة من أحوال سيدنا ونبينا، المصطفى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لا يستغني عنها أحد من المسلمين، نفعنا الله بها، ومن قرأها، وسمعها.
نسبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
فنبدأ بنسبه:(2/227)
فهو أبو القاسم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن المقوم ابن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن بن تارح – وهو آزر – بن ناحور بن ساروع بن راعو بن فالخ ابن عيبر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ – وهو إدريس النبي فيما يزعمون، وهو أول بني آدم أعطي النبوة، وخط بالقلم ـ ابن يرد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شيث بن آدم عليه السلام.
هذا النسب ذكره محمد بن إسحاق بن يسار المدني في إحدى الروايات عنه. وإلى عدنان متفق على صحته من غير اختلاف فيه، وما بعده مختلف فيه.
وقريش: ابن فهر بن مالك، وقيل: النضر بن كنانة.
أمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وأم رسول الله، ـ صلى الله عليه وسلم ـ، آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب.
ولادته ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة عام "الفيل" في شهر ربيع الأول لليلتين خلتا منه، يوم الاثنين.
وقال بعضهم: بعد "الفيل" بثلاثين عامًا، وقال بعضهم: بأربعين عامًا. والصحيح أنه ولد عام الفيل.
وفاة والد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأمه، وجده
ومات أبوه عبد الله بن عبد المطلب ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أتى له ثمانية وعشرون شهرًا. وقال بعضهم: (مات أبوه وهو ابن سبعة أشهر). وقال بعضهم (مات أبوه في دار النابغة وهو حمل). وقيل: (مات بالأبواء بين مكة والمدينة).
وقال أبو عبد الله الزبير بن بكار الزبيري: (توفي عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ابن شهرين).
وماتت أمه وهو ابن أربع سنين. ومات جده عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين. وقيل: (ماتت أمه وهو ابن ست سنين).
رضاعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وأرضعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثويبة جارية أبي لهب، وأرضعت معه حمزة بن عبد المطلب، وأبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، أرضعتهم بلبن ابنها مسروح.
وأرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية.
فصل في أسمائه
روى جبير بن مطعم قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنه أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي حشر الناس، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي) صحيح متفق عليه.
وروى أبو موسى عبد الله بن قيس، قال: سمى لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسه أسماء، منها ما حفظنا، فقال: (أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفي، ونبي التوبة، ونبي الرحمة) وفي رواية: (ونبي الملحمة) وهي المقتلة، صحيح، رواه مسلم.
وروى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أنا أحمد، وأنا محمد، وأنا الحاشر، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، فإذا كان يوم القيامة لواء الحمد معي، وكنت إمام المرسلين، وصاحب شفاعتهم).
وسماه الله – عز وجل – في كتابه العزيز: ? بَشِيرًا ? و ? وَنَذِيرًا ? [البقرة: 119]. و ? رَءُوفًا ? و ? رَّحِيمًا ? و ? رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ? [الأنبياء: 107] ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
فصل
نشأته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة، وخروجه مع عمه أبي طالب إلى الشام، وزواجه بخديجة
ونشأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتيما يكفله جده عبد المطلب، وبعده عمه أبو طالب بن عبد المطلب.
وطهره الله – عز وجل – من دنس الجاهلية، ومن كل عيب، ومنحه كل خلق جميل، حتى لم يكن يعرف بين قومه إلا بالأمين، لما شاهدوا من أمانته، وصدق حديثه، وطهارته.
"فلما بلغ اثنتي عشرة سنة، خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام، حتى بلغ بُصرَى فرآه بحيرا الراهب، فعرفه بصفته، فجاء وأخذ بيده وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه رحمة للعالمين. فقيل له: وما علمك بذلك؟ قال: إنكم حين أقبلتم من العقبة لم يبق شجرة، ولا حجر، إلا خر ساجدًا، ولا يسجدون إلا لنبي، وإنا نجده في كتبنا، وسأل أبا طالب فرده خوفًا عليه من اليهود".
ثم خرج ثانيًا إلى الشام مع ميسرة غلام خديجة – ـ رضي الله عنه ـا – في تجارة لها قبل أن يتزوجها، حتى بلغ إلى سوق بصرى، فباع تجارته.
فلما بلغ خمسًا وعشرين سنة تزوج خديجة عليها السلام(1) .
فلما بلغ أربعين سنة اختصه الله بكرامته، وابتعثه برسالته، أتاه جبريل عليه السلام وهو بغار حراء – جبل بمكة -، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وقيل خمس عشرة، وقيل: عشرصا، والصحيح الأول.
وكان يصلي إلى بيت المقدس مدة إقامته بمكة، ولا يستدبر الكعبة، ويجعلها بين يديه. وصلى إلى بيت المقدس أيضًا بعد قدومه المدينة سبعة عشر شهرًا، أو ستة عشر شهرًا.
هجرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ(2/228)
ثم هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة، ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي، وهو كافر ولم يعرف له إسلام.
وأقام بالمدينة عشر سنين.
وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وتوفي وهو ابن ثلاث وستين. وقيل: خمس وستين. وقيل ستين، والأول أصح.
وتوفي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الاثنين حين اشتد الضحى لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وقيل: لليلتين خلتا منه، وقيل: لاستهلال شهر ربيع الأول.
ودفن ليلة الأربعاء، وقيل: ليلة الثلاثاء، وكانت مدة علته اثني عشر يومًا، وقيل: أربعة عشر يومًا.
وغسله علي بن أبي طالب، وعمه العباس، والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولياه، وحضرهم أوس بن خولي الأنصاري.
وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية من ثياب سحول – بلدة باليمن – ليس فيها قميص ولا عمامة.
وصلى عليه المسلمون أفذاذًا، لم يؤمهم عليه أحد.
وفرش تحته قطيفة حمراء كان يتغطى بها، ودخل قبره العباس وعلي والفضل وقثم وشقران، وأطبق عليه تسع لبنات.
ودفن في الموضع الذي توفاه الله فيه حول فراشه، وحفر له وألحد في بيته الذي كان بيت عائشة، ثم دفن معه أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما -.
فصل في أولاده
وله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من البنين ثلاثة:
القاسم: وبه كان يكنى، ولد بمكة قبل النبوة، ومات بها وهو ابن سنتين.
وقال قتادة: عاش حتى مشى.
وعبد الله: ويسمى الطيب والطاهر، لأنه ولد في الإسلام. وقيل: إن الطاهر والطيب غيره، والصحيح الأول.
وإبراهيم عليه السلام: ولد بالمدينة، ومات بها سنة عشر، وهو ابن سبعة عشر شهرًا أو ثمانية عشر. وقيل: كان له ابن يقال له: عبد العزى، وقد طهره الله – عز وجل – من ذلك وأعاذه منه.
البنات:
زينب: تزوجها أبو العاص بن الريع بن عبد العزى بن عبد شمس، وهو ابن خالتها، وأمه هالة بنت خويلد، ولدت له عليًا – مات صغيرًا – وأمامة التي حملها النبي، ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصلاة، وبلغت حتى تزوجها علي بعد موت فاطمة.
وفاطمة بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تزوجها علي بن أبي طالب، فولدت له الحسن والحسين، ومحسنا – مات صغيرا – وأم كلثوم، تزوجها عمر بن الخطاب، وزينب، تزوجها عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
ورقية بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تزوجها عثمان بن عفان فماتت عنده، ثم تزوج أم كلثوم فماتت عنده، وولدت رقية ابنا فسماه عبد الله، وبه كان يكنى.
فالبنات أربع بلا خلاف، والصحيح في البنين أنهم ثلاثة، وأول من ولد له القاسم، ثم زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم، ثم في الإسلام عبد الله، ثم إبراهيم بالمدينة. وأولاده كلهم من خديجة إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية وكلهم ماتوا قبله إلا فاطمة، فإنها عاشت بعده ستة أشهر.
فصل في حجه وعمره
روى همام بن يحيى، عن قتادة، قال: قلت لأنس: كم حج النبي، ـ صلى الله عليه وسلم ـ، من حجة؟ قال: (حجة واحدة، واعمر أربع عمر: عمرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين صده المشركون عن البيت، والعمرة الثانية حيث صالحوه من العام المقبل، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنيمة حنين في ذي القعدة، وعمرته مع حجته) صحيح متفق عليه.
هذا بعد قدومه المدينة، وأما ما حج بمكة واعتمر فلم يحفظ والذي حج حجة الوداع، ودع الناس فيها، وقال: (عسى ألا تروني بعد عامي هذ).
فصل في غزواته
غزا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنفسه خمسًا وعشرين غزوة، هذا هو المشهور، قاله: محمد ابن إسحاق، وأبو معشر، وموسى بن عقبة وغيرهم. وقيل: غزا سبعا وعشرين، والبعوث والسرايا خمسون أو نحوها.
ولم يقاتل إلا في تسع: بدر، وأحد، والخندق، وبني قريظة، والمصطلق، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف. وقد قيل: إنه قاتل بوادي القرى، وفي الغابة، وبني النضير.
فصل في كتابه ورسله
كتب له ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن الأرقم الزهري، وأبي بن كعب، وثابت بن قيس بن شماس، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وكان معاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابت ألزمهم لذلك، وأخصهم به.
وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
عمرو بن أمية الضمري رسولًا إلى النجاشي واسمه أصحمة، ومعناه عطية، فأخذ كتاب رسول الله، ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ووضعه على عينيه، ونزل عن سريره، فجلس على الأرض، وأسلم وحسن إسلامه، إلا أن إسلامه كان عند حضور جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وصح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى عليه يوم مات، وروي أنه كان لا يزال يرى النور على قبره.(2/229)
وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم، واسمه هرقل، فسأل عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وثبت عنده صحة نبوته، فهم بالإسلام، فلم توافقه الروم، وخافهم على ملكه فأمسك.
وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس، فمزق كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (مزق الله ملكه). فمزق الله ملكه، وملك قومه.
وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاطب بن أبي بلتعة اللخمي إلى المقوقس ملك الإسكندرية ومصر، فقال خيرًا، وقارب الأمر، ولم يسلم، فأهدى إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مارية القبطية، و أختها سيرين، فوهبها لحسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن بن حسان.
وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمرو بن العاص إلى ملكي عمان جيفر وعبد ابني الجلندي، وهما من الأزد، والملك جيفر، فأسلما وصدقا، وخليا بين عمرو وبين الصدقة والحكم فيما بينهم، فلم يزل عندهم حتى توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سليط بن عمرو بن العامري إلى اليمامة، إلى هوذة بن علي الحنفي، فأكرمه وأنزله، وكتب إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا خطيب قومي وشاعرهم، فاجعل لي بعض الأمر، فأبى النبي، ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يسلم، ومات زمن الفتح.
وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك البلقاء من أرض الشام، قال شجاع: فانتهيت إليه وهو بغوطة دمشق، فقرأ كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم رمى به، وقال: إني سائر إليه، وعزم على ذلك، فمنعه قيصر.
وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المهاجر بن أبي أمية المخزومي إلى الحارث الحميري أحد مقاولة اليمن.
وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي العبدي ملك البحرين، وكت إليه كتابًا يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وصدق.
وبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل الأنصاري ـ رضي الله عنه ـما إلى جملة اليمن، داعيين إلى الإسلام، فأسلم عامة أهل اليمن وملوكهم طوعا من غير قتال.
فصل في أعمامه وعماته
وكان له ـ صلى الله عليه وسلم ـ، من العمومة أحد عشر؛ منهم:
الحارث: وهو أكبر ولد عبد المطلب، وبه كان يكنى، ومن ولده وولد ولده جماعة لهم صحبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وقثم: هلك صغيرًا، وهو أخو الحارث لأمه.
والزبير بن عبد المطلب: وكان من أشراف قريش، وابنه عبد الله بن الزبير، شهد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حنينًا، وثبت يومئذ، واستشهد بأجنادين، وروي أنه وجد إلى جنب سبعة قد قتلهم وقتلوه.
وضباعة بنت الزبير، لها صحبة، وأم الحكم بنت الزبير، روت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وحمزة بن عبد المطلب: أسد الله وأسد رسوله، وأخوه من الرضاعة، أسلم قديمًا، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا، وقتل يوم أحد شهيدًا، ولم يكن له إلا ابنة.
وأبو الفضل العباس بن عبد المطلب: أسلم وحسن إسلامه، وهاجر إلى المدينة، وكان أكبر من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بثلاث سنين، وكان له عشرة من الذكور: الفضل، وعبد الله، وقثم لهم صحبة، ومات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان ابن عفان بالمدينة. ولم يسلم من أعمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا العباس وحمزة.
وأبو طالب بن عبد المطلب: واسمه عبد مناف، وهو أخو عبد الله – أبي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ - لأمه وعاتكة صاحبة الرؤيا في بدر وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ ابن عمران بن مخزوم.
وله من الولد طالب – مات كافرًا – وعقيل، وجعفر، وعلي، وأم هانئ – لهم صحبة – واسم أم هانئ فاختة، وقيل: هند. وجمانة ذكرت في أولاده أيضًا.
وأبو لهب بن عبد المطلب: واسمه عبد العزى، كناه أبوه بذلك لحسن وجهه، ومن ولده عتبة، ومعتب، ثبتا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم حنين، ودرة، لهم صحبة. وعتيبة قتلة الأسد بالزرقاء من أرض الشام على كفره بدعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وعبد الكعبة، و حجل واسمه المغيرة، وضرار أخو العباس لأمه، والغيداق، وإنما سمي الغيداق لأنه أجود قريش، وأكثرهم طعامًا.
وعماته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ست:
صفية بنت عبد المطلب: أسلمت وهاجرت، وهي أم الزبيربن العوام، توفيت بالمدينة في خلافة عمر بن الخطاب، وهي أخت حمزة لأمه.
وعاتكة بنت عبد المطلب: قيل إنها أسلمت، وهي صاحبة الرؤيا في بدر، وكانت عند أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ولدت له عبد الله، أسلم وله صحبة، وزهيرًا، وقريبة الكبرى.
وأروى بنت عبد المطلب: كانت عند عمير بن وهب بن عبد الدار بن قصي، فولدت له طليب بنعمير، وكان من المهاجرين الأولين، شهد بدرًا، وقتل بأجنادين شهيدًا، ليس له عقب.(2/230)
وأميمة بنت عبد المطلب كانت عند جحش بن رئاب، ولدت له عبد الله المقتول بأحد شهيدًا، وأبا أحمد الأعمى الشاعر واسمه عبد، وزينب زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وحبيبة، وحمنة، كلهم لهم صحبة، وعبيد الله بن جحش أسلم ثم تنصر، ومات بالحشبة كافرًا.
وبرة بنت عبد المطلب: كانت عند عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم، فولدت له أبا سلمة، واسمه عبد الله، وكان زوج أم سلمة قبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وتزوجها بعد عبد الأسد أبو رهم بن عبد العزى بن أبي قيس، فولدت له أبا عبرة بن أبي رهم.
وأم حكيم وهي البيضاء بنت عبد المطلب، كانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب ابن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له أروى بنت كريز، وهي أم عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ.
ذكر أزواجه عليه وعليهن الصلاة والسلام
وأول من تزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ابن قصي بن كلاب، تزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة، وبقيت معه حتى بعثه الله – عز وجل – فكانت له وزير صدق، وماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، وهذا أصح الأقوال، وقيل: قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بأربع سنين.
ثم تزوج : سوةدة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر ابن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، بعد خديجة بمكة قبل الهجرة، وكانت قبله عند السكران بن عمرو، أخي سهيل بن عمرو، وكبرت عنده، وأراد طلاقها، فوهبت يومها لعائشة، فأمسكها.
وتزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: عائشة بنت أبي بكر الصديق بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل: بثلاث سنين، وهي بنت ست سنين، وقيل: سبع سنين، والأول أصح، وبنى بها بعد الهجرة بالمدينة وهي بنت تسع سنين على رأس سبعة أشهر، وقيل: على رأس ثمانية عشر شهرًا.
ومات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي بنت ثمان عشرة، وتوفيت بالمدينة، ودفنت بالبقيع، أوصت بذلك، سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة سبع وخمسين، والأول أصح، وصلى عليها أبو هريرة، ولم يتزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكرًا غيرها، وكنيتها أم عبد الله، وروى أنها أسقطت من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سقطا، ولم يثبت.
وتزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: حفصة بنت عمر بن الخطاب – ـ رضي الله عنه ـما – وكانت قبله عند خنيس بن حذافة، وكان من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، توفي بالمدينة، وقد شهرد بدرًا. ويروى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طلقها، فأتاه جبريل – عليه السلام - فقال: (إن الله يأمرك أن تراجع حفصة، فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة).
وروى عقبة بن عامر الجهني قال: طلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حفصة بنت عمر، فبلغ ذلك عمر، فحثا على رأسه التراب، وقال: ما يعبأ الله بعمر وابنته بعد هذا، فنزل جبريل من الغد على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: (إن الله – عز وجل – يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر. توفيت سنة سبع وعشرين. وقيل: سنة ثمان وعشرين، عام أفريقية).
وتزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أم حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها: رملة بنت صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة، فتنصر بالحبشة، وأتم الله لها الإسلام، وتزوجها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي بأرض الحبشة، وأصدقها عنه النجاشي بأربعمائة دينار، بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمرو بن أمية الضمري فيها إلى أرض الحبشة، وولي نكاحها عثمان بن عفان،وقيل: خالد بن سعيد ابن العاص. توفيت سنة أربع وأربعين.
وتزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أم سلمة، واسمها، هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وكانت قبله عند أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، توفيت سنة اثنتين وستين، ودفنت بالبقيع بالمدينة، وهي آخر أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفاة، وقيل: إن ميمونة آخرهن.
وتزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: زينب بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة، فطلقها، فزوجها الله إياه من السماء، ولم يعقد عليها، وصح أنها كانت تقول لأزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (زوجكن آباؤكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات). توفيت بالمدينة سنة عشرين، ودفنت بالبقيع.
وتزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو ابن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية، وكانت تسمى "أم المساكين"؛ لكثرة إطعامها المساكين، وكانت تحت عبد الله بن جحش، وقيل: عبد الطفيل بن الحارث، والأول أصح. وتزوجها سنة ثلاث من الهجرة، ولم تلبث عنده إلا يسيرًا: شهرين أو ثلاثة.(2/231)
وتزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب بن عائذ ابن مالك بن المصطلق الخزاعية، سبيت في غزوة بني المصطلق، فوقعت في سهم ثابت ابن قيس بن شماس، فكاتبها فقضى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتابتها، وتزوجها في ست من الهجرة، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين.
وتزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: صفية بنت حيي بن أخطب بن أبي يحيى بن كعب ابن الخزرج النضرية، من ولد هارون بن عمران – أخي موسى بن عمران عليهما السلام – سبيت في خيبر سنة سبع من الهجرة، وكانت قبله تحت كنانة بن أبي الحقيق، قتله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأعتق صفية، وجعل عتقها صداقها، وتوفيت سنة ثلاثين. وقيل سنة خمسين.
وتزوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهرم بن رويبة ابن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية، وهي خالة خالد بن الوليد، وعبدالله بن عباس، تزوجها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسرف، وبنى بها فيه، وماتت به، وهو ماء على تسعة أميال من مكة، وهي آخر من تزوج من أمهات المؤمنين، توفيت سنة ثلاث وستين.
فهذه جملة من دخل بهن من النساء، وهن إحدى عشرة وعقد على سبع ولم يدخل بهن.
ذكر خدمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
أنس بن مالك بن النضر الأنصاري.
وهند وأسماء ابنا حارثة الأسلميان. وربيعة بن كعب الأسلمي.
وكان عبد الله بن مسعود صاحب نعليه،، كان إذا قام ألبسه إياهما، وإذا جلس جعلهما في ذراعيه حتى يقوم.
وكان عقبة بن عامر الجهني صاحب بغلته، يقودها في الأسفار.
وبلال بن رباح؛ المؤذن. وسعد، مولى أبي بكر الصديق.
وذو مخمر ابن أخي النجاشي، ويقال: ابن أخته. ويقال: ذو مخبر بالباء.
وبكير بن شداخ الليثي، ويقال: بكر. وأبو ذر الغفاري.
ذكر مواليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وابنه أسامة بن زيد، وكان يقال لأسامة ابن زيد: الحب بن الحب.
وثوبان بن بجدد؛ وكان له نسب في اليمن.
وأبو كبشة من مولدي مكة. يقال: اسمه سليم، شهد بدرًا، ويقال: كان من مولدي أرض دوس.
وأنسة مولدي السراة.
وصالح، شقران. ورباح، أسود. ويسار، نوبي.
وأبو رافع، واسمه أسلم. وقيل: إبراهيم، وكان عبدًا للعباس، فوهبه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعتقه.
وأبو مويهبة، من مولدي مزينة. وفضالة، نزل بالشام.
ورافع كان لسعيد بن العاص فورثه ولده، فأعتقه بعضهم، وتمسك بعضهم، فجاء رافع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستعينه، فوهب له، وكان يقول: أنا مولى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ومدعم، أسود، وهبه له رفاعة بن زيد الجذامي، وكان من مولدي حسمي، قتل بوادي القرى.
وكركرة، كان على ثقل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وزيد، جد هلال بن يسار بن زيد، وعبيد.
وطهمان، أو كيسان، أو مهران، أو ذكوان، أو مروان.
ومأبور القبطي، أهداه المقوقس.
وواقد، وأبو واقد، وهشام، وأبو ضميرة، وحنين، وأبو عسيب، واسمه أحمر، وأبو عبيد.
وسفينة كان عبدًا لأم سلمة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعتقته، وشرطت عليه أن يخدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حياته، فقال: لو لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
هؤلاء المشهورون، وقيل: إنهم أربعون.
ومن الإماء: سلمى أم رافع، وبركة أم أيمن، ورثها من أبيه، وهي أم أسامة بن زيد وميمونة بنت سعدٍ، وخضرة، ورضوى.
ذكر أفراس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
أول فرس ملكه: السكب، اشتراه من أعرابي من بني فزارة بعشر أواق، وكان اسمه عند الأعرابي الضرس، فسماه السكب، وكان أغر محجلًا طلق اليمين، وهو أول فرس غزا عليه.
وكان له سبحة، وهو الذي سابق عليه، فسبق، ففرح به.
والمرتجز: وهو الذي اشتراه من الأعرابي الذي شهد له خزيمة بن ثابت، والأعرابي من بني مرة.
وقال سهل بن سعد الساعدي: كان لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندي ثلاثة أفراس: لزاز، والظرب، واللحيف. فأما لزاز: فأهداه له المقوقس، وأما اللحيف: فأهداه له ربيعة بن أبي البراء، فأثابه عليه فرائض من نعم بني كلاب، وأما الظرب: فأهداه له فروة بن عمرو الجذامي.
وكان له فرس يقال له: الورد، أهداه له تميم الداري، فأعطاه عمر، فحمل عليه، فوجده يباع.
وكانت بغلته الدلدل، يركبها في الأسفار، وعاشت بعده حتى كبرت وزالت أسنانه، وكان يجش لها الشعير، وماتت بينبع، وحماره عفير مات في حجة الوداع.
وكان له عشرون لقحة بالغابة، يراح إليه كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن، وكان فيها لقاح غزار: الحناء، والسمراء، والعريس، والسعدية، والبغوم، واليسيرة، والريا.
وكانت له لقحة تدعي بردة، أهداها له الضحاك بن سفيان، كانت تحلب كما تحلب لقحتان غزيرتان.
وكانت له مهرة أرسل بها سعد بن عبادة من نعم بني عقيل. والشقراء.(2/232)
وكانت له العضباء، ابتاعها أبو بكر من نعم بني الحريش، وأخرى بثمانمائة درهم، فأخذها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأربعمائة درهم، وهي التي هاجر عليها، وكانت حين قدم المدينة رباعية، وهي القصواء والجدعاء، وقد سبقت، فشق على المسلمين.
وكان له منائح سبع من الغنم: عجرة، وزمزم، وسقيا، وبركة، وورسة، وأطلال، وأطراف.
وكان له مائة من الغنم.
سلاحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وكان له ثلاثة رماح أصابها من سلاح بني قينقاع، وثلاثة قسيك قوس اسمها الروحاء، وقوس شوحط، وقوس صفراء تدعى الصفراء.
وكان له ترس فيه تمثال رأس كبش، فكره مكنه، فأصبح وقد أذهبه الله عز وجل.
وكان سيفه ذو الفقار، تنفله يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد، وكان لمنبه بن الحجاج السهمي.
وأصاب من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيف قلعي، وسيف يدعى بتارا، وسيف يدعى الحتف.
وكان عنده بعد ذلك المخدم، ورسوب، أصابها من الفلس، وهو صنم لطيء.
قال أنس بن مالك: (كان نعل سيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضة، وقبيعته فضة، وما بين ذلك حلق فضة).
وأصاب من سلاح بني قينقاع درعين: درع يقال لها: السعدية، ودرع يقال لها: فضة.
وروي عن محمد بن سلمة قال: (رأيت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أحد درعين: درعه ذات الفضول، ودرعه فضة، ورأيت عليه يوم خيبر درعين: ذات الفضول والسعدية.)
فصل في صفته
روي عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: كان أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ إذا رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مقبلا يقول:
أمين مصطفى بالخير يدعو كضوء البدر زايله الظلام
وروي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ينشد قول زهير بن أبي سلمى في هرم بن سنان، حيث يقول:
لو كنت من شيء سوى بشر كنت المضيء (2) ليلة البدر.
ثم يقول عمر وجلساؤه: كذلك كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ،ولم يكن كذلك غيره.
وعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال: (كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبيض اللون، مشربًا حمرة، أدعج العينين، سبط الشعر، كث اللحية، ذا وفرة، دقيق المسربة، كأن عنقه إبريق فضة، من لبته إلى سرته شعر يجري كالقضيب، ليس في بطنه، ولا صدره شعر غيره، شئن الكفين والقدمين، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذامشى كأنما ينقلع من صخر، إذا التفت التفت جميعًا، كأن عرقه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر، ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا الفاجر ولا اللئيم، لم أرب قبله ولا بعده مثله).
وفي لفظ: (بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفا، وأوسع الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله ـ صلى الله عليه وسلم ).
وقال البراء بن عازب: (كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مربوعًا، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئًا قط أحسن منه ـ صلى الله عليه وسلم ).
وقالت أم معبد الخزاعية في صفته، ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (رأيت رجلًا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيمًا، قسيمًا، في عينيه دعج، وفي أشفاره غطف، وفي صوته صحل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس، وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصلٌ، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم تحدرت ربعة لا بائن من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، وهو أنضر الثلاثة منظرًا، وأحسنهم قدرًا، له رفقاء يحفون به، إن قال؛ أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره محفود محشود، لا عابس، ولا مفند).
وعن أنس بن مالك الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ أنه وصف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (كان ربعة من القوم، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردد، أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم، ليس بجعد، ولا قطط، ولا سبط، رجل الشعر).(2/233)
وقال هند بن أبي هالة: (كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فخما مفخما، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعر، إن انفرقت عقيقته فرق، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، أدعج العينين، سهل الخدين، ضليع الفم، أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنًا متماسكًا، سواء البطن والصدر، مسيح الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين، عريض الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، سائل الأطراف، سبط القصب، خمصان الأخمصين، مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشي هونًا، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعًا خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه ويبدأ من لقيه بالسلام).
فصل
تفسير غريب ألفاظ صفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ
فالوضاءة: الحسن والجمال. والأبلج الجبين: المشرق المضيء، ولم يرد به الحاجب؛ لأنها وصفته بالقرن. والثجلة: بالثاء المثلثة والجيم عظم البطن مع استرخاء أسفله، ويروى بالنون والحاء المهملة، وهو: النحول وضعف التركيب، والإزراء: والاحتقار للشيء والتهاون به. والصعلة: صغر الرأس، ويروي: صقلة – بالقاف – والصقل: منقطع الأضلاع من الخاصرة، أي ليس بأثجل، عظيم البطن ولا بشديد لحوق الجنبين، بل هو كما لا تعيب صفة من صفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
والوسيم: المشهور بالحسن، كأنه صار الحسن له علامة. والقسيم: الحسن قسمة الوجه. والدعج: شدة سواد العين. والأشفار: حروف الأجفان التي تلتقي عند التغميض، والشعر نابت عليها، ويقال لهذا الشعر: الأهداب، فأراد به: في شعر أشفاره. والغطف: بالغين والعين، الطول، وهو بالمعجمة أشهر، ومعناه: أنها مع طولها منعطفة مثنية، وفي رواية: وطف: وهو الطول أيضًا.
والصحل: شبه البحة، وهو غلظ في الصوت، وفي رواية: صهل، وهو قريب منه أيضًا؛ لأن الصهيل صوت الفرس، وهو يصهل بشدة وقوة والسطع: طول العنق. والكثاثة: كثرة في التفاف واجتماع. والأزج: المتقوس الحاجبين، وقيل: طول الحاجبين ودقتهما، وسبوغهما إلى مؤخر العينين. والأقرن: المتصل أحد الحاجبين بالآخر.
وسما: أي علا برأسه، وفي رواية: سما به: أي بكلامه على من حوله من جلسائه. والفصل فسرته بقولها: لا نزر ولا هذر: أي ليس كلامه بقليل لا يفهم، ولا بكثير يمل، والهذر: الكثير.
وقولها: لا تقتحمه عين من قصر أي: لا تزدريه لقصره فتجاوزه إلى غيره، بل تهابه وتقبلُهُ. والمحفود: المخدوم. والمحشود: الذي يجتمع الناس حوله.
وأنصر: أحسن. والعابس: الكالح الوجه. والمفند: المنسوب إلى الجهل وقلة العقل، وفخمًا مفخمًا: عظيمًا معظمًا. والمشذب: الطويل، والعقيقة: الشعر. والعرنين: الأنف. والأقنى: فيه طول ودقة أرنبته وحدب في وسطه. والشمم: ارتفاع القصبة، واستواء أعلاها، وإشراف الأرنبة قليلًا. وضليع الفم: أي واسعه. والشنب في الأسنان: وهو تحديد أطرافها.
والمسربة: الشعر المستدق ما بين اللبة إلى السرة. والجيد: العنق، والدمية: الصورة. والبادن: العظيم البدن. والمتماسك: المستمسك اللحم غير مسترخيه.
وقوله: سواء البطن والصدر. يريد أن بطنه غير مستفيض، فهو مساو لصدره، وصدره عريض، فهو مساو لبطنه. وأنور المتجرد: يعني شديد بياض ما جرد عنه الثوب. ورحب الراحة: واسع الكف. والشثن: الغليظ.
وقوله: خمصان الأخمصين: الأخمص: ما ارتفع عن الأرض من باطن القدم، أراد أن ذلك مرتفع منها، وقد روي بخلاف ذلك. وقوله: مسيح القدمين يريد: ممسوح ظاهر القدمين، فالماء إذا صب عليهما مر مرًا سريعًا لاستوائهما وإملاسهما.
وقوله: يخطو تكفؤا، يريد أنه يمتد في مشيته، ويمشي في رفق غير مختال. والصبب: الانحدار.
فصل في أخلاقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشجع الناس. قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ (كنا إذا احمر البأس، ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ).
وكان أسخى الناس، ما سئل شيئًا قط، فقال: لا.
وكان أحلم الناس.
وكان أشد حياء من العذراء في خدرها، لا يثبت بصره في وجه أحد.
وكان لا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لها، إلاأن تنتهك حرمات الله، فيكون لله ينتقم. وإذا غضب لله لم يقم لغضبه أحد.
والقريب والبعيد والقوي والضعيف عنده في الحق واحد.
وما عاب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله، وإن لم يشتهه تركه.(2/234)
وكان لا يأكل متكئًا، ولا يأكل على خوان، ولا يمتنع من مباح، إن وجد تمرًا أكله، وإن وجد خبزًا أكله، وإن وجد شواء أكله، وإن وجد خبز بر أو شعيرًا أكله، وإن وجد لبنًا اكتفى به. أكل البطيخ بالرطب، وكان يحب الحلواء والعسل.
قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: (خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الدنيا، ولم يشبع من خبز الشعير).
(وكان يأتي على آل محمد الشهر والشهران لا يوقد في بيت من بيوته نار، وكان قوتهم التمر والماء).
ياكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، ويكافئ على الهدية.
لا يتأنق في مأكل ولا ملبس، يأكل ما وجد، ويلبس ما وجد.
وكان يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويخدم في مهنة أهله، ويعود المرضى.
وكان أشد الناس تواضعًا، يجيب من دعاه من غني، أو فقير، أو دنيء، أو شريف.
وكان يحب المساكين، ويشهد جنائزهم، ويعود مرضاهم، لا يحقر فقيرًا لفقره، ولا يهاب ملكًا لملكه.
وكان يركب الفرس، والبعير، والحمار، والبغلة، ويردف خلفه عبده، أو غيره، لا يدع أحدًا يمشي خلفه، ويقول: (خلوا ظهري للملائكة).
ويلبس الصوف وينتعل المخصوف، وكان أحب اللباس إليه الحبرة، وهي من برود اليمن، فيها حمرة وبياض.
وخاتمه فضة، فصه منه، يلبسه في خنصره الأيمن، وربما لبسه في الأيسر.
وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وقد آتاه الله مفاتيح خزائن الأرض كلها، فأبى أن يأخذها واختار الآخرة عليها.
وكان يكثر الذكر ويقل اللغو، ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة.
أكثر الناس تبسمًا، وأحسنهم بشرا، مع أنه كان متواصل الأحزان دائم الفكر.
وكان يحب الطيب، ويكره الريح الكريهة.
يستألف أهل الشرف، ويكرم أهل الفضل، ولا يطوي بشره عن أحد، ولا يجفو عليه.
يرى اللعب المباح فلا ينكره، يمزح ولا يقول إلا حقًا، ويقبل معذرة المعتذر إليه.
له عبيد وإماء، لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس.
لا يمضي له وقت في غير عمل لله، أو فيما لابد له ولأهله منه.
رعى الغنم، وقال: (ما من نبي إلا وقد رعاه).
وسئلت عائشة ـ رضي الله عنه ـا عن خُلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: (كان خُلقه القرآن). يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه.
وصح عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: (ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من كف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا شممت رائحة قط كانت أطيب من رائحة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولقد خدمت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا لشيء فعلته: لم فعلت كذا؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا وكذا؟).
قد جمع الله – تعالى – له كمال الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وآتاه الله – تعالى علم الأولين والآخرين (3)، وما فيه النجاة والفوز، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا معلم له من البشر، نشأ في بلاد الجهل والصحاري، آتاه الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين، واختاره على جميع الأولين والآخرين، فصلوات الله عليه دائمة إلى يوم الدين.
فصل في معجزاته
فمن أعظم معجزاته، وأوضح دلالاته، "القرآن العزيز" الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، الذي أعجز الفصحاء، وحير البلغاء، وأعياهم أن يأتوا بعشر سورة مثله، أو بسورة، أو آية، وشهد بإعجازه المشركون، وأيقن بصدقه الجاحدون، والملحدون.
وسأل المشركون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر، فانشق حتى صار فرقتين؛ وهو المراد بقوله تعالى: ? اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ ? [القمر: 1].
وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن الله تعالى زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها). وصدق الله قوله بأن ملك أمته بلغ أقصى المشرق والمغرب، ولم ينتشر في الجنوب ولا في الشمال.
وكان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر، وقام عليه، حن الجذع حنين العشار، حتى جاء إليه والتزمه، وكان يئن كما يئن الصبي الذي يسكت، ثم سكن.
ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة.
وسبح الحصى في كفه، ثم وضعه في كف أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فسبح.
وكانوا يسمعون تسبيح الطعام عنده وهو يؤكل.
وسلم عليه الحجر والشجر ليالي بعث.
وكلمته الذراع المسمومة، ومات الذي أكل معه من الشاة المسمومة، وعاش هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بعده أربع سنين.
وشهد الذئب بنبوته.
ومر في سفره ببعير يستقي عليه، فلما رآه جرجر، ووضع جرانه فقال: "إنه شكا كثرة العمل وقلة العلف".
ودخل حائطًا فيه بعير، فلما رآه حنه وذرفت عيناه، فقال لصاحبه: "إنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه".
ودخل حائطًا آخر في فحلان من الإبل، وقد عجز صاحبهما عن أخذهما، فلما رآه أحدهما جاءه حتى برك بين يديه، فخطمه، ودفعه إلى صاحبه، فلما رآه الآخر فعل مثل ذلك.(2/235)
وكان نائمًا في سفر، فجاءت شجرة تشق الأرض حتى قامت عليه فلما استيقظ ذكرت له، فقال: "هي شجرة استأذنت ربها أن تسلم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأذن لها" وأمر شجرتين فاجتمعتا، ثم أمرهما فافترقتا.
وسأله أعرابي أن يريه آية، فأمر شجرة، فقطعت عروقها حتى جاءت فقامت بين يديه، ثم أمرها فرجعت إلى مكانها.
وأراد أن ينحر ست بدنات، فجعلن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ. ومسح ضرع شاة حائل لم ينز عليها الفحل، فحفل الضرع، فحلب فشرب وسقى أبا بكر، ونحو هذه القصة في خيمتي (أم معبد الخزاعية).
وندرت عين قتادة بن النعمان الظفري حتى صارت في يده، فردها، وكانت أحسن عينيه وأحدهما، وقيل: إنها لم تعرف.
وتفل في عيني علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وهو أرمد، فبرأ من ساعته، ولم يرمد بعد ذلك. ودعاله أيضًا وهو وجع، فبرأ، ولم يشتك ذلك الوجع بعد ذلك.
وأصيبت رجل عبد الله بن عتيك الأنصاري، فمسحها، فبرأت من حينها.
وأخبر أنه يقتل أبي بن خلف الجمحي يوم أحد، فخدشه خدشًا يسيرًا فمات.
وقال سعد بن معاذ لأخيه أمية بن خلف: (سمعت محمدًا يزعم أنه قاتلك). فقتل يوم بدر كافرًا.
وأخبر يوم "بدر" بمصارع المشركين؛ فقال: "هذا مسرع فلان غدًا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله" فلم يعد واحد منهم مصرعه الذي سماه.
وأخبر أن طوائف من أمته يغزون البحر، وأن أم حرام بنت ملحان منهم، فكان كما قال.
وقال لعثمان: إنه سيصيبه بلوى؛ فقتل عثمان.
وقال للحسن بن علي: "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المؤمنين عظيمتين" فكان كذلك.
وأخبر بمقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة قتله، وبمن قتله، وهو بصنعاء اليمن. وبمثل ذلك في قتل كسرى.
وأخبر عن الشيماء بنت بقيلة الأزدية أنها رفعت له في خمار أسود على بغلة شهباء، فأخذت في زمن أبي بكر الصديق في جيش خالد بن الوليد بهذه الصفة.
وقال لثابت بن قيس بن شماس: "تعيش حميدًا، وتقتل شهيدًا" فعاش حميدًا، وقتل يوم اليمامة شهيدًا.
وقال لرجل ممن يدعي الإسلام وهو معه في القتال: "إنه من أهل النار" فصدق الله قوله بأنه نحر نفسه.
ودعا لعمر بن الخطاب، فأصبح عمر فأسلم.
ودعا لعلي بن أبي طالب أن يذهب الله عنه الحر والبرد، فكان لا يجد حرًا ولا بردًا.
ودعا لعبد الله بن عباس أن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، فكان يُسمى الحبر والبحر لكثرة علمه.
ودعا لأنس بن مالك بطول العمر، وكثرة المال والولد، وأن يبارك الله له فيه، فولد له مائة وعشرون ذكرًا لصلبه، وكان نخله يحمل في السنة مرتين، وعاش مائة وعشرين سنة أو نحوها.
وكان عتيبة بن أبي لهب قد شق قميصه وآذاه، فدعا عليه أن يسلط الله عليه كلبًا من كلابه، فقتله الأسد بالزرقاء من أرض الشام.
وشكي إليه قحوط المطر، وهو على المنبر، فدعا الله – عز وجل – وما في السماء قزعة، فثار سحاب أمثال الجبال، فمطروا إلى الجمعة الأخرى حتى شكي إليه كثرة المطر، فدعا الله – عز وجل – فأقلعت، وخرجوا يمشون في الشمس.
وأطعم أهل الخندق – وهم ألف – من صاع شعير أو دونه، وبهيمة، فشبعوا وانصرفوا والطعام أكثر ما كان.
وأطعم أهل الخندق أيضًا من تمر يسير أتت به ابنة بشير بن سعد إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة.
وأمر عمر بن الخطاب أن يزود أربعمائة راكب من تمر كالفصيل الرابض، فزوج، وبقي كأنه لم ينقص تمرة واحدة.
وأطعم في منزل أبي طلحة ثمانين رجلًا من أقراص شعير جعلها أنس تحت إبطه، حتى شبعوا كلهم.
(وأطعم الجيش من مزودة أبي هريرة حتى شبعوا كلهم) (4)، ثم رد ما بقي فيه، ودعا له فيه، فأكل منه حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ فلما قتل عثمان وهب، وحمل منه فيما روي عنه خمسون وسقا في سبيل الله عز وجل.
وأطعم في بنائه بزينب من قصعة أهدتها له أم سليم خلقا، ثم رفعت، ولا يدرى الطعام فيها أكثر حين وضعت، أو حين رفعت.
ورمى الجيش يوم حنين بقبضة من تراب، فهزمهم الله عز وجل وقال بعضهم :لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه ترابًا. وفيه أنزل الله عز وجل: ? وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ? [الأنفال: 17].
وخرج على مائة من قريش وهم ينتظرونه، فوضع التراب على رؤوسهم، ومضى ولم يروه.
وتبعه سراقة بن مالك بن جعشم يريد قتله أو أسره، فلما قرب منه دعا عليه، فساخت يد فرسه في الأرض، فناداه بالأمان، وسأله أن يدعو له، فدعا له، فنجاه الله.
وله ـ صلى الله عليه وسلم ـ معجزات باهرة، ودلالات ظا8هرة، وأخلاق طاهرة، اقتصرنا منها على هذا تحقيقًا.
فصل في سيرة العشرة
أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ:
اسمه عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب التيمي القرشي يلتقي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرة بن كعب.
وأمه: أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.(2/236)
عاش ثلاثًا وستين سنة، سن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أول الأمة إسلامًا، وخيرهم بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وولي الخلافة سنتين ونصفًا، وقيل: سنتين وأربعة أشهر إلا عشر ليالٍ، وقيل: سنتين، وقيل: عشرين شهرًا.
وله من الولد:
عبد الله: أسلم قديمًا، وله صحبة، وكان يدخل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر وهما في الغار، أصابه سهم يوم الطائف، ومات في خلافة أبيه.
وأسماء ذات النطاقين: وهي زوجة الزبير بن العوام. هاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزبير، فكان أول مولود ولد في الإسلام بعد الهجرة، وأمها قتيلة بنت عبد العزى، من بني عامر بن لؤي، لم تسلم.
وعائشة الصديقة: زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وأخوها لأمها وأبيها: عبد الرحمن بن أبي بكر: شهد بدرًا مع المشركين، وأسلم بعد ذلك، وأمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع ابن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة، أسلمت وهاجرت وتوفيت في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وأبو عتيق محمد بن عبد الرحمن: ولد في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ولم نعرف في الصحابة أربعة صحبوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بعضهم أولاد بعض سواهم.
ومحمد بن أبي بكر: ولد عام حجة الوداع، وقتل بمصر، وقبره بها. وأمه أسماء بنت عميس الخثعمية.
وأم كلثوم بنت أبي بكر: ولدت بعد وفاة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، وأمها حبيبة، وقيل فاختة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير الأنصاري، تزوجها طلحة ابن عبيد الله.
وله ثلاثة بنين وثلاث بنات، كلهم له صحبة إلا أم كلثوم، ومحمد ولد في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ومات أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في جمادى الآخرة لثلاث ليال بقين منه سنة ثلاث عشرة.
أبو حفص عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ:
ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب.
يلتقي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كعب بن لؤي.
وأمه: حنتمة بنت هاشم وقيل: هشام بن المغيرة، بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أسلم بمكة، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وأولاده:
أبو عبد الرحمن عبد الله: أسلم قديمًا، وهاجر مع أبيه، وهو من خيار الصحابة.
وحفصة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أمها زينب بنت مظعون.
وعاصم بن عمر: ولد في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أمه: أم عاصم جميلة بنت ثابت ابن أبي الأقلح.
وزيد الأكبر بن عمر، ورقية: أمهما أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب.
وزيد الأصغر، وعبيد الله ابنا عمر: أمهما أم كلثوم بنت جرول الخزاعية.
وعبد الرحمن الأكبر بن عمر. وعبد الرحمن الأوسط: وهو أبو شحمة، المجلود في الخمر. أمه أم ولد يقال لها: لهية.
وعبد الرحمن الأصغر بن عمر: أمه أم ولد يقال لها: فكيهة.
وعياض بن عمر: أمه عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل.
وعبد الله الأصغر بن عمر: أمه سعيدة بنت رافع الأنصارية، من بني عمرو ابن عوف.
وفاطمة بنت عمر: أمها أم حكيم بنت الحارث بن هشام.
وأم الوليد بنت عمر: وفيها نظر.
وزينب بنت عمر: أخت عبد الرحمن الأصغر بن عمر.
ولي الخلافة عشر سنين وستة أشهر ونصف شهر، وقتل في آخر ذي الحجة من سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، سن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي سنه اختلاف.
أبو عبد الله عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ:
ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، يلتقي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عبد مناف، وهو الأب الخامس.
وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب.
أسلم قديمًا، وهاجر الهجرتين، وتزوج ابنتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وولي الخلافة ثنتي عشرة سنة إلا عشرة أيام، وقيل: إلا اثني عشر وقتل في ذي الحجة لثمان عشرة خلت منه بعد العصر، وهو يومئذ صائم، سنة خمس وثلاثين، وهو ابن اثنتين وثمانين.
وله من الولد :
عبد الله الأكبر: وأمه رقية بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ توفي وهو ابن ست سنين، ودخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبره.
وعبد الله الأصغر: وأمه فاختة بنت غزوان، أخت عتبة.
وعمر وخالد وأبان ومريم: أمهم أم عمرو بنت جندب بن عمرو بن حممة من الأزد، من دوس.
والوليد وسعيد وأم عثمان: أمهم فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
وعبد الملك: لا عقب له، مات رجلًا، وأمه أم البنين بنت عيينة بن حصن ابن حذيفة بن زيد.
وعائشة وأم أبان وأم عمرو: وأمهن رملة بنت شيبة بن ربيعة.
وأم خالد وأروى وأم أبان الصغرى: أمهم نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص ابن عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب، من كلب بن وبرة.
أبو الحسن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ :
ابن عبد المطلب، ابن عم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.(2/237)
وأمه: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وهي أول هاشمية ولدت هاشميًا، أسلمت وهاجرت إلى المدينة، وماتت في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وتزوج فاطمة بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فولدت له الحسن، والحسين، ومحسنًا مات صغيرًا.
وله من الولد:
محمد بن الحنفية: وأمه خولة بنت جعفر، من بني حنيفة.
وعمر بن علي، وأخته رقية الكبرى: وهما توأمان، وأمهما تغلبية.
والعباس الأكبر بن علي: يقال له السقاء، قتل مع الحسين.
وإخوته لأمه وأبيه: عثمان، وجعفر، وعبد الله، بنو علي، أمهم أم البنين الكلابية.
وعبيد الله وأبو بكر ابنا علي: لا بقية لهما، أمهما ليلى بنت مسعود النهشلية.
ويحيى بن علي: مات صغيرًا، أمه أسماء بنت عميس.
ومحمد بن علي الأصغر: لأم ولد، درج.
وأم الحسن ورملة: أمهما أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي.
وزينب الصغرى، وأم كلثوم الصغرى، ورقية الصغرى، وأم هانئ، وأم الكرام، وأم جعفر، اسمها جمانة، وأم سلمة، وميمونة، وخديجة، وفاطمة، وأمامة: بنات علي لأمهات أولاد شتى.
وكانت خلافته أربع سنين وسبعة أشهر وأيامًا، على اختلاف في الأيام.
قتل وله ثلاث وستون وقيل: خمس وستون، وقيل: ثمان وخمسون، وقيل سبع وخمسون، عام الجماعة، سنة أربعينه.
أبو محمد طلحة بن عبيد الله ـ رضي الله عنه ـ:
ابن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي ابن غالب، يلتقي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرة بن كعب.
وأمه: الصعبة بنت الحضرمي، أخت العلاء بن الحضرمي، واسم الحضرمي،: عبد الله بن عباد بن أكبر بن عوف بن مالك بن عويف بن خزرج بن إياد بن الصدق، أسلمت أمه وتوفيت مسلمة.
أسلم قديمًا، وشهد أحدًا، وما بعدها، ولم يشهد بدرًا، كان بالشام في تجارة، وضرب له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسهمه وأجره.
وكان له من الولد:
محمد السجاد: قتل معه، وعمران: أمهما حمنة بنت جحش.
وموسى بن طلحة: أمه خولة بنت القعقاع بن معبد بن زرارة.
ويعقوب، وإسماعيل، وإسحاق: وأمهم أم أبان بنت عتبة بن ربيعة.
وزكريا وعائشة: أمهما أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، ـ رضي الله عنهم ـ أجمعين.
وعيسى، ويحيى: أمهما سعدى بنت عوف المرية.
أم إسحاق: بنت طلحة: أمها أم الحارث بنت قسامة بن حنظلة الطائية.
فأولاد طلحة أحد عشر، وقيل: ابنان آخران: عثمان وصالح، ولم يثبت ذلك
وقتل طلحة سنة ست وثلاثين يوم الجمل، وهو ابن اثنتين وستين.
أبو عبد الله الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ:
ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، يلتقي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قصي بن كلاب، وهو الأب الخامس.
وأمه: صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسلمت وهاجرت إلى المدينة.
هاجر الهجرتين، وصلى القبلتين، وهو أول من سل سيفه في سبيل الله – عز وجل – وهو حواري رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وله من الولد:
عبد الله: وهو أول مولود ولد في الإسلام بعد الهجرة.
والمنذر، وعروة، وعاصم، والمهاجر، وخديجة الكبرى، وأم الحسن، وعائشة: أمهم أسماء بنت أبي بكر الصديق.
وخالد، وعمرو، وحبيبة، وسودة، وهند: أمهم أم خالد بنت خالد بن سعيد ابن العاص.
ومصعب، وحمزة، ورملة: أمهم الرباب بنت أنيف الكلبية.
وعبيدة، وجعفر، وحفصة: أمهم زينب بنت بشر من بني قيس بن ثعلبة.
وزينب بنت الزبير: أمها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط.
وخديجة الصغرى: أمها الجلال بنت قيس، من بني أسد بن خزيمة.
فأولاد الزبير واحد وعشرون رجلًا وامرأة.
قتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين وله سبع وستون، أو ست وستون سنة.
أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ :
واسم أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، يلتقي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كلاب بن مرة.
وأمه: حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
وأسلم قديمًا، وكان يقول: (لقد رأيتني وإني لثلث الإسلام). وشهد بدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان رميه ذلك في جيش فيهم أبو سفيان، لقوهم بصدر رابغ في أول سنة قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة.
وله من الولد:
محمد: قتله الحجاج.
وعمر: قتله المختار بن أبي عبيد.
وعامر، ومصعب: ورىي عنهما الحديث.
وعمير، وصالح، وعائشة بنو سعد.
مات بقصره في العقيق على عشرة أميال من المدينة، وحمل على رقاب الرجال لى المدينة سنة خمس وخمسين وهو ابن بضع وسبعين، فكان آخر العشرة وفاة.
أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو ـ رضي الله عنه ـ:
ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بنغالب، يلتقي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كعب بن لؤي.
أمه: فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خويلد، من بني مليح، من خزاعة، وهو ابن عم عمر بن الخطاب، وتزوج أخته أم جميل بنت الخطاب.
أسلم قديمًا، ولم يشهد بدرًا.(2/238)
وله من الولد:
عبد الله: وكان شاعرًا، وقال الزبير بن بكار: (وولده قليل، وليس بالمدينة منهم).
وتوفي سعيد بن زيد سنة إحدى وخمسين، وسنه بضع وسبعون سنة.
أبو محمد عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف ـ رضي الله عنه ـ:
ابن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب، يلتقي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كلاب ابن مرة.
وأمه: الشفاء، وقيل: العنقاء بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة، وكانت مهاجرة.
أسلم قديمًا، وشهد بدرًا، والمشاهد كلها مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وصح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى وراءه في غزوة تبوك.
ومن ولده:
سالم الأكبر: مات قبل الإسلام.
وأم القاسم: ولدت في الجاهلية.
ومحمد : وبه كان يكنى، ولد في الإسلام.
وإبراهيم، وحميد، وإسماعيل: أمهم أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، من المهاجرات المبايعات وكل ولد عبد الرحمن منها، قد روي عنهم الحديث.
وعروة بن عبد الرحمن قتل بأفريقية وأمه: نحيرة بنت هانئ بن قبيصة ابن مسعود بن شعبان.
وسالم الأصغر: قتل بأفريقية، وأمه: سهلة بنت سهيل بن عمرو، وهو أخو محمد ابن أبي حذيفة بن عتبة لأمه.
وعبد الله الأكبر: قتل بأفريقية، وأمه من بني عبد الأشهل.
وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو سلمة الفقيه، وهو عبد الله الأصغر، وأمه: تماضر بنت الأصبغ الكلبية، وهي أول كلبية نكحها قرشي.
وعبد الرحمن بن عبد الرحمن، ومصعب بن عبد الرحمن، وكان على شرطة مروان بن الحكم بالمدينة.
مات بالمدينة، ودفن بالبقيع سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان بن عفان، وصلى عليه عثمان، وسنه اثنان وسبعون.
أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح ـ رضي الله عنه ـ :
ابن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك.
وأمه: أم غنم بنت جابر بن عبد العزى بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث ابن فهر.
وقيل: أميمة بنت غنم بن جابر بن عبد العزى، يلتقي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في فهر ابن مالك.
أسلم قديمًا قبل دخول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دار الأرقم، وشهد بدرًا والمشاهد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ونزع يوم أحد الحلقتين اللتين دخلتا في وجه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المغفر، وانتزعت ثنيتاه، فحسنتا فاه. فقيل: ما رئي هتم قط أحسن من هتم أبي عبيدة.
وكان له من الولد:
يزيد، وعمير: وقد انقرض ولد أبي عبيدة فلم يعقب.
ومات بطاعون عمواس سنة ثمان عشرة، وقبره بغور بيسان بقرية عمتا، وهو ابن ثمان وخمسين، وصلى عليه معاذ بن جبل. وقد قيل: عمرو ابن العاص.
وقد قتل أبو عبيدة أباه يوم بدر كافرًا، وفيه أنزل الله – عز وجل -: ? لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ـ رضي الله عنه ـمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ ? [المجادلة: 22] .
________________________________________
(1) الأصوب ألا يميز أحد من الصحابة بمثل قولهم عليه السلام ونحو ذلك وإن كان ذلك جائزًا في الأصل، وبكل حال فألفاظ الصلاة والترضي والترحم ونحوها مما قد يتصرف فيه بعض النساخ فتنبه. [المحقق: الشيخ: خالد الشايع].
(2) كذا في "دلائل النبوة" لأبي نعيم، وفي الأصل لكنت المصطفى.
(3) هذه العبارة مجملة، وفيها عموم، ولو اقتصر على قوله: (آتاه الله من العلم ما لم يؤت أحدًا من العالمين). أو نحوًا من ذلك لكان أحسن؛ فإن من علم الأولين والآخرين ما لا يعلمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بل ومن الأمور التي كانت في زمانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ودلائل هذا واضحة بحمد الله، منها: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل عن الروح، فأوحى الله إليه: ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ? الآية: [الإسراء: 85]. وسئل عن أهل الكهف فقال: أخبركم غدًا، فتأخر الوحي عنه، فحزن لذلك، ثم أوحي إليه نبؤهم، وقوله تعالى: ? وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ ? [الكهف: 23 – 24]. وسئل عن الساعة فنفى علمه بها بقوله: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" ، وقال تعالى: ?يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ ? [الأحزاب: 63] .(2/239)
وفي قصة شرع التيمم في: "صحيح البخاري" (334) لما بحثوا عن عقد عائشة، ولم يجدوه والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معهم، ثم علموا أنه تحت البعير لما قام، وبالجملة فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يعلم إلا ما علمه الله، مع ما آتاه الله من العلم، والحكمة، ومزيد الفضل، والشرف، ما لم يؤت أحدًا من العالمين؛ صلوات الله عليه وسلامه إلى يوم الدين، ولعل هذا هو مراد المؤلف بتلك العبارة؛ ولكن نبهت إليه لأن في العبارة إجمالاً، ولظن بعض الجهلة من الناس أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم من الغيب ما لم يعلمه الله. [المحقق الشيخ: خالد الشايع].
(4) ما بين معقوفين من "سنن الترمذي"، والسياق يقتضيها لأن هذه الواقعة لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ [المحقق: الشيخ: خالد الشايع].
---------------
56.المنهج النبوي في التعامل مع النساء
د.محمد علي الغامدي
لقد أمر الله تعالى بأن يُعاشر النساء بالمعروف فقال جل ذكره: (وعاشروهن بالمعروف)، والمعروف كلمة جامعة لكل فعل وقول وخلق نبيل يقول الحافظ بن كثير رحمه الله في التفسير: أي طيبوا أقوالكم لهن وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله كما قال تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر يداعب أهله ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته ويضاحك نساءه''.
لقد كان عليه الصلاة والسلام القدوة الحسنة لأمته، والنموذج البشري الكامل قال جلّ ذكره: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، والحديث عن هديه عليه الصلاة والسلام مع النساء حديث طويل متشعب ولا غرو فقد أوضح لأمته: (أنهن شقائق الرجال)، ولعلي أقصر حديثي عن هديه الشريف مع نسائه، أو بعبارة أخرى: كيف عاش عليه الصلاة والسلام زوجًا؟ وكيف تعامل مع نسائه؟ وكيف راعى نفسياتهن؟ وما هي وصاياه وإرشاداته للرجال بضرورة رعاية حقهن زوجات، وأمهات لأولادهم؟ وحسبي أن أسوق بعض الأحاديث دون شرح أو تعليق فهي كافية في إيضاح المراد مكتفيا بالإشارة إلى بعض ما تدل عليه تلك الأحاديث الشريفة:
* فقد أوصى بهن خيرًا في نصوص كثيرة: منها حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة)، وحديث أبي ذر عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة خلقت من ضلع فإن أقمتها كسرتها فدارها تعش بها). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خيارهم لنسائهم) وفي لفظ (وألطفهم بأهله).
وعن بهز قال حدثني أبي عن جدي قال قلت يا رسول الله نساؤنا ما نأتي منها و ما ندع؟ قال: (حرثك أنى شئت غير أن لا تقبح الوجه ولا تضرب وأطعمها إذا طعمت واكسها إذا اكتسيت ولا تهجرها إلا في بيتها كيف وقد أفضى بعضكم إلى بعض إلا بما حل عليها).
* وخوّف ورهّب من تزوج بأكثر من واحدة ثم لم يعدل بينهن: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل).
* وأرشد بفعاله ومقاله إلى أهمية مراعاة ما طبعن عليه من الغيرة: عن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم عند إحدى أمهات المؤمنين فأرسلت أخرى بقصعة فيها طعام فضربت يد الرسول فسقطت القصعة فانكسرت فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل يجمع فيها الطعام ويقول غارت أمكم كلوا فأكلوا فأمر حتى جاءت بقصعتها التي في بيتها فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وترك المكسورة في بيت التي كسرتها)، وعن عائشة قالت: (افتقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه فتحسست ثم رجعت فإذا هو راكع أو ساجد يقول سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت فقلت بأبي وأمي إنك لفي شأن وإني لفي آخر)، وقالت أيضاً: ( التمست رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخلت يدي في شعره فقال قد جاءك شيطانك فقلت أما لك شيطان؟ قال: بلى، ولكن الله أعانني عليه فأسلم).
* وكان وفيا لبعض نسائه غاية الوفاء حتى بعد وفاتهن: فعن عائشة قالت: (ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لها قالت وتزوجني بعدها بثلاث سنين).(2/240)
* كما كان عليه الصلاة والسلام يتيح لهن أن ينفذن شيئًا من غيرتهن بحيث لا يتجاوزن الحد المشروع، ويضفي على سلوكهن ذلك المرح والابتسامة: فعن أبي سلمة قال: قالت عائشة: ''زارتنا سودة يوما فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينها إحدى رجليه في حجري والأخرى في حجرها فعملت لها حريرة أو قال خزيرة فقلت كلي فأبت فقلت لتأكلي أو لألطخن وجهك فأبت فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهها فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله من حجرها تستقيد مني فأخذت من القصعة شيئا فلطخت به وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فإذا عمر يقول: يا عبد الله بن عمر يا عبد الله بن عمر فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ''قوما فاغسلا وجوهكما فلا أحسب عمر إلا داخلا''.
* بل إنه عليه الصلاة والسلام بيّن لأمته أن اللهو واللعب مع الزوجة مما يثاب عليه الرجل ، بل لا يعد من اللهو أصلاً: ففي حديث عطاء بن أبي رباح قال: رأيت جابر بن عبد الله وجابر بن عمير الأنصاريين يرميان فمل أحدهما فجلس فقال الآخر كسلت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل شيء ليس من ذكر الله فهو لغو ولهو إلا أربعة خصال مشي بين الغرضين وتأديبه فرسه وملاعبته أهله وتعليم السباحة).
* وكان يراعي فيهن حالهن والسن التي كان عليها بعضهن: فعن عائشة قالت: (كنت ألعب بالبنات فربما دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصواحباتي عندي فإذا رأين رسول الله صلى الله عليه وسلم فررن فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أنت وكما أنتن).
* وكان إذا بدر منهن شيء يسوؤه لم يكن يقابله إلا بالحكمة واللطف: فعن أنس بن مالك قال كانت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكان ذلك يومها فأبطت في المسير فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي وتقول حملتني على بعير بطيء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بيديه عينيها ويسكتها فأبت إلا بكاء فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركها فقدمت فأتت عائشة فقالت يومي هذا لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أنت أرضيتيه عني فعمدت عائشة إلى خمارها وكانت صبغته بورس وزعفران فنضحته بشيء من ماء ثم جاءت حتى قعدت عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك؟, فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث فرضي عن صفية وانطلق إلى زينب فقال لها: إن صفية قد أعيا بها بعيرها فما عليك أن تعطيها بعيرك, قالت زينب أتعمد إلى بعيري فتعطيه اليهودية, فهاجرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشهر فلم يقرب بيتها وعطلت زينب نفسها وعطلت بيتها وعمدت إلى السرير فأسندته إلى مؤخر البيت وأيست أن يأتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هي ذات يوم إذا بوجس رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل البيت فوضع السرير موضعه فقالت زينب: يا رسول الله جاريتي فلانة قد طهرت من حيضتها اليوم هي لك فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها).
0000000000
* عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين بجدة.
---------------
57.إيماض البرق في خلق سيد الخلق صلى وسلم عليه الحق
فضيلة الشيخ علي بن عبد الخالق القرني
الحمد لله الذي قد أنزلا كتابه وللرسول أرسلا..
اللهم لك الحمد حمداً يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك..
ولك الحمد زنة عرشك وعدد خلقك ورضا نفسك ومداد كلماتك..
لا تشكر نعمتك إلا بنعمتك.. ولا تنال كرامتك إلا برحمتك..
أنت أهل الثناء والمجد ** فامنن بجميل من الثناء المواتي
يا محب الثناء والمدح إني ** من حيائي خواطري في شتاتي
حمدنا وثنائنا ليس إلا **هبة منك يا عظيم الهبات
لو نظمنا قلائد من جمان ** ومعان خلابة بالمئات
لو برينا الأشجار أقلام شكر ** بمداد من دجلة والفرات
لو نقشنا ثنائنا من دمانا ** أو بذلنا أرواحنا الغاليات
أو وصلنا نهارنا بدجانا ** في صلاة وألسن ذاكرات
أو قطعنا مفاوز من لهيب ** ومشينا بأرجل حافيات
أو بكينا دما وفاضت عيون ** بلهيب المدامع الحارقات
ما أبنا عن همسة من معاني ** في حنايا نفوسنا ماكينات
أي شيء أبقى وأنقى وأرقى ** من حروف بمدحكم مترعات(2/241)
فالق الحب والنوى جل شائنا.. لم يزل مرغما أنوف الطغاة.. الولي المتين ما خاب ظن لنفوس في فضله طامعات.. الحمد لك لا ند لك.. والملك لك من عالم الذر الخفي إلى الفلك.. ما عام أو ما طار فيه أو سلك.. ما كان من إنس وجن أو ملك.. إلا وقد شهدوا بأن الملك لك.. الحمد لله على توفيقه ومنه وفضله وجوده.. وصلوات الله والسلام ما ناح طير الأيك والحمام.. على النبي المصطفى البشير الهاشمي المجتبى النذير وآله.. ما انبلج الصباح وصحبه ما هبت الرياح.. بذكر الله ترتاح القلوب.. ودنيانا بذكراه تطيب.. من شاء في ظل السعادة هجعته.. فهنا تشاد صروحها وتقام.. أورام نسيان الهموم فهاهنا.. تنسى الهموم وتنسخ الألأم.. سبحان من لا هدي إلا هديه.. نفنى ويبقى الواحد العلام..
أي فلذات الأكباد وثمرات الفؤاد.. فتيان الحمى وجنود الهدى.. معاقد الأمل ورجال العمل.. قادة السفينة في موج كالجبال.. وليل خافت الذبال.. حداة القافلة في خضم العواصف الهوج والملتويات العوج..
نظر الله هذه الوجوه التي أحسبها في الخير قد رقت أندائها.. وتجاوبت أصدائها.. وغردت أطيارها.. وتنفست أزهارها.. وفاح أريج أصائلها وأسحارها.. فالسعد والإيمان في بسماتها.. والورد والريحان من نسماتها.. في هذه الليلة الغراء.. التي لا أرى فيها إلا المغوار وأب المغوار.. والرجال وأبناء الرجال وأحفاد الرجال..
أحييكم بتحية الإسلام تحية ظامئ لريكم ورياكم.. ومتطلع لسهيلكم وثرياكم.. تحية الأبوة للبنوة.. والشيخوخة للفتوة.. والقرابة للأخوة.. فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. تصافح مواطن الإحساس من نفوسكم.. وتخالط معاقد الإيمان من قلوبكم.. وتحرك أوتار الحمية في صدوركم.. سائلين لكم التأييد من ذي العرش المجيد.. وزيادة في النعيم.. وسيادة تدفع إلى حرم العز من ثنية التنعيم..
أهلا بني طه ونون والضحى.. وبني تبارك والكتاب المحكم.. وبني الأباطح والمشاعر والصفا.. والركن والبيت العتيق وزمزم..
حياكم الله وأحياكم للأمة.. ترفعون منارها.. وتورون نارها.. وتقومون منئآدها.. وتصلحون فسادها.. وتنفقون كسادها.. وتحسنون تهيئتها وإعدادها.. فتملكون قيادها.. وتستنشقون رندها وعرارها وشيحها وقيصومها وريحانها..
جمع الهداية قد شرفت منزلا ** قدر المنازل عن سناها نازل
كم سرت فيها نحو ربعك منشدا ** لك يا منازل في القلوب منازل
معشر الإخوة...... غير خاف على الغبي والنبيه.. والحليم والسفيه.. أننا نعيش مرحلة حرجة لم يسبق لها مثال.. الأمة كثير فيما يعد العادون لكنهم مع هذا العدد مبددون..
مدوا يدا لغريب بات يقطعها ** وكان يلثمها لو أنه لطما
أسراهم في سجون البغي ما عرفوا ** لون الحياة وقتلاهم بلا قودي
بنوا اللقيطة داسوا حرمة الصحف ** واستأسد الغي حين استنوق الرشدوا
يهان كتاب الله في حملة إذلال منظمة.. فلا تنشق مرارة ولا تثور حرارة.. فتتخذ مواقف تدل على الثأر للكرامة..
ماذا سيبقى من كرامة ديننا ** لما تداس وتستباح مصاحف
ردود أفعال هلاهيل..!! لا تتناسب مع فداحة المصيبة ومقدار الإهانة..!! فلم يجد أبرهة حتى من يقول: أنا رب الأسرى وللمصحف رب يحميه.. فوا ذلاه..!!!
في زمان الصقور صرنا حماما ** كيف يحيا مع الصقور الحماما؟
وقع السقف يا صناديد قومي ** أوى صاحون أنتم أم نياما
لا يهين الجموع إلا رضاها ** رضي الناس بالهوان فهانوا
ولا عجب إذا أرخصت نفسك عند ** قوم فلا تغضب عليهم إن أساءوا
لو كنت من هاشم لم تستبح صحفي ** بنوا اللقيطة من قرد ابن نصرانيا
أمة تداعى عليها الأعداء.. فإذا هي في عمومها غثاء لا منفعة ولا غناء.. في اضطراب واحتراب.. السرائر منها بليت.. والصحائف نشرت.. والدفائن نبشت..
فهي والأحداث تستهدفها ** تعشق اللهو وتعشق الطربَ
تساق إلى الذبح خاضعة ** وترفع للذابحين الذنبَ
تتلمس الهداية من مطالع الظلال.. وتطلب الشفاء بأسباب المرض العضال.. تبحث عن الدليل وهو معها وحي من ربها.. يراد لها ومنها أن تفزع إلى عدوها.. تتعادى لإرضائه.. !! وتتمادى بإغوائه..!! تتنازل عن عقلها لعقله وإن كان مأفونا..!! وعن فكرها لفكره وإن كان مجنونا..!! يراد لها أن تلقح فضائلها برذائله..!! وتهزأ بماضيها افتتانا بحاضره..!! وتسخر من رجالها إعجابا برجاله..!! وتنسى تاريخها لتحفظ تاريخه..!! وتحتقر لسانها احتراما للسانه..!! وتحت ضغط ما يراد لها تضاءلت فيها السوابق.. وتصاهلت عرج الحمير.. وترجل الجنس اللطيف.. مخلفا فينا شبابا للأنوثة ينتمي.. ونطق الرويبضة والتافه.. وأشار بالرأي البليد للذكا.. وتؤم أشباه الرجال نسائها.. خابت ذكور إذ تأمهم نساء.. ووئدت الأخلاق بأيدي نساء بلحى.. من كل ذي وجه لو الناصفاته تندى لكان من الفضيحة يقطر..
بئس المناخ لقد حسبت هوائه ** دنسا وأن بحاره لا تطهر(2/242)
كل ذلك عبر شبكات وقنوات وصحف ومجلات.. نظَّرَ لها المفسدون.. واستحوذ عليها المستهترون.. لو اطلعت عليها لوليت منها فرارا ولمئت منها رعبًا.. ولازالوا يخصفون عليها زخرف القول غرورا.. واتخذوا معها القرآن مهجورا.. تنفث السموم وتحمل النفاق والتدجيل.. فإذا الحق باطل والأباطيل حقوق والإفك أثوم قيلا.. شعاراها من ذا يعيب هز البطون.. وذاك من روائع الفنون.. الدين أن تبدوا ظريفا مرنا.. وإن عبدت نعجة أو وثنا..
ما الدين بالعفاف والصلاة ** الدين خذ فيه خفة وهات
فيها أعذب مطرب هو الحمار.. وشر مزعج هو الهزار.. وأشجع الشجعان ذاك الأرنب.. والليث رمز الجبن لا تعجب.. دنيا الإعلام تقليب الحقائق.. وتظهر العلقم حلو الرائق.. فأفرزت لنا جيلا غالبه مظلم الروح.. بليد الذهن.. ضعيف الإرادة.. يترنح كالذي يتخبطه الشيطان من المس.. سقط متاع لا يباع ولا يبتاع.. دوٍ كحال الطبل.. ما في جوفه شيء.. ولكن للمسامع يشغل.. هبل إذا اجتمعوا صاحوا.. كأنهم ثعالب ظبحت بين النواويس.. رؤاهم أهدافهم ما عرضت إلا رأيت عجبا.. ترى ناسا يتمنون العمى.. وآخرين يحمدون الصمم..!!
معشر الأخوة..... إن بلائنا ليس في هجمة عدونا فحسب.. بل إن من بلائنا فئة من بني جلدتنا.. هي بمثابة بوق عدونا..!! لا دور لها سوى ترديد كلامه لكن بصوت أعلى..!! آله صماء يديروها على ما شاء..!! ويريدها على ما شاء..!! يحركها للفتنة فتتحرك.. لتغطي الشمس بغربال.. وتطاول العماليق بالتنبال..!! يدعوها لتفريق الصفوف فتستجيب وتجيد التخريب..!! يريدها حمى تنهك فتكون طاعون يُهلك..!! يريدها لسانا فتكون لساناً وعيناً وأذناً ويداً ورجلاً ومقراضاً للقطع وفأساً للقلع ومعولاً للصدع..!! ما يشاء العدو إخماد حركة إلا كانت على يديها الهلكة..!! قد تهيأت فيها أدوات الفتنة.. فجنسها وفردها غبي العين عن طلب المعالي.. وفي السوءات شيطان مريد..!! بينه وبين أمته إدغام بغير غنة..!! كما تدغم اللام في اللام فلا يظهر إلا المتحرك..!! طويل اليد اليسرى وأما يمينه فليس لها في المكرمات بنان..!! يهدم الأمة ويدعي إنهاضها..!!
يا من حملت الفأس تهدمها على أنقاضها ** أقعد فما أنت الذي يسعى إلى إنهاضها
كم قلت أمراض البلاد ** وأنت من أمراضها
وتحت وطأة تداعي الأعداء.. خرج مدافعون عن الإسلام بمنطق الضعفاء العجزة.. يتمسكون بالقشة لينفوا عنهم التهمة.. فلا الإسلام نصروا..!! ولا لأعدائه كسروا..!! فضروا وما نفعوا..!! بل سوغوا وميعوا وخلطوا البعر بالدر الثمين..!! فلم يميز بين غث وسمين..!! فجاءوا بالكفن في ثياب العرس..!! وعرضوا النوائح في مواكب الفرح..!! فصارت الأمة في عمومها تمثالا.. لا يؤوي بل يغري.. وسراب يخدعوا ولا يروي..(وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)..(قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ).. إن أمة تتزحزح عن دينها مقدار شعرة.. تنأى عن مراق الفلاح والعزة سبعين ذراعا..!! ومع هذا كله فهي أمة مرحومة.. لا تزال فيها طائفة على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة.. فما زال في الكرخ زند يوري بالمرخ نلمح شعلته.. وما زلنا نرى من السنان صفحته..
لا تقل ذلت فما يصدق ** أن يستذل الفار ليث الأجمي
ما غفا طرفي ** ولا قلبي سها
لم أزل ألمح في روضتنا ** وجنة الورد وأهداب المها
لم أزل أحمل في ذاكرتي ** صورة النجم الذي فوق السها
والناس مثل الأرض منها بقعة ** تلقي بها خبثا وأخرى مسجد
لهذا كله كانت هذه الكلمات بعنوان:
((إيماض البرق في خلق سيد الخلق صلى وسلم عليه الحق))
خفق القلب له لما ومض ** بارق شب الجوى لما برق
خلته من بين أسداف الدجى ** أملا من بعد يأس قد برق
إيماض يقول: إن المعركة مع أعداء الله ليست معركة خاطفة سريعة..!! لكنها شاقة طويلة مستمرة..!!(وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ).. نحتاج معها إلى طول نفس.. وشدة صبر.. وعمق إيمان.. ورسوخ يقين.. وبذل جهد.. وتظافر جهود.. لاستنقاذ الغثاء من دوامة السيل.. فالسيل فيه غرق وويل.. ورسولنا صلى الله عليه وسلم في ذلك أسوة.. فإن لم نجعل الإنقاذ نهجا.. فسوف تضيق بالدمع المآقي..!!
إيماض يقول: لئن تخلينا اليوم عن كل وسائل الانتصار المادية.. فقد بقي في أيدينا سلاح من أنضى الأسلحة.. لا يقوم له شيء(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ).. والله ما هي إلا نفحة من نفحاته.. تهب على هذا القطيع المبدد.. فإذا قلوبهم مجتمعة.. ونوافرهم متآلفة.. وأخلاقهم شاما..
كلمات رب العالمين بها ** سما عقل وفيها للظلام كواشف
إيماض يقول: زمزم فينا ولكن أين من يقنع الدنيا بجدوى زمزم..؟؟!!
إيماض يقول: إن الدعوة إلى الله بأخلاق الإسلام.. روح تجري.. ونفحة تسري.. حقيقة جذابة.. ليس بين النفوس وبين الإذعان لها إلا إشراقها عليها..
ولولاها لساوى الليث ذئبا ** وساوى الصارم الماضي قرابا(2/243)
يشهد بذلك العقل والنقل والقريب والغريب والموالي والمعادي.. يذكر الأستاذ النجار أن أحد عقلاء الغرب وقف يخاطب جمعاً من المسلمين يقول: يا أيها المسلمون إنكم لن تستطيعوا أن تسايروا الغرب اليوم.. لا اقتصاديا ولا عسكريا ولا سياسيا ولا إعلاميا..!! ولكنكم تستطيعون هذا الغرب المتكبر المتغطرس المستعلي يجثوا على ركبهم أمامكم بالإسلام..!! ثم يقول إيتوني بأربعين شاباً يحسنون فهم هذا الدين فهما دقيقا.. ويحسنون تطبيقه على أنفسهم تطبيق دقيقاً.. ويحسنون عرضه على الناس بلغة العصر عرضا دقيقاً.. وأنا أظمن لكم أن أفتح بهم الأمريكيتين الشمالية والجنوبية..!!
حاله:
ولسوف تشرق شمسكم بسمائهم ** يوماً وليست بعد ذلك تغرب
والتاريخ أثبت أن انتشار الإسلام في بقاع من آسيا ورقاع من أفريقيا.. لم يكن بجيوش ولا حشود.. بل بأخلاق الإسلام التي كان يتعامل بها معهم تجار الإسلام..!!
ليس بعد اليقين يا عين شك ** أكد الفعل ما حواه الكلام
إيماض يقول: أننا نعيش أزمة أخلاق وإننا أمة الأخلاق.. وإنما الأمم الأخلاق..
إذا الأخلاق قد ولى ذووها ** فقل يا موت مر بنا سريعا
إيماض يقول: ألا ما أحوج الأمة الغافلة المنقطعة عن القافلة.. إلى صور مثالية عليا لأخلاق فاضلة.. وليس ذلك إلا في أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاكيا..
سل الشيح عنها والخزامى ورندها ** وطيب مغانيها وصفو الجداول
فالورد والريحان عرف عبيرها ** والمسك كدرة ماءها والعنبر
إيماض يقول: والله وبالله وتالله.. لا نعرف أحداً كمله الله بكل فضيلة ونزهه عن كل رذيلة.. مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم..!!
فلن ترى في وصفه مثيلا ** مستوجب ثنائي الجميلا
فهو ختام الرسل باتفاق ** وأفضل الخلق على الإطلاق
ما فضيلة إلا وهي صفته إتمام مكارم الأخلاق من مهمة بعثته.. سئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلقه. فقالت تنثر الدر عبقريا عجيبا ** ليس من مسقط ولا من عمان
قالت: " كان خلقه القرآن ".. ما خُلق سني دعا القرآن له.. إلا كان أول عامل به وداع إليه.. وما خُلق سيء حذر منه القرآن.. إلا كان أول مجتنب له ومحذر منه..
وحاله(وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)..
في وجهه قسمات قد دللن على** ما ضمه القلب من أخلاق قرآن
إيماض يقول:(وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)..
فكن في إتباع المصطفى مثل عصبة ** وراء خبير في ملغم بقعة
فمن ينحرف يردى ومن يتبع يفز ** وبين الردى والفوز زح بخطوة
فلزم صفاته وإياك الملل ** إن يستطل الوصف ولم يستطل
اجعله نصب العين والقلب ولا ** تعدل به فهو يضاهي المثلَ
إيماض فحواه:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ).. صلاح القدوة صلاح الأتباع.. وإن صلحت العين صلح سواقيها.. وإن رشد المربي كان موسى.. وإن هو ضل كان السامري..
إنه إيماض برق يكاد يخطف بصر زنيم.. ليس يعرف من أبوه.. نبطي من زجاج مظلم.. نسبة لا يعرف إلا بالسراج.. من أسخن الله عينه وأدنى هلاكه وحينا.. فكشف عن لكنته.. وصرح بسوءته.. يتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ويطعن في رسالته وفي خلقه.. بل وفي نسبه.. ويا لله..
يريد بقوله تدنيس شمس ** وأين الشمس من دنس وعار
ضريبان سلاحه الفسا.. نعوذ بالله وبالله نعوذ.. قد جف من ماء الكرامة وجهه.. لكنه واقحة ولؤم ينقط.. لو أن صاعقة هوت.. ما أثرت في وجه الوقح العديم الماء.. لا تعجبن إذا امتحنت بسخفه.. فالحر ممتحن بأولاد الزنا..!! إنه شواظ يقول:
أرعد وأبرق يا سخيف فما ** على آساد غيل من نباح جراء
أخسأ رقيع فليس كفؤك غير ** ما يجري من الأعفاج والأمعاء
لو ذات سوار لطمتني.. والضرورة دعتني.. ولولا الضرورة لم آته.. وعند الضرورات آتي الكنيف!!
آلا أرغم الله معطسك من شآن.. مغالط أنتن من حلتيت.. وأثقل من كبريت.. وأهدى إلى الظلال من خريت.. وعريت وهريت.. وقطعت وفريت.. وأحرقت وذريت.. وأذبت وأجريت.. أَغريت أم أُغريت.. وضريت أم ضريت.. وتطوعت أم كريت.. ألا خبت.. لو ضربت الجبل بالزجاج ألف ضربة ما انكسر..!! ولو سترت الصبح بكل شيء ما أنستر..!! إنه خيار من خيار من خيار زكاه الله وكفاه.. زكى استقامته(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى).. ونطقه(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى).. وعلمه(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى).. وفؤاده(مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى).. وبصره(مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى).. وصدره وذكره(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ).. وخُلقه(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).. وزكاه كله(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)..
فإذا كتاب الله أثنى مفصحا ** كان القصور قصارى كل فصيح
وأين دوي الذباب والزنبور من نغم الفرقان والزبور..
فما على البدر أن قالوا به كلف ** ولا على المسك أن المسك مفتوت
وطالما أخلي الياقوت جمر غضا ** ثم انطفى الجمر والياقوت ياقوت(2/244)
ومن العجائب والعجائب جمة أن تسخر القرعاء بالفرعاء..!!
والشمس لا تخفى محاسنها وإن غطى عليها برقع الأنواء..
لكن أنى يرى الشمس خفاش يلاحظها ** والشمس تبهر أبصار الخفافيش
إيماض يقول: إن رسول الله عليه وسلم مثلٌ أعلى.. لأقصى ما يبلغه البشر من مراق الكمال.. وغاية تنقطع دونها الآمال.. يقول الصديق من رجح إيمانه بإيمان الأمة: أما كلفتموني أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والله ما ذاك عندي ولا عند أحد من الناس.. والله ما في طاقة متحدث ولو ألقت إليه البلاغة أعنتها.. أن يتقصى أخلاقه ويستوربها.. لكنها تتحدث عن نفسها..
فالمسك ما قد شف عن ** ذاته لا ما غدا ينعته بائعه
فحسبي وحسبكم أن نُنيخَ ركائبنا على ساحل بحر مسك أخلاقه.. لنظفر منه الليلة بدرة.. وعلى روض ريحان خلاله.. لنشتم منها نفحه.. فيكون العنوان:
((إيماض البرق في شجاعة سيد الخلق))
وأنا على يقين أني لن أبلغ.. من تأمل هذا الخُلق.. في هذه الدقائق.. إلا مقدار ما يبلغه واصف الشمس وهو لا يعرف منها إلا أنها كوكب ينسخ طلوعه سواد الليل..!!
ماذا عسى بلغاء اليوم قائلة ** من بعد ما نطقت حم تنزيل
موضع النجم لا ينال بباع لا تقسه بغيره في جناس.. سبع الغاب ليس مثل السباع.. ما عسى أجمله من ورق العرار إلى العبير والعنبر.. في خير من حملت أنثى ووضعت.. وخير حاف على الدنيا ومنتعل.. إن هي إلا دماجيل للعضد.. وقلائد للجيد.. عجزت فيها عن أداء الواجب.. وأحاول الجبر بالمسنون.. وفضل الله على من يشاء ليس بممنوع ولا ممنون.. وكلن ينفق على قدر استطاعته.. وهو ابن ساعته.. من لم يقل له ربي أعيت عليه مطالبه.. أسألك اللهم أن تجعلها لوجهك الأعلى وأن تقبلها.. أقول والله تعالى المستعان ومن بغيره استعان لا يعان..
شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شجاعته..؟! تناقلتها الأخبار.. وسارت مسير الشمس في رائعة النهار.. حدث عنها لا حرج.. بمكان لا يجهل.. ومنزلة لا تدفع.. تناقلها الرواة بكل فج.. وأهدتها الحواضر للبوادي.. وحسبه أنه نبي.. وأنه أبو الشجعان وصانعهم.. على عينيه ملك الشجاعة فهي طوع زمامه.. ولغيره جمحت وليست تركب.. والذي رفع السماء وعلم آدم الأسماء.. ما شهدت الغبراء أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولا أثبت منه قلبا.. كان طودا لا يتزعزع.. شامخا لا يتزلزل.. لا ترهبه الأزمات.. ولا تهزه الحوادث والملمات..
تروى أحاديث الوغى عن بأسه ** فالسيف يسند والعوالي تطلق
وما رآه فارس إلا استتر ** في فعل النجوم عاين القمر
وحسبه أنه نبي..... كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس حين خرج على قومه بدعوة ينكرونها جميعا.. وليس له من معين سوى ربه.. فصدع بها في جميع الأماكن والأزمان والأحوال.. فوق الجبل وفي المسجد وفي الطريق والسوق.. في المنازل والمواسم والحواضر والبوادي حتى في المقابر.. في الحضر والسفر والأمن والقتال والصحة والمرض.. وحين يزور وحين يزار.. دعا من أحبوه ومن أبغضوه.. ومن استمعوا له ومن أعرضوا عنه.. خطيبه يقارع الخطباء.. وشاعره ينازل الشعراء.. دعاته يجوبون الآفاق.. في استنفار دعوي لم تملك قريش أمامه إلا أن تقول: لا تسمعوا لهذا القران والغوا فيه لعلكم تغلبون..!!
بذل كل وسعه.. واستخدم كل أسلوب ووسيلة مشروعة.. في حلم وأناة وهدوء.. قذف بالحق على الباطل.. فأزاح العلل وسد الخلل.. وقال ما يرضي الله وإن أغضب البشر.. فذهب الزبد جفاء وطاعنا حتى لم يجد من مطاعن.. ونازل حتى لم يجد من منازل.. وبقي صلى الله عليه وسلم قدوة.. يصبوا إليها كل من عرف الحق.. وبالحق يدين مثلا.. أعلى لنفس جمعت.. سطوة العادل في أنس الحليم.. فهو الحياء ما حل في بلد إلا بإذن الله أحياه.. وحسبه أنه نبي..........
كان أشجع الناس.. حين قوطع وحوصر مع بني هاشم في شعب لسنوات بلا ميرة.. حتى اضطروا لأكل ورق الشجر.. وسمع صوت الصبية يتضائون من شد الجوع.. فصبر وما وهن وما ضعف وما استكان.. حتى انتصر وسقطت المقاطعة.. وأحق الله الحق وأبطل الباطل.. وكذلك الحق لا يتغير أصله وسوسه.. وإن تغير لبوسه..
ففي المعادن ما تمضي برونقه ** يد الصباغر لا يصدأ الذهب
والصخر في ظل العقيدة عسجد والآل في ظل العقيد ماء.. والعز في كنف العزيز ومن عبد العبيد أذله الله..
وحسبه انه نبي........ كان صلى الله عليه وسلم شجاعا أشجع من الشجاعة.. وأشد في الحق من الشدة..
ماضي العزيمة والسيوف كليلة ** طلق المحيا والخطوب دواجي(2/245)
سعى كفار قريش إلى عمه أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن لك فينا سنا ومنزلة وشرفا.. وإنا قد إستنهيناك في ابن أخيك فلم تنه عنا.. وإنا والله لا نصبر على ذلك.. فإما أن تكفه عنا أو ننازلك وإياه حتى يهلك أحد الفريقين ثم انصرفوا.. فعظم عليه فراق قومه ولم يطب نفسا بإسلام ابن أخيه لهم وخذلانه.. فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي أبقي علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر مالا أطيق.. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خاذله.. فحلق وحدق ببصره إلى السماء.. ووقفت الدنيا مشدودة السمع لما تفتر عنه شفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وأصاخ الكون وأنصت التاريخ لكلمة التي يتوقف عليها مصير السعادة البشرية والحضارة الإنسانية.. فقال: أترون هذه الشمس .؟! قالوا: نعم .! ففي تصميم يفل الحديد.. وعزيمة لا تعرف الهزيمة.. وتحد يقهر الخصوم اللد.. وإصرار يقتحم البحر بجزره والمد.. قال كلمة صريحة لا يقبل معناها التأويل.. ببلاغة لو قست سحبانا بها ألفيته ذا منطق تمتامي.. قال: والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من إن يشعل أحدكم من هذه شمسي شعلة نار.. والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري.. على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.. ثم استعبر وبكى وولى.. كأنما أنفاسه حرجف.. وبين جنبيه لظى واقده.. لو مادت الأجبال من تحته.. أو خرت الأفلاك ما زعزع..!
يا لقوة الإيمان وجلال البطولة.. رجل يظن أنه تخلى عنه ناصره الوحيد من أهله.. ثم يقف هذا الموقف العظيم.. إنه ثبات النبوة..
إن يكن أعزل فالحق له سيف ولامه ** فهو في جيش من الإيمان ما فل لهامه
وقف أبو طالب مأخوذا بما سمع ورأى.. وهو في قرارة نفسه يقول: والله ما هذا إلا نبي كريم .. بلغ أسمى درجات الثقة بالله رب العالمين.. فلن ينكس على عقبيه لأنه يأوي إلى ركن شديد.. فما عليه وبين جنبيه دين.. لو أراد به صم الجبال لما قرت رواسيها.. ثم يناديه أقبل يا ابن أخي فأقبل صلى الله عليه وسلم فقال له: إذهب فقل ما أحببت والله لا أسلمك لشيء أبدا.. والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينًا.. حاله:
قم وأبلغ نوره للعلمين ** قم واسمعه البرايا أجمعين
إن تكون في مثل نيران الخليل ** أسمع النمرود توحيد الجليل
فلم يزل يجهر بالتوحيد ولا يخاف سطوة العبيد..! وحسبه أنه نبي صلى الله عليه وسلم.......
كان أشجع الناس صلى الله عليه وسلم.. عرضت عليه المغريات من مال وملك وشرف وجاه ونساء.. نظير أن يتنازل عن دعوته فأبى ذلك العرض وازدراه ورفضه..
متميزا كالليث ديس عرينه ** متوثبا يدعوا الرجال نزالي
لا تذكروا نار الصواعق عنده ** نار الصواعق عنده كذبالي
قال قائل قريش: يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيله.. قد كان محمد غلاما حدثا فيكم.. أصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة.. حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه قلتم ساحر كاهن شاعر مجنون.. والله ما هو بذلك فانظروا في شأنكم.. وما معهم إلا العناد وما بهم من العقل من الإنصاف مثقال درهم.. أجمعوا رأيهم على أن يفاوض ويغرى بالدنيا والنساء.. وهو القائل صلى الله عليه وسلم: " فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ".. انتدبوا لتلك المهمة أبا الوليد بن عتبة.. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد أنت خير أم هاشم؟! أنت خير أم عبد المطلب؟! أنت خير أم عبد الله؟! فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. لأنه يريد هدايته.. فمن الحكمة أن لا يدخل معه في معارك جانبيه تعيقه عن ذلك الهدف.. لقد كان بإمكانه صلى الله عليه وسلم أن يقول أنا أفضل وصدق.. فهو سيد ولد آدم أجمعين.. لكنه بذلك قد يضيع الفرصة الذهبية من هداية هذا الرجل.. وكان بإمكانه أن يثني على آباءه بما فيهم من صفات حميدة.. لكنه بذلك يتيح الفرصة أن يلزمه بما يترتب على ذلك من إتباع دينهم.. وقد فعل ولذا آثر بحكمته عدم الإجابة.. فالسؤال لا يستحق ذلك.. لأنه ليس في صميم الموضوع الذي عقد من أجله الحوار.. فهم عتبة ذلك فقال: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك.. فقد عبدوا الآلهة التي عبت.. وإن كنت تزعم أنك خير منهم.. فقل حتى نسمع قولك.. والله ما رئينا سخلة أشئم على قومه منك.. فرقت جماعتنا.. وعبت ديننا.. وفضحتنا.. والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى.. فيقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف.. فنقتتل حتى نتفانى.. وياله من عور عن الحقيقة..
لابد في العور من تيه ومن صلفا ** لأنهم يحسبون الناس أنصافا
من أين يدري الفضل معدومه ** لا يعرف المعروف إلا ذووه
تظن بعض القوم علامة ** وهو إذا ينطق بوم يفوه(2/246)
ثم ألقى عتبة حباله وعصيه.. إغراءات تغشى البصائر.. وتزيغ الأبصار.. بلغة مسمومة.. ما لامست مستشرفا لها.. إلا أهدته السم ونزعت منه الروح.. وأبقت الجسم.. وكم لعبت بهذا النغمات من نشاز أصابع من على أوتار.. فلم يبالي الصادقون بما وقع منها وطار.. قال: يا محمد إن كان إن ما بك المال جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا.. وإن كنت تريد شرفا سودناك فلا نقطع أمرا دونك.. وإن كنت تريد ملكا ملكناك.. وإن كان شيئا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب حتى نبرئك.. وإن كان إن ما بك النسا فاختر من أجمل نساء قريش عشرًا.. يا محمد قل نسمع..
فلوا كان الحديد للينوه ** ولكن كان أشد من الحديد
في حلم ورحابة صدر.. أعرض عن كرهات عتبة وأغضى عن سبابه.. وقال في أدب النبوة يكنيه: أفرغت يا أبا الوليد..؟ قال: نعم..! فأعلن موقفه الحاسم بشجاعة نادرة.. دون مراوغة أو مداهنة أو استعطاف أو استلطاف.. لأن قضيته قضية عقيدة تقوم على الصراحة والبيان فلا تنازل ولا إدهان..
كالكوكب الدري تلقاه ** العز بين يديه والجاه
والأرض في عينيه خردله ** وعلى عبيد الأرض نعلاه
قذف باطلهم بأوائل فصلت .. فالشمس منها سطعت وحسمت.. ورفعت الحجاب.. وأثارت الإعجاب.. ومحت السلب بالإيجاب..(حم{1} تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{2} كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ{3} بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ{4})..
عتبة يسمع القرآن من فم من أنزل عليه القرآن.. فيلقي يديه خلف ظهره وقد فغر فوه مأخوذا بسلطان البيان.. ورسول الله قد استحضر عظمة الله الذي خاطبه به.. يتلوه بكل أحاسيسه ومشاعره.. ويهوي به على إغراءاتهم ومطامعهم..
فكان الآي صاعقة عليهم ** تشب على مطامعهم سعيرا
كذالك السيف أمضى وهو هاو ** واقطع مضربا منه شهيرا
لما بلغ قول الله(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ).. هب عتبة مذعورا قد خيل إليه أن الصاعقة حلت به.. فأمسك بفم النبي صلى الله عليه وسلم يناشده الله والرحم إلا صمت.. فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم..(فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{118} فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ{119}).. انقلب إلى قومه فلما راؤه قالوا: نحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به..!!
قد نطقت بضعفه العيون ** ما أبلغ العيون إذ تبين
بادروه.. ما وراءك يا أبا الوليد..؟؟ فقال وقد آمن بسلطان اللغة والبيان وإن لم يؤمن بالقران: ما هو والله إلا أن جئته فعرضت عليه ما عرضت.. ثم سمعت منه قولا والله ما سمعت مثله قط..! والله ما هو بالسحر ولا بالكهانة ولا الشعر ما فقهت إلا قوله..(أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فأمسكت بفيه وناشدته أن يكف.. ولقد علمتم أن محمد إذا قال شيئا لم يكذب.. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي وخلوا بين هذا الرجل وما هو فيه.. والله ليكونن قوله بالذي سمعته نبأ عظيم.. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد..!! فعاد كالكلب بالوصيد.. وكان قريبا على صحة.. فقد داخلته حروف العلل ولا عجب..!!
من يكن للجرب خلا.. ليس يخلوا من إصابة.. وهل يبصر الرمداء شمس الضحى .؟؟ وهل يحس بطعم العذب من إيف في الفم..؟؟(وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)..
معشر الإخوة:
إنها إشارة منه صلى الله عليه وسلم في شجاعة فذة.. مفادها لا لقاء بين الحق والباطل.. لا إجتماع بين النور والظلام.. الاختلاف جوهري يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق.. الأمر لا يحتاج إلى مراوغة ولا مساومة.. ليس إلا الخروج عن الكفر بجملته إلى الإسلام بجملته.. وإلا فالبراءة التامة..(لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ).. إن قوة الهجمة اليوم على الدين.. ينبغي أن تقابل برد في غاية الوضوح.. بعيدا عن التعميم والتمييع.. فالأمر جد لا هزل فيه..(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).. لا بد من الوضوح التام.. في القضايا المصيرية التي لا تحتمل إلا وجها واحدا..(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ{1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ{2})..
من يملك النبع لن يحتاج من ظمأ ** إلى الدلاء ولن يحتاج للقرب(2/247)
يا ابن الإسلام.. إن الرؤوس التي رفعها الإسلام تأبى أن تخضع لغير الإسلام.. وإن الألسنة التي استقامة على قول الحق.. تأبى أن يلويها لاوي لغير الحق.. الإسلام دعوة ربانية لا مجال فيها للمساومات.. مهما كانت الدوافع والإغراءات والمبررات.. فإذا نثر الحب وتساقطت العصافير.. وطرح الأب وتهافتت اليعافير.. فكن ليثا ديس عرينه.. ووسم عرنينه.. وأبرق وأرعد.. وقلها بملأ الفم.. مطعم خبيث لا يأكله إلا الخاطئون.. والذي خلق الضب وأنبت النجم والأب.. وفلق النوى والحب.. لو حالف بطن الراحة الشعر.. وسقطت السماء على الغبراء.. وصار الشرق غربا والشمال جنوبا.. فإني لأرجوا الله أن لا يزل لي قدم.. ولا يزيغ لي بصر.. ولا أحيد عن مبدأ حق.. إني على بينة من ربي..
ألا يا قبح الله شهوة أبيع بها ديني..!! وأعق بها سلفي..!! وأهين بها نفسي..!! وأهدم شرفي..!! وأكون عارا على أمتي..!!
عرى العقيدة جلت عن مساومة ** ما قيمتي في الملا من غير معتقدي
هل يصير الحر عبدا آبقا..؟! هل يصير الصقر مثل الرخم..؟! هل يتيه الشهم في أوهامه ينحني بعد بلوغ القمم..؟!.......... لا.......... لا يكون العير مهرا لا يكون.. المهر مهر.. المهر مهر.. وحسب أنه نبي....
كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس.. كبير الهمة.. لا ينقض عزمه.. ولا ينكث عقده..
أصالة عزم أخجلت كل صارم ** من البيض حتى خاف أن يتجردا
وحسب الفتى من عزمه خير ** صاحب يؤازره في كل خطب يئوده
فإن لم يكن للمرء من عزماته ** نصير فأخلق أن تخيب جذوده
أشار الشباب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أحد.. بالخروج إلى المشركين خارج المدينة.. وكان صلى الله عليه وسلم يرى القتال داخلها.. فنزل على رأيهم.. وعلم الله أنه ما به إليهم من حاجة.. ولكن ليستن به من بعده من القادة.. كما قال الحسن رحمه الله.. صلى بالمسلمين ثم دخل منزله.. فتدجج بسلاحه وخرج في كامل عدته.. وأمرهم بالخروج إلى العدو.. فندم ذوي الرأي منهم حين شعروا أنه أشاروا عليه بخطه كان يفضل غيرها.. فقالوا: يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك فامكث واصنع ما شئت.. فأتى بالإعجاز في باب الإيجاز.. وقال بقلب أسد في همة تدك الجبل الأشم والخصم الألد: ما كان لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه..
ماض البصيرة غلاب إذا اشتبهت ** مسالك الرأي صاد الباز بالحجل
إن قال برا وإن ناداه منتصر ** لبى وإن هم لم يرجع بلا نفلي
وحسبه أنه نبي.......... كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس..
هو للصديق كما يحب وللعدى ** عند الكريهة ضيغم زئار
يجتمعون على حربه.. ويحرض بعضهم بعضا.. للوقوف في وجهه.. وعدم التقصير في عداوته.. ويتطاولون عليه بالسخرية.. وهو صامد كالجبل الشهيق في علياءه.. يقرر أن ما جاء به سينفذ.. لو كان الثمن إهلاك هؤلاء الصناديد.. وحاله:
إن قومي تجمعوا وبقتلي تحدثوا ** لا أبالي بجمعهم كل جمع مؤنث
يقول عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: اجتمع أشراف قريش في الحجر.. فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. قالوا: ما رأينا مثل صبرنا على هذا الرجل.. سفه أحلامنا.. وعاب ديننا.. وفرق جماعتنا فبين هم كذلك.. إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فأقبل يمشي حتى أستلم الركن.. وعداته منه تغص وتشرق.. فمغرب من غيظه ومشرق.. ثم مر بهم وهو يطوف بالبيت.. فغمزوه ببعض ما يقول.. وأشاروا بأعينهم وحواجبهم.. وهروا هرير المجحرات اللواهث.. قال ابن عمر: فعرفت ذلك في وجهه إذ تغير.. وظهرت عليه علامات الغضب.. ثم مضى فغمزوه بمثلها.. ثم مضى فغمزوه بمثلها.. فإذا السكون تحرك.. وإذا الخمود تلهب.. وإذا السكوت كلام.. يستنزل الهلك من أعلى منابره.. ويستوي عنده الرعديد والبطل.. فسل حساما من بيان فهومه.. فرد سيوف الغي مفلولة الحد.. قال : تسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده.. لقد جئتكم بالذبح.. ألا إنها لو تنزلت على جبل.. أهوت به وهو خاشع.. فأخذت القوم كلمته.. حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر..
حال الجريظ دون القريظ.. صادف در السل در يدفعه.. في هضبته ترفعه وتضعه.. وإن أشدهم وصات على إيذاءه.. ليرفؤه ويسكنه بأحسن ما يجد من القول.. يا أبا القاسم انصرف راشدا والله ما كنت جهولا.. والله ما كان جهولا صلى الله عليه وسلم..
لكنه جبل الوقار رسا وأشرف ** واعتلى وسما فطأطأت التلال رؤوس
من أنكر الفضل الذي أوتيته ** جحد العيان وأنكر المحسوس
كذلك كان إذا غضب.. ولا يغضب إلا لله ثم لا يقوم لغضبه شيء..
فإذا أوثير رأيت بركان رمى ** حمما ودك الأرض زلزالا
ترى الرجال وقوفا بعد فتكته ** بهم يظنون أحياء وقد قتلوا(2/248)
وحسبه أنه نبي............ كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس.. أدركته القائلة في إحدى غزواته في واد كثير العظاح.. فنزل تحت سمرة وعلق بها سيفه.. وتفرق عنه أصحابه.. فجاء أعرابي فاختلط سيفه وسله.. ويا لله عدو متمكن وسيف شاهر وموت حاضر.. يقول: يا محمد أتخافني..؟؟ فلا نفس جزعت ولا حال تغيرت ولا روعة حصلت..!! وما كان إلا الرعد دعوى هديده.. يقول:......... لا........
كأنما الليث شبيه له ** فهو أخو الليث لام وأب
من اتق الله فأسد الشرى ** لديه مثل الأكلب العاوية
قال: فمن يمنعك مني يا محمد..؟؟ فاستحضر عظمة الله وقدرته ونصرته لأولياءه.. وقال..
يهوي فصيح القول من لهواته ** كالصخر يهبط من ذرى ثهلان
............ الله........... فخارت قواه وانحلت وسقط السيف من يده وأمكن من نفسه.. وقال: كن خير آخذ يا محمد فعفا عنه يتألفه.. فالله ما أشجعه وما أحلمه..
تهوي الجبال الراسيات وحلمه ** في الصدر لا يهوي ولا يتزعزع
رجع الأعرابي إلى قومه يقول جئتكم من عند خير الناس.. حاله:
قضيت التعجب من أمره ** فصرت أطالع باب البدل
وحسبه أنه نبي.......... كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس.. خبيرا بفنون المنازلة.. يزلزل الخصم فيوهي بنيانه.. يقوض أركانه.. يرعب جنانه..
عزيمته ترد الغمد سيفا ** وحكمة تر السيف غمدا
إن تعدوا يا سيف لتستعينه ** أجاب قبل أن تتم سينه
ثبت في سنن الترمذي رحمه الله.. أن ركانة مصارع لم يضع أحد جنبه على الأرض.. طلب منازلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومصارعته تبجحا بقوته وإعجابا ببنيته وسطوته.. معه ثلاث مئة من الغنم وقال: يا محمد هي لك أن تصارعني..؟؟
وساوس إبليس تغشى النظر ** وتخفي عن العقل نور الفكر
أي ركان أرح المطية ولا تكن ** كمحاول صيد النجوم من المياه الركد
هل لك أن تصارعني يا محمد..؟؟ فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا العرض وسيلة لهدف أسمى من المصارعة.. وهو إسلام هذا الرجل مع توظيف هذه الطاقة المتفجرة لإعلاء كلمة الله.. لا يريد صرعه لا يريد قتله.. وإنما يريد حياته.. فما هو إلا الغيث.. أما وقوعه خصب.. وأما ماؤء فطهور صلى الله عليه وسلم.. عامله صلى الله عليه وسلم على أنه غريق بحاجة إلى من ينتشله.. حاله:
يا رب حيران لو شئته ** تدا ظمئآن لو شئت وردت
يقول له: وما تجعل لي إن صرعتك..؟؟ فقال: مئة من الغنم.. فصارعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرعه.. فقال ركانة: هل لك في العود..؟؟ قال صلى الله عليه وسلم: وما تجعل لي إن صرعتك..؟؟ قال: مئة أخرى فصارعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرعه..
هو بالله وهل يخشى انهزاما ** من يكون الله في الدنيا نصيره
قال: هل لك في العود..؟؟ قال صلى الله عليه وسلم: وما تجعل لي إن صرعتك..؟؟ قال المئة الباقية فصارعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرعه.. ثم بقي عليه كسرت شوكته ومالت هامته.. ارتطم بالأرض ظهره هوى بأسه وهوت قواه.. ومع ذلك فقد ذهب ماله وصار حاله:
وإني لمقدام وعندك هائب ** وفي الحي سحفان وندك باقل
ثم قال: يا محمد والله ما وضع جنبي على الأرض أحد قبلك.. وما كان أحد أبغض إليّ منك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.. حاله: والله ما على الأرض أحد أحب إليّ منك اليوم
وأسبلت العينان منه بواكف ** من الدمع يجري بعد سح بوابلي
والليل ولى والظلام تبددا ** والصبح أشرق والضياء تجددا
فصار حال ركانة.. عملت الجزم بي.. وخفضت مني محل النصب.. ثم رفعت حالي.. قام عنه صلى الله عليه وسلم ورد عليه غنمه.. وهدفه هدايته.. فما الدنيا والله ببغيته.. يرى الدنيا وإن عظمت وجلت لديه.. أقل من شسع النعال.. ومن شيمة العضب المهند.. أنه يخاف ويرجى مغمدا ومجردا.. وحسبه أنه نبي.....
تبلى عظامي وفيها من محبته ** حب مقيم وشوق غير منصرم
كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس.. لا يجارى في قوة رأيه وإدراكه وبعد نظره فطن..
تكاد العمي تبصر الدجى لو ** أنها اكتحلت بنور ذكائه
وقف ضد رغبات أصحابه يوم الحديبية حين بركت ناقته فأعلن مقسما.. والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم.. حاله: مع حرمات الله فديتك بالسويدا من فؤادي.. ومن حدقي فديتك بالسواد.. دارت المفاوضات وسدت قريش السبل وأشيع مقتل عثمان رضي الله عنه.. فبايع أصحابه تحت الشجرة على الموت وعدم الفرار.. وتحت ذلك التصميم أرسلت قريش سهيل للصلح..
ولا ملامة إن هابوا وإن حرجوا ** لا يزار الليث إلا فرق الغنم
أجبتهم معلنا بالسيف منصلتا ** ولو أجبت بغير السيف لم تجبي
النبي صلى الله عليه وسلم يفاوض من مركز قوة.. ويتنازل في بعد نظر وأصالة رأي.. عن بسم الله إلى باسمك اللهم.. وعن رسول الله إلى محمد ابن عبدالله..
عذب المناهل غير أن ورودها ** نار المنايا حوله تتأجج
وكانت قريش إذ تأبى لشرطها ** كباحثت عن مدية تستثيرها(2/249)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل برد من جاء من المسلمين مهاجرا ولا العكس.. ويعلل ويقول: من ذهب منا إليهم فأبعده الله.. ومن جاءنا فرد جعل الله له فرجا ومخرجا.. وثقل ذلك على المسلمين وذهلوا عن أنفسهم.. لما أعيد أبو جندل رضي الله عنه إلى أبيه يرفس في قيوده.. يضربه أبوه في وجهه ويأخذ بتلابيبه وهو يستصرخ.. أأرد إلى المشركين وقد جئت مسلما..؟؟
فاضطرمت القلوب واضطربت.. وزلزل الهم قاصيهم ودانيهم.. حتى السماء رأوها غير ما عهدوا.. أما الصديق رضي الله عنه فقد تلقى ذلك بالرضا والتسليم.. فكان قلبه على قلب محمد صلى الله عليه وسلم حاله:
والكف ليس الزند ينكر قربه ** والعين لا يقسوا عليها المحجر
من لحمه لحمي ومن دمه دمعي ** وعلى محبته أموت وأحشر
أما عمر رضي الله عنه لعظم الوارد عليه.. أبى إلا أن يعلن عما في نفسه فيقول: يا رسول الله ألست نبي الله حقا..؟؟ ألسنا المسلمين..؟؟ أليسوا بالمشركين..؟؟ ألسنا على الحق وهم على الباطل..؟؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي عمر حرية إبداء رأيه .. مع تسديده بلا عقاب ولا تجريم.. ويقول لعمر في كل ذلك: بلى.. بلى.. فيقول عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا يا رسول الله.. فيقول صلى الله عليه وسلم إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري.. ويذعن الفاروق ويؤنب نفسه بعد.. وماهي والله إلا غيرة على الإسلام منه.. فهم بعدها هو وغيره إنما يحقق المكاسب العليا للإسلام.. فهو السنة النبوية والسياسة الشرعية التي يجب أن تقتفى.. فأذعنوا وندموا وعرفوا قصورهم فاقتصروا..
أخاطب البرق إن يسقي ديارهم ** ولو أراد بدمعي أو أراد دمي
معشر الأخوة:
ومع ما فيه الصحابة من غم لا مزيد عليه.. لم يخرجوا عن طوع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وهم يرون سهيل فردا في جيش يتمادى في تفاوضه.. فلم ينله أحد بأذى وإنما مرجعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ورسول الله يسعه بالحلم حتى وصل إلى الغاية المنشودة من الصلح.. وانبلج الصبح فإذا الصلح فتح.. والغبن في الظاهر نصر.. سمعوا كلام الله وعظمت حرمات الله..
وكلما أوقدوا نارا بها احترقوا ** وأحدثوا الحرب فيهم يحدث الحرب
هكذا تبدوا شجاعة وسياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملاقة.. إلى جانب سطحية التفكير لدى زعماء المشركين.. فشرطهم الذي اشترطوه تعنتا واستعلاء.. كان وبالا عليهم حيث سبب لهم حروبا عصابات على أيدي أبي بصير وصحبه لم يحسبوا لها حسابا..
حتى أقامت رؤوسا كان يحبلها ** أجلاف قوم وفي أعناقهم صعر
فقدوا الهدف الأعلى من الصلح.. وهو تأمين طريقهم إلى الشام.. فعادوا خاضعين ذليلين يعلنون تنازلهم عن شرطهم الجائر.. ويرجون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤوي كل من جاءه من المسلمين..
فصار لواء الحق بالنصر خافقا ** وظل لواء الشرك بالذل يقهر
فما هو في صورته الظاهرة ظيم للمسلمين.. هو عز وفتح ونصر مبين.. نزلت السكينة على المؤمنين ودخل في دين الله أضعاف ما دخل قبل من المشركين.. وما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه.. وتم تحييد قريش وتكبيلها بهذه المعاهدة.. فلم يفكروا في الحرب لعشر سنين..!! فحول المسلمون المعركة إلى اليهود وغيرهم من المجرمين..
عافوا المذلة في الدنيا فعندهم ** عز الحياة وعز الموت سياني
تلكم هي الشجاعة حقا يا معشر الإخوة:
تريث في غير عجلة.. تثبت في تؤدة.. بعد نظر في أصالة رأي.. لزم الوحي مع اتهام الرأي.. قضاء المصالح على أحسن وجه.. درء المفاسد في أجمل هيئة..
من يلاقي النار بالنار يزهدها ** لهبا إطفائه يغدوا محالا
الحد والشدة ليست لوازم قوة.. والتعقل والمدارات ليست مؤشرات ضعف.. والحزم والقوة والشجاعة حقا فعل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي..!!
وريث المثابر أمضى خطا ** وأبلغ من قفزات الصخب
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ليس الشديد بالسرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"
والسيف لا يمضي بدون روية ** والرأي لا يمضي بغير مهند
وقد يدفع الإنسان عن نفسه الأذى ** بمقوله إن لم يدافعه باليد
كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس.. خاض غمار الحروب في سبيل الله.. لإعلاء كلمة الله حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله..
أزال ظلام الغي عن نير الهدى ** وحكم سيف الحق في كل باطل
مضى فعله المشتق من مصدر العلا ** فصح له منه اشتقاق اسم فاعل
في يوم حنين اختل نظام جيشه وانفض عنه معظمه.. وهو ثابت في الميدان لا يبرح.. مقبل لا يدبر.. ظاهر لا يتوارى.. وكيف يتوارى عن الموت.. من يوقن أن موته انتقال من حياة نصب ومشقة.. إلى ما اشتهت نفسه ولذت عينه.. يركض بغلته البيضاء في نحر العدو.. ويترجل عنها حينا.. فلا يرى أحد أشد منه يومئذ.. كالسيل في دفعاته.. والسيف في عزماته.. والموت في وثباته.. يشهر نفسه وهو هدف العدو الأعلى.. ويزأر.. هلموا إلي أيها الناس.. أنا رسول الله.. أنا محمد ابن عبد الله.. أنا النبي لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب..(2/250)
تخرج الألفاظ من فيه كما ** تخرج الدرة من جوف الصدف
له عزمة لو صادمت ركن يذبل ** ورضوى لهدت يذبل ومحت رضوى
مناديه ينادي: يا أصحاب السمرة.. يا أصحاب سورة البقرة.. فجر النداء مكامن الإباء.. وثاب الفار منهم ولبى.. وأما الصوت وحاله: يا رسول الله هانا ذا..
أنا بعض منك والكف على ** كل حال لا تضيع المعصم
وحمي الوطيس وبذل النفيس.. ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه القوم بقبضة من تراب قائلا: شاهت الوجوه فما خلق الله إنسانا منهم.. إلا ملئت عيناه من تلك القبضة فولوا مدبرين..
قد زلزل الرعب أيديهم وأرجلهم ** وعاد ثعلب قفر ذلك الأسد
فمجدل ومرمل وموسد ومضرج ومضمخ ومخضب.. ونزلت السكينة على المؤمنين..(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)..
ومن لاذ بالله في دربه ** كفاه المهيمن من كل شر
كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس على الإطلاق.. فر عنه الكماة الأبطال غير مرة . وما أحصيت غير مرة.. ذهل عنه الشجعان ووجم الفرسان غير مرة.. ولم يحفظ له وجمة..
على الزعازع والأهوال والباس ** لو مادت الأرض يبقى الشامخ الراسي
ما وقعت هيعة أو صيحة أو فزع.. إلا تقلد السيف في عنقه وبادر ظهر الفرس يسبق إلى العدو.. يستبرأ الخبر ويطمئن أصحابه بشعار.. لن تراعوا لن تراعوا..
ليس يدنوا الخوف منه أبدا ** ليس غير الله يخشى أحدا
يغدوا وهوج الذاريات رواكد ** ويبيت يسري والكواكب نوموا
وحسبه أنه نبي....... كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس يحقر كل ما يسميه الناس خطرا.. يثبت حين تزلزل أقدام الأبطال رهبا.. موقفه أقرب موقف من عدوه.. إذا اتقدت جمرة الحرب آوى الناس إليه وإحتموا بظله..
يتقي الموت به أشياعه ** حين جف الريق وانشق البصر
يشهد بذلك غصن من دوحته وجزء من جملته.. يؤكد العيان بالبيان ويؤد الإصطاح بالمصباح.. إنه علي رضي الله عنه فارس الفرسان وفتى الفتيان.. البطل المقدام همام الهمام الليث الكرار.. مفرق كتائب الكفار من روي في شجاعته مشهود الأخبار.. ما أمسك بذراع علج إلا حار وانقطع نفسه وخار..
لو عاين الأسد الضرغام لمته ** ما ليم أن ظن رعبا أنه الأسد
يقول علي رضي الله عنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولقد رأيتنا يوم بدر وقد حمي البأس واحمرت الحدق.. ونحن نلوذ ونتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وأشدنا بأسا.. وإن الشجاع منا للذي يحاذي به..
له من بديع العزم ما لو تلوته ** على جبل لنهال في الدوي ربده
له هيبة في قوله وفعاله ** فلوا شاهدته الأسد كانت تهابه
هذه شهادة علي.. وحسبه أنه رسول نبي..........
لا تسألن القوافي عن شجاعته ** إن شئت فاستنطق القران والصحف
كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس لم يملأ صدره هول قط.. وما كر إلا كان أول طاعن ولا عاينته الخيل إلا اقشعرت..
يكون أمام الخيل أولا طاعن ** ويضرب أخراها إذا هي ولت
روي أن أبيّ ابن خلف قال بعد بدر متهددا.. إني لي فرسا أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتل عليها محمدا..
ظل عنك المحال يا من تعنى ** ليس يلقى الرجال غير الرجال
هيهات لقد رمت أمرا يا أبيّ ** ودونه خياطف إلود صعاب مراتبه
شماريخ لو أن أبيّ أراداها ** رأى نفسه أذل من القرد
(فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).. بلغت المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة.. بل أنا أقتله عليها إن شاء الله.. وحاله:
فأنتم وعدتم بالهدية قبلنا ** فكان علينا يا أبيّ ثوابها
وفي يوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم أبيّ فآذنوني.. لأنه صلى الله عليه وسلم لا يلتفت في القتال وراءه..
هزبر تفادى الأسد من وثباته ** لو مربض عنه يحيد الأكابر
إذا ما رأته العين غير لونها ** له واقشعرت من عراه الدوائر
أقبل أبيّ يركض فرسه متدرعا بالحديد مملوء الوطاب من سوء أدب الخطاب..
لو أن خفة عقله في رجله ** سبق الغزال ولم يفته الأرنب
يبحث عن حتفه بظلفه ** ويجدع مارن أنفه بكفه
يصيح بأعلى صوته: يا محمد لا نجوت إن نجوت.. يا محمد لا نجوت إن نجوت.. فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما كنت صانع حين يغشاك فقد أتاك.. وإن شئت عطف عليه بعضنا فكفاكه.. فأبى صلى الله عليه وسلم أشد الإباء..
بطل تشيعه الأسود إذا غزى ** حتى وثقنا أنها من جنده
قنصت مهابته البزات وصادت ** الأسد الكماة قشاعم من جرده
فصاح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما أبى: نوصيك بالبغل شرا فإنه ابن الحمار.. رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبادره.. بل تركه يرعد وهو في غاية السكون والتؤدة والهدوء..
وهدوء أمواج البحار تأهب ** للمد يكتسح الشواطىء صرصرا
إذا رأيت الموج في البحر سكن ** فالموت كامن لإغراق السفن
ما أحد يشبهه صلى الله عليه وسلم ولا يكون له إذا جد الجد..(2/251)
يتلاشى البحر في نيرانه ** ويخاف البحر من طوفانه
ولما دنى أبيّ تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة ثم هزها.. وحاله:
اقترب الوعد وحان الهلاك ** وكل ما تحذره قد أتاك
ثم انتفض بالحرمة كما ينتفض البعير.. فتطاير الصحابة من حوله تطاير الشعارير.. هيبة له حتى إذا رضيها عطف عليها بالفاء لا بثم.. فضربه بها في عنقه في فرجَة بين درعه وبيضته.. فأقتلعه من على فرسه فخر..
فلم يزده الله إلا هوانا ** وهو مهتضم حقير
وكان كفاقع عينيه عمدا ** فأصبح لا يضيء لها النهار
جعل يخور كما يخور الثور.. قتلني محمد.. قتلني محمد.. وعاد عواء بعد نبح هريره..
متبرقعا لؤما كأن عيونه ** طليت حواجبها عنية قاري
لم تغني عنه سيوف الهند مصلتتا ** لما أتته سيوف الواحد الصمد
جاءه أصحابه يقولون: أبا عامر والله ما بك من بأس ولو كان الذي بك بعين أحدنا ما ضره.. فقال: واللات والعزى لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون.. أليس قال لأقتلنك..!! والله لو بصق علي لقتلني.. فأصمت منهم كل من كان ينطق..!!
وما هم إلا بائل من مخافتي ** وآخر منهم ظل بالريق يشرق
وباء أبيّ بالصفقة الخاسرة ** وضيع الدنيا والآخرة
وهلك في طريقهم إلى مكة ولا يجني الظالم إلا على نفسه..
ومن ينزوا في أرض تسوخ فإنه ** على قدر ما ينزو يغوص ويغرق
شجاعة أعجزت قولي ** وفخري أن يلم بها لماما
ولولا إحتقار الأسد شبهتها به ** ولكنها معدودة في البهائم
كل الذي قلت شيء من شجاعته ** ما زدت إلا لعلي زدت نقصانا
فمن رام من شجاعة المختار كل الأخبار.. فدونه نزح البحار وما هذه كلها إلا إيماض برق باختصار..!!
ألفاظها نمت على مضمونها ** وصدورها دلت على الإعجاز
قولوا لأشباه الرجال تصنعا ** إلا تكونوا مثله فتقنعوا
معشر الإخوة:
أما إنه لولا الإيمان مقرونا بهذا الخُلق.. ما قام لله ناصح وما نفح عن الإسلام منافح.. إن الشجاعة ليست منازلة في الحروب فحسب..!!((الشجاعة)) تكليف يلتزم المسلم أداءه في السلم والحرب.. الأمر والنهي عن المنكر في عالم ضال((شجاعة)).. الدعوة إلى الإصلاح في أمة فاسدة النظم((شجاعة)).. الثبات أمام الشبهات والشهوات((شجاعة)).. فعل أوامر الله والكف عن نواهي الله((شجاعة)).. الدفاع عن النفس والمال والعرض والدين والمظلوم((شجاعة)).. ثبات المسلمة أمام شبهات أدعياء تحرير المرأة((شجاعة))..
هكذا كوني ولا تخشي أذى ** من أحب الشهد قاس الأبرا
الإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس((شجاعة)).. المجاهدة على ذلك كله((شجاعة))..
وكل شجاعة في المرء تغني ** ولا مثل الشجاعة في الحكيم
معشر الإخوة:
بهذا الخُلق نصر الإسلام على يدي أبي بكر رضي الله عنه يوم الردة.. والإمام أحمد رحمه الله يوم المحنة..
وإن لم يسر نجل السري بسيره ** فلا بدع إن طال العدى إنه دعي
هذا الخُلق هو الذي ترجم معنى لا إله إلا الله في قلب عبدالله رضي الله عنه ابن رأس النفاق أبي.. حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأبيه ودعاه.. فخمر أنفه وقال: غبر علينا ابن أبي كبشة إليك عنا فقد آذانا نتن حمارك.. فغضب عبدالله لله.. وفي ظلال قول الله..(لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ).. أتى رسول الله وقال: يا رسول الله والذي أكرمك بالهدى ودين الحق لإن شئت لآتيتك برأسه.. حاله:
وإني لأرجوا أن أنال بقتله ** من الله أجرا مثل أجر المرابط
فقال صلى الله عليه وسلم:..... لا...... ولكن بر أباك وأحسن صحبته.. والحال:
فما البحر الخضم يعاب يوما ** إذا بالت بجانبه القرود
هذا الخُلق مع الإيمان هو الذي حرك الغيرة في قلب الشيخ المحاربي.. حين رأى منكرا على الحجاج لا يسعه السكوت عليه.. فأنكر عليه وهو يستشعر أن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.. فقال له: أسكت وأغرب والله لقد هممت أن أخلع لسانك فأضرب بها وجهك..
فقال الشيخ بعزيمة جبارة لو ** حملت أحدا لما شعرت له بكلال
سبحان الله إن صدقناك أغضبناك وإن غششناك أغضبنا الله.. ولا والله الذي لا إله إلا هو.. لغضب الأمير أهون من غضب الله..(وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) ثم مضى.. وحاله:
فما دحضت رجلي ولا زل مقولي ** ولا طاش عقلي يوم تلك الزلازل
وما أنا ممن تقبل الضيم نفسه ** ويرضى بما يرضى به كل مائق
هذا الخُلق مع الإيمان هو الذي جعل عبادة في فتنة القول بخلق القرآن يصدع ويقول: كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.. ثم كان حجة يفهم من يقول بذلك القول.. حين دخل يوما على الواثق وقال: يا أمير المؤمنين أعظم الله أجرك في القرآن..!! قال: ويلك القرآن يموت..!! قال: يا أمير المؤمنين كل مخلوق يموت.. ثم موه عليه ومخرق.. قال: بالله يا أمير المؤمنين من يصلي بالناس التراويح إذا مات القرآن..
فأعاد الحر منهم حائرا ** وثنا منهم المنطيق مفحما(2/252)
سيرت سفنهم في بحره ** فهوت في قعره والتطما
سدت الطريق وأغص بالريق ويئس من الساحل الغريق..!!
وإن رغمت أنوف من أناس ** فقل يا رب لا ترغم سواه
وما كانت كِلام السيف يوما ** لتبلغ مثل ما بلغ الكلام
هذا الخُلق مع الإيمان هو الذي جعل دعاة القيم يزدرون حطام الدنيا وينظرون بشفقة ورثاء لمن يلهث ورائها كخادم لسيده..
تراه يشفق من تضييع درهمه ** وليس يشفق من دين يضيعه
حداه في درهمه أعز عندي من وحيد أمه كل المنى في ضمه وشمه.. فرفعوا أصواتهم إنما هذه الحياة الدنيا متاع.. من هؤلاء شاعر مسلم شجاع استنفر فوجب عليه النفير.. لما سمع يا خيل الله اركبي وبالجنة ابشري.. خرج مجاهدا في سبيل الله أمسكت به زوجته وهي تبكي وتقول: كيف تخرج وتتركني..؟! إلى من تدعني..؟! فكر وتأمل ورأى أن لا عذر له فولى وهو يغالب عواطفه.. يقول:
باتت تذكرني بالله قاعدة ** والدمع ينهل من شانيه سبلا
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني ** كرها وهل أمنع الله ما فعلا
فإن رجعت فرب الكون أرجعني ** وان لحقت بربي فابتغي بدلا
ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني ** أو ضارع من ضنا لم يستطع هولا
ثم مضى شجاعا آثر الله ورسوله والدار الآخرة وجعل الدنيا دابة يركبها يستخدمها ولا يخدمها حداءه..
اختر لنفسك منزلا تعلوا به ** أو مت كريما تحت ظل القسطل
موت الفتى في عزة خير له ** من أن يعيش أسير طرف أكحل
عبد الله...........
من يرضى بالعير يهجر كاهل الفرس ** أتطلب جيفة الغربان يا خير الشياهين
خذها رافعيا إذا رأيت أمة فتنت بدنياها.. فاعلم أنها أمة جبانة مأكولة مفلولة.. فلو شهرت السيف الماضي.. لقاتل في يدها بروح ملعقة.. ولو رعدت بالأسطول المهول.. لصلصل كآنية المطبخ..
أسود لدى الأبيات عند نسائهم ** ولكنهم عند الهياج نقانق
إذا أبصروا شخصا يقولون جحفل ** وجبن الفتى سيف لعينيه بارق
فلا رحم الله امرأ باع دينه ** بدنيا سواه وهو للحق رامق
.. .. .. .. .. ........
هذا الخُلق مع خوف الله هو الذي جعل القاسم ابن محمد رحمه الله أحد الفقهاء السبعة يقول لمن سأله عن شيء لا يعلمه: لا أعلمه.. لا أحسنه.. فجعل يقول الرجل: إني أرسلت إليك لا أعرف غيرك..!! فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي.. والله لا أحسنه.. ووالله لأن يقطع لساني أحب إليّ من أن أتكلم بما لا علم لي به..
نأى بأعطافه من خوفه ورسا ** بأصله وسما بالأنف والراسي
فقال شيخ من قريش كان بجنبه: إلزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم..!!
تحكي السماء إذا أنوارها لمعت ** برج ببرج ونبراسا بنبراس
كم شارب عسلا فيه منيته ** وكم تقلد سيفا من به ذبحا
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ)..
هذا الخُلق مع القرآن هو الذي جعل الشيخ ابن باز رحمه الله أسد إذا علم بظلم يقع على المسلمين أو عدوان على شريعة رب العالمين..
الحلم شيمته ولكن حينما ** يعصى الإله فإنما هو ضيغم
فلا يغرنك وجه راق منظره ** فالنصل فيه المنايا وهو بسام
يقول المجذوب رحمه الله: حينما كان الشيخ للجامعة الإسلامية صدر حكم بقتل أحد الدعاة في بلد ما فاعترى الشيخ ما يعتري المؤمن من غم في هذه النازلة التي تستهدف الإسلام.. فنفسه تخذل عنه يقول المجذوب: فكلفني بصياغة برقة لحاكم ذلك البلد.. قال: فكتبتها بقلب منذر يقطر غيرة وغضبا وجئت بها وكلي يقين أنه سيدخل على لهجتها من التعديل ما يجعلها إلى لغة المسئولين المنذرين.. لكنه حطم كل توقعاتي..!! فأقرها جميعا ثم قال أضف إليها قول الله..(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً).. وأرسلت الرسالة وقضى الله قضاءه وقد أدى الشيخ ما عليه رحمه الله.. وحاله:
وما كل نفس تحمل الذل إنني ** رأيت احتمال الذل شأن البهائم
ولا خير في العيدان إلا صلابها ** ولا ناهضات الطير إلا صقورها
ولا عجب يا معشر الإخوة فقد نقل عنه أنه قال يوما: والله منذ عقلت إلى اليوم ما أعلم أني عملت عملا لغير الله..
تعود صدق القول حتى لو أنه ** تكلف قولا غيره لا يجيده
فرحمه الله.............
هذا الخُلق مع الحق هو الذي جعل شابا مسلما يدخل في جموع النصارى.. ليفحم كبيرهم حين وقف يتحدث عن عيسى عليه السلام ويضعه في منزلة الله ويقول: من قال آمنت بعيسى إله لم يضره شيء ولم يتعرض لأذى..!! واستمر بعقول الناس ويداعب خيالهم وآمالهم بتعاليل لا تطفىء الغليل..!!
كلام كل ما فيه هراء ** وأشخاص الحكاية أغبياء(2/253)
فقل أين التصامم والعماء ..؟! لكن أعذب الأصوات عند الحمير صوت الحمار.. عندما انتهى قام الشاب المسلم الشجاع وسأله قائلا: هل فعلا أنت تؤمن حق الإيمان بأن من قال آمنت بعيسى إله لا يضره شيء..؟! قال القس: نعم..!! فأخرج الشاب كأسا استجلس بها الراكب واستركب بها الجالس وقال: إن في هذه الكأس سما نوعه كذا ودرجة تأثيره كذا أرجوا أن تثبت لنا بطريقة عمليه تترجم صدق إيمانك بما قلت وتشرب بما في داخل هذه الكأس..؟!
فمحا بنور الحق آية ليلهم ** وتطايروا كالحمر لاقت قسورا
اتضح الحق.. والقس افتضح .. إسود وجه.. وأربد وهدد وأرعد.. ثم لان الجعد وسكن الرعد.. وحاله:
لا مساس.. لله الأمر من قبل ومن بعد.. كالسامري يقول إن حركته دعني .. فليس علي غير إزاري..!!
كذلك يعلوا الحق والحق واضح ** ويسهل كعب الزور والزور عاثر
هذا الخُلق مع الإيمان هو الذي جعل المهلب يعرض عن من شتمه وأقذعه وبهته بما ليس فيه.. ولما قيل له: لما لا ترد عليه..؟! قال: لا أعرف مساوئه وأخشى الله أن أبهته بما ليس فيه..!!
ومن الناس اسود خدر**ومن الناس ذباب وطنين
وهذا الخُلق مع إيمان كالجبال هو الذي حرك سيف الله ليث الإسلام وفارس المشاهد.. أبا سليمان خالد رضي الله عنه فدمر جيش مهران الفارسي مع نصارى العرب بأكمله.. دون أن يخسر جنديا واحدا..!!
يستسهل الصعب إن هاجت حفيظته ** لا يشاور إلا السيف إن غضبا
لما إلتقى جيش الإسلام بجيش الفرس مع النصارى العرب قال أحد نصارى العرب لمهران الفارسي: دعنا وخالدا نحن العرب أعلم بقتال العرب.. فقدمه مهران الفارسي ليتقي به..
وكيف يجيء البغل يوما بحاجة ** تسر وفيه للحمار نصيب
ولكن...........؟!
وإذا الحمار بأرض قوم لم ** يروا خيلا قالوا أغروا محجل
بلغت المقالة خالدا رضي الله عنه فعزم على أن يلقن المغرور درسا لكل مغرور ويخبره أي رجال حرب هم المسلمون.. وفي أناة القطاة ووثوب الأسد قام عاشق المفاجأة من لا ينام ولا ينيم.. ولا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه.. وقال: إني حامل عليه بعينه ومينه..!!
فما كان إلا الليث انهوه الطوى ** وما كان إلا السيف فارقه الغمد
خرج إليه في جريدة من الخيل وهو مشغول بتسوية صفوف جيشه وجيشه منشغل بالنظر إلى خالد.. ما عسى أن يفعل أمام عشرات الآلاف وبينا هم غارقون في دهشتهم.. إذ انقض خالد في أسلوب صاعق مفاجىء كالبرق الخاطف والرعد القاصف والريح العاصف.. على المغرور فاختطفه من بين يدي جيشه كأنه ذباب..
ذباب طار في لهواته ليث ** كذاك الليث يلتهم الذباب
حمله على فرسه كما يحمل الصبي الرضيع ليرجع به إلى المسلمين.. وحاله:
فلو كنت حر العرض أو ذا حفيظة ** غلبت ولكن لم تلدتك الحرائر
ثم قال له خالد نفس مقالته: نحن العرب أعلم بقتال العرب.. ثم قده بالسيف ورماه على الجسر وقال: هكذا فاصنعوا بهم.. لله در أبي سليمان.. إنتضح بحره فأغرق..!! وقدح زنده فأحرق..!! فصار حيهم ميتا وهذرهم صمتا وجبالهم لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.. لم يتحملوا الصدمة فلاذوا بالفرار..!!
وضاقت الأرض حتى صار هاربهم ** إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
فركبهم المسلمون يقتلون ويأسرون ويسبون وهرب من هرب منهم إلى الحصن ثم نزلوا على رأيه فدمر جيشهم بأكمله ولم يخسر من جيشه..!!
لا يغمد السيف إلا بعد ملحمة ** ولا يعاقب إلا بعد تحذير
بعض المواقف يا رجال حرائر ** والبعض يا ابن الأكرمين إماء
ما جاء سيف الله من خمارة ** ما أنجبته الليلة الحمراء
حاله:
أناضل عن دين عظيم وهبته ** عطاء مقل مهجتي وحياتيا
فممتثل لله أسلم وجهه ** يقول أنا وحدي سأحمي دينيا
بظهري ببطني بالذراع بمقلتي ** بجنبي بعظم الصدر حتى التراقيا
على ذروة التوحيد تخفق رايتي ** وتحت روابيها تصب دمائيا
بمثل هذا الشجاعة في إيمان بالله ترتفع راية الله.. في أرض الله.. وعندها يفرح المؤمنون بنصر الله.. لا توهمه بعيدا إنما الآتي قريب..!
لكن النصر لا يأتي ** جزافا بائنا عن مقصدي
لكنه بالصبر والإيمان**لا الفعل الردي
يا قوموا إن الله أكبر**من جموع المعتدي
فامضوا على نهج الرسول**وعزمه المتوقدي
تجمل أيها الآسي**وبث الخير في الناسي
وقرب فارس الإيمان**واطرد فارس اليأسي
ليزرع دربنا وردا**ويتحفنا بريحاني
ويقطع مارد الأشواك**في رفق وإحساني
ويسقي من معين الوحي ** عذبا كل ظمآني
أيها الجيل:
إن سلاحنا الذي لا يفل هو إيماننا.. فكلما قوي إيماننا ازداد يقيننا بتحقق وعد الله بالدفاع عنا..(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)..
أيها الجيل:
مالنا من فائت أضعناه من خصال أسلافنا.. وحرمناه بسوء فعالنا.. مثل الشجاعة بلا تهور ولا حماقة.. ولعمر الله.. إن تلك الشجاعة لم تمت إنما هي كامنة..!! ولم تنطفىء شعلتها فهي في كنف القرآن والسنة آمنة..!! وما دامت نفحات الوحي تلامس القلوب والعقول على أيدي القدوات فلابد من يوم يتحرك فيه ذلك العرق المخبوء ليأتي بالعجائب..!!(2/254)
إن الرماح حدائد منبوذة ** حتى يثقف جنبيها سمهر
أيها الجيل الخاطب:
الشجاعة عقيلة كرام لا يساق في مهرها بهرج الكلام..!! إنها كريمة بيت لا تنال بلو أو ليت..!! إنما تنال بالإيمان الثابت.. يظاهره مجاهدة ومصابرة.. وقوة توكل في ثقة وحلم وأناة وشدة بأس.. بلا يأس ولا طمع ولا فزع.. مع نظر في سير أنبياء الله.. وكثرة ذكر لله وحبس للنفس مع منهم كذلك من عباد الله...
ترنوا إلى تلك الوجوه التي ** فيها يضيء الليل بل يرحل
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)..
من رام نيل الشيء قبل أوانه ** رام انتقال يلملم وعسيب
ومستعجل الشيء قبل الأوان ** يصيب الخسارة ويجني التعب
أيها الجيل:
الحق ساهر والعدو وقح كافر.. لم يعد يخشى من التصريح بنا.. يريد فعله في ديار المسلمين.. ألفاظه محددة صريحة لا تورية.. فعلى الأمة أخذ الحذر في تعقل ووعي.. لا يجر الأمة إلى معركة ليست مستعدة لها.. الهجمة عظيمة لو قدر لها أن تنجح فلن تبقي ولن تذر..!! وعندها تتحول الأمة عافاها الله.. إلى رعاة خنازير لعباد صليب..!!
فيا أمتي فكري في المصير ** فان الحساب علينا عسير
فلنطرح التصرفات الرعناء جانبا.. لسنا دعاة حرب اليوم.. بل في حالة دفاع عن ضرورياتنا.. من دين ونفس ومال وعرض ومقدسات بكل وسيلة تنفع ولا تضر.. وليس يكون ذلك إلا برد الأمر إلى أهله الذين يستنبطونه.. لسنا في حالة هجوم لكن علينا أن نشعر من تسول له نفسه أن يقترب من حياضنا.. أننا لسنا اللقمة السائغة بل اللقمة المرة..!! التي لن يشعر معها بسعادة إن حاول بلعها أبدا.. بل تسد حلقه حتى تقضي عليه والله غالب على أمره..
أعداء الله مسلكهم خائب وكيدهم حابط.. وسعيهم في ضلال وأخرتهم خزي ووبال.. ولم يبق منا نحن إلا أن ننصر الله لِنُنْصَر.. حققوا الشرط يحقق الله الجزاء..(إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)..
عبد الله.. تعرف سبيل المجرمين من كتاب رب العالمين.. وجدد الإيمان وأكد التوحيد وزد نون التوكيد..
خذ يا مليك فكلنا ** من بحر جودك والعطا
خذ من سويدانا ** قرابين المحبة والولا
ما ظل ماء في البحار ** وطار طير في السما
أيها الجيل:
إنما السائل من لون الإناء.. إن تأنيث الأسماء جبن يورث تأنيث الشمائل والطباع.. والظاهر يؤثر على الباطن.. لقد كان المسلمون على عدوهم صخورا وجنادل.. يوم كان منهم صخر وجندلا..!!
وكانوا عليهم غصصا وسموما يوم كان فيهم مرة وحنظلا..!! وكانوا عليهم حسكا وشوكا يوم كان فيهم قتادة وعوسجا..!! ولا يرضى بالأسماء والكنى والألقاب الرخوة إلا العبيد..!! وما شاعت هذه الرخاوة يوم كان المسلمون سادة ..!! وما راجت بينهم إلا عندما أضاعوا السيادة والقيادة..!! أما والله لو نادى منادي ببعض هذه الأسماء في حظرة عمر رضي الله عنه لهاجت شرته وبادرت بالجواب درته..!!
فإن لم يكن حسن فعال فليكن ** قوة اسم وكنية ولقب وحسن فال
وعادت النصل أن يزهى بجوهره ** وليس يعمل إلا في يدي بطل
أيها الجيل:
المسلمون جسد واحد.. ودار الإسلام دار واحدة.. لا تقبل القسمان..!! فإذا حاول تفريقها محاول.. سفهته السواحل باتحاد أمواجها.. وصدمته الجبال بتناوح أثباجها.. واشتباه فجاجها.. وكذبته الصحاري بسرابها وسراجها.. ومراتع غزلانها ونعاجها ومراعي أذوادها وأعراجها..
لن نبلغ الآمال في دربنا ** ما لم نوحد سيرنا في اللقاء
وهل يهز العضو إذا لم ** تكن الأعضاء ذات التقاء
إن الخلاف جبن وفشل وذهاب ريح.. والشاهد وحي الله.. لا يكاد يذكر الأحزاب بلفظ الجمع إلا في مقام الهزيمة والخلاف(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ).. ولا يكاد يذكر الحزب بلفظ مفرد إلا في مقام الخير والفلاح(أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).. لقد مللنا جمع التكسير لكثرة ما تردد.. وسئمنا منه لكثرة ما تعدد ونتطلع لجمع السالم الصحيح يحدوا ويغرد..
إن التفرق شر كله.. وشره ما كان في الدين.. وأشنعه ما كان عن هوى.. ونتيجته التعادي.. وأثره السخرية من الدين.. وما أعظم جناية مسلم.. يقيم من عمله الفاسد.. حجة على دينه الصحيح..
إذا افترقت آراء قوم تشتتوا ** ولم يرجعوا إلا بعار التخاذل
نريد مواجهة عدونا فلا يكون بأسنا بيننا..
نريد إقامة فرض فلا تشغلونا بالخلاف في نافلا..
نريد بالإسلام العاليا فلا تنزلوا به بالخلاف السافلا..
الخلاف شر كله والعدو يستهدف الجمع كله(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)..
أرضنا أرض كتاب الله فيها**كملت دائرة الوحي الأخيره
شهدت مبعث خير الناس لما**تتمم الأخلاق في أكرم سيره
يئس الشيطان أن يعبد فيها**فانبرى يطلب تفريق العشيره
اجمعوا الآراء كي نبي بناءا**دونه تهوي الأساطيل المغيره
واحذوا أن يوقد الشيطان فيكم**لهب التحريش يا أهل الجزيره
فاتِقوا أكناف ورد الحب**حتى يجد البائس والشاتي عبيره
أيها الجيل:
ما غرد بلبل بغير حنجرة(2/255)
قل من يحتقر الليث تقدم ** حينما تسمع عن قرب زئيره
والله لن نجاري الأمم ونفوقها في ميادين الحياة.. إلا((بالإسلام وأخلاقه)).. فإن لم يكن فنحن هازلون في جد الزمان..!! مغترون بالخوف بعهده الأمان..!! سائرون إلى الورا بهدى الشيطان..!! من تطلع إلى ثوب العز فليحكه بأنامله..
وليجلبه بعوامله وإلا فشاعر الذي يقول: ما حك جلدك صارخ في واد ** وسيبويه نافخ في رماد
يا من يداوي الجرح من دائه ** مهلا فلن تحظى بطعم الشفا
ماذا يفيد الظامئين المنى ** إن لم يروا ماء بذاك السقا
أيها الجيل:
ظل سبيل من وها سقائه.. ومن أريق بالفلاة ماؤه.. لا تطلب الحكمة من عند غيرك.. فعندك معدن الحكمة كتاب وسنة.. لا تتطفل على موائد الغير فعندك الجفنة الرائدة..
هل يطلب الماء ممن يشتكي عطشا**أو يطلب الثوب ممن جسمه عاري
العمل.. العمل.. بكتاب الله تلك نصرته حقا(وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً).. لا تكونن كبارق ليس في برقه ندى..!!
أوقد من الحق للراجين نبراسا ** واقرع لإيقاظ أهل الكهف أجراسا
وأبشر...........أبشر فإنك رأس والعلا جسد ** والمجد وجه وأنت السمع والبصر
ولم تزل نخلة الإسلام باسقة مليئة بعذوق التمر والرطب.. وإن الفقاقيع تطفوا ثم يمضينا..!!
لا يأس.... فالنخلة الشماء كانت بذرة تحت التراب والموجة الرعناء كانت قطرة فوق السحاب..!!
لا يأس... فالفجر يولد رغم أشباح الظلام والشمس تشرق رغم أطباق القتام..!!
لا يأس... فالريح لا تهوى سوى قمم الجبال والطير لا ترقى سوى الشجر الطوال والورد لا يزدان إلا فوق أطراف التلال..!!
لا يأس... إن أظلمت فستنجلي وكمثل ما حملت تضع..!!
لا يأس... إن ضاقت الأرض على بلبل فسوف يشدو في رحاب السماء..!!
أيها الرافع في وجه غصون الشوك ما أخفيت بال....!
إنني أملك في وجه المآسي السود رايات اتزان.....!
إنني أبصر شمسا تشرئب الأرض في شوق إليها يتسامى الأخشبان.....!
وأرى نهرا من النور يغني فيتيه الشاطئان......!
وأرى القصواء تحيي في رمال البيد أقوى مهرجان......!
وارى بلقاء سعد وأبا محجل والسيف اليماني وأطراف السنان.....!
وأرى اليرموك تستعذب صوت النهروان......!
أيها الرافع في وجه غصون الشوك ما أخفيت بان.......!
مرحبا بالموت في عز ويا بعد هوان.......!
(وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)..
هو الله الذي يخشى..
هو الله الذي يحيي..
هو الله الذي يحمي..
وأهل الأرض كل الأرض.. لا والله ما ضروا ولا نفعوا.. ولا رفعوا ولا خفضوا.. فما لاقيته في الله فلا تجزع ولا تيأس(وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا ً)..
سيروا فإن لكم خيلا ومضمارا ** وفجروا الصخر ريحانا ونوارا
وذكرونا بأيام لنا سلفت ** فقد نسينا شرحبيلا وعمارا
وإن الفجر مرتقب بلا ريب سيأتينا ** ويملأ نوره أرجاء هذي الأرض يحيينا
وإنا لنأمل نصر الليوث وأن يلقم الحجر النابح..!!... إلهنا قد تم ما أردنا وغاية انتهائي ما قصدنا...
إيماض لمع ومر.. نقطة من يم.. وقرطعب من جم وعبر.. ووخز إبر.. وجمل من الأخلاق سمعنا ومبتداها ولا زلنا في انتظار الخبر.. فإيعاب هدي المصطفى وخلاله عسير.. فمن يقوى على حصر الأنجم.. أرجوا الله أن يهز بهذا الإيماض جامدا.. ويؤز إلى الخير خامدا.. لنجني شيئا من ثمرة النية.. ونغير أواخر الأسماء المبينة.. فإن تم فبيان وتوكيد.. وذاك ما نريد.. وإلا فهو بث ونفث.. ومعراج صعود لمن يريد.. ربما تبلغ يوما كلماتي للقلوب.. والله يقضي بهبات جمة.. لي ولكم ولجميع الأمة.. ونسأل الله القبول والرضا.. والختم بالحسنى إذا العمر انقضى.. اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا.. وقلة حيلتنا.. وهواننا على الناس.. أنت رب المستضعفين وأنت ربنا وأنت أرحم الراحمين.. نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات من أن تنزل بنا غضبك.. لك العتبى حتى ترضى.. ولا حول ولا قوة إلا بك.. يا من لا يهزم جنده.. ولا يغلب أولياؤه.. أنت حسبنا ومن كنت حسبه فقد كفيته.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. والحمد لله على إتمامه.. ثم صلاة الله مع سلامه.. على النبي وأله وصحبه وحزبه وكل مؤمن به.. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك..
~~~**--**--**--**~~~
*لا تنسونا من صالح دعائكم*
---------------
58.مظاهر العظمة النبوية
مظاهر العظمة النبوية في الطفولة:
كان لطفولته صلى الله عليه وسلم مظاهر واضحة من العظمة تدل على رعاية الله عز وجل له، حيث أعده الله عز وجل ليكون للعالمين نذيراً وليختم به النبوة والرسالة وأعدّه ليرتقي السماوات السبع ليصل إلى سدرة المنتهى إلى مكان لم يصله غيره من البشر.
ومن مخايل النجابة ومظاهر العظمة في طفولته بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم:
1- أنه ولد من نكاح شرعي لا من سفاح جاهلي وهذه عصمة من الله عز وجل.(2/256)
2- أن أمه آمنة لم تشعر بما يشعرن به الحوامل من الضعف.
3- رأت أمه لما ولدته نوراً خرج منها فأضاء لها قصور الشام.
4- انكسار البرمة التي وضعت عليه بعد ولادته على عادة النساء من قريش، إذ وجدت منكسرة على شقين ولم يبت تحتها صلى الله عليه وسلم فكانت له آية.
5- ارتجاج إيوان كسرى وسقوط أربع عشرة شرفة من شرفاته عند مولده صلى الله عليه وسلم.
6- خمود نار فارس التي لم تخمد منذ ألف سنة.
7- امتلأ البيت الذي ولد فيه نوراً. ورؤية النجوم وهي تدنو منه حتى لتكاد تقع عليه صلى الله عليه وسلم.
فهذه وغيرها من الآيات التي واكبت ميلاده تعلن بشكل واضح علو شأنه وتخبر بما سيكون عليه مستقبل العالم كله.
مظاهر العظمة النبوية في الشباب:
ثم أثناء مراحل عمره في طفولته وشبابه كانت هناك آيات وإرهاصات تدل على تكريم الله عز وجل له وحفظه من كل ما يسوء فمن ذلك:
1- الاستسقاء به وهو صغير حيث استسقى به عمه أبو طالب وهو غلام صغير وفيه يقول:
وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه **** ثمال اليتامى عصمة للأرامل
2- عدم كشف عورته أبداً وفي ذلك قصة عجيبة: حين كانت قريش تبني الكعبة وكانوا يرفعون أزرهم على عواتقهم يتقون بها ضرر الحجارة وكان صلى الله عليه وسلم يضع الحجر على عاتقه وليس عليه شيء، فرآه عمه العباس – رضي الله عنه – فقال له: لو رفعت إزارك على عاتقك فلما رفعه سقط وسمع منادياً لا يراه يأمره بستر عورته فستر نفسه ولم يتكشف بعد ذلك.
3- قصة بحيرى الراهب وهي مشهورة معروفة حيث لم ينزل من صومعته أبداً إلا لما مرت به القافلة التي كان فيها نبينا صلى الله عليه وسلم.
4- تحكيمه بين قريش لما اختلف سادتها في وضع الحجر الأسود ورضاهم به لما رأوه داخلاً عليهم وقولهم (هذا محمد الأمين رضينا به حكماً)
فكل تلك الحوادث تدل على أن الله عز وجل كان يهيئه لمنصب النبوة والرسالة إذ لم تجتمع هذه الكرامات لأحد قبله صلى الله عليه وسلم
---------------
59.ملامح العظمة في شخصية الرسول
الشيخ/ محمد حسين فضل الله
من العظماء، من إذا استغرقت في عناصر شخصيته فإنَّك تلتقي بذاته في نطاق الدائرة المحدودة من تلك العناصر التي جعلت منه إنساناً عظيماً صاحب فكرٍ أو صاحب قوّةٍ وما إلى ذلك، ما يمنح شخصيته ضخامتها الذاتية التي لا تمتد إلى أبعد من ذلك. ومن العظماء من إذا استغرقت في داخل شخصيته فإنَّك تنفتح على العالم كلّه، ذلك هو الفرق بين عظيم يجمّع عناصر عظمته من أجل أن يؤكّد ذاته وبين عظيم يجمّع هذه العناصر من أجل أن يعطي الحياة عظمة ويتجه بالإنسان إلى مواقع العظمة حتى تكون عظمته حركة في الحياة، حركة في الإنسان، ويجتمع الإنسان والحياة وينطلقا ليعيشا مع أجواء العظمة في اللّه العليّ العظيم.
من أولئك أنبياء اللّه الذين عاشوا للّه، فاكتشفوا الحياة من خلاله لأن الحياة هبة الله، واكتشفوا الإنسان من خلال معرفتهم بالله، لأنَّ الإنسان خلق الله. وبذلك، فإنَّهم لم يعيشوا مع اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ استغراقاً في ذاته بالمعنى العاطفي للكلمة، لتكون كلّ حياتهم مجرّد تأوّهات وتنهّدات وحسرات وما إلى ذلك، ولكنَّهم رأوا بأنَّهم عندما ينقذون الإنسان من جهله، إنَّما بذلك يعبدون اللّه، فقد ارتفعوا إلى اللّه من خلال رفعهم للإنسان إلى مستوى المسؤولية عن الحياة من خلال تعاليم اللّه، عاشوا الآلام والحسرات مع اللّه من خلال حملهم لآلام الإنسان وتنهّداته من أجل أن تنطلق روحانيتهم في قلب مسئوليتهم.
ولذلك فالأنبياء ليسوا شخصياتٍ عظيمةً تعيش في المجال الطبقي الذي يصنعه النّاس لعظمائهم، ولكنَّ الأنبياء كانوا يعيشون مع النّاس، كانوا فيهم كأحدهم، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، يفتحون قلوبهم لإنسان يعيش ألماً من أجل أن يفسحوا المجال للفرح حتّى يطرد ذلك الألم، يتواضعون للنّاس، يستمعون إلى آلامهم، يشاركونهم، يعيشون معهم، لا يتحسّسون في أنفسهم أيّة حالة علوّ وهم في المراتب العليا، وممّا تنقله لنا السيرة » بأنَّ رسول اللّه كان ذات يوم يسير ورأته امرأة فارتعدت هيبةً له فقال (صلى الله عليه وسلم): "ما عليك إنَّما أنا ابن امرأة مثلك كانت تأكل القديد".
إنَّه لم ينفتح على ما عاشته من هيبته لتكون هيبته فاصلاً بينها وبين إحساسها الإنساني به وإحساسه الإنساني بها، لم يرد للعظمة أن تكون حاجزاً بين إنسان وإنسان كما يفعل الكثيرون ممن يتخيّلون أنفسهم خطباء أو يرفعهم النّاس إلى صفوف العظماء فإذا بك تجد بينهم وبين النّاس حواجز وحواجز لا يعيشون التفاعل مع النّاس، وبذلك سقطت عظمتهم من خلال ما كانوا يؤكدونه من عظمتهم.
سرّ الإنسانية في النبوّة:(2/257)
أمّا رسول اللّه فقد ارتفع إلى أعلى درجات العظمة عندما عاش حياة الإنسان، محتضناً له، ليرحمه وليرأف به، فلأنَّ سرّ إنسانيته في سرّ نبوته، في سرّ حركته في الحياة. لذلك قد نجد أنَّ بعض النّاس يتحدّثون في أشعارهم عن جمال الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعن لون عينيه وعن جمال وجهه ويتغزّلون به من خلال ذلك، في الوقت الذي نرى أنَّ اللّه لم يتحدّث عن كلّ ذلك، والسبب في ذلك أنَّ اللّه أراد أن يقول لنا بأنَّ الأنبياء الذين هم رسل اللّه إلى النّاس، انطلقوا مع الإنسان في صفاته الإنسانية التي تلتقي بالإنسان الآخر، أن تكون أيّ شيء في جمالك، أن تكون أيّ شيء في خصائص جسدك ذاك شيء يخصك لا علاقة له بالنّاس، لكن ما هي أخلاقك، ما هي انفعالاتك بالنّاس، ما هو احتضانك لحياة النّاس، ما هي طبيعة أحاسيسك، هل هي أحاسيس ذاتية تعيشها في ذاتك أو هي أحاسيس إنسانية تحتضن بها أحاسيس النّاس؟ كيف قدّمه اللّه إلينا؟
لم يذكر لنا نسبه، ونحن دائماً نصرّ على العائلية في الحديث، فلم يتحدّث لنا عن هاشميته ولا عن قرشيته ولا عن مكيته، لم يحدّثنا عن اسم أبيه، عن اسم أمّه، ولكن حدّثنا عنه بصفته الرسولية الرسالية: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}، لم يأتِ من فوق ليطلّ عليكم من علياء العظمة، ولد بينكم، عاش معكم، تألَّم كما تتألمون، وعاش الجوع كما تعيشون، وعاش اليُتم كما تعيشون اليُتم عندما تكونون أيتاماً، {من أنفسكم} وكلمة من أنفسكم تحمل في داخلها عمق المعنى الإنساني الذي يجعل النبيّ في الصورة القرآنية إنساناً مندمجاً بالنّاس الآخرين، يعيش معهم، من داخل حياتهم، من داخل آلامهم، من داخل أحلامهم، من داخل قضاياهم، بحيث لا يوجد بينهم وبينه أيّ فاصل، إنَّه يتابعكم وأنتم تتألمون، يتابعكم وأنتم تتعبون، يتابعكم وأنتم تواجهون مشاكل الحياة التي تثقلكم، يعزّ عليه ذلك ويؤلمه ويثقله، لأنَّه يعيش دائماً في حالة نفسية متحفزة تراقب وترصد كلّ متاعبكم ومشاقكم {حريص عليكم} وكلمة حريص هنا تختزن في داخلها الكثير من الحنان، من الأبوة، من الاحتضان، من العاطفة.. يحرص عليكم فيضمّكم إليه، فتعيشون في قلبه، يقدّم لكم حلولاً لمشاكل حياتكم، عن كلّ تعقيداتكم، يحرص عليكم فيوحّدكم، ويجمع شملكم تماماً كما يحرص الأب على أبنائه والأم على أولادها، حريصٌ عليكم يخاف أن تضيعوا، يخاف أن تسقطوا، يخاف أن تموتوا، وهو {بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:128) الرأفة كلّها والرحمة كلّها، والرحمة في القرآن الكريم ليست مجرّد حالة عاطفية، نبضة قلب وخفقة إحساس، بل الرحمة هي حركة الإنسان فيما يمكن له أن يحمي الإنسان، من نفسه، ومن غيره، من أجل الانطلاق بالإنسان.
رسول الرحمة:
ألم نقرأ الآية الثانية وهي تحدّثنا عنه {فبما رحمةٍ من اللّه لنت لهم}، هذه الرحمة الإلهية التي أنزلها اللّه على النّاس من خلال تجسّدها في النبيّ، بحيث بعث إليهم رسولاً يعيش وعي الواقع ويواجه كلّ التحجّر، تحجّر التقاليد، والعادات والعقائد، والتعقيدات، وما إلى ذلك، فيواجه ذلك وهو يرى أنَّ هذا التحجّر يمكن أن يتحوّل إلى حجارة ترميه تماماً كما كانت الحجارة تدمي رجليه وهو في الطائف، وكما كانت حجارة القذارات تثقل جسده وهو عائد من البيت الحرام أو ساجد بين يديّ ربِّه. كان يعرف أنَّ هناك تحجّراً، وأنَّ الذي يريد أن يبعث الينابيع في قلوب النّاس لا بُدَّ له أن يكتشف في الحجارة شيئاً من الينبوع، لأنَّ اللّه حدّثنا أنَّ من الحجارة لما يتفجر منه الماء، إنَّ هناك ينابيع في قلب الحجارة، لذلك لا تنظر إلى حجرية الحجارة ولكن انفذ إلى أعماقها.
لذلك لا تنفذ إلى النّاس المتحجّرين لتقول إنَّ هؤلاء لا ينفع معهم كلام ولا يمكن أن ينطلقوا إلى الحوار، اصبر جيّداً، انطلق بالينبوع من قلبك، ليكن قلبك ولسانك لينين، فإنَّ لين القلب ينفذ إلى أعماق الحجارة ليخرج منها الماء، ولين الكلمة تنفذ إلى حجارة العقل من أجل أن تفتح فيها أكثر من ثغرة {فبما رحمة من اللّه لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك} (آل عمران:159)، قال ذلك لكلّ إنسان يحمل مسؤولية فكر يريد أن يُقنع به إنساناً، أو يحمل مسؤولية عاطفة يريد أن يفتح عليها قلب إنسان، قال: أيُّها الإنسان المسؤول: المسؤولية تعني وعي إنسانية الآخر والصبر عليه، إن كنت مسؤولاً لا تصبر ابتعد عن المسؤولية، لأنَّك سوف تثقل النّاس فيما تعتبره مسؤوليتك، وإن لم تعِ أمور النّاس، ولا تفهم حركية عقولهم وقلوبهم وأوضاعهم الحياتية فكيف يمكن أن تخاطب النّاس؟ فتِّش عن مفتاح الشخصية، وهو مفتاحٌ لا تصنعه عند صانع المفاتيح ولكن تصنعه وتأخذه من خلال خالق المفاتيح {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاَّ هو} (الأنعام:59).(2/258)
ومن مفاتيح الغيب تنطلق مفاتيح الرسالة، ومن مفاتيح الرسالة تنطلق مفاتيح الوعي وتنفتح الحياة كلّها، صفاته هي رسالته، ولذلك إذا أردت أن تتحدّث عن صاحب أيّ فكرة فلا بُدَّ أن تتحدّث عن أخلاقيته في حركة الفكرة، لأنَّ ذلك هو الرابط الأساسي له بالنّ
---------------
60.من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم التربوية
الشيخ محمد الدويش
1 - التربية بالقصة:
إن القصة أمر محبب للناس، وتترك أثرها في النفوس، ومن هنا جاءت القصة كثيراً في القرآن، وأخبر تبارك وتعالى عن شأن كتابه فقال:{نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى} وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} ولهذا فقد سلك النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج واستخدم هذا الأسلوب.
شاب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وهو خباب بن الأرت رضي الله عنه ـ يبلغ به الأذى والشدة كل مبلغ فيأتي للنبي صلى الله عليه وسلم شاكياً له ما أصابه فيقول رضي الله عنه :أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة - وقد لقينا من المشركين شدة - فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: « لقد كان كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد مادون عظامه من لحم أوعصب، مايصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله » [رواه البخاري (3852]
وحفظت لنا السنة النبوية العديد من المواقف التي يحكي فيها النبي صلى الله عليه وسلم قصة من القصص، فمن ذلك: قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، وقصة الذي قتل مائة نفس، وقصة الأعمى والأبرص والأقرع، وقصة أصحاب الأخدود... وغيرها كثير.
2 - التربية بالموعظة:
للموعظة أثرها البالغ في النفوس، لذا فلم يكن المربي الأول صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم يغيب عنه هذا الأمر أو يهمله فقد كان كما وصفه أحد أصحابه وهو ابن مسعود -رضي الله عنه-:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا» [رواه البخاري 68 ].
ويحكي أحد أصحابه وهو العرباض بن سارية -رضي الله عنه- عن موعظة وعظها إياهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله؟ قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ » [رواه الترمذي (2676) وابن ماجه (42)] وحتى تترك الموعظة أثرها ينبغي أن تكون تخولاً ، وألا تكون بصفة دائمة .
عن أبي وائل قال كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم قال أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا [رواه البخاري (70) ومسلم (2821)].
3 - الجمع بين الترغيب والترهيب:
النفس البشرية فيها إقبال وإدبار، وفيها شرّة وفترة، ومن ثم كان المنهج التربوي الإسلامي يتعامل مع هذه النفس بكل هذه الاعتبارات، ومن ذلك الجمع بين الترغيب والترهيب، والرجاء والخوف.
عن أنس -رضي الله عنه- قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط: «قال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم خنين [رواه البخاري ومسلم].
ومن أحاديث الرجاء والترغيب ما حدث به أبو ذر -رضي الله عنه- قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فقال: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال:«وإن زنى وإن سرق» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال:«وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر» وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال: وإن رغم أنف أبي ذر [رواه البخاري (5827) ومسلم (94)].(2/259)
وعن هريرة -رضي الله عنه- قال كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر في نفر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا فقمنا فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار فدرت به هل أجد له بابا فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة -والربيع الجدول- فاحتفزت كما يحتفز الثعلب فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أبو هريرة؟» فقلت: نعم يا رسول الله، قال: «ما شأنك؟» قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: «يا أبا هريرة» -وأعطاني نعليه- قال: «اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة»…الحديث. [رواه مسلم (31) ] والمتأمل في الواقع يلحظ أننا كثيراً ما نعتني بالترهيب ونركز عليه، وهو أمر مطلوب والنفوس تحتاج إليه، لكن لابد أن يضاف لذلك الترغيب، من خلال الترغيب في نعيم الجنة وثوابها، وسعادة الدنيا لمن استقام على طاعة الله، وذكر محاسن الإسلام وأثر تطبيقه على الناس، وقد استخدم القرآن الكريم هذا المسلك فقال تعالى: {ولو أن أهل القرى..} {ولو أنهم أقاموا التوراة…}.
4 - الإقناع العقلي:
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، قالوا: مه مه، فقال: «ادنه» فدنا منه قريباً قال: فجلس قال: « أتحبه لأمك؟» قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم» قال: «أفتحبه لابنتك؟» قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم» قال: «أفتحبه لأختك؟» قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم» قال:«أفتحبه لعمتك؟» قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم» قال: «أفتحبه لخالتك؟» قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم» قال: فوضع يده عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه» فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء [رواه أحمد ] .
إن هذا الشاب قد جاء والغريزة تتوقد في نفسه، مما يدفعه إلى أن يكسر حاجز الحياء، ويخاطب النبي صلى الله عليه وسلم علناً أمام أصحابه، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم المربي المعلم لديه جانباً لم يدركه فيه أصحابه فما هو؟
لقد جاء هذا الشاب يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان قليل الورع عديم الديانة لم ير أنه بحاجة للاستئذان بل كان يمارس ما يريد سراً، فأدرك صلى الله عليه وسلم هذا الجانب الخير فيه، فما ذا كانت النتيجة: «فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء»
5 - استخدام الحوار والنقاش:
وخير مثال على ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم مع الأنصار في غزوة حنين بعد قسمته للغنائم، فقد أعطى صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم وترك الأنصار، فبلغه أنهم وجدوا في أنفسهم، فدعاهم صلى الله عليه وسلم ، وكان بينهم وبينه هذا الحوار الذي يرويه عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- فيقول: لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟« كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن، قال: »ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟« قال كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن قال:» لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض« [رواه البخاري (4330) ومسلم (1061) ] ففي هذا الموقف استخدم النبي صلى الله عليه وسلم الحوار معهم، فوجه لهم سؤالاً وانتظر منهم الإجابة، بل حين لم يجيبوا لقنهم الإجابة قائلاً: (ولو شئتم لقلتم ولصدقتم وصُدقتم …) .
6 - الإغلاظ والعقوبة:
وقد يُغلظ صلى الله عليه وسلم على من وقع في خطأ أو يعاقبه:
فعن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رجل: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضباً من يومئذ فقال:» أيها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة« [رواه البخاري (90) ومسلم (466) ].(2/260)
وعن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل عن اللقطة فقال:»اعرف وكاءها -أو قال: وعاءها وعفاصها- ثم عرفها سنة، ثم استمتع بها، فإن جاء ربها فأدها إليه« قال: فضالة الإبل؟ فغضب حتى احمرت وجنتاه -أو قال احمر وجهه- فقال:» وما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وترعى الشجر فذرها حتى يلقاها ربها« قال: فضالة الغنم؟ قال:» لك أو لأخيك أو للذئب« [رواه البخاري (90) ومسلم (1722) ].
وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه على هذين الحديثين » باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى مايكره«.
وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه فطرحه وقال: »يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده« فقيل للرجل بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبداً وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم . [رواه مسلم (2090) ]
عن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: "كل بيمينك" قال لا أستطيع قال: " لا استطعت ما منعه إلا الكبر" قال فما رفعها إلى فيه [رواه مسلم (2021)]
إلا أن ذلك لم يكن هديه الراتب صلى الله عليه وسلم فقد كان الرفق هو الهدي الراتب له صلى الله عليه وسلم ، لكن حين يقتضي المقام الإغلاظ يغلظ صلى الله عليه وسلم ، ومن الأدلة على ذلك:
1- أن الله سبحانه وتعالى وصفه بالرفق واللين أو بما يؤدي إلى ذلك قال تعالى {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} فوصفه باللين وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} ولا أدل على وصفه عليه الصلاة والسلام من وصف الله له فهو العليم به سبحانه.
2- وصف أصحابه له:
فقد وصفه معاوية بن الحكم -رضي الله عنه- بقوله :فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني [رواه مسلم (537) ].
3- أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالرفق فهو القدوة في ذلك وهو الذي نزل عليه {لم تقولون ما لا تفعلون} فهو أقرب الناس إلى تطبيقه وامتثاله، وحينما أرسل معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال لهما: »يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا« [رواه البخاري (3038) ومسلم (1733) ] .
4- ثناؤه صلى الله عليه وسلم على الرفق، ومن ذلك في قوله:»ما كان الرفق في شيئ إلا زانه ولانزع من شيئ إلا شانه« وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة :»إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله« رواه البخاري (6024) ومسلم (2165) ] وفي رواية:»إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه« [رواه مسلم (2593) ].
وفي حديث جرير -رضي الله عنه- »من يحرم الرفق يحرم الخير« [رواه مسلم (2592) (ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف) .
5- سيرته العملية في التعامل مع أصحابه فقد كان متمثلاً الرفق في كل شيئ ومن ذلك :
أ) قصة الأعرابي الذي بال في المسجد والقصة مشهورة.
ب) قصة عباد بن شرحبيل - رضي الله عنه - يرويها فيقول: أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال للرجل:» ما أطعمته إذ كان جائعا -أو ساغبا- ولا علمته إذ كان جاهلا« فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق [رواه أحمد (16067) وأبو داود (2620) وابن ماجه (2298)].(2/261)
ج)قصة سلمة بن صخر الأنصاري -رضي الله عنه- قال: كنت رجلا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فرقا من أن أصيب منها في ليلتي فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر أن أنزع، فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري فقلت انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري فقالوا: لا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا قرآن أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك، قال: فخرجت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري فقال:» أنت بذاك؟ « قلت: أنا بذاك، قال:» أنت بذاك؟ « قلت: أنا بذاك، قال:» أنت بذاك؟ « قلت: أنا بذاك، وها أنا ذا فأمض في حكم الله فإني صابر لذلك، قال:» أعتق رقبة« قال: فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق لا أملك غيرها، قال:» صم شهرين« قلت: يا رسول الله، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام؟ قال:» فأطعم ستين مسكينا« قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشى ما لنا عشاء، قال:» اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقا ستين مسكينا، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك« قال فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة، أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي، فدفعوها إلي [رواه أحمد (23188) وأبو داود (2213) والترمذي () وابن ماجه (2062].
7 - الهجر:
واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب الهجر في موقف مشهور في السيرة، حين تخلف كعب بن مالك -رضي الله عنه- وأصحابه عن غزوة تبوك، فهجرهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لا يكلمهم أحد أكثر من شهر حتى تاب الله تبارك وتعالى عليهم.
إلا أن استخدام هذا الأسلوب لم يكن هدياً دائماً له صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أن رجلاً كان يشرب الخمر وكان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم … والمناط في ذلك هو تحقيقه للمصلحة، فمتى كان الهجر مصلحة وردع للمهجور شرع ذلك وإن كان فيه مفسدة وصد له حرم هجره .
8 - استخدام التوجيه غير المباشر:
ويتمثل التوجيه غير المباشر في أمور منها:
أ - كونه صلى الله عليه وسلم يقول "ما بال أقوام"، دون أن يخصص أحداً بعينه، ومن ذلك قوله في قصة بريرة فعن عائشة -رضي الله عنها- فقالت أتتها بريرة تسألها في كتابتها فقالت إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي فلما جاء رسول الله صلى اللهم عليه وسلم ذكرته ذلك قال النبي صلى اللهم عليه وسلم: "ابتاعيها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق" ثم قام رسول الله صلى اللهم عليه وسلم على المنبر فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط" [رواه البخاري (2735) ومسلم () ]
وحديث أنس -رضي الله عنه- أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أنام على فراش فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» [رواه البخاري (1401)].
ب - وأحياناً يثني على صفة في الشخص ويحثه على عمل بطريقة غير مباشرة، ومن ذلك ما رواه عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم ، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكنت غلاماً أعزب، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت في المنام كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر فقال لي: لن تراع، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل» قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً [رواه البخاري (3738-3739].
ج - وأحياناً يأمر أصحابه بما يريد قوله للرجل، عن أنس بن مالك أن رجلا دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلا في وجهه بشيء يكرهه فلما خرج قال:» لو أمرتم هذا أن يغسل هذا عنه« [رواه أبو داود (4182)].(2/262)
د - وأحياناً يخاطب غيره وهو يسمع، عن سليمان بن صرد قال استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني لست بمجنون [رواه البخاري (6115) ومسلم (2610)]
9 - استثمار المواقف والفرص:
عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه يوماً وإذا بامرأة من السبي تبحث عن ولدها فلما وجدته ضمته فقال صلى الله عليه وسلم :«أترون هذه طارحة ولدها في النار» قالوا: لا، قال: «والله لا يلقي حبيبه في النار؟» [رواه البخاري ( 5999) ومسلم ( 2754 ).].
فلا يستوي أثر المعاني حين تربط بصور محسوسة، مع عرضها في صورة مجردة جافة.
إن المواقف تستثير مشاعر جياشة في النفس، فحين يستثمر هذا الموقف يقع التعليم موقعه المناسب، ويبقى الحدث وما صاحبه من توجيه وتعليم صورة منقوشة في الذاكرة، تستعصي على النسيان.
والمواقف متنوعة فقد يكون الموقف موقف حزن وخوف فيستخدم في الوعظ، كما في وعظه صلى الله عليه وسلم أصحابه عند القبر.
عن البراء بن عازب قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى اللهم عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رءوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا… ثم ذكر الحديث الطويل في وصف عذاب القبر وقتنته. [رواه أبو داود (4753)]
ب ـ وقد يكون وقد يكون موقف مصيبة إذا أمر حل بالإنسان، فيستثمر ذلك في ربطه بالله تبارك وتعالى.
عن زيد بن أرقم قال أصابني رمد فعادني النبي صلى الله عليه وسلم ، قال فلما برأت خرجت، قال فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أرأيت لو كانت عيناك لما بهما ما كنت صانعاً؟» قال: قلت: لو كانتا عيناي لما بهما صبرت واحتسبت، قال:«لو كانت عيناك لما بهما ثم صبرت واحتسبت للقيت الله عز وجل ولا ذنب لك» [رواه أحمد].
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم مثل هذا الموقف لتقرير قضية مهمة لها شأنها وأثرها كما فعل حين دعائه للمريض بهذا الدعاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء الرجل يعود مريضا قال: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدوا ويمشي لك إلى الصلاة» [رواه أحمد (6564)]
إنه يوصي المسلم بعظم مهمته وشأنه وعلو دوره في الحياة، فهو بين أن يتقدم بعبادة خالصة لله ، أو يساهم في نصرة دين الله والذب عنه.
ج ـ وقد يكون الموقف ظاهرة كونية مجردة، لكنه صلى الله عليه وسلم يستثمره ليربطه بهذا المعنى عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة يعني البدر فقال:«إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} [رواه البخاري (554) ومسلم].
د ـ وقد يكون الموقف مثيراً، يستثير العاطفة والمشاعر كما في حديث أنس السابق في قصة المرأة.
10 - التشجيع والثناء:
سأله أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ يوماً :من أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم «لقد ظننت أن لا يسألني أحد عن هذا الحديث أول منك لما علمت من حرصك على الحديث» [رواه البخاري ( 99 ) ]. فتخيل معي أخي القارئ موقف أبي هريرة، وهو يسمع هذا الثناء، وهذه الشهادة من أستاذ الأساتذة، وشيخ المشايخ صلى الله عليه وسلم .بحرصه على العلم، بل وتفوقه على الكثير من أقرانه. وتصور كيف يكون أثر هذا الشعور دافعاً لمزيد من الحرص والاجتهاد والعناية.
وحين سأل أبيَ بن كعب: «أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم؟» فقال أبي:آية الكرسي. قال له صلى الله عليه وسلم «ليهنك العلم أبا المنذر» [رواه مسلم ( 810 ) وأحمد ( 5/142 )] ".
إن الأمر قد لا يعدو كلمة ثناء، أو عبارة تشجيع، تنقل الطالب مواقع ومراتب في سلم الحرص والاجتهاد. والنفس أياً كان شأنها تميل إلى الرغبة في الشعور بالإنجاز. ويدفعها ثناء الناس -المنضبط- خطوات أكثر.
والتشجيع والثناء حث للآخرين، ودعوة غير مباشرة لهم لأن يسلكوا هذا الرجل الذي توجه الثناء له.
---------------
61.من مشكاة النبوة
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
عن ابن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس ذو القلب المحموم واللسان الصادق قيل ما القلب المحموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد قيل فمن علي أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة قيل فمن علي أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن (1).(2/263)
كلمات ينبغي أن تكتب بماء الذهب، ونور لا يخرج إلا من مشكاة النبوة إنها دعوة لإرشاد النفس إلى طريق الخير دعوة امتزجت بكل الإخلاص بعيدة عن الهتافات والشعارات الجوفاء التي خالطها الرياء فلم يبق فيها من الخير شيئًا.
[خير الناس ذو القلب المحموم واللسان الصادق]
فالقلب العامر بنور الإيمان هو المعيار الأساسي للتقوى قال صلى الله عليه وسلم (التقوى هاهنا التقوى هاهنا …وأشار إلى صدره) (2) فأمر الإيمان ليس بكثرة الأعمال الظاهرة ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل (ألا وإن في الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) (3)
لذلك كان صلاح القلوب بالطاعات الشغل الشاغل للمؤمنين الصادقين.
قال إبراهيم الخواص: (دواء القلب في خمسة أشياء قراءة القرآن بالتدبر وخلاء البطن وقيام الليل والتضرع عند السحر ومجالسه الصالحين) (4). والذنوب للقلب بمنزلة السموم إن لم تهلكه أضعفته ولابد، والضعيف لا يقوي علي مقاومة العوارض ، قال ذو النون المصري:[سقم الجسد في الأوجاع وسقم القلوب في الذنوب فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب ](4)
والقلوب الفارغة من طاعة الله موكله بالشهوات التي هي سبب هلكتها وموتها .
كيف الرحيل بلا زاد إلى وطن *** ما ينفع المرء فيه غير تقواه
من لم يكن زاده التقوى فليس له *** يوم القيامة عذر عند مولاه
[قيل ما القلب المحموم (5)؟ قال هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد]
إنه القلب الخالي من آفات وأمراض القلوب كالبغي والغل والحقد والحسد… فهو القلب السليم التقي النقي الذي لا يفلح ولا ينجو يوم القيامة إلا صاحبه قال تعالى [يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم] (الشعراء 88-89)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كنا جلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار ينظف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال نعم قال أنس وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئًا غير أنه إذا تعار وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر قال عبد الله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله قلت يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ثم ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث مرات فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به فلم أرك تعمل كثير عمل فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هو إلا ما رأيت قال فلما وليت دعاني فقال ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه فقال عبد الله هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق (6).
[خير الناس ذو القلب المحموم و اللسان الصادق]
قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (التوبة 119) وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الصدق يهدى إلى البر وإن البر يهدى إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإن الكذب يهدى إلى الفجور وإن الفجور يهدى إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) (7)
قال أحد الحكماء: من طلب الله بالصدق أعطاه مرآة يبصر فيها الحق والباطل. وقيل إن ربعي بن حراش لم يكذب كذبه قط وكان له ابنان عاصيان على الحجاج فطلبهما فلم يعثر عليهما فقيل للحجاج: إن أباهما لم يكذب كذبه قط لو أرسلت إليه فسألته عنهما فاستدعى أباهما فقال: أين أبناؤك؟ قال هما في البيت فأستغرب الحجاج وقال لأبيهما: ما حملك على هذا وأنا أريد قتلهما فقال: لقد كرهت أن ألقى الله تعالى بكذبه فقال الحجاج قد عفونا عنهما بصدقك ...، ذاك والله الصدق الحق الذي يصفه الجنيد بقوله (حقيقة الصدق أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب) (8)
والصدق إنما يحسن إذا تعلق به نفع ولا يلحق ضرره بأحد فمن المعلوم قبح الغيبة والنميمة والسعاية وإن كانتا صدقاً ولذلك قيل كفى بالسعاية والغيبة والنميمة ذماً أن الصدق يقبح فيهما.
[قيل فمن على أثره؟ قال الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة](2/264)
فحب الدنيا رأس كل خطيئة وحقيقة الزهد فيها ليس بالتبتل والإعراض بالكلية عن طيباتها ولكن نجا من نجا من عباد الله الصالحين بأنهم جعلوا الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم وأيقنوا أنها مزرعة للآخرة فأنفقوا أعمارهم وأموالهم في كل ما يقربهم لله تعالى وأما طالب الدنيا لا يخلو من الحزن في حالين حزن على ما فاته كيف لم ينله، وحزن على ما ناله يخشى أن يسلبه وإن أمن سلبه أيقن بتركه لغيره بعد موته فهو مغموم ومحزون في جميع أحواله، قال تعالى (اعلموا أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) الحديد 20.
[ولقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد زمانهما وكانا لهما من المال والملك والنساء ما لهما وكان علّى بن أبى طالب وعبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان رضى الله عنهم من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال و كذلك الليث بن سعد من أئمة الزهاد وكان له رأس مال وكان يقول: لولا هو لتمندل بنا هؤلاء (أي بني أمية).
و قيل لبعض العلماء ما خير المكاسب؟ قال: خير مكاسب الدنيا طلب الحلال لزوال الحاجة والأخذ منه للقوة على العبادة وتقديم فضلة الزائد ليوم القيامة. وأما خير مكاسب الآخرة فعلم معمول به نشرته وعمل صالح قدمته و سنه حسنة أحييتها، ولقي معاوية بن قرة أحد إخوانه وقد جاء من الكلأ فقال له معاوية ما صنعت؟ قال: اشتريت لأهلي كذا وكذا قال وأصبت من حلال قال نعم قال: لأن أغدو فيما غدوت به أحب إلى من أن أقوم الليل وأصوم النهار، وكان حسان بن أبى سنان يقول: لولا المساكين ما اتجرت](9)
أريد من الدنيا ثلاث و إنها *** لغاية مطلوب لمن هو طالب
تلاوة قرآن ونفس عفيفة *** وإكثار أعمال عليها أواظب
و إذا تأملت القرآن وجدت أن الله تعالى حين ذكر الدنيا قال (فامشوا في مناكبها) وحين ذكر الذكر فيها قال ( فاسعوا إلى ذكر الله) وحين تكلم عن الجنة قال (وسارعوا)(سابقوا) وحين تكلم عن العلي القدير قال (ففروا إلى الله).
[روى أن سليمان بن عبد الملك تجمل يوم ولبث ثيابه واعتم بعمامة وعنده جارية فقال لها كيف ترين الهيئة؟ فقالت أنت أجمل العرب لولا..! فطلب منها أن تكمل الجواب وتصرح بما أضمرت فقالت:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقي *** غير أن لا بقاء للإنسان
أنت خالٍ من العيوب و مما *** يكره الناس غير أنك فان
وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال:{يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء أنيابها بادية مشوهه الخلقة لا يراها أحد إلا كرهها فتشرف على الخلائق فيقال لهم أتعرفون هذه؟ فيقال لهم هذه التي تفاخرتم وتحاربتم عليها ثم يؤمر بها إلى النار فتقول يا رب أين أتباعي وأصحابي وأحبابي؟ فيلحقونها} ووجه إلقائها في النار لينظر إليها أهلها فيرون هوانها على الله عز و جل ](10)
فحب الدنيا يورث الضغائن والعداوات ويزرع الأحقاد ويكمن الشر ويمنع البر ويسبب العقوق وقطيعة الرحم والظلم وطالب الدنيا قصير العمر كثير الفكر فيما يضر ولا ينفع فأمر الدنيا أفقر من أن تتعادى فيه النفوس وأن تطاع فيه الضغائن والأحقاد.
يؤمل دنيا لتبقى له *** فمات المؤمل قبل الأمل
يربي فسيلا ليبقى له *** فعاش الفسيل ومات الرجل
قال رجل لداود الطائي أوصني فدمعت عيناه وقال: يا أخي إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي ذلك إلى آخر سفرهم فإن استطعت أن تقدم كل يوم زاداً لما بين يديك فافعل فإن انقطاع السفر عن قريب والأمر أعجل من ذلك فتزود لنفسك واقض ما أنت قاض فكأنك بالأمر قد نعتك إني لا أقول لك هذا وما أعلم أحداً أشد تقصيراً منّى ثم قام وتركه (11)
[قيل فمن على إثره؟ قال مؤمن في خلق حسن](2/265)
فالخلق الحسن صفه سيد المرسلين وأفضل أعمال الصديقين وهو شطر الدين وثمره مجاهدة المتقين ورياضة المتعبدين فتزكيه النفوس ملاك دعوة الرسل بعد التوحيد . فهذا موسى عليه السلام يقول لفرعون (هل لك أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى) النازعات 18 – 19 فحسن الخلق يغطى غيره من القبائح وسوء الخلق يغطى غيره من المحاسن ومن حسن خلقه طابت عيشته ودامت سلامته في الغالب وتأكدت في النفوس محبته ومن ساء خلقة تنكدت عيشته ودامت بغضته ونفرت النفوس منه قال تعالى (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران 159 ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أثقل شئ في الميزان الخلق الحسن" (12) وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أحبكم إلي وأقربكم منى في الآخرة مجالس أحاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم إلى وأبعدكم منّى في الآخرة أسوأكم أخلاقاً الثرثارون المتفيهقون المتشدقون" (13)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة" (14) ، وقال صلى الله عليه وسلم "عليك بحسن الخلق وطول الصمت فوالذى نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما" (15) وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان سهلاً هيناً ليناً حرمه الله على النار". (16)
ومن أحسن ما قيل في تفسير حسن الخلق أنه طلاقة الوجه وبذل المعروف وكف الأذى وطيب الكلام وقلة الغضب واحتمال الأذى وقيل أيضاً هو التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل.
صلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله فكلامك شفاء من كل داء ومنهج للحيارى الذين يتلمسون طريق النجاة إنه نور لا يخرج إلا من مشكاة النبوة.
و مما زادني شرفاً و تيها *** وكدت بأخمصي أطؤ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيرت أحمد لي نبيا
---------------------------------------
الهوامش
1. رواه ابن ماجة ( 4216 ) عن عبد الله بن عمرو بلفظ [قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان" قالوا صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد ] وصححه البوصيري في الزوائد (3/299)ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 17/29/2) وزاد من طريق القاسم بن موسى [ قالوا فمن يليه يا رسول الله؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة قالوا ما نعرف هذا فينا إلا رافع مولى رسول الله قالوا فمن يليه قال مؤمن في خلق حسن ] ورواه البيهقي بنفس الزيادة في شعب الإيمان ج: 4 ص: 205 برقم (4800 ) عن عبد الله بن عمرو قال [ قلنا يا نبي الله من خير الناس؟ قال: ذو القلب المحموم واللسان الصادق قال قلنا قد عرفنا اللسان الصادق فما القلب المحموم؟ قال: التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد. قال قلنا يا رسول الله فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة قلنا ما نعرف هذا فينا إلا رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن على إثره قال: مؤمن في خلق حسن قلنا أما هذه ففينا]، ورواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول في أحاديث الرسول ج: 2 ص: 168 وأبو نعيم في حلية الأولياء ج: 1 ص: 183 والطبراني في مسند الشاميين ج2 ص217 برقم 1218 كلهم بنفس رواية وزيادة ابن عساكر والبيهقي، وأورده السيوطي في الجامع الصغير (صحيح الجامع 3291) ومنه نقلنا هذا النص الذي نحن بصدده وقال الألباني في الصحيحة بعد أن ساق إسناد ابن ماجة: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات ( السلسلة الصحيحة 948).
2. رواه مسلم في باب البر والصلة والآداب برقم 4650
3. رواه مسلم في باب المساقاة برقم 2996
4. سير أعلام النبلاء / الذهبي ج 8 ص 122
5. رواية ابن ماجة وردت بلفظ (مخموم) ومعها أغلب روايات الحديث أنظر تاريخ ابن عساكر ومصباح الزجاجة للكناني ح4 ص239 ومسند الشاميين للطبراني والترغيب والترهيب برقم 4386وحلية الأولياء ج1 ص183 وتاريخ واسط للواسطي ج1 ص273 ونوادر الأصول وشرح الزرقاني ج3ص464
ومما رواها بلفظ ( محموم ) البيهقي في شعب الإيمان ح4ص205 برقم 4800 والذهبي في ميزان الاعتدال ج8ص112 والسيوطي في الجامع الصغير والكبير
وفي لسان العرب لابن منظور ج: 12 ص: 189(2/266)
مادة خمم: خَمَّ البيتَ والبئرَ يَخُمُّهما خَمّاً و اخْتَمَّهما: كنسهما، والاخْتِمامُ مثله. و المِخمَّةُ: المِكْنسَةُ. و خُمامَةُ البيت والبئر: ما كُسِحَ عنه من التراب فأُلقِيَ بعضُه على بعض؛ عن اللحياني: و الخُمامَةُ والقُمامَةُ: الكُناسةُ، وما يُخَمُّ من تراب البئر. و خُمامةُ المائدة: ما يَنْتَثِرُ من الطعام فيؤكل ويُرْجَى عليه الثواب. وقلب مَخْمومٌ أَي نَقِيٌّ من الغِلِّ والحسد. ورجل مَخمُومُ القلب: نَقِيٌّ من الغش والدَّغَلِ، وقيل: نَقِيُّهُ من الدنس. وفي الحديث عن سيدنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: خير الناس المَخْمومُ القلب. قيل: يا رسول الله ، وما المَخْمُومُ القلب؟ قال: الذي لا غشّ فيه ولا حسد، وفي رواية: سُئِلَ أَيُّ الناسِ أَفضلُ؟ قال: الصادقُ اللسانِ المَخْمُومُ القلب، وفي رواية: ذو القلب المَخْمُومِ واللسان الصادق، وهو من خَمَمْتُ البيت إِذا كنسته؛ ومثله قول مالك: وعلى السَّاقي خَمُّ العين أَي كنسها وتنظيفها.
6. رواه أحمد باقي مسند المكثرين برقم 12236
7. البخاري كتاب الأدب برقم 5629 ، مسلم كتاب الآداب والبر والصلة برقم 4719
8. إيقاظ أولي الهمم العالية / عبد العزيز السلمان / دار الإيمان _ ص56
9. المصدر السابق ص89
10. المصدر السابق ص 93
11. صفة الصفوة / ابن الجوزي ج3 ص 67
12. (صحيح) رواه ابن حبان عن أبي الدرداء حديث رقم: 134 في صحيح الجامع/ السيوطي، الألباني
13. (صحيح) رواه أحمد والطبراني عن أبي ثعلبة الخشني. حديث رقم: 1535 في صحيح الجامع.
14. (صحيح) رواه البزار عن أنس انظر حديث رقم: 1578 في صحيح الجامع .
15. (حسن) رواه أبو يعلى في مسنده عن أنس حديث رقم: 4048 في صحيح الجامع.
16. (صحيح) رواه الحاكم عن أبي هريرة حديث رقم: 6484 في صحيح الجامع.
---------------
62.بناء الرسول للجانب الاقتصادي في دولة المدينة
د.عبد الحليم عويس**
من المعروف أن المهاجرين عندما وفدوا إلى المدينة استقبلهم إخوانهم الأنصار انطلاقًا من قاعدة المؤاخاة بحب وإيثار لم يعرف تاريخ البشرية مثلهما، لدرجة أن الأنصار استحقوا أن يقول الله فيهم في كتابه الكريم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9).
وكان مما عرضه الأنصار على المهاجرين أن يقسموا بينهم أموالهم وأرضهم ودورهم، ولكن المهاجرين شكروا لهم كرمهم، وعملوا في شتى مناشط الحياة مع إخوانهم الأنصار.
وكان الأنصار أصحاب مزارع فقالوا للرسول: " اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، فقال: لا، فقالوا: تكفونا المئونة ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا" رواه البخاري.
إحياء للأرض
وقد بدأت عملية مزارعة كبرى في المدينة أعقبتها حركة إحياء للأرض الزراعية المهملة وفقا للقاعدة الشرعية التي وضعها الرسول "من أحيا أرضًا مواتًا فهي له" رواه البخاري.
وقد أقطع الرسول علي بن أبي طالب عيونًا بينبع اشتهرت فيما بعد بكثرة إنتاجها، وعمل فيها علي رضي الله عنه بنفسه.
كما أقطع الزبير بن العوام أرضًا بالمدينة استثمرها في الزراعة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد اشتهرت الكثير من الأودية التي انتشرت الزارعة بها في عصر الرسول، منها وادي "العقيق" الذي هو أهم أودية المدينة وفيه أموال أهل المدينة ومزارعهم.
كذلك من الأودية المهمة التي استخدمت للزراعة في المدينة وادي "بطحان" وكانت به مزارع بني النضير وأموالهم، كذلك وادي "مهزوز" كانت به أموال قريظة، ووادي "قناة" وهو ثالث أودية المدينة، ووادي "رانونا".
كذلك من الأودية التي استفيد من أرضها بالزراعة "وادي القرى"، كذلك عرف في الطائف الكثير من الأودية التي استفيد منها بالزراعة، أهمها وادي "وج"، ويقع غرب الطائف، وفيه الكثير من المزارع والبساتين وترفده بعض الأودية الأخرى، كذلك وادي "ليه" ويقع شرق الطائف وبالقرب منها.
نهضة زراعية
ولم يكن المهاجرون والأنصار وحدهم الذين أقاموا النهضة الزراعية في المدينة المنورة، بل كان ضمن العاملين بالزراعة في المدنية المنورة، (وغيرها من مدن الحجاز) شباب آخرون من الأجانب الذين أسلموا والتحقوا بالمدينة، سوريون أو مصريون أو رومانيون أو عراقيون.
ومما يدل على كثرة الموالي، أن الرسول حينما حاصر الطائف وأعلن عتق من ينزل إليه من الموالي، نزل إليه ثلاثة وعشرون عبدًا من الطائف.
وكانت هناك مجموعة كبيرة من الموالي الأحباش يعملون في المدينة في حقول الأنصار، ويدل على وجودهم الملموس أنهم حين قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الهجرة خرج هؤلاء الأحباش واجتمعوا ولعبوا بحرابهم فرحا بقدوم النبي إلى المدينة.(2/267)
وكانت لهذه الطوائف الشابة تأثيرها الذي لا ينكر في تنمية الزراعة في عهد الرسول.
وقد حرص الرسول على أن يكون للمدينة كيانها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المستقل؛ اعتمادا على التشابك القائم بين مجموعة النظم في إقامة كيان الدولة وتحقيق هيبتها الداخلية والخارجية.
كفالة المهاجرين
وعندما دخل الرسول المدينة وأقام سبعة أشهر في بيت أبي أيوب الأنصاري، قام الأنصار بالتنازل لرسول الله عن كل فضل كان في خططهم.. حتى يتمكن من تنظيم المدينة تنظيما يسمح بكفالة إخوانهم المهاجرين، بل إنهم -رضي الله عنهم- قالوا للرسول: يا نبي الله: إن شئت فخذ منازلنا.. فشكر الرسول لهم قولهم.
وقد سأل الرسول أسعد بن زرارة (نقيب النقباء) أن يبيعه أرضا متصلة بالمسجد الذي كان أسعد قد بناه لنفسه، فعرض عليه أسعد أن يأخذها الرسول هبة منه، لكنه رفض، ليقيم الموازين القانونية في التعامل، ودفع ثمنها عشرة دنانير أداها من مال أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ثم أمر الرسول باتخاذ "اللّبِن" فاتخذ، وبني به المسجد (مسجد الرسول) ورفع أساسه بالحجارة، وسقف بالجريد، وجعلت عمده جذوعا، وبهذا وضع الرسول القاعدة الدينية والأساسية في بناء دولة المدينة نظرا لتعدد الوظائف التي كان يقوم بها مسجده الشريف، والتي يجب أن يقوم بها كل مسجد.
تنظيم الري
واعتمادًا على تفويض الأنصار -رضي الله عنهم- للرسول في تنظيم أرض المدينة واقتصادها، بحيث يتحقق نسيج جديد إسلامي (إخائي) للمجتمع الجديد، قام الرسول بتوجيه التعامل مع "الماء والزرع" تعاملًا يكفل أقصى الفعالية.
فعندما قال له بنو حارثة من الأنصار: "يا رسول الله ها هنا مسارح إبلنا ومرعى غنمنا ومخرج نسائنا -يعنون موضع السقاية- قال لهم الرسول: من قطع شجرة فليغرس مكانها، فغرسنا الغابة".
وقد قضى رسول الله في وادي مهزور أن يحبس الماء في الأرض إلى الكعبين ثم يرسل إلى الأخرى، لا يمنع الأعلى الأسفل، (وهي عملية داخلة في باب تنظيم المياه بالنسبة للزراعة) وفي هذا لإطار ورد -أيضا- عن عبد الرحمن بن الحارث أن رسول الله قضى في سيل مهزور أن الأعلى يمسك على من أسفل منه، حتى يبلغ الكعبين ثم يرسله على من أسفل منه.
وحدثنا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قضى رسول الله في سيل مهزور أن لأهل النخل إلى العقبين، ولأهل الزرع إلى الشراكين، ثم يرسلون الماء إلى من هو أسفل منهم.
وعن ابن جعدبة وغيره قالوا: أشرفت المدينة على الغرق في خلافة عثمان من سيل مهزور حتى اتخذ له عثمان ردمًا.
وفيما يتعلق بالأرض ومعادنها أو زراعتها قام الرسول بتوزيع الأرض المتروكة في المدينة على الصحابة، فأقطع عليه السلام بلال بن الحارث معادن بناحية الفروع، أي أرضا فيها معادن.
وعن جعفر بن محمد أن رسول الله أقطع عليا رضي الله عنه أربع أرضين: الفقيرين، وبئر قيس، والشجرة.
وعن أبي عكرمة مولى بلال بن الحارث المزني قال: أقطع رسول الله بلالًا أرضًا فيها جبل ومعدن، فباع بنو بلال عمر بن عبد العزيز أرضا منها، فظهر فيها معدن أو قال معدنان، فقالوا: إنما بعناك أرض حرث، ولم نبعك المعادن.
وجاءوا بكتاب النبي لهم في جريدة، فقبلها عمر، ومسح بها عينه، وقال لقيمه: انظر ما خرج منها وما أنفقت وقاصهم بالنفقة ورد عليهم الفضل.
وهكذا قام الرسول كنبي وقائد دولة بتنظيم المياه والأرض، والأسواق، وتشجيع الزراعات والمهن والحرف، بحيث تحقق لدولة المدينة كيان اقتصادي يواجه المسلمون من خلاله اليهود الذين كانوا يريدون احتكار عصب الاقتصاد في الداخل، ويواجهون -كذلك- الكيانات الاقتصادية الخارجية.
0000000000000000
**أستاذ بجامعة الأزهر الشريف
---------------
63.الرسول صلى الله عليه وسلم وحقوق الإنسان
دكتور-محمد إبراهيم الجيوشي**
حقوق الإنسان
كثر الحديث في عالمنا المعاصر عن حقوق الإنسان، واتخذ العالم يوما خاصا سماه يوم حقوق الإنسان، وذلك على الرغم مما يعانيه البشر في جوانب متعددة في أرض الله من الإذلال والتشريد والقتل، وإهدار للكرامة الإنسانية، وتحكم القوى العظمى في مصائر الأمم والشعوب، وممالأة المعتدين والمغتصبين، وإغماض العين عن صنوف المعاناة التي يواجهها بنو الإنسان في مناطق مختلفة من العالم.
لأن المعتدي يوافقهم في الدين، والمعتدى عليه ليس على ملتهم، وأصدق مثل لذلك ما وقع، ويقع في بلاد المسلمين المختلفة، مما يدمغ هذه القوى بالخديعة والنفاق واسترخاء الأعصاب، كأن ليس هناك أنفس تزهق، وبيوت تهدم، وأعراض تنتهك، وشعوب تواجه الموت والدمار. ثم تحرم من الحصول على سلاح تحمي بها نفسها، وتدافع به عن كيانها.
عدوان على القيم(2/268)
أرأيت ظلما أبشع من هذا الظلم، وتنكرا لقيم الحق والعدل والإنصاف أمعن في الضلال والتضليل والخداع أعتى مكرا من هذا الذي يقع تحت سمع العالم وبصره، وعلى مرأى منه، بل وحماية من الأمم المتحدة للعدوان على شعب مسلم يريد أن يعيش حرا على أرضه آمنا في سربه.
هؤلاء المسلمون الذين يواجهون كل هذا العدوان على القيم الإنسانية هم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، الذي رد للإنسان كرامته، وحفظ عليه إنسانيته، ونادى بحقه في الحرية والحياة الكريمة، وكم عمل جاهدا حتى يحقق للضعفاء أمنا وسلاما نعموا بهما، وذاقوا طعم الحياة الكريمة في ظل القيم والمبادئ التي أرسى الإسلام قواعدها ولله در أمير الشعراء أحمد شوقي حين يقول:
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا***منه وما يتعشق الكبراء
لو لم تقم دينا لقامت وحدها****دينا تضيء بنوره الآلاء
زانتك في الخلق العظيم شمائل***يغرى بهن ويولع الكرماء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى***فالكل في حق الحياة سواء
فلو أن إنسانا تخير ملة********ما اختار إلا دينك الفقراء
الحق في الحياة
هذه اللمحة النورانية التي حبا الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ردت الكرامة الإنسانية على قوم أفقدهم الظلم إياها، وسلبهم نعمتها، وأعادت إليهم الإحساس بقيمتهم وحقهم في الحياة الحرة الكريمة التي لا تعرف تمييزًا بين البشر بسبب جنس أو لون أو لغة، فالناس كلهم لآدم وآدم من تراب.
لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلى بالتقوى والعمل الصالح، وإن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، والتقوى والأعمال النافعة للأمم والأفراد هي مناط التقدم عند الله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات: آية 13.
والله وحده هو الذي تخضع له الرقاب، وتعنو له الجباه، والناس جميعا أمام الحق سواء.
الله فوق الخلق فيها وحده***والناس تحت لوائها أكفاء
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمح لنزعة التعالي والعنصرية أن يذر قرنها، بل كان يواجهها بكل حزم حتى يقتلعها من جذورها، ولذلك لما سمع أبا ذر يعير آخر بسواد أمه بدا عليه الغضب الشديد، وقال له مقرعا ومعبرا عن ضيقه بهذه النزعة المقيتة: طف الصاع طف الصاع، إنك امرؤ فيك جاهلية، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل، ونزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الحجرات: آية 11.
نزعة التعالي
ولما طلب بعض الزعماء من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم مجلسا خاصا لا يشاركهم فيه الضعفاء والفقراء نزل القرآن ينهى عن الاستجابة لهم، ويطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصبر نفسه على الجلوس إلى الضعفاء والفقراء، لأن نزعة التعالي هذه يمقتها الإسلام، ويؤكد الأخوة الإنسانية العامة، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} الكهف: آية 28.
كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجا فذا في التاريخ الإنساني كله، لم تعرف الدنيا مثلا فريدا في سمو الخلق واستقامة السلوك وحسن المعاملة كما عرفت من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي فاضت بها الأخبار، ورواها من خالطه وتعامل معه وسجلتها كتب السير على ألسنتهم إعجابا بما رأوا، وما لمسوه من نبل الأخلاق، وكرم المعاملة، ولا غرو في ذلك، فالله سبحانه قد أثنى عليه في كتابه الكريم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم: آية 4، ووصفه بالرحمة ولين الجانب والتواضع، والبعد عن الجفوة والخشونة بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} آل عمران: آية 159.
دعوى للطهر والنقاء
وإن الدارس لحياة النبي صلى الله عليه وسلم حينما يجد هذه العظمة التي لم تعرف البشرية لها مثيلا، والتي كانت سمة واضحة تبدو جلية في كل تصرفاته وأقواله وأفعاله، حينما يرى ذلك يتساءل من أين اكتسب -صلوات الله وسلامه عليه- هذه الشمائل المضيئة؟، هل جاءته من البيئة المحيطة به، والتي نشأ فيها؟ وهل ورثها وتلقاها عن والديه؟.(2/269)
حينما يحاول المرء أن يجد جوابًا عن هذه التساؤلات يجد أن الجو العام الذي نشأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمثل مجتمعًا بعيدًا كل البعد عما اتصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم من مُثل وأخلاق، وحسبك لتعلم ذلك أن تلقي بسمعك لما قاله جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي يصف ما كان عليه المجتمع قبل دعوته -صلوات الله وسلامه عليه- من ظلم وضياع للحقوق وفقدان للأمان، واستغلال القوي للضعيف، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من احترام الإنسان، ورد لكرامته الضائعة، وحماية للضعفاء من عسف الأقوياء، ودعوى للطهر والعفاف والنقاء، وإصلاح للعقائد، واحترام لعقل الإنسان وتقدير له في قوله:
"أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى إله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا...
وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاءه من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك".
هكذا صور جعفر رضي الله عنه حال المجتمع قبل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
ووضع في مقابل ذلك ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من إصلاح للعقيدة والأخلاق والسلوك والمعاملات، وبخاصة حماية الضعفاء من ظلم الأقوياء.
فهل يعتقد أن بيئة هذه سماتها يكون لها تأثير إيجابي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، إذن فليس للبيئة أثر في هذا السمو النبيل في الأخلاق التي تحلى بها -صلوات الله وسلامه عليه.
وإذا عرفنا أن أباه مات وهو جنين في بطن أمه، وأن أمه ماتت وهو في سن السادسة أدركنا أيضا أن ليس لهما توجيه في حياته، إذن فمن أين جاء ذلك لنبي الرحمة والهدى؟؟!
الإجابة ببساطة شديدة تأتي في آية قرآنية -من لدن حكيم خبير- جامعة لكل معاني الرحمة لبني البشر أجمعين؛ هي قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء: 107) إذن فهي رسالته صلى الله عليه وسلم.. نعم تلك هي الإجابة.
0000000000000000
** عميد كلية الدعوة الإسلامية بالقاهرة سابقً
---------------
64.ولد أمة على يد الحبيب
الدكتور: عبد الستار الهيتي**
في فترة من فترات التاريخ الغابرة، وعلى ثرى البقعة المباركة التي اختارها الله لتكون مثابة للناس وأمنًا، وفي ظل أجواء مليئة بالجهل والظلم، وتحكم الغني بالفقير، وسيطرة القوي على الضعيف؛ كان العالم كله يرقب ولادة جديدة تنتشل الأمة من وهدتها، وتطيح بالظلم والطغيان؛ لتضع الأمور في نصابها وتعيد للإنسانية كرامتها وترتفع بالبشرية من حياة الذل والضياع متطلعة بها إلى حياة العزة والمجد.
وسط هذه الأجواء الملبدة بغيوم الجهل والشرك والوثنية كانت الولادة المرتقبة؛ فانتبهت مكة على إيقاع صوت الحق ينطلق من بين أزقتها، وأفاقت تلك المدينة المقدسة الوادعة على أنغام الترحاب بالوليد اليتيم الذي لم يكن يخطر ببال أحد أنه سيكون منقذًا لأمة ومؤسسًا لحضارة ومعلمًا للبشرية وقائدًا لركب الإيمان والتوحيد.
علامة مضيئة
إنه في صبيحة الثاني عشر من ربيع الأول كان العالم على موعد مع العلم والفضيلة والحضارة التي انطوت جميعها فتمثلت بالميلاد الميمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في وقت كانت فيه البشرية بأمس الحاجة إلى تصحيح الأفكار وبناء العقائد وبرمجة الرؤى والتوجهات.
بحيث أصبح ذلك الميلاد علامة مضيئة في التاريخ الإنساني ليس للمسلمين فحسب وإنما للإنسانية جمعاء على اختلاف مللها وتعدد نحلها، ويؤكد هذا المعنى ما أشار إليه أحد الشعراء المسيحيين بقوله:
أمحمد والمجد بعض صفاته
مجّدت في تعليمك الأديانا
بعث الجهاد لدن بعثت وجردت
أسياف صحبك تفتح البلدانا
ورفعت ذكر الله في أمية
وثنية ونفحتها الإيمانا
مرحا لأمي يعلم سفره
نبغاء يعرب حكمة وبيانا
إني مسيحي أحب محمدا
وأراه في فلك العلا عنوانا
اليد العصماء(2/270)
لم يكن ميلاد محمد بن عبد الله العربي القرشي حدثا تاريخيا عابرا يمر عليه المؤرخون مرورا، وإنما مثّل من خلال نبوته ورسالته أبرز دعوات الإصلاح والتربية في دنيا البشرية على الإطلاق.
فقد استطاع أن يجعل من جزيرة العرب مصدر إشعاع فكري وثقافي وحضاري، قدمت الأمة من خلاله للعالم صياغة روحية ومادية حملت بين طياتها معالم البعد الرسالي لدعوة الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة.
حيث تمكن محمد -صلى الله عليه وسلم- من أن يتبوأ قمة الهرم ليكون على رأس المصلحين الذين كان لهم أثر بارز في توجيه البشرية نحو الفضيلة والرشاد، وفي هذا يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
المصلحون أصابع جمعت يدا***هي أنت بل أنت اليد العصماء
ففي ميدان الإصلاح العقائدي والفكري كان لمحمد -صلى الله عليه وسلم- الفضل الكبير في ترسيخ معالم عقيدة التوحيد التي تعني إفراد العبودية لله تعالى ونبذ الشرك والوثنية والإطاحة بعبادة الأصنام لتخليص الفكر البشري من سفاهات العقائد الباطلة والترفع به عن عبادة البشر أو الحجر:
بك يا ابن عبد الله قامت سمحة
للحق من ملل الهدى غراء
بنيت على التوحيد وهو حقيقة
نادى بها سقراط والحكماء
نبذ التمايز الطبقي
وفي ميدان الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي كان لمحمد -صلى الله عليه وسلم- الباع الطويل في بناء نظرية اقتصادية ترعى الفقراء وتهتم بشئونهم وتحافظ على حقوقهم من أن يتعدى عليها المتنفذون وأصحاب رؤوس الأموال، كما كان له الفضل الكبير في تحقيق العدالة والمساواة بعيدا عن التمايز الطبقي أو التفاوت الاجتماعي:
جاءت فوحّدت الزكاة سبيله
حتى التقى الكرماء والبخلاء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى
فالكل في حق الحياة سواء
فلو أن إنسانا تخيّر ملّة
ما اختار إلا دينَك الفقراء
قيم وثوابت
أما السياسة والقيادة عند محمد -صلى الله عليه وسلم- فلها نمط آخر وصيغة متقدمة لم يستطع العالم الذي يعيش اليوم أوج حضارته وقمة تقدمه الحضاري أن يصل إلى ذلك النهج السوي من حيث الوضوح في الطرح، والصدق في التعامل، والأمانة في العهود، والعدل في الحكم؛ فمزج بذلك السياسة بالأخلاق والقيادة بالرحمة والإمارة بالمساواة، فتحقق بذلك حلم الفلاسفة القدماء وآمال المفكرين الحكماء:
والدين يسر والخلافة بيعة
والأمر شورى والحقوق قضاء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته
فجميع عهدك ذمة ووفاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب
هذان في الدنيا هما الرحماء
وعلى أساس هذه الثوابت شيّد "محمد النبي والرسول" قواعد حضارة عربية إسلامية، وبنى مجدا وعزا وعلما لا يزال العالم ينهل منه ويفيد من طروحاته ويرجع إليه عند اشتداد الأزمات واحتلاك الخطوب؛ فالمصدر رباني إلهي، والصياغة محمدية نبوية، وآلية التطبيق عربية إسلامية عاش العالم في ظلالها ردحا طويلا من الزمن ينعم بالأمن والأمان والخير والسلام.
فلا ظلم ولا طغيان، ولا انتهاك ولا عدوان؛ الجميع تحت مظلة القانون سواسية؛ فكلكم لآدم وآدم من تراب، فلا ميزة لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولا فرق بين مسلم أو يهودي أو نصراني من حيث الحقوق والواجبات، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا.
ومحمد -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من آذى ذميا فأنا خصمه" رواه أبو داود، ويقول: "يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها" رواه البخاري.
وهكذا قدم "محمد" برنامج عمل وصياغة قانونية لدولة العدل والتسامح والمساواة قبل أن يعرف العالم بوادر النهضة الحديثة وقبل أن تبرز طلائع الثورة الفرنسية التي يفخر الغرب بها وبطروحاتها حتى كان ميلاد محمد -صلى الله عليه وسلم- ميلاد أمة بكاملها؛ شيدت حضارة وأقامت دولة ونشرت في ربوع العالم العلم والمعرفة.
إذا كانت هذه هي المعاني السامية التي قدمها محمد للعالم كافة وللعرب والمسلمين خاصة، فإن الأمة اليوم مطالبة ببرمجتها على أرض الواقع وتقديمها كحلول ناجعة للخلاص من حالة الضياع والتشرذم الذي آلت إليه أحوالها في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وإذا كان العامة من أبناء الأمة ملتزمين بالكثير من هذه المفاهيم والمعاني الكبيرة في علاقاتهم الدينية والأخلاقية، فإن خاصتها من المثقفين والسياسيين وأصحاب القرار يحتاجون إلى مراجعة حثيثة لأنفسهم ولخطواتهم ولقراراتهم؛ لتأتي متفقة مع الإرث الحضاري الذي خلفه محمد بن عبد الله لهذه الأمة ولتحظى بالمكانة السامية التي حظي بها أسلافنا يوم سادوا العالم وقدموا له أفضل برامج الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.(2/271)
وإلى أن يتحقق ذلك فإن أولي الأمر في هذه الأمة وعلماءها ومثقفيها مطالبون بجهد كبير وسعي حثيث لتصحيح علاقاتهم مع الله أولا ومع شعوبهم ثانيا، عن طريق الحوار الهادف البناء والمرونة في الطرح والتعامل والمشاركة الحقيقية لشعوبهم في آمالهم وآلامهم ليكونوا جزءا من الأمة وليس في أبراج عالية بعيدة عنها.
000000000000000000000
* نقلا عن صحيفة الشرق القطرية ببعض التصرف.
** الدكتور: عبد الستار إبراهيم الهيتي كاتب وأكاديمي عراقي.
---------------
65.إِذَا عَزَّ أَخُوكَ فََهُنْ
الكاتب: شيخ سلمان بن فهد العودة
الناظر فيما يكتب اليوم في الإنترنت؛ يلحظ جرأة محمودة في الطرح والتناول للقضايا؛ تؤذن بانقراض زمن الصمت, وميلاد عصر المشاركة, والمصارحة, وحوار الآراء. وعلينا أن نتقبل هذا الواقع لاعتبارات كثيرة؛ من أهمهما: أنه يفضي إلى تكريس دور الفرد, وواجبه ومسئوليته، ويخفف في نهاية المطاف من الاحتقان والتوتر الناجم عن المصادرة والإلغاء، والقضاء على خصوصية الإنسان.
فمناخ الحرية المعتدل هو الأفضل لبناء أناس أسوياء راشدين معتدلين؛ ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متواضعاً, بعيداً عن مؤاخذة الناس ومعاجلتهم. وما ضرب خادماً ولا امرأة ولا أحداً؛ إلا أن يضرب في سبيل الله. وقال له رجل: اعدل يا محمد؟ فقال: "ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل!" وانتهى الأمر عند هذا الحد!.
وقال آخر: والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله!، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة الرجل؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر!".
وأنزل عليه ربه سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)[الأحزاب:1]، وقوله: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاه) [الأحزاب: من الآية37] وقوله: ( وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً) [النساء: من الآية105]. وقوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى)[عبس:2،1]. وقوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى *وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى *وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)[الضحى:8]. وقوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال:67].
ومن حوله كان المنافقون واليهود وضعفاء الإيمان من الأعراب وغيرهم..، فكان يتلو عليهم جميعاً هذا القرآن, وهم يتحفظونه ويقرؤونه في صلاتهم ومجامعهم؛ ولهذا اختار صلى الله عليه وسلم أن يكون عبداً رسولاً، فليس له سيماء الملوك, وأبهتهم في الهيبة المتكلفة, والوقار المفرط. وقد رآه أعرابي؛ فاضطرب! فقال صلى الله عليه وسلم: "هون عليك؛ إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد!".
ومن أكثر أصحابه هيبة وقوة (عمر بن الخطاب). وفي خلافته كان يأتيه أبي بن كعب -من صغار الأنصار-؛ فيرد عليه في مسألة علمية, ويقول له: يا ابن الخطاب لا تكونن عذاباً على أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فيعتذر الخليفة, ويقول: خفي علي هذا من أمر رسول الله؟ ألهاني عنه الصفق في الأسواق!.
إن الرجوع إلى هذا النمط في العلاقة بين الناس- من العلماء, والمتعلمين, والعامة- ضرورة في هذا العالم المتغير.وإذا كنا في مرحلة توجب علينا تقبل هذا التنوع في المعالجة والنظر، وهذا التجديد في الرؤية لاعتبارات عديدة، منها: اعتبارات خارج إطارنا الإسلامي، من حيث الانفتاح العالمي والإعلامي والاقتصادي والسياسي، بحيث إن الدول بما تملكه من قدرات وإمكانيات أصبحت عاجزة عن مقاومة هذا الانفتاح أو صده، فكيف بغيرها؟!.وهذا قد يبدو كما لو أن الانفتاح كان أمراً اضطرارياً لا خيار فيه من حيث الجملة.(2/272)
لكن ثمة اعتبارات داخل الإطار الإسلامي تلاحظ أن كسر الاعتياد المألوف على أمر واحد كان صعباً، وقد يفضي إلى كثير من الخصام والانشقاق الذي يداريه بعض رجال الدعوة، ويتخوفون سوء عواقبه، فلما جاءت هذه الحركة الانفتاحية رأوا فيها -على ما فيها- وجهاً من الخير يؤهل للرجوع إلى الأمر الأول الذي كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ، بحيث لا تكون الأطروحات الدعوية مثقلة بأعباء تاريخية وواقعية تئد مسيرتها وتبطئ خطوها، وبهذا يتم التخفف من ألوان العصبيات العلمية والاجتماعية والحركية لصالح الحرية الشرعية المنضبطة.ولأن الناس ربما لم يتعودوا على كيفية استخدام هذه الحرية التي حصلوا عليها إلكترونياً أو فضائياً؛ فإن المرحلة السابقة يمكن اعتبارها فترة للتدريس والتعود، وهذا يخفف من القلق الذي يساورنا حين نرى اللغة التي يتم تداولها عبر الحوار، أو المسلك الأخلاقي في التثبت والاستماع والمعالجة والجرأة على ما لا يفهم المرء ولا يحسن ولا يدرك أبعاده، وبصفة أوسع: التفريط في حقوق الأخوة بسبب ما يظن أنه اختلاف، وقد يكون الأمر اختلافاً سائغاً؛ بل محموداً لا تثريب فيه، أو أن الحق مع الطرف الذي نشجبه ونشنع عليه، ولكن خفي علينا، ومن جهل شيئاً أنكره و عاداه، أو ليس ثمة اختلاف أصلاً، وإنما هو كما يقول أهل العلم: "خلاف لفظي ليس له ثمرة ولا محصلة". وبكل حال؛ فإن الواجب علينا أن نجتهد في رفع مستوى الحوار ولغة التخاطب وأخلاقيات التعامل إلى أسمى ما هو ممكن، والمثل الأعلى لدينا هو في التعليمات الربانية في محكم التنزيل، وفي التطبيقات النبوية الكريمة.ومن الخطأ افتراض أننا نعيش أوضاعاً ليس لها مثيل من قبل، ولذلك نفترض أن أساليب مواجهتها يحب أن تختلف عما كان عليه الأمر في عهد السلف. هذا غير صحيح، فلدينا سيرة نبوية عطرة عاشت فترة الضعف والتمكين، والكثرة والقلة، ومع الموافق والمخالف، وعايشت اليهود والمنافقين بالمدينة، والوثنين بمكة ثم بالمدينة وجزيرة العرب، والنصارى في نجران وبلاد الشام، وضعفاء النفوس من المسلمين، كما عايشت الاختلاف في وجهات النظر منذ العهد النبوي ثم عصور بني أمية وبني العباس. والعبرة بالقواعد العامة التي انطلقوا منها، وليست بالاجتهاد الفردي، فحين نقول عن منهج ما أو طريقة ما: إنها طريقة سلفية؛ فهذا يعني لزاماً أن السلف مطبقون عليها، أما حين يكون اجتهاداً لإمام منهم؛ فإنها تظل اجتهاداً فردياً غير ملزم، وإنما الملزم للناس هو:
- الكتاب.
- السنة الصحيحة.
- الإجماع الثابت، وليس المدعى.
ولكل فقيه أو عالم أن يجتهد وراء ذلك بما يدين به من فهم النص أو الجمع بينه وبين غيره، أو الانطلاق من القواعد الكلية والمقاصد الشرعية. وليس ثمة حجر أن يختلف العلماء، وأن يرد بعضهم على بعض؛ لكن مع رعاية أصول الاختلاف وأصول الرد وأصول التنازع، فلا تجريح ولا اتهام، ولا تنقص ولا ازدراء ولا تسفيه؛ وإنما عفة في اللسان والقلم يكسو المرء بها لفظه، ويبين عن طيب معدنه وسلامة قصده، وحرصه على الهداية، وبعده عن الهوى والحظ الشخصي.وقديماً كان حكيم الفقهاء (الشافعي) يقول:
- قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب.
- ما ناظرت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه.
- لو خاصمت ألف عالم لخصمتهم، ولو خاصمت جاهلاً لخصمني.
- يا ربيع اكسُ ألفاظك.
- ألا يمكن أن نكون إخوة؛ وإن لم نتفق في مسألة؟
- الحر من راعى وداد لحظة أو تمسك بمن أفاده لفظة.
فرحم الله الإمام الشافعي وأعاد إلى المسلمين سداد هذا المنهج
---------------
66.لمحة من أخلاق خير البشر
الكاتب: محمد الغزالي
ظهر من هذه التعاليم أن الإسلام جاء لينتقل بالبشر خطوات فسيحات إلى حياة مشرفة بالفضائل و الآداب، وأنه اعتبر المراحل المؤدية إلى هذا الهدف النبيل من صميم رسالته، كما أنه عد الإخلال بهذه الوسائل خروجا علية و ابتعادا عنه.
فليست الأخلاق من مواد الترف، التي يمكن الاستغناء عنها، بل هي أصول الحياة التي يرتضيها الدين، ويحترم ذويها.. وقد أحصى الإسلام بعدئذ الفضائل، و حث أتباعه على التمسك بها واحدة, واحدة.
ولو جمعنا أقوال صاحب الرسالة في التحلي بالأخلاق الذكية لخرجنا بسفر لا يعرف مثله، لعظيم من أئمة الإصلاح.
وقبل أن نذكر تفاصيل هذه الفضائل، وما ورد في كل منها على حدا نثبت طرفا من دعوته الحارة، إلى محامد الأخلاق، ومحاسن الشيم:
عن أسامة بن شريك قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسنا الطير، ما يتكلم منا متكلم، إذ جاءه أناس فقالوا: من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ قال: ((أحسنهم خلقا)). وفي رواية: ((ما خير ما أعطى الإنسان؟ قال: خلق حسن)).
قال: ((إن الفحش والتفحش ليسا من الإسلام في شئ، وإن أحسن الناس إسلاما أحسنهم خلقا)).
وسئل: ((أي المؤمنين أكمل إيمانا؟ قال: أحسنهم خلقا)).(2/273)
و عن عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: ((ألا أخبركم بأحبكم إلىّ، وأقربكم منى مجلسا يوم القيامة؟ - فأعادها مرتين أو ثلاثًا - قالوا نعم يا رسول الله؛ قال: أحسنكم خلقا)).
و قال: ((ما من شئ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، إن الله يكره الفاحش البذيء، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة)).
هذا التصريح لو صدر عن فيلسوف يشتغل بشؤون الإصلاح الخلقي فحسب لما كان مستغربا منه، إنما وجه العجب أن يصدر عن مؤسس دين كبير، والأديان – عادة – ترتكز في حقيقتها الأولى على التعبد المحض.
ونبي الإسلام دعا إلى عبادات شتى، و أقام دوله ارتكزت على جهاد طويل ضد أعداء كثيرين، فإذا كان – مع سعه دينة، و تشعب نواحي العمل أمام أتباعه، يخبرهم بأن أرجح ما في موازينهم يوم الحساب، الخلق الحسن، فإن دلالة ذلك على منزلة الخلق في الإسلام لا تخفى..
والخلق أن الدين إن كان خلقًا حسنًا بين إنسان وإنسان، فهو في طبيعته السماوية صلة حسنة بين الإنسان وربه، و كلا الأمرين يرجع إلى حقيقة واحدة أن هناك أدياناً تبشر بأن اعتناق عقيدة ما، يمحو الذنوب، وأن أداء طاعة معينه يمسح الخطايا.
لكن الإسلام لا يقول هذا، إلا أن تكون العقيدة المعتنقة محواراً لعمل الخير، و أداء الواجب، و أن تكون الطاعة المقترحة غسلاً من السوء، و أعدادا للكمال المنشود، أي أنه لا يمحق السيئات إلا الحسنات التي يضطلع بها الإنسان، ويرقى صاعدًا، إلى مستوى أفضل.
و قد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على توكيد هذه المبادئ العادلة، تتبينها أمته جيدًا، فلا تهون لديها قيمة الخلق و ترفع قيمة الطقوس.
عن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة، وأشرف المنازل، وأنه لضعيف العبادة، و أنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أن المؤمن بحسن خلقه درجة الصائم القائم))..
و في رواية: ((إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجات قائم الليل و صائم النهار)).
و عن بن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصوام القوام بآيات بحسن خلقه و كرم طبيعته)).
و روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه)).
وروى عنه أبو ذر: (( قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، وجعل قلبه سليمًا، ولسانه صادقًا، و نفسه مطمئنة، و خلقه مستقيمة)).
وحسن الخلق لا يؤسس في المجتمع بالتعاليم المرسلة، أو الأوامر والنواهي المجردة، إذ لا يكفى في طبع النفوس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره: أفعل كذا، أو لا تفعل كذا، فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة، و يتطلب تعهدًا مستمرًا.
و لن تصلح تربيه إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة، فالرجل السيئ لا يترك في نفوس من حوله أثرًا طيبًا.
وإنما يتوقع الأثر الطيب ممن تمتد العيون إلى شخصه، فيروعها أدبه و يسبيها ليله و تقتبس- بالإعجاب المحض من خلاله، و تمشى بالمحبة الخالصة من أثاره.
بل لابد- ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل- أن يكون في متبعه قدر أكبر و قسط أجل..
و قد كان رسول الإسلام بين أصحبه مثلاً أعلى للخلق الذي يدعو إليه، فهو يغرس بين أصحابه هذا الخلق السامي، بسيرته العاطرة، قبل أن يغرسه بما يقول من حكم و عظات.
عن عبد الله بن عمرو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشا ولا متفحشا، و كان يقول: ((خياركم أحاسنكم أخلاقا)).
وعن أنس قال: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين. والله ما قال لي: أف قط، و لا قال لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟
وعنه: إن الأمة كانت لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت، و كان إذا أستقبله فصافحه، لا ينزع يده من يده، حتى يكون الرجل ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه، حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم ير مقدمًا ركبتيه بين يدي جليس له - يعنى أنه يتحفظ مع جلسائه فلا يتكبر-.
و عن عائشة رضى الله عنها قالت: ((ما خير رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه، وما أنتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شئ قط، إلا أن تنتهك حرمه الله فينتقم، وما ضرب رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى.
وعن أنس: كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برده غليظة الحاشية، فأدركه أعرابيًا فجذبه جذبه شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله، و قد أثرت بهل حاشيه البرد من شده جذبته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك! فألتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضحك، و أمر له بعطاء.(2/274)
و عن عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((إن الله رفيق، يحب الرفق، و يعطى على الرفق مالا يعطى على العنف، و مالا يعطى على سواه )).
و في رواية: (( إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه، ولا ينزع من شئ إلا شانه))
و عن جرير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ((إن الله عز و جل ليعطى على الرفق ما لا يعطى على الخرق – الحمق – و إذا أحب الله عبدا أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير كله )).
و سئلت عائشة رضى الله عنها ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يفعل فى بيته؟ قالت: (( كان يكون في مهنة أهله – أي خدمتهم- فإذا حضرت الصلاة يتوضأ و يخرج إلى الصلاة)).
وعن عبد الله بن الحارث: ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه و سلم!.
و عن أنس: كان رسول الله أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ فطيم، يسمى أبا عمير، لديه عصفور صغير اسمه النغير، فكان رسول الله يلاطف الطفل الصغير ويقول له: " يا أبا عمير، ما فعل النغير"!.
و المعروف في شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان سمحًا لا يبخل بشيء أبدًا، شجاعًا لا ينكص عن حق أبدًا، عدلا لا يجور في حكم أبدًا، صدوقا أميناً في أطوار حياته كلها.
وقد أمر الله المسلمين أن يقتدوا به في طيب شمائله وعريق خلاله فقال: ?لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا ? (الأحزاب: 21).
قال القاضي عياض:
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، لقد فظع أهل المدينة ليلة، فانطلق ناس ِقبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعا، قد سبقهم إليه واستبرأ الخبر على فرس لأبى طلحة عري و السيغ في عنقه، وهو يقول لن تراعوا.
و قال على رضى الله عنه: إنا كنا – إذا حمى البأس و احمرت الحدق- نتقى برسول الله صلى الله عليه و سلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه.
و عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:لا, وقد قالت له خديجة: ((إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق)).
و حمل إليه سبعون ألف درهم، فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسمها، فما رد سائلاً، حتى فرغ منها.
وجاءه رجل فسأله، فقال له: ما عندي شئ، ولكن ابتع علي، فإذا جائنا شئ قضيناه، فقال عمر: ما كلفك الله مالا تقدر عليه! فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً، فتبسم النبي، وعرف البشر في وجهه، وقال: بهذا أُمرت.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤلف أصحابه ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم.
ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره ولا خلقه.
يتفقد أصحابه ويعطى كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه.
من جالسه، أو قاربه لحاجه صابره، حتى يكون هو المنصرف عنه.
ومن سأله حاجه لم يرده إلا بها، أو بميسور من القول.
قد وسع الناس بسطه و خلقه، فصار لهم أبا، و صاروا عنده في الحق سواء.
وكان دائم البشر، سهل البع، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهى، ولا يقنط منه قاصده.
وعن عائشة رضى الله عنها: ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله، ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: لبيك.
و قال جرير بن عبد الله رضى الله عنه: ما حجبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم.
وكان يمازح أصحابه ويخالطهم و يجاريهم، ويداعب صبيانهم و يجلسهم في حجره.
ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المتعذر.
قال أنس: ما ألتقم أحد أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم فينحى رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحى رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الأخر، و كان يبدأ من لاقيه بالسلام، و يبدأ أصحابه بالمصافحة.
لم ير قط مادًا رجليه بين أصحابه فيضيق بهما على أحد.
يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى.
ويكنى أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمه لهم، ولا يقطع على أحد حديثه، حتى يتجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام.
وعن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ أتى بهديه قال: اّذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقه لخديجة، إنها كانت تحب خديجة.
و عن عائشة رضى الله عنها قالت: ما غرت من امرأة، ما غرت من خديجة، لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان يذبح الشاه فيهديها إلى خلائلها، واستأذنت عليه أختها فأرتاح إليها، ودخلت عليه امرأة فهش لها وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الأيمان.
وكان يصل ذوى رحمه، من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم.(2/275)
و عن أبى قتاده: لما جاء وفد النجاشى قام رسول الله صلى الله عليه و سلم يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك، فقال: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وأنى أحب أن أكافئهم.
و عن أبي أمامة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئًا على عصا، فقمنا له فقال: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضًا.
وقال: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، وكان يركب الحمار، ويردف خلفه، ويعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجلس بين أصحابه مختلطًا بهم، حيثما انتهى به المجلس جلس.
وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل رث عليه قطيفه ما تساوى أربعه دراهم، فقال: الهم حجه لا رياء فيها ولا سمعة.
و لما فتحت عليه مكة ودخلها بجيوش المسلمين، طأطأ رأسه على راحلته حتى كاد يمس قادمته، تواضعا لله تعالى.
وكان كثير السكوت لا يتكلم في غير الحاجة، و يعرض عمن تكلم بغير جميل.
و كان ضحكه تبسمًا، و كلامه فصلاً، لا فضول فيه ولا تقصير.
و كان ضحك أصحابه عنده التبسم، توقيرا له و إقتداء به.
مجلسه مجلس حلم و خير وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، لا تخدش فيه الحرم.
إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير.
و إذا مشى مجتمعا، يعرف في مشيته أنه غير ضجر ولا كسلان.
قال بن أبى هالة: كان سكوته على أربع: على الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر.
و قالت عائشة كان يتحدث حديثًا، لو عده العاد أحصاه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الطيب والرائحة الحسنة؛ و يستعملها كثيرًا.
و قد سيقت له الدنيا بحذافيرها، و ترادفت عليه فتوحها، فأعرض عن زهرتها، ومات و درعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات
المصدر: موقع الوحدة الإسلامية: www.alwihdah.com
* المصدر: كتاب خلق المسلم (محمد الغزالي).
---------------
67.السر في اسم " محمد صلى الله عليه وسلم"..؟؟
أختكم في الله/ مروة
حين ولد الرسول صلى الله عليه وسلم أقام جده عبد المطلب مأدبة دعى إليها كل أفراد قبيلة قريش الذي أكلوا من عقيقة النبي صلى الله عليه وسلم وسألوا عبد المطلب: ماذا سميته؟ فقال: سميته محمدًا، فنظر الناس إلى بعضهم بدهشة لأن الاسم غريب على آذانهم لم تعرفه العرب قبل ذلك، وكأن الله تبارك وتعالى ادخر هذا الاسم وألهم عبد المطلب به ليقع أمرًا مكتوبًا في اللوح المحفوظ منذ خلق آدم عليه السلام، أن نبي آخر الزمان اسمه محمد، وعبد المطلب لم يوح إليه، وسألته قريش: لم رغبت عن أسماء آبائك؟ فقال أردت أن يحمده الله في السماء ويحمده أهل الأرض في الأرض.
هناك ملايين المسلمين اسمهم محمد لكن أحدًا منهم لم يفكر في معنى اسمه ولم يحس بمعناه.
النبي صلى الله عليه وسلم يعلق على اسمه في الحديث الذي رواه البخاري وسلم حيث يقول: ".. أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي وأنا الحاشر وأنا العاقب." رواه البخاري ومسلم.. فما معنى كلمة محمد؟؟
محمد من صفة الحمد وهو الذي يحمد ثم يحمد ثم يحمد، فلا يحمد مرة واحدة فقط من عظمة أفعاله، إنما يحمد كثيرًا فصار محمدًا.
وماذا يعني أحمد؟؟
هو أحمد الحامدين على الإطلاق فلا أحد يحمد الله مثله.
وبهذا فإن محمدًا تحمده الناس كثيرًا على أفعاله وأحمد هو أعظم من حمد الله.
*************
انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني بإذن الله تعالى
الفهرس
مقدمة هامة ... 1
الباب الأول- الشمائل المحمدية ... 1
1.هذا النبي الذي سخروا منه.. ... 1
2.نبذة يسيرة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ... 7
3.من هو الكريم إذا عُدّ الكرماء؟؟ ... 19
4.من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ... 22
5.ملخص لمائة خصلة انفرد بها صلى الله عليه وسلم عن بقية الأنبياء السابقين عليهم السلام ... 37
6.محمد خاتم المرسلين ... 42
7.ماذا يُحب الحبيب؟ ... 45
8.صلى الله عليه وسلم ... 47
9.خصائص النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم ... 51
10.حريص عليكم... ... 57
11.{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر} ... 61
12.أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 70
13.الوصف الكامل للرسول صلى الله عليه وسلم ... 73
14.الحياة الدنيوية لصفوة خلق الله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ... 87
15.التوازن النفسي والسلوكي في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 95
16.اعرف نبيك صلى الله عليه وسلم ... 103
17.العظمة المحمدية ... 113
18.محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. د. سفر الحوالي ... 116
19.وأين الشمس من دنس وعار ... 126
20.محمد صلى الله عليه وسلم ... 128
21.صور من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ... 141
22.قطوف من الشمائل المحمدية ... 146
23.محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة ... 212
24.بشارات العهد القديم بمحمد صلى الله عليه وسلم ... 230
25.بشارات العهد الجديد بمحمد صلى الله عليه وسلم ... 272
26.هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم ... 285(2/276)
27.بيتٌ .. وبيت!! ... 300
28.القدوة الحسنة ! ... 311
29.بأبي أنت وأمي يا رسول الله ... 316
30.مكانة الرسول في القرآن الكريم ... 334
31.العظمة المحمدية ... 338
32.مع الحبيب صلى الله عليه وسلم ... 341
33.رسولنا الذي لم يعرفوه ... 345
34.وداع الرسول لأمته ... 352
35.الرحمة النبوية.. منهج إنساني نادر ... 425
36.صبر النبي عليه الصلاة والسلام على الدعوة ... 442
37.رسول الأُمِّّيين ... 445
38.صلى الله عليه وسلم ... 449
39.إنهم يسبون مذممًا وهو محمد ... 454
40.عظمة محمد مع أطفال غير المسلمين ... 466
41.الحبيب كأنك تراه ... 469
42.عظمة خُلُق الرسول عليه السلام ... 484
43.الخلق الذي لا يفارق النبي!! ... 488
44.وإنك لعلى خلق عظيم ... 493
45.الصفات الخَلقية للرسول صلى الله عليه وسلم ... 496
46.مع المصطفى.. حسن معاملة الأجير ... 523
47.من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم ... 528
48.علماء الدين يؤكدون عظمة الرسول حتى لو لم يكن نبيًا ... 530
49.محمد صلى الله عليه وسلم المثال الأسمى ... 532
50.التميز الإداري في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم[1] ... 536
51.التميز الإداري في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم[2] ... 541
52.الشدة والعناء في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ... 544
53.إنسانيّة محمد صلى الله عليه وسلم ... 547
54.أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 551
55.متن "الدرة المضية" في السيرة النبوية ... 555
56.المنهج النبوي في التعامل مع النساء ... 590
57.إيماض البرق في خلق سيد الخلق صلى وسلم عليه الحق ... 594
58.مظاهر العظمة النبوية ... 635
59.ملامح العظمة في شخصية الرسول ... 636
60.من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم التربوية ... 640
61.من مشكاة النبوة ... 651
62.بناء الرسول للجانب الاقتصادي في دولة المدينة ... 659
63.الرسول صلى الله عليه وسلم وحقوق الإنسان ... 663
64.ولد أمة على يد الحبيب ... 667
65.إِذَا عَزَّ أَخُوكَ فََهُنْ ... 672
66.لمحة من أخلاق خير البشر ... 675
67.السر في اسم " محمد صلى الله عليه وسلم"..؟؟ ... 683(2/277)
فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقبه وحقوقه(2)
الباب الثاني - هدي خير العباد
1. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم معَ الكفارِ و الْمُنَافِقِينَ
فَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ سِيَاقِ هَدْيِهِ مَعَ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حِينِ بُعِثَ إلَى حِينِ لَقِيَ اللّهَ عَزّ وَجَل
أَوّلَ مَا أَوْحَى إلَيْهِ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِ رَبّهِ الّذِي خَلَقَ وَذَلِكَ أَوّلَ نُبُوّتِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ إذْ ذَاكَ بِتَبْلِيغٍ ثُمّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } [ الْمُدّثّرُ 1 ، 2 ] فَنَبّأَهُ بِقَوْلِهِ { اقْرَأْ } وَأَرْسَلَهُ ب { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ } ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ ثُمّ أَنْذَرَ قَوْمَهُ ثُمّ أَنْذَرَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ ، ثُمّ أَنْذَرَ الْعَرَبَ قَاطِبَةً ثُمّ أَنْذَرَ الْعَالَمِينَ فَأَقَامَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بَعْدَ نُبُوّتِهِ يُنْذِرُ بِالدّعْوَةِ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا جِزْيَةٍ وَيُؤْمَرُ بِالْكَفّ وَالصّبْرِ وَالصّفْحِ . ثُمّ أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ وَأُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ وَيَكُفّ عَمّنْ اعْتَزَلَهُ وَلَمْ يُقَاتِلْهُ ثُمّ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتّى يَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ ثُمّ كَانَ الْكُفّارُ مَعَهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَهْلُ صُلْحٍ وَهُدْنَةٍ وَأَهْلُ حَرْبٍ وَأَهْلُ ذِمّةٍ فَأُمِرَ بِأَنْ يُتِمّ لِأَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ عَهْدَهُمْ وَأَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِهِ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ فَإِنْ خَافَ مِنْهُمْ خِيَانَةً نَبَذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ حَتّى يُعْلِمَهُمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَأُمِرَ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ . وَلَمّا نَزَلَتْ ( سُورَةُ بَرَاءَةٌ ) نَزَلَتْ بِبَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ كُلّهَا ، فَأَمَرَهُ فِيهَا أَنْ " يُقَاتِلَ عَدُوّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أَوْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَرَهُ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ فَجَاهَدَ الْكُفّارَ بِالسّيْفِ وَالسّنَانِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْحُجّةِ وَاللّسَانِ . [ ص 144 ]
[ الْفَرْقُ بَيْنَ أَشْهُرِ التّسْيِيرِ الْحُرُمِ وَبَيْنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ](3/1)
وَأَمَرَهُ فِيهَا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ عُهُودِ الْكُفّارِ وَنَبْذِ عُهُودِهِمْ إلَيْهِمْ وَجَعَلَ أَهْلَ الْعَهْدِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمًا أَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ الّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُ وَلَمْ يَسْتَقِيمُوا لَهُ فَحَارَبَهُمْ وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ . وَقِسْمًا لَهُمْ عَهْدٌ مُؤَقّتٌ لَمْ يَنْقُضُوهُ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمّ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدّتِهِمْ . وَقِسْمًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَهْدٌ وَلَمْ يُحَارِبُوهُ أَوْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ مُطْلَقٌ فَأُمِرَ أَنْ يُؤَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِذَا انْسَلَخَتْ قَاتَلَهُمْ وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التّوْبَةُ 2 ] وَهِيَ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [ التّوْبَةُ 5 ] فَالْحُرُمُ هَا هُنَا : هِيَ أَشْهُرُ التّسْيِيرِ أَوّلُهَا يَوْمُ الْأَذَانِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجّةِ وَهُوَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ الّذِي وَقَعَ فِيهِ التّأْذِينُ بِذَلِكَ وَآخِرُهَا الْعَاشِرُ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَلَيْسَتْ هِيَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ { إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التّوْبَةُ 36 ] فَإِنّ تِلْكَ وَاحِدٌ فَرْدٌ وَثَلَاثَةٌ سَرْدٌ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمُ . وَلَمْ يُسَيّرْ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنّ هَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنّهَا غَيْرُ مُتَوَالِيَةٍ وَهُوَ إنّمَا أَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمّ أَمَرَهُ بَعْدَ انْسِلَاخِهَا أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فَقَتَلَ النّاقِضَ لِعَهْدِهِ وَأَجّلَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ أَوْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمّ لِلْمُوفِي بِعَهْدِهِ عَهْدَهُ إلَى مُدّتِهِ فَأَسْلَمَ هَؤُلَاءِ كُلّهُمْ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى كُفْرِهِمْ إلَى مُدّتِهِمْ وَضَرَبَ عَلَى أَهْلِ الذّمّةِ الْجِزْيَةَ . [ ص 145 ] فَاسْتَقَرّ أَمْرُ الْكُفّارِ مَعَهُ بَعْدَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُحَارِبِينَ لَهُ وَأَهْلِ عَهْدٍ وَأَهْلِ ذِمّةٍ ثُمّ آلَتْ حَالُ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ إلَى الْإِسْلَامِ فَصَارُوا مَعَهُ قِسْمَيْنِ مُحَارِبِينَ وَأَهْلَ ذِمّةٍ وَالْمُحَارِبُونَ لَهُ خَائِفُونَ مِنْهُ فَصَارَ أَهْلُ الْأَرْضِ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ بِهِ وَمُسَالِمٌ لَهُ آمِنٌ وَخَائِفٌ مُحَارِبٌ . وَأَمّا سِيرَتُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ فَإِنّهُ أُمِرَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللّهِ وَأَنْ يُجَاهِدَهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْحُجّةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ وَيُغْلِظَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يُبَلّغَ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ إلَى نُفُوسِهِمْ وَنَهَاهُ أَنْ يُصَلّيَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَقُومَ عَلَى قُبُورِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنّهُ إنْ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ فَهَذِهِ سِيرَتُهُ فِي أَعْدَائِهِ مِنْ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ .
فَصْلٌ [ سِيرَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ ]
وَأَمّا سِيرَتُهُ فِي أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَأَلّا تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْهُمْ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وَيُشَاوِرَهُمْ فِي الْأَمْرِ وَأَنْ يُصَلّيَ عَلَيْهِمْ . وَأَمَرَهُ بِهَجْرِ مَنْ عَصَاهُ وَتَخَلّفَ عَنْهُ حَتّى يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ طَاعَتَهُ كَمَا هَجَرَ الثّلَاثَةَ الّذِينَ . خُلّفُوا . وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ أَتَى مُوجِبَاتِهَا مِنْهُمْ وَأَنْ يَكُونُوا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ شَرِيفُهُمْ وَدَنِيئُهُمْ .
[ مَعْنَى خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ](3/2)
وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ بِأَنْ يَدْفَعَ بِاَلّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَيُقَابِلَ إسَاءَةَ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ وَجَهْلَهُ بِالْحِلْمِ وَظُلْمَهُ بِالْعَفْوِ وَقَطِيعَتَهُ بِالصّلَةِ وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَادَ عَدُوّهُ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ . وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِهِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنّ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاَللّهِ مِنْهُمْ وَجَمَعَ لَهُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ( سُورَةِ الْأَعْرَافِ ) و ( الْمُؤْمِنُونَ ) [ ص 146 ] فَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الْأَعْرَافِ 199 - 200 ] فَأَمَرَهُ بِاتّقَاءِ شَرّ الْجَاهِلِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَبِاتّقَاءِ شَرّ الشّيْطَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ وَجَمَعَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالشّيَمَ كُلّهَا ، فَإِنّ وَلِيّ الْأَمْرِ لَهُ مَعَ الرّعِيّةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ فَإِنّهُ لَا بُدّ لَهُ مِنْ حَقّ عَلَيْهِمْ يَلْزَمُهُمْ الْقِيَامُ بِهِ وَأَمْرٍ يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَلَا بُدّ مِنْ تَفْرِيطٍ وَعُدْوَانٍ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي حَقّهِ فَأُمِرَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْحَقّ الّذِي عَلَيْهِمْ مَا طَوّعَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ وَسَمَحَتْ بِهِ وَسَهُلَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَشُقّ وَهُوَ الْعَفْوُ الّذِي لَا يَلْحَقُهُمْ بِبَذْلِهِ ضَرَرٌ وَلَا مَشَقّةٌ وَأُمِرَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْعُرْفِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الّذِي تَعْرِفُهُ الْعُقُولُ السّلِيمَةُ وَالْفِطَرُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَتُقِرّ بِحُسْنِهِ وَنَفْعِهِ وَإِذَا أَمَرَ بِهِ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَيْضًا لَا بِالْعُنْفِ وَالْغِلْظَةِ . وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَابِلَ جَهْلَ الْجَاهِلِينَ مِنْهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ دُونَ أَنْ يُقَابِلَهُ بِمِثْلِهِ فَبِذَلِكَ يَكْتَفِي شَرّهُمْ . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ { قُلْ رَبّ إِمّا تُرِيَنّي مَا يُوعَدُونَ رَبّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظّالِمِينَ وَإِنّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [ الْمُؤْمِنُونَ 93 - 97 ] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم فُصّلَتْ { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا الّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا ذُو حَظّ عَظِيمٍ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فُصّلَتْ 134 ] فَهَذِهِ سِيرَتُهُ مَعَ أَهْلِ الْأَرْضِ إنْسِهِمْ وَجِنّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ . زاد المعاد - (ج 3 / ص 143)
ومن هذا التلخيص الجيد لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين ، جديرة بالوقوف أمامها طويلاً ، ولكننا لا نملك هنا إلا أن نشير إليها إشارات مجملة :
السمة الأولى : هي الواقعية الجدية في منهج هذا الدين .. فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً .. وتواجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي .. إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية ، تقوم عليها أنظمة واقعية عملية ، تسندها سلطات ذات قوة مادية .. ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع كله بما يكافئه .. تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات ، وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها ، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات ، وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبِّدهم لغير ربهم الجليل .. إنها حركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي ، كما إنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد .. وهذه كتلك سواء في منهج هذا الدين وهو يتحرك لإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده كما سيجيء .(3/3)
والسمة الثانية في منهج هذا الدين : هي الواقعية الحركية .. فهو حركة ذات مراحل ، كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية ، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها .. فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة . كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة .. والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ، ولا يراعون هذه السمة فيه ، ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج ، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها .. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً ، ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية . ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً ، يمثل القواعد النهائية في هذا الدين ، ويقولون - وهم مهزومون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع اليائس لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان - : أن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع ! ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً ، وتعبيد الناس لله وحده ، وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد ! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته ، ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة .. بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة ، أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة ، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها .
والسمة الثالثة : هي أن هذه الحركة الدائبة ، والوسائل المتجددة ، لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة ، ولا عن أهدافه المرسومة . فهو - منذ اليوم الأول - سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين ، أو يخاطب قريشاً ، أو يخاطب العرب أجمعين ، أو يخاطب العالمين ، إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة ، ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد هو إخلاص العبودية لله ، والخروج من العبودية للعباد . لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين .. ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد في خطة مرسومة ، ذات مراحل محددة ، لكل مرحلة وسائلها المتجددة . على نحو ما أسلفنا في الفقرة السابقة .
والسمة الرابعة : هي ذلك الضبط التشريعي للعلاقات بين المجتمع المسلم وسائر المجتمعات الأخرى - على النحو الملحوظ في ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن " زاد المعاد " - وقيام ذلك الضبط على أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه ، أو أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي ، أو قوة مادية ، وأن تخلي بينه وبين كل فرد ، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته ، ولكن لا يقاومه ولا يحاربه ! فإن فعل ذلك أحد كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله أو حتى يعلن استسلامه !
* * *
والمهزومون روحياً وعقلياً ممن يكتبون عن " الجهاد في الإسلام " ليدفعوا عن الإسلام هذا " الاتهام " يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة ، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه ، والتي تعبِّد الناس للناس ، وتمنعهم من العبودية لله .. وهما أمران لا علاقة بينهما ولا مجال للالتباس فيهما .. ومن أجل هذا التخليط ، وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة ! - يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمونه اليوم : " الحرب الدفاعية " .. والجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم ، ولا بواعثها ، ولا تكييفها كذلك .. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة " الإسلام " ذاته ودوره في هذه الأرض ، وأهدافه العليا التي قررها الله ، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة ، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات .
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعاليمن .. ! إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها : الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض ، الحكم فيه للبشر بصورة من الصور .. أو بتعبير آخر مرادف : الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور .. ذلك أن الحكم الذي مردّ الأمر فيه إلى البشر ، ومصدر السلطات فيه هم البشر ، هو تأليه للبشر ، يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله . إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله ، وطرد المغتصبين له ، الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم ، فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مكان العبيد .. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض ، أو بالتعبير القرآني الكريم :
{ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } [ الزخرف : 84 ] .(3/4)
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [ يوسف : 40 ] .
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ آل عمران : 64 ] .
ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال الدين - كما كان الأمر في سلطان الكنيسة ، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة ، كما كان الحال فيما يعرف باسم " الثيوقراطية " أو الحكم الإلهي المقدس !! - ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة ، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة .
وقيام مملكة الله في الأرض ، وإزالة مملكة البشر ، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده .. وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية .. كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان ، لأن المتسلطين على رقاب العباد ، والمغتصبين لسلطان الله في الأرض ، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان ، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض ! وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال !
إن هذا الإعلان العام لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله ، بإعلان إلوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ، لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً .. إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً إيجابياً .. إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله ، ويخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك .. ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل " الحركة " إلى جانب شكل " البيان " .. ذلك ليواجه " الواقع " البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه .
والواقع الإنساني ، أمس واليوم وغداً ، يواجه هذا الدين - بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان غير سلطان الله - بعقبات اعتقادية تصورية ، وعقبات مادية واقعية .. وعقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية ، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة .. وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد .
وإذا كان " البيان " يواجه العقائد والتصورات ، فإن " الحركة " تواجه العقبات المادية الأخرى - وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة - .. وهما معاً - البيان والحركة - يواجهان " الواقع البشري " بجملته ، بوسائل مكافئة لكل مكوناته .. وهما معاً لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض .. " الإنسان " كله في " الأرض " كلها .. وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى !
إن هذا الدين ليس إعلاناً لتحرير الإنسان العربي ! وليس رسالة خاصة بالعرب ! .. إن موضوعه هو " الإنسان " .. نوع " الإنسان " .. ومجاله هو " الأرض " .. كل " الأرض " . إن الله - سبحانه - ليس رباً للعرب وحدهم ولا حتى لمن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم .. إن الله هو " رب العالمين " .. وهذا الدين يريد أن يرد " العالمين " إلى ربهم ، وأن ينتزعهم من العبودية لغيره . والعبودية الكبرى - في نظر الإسلام - هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر .. وهذه هي " العبادة " التي يقرر أنها لا تكون إلا لله ، وأن من يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادعى أنه في هذا الدين . ولقد نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن " الاتِّباع " في الشريعة والحكم هو " العبادة " التي صار بها اليهود والنصارى " مشركين " مخالفين لما أمروا به من " عبادة " الله وحده ..
أخرج الترمذي - بإسناده - عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فر إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم منَّ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - على أخته فأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغَّبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقه - أي " عدي " صليب من فضة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية .. { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ } ( ) .. قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال : " بلى ! إنهم حرَّموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم " .(3/5)
وتفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول الله سبحانه ، نص قاطع على أن الاتِّباع في الشريعة والحكم هو العبادة التي تخرج من الدين ، وأنها هي اتخاذ بعض الناس أرباباً لبعض .. الأمر الذي جاء هذا الدين ليلغيه ، ويعلن تحرير " الإنسان " في " الأرض " من العبودية لغير الله ..
ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في " الأرض " لإزالة " الواقع " المخالف لذلك الإعلان العام .. بالبيان وبالحركة مجتمعين .. وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبِّد الناس لغير الله .. - أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه - والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى " البيان " واعتناق " العقيدة " بحرية لا يتعرض لها السلطان . ثم لكي يقيم نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً يسمح لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي - بعد إزالة القوة المسيطرة - سواء كانت سياسية بحتة ، أو متلبسة بالعنصرية ، أو الطبقية داخل العنصر الواحد !
إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته .. ولكن الإسلام ليس مجرد " عقيدة " . إن الإسلام كما قلنا إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد . فهو يهدف ابتداء إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان .. ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحراراً - بالفعل - في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم - بعد رفع الضغط السياسي عنهم ، وبعد البيان المنير لأرواحهم وعقولهم - ولكن هذه التجربة ليس معناها أن يجعلوا إلاههم هواهم ، أو أن يختاروا بأنفسهم أن يكونوا عبيداً للعباد ! وأن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله ! .. إن النظام الذي يحكم البشر في الأرض يجب أن تكون قاعدته العبودية لله وحده ، وذلك بتلقي الشرائع منه وحده . ثم ليعتنق كل فرد - في ظل هذا النظام العام - ما يعتنقه من عقيدة ! وبهذا يكون " الدين " كله لله . أي تكون الدينونة والخضوع والاتباع والعبودية كلها لله .. إن مدلول " الدين " أشمل من مدلول " العقيدة " . إن الدين هو المنهج والنظام الذي يحكم الحياة ، وهو في الإسلام يعتمد على العقيدة ، ولكنه في عمومه أشمل من العقيدة .. وفي الإسلام يمكن أن تخضع جماعات متنوعة لمنهجه العام الذي يقوم على أساس العبودية لله وحده ولو لم يعتنق بعض هذه الجماعات عقيدة الإسلام .
والذي يدرك طبيعة هذا الدين - على النحو المتقدم - يدرك معها حتمية الانطلاق الحركي للإسلام في صورة الجهاد بالسيف - إلى جانب الجهاد بالبيان - ويدرك أن ذلك لم يكن حركة دفاعية - بالمعنى الضيق الذي يفهم اليوم من اصطلاح " الحرب الدفاعية " كما يريد المهزومون - أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام هجوم المستشرقين الماكر - أن يصوروا حركة الجهاد في الإسلام - إنما كان حركة اندفاع وانطلاق لتحرير " الإنسان " في " الأرض " .. بوسائل مكافئة لكل جوانب الواقع البشري ، وفي مراحل محددة لكل مرحلة منها وسائلها المتجددة .
وإذا لم يكن بد أن نسمي حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية ، فلا بد أن نغير مفهوم كلمة " دفاع " ، ونعتبره " دفاعاً عن الإنسان " ذاته ، ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره .. هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات ، كما تتمثل في الأنظمة السياسية ، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية ، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام ، والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان !
وبهذا التوسع في مفهوم كلمة " الدفاع " نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي في " الأرض " بالجهاد ، ونواجه طبيعة الإسلام ذاتها ، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، وتقرير ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين ، وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض ، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان ..
أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية ، ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على " الوطن الإسلامي " - وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب - فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين ، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض . كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر ، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي !
ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض ؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد ، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية من أنظمة الدولة السياسية ، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية ، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية ، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك ؟!(3/6)
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير " الإنسان " .. نوع الإنسان .. في " الأرض " .. كل الأرض .. ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان ! .. إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد ، تخاطبهم بحرية ، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات .. فهنا " لا إكراه في الدين " .. أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية ، فلا بد من إزالتها أولاً بالقوة ، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله ، وهو طليق من هذه الأغلال !
إن الجهاد ضرورة للدعوة ، إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلاناً جاداً يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه ، ولا يكفي بالبيان الفلسفي النظري ! سواء كان الوطن الإسلامي - وبالتعبير الإسلامي الصحيح : دار الإسلام - آمناً أم مهدداً من جيرانه . فالإسلام حين يسعى إلى السلم ، لا يقصد تلك السلم الرخيصة ، وهي مجرد أن يؤمن الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية . إنما هو يريد السلم التي يكون فيها الدين كله لله . أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله ، والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله . والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام - بأمر من الله - لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأواسطها .. ولقد انتهت هذه المراحل كما يقول الإمام ابن القيم : " فاستقر أمر الكفار معه - بعد نزول براءة - على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة .. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام .. فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة . والمحاربون له خائفون منه .. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن ( وهم أهل الذمة كما يفهم من الجملة السابقة ) وخائف محارب " ..
وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه ، لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام هجوم المستشرقين الماكر !
ولقد كف الله المسلمين عن القتال في مكة ، وفي أول العهد بالهجرة إلى المدينة .. وقيل للمسلمين : { كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } ( ) .. ثم أذن لهم فيه ، فقيل لهم : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } ( ).. ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقيل لهم : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } ( ) .. ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة ، فقيل لهم : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } ( ) .. وقيل لهم : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } ( ) . فكان القتال - كما يقول الإمام ابن القيم - " محرماً ، ثم مأذوناً به ، ثم مأموراً به لمن بدأهم بالقتال ، ثم مأموراً به لجميع المشركين " ..
إن جدِّية النصوص القرآنية الواردة في الجهاد ، وجدية الأحاديث النبوية التي تحض عليه ، وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام ، وعلى مدى طويل من تاريخه .. إن هذه الجدية الواضحة تمنع أن يجول في النفس ذلك التفسير الذي يحاوله المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي !
ومن ذا الذي يسمع قول الله سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي ، ثم يظنه شأناً عارضاً مقيداً بملابسات تذهب وتجيء ، ويقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود ؟!
لقد بين الله للمؤمنين في أول ما نزل من الآيات التي أذن لهم فيها بالقتال أن الشأن الدائم الأصيل في طبيعة هذه الحياة الدنيا أن يدفع الناس بعضهم ببعض ، لدفع الفساد عن الأرض :(3/7)
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً } .. [ الحج : 39 - 40 ]
وإذن فهو الشأن الدائم لا الحالة العارضة . الشأن الدائم أن لا يتعايش الحق والباطل في هذه الأرض . وأنه متى قام الإسلام بإعلانه العام لإقامة ربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية للعباد ، رماه المغتصبون لسلطان الله في الأرض ولم يسالموه قط ، وانطلق هو كذلك يدمر عليهم ليخرج الناس من سلطانهم ويدفع عن " الإنسان " في " الأرض " ذلك السلطان الغاصب .. حال دائمة لا يقف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله لله .
إن الكف عن القتال في مكة لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة . كذلك كان الأمر أول العهد بالهجرة . والذي بعث الجماعة المسلمة في المدينة بعد الفترة الأولى للانطلاق لم يكن مجرد تأمين المدينة .. هذا هدف أولي لا بد منه ، ولكنه ليس الهدف الأخير .. إنه هدف يضمن وسيلة الانطلاق ، ويؤمن قاعدة الانطلاق .. الانطلاق لتحرير " الإنسان " ، ولإزالة العقبات التي تمنع " الإنسان " ذاته من الانطلاق !
وكف أيدي المسلمين في مكة عن الجهاد بالسيف مفهوم . لأنه كان مكفولاً للدعوة في مكة حرية البلاغ .. كان صاحبها - صلى الله عليه وسلم - يملك بحماية سيوف بني هاشم ، أن يصدع بالدعوة ، ويخاطب بها الآذان والعقول والقلوب ، ويواجه بها الأفراد .. لم تكن هناك سلطة سياسية منظمة تمنعه من إبلاغ الدعوة ، أو تمنع الأفراد من سماعه ! فلا ضرورة - في هذه المرحلة - لاستخدام القوة ، وذلك إلى أسباب أخرى لعلها كانت قائمة في هذه المرحلة . وقد لخصتها في ظلال القرآن عند تفسير قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ .. } [ الآية 77 من سورة النساء ] . ولا بأس في إثبات بعض هذا التلخيص هنا :
" ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ، في بيئة معينة ، لقوم معينين ، وسط ظروف معينة . ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات ، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم على شخصه أو على من يلوذون به ، ليخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته ، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محور الحياة في نظره ودافع الحركة في حياته . وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ، فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج ، فيتم الاعتدال في طبيعته وحركته . وتربيته على أن يتبع مجتمعاً منظماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره به - مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي ، لإنشاء " المجتمع المسلم " الخاضع لقيادة موجهة ، المترقي المتحضر ، غير الهمجي أو القبلي !
" وربما كان ذلك أيضاً . لأن الدعوة السلمية كانت أشد أثراً وأنفذ ، في مثل بيئة قريش . ذات العنجهية والشرف . والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه المرحلة - إلى زيادة العناد ، وإلى نشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة التي أثارت حرب داحس والغبراء ، وحرب البسوس ، أعواماً طويلة ، تفانت فيها قبائل برمتها . وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام ، فلا تهدأ بعد ذلك أبداً ، ويتحول الإسلام من دعوة ودين إلى ثارات وذحول تنسى معها وجهته الأساسية ، وهو في مبدئه ، فلا تذكر أبداً !
" وربما كان ذلك أيضاً ، اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت . فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة ، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم ، إنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد يعذبونه ويفتنونه " ويؤدبونه ! " ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت .. ثم يقال : هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في الموسم . في أواسط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمداً يفرق بين الوالد وولده ، فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي .. في كل بيت وفي كل محلة ؟
" وربما كان ذلك أيضاً لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ، ويعذبونهم ويؤذونهم ، هم بأنفسهم سيكونون جند الإسلام المخلص ، بل من قادته .. ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء ؟!(3/8)
" وربما كان ذلك أيضاً ، لأن النخوة العربية ، في بيئة قبلية ، من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى ، ولا يتراجع ! وبخاصة إذا كان واقعاً على كرام الناس فيهم .. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة ، ورأى في ذلك عاراً على العرب ! وعرض عليه جواره وحمايته .. وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب ، بعد ما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة .. بينما في بيئة أخرى من بيئات " الحضارة " القديمة التي مردت على الذل ، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة ، وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي !
" وربما كان ذلك ، أيضاً ، لقلة عدد المسلمين حينذاك . وانحصارهم في مكة ، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة أو بلغت أخبارها متناثرة ، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها ، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف . ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة ، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك ، وتنمحي الجماعة المسلمة ، ولم يقم في الأرض للإسلام نظام ، ولا وجد له كيان واقعي . وهو دين جاء ليكون منهاج حياة ، وليكون نظاماً واقعياً عملياً للحياة .
" ... إلخ " ...
فأما في المدينة - في أول العهد بالهجرة - فقد كانت المعاهدة التي عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود من أهلها ومن بقي على الشرك من العرب فيها وفيما حولها ، ملابسة تقتضيها طبيعة المرحلة كذلك ..
أولاً : لأن هناك مجالاً للتبليغ والبيان ، لا تقف له سلطة سياسية تمنعه وتحول بين الناس وبينه ، فقد اعترف الجميع بالدولة المسلمة الجديدة ، وبقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تصريف شؤونها السياسية . فنصت المعاهدة على ألا يعقد أحد منهم صلحاً ولا يثير حرباً ، ولا ينشئ علاقة خارجية إلا بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان واضحاً أن السلطة الحقيقة في المدينة في يد القيادة المسلمة . فالمجال أمام الدعوة مفتوح ، والتخلية بين الناس وحرية الاعتقاد قائمة .
ثانياً : إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يريد التفرغ في ، هذه المرحلة - لقريش ، التي تقوم معارضتها لهذا الدين حجر عثرة في وجه القبائل الأخرى الواقعة في حالة انتظار لما ينتهي إليه الأمر بين قريش وبعض بنيها ! لذلك بادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإرسال " السرايا " وكان أول لواء عقده لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة .
ثم توالت هذه السرايا ، على رأس تسعة أشهر . ثم على رأس ثلاثة عشر شهراً . ثم على رأس ستة عشر شهراً . ثم كانت سرية عبد الله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً ، وهي أول غزاة وقع فيها قتل وقتال ، وكان ذلك في الشهر الحَرام ، والتي نزلت فيها آيات البقرة : { يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا .. } [ البقرة : 217 ] .
ثم كانت غزوة بدر الكبرى في رمضان من هذه السنة .. وهي التي نزلت فيها سورة الأنفال .
ورؤية الموقف من خلال ملابسات الواقع ، لا تدع مجالاً للقول بأن " الدفاع " بمفهومه الضيق كان هو قاعدة الحركة الإسلامية ، كما يقول المهزومون أمام الواقع الحاضر ، وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر !
إن الذين يلجأون إلى تلمس أسباب دفاعية بحتة لحركة المد الإسلامي ، إنما يؤخذون بحركة الهجوم الاستشراقية ، في وقت لم يعد للمسلمين شوكة ، بل لم يعد للمسلمين إسلام ! - إلا من عصم الله ممن يصرون على تحقيق إعلان الإسلام العام بتحرير " الإنسان " في " الأرض " من كل سلطان إلا من سلطان الله ، ليكون الدين كله لله - فيبحثون عن مبررات أدبية للجهاد في الإسلام !
والمد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية :(3/9)
{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ، وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ، الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } .. [ النساء : 74 - 76 ]
{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [ الأنفال : 38 - 40 ]
{ قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } ... [ التوبة : 29 - 32 ] .
إنها مبررات تقرير ألوهية الله في الأرض ، وتحقيق منهجه في حياة الناس ، ومطاردة الشياطين ومناهج الشياطين ، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس ، والناس عبيد لله وحده ، لا يجوز أن يحكمهم أحد من عباده بسلطان من عند نفسه وبشريعة من هواه ورأيه ! وهذا يكفي .. مع تقرير مبدأ : " لا إكراه في الدين " .. أي لا إكراه على اعتناق العقيدة ، بعد الخروج من سلطان العبيد ، والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله ، أو أن الدين كله لله ، بهذا الاعتبار .
إنها مبررات التحرير العام للإنسان في الأرض . بإخراج الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك .. وهذه وحدها تكفي .. لقد كانت هذه المبررات ماثلة في نفوس الغزاة من المسلمين ، فلم يسأل أحد منهم عما أخرجه للجهاد فيقول : خرجنا ندافع عن وطننا المهدد ! أو خرجنا نصد عدوان الفرس أو الروم علينا نحن المسلمين ! أو خرجنا نوسع رقعتنا ونستكثر من الغنيمة !
لقد كانوا يقولون كما قال ربعي بن عامر . وحذيفة بن محصن والمغيرة بن شعبة جميعاً لرستم قائد جيش الفرس في القادسية ، وهو يسألهم واحداً بعد واحد في ثلاثة أيام متوالية ، قبل المعركة : ما الذي جاء بكم ؟ فيكون الجواب : " الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . ومن ضيق الدنيا إلى سعتها . ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .. فأرسل رسوله بدينه إلى خلقه ، فمن قبله منا قبلنا منه ورجعنا عنه ، وتركناه وأرضه . ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر " .
إن هناك مبرراً ذاتياً في طبيعة هذا الدين ذاته ، وفي إعلانه العام ، وفي منهجه الواقعي لمقابلة الواقع البشري بوسائل مكافئة لكل جوانبه ، في مراحل محددة ، بوسائل متجددة .. وهذا المبرر الذاتي قائم ابتداء - ولو لم يوجد خطر الاعتداء على الأرض الإسلامية وعلى المسلمين فيها - إنه مبرر في طبيعة المنهج وواقعيته ، وطبيعة المعوقات الفعلية في المجتمعات البشرية .. لا من مجرد ملابسات دفاعية محدودة ، وموقوتة !
وإنه ليكفي لأن يخرج المسلم مجاهداً بنفسه وماله .. " في سبيل الله " .. في سبيل هذه القيم التي لا يناله هو من ورائها مغنم ذاتي ، ولا يخرجه لها مغنم ذاتي ..(3/10)
إن المسلم قبل أن ينطلق للجهاد في المعركة يكون قد خاض معركة الجهاد الأكبر في نفسه مع الشيطان .. مع هواه وشهواته .. مع مطامعه ورغباته .. مع مصالحه ومصالح عشيرته وقومه .. مع كل شارة غير شارة الإسلام .. ومع كل دافع إلا العبودية لله ، وتحقيق سلطانه في الأرض وطرد سلطان الطواغيت المغتصبين لسلطان الله ..
والذين يبحثون عن مبررات للجهاد الإسلامي في حماية " الوطن الإسلامي " يغضون من شأن " المنهج " ويعتبرونه أقل من " الموطن " وهذه ليست نظرة الإسلام إلى هذه الاعتبارات . إنها نظرة مستحدثة غريبة على الحس الإسلامي ، فالعقيدة والمنهج الذي تتمثل فيه والمجتمع الذي يسود فيه هذا المنهج هي الاعتبارات الوحيدة في الحس الإسلامي . أما الأرض - بذاتها - فلا اعتبار لها ولا وزن ! وكل قيمة للأرض في التصور الإسلامي إنما هي مستمدة من سيادة منهج الله وسلطانه فيها ، وبهذا تكون محضن العقيدة وحقل المنهج و " دار الإسلام " ونقطة الانطلاق لتحرير " الإنسان " .
وحقيقة إن حماية " دار الإسلام " حماية للعقيدة والمنهج والمجتمع الذي يسود فيه المنهج . ولكنها ليست الهدف النهائي ، وليست حمايتها هي الغاية الأخيرة لحركة الجهاد الإسلامي ، إنما حمايتها هي الوسيلة لقيام مملكة الله فيها ، ثم لاتخاذها قاعدة انطلاق إلى الأرض كلها وإلى النوع الإنساني بجملته . فالنوع الإنساني هو موضوع هذا الدين والأرض هي مجاله الكبير !
وكما أسلفنا فإن الانطلاق بالمذهب الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة ، ونظام المجتمع ، وأوضاع البيئة .. وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة ، كي يخلو له وجه الأفراد من الناس ، يخاطب ضمائرهم وأفكارهم ، بعد أن يحررها من الأغلال المادية ، ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار .
يجب ألا تخدعنا أو تفزعنا حملات المستشرقين على مبدأ " الجهاد " وألا يثقل على عاتقنا ضغط الواقع وثقله في ميزان القوى العالمية ، فنروح نبحث للجهاد الإسلامي عن مبررات أدبية خارجة عن طبيعة هذا الدين ، في ملابسات دفاعية وقتية ، كان الجهاد سينطلق في طريقه سواء وجدت أم لم توجد !
ويجب ونحن نستعرض الواقع التاريخي ألا نغفل عن الاعتبارات الذاتية في طبيعة هذا الدين وإعلانه العام ومنهجه الواقعي ، وألا نخلط بينها وبين المقتضيات الدفاعية الوقتية ..
حقاً إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له ، لأن مجرد وجوده في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله ، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية ، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية ، لأن الحاكمية فيه لله وحده .. إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله - القائمة على قاعدة العبودية للعباد - أن تحاول سحقه ، دفاعاً عن وجودها ذاته ، ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه ..
هذه ملابسة لا بد منها ، تولد مع ميلاد الإسلام ذاته ، وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضاً ، ولا خيار له في خوضها ، وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلاً .. .
هذا كله حق .. ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده ، ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضاً ..
ولكن هناك حقيقة أخرى أشد أصالة من هذه الحقيقة .. إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرك إلى الأمام ابتداء . لإنقاذ " الإنسان " في " الأرض " من العبودية لغير الله ، ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية ، ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية ، تاركاً " الإنسان " .. نوع الإنسان .. في " الأرض " .. كل الأرض .. للشر والفساد والعبودية لغير الله .
إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام ، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية ، ورضى أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام ! ولكن الإسلام لا يهادنها ، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية ، ضماناً لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها .
هذه طبيعة هذا الدين ، وهذه وظيفته ، بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين ، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين !
وفرق بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة ، وتصوره قابعاً داخل حدود إقليمية أو عنصرية ، لا يحركه إلا خوف الاعتداء ! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق !(3/11)
إن مبررات الانطلاق الإسلامي تبرز بوضوح وعمق عند تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية ، وليس منهج إنسان ، ولا مذهب شيعة من الناس ، ولا نظام جنس من الأجناس ! .. ونحن لا نبحث عن مبررات خارجية إلا حين تفتر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة .. حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد .. إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرر آخر للجهاد الإسلامي !
والمسافة قد لا تبدو كبيرة عند مفرق الطريق ، بين تصور أن الإسلام كان مضطراً لخوض معركة لا اختيار له فيها ، بحكم وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الأخرى التي لا بد أن تهاجمه ، وتصور أنه هو بذاته لا بد أن يتحرك ابتداء ، فيدخل في هذه المعركة ..
المسافة عند مفرق الطريق قد لا تبدو كبيرة ، فهو في كلتا الحالتين سيدخل المعركة حتماً ، ولكنها في نهاية الطريق تبدو هائلة شاسعة ، تغير المشاعر والمفهومات الإسلامية تغييراً كبيراً .. خطيراً .
إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجاً إلهياً ، جاء ليقرر ألوهية الله في الأرض ، وعبودية البشر جميعاً لإله واحد ، ويصب هذا التقرير في قالب واقعي ، هو المجتمع الإنساني الذي يتحرر فيه الناس من العبودية للعباد ، بالعبودية لرب العباد ، فلا تحكمهم إلا شريعة الله ، التي يتمثل فيها سلطان الله ، أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته .. فمن حقه إذن أن يزيل العقبات كلها من طريقه ، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي ، أو أوضاع الناس الاجتماعية .. إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو ، واعتباره نظاماً محلياً في وطن بعينه فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية !
هذا تصور .. وذاك تصور .. ولو أن الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد .. ولكن التصور الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه ، يختلف اختلافاً بعيداً ، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخطة والاتجاه .
إن من حق الإسلام أن يتحرك ابتداء . فالإسلام ليس نحلة قوم ، ولا نظام وطن ، ولكنه منهج إله ، ونظام عالم .. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية " الإنسان " في الاختيار . وحسبه أنه لا يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته ، إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة ، المفسدة للفطرة ، المقيدة لحرية الاختيار .
من حق الإسلام أن يُخرج " الناس "من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده .. ليحقق إعلانه العام بربوبية الله للعالمين ، وتحرير الناس أجمعين .. وعبادة الله وحده لا تتحقق - في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي - إلا في ظل النظام الإسلامي ، فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم ، حاكمهم ومحكومهم ، أسودهم وأبيضهم ، قاصيهم ودانيهم ، فقيرهم وغنيهم ، تشريعاً واحداً يخضع له الجميع على السواء .. أما في سائر الأنظمة ، فيعبد الناس العباد ، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد . وهو من خصائص الألوهية ، فأيما بشر ادعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه ، فقد ادّعى الألوهية اختصاصاً وعملاً ، سواء ادَّعاها قولاً أم لم يعلن هذا الادعاء . وأيما بشر آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية ، سواء سماها باسمها أم لم يسمها !
والإسلام ليس مجرد عقيدة ، حتى يقنع بإبلاغ عقيدته للناس بوسيلة البيان . إنما هو منهج يتمثل في تجمع تنظيمي حركي يزحف لتحرير كل الناس ، والتجمعات الأخرى لا تمكِّنه من تنظيم حياة رعاياها وفق منهجه هو ، ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها معوقات للتحرير العام ، وهذا - كما قلنا من قبل - معنى أن يكون الدين كله لله ، فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته . كما هو الشأن في سائر الأنظمة التي تقم على عبودية العباد للعباد !
إن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر وتحت الهجوم الاستشراقي الماكر ، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة ، لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة . والمستشرقون الخبثاء يعرفون جيداً أن هذه ليست هي الحقيقة ، ولكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة .. ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام ، بنفي هذا الاتهام ، فيلجأون إلى تلمس المبررات الدفاعية ! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته ، وحقه في " تحرير الإنسان " ابتداء .
وقد غشى على أفكار الباحثين العصريين - المهزومين - ذلك التصور الغربي لطبيعة " الدين " .. وإنه مجرد " عقيدة " في الضمير ، لا شأن لها بالأنظمة الواقعية للحياة . ومن ثم يكون الجهاد للدين ، جهاداً لفرض العقيدة على الضمير !(3/12)
ولكن الأمر ليس كذلك في الإسلام ، فالإسلام منهج الله للحياة البشرية ، وهو منهج يقوم على إفراد الله وحده بالألوهية - متمثلة في الحاكمية - وينظم الحياة الواقعية بكل تفصيلاتها اليومية ! فالجهاد له جهاد لتقرير المنهج وإقامة النظام . أما العقيدة فأمر موكول إلى حرية الاقتناع ، في ظل النظام العام ، بعد رفع جميع المؤثرات .. ومن ثم يختلف الأمر من أساسه ، وتصبح له صورة جديدة كاملة .
وحيثما وجد التجمع الإسلامي ، الذي يتمثل فيه المنهج الإلهي ، فإن الله يمنحه حق الحركة والانطلاق لتسلم السلطان وتقرير النظام ، مع ترك مسألة العقيدة الوجدانية لحرية الوجدان ، فإذا كف الله أيدي الجماعة المسلمة فترة عن الجهاد ، فهذه مسألة خطة لا مسألة مبدأ ، مسألة مقتضيات الحركة لا مسألة عقيدة .. وعلى هذا الأساس الواضح يمكن أن نفهم النصوص القرآنية المتعددة ، في المراحل التاريخية المتجددة ، ولا نخلط بين دلالتها المرحلية ، والدلالة العامة لخط الحركة الإسلامية الثابت الطويل .( المعالم )
2. ... هَدْيُهُ صلى الله عليه وسلم فيِ دَعْوَةِ الْمُلوكِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ إِلَيْهِمْ
زاد المعاد - (ج 3 / ص 600)
فَصْلٌ ذِكْرُ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مُكَاتَبَاتِهِ إلَى الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ
[ الْكِتَابُ إلَى هِرَقْلَ ]
[ ص 601 ] ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَتَبَ إلَى هِرَقْل : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرّومِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى أَمّا بَعْدُ فَإِنّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللّهُ أَجْرَكَ مَرّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلّيْت فَإِنّ عَلَيْك إثْمَ الْأَرِيسِيّينَ وَ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلّا نَعْبُدَ إِلّا اللّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ }
[ الْكِتَابُ إلَى كِسْرَى ]
وَكَتَبَ إلَى كِسْرَى : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى وَآمَنَ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ وَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ اللّهِ فَإِنّي أَنَا رَسُولُ اللّهِ إلَى النّاسِ كَافّةً لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ أَسْلِمْ تَسْلَمْ فَإِنْ أَبَيْت فَعَلَيْكَ إثْمُ الْمَجُوسِ " فَلَمّا قُرِئَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ مَزّقَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " مَزّقَ اللّهُ مُلْكَهُ
[ الْكِتَابُ إلَى النّجَاشِيّ ](3/13)
[ ص 602 ] وَكَتَبَ إلَى النّجَاشِيّ : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى النّجَاشِيّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ أَسْلِمْ أَنْتَ فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْكَ اللّهَ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدّوسُ السّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ وَأَشْهَدُ أَنّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رُوحُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ الْبَتُولِ الطّيّبَةِ الْحَصِينَةِ فَحَمَلَتْ بِعِيسَى فَخَلَقَهُ اللّهُ مِنْ رُوحِهِ وَنَفَخَهُ كَمَا خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَإِنّي أَدْعُوكَ إلَى اللّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْمُوَالَاةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَأَنْ تَتْبَعَنِي وَتُؤْمِنَ بِاَلّذِي جَاءَنِي فَإِنّي رَسُولُ اللّهِ وَإِنّي أَدْعُوكَ وَجُنُودَكَ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَقَدْ بَلّغْتُ وَنَصَحْت فَاقْبَلُوا نَصِيحَتِي وَالسّلَامُ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ فَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : إنّ عَمْرًا قَالَ لَهُ يَا أَصْحَمَةَ إنّ عَلَيّ الْقَوْلَ وَعَلَيْكَ الِاسْتِمَاعَ إنّك كَأَنّك فِي الرّقّةِ عَلَيْنَا وَكَأَنّا فِي الثّقَةِ بِك مِنْك لِأَنّا لَمْ نَظُنّ بِك خَيْرًا قَطّ إلّا نِلْنَاهُ وَلَمْ نَخَفْكَ عَلَى شَيْءٍ قَطّ إلّا أَمِنّاهُ وَقَدْ أَخَذْنَا الْحُجّةَ عَلَيْك مِنْ فِيك الْإِنْجِيلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَك شَاهِدٌ لَا يُرَدّ وَقَاضٍ لَا يَجُورُ وَفِي ذَلِكَ مَوْقِعُ الْحَزّ وَإِصَابَةُ الْمُفَصّلِ وَإِلّا فَأَنْتَ فِي هَذَا النّبِيّ الْأُمّيّ كَالْيَهُودِ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَقَدْ فَرّقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُسُلَهُ إلَى النّاسِ فَرَجَاك لِمَا لَمْ يَرْجُهُمْ لَهُ وَأَمّنَك عَلَى مَا خَافَهُمْ عَلَيْهِ بِخَيْرِ سَالِفٍ وَأَجْرٍ يُنْتَظَرُ . فَقَالَ النّجَاشِيّ : أَشْهَدُ بِاَللّهِ أَنّهُ النّبِيّ الْأُمّيّ الّذِي يَنْتَظِرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَنّ بِشَارَةَ مُوسَى بِرَاكِبِ الْحِمَارِ كَبِشَارَةِ عِيسَى بِرَاكِبِ الْجَمَلِ وَأَنّ الْعِيَانَ لَيْسَ بِأَشْفَى مِنْ الْخَبَرِ ثُمّ كَتَبَ النّجَاشِيّ جَوَابَ كِتَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ إلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ مِنْ النّجَاشِيّ أَصْحَمَةَ سَلَامٌ عَلَيْك يَا نَبِيّ اللّهِ مِنْ اللّهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ اللّهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ أَمّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُك يَا رَسُولَ اللّهِ فِيمَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى فَوَرَبّ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنّ عِيسَى لَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ ثُفْرُوقًا إنّهُ كَمَا ذَكَرْت وَقَدْ عَرَفْنَا مَا بُعِثْت بِهِ إلَيْنَا وَقَدْ قَرّبْنَا ابْنَ عَمّك وَأَصْحَابَهُ فَأَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ صَادِقًا مُصَدّقًا وَقَدْ بَايَعْتُك وَبَايَعْتُ ابْنَ عَمّك وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدَيْهِ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ " . وَالثّفْرُوقُ عِلَاقَةٌ مَا بَيْنَ النّوَاةِ وَالْقِشْرِ . [ ص 603 ] النّجَاشِيّ سَنَةَ تِسْعٍ وَأُخْبِرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَوْتِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَخَرَجَ بِالنّاسِ إلَى الْمُصَلّى فَصَلّى عَلَيْهِ وَكَبّرَ أَرْبَعًا .
[ النّجَاشِيّ الّذِي صَلّى عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ
بِالنّجَاشِيّ الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ يَدْعُوهُ ]
قُلْت : وَهَذَا وَهْمٌ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَقَدْ خَلَطَ رَاوِيهِ وَلَمْ يُمَيّزْ بَيْنَ النّجَاشِيّ الّذِي صَلّى عَلَيْهِ وَهُوَ الّذِي آمَنَ بِهِ وَأَكْرَمَ أَصْحَابَهُ وَبَيْنَ النّجَاشِيّ الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ يَدْعُوهُ فَهُمَا اثْنَانِ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُبَيّنًا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَتَبَ إلَى النّجَاشِيّ وَلَيْسَ بِاَلّذِي صَلّى عَلَيْهِ .
فَصْلٌ [ الْكِتَابُ إلَى الْمُقَوْقِسِ ](3/14)
وَكَتَبَ إلَى الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ مِصْرَ وَالْإِسْكَنْدَرِيّةِ : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ عَبْدِ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى أَمّا بَعْدُ فَإِنّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللّهُ أَجْرَكَ مَرّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلّيْت فَإِنّ عَلَيْكَ إثْمَ الْقِبْطِ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلّا نَعْبُدَ إِلّا اللّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ } [ آلِ عِمْرَانَ 64 ] وَبَعَثَ بِهِ مَعَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ إنّهُ كَانَ قَبْلَك رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنّهُ الرّبّ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى فَانْتَقَمَ بِهِ ثُمّ انْتَقَمَ مِنْهُ فَاعْتَبَرَ بِغَيْرِك وَلَا يَعْتَبِرُ غَيْرُك بِك . فَقَالَ إنّ لَنَا دِينًا لَنْ نَدَعَهُ إلّا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فَقَالَ حَاطِبٌ نَدْعُوك إلَى دِينِ اللّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْكَافِي بِهِ اللّهُ فَقْدَ مَا سِوَاهُ إنّ هَذَا النّبِيّ دَعَا النّاسَ فَكَانَ أَشَدّهُمْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ وَأَعْدَاهُمْ لَهُ الْيَهُودُ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ النّصَارَى وَلَعَمْرِي مَا بِشَارَةُ مُوسَى بِعِيسَى إلّا كَبِشَارَةِ عِيسَى بِمُحَمّدٍ وَمَا دُعَاؤُنَا إيّاكَ إلَى الْقُرْآنِ إلّا كَدُعَائِك أَهْلَ التّوْرَاةِ إلَى الْإِنْجِيلِ وَكُلّ نَبِيّ أَدْرَكَ قَوْمًا فَهُمْ مِنْ [ ص 604 ] أُمّتِهِ فَالْحَقّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوهُ وَأَنْتَ مِمّنْ أَدْرَكَهُ هَذَا النّبِيّ وَلَسْنَا نَنْهَاك عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَلَكِنّا نَأْمُرُك بِهِ . فَقَالَ الْمُقَوْقِسُ : إنّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ هَذَا النّبِيّ فَوَجَدْتُهُ لَا يَأْمُرُ بِمَزْهُودٍ فِيهِ وَلَا يَنْهَى عَنْ مَرْغُوبٍ فِيهِ وَلَمْ أَجِدْهُ بِالسّاحِرِ الضّالّ وَلَا الْكَاهِنِ الْكَاذِبِ وَوُجِدَتْ مَعَهُ آيَةُ النّبُوّةِ بِإِخْرَاجِ الْخَبْءِ وَالْإِخْبَارِ بِالنّجْوَى وَسَأَنْظُرُ وَأَخَذَ كِتَابَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَعَلَهُ فِي حُقّ مِنْ عَاجٍ وَخَتَمَ عَلَيْهِ وَدَفَعَهُ إلَى جَارِيَةٍ لَهُ ثُمّ دَعَا كَاتِبًا لَهُ يَكْتُبُ بِالْعَرَبِيّةِ فَكَتَبَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ لِمُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ مِنْ الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ سَلَامٌ عَلَيْك أَمّا بَعْدُ فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَك وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ فِيهِ وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ وَقَدْ عَلِمْتُ أَنّ نَبِيّا بَقِيَ وَكُنْتُ أَظُنّ أَنّهُ يَخْرُجُ بِالشّام ِ وَقَدْ أَكْرَمْتُ رَسُولَك وَبَعَثْتُ إلَيْك بِجَارِيَتَيْنِ لَهُمَا مَكَانٌ فِي الْقِبْطِ عَظِيمٌ وَبِكِسْوَةٍ وَأَهْدَيْتُ إلَيْك بَغْلَةً لِتَرْكَبَهَا وَالسّلَامُ عَلَيْك . وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا وَلَمْ يَسْلَمْ وَالْجَارِيَتَانِ مَارِيَةُ وَسِيرِينُ وَالْبَغْلَةُ دُلْدُلُ بَقِيَتْ إلَى زَمَنِ مُعَاوِيَةَ .
فَصْلٌ [ الْكِتَابُ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى عَامِلِ الْبَحْرَيْنِ ](3/15)
وَكَتَبَ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى فَذَكَرَ الْوَاقِدِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ وَجَدْت هَذَا الْكِتَابَ فِي كُتُبِ ابْنِ عَبّاسٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَنَسَخْته فَإِذَا فِيهِ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى وَكَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا يَدْعُوهُ فِيهِ إلَى الْإِسْلَامِ فَكَتَبَ الْمُنْذِرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا بَعْدُ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّي قَرَأْت كِتَابَك عَلَى أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَحَبّ الْإِسْلَامَ وَأَعْجَبَهُ وَدَخَلَ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ وَبِأَرْضِي مَجُوسٌ وَيَهُودُ فَأَحْدِثْ إلَيّ فِي ذَلِكَ أَمْرَك فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 605 ] بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى سَلَامٌ عَلَيْكَ فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْك اللّهَ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمّا بَعْدُ فَإِنّي أُذَكّرُكَ اللّهَ عَزّ وَجَلّ فَإِنّهُ مَنْ يَنْصَحْ فَإِنّمَا يَنْصَحُ لِنَفْسِهِ وَإِنّهُ مَنْ يُطِعْ رُسُلِي وَيَتّبِعْ أَمْرَهُمْ فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ نَصَحَ لَهُمْ فَقَدْ نَصَحَ لِي وَإِنّ رُسُلِي قَدْ أَثْنَوْا عَلَيْكَ خَيْرًا وَإِنّي قَدْ شَفَعْتُكَ فِي قَوْمِك فَاتْرُكْ لِلْمُسْلِمِينَ مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ وَعَفَوْتُ عَنْ أَهْلِ الذّنُوبِ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَإِنّكَ مَهْمَا تُصْلِحْ فَلَنْ نَعْزِلَكَ عَنْ عَمَلِك وَمَنْ أَقَامَ عَلَى يَهُودِيّةٍ أَوْ مَجُوسِيّةٍ فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ
فَصْلٌ [ الْكِتَابُ إلَى مَلِكِ عُمَانَ ]
وَكَتَبَ إلَى مَلِكِ عُمَانَ كِتَابًا وَبَعَثَهُ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ إلَى جَيْفَرَ وَعَبْدٍ ابْنَيْ الْجُلَنْدَى سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى أَمّا بَعْدُ فَإِنّي أَدْعُوكُمَا بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ أَسْلِمَا تَسْلَمَا فَإِنّي رَسُولُ اللّهِ إلَى النّاسِ كَافّةً لِأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ فَإِنّكُمَا إنْ أَقْرَرْتُمَا بِالْإِسْلَامِ وَلّيْتُكُمَا وَإِنْ أَبَيْتُمَا أَنْ تُقِرّا بِالْإِسْلَامِ فَإِنّ مُلْكَكُمَا زَائِلٌ عَنْكُمَا وَخَيْلِي تَحُلّ بِسَاحَتِكُمَا وَتَظْهَرُ نُبُوّتِي عَلَى مُلْكِكُمَا . وَكَتَبَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَخَتَمَ الْكِتَابَ . قَالَ عَمْرٌو : فَخَرَجْتُ حَتّى انْتَهَيْتُ إلَى عُمَانَ فَلَمّا قَدِمْتهَا عَمَدْتُ إلَى عَبْدٍ وَكَانَ أَحْلَمَ الرّجُلَيْنِ وَأَسْهَلَهُمَا خُلُقًا فَقُلْتُ إنّي رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْك وَإِلَى أَخِيك فَقَالَ أَخِي الْمُقَدّمُ عَلَيّ بِالسّنّ وَالْمُلْكِ وَأَنَا أُوصِلُك إلَيْهِ حَتّى يَقْرَأَ كِتَابَك ثُمّ قَالَ وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ ؟ قُلْت : أَدْعُوك إلَى اللّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَتَخْلَعَ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِهِ وَتَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . قَالَ يَا عَمْرُو إنّك ابْنُ سَيّدِ قَوْمِك فَكَيْفَ صَنَعَ أَبُوكُ فَإِنّ لَنَا فِيهِ قُدْوَةً ؟ قُلْتُ مَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ [ ص 606 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَوَدِدْتُ أَنّهُ كَانَ أَسْلَمَ وَصَدّقَ بِهِ وَقَدْ كُنْتُ أَنَا عَلَى مِثْلِ رَأْيِهِ حَتّى هَدَانِي اللّهُ لِلْإِسْلَامِ قَالَ فَمَتَى تَبِعْتَهُ ؟ قُلْتُ قَرِيبًا فَسَأَلَنِي أَيْنَ كَانَ إسْلَامُك ؟ قُلْت : عِنْدَ النّجَاشِيّ وَأَخْبَرْته أَنّ النّجَاشِيّ قَدْ أَسْلَمَ قَالَ فَكَيْفَ صَنَعَ قَوْمُهُ بِمُلْكِهِ ؟ فَقُلْت : أَقَرّوهُ وَاتّبَعُوهُ قَالَ وَالْأَسَاقِفَةُ وَالرّهْبَانُ تَبِعُوهُ ؟ قُلْت : نَعَمْ . قَالَ اُنْظُرْ يَا عَمْرُو مَا تَقُولُ إنّهُ لَيْسَ مِنْ خَصْلَةٍ فِي رَجُلٍ أَفْضَحَ لَهُ مِنْ الْكَذِبِ قُلْته : مَا كَذَبْت وَمَا نَسْتَحِلّهُ فِي دِينِنَا ثُمّ قَالَ مَا أَرَى هِرَقْلَ عَلِمَ بِإِسْلَامِ النّجَاشِيّ قُلْت : بَلَى .
قَالَ بِأَيّ شَيْءٍ عَلِمْت ذَلِكَ ؟(3/16)