مقدمة موسوعة الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمًا عدادًا، وبعث فينا سراجًا وهَّاجَا، فاللهم إنا نشهدك على حبّك، وحبّ نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونشهدك أنه أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا ووالدينا وأموالنا، ونبرأ إليك مما فعل الكافرون بجناب نبيك وصفيك صلى الله عليه وسلم، وبعد:
إن المتأمل بعين ثاقبة وقلب يَقظ لما يدور حولنا من كوارث ونكبات.. ومحن وعظات.. ليحاول أن يسترجع هذه الآيات والحوادث والنوازل التي تحل بالأمة، أمراض مستأصلة، وأوبئة منتشرة، تحملها طيور، وتنقلها حيوانات، لا يملك أحد ردها أو صدها أو السيطرة عليها مهما أوتي من علم في مكتشفاته ومختبراته ومخترعاته وأرصدته، لأنها جند من جنود اللَّه عز وجل في البر والبحر: وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر [المدثر: 31].
وإن من حق كل مسلم غيور على دينه، محب لرسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، أن يعبر عن فرحته الغامرة، بهذه الهَبَّة الإسلامية من الأمة المحمدية، دفاعًا رائعًا عن خير البرية، ومع توالي النكبات، وكثرة الطعنات التي تُوجه إلى صدر الأمة من أعداء الإسلام، وممن أعلنوا الحرب الصليبية على الإسلام جلية واضحة، دون مهادنة، إلاَّ أننا نجد روحًا جديدة تسري في جسد الأمة؛ تذكرنا بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».
في هبّة الغيرة على حبّ النبي صلى الله عليه وسلم، تكاتفت الأمة، وتداعت إلى الحقِّ، فرب ضارّة نافعة، فالمسلمون لم يصلوا مرحلة الغثاء بعد، ولم يعد بوسع أعداء الإسلام أن يتجاهلوا هذه الأمة، وأن يتجرءوا على مشاعرها !!
الحرية الزائفة.. ومذبحة الهولوكست !!
وإذا كان الغرب - أدعياء الحرية الزائفة - قد كشفوا عن وجههم القبيح... وصالوا وجالوا في دول العالم يوزعون الاتهامات... ويحاسبون المقصرين ممن ينتسبون إليهم ويتلقون تعليماتهم.. وبالأمس القريب يصدر الحكم على الكاتب والمؤرخ البريطاني «إيرلي» بالحبس ثلاث سنوات لمجرد إدانته بإنكار المحرقة اليهودية والتشكيك في تعداد من قُتلوا في محرقة النازي ضد اليهود إنها الحرية الأمريكية؛ تمامًا كما فعلت وما تزال في العراق تحت وهم تصدير الحرية وإحلال الديمقراطية الأمريكية ديمقراطية رعاة البقر والعنصريين الغربيين !!
فالآن تضع الإساءة الأوربية والحدث الشنيع الذي سخر من نبينا صلى الله عليه وسلم واستهزأ به قيمة الحرية الزائفة في محاكمة تكشف عن الخزي والعار، فأين حرية الرأي وأياديكم ملطخة بالدماء.. في أبشع صور كشفت عن تصرف تتري هجمي، وإن شئت دقة في التعبير فإنه تصرف حيوانات مسعورة فقدت كل المشاعر، ومن قبلها ماتت الضمائر في سجن أبو غريب، بل في كل بقعة من أرض العراق وفلسطين وأفغانستان، وإن أردت الحقيقة ففي كل بقعة من أرض المسلمين دنسها المحتلون العنصريون ممن عميت بصائرهم، وخُتم على قلوبهم، وأسماعهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
هذا هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم !!
لقد بعث اللَّه تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللَّه بإذنه وسراجًا منيرًا، بعثه اللَّه في الأميين على حين فترة من الرسل: يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [الجمعة: 2].
ولقد علم اللَّه سبحانه، وهو اللطيف الخبير، أن الرسول المبعوث من قِبَله لابدّ أن يكون موصوفًا بكريم الأخلاق وجميل الصفات حتى يُقبل الناسُ عليه، ويتعلموا منه، لذلك وضع في شخص محمد صلى الله عليه وسلم الصورة الكاملة للشخصية المسلمة التي يريدها اللَّه تعالى، لتظل دائمًا صورة حية خالدة مرئية لكل من أراد أن ينهج نهج الإسلام، ويتبع النبي عليه الصلاة والسلام، وجعله اللَّه القدوة الطيبة، والأسوة الحسنة، والمثل الأعلى، والإمام الأعظم، فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا [الأحزاب: 21].
النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة(1/1)
فهو الأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم في عبادة اللَّه عز وجل، فلقد كان أعلم الناس بالله، وأتقاهم له وأخشاهم ومع ذلك كان يصوم ويفطر، ويقوم ويرقد، ويأتي النساء، ولم يؤثر ذلك في كونه أعبد الناس؛ ولذلك لما جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟! فقال أحدهم: أما أنا فأصوم الدهر لا أفطر. وقال الثاني: وأنا أقوم الليل لا أرقد. وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
[متفق عليه]
وقد أرسلت إليه إحدى بناته تقول له: «إن ابني قد احتُضر فاشهدنا، فأرسل إليها يقول: «إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمُرها فلتصبر ولتحتسب». فأرسلت تحلف عليه ليأتينَّها، فقام ومعه نفر من أصحابه، فرُفع إليه الصبيُّ ونَفْسُه تُقَعْقِعُ، ففاضت عيناه، فقال بعض أصحابه: ما هذا يا رسول اللَّه ؟ قال: «هذه رحمة جعلها اللَّه في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء». [متفق عليه]
وهو صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في الصبر على موت الأولاد؛ فقد رُزِق سبعة من الولد؛ ثلاثة ذكور، وأربع إناث، مات الصبيان الثلاثة صغارًا، وماتت ثلاث بناتٍ في حياته صلى الله عليه وسلم، ولم تعمَّر بعدَهُ إلا فاطمة، رضي اللَّه عنها، فإنها عاشت بعده ستة أشهر، فصبر على موت أولاده واحتسبهم عند اللَّه رب العالمين.
وكان صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في معاملة الجيران، وكان يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورِّثه». [متفق عليه]
وهو صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في معاملة الناس؛ فلقد باع واشترى، وكان سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، وكان إذا استسلف من رجل سلفًا قضاه إياه ودعا له، فقال: «بارك اللَّه لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الحمد والأداء». حديث حسن أخرجه النسائي وابن ماجه.
وكان صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في التواضع؛ فلقد كانت الأَمَةُ من إماء المدينة تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت فما يتركها حتى يقضي لها حاجتها. [رواه البخاري]
وكان إذا دخل عليهم لا يقومون له لما يعلمون من كراهيته لذلك. [حديث صحيح]
وهو صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في الشجاعة؛ فلقد دوى صوت في المدينة ذات ليلة، فهرع الناس إليه، فلقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «لم تراعوا». [متفق عليه]
وهو صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في السلم والحرب، واحترام العهود، والوفاء بها؛ دخل صلى الله عليه وسلم المدينة رافعًا رأيه السلام، ودخل يقول: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام».
[حديث صحيح]
الأخلاق المحمدية
لم يُكتب لأحد من البشر من الأثر والخلود والعظمة ما كتب لصاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم، وإن لذوي الأخلاق الفاضلة منزلة عالية، ففي الحديث الصحيح: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا». [رواه أحمد والترمذي]
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من خياركم أحاسنكم أخلاقًا». [البخاري ومسلم]
وسُئل صلى الله عليه وسلم عن البر؛ فقال: «حسن الخلق». [أخرجه مسلم]
وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا وأدبًا وأكرمهم وأتقاهم معاملة، قال عنه ربه عز وجل مادحًا خلقَه الكريم صلى الله عليه وسلم: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم: 4].
وعن عائشة رضي اللَّه عنها لما سُئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان خُلقه القرآن». [صحيح مسلم]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق». [رواه أبو داود والنسائي]
كرمه صلى الله عليه وسلم(1/2)
كان كرمه مضرب الأمثال، وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يردّ سائلاً وهو واجد ما يعطيه، فقد سأله رجل حُلَّةً كان يلبسها، فدخل بيته فخلعها، ثم خرج بها في يديه وأعطاه إياها. وفي صحيح البخاري ومسلم عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: «ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا على الإسلام إلا أعطاه»، وحسبنا في الاستدلال على كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث البخاري عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وقد سئل عن جود الرسول صلى الله عليه وسلم وكرمه فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل بالوحي فيدارسه القرآن، ولِمَ لا وهو القائل: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا». [البخاري ومسلم]
حلمه وصبره صلى الله عليه وسلم
كان صلى الله عليه وسلم في ذلك مضرب المثل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال اللَّه الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء». [رواه البخاري ومسلم]
عفوه صلى الله عليه وسلم
وقد أمر اللَّه تعالى به رسوله الكريم في قوله من سورة الأعراف: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [الأعراف: 199].
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزرموه، دعوه»، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر اللَّه، والصلاة، وقراءة القرآن، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه». [رواه مسلم]
عدله صلى الله عليه وسلم
أمر اللَّه بالعدل في القول والحكم، فقال تعالى: وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ، وعلى العدل قام أمر السماء والأرض، فكيف لا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عادلاً وهو القائل: «إن من إجلال اللَّه إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط».
[رواه أبو داود، وحسنه الألباني]
وذكر أن سبعة يظلهم اللَّه في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وعد منهم الإمام العادل، وقال: «إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة». [رواه مسلم]
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال
فعن أنس رضي الله عنه قال: كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم. [رواه البخاري]، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه». [البخاري]
حسن معاملته وعشرته صلى الله عليه وسلم
إن من كمال خلق المرء حسن صحبته ومعاشرته لأهله وكمال أدبه في مخالطته لغيره، وقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم مضرب المثل في حسن الصحبة وجميل المعاشرة وأدب المخالطة، وكان صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم، ويجلسُهم في حِجره، ويجيب دعوة الحرِّ والعبد والمسكين ويعود المرضى أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر.
وحسبنا في جميل مخالطته وبيان أدبه وحسن عشرته صلى الله عليه وسلم قول ربه عز وجل فيه: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ، وقد فعل صلى الله عليه وسلم، فجزاه اللَّه عن أمته خير الجزاء.
تواضعه صلى الله عليه وسلم
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خُيِّر بين أن يكون نبيًا ملكًا، أو نبيًا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًا عبدًا، وأخبر أن اللَّه تعالى كافأه على اختياره العبودية بأن يكون سيد ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، فاختياره العبودية على الملك أكبر مظهر من مظاهر التواضع المحمدي.
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم: وإنما أنا عبد، فقولوا عبد اللَّه ورسوله».
وكان صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين، يتخلق ويتمثل بقوله تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [القصص: 83].
وهذا فيض من غيض، فداك أبي وأمي وأهلي ونفسي يا رسول اللَّه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
http://www.altawhed.com/Detail.asp?InNewsItemID=183165
=================(1/3)
وهذه مجموعة طيبة وكبيرة حول فضائل ومناقب حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم عليه وسلم ، التقطتها من هنا وهناك ، وخاصة من المواقع التالية :
1.اللجنة العالمية لنصرة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم
2.دفاعاً عن المصطفى صلى الله عليه وسلم
3.إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
4.الدفاع عن جناب النبي صلى الله عليه وسلم
5.اللجنة الأوروبية لنصرة خير البرية
6.لا للدنمارك
7.المصنوعات الدنماركية
8.عذراً رسول الله
9.الحملة العالمية لمقاومة العدوان
10.حملة مليار مع محمد صلى الله عليه وسلم
11.حملة الدفاع عن الجناب النبوي
12.موقع الحملة العالمية لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم
13- موقع صيد الفوائد
وما سواها كثير
، وقد قسمتها حسب موضوعاتها لعدة أبحاث ، بلغت (( عشرة أجزاء كبيرة ))
وذلك على الشكل التالي :
أولا- مقدمة عن الموسوعة
ثانيا- قد قسمتها إلى أحد عشر باباً على الشكل التالي :
الباب الأول- الشمائل المحمدية
الباب الثاني - هدي خير العباد
الباب الثالث-حقوقه صلى الله عليه وسلم
الباب الرابع-قالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم
الباب الخامس -المنصفون .
الباب السادس- دلائل ومعجزات النبوة
الباب السابع -الاحتفال بالمولد النبوي
الباب الثامن - شبهات وردود
الباب التاسع- المتطاولون وعاقبتهم
الباب العاشر - ما قيل فيه من شعر صلى الله عليه وسلم
الباب الحادي عشر - مقالات وخطب حول ردود فعل المسلمين
*************
ومناسبة ذلك ما فعله بعض فناني الدانمرك من إساءة للرسول صلى الله عليه وسلم
وهذا الذي حدث سببه بالدرجة الأولى حقد وحسد أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأتباعه .
قال تعالى :{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) [المائدة/59] }
وقال تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) [النساء/54، 55] }
وقال تعالى : { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) [البقرة/105] }
وقال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) [البقرة/109] }
--------------------(1/4)
إنهم يعادون المسلمين لأنهم مسلمون لأنهم ليسوا يهودا ولا نصارى ولأن أهل الكتاب فاسقون منحرفون عما أنزله الله إليهم ; وآية فسقهم وانحرافهم أنهم لا يؤمنون بالرسالة الأخيرة وهي مصدقة لما بين أيديهم لا ما ابتدعوه وحرفوه ولا يؤمنون بالرسول الأخير وهو مصدق لما بين يديه ; معظم لرسل الله أجمعين إنهم يحاربون المسلمين هذه الحرب الشعواء ; التي لم تضع أوزارها قط ولم يخب أوارها طوال ألف وأربعمائة عام ; منذ أن قام للمسلمين كيان في المدينة ; وتميزت لهم شخصية ; وأصبح لهم وجود مستقل ; ناشى ء من دينهم المستقل وتصورهم المستقل ونظامهم المستقل في ظل منهج الله الفريد إنهم يشنون على المسلمين هذه الحرب المشبوبة لأنهم قبل كل شيء مسلمون ولا يمكن أن يطفئوا هذه الحرب المشبوبة إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم ; فيصبحوا غير مسلمين ذلك أن أهل الكتاب أكثرهم فاسقون ; ومن ثم لا يحبون المستقيمين الملتزمين من المسلمين والله سبحانه يقرر هذه الحقيقة في صورة قاطعة وهو يقول لرسوله ص في السورة الأخرى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ويقول له في هذه السورة أن يواجه أهل الكتاب بحقيقة بواعثهم وركيزة موقفهم قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ; وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون وهذه الحقيقة التي يقررها الله سبحانه في مواضع كثيرة من كلامه الصادق المبين هي التي يريد تمييعها وتلبيسها وتغطيتها وإنكارها اليوم كثيرون من أهل الكتاب وكثيرون ممن يسمون أنفسهم مسلمين باسم تعاون المتدينين في وجه المادية والإلحاد كما يقولون أهل الكتاب يريدون اليوم تمييع هذه الحقيقة بل طمسها وتغطيتها لأنهم يريدون خداع سكان الوطن الإسلامي أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح وتخدير الوعي الذي كان قد بثه فيهم الإسلام بمنهجه الرباني القويم ذلك أنه حين كان هذا الوعي سليما لم يستطع الاستعمار الصليبي أن يقف للمد الإسلامي فضلا على أن يستعمر الوطن الإسلامي ولم يكن بد لهؤلاء بعد فشلهم في الحروب الصليبية السافرة وفي حرب التبشير السافرة كذلك أن يسلكوا طريق الخداع والتخدير فيتظاهروا ويشيعوا بين ورثة المسلمين أن قضية الدين والحرب الدينية قد انتهت وأنها كانت مجرد فترة تاريخية مظلمة عاشتها الأمم جميعا ثم تنور العالم و تقدم فلم يعد من الجائز ولا اللائق ولا المستساغ أن يقوم الصراع على أساس العقيدة وأنما الصراع اليوم على المادة على الموارد والأسواق والاستغلالات فحسب وإذن فما يجوز للمسلمين أو ورثة المسلمين أن يفكروا في الدين ولا في صراع الدين وحين يطمئن أهل الكتاب وهم الذين يستعمرون أوطان المسلمين إلى استنامة هؤلاء لهذا التخدير ; وحين تتميع القضية في ضمائرهم ; فإن المستعمرين يأمنون غضبة المسلمين لله ; وللعقيدة الغضبة التي لم يقفوا لها يوما ويصبح الأمر سهلا بعد التنويم والتخدير ولا يكسبون معركة العقيدة وحدها بل يكسبون معها ما وراءها من الأسلاب والمغانم والاستثمارات والخامات ; ويغلبون في معركة المادة بعدما يغلبون في معركة العقيدة فهما قريب من قريب وعملاء أهل الكتاب في الوطن الإسلامي ممن يقيمهم الاستعمار هنا وهناك علانية أو في خفية يقولون القول نفسه لأنهم عملاء يؤدون الدور من داخل الحدود وهؤلاء يقولون عن الحروب الصليبية ذاتها إنها لم تكن صليبية ويقولون عن المسلمين الذين خاضوها تحت راية العقيدة إنهم لم يكونوا مسلمين وإنما هم كانوا قوميين وفريق ثالث مستغفل مخدوع ; يناديه أحفاد الصليبين في الغرب المستعمر أن تعالوا إلينا تعالوا نجتمع في ولاء ; لندفع عن الدين غائلة الملحدين فيستجيب هذا الفريق المستغفل المخدوع ; ناسيا أن أحفاد الصلييبين هؤلاء وقفوا في كل مرة مع الملحدين ; صفا واحدا حينما كانت المواجهة للمسلمين على مدار القرون وما يزالون وأنهم لا يعنيهم حرب المادية الالحادية قدر ما تعنيهم حرب الإسلام ذلك أنهم يعرفون جيدا أن الإلحادية المادية عرض طارى ء وعدو موقوت ; وأن الإسلام أصل ثابت وعدو مقيم وإنما هذه الدعوة المموهة لتمييع اليقظة البادئة عند طلائع البعث الإسلامي ; وللانتفاع بجهد المستغفلين المخدوعين في الوقت ذاته ليكونوا وقود المعركة مع الملحدين لأنهم أعداء الاستعمار السياسيون وهؤلاء كهؤلاء حرب على الإسلام والمسلمين حرب لا عدة فيها للمسلم إلا ذلك الوعي الذي يربيه عليه المنهج الرباني القويم إن هؤلاء الذين تخدعهم اللعبة أو يتظاهرون بالتصديق فيحسبون أهل الكتاب جادين إذ يدعونهم للتضامن والولاء في دفع الإلحاد عن الدين إنما ينسون واقع التاريخ في أربعة عشر قرنا لا استثناء فيها كما ينسون تعليم ربهم لهم في هذا الأمر بالذات وهو تعليم لا مواربة فيه ولا مجال للحيدة عنه وفي النفس ثقة بالله ويقين بجدية ما يقول إن هؤلاء يجتزئون فيما يقولون ويكتبون بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تأمر المسلمين أن(1/5)
يحسنوا معاملة أهل الكتاب ; وأن يتسامحوا معهم في المعيشة والسلوك ويغفلون التحذيرات الحاسمة عن موالاتهم ; والتقريرات الواعية عن بواعثهم والتعليمات الصريحة عن خطة الحركة الإسلامية وخطة التنظيم التي تحرم التناصر والموالاة لأن التناصر والموالاة لا يكونان عند المسلم إلا في شأن الدين وإقامة منهجه ونظامه في الحياة الواقعية وليست هناك قاعدة مشتركة يلتقي عليها المسلم مع أهل الكتاب في شأن دينه مهما يكن هناك من تلاق في أصول هذه الأديان مع دينه قبل تحريفها إذ هم لا ينقمون منه إلا هذا الدين ولا يرضون عنه إلا بترك هذا الدين كما يقول رب العالمين إن هؤلاء ممن يجعلون القرآن عضين ; يجزئونه ويمزقونه فيأخذون منه ما يشاءون مما يوافق دعوتهم الغافلة الساذجة على فرض براءتها ويدعون منه ما لا يتفق مع اتجاههم الغافل أو المريب ونحن نؤثر أن نسمع كلام الله في هذه القضية على أن نسمع كلام المخدوعين أو الخادعين وكلام الله سبحانه في هذه القضية حاسم واضح صريح مبين ونقف وقفة قصيرة في هذا الموضع عند قوله تعالى بعد تقرير أن سبب النقمة هو الإيمان بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل أن بقية السبب وأن أكثركم فاسقون فهذا الفسق هو شطر الباعث فالفسق يحمل صاحبه على النقمة من المستقيم وهي قاعدة نفسية واقعية ; تثبتها هذه اللفتة القرآنية العجيبة إن الذي يفسق عن الطريق وينحرف لا يطيق أن يرى المستقيم على النهج الملتزم إن وجوده يشعره دائما بفسقه وانحرافه إنه يتمثل له شاهدا قائما على فسقه هو وانحرافه ومن ثم يكرهه وينقم عليه يكره استقامته وينقم منه التزامه ; ويسعى جاهدا لجره إلى طريقه ; أو للقضاء عليه إذا استعصى قياده إنها قاعدة مطردة تتجاوز موقف أهل الكتاب من الجماعة المسلمة في المدينة إلى موقف أهل الكتاب عامة من المسلمين عامة إلى موقف كل فاسق منحرف من كل عصبة ملتزمة مستقيمة والحرب المشبوبة دائما على الخيرين في مجتمع الأشرار وعلى المستقيمين في مجتمع الفاسقين وعلى الملتزمين في مجتمع المنحرفين هذه الحرب أمر طبيعي يستند إلى هذه القاعدة التي يصورها النص القرآني العجيب ولقد علم الله سبحانه أن الخير لا بد أن يلقى النقمة من الشر وأن الحق لا بد أن يواجه العداء من الباطل وأن الاستقامة لا بد أن تثير غيظ الفساق وأن الالتزام لا بد أن يجر حقد المنحرفين وعلم الله سبحانه أن لا بد للخير والحق والاستقامة والالتزام أن تدفع عن نفسها وأن تخوض المعركة الحتمية مع الشر والباطل والفسق والانحراف وأنها معركة لا خيار فيها ولا يملك الحق ألا يخوضها في وجه الباطل لأن الباطل سيهاجمه ولا يملك الخير أن يتجنبها لأن الشر لا بد سيحاول سحقه وغفلة أي غفلة أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام أنهم متروكون من الباطل والشر والفسق والانحراف ; وأنهم يملكون تجنب المعركة ; وأنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة وخير لهم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة ; من أن يستسلموا للوهم والخديعة وهم يومئذ مأكولون مأكولون ثم نمضي مع السياق القرآني في توجيه الله سبحانه لرسوله ص لمواجهة أهل الكتاب بعد تقرير بواعثهم واستنكار هذه البواعث في النقمة على المسلمين فإذا هو يجبههم بتاريخ لهم قديم وشأن لهم مع ربهم وعقاب أليم قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل وهنا تطالعنا سحنة يهود وتاريخ يهود إنهم هم الذين لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير إنهم هم الذين عبدوا الطاغوت وقصة لعنة الله لهم وغضبه عليهم واردة في مواضع شتى من القرآن الكريم ; وكذلك قصة جعله منهم القردة والخنازير فأما قضية عبادتهم للطاغوت فتحتاج إلى بيان هنا لأنها لفتة ذات دلالة خاصة في سياق هذه السورة إن الطاغوت هو كل سلطان لا يستمد من سلطان الله وكل حكم لا يقوم على شريعة الله وكل عدوان يتجاوز الحق والعدوان على سلطان الله وألوهيته وحاكميته هو أشنع العدوان وأشده طغيانا وأدخله في معنى الطاغوت لفظا ومعنى وأهل الكتاب لم يعبدوا الأحبار والرهبان ; ولكن اتبعوا شرعهم وتركوا شريعة الله فسماهم الله عبادا لهم ; وسماهم مشركين وهذه اللفتة هنا ملحوظ فيها ذلك المعنى الدقيق فهم عبدوا الطاغوت أي السلطات الطاغية المتجاوزة لحقها وهم لم يعبدوها بمعنى السجود لها والركوع ولكنهم عبدوها بمعنى الاتباع والطاعة وهي عبادة تخرج صاحبها من عبادة الله ومن دين الله والله سبحانه يوجه رسوله ص لمجابهة أهل الكتاب بهذا التاريخ وبذلك الجزاء الذي استحقوه من الله على هذا التاريخ كأنما هم جيل واحد بما أنهم جبلة واحدة يوجهه ليقول لهم إن هذا شر عاقبة قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله أي شر من نقمة أهل الكتاب على المسلمين وما يكيدون لهم وما يؤذونهم بسبب إيمانهم وأين نقمة البشر الضعاف من(1/6)
نقمة الله وعذابه وحكمه على أهل الكتاب بالشر والضلال عن سواء السبيل أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل الدرس الخامس نماذج من كفريات وتلاعب اليهود ويمضي السياق في التنفير من موالاتهم بعرض صفاتهم وسماتهم بعد عرض تاريخهم وجزائهم ويجيء التحذير والتوعي ة منهم بكشف ما يبيتون ويبرز اليهود كذلك في الصورة لأن الحديث عن وقائع جارية ومعظم الشر كان يجيء من قبل يهود وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ; بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين إنها عبارات تنشى ء صورا متحركة مشاهد حية على طريقة التعبير القرآنية الفريدة ومن وراء القرون يملك قارى ء هذه الآيات أن يشهد بعين التصور هؤلاء القوم الذين يتحدث عنهم القرآن من يهود على الأرجح فالسياق يتحدث عنهم وإن كان من الجائز أنه يعني كذلك بعض المنافقين في المدينة يشهدهم يجيئون للمسلمين فيقولون آمنا ويشهد في جعبتهم الكفر وهم يدخلون به ويخرجون ; بينما ألسنتهم تقول غير ما في الجعبة من كفر يحملونه داخلين خارجين ولعلهم من يهود أولئك الذين كانوا يبيتون البلبلة وهم يقولون بعضهم لبعض آمنوا بهذا القرآن وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون أي لعل المسلمين يرجعون عن دينهم بسبب هذه البلبلة والتشكيك الخبيث اللئيم والله أعلم بما كانوا يكتمون(1/7)
يقولها الله سبحانه لأنها الحقيقة ; ثم لكي يطمئن المؤمنون إلى كلاءة ربهم لهم وحفظهم من كيد عدوهم ; وإحاطته علما بهذا الكيد المكتوم ثم ليهدد أصحاب هذا الكيد لعلهم ينتهون ويمضي السياق يرسم حركاتهم كأنها منظورة تشهد وتلحظ من خلال التعبير وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون والمسارعة مفاعلة تصور القوم كأنما يتسابقون تسابقا في الإثم والعدوان وأكل الحرام وهي صورة ترسم للتبشيع والتشنيع ولكنها تصور حالة من حالات النفوس والجماعات حين يستشري فيها الفساد ; وتسقط القيم ; ويسيطر الشر وإن الإنسان لينظر إلى المجتمعات التي انتهت إلى مثل هذه الحال فيرى كأنما كل من فيها يتسابقون إلى الشر إلى الإثم والعدوان قويهم وضعيفهم سواء فالإثم والعدوان في المجتمعات الهابطة الفاسدة لا يقتصران على الأقوياء ; بل يرتكبهما كذلك الضعفاء فحتى هؤلاء ينساقون في تيار الإثم وحتى هؤلاء يملكون الاعتداء ; إنهم لا يملكون الاعتداء على الأقوياء طبعا ولكن يعتدي بعضهم على بعض ويعتدون على حرمات الله لأنها هي التي تكون في المجتمعات الفاسدة الحمى المستباح الذي لا حارس له من حاكم ولا محكوم ; فالإثم والعدوان طابع المجتمع حين يفسد ; والمسارعة فيهما عمل هذه المجتمعات وكذلك كان مجتمع يهود في تلك الأيام وكذلك أكلهم للحرام فأكل الحرام كذلك سمة يهود في كل آن لبئس ما كانوا يعملون ويشير السياق إلى سمة أخرى من سمات المجتمعات الفاسدة ; وهو يستنكر سكوت الربانيين القائمين على الشريعة والأحبار القائمين على أمر العلم الديني سكوتهم على مسارعة القوم في الإثم والعدوان وأكل السحت ; وعدم نهيهم عن هذا الشر الذي يتسابقون فيه لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون فهذه السمة سمة سكوت القائمين على أمر الشريعة والعلم الديني عما يقع في المجتمع من إثم وعدوان هي سمة المجتمعات التي فسدت وآذنت بالانهيار وبنو إسرائيل كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه كما حكى عنهم القرآن الكريم إن سمة المجتمع الخير الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ; وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; وأن يكون عرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر وهكذا وصف الله الأمة المسلمة فقال كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ووصف بني إسرائيل فقال كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه فكان ذلك فيصلا بين المجتمعين وبين الجماعتين أما هنا فينحي باللائمة على الربانيين والأحبار الساكتين على المسارعة في الإثم والعدوان وأكل السحت ; الذين لا يقومون بحق ما استحفظوا عليه من كتاب الله وإنه لصوت النذير لكل أهل دين فصلاح المجتمع أو فساده رهن بقيام الحفظة على الشريعة والعلم فيه بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; والأمر كما قلنا من قبل في الظلال يقتضي سلطة تأمر وتنهى والأمر والنهي أمر غير الدعوة فالدعوة بيان والأمر والنهي سلطان وكذلك ينبغي أن يحصل الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر على السلطان الذي يجعل لأمرهم ونهيهم قيمته في المجتمع ; فلا يكون مطلق كلام وكنموذج من قولهم الإثم في أبشع صوره يحكي القرآن الكريم قول اليهود الغبي اللئيم وقالت اليهود يد الله مغلوله غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وذلك من سوء تصور يهود لله سبحانه فقد حكى القرآن الكريم الكثير من سوء تصورهم ذاك وقد قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء عندما سئلوا النفقة وقالوا يد الله مغلولة يعللون بذلك بخلهم ; فالله بزعمهم لا يعطي الناس ولا يعطيهم إلا القليل فكيف ينفقون وقد بلغ من غلظ حسهم وجلافة قلوبهم ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهو البخل بلفظه المباشر ; فاختاروا لفظا أشد وقاحة وتهجما وكفرا فقالوا يد الله مغلولة ويجيء الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهم غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا وكذلك كانوا فهم أبخل خلق الله بمال ثم يصحح هذا التصور الفاسد السقيم ; ويصف الله سبحانه بوصفه الكريم وهو يفيض على عباده من فضله بلا حساب بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وعطاياه التي لا تكف ولا تنفد لكل مخلوق ظاهرة للعيان شاهدة باليد المبسوطة والفضل الغامر والعطاء الجزيل ناطقة بكل لسان ولكن يهود لا تراها ; لأنها مشغولة عنها باللم والضم وبالكنود وبالجحود وبالبذاءة حتى في حق الله ويحدث الله رسوله ص عما سيبدو من القوم وعما سيحل بهم بسبب حقدهم وغيظهم من اصطفاء الله له بالرسالة ; وبسبب ما تكشفه هذه الرسالة من أمرهم في القديم والحديث وليزيدن كثيرا منهم ما(1/8)
أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرًا فبسبب من الحقد والحسد وبسبب من افتضاح أمرهم فيما أنزل الله إلى رسوله سيزيد الكثيرون منهم طغيانا وكفرا لأنهم وقد أبوا الإيمان لا بد أن يشتطوا في الجانب المقابل ; ولا بد أن يزيدوا تبجحا ونكرا وطغيانا وكفرا فيكون الرسول ص رحمة للمؤمنين ووبالا عن المنكرين ثم يحدثه عما قدر الله لهم من التعادي والتباغض فيما بينهم ; ومن إبطال كيدهم وهو في أشد سعيره تلهبا ; ومن عودتهم بالخيبة فيما يشنونه من حرب على الجماعة المسلمة وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفاها الله وما تزال طوائف اليهود متعادية وإن بدا في هذه الفترة أن اليهودية العالمية تتساند ; وتوقد نار الحرب على البلاد الإسلامية وتفلح ولكن ينبغي ألا ننظر إلى فترة قصيرة من الزمان ولا إلى مظهر لا يشتمل على الحقيقة كاملة ففي خلال ألف وثلاثمائة عام بل من قبل الإسلام واليهود في شحناء وفي ذل كذلك وتشرد ومصيرهم إلى مثل ما كانوا فيه مهما تقم حولهم الأسناد ولكن مفتاح الموقف كله في وجود العصبة المؤمنة التي يتحقق لها وعد الله فأين هي العصبة المؤمنة اليوم التي تتلقى وعد الله وتقف ستارا لقدر الله ويحقق الله بها في الأرض ما يشاء ويوم تفيء الأمة المسلمة إلى الإسلام تؤمن به على حقيقته ; وتقيم حياتها كلها على منهجه وشريعته يومئذ يحق وعد الله على شر خلق الله واليهود يعرفون هذا ومن ثم يسلطون كل ما في جعبتهم من شر وكيد ; ويصبون كل ما في أيديهم من بطش وفتك على طلائع البعث الإسلامي في كل شبر من الأرض ويضربون لا بأيديهم ولكن بأيدي عملائهم ضربات وحشية منكرة ; لا ترعى في العصبة المؤمنة إلا ولا ذمة ولكن الله غالب على أمره ووعد الله لا بد أن يتحقق وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله إن هذا الشر والفساد الذي تمثله يهود لا بد أن يبعث الله عليه من يوقفه ويحطمه ; فالله لا يحب الفساد في الأرض ; وما لا يحبه الله لا بد أن يبعث عليه من عباده من يزيله ويعفي عليه ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين الدرس
*******************
وسببه الثاني ضعف المسلمين وتشرذمهم في الأرض ، والضعيف لا يلتفت إليه أحد :
فعَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأُكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا ». قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ قَالَ « أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ ». قَالَ قُلْنَا وَمَا الْوَهَنُ قَالَ « حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ » رواه أحمد وابو داود وسنده صحيح
الوهن وباء خطير ومرض قاتل
بسم الله الرحمن الرحيم
يتعرض الفرد والمجتمع والأمة دائما وباستمرار إلى عوارض متعددة، وظروف طارئة، وتطورات كثيرة، وأمراض مختلفة، ويتفاوت أثر ذلك بحسب طبيعة المؤثر الجديد، وبنيان الفرد والمجتمع، والعوامل المساعدة، وقد ينتاب الفرد أو المجتمع مرض عارض، ويزول بسرعة دون أن يترك أثرا ما، وقد يصاب الفرد بمرض معين، فيقتصر عليه ولا يمتد إلى المجتمع، ولا تحس به الأمة، وقد يتحول المرض من الفرد إلى المجتمع، فيصبح مرضا قاتلا، ووباء فتاكا، ويكون أثره إزهاق الفرد، وإبادة الأمة وسحق المجتمع.
وإن أمراض الإنسان كثيرة، منها عضوية، ومنها نفسية ومنها اجتماعية، وهي في معظمها أمراض عامة لا تخص فردا أو مجتمعا أو أمة، فإذا حلت في فرد أو مجتمع أو أمة فلا بد أن تظهر أعراضها، وينتشر خطرها، ويحس بآلامها المصاب وغيره، وقد تفتك بالمريض، وتؤدي إلى العدوى، لتفتك بالمجموع.
ومن هنا تقوم الديانات السماوية، والمفكرون في كل أمة، والمصلحون في كل مجتمع، بمجابهة هذه الأمراض، ووصف الأدوية لها، بل يسارعون إلى التحذير منها لأخذ الوقاية والمناعة قبل أن تحل وتستشري بين الناس، لأن الوقاية خير من العلاج، وبذلك ينقذون أمتهم ومجتمعهم من الأخطار المحدقة، ويجنبون الأفراد ويلات تحيق بهم، وتهدد وجودهم.
ومن هذه الأمراض الفتاكة التي يشترك فيها الفرد والمجتمع، وتنذر الأمة بالويل والدمار مرض الوهن الذي بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعراضه وأسبابه، وحذر منه.(1/9)
والوهن في اللغة العربية الضعف، سواء أكان ماديا أم معنويا، وسواء أكان في الفرد أم في المجتمع، من وهن يهن وهنا أي ضعف، ويقال وهن عظمه، واسم التفضيل أوهن، ويقال: وهن الرجل أي جبن عن لقاء عدوه، وهذا داخل في الضعف، وقد استعمل القرآن الكريم هذا المعنى في عدة آيات، فقال تعالى: {قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا} مريم/ 4، وقال تعالى: {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله} آل عمران / 146، وقال تعالى: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون} النساء/ 104 أي لا تجبنوا، وقال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} آل عمران / 139، وقال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن} لقمان / 14، وقال عز وجل: {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} العنكبوت /41.
ولكن الوهن المقصود في هذا المقال هو مرض عضال، ووباء عام بينه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة وثوبان قالا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، قيل: يا رسول الله: فمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم يومئذ كثير،ولكنكم غثاء كغثاء السيل،ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن" فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت".
وهكذا يكشف الرسول صلى الله عليه وسلم أعراض الوهن الذي يبدأ من الفرد، وينتهي بالمجتمع، هذا المرض الذي يصيب الأمم والشعوب فيقضي عل كيانها، ويهدم وجودها، ويسقط هيبتها، ويمحو أثرها، ويزلزل أركانها، ويحطم دعائمها، فتهوى من عليائها وكرامتها واستعلائها إلى أن تركع أمام الأمم الأخرى، وتستخذل أمام الشعوب المجاورة، وتصبح لقمة سائغة للطامعين فيها، بل يكثر الأكلة حولها، ويجتمعون على اقتسامها والقضاء عليها، كما يجتمع الجياع حول الطعام ليتناولوه، ويأخذوه، ويقتسموه، فلا يرفعون أيديهم عنه، وفي القصعة أثر لوجوده.
هذا المرض بأعراضه وأسبابه يصيب الدول في القديم والحديث، ويؤدي إلى سقوطها وانهيارها، وهو اليوم مقيم بين المسلمين، وقد حط بكلكله عليهم، ونزل بهم الوهن منذ أمد، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر بعين الغيب (الذي يطلعه عليه الوحي) ويصور حال المسلمين، وقد تداعت عليهم الأمم الاستعمارية، والشعوب المعادية وتكالبت على أرضهم وبلادهم، وجزأت أوطانهم وديارهم، وسلبت نصيبا كبيرا وعزيزا من مقدساتهم، وتآمرت، ولا تزال تتآمر، عليهم في كل قطر وجانب، وتحيك لهم المؤامرة تلو المؤامرة للإطاحة بهم، وفرض الاستسلام عليهم، وضمان الاستذلال والاستسلام لهم، وتنوع عليهم أساليب الاستغلال والابتزاز لثرواتهم واقتصادهم، وتفرض عليهم الأفكار الخبيثة، والمبادئ البراقة، والقيم الدخيلة، والقوانين الوضعية، وتغزوهم فكريا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا في عقر دارهم، وتتقاسمهم النفوذ ومناطق السيطرة، وتتقاذفهم ذات اليمين وذات اليسار، وتحفر لهم الحفر ليسقطوا فيها، وترى القطر الواحد يوما مع الشرق ويوما مع الغرب، وتارة يستورد أفكاره وقيمه ومواده وأسلحته من هنا، وتارة من هناك، والمسلمون اليوم في ضياع وتمزق، وتردد واضطراب، لا يعرفون ذاتا لأنفسهم، ولا يعلمون هوية لشخصيتهم، ويجهلون السفينة التي تحملهم، وهم نائمون عن الرياح التي تتقاذفهم، وقد تكسرت السواري، وسقطت الراية، وهم في بحر لجي، في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرجوا أصابعهم لا يكادون يرونها من الحجب الكثيفة، والنظارات السوداء التي أحكم العدو ربطها على أعينهم، وشدد الخناق فيها على رقابهم، لكن أعدادهم كثيرة، وثرواتهم ضخمة، ومركزهم استراتيجي، وهم ملايين وملايين، ولكنهم غثاء كغثاء السيل، لا قيمة له، ولا يثبت على حال، ويقذفه السيل إلى الحضيض، ولذلك فقدوا هيبتهم، وطمع بهم القريب والبعيد، والقوى والضعيف، وسامهم الذل والهوان على أيدي عصابات صهيون، وجنود المرتزقة، وتسلط العملاء.
حب الدنيا وكراهية الموت:
وقد شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم المرض، فبين أنه الوهن، ثم شرح أعراضه الظاهرة وأسبابه القريبة والبعيدة، وهي حب الدنيا، والتعلق بها، والافتتان بزينتها، والسعي وراءها، والطمع فيها، وقصور الآمال عليها، واعتبارها المبدأ والمنتهى، والظن بالخلود فيها، وحب الاستزادة من البقاء فيها، وبالتالي كراهية الموت، لأنه يقطع هذه ا لآمال والأماني وكأن لسان حال القوم يردد سخافات الجاهلية من الدهريين وغيرهم، حين يقولون: {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين} المؤمنون/37، {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} الأنعام/ 29، {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون} الجاثية / 24 .(1/10)
إن المرض واحد، ولكن له وجهان متقابلان، وصفتان متلازمتان، وعرضان متحدان، وهما حب الدنيا وكراهية الموت، وهذان العرضان نشيطان ومؤثران، ويتركان الآثار العظيمة، والنتائج الخطيرة، ويدفعان إلى أعمال جمة.
فمن آثار حب الدنيا أن تبدأ من الفرد لتصل إلى المجتمع، فتصبغه بها، وينتشر الحرص على جمع المال، والانكباب على كسبه بالطرق المشروعة وغير المشروعة، ويظهر التقاتل والتخاصم، والشح والبخل، والجشع والطمع، واللف والدوران في التعامل، والتحايل والتهرب، والسرقة والغصب، ثم يعقب ذلك التخاذل والجبن والخوف والاضطراب، والقلق الشديد من المستقبل.
ومن آثار كراهية الموت أن يعب الإنسان من طيبات الحياة ما استطاع إلى ذ لك سبيلا، وألا يعد للموت عدته، ولا يقدم شيئا أمامه، ويسرف في الملذات، ويسعى لإشباع الشهوات، وينقاد وراء الغرائز، ولو قتل نفسه بنفسه، ثم يهلك ذاته بيده.
ويشرح القرآن الكريم هذا المرض بشقيه، مبينا أثره وخطره وعاقبته، فيقول تعالى: {ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} التكاثر.
حقيقة الدنيا:
وإن حب الدنيا وكراهية الموت يعني أن الإنسان يجهل حقيقة الدنيا، ويغتر بمظاهرها، ويفتتن بمغرياتها، وأن صاحبها قصير النظر، كليل البصر، ينظر بين رجليه، ولا يستعد لأبعد من ذلك، ولا يهيء نفسه لمستقبل أيامه، ولا يدخر سلاحه وقوته لوقت حاجته، لذلك حرص القرآن الكريم على أن يكشف للمسلم حقيقة الدنيا، ويميط له اللثام عن مفاتنها، ويحذره من الاغترار فيها، وذلك في آيات كثيرة، قال تعالى: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} الحديد/ 20. وقال تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} آل عمران/ 14، ويبين القرآن حقيقة الحياة، ويحذر من فتنتها، فيقول تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} فاطر/ 5، كما يقرر القرآن الكريم أشياء كثيرة من زينة الحياة الدنيا، ثم يدعو الناس إلى عدم الوقوف عندها، ويطلب منهم تجاوزها إلى ما هو خير وأشمل، وأحسن وأدوم وأثمن وأبقى، فيقول تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} الكهف/46.(1/11)
فالدنيا جميلة، وفيها من المسليات والملاهي الشيء الكثير، ولكن ذلك إلى زوال، وأن الحياة الحقيقية، والسعادة الحقة هي في الدار الآخرة، فيقول تعالى: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} العنكبوت/ 64، ثم يحذر الرسول الكريم من مفاتن الدنيا، والانشغال بمالها وخيراتها، والتنافس فيها، والغفلة عن الله والآخرة، فيقول عليه الصلاة والسلام في حديث طويل رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري: "فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم"، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قيمة الدنيا، وهوانها عند الله تعالى، وأنه لا قدر لها إذ ا قصدت لذاتها، وإنما تظهر قيمتها إذا جعلت طريقا إلى الآخرة، ومزرعة للأعمال، فقال عليه الصلاة و السلام - فيما رواه الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد الساعدي: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء "، وحذر الرسول الكريم المؤمنين من استعباد الدنيا وزينتها لهم، فالعاقل لا يكون عبدا للدرهم والدينار، وإلا استحق السخط والغضب، يروي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تعس عبد الدينار والدرهم، والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض"، وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء" وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، وهذه الآيات والأحاديث، وغيرها كثير، تحذير للمسلمين من الفتنة بالدنيا، والتعلق بها، والاغترار بزينتها، وليكون ذ لك وقاية لهم من الانغماس فيها، ولكن ذ لك لا يعني التخلي عن الدنيا وترك ما فيها، واعتبارها نجسا كما يحلو لأتباع بعض الديانات المحرفة، بل الدنيا مزرعة للآخرة، وأن الدنيا ميراث وتركة للمؤمن، ينفقها في سبيل الآخرة، ويشترى بها الدرجات العليا في الجنة، روى الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق مما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة اذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها أبقيت لك".
الاستعداد للموت:
وهذه النظرة الحقيقية للدنيا، وعدم التعلق بها، وسيلة تربوية حتى يكون المال وغيره في يد المؤمن والعاقل، وليس في قلبه، فلا يستأسره ويسيطر عليه، وإنما يستخدمه لنفع العباد والبلاد، ويسخر ما في يده من خير ليكون أمامه يوم الدين والحساب، وليبقى ذكرا له، وعملا نافعا، وأجرا دائما بعد وفاته، وأن الادخار والبخل، والاكتناز والشح لا يعود عليه بشيء، ولن يخلد في الدنيا، وسوف ينقل إلى القبر، ويدفن تحت التراب، ويبقى المال لغيره، ويكشف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الحقيقة، مبينا حظ الإنسان من ماله، فيما يرويه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي عن عبد الله بن الشخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت" ولذلك يستعد العاقل للموت، - ويهيئ له الأسباب المحمودة، فإن جاءه الموت كان عل خير حال، دون أن يغفل عن هذه الحقيقة التي تلازم البشرية، وأن الدنيا ليست مقرا ولا مستقرا، ولم يخلد فيها إنسان، والموت حق يقيني، ومهما جمع الإنسان في هذه الحياة، فإن متطلباته منها محدودة، وحصيلته مقررة، وانتفاعه محصور، والزائد عنه سيبقى لغيره من الأحياء، ويروح المرء إلى مصيره المحتوم شاء أم أبى، وإن أنفق ماله في الشر والإيذاء فسوف يحاسب عليه، وإن كان رشيدا أنفقه في الخير، واستعد لما بعد الموت، لما روي الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الكيس (وفي رواية العاقل) من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني"، وقد خلق الله الحياة ابتلاء للإنسان واختبارا له، ليستعد إلى لقاء ربه، ويغتنم الفرصة في حياته، لما رواه الإمام أحمد والحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك". وكان اليهود يدعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، فوضعهم الله على المحك الحقيقي،وطلب منهم تمني الموت إن كانوا صادقين في لقاء الله، فقال تعالى: {قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين} الجمعة/ 6.(1/12)
وفي هذا التوجيه، والتربية الإسلامية يكون الإنسان سويا وقويا، ويضمن لنفسه العزة والكرامة، ويحقق لأمته النصر والحياة العزيزة، ويغرس في نفسه المناعة والوقاية من الوهن، ويطلب الموت لتوهب له الحياة، وينزع من قلبه حب الدنيا، ويضع الموت نصب عينيه ليحاسب نفسه قبل أن تحاسب، وفقنا الله لما يحبه ويرضاه، وردنا إلى دينه ردا جميلا، والحمد لله رب العالمين.
الدكتور/ محمد الزحيلي
******************
والله تعالى قد بين أن أهل الكتاب يعلمون علم اليقين أن محمدا (( صلى الله عليه وسلم )) هو خاتم الأنبياء والمرسلين .
قال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) [آل عمران/70] }
وقال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) [آل عمران/71، 72] }
وقال تعالى : { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) [البقرة/146-148] }
وقال تعالى : { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) [الأنعام/20] }
إن الإحنة التي يكنها أهل الكتاب للجماعة المسلمة هي الإحنة المتعلقة بالعقيدة . إنهم يكرهون لهذه الأمة أن تهتدي . يكرهون لها أن تفيء إلى عقيدتها الخاصة في قوة وثقة ويقين . ومن ثم يرصدون جهودهم كلها لإضلالها عن هذا المنهج ، والإلواء بها عن هذا الطريق :
{ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } . .
فهو ود النفس ورغبة القلب والشهوة التي تهفو إليها الأهواء من وراء كل كيد ، وكل دس ، وكل مراء ، وكل جدال ، وكل تلبيس .
وهذه الرغبة القائمة على الهوى والحقد والشر ، ضلال لا شك فيه . فما تنبعث مثل هذه الرغبة الشريرة الآثمة عن خير ولا عن هدى . فهم يوقعون أنفسهم في الضلالة في اللحظة التي يودون فيها إضلال المسلمين . فما يحب إضلال المهتدين إلا ضال يهيم في الضلال البهيم :
{ وما يضلون إلا أنفسهم . وما يشعرون } . .
والمسلمون مكفيون أمر أعدائهم هؤلاء ما استقاموا على إسلامهم وما لهم عليهم من سبيل . والله سبحانه يتعهد لهم ألا يصيبهم كيد الكائدين ، وأن يرتد عليهم كيدهم ما بقي المسلمون مسلمين .
هنا يقرع أهل الكتاب بحقيقة موقفهم المريب المعيب :
{ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون؟ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ } .
ولقد كان أهل الكتاب وقتها - وما يزالون حتى اليوم - يشهدون الحق واضحاً في هذا الدين . سواء منهم المطلعون على حقيقة ما جاء في كتبهم عنه من بشارات وإشارات - وكان بعضهم يصرح بما يجد من هذا كله وبعضهم يسلم بناء على هذا الذي يجده في كتبه ويشهده متحققاً أمامه - وسواء كذلك غير المطلعين ، ولكنهم يجدون في الإسلام من الحق الواضح ما يدعو إلى الإيمان . . غير أنهم يكفرون . . لا لنقص في الدليل . ولكن للهوى والمصلحة والتضليل . . والقرآن يناديهم : { يا أهل الكتاب } . . لأنها الصفة التي كان من شأنها أن تقودهم إلى آيات الله وكتابه الجديد .
كذلك يناديهم مرة أخرى ليفضح ما يقومون به من لبس الحق بالباطل لإخفائه وكتمانه وتضييعه في غمار الباطل ، على علم وعن عمد وفي قصد . . وهو أمر مستنكر قبيح!
وهذا الذي ندد الله به - سبحانه - من أعمال أهل الكتاب حينذاك ، هو الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة . . فهذا طريقهم على مدار التاريخ . . اليهود بدأوا منذ اللحظة الأولى . ثم تابعهم الصليبيون!
وفي خلال القرون المتطاولة دسوا - مع الأسف - في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون! ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله - اللهم إلا هذا الكتاب المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه أبد الآبدين - والحمد لله على فضله العظيم .
دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله . ودسوا ولبسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود . ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيهاً لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق . ودسوا ولبسوا في الرجال أيضاً . فالمئات والألوف كانوا دسيسة على التراث الإسلامي - وما يزالون في صورة المستشرقين وتلاميذ المستشرقين الذين يشغلون مناصب القيادة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها : إنهم مسلمون . والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على عين الصهيونية والصليبية ، ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين!(1/13)
وما يزال هذا الكيد قائماً ومطرداً . وما تزال مثابة الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ؛ والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون .
كذلك يعرض بعض المحاولات التي يبذلها فريق من أهل الكتاب لبلبلة الجماعة المسلمة في دينها ، وردها عن الهدى ، من ذلك الطريق الماكر اللئيم :
{ وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون . ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم . . . } . .
وهي طريقة ماكرة لئيمة كما قلنا . فإن إظهارهم الإسلام ثم الرجوع عنه ، يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته .
يوقعهم في بلبلة واضطراب . وبخاصة العرب الأميين ، الذين كانوا يظنون أن أهل الكتاب أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب . فإذا رأوهم يؤمنون ثم يرتدون ، حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص في هذا الدين . وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال .
وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم . في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل . . ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة ، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى ، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة .
إن لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشاً جراراً من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين - وأحياناً كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين - يحملون أسماء المسلمين ، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة! وبعضهم من « علماء » المسلمين!
هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب ، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة . وتوهين قواعدها من الأساس . والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء . وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق . والدق المتصل على « رجعيتها »! والدعوة للتلفت منها . وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها! وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها . وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية . وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخر في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثراً! ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص!
وهم بعد مسلمون! أليسوا يحملون أسماء المسلمين؟ وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار . وبهذه المحاولات المجرمة يكفرون آخره . . ويؤدون بهذه وتلك دور أهل الكتاب القديم . . لا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم!
وكان أهل الكتاب يقول بعضهم لبعض : تظاهروا بالإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم . وليكن هذا سراً بينكم لا تبدونه ولا تأتمنون عليه إلا أهل دينكم :
{ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } . .
وفعل الإيمان حين يعدّى باللام يعني الاطمئنان والثقة . أي ولا تطمئنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تفضوا بأسراركم إلا لهؤلاء دون المسلمين!
وعملاء الصهيونية والصليبية اليوم كذلك . . إنهم متفاهمون فيما بينهم على أمر . . هو الإجهاز على هذه العقيدة في الفرصة السانحة التي قد لا تعود . . وقد لا يكون هذا التفاهم في معاهدة أو مؤامرة . ولكنه تفاهم العميل مع العميل على المهمة المطلوبة للأصيل! ويأمن بعضهم لبعض فيفضي بعضهم إلى بعض . . ثم يتظاهرون - بعضهم على الأقل بغير - ما يريدون وما يبيتون . . والجو من حولهم مهيأ ، والأجهزة من حولهم معبأة . . والذين يدركون حقيقة هذا الدين في الأرض كلها مغيبون أو مشردون!
{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } . .
ومعرفة الناس بأبنائهم هي قمة المعرفة ، وهي مثل يضرب في لغة العرب على اليقين الذي لا شبهة فيه . . فإذا كان أهل الكتاب على يقين من الحق الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنه هذا الذي جاء به في شأن القبلة ، وكان فريق منهم يكتمون الحق الذي يعلمونه علم اليقين . . فليس سبيل المؤمنين إذن أن يتأثروا بما يلقيه أهل الكتاب هؤلاء من أباطيل وأكاذيب .
وليس سبيل المؤمنين أن يأخذوا من هؤلاء الذين يستيقنون الحق ثم يكتمونه شيئاً في أمر دينهم ، الذي يأتيهم به رسولهم الصادق الأمين .
وهنا يوجه الخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا البيان بشأن أهل الكتاب :
{ الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } . .
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما امترى يوماً ولا شك . وحينما قال له ربه في آية أخرى : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذي يقرأون الكتاب من قبلك } . قال : « لا أشك ولا أسأل » .(1/14)
ولكن توجيه الخطاب هكذا إلى شخصه - صلى الله عليه وسلم - يحمل إيحاء قوياً إلى من وراءه من المسلمين . سواء منهم من كان في ذلك الحين يتأثر بأباطيل اليهود وأحابيلهم ، ومن يأتي بعدهم ممن تؤثر فيهم أباطيل اليهود وغير اليهود في أمر دينهم .
وما أجدرنا نحن اليوم أن نستمع إلى هذا التحذير؛ ونحن - في بلاهة منقطعة النظير - نروح نستفتي المستشرقين - من اليهود والنصارى والشيوعيين الكفار - في أمر ديننا ، ونتلقى عنهم تاريخنا ، ونأمنهم على القول في تراثنا ، ونسمع لما يدسونه من شكوك في دراساتهم لقرآننا وحديث نبينا ، وسيرة أوائلنا؛ ونرسل إليهم بعثات من طلابنا يتلقون عنهم علوم الإسلام ، ويتخرجون في جامعاتهم ، ثم يعودون الينا مدخولي العقل والضمير .
إن هذا القرآن قرآننا . قرآن الأمة المسلمة . وهو كتابها الخالد الذي يخاطبها فيه ربها بما تعمله وما تحذره . وأهل الكتاب هم أهل الكتاب ، والكفار هم الكفار ، والدين هو الدين!
000000000000
{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } . .
لقد تكرر في القرآن الكريم ذكر معرفة أهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى - لهذا القرآن؛ أو لصحة رساله محمد - صلى الله عليه وسلم - وتنزيل هذا القرآن عليه من عند الله . . تكرر ذكر هذه الحقيقة سواء في مواجهة أهل الكتاب أنفسهم ، عندما كانوا يقفون من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن هذا الدين وقفة المعارضة والإنكار والحرب والعداء ( وكان هذا غالباً في المدينة ) أو في مواجهة المشركين من العرب؛ لتعريفهم أن أهل الكتاب ، الذين يعرفون طبيعة الوحي والكتب السماوية ، يعرفون هذا القرآن ، ويعرفون صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أنه وحي أوحى به ربه إليه كما أوحى إلى الرسل من قبله .
وهذا الآية - كما رجحنا - مكية . وذكر أهل الكتاب فيها على هذا النحو - إذن - يفيد أنها كانت مواجهة للمشركين بأن هذا القرآن الذي ينكرونه ، يعرفه أهل الكتاب كما يعرفون أبناءهم؛ وإذا كانت كثرتهم لم تؤمن به فذلك لأنهم خسروا أنفسهم ، فهم لا يؤمنون .
شأنهم في هذا شأن المشركين ، الذين خسروا أنفسهم ، فلم يدخلوا في هذا الدين! والسياق قبل هذه الآية وبعدها كله عن المشركين . مما يرجح مكيتها كما قلنا من قبل في التعريف بالسورة . .
وقد جرى المفسرون على تفسير مثل هذا التقرير : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } . .
على أنهم يعرفون أنه منزل من عند الله حقاً؛ أو على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رسول من عندالله حقاً ، يوحى إليه بهذا القرآن . .
وهذا جانب من مدلول النص فعلاً ، ولكنا نلمح - باستصحاب الواقع التاريخي وموقف أهل الكتاب من هذا الدين فيه - أن هناك جانباً آخر من مدلول النص؛ لعل الله - سبحانه - أراد أن يعلمه للجماعة المسلمة ، ليستقر في وعيها على مدار التاريخ ، وهي تواجه أهل الكتاب بهذا الدين . .
إن أهل الكتاب يعرفون أن هذا الكتاب حق من عند الله؛ ويعرفون - من ثم - ما فيه من سلطان وقوة؛ ومن خير وصلاح؛ ومن طاقة دافعة للأمة التي تدين بالعقيدة التي جاء بها؛ وبالأخلاق التي تنبثق منها؛ وبالنظام الذي يقوم عليها . ويحسبون كل حساب لهذا الكتاب وأهله؛ ويعلمون جيداً أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل الدين! . . إنهم يعرفون ما فيه من حق ، ويعرفون ما هم فيه من باطل . . ويعرفون أن الجاهلية التي صاروا إليها ، وصارت إليها أوضاع قومهم وأخلاقهم وأنظمتهم ، لا يمكن أن يهادنها هذا الدين ، أو يبقي عليها . . وأنها - من ثم - معركة لا تهدأ حتى تجلو الجاهلية عن هذه الأرض ، ويستعلي هذا الدين ، ويكون الدين كله لله . . أي أن يكون السلطان في الأرض كله لله؛ وأن يطارد المعتدون على سلطان الله في الأرض كلها . وبذلك وحده يكون الدين كله لله . .
إن أهل الكتاب يعلمون جيداً هذه الحقيقة في هذا الدين . . ويعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم . . وهم جيلاً بعد جيل يدرسون هذا الدين دراسة دقيقة عميقة؛ وينقبون عن أسرار قوته؛ وعن مداخله إلى النفوس ومساربه فيها؛ ويبحثون بجد : كيف يستطيعون أن يفسدوا القوة الموجهة في هذا الدين؟ كيف يلقون بالريب والشكوك في قلوب أهله؟ كيف يحرفون الكلم فيه عن مواضعه؟ كيف يصدون أهله عن العلم الحقيقي به؟ كيف يحولونه من حركة دافعة تحطم الباطل والجاهلية وتسترد سلطان الله في الأرض وتطارد المعتدين على هذا السلطان ، وتجعل الدين كله لله . . إلى حركة ثقافية باردة ، وإلى بحوث نظرية ميتة ، وإلى جدل لاهوتي أو فقهي أو طائفي فارغ؟ كيف يفرغون مفهوماته في أوضاع وأنظمة وتصورات غريبة عنه مدمرة له ، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة؟! كيف في النهاية يملأون فراغ العقيدة بتصورات أخرى ومفهومات أخرى واهتمامات أخرى ، ليجهزوا على الجذور العاطفية الباقية من العقيدة الباهتة؟!(1/15)
إن أهل الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة جادة عميقة فاحصة؛ لا لأنهم يبحثون عن الحقيقية - كما يتوهم السذج من أهل هذا الدين! - ولا لينصفوا هذا الدين وأصله - كما يتصور بعض المخدوعين حينما يرون اعترافاً من باحث أو مستشرق بجانب طيب في هذا الدين! - كلا! إنما هم يقومون بهذه الدراسة الجادة العميقة الفاحصة ، لأنهم يبحثون عن مقتل لهذا الدين! لأنهم يبحثون عن منافذه ومساربه إلى الفطرة ليسدوها أو يميعوها! لأنهم يبحثون عن أسرار قوته ليقاوموه منها! لأنهم يريدون أن يعرفوا كيف يبني نفسه في النفوس ليبنوا على غراره التصورات المضادة التي يريدون ملء فراغ الناس بها!
وهم من أجل هذه الأهداف والملابسات كلها يعرفونه كما يعرفون أبناءهم!
ومن واجبنا نحن أن نعرف ذلك .
وأن نعرف معه أننا نحن الأوْلى بأن نعرف ديننا كما نعرف أبناءنا!
إن الواقع التاريخي من خلال أربعة عشر قرناً ينطق بحقيقة واحدة . . هي هذه الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في هذه الآية : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } . . ولكن هذه الحقيقة تتضح في هذه الفترة وتتجلى بصورة خاصة . . إن البحوث التي تكتب عن الإسلام في هذه الفترة تصدر بمعدل كتاب كل أسبوع؛ بلغة من اللغات الأجنبية . . وتنطق هذه البحوث بمدى معرفة أهل الكتاب بكل صغيرة وكبيرة عن طبيعة هذا الدين وتاريخه ، ومصادر قوته ، ووسائل مقاومته ، وطرق إفساد توجيهه! ومعظمهم - بطبيعة الحال - لا يفصح عن نيته هذه؛ فهم يعلمون أن الهجوم الصريح على هذا الدين كان يثير حماسة الدفاع والمقاومة؛ وأن الحركات التي قامت لطرد الهجوم المسلح على هذا الدين - الممثل في الاستعمار - إنما كانت ترتكز على قاعدة من الوعي الديني أو على الأقل العاطفة الدينية؛ وأن استمرار الهجوم على الإسلام - ولو في الصورة الفكرية - سيظل يثير حماسة الدفاع والمقاومة! لذلك يلجأ معظمهم إلى طريقة أخبث . . يلجأ إلى إزجاء الثناء لهذا الدين ، حتى ينوم المشاعر المتوفزة ، ويخدر الحماسة المتحفزة ، وينال ثقة القارىء واطمئنانه . . ثم يضع السم في الكأس ويقدمها مترعة . . هذا الدين نعم عظيم . . ولكنه ينبغي أن يتطور بمفهوماته ويتطور كذلك بتنظيماته ليجاري الحضارة « الإنسانية » الحديثة! وينبغي ألا يقف موقف المعارضة للتطورات التي وقعت في أوضاع المجتمع ، وفي أشكال الحكم ، وفي قيم الأخلاق! وينبغي - في النهاية - أن يتمثل في صورة عقيدة في القلوب ، ويدع الحياة الواقعية تنظمها نظريات وتجارب وأساليب الحضارة « الإنسانية » الحديثة! ويقف فقط ليبارك ما تقرره الأرباب الأرضية من هذه التجارب والأساليب . . وبذلك يظل ديناً عظيماً . . !!!
وفي أثناء عرض مواضع القوة والعمق في هذا الدين - وهي ظاهرياً تبدو في صورة الإنصاف الخادع والثناء المخدر - يقصد المؤلف قومه من أهل الكتاب؛ لينبههم إلى خطورة هذا الدين ، وإلى أسرار قوته؛ ويسير أمام الأجهزة المدمرة بهذا الضوء الكشاف ، ليسددوا ضرباتهم على الهدف
وليعرفوا هذا الدين كما يعرفون أبناءهم!
إن أسرار هذا القرآن ستظل تتكشف لأصحابه؛ جديدة دائماً؛ كلما عاشوا في ظلاله؛ وهم يخوضون معركة العقيدة؛ ويتدبرون بوعي أحداث التاريخ؛ ويطالعون بوعي أحداث الحاضر . ويرون بنور الله . الذي يكشف الحق ، وينير الطريق . .(الظلال)
****************
ودعاهم إلى كلمة سواء فأبوا :
قال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) [آل عمران/64، 65] }
وإنها لدعوة منصفة من غير شك . دعوة لا يريد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتفضل عليهم هو ومن معه من المسلمين . . كلمة سواء يقف أمامها الجميع على مستوى واحد . لا يعلو بعضهم على بعض ، ولا يتعبد بعضهم بعضاً . دعوة لا يأباها إلا متعنت مفسد ، لا يريد أن يفيء إلى الحق القويم .
إنها دعوة إلى عبادة الله وحده لا يشركون به شيئاً . لا بشراً ولا حجراً . ودعوة إلى ألا يتخذ بعضهم بعضاً من دون الله أرباباً . لا نبياً ولا رسولاً . فكلهم لله عبيد . إنما اصطفاهم الله للتبليغ عنه ، لا لمشاركته في الألوهية والربوبية .
{ فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون } .
فإن أبوا عبادة الله وحده دون شريك . والعبودية لله وحده دون شريك . وهما المظهران اللذان يقرران موقف العبيد من الألوهية . . إن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون . .
وهذه المقابلة بين المسلمين ومن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله ، تقرر بوضوح حاسم من هم المسلمون .(1/16)
هذا الشوط من السورة ما يزال يجري مع الخط الأول الأساسي العريض فيها . . خط المعركة بين أهل الكتاب والجماعة المسلمة . . معركة العقيدة ، وما يبذل أعداء هذا الدين من جهد ومن حيلة ومن مكيدة ومن خداع ، ومن كذب ، ومن تدبير ، للبس الحق بالباطل ، وبث الريب والشكوك ، وتبييت الشر والضر لهذه الأمة بلا وناة ولا انقطاع . . ثم مواجهة القرآن لهذا كله ، بتبصير المؤمنين بحقيقة ما هم عليه من الحق؛ وحقيقة ما عليه أعداؤهم من الباطل؛ وحقيقة ما يبيته لهم هؤلاء الأعداء . . وأخيراً بتشريح هؤلاء الأعداء . . طباعهم وأخلاقهم وأعمالهم ونياتهم . . على مشهد من الجماعة المسلمة . لتعريفها حقيقة أعدائها ، وفضح ما يضفونه على أنفسهم من مظاهر العلم والمعرفة ، وتبديد ثقة المخدوعين من المسلمين فيهم ، وتنفيرهم من حالهم وإسقاط دسائسهم بتركها مكشوفة عوراء ، لا تخدع أحداً ولا تنطلي على أحد!
ويبدأ هذا الشوط بمواجهة أهل الكتاب - اليهود والنصارى - بسخف موقفهم وهم يحاجون في إبراهيم - عليه السلام - فيزعم اليهود أنه كان يهودياً ، ويزعم النصارى أنه كان نصرانياً . على حين أن إبراهيم سابق لليهودية والنصرانية ، سابق للتوراة والإنجيل . والحجاج فيه على هذا النحو مراء لا يستند إلى دليل . . ويقرر حقيقة ما كان عليه إبراهيم . . لقد كان على الإسلام . . دين الله القويم . وأولياؤه هم الذين يسيرون على نهجه . والله ولي المؤمنين أجمعين . . ومن ثم تسقط ادعاءات هؤلاء وهؤلاء؛ ويتبين خط الإسلام الواصل بين رسل الله والمؤمنين بهم على توالي القرون : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ، وهذا النبي ، والذين آمنوا . والله ولي المؤمنين } . .
يلي ذلك في السياق كشف الهدف الأصيل الكامن وراء مماراة أهل الكتاب في إبراهيم وغير إبراهيم - مما سبق في السورة ومما سيجيء - فهو الرغبة الملحة في إضلال المسلمين عن دينهم - وتشكيكهم في عقيدتهم . . ومن ثم يتجه بالتقريع إلى المضللين : { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون؟ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ } . .
ثم يطلع الجماعة المسلمة على لون من تبييت أعدائهم وتدبيرهم ، لزعزعة ثقتهم في عقيدتهم ودينهم بطريقة خبيثة ماكرة لئيمة . ذلك أن يعلنوا إيمانهم بالإسلام أول النهار ، ثم يكفروا بالإسلام آخره . . كي يلقوا في روع غير المتثبتين في الصف المسلم - ومثلهم موجود دائماً في كل صف - أنه لأمر ارتد أهل الكتاب ، الخبيرون بالكتب والرسل والديانات : { وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } . . وهو كيد خبيث لئيم!
********************
استفتاحهم على الكفار قبل الإسلام ثم كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد مجيئه
قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) [البقرة/89، 90] }
وهو تصرف يستحق الطرد والغضب لقبحه وشناعته . . ومن ثم يصب عليهم اللعنة ويصمهم بالكفر : { فلعنة الله على الكافرين } . .
ويفضح السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه؛ بعد أن يقرر خسارة الصفقة التي اختاروها : { بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله ، بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . فباؤوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين } . .
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا . . . لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما ، يكثر أو يقل . أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها ولكن هذا هو الواقع . وإن بدا تمثيلاً وتصويراً . لقد خسروا أنفسهم في الدنيا فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المهين . وبماذا خرجوا في النهاية؟ خرجوا بالكفر ، هو وحده الذي كسبوه وأخذوه!
وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم ، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . وكان هذا بغياً منهم وظلماً فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب؛ وهناك ينتظرهم عذاب مهين ، جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم .
وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود ، طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد؛ وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها؛ ولا تشعر بالوشيجة(1/17)
وهكذا عاش اليهود في عزلة ، يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة؛ ويتربصون بالبشرية الدوائر؛ ويكنون للناس البغضاء ، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن ، ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتناً يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض ، وحروباً يثيرونها ليجروا من ورائها المغانم ، ويروون بها أحقادهم التي لا تنطفىء ، وهلاكاً يسلطونه على الناس ، ويسلطه عليهم الناس . . وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة : { بغياً . . أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده } . .
{ وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله قالوا : نؤمن بما أنزل علينا ، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاَ لما معهم } . .
وكان هذا هو الذي يقولونه إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن وبالإسلام . كانوا يقولون { نؤمن بما أنزل علينا } . . ففيه الكفاية ، وهو وحده الحق ، ثم يكفرون بما وراءه . سواء ما جاءهم به عيسى عليه السلام ، وما جاءهم به محمد خاتم النبيين .
------------
لقد استقبل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولاً يعرفون صدقه ، وديناً يعرفون أنه الحق . .
استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود . . شككوا في رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفونه؛ واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو وبالتهم والأكاذيب . وما فعلوه في حادث تحويل القبلة ، وما فعلوه في حادث الإفك ، وما فعلوه في كل مناسبة ، ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم . . وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم . وسور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير :
{ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم - وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين ، بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله - بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده - فباءوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين } [ البقرة : 89 - 90 ] .
{ ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } [ البقرة : 101 ] .
{ سيقول السفهاء من الناس : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها . قل : لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ البقرة : 142 ] .
{ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون . يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ } [ آل عمران : 70 - 71 ] .
{ وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } [ آل عمران : 72 ] .
{ وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ، ويقولون هو من عند الله ، وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } [ آل عمران : 78 ] .
{ قل : يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون؟ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون } [ آل عمران : 98 - 99 ] .
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء! فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ، فقالوا : أرنا الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم؛ ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات . . . }
[ النساء : 153 ] .
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } . . . [ التوبة : 32 ] .
كذلك شهد التاريخ نقض اليهود لعهودهم مرة بعد مرة وتحرشهم بالمسلمين ، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر . كما شهد تأليب اليهود للمشركين في الأحزاب ، مما هو معروف مشهور .
ثم تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ . . كانوا عناصر أساسية في إثارة الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير . .
وكانوا رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي - رضي الله عنه - ومعاوية . . وقادوا حملة الوضع في الحديث والسيرة وروايات التفسير . . وكانوا من الممهدين لحملة التتار على بغداد وتقويض الخلافة الإسلامية . . .
فأما في التاريخ الحديث فهم وراء كل كارثة حلت بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض؛ وهم وراء كل محاولة لسحق طلائع البعث الإسلامي؛ وهم حماة كل وضع من الأوضاع التي تتولى هذه المحاولة في كل أرجاء العالم الإسلامي!
ذلك شأن اليهود ، فأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب ، فهو لا يقل إصراراً على العداوة والحرب من شأن اليهود!(1/18)
لقد كانت بين الرومان والفرس عداوات عمرها قرون . . ولكن ما إن ظهر الإسلام في الجزيرة؛ وأحست الكنيسة بخطورة هذا الدين الحق على ما صنعته هي بأيديها وسمته « المسيحية » وهو ركام من الوثنيات القديمة ، والأضاليل الكنسية ، متلبساً ببقايا من كلمات المسيح - عليه السلام - وتاريخه . . حتى رأينا الرومان والفرس ينسون ما بينهم من نزاعات تاريخيه قديمة وعداوات وثارات عميقة ، ليواجهوا هذا الدين الجديد .
ولقد أخذ الروم يتجمعون في الشمال هم وعمالهم من الغساسنة لينقضوا على هذا الدين . وذلك بعد أن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عامل بصرى من قبل الروم - وكان المسلمون يؤمنون الرسل ولكن النصارى غدروا برسول النبي صلى الله عليه وسلم وقتلوه - مما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث بجيش الأمراء الشهداء الثلاثة : زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة في غزوة « مؤتة » فوجدوا تجمعاً للروم تقول الروايات عنه : إنه مائة ألف من الروم ومعه من عملائهم في الشام من القبائل العربية النصرانية مائة ألف أخرى؛ وكان جيش المسلمين لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل . وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة .
ثم كانت غزوة تبوك التي يدور عليها معظم هذه السورة ( وسيجيء تفصيل القول فيها في موضعه إن شاء الله تعالى ) .
ثم كان جيش أسامة بن زيد الذي أعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبيل وفاته؛ ثم أنفذه الخليفة الراشد أبو بكر - رضي الله عنه - إلى أطراف الشام؛ لمواجهة تلك التجمعات الرومانية التي تستهدف القضاء على هذا الدين!
ثم اشتعل مرجل الحقد الصليبي منذ موقعة اليرموك الظافرة ، التي أعقبها انطلاق الإسلام لتحرير المستعمرات الإمبراطورية الرومانية في الشام ومصر وشمال إفريقية وجزر البحر الأبيض . ثم بناء القاعدة الإسلامية الوطيدة في الأندلس في النهاية .
إن « الحروب الصليبية » المعروفة بهذا الاسم في التاريخ ، لم تكن هي وحدها التي شنتها الكنيسة على الإسلام ، لقد كانت هذه الحروب مبكرة قبل هذا الموعد بكثير . . لقد بدأت في الحقيقة منذ ذلك التاريخ البعيد . . منذ أن نسي الرومان عداواتهم مع الفرس؛ وأخذ النصارى يعينون الفرس ضد الإسلام في جنوب الجزيرة . ثم بعد ذلك في « مؤتة » . ثم فيما تلا موقعة اليرموك الظافرة . . ثم تجلت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس عندما زحفت الصليبية على القاعدة الإسلامية في أوربة ، وارتكبت من الوحشية في تعذيب ملايين المسلمين وقتلهم هناك ما لم يعرف التاريخ له نظيراً من قبل . . وكذلك تجلت في الحروب الصليبية في الشرق بمثل هذه البشاعة التي لا تتحرج ولا تتذمم؛ ولا تراعي في المسلمين إِلاًّ ولا ذمة .
ومما جاء في كتاب « حضارة العرب » لجوستاف لوبون - وهو فرنسي مسيحي - :
« كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين ، ثلاث آلاف أسير سلموا أنفسهم إليه ، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم . ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب ، مما أثار صلاح الدين الأيوبي النبيل ، الذي رحم نصارى القدس ، فلم يمسهم بأذى ، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأدوية والأزواد ، أثناء مرضهما » .
كذلك كتب كاتب مسيحي آخر ( اسمه يورجا ) يقول :
« ابتدأ الصليبيون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع ، فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها . وقد أسرفوا في القسوة فكانوا يبقرون البطون . ويبحثون عن الدنانير في الأمعاء! أما صلاح الدين ، فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبيين ، ووفى لهم بجميع عهوده ، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطأوهم مهاد رأفتهم ، حتى أن الملك العادل ، شقيق السلطان ، أطلق ألف رقيق من الأسرى ، ومنّ على جميع الأرمن ، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة ، وأبيح للأميرات والملكة بزيارة أزواجهن » .
ولا يتسع المجال في الظلال لاستعراض ذلك الخط الطويل للحروب الصليبية - على مدار التاريخ - ولكن يكفي أن نقول : إن هذه الحرب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية . ويكفي أن نذكر ماذا حدث في زنجبار حديثاً . حيث أبيد المسلمون فيها عن بكرة أبيهم ، فقتل منهم اثنا عشر ألفاً وألقي الأربعة الآلاف الباقون في البحر منفيين من الجزيرة! ويكفي أن نذكر ماذا وقع في قبرص ، حيث منع الطعام والماء عن الجهات التي يقطنها بقايا المسلمين هناك ليموتوا جوعاً وعطشاً ، فوق ما سلط عليهم من التقتيل والتذبيح والتشريد! ويكفي أن نذكر ما تزاوله الحبشة في اريترية وفي قلب الحبشة ، وما تزاوله كينيا مع المائة ألف مسلم الذين ينتمون إلى أصل صومالي ، ويريدون أن ينضموا إلى قومهم المسلمين في الصومال! ويكفي أن نعلم ماذا تحاوله الصليبية في السودان الجنوبي!(1/19)
ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944 يقول فيه؟
لقد كنا نخوّف من قبل بالخطر اليهودي ، والخطر الأصفر ، وبالخطر البلشفي . إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه . إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا ، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد! ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا ، أما الشعوب الصفراء فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها . ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام ، وفي قوته على التوسع والإخضاع ، وفي حيويته . . إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي « .
ولا نستطيع أن نمضي أبعد من ذلك في استعراض تاريخ تلك الحرب العاتية التي أعلنتها الصليبية على الإسلام وما تزال . . وقد تحدثنا من قبل مراراً في أجزاء الظلال السابقة - بمناسبة النصوص القرآنية الكثيرة - عن طبيعة هذه المعركة ، الطويلة ، ومسائلها وأشكالها . فحسبنا هذه الإشارات السريعة هنا بالإحالة على بعض المراجع الأخرى القريبة .
وهكذا نرى من هذا الاستعراض السريع - بالإضافة إلى ما قلناه من قبل عن طبيعة الإعلان الإسلامي العام بتحرير الإنسان . وتحفز الجاهلية في الأرض كلها لسحق الحركة التي تحمل هذا الإعلان العام وتنطلق به في الأرض كلها - أن هذه الأحكام الأخيرة الواردة في هذه السورة ، هي المتقضى الطبيعي لهذه الحقائق كلها مجتمعة؛ وأنها ليست أحكاماً محددة بزمان ، ولا مقيدة بحالة . وإن كان هذا في الوقت ذاته لا ينسخ الأحكام المرحلية السابقة النسخ الشرعي الذي يمنع العمل بها في الظروف والملابسات التي تشابه الظروف والملابسات التي تنزلت فيها . فهناك دائماً طبيعة المنهج الإسلامي الحركية ، التي تواجه الواقع البشري مواجهة واقعية ، بوسائل متجددة ، في المراحل المتعددة . (الظلال)
****************
وقد أعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي سمعوا بالإسلام ، ونبي الإسلام (( محمد صلى الله عليه وسلم ))
وقد فضحهم القرآن الكريم ، وبين تاريخهم الأسود
قال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) [آل عمران/65-67] }
وقال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) [آل عمران/98، 99] }
وقال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) [النساء/171] }
وقال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) [المائدة/15] }(1/20)
وقال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) [المائدة/77-82] }
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي - مولى زيد بن ثابت - حدثني سعيد بن جبير - أو عكرمة - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنازعوا عنده . فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهودياً . وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانياً . فأنزل الله تعالى : { يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم . . . } الآية .
وسواء كانت هذه هي مناسبة نزول الآية أو لم تكن ، فظاهر من نصها أنها نزلت رداً على ادعاءات لأهل الكتاب ، وحجاج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مع بعضهم البعض في حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والهدف من هذه الادعاءات هو احتكار عهد الله مع إبراهيم - عليه السلام - أن يجعل في بيته النبوة؛ واحتكار الهداية والفضل كذلك . ثم - وهذا هو الأهم - تكذيب دعوى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه على دين إبراهيم ، وأن المسلمين هم ورثة الحنيفية الأولى؛ وتشكيك المسلمين في هذه الحقيقة ، أو بث الريبة في نفوس بعضهم على الأقل . .
ومن ثم يندد الله بهم هذا التنديد؛ ويكشف مراءهم الذي لا يستند إلى دليل .
فإبراهيم سابق على التوراة وسابق على الإنجيل . فكيف إذن يكون يهودياً؟ أو كيف إذن يكون نصرانياً؟ إنها دعوى مخالفة للعقل ، تبدو مخالفتها بمجرد النظرة الأولى إلى التاريخ :
{ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده؟ أفلا تعقلون؟ } .
ثم يمضي في التنديد بهم؛ وإسقاط قيمة ما يدلون به من حجج وكشف تعنتهم وقلة اعتمادهم على منهج منطقي سليم في الجدل والحوار :
{ ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟ والله يعلم وأنتم لا تعلمون؟ } .
وقد جادلوا في أمر عيسى عليه السلام؛ كما يبدو أنهم جادلوا في بعض الأحكام التشريعية حين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم تولوا وهم معرضون . . وكان هذا وذاك في دائرة ما يعلمون من الأمر ، أما أن يجادلوا فيما هو سابق على وجودهم ، ووجود كتبهم ودياناتهم . . فهو الأمر الذي لا سند له ولو كان سنداً شكلياً . . فهو الجدل إذن لذات الجدل . وهو المراء الذي لا يسير على منهج ، وهو الغرض إذن والهوى . . ومن كان هذا حاله فهو غير جدير بالثقة فيما يقول . بل غير جدير بالاستماع أصلا لما يقول!
حتى إذا انتهى السياق من إسقاط قيمة جدلهم من أساسه ، ونزع الثقة منهم ومما يقولون ، عاد يقرر الحقيقة التي يعلمها الله . فهو - سبحانه - الذي يعلم حقيقة هذا التاريخ البعيد؛ وهو الذي يعلم كذلك حقيقة الدين الذي نزله على عبده إبراهيم . وقوله الفصل الذي لا يبقى معه لقائل قول؛ إلا أن يجادل ويماري بلا سلطان ولا دليل :
{ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً . ولكن كان حنيفاً مسلماً . وما كان من المشركين } . .
فيؤكد ما قرره من قبل ضمناً من أن إبراهيم - عليه السلام - ما كان يهودياً ولا نصرانياً . وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده . ويقرر أنه كان مائلاً عن كل ملة إلا الإسلام . فقد كان مسلماً . . مسلماً بالمعنى الشامل للإسلام الذي مر تفصيله وبيانه . .
{ وما كان من المشركين } . .
وهذه الحقيقة متضمنة في قوله قبلها { ولكن كان حنيفاً مسلماً } . . ولكن إبرازها هنا يشير إلى عدة من لطائف الإشارة والتعبير :
يشير أولاً إلى أن اليهود والنصارى - الذين انتهى أمرهم إلى تلك المعتقدات المنحرفة - مشركون . . ومن ثم لا يمكن أن يكون إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً . ولكن حنيفاً مسلماً!(1/21)
ويشير إلى أن الإسلام شيء والشرك شيء آخر . فلا يلتقيان . الإسلام هو التوحيد المطلق بكل خصائصه . وكل مقتضياته . ومن ثم لا يلتقي مع لون من ألوان الشرك أصلاً .
ويشير ثالثاً إلى إبطال دعوى المشركين من قريش كذلك أنهم على دين إبراهيم ، وسدنة بيته في مكة . . فهو حنيف مسلم ، وهم مشركون . { وما كان من المشركين } !
وما دام أن إبراهيم - عليه السلام - كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين ، فليس لأي من اليهود أو النصارى - أو المشركين أيضاً - أن يدعي وراثته ، ولا الولاية على دينه ، وهم بعيدون عن عقيدته .
والعقيدة هي الوشيجة الأولى التي يتلاقى عليها الناس في الإسلام . حين لا يلتقون على نسب ولا أرومة ولا جنس ولا أرض ، إذا أنبتت تلك الوشيجة التي يتجمع عليها أهل الإيمان . فالإنسان في نظر الإسلام إنسان بروحه . بالنفخة التي جعلت منه إنساناً . ومن ثم فهو يتلاقى على العقيدة أخص خصائص الروح فيه . ولا يلتقي على مثل ما تلتقي عليه البهائم من الأرض والجنس والكلأ والمرعى والحد والسياج! والولاية بين فرد وفرد ، وبين مجموعة ومجموعة ، وبين جيل من الناس وجيل ، لا ترتكن إلى وشيجة أخرى سوى وشيجة العقيدة . يتلاقى فيها المؤمن والمؤمن . والجماعة المسلمة والجماعة المسلمة . والجيل المسلم والأجيال المسلمة من وراء حدود الزمان والمكان ، ومن وراء فواصل الدم والنسب ، والقوم والجنس؛ ويتجمعون أولياء - بالعقيدة وحدها - والله من ورائهم ولي الجميع :
{ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ، وهذا النبي ، والذين آمنوا . والله ولي المؤمنين } . .
فالذين اتبعوا إبراهيم - في حياته - وساروا على منهجه ، واحتكموا إلى سنته هم أولياؤه . ثم هذا النبي الذي يلتقي معه في الإسلام بشهادة الله أصدق الشاهدين . ثم الذين آمنوا بهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - فالتقوا مع إبراهيم - عليه السلام - في المنهج والطريق .
{ والله ولي المؤمنين } . .
فهم حزبه الذين ينتمون إليه ، ويستظلون برايته ، ويتولونه ولا يتولون أحداً غيره . وهم أسرة واحدة . وأمة واحدة . من وراء الأجيال والقرون ، ومن وراء المكان والأوطان؛ ومن وراء القوميات والأجناس ، ومن وراء الأرومات والبيوت!
وهذه الصورة هي أرقى صورة للتجمع الإنساني تليق بالكائن الإنساني . وتميزه من القطيع! كما أنها هي الصورة الوحيدة التي تسمح بالتجمع بلا قيود . لأن القيد الواحد فيها اختياري يمكن لكل من يشاء أن يفكه عن نفسه بإرادته الذاتية . فهو عقيدة يختارها بنفسه فينتهي الأمر . . على حين لا يملك الفرد أن يغير جنسه - إن كانت رابطة التجمع هي الجنس - ولا يملك أن يغير قومه - إن كانت رابطة التجمع هي القوم - ولا يملك أن يغير لونه - إن كانت رابطة التجمع هي اللون - ولا يملك بيسر أن يغير لغته إن كانت رابطة التجمع هي اللغة - ولا يملك بيسر أن يغير طبقته - إن كانت رابطة التجمع هي الطبقة - بل قد لا يستطيع أن يغيرها أصلا إن كانت الطبقات وراثة كما في الهند مثلاً . ومن ثم تبقى الحواجز قائمة أبداً دون التجمع الإنساني ، ما لم ترد إلى رابطة الفكرة والعقيدة والتصور .
الأمر المتروك للاقتناع الفردي ، والذي يملك الفرد بذاته ، بدون تغيير أصله أو لونه أو لغته أو طبقته أن يختاره ، وأن ينضم إلى الصف على أساسه .
وذلك فوق ما فيه من تكريم للإنسان ، بجعل رابطة تجمعه مسألة تتعلق بأكرم عناصره ، المميزة له من القطيع!
والبشرية إما أن تعيش - كما يريدها الإسلام - أناسيّ تتجمع على زاد الروح وسمة القلب وعلامة الشعور . . وإما أن تعيش قطعاناً خلف سياج الحدود الأرضية ، أو حدود الجنس واللون . . وكلها حدود مما يقام للماشية في المرعى كي لا يختلط قطيع بقطيع!!!
ثم يكشف للجماعة المسلمة عما يريده بها أهل الكتاب من وراء كل جدال وكل مراء . ويواجه أهل الكتاب بألاعيبهم وكيدهم وتدبيرهم على مرأى ومسمع من الجماعة المسلمة أيضاً . وهو يمزق عنهم الأردية التي يتخفون تحتها ، فيقفهم أمام الجماعة المسلمة عراة مفضوحين :
{ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم . وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون . يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون؟ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون . ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم - قل : إن الهدى هدى الله - أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم - قل : إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم . يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم } .(1/22)
إن الإحنة التي يكنها أهل الكتاب للجماعة المسلمة هي الإحنة المتعلقة بالعقيدة . إنهم يكرهون لهذه الأمة أن تهتدي . يكرهون لها أن تفيء إلى عقيدتها الخاصة في قوة وثقة ويقين . ومن ثم يرصدون جهودهم كلها لإضلالها عن هذا المنهج ، والإلواء بها عن هذا الطريق :
{ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم } . .
فهو ود النفس ورغبة القلب والشهوة التي تهفو إليها الأهواء من وراء كل كيد ، وكل دس ، وكل مراء ، وكل جدال ، وكل تلبيس .
وهذه الرغبة القائمة على الهوى والحقد والشر ، ضلال لا شك فيه . فما تنبعث مثل هذه الرغبة الشريرة الآثمة عن خير ولا عن هدى . فهم يوقعون أنفسهم في الضلالة في اللحظة التي يودون فيها إضلال المسلمين . فما يحب إضلال المهتدين إلا ضال يهيم في الضلال البهيم :
{ وما يضلون إلا أنفسهم . وما يشعرون } . .
والمسلمون مكفيون أمر أعدائهم هؤلاء ما استقاموا على إسلامهم وما لهم عليهم من سبيل . والله سبحانه يتعهد لهم ألا يصيبهم كيد الكائدين ، وأن يرتد عليهم كيدهم ما بقي المسلمون مسلمين .
هنا يقرع أهل الكتاب بحقيقة موقفهم المريب المعيب :
{ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون؟ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ } .
ولقد كان أهل الكتاب وقتها - وما يزالون حتى اليوم - يشهدون الحق واضحاً في هذا الدين . سواء منهم المطلعون على حقيقة ما جاء في كتبهم عنه من بشارات وإشارات - وكان بعضهم يصرح بما يجد من هذا كله وبعضهم يسلم بناء على هذا الذي يجده في كتبه ويشهده متحققاً أمامه - وسواء كذلك غير المطلعين ، ولكنهم يجدون في الإسلام من الحق الواضح ما يدعو إلى الإيمان . . غير أنهم يكفرون . . لا لنقص في الدليل . ولكن للهوى والمصلحة والتضليل . . والقرآن يناديهم : { يا أهل الكتاب } . . لأنها الصفة التي كان من شأنها أن تقودهم إلى آيات الله وكتابه الجديد .
كذلك يناديهم مرة أخرى ليفضح ما يقومون به من لبس الحق بالباطل لإخفائه وكتمانه وتضييعه في غمار الباطل ، على علم وعن عمد وفي قصد . . وهو أمر مستنكر قبيح!
وهذا الذي ندد الله به - سبحانه - من أعمال أهل الكتاب حينذاك ، هو الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة . . فهذا طريقهم على مدار التاريخ . . اليهود بدأوا منذ اللحظة الأولى . ثم تابعهم الصليبيون!
وفي خلال القرون المتطاولة دسوا - مع الأسف - في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون! ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله - اللهم إلا هذا الكتاب المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه أبد الآبدين - والحمد لله على فضله العظيم .
دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله . ودسوا ولبسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود . ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيهاً لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق . ودسوا ولبسوا في الرجال أيضاً . فالمئات والألوف كانوا دسيسة على التراث الإسلامي - وما يزالون في صورة المستشرقين وتلاميذ المستشرقين الذين يشغلون مناصب القيادة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها : إنهم مسلمون . والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على عين الصهيونية والصليبية ، ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين!
وما يزال هذا الكيد قائماً ومطرداً . وما تزال مثابة الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ؛ والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون .
------------
{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا ، يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير } . .
فهو رسول الله إليكم . ودوره معكم أن يبين لكم ويوضح ويكشف ، ما تواطأتم على إخفائه من حقائق كتاب الله الذي معكم . . سواء في ذلك اليهود والنصارى . . وقد أخفى النصارى الأساس الأول للدين . . التوحيد . . وأخفى اليهود كثيراً من أحكام الشريعة؛ كرجم الزاني ، وتحريم الربا كافة . كما أخفوا جميعاً خبر بعثة النبي الأمي { الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } كما أنه - صلى الله عليه وسلم - يعفو عن كثير مما أخفوه أو حرفوه؛ مما لم يرد به شرعه . فقد نسخ الله من أحكام الكتب والشرائع السابقة ما لم يعد له عمل في المجتمع الإنساني ، مما كانت له وظيفة وقتية في المجتمعات الصغيرة الخاصة ، التي بعث إليها الرسل من قبل ولفترة محدودة - في علم الله - من الزمان ، قبل أن تجيء الرسالة الشاملة الدائمة ، وتستقر - وقد أكملها الله وأتم بها نعمته ورضيها للناس ديناً - فلم يعد فيها نسخ ولا تبديل ولا تعديل .
ويبين لهم طبيعة ما جاء به هذا الرسول ، ووظيفته في الحياة البشرية ، وما قدر الله من أثره في حياة الناس .(1/23)
{ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم } . .
وليس أدق ولا أصدق ولا أدل على طبيعة هذا الكتاب . . القرآن . . وعلى طبيعة هذا المنهج .
. الإسلام . . من أنه { نور } . .
إنها حقيقة يجدها المؤمن في قلبه وفي كيانه وفي حياته وفي رؤيته وتقديره للأشياء والأحداث والأشخاص . . يجدها بمجرد أن يجد حقيقة الإيمان في قلبه . . { نور } نور تشرق به كينونته فتشف وتخف وترف . ويشرق به كل شيء أمامه فيتضح ويتكشف ويستقيم .
ثقلة الطين في كيانه ، وظلمة التراب ، وكثافة اللحم والدم ، وعرامة الشهوة والنزوة . . كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى . . تخف الثقلة ، وتشرق الظلمة ، وترق الكثافة ، وترف العرامة . .
واللبس والغبش في الرؤية ، والتأرجح والتردد في الخطوة ، والحيرة والشرود في الاتجاه والطريق البهيم الذي لا معالم فيه . . كل أولئك يشرق ويضيء ويتجلى . . يتضح الهدف ويستقيم الطريق إليه وتستقيم النفس على الطريق . .
{ نور . وكتاب مبين } . . وصفان للشيء الواحد . . لهذا الذي جاء به الرسول الكريم . .
{ يهدي به الله - من اتبع رضوانه - سبل السلام . ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم } .
لقد رضي الله الإسلام ديناً . . وهو يهدي من يتبع رضوانه هذا ويرتضيه لنفسه كما رضيه الله له . . يهديه . . { سبل السلام } . .
وما أدق هذا التعبير وأصدقه؛ إنه { السلام } هو ما يسكبه هذا الدين في الحياة كلها . . سلام الفرد . وسلام الجماعة . وسلام العالم . . سلام الضمير ، وسلام العقل ، وسلام الجوارح . . سلام البيت والأسرة ، وسلام المجتمع والأمة ، وسلام البشر والإنسانية . . السلام مع الحياة . والسلام مع الكون . والسلام مع الله رب الكون والحياة . . السلام الذي لا تجده البشرية - ولم تجده يوماً - إلا في هذا الدين؛ وإلا في منهجه ونظامه وشريعته ، ومجتمعه الذي يقوم على عقيدته وشريعته .
حقاً إن الله يهدي بهذا الدين الذي رضيه ، من يتبع رضوان الله ، { سبل السلام } . . سبل السلام كلها في هذه الجوانب جميعها . . ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق سبل الحرب في الجاهليات القديمة أو الحديثة . . ولا يدرك عمق هذه الحقيقة كما يدركها من ذاق حرب القلق الناشئ من عقائد الجاهلية في أعماق الضمير . وحرب القلق الناشئ من شرائع الجاهلية وأنظمتها وتخبطها في أوضاع الحياة .
وقد كان المخاطبون بهذه الكلمات أول مرة يعرفون من تجربتهم في الجاهلية معنى هذا السلام . إذ كانوا يذوقونه مذاقاً شخصياً؛ ويلتذون هذا المذاق المريح . .
وما أحوجنا نحن الآن أن ندرك هذه الحقيقة؛ والجاهلية من حولنا ومن بيننا تذيق البشرية الويلات . . من كل ألوان الحرب في الضمائر والمجتمعات قروناً بعد قرون!
ما أحوجنا نحن الذين عشنا في هذا السلام فترة من تاريخنا؛ ثم خرجنا من السلام إلى الحرب التي تحطم أرواحنا وقلوبنا ، وتحطم أخلاقنا وسلوكنا ، وتحطم مجتمعاتنا وشعوبنا . . بينما نملك الدخول في السلم التي منحها الله لنا؛ حين نتبع رضوانه؛ ونرضى لأنفسنا ما رضيه الله لنا!
إننا نعاني من ويلات الجاهلية؛ والإسلام منا قريب . ونعاني من حرب الجاهلية وسلام الإسلام في متناول أيدينا لو نشاء .
فأية صفقة خاسرة هذه التي نستبدل فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ونشتري فيها الضلالة بالهدى؟ ونؤثر فيها الحرب على السلام؟
إننا نملك إنقاذ البشرية من ويلات الجاهلية وحربها المشبوبة في شتى الصور والألوان . ولكننا لا نملك إنقاذ البشرية ، قبل أن ننقذ نحن أنفسنا ، وقبل أن نفيء إلى ظلال السلام ، حين نفيء إلى رضوان الله ونتبع ما ارتضاه . فنكون من هؤلاء الذين يقول الله عنهم إنه يهديهم سبل السلام .
{ ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه } . .
والجاهلية كلها ظلمات . . ظلمة الشبهات والخرافات والأساطير والتصورات . وظلمة الشهوات والنزعات والاندفاعات في التيه . وظلمة الحيرة والقلق والانقطاع عن الهدى والوحشة من الجناب الآمن المأنوس . وظلمة اضطراب القيم وتخلخل الأحكام والقيم والموازين . والنور هو النور . . هو ذلك النور الذي تحدثنا عنه آنفاً في الضمير وفي العقل وفي الكيان وفي الحياة وفي الأمور . .
{ ويهديهم إلى صراط مستقيم } . .
مستقيم مع فطرة النفس ونواميسها التي تحكمها . مستقيم مع فطرة الكون ونواميسه التي تصرفه . مستقيم إلى الله لا يلتوي ولا تلتبس فيه الحقائق والاتجاهات والغايات . .
إن الله الذي خلق الإنسان وفطرته؛ وخلق الكون ونواميسه؛ هو الذي وضع للإنسان هذا المنهج؛ وهو الذي رضي للمؤمنين هذا الدين . فطبيعي وبديهي أن يهديهم هذا المنهج إلى الصراط المستقيم . حيث لا يهديهم منهج غيره من صنع البشر العاجزين الجهال الفانين!(1/24)
وصدق الله العظيم . الغني عن العالمين . الذي لا يناله من هداهم أو ضلالهم شيء ولكنه بهم رحيم!
ذلك هو الصراط المستقيم . فأما القول بأن الله هو المسيح بن مريم فهو الكفر؛ وأما القول بأن اليهود والنصارى هم أبناء الله وأحباؤه ، فهو الافتراء الذي لا يستند إلى دليل . . وهذا وذلك من مقولات أهل الكتاب ، التي تخفي نصاعة التوحيد؛ والتي جاءهم الرسول الأخير ليكشف عن الحقيقة فيها ، ويرد الشاردين المنحرفين عن هذه الحقيقة إليها :
{ لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح بن مريم . قل : فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً؟ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير } . .
إن الذي جاء به عيسى - عليه السلام - من عند ربه هو التوحيد الذي جاء به كل رسول .
والإقرار بالعبودية الخالصة لله شأن كل رسول . . ولكن هذه العقيدة الناصعة أدخلت عليها التحريفات؛ بسبب دخول الوثنيين في النصرانية؛ وحرصهم على رواسب الوثنية التي جاءوا بها ومزجها بعقيدة التوحيد ، حتى لم يعد هناك إمكان لفصلها وفرزها وتنقية جوهر العقيدة منها .
ولم تجئ هذه الانحرافات كلها دفعة واحدة؛ ولكنها دخلت على فترات؛ وأضافتها المجامع واحدة بعد الأخرى؛ حتى انتهت إلى هذا الخليط العجيب من التصورات والأساطير ، الذي تحار فيه العقول .
حتى عقول الشارحين للعقيدة المحرفة من أهلها المؤمنين بها!
وقد عاشت عقيدة التوحيد بعد المسيح - عليه السلام - في تلامذته وفي أتباعهم . وأحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت - وهو إنجيل برنابا - يتحدث عن عيسى - عليه السلام - بوصفه رسولاً من عند الله . ثم وقعت بينهم الاختلافات . فمن قائل : إن المسيح رسول من عند الله كسائر الرسل . ومن قائل : إنه رسول نعم ولكن له بالله صلة خاصة . ومن قائل : إنه ابن الله لأنه خلق من غير أب ، ولكنه على هذا مخلوق لله . ومن قائل : إنه ابن الله وليس مخلوقاً بل له صفة القدم كالأب . .
ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام 325 ميلادية « مجمع نيقية » الذي اجتمع فيه ثمانية وأربعون ألفاً من البطارقة والأساقفة . قال عنهم ابن البطريق أحد مؤرخي النصرانية :
« وكانوا مختلفين في الآراء والأديان . فمنهم من كان يقول : إن المسيح وأمه إلهان من دون الله . وهم » البربرانية « . . ويسمون : » الريمتيين « . ومنهم من كان يقول : إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار ، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها . وهي مقالة » سابليوس « وشيعته . ومنهم من كان يقول : لم تحبل به مريم تسعة أشهر ، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب ، لأن الكلمة دخلت في أذنها ، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها . وهي مقالة » إليان « وأشياعه . ومنهم من كان يقول : إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره ، وإن ابتداء الابن من مريم ، وإنه اصطفي ليكون مخلصاً للجوهر الإنسي ، صحبته النعمة الإلهية ، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة ، ولذلك سمي » ابن الله « ويقولون : إن الله جوهر قديم واحد ، وأقنوم واحد ، ويسمونه بثلاثة أسماء ، ولا يؤمنون بالكلمة ، ولا بروح القدس . وهي مقالة » بولس الشمشاطي « بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم » البوليقانيون « . ومنهم من كان يقول : إنهم ثلاثة آلهة لم تزل : صالح ، وطالح ، وعدل بينهما . وهي مقالة » مرقيون « اللعين وأصحابه! وزعموا أن » مرقيون « هو رئيس الحواريين وأنكروا » بطرس « . ومنهم من كانوا يقولون بألوهية المسيح . وهي مقالة » بولس الرسول « ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفاً . .
وقد اختار الإمبراطور الروماني » قسطنطين « الذي كان قد دخل في النصرانية من الوثنية ولم يكن يدري شيئاً من النصرانية! هذا الرأي الأخير وسلط أصحابه على مخالفيهم ، وشرد أصحاب سائر المذاهب؛ وبخاصة القائلين بألوهية الأب وحده ، وناسوتية المسيح .
وقد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار ما نصه :
» إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجوداً فيه .
وأنه لم يوجد قبل أن يولد . وأنه وجد من لا شيء . أو من يقول : إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الله الآب . وكل من يؤمن أنه خلق ، أو من يقول : إنه قابل للتغيير ، ويعتريه ظل دوران « .
ولكن هذا المجمع بقراراته لم يقض على نحلة الموحدين أتباع » آريوس « وقد غلبت على القسطنطينية ، وأنطاكية ، وبابل ، والإسكندرية ، ومصر .
ثم سار خلاف جديد حول » روح القدس « فقال بعضهم : هو إله ، وقال آخرون : ليس بإله! فاجتمع » مجمع القسطنطينية الأول « سنة 381 ليحسم الخلاف في هذا الأمر .
وقد نقل ابن البطريق ما تقرر في هذا المجمع ، بناء على مقالة أسقف الإسكندرية :(1/25)
» قال ثيموثاوس بطريك الإسكندرية : ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله . وليس روح الله شيئاً غير حياته . فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق ، فقد قلنا : إن روح الله مخلوق . وإذا قلنا : إن روح الله مخلوق ، فقد قلنا : إن حياته مخلوقة . وإذا قلنا : إن حياته مخلوقة ، فقد زعمنا أنه غير حي . وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به . ومن كفر به وجب عليه اللعن «!!!
وكذلك تقررت ألوهية روح القدس في هذا المجمع ، كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية . وتم » الثالوث « من الآب . والابن . وروح القدس . .
ثم ثار خلاف آخر حول اجتماع طبيعة المسيح الإلهية وطبيعته الإنسانية . . أو اللاهوت والناسوت كما يقولون . . فقد رأى » نسطور « بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنوماً وطبيعة . فأقنوم الألوهية من الآب وتنسب إليه؛ وطبيعة الإنسان وقد ولدت من مريم ، فمريم أم الإنسان - في المسيح - وليست أم الإله! ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم - كما نقله عنه ابن البطريق :
» إن هذا الإنسان الذي يقول : إنه المسيح . . بالمحبة متحد مع الابن . . ويقال : إنه الله وابن الله ، ليس بالحقيقة ولكن بالموهبة « . .
ثم يقول : » إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلهاً في حد ذاته بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة ، أو هو ملهم من الله ، فلم يرتكب خطيئة ، وما أتى أمراً إداً « .
وخالفه في هذا الرأي أسقف رومه ، وبطريرك الإسكندرية ، وأساقفة أنطاكية ، فاتفقوا على عقد مجمع رابع . وانعقد » مجمع أفسس « سنة 431 ميلادية . وقرر هذا المجمع - كما يقول ابن البطريق - :
» أن مريم العذراء والدة الله . وأن المسيح إله حق وإنسان ، معروف بطبيعتين ، متوحد في الأقنوم « . . ولعنوا نسطور!
ثم خرجت كنيسة الإسكندرية برأي جديد ، انعقد له » مجمع أفسس الثاني « وقرر :
» أن المسيح طبيعة واحدة ، اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت « .
ولكن هذا الرأي لم يسلم؛ واستمرت الخلافات الحادة؛ فاجتمع مجمع « خلقيدونية » سنة 451 وقرر :
« أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة . وأن اللاهوت طبيعة وحدها ، والناسوت طبيعه وحدها ، التقتا في المسيح » . . ولعنوا مجمع أفسس الثاني!
ولم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع . ووقعت بين المذهب المصري « المنوفيسية » والمذهب « الملوكاني » الذي تبنته الدولة الإمبراطورية ما وقع من الخلافات الدامية ، التي سبق أن أثبتنا فيها مقالة : « سير . ت . و . أرنولد » في كتابه « الدعوة إلى الإسلام » في مطالع تفسير سورة آل عمران . .
ونكتفي بهذا القدر في تصوير مجمل التصورات المنحرفة حول ألوهية المسيح؛ والخلافات الدامية والعداوة والبغضاء التي ثارت بسببها بين الطوائف ، وما تزال إلى اليوم ثائرة . .
وتجيء الرسالة الأخيرة لتقرر وجه الحق في هذا القضية؛ ولتقول كلمة الفصل؛ ويجيء الرسول الأخير ليبين لأهل الكتاب حقيقة العقيدة الصحيحة :
{ لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح بن مريم } . . { لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة } ( كما سيجيء في السورة ) .
ويثير فيهم منطق العقل والفطرة والواقع :
{ قل : فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم ، وأمه ، ومن في الأرض جميعاً؟ } .
فيفرق تفرقة مطلقة بين ذات الله سبحانه وطبيعته ومشيئته وسلطانه ، وبين ذات عيسى - عليه السلام - وذات أمه ، وكل ذات أخرى ، في نصاعة قاطعة حاسمة . فذات الله - سبحانه - واحدة . ومشيئته طليقة ، وسلطانه متفرد ، ولا يملك أحد شيئاً في رد مشيئته أو دفع سلطانه إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً . .
وهو - سبحانه - مالك كل شيء ، وخالق كل شيء ، والخالق غير المخلوق . وكل شيء مخلوق :
{ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما ، يخلق ما يشاء ، والله على كل شيء قدير } . .
وكذلك تتجلى نصاعة العقيدة الإسلامية ، ووضوحها وبساطتها . . وتزيد جلاء أمام ذلك الركام من الانحرافات والتصورات والأساطير والوثنيات المتلبسة بعقائد فريق من أهل الكتاب وتبرز الخاصية الأولى للعقيدة الإسلامية . في تقرير حقيقة الألوهية ، وحقيقة العبودية ، والفصل التام الحاسم بين الحقيقتين . بلا غبش ولا شبهة ولا غموض . .
واليهود والنصارى يقولون : إنهم أبناء الله وأحباؤه :
{ وقالت اليهود والنصارى : نحن أبناء الله وأحباؤه } . .(1/26)
فزعموا لله - سبحانه - أبوة ، على تصور من التصورات ، إلا تكن أبوة الجسد فهي أبوة الروح . وهي أياً كانت تلقي ظلاً على عقيدة التوحيد؛ وعلى الفصل الحاسم بين الألوهية والعبودية . هذا الفصل الذي لا يستقيم التصور ، ولا تستقيم الحياة ، إلا بتقريره . كي تتوحد الجهة التي يتوجه إليها العباد كلهم بالعبودية؛ وتتوحد الجهة التي تشرع للناس؛ وتضع لهم القيم والموازين والشرائع والقوانين ، والنظم والأوضاع ، دون أن تتداخل الاختصاصات ، بتداخل الصفات والخصائص ، وتداخل الألوهية والعبودية .
فالمسألة ليست مسألة انحراف عقيدي فحسب ، إنما هي كذلك فساد الحياة كلها بناء على هذا الانحراف!
واليهود والنصارى بادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، كانوا يقولون - تبعاً لهذا - إن الله لن يعذبهم بذنوبهم! وإنهم لن يدخلوا النار - إذا دخلوا - إلا أياماً معدودات . ومعنى هذا أن عدل الله لا يجري مجراه! وأنه سبحانه - يحابي فريقاً من عباده ، فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يعذبهم عذاب المفسدين الاخرين! فأي فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور؟ وأي اضطراب في الحياة يمكن أن ينشئه مثل هذا الانحراف؟
وهنا يضرب الإسلام ضربته الحاسمة على هذا الفساد في التصور ، وكل ما يمكن أن ينشئه من الفساد في الحياة ، ويقرر عدل الله الذي لا يحابي؛ كما يقرر بطلان ذلك الادعاء :
{ قل : فلم يعذبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشر ممن خلق ، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } . .
بذلك يقرر الحقيقة الحاسمة في عقيدة الإيمان . يقرر بطلان ادعاء البنوة؛ فهم بشر ممن خلق . ويقرر عدل الله وقيام المغفرة والعذاب عنده على أصلها الواحد . على مشيئته التي تقرر الغفران بأسبابه وتقرر العذاب بأسبابه . لا بسبب بنوة أو صلة شخصية!
ثم يكرر أن الله هو المالك لكل شيء ، وأن مصير كل شيء إليه :
{ ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير } . .
والمالك غير المملوك . تتفرد ذاته - سبحانه - وتتفرد مشيئته ، ويصير إليه الجميع . .
وينهي هذا البيان ، بتكرار النداء الموجه إلى أهل الكتاب ، يقطع به حجتهم ومعذرتهم ويقفهم أمام « المصير » وجهاً لوجه ، بلا غبش ولا عذر ، ولا غموض :
{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل . . أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير . . فقد جاءكم بشير ونذير . والله على كل شيء قدير } . .
وبهذه المواجهة الحاسمة ، لا تعود لأهل الكتاب جميعاً حجة من الحجج . . لا تعود لهم حجة في أن هذا الرسول الأمي لم يرسل إليهم . فالله - سبحانه - يقول :
{ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا } . .
ولا تعود لهم حجة في أنهم لم ينبهوا ولم يبشروا ولم ينذروا في مدى طويل؛ يقع فيه النسيان ويقع فيه الانحراف . . فقد جاءهم - الآن - بشير ونذير . .
ثم يذكرهم أن الله لا يعجزه شيء . . لا يعجزه أن يرسل رسولاً من الأميين . ولا يعجزه كذلك أن يأخذ أهل الكتاب بما يكسبون :
{ والله على كل شيء قدير } . .
وتنتهي هذه الجولة مع أهل الكتاب؛ فتكشف انحرافاتهم عن دين الله الصحيح الذي جاءتهم به رسلهم من قبل . وتقرر حقيقة الاعتقاد الذي يرضاه الله من المؤمنين . وتبطل حجتهم في موقفهم من النبي الأمي؛ وتأخذ عليهم الطريق في الاعتذار يوم الدين .
-----------
{ قل : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل ، وأضلوا كثيراً . وضلوا عن سواء السبيل } .
فمن الغلو في تعظيم عيسى - عليه السلام - جاءت كل الانحرافات . ومن أهواء الحكام الرومان الذين دخلوا النصرانية بوثنيتهم ، ومن أهواء المجامع المتناحرة كذلك دخلت كل تلك المقولات على دين الله الذي أرسل به المسيح ، فبلغه بأمانة الرسول ، وهو يقول لهم : { يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم . إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، ومأواه النار ، وما للظالمين من أنصار } .
وهذا النداء الجديد هو دعوة الإنقاذ الأخيرة لأهل الكتاب؛ ليخرجوا بها من خضم الانحرافات والاختلافات والأهواء والشهوات الذي خاض فيه أولئك الذين ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل . .
ونقف من هذا المقطع الذي انتهى بهذا النداء أمام ثلاث حقائق كبيرة ، يحسن الإلمام بها في إجمال :
الحقيقة الأولى : هي حقيقة هذا الجهد الكبير ، الذي يبذله المنهج الإسلامي ، لتصحيح التصور الاعتقادي ، وإقامته على قاعدة التوحيد المطلقة؛ وتنقيته من شوائب الوثنية والشرك التي أفسدت عقائد أهل الكتاب ، وتعريف الناس بحقيقة الألوهية؛ وإفراد الله - سبحانه - بخصائصها ، وتجريد البشر وسائر الخلائق من هذه الخصائص . .(1/27)
وهذا الاهتمام البالغ بتصحيح التصور الاعتقادي ، وإقامته على قاعدة التوحيد الكامل الحاسم ، يدل على أهمية هذا التصحيح . وأهمية التصور الاعتقادي في بناء الحياة الإنسانية وفي صلاحها ، كما يدل على اعتبار الإسلام للعقيدة بوصفها القاعدة والمحور لكل نشاط إنساني ، ولكل ارتباط إنساني كذلك .
والحقيقة الثانية : هي تصريح القرآن الكريم بكفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم؛ أو قالوا : إن الله ثالث ثلاثة : فلم يعد لمسلم - بعد قول الله سبحانه - قول . ولم يعد يحق لمسلم أن يعتبر أن هؤلاء على دين الله . والله سبحانه يقول : إنهم كفروا بسبب هذه المقولات .
وإذا كان الإسلام - كما قلنا - لايكره أحداً على ترك ما هو عليه مما يعتقده لاعتناق الإسلام ، فهو في الوقت ذاته لا يسمي ما عليه غير المسلمين ديناً يرضاه الله . بل يصرح هنا بأنه كفر ولن يكون الكفر ديناً يرضاه الله .
والحقيقية الثالثة : المترتبة على هاتين الحقيقتين ، أنه لا يمكن قيام ولاء وتناصر بين أحد من أهل الكتاب هؤلاء وبين المسلم الذي يدين بوحدانية الله كما جاء بها الإسلام ، ويعتقد بأن الإسلام في صورته التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم هو وحده « الدين » عند الله . .
ومن ثم يصبح الكلام عن التناصر بين أهل « الأديان » أمام الإلحاد كلاماً لا مفهوم له في اعتبار الإسلام! فمتى اختلفت المعتقدات على هذا النحو الفاصل ، لم يعد هناك مجال للالتقاء على ما سواها . فكل شيء في الحياة يقوم أولاً على أساس العقيدة . . في اعتبار الإسلام . .
وفي النهاية يجيء ذلك التقرير الشامل عن موقف أنبياء بني إسرائيل من كفار بني إسرائيل ، على مدى التاريخ؛ ممثلاً في موقف داود وموقف عيسى - عليهما السلام - وكلاهما لعن كفار بني إسرائيل ، واستجاب الله له . بسبب عصيانهم وعدوانهم ، وبسبب انحلالهم الاجتماعي ، وسكوتهم على المنكر يفشو فيهم فلا يتناهون عنه؛ وبسبب توليهم الكافرين؛ فباءوا بالسخط واللعنة ، وكتب عليهم الخلود في العذاب .
{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم .
ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . لبئس ما كانوا يفعلون! ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا . لبئس ما قدمت لهم أنفسهم : أن سخط الله عليهم ، وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما انزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيراً منهم فاسقون } . .
وهكذا يبدو أن تاريخ بني إسرائيل في الكفر والمعصية واللعنة عريق . وأن أنبياءهم الذين أرسلوا لهدايتهم وإنقاذهم ، هم في النهاية الذين تولوا لعنتهم وطردهم من هداية الله؛ فسمع الله دعاءهم وكتب السخط واللعنة على بني إسرائيل .
والذين كفروا من بني إسرائيل هم الذين حرفوا كتبهم المنزلة؛ وهم الذين لم يتحاكموا إلى شريعة الله - كما مر في المواضع القرآنية المتعددة في هذه السورة وفي السور غيرها - وهم الذين نقضوا عهد الله معهم لينصرنّ كل رسول ويعزرونه ويتبعونه :
{ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } . .
فهي المعصية والاعتداء؛ يتمثلان في كل صورهما الاعتقادية والسلوكية على السواء . وقد حفل تاريخ بني إسرائيل بالمعصية والاعتداء . . كما فصل الله في كتابه الكريم .
ولم تكن المعصية والاعتداء أعمالاً فردية في مجتمع بني إسرائيل . ولكنها انتهت إلى أن تصبح طابع الجماعة كلها؛ وأن يسكت عنها المجتمع . ولا يقابلها بالتناهي والنكير :
{ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون! } . .
إن العصيان والعدوان قد يقعان في كل مجتمع من الشريرين المفسدين المنحرفين . فالأرض لا تخلو من الشر؛ والمجتمع لا يخلو من الشذوذ ، ولكن طبيعة المجتمع الصالح لا تسمح للشر والمنكر أن يصبحا عرفاً مصطلحاً عليه؛ وأن يصبحا سهلاً يجترئ عليه كل من يهم به . . وعندما يصبح فعل الشر أصعب من فعل الخير في مجتمع من المجتمعات؛ ويصبح الجزاء على الشرك رادعاً وجماعياً تقف الجماعة كلها دونه؛ وتوقع العقوبة الرادعة عليه . . عندئذ ينزوي الشر ، وتنحسر دوافعه . وعندئذ يتماسك المجتمع فلا تنحل عراه . وعندئذ ينحصر الفساد في أفراد أو مجموعات يطاردها المجتمع ، ولا يسمح لها بالسيطرة؛ وعندئذ لا تشيع الفاحشة . ولا تصبح هي الطابع العام!(1/28)
والمنهج الإسلامي - بعرضه لهذه الظاهرة في المجتمع الإسرائيلي - في صورة الكراهية والتنديد ، يريد للجماعة المسلمة أن يكون لها كيان حي متجمع صلب؛ يدفع كل بادرة من بوادر العدوان والمعصية ، قبل أن تصبح ظاهرة عامة؛ ويريد للمجتمع الإسلامي أن يكون صلباً في الحق ، وحساساً تجاه الاعتداء عليه؛ ويريد للقائمين على الدين أن يؤدوا أمانتهم التي استحفظوا عليها ، فيقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان والاعتداء . . ولا يخافوا لومة لائم . سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين بالحكم؛ أو الأغنياء المتسلطين بالمال؛ أو الأشرار المتسلطين بالأذى؛ أو الجماهير المتسلطة بالهوى . فمنهج الله هو منهج الله ، والخارجون عليه علو أم سفلوا سواء .
والإسلام يشدد في الوفاء بهذه الأمانة؛ فيجعل عقوبة الجماعة عامة بما يقع فيها من شر إذا هي سكتت عليه؛ ويجعل الأمانة في عنق كل فرد ، بعد أن يضعها في عنق الجماعة عامة .
روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عبدالله بن مسعود ، قال : قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم : « لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم ، وواكلوهم وشاربوهم . فضرب الله بعضهم ببعض . ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم . . { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } وكان الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - متكئاً فجلس ، فقال : ولا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً » .
وروى أبو داود - بإسناده - عن عبدالله بن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل ، فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك . ثم يلقاه من الغد ، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده . فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : » لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم « إلى قوله { فاسقون } ثم قال : كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطراً - أو تقصرنه على الحق قصراً - »
فليس هو مجرد الإمر والنهي ، ثم تنتهي المسأله ، إنما هو الإصرار ، والمقاطعه ، والكف بالقوة عن الشر والفساد والمعصية والاعتداء .
وروى مسلم - بإسناده - عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « من رأى منكم منكراً فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه . . وذلك أضعف الإيمان » .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن عدي بن عميرة قال - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة ، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم - وهم قادرون على أن ينكروه - فلا ينكرونه . فإذا فعلوا عذب الله العامة والخاصة » .
وروى أبو داود والترمذي - بإسناده - عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر » .
وتتوارد النصوص القرآنية والنبوية تترى في هذا المعنى؛ لأن هذا التماسك في كيان الجماعة بحيث لا يقول أحد - فيها وهو يرى المنكر يقع من غيره - : وأنا مالي؟! وهذه الحمية ضد الفساد في المجتمع ، بحيث لا يقول أحد - وهو يرى الفساد يسري ويشيع - وماذا أصنع والتعرض للفساد يلحق بي الأذى؟! وهذه الغيرة على حرمات الله ، والشعور بالتكليف المباشر بصيانتها والدفع عنها للنجاة من الله .
هذا كله هو قوام الجماعة المسلمة الذي لا قيام لها إلا به . .
وهذا كله في حاجة إلى الإيمان الصحيح بالله؛ ومعرفة تكاليف هذا الإيمان . وإلى الإدراك الصحيح لمنهج الله؛ ومعرفة أنه يشمل كل جوانب الحياة . وإلى الجد في أخذ العقيدة بقوة ، والجهد لإقامة المنهج الذي ينبثق منها في حياة المجتمع كله . . فالمجتمع المسلم الذي يستمد قانونه من شريعة الله؛ ويقيم حياته كلها على منهجه؛ هو المجتمع الذي يسمح للمسلم أن يزاول حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بحيث لا يصبح هذا عملاً فردياً ضائعاً في الخضم؛ أو يجعله غير ممكن أصلاً في كثير من الأحيان! كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية القائمة اليوم في أرجاء الأرض؛ والتي تقيم حياتها على تقاليد ومصطلحات اجتماعية تسترذل تدخل أحد في شأن أحد؛ وتعتبر الفسق والفجور والمعصية « مسائل شخصية »! ليس لأحد أن يتدخل في شأنها . . كما تجعل من الظلم والبطش والاعتداء والجور سيفاً مصلتاً من الإرهاب يلجم الأفواه ، ويعقد الألسنة ، وينكل بمن يقول كلمة حق أو معروف في وجه الطغيان . .
إن الجهد الأصيل ، والتضحيات النبيلة يجب أن تتجه أولاً إلى إقامة المجتمع الخير . . والمجتمع الخير هو الذي يقوم على منهج الله . . قبل أن ينصرف الجهد والبذل والتضحية إلى إصلاحات جزئية ، شخصية وفردية؛ عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .(1/29)
إنه لا جدوى من المحاولات الجزئية حين يفسد المجتمع كله؛ وحين تطغى الجاهلية ، وحين يقوم المجتمع على غير منهج الله؛ وحيت يتخذ له شريعة غير شريعة الله . فينبغي عندئذ أن تبدأ المحاولة من الأساس ، وأن تنبت من الجذور؛ وأن يكون الجهد والجهاد لتقرير سلطان الله في الأرض . . وحين يستقر هذا السلطان يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئاً يرتكن إلى أساس .
وهذا يحتاج إلى إيمان . وإلى إدراك لحقيقة هذا الإيمان ومجاله في نظام الحياة . فالإيمان على هذا المستوى هو الذي يجعل الاعتماد كله على الله؛ والثقة كلها بنصرته للخير - مهما طال الطريق - واحتساب الأجر عنده ، فلا ينتظر من ينهض لهذه المهمة جزاء في هذه الأرض ، ولا تقديراً من المجتمع الضال ، ولا نصرة من أهل الجاهلية في أي مكان!
إن كل النصوص القرآنية والنبوية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم . مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله ، ويتحاكم إلى شريعته ، مهما وجد فيه من طغيان الحكم ، في بعض الأحيان ، ومن شيوع الإثم في بعض الأحيان . . وهكذا نجد في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - « أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر »
فهو « إمام » ولا يكون إماماً حتى يعترف ابتداء بسلطان الله؛ وبتحكيم شريعته . فالذي لا يحكم شريعة الله لا يقال له : « إمام » إنما يقول عنه الله - سبحانه - { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } فأما المجتمعات الجاهلية التي لا تتحاكم إلى شريعة الله ، فالمنكر الأكبر فيها والأهم ، هو المنكر الذي تنبع منه كل المنكرات . . هو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة . . وهذا المنكر الكبير الأساسي الجذري هو الذي يجب أن يتجه إليه الإنكار ، قبل الدخول في المنكرات الجزئية ، التي هي تبع لهذا المنكر الأكبر ، وفرع عنه ، وعرض له . .
إنه لا جدوى من ضياع الجهد . . جهد الخيرين الصالحين من الناس . . في مقاومة المنكرات الجزئية ، الناشئة بطبيعتها من المنكر الأول . . منكر الجرأة على الله وادعاء خصائص الألوهية ، ورفض ألوهية الله ، برفض شريعته للحياة . . لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك المنكر الأول وثمراته النكدة بلا جدال .
على أنه إلام نحاكم الناس في أمر ما يرتكبونه من منكرات؟ بأي ميزان نزن أعمالهم لنقول لهم : إن هذا منكر فاجتنبوه؟ أنت تقول : إن هذا منكر؛ فيطلع عليك عشرة من هنا ومن هناك يقولون لك : كلا! ليس هذا منكراً . لقد كان منكراً في الزمان الخالي! والدنيا « تتطور » ، والمجتمع « يتقدم » وتختلف الاعتبارات!
فلا بد إذن من ميزان ثابت نرجع إليه بالأعمال ، ولا بد من قيم معترف بها نقيس إليها المعروف والمنكر . فمن أين نستمد هذه القيم؟ ومن أين نأتي بهذا الميزان؟
من تقديرات الناس وعرفهم وأهوائهم وشهواتهم - وهي متقلبة لا تثبت على حال؟ إننا ننتهي إذن إلى متاهة لا دليل فيها ، وإلى خضم لا معالم فيه!
فلا بد ابتداء من إقامة الميزان . . ولا بد أن يكون هذا الميزان ثابتاً لا يتأرجح مع الأهواء . .
هذا الميزان الثابت هو ميزان الله . .
فماذا إذا كان المجتمع لا يعترف - ابتداء - بسلطان الله؟ ماذا إذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله؟ بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ ويستنكر وينكل بمن يدعوه إلى منهج الله؟
ألا يكون جهداً ضائعاً ، وعبثاً هازلاً ، أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، في جزئيات وجانبيات من شئون الحياة ، تختلف عليها الموازين والقيم ، وتتعارض فيها الآراء والأهواء؟!
إنه لا بد من الاتفاق مبدئياً على حكم ، وعلى ميزان ، وعلى سلطان ، وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء . .
لا بد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة . والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة . . وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان! فلتوفر الجهود المبعثرة إذن ، ولتحشد كلها في جبهة واحدة ، لإقامة الأساس الذي عليه وحده يقام البنيان!
وإن الإنسان ليرثي أحياناً ويعجب لأناس طيبين ، ينفقون جهدهم في « الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » في الفروع؛ بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم؛ ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مقطوع!
فما غناء أن تنهى الناس عن أكل الحرام مثلاً في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا؛ فيستحيل ماله كله حراماً؛ ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال .
لأن نظامه الاجتماعي والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله . لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة؟!
وما غناء أن تنهى الناس عن الفسق مثلاً في مجتمع قانونه لا يعتبر الزنا جريمة - إلا في حالة الإكراه - ولا يعاقب حتى في حالة الإكراه بشريعة الله . . لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة؟!(1/30)
وما غناء أن تنهى الناس عن السكر في مجتمع قانونه يبيح تداول وشرب الخمر ، ولا يعاقب إلا على حالة السكر البين في الطريق العام . وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله . لأنه لا يعترف ابتداء بحاكمية الله؟!
وما غناء أن تنهى الناس عن سب الدين؛ في مجتمع لا يعترف بسلطان الله؛ ولا يعبد فيه الله . إنما هو يتخذ أرباباً من دونه؛ ينزلون له شريعته وقانونه؛ ونظامه وأوضاعه ، وقيمه وموازينه . والساب والمسبوب كلاهما ليس في دين الله . إنما هما وأهل مجتمعهما طراً في دين من ينزلون لهم الشرائع والقوانين؛ ويضعون لهم القيم والموازين؟!
ما غناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحوال؟ ما غناء النهي عن هذه الكبائر - فضلاً عن أن يكون النهي عن الصغائر - والكبيرة الكبرى لا نهي عنها . . كبيرة الكفر بالله؛ برفض منهجه للحياة؟!
إن الأمر أكبر وأوسع وأعمق ، مما ينفق فيه هؤلاء « الطيبون » جهدهم وطاقتهم واهتمامهم . . إنه - في هذه المرحلة - ليس أمر تتبع الفرعيات - مهما تكن ضخمة حتى ولو كانت هي حدود الله . فحدود الله تقوم ابتداء على الاعتراف بحاكمية الله دون سواه . فإذا لم يصبح هذا الاعتراف حقيقة واقعة؛ تتمثل في اعتبار شريعة الله هي المصدر الوحيد للتشريع؛ واعتبار ربوبية الله وقوامته هي المصدر الوحيد للسلطة . . فكل جهد في الفروع ضائع؛ وكل محاولة في الفروع عبث . . والمنكر الأكبر أحق بالجهد والمحاولة من سائر المنكرات . .
والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من رأى منكم منكراً فليغيره بيده . فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه . وذلك أضعف الإيمان » .
وقد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم؛ ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم؛ فيبقى أضعف الإيمان؛ وهو تغييره بقلوبهم؛ وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه ، إن هم كانوا حقاً على الإسلام!
وليس هذا موقفاً سلبياً من المنكر - كما يلوح في بادئ الأمر - وتعبير الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته .
فإنكار المنكر بالقلب ، معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر . . إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له ، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به . . وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر ، ولإقامة الوضع « المعروف » في أول فرصة تسنح ، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة . . وهذا كله عمل إيجابي في التغيير . . وهو على كل حال أضعف الإيمان . فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان! أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع ولأن له ضغطاً - قد يكون ساحقاً - فهو الخروج من آخر حلقة ، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان!
هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل :
{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم . ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه . لبئس ما كانوا يفعلون! } . .
ثم يمضي السياق إلى نهاية هذا المقطع في الحديث عن بني إسرائيل ، وهو نهاية هذا الجزء . فيصف حالهم على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي حالهم في كل زمان وفي كل مكان ، فهم يتولون الذين كفروا ، ويتناصرون معهم ضد الجماعة المسلمة . وعلة ذلك - مع أنهم أهل كتاب - أنهم لم يؤمنوا بالله والنبي وأنهم لم يدخلوا في دين الله الأخير . . فهم غير مؤمنين . ولو كانوا مؤمنين ما تولوا الكافرين :
{ ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا . لبئس ما قدمت لهم أنفسهم : أن سخط الله عليهم ، وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيراً منهم فاسقون } . .
وهذا التقرير كما ينطبق على حال اليهود - على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينطبق على حالهم اليوم وغداً ، وفي كل حين . كذلك ينطبق على الفريق الآخر من أهل الكتاب في معظم أرجاء الأرض اليوم . . مما يدعو إلى التدبر العميق في أسرار هذا القرآن ، وفي عجائبه المدخرة للجماعة المسلمة في كل آن . .
لقد كان اليهود هم الذين يتولون المشركين؛ ويؤلبونهم على المسلمين ، { ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } كما حكى عنهم القرآن الكريم . وقد تجلى هذا كله على أتمه في غزوة الأحزاب ، ومن قبلها ومن بعدها كذلك؛ إلى اللحظة الحاضرة . . وما قامت إسرائيل في أرض فلسطين أخيراً إلا بالولاء والتعاون مع الكافرين الجدد من الماديين الملحدين!
فأما الفريق الآخر من أهل الكتاب ، فهو يتعاون مع المادية الإلحادية كلما كان الأمر أمر المسلمين! وهم يتعاونون مع الوثنية المشركة كذلك ، كلما كانت المعركة مع المسلمين! حتى و « المسلمون » لا يمثلون الإسلام في شيء .(1/31)
إلا في أنهم من ذراري قوم كانوا مسلمين! ولكنها الإحنة التي لا تهدأ على هذا الدين؛ ومن ينتمون إليه ، ولو كانوا في انتمائهم مدعين!
وصدق الله العظيم : { ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا } . .
{ لبئس ما قدمت لهم أنفسهم : أن سخط الله عليهم ، وفي العذاب هم خالدون } . .
فهذه هي الحصيلة التي قدمتها لهم أنفسهم . . إنها سخط الله عليهم . وخلودهم في العذاب . فما أبأسها من حصيلة! وما أبأسها من تقدمة تقدمها لهم أنفسهم؛ ويا لها من ثمرة مرة . ثمرة توليهم للكافرين!
فمن منا يسمع قول الله سبحانه عن القوم؟ فلا يتخذ من عند نفسه مقررات لم يأذن بها الله : في الولاء والتناصر بين أهل هذا الدين؛ وأعدائه الذين يتولون الكافرين!
وما الدافع؟ ما دافع القوم لتولي الذين كفروا؟ إنه عدم الإيمان بالله والنبي :
{ ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيراً منهم فاسقون } . .
هذه هي العلة . . إنهم لم يؤمنوا بالله والنبي . . إن كثرتهم فاسقة . . إنهم يتجانسون - إذن - مع الذين كفروا في الشعور والوجهة؛ فلا جرم يتولون الذين كفروا ولا يتولون المؤمنين . .
وتبرز لنا من هذا التعقيب القرآني ثلاث حقائق بارزة :
الحقيقة الأولى : أن أهل الكتاب جميعاً - إلا القلة التي آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم - غير مؤمنين بالله . لأنهم لم يؤمنوا برسوله الأخير . ولم ينف القرآن الكريم عنهم الإيمان بالنبي وحده . بل نفى عنهم الإيمان بالله كذلك . { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } وهو تقرير من الله - سبحانه - لا يقبل التأويل . مهما تكن دعواهم في الإيمان بالله . . وبخاصة إذا اعتبرنا ما هم عليه من انحراف التصور للحقيقة الإلهية كما سلف في آيات هذا الدرس وفي غيرها من آيات القرآن الكريم .
والحقيقة الثانية : أن أهل الكتاب جميعاً مدعوون إلى الدخول في دين الله ، على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن استجابوا فقد أمنوا ، وأصبحوا على دين الله . وإن تولوا فهم كما وصفهم الله .
والحقيقة الثالثة : أنه لا ولاء ولا تناصر بينهم وبين المسلمين ، في شأن من الشئون . لأن كل شأن من شئون الحياة عند المسلم خاضع لأمر الدين .
ويبقى أن الإسلام يأمر أهله بالإحسان إلى أهل الكتاب في العشرة والسلوك؛ وبحماية أرواحهم وأموالهم وأعراضهم في دار الإسلام؛ وبتركهم إلى ما هم فيه من عقائدهم كائنة ما تكون؛ وإلى دعوتهم بالحسنى إلى الإسلام ومجادلتهم بالحسنى كذلك . والوفاء لهم - ما وفوا - بعهدهم ومسالمتهم للمسلمين . . وهم - في أية حال - لا يكرهون على شيء في أمر الدين . .
هذا هو الإسلام . . في وضوحه ونصاعته . وفي بره وسماحته . .
والله يقول الحق . وهو يهدي السبيل .
------------
في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 412)
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . . . }
إن صيغة العبارة تحتمل أن تكون خطاباً للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن تكون كذلك خطاباً عاما خرج مخرج العموم ، لأنه يتضمن أمراً ظاهراً مكشوفاً يجده كل إنسان . وهي صيغة لها نظائرها في الأسلوب العربي الذي نزل به القرآن الكريم . . وهي في كلتا الحالتين تفيد معناها الظاهر الذي تؤديه . .
فإذا تقرر هذا فإن الأمر الذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا في صدد أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا؛ وأن شدة عداوتهم ظاهرة مكشوفة وأمر مقرر يراه كل من يرى ، ويجده كل من يتأمل!
نعم إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين الأمرين ولا يفيد تعقيبا ولا ترتيباً .
ولكن تقديم اليهود هنا ، حيث يقوم الظن بأنهم أقل عداوة للذين آمنوا من المشركين - بما أنهم أصلا أهل كتاب - يجعل لهذا التقديم شأناً خاصاً غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي! إنه - على الأقل - يوجه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغير من الحقيقة الواقعة ، وهي أنهم كالذين أشركوا أشد عداوة للذين آمنوا! ونقول : إن هذا « على الأقل » . ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدة العداء على الذين أشركوا . .
وحين يستأنس الإنسان في تفسير هذا التقرير الرباني بالواقع التاريخي المشهود منذ مولد الإسلام حتى اللحظة الحاضرة ، فإنه لا يتردد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائماً أشد وأقسى وأعمق إصرارا وأطول أمداً من عداء الذين أشركوا!(1/32)
لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة . وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة . وتضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وعلى الأمة المسلمة في تاريخها الطويل؛ والتي لم تخبُ لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا ، وما تزال حتى اللحظة يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعاً
لقد عقد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول مقدمه إلى المدينة ، معاهدة تعايش مع اليهود؛ ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة . . ولكنهم لم يفوا بهذا العهد - شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل ، حتى قال الله فيهم : { ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون . أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم؟ بل أكثرهم لا يؤمنون . ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام ، فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج ، ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تعد لليهود فرصة للتسلط!
ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية ، وأفادتها من قرون السبي في بابل ، والعبودية في مصر ، والذل في الدولة الرومانية .
ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ ، فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول .
ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة؛ وراحوا يجمعون القبائل المتفرقة لحرب الجماعة المسلمة : { ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } ولما غلبهم الإسلام بقوة الحق - يوم أن كان الناس مسلمين - استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه - لم يسلم من هذا الدس إلا كتاب الله الذي تكفل بحفظه سبحانه - ويكيدون له بالدس بين صفوف المسلمين ، وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار . ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في أنحاء الأرض . . حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإسلام في كل شبر على وجه الأرض؛ وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة ، وهم الذين يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين ، ويشنونها حرباً صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين!
وصدق الله العظيم : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } . .
إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة؛ وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم؛ وبين قريش في مكة ، وبين القبائل الأخرى في الجزيرة . . يهودي . .
والذي ألب العوام ، وجمع الشراذم ، وأطلق الشائعات ، في فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - وما تلاها من النكبات . . يهودي . .
والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الروايات والسير . . يهودي . .
ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة؛ ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال « الدستور » بها في عهد السلطان عبدالحميد ، ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي « البطل » أتاتورك . . يهودي . .
وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود!
ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية . . يهودي . . ووراء النزعة الحيوانية الجنسية يهودي . . ووراء معظم النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط يهود!
ولقد كانت الحرب التي شنها اليهود على الإسلام أطول أمدا ، وأعرض مجالا ، من تلك التي شنها عليه المشركون والوثنيون - على ضراوتها - قديما وحديثا . . إن المعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاما في جملتها . وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول . وأما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنية الهندية والإسلام ضراوة ظاهرة؛ ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونية العالمية .
( التي تعد الماركسية مجرد فرع لها ) وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإسلام في طول الأمد وعرض المجال إلا معركة الصليبية ، التي سنتعرض لها في الفقرة التالية .
فإذا سمعنا الله - سبحانه - يقول :
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } . .(1/33)
ويقدم اليهود في النص على الذين أشركوا . . ثم راجعنا هذا الواقع التاريخي ، فإننا ندرك طرفاً من حكمة الله في تقديم اليهود على الذين أشركوا!
إنهم هذه الجبلة النكدة الشريرة ، التي ينغل الحقد في صدورها على الإسلام ، وعلى نبي الإسلام ، فيحذر الله نبيه وأهل دينه منها . . ولم يغلب هذه الجبلة النكدة الشريرة إلا الإسلام وأهله يوم أن كانوا أهله! . . ولن يخلص العالم من هذه الجبلة النكدة إلا الإسلام يوم يفيء أهله إليه . .
{ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى . ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ، وأنهم لا يستكبرون . وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، يقولون : ربنا آمنا ، فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين . فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وذلك جزاء المحسنين . والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } . .
إن هذه الآيات تصور حالة ، وتقرر حكما في هذه الحالة . . تصور حالة فريق من أتباع عيسى - عليه السلام - : { الذين قالوا : إنا نصارى } . . وتقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا . .
ومع أن متابعة مجموع الآيات لا تدع مجالا للشك في أنها تصور حالة معينة ، هي التي ينطبق عليها هذا التقرير المعين ، فإن الكثيرين يخطئون فهم مدلولها ، ويجعلون منها مادة للتميع المؤذي في تقدير المسلمين لموقفهم من المعسكرات المختلفة ، وموقف هذه المعسكرات منهم . . لذلك نجد من الضروري - في ظلال القرآن - أن نتابع بالدقة تصوير هذه الآيات لهذه الحالة الخاصة التي ينطبق عليها ذلك الحكم الخاص :
إن الحالة التي تصورها هذه الآيات هي حالة فئة من الناس ، قالوا : إنا نصارى . هم أقرب مودة للذين آمنوا : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } . . فمنهم من يعرفون حقيقة دين النصارى فلا يستكبرون على الحق حين يتبين لهم . .
ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد ، ولا يدع الأمر مجهلا ومعمماً على كل من قالوا : إنا نصارى . . إنما هو يمضي فيصور موقف هذه الفئة التي يعنيها :
{ واذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، يقولون ربنا آمنا ، فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } . .
فهذا مشهد حي يرتسم من التصوير القرآني لهذه الفئة من الناس ، الذين هم أقرب مودة للذين آمنوا .
إنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من هذا القرآن اهتزت مشاعرهم ، ولانت قلوبهم ، وفاضت أعينهم بالدمع تعبيرا عن التأثر العميق العنيف بالحق الذي سمعوه . والذي لا يجدون له في أول الأمر كفاء من التعبير إلا الدمع الغزير - وهي حالة معروفة في النفس البشرية حين يبلغ بها التأثر درجة أعلى من أن يفي بها القول ، فيفيض الدمع ، ليؤدي ما لا يؤديه القول؛ وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق العنيف .
ثم هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع؛ ولا يقفون موقفا سلبيا من الحق الذي تأثروا به هذا التأثر عند سماع القرآن؛ والشعور بالحق الذي يحمله والإحساس بما له من سلطان . . إنهم لا يقفون موقف المتأثر الذي تفيض عيناه بالدمع ثم ينتهي أمره مع هذا الحق! إنما هم يتقدمون ليتخذوا من هذا الحق موقفا إيجابيا صريحا . . موقف القبول لهذا الحق ، والإيمان به ، والإذعان لسلطانه ، وإعلان هذا الإيمان وهذا الإذعان في لهجة قوية عميقة صريحة :
{ يقولون : ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين؟ } . .
إنهم أولاً يعلنون لربهم إيمانهم بهذا الحق الذي عرفوه . ثم يدعونه - سبحانه - أن يضمهم إلى قائمة الشاهدين لهذا الحق؛ وأن يسلكهم في سلك الأمة القائمة عليه في الأرض . . الأمة المسلمة ، التي تشهد لهذا الدين بأنه الحق ، وتؤدي هذه الشهادة بلسانها وبعملها وبحركتها لإقرار هذا الحق في حياة البشر . . فهؤلاء الشاهدون الجدد ينضمون إلى هذه الأمة المسلمة؛ ويشهدون ربهم على إيمانهم بالحق الذي تتبعه هذه الأمة؛ ويدعونه - سبحانه - أن يكتبهم في سجلها . .
ثم هم بعد ذلك يستنكرون على أنفسهم أن يعوقهم معوق عن الإيمان بالله؛ أو أن يسمعوا هذا الحق ثم لايؤمنوا به ، ولا يأملوا - بهذا الإيمان - أن يقبلهم ربهم ، ويرفع مقامهم عنده ، فيدخلهم مع القوم الصالحين :
{ وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين؟ } . .(1/34)
فهو موقف صريح قاطع تجاه ما أنزل الله إلى رسوله من الحق . . موقف الاستماع والمعرفة ، ثم التأثر الغامر والإيمان الجاهر ، ثم الإسلام والانضمام إلى الأمة المسلمة ، مع دعاء الله - سبحانه - أن يجعلهم من الشاهدين لهذا الحق؛ الذين يؤدون شهادتهم سلوكاً وعملاً وجهاداً لإقراره في الأرض ، والتمكين له في حياة الناس . ثم وضوح الطريق في تقديرهم وتوحده؛ بحيث لا يعودون يرون أنه يجوز لهم أن يمضوا إلا في طريق واحد : هو طريق الإيمان بالله ، وبالحق الذي أنزله على رسوله ، والأمل - بعد ذلك - في القبول عنده والرضوان .
ولا يقف السياق القرآني هنا عند بيان من هم الذين يعنيهم بأنهم أقرب مودة للذين آمنوا من الذين قالوا : إنا نصارى؛ وعند بيان سلوكهم في مواجهة ما أنزل الله الى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحق؛ وفي اتخاذ موقف إيجابي صريح ، بالإيمان المعلن ، والانضمام إلى الصف المسلم؛ والاستعداد لأداء الشهادة بالنفس والجهد والمال؛ والدعاء إلى الله أن يقبلهم في الصف الشاهد لهذا الحق على هذا النحو؛ مع الطمع في أن يختم لهم بالانضمام إلى موكب الصالحين .
لا يقف السياق القرآني عند هذا الحد في بيان أمر هؤلاء الذين يقرر أنهم أقرب مودة للذين آمنوا . بل يتابع خطاه لتكملة الصورة ، ورسم المصير الذي انتهوا إليه فعلاً :
{ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . وذلك جزاء المحسنين } . .
لقد علم الله صدق قلوبهم وألسنتهم؛ وصدق عزيمتهم على المضي في الطريق؛ وصدق تصميمهم على أداء الشهادة لهذا الدين الجديد الذي دخلوا فيه؛ ولهذا الصف المسلم الذي اختاروه ، واعتبارهم أن أداء هذه الشهادة - بكل تكاليفها في النفس والمال - منة يمن الله بها على من يشاء من عباده؛ واعتبارهم كذلك أنه لم يعد لهم طريق يسلكونه إلا هذا الطريق الذي أعلنوا المضي فيه؛ ورجاءهم في ربهم أن يدخلهم مع القوم الصالحين . .
لقد علم الله منهم هذا كله؛ فقبل منهم قولهم ، وكتب لهم الجنة جزاء لهم؛ وشهد لهم - سبحانه - بأنهم محسنون ، وأنه يجزيهم جزاء المحسنين :
{ فأثابهم الله - بما قالوا - جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . . وذلك جزاء المحسنين . . } .
والإحسان أعلى درجات الإيمان والإسلام . . والله - جل جلاله - قد شهد لهذا الفريق من الناس أنه من المحسنين .
هو فريق خاص محدد الملامح هذا الذي يقول عنه القرآن الكريم :
{ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى } . .
هو فريق لا يستكبر عن الحق حين يسمعه ، بل يستجيب له تلك الاستجابة العميقة الجاهرة الصريحة . وهو فريق لا يتردد في إعلان استجابته للإسلام ، والانضمام للصف المسلم؛ والانضمام إليه بصفة خاصة في تكاليف هذه العقيدة؛ وهي أداء الشهادة لها بالاستقامة عليها والجهاد لإقرارها وتمكينها . وهو فريق علم الله منه صدق قوله فقبله في صفوف المحسنين . .
ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد في تحديد ملامح هذا الفريق المقصود من الناس الذين تجدهم أقرب مودة للذين آمنوا . بل إنه ليمضي فيميزه من الفريق الآخر من الذين قالوا : إنا نصارى . ممن يسمعون هذا الحق فيكفرون به ويكذبون ، ولايستجيبون له ، ولا ينضمون إلى صفوف الشاهدين :
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } . .
والمقصود قطعاً بالذين كفروا وكذبوا في هذا الموضع هم الذين يسمعون - من الذين قالوا إنا نصارى - ثم لا يستجيبون .
والقرآن يسميهم الكافرين كلما كانوا في مثل هذا الموقف . سواء في ذلك اليهود والنصارى؛ ويضمهم إلى موكب الكفار مع المشركين سواء؛ ما داموا في موقف التكذيب لما أنزل الله على رسوله من الحق؛ وفي موقف الامتناع عن الدخول في الإسلام الذي لا يقبل الله من الناس ديناً سواه . . نجد هذا في مثل قول الله سبحانه :
{ لم يكن الذين كفروا - من أهل الكتاب والمشركين - منفكين حتى تأتيهم البينة } { إن الذين كفروا من - أهل الكتاب والمشركين - في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية } { لقد كفر الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة } { لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم } { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم } فهو تعبير مألوف في القرآن ، وحكم معهود . . وهو يأتي هنا للتفرقة بين فريقين من الذين قالوا : إنا نصارى؛ وللتفرقة بين موقف كل فريق منهما تجاه الذين آمنوا؛ وللتفرقة كذلك بين مصير هؤلاء وأولئك عند الله . . هؤلاء لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين . وأولئك أصحاب الجحيم . .(1/35)
وليس كل من قالوا : إنهم نصارى إذن داخلين في ذلك الحكم : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا } . . كما يحاول أن يقول من يقتطعون آيات القرآن دون تمامها . . إنما هذا الحكم مقصور على حالة معينة لم يدع السياق القرآني أمرها غامضاً ، ولا ملامحها مجهلة ، ولا موقفها متلبساً بموقف سواها في كثير ولا قليل . .
ولقد وردت روايات لها قيمتها في تحديد من هم النصارى المعنيون بهذا النص :
أورد القرطبي في تفسيره : « وهذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه ، لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى - حسب ما هو مشهور في سيرة ابن اسحاق وغيره - خوفاً من المشركين وفتنتهم؛ وكانوا ذوي عدد . ثم هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد ذلك فلم يقدروا على الوصول إليه ، حالت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرب . فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار ، قال كفار قريش : إن ثأركم بأرض الحبشة . فأهدوا إلى النجاشي وابعثوا له برجلين من ذوي رأيكم يعطيكم من عنده ، فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر . فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة بهدايا . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن أمية الضمري وكتب معه إلى النجاشي؛ فقدم على النجاشي ، فقرأ كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين ، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم . ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن ، فقرأ سورة » مريم « فقاموا تفيض أعينهم من الدمع .
فهم الذين أنزل الله فيهم : { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى } وقرأ إلى { الشاهدين } ( رواه أبو داود . قال : حدثنا محمد بن مسلمة المرادي ، قال : حدثنا ابن وهب . قال : أخبرني يونس عن ابن شهاب ، عن أبي بكر عبدالرحمن بن الحرث بن هشام . وعن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير : أن الهجرة الأولى هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة . وساق الحديث بطوله .
« وذكر البيهقي عن ابن إسحاق قال : قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرون رجلاً وهو بمكة ، أو قريب من ذلك ، من النصارى حين ظهر خبره ، من الحبشة ، فوجدوه في المسجد ، فكلموه وسألوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة . فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما أرادوا ، دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الله عز وجل ، وتلا عليهم القرآن . فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره . فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقالوا : خيبكم الله من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل ، فلم تطل مجالستكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم ، ما نعلم ركباً أحمق منكم - أو كما قال لهم - فقالوا : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ، لا نألو أنفسنا خيراً . . فيقال : إن النفر النصارى من أهل نجران . ويقال : إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات : { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } إلى قوله : { لا نبتغي الجاهلين } » وقيل : إن جعفراً وأصحابه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلاً عليهم ثياب الصوف ، فيهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيراء الراهب وإدريس وأشرف وأبرهة وثمامة وقثم ودريد وأيمن . فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة « يس » إلى آخرها ، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا به ، وقالوا : ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى . فنزلت فيهم { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى } . . يعني وفد النجاشي . وكانوا أصحاب الصوامع . وقال سعيد بن جبير : وأنزل الله فيهم أيضاً { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } إلى قوله { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } إلى آخر الآية . وقال مقاتل والكلبي كانوا أربعين رجلاً من أهل نجران من بني الحرث بن كعب ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية وستين من أهل الشام . وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم آمنوا به فأثنى الله عليهم « .
وهذا الذي نقرره في معنى هذا النص؛ والذي يدل عليه السياق بذاته ، وتؤيده هذه الروايات التي أسلفنا ، هو الذي يتفق مع بقية التقريرات في هذه السورة وفي غيرها عن موقف أهل الكتاب عامة - اليهود والنصارى - من هذا الدين وأهله . كما أنه هو الذي يتفق مع الواقع التاريخي الذي عرفته الأمة المسلمة خلال أربعة عشر قرناً .(1/36)
إن السورة وحدة في اتجاهها وظلالها وجوها وأهدافها؛ وكلام الله سبحانه لا يناقض بعضه بعضاً . { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } وقد وردت في هذه السورة نفسها نصوص وتقريرات ، تحدد معنى هذا النص الذي نواجهه هنا وتجلوه . . نذكر منها :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين } { قل : يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوارة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم . وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً ، فلا تأس على القوم الكافرين } كذلك جاء في سورة البقرة : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم . قل : إن هدى الله هو الهدى؛ ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير } كذلك صدّق الواقع التاريخي ما حذر الله الأمة المسلمة إياه؛ من اليهود ومن النصارى سواء . وإذا كان الواقع التاريخي قد حفظ لليهود وقفتهم النكدة للإسلام منذ اليوم الأول الذي دخل فيه الإسلام عليهم المدينة؛ في صورة كيد لم ينته ولم يكف حتى اللحظة الحاضرة؛ وإذا كان اليهود لا يزالون يقودون الحملة ضد الإسلام في كل أرجاء الأرض اليوم في حقد خبيث وكيد لئيم . . فإن هذا الواقع قد حفظ كذلك للنصارى الصليبيين أنهم اتخذوا من الإسلام موقف العداء منذ واقعة اليرموك بين جيش المسلمين وجيوش الروم - فيما عدا الحالات التي وقع فيها ما تصفه الآيات التي نحن بصددها فاستجابت قلوب للإسلام ودخلت فيه . وفيما عدا حالات أخرى آثرت فيها طوائف من النصارى أن تحتمي بعدل الإسلام من ظلم طوائف أخرى من النصارى كذلك؛ يلاقون من ظلمها الوبال! - أما التيار العام الذي يمثل موقف النصارى جملة فهو تلك الحروب الصليبية التي لم يخب أوارها قط - إلا في الظاهر - منذ التقى الإسلام والرومان على ضفاف اليرموك!
لقد تجلت أحقاد الصليبية على الإسلام وأهله في الحروب الصليبية المشهورة طوال قرنين من الزمان ، كما تجلت في حروب الإبادة التي شنتها الصليبية على الإسلام والمسلمين في الأندلس ، ثم في حملات الاستعمار والتبشير على المماليك الإسلامية في إفريقية أولاً ، ثم في العالم كله أخيراً .
ولقد ظلت الصهيونية العالمية والصليبة العالمية حليفتين في حرب الإسلام - على كل ما بينهما من أحقاد - ولكنهم كانوا في حربهم للإسلام كما قال عنهم العليم الخبير : { بعضهم أولياء بعض } حتى مزقوا دولة الخلافة الأخيرة . ثم مضوا في طريقهم ينقضون هذا الدين عروة عروة . وبعد أن أجهزوا على عروة « الحكم » ها هم أولاء يحاولون الإجهاز على عروة « الصلاة »!
ثم ها هم أولاء يعيدون موقف اليهود القديم مع المسلمين والوثنيين . فيؤيدون الوثنية حيثما وجدت ضد الإسلام . عن طريق المساعدات المباشرة تارة ، وعن طريق المؤسسات الدولية التي يشرفون عليها تارة أخرى! وليس الصراع بين الهند وباكستان على كشمير وموقف الصليبية منها ببعيد .
وذلك فوق إقامة واحتضان وكفالة الأوضاع التي تتولى سحق حركات الإحياء والبعث الإسلامية في كل مكان على وجه الأرض . وإلباس القائمين بهذه الأوضاع أثواب البطولة الزائفة ودق الطبول من حولهم ، ليستطيعوا الإجهاز على الإسلام ، في زحمة الضجيج العالمي حول الأقزام الذين يلبسون أردية الأبطال!
هذا موجز سريع لما سجله الواقع التاريخي طوال أربعة عشر قرناً؛ من مواقف اليهودية والصليبية تجاه الإسلام؛ لا فرق بين هذه وتلك؛ ولا افتراق بين هذا المعسكر وذاك في الكيد للإسلام ، والحقد عليه ، والحرب الدائبة التي لا تفتر على امتداد الزمان .
وهذا ما ينبغي أن يعيه الواعون اليوم وغداً؛ فلا ينساقوا وراء حركات التمييع الخادعة أو المخدوعة؛ التي تنظر إلى أوائل مثل هذا النص القرآني - دون متابعة لبقيته؛ ودون متابعة لسياق السورة كله ، ودون متابعة لتقريرات القرآن عامة ، ودون متابعة للواقع التاريخي الذي يصدق هذا كله - ثم تتخذ من ذلك وسيلة لتخدير مشاعر المسلمين تجاه المعسكرات التي تضمر لهم الحقد وتبيت لهم الكيد؛ الأمر الذي تبذل فيه هذه المعسكرات جهدها ، وهي بصدد الضربة الأخيرة الموجهة إلى جذور العقيدة .
إن هذه المعسكرات لا تخشى شيئاً أكثر مما تخشى الوعي في قلوب العصبة المؤمنة - مهما قل عددها وعدتها - فالذين ينيمون هذا الوعي هم أعدى أعداء هذه العقيدة . وقد يكون بعضهم من الفرائس المخدوعة؛ ولكن ضررهم لا يقل - حينئذ - عن ضرر أعدى الأعداء ، بل إنه ليكون أشد أذى وضراً . (الظلال)
*******************
وحرم علينا ربنا سبحانه وتعالى طاعتهم والاستماع لأراجيفهم :
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) [آل عمران/100] }(1/37)
لقد جاءت هذه الأمة المسلمة لتنشىء في الأرض طريقها على منهج الله وحده ، متميزة متفردة ظاهرة . لقد انبثق وجودها ابتداء من منهج الله؛ لتؤدي في حياة البشر دوراً خاصاً لا ينهض به سواها . لقد وجدت لإقرار منهج الله في الأرض ، وتحقيقه في صورة عملية ، ذات معالم منظورة ، تترجم فيها النصوص إلى حركات وأعمال ، ومشاعر وأخلاق ، وأوضاع وارتباطات .
وهي لا تحقق غاية وجودها ، ولا تستقيم على طريقها ، ولا تنشىء في الأرض هذه الصورة الوضيئة الفريدة من الحياة الواقعية الخاصة المتميزة ، إلا إذا تلقت من الله وحده ، وإلا إذا تولت قيادة البشرية بما تتلقاه من الله وحده . قيادة البشرية . . لا التلقي من أحد من البشر ، ولا اتباع أحد من البشر ، ولا طاعة أحد من البشر . . إما هذا وإما الكفر والضلال والانحراف . .
هذا ما يؤكده القرآن ويكرره في شتى المناسبات . وهذا ما يقيم عليه مشاعر الجماعة المسلمة وأفكارها وأخلاقها كلما سنحت الفرصة . . وهنا موضع من هذه المواضع ، مناسبته هي المناظرة مع أهل الكتاب ، ومواجهة كيدهم وتآمرهم على الجماعة المسلمة في المدينة . . ولكنه ليس محدوداً بحدود هذه المناسبة ، فهو التوجيه الدائم لهذه الأمة ، في كل جيل من أجيالها ، لأنه هو قاعدة حياتها ، بل قاعدة وجودها .
لقد وجدت هذه الأمة لقيادة البشرية . فكيف تتلقى إذن من الجاهلية التي جاءت لتبدلها ولتصلها بالله ، ولتقودها بمنهج الله؟ وحين تتخلى عن مهمة القيادة فما وجودها إذن ، وليس لوجودها - في هذه الحال - من غاية؟!
لقد وجدت للقيادة : قيادة التصور الصحيح . والاعتقاد الصحيح . والشعور الصحيح . والخلق الصحيح . والنظام الصحيح . والتنظيم الصحيح . . وفي ظل هذه الأوضاع الصحيحة يمكن أن تنمو العقول ، وأن تتفتح ، وأن تتعرف إلى هذا الكون ، وأن تعرف أسراره ، وأن تسخر قواه وطاقاته ومدخراته .
ولكن القيادة الأساسية التي تسمح بهذا كله ، وتسيطر على هذا كله وتوجهه لخير البشر لا لتهديدهم بالخراب والدمار ، ولا لتسخيره في المآرب والشهوات . . ينبغي أن تكون للإيمان ، وأن تقوم عليها الجماعة المسلمة ، مهتدية فيها بتوجيه الله . لا بتوجيه أحد من عبيد الله .
وهنا في هذا الدرس يحذر الأمة المسلمة من اتباع غيرها ، ويبين لها كذلك طريقها لإنشاء الأوضاع الصحيحة وصيانتها . ويبدأ بتحذيرها من اتباع أهل الكتاب ، وإلا فسيقودونها إلى الكفر لا مناص .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } . .
إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم ، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم ، تحمل ابتداء معنى الهزيمة الداخلية ، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشئت الأمة المسلمة . كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء . وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس ، وهي لا تشعر به ولا ترى خطره القريب .
هذا من جانب المسلمين . فأما من الجانب الآخر ، فأهل الكتاب لا يحرصون على شيء حرصهم على إضلال هذه الأمة عن عقيدتها . فهذه العقيدة هي صخرة النجاة؛ وخط الدفاع ، ومصدر القوة الدافعة للأمة المسلمة . وأعداؤه يعرفون هذا جيداً . يعرفونه قديماً ويعرفونه حديثاً ، ويبذلون في سبيل تحويل هذه الأمة عن عقيدتها كل ما في وسعهم من مكر وحيلة ، ومن قوة كذلك وعُدة . وحين يعجزهم أن يحاربوا هذه العقيدة ظاهرين يدسون لها ماكرين . وحين يعييهم أن يحاربوها بأنفسهم وحده ، يجندون من المنافقين المتظاهرين بالإسلام ، أو ممن ينتسبون - زوراً - للإسلام ، جنوداً مجندة ، لتنخر لهم في جسم هذه العقيدة من داخل الدار ، ولتصد الناس عنها ، ولتزين لهم مناهج غير منهجها ، وأوضاعاً غير أوضاعها ، وقيادة غير قيادتها . .
فحين يجد أهل الكتاب من بعض المسلمين طواعية واستماعاً واتباعاً ، فهم ولا شك سيستخدمون هذا كله في سبيل الغاية التي تؤرقهم ، وسيقودونهم ويقودون الجماعة كلها من ورائهم إلى الكفر والضلال .
ومن ثم هذا التحذير الحاسم المخيف :
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } . .
وما كان يفزع المسلم - حينذاك - ما يفزعه أن يرى نفسه منتكساً إلى الكفر بعد الإيمان . وراجعاً إلى النار بعد نجاته منها إلى الجنة . وهذا شأن المسلم الحق في كل زمان ومن ثم يكون هذا التحذير بهذه الصورة سوطاً يلهب الضمير ، ويوقظه بشدة لصوت النذير . . ومع هذا فإن السياق يتابع التحذير والتذكير . . فيا له من منكر أن يكفر الذين آمنوا بعد إيمانهم ، وآيات الله تتلى عليهم ، ورسوله فيهم .
ودواعي الإيمان حاضرة ، والدعوة إلى الإيمان قائمة ، ومفرق الطريق بين الكفر والإيمان مسلط عليه هذا النور :(1/38)
{ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله؟ }
أجل . إنها لكبيرة أن يكفر المؤمن في ظل هذه الظروف المعينة على الإيمان . . وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استوفى أجله ، واختار الرفيق الأعلى ، فإن آيات الله باقية ، وهدى رسوله - صلى الله عليه وسلم - باق . . ونحن اليوم مخاطبون بهذا القرآن كما خوطب به الأولون ، وطريق العصمة بين ، ولواء العصمة مرفوع :
{ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } . .
أجل . إنه الاعتصام بالله يعصم . والله سبحانه باق . وهو - سبحانه - الحي القيوم .
ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتشدد مع أصحابه - رضوان الله عليهم - في أمر التلقي في شأن العقيدة والمنهج ، بقدر ما كان يفسح لهم في الرأي والتجربة في شؤون الحياة العملية المتروكة للتجربة والمعرفة ، كشؤون الزرع ، وخطط القتال ، وأمثالها من المسائل العملية البحتة التي لا علاقة لها بالتصور الاعتقادي ، ولا بالنظام الاجتماعي ، ولا بالارتباطات الخاصة بتنظيم حياة الإنسان . . وفرق بين هذا وذلك بين . فمنهج الحياة شيء ، والعلوم البحتة والتجريبية والتطبيقية شيء آخر . والإسلام الذي جاء ليقود الحياة بمنهج الله ، هو الإسلام الذي وجه العقل للمعرفة والانتفاع بكل إبداع مادي في نطاق منهجه للحياة . .
قال الإمام أحمد : « حدثنا عبد الرازق ، أنبأنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت . قال : » جاء عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله . إني أمرت بأخ يهودي من بني قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة . ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عبد الله بن ثابت : قلت له : ألا ترى ما وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عمر : رضيت بالله رباً ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولاً . قال : فسري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى - عليه السلام - ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم . إنكم حظي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين « .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا حماد عن الشعبي عن جابر . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء . فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا . وإنكم إما أن تصدقوا بباطل ، وإما أن تكذبوا بحق . وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني . . « وفي بعض الأحاديث : » لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي « .
هؤلاء هم أهل الكتاب . وهذا هو هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التلقي عنهم في أي أمر يختص بالعقيدة والتصور ، أو بالشريعة والمنهج . . ولا ضير - وفق روح الإسلام وتوجيهه - من الانتفاع بجهود البشر كلهم في غير هذا من العلوم البحتة ، علماً وتطبيقاً . . مع ربطها بالمنهج الإيماني : من ناحية الشعور بها ، وكونها من تسخير الله للإنسان . ومن ناحية توجيهها والانتفاع بها في خير البشرية ، وتوفير الأمن لها والرخاء . وشكر الله على نعمة المعرفة ونعمة تسخير القوى والطاقات الكونية . شكره بالعبادة . وشكره بتوجيه هذه المعرفة وهذا التسخير لخير البشرية . .
فأما التلقي عنهم في التصور الإيماني ، وفي تفسير الوجود ، وغاية الوجود الإنساني . وفي منهج الحياة وأنظمتها وشرائعها ، وفي منهج الأخلاق والسلوك أيضاً . . أما التلقي في شيء من هذا كله ، فهو الذي تغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأيسر شيء منه . وهو الذي حذر الله الأمة المسلمة عاقبته . وهي الكفر الصراح . .
هذا هو توجيه الله - سبحانه - وهذا هو هدى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فأما نحن الذين نزعم أننا مسلمون ، فأرانا نتلقى في صميم فهمنا لقرآننا وحديث نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن المستشرقين وتلامذة المستشرقين! وأرانا نتلقى فلسفتنا وتصوراتنا للوجود والحياة من هؤلاء وهؤلاء ، ومن الفلاسفة والمفكرين : الإغريق والرومان والأوروبيين والأمريكان! وأرانا نتلقى نظام حياتنا وشرائعنا وقوانيننا من تلك المصادر المدخولة! وأرانا نتلقى قواعد سلوكنا وآدابنا وأخلاقنا من ذلك المستنقع الآسن ، الذي انتهت إليه الحضارة المادية المجردة من روح الدين . . أي دين . . ثم نزعم - والله - أننا مسلمون! وهو زعم إثمه أثقل من إثم الكفر الصريح . فنحن بهذا نشهد على الإسلام بالفشل والمسخ . حيث لا يشهد عليه هذه الشهادة الآثمة من لا يزعمون - مثلنا - أنهم مسلمون!(1/39)
إن الإسلام منهج . وهو منهج ذو خصائص متميزة : من ناحية التصور الاعتقادي ، ومن ناحية الشريعة المنظمة لارتباطات الحياة كلها . ومن ناحية القواعد الأخلاقية ، التي تقوم عليها هذه الارتباطات ، ولا تفارقها ، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية . وهو منهج جاء لقيادة البشرية كلها . فلا بد أن تكون هناك جماعة من الناس تحمل هذا المنهج لتقود به البشرية . ومما يتناقض مع طبيعة القيادة - كما أسلفنا - أن تتلقى هذه الجماعة التوجيهات من غير منهجها الذاتي . .
ولخير البشرية جاء هذا المنهج يوم جاء . ولخير البشرية يدعو الدعاة لتحكيم هذا المنهج اليوم وغداً . بل الأمر اليوم ألزم ، والبشرية بمجموعها تعاني من النظم والمناهج التي انتهت إليها ما تعاني . وليس هناك منقذ إلا هذا المنهج الإلهي ، الذي يجب أن يحتفظ بكل خصائصه كي يؤدي دوره للبشرية وينقذها مرة أخرى .
لقد أحرزت البشرية انتصارات شتى في جهادها لتسخير القوى الكونية . وحققت في عالم الصناعة والطب ما يشبه الخوارق - بالنسبة للماضي - وما تزال في طريقها إلى انتصارات جديدة . . ولكن ما أثر هذا كله في حياتها؟ ما أثره في حياتها النفسية؟ هل وجدت السعادة؟ هل وجدت الطمأنينة؟ هل وجدت السلام؟ كلا! لقد وجدت الشقاء والقلق والخوف . . والأمراض العصبية والنفسية ، والشذوذ والجريمة على أوسع نطاق! . . إنها لم تتقدم كذلك في تصور غاية الوجود الإنساني وأهداف الحياة الإنسانية . . وحين تقاس غاية الوجود الإنساني وأهداف الحياة الإنسانية في ذهن الرجل المتحضر المعاصر ، إلى التصور الإسلامي في هذا الجانب ، تبدو هذه الحضارة في غاية القزامة! بل تبدو لعنة تحط من تصور الإنسان لنفسه ومقامه في هذا الوجود وتسفل به ، وتصغر من اهتماماته ومن أشواقه! . . والخواء يأكل قلب البشرية المكدود ، والحيرة تهد روحها المتعبة . . إنها لا تجد الله . . لقد أبعدتها عنه ملابسات نكدة . والعلم الذي كان من شأنه ، لو سار تحت منهج الله ، أن يجعل من كل انتصار للبشرية في ميدانه خطوة تقربها من الله ، هو ذاته الذي تبعد به البشرية أشواطا بسبب انطماس روحها ونكستها . . إنها لا تجد النور الذي يكشف لها غاية وجودها الحقيقية فتنطلق إليها مستعينة بهذا العلم الذي منحه الله لها ووهبها الاستعداد له . ولا تجد المنهج الذي ينسق بين حركتها وحركة الكون ، وفطرتها وفطرة الكون ، وقانونها وناموس الكون . ولا تجد النظام الذي ينسق بين طاقاتها وقواها ، وآخرتها ودنياها ، وأفرادها وجماعاتها ، وواجباتها وحقوقها . . تنسيقاً طبيعياً شاملاً مريحاً . .
وهذه البشرية هي التي يعمل ناس منها على حرمانها من منهج الله الهادي . وهم الذين يسمون التطلع إلى هذا المنهج « رجعية! » ويحسبونه مجرد حنين إلى فترة ذاهبة من فترات التاريخ . . وهم بجهالتهم هذه أو بسوء نيتهم يحرمون البشرية التطلع إلى المنهج الوحيد الذي يمكن أن يقود خطاها إلى السلام والطمأنينة ، كما يقود خطاها إلى النمو والرقي . . ونحن الذين نؤمن بهذا المنهج نعرف إلى ماذا ندعو . إننا نرى واقع البشرية النكد ، ونشم رائحة المستنقع الآسن الذي تتمرغ فيه . ونرى . نرى هنالك على الأفق الصاعد راية النجاة تلوح للمكدودين في هجير الصحراء المحرق والمرتقى الوضيء النظيف يلوح للغارقين في المستنقع؛ ونرى أن قيادة البشرية إن لم ترد إلى هذا المنهج فهي في طريقها إلى الارتكاس الشائن لكل تاريخ الإنسان ، ولكل معنى من معاني الإنسان!
وأولى الخطوات في الطريق أن يتميز هذا المنهج ويتفرد ، ولا يتلقى أصحابه التوجيه من الجاهلية الطامة من حولهم . . كيما يظل المنهج نظيفاً سليماً . إلى أن يأذن الله بقيادته للبشرية مرة أخرى . والله أرحم بعباده أن يدعهم لأعداء البشر ، الداعين إلى الجاهلية من هنا ومن هناك! .
وهذا ما أراد الله سبحانه أن يلقنه للجماعة المسلمة الأولى في كتابه الكريم؛ وما حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمها إياه في تعليمه القويم . . (الظلال)
************************
وحرم سبحانه وتعالى توليهم :(1/40)
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) الممتحنة}
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) الممتحنة}
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) [المائدة/51] }
إن العالم الذي يريده الإسلام عالم رباني إنساني . رباني بمعنى أنه يستمد كل مقوماته من توجيه الله وحكمه ، ويتجه إلى الله بكل شعوره وعمله . وإنساني بمعنى أنه يشمل الجنس الإنساني كله في رحاب العقيدة وتذوب فيه فواصل الجنس والوطن واللغة والنسب . وسائر ما يميز إنساناً عن إنسان ، عدا عقيدة الإيمان . وهذا هو العالم الرفيع اللائق أن يعيش فيه الإنسان الكريم على الله ، المتضمن كيانه نفحة من روح الله .
ودون إقامة هذا العالم تقف عقبات كثيرة كانت في البيئة العربية وما تزال في العالم كله إلى اليوم عقبات من التعصب للبيت ، والتعصب للعشيرة ، والتعصب للقوم ، والتعصب للجنس ، والتعصب للأرض . كما تقف عقبات من رغائب النفوس وأهواء القلوب ، من الحرص والشح وحب الخير للذات ، ومن الكبرياء الذاتية والالتواءات النفسية . . وألوان غيرها كثيرمن ذوات الصدور!
وكان على الإسلام أن يعالج هذا كله في الجماعة التي يعدها لتحقيق منهج الله في الأرض في صورة عملية واقعة . وكانت هذه الصورة حلقة في سلسلة هذا العلاج الطويل .
وكان بعض المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم في سبيل عقيدتهم ، ما تزال نفوسهم مشدودة إلى بعض من خلفوا هنالك من ذرية وأزواج وذوي قربى . وعلى الرغم من كل ما ذاقوا من العنت والأذى في قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة؛ وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم ، وتقطع ما بينهم وبينهم من صلات!
وكان الله يريد استصفاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج ، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه . وهو سبحانه يعلم ثقل الضغط الواقع عليها من الميول الطبيعية ورواسب الجاهلية جميعاً وكان العرب بطبيعتهم أشد الناس احتفالاً بعصبية القبيلة والعشيرة والبيت فكان يأخذهم يوماً بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث ، ليكون العلاج على مسرح الحوادث وليكون الطرق والحديد ساخن!
وتذكر الروايات حادثاً معيناً نزل فيه صدر هذه السورة . وقد تكون هذه الروايات صحيحة في سبب النزول المباشر . ولكن مدى النصوص القرآنية دائماً أبعد من الحوادث المباشرة .
وقد قيل في هذا الحادث : إن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلاً من المهاجرين . وكان من أهل بدر أيضاً . وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفاً لعثمان .(1/41)
فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها عهد الحديبية أمر المسلمين بالتجهيز لغزوهم ، وقال : « اللهم عَمِّ عليهم خبرنا » . وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بوجهته ، كان منهم حاطب . فعمد حاطب فكتب كتاباً وبعثه مع امرأة مشركة قيل من مزينة جاءت المدينة تسترفد إلى أهل مكة يعلمهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوهم ، ليتخذ بذلك عندهم يداً . فأطلع الله تعالى رسوله على ذلك استجابة لدعائه . وإمضاء لقدره في فتح مكة . فبعث في أثر المرأة ، فأخذ الكتاب منها .
وقد روى البخاري في المغازي ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حصين بن عبد الرحمن ، عن سعد ابن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي رضي الله عنه قال : « بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير بن العوام وكلنا فارس وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلعتة إلى المشركين » . فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : الكتاب؟ فقالت ما معي كتاب . فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً . فقلنا : ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك . فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ، وهي متحجزة بكساء ، فأخرجته . فانطلقنا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : يا رسول الله . قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضربن عنقه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما حملك على ما صنعت؟ » قال حاطب : والله ما بي إلا أن أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أردت أن تكون لي عند القوم يد . يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله . فقال : « صدق لا تقولوا إلا خيراً » فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه . فقال : « أليس من أهل بدر؟ فقال : لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو قد غفرت لكم » فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم « . وزاد البخاري في كتاب المغازي : فأنزل الله السورة : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أوليآء تلقون إليهم بالمودة } وفي رواية أخرى أن الذين أرسلوا كانوا هم علي والزبير والمقداد .
والوقوف قليلاً أمام هذا الحادث وما دار بشأنه لا يخرج بنا عن « ظلال القرآن » والتربية به وبالأحداث والتوجيهات والتعقيبات عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائد المربي العظيم . .
واول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب ، وهو المسلم المهاجر ، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سر الحملة . . وفيها ما يكشف عن منحنيات النفس البشرية العجيبة ، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها؛ وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها .
ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يعجل حتى يسأل : « ما حملك على ما صنعت » في سعة صدر وعطف على لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه ، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق ، ومن ثم يكف الصحابة عنه : « صدق لا تقولوا إلا خيراً » . ليعينه وينهضه من عثرته ، فلا يطارده بها ولا يدع أحداً يطارده . بينما نجد الإيمان الجاد الحاسم الجازم في شدة عمر : « إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين . فدعني فلأضرب عنقه » . . فعمر رضي الله عنه إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم . أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها ، ومن كل جوانبها ، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية . في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف . .
ثم يقف الإنسان أمام كلمات حاطب ، وهو في لحظة ضعفه ، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح . . ذلك حين يقول : « أردت أن تكون لي عند القوم يد . . يدفع الله بها عن أهلي ومالي » . . فالله هو الذي يدفع ، وهذه اليد لا تدفع بنفسها ، إنما يدفع الله بها . ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول : « وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع . . الله . . به عن أهله وماله » فهو الله حاضر في تصوره ، وهو الذي يدفع لا العشيرة . إنما العشيرة أداة يدفع الله بها . .
ولعل حس رسول الله الملهم قد راعى هذا التصور الصحيح الحي في قول الرجل ، فكان هذا من أسباب قوله صلى الله عليه وسلم - : « صدق . لا تقولوا إلا خيراً » .
وأخيراً يقف الإنسان أمام تقدير الله في الحادث؛ وهو أن يكون حاطب من القلة التي يعهد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر الحملة .(1/42)
وأن تدركه لحظة الضعف البشري وهو من القلة المختارة . ثم يجري قدر الله بكف ضرر هذه اللحظة عن المسلمين . كأنما القصد هو كشفها فقط وعلاجها! ثم لا يكون من الآخرين الذين لم يعهد إليهم بالسر اعتراض على ما وقع ، ولا تنفج بالقول : ها هو ذا أحد من استودعوا السر خانوه ، ولو أودعناه نحن ما بحنا به! فلم يرد من هذا شيء . مما يدل على أدب المسلمين مع قيادتهم ، وتواضعهم في الظن بأنفسهم ، واعتبارهم بما حدث لأخيهم . .
والحادث متواتر الرواية . أما نزول هذه الآيات فيه فهو أحد روايات البخاري . ولا نستبعد صحة هذه الرواية؛ ولكن مضمون النص القرآني كما قلنا أبعد مدى ، وأدل على أنه كان يعالج حالة نفسية أوسع من حادث حاطب الذي تواترت به الروايات ، بمناسبة وقوع هذا الحادث ، على طريقة القرآن .
كان يعالج مشكلة الأواصر القريبة ، والعصبيات الصغيرة ، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني .
وكان ينشئ في هذه النفوس صورة جديدة ، وقيماً جديدة ، وموازين جديدة ، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان ، ووظيفة المؤمنين في الأرض ، وغاية الوجود الإنساني .
وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف الله؛ ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته ، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات ومكر وكيد ، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه ، وأنه يريد بهم أمراً ، ويحقق بهم قدَراً . ومن ثم فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته ، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعاً . في الدنيا والآخرة . وإذن فليكونوا خالصين له ، منقطعين لولايته ، متجردين من كل وشيجة غير وشيجته . في عالم الشعور وعالم السلوك .
والسورة كلها في هذا الاتجاه . حتى الآيات التشريعية التنظيمية الواردة في آخرها عن معاملة المهاجرات المؤمنات ، ومبايعة من يدخلن في الإسلام ، والفصل بين المؤمنات وأزواجهن من الكفار . وبين المؤمنين وزوجاتهم من الكوافر . . فكلها تنظيمات منبثقة من ذلك التوجيه العام .
ثم ختام السورة كما بدأت بالنهي عن موالاة أعداء الله ، ممن غضب عليهم الله ، سواء من المشركين أو من اليهود . ليتم التميز والانفراد والمفاصلة من جميع الوشائج والروابط غير رابطة العقيدة وغير وشيجة الإيمان . .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم ، أن تؤمنوا بالله ربكم . إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم؛ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل . إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ، وودوا لو تكفرون } . .
تبدأ السورة بذلك النداء الودود الموحي : { يا أيها الذين آمنوا } . . نداء من ربهم الذي آمنوا به ، يدعوهم باسم الإيمان الذي ينسبهم إليه .
يدعوهم ليبصرهم بحقائق موقفهم ، ويحذرهم حبائل أعدائهم ، ويذكرهم بالمهمة الملقاة على عاتقهم .
وفي مودة يجعل عدوهم عدوه ، وعدوه عدوهم :
{ لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } . .
فيشعر المؤمنين بأنهم منه وإليه . يعاديهم من يعاديه . فهم رجاله المنتسبون إليه الذين يحملون شارته في هذه الأرض ، وهم أوداؤه وأحباؤه . فلا يجوز أن يلقوا بالمودة إلى أعدائهم وأعدائه .
ويذكرهم بجريرة هؤلاء الأعداء عليهم وعلى دينهم وعلى رسولهم ، وعدوانهم على هذا كله في تجن وظلم :
{ وقد كفروا بما جاءكم من الحق . يخرجون الرسول وإياكم . أن تؤمنوا بالله ربكم } . .
فماذا أبقوا بعد هذه الجرائر الظالمة للموالاة والمودة؟ كفروا بالحق . وأخرجوا الرسول والمؤمنين ، لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله ربهم؟ إنه يهيج في قلوب المؤمنين هذه الذكريات المرتبطة بعقيدتهم . وهي التي حاربهم المشركون من أجلها ، لا من أجل أي سبب آخر . ويبرز القضية التي عليها الخلاف والخصومة والحرب . فهي قضية العقيدة دون سواها . قضية الحق الذي كفروا به والرسول الذي أخرجوه ، والإيمان الذي من أجله أخرجوهم .
وإذا تمحضت القضية هكذا وبرزت ، ذكّرهم بأنه لا محل إذن للمودة بينهم وبين المشركين إن كانوا قد خرجوا من ديارهم ابتغاء رضوان الله وجهاداً في سبيله :
{ إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وإبتغاء مرضاتي } . .
فما يجتمع في قلب واحد أن يهاجر جهاداً في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ، مع مودة لمن أخرجه من أجل إيمانه بالله ، وهو عدو الله وعدو رسول الله!
ثم يحذرهم تحذيراً خفياً مما تكن قلوبهم ، وما يسرون به إلى أعدائهم وأعداء الله من المودة ، وهو مطلع على خفية القلوب وعلانيتها :
{ تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } .
ثم يهددهم تهديداً مخيفاً ، يثير في القلب المؤمن الوجل والمخافة :
{ ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } . .(1/43)
وهل يخيف المؤمن شيء ما يخيفه أن يضل سواء السبيل بعد الهداية والوصول؟!
وهذا التهديد وذلك التحذير يتوسطان تبصير المؤمنين بحقيقة أعدائهم وما يضمرون لهم من الشر والكيد . ثم تجيء البقية :
{ إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطون إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } . .
فلا تعرض لهم فرصة يتمكنون فيها من المسلمين حتى يتصرفوا معهم تصرف العدو الأصيل . ويوقعوا بهم ما يملكون من أذى ومن تنكيل بالأيدي وبالألسنة وبكل وسيلة وكل سبيل .
والأدهى من هذا كله والأشد والأنكى :
{ وودوا لو تكفرون } . .
وهذه عند المؤمن أشد من كل أذى ومن كل سوء يصيبه باليد أو اللسان . فالذي يود له أن يخسر هذا الكنز العزيز . كنز الإيمان . ويرتد إلى الكفر ، هو أعدى من كل عدو يؤذيه باليد وباللسان!
والذي يذوق حلاوة الإيمان بعد الكفر ، ويهتدي بنوره بعد الضلال ، ويعيش عيشة المؤمن بتصوراته ومداركه ومشاعره واستقامة طريقه وطمأنينة قلبه يكره العودة إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار .
أو أشد . فعدو الله هو الذي يود أن يرجعه إلى جحيم الكفر وقد خرج منه إلى جنة الإيمان ، وإلى فراغ الكفر الخاوي بعد عالم الإيمان المعمور .
لهذا يتدرج القرآن في تهييج قلوب المؤمنين ضد أعدائه وأعدائهم حتى يصل إلى قمته بقوله لهم عنهم : { وودوا لو تكفرون } . .
هذه هي الجولة الأولى بلمساتها المتعددة . ثم تليها جولة ثانية بلمسة واحدة تعالج مشاعر القرابة ووشائجها المتأصلة؛ والتي تشتجر في القلوب فتجرها جراً إلى المودة؛ وتنسيها تكاليف التميز بالعقيدة :
{ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم . يوم القيامة يفصل بينكم . والله بما تعملون بصير } .
إن المؤمن يعمل ويرجو الآخرة . ويزرع هنا وينتظر الحصاد هناك . فلمسة قلبه بما يكون في الآخرة من تقطيع وشائج القربى كلها إذا تقطعت وشيجة العقيدة ، من شأنها أن تهون عنده شأن هذه الوشائج في فترة الحياة الدنيا القصيرة؛ وتوجهه إلى طلب الوشيجة الدائمة التي لا تنقطع في دنيا ولا في آخرة :
ومن ثم يقول لهم : { لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } . . التي تهفون إليها وتتعلق قلوبكم بها؛ وتضطركم إلى موادة أعداء الله وأعدائكم وقاية لها كما حدث لحاطب في حرصه على أولاده وأمواله وكما تجيش خواطر آخرين غيره حول أرحامهم وأولادهم الذين خلفوهم في دار الهجرة . لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم . ذلك أنه { يوم القيامة يفصل بينكم } . . لأن العروة التي تربطكم مقطوعة . وهي العروة التي لا رباط بغيرها عند الله .
{ والله بما تعملون بصير } . . مطلع على العمل الظاهر والنية وراءه في الضمير .
ثم تأتي الجولة الثالثة فتصل المسلمين بأول هذه الأمة الواحدة : أمة التوحيد . وهذه القافلة الواحدة : قافلة الإيمان . فإذا هي ممتدة في الزمان ، متميزة بالإيمان ، متبرئة من كل وشيجة تنافي وشيجة العقيدة . . إنها الأمة الممتدة منذ إبراهيم . أبيهم الأول وصاحب الحنيفية الأولى . وفيه أسوة لا في العقيدة وحدها ، بل كذلك في السيرة ، وفي التجارب التي عاناها مع عاطفة القرابة ووشائجها؛ ثم خلص منها هو ومن آمن معه ، وتجرد لعقيدته وحدها :
{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه؛ إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ، ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده . إلا قول إبراهيم لأبيه ، لأستغفرن لك ، وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك المصير . ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ، واغفر لنا ربنا ، إنك أنت العزيز الحكيم . . لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر .
وينظر المسلم فإذا له نسب عريق ، وماض طويل ، وأسوة ممتدة على آماد الزمان ، وإذا هو راجع إلى إبراهيم ، لا في عقيدته فحسب ، بل في تجاربه التي عاناها كذلك . فيشعر أن له رصيداً من التجارب أكبر من رصيده الشخصي وأكبر من رصيد جيله الذي يعيش فيه . إن هذه القافلة الممتدة في شعاب الزمان من المؤمنين بدين الله ، الواقفين تحت راية الله ، قد مرت بمثل ما يمر به ، وقد انتهت في تجربتها إلى قرار اتخذته . فليس الأمر جديداً ولا مبتدعاً ولا تكليفاً يشق على المؤمنين . . ثم إن له لأمة طويلة عريضة يلتقي معها في العقيدة ويرجع إليها ، إذا انبتت الروابط بينه وبين أعداء عقيدته . فهو فرع من شجرة ضخمة باسقة عميقة الجذور كثيرة الفروع وارفة الظلال . . الشجرة التي غرسها أول المسلمين . . إبراهيم . .
مر إبراهيم والذين معه بالتجربة التي يعانيها المسلمون المهاجرون . وفيهم أسوة حسنة : { إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم ، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } . .(1/44)
فهي البراءة من القوم ومعبوداتهم وعباداتهم . وهو الكفر بهم والإيمان بالله . وهي العداوة والبغضاء لا تنقطع حتى يؤمن القوم بالله وحده . وهي المفاصلة الحاسمة الجازمة التي لا تستبقي شيئاً من الوشائج والأواصر بعد انقطاع وشيجة العقيدة وآصرة الإيمان . وفي هذا الفصل الخطاب في مثل هذه التجربة التي يمر بها المؤمن في أي جيل . وفي قرار إبراهيم والذين معه أسوة لخلفائهم من المسلمين إلى يوم الدين .
ولقد كان بعض المسلمين يجد في استغفار إبراهيم لأبيه وهو مشرك ثغرة تنفذ منها عواطفهم الحبيسة ومشاعرهم الموصولة بذوي قرباهم من المشركين . فجاء القرآن ليشرح لهم حقيقة موقف إبراهيم في قوله لأبيه : { لأستغفرن لك } . .
فلقد قال هذا قبل أن يستيقن من إصرار أبيه على الشرك . قاله وهو يرجو إيمانه ويتوقعه : { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } . . كما جاء في سورة أخرى .
ويثبت هنا أن إبراهيم فوض الأمر كله لله ، وتوجه إليه بالتوكل والإنابة والرجوع إليه على كل حال :
{ وما أملك لك من الله من شيء . ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير } . .
وهذا التسليم المطلق لله ، هو السمة الإيمانية الواضحة في إبراهيم يبرزها هنا ليوجه إليها قلوب أبنائه المسلمين . كحلقة من حلقات التربية والتوجيه بالقصص والتعقيب عليه ، وإبراز ما في ثناياه من ملامح وسمات وتوجيهات على طريقة القرآن الكريم .
ويستطرد لهذا في إثبات بقية دعاء إبراهيم ونجواه لمولاه :
{ ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } . .
فلا تسلطهم علينا . فيكون في ذلك فتنة لهم ، إذ يقولون : لو كان الإيمان يحمي أهله ما سلطنا عليهم وقهرناهم! وهي الشبهة التي كثيراً ما تحيك في الصدور ، حين يتمكن الباطل من الحق ، ويتسلط الطغاة على أهل الإيمان لحكمة يعلمها الله في فترة من الفترات .
والمؤمن يصبر للابتلاء ، ولكن هذا لا يمنعه أن يدعو الله ألا يصيبه البلاء الذي يجعله فتنة وشبهة تحيك في الصدور .
وبقية الدعاء :
{ واغفر لنا } . .
يقولها إبراهيم خليل الرحمن . إدراكاً منه لمستوى العبادة التي يستحقها منه ربه ، وعجزه ببشريته عن بلوغ المستوى الذي يكافئ به نعم الله وآلاءه ، ويمجد جلاله وكبرياءه فيطلب المغفرة من ربه ، ليكون في شعوره وفي طلبه أسوة لمن معه ولمن يأتي بعده .
ويختم دعاءه وإنابته واستغفاره يصف ربه بصفته المناسبة لهذا الدعاء :
{ ربنا إنك أنت العزيز الحكيم } . .
العزيز : القادر على الفعل ، الحكيم : فيما يمضي من تدبير .
وفي نهاية هذا العرض لموقف إبراهيم والذين معه ، وفي استسلام إبراهيم وإنابته يعود فيقرر الأسوة ويكررها؛ مع لمسة جديدة لقلوب المؤمنين :
{ لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد } . .
فالأسوة في إبراهيم والذين معه متحققة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر . هؤلاء هم الذين يدركون قيمة التجربة التي عاناها هذا الرهط الكريم ، ويجدون فيها أسوة تتبع ، وسابقة تهدي . فمن كان يرجو الله واليوم الآخر فليتخذ منها أسوة . . وهو تلميح موح للحاضرين من المؤمنين .
فأما من يريد أن يتولى عن هذا المنهج . من يريد أن يحيد عن طريق القافلة . من يريد أن ينسلخ من هذا النسب العريق . فما بالله من حاجة إليه سبحانه { فإن الله هو الغني الحميد } . .
وتنتهي الجولة وقد عاد المؤمنون أدراجهم إلى أوائل تاريخهم المديد ، ورجعوا بذكرياتهم إلى نشأتهم في الأرض؛ وعرفوا تجاربهم المذخورة لهم في الأجيال المتطاولة ، ورأوا القرار الذي انتهى إليه من مروا بهذه التجربة؛ ووجدوها طريقاً معبدة من قبل ليسوا هم أول السالكين فيها .
والقرآن الكريم يؤكد هذا التصور ويكرره ليتصل ركب المؤمنين ، فلا يشعر بالغربة أو الوحشة سالك ولو كان وحده في جيل! ولا يجد مشقة في تكليف نهض به السالكون معه في الطريق!
بعدئذ يعود فينسم على هذه القلوب التي يعلم الله ما بها من حنين ورغبة في زوال حالة العداء والجفوة التي تكلفهم هذه المشقة . ينسم عليها بنسمة الأمل الندية في أن ينضم هؤلاء الأعداء إلى راية الإسلام ، وإلى صفوف المسلمين؛ فيكون هذا هو الطريق لزوال الجفوة وقيام الود على أساسه الركين . . ثم يخفف عنهم مرة أخرى وهو يضع القاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم ، فيجعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان .
----------
الوسيط لسيد طنطاوي - (ج 1 / ص 4181)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
المراد بالقوم الذين غضب الله عليهم : المشركون ، بصفة عامة ، ويدخل فيهم دخولا أوليا اليهود ، لأن هذا الوصف كثيرا ما يطلق عليهم .(1/45)
فقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية ، أن قوما من فقراء المؤمنين ، كانوا يواصلون اليهود . ليصيبوا من ثمارهم ، وربما أخبروهم عن شىء من أخبار المسلمين ، فنزلت الآية لتنهاهم عن ذلك .
أى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان ، ينهاكم الله - تعالى - عن أن تتخذوا الأقوام الذين غضب الله عليهم أولياء ، وأصفيا ، بأن تفشوا إليهم أسرار المسلمين ، أو بأن تطلعوهم على مالا يصح الاطلاع عليه .
وقوله - تعالى - : { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور } تعليل للنهى عن موالاتهم ، وتنفير من الركون إليهم .
واليأس : فقدان الأمل فى الحصول على الشىء ، أو فى توقع حدوثه .
والكلام على حذف مضاف ، أى قد يئس هؤلاء اليهود من العمل لللآخرة وما فيها من ثواب ، وآثروا عليها الحياة الفانية . . . كما يئس الكفار من عودة موتاهم إلى الحياة مرة أخرى للحساب والجزاء ، لاعتقادهم بأنه لا بعث بعد الموت ، ولا ثواب ولا عقاب - كما حكى القرآن عنهم ذلك فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - { قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } فالمقصود من الآية الكريمة ، تشبيه حال هؤلاء اليهود فى شدة إعراضهم عن العمل للأخرة . . . بحال أولئك الكفار الذين أنكروا إنكارا تاما ، أن هناك بعثا للأموات الذين فارقوا الحياة ، ودفنوا فى قبورهم .
وعلى هذا الوجه يكون قوله - تعالى - : { مِنْ أَصْحَابِ القبور } متعلق بقوله { يَئِسُواْ } و { مِنْ } لابتداء الغاية .
ويصح أن يكون قوله - تعالى - : { مِنْ أَصْحَابِ القبور } بيانا للكفار ، فيكون المعنى : قد يئسوا من الآخرة ، وما فيها من جزاء . . كما يئس الكفار الذين ماتوا وسكنوا القبور ، من أن ينالوا شيئا - ولو قليلا - من الرحمة ، أو تخفيف العذاب عنهم ، أو العودة إلى الدنيا ليعملوا عملا صالحا غير الذى أرداهم وأهلكهم .
وعلى كلا القولين ، فالآية الكريمة تنهى المؤمنين عن موالاة قوم غضب الله عليهم ، بأبلغ أسلوب ، وأحكم بيان .
حيث وصفت هؤلاء القوم ، بأنهم قد أحاط بهم غضب الله - تعالى - بسبب فسوقهم عن أمره ، وإعراضهم عن طاعته ، وإنكارهم للدار الآخرة وما فيها من جزاء .
-------------
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . بعضهم أولياء بعض . ومن يتولهم منكم فإنه منهم . إن الله لا يهدي القوم الظالمين . فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ، يقولون : نخشى أن تصيبنا دائرة . فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين : ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم؟ حبطت أعمالهم ، فأصبحوا خاسرين } . .
ويحسن أن نبين أولاً معنى الولاية التي ينهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى . .
إنها تعني التناصر والتحالف معهم . ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم . فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين . إنما هو ولاء التحالف والتناصر ، الذي كان يلتبس على المسلمين أمره ، فيحسبون أنه جائز لهم ، بحكم ما كان واقعاً من تشابك المصالح والأواصر ، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات من اليهود قبل الإسلام ، وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة ، حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله .
عد ما تبين عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة . .
وهذا المعنى معروف محدد في التعبيرات القرآنية . وقد جاء في صدد الكلام عن العلاقة بين المسلمين في المدينة والمسلمين الذين لم يهاجروا إلى دار الإسلام . فقال الله سبحانه : { ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } . وطبيعي أن المقصود هنا ليس الولاية في الدين . فالمسلم ولي المسلم في الدين على كل حال . إنما المقصود هو ولاية التناصر والتعاون . فهي التي لا تقوم بين المسلمين في دار الإسلام والمسلمين الذين لم يهاجروا إليهم . . وهذا اللون من الولاية هو الذي تمنع هذه الآيات أن يقوم بين الذين آمنوا وبين اليهود والنصارى بحال ، بعد ما كان قائماًَ بينهم أول العهد في المدينة .
إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء ، واتخاذهم أولياء شيء آخر ، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين ، الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته ، بوصفه حركة منهجية واقعية ، تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض ، وفق التصور الإسلامي الذي يختلف في طبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها البشرية؛ وتصطدم - من ثم - بالتصورات والأوضاع المخالفة ، كما تصطدم بشهوات الناس وانحرافهم وفسوقهم عن منهج الله ، وتدخل في معركة لا حيلة فيها ، ولا بد منها ، لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده ، وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة . .(1/46)
وهؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة ، كما ينقصهم الوعي الذكي لطبيعة المعركة وطبيعة موقف أهل الكتاب فيها؛ ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيها ، فيخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه مكفولي الحقوق ، وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة . ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب . . بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة . . وأن هذا شأن ثابت لهم ، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه ، وأنهم لن يرضوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم . وأنهم مصرون على الحرب للإسلام وللجماعة المسلمة . وأنهم قد بدت البغضاء من أفواهم وما تخفي صدورهم أكبر . . إلى آخر هذه التقريرات الحاسمة .
إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب ، ولكنه منهي عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف معهم . وإن طريقه لتمكين دينه وتحقيق نظامه المتفرد لا يمكن أن يلتقي مع طريق أهل الكتاب ، ومهما أبدى لهم من السماحة والمودة فإن هذا لن يبلغ أن يرضوا له البقاء على دينه وتحقيق نظامه ، ولن يكفهم عن موالاة بعضهم لبعض في حربه والكيد له . .
وسذاجة أية سذاجة وغفلة أية غفلة ، أن نظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين! أمام الكفار والملحدين! فهم مع الكفار والملحدين ، إذا كانت المعركة مع المسلمين!!!
وهذه الحقائق الواعية يغفل عنها السذج منا في هذا الزمان وفي كل زمان؛ حين يفهمون أننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي أهل الكتاب في الأرض للوقوف في وجه المادية والإلحاد - بوصفنا جميعاً أهل دين! - ناسين تعليم القرآن كله؛ وناسين تعليم التاريخ كله .
فأهل الكتاب هؤلاء هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين : { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } . وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين ألبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة ، وكانوا لهم درعاً وردءاً . وأهل الكتاب هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام ، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس ، وهم الذي شردوا العرب المسلمين في فلسطين ، وأحلوا اليهود محلهم ، متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية! وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان . . في الحبشة والصومال واريتريا والجزائر ، ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية ، في يوغسلافيا والصين والتركستان والهند ، وفي كل مكان!
ثم يظهر بيننا من يظن - في بعد كامل عن تقريرات القرآن الجازمة - أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر . ندفع به المادية الإلحادية عن الدين!
إن هؤلاء لا يقرأون القرآن . وإذا قرأوه اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام؛ فظنوها دعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن .
إن هؤلاء لا يعيش الإسلام في حسهم ، لا بوصفه عقيدة لا يقبل الله من الناس غيرها ، ولا بوصفه حركة إيجابية تستهدف إنشاء واقع جديد في الأرض؛ تقف في وجه عداوات أهل الكتاب اليوم ، كما وقفت له بالأمس . الموقف الذي لا يمكن تبديله . لأنه الموقف الطبيعي الوحيد!
وندع هؤلاء في إغفالهم أو غفلتهم عن التوجيه القرآني ، لنعي نحن هذا التوجيه القرآني الصريح :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . . بعضهم أولياء بعض . . ومن يتولهم منكم فإنه منهم . إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . .
هذا النداء موجه إلى الجماعة المسلمة في المدينة - ولكنه في الوقت ذاته موجه لكل جماعة مسلمة تقوم في أي ركن من أركان الأرض إلى يوم القيامة . . موجه لكل من ينطبق عليه ذات يوم صفة : { الذين آمنوا } . .
ولقد كانت المناسبة الحاضرة إذ ذاك لتوجيه هذا النداء للذين آمنوا ، أن المفاصلة لم تكن كاملة ولا حاسمة بين بعض المسلمين في المدينه وبعض أهل الكتاب - وبخاصه اليهود - فقد كانت هناك علاقات ولاء وحلف ، وعلاقات اقتصاد وتعامل ، وعلاقات جيره وصحبه . . وكان هذا كله طبيعياً مع الوضع التاريخي والاقتصادي والاجتماعي في المدينة قبل الإسلام ، بين أهل المدينة من العرب وبين اليهود بصفة خاصة . . وكان هذا الوضع يتيح لليهود أن يقوموا بدورهم في الكيد لهذا الدين وأهله؛ بكل صنوف الكيد التي عددتها وكشفتها النصوص القرآنية الكثيرة؛ والتي سبق استعراض بعضها في الأجزاء الخمسة الماضية من هذه الظلال؛ والتي يتولى هذا الدرس وصف بعضها كذلك في هذه النصوص .(1/47)
ونزل القرآن ليبث الوعي اللازم للمسلم في المعركة التي يخوضها بعقيدته ، لتحقيق منهجه الجديد في واقع الحياة . ولينشئ في ضمير المسلم تلك المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من لا ينتمي إلى الجماعة المسلمة ولا يقف تحت رايتها الخاصة . المفاصلة التي لا تنهي السماحة الخلقية . فهذه صفة المسلم دائماً . ولكنها تنهي الولاء الذي لا يكون في قلب المسلم إلا لله ورسوله والذين آمنوا . . الوعي والمفاصلة اللذان لا بد منهما للمسلم في كل أرض وفي كل جيل .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء . . بعضهم أولياء بعض . ومن يتولهم منكم فإنه منهم . إن الله لا يهدي القوم الظالمين } .
بعضهم أولياء بعض . . إنها حقيقة لا علاقة لها بالزمن . . لأنها حقيقة نابعة من طبيعة الأشياء . . إنهم لن يكونوا أولياء للجماعة المسلمة في أي أرض ولا في أي تاريخ . . وقد مضت القرون تلو القرون ترسم مصداق هذه القولة الصادقة . . لقد ولي بعضهم بعضاً في حرب محمد - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة في المدينة . وولي بعضهم بعضاً في كل فجاج الأرض ، على مدار التاريخ . . ولم تختل هذه القاعدة مرة واحدة؛ ولم يقع في هذه الأرض إلا ما قرره القرآن الكريم ، في صيغة الوصف الدائم ، لا الحادث المفرد . . واختيار الجملة الأسمية على هذا النحو . . بعضهم أولياء بعض . . ليست مجرد تعبير! إنما هي اختيار مقصود للدلالة على الوصف الدائم الأصيل!
ثم رتب على هذه الحقيقة الأساسية نتائجها . . فإنه إذا كان اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض فإنه لا يتولاهم إلا من هو منهم . والفرد الذي يتولاهم من الصف المسلم ، يخلع نفسه من الصف ويخلع عن نفسه صفة هذا الصف « الإسلام » وينضم إلى الصف الآخر . لأن هذه هي النتيجة الطبيعية الواقعية :
{ ومن يتولهم منكم فإنه منهم } . .
وكان ظالماً لنفسه ولدين الله وللجماعة المسلمة . . وبسبب من ظلمه هذا يدخله الله في زمرة اليهود والنصارى الذين أعطاهم ولاءه . ولا يهديه إلى الحق ولا يرده إلى الصف المسلم :
{ إن الله لا يهدي القوم الظالمين } . .
لقد كان هذا تحذيراً عنيفاً للجماعة المسلمة في المدينة . ولكنه تحذير ليس مبالغاً فيه . فهو عنيف . نعم؛ ولكنه يمثل الحقيقة الواقعة . فما يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى - وبعضهم أولياء بعض - ثم يبقى له إسلامه وإيمانه ، وتبقى له عضويته في الصف المسلم ، الذين يتولى الله ورسوله والذين آمنوا . . فهذا مفرق الطريق . .
وما يمكن أن يتميع حسم المسلم في المفاصلة الكاملة بينة وبين كل من ينهج غير منهج الإسلام؛ وبينه وبين كل من يرفع راية غير راية الإسلام؛ ثم يكون في وسعه بعد ذلك أن يعمل عملاً ذا قيمة في الحركة الإسلامية الضخمة التي تستهدف - أول ما تستهدف - إقامة نظام واقعي في الأرض فريد؛ يختلف عن كل الأنظمة الأخرى؛ ويعتمد على تصور متفرد كذلك من كل التصورات الأخرى .(1/48)
إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم الذي لا أرجحة فيه ولا تردد بأن دينه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس بعد رسالة محمد ص وبأن منهجه الذي كلفه الله أن يقيم الحياة عليه منهج متفرد ; لا نظير له بين سائر المناهج ; ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخر ; ولا يمكن أن يقوم مقامه منهج آخر ; ولا تصلح الحياة البشرية ولا تستقيم إلا أن تقوم على هذا المنهج وحده دون سواه ; ولا يعفيه الله ولا يغفر له ولا يقبله إلا إذا هو بذل جهد طاقته في إقامة هذا المنهج بكل جوانبه الاعتقادية والاجتماعية ; لم يأل في ذلك جهدا ولم يقبل من منهجه بديلا ولا في جزء منه صغير ولم يخلط بينه وبين أي منهج آخر في تصور اعتقادي ولا في نظام اجتماعي ولا في أحكام تشريعية إلا ما استبقاه الله في هذا المنهج من شرائع من قبلنا من أهل الكتاب إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو وحده الذي يدفعه للاضطلاع بعبء النهوض بتحقيق منهج الله الذي رضيه للناس ; في وجه العقبات الشاقة والتكاليف المضنية والمقاومة العنيدة والكيد الناصب والألم الذي يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان وإلا فما العناء في أمر يغني عنه غيره مما هو قائم في الأرض من جاهلية سواء كانت هذه الجاهلية ممثلة في وثنية الشرك أو في انحراف أهل الكتاب أو في الإلحاد السافر بل ما العناء في إقامة المنهج الإسلامي إذا كانت الفوارق بينه وبين مناهج أهل الكتاب أو غيرهم قليلة ; يمكن الالتقاء عليها بالمصالحة والمهادنة إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية يخطئون فهم معنى الأديان كما يخطئون فهم معنى التسامح فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله والتسامح يكون في المعاملات الشخصية لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي إنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم بأن الله لا يقبل دينا إلا الإسلام وبأن عليه أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام ولا يقبل دونه بديلا ; ولا يقبل فيه تعديلا ولو طفيفا هذا اليقين الذي ينشئه القرآن الكريم وهو يقرر إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم وفي القرآن كلمة الفصل ولا على المسلم من تميع المتميعين وتمييعهم لهذا اليقين ويصور السياق القرآني تلك الحالة التي كانت واقعة ; والتي ينزل القرآن من أجلها بهذا التحذير فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة روى ابن جرير قال حدثنا أبو كريب حدثنا إدريس قال سمعت أبي عن عطية بن سعد قال جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله ص فقال يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم ; وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي رأس النفاق إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي فقال رسول الله ص لعبد الله بن أبي « يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة ابن الصامت فهو لك دونه » قال قد قبلت فأنزل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء وقال ابن جرير حدثنا هناد حدثنا يونس بن بكير حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري قال لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر فقال مالك بن الصيف أغركم أن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال أما لو أصررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا فقال عبادة بن الصامت يا رسول الله إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم كثيرا سلاحهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي لكني لا أبرأ من ولاية يهود إني رجل لا بد لي منهم فقال رسول الله ص « يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة ابن الصامت فهو لك دونه » فقال إذن أقبل قال محمد بن إسحق فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله ص بنو قينقاع فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال فحاصرهم رسول الله ص حتى نزلوا على حكمه فقام إليه عبدالله بن أبي بن سلول حين أمكنة الله منهم فقال يا محمد أحسن في موالي وكانوا حلفاء الخزرج قال فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال يا محمد أحسن في موالي قال فأعرض عنه قال فأدخل يده في جيب درع رسول الله ص فقال له رسول الله ص « أرسلني » وغضب رسول الله ص حتى رأوا لوجهه ظللا ثم قال « ويحك أرسلني » قال لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر وثلاثمائه دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة إني امرؤ أخشى الدوائر قال فقال رسول الله ص « هم لك » قال(1/49)
محمد بن إسحق فحدثني أبي إسحق بن يسار عن عبادة عن الوليد بن عبادة بن الصامت قال لما حاربت بنو قينقاع رسول الله ص تشبث بأمرهم عبدالله بن أبى وقام دونهم ; ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله ص وكان أحد بني عوف بن الخزرج له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي فجعلهم إلى رسول الله ص وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وقال يا رسول الله أبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وأتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم ففيه وفي عبدالله بن أبي نزلت الآية في المائدة يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض إلى قوله ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبى زيادة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عودة عن أسامة بن زيد قال دخلت مع رسول الله ص على عبدالله بن أبى نعوده فقال له النبي ص « قد كنت أنهاك عن حب يهود » فقال عبدالله فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن إسحق فهذه الأخبار في مجموعها تشير إلى تلك الحالة التي كانت واقعة في المجتمع المسلم ; والمتخلفة عن الأوضاع التي كانت قائمة في المدينة قبل الإسلام ; وكذلك عن التصورات التي لم تكن قد حسمت في قضية العلاقات التي يمكن أن تقوم بين الجماعة المسلمة واليهود والتي لا يمكن أن تقوم غير أن الذي يلفت النظر أنها كلها تتحدث عن اليهود ولم يجى ء ذكر في الوقائع للنصارى ولكن النص يجمل اليهود والنصارى ذلك أنه بصدد إقامة تصور دائم وعلاقة دائمة وأوضاع دائمة بين الجماعة المسلمة وسائر الجماعات الأخرى سواء من أهل الكتاب أو من المشركين كما سيجيء في سياق هذا الدرس ومع اختلاف مواقف اليهود من المسلمين عن مواقف النصارى في جملتها في العهد النبوي ومع إشارة القرآن الكريم في موضع آخر من السورة إلى هذا الاختلاف في قوله تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى الخ مع هذا الاختلاف الذي كان يومذاك فإن النص هنا يسوي بين اليهود والنصارى كما يسوي النص القادم بينهم جميعا وبين الكفار فيما يختص بقضية المحالفة والولاء ذلك أن هذه القضية ترتكز على قاعدة أخرى ثابتة هي أن ليس للمسلم ولاء ولا حلف إلا مع المسلم ; وليس للمسلم ولاء إلا لله ولرسوله وللجماعة المسلمة ويستوي بعد ذلك كل الفرق في هذا الأمر مهما اختلفت مواقفهم من المسلمين في بعض الظروف على أن الله سبحانه وهو يضع للجماعة المسلمة هذه القاعدة العامة الحازمة الصارمة كان علمه يتناول الزمان كله لا تلك الفترة الخاصة من حياة رسول الله ص وملابساتها الموقوتة وقد أظهر التاريخ الواقع فيما بعد أن عداء النصارى لهذا الدين وللجماعة المسلمة في معظم بقاع الأرض لم يكن أقل من عداء اليهود وإذا نحن استثنينا موقف نصارى العرب ونصارى مصر في حسن استقبال الإسلام فإننا نجد الرقعة النصرانية في الغرب قد حملت للإسلام في تاريخها كله منذ أن احتكت به من العداوة والضغن وشنت عليه من الحرب والكيد ما لا يفترق عن حرب اليهود وكيدهم في أي زمان حتى الحبشة التي أحسن عاهلها استقبال المهاجرين المسلمين واستقبال الإسلام عادت فإذا هي أشد حربا على الإسلام والمسلمين من كل أحد ; لا يجاريها في هذا إلا اليهود وكان الله سبحانه يعلم الأمر كله فوضع للمسلم هذه القاعدة العامة بغض النظر عن واقع الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها وملابساتها الموقوتة وبغض النظر عما يقع مثلها في بعض الأحيان هنا وهناك إلى آخر الزمان وما يزال الإسلام والذين يتصفون به ولو أنهم ليسوا من الإسلام في شيء يلقون من عنت الحرب المشبوبة عليهم وعلى عقيدتهم من اليهود والنصارى في كل مكان على سطح الأرض ما يصدق قول الله تعالى بعضهم أولياء بعض وما يحتم أن يتدرع المسلمون الواعون بنصيحة ربهم لهم بل بأمره الجازم ونهيه القاطع ; وقضائه الحاسم في المفاصلة الكاملة بين أولياء الله ورسوله وكل معسكر آخر لا يرفع راية الله ورسوله إن الإسلام يكلف المسلم أن يقيم علاقاته بالناس جميعا على أساس العقيدة فالولاء والعداء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة ومن ثم لا يمكن أن يقوم الولاء وهو التناصر بين المسلم وغير المسلم ; إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة ولا حتى أمام الإلحاد مثلا كما يتصور بعض السذج منا وبعض من لا يقرأون القرآن وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه إن بعض من لا يقرأون القرآن ولا يعرفون حقيقة الإسلام ; وبعض المخدوعين أيضا يتصورون أن الدين كله دين كما أن الإلحاد كله إلحاد وأنه يمكن إذن أن يقف التدين بجملته في وجه الإلحاد لأن الإلحاد ينكر الدين كله ويحارب التدين على الإطلاق ولكن الأمر ليس كذلك في التصور الإسلامي ; ولا في حس(1/50)
المسلم الذي يتذوق الإسلام ولا يتذوق الإسلام إلا من يأخذه عقيدة وحركة بهذه العقيدة لإقامة النظام الإسلامي إن الأمر في التصور الإسلامي وفي حس المسلم واضح محدد الدين هو الإسلام وليس هناك دين غيره يعترف به الإسلام لأن الله سبحانه يقول هذا يقول إن الدين عند الله الإسلام ويقول ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وبعد رسالة محمد ص لم يعد هناك دين يرضاه الله ويقبله من أحد إلا هذا الإسلام في صورته التي جاء بها محمد ص وما كان يقبل قبل بعثة محمد من النصارى لم يعد الآن يقبل كما أن ما كان يقبل من اليهود قبل بعثة عيسى عليه السلام لم يعد يقبل منهم بعد بعثته ووجود يهود ونصارى من أهل الكتاب بعد بعثه محمد ص ليس معناه أن الله يقبل منهم ما هم عليه ; أو يعترف لهم بأنهم على دين إلهي لقد كان ذلك قبل بعثة الرسول الأخير أما بعد بعثته فلا دين في التصور الإسلامي وفي حس المسلم إلا الإسلام وهذا ما ينص عليه القرآن نصا غير قابل للتأويل إن الإسلام لا يكرههم على ترك معتقداتهم واعتناق الإسلام لأنه لا إكراه في الدين ولكن هذا ليس معناه أنه يعترف بما هم عليه ديناً ويراهم على دين ومن ثم فليس هناك جبهه تدين يقف معها الإسلام في وجه الإلحاد هناك دين هو الإسلام وهناك لا دين هو غير الإسلام ثم يكون هذا اللادين عقيدة أصلها سماوي ولكنها محرفه أو عقيده أصلها وثني باقيه على وثنيتها أو إلحاداً ينكر الأديان تختلف فيما بينها كلها ولكنها تختلف كلها مع الإسلام ولا حلف بينها وبين الإسلام ولا ولاء والمسلم يتعامل مع أهل الكتاب هؤلاء ; وهو مطالب بإحسان معاملتهم كما سبق ما لم يؤذوه في الدين ; ويباح له أن يتزوج المحصنات منهن على خلاف فقهي فيمن تعتقد بألوهية المسيح أو بنوته وفيمن تعتقد التثليث أهي كتابيه تحل أم مشركة تحرم وحتى مع الأخذ بمبدأ تحليل النكاح عامه فإن حسن المعامله وجواز النكاح ليس معناها الولاء والتناصر في الدين ; وليس معناها اعتراف المسلم بأن دين أهل الكتاب بعد بعثة محمد ص هو دين يقبله الله ; ويستطيع الإسلام أن يقف معه في جبهه واحدة لمقاومة الإلحاد إن الإسلام قد جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب ; كما جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين سواء ودعاهم إلى الإسلام جميعاً لأن هذا هو الدين الذي لا يقبل الله غيره من الناس جميعاً ولما فهم اليهود أنهم غير مدعوين إلى الإسلام وكبر عليهم أن يدعوا إليه جابههم القرآن الكريم بأن الله يدعوهم إلى الإسلام فإن تولوا عنه فهم كافرون والمسلم مكلف أن يدعوا أهل الكتاب إلى الإسلام كما يدعو الملحدين والوثنيين سواء وهو غير مأذون في أن يكره أحداً من هؤلاء ولا هؤلاء على الإسلام لأن العقائد لا تنشأ في الضمائر بالإكراه فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه هو كذلك لا ثمره له ولا يستقيم أن يعترف المسلم بأن ما عليه أهل الكتاب بعد بعثة محمد ص هو دين يقبله الله ثم يدعوهم مع ذلك إلى الإسلام إنه لا يكون مكلفاً بدعوتهم إلى الإسلام إلا على أساس واحد ; هو أنه لا يعترف بأن ما هم عليه دين وأنه يدعوهم إلى الدين وإذا تقررت هذه البديهيه فإنه لا يكون منطقياً مع عقيدته إذا دخل في ولاء أو تناصر للتمكين للدين في الأرض مع من لا يدين بالإسلام إن هذه القضيه في الإسلام قضيه اعتقاديه إيمانيه كما أنها قضيه تنظيميه حركيه من ناحيه أنها قضيه إيمانيه اعتقاديه نحسب أن الأمر قد صار واضحاً بهذا البيان اذي أسلفناه وبالرجوع إلى النصوص القرآنيه القاطعه بعدم قيام ولاء بين المسلمين وأهل الكتاب ومن ناحية أنها قضية تنظيمية حركية الأمر واضح كذلك فإذا كان سعي المؤمن كله ينبغي أن يتجه إلى إقامة منهج الله في الحياة وهو المنهج الذي ينص عليه الإسلام كما جاء به محمد ص بكل تفصيلات وجوانب هذا المنهج وهي تشمل كل نشاط الإنسان في الحياة فكيف يمكن إذن أن يتعاون المسلم في هذا السعي مع من لا يؤمن بالإسلام دينا ومنهجا ونظاما وشريعة ; ومن يتجه في سعيه إلى أهداف أخرى إن لم تكن معادية للإسلام وأهدافه فهي على الأقل ليست أهداف الإسلام إذ الإسلام لا يعترف بهدف ولا عمل لا يقوم على أساس العقيدة مهما بدا في ذاته صالحا والذين كفروا أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف والإسلام يكلف المسلم أن يخلص سعيه كله للإسلام ولا يتصور إمكان انفصال أية جزئية في السعي اليومي في حياة المسلم عن الإسلام لا يتصور إمكان هذا إلا من لا يعرف طبيعة الإسلام وطبيعة المنهج الإسلامي ولا يتصور أن هناك جوانب في الحياة خارجة عن هذا المنهج يمكن التعاون فيها مع من يعادي الإسلام أو لا يرضى من المسلم إلا أن يترك إسلامه كما نص الله في كتابه على ما يطلبه اليهود والنصارى من المسلم ليرضوا عنه إن هناك استحالة اعتقادية كما أن هناك استحالة عملية على السواء ولقد كان اعتذار عبدالله بن أبي بن سلول وهو من الذين في قلوبهم مرض عن مسارعته واجتهاده في الولاء(1/51)
ليهود والاستمساك بحلفه معها هي قوله إنني رجل أخشى الدوائر إني أخشى أن تدور علينا الدوائر وأن تصيبنا الشدة وأن تنزل بنا الضائقة وهذه الحجة هي علامة مرض القلب وضعف الإيمان فالولي هو الله ; والناصر هو الله ; والاستنصار بغيره ضلالة كما أنه عبث لا ثمرة له ولكن حجة ابن سلول هي حجة كل بن سلول على مدار الزمان ; وتصوره هو تصور كل منافق مريض القلب لا يدرك حقيقة الإيمان وكذلك نفر قلب عبادة بن الصامت من ولاء يهود بعد ما بدا منهم ما بدا لأنه قلب مؤمن فخلع ولاء اليهود وقذف به حيث تلقاه وضم عليه صدره وعض عليه بالنواجذ عبدالله بن أبى بن سلول إنهما نهجان مختلفان ناشئان عن تصورين مختلفين وعن شعورين متباينين ومثل هذا الاختلاف قائم على مدار الزمان بين قلب مؤمن وقلب لا يعرف الإيمان ويهدد القرآن المستنصرين بأعداء دينهم المتألبين عليهم المنافقين الذين لا يخلصون لله اعتقادهم ولا ولاءهم ولا اعتمادهم يهددهم برجاء الفتح أو أمر الله الذي يفصل في الموقف ; أو يكشف المستور من النفاق فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين وعندئذ عند الفتح سواء كان هو فتح مكة أو كان الفتح بمعنى الفصل أو عند مجيء أمر الله يندم أولئك الذين في قلوبهم مرض على المسارعة والاجتهاد في ولاء اليهود والنصارى وعلى النفاق الذي انكشف أمره وعندئذ يعجب الذين آمنوا من حال المنافقين ويستنكرون ما كانوا فيه من النفاق وما صاروا إليه من الخسران(1/52)
ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ولقد جاء الله بالفتح يوما وتكشفت نوايا وحبطت أعمال وخسرت فئات ونحن على وعد من الله قائم بأن يجيء الفتح كلما استمسكنا بعروة الله وحده ; وكلما أخلصنا الولاء لله وحده وكلما وعينا منهج الله وأقمنا عليه تصوراتنا وأوضاعنا وكلما تحركنا في المعركة على هدى الله وتوجيهه فلم نتخذ لنا وليا إلا الله ورسوله والذين آمنوا الدرس الثاني صفات الذين ينصرون دين الله الجديرين بالولاية وإذ ينتهي السياق من النداء الأول للذين آمنوا أن ينتهوا عن موالاة اليهود والنصارى وأن يحذروا أن يصيروا منهم بالولاء لهم وأن يرتدوا بذلك عن الإسلام وهم لا يشعرون أو لا يقصدون يرسل بالنداء الثاني يهدد من يرتد منهم عن دينه بهذا الولاء أو بسواه من الأسباب بأنه ليس عند الله بشيء وليس بمعجز الله ولا ضار بدينه وأن لدين الله أولياء وناصرين مدخرين في علم الله إن ينصرف هؤلاء يجيء بهؤلاء ويصور ملامح هذه العصبة المختارة المدخرة في علم الله لدينه وهي ملامح محببة جميلة وضيئة ويبين جهة الولاء الوحيدة التي يتجه إليها المسلم بولائه ويختم هذا النداء بتقرير النهاية المحتومة للمعركة التي يخوضها حزب الله مع الأحزاب والتي يتمتع بها من يخلصون ولاءهم لله ولرسوله وللمؤمنين يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون إن تهديد من يرتد عن دينه من الذين آمنوا على هذه الصورة وفي هذا المقام ينصرف ابتداء إلى الربط بين موالاة اليهود والنصارى وبين الارتداد عن الإسلام وبخاصة بعد ما سبق من اعتبار من يتولاهم واحدًا منهم منسلخا من الجماعة المسلمة منضما إليهم ومن يتولهم منكم فإنه منهم وعلى هذا الاعتبار يكون هذا النداء الثاني في السياق توكيدا وتقريرا للنداء الأول يدل على هذا كذلك النداء الثالث الذي يلي هذا النداء والسياق وهو منصب على النهي عن موالاة أهل الكتاب والكفار يجمع بينهم على هذا النحو الذي يفيد أن موالاتهم كموالاة الكفار سواء وأن تفرقة الإسلام في المعاملة بين أهل الكتاب والكفار لا تتعلق بقضية الولاء إنما هي في شئون أخرى لا يدخل فيها الولاء يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إن اختيار الله للعصبة المؤمنة لتكون أداة القدر الإلهي في إقرار دين الله في الأرض وتمكين سلطانه في حياة البشر وتحكيم منهجه في أوضاعهم وأنظمتهم وتنفيذ شريعته في أقضيتهم وأحوالهم وتحقيق الصلاح والخير والطهارة والنماء في الأرض بذلك المنهج وبهذه الشريعة إن هذا الاختيار للنهوض بهذا الأمر هو مجرد فضل الله ومنته فمن شاء أن يرفض هذا الفضل وأن يحرم نفسه هذه المنة فهو وذاك والله غنى عنه وعن العالمين والله يختار من عباده من يعلم أنه أهل لذلك الفضل العظيم والصورة التي يرسمها للعصبة المختارة هنا صورة واضحة السمات قوية الملامح وضيئة جذابة حبيبة للقلوب فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم الحب هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش هو الذي يربط القوم بربهم الودود وحب الله لعبد من عبيده أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله سبحانه بصفاته كما وصف نفسه وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها أجل لا يقدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي الذي يعرف من هو الله من هو صانع هذا الكون الهائل وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير من هو في عظمته ومن هو في قدرته ومن هو في تفرده ومن هو في ملكوته من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب والعبد من صنع يديه سبحانه وهو الجليل العظيم الحي الدائم الأزلى الأبدي الأول والآخر والظاهر والباطن وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما وفضلا غامرا جزيلا فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد الذي الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه هو إنعام هائل عظيم وفضل غامر جزيل وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا فوق التعبير أن يصفه فإن حب العبد لربه أمر قلما استطاعت العبارة أن تصوره إلا في فلتات قليلة من كلام المحبين وهذا هو الباب الذي تفوق فيه الواصلون من رجال التصوف الصادقين وهم(1/53)
قليل من بين ذلك الحشد الذي يلبس مسوح التصوف ويعرف في سجلهم الطويل ولا زالت أبيات رابعة العدوية تنقل إلى حسي مذاقها الصادق لهذا الحب الفريد وهي تقول فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد والحب من العبد للمنعم المتفضل يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض وينطبع في كل حي وفي كل شيء فإذا هو جو وظل يغمران هذا الوجود ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلا في ذلك العبد المحب المحبوب والتصور الإسلامي يربط بين المؤمن وربه بهذا الرباط العجيب الحبيب وليست مرة واحدة ولا فلتة عابرة إنما هو أصل وحقيقة وعنصر في هذا التصور أصيل إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًا إن ربي رحيم ودود وهو الغفور الودود وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان والذين آمنوا أشد حبا لله قل إن كنم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وغيرها كثير وعجبا لقوم يمرون على هذا كله ليقولوا إن التصور الإسلامي تصور جاف عنيف يصور العلاقة بين الله والإنسان علاقة قهر وقسر وعذاب وعقاب وجفوة وانقطاع لا كالتصور الذي يجعل المسيح ابن الله وأقنوم الإله فيربط بين الله والناس في هذا الازدواج إن نصاعة التصور الإسلامي في الفصل بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية لا تجفف ذلك الندى الحبيب بين الله والعبيد فهي علاقة الرحمة كما أنها علاقة العدل وهي علاقة الود كما أنها علاقة التجريد وهي علاقة الحب كما أنها علاقة التنزية إنه التصور الكامل الشامل لكل حاجات الكينونة البشرية في علاقتها برب العالمين وهنا في صفة العصبة المؤمنة المختارة لهذا الدين يرد ذلك النص العجيب يحبهم ويحبونه ويطلق شحنته كلها في هذا الجو الذي يحتاج إليه القلب المؤمن وهو يضطلع بهذا العبء الشاق شاعرا أنه الاختيار والتفضل والقربى من المنعم الجليل ثم يمضي السياق يعرض بقية السمات أذلة على المؤمنين وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين فالمؤمن ذلول للمؤمن غير عصي عليه ولا صعب هين لين ميسر مستجيب سمح ودود وهذه هي الذلة للمؤمنين وما في الذلة للمؤمنين من مذلة ولا مهانة إنما هي الأخوة ترفع الحواجز وتزيل التكلف وتخلط النفس بالنفس فلا يبقى فيها ما يستعصي وما يحتجز دون الآخرين إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيزة هي التي تجعله شموسا عصيا شحيحا على أخيه فأما حين يخلط نفسه بنفوس العصبة المؤمنة معه فلن يجد فيها ما يمنعه وما يستعصي به وماذا يبقى له في نفسه دونهم وقد اجتمعوا في الله إخوانا ; يحبهم ويحبونه ويشيع هذا الحب العلوي بينهم ويتقاسمونه أعزة على الكافرين فيهم على الكافرين شماس وإباء واستعلاء ولهذه الخصائص هنا موضع إنها ليست العزة للذات ولا الاستعلاء للنفس إنما هي العزة للعقيدة والاستعلاء للراية التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين إنها الثقة بأن ما معهم هو الخير وأن دورهم هو أن يطوعوا الآخرين للخير الذي معهم لا أن يطوعوا الآخرين لأنفسهم ولا أن يطوعوا أنفسهم للآخرين وما عند الآخرين ثم هي الثقة بغلبة دين الله على دين الهوى ; وبغلبة قوة الله على تلك القوى ; وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك في أثناء الطريق الطويل يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم فالجهاد في سبيل الله لإقرار منهج الله في الأرض وإعلان سلطانه على البشر وتحكيم شريعته في الحياة لتحقيق الخير والصلاح والنماء للناس هي صفة العصبة المؤمنة التي يختارها الله ليصنع بها في الأرض ما يريد وهم يجاهدون في سبيل الله ; لا في سبيل أنفسهم ; ولا في سبيل قومهم ; ولا في سبيل وطنهم ; ولا في سبيل جنسهم في سبيل الله لتحقيق منهج الله وتقرير سلطانه وتنفيذ شريعته وتحقيق الخير للبشر عامة عن هذا الطريق وليس لهم في هذا الأمر شيء وليس لأنفسهم من هذا حظ إنما هو لله وفي سبيل الله بلا شريك وهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم وفيم الخوف من لوم الناس وهم قد ضمنوا حب رب الناس وفيم الوقوف عند مألوف الناس وعرف الجيل ومتعارف الجاهلية وهم يتبعون سنة الله ويعرضون منهج الله للحياة إنما يخشى لوم الناس من يستمد مقاييسه وأحكامه من أهواء الناس ; ومن يستمد عونه ومدده من عندالناس ; أما من يرجع إلى موازين الله ومقاييسه وقيمه ليجعلها تسيطر على أهواء الناس وشهواتهم وقيمهم ; وأما من يستمد قوته وعزته من قوة الله وعزته فما يبالي ما يقول الناس وما يفعلون كائنا هؤلاء الناس ما كانوا ; وكائنا واقع هؤلاء الناس ما كان وكائنة حضارة هؤلاء الناس وعلمهم وثقافتهم ما تكون إننا نحسب حسابا لما يقول الناس ; ولما يفعل الناس ; ولما يملك الناس ; ولما يصطلح عليه الناس ; ولما يتخذه الناس في واقع حياتهم من قيم(1/54)
واعتبارات وموازين لأننا نغفل أو نسهو عن الأصل الذي يجب أن نرجع إليه في الوزن والقياس والتقويم إنه منهج الله وشريعته وحكمه فهو وحده الحق وكل ما خالفة فهو باطل ; ولو كان عرف ملايين الملايين ولو أقرته الأجيال في عشرات القرون إنه ليست قيمة أي وضع أو أي عرف أو أي تقليد أو أية قيمة أنه موجود ; وأنه واقع ; وأن ملايين البشر يعتنقونه ويعيشون به ويتخذونه قاعدة حياتهم فهذا ميزان لا يعترف به التصور الإسلامي إنما قيمة أي وضع وأي عرف وأي تقليد وأية قيمة أن يكون لها أصل في منهج الله الذي منه وحده تستمد القيم والموازين ومن هنا تجاهد العصبة المؤمنة في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم فهذه سمة المؤمنين المختارين ثم إن ذلك الاختيار من الله وذلك الحب المتبادل بينه وبين المختارين وتلك السمات التي يجعلها طابعهم وعنوانهم وهذا الاطمئنان إلى الله في نفوسهم والسير على هداه في جهادهم ذلك كله من فضل الله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يعطي عن سعة ويعطي عن علم وما أوسع هذا العطاء ; الذي يختار الله له من يشاء عن علم وعن تقدير ويحدد الله للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة الإيمان ; ويبين لهم من يتولون إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ; ولا يترك فرصة لتمييع الحركة الإسلامية أو تمييع التصور ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك لأن المسألة في صميمها كما قلنا هي مسألة العقيدة ومسألة الحركة بهذه العقيدة وليكون الولاء لله خالصا والثقة به مطلقة وليكون الإسلام هو الدين وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها ; فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة ; لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان أو مجرد راية وشعار أو مجرد كلمة تقال باللسان أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون فمن صفتهم إقامة الصلاة لا مجرد أداء الصلاة وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يقم الصلاة ; فلو أقامها لنهته كما يقول الله ومن صفتهم إيتاء الزكاة أي أداء حق المال طاعة لله وقربى عن رضى نفس ورغبة فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية إنما هي كذلك عبادة أو هي عبادة مالية وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة مدنية أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة أو باسم الشعب أو باسم جهة أرضية ما فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا ; وهو إيصال المال للمحتاجين فأما الزكاة فتعني اسمها ومدلولها إنها قبل كل شيء طهارة ونماء إنها زكاة للضمير بكونها عبادة لله وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء بما أنها عبادة لله يرجو عليها فاعلها حسن الجزاء في الآخرة كما يرجو منها نماء المال في الحياة الدنيا بالبركة وبالنظام الاقتصادي المبارك ثم بالشعور الطيب في نفوس الفقراء الآخذين أنفسهم ; إذ يشعرون أنها فضل الله عليهم إذ قررها لهم في أموال الأغنياء ; ولا يشعرون معها بالحقد والتشفي من إخوانهم الأغنياء مع تذكر أن الأغنياء في النظام الإسلامي لا يكسبون إلا من حلال ولا يجورون على حق أحد وهم يجمعون نصيبهم من المال وفي النهاية تحقق هدف الضريبة المالية في هذا الجو الراضي الخير الطيب جو الزكاة والطهارة والنماء وأداء الزكاة سمة من سمات الذين آمنوا تقرر أنهم يتبعون شريعة الله في شئون الحياة ; فهي إقرار منهم بسلطان الله في أمرهم كله وهذا هو الإسلام وهم راكعون ذلك شأنهم كأنه الحالة الأصلية لهم ومن ثم لم يقف عند قوله يقيمون الصلاة فهذه السمة الجديدة أعم وأشمل إذ أنها ترسمهم للخاطر كأن هذا هو شأنهم الدائم فأبرز سمة لهم هي هذه السمة وبها يعرفون وما أعمق إيحاءات التعبيرات القرآنية في مثل هذه المناسبات والله يعد الذين آمنوا في مقابل الثقة به والالتجاء إليه والولاء له وحده ولرسوله وللمؤمنين بالتبعية ومقابل المفاصلة الكاملة بينهم وبين جميع الصفوف إلا الصف الذي يتمحض لله يعدهم النصر والغلبة ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون وقد جاء هذا الوعد بالغلب بعد بيان قاعدة الإيمان في ذاتها وأنها هي الولاء لله ورسوله وللمؤمنين ; وبعد التحذير من(1/55)
الولاء لليهود والنصارى واعتباره خروجا من الصف المسلم إلى صف اليهود والنصارى وارتدادا عن الدين وهنا لفتة قرآنية مطردة فالله سبحانه يريد من المسلم أن يسلم لمجرد أن الإسلام خير لا لأنه سيغلب أو سيمكن له في الأرض ; فهذه ثمرات تأتي في حينها ; وتأتي لتحقيق قدر الله في التمكين لهذا الدين ; لا لتكون هي بذاتها الإغراء على الدخول في هذا الدين والغلب للمسلمين لا شيء منه لهم لا شيء لذواتهم وأشخاصهم وإنما هو قدر الله يجريه على أيديهم ويرزقهم إياه لحساب عقيدتهم لا لحسابهم فيكون لهم ثواب الجهد فيه ; وثواب النتائج التي تترتب عليه من التمكين لدين الله في الأرض وصلاح الأرض بهذا التمكين كذلك قد يعد الله المسلمين الغلب لتثبيت قلوبهم ; وإطلاقها من عوائق الواقع الحاضر أمامهم وهي عوائق ساحقة في أحيان كثيرة فإذا استيقنوا العاقبة قويت قلوبهم على اجتياز المحنة ; وتخطي العقبة والطمع في أن يتحقق على أيديهم وعد الله للأمة المسلمة فيكون لهم ثواب الجهاد وثواب التمكين لدين الله وثواب النتائج المترتبة على هذا التمكين كذلك يشي ورود هذا النص في هذا المجال بحالة الجماعة المسلمة يومذاك وحاجتها إلى هذه البشريات بذكر هذه القاعدة من غلبة حزب الله مما يرجح ما ذهبنا إليه من تاريخ نزول هذا القطاع من السورة ثم تخلص لنا هذه القاعدة ; التي لا تتعلق بزمان ولا مكان فنطمئن إليها بوصفها سنة من سنن الله التي لا تتخلف وإن خسرت العصبة المؤمنة بعض المعارك والمواقف فالسنة التي لا تنقض هي أن حزب الله هم الغالبون ووعد الله القاطع أصدق من ظواهر الأمور في بعض مراحل الطريق وأن الولاء لله ورسوله والذين آمنوا هو الطريق المؤدي لتحقق وعد الله في نهاية الطريق الدرس الثالث دعوة المسلمين لعدم موالاة الكافرين وبعد فلقد سلك المنهج القرآني في هذا السياق طرقا منوعة لنهي الذين آمنوا عن تولي المخالفين لهم في عقيدتهم من أهل الكتاب والمشركين ولتقرير هذه القاعدة الإيمانية في ضمائرهم وإحساسهم وعقولهم مما يدل على أهمية هذه القاعدة في التصور الإسلامي ; وفي الحركة الإسلامية على السواء وقد رأينا من قبل أنه سلك في النداء الأول طريق النهي المباشر وطريق التخويف من أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فينكشف ستر المنافقين وسلك في النداء الثاني طريق التحذير من الردة بموالاة أعداء الله ورسوله والمؤمنين ; وطريق التحبيب في أن يكونوا من العصبة المختارة ممن يحبهم الله ويحبونه ; وطريق الوعد بالنصر لحزب الله الغالب فالآن نجده في النداء الثالث في هذا الدرس للذين آمنوا يثير في نفوسهم الحمية لدينهم ولعبادتهم ولصلاتهم التي يتخذها أعداؤهم هزوا ولعبا ونجده يسوي في النهي عن الموالاة بين أهل الكتاب والكفار وينوط هذا النهي بتقوى الله ; ويعلق على الاستماع إليه صفة الإيمان ; ويقبح فعلة الكفار وأهل الكتاب ويصفهم بأنهم لا يعقلون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون وهي ملابسة مثيرة لكل من له حمية المؤمن ; الذي لا يرى لنفسه كرامة إذا أهين دينه وأهينت عبادته وأهينت صلاته واتخذ موقفه بين يدي ربه مادة للهزء واللعب فكيف يقوم ولاء بين الذين آمنوا وبين أحد من هؤلاء الذين يرتكبون هذه الفعلة ; ويرتكبونها لنقص في عقولهم فما يستهزى ء بدين الله وعبادة المؤمنين به إنسان سوي العقل ; فالعقل حين يصح ويستقيم يرى في كل شيء من حوله موحيات الإيمان بالله وحين يختل وينحرف لا يرى هذه الموحيات لأنه حينئذ تفسد العلاقات بينه وبين هذا الوجود كله فالوجود كله يوحي بأن له إلها يستحق العبادة والتعظيم والعقل حين يصح ويستقيم يستشعر جمال العبادة لإله الكون وجلالها كذلك فلا يتخذها هزوا ولعبا وهو صحيح مستقيم ولقد كان هذا الاستهزاء واللعب يقع من الكفار كما كان يقع من اليهود خاصة من أهل الكتاب في الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها على قلب رسول الله ص للجماعة المسلمة في ذلك الحين ولم نعرف من السيرة أن هذا كان يقع من النصارى ولكن الله سبحانه كان يضع للجماعة المسلمة قاعدة تصورها ومنهجها وحياتها الدائمة وكان الله سبحانه يعلم ما سيكون على مدار الزمان مع أجيال المسلمين وها نحن أولاء رأينا ونرى أن أعداء هذا الدين وأعداء الجماعة المسلمة على مدار التاريخ أمس واليوم من الذين قالوا إنهم نصارى كانوا أكثر عددا من اليهود ومن الكفار مجتمعين فهؤلاء كهؤلاء قد ناصبوا الإسلام العداء وترصدوه القرون تلو القرون وحاربوه حربا لا هوادة فيها منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبى بكر وعمر رضي الله عنهما حتى كانت الحروب الصليبية ; ثم كانت المسألة الشرقية التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض للإجهاز على الخلافة ;(1/56)
ثم كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه فتبدو في فلتات لسانه ; ثم كان التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده ; ثم كانت وما تزال تلك الحرب المشبوبة على كل طلائع البعث الإسلامي في أي مكان في الأرض وكلها حملات يشترك فيها اليهود والنصارى والكفار والوثنيون وهذا القرآن جاء ليكون كتاب الأمة المسلمة في حياتها إلى يوم القيامة الكتاب الذي يبني تصورها الاعتقادي كما يبني نظامها الاجتماعي كما يبني خطتها الحركية سواء وها هو ذا يعلمها ألا يكون ولاؤها إلا لله ولرسوله وللمؤمنين ; وينهاها أن يكون ولاؤها لليهود والنصارى والكافرين ويجزم ذلك الجزم الحاسم في هذه القضية ويعرضها هذا العرض المنوع الأساليب إن هذا الدين يأمر أهله بالسماحة وبحسن معاملة أهل الكتاب ; والذين قالوا إنهم نصارى منهم خاصة ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعا لأن السماحة وحسن المعاملة مسألة خلق وسلوك أما الولاء فمسألة عقيدة ومسألة تنظيم إن الولاء هو النصرة هو التناصر بين فريق وفريق ; ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب كما هو الشأن في الكفار لأن التناصر في حياة المسلم هو كما أسلفنا تناصر في الدين ; وفي الجهاد لإقامة منهجه ونظامه في حياة الناس ; ففيم يكون التناصر في هذا بين المسلم وغير المسلم وكيف يكون إنها قضية جازمة حاسمة لا تقبل التميع ولا يقبل الله فيها إلا الجد الصارم ; الجد الذي يليق بالمسلم في شأن الدين الدرس الرابع بيان حقيقة كفر أهل الكتاب ونقمتهم على المسلمين وحين تتم النداءات الثلاثة للذين آمنوا يتوجه الخطاب إلى الرسول ص ليواجه أهل الكتاب فيسألهم ماذا ينقمون من الجماعة المسلمة وهل ينقمون منها إلا الإيمان بالله وما أنزل إلى أهل الكتاب ; وما أنزله الله للمسلمين بعد أهل الكتاب هل ينقمون إلا أن المسلمين يؤمنون وأنهم هم أهل الكتاب أكثرهم فاسقون وهي مواجهة مخجلة ولكنها كذلك كاشفة وحاسمة ومحددة لأصل العداوة ومفرق الطريق قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل إن هذا السؤال الذي وجه الله رسوله إلى توجيهه لأهل الكتاب هو من ناحية سؤال تقريري لإثبات ما هو واقع بالفعل منهم ; وكشف حقيقة البواعث التي تدفع بهم إلى موقفهم من الجماعة المسلمة ودينها وصلاتها وهو من ناحية سؤال استنكاري لاستنكار هذا الواقع منهم واستنكار البواعث الدافعة عليه وهو في الوقت ذاته توعية للمسلمين وتنفير لهم من موالاة القوم وتقرير لما سبق في النداءات الثلاثة من نهي عن هذه الموالاة وتحذير إن أهل الكتاب لم يكونوا ينقمون على المسلمين في عهد الرسول ص وهم لا ينقمون اليوم على طلائع البعث الإسلامي إلا أن هؤلاء المسلمين يؤمنون بالله ; وما أنزله الله إليهم من قرآن ; وما صدق عليه قرآنهم مما أنزله الله من قبل من كتب أهل الكتاب إنهم يعادون المسلمين لأنهم مسلمون لأنهم ليسوا يهودا ولا نصارى ولأن أهل الكتاب فاسقون منحرفون عما أنزله الله إليهم ; وآية فسقهم وانحرافهم أنهم لا يؤمنون بالرسالة الأخيرة وهي مصدقة لما بين أيديهم لا ما ابتدعوه وحرفوه ولا يؤمنون بالرسول الأخير وهو مصدق لما بين يديه ; معظم لرسل الله أجمعين إنهم يحاربون المسلمين هذه الحرب الشعواء ; التي لم تضع أوزارها قط ولم يخب أوارها طوال ألف وأربعمائة عام ; منذ أن قام للمسلمين كيان في المدينة ; وتميزت لهم شخصية ; وأصبح لهم وجود مستقل ; ناشى ء من دينهم المستقل وتصورهم المستقل ونظامهم المستقل في ظل منهج الله الفريد إنهم يشنون على المسلمين هذه الحرب المشبوبة لأنهم قبل كل شيء مسلمون ولا يمكن أن يطفئوا هذه الحرب المشبوبة إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم ; فيصبحوا غير مسلمين ذلك أن أهل الكتاب أكثرهم فاسقون ; ومن ثم لا يحبون المستقيمين الملتزمين من المسلمين والله سبحانه يقرر هذه الحقيقة في صورة قاطعة وهو يقول لرسوله ص في السورة الأخرى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ويقول له في هذه السورة أن يواجه أهل الكتاب بحقيقة بواعثهم وركيزة موقفهم قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ; وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون وهذه الحقيقة التي يقررها الله سبحانه في مواضع كثيرة من كلامه الصادق المبين هي التي يريد تمييعها وتلبيسها وتغطيتها وإنكارها اليوم كثيرون من أهل الكتاب وكثيرون ممن يسمون أنفسهم مسلمين باسم تعاون المتدينين في وجه المادية والإلحاد كما يقولون أهل الكتاب يريدون اليوم تمييع هذه الحقيقة بل طمسها وتغطيتها لأنهم يريدون خداع سكان الوطن الإسلامي أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح وتخدير الوعي الذي كان قد بثه فيهم الإسلام بمنهجه الرباني القويم ذلك أنه حين كان(1/57)
هذا الوعي سليما لم يستطع الاستعمار الصليبي أن يقف للمد الإسلامي فضلا على أن يستعمر الوطن الإسلامي ولم يكن بد لهؤلاء بعد فشلهم في الحروب الصليبية السافرة وفي حرب التبشير السافرة كذلك أن يسلكوا طريق الخداع والتخدير فيتظاهروا ويشيعوا بين ورثة المسلمين أن قضية الدين والحرب الدينية قد انتهت وأنها كانت مجرد فترة تاريخية مظلمة عاشتها الأمم جميعا ثم تنور العالم و تقدم فلم يعد من الجائز ولا اللائق ولا المستساغ أن يقوم الصراع على أساس العقيدة وأنما الصراع اليوم على المادة على الموارد والأسواق والاستغلالات فحسب وإذن فما يجوز للمسلمين أو ورثة المسلمين أن يفكروا في الدين ولا في صراع الدين وحين يطمئن أهل الكتاب وهم الذين يستعمرون أوطان المسلمين إلى استنامة هؤلاء لهذا التخدير ; وحين تتميع القضية في ضمائرهم ; فإن المستعمرين يأمنون غضبة المسلمين لله ; وللعقيدة الغضبة التي لم يقفوا لها يوما ويصبح الأمر سهلا بعد التنويم والتخدير ولا يكسبون معركة العقيدة وحدها بل يكسبون معها ما وراءها من الأسلاب والمغانم والاستثمارات والخامات ; ويغلبون في معركة المادة بعدما يغلبون في معركة العقيدة فهما قريب من قريب وعملاء أهل الكتاب في الوطن الإسلامي ممن يقيمهم الاستعمار هنا وهناك علانية أو في خفية يقولون القول نفسه لأنهم عملاء يؤدون الدور من داخل الحدود وهؤلاء يقولون عن الحروب الصليبية ذاتها إنها لم تكن صليبية ويقولون عن المسلمين الذين خاضوها تحت راية العقيدة إنهم لم يكونوا مسلمين وإنما هم كانوا قوميين وفريق ثالث مستغفل مخدوع ; يناديه أحفاد الصليبين في الغرب المستعمر أن تعالوا إلينا تعالوا نجتمع في ولاء ; لندفع عن الدين غائلة الملحدين فيستجيب هذا الفريق المستغفل المخدوع ; ناسيا أن أحفاد الصلييبين هؤلاء وقفوا في كل مرة مع الملحدين ; صفا واحدا حينما كانت المواجهة للمسلمين على مدار القرون وما يزالون وأنهم لا يعنيهم حرب المادية الالحادية قدر ما تعنيهم حرب الإسلام ذلك أنهم يعرفون جيدا أن الإلحادية المادية عرض طارى ء وعدو موقوت ; وأن الإسلام أصل ثابت وعدو مقيم وإنما هذه الدعوة المموهة لتمييع اليقظة البادئة عند طلائع البعث الإسلامي ; وللانتفاع بجهد المستغفلين المخدوعين في الوقت ذاته ليكونوا وقود المعركة مع الملحدين لأنهم أعداء الاستعمار السياسيون وهؤلاء كهؤلاء حرب على الإسلام والمسلمين حرب لا عدة فيها للمسلم إلا ذلك الوعي الذي يربيه عليه المنهج الرباني القويم إن هؤلاء الذين تخدعهم اللعبة أو يتظاهرون بالتصديق فيحسبون أهل الكتاب جادين إذ يدعونهم للتضامن والولاء في دفع الإلحاد عن الدين إنما ينسون واقع التاريخ في أربعة عشر قرنا لا استثناء فيها كما ينسون تعليم ربهم لهم في هذا الأمر بالذات وهو تعليم لا مواربة فيه ولا مجال للحيدة عنه وفي النفس ثقة بالله ويقين بجدية ما يقول إن هؤلاء يجتزئون فيما يقولون ويكتبون بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تأمر المسلمين أن يحسنوا معاملة أهل الكتاب ; وأن يتسامحوا معهم في المعيشة والسلوك ويغفلون التحذيرات الحاسمة عن موالاتهم ; والتقريرات الواعية عن بواعثهم والتعليمات الصريحة عن خطة الحركة الإسلامية وخطة التنظيم التي تحرم التناصر والموالاة لأن التناصر والموالاة لا يكونان عند المسلم إلا في شأن الدين وإقامة منهجه ونظامه في الحياة الواقعية وليست هناك قاعدة مشتركة يلتقي عليها المسلم مع أهل الكتاب في شأن دينه مهما يكن هناك من تلاق في أصول هذه الأديان مع دينه قبل تحريفها إذ هم لا ينقمون منه إلا هذا الدين ولا يرضون عنه إلا بترك هذا الدين كما يقول رب العالمين إن هؤلاء ممن يجعلون القرآن عضين ; يجزئونه ويمزقونه فيأخذون منه ما يشاءون مما يوافق دعوتهم الغافلة الساذجة على فرض براءتها ويدعون منه ما لا يتفق مع اتجاههم الغافل أو المريب ونحن نؤثر أن نسمع كلام الله في هذه القضية على أن نسمع كلام المخدوعين أو الخادعين وكلام الله سبحانه في هذه القضية حاسم واضح صريح مبين ونقف وقفة قصيرة في هذا الموضع عند قوله تعالى بعد تقرير أن سبب النقمة هو الإيمان بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل أن بقية السبب وأن أكثركم فاسقون فهذا الفسق هو شطر الباعث فالفسق يحمل صاحبه على النقمة من المستقيم وهي قاعدة نفسية واقعية ; تثبتها هذه اللفتة القرآنية العجيبة إن الذي يفسق عن الطريق وينحرف لا يطيق أن يرى المستقيم على النهج الملتزم إن وجوده يشعره دائما بفسقه وانحرافه إنه يتمثل له شاهدا قائما على فسقه هو وانحرافه ومن ثم يكرهه وينقم عليه يكره استقامته وينقم منه التزامه ; ويسعى جاهدا لجره إلى طريقه ; أو للقضاء عليه إذا استعصى قياده إنها قاعدة مطردة تتجاوز موقف أهل الكتاب من الجماعة المسلمة في المدينة إلى موقف أهل الكتاب عامة من المسلمين عامة إلى موقف كل فاسق منحرف من كل عصبة(1/58)
ملتزمة مستقيمة والحرب المشبوبة دائما على الخيرين في مجتمع الأشرار وعلى المستقيمين في مجتمع الفاسقين وعلى الملتزمين في مجتمع المنحرفين هذه الحرب أمر طبيعي يستند إلى هذه القاعدة التي يصورها النص القرآني العجيب ولقد علم الله سبحانه أن الخير لا بد أن يلقى النقمة من الشر وأن الحق لا بد أن يواجه العداء من الباطل وأن الاستقامة لا بد أن تثير غيظ الفساق وأن الالتزام لا بد أن يجر حقد المنحرفين وعلم الله سبحانه أن لا بد للخير والحق والاستقامة والالتزام أن تدفع عن نفسها وأن تخوض المعركة الحتمية مع الشر والباطل والفسق والانحراف وأنها معركة لا خيار فيها ولا يملك الحق ألا يخوضها في وجه الباطل لأن الباطل سيهاجمه ولا يملك الخير أن يتجنبها لأن الشر لا بد سيحاول سحقه وغفلة أي غفلة أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام أنهم متروكون من الباطل والشر والفسق والانحراف ; وأنهم يملكون تجنب المعركة ; وأنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة وخير لهم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة ; من أن يستسلموا للوهم والخديعة وهم يومئذ مأكولون مأكولون ثم نمضي مع السياق القرآني في توجيه الله سبحانه لرسوله ص لمواجهة أهل الكتاب بعد تقرير بواعثهم واستنكار هذه البواعث في النقمة على المسلمين فإذا هو يجبههم بتاريخ لهم قديم وشأن لهم مع ربهم وعقاب أليم قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل وهنا تطالعنا سحنة يهود وتاريخ يهود إنهم هم الذين لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير إنهم هم الذين عبدوا الطاغوت وقصة لعنة الله لهم وغضبه عليهم واردة في مواضع شتى من القرآن الكريم ; وكذلك قصة جعله منهم القردة والخنازير فأما قضية عبادتهم للطاغوت فتحتاج إلى بيان هنا لأنها لفتة ذات دلالة خاصة في سياق هذه السورة إن الطاغوت هو كل سلطان لا يستمد من سلطان الله وكل حكم لا يقوم على شريعة الله وكل عدوان يتجاوز الحق والعدوان على سلطان الله وألوهيته وحاكميته هو أشنع العدوان وأشده طغيانا وأدخله في معنى الطاغوت لفظا ومعنى وأهل الكتاب لم يعبدوا الأحبار والرهبان ; ولكن اتبعوا شرعهم وتركوا شريعة الله فسماهم الله عبادا لهم ; وسماهم مشركين وهذه اللفتة هنا ملحوظ فيها ذلك المعنى الدقيق فهم عبدوا الطاغوت أي السلطات الطاغية المتجاوزة لحقها وهم لم يعبدوها بمعنى السجود لها والركوع ولكنهم عبدوها بمعنى الاتباع والطاعة وهي عبادة تخرج صاحبها من عبادة الله ومن دين الله والله سبحانه يوجه رسوله ص لمجابهة أهل الكتاب بهذا التاريخ وبذلك الجزاء الذي استحقوه من الله على هذا التاريخ كأنما هم جيل واحد بما أنهم جبلة واحدة يوجهه ليقول لهم إن هذا شر عاقبة قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله أي شر من نقمة أهل الكتاب على المسلمين وما يكيدون لهم وما يؤذونهم بسبب إيمانهم وأين نقمة البشر الضعاف من نقمة الله وعذابه وحكمه على أهل الكتاب بالشر والضلال عن سواء السبيل أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل الدرس الخامس نماذج من كفريات وتلاعب اليهود ويمضي السياق في التنفير من موالاتهم بعرض صفاتهم وسماتهم بعد عرض تاريخهم وجزائهم ويجيء التحذير والتوعي ة منهم بكشف ما يبيتون ويبرز اليهود كذلك في الصورة لأن الحديث عن وقائع جارية ومعظم الشر كان يجيء من قبل يهود وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ; بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين إنها عبارات تنشى ء صورا متحركة مشاهد حية على طريقة التعبير القرآنية الفريدة ومن وراء القرون يملك قارى ء هذه الآيات أن يشهد بعين التصور هؤلاء القوم الذين يتحدث عنهم القرآن من يهود على الأرجح فالسياق يتحدث عنهم وإن كان من الجائز أنه يعني كذلك بعض المنافقين في المدينة يشهدهم يجيئون للمسلمين فيقولون آمنا ويشهد في جعبتهم الكفر وهم يدخلون به ويخرجون ; بينما ألسنتهم تقول غير ما في الجعبة من كفر يحملونه داخلين خارجين ولعلهم من يهود أولئك الذين كانوا يبيتون البلبلة وهم يقولون بعضهم لبعض آمنوا بهذا القرآن وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون أي لعل المسلمين يرجعون عن دينهم بسبب هذه البلبلة والتشكيك الخبيث اللئيم والله أعلم بما كانوا يكتمون(1/59)
يقولها الله سبحانه لأنها الحقيقة ; ثم لكي يطمئن المؤمنون إلى كلاءة ربهم لهم وحفظهم من كيد عدوهم ; وإحاطته علما بهذا الكيد المكتوم ثم ليهدد أصحاب هذا الكيد لعلهم ينتهون ويمضي السياق يرسم حركاتهم كأنها منظورة تشهد وتلحظ من خلال التعبير وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون والمسارعة مفاعلة تصور القوم كأنما يتسابقون تسابقا في الإثم والعدوان وأكل الحرام وهي صورة ترسم للتبشيع والتشنيع ولكنها تصور حالة من حالات النفوس والجماعات حين يستشري فيها الفساد ; وتسقط القيم ; ويسيطر الشر وإن الإنسان لينظر إلى المجتمعات التي انتهت إلى مثل هذه الحال فيرى كأنما كل من فيها يتسابقون إلى الشر إلى الإثم والعدوان قويهم وضعيفهم سواء فالإثم والعدوان في المجتمعات الهابطة الفاسدة لا يقتصران على الأقوياء ; بل يرتكبهما كذلك الضعفاء فحتى هؤلاء ينساقون في تيار الإثم وحتى هؤلاء يملكون الاعتداء ; إنهم لا يملكون الاعتداء على الأقوياء طبعا ولكن يعتدي بعضهم على بعض ويعتدون على حرمات الله لأنها هي التي تكون في المجتمعات الفاسدة الحمى المستباح الذي لا حارس له من حاكم ولا محكوم ; فالإثم والعدوان طابع المجتمع حين يفسد ; والمسارعة فيهما عمل هذه المجتمعات وكذلك كان مجتمع يهود في تلك الأيام وكذلك أكلهم للحرام فأكل الحرام كذلك سمة يهود في كل آن لبئس ما كانوا يعملون ويشير السياق إلى سمة أخرى من سمات المجتمعات الفاسدة ; وهو يستنكر سكوت الربانيين القائمين على الشريعة والأحبار القائمين على أمر العلم الديني سكوتهم على مسارعة القوم في الإثم والعدوان وأكل السحت ; وعدم نهيهم عن هذا الشر الذي يتسابقون فيه لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون فهذه السمة سمة سكوت القائمين على أمر الشريعة والعلم الديني عما يقع في المجتمع من إثم وعدوان هي سمة المجتمعات التي فسدت وآذنت بالانهيار وبنو إسرائيل كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه كما حكى عنهم القرآن الكريم إن سمة المجتمع الخير الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ; وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; وأن يكون عرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر وهكذا وصف الله الأمة المسلمة فقال كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ووصف بني إسرائيل فقال كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه فكان ذلك فيصلا بين المجتمعين وبين الجماعتين أما هنا فينحي باللائمة على الربانيين والأحبار الساكتين على المسارعة في الإثم والعدوان وأكل السحت ; الذين لا يقومون بحق ما استحفظوا عليه من كتاب الله وإنه لصوت النذير لكل أهل دين فصلاح المجتمع أو فساده رهن بقيام الحفظة على الشريعة والعلم فيه بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ; والأمر كما قلنا من قبل في الظلال يقتضي سلطة تأمر وتنهى والأمر والنهي أمر غير الدعوة فالدعوة بيان والأمر والنهي سلطان وكذلك ينبغي أن يحصل الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر على السلطان الذي يجعل لأمرهم ونهيهم قيمته في المجتمع ; فلا يكون مطلق كلام وكنموذج من قولهم الإثم في أبشع صوره يحكي القرآن الكريم قول اليهود الغبي اللئيم وقالت اليهود يد الله مغلوله غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وذلك من سوء تصور يهود لله سبحانه فقد حكى القرآن الكريم الكثير من سوء تصورهم ذاك وقد قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء عندما سئلوا النفقة وقالوا يد الله مغلولة يعللون بذلك بخلهم ; فالله بزعمهم لا يعطي الناس ولا يعطيهم إلا القليل فكيف ينفقون وقد بلغ من غلظ حسهم وجلافة قلوبهم ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهو البخل بلفظه المباشر ; فاختاروا لفظا أشد وقاحة وتهجما وكفرا فقالوا يد الله مغلولة ويجيء الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهم غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا وكذلك كانوا فهم أبخل خلق الله بمال ثم يصحح هذا التصور الفاسد السقيم ; ويصف الله سبحانه بوصفه الكريم وهو يفيض على عباده من فضله بلا حساب بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وعطاياه التي لا تكف ولا تنفد لكل مخلوق ظاهرة للعيان شاهدة باليد المبسوطة والفضل الغامر والعطاء الجزيل ناطقة بكل لسان ولكن يهود لا تراها ; لأنها مشغولة عنها باللم والضم وبالكنود وبالجحود وبالبذاءة حتى في حق الله ويحدث الله رسوله ص عما سيبدو من القوم وعما سيحل بهم بسبب حقدهم وغيظهم من اصطفاء الله له بالرسالة ; وبسبب ما تكشفه هذه الرسالة من أمرهم في القديم والحديث وليزيدن كثيرا منهم ما(1/60)
أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرًا فبسبب من الحقد والحسد وبسبب من افتضاح أمرهم فيما أنزل الله إلى رسوله سيزيد الكثيرون منهم طغيانا وكفرا لأنهم وقد أبوا الإيمان لا بد أن يشتطوا في الجانب المقابل ; ولا بد أن يزيدوا تبجحا ونكرا وطغيانا وكفرا فيكون الرسول ص رحمة للمؤمنين ووبالا عن المنكرين ثم يحدثه عما قدر الله لهم من التعادي والتباغض فيما بينهم ; ومن إبطال كيدهم وهو في أشد سعيره تلهبا ; ومن عودتهم بالخيبة فيما يشنونه من حرب على الجماعة المسلمة وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفاها الله وما تزال طوائف اليهود متعادية وإن بدا في هذه الفترة أن اليهودية العالمية تتساند ; وتوقد نار الحرب على البلاد الإسلامية وتفلح ولكن ينبغي ألا ننظر إلى فترة قصيرة من الزمان ولا إلى مظهر لا يشتمل على الحقيقة كاملة ففي خلال ألف وثلاثمائة عام بل من قبل الإسلام واليهود في شحناء وفي ذل كذلك وتشرد ومصيرهم إلى مثل ما كانوا فيه مهما تقم حولهم الأسناد ولكن مفتاح الموقف كله في وجود العصبة المؤمنة التي يتحقق لها وعد الله فأين هي العصبة المؤمنة اليوم التي تتلقى وعد الله وتقف ستارا لقدر الله ويحقق الله بها في الأرض ما يشاء ويوم تفيء الأمة المسلمة إلى الإسلام تؤمن به على حقيقته ; وتقيم حياتها كلها على منهجه وشريعته يومئذ يحق وعد الله على شر خلق الله واليهود يعرفون هذا ومن ثم يسلطون كل ما في جعبتهم من شر وكيد ; ويصبون كل ما في أيديهم من بطش وفتك على طلائع البعث الإسلامي في كل شبر من الأرض ويضربون لا بأيديهم ولكن بأيدي عملائهم ضربات وحشية منكرة ; لا ترعى في العصبة المؤمنة إلا ولا ذمة ولكن الله غالب على أمره ووعد الله لا بد أن يتحقق وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله إن هذا الشر والفساد الذي تمثله يهود لا بد أن يبعث الله عليه من يوقفه ويحطمه ; فالله لا يحب الفساد في الأرض ; وما لا يحبه الله لا بد أن يبعث عليه من عباده من يزيله ويعفي عليه ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين الدرس السادس أثر الإيمان وتطبيق شرع الله في الرخاء المعيشي وفي نهاية الدرس تجيء القاعدة الإيمانية الكبرى قاعدة أن إقامة دين الله في الأرض معناها الصلاح والكسب والفلاح في حياة المؤمنين في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء لا افتراق بين دين ودنيا ولا افتراق بين دنيا وآخرة فهو منهج واحد للدنيا وللآخرة ; للدنيا وللدين تجيء هذه القاعدة الإيمانية الكبيرة بمناسبة الحديث عن انحراف أهل الكتاب عن دين الله ; وأكلهم السحت ; وتحريفهم الكلم من بعد مواضعه لينالوا عرضا من أعراض هذه الأرض واتباع دين الله كان أجدى عليهم في الأرض والسماء وفي الدنيا والآخرة لو أنهم اختاروا الطريق ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ; ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون إن هاتين الآيتين تقرران أصلا كبيرا من أصول التصور الإسلامي ومن ثم فهما تمثلان حقيقة ضخمة في الحياة الإنسانية ولعل الحاجة إلى جلاء ذلك الأصل وإلى بيان هذه الحقيقة لم تكن ماسة كما هي اليوم ; والعقل البشري والموازين البشرية والأوضاع البشرية تتأرجح وتضطرب وتتوه بين ضباب التصورات وضلال المناهج بإزاء هذا الأمر الخطير إن الله سبحانه يقول لأهل الكتاب ويصدق القول وينطبق على كل أهل كتاب إنهم لو كانوا آمنوا واتقوا لكفر عنهم سيئاتهم ولأدخلهم جنات النعيم وهذا جزاء الآخرة وإنهم لو كانوا حققوا في حياتهم الدنيا منهج الله الممثل في التوراة والإنجيل وما أنزله الله إليهم من التعاليم كما أنزلها الله بدون تحريف ولا تبديل لصلحت حياتهم الدنيا ونمت وفاضت عليهم الأزراق ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق ووفرة النتاج وحسن التوزيع وصلاح أمر الحياة ولكنهم لا يؤمنون ولا يتقون ولا يقيمون منهج الله إلا قلة منهم في تاريخهم الطويل مقتصدة غير مسرفة على نفسها وكثير منهم ساء ما يعملون وهكذا يبدو من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده وإن كان هو المقدم وهو الأدوم ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة وفرة ونماء وحسن توزيع وكفاية يرسمها في صورة حسية تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم وهكذا يتبين أن ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة ; وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا إنما هو طريق واحد تصلح به الدنيا والآخرة فإذا تنكب هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة هذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الإلهي في الحياة الدنيا وهذا(1/61)
المنهج ليس منهج اعتقاد وإيمان وشعور قلبي وتقوى فحسب ولكنه كذلك وتبعا لذلك منهج حياة أنسانية واقعية يقام وتقام عليه الحياة وإقامته مع الإيمان والتقوى هي التي تكفل صلاح الحياة الأرضية وفيض الرزق ووفرة النتاج وحسن التوزيع حتى يأكل الناس جمعيا في ظل هذا المنهج من فوقهم ومن تحت أرجلهم إن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلا من الدنيا ; ولا يجعل سعادة الآخرة بديلا من سعادة الدنيا ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا وهذه هي الحقيقة الغائمة اليوم في أفكار الناس وعقولهم وضمائرهم وأوضاعهم الواقعية لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير الناس وضميرهم وواقعهم بحيث أصبح الفرد العادي وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة لا يرى أن هنالك سبيلا للالتقاء بين الطريقين ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه ; وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه ; ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع لأن واقع الأرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا حقيقة إن أوضاع الحياة الجاهلية الضالة البعيدة عن الله وعن منهجه للحياة اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلوا عن طريق الآخرة ; وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية ; والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف الذي يحض عليه الدين كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع والكسب في مضمار المنافع لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق ولا مرضية لله سبحانه ولكن تراها ضربة لازب ترى أنه لا مفر من هذا الحال التعيس ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة كلا إنها ليست ضربة لازب فالعداء بين الدنيا والآخرة ; والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلا إنما هي عارض ناشى ء من انحراف طارى ء إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة ; وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا ; وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة والخلافة عمل وإنتاج ووفرة ونماء وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم كما يقول الله في كتابه الكريم إن التصور الإسلامي يجعل وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة عن الله بإذن الله وفق شرط الله ومن ثم يجعل العمل المنتج المثمر وتوفير الرخاء باستخدام كل مقدرات الأرض وخاماتها ومواردها بل الخامات والموارد الكونية كذلك هو الوفاء بوظيفة الخلافة ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة وفق منهج الله وشريعته حسب شرط الاستخلاف طاعة لله ينال عليها العبد ثواب الآخرة ; بينما هو بقيامه بهذه الوظيفة على هذا النحو يظفر بخيرات الأرض التي سخرها الله له ; ويفيض عليه الرزق من فوقه ومن تحت رجليه كما يصور التعبير القرآني الجميل ووفق التصور الإسلامي يعتبر الإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض ولا يستغل طاقات الكون المسخرة له عاصيا لله ناكلا عن القيام بالوظيفة التي خلقه الله لها وهو يقول للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة وهو يقول كذلك للناس وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ومعطلا لرزق الله الموهوب للعباد وهكذا يخسر الآخرة لأنه خسر الدنيا والمنهج الإسلامي بهذا يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق فلا يفوت على الإنسان دنياه لينال آخرته ولا يفوت عليه آخرته لينال دنياه فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي هذا بالقياس إلى جنس الإنسان عامة وبالقياس إلى الجماعات الإنسانية التي تقوم في الأرض على منهج الله فأما بالقياس إلى الأفراد فإن الأمر لا يختلف إذ أن طريق الفرد وطريق الجماعة في المنهج الإسلامي لا يختلفان ولا يتصادمان ولا يتعارضان فالمنهج يحتم على الفرد أن يبذل أقصى طاقته الجسمية والعقلية في العمل والإنتاج ; وأن يبتغي في العمل والإنتاج وجه الله فلا يظلم ولا يغدر ولا يغش ولا يخون ولا يأكل من سحت ولا يحتجز دون أخيه المحتاج في الجماعة شيئا يملكه مع الاعتراف الكامل له بملكيته الفردية لثمرة عمله(1/62)
والاعتراف للجماعة بحقها في ماله في حدود ما فرض الله وما شرع والمنهج يسجل للفرد عمله في هذه الحدود ووفق هذه الاعتبارات عبادة لله يجزيه عليها بالبركة في الدنيا وبالجنة في الآخرة ويربط المنهج بين الفرد وربه رباطا أقوى بالشعائر التعبدية التي يفرضها عليه ; ليستوثق بهذا الرباط من تجدد صلته بالله في اليوم الواحد خمس مرات بالصلاة وفي العام الواحد ثلاثين يوما بصوم رمضان وفي العمر كله بحج بيت الله وفي كل موسم أو في كل عام بإخراج الزكاة ومن هنا قيمة هذه الفرائض التعبدية في المنهج الإسلامي إنها تجديد للعهد مع الله على الارتباط بمنهجه الكلي للحياة وهي قربى لله يتجدد معها العزم على النهوض بتكاليف هذا المنهج الذي ينظم أمر الحياة كلها ويتولى شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم بين الناس في علاقاتهم وفي خلافاتهم ويتجدد معها الشعور بعون الله ومدده على حمل التكاليف التي يتطلبها النهوض بهذا المنهج الكلي المتكامل والتغلب على شهوات الناس وعنادهم وانحرافهم وأهوائهم حين تقف في الطريق وليست هذه الشعائر التعبدية أمورا منفصلة عن شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم والقضاء والجهاد لإقرار منهج الله في الأرض وتقرير سلطانه في حياة الناس إنما الإيمان والتقوى والشعائر التعبدية شطر المنهج المعين على أداء شطره الآخر وهكذا يكون الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله في الحياة العملية سبيلا للوفرة والفيض كما بعد الله الناس في هاتين الآيتين الكريمتين إن التصور الإسلامي وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه لا يقدم الحياة الآخرة بديلا من الحياة الدنيا ولا العكس إنما يقدمهما معا في طريق واحد وبجهد واحد ولكنهما لا يجتمعان كذلك في حياة الإنسان إلا إذا اتبع منهج الله وحده في الحياة دون أن يدخل عليه تعديلات مأخوذة من أوضاع أخرى لم تنبثق من منهج الله أو مأخوذة من تصوراته الذاتية التي لم تضبط بهذا المنهج ففي هذا المنهج وحده يتم ذلك التناسق الكامل والتصور الإسلامي وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه لا يقدم الإيمان والعبادة والصلاح والتقوى بديلا من العمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة المادية وليس هو المنهج الذي يعد الناس فردوس الآخرة ويرسم لهم طريقه ; بينما يدع الناس أن يرسموا لأنفسهم الطريق المؤدي إلى فردوس الدنيا كما يتصور بعض السطحيين في هذا الزمان فالعمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة الدنيا تمثل في التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي فريضة الخلافة في الأرض والإيمان والعبادة والصلاح والتقوى تمثل الارتباطات والضوابط والدوافع والحوافز لتحقيق المنهج في حياة الناس وهذه وتلك معا هي مؤهلات الفردوس الأرضي والفردوس الأخروي معا ; والطريق هو الطريق ولا فصام بين الدين والحياة الواقعية المادية كما هو واقع في الأوضاع الجاهلية القائمة في الأرض كلها اليوم والتي منها يقوم في أوهام الواهمين أنه لا مفر من أن يختار الناس الدنيا أو يختاروا الآخرة ولا يجمعوا بينهما في تصور أو في واقع لأنهما لا تجتمعان إن هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة وبين العبادة الروحية والإبداع المادي وبين النجاح في الحياة الدنيا والنجاح في الحياة الأخرى إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية إنما هو ضريبة بائسه فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج الله وتتخذ لنفسها مناهج أخرى من عند أنفسها معادية لمنهج الله في الأساس والاتجاه وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا فوق ما يؤدونه منها في الآخرة وهو أشد وأنكى إنهم يؤدونها قلقا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته وزاده وريه إذا هم آثروا اطراح الدين كله على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والعلم والتجربة والنجاح الفردي والجماعي في المعترك العالمي ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون فطرتهم يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب ولا تطيق الفراغ والخواء وهي جوعة لا تملؤها مذاهب اجتماعية أو فلسفية أو فنية على الإطلاق لأنها جوعة النزعة إلى إله وهم يؤدونها كذلك قلقا وحيدة وشقاء قلب وبلبلة خاطر إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعة وتقوم تصوراته وتقوم وسائل الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج الله وتتصادم فيه العقيدة الدينية والخلق الديني والسلوك الديني مع الأوضاع والقوانين والقيم والموازين السائدة في هذا المجتمع المنكود وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء سواء اتبعت المذاهب المادية الإلحادية أو المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نطام الحياة العملية وتتصور أو يصور لها أعداء البشرية أن الدين لله وأن(1/63)
الحياة للناس وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق والحياة نظام وقانون وإنتاج وعمل وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع ; ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة بل ينسق ولا يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة في فترة موقوتة إذ نرى أمما لا تؤمن ولا تتقي ولا تقيم منهج الله في حياتها وهي موفورة الخيرات كثيرة الإنتاج عظيمة الرخاء إنه رخاء موقوت حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت وحتى تظهر كل آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي والمنهج الرباني والآن تظهر بعض هذه الآثار في صور شتى تظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم مما يجعل المجتمع حافلا بالشقاء وحافلا بالأحقاد وحافلا بالمخاوف من الانقلابات المتوقعة نتيجة هذه الأحقاد الكظيمة وهو بلاء على رغم الرخاء وتظهر في الكبت والقمع والخوف في الأمم التي أرادت أن تضمن نوعا من عدالة التوزيع واتخذت طريق التحطيم والقمع والإرهاب ونشر الخوف والذعر لإقرار الإجراءات التي تأخذ بها لإعادة التوزيع وهو بلاء لا يأمن الإنسان فيه على نفسه ولا يطمئن ولا يبيت ليلة في سلام وتظهر في الانحلال النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره إن عاجلا أو آجلا إلى تدمير الحياة المادية ذاتها فالعمل والإنتاج والتوزيع كلها في حاجة إلى ضمانة الأخلاق والقانون الأرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديم الضمانات لسير العمل كما نرى في كل مكان وتظهر في القلق العصبي والأمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم وبخاصة أشدها رخاء ماديا مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج وينتهي إلى تدمير الاقتصاد المادي والرخاء وهذه الدلائل اليوم واضحة وضوحا كافيا يلفت الأنظار وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع في كل لحظة ; في هذا العالم المضطرب ; الذي تحوم حوله نذر الحرب المدمرة وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون ; فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء وتظهر هذه الآثار كلها بصورة متقدمة واضحة في ميل بعض الشعوب إلى الاندثار والدمار وأظهر الأمثلة الحاضرة تتجلى في الشعب الفرنسي وليس هذا إلا مثلا للآخرين في فعل الافتراق بين النشاط المادي والمنهج الرباني ; وافتراق الدنيا والآخرة وافتراق الدين والحياة ; أو اتخاذ منهج للآخرة من عند الله واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس ; وإيقاع هذا الفصام النكد بين منهج الله وحياة الناس وقبل أن ننهي هذا التعليق على التقرير القرآني لتلك الحقيقة الكبيرة نحب أن نؤكد أهمية التناسق في منهج الله بين الإيمان والتقوى وإقامة المنهج في الحياة الواقعية للناس وبين العمل والإنتاج والنهوض بالخلافة في الأرض فهذا التناسق هو الذي يحقق شرط الله لأهل الكتاب ولكل جماعة من الناس أن يأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا وأن تكفر عنهم سيئاتهم ويدخلوا جنات النعيم في الآخرة ; وأن يجتمع لهم الفردوس الأرضي بالوفرة والكفاية مع السلام والطمأنينة وفردوس الآخرة بما فيه من نعيم ورضوان ولكننا مع هذا التوكيد لا نحب أن ننسى أن القاعدة الأولى والركيزة الأساسية هي الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الرباني في الحياة الواقعية فهذا يتضمن في ثناياه العمل والإنتاج والترقية والتطوير للحياة فضلا على أن للصلة بالله مذاقها الذي يغير كل طعوم الحياة ; ويرفع كل قيم الحياة ; ويقوم كل موازين الحياة فهذا هو الأصل في التصور الإسلامي وفي المنهج الإسلامي وكل شيء فيه يجيء تبعا له ومنبثقا منه ومعتمدا عليه ثم يتم تمام الأمر كله في الدنيا والآخرة في تناسق واتساق وينبغي أن نذكر أن الإيمان والتقوى والعبادة والصلة بالله وإقامة شريعة الله في الحياة كل أولئك ثمرته للإنسان وللحياة الإنسانية فالله سبحانه غني عن العالمين وإذا شدد المنهج الإسلامي في هذه الأسس وجعلها مناط العمل والنشاط ; ورد كل عمل وكل نشاط لا يقوم عليها وعده باطلا لا يقبل وحابطا لا يعيش وذاهبا مع الريح فليس هذا لأن الله سبحانه يناله شيء من إيمان العباد وتقواهم وعبادتهم له وتحقيق منهجه للحياة ولكن لأنه سبحانه يعلم أن لا صلاح لهم ولا فلاح إلا بهذا المنهاج في الحديث القدسي عن أبى ذر رضي الله عنه عن النبي ص فيما روى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي(1/64)
لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ; ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه » رواه مسلم وعلى هذا الأساس ينبغي أن ندرك وظيفة الإيمان والتقوى والعبادة وإقامة منهج الله في الحياة والحكم بشريعة الله فهي كلها لحسابنا نحن لحساب هذه البشرية في الدنيا والآخرة جميعا وهي كلها ضروريات لصلاح هذه البشرية في الدنيا والآخرة جميعا ونحسب أننا لسنا في حاجة لأن نقول إن هذا الشرط الإلهي لأهل الكتاب غير خاص بأهل الكتاب فالشرط لأهل الكتاب يتضمن الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله المتمثل في ما أنزل إليهم في التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم وذلك بطبيعة الحال قبل البعثة الأخيرة فأولى بالشرط الذين أنزل إليهم القرآن أولى بالشرط الذين يقولون إنهم مسلمون فهؤلاء هم الذين يتضمن دينهم بالنص الإيمان بما أنزل إليهم وما أنزل من قبل والعمل بكل ما أنزل إليهم وما استبقاه الله في شرعهم من شرع من قبلهم وهم أصحاب الدين الذي لا يقبل الله غيره من أحد وقد انتهى إليه كل دين قبله ; ولم يعد هناك دين يقبله الله غيره أو يقبل من أحد غيره فهؤلاء أولى أن يكون شرط الله وعهده لهم وهؤلاء أولى أن يرتضوا ما ارتضاه الله منهم وأن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم من تكفير السيئات ودخول الجنة في الآخرة ; ومن الأكل من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا إنهم أولى أن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم بدلا من الجوع والمرض والخوف والشظف الذي يعيشون فيه في كل أرجاء الوطن الإسلامي أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح وشرط الله قائم ; والطريق إليه معروف لو كانوا يعقلون الوحدة السادسة الموضوع بيان كفر وانحراف وإفساد أهل الكتاب مقدمة الوحدة تقرير نوع العلاقة بين الجماعة المسلمة وأهل الكتاب يمضي هذا الدرس في بيان حال أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكشف الانحراف فيما يعتقدون وكشف السوء فيما يصنعون ; في تاريخهم كله وبخاصة اليهود كما يمضي في تقرير نوع العلاقة بنيهم وبين الرسول ص والجماعة المسلمة ; وواجب الرسول ص في تعامله معهم وواجب المسلمين ذلك إلى تقرير حقائق أساسية ضخمة في أصول التصور الاعتقادي ; وفي أصول النشاط الحركي للجماعة المسلمة تجاه المعتقدات المنحرفة وتجاه المنحرفين لقد نادى الله سبحانه الرسول ص وكلفه تبليغ ما أنزل إليه من ربه كل ما أنزل إليه لا يستبقي منه شيئا ولا يؤخر منه شيئا مراعاة للظروف والملابسات أو تجنبا للاصطدام بأهواء الناس وواقع المجتمع وإن لم يفعل فما يكون قد بلغ ومن هذا الذي كلف الرسول ص تبليغه أن يجابه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم هكذا قاطعة جازمة صريحة جاهرة وأن يعلن كذلك كفر اليهود بنقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء وكفر النصارى بقولهم إن الله هو المسيح عيسى بن مريم وقولهم إن الله ثالث ثلاثة كما يعلن أن المسيح عليه السلام أنذر بني إسرائيل عاقبة الشرك وتحريم الله الجنة على المشركين وأن بني إسرائيل لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم بعصيانهم وعدوانهم وينتهي الدرس بكشف موقف أهل الكتاب من مظاهرة المشركين على المسلمين وإعلان أن هذا ناشيء من عدم إيمانهم بالله والنبي وأنهم مدعوون إلى الإيمان بما جاء به محمد ص وإلا فما هم بالمؤمنين ونأخذ بعد هذا الإجمال في مواجهة النصوص بالتفصيل الدرس الأول وجوب التبليغ وبيان المؤمن من الكافر يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (الظلال)
**************************
وأمر سبحانه وتعالى بقتالهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون :
قال تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) [التوبة/29، 30] }
وقد حدد السياق من هذه الصفات القائمة :
أولاً : أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر .(1/65)
ثانياً : أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله .
ثالثاً : أنهم لا يدينون دين الحق .
ثم بين في الآيات التالية كيف أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق .
وذلك بأنهم :
أولاً : قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله؛ وأن هذا القول يضاهئ قول الذين كفروا من قبلهم من الوثنيين . فهم مثلهم في هذا الاعتقاد الذي لا يعد صاحبه مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر . ( وسنبين بالضبط كيف أنه لا يؤمن باليوم الآخر ) .
ثانياً : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، والمسيح ابن مريم . وأن هذا مخالف لدين الحق . . وهو الدينونة لله وحده بلا شركاء . . فهم بهذا مشركون لا يدينون دين الحق . .
ثالثاً : يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم . فهم محاربون لدين الله . ولا يحارب دين الله مؤمن بالله واليوم الآخر يدين دين الحق أبداً .
رابعاً : يأكل كثير من أحبارهم ورهبانهم أموال الناس بالباطل . فهم إذن لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ( سواء كان المقصود برسوله رسولهم أو محمد صلى الله عليه وسلم ) :
وهذه الصفات كلها كانت واقعة بالقياس إلى نصارى الشام والروم . كما أنها واقعة بالقياس إلى غيرهم منذ أن حرفت المجامع المقدسة دين المسيح عليه السلام؛ وقالت ببنوة عيسى عليه السلام ، وبتثليث الأقانيم - على كل ما بين المذاهب والفرق من خلاف يلتقي كله على التثليث! - على مدار التاريخ حتى الآن!
وإذن فهو أمر عام ، يقرر قاعدة مطلقة في التعامل مع أهل الكتاب ، الذين تنطبق عليهم هذه الصفات التي كانت قائمة في نصارى العرب ونصارى الروم . . ولا يمنع من هذا العموم أن الأوامر النبوية استثنت أفراداً وطوائف بأعيانها لتترك بلا قتال كالأطفال والنساء والشيوخ والعجزة والرهبان الذين حبسوا انفسهم في الأديرة . . . بوصفهم غير محاربين - فقد منع الإسلام أن يقاتل غير المحاربين من أية ملة - وهؤلاء لم تستثنهم الأوامر النبوية لأنهم لم يقع منهم اعتداء بالفعل على المسلمين . ولكن لأنه ليس من شأنهم أصلاً أن يقع منهم الاعتداء . فلا محل لتقييد هذا الأمر العام بأن المقصود به هم الذين وقع منهم اعتداء فعلاً - كما يقول المهزومون الذين يحاولون أن يدفعوا عن الإسلام الاتهام! - فالاعتداء قائم ابتداء . الاعتداء على ألوهية الله! والاعتداء على العباد بتعبيدهم لغير الله! والإسلام حين ينطلق للدفاع عن ألوهية الله - سبحانه - والدفاع عن كرامة الإنسان في الأرض ، لا بد أن تواجهه الجاهلية بالمقاومة والحرب والعداء . . ولا مفر من مواجهة طبائع الأشياء!
إن هذه الآية تأمر المسلمين بقتال أهل الكتاب { الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } . . والذي يقول ببنوة عزير لله أو بنوة المسيح لله لا يمكن أن يقال عنه : إنه يؤمن بالله . وكذلك الذي يقول : إن الله هو المسيح ابن مريم . أو إن الله ثالث ثلاثة . أن إن الله تجسد في المسيح . . . إلى آخر التصورات الكنسية التي صاغتها المجامع المقدسة على كل ما بينها من خلاف! .
والذين يقولون : إنهم لن يدخلوا النار إلا أياماً معدودات مهما ارتكبوا من آثام بسبب أنهم أبناء الله وأحباؤه وشعب الله المختار ، والذين يقولون : إن كل معصية تغفر بالاتحاد بالمسيح وتناول العشاء المقدس؛ وأنه لا مغفرة إلا عن هذا الطريق! هؤلاء وهؤلاء لا يقال : إنهم يؤمنون باليوم الآخر . .
وهذه الآية تصف أهل الكتاب هؤلاء بأنهم { لا يحرمون ما حرم الله ورسوله } . وسواء كان المقصود بكلمة { رسوله } هو رسولهم الذي أرسل إليهم ، أو هو النبي - صلى الله عليه وسلم - فالفحوى واحدة . ذلك أن الآيات التالية فسرت هذا بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل . وأكل أموال الناس بالباطل محرم في كل رسالة وعلى يد كل رسول . . وأقرب النماذج لأكل أموال الناس بالباطل هو المعاملات الربوية . وهو ما يأخذه رجال الكنيسة مقابل « صك الغفران »! وهو الصد عن دين الله والوقوف في وجهه بالقوة وفتنة المؤمنين عن دينهم . وهو تعبيد العباد لغير الله وإخضاعهم لأحكام وشرائع لم ينزلها الله . . فهذا كله ينطبق عليه : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } . . وهذا كله قائم في أهل الكتاب ، كما كان قائماً يومذاك!
كذلك تصفهم الآية بأنهم { لا يدينون دين الحق } . . وهذا واضح مما سبق بيانه . فليس بدين الحق أي اعتقاد بربوبية أحد مع الله . كما أنه ليس بدين الحق التعامل بشريعة غير شريعة الله ، وتلقي الأحكام من غير الله ، والدينونة لسلطان غير سلطان الله . وهذا كله قائم في أهل الكتاب ، كما كان قائماً فيهم يومذاك . .
والشرط الذي يشترطه النص للكف عن قتالهم ليس أن يسلموا . . فلا إكراه في الدين . ولكن أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . . فما حكمة هذا الشرط ، ولماذا كانت هذه هي الغاية التي ينتهي عندها القتال؟(1/66)
إن أهل الكتاب بصفاتهم تلك حرب على دين الله اعتقاداً وسلوكاً؛ كما أنهم حرب على المجتمع المسلم بحكم طبيعة التعارض والتصادم الذاتيين بين منهج الله ومنهج الجاهلية الممثلة في عقيدة أهل الكتاب وواقعهم - وفق ما تصوره هذه الآيات - كما أن الواقع التاريخي قد أثبت حقيقة التعارض وطبيعة التصادم؛ وعدم إمكان التعايش بين المنهجين؛ وذلك بوقوف أهل الكتاب في وجه دين الله فعلاً ، وإعلان الحرب عليه وعلى أهله بلا هوادة خلال الفترة السابقة لنزول هذه الآية ( وخلال الفترة اللاحقة لها إلى اليوم أيضاً! ) .
والإسلام - بوصفه دين الحق الوحيد القائم في الأرض - لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق المادية من وجهه؛ ولتحرير الإنسان من الدينونة بغير دين الحق؛ على أن يدع لكل فرد حرية الاختيار ، بلا إكراه منه ولا من تلك العوائق المادية كذلك .
وإذن فإن الوسيلة العملية لضمان إزالة العوائق المادية ، وعدم الإكراه على اعتناق الإسلام في الوقت نفسه ، هي كسر شوكة السلطات القائمة على غير دين الحق؛ حتى تستسلم؛ وتعلن استسلامها بقبول إعطاء الجزية فعلاً .
وعندئذ تتم عملية التحرير فعلاً ، بضمان الحرية لكل فرد أن يختار دين الحق عن اقتناع . فإن لم يقتنع بقي على عقيدته ، وأعطى الجزية . لتحقيق عدة أهداف :
أولها : أن يعلن بإعطائها استسلامه وعدم مقاومته بالقوة المادية للدعوة إلى دين الله الحق .
وثانيها : أن يساهم في نفقات الدفاع عن نفسه وماله وعرضه وحرماته التي يكفلها الإسلام لأهل الذمة ( الذين يؤدون الجزية فيصبحون في ذمة المسلمين وضمانتهم ) ويدفع عنها من يريد الاعتداء عليها من الداخل أو من الخارج بالمجاهدين من المسلمين .
وثالثها : المساهمة في بيت مال المسلمين الذي يضمن الكفالة والإعاشة لكل عاجز عن العمل ، بما في ذلك أهل الذمة ، بلا تفرقة بينهم وبين المسلمين دافعي الزكاة .
ولا نحب أن نستطرد هنا إلى الخلافات الفقهية حول من تؤخذ منهم الجزية ومن لا تؤخذ منهم . ولا عن مقادير هذه الجزية . ولا عن طرق ربطها ومواضع هذا الربط . . ذلك أن هذه القضية برمتها ليست معروضة علينا اليوم ، كما كانت معروضة علىعهود الفقهاء الذين أفتوا فيها واجتهدوا رأيهم في وقتها .
إنها قضية تعتبر اليوم « تاريخية » وليست « واقعية » . . إن المسلمين اليوم لا يجاهدون! . . ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون! . . إن قضية « وجود » الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلى علاج!
والمنهج الإسلامي - كما قلنا من قبل مراراً - منهج واقعي جاد؛ يأبى أن يناقش القضايا المعلقة في الفضاء؛ ويرفض أن يتحول إلى مباحث فقهية لا تطبق في عالم الواقع - لأن الواقع لا يضم مجتمعاً مسلماً تحكمه شريعة الله ، ويصرّف حياته الفقه الإسلامي - ويحتقر الذين يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بمثل هذه المباحث في أقضية لا وجود لها بالفعل؛ ويسميهم « الأرأيتيين » الذين يقولون : « أرأيت لو أن كذا وقع فما هو الحكم؟ » .
إن نقطة البدء الآن هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام . . أن يوجد في بقعة من الأرض ناس يدينون دين الحق؛ فيشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع؛ ويطبقون هذا في واقع الحياة . . ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان . . ويومئذ - ويومئذ فقط - سيكون هناك مجال لتطبيق النصوص القرآنية والأحكام الإسلامية في مجال العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات . . ويومئذ - ويومئذ فقط - يجوز الدخول في تلك المباحث الفقهية ، والاشتغال بصياغة الأحكام ، والتقنين للحالات الواقعة التي يواجهها الإسلام بالفعل ، لا في عالم النظريات!
وإذا كنا قد تعرضنا لتفسير هذه الآية - من ناحية الأصل والمبدأ - فإنما فعلنا هذا لأنها تتعلق بمسألة اعتقادية وترتبط بطبيعة المنهج الإسلامي .
*************************
وحرم علينا الدعوة إلى السلم ونحن الأعلون :
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) [محمد/34، 35] }
فالفرصة متاحة فقط للمغفرة في هذه الدنيا؛ وباب التوبة يظل مفتوحاً للكافر والعاصي حتى يغرغر . فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة ولا مغفرة ، فقد ذهبت الفرصة التي لا تعود .
ومثل هذه الآية يخاطب المؤمنين كما يخاطب الكفار . فأما هؤلاء فهي نذارة لهم ليتداركوا أمرهم ويتوبوا قبل أن تغلق الأبواب . وأما أولئك فهي تحذير لهم وتنبيه لاتقاء كافة الأسباب التي تقرب بهم من هذا الطريق الخطر المشؤوم!(1/67)
ندرك هذا من ترتيب النهي عن الوهن والدعوة إلى السلم في الآية التالية على ما ورد في الآية السابقة من بيان لمصير الكافرين المشاقين :
{ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم ، وأنتم الأعلون والله معكم ، ولن يتركم أعمالكم } . .
فهذا هو الذي يحذر المؤمنين إياه ، ويضع أمامهم مصير الكفار المشاقين للرسول ، ليحذروا شبحه من بعيد!
وهذا التحذير يشي بوجود أفراد من المسلمين كانوا يستثقلون تكاليف الجهاد الطويل ومشقته الدائمة؛ وتهن عزائمهم دونه؛ ويرغبون في السلم والمهادنة ليستريحوا من مشقة الحروب . وربما كان بعضهم ذوي قرابة في المشركين ورحم ، أو ذوي مصالح وأموال؛ وكان هذا يجنح بهم إلى السلم والمهادنة . فالنفس البشرية هي هي؛ والتربية الإسلامية تعالج هذا الوهن وهذه الخواطر الفطرية بوسائلها . وقد نجحت نجاحاً خارقاً . ولكن هذا لا ينفي أن تكون هنالك رواسب في بعض النفوس ، وبخاصة في ذلك الوقت المبكر من العهد المدني . وهذه الآية بعض العلاج لهذه الرواسب . فلننظر كيف كان القرآن يأخذ النفوس . فنحن في حاجة إلى تحري خطوات القرآن في التربية . والنفوس هي النفوس :
{ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم . وأنتم الأعلون . والله معكم . ولن يتركم أعمالكم } . .
أنتم الأعلون . فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم . أنتم الأعلون اعتقاداً وتصوراً للحياة . وأنتم الأعلون ارتباطاً وصلة بالعلي الأعلى . وأنتم الأعلون منهجاً وهدفاً وغاية . وأنتم الأعلون شعوراً وخلقاً وسلوكاً . . ثم . . أنتم الأعلون قوة ومكاناً ونصرة . فمعكم القوة الكبرى : { والله معكم } . . فلستم وحدكم . إنكم في صحبة العلي الجبار القادر القهار . وهو لكم نصير حاضر معكم . يدافع عنكم . فما يكون أعدائكم هؤلاء والله معكم؟ وكل ما تبذلون ، وكل ما تفعلون ، وكل ما يصيبكم من تضحيات محسوب لكم ، لا يضيع منه شيء عليكم : { ولن يتركم أعمالكم } . . ولن يقطع منها شيئاً لا يصل إليكم أثره ونتيجته وجزاؤه .
فعلام يهن ويضعف ويدعو إلى السلم ، من يقرر الله - سبحانه - له أنه الأعلى . وأنه معه . وأنه لن يفقد شيئاً من عمله . فهو مكرم منصور مأجور؟
-----------
أضواء البيان - (ج 7 / ص 449)
وقوله تعالى { فَلاَ تَهِنُوا } أي لا تضعفوا وتذلوا ، ومنه قوله تعالى : { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } [ آل عمران : 146 ] .
وقوله تعالى : { ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين } [ الأنفال : 18 ] أي مضعف كيدهم ، وقول زهير بن أبي سلمى :
وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت ... فأصبح الحبل منها واهناً خلقا
وقوله تعالى : { وَأَنتُمُ الأعلون } جملة حالية فلا تضعفوا عن قتال الكفار وتدعوا إلى السلم ، اي تبدؤوا بطلب السلم أي الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون . أي والحال أنكم انتم الأعلون أي الأقهرون والأغلبون لأعدائكم ، ولأنكم ترجون من الله من النصر والثواب ما لا يرجون .
وهذا التفسير في قوله { وَأَنتُمُ الأعلون } هو الصواب .
وتدل عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى بعده { وَاللَّهُ مَعَكُمْ } لأن من كان الله معه هو الأعلى وهو الغالب وهو القاهر المنصور الموعود بالثواب .
فهو جدير بأن لا يضعف عن مقاومة الكفار ولا يبدأهم بطلب الصلح والمهادنة .
وكقوله تعالى : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ] ، وقله تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا } [ غافر : 51 ] الآية ، وقوله { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } [ الروم : 47 ] وقوله تعالى { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 14 ] الآية .
ومما يوضح معنى آية القتال هذه قوله تعالى : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } [ النساء : 104 ] الآية ، لأن قوله تعالى { وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } من النصر الذي وعدكم الله به والغلبة وجزيل الثواب .
وذلك كقوله هنا { وَأَنتُمُ الأعلون } وقوله : { والله مَعَكُم } أي بالنصر والإعانة والثواب .
واعلم أن آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال إن إحداهما ناسخة للأخرى ، بل هما محمتان وكل واحدة منهما منزلة على حال غير الحال التي نزلت عليه الأخرى .
فالنهي في آية القتال هذه في قوله تعالى : { فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم } إنما هو عن الابتداء بطلب السلم .
والأمر بالجنوح إلى السلم في آية الأنفال محله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنح لها ، كما هو صريح قوله تعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } [ الأنفال : 61 ] الآية .(1/68)
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { والله مَعَكُمْ } قد قدمنا الآيات الموشحة له في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] وهذا الذي ذكرنا في معنى هذه الآية أولى وأصوب مام فسرها به ابن كثير رحمه الله .
وهو أن المعنى : لا تدعوا إلى الصلح والمهادنية وأنتم الأعلون أي في حال قوتكم وقدرتكم على الجهاد .
أي ، وأما إن كنتم في ضعف وعدم قوة فلا مانع من أن تدعوا إلى السلم أي الصلح والمهادنة ، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي :
السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب تكفيك من أنفساها جرع
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي لن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم .
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من عدم نقصه تعالى شيئاً من ثواب الأعمال جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى { وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } [ الحجرات : 14 ] أي لا ينقصكم من ثوابها شيئاً .
وقوله تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] .
والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة ، وقد قدمناها مراراً .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَلَن يَتِرَكُم } أصله من التواتر ، وهو الفرد .
فأصل قوله : لن يتركم لن يفردكم ويجردكم من أعمالكم بل يوفيكم إياها .
***********************
وحرم أسرهم حتى نثخن فيهم ونقضي على قوتهم :
ال تعالى : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) [محمد/4] }
واللقاء المقصود في الآية هنا هو اللقاء للحرب والقتال لا مجرد اللقاء . فحتى نزول هذه السورة كان المشركون في الجزيرة منهم المحارب ومنهم المعاهد؛ ولم تكن بعد قد نزلت سورة « براءة » التي تنهي عهود المشركين المحددة الأجل إلى أجلها ، والمطلقة الأجل إلى أربعة أشهر؛ وتأمر بقتل المشركين بعد ذلك أنى وجدوا في أنحاء الجزيرة - قاعدة الإسلام - أو يسلموا . كي تخلص القاعدة للإسلام .
وضرب الرقاب المأمور به عند اللقاء يجيء بعد عرض الإسلام عليهم وإبائهم له طبعاً . وهو تصوير لعملية القتل بصورتها الحسية المباشرة ، وبالحركة التي تمثلها ، تمشياً مع جو السورة وظلالها .
{ حتى إذآ أثخنتموهم فشدوا الوثاق } . .
والإثخان شدة التقتيل ، حتى تتحطم قوة العدو وتتهاوى ، فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع . وعندئذ - لا قبله - يؤسر من استأسر ويشد وثاقه . فأما والعدو ما يزال قوياً فالإثخان والتقتيل يكون الهدف لتحطيم ذلك الخطر .
وعلى هذا لا يكون هناك اختلاف - كما رأى معظم المفسرين - بين مدلول هذه الآية ، ومدلول آية الأنفال التي عاتب الله فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين لاستكثارهم من الأسرى في غزوة بدر . والتقتيل كان أولى . وذلك حيث يقول تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } فالإثخان أولاً لتحطيم قوة العدو وكسر شوكته؛ وبعد ذلك يكون الأسر .
والحكمة ظاهرة ، لأن إزالة القوة المعتدية المعادية للإسلام هي الهدف الأول من القتال . وبخاصة حين كانت القوة العددية للأمة المسلمة قليلة محدودة . وكانت الكثرة للمشركين . وكان قتل محارب يساوي شيئاً كبيراً في ميزان القوى حينذاك . والحكم ما يزال سارياً في عمومه في كل زمان بالصورة التي تكفل تحطيم قوة العدو ، وتعجيزه عن الهجوم والدفاع .
فأما الحكم في الأسرى بعد ذلك ، فتحدده هذه الآية . وهي النص القرآني الوحيد المتضمن حكم الأسرى :
{ فإما منّاً بعد وإما فداء } . .
أي إما أن يطلق سراحهم بعد ذلك بلا مقابل من مال أو من فداء لأسرى المسلمين . وإما أن يطلق مقابل فدية من مال أو عمل في نظير إطلاق سراح المسلمين المأسورين .
وليس في الآية حالة ثالثة . كالاسترقاق أو القتل . بالنسبة لأسرى المشركين .
ولكن الذي حدث فعلاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء من بعده استرقوا بعض الأسرى- وهو الغالب - وقتلوا بعضهم في حالات معينة .
ونحن ننقل هنا ما ورد حول هذه الآية في كتاب ( أحكام القرآن للإمام الجصاص الحنفي ) ونعلق على ما نرى التعليق عليه في ثناياه . قبل أن نقرر الحكم الذي نراه :(1/69)
* قال الله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } قال أبو بكر قد اقتضى ظاهره وجوب القتل لا غير إلا بعد الإثخان . وهو نظير قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } ( وهذا صحيح فليس بين النصين خلاف ) .
* حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن الحكم قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان . قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة . عن ابن عباس في قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } قال : ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى : { فإما منّاً بعد وإما فداء } . . فجعل الله النبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار . إن شاءوا قتلوهم ، وإن شاءوا استعبدوهم ، وإن شاءوا فادوهم . شك أبو عبيد في . . وإن شاءوا استعبدوهم . . ( والاستعباد مشكوك في صدور القول به عن ابن عباس فنتركه . وأما جواز القتل فلا نرى له سنداً في الآية وإنما نصها المن أو الفداء ) .
* وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا أبو مهدي وحجاج ، كلاهما عن سفيان . قال : سمعت السدي يقول في قوله : { فإما منّاً بعد وإما فداء } . . قال : هي منسوخة ، نسخها قوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } قال أبو بكر : أما قوله : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } . . وقوله : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } . وقوله : { فإما تثقفنَّهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم }
فإنه جائز أن يكون حكماً ثابتاً غير منسوخ . وذلك لأن الله تعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالإثخان في القتل وحظر عليه الأسر - إلا بعد إذلال المشركين وقمعهم - وكان ذلك وقت قلة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوهم من المشركين ، فمتى أثخن المشركون وأذلوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء . فالواجب أن يكون هذا حكماً ثابتاً إذا وجد مثل الحال التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام . ( ونقول : إن الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا خاص بمشركي الجزيرة . بينما النص في سورة محمد عام . فمتى تحقق الإثخان في الأرض جاز أخذ الأسارى . وهذا ما جرى عليه الخلفاء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعد نزول سورة براءة بطبيعة الحال ، ولم يقتلوهم إلا في حالات معينة سيأتي بيانها ) . .
* وأما قوله : { فإما منّاً بعد وإما فداء } . . ظاهره يقتضي أحد شيئين : من أو فداء . وذلك ينفي جواز القتل . وقد اختلف السلف في ذلك . حدثنا حجاج عن مبارك بن فضالة عن الحسن أنه كره قتل الأسير ، وقال : منّ عليه أو فاده . وحدثنا جعفر قال : حدثنا أبو عبيد قال : أخبرنا هشيم . قال : أخبرنا أشعث قال : سألت عطاء عن قتل الأسير فقال : منّ عليه أو فاده قال : وسألت الحسن . قال : يصنع به ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأسارى بدر ، يمن عليه أو يفادي به . وروي عن ابن عمر أنه دفع إليه عظيم من عظماء اصطخر ليقتله ، فأبى أن يقتله ، وتلا قوله : { فإما منّاً بعد وإما فداء } . . وروي أيضاً عن مجاهد ومحمد بن سيرين كراهة قتل الأسير . وقد روينا عن السدي أن قوله : { فإما منّاً بعد وإما فداء } منسوخ بقوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وروي مثله عن ابن جريج . حدثنا جعفر قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : هي منسوخة . وقال : قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقبة ابن أبي معيط يوم بدر صبراً ، قال أبو بكر : اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافاً فيه ، وقد تواترت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتله الأسير ، منها قتله عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر . وقتل يوم أحد أبا عزة الشاعر بعدما أسر . وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بالقتل وسبي الذرية . ومنَّ على الزبير بن باطا من بينهم ، وفتح خيبر بعضها صلحاً وبعضها عنوة ، وشرط على ابن أبي الحقيق ألا يكتم شيئاً ، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله . وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل ، ومقيس بن حبابة ، وعبد الله بن أبي سرح ، وآخرين ، وقال :(1/70)
« اقتلوهم وإن جدتموهم متعلقين بأستار الكعبة » ومنَّ على أهل مكة ولم يغنم أموالهم . وروي عن صالح ابن كيسان عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف ، أنه سمع أبا بكر الصديق يقول : « وددت أني يوم أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته ، وكنت قتلته سريحاً ، أو أطلقته نجيحاً » . وعن أبي موسى أنه قتل دهقان السوس بعدما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسي نفسه فلم يدخلها في الأمان فقتله . فهذه آثار متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه . واتفق فقهاء الأمصار على ذلك . ( وجواز القتل لا يؤخذ من الآية ، ولكن يؤخذ من عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعض الصحابة . وتتبع الحالات التي وقع فيها القتل يعطي أنها حالات خاصة ، وراءها أسباب معينة غير مجرد التعرض للقتال والأسر . فالنضر بن حارث وعقبة بن أبي معيط كلاهما كان له موقف خاص في إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيذاء دعوته . وكذلك أبو عزة الشاعر ، ولبني قريظة كذلك موقف خاص بارتضائهم حكم سعد بن معاذ سلفاً . وهكذا نجد في جميع الحالات أسباباً معينة تفرد هذه الحالات من الحكم العام للأسرى الذي تقرره الآية : { فإما منّاً بعد وإما فداء } ) . .
* وإنما اختلفوا في فدائه ، فقال أصحابنا جميعاً ( يعني الحنفية ) : لا يفادى الأسير بالمال ، ولا يباع السبي من أهل الحرب فيردوا حرباً . وقال أبو حنيفة : لا يفادون بأسرى المسلمين أيضاً ، ولا يردون حرباً أبداً . وقال أبو يوسف ومحمد : لا بأس أن يفادى أسرى المسلمين بأسرى المشركين . وهو قول الثوري والأوزاعي ، وقال الأوزاعي : لا بأس ببيع السبي من أهل الحرب ، ولا يباع الرجال إلا أن يفادى بهم المسلمون . وقال المزني عن الشافعي : للإمام أن يمن على الرجال الذين ظهر عليهم أو يفادي بهم ، فأما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال فإنهم احتجوا بقوله : { فإما منّاً بعد وإما فداء } وظاهره يقتضي جوازه بالمال وبالمسلمين؛ وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فدى أسارى بدر بالمال . ويحتجون للفداء بالمسلمين بما روى ابن المبارك ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران ابن حصين . قال : « أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من بني عامر ابن صعصعة؛ فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو موثق ، فناداه ، فأقبل إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : علام أحبس؟ قال : » بجريرة حلفائك « . فقال الأسير : إني مسلم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : » لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح « . ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فناداه أيضاً ، فأقبل ، فقال : إني جائع فأطعمني . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : » هذه حاجتك « . ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما »
( وحجة القائلين بالفداء أرجح في تقديرنا من حجة أصحاب الإمام الجصاص على الاختلاف في الفداء بالمال أو بأسرى المسلمين ) .
* وقد ختم الإمام الجصاص القول في المسألة بترجيح رأي أصحابه الحنفية قال : وأما ما في الآية من ذكر المن والفداء ، وما روي في أسارى بدر فإن ذلك منسوخ بقوله : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } وقد روينا ذلك عن السدي وابن جريج . وقوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } فتضمنت الآيتان وجوب القتال للكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية . والفداء بالمال أو بغيره ينافي ذلك . ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة « براءة » بعد سورة « محمد » - صلى الله عليه وسلم - فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخاً للفداء المذكور في غيرها . . ( وقد سبق القول بأن هذا القتل للمشركين - أو الإسلام - مقصود به مشركو الجزيرة فهو حكم خاص بهم . أما غيرهم خارجها فتقبل منهم الجزية كما تقبل من أهل الكتاب . وقبول الجزية عند التسليم لا ينفي أن يقع الأسرى في أيدي المسلمين من قبل التسليم . فهؤلاء الأسرى ما الحكم فيهم؟ نقول : إنه يجوز المن عليهم إذا رأى الإمام المصلحة ، أو الفداء بهم بالمال أو بالمسلمين ، إذا ظل قومهم قوة لم تستسلم بعد ولم تقبل الجزية . فأما عند الاستسلام للجزية فالأمر منته بطبيعته وهذه حالة أخرى ، فحكم الأسرى يظل سارياً في الحالة التي لم تنته بالجزية )(1/71)
والخلاصة التي ننتهي إليها أن هذا النص هو الوحيد المتضمن حكم الأسرى . وسائر النصوص تتضمن حالات أخرى غير حالة الأسر . وأنه هو الأصل الدائم للمسألة . وما وقع بالفعل خارجاً عنه كان لمواجهة حالات خاصة وأوضاع وقتية . فقتل بعض الأسرى كان في حالات فردية يمكن أن يكون لها دائماً نظائر؛ وقد أخذوا بأعمال سابقة على الأسر ، لا بمجرد خروجهم للقتال . ومثال ذلك أن يقع جاسوس أسيراً فيحاكم على الجاسوسية لا على أنه أسير . وإنما كان الأسر وسيلة للقبض عليه . (الظلال)
00000000000000
إن أهل الكتاب لم يكونوا ينقمون على المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا ينقمون اليوم على طلائع البعث الإسلامي - إلا أن هؤلاء المسلمين يؤمنون بالله ; وما أنزله الله إليهم من قرآن ; وما صدق عليه قرآنهم مما أنزله الله من قبل من كتب أهل الكتاب . .
إنهم يعادون المسلمين لأنهم مسلمون !
لأنهم ليسوا يهودا ولا نصارى . ولأن أهل الكتاب فاسقون منحرفون عما أنزله الله إليهم ; وآية فسقهم وانحرافهم أنهم لا يؤمنون بالرسالة الأخيرة وهي مصدقة لما بين أيديهم - لا ما ابتدعوه وحرفوه - ولا يؤمنون بالرسول الأخير , وهو مصدق لما بين يديه ; معظم لرسل الله أجمعين .
إنهم يحاربون المسلمين هذه الحرب الشعواء ; التي لم تضع أوزارها قط , ولم يخب أوارها طوال ألف وأربعمائة عام ; منذ أن قام للمسلمين كيان في المدينة ; وتميزت لهم شخصية ; وأصبح لهم وجود مستقل ; ناشى ء من دينهم المستقل , وتصورهم المستقل , ونظامهم المستقل , في ظل منهج الله الفريد .
إنهم يشنون على المسلمين هذه الحرب المشبوبة لأنهم - قبل كل شيء - مسلمون ولا يمكن أن يطفئوا هذه الحرب المشبوبة إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم ; فيصبحوا غير مسلمين . .
ذلك أن أهل الكتاب أكثرهم فاسقون ; ومن ثم لا يحبون المستقيمين الملتزمين من المسلمين !
والله - سبحانه - يقرر هذه الحقيقة في صورة قاطعة , وهو يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم في السورة الأخرى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) . . ويقول له في هذه السورة أن يواجه أهل الكتاب بحقيقة بواعثهم وركيزة موقفهم:
(قل:يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ; وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون ?) . .
وهذه الحقيقة التي يقررها الله سبحانه في مواضع كثيرة من كلامه الصادق المبين , هي التي يريد تمييعها وتلبيسها وتغطيتها وإنكارها اليوم كثيرون من أهل الكتاب , وكثيرون ممن يسمون أنفسهم "مسلمين" . . باسم تعاون "المتدينين" في وجه المادية والإلحاد كما يقولون !
أهل الكتاب يريدون اليوم تمييع هذه الحقيقة بل طمسها وتغطيتها , لأنهم يريدون خداع سكان الوطن الإسلامي - أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح - وتخدير الوعي الذي كان قد بثه فيهم الإسلام بمنهجه الرباني القويم . ذلك أنه حين كان هذا الوعي سليما لم يستطع الاستعمار الصليبي أن يقف للمد الإسلامي , فضلا على أن يستعمر الوطن الإسلامي . .
ولم يكن بد لهؤلاء - بعد فشلهم في الحروب الصليبية السافرة , وفي حرب التبشير السافرة كذلك - أن يسلكوا طريق الخداع والتخدير , فيتظاهروا ويشيعوا بين ورثة المسلمين , أن قضية الدين والحرب الدينية قد انتهت ! وأنها كانت مجرد فترة تاريخية مظلمة عاشتها الأمم جميعا ! ثم تنور العالم و"تقدم" فلم يعد من الجائز ولا اللائق ولا المستساغ أن يقوم الصراع على أساس العقيدة . .
وأنما الصراع اليوم على المادة !
على الموارد والأسواق والاستغلالات فحسب ! وإذن فما يجوز للمسلمين - أو ورثة المسلمين - أن يفكروا في الدين ولا في صراع الدين !
وحين يطمئن أهل الكتاب - وهم الذين يستعمرون أوطان المسلمين - إلى استنامة هؤلاء لهذا التخدير ;وحين تتميع القضية في ضمائرهم ; فإن المستعمرين يأمنون غضبة المسلمين لله ; وللعقيدة . . الغضبة التي لم يقفوا لها يوما . . ويصبح الأمر سهلا بعد التنويم والتخدير . . ولا يكسبون معركة العقيدة وحدها . بل يكسبون معها ما وراءها من الأسلاب والمغانم والاستثمارات والخامات ; ويغلبون في معركة "المادة " بعدما يغلبون في معركة "العقيدة " . . فهما قريب من قريب . .
وعملاء أهل الكتاب في الوطن الإسلامي , ممن يقيمهم الاستعمار هنا وهناك علانية أو في خفية , يقولون القول نفسه . .
لأنهم عملاء يؤدون الدور من داخل الحدود . . وهؤلاء يقولون عن "الحروب الصليبية " ذاتها:إنها لم تكن "صليبية " !!! ويقولون عن "المسلمين" الذين خاضوها تحت راية العقيدة:إنهم لم يكونوا "مسلمين" وإنما هم كانوا "قوميين" !(1/72)
وفريق ثالث مستغفل مخدوع ; يناديه أحفاد "الصليبين" في الغرب المستعمر:أن تعالوا إلينا . تعالوا نجتمع في ولاء ; لندفع عن "الدين" غائلة "الملحدين" ! فيستجيب هذا الفريق المستغفل المخدوع ; ناسيا أن أحفاد الصلييبين هؤلاء وقفوا في كل مرة مع الملحدين ; صفا واحدا , حينما كانت المواجهة للمسلمين ! على مدار القرون ! وما يزالون !
وأنهم لا يعنيهم حرب المادية الالحادية قدر ما تعنيهم حرب الإسلام , ذلك أنهم يعرفون جيدا أن الإلحادية المادية عرض طارى ء وعدو موقوت ; وأن الإسلام أصل ثابت وعدو مقيم ! وإنما هذه الدعوة المموهة لتمييع اليقظة البادئة عند طلائع البعث الإسلامي ; وللانتفاع بجهد المستغفلين المخدوعين - في الوقت ذاته - ليكونوا وقود المعركة مع الملحدين لأنهم أعداء الاستعمار السياسيون !
وهؤلاء كهؤلاء حرب على الإسلام والمسلمين . .
حرب لا عدة فيها للمسلم إلا ذلك الوعي الذي يربيه عليه المنهج الرباني القويم . .
إن هؤلاء الذين تخدعهم اللعبة أو يتظاهرون بالتصديق , فيحسبون أهل الكتاب جادين إذ يدعونهم للتضامن والولاء في دفع الإلحاد عن "الدين" إنما ينسون واقع التاريخ في أربعة عشر قرنا - لا استثناء فيها - كما ينسون تعليم ربهم لهم في هذا الأمر بالذات , وهو تعليم لا مواربة فيه , ولا مجال للحيدة عنه , وفي النفس ثقة بالله ويقين بجدية ما يقول !
إن هؤلاء يجتزئون فيما يقولون ويكتبون بالآيات القرآنية , والأحاديث النبوية , التي تأمر المسلمين أن يحسنوا معاملة أهل الكتاب ; وأن يتسامحوا معهم في المعيشة والسلوك . ويغفلون التحذيرات الحاسمة عن موالاتهم ; والتقريرات الواعية عن بواعثهم , والتعليمات الصريحة عن خطة الحركة الإسلامية , وخطة التنظيم , التي تحرم التناصر والموالاة , لأن التناصر والموالاة لا يكونان عند المسلم إلا في شأن الدين وإقامة منهجه ونظامه في الحياة الواقعية , وليست هناك قاعدة مشتركة يلتقي عليها المسلم مع أهل الكتاب في شأن دينه - مهما يكن هناك من تلاق في أصول هذه الأديان مع دينه قبل تحريفها - إذ هم لا ينقمون منه إلا هذا الدين , ولا يرضون عنه إلا بترك هذا الدين . . كما يقول رب العالمين . .
إن هؤلاء ممن يجعلون القرآن عضين ; يجزئونه ويمزقونه , فيأخذون منه ما يشاءون - مما يوافق دعوتهم الغافلة الساذجة على فرض براءتها - ويدعون منه ما لا يتفق مع اتجاههم الغافل أو المريب !
ونحن نؤثر أن نسمع كلام الله , في هذه القضية , على أن نسمع كلام المخدوعين أو الخادعين ! وكلام الله - سبحانه - في هذه القضية حاسم واضح صريح مبين . .
ونقف وقفة قصيرة في هذا الموضع عند قوله تعالى - بعد تقرير أن سبب النقمة هو الإيمان بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل - أن بقية السبب:
(وأن أكثركم فاسقون)
فهذا الفسق هو شطر الباعث ! فالفسق يحمل صاحبه على النقمة من المستقيم . . وهي قاعدة نفسية واقعية ; تثبتها هذه اللفتة القرآنية العجيبة . .
إن الذي يفسق عن الطريق وينحرف لا يطيق أن يرى المستقيم على النهج الملتزم . . إن وجوده يشعره دائما بفسقه وانحرافه . إنه يتمثل له شاهدا قائما على فسقه هو وانحرافه . . ومن ثم يكرهه وينقم عليه . يكره استقامته وينقم منه التزامه ; ويسعى جاهدا لجره إلى طريقه ; أو للقضاء عليه إذا استعصى قياده !
إنها قاعدة مطردة , تتجاوز موقف أهل الكتاب من الجماعة المسلمة في المدينة , إلى موقف أهل الكتاب عامة من المسلمين عامة . إلى موقف كل فاسق منحرف من كل عصبة ملتزمة مستقيمة . . والحرب المشبوبة دائما على الخيرين في مجتمع الأشرار , وعلى المستقيمين في مجتمع الفاسقين , وعلى الملتزمين في مجتمع المنحرفين . .
هذه الحرب أمر طبيعي يستند إلى هذه القاعدة التي يصورها النص القرآني العجيب . .
ولقد علم الله - سبحانه - أن الخير لا بد أن يلقى النقمة من الشر , وأن الحق لا بد أن يواجه العداء من الباطل , وأن الاستقامة لا بد أن تثير غيظ الفساق , وأن الالتزام لا بد أن يجر حقد المنحرفين .
وعلم الله - سبحانه - أن لا بد للخير والحق والاستقامة والالتزام أن تدفع عن نفسها وأن تخوض المعركة الحتمية مع الشر والباطل والفسق والانحراف . وأنها معركة لا خيار فيها , ولا يملك الحق ألا يخوضها في وجه الباطل . لأن الباطل سيهاجمه , ولا يملك الخير أن يتجنبها لأن الشر لا بد سيحاول سحقه . .
وغفلة - أي غفلة - أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام أنهم متروكون من الباطل والشر والفسق والانحراف ; وأنهم يملكون تجنب المعركة ; وأنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة ! وخير لهم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة ; من أن يستسلموا للوهم والخديعة . . وهم يومئذ مأكولون مأكولون !
***********************
لقد بين سبحانه وتعالى أنهم لن يرضوا عنه ولا عنا حتى نتبع ملتهم :(1/73)
قال تعالى : { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) [البقرة/120، 121] }
لقد حذر الله الأمة المسلمة إياه؛ من اليهود ومن النصارى سواء . وإذا كان الواقع التاريخي قد حفظ لليهود وقفتهم النكدة للإسلام منذ اليوم الأول الذي دخل فيه الإسلام عليهم المدينة؛ في صورة كيد لم ينته ولم يكف حتى اللحظة الحاضرة؛ وإذا كان اليهود لا يزالون يقودون الحملة ضد الإسلام في كل أرجاء الأرض اليوم في حقد خبيث وكيد لئيم . . فإن هذا الواقع قد حفظ كذلك للنصارى الصليبيين أنهم اتخذوا من الإسلام موقف العداء منذ واقعة اليرموك بين جيش المسلمين وجيوش الروم - فيما عدا الحالات التي وقع فيها ما تصفه الآيات التي نحن بصددها فاستجابت قلوب للإسلام ودخلت فيه . وفيما عدا حالات أخرى آثرت فيها طوائف من النصارى أن تحتمي بعدل الإسلام من ظلم طوائف أخرى من النصارى كذلك؛ يلاقون من ظلمها الوبال! - أما التيار العام الذي يمثل موقف النصارى جملة فهو تلك الحروب الصليبية التي لم يخب أوارها قط - إلا في الظاهر - منذ التقى الإسلام والرومان على ضفاف اليرموك!
لقد تجلت أحقاد الصليبية على الإسلام وأهله في الحروب الصليبية المشهورة طوال قرنين من الزمان ، كما تجلت في حروب الإبادة التي شنتها الصليبية على الإسلام والمسلمين في الأندلس ، ثم في حملات الاستعمار والتبشير على المماليك الإسلامية في إفريقية أولاً ، ثم في العالم كله أخيراً .
ولقد ظلت الصهيونية العالمية والصليبة العالمية حليفتين في حرب الإسلام - على كل ما بينهما من أحقاد - ولكنهم كانوا في حربهم للإسلام كما قال عنهم العليم الخبير : { بعضهم أولياء بعض } حتى مزقوا دولة الخلافة الأخيرة . ثم مضوا في طريقهم ينقضون هذا الدين عروة عروة . وبعد أن أجهزوا على عروة « الحكم » ها هم أولاء يحاولون الإجهاز على عروة « الصلاة »!
ثم ها هم أولاء يعيدون موقف اليهود القديم مع المسلمين والوثنيين . فيؤيدون الوثنية حيثما وجدت ضد الإسلام . عن طريق المساعدات المباشرة تارة ، وعن طريق المؤسسات الدولية التي يشرفون عليها تارة أخرى! وليس الصراع بين الهند وباكستان على كشمير وموقف الصليبية منها ببعيد .
وذلك فوق إقامة واحتضان وكفالة الأوضاع التي تتولى سحق حركات الإحياء والبعث الإسلامية في كل مكان على وجه الأرض . وإلباس القائمين بهذه الأوضاع أثواب البطولة الزائفة ودق الطبول من حولهم ، ليستطيعوا الإجهاز على الإسلام ، في زحمة الضجيج العالمي حول الأقزام الذين يلبسون أردية الأبطال!
-------------
تاريخ أهل الكتاب مع الأمة الإسلامية
لقد استقبل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولاً يعرفون صدقه ، وديناً يعرفون أنه الحق . .
استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود . . شككوا في رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفونه؛ واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو وبالتهم والأكاذيب . وما فعلوه في حادث تحويل القبلة ، وما فعلوه في حادث الإفك ، وما فعلوه في كل مناسبة ، ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم . . وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم . وسور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير :
{ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم - وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين ، بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله - بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده - فباءوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين } [ البقرة : 89 - 90 ] .
{ ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } [ البقرة : 101 ] .
{ سيقول السفهاء من الناس : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها . قل : لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ البقرة : 142 ] .
{ يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون . يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟ } [ آل عمران : 70 - 71 ] .
{ وقالت طائفة من أهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } [ آل عمران : 72 ] .(1/74)
{ وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ، ويقولون هو من عند الله ، وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } [ آل عمران : 78 ] .
{ قل : يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون؟ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون } [ آل عمران : 98 - 99 ] .
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء! فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ، فقالوا : أرنا الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم؛ ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات . . . }
[ النساء : 153 ] .
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } . . . [ التوبة : 32 ] .
كذلك شهد التاريخ نقض اليهود لعهودهم مرة بعد مرة وتحرشهم بالمسلمين ، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر . كما شهد تأليب اليهود للمشركين في الأحزاب ، مما هو معروف مشهور .
ثم تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ . . كانوا عناصر أساسية في إثارة الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير . .
وكانوا رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي - رضي الله عنه - ومعاوية . . وقادوا حملة الوضع في الحديث والسيرة وروايات التفسير . . وكانوا من الممهدين لحملة التتار على بغداد وتقويض الخلافة الإسلامية . . .
فأما في التاريخ الحديث فهم وراء كل كارثة حلت بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض؛ وهم وراء كل محاولة لسحق طلائع البعث الإسلامي؛ وهم حماة كل وضع من الأوضاع التي تتولى هذه المحاولة في كل أرجاء العالم الإسلامي!
ذلك شأن اليهود ، فأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب ، فهو لا يقل إصراراً على العداوة والحرب من شأن اليهود!
لقد كانت بين الرومان والفرس عداوات عمرها قرون . . ولكن ما إن ظهر الإسلام في الجزيرة؛ وأحست الكنيسة بخطورة هذا الدين الحق على ما صنعته هي بأيديها وسمته « المسيحية » وهو ركام من الوثنيات القديمة ، والأضاليل الكنسية ، متلبساً ببقايا من كلمات المسيح - عليه السلام - وتاريخه . . حتى رأينا الرومان والفرس ينسون ما بينهم من نزاعات تاريخيه قديمة وعداوات وثارات عميقة ، ليواجهوا هذا الدين الجديد .
ولقد أخذ الروم يتجمعون في الشمال هم وعمالهم من الغساسنة لينقضوا على هذا الدين . وذلك بعد أن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عامل بصرى من قبل الروم - وكان المسلمون يؤمنون الرسل ولكن النصارى غدروا برسول النبي صلى الله عليه وسلم وقتلوه - مما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث بجيش الأمراء الشهداء الثلاثة : زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة في غزوة « مؤتة » فوجدوا تجمعاً للروم تقول الروايات عنه : إنه مائة ألف من الروم ومعه من عملائهم في الشام من القبائل العربية النصرانية مائة ألف أخرى؛ وكان جيش المسلمين لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل . وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة .
ثم كانت غزوة تبوك
ثم كان جيش أسامة بن زيد الذي أعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبيل وفاته؛ ثم أنفذه الخليفة الراشد أبو بكر - رضي الله عنه - إلى أطراف الشام؛ لمواجهة تلك التجمعات الرومانية التي تستهدف القضاء على هذا الدين!
ثم اشتعل مرجل الحقد الصليبي منذ موقعة اليرموك الظافرة ، التي أعقبها انطلاق الإسلام لتحرير المستعمرات الإمبراطورية الرومانية في الشام ومصر وشمال إفريقية وجزر البحر الأبيض . ثم بناء القاعدة الإسلامية الوطيدة في الأندلس في النهاية .
إن « الحروب الصليبية » المعروفة بهذا الاسم في التاريخ ، لم تكن هي وحدها التي شنتها الكنيسة على الإسلام ، لقد كانت هذه الحروب مبكرة قبل هذا الموعد بكثير . . لقد بدأت في الحقيقة منذ ذلك التاريخ البعيد . . منذ أن نسي الرومان عداواتهم مع الفرس؛ وأخذ النصارى يعينون الفرس ضد الإسلام في جنوب الجزيرة . ثم بعد ذلك في « مؤتة » . ثم فيما تلا موقعة اليرموك الظافرة . . ثم تجلت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس عندما زحفت الصليبية على القاعدة الإسلامية في أوربة ، وارتكبت من الوحشية في تعذيب ملايين المسلمين وقتلهم هناك ما لم يعرف التاريخ له نظيراً من قبل . . وكذلك تجلت في الحروب الصليبية في الشرق بمثل هذه البشاعة التي لا تتحرج ولا تتذمم؛ ولا تراعي في المسلمين إِلاًّ ولا ذمة .
ومما جاء في كتاب « حضارة العرب » لجوستاف لوبون - وهو فرنسي مسيحي - :(1/75)
« كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين ، ثلاث آلاف أسير سلموا أنفسهم إليه ، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم . ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب ، مما أثار صلاح الدين الأيوبي النبيل ، الذي رحم نصارى القدس ، فلم يمسهم بأذى ، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأدوية والأزواد ، أثناء مرضهما » .
كذلك كتب كاتب مسيحي آخر ( اسمه يورجا ) يقول :
« ابتدأ الصليبيون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع ، فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها . وقد أسرفوا في القسوة فكانوا يبقرون البطون . ويبحثون عن الدنانير في الأمعاء! أما صلاح الدين ، فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبيين ، ووفى لهم بجميع عهوده ، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطأوهم مهاد رأفتهم ، حتى أن الملك العادل ، شقيق السلطان ، أطلق ألف رقيق من الأسرى ، ومنّ على جميع الأرمن ، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة ، وأبيح للأميرات والملكة بزيارة أزواجهن » .
ولا يتسع المجال في الظلال لاستعراض ذلك الخط الطويل للحروب الصليبية - على مدار التاريخ - ولكن يكفي أن نقول : إن هذه الحرب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية . ويكفي أن نذكر ماذا حدث في زنجبار حديثاً . حيث أبيد المسلمون فيها عن بكرة أبيهم ، فقتل منهم اثنا عشر ألفاً وألقي الأربعة الآلاف الباقون في البحر منفيين من الجزيرة! ويكفي أن نذكر ماذا وقع في قبرص ، حيث منع الطعام والماء عن الجهات التي يقطنها بقايا المسلمين هناك ليموتوا جوعاً وعطشاً ، فوق ما سلط عليهم من التقتيل والتذبيح والتشريد! ويكفي أن نذكر ما تزاوله الحبشة في اريترية وفي قلب الحبشة ، وما تزاوله كينيا مع المائة ألف مسلم الذين ينتمون إلى أصل صومالي ، ويريدون أن ينضموا إلى قومهم المسلمين في الصومال! ويكفي أن نعلم ماذا تحاوله الصليبية في السودان الجنوبي!
ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944 يقول فيه؟
« لقد كنا نخوّف بشعوب مختلفة ، ولكننا بعد اختبار ، لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف .
لقد كنا نخوّف من قبل بالخطر اليهودي ، والخطر الأصفر ، وبالخطر البلشفي . إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه . إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا ، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد! ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا ، أما الشعوب الصفراء فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها . ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام ، وفي قوته على التوسع والإخضاع ، وفي حيويته . . إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي «
ولا نستطيع أن نمضي أبعد من ذلك في استعراض تاريخ تلك الحرب العاتية التي أعلنتها الصليبية على الإسلام وما تزال . .
********************
قادة الغرب يقولون دمّروا الإسلام أبيدوا أهله (2)
للأستاذ جلال العالم
الطبعة التاسعة وفيها زيادات هامة
بسم الله الرحمن الرحيم
صرخة
إلى كل مخلص في هذه الأمة:
إلى القادة والزعماء في كل مكانٍ من العالم الإسلامي، والعرب منهم خاصة:
أعداؤنا يقولون: يجب أن ندمّر الإسلام لأنه مصدر القوة الوحيد للمسلمين، لنسيطر عليهم ، الإسلام يخيفنا، ومن أجل إبادته نحشد كل قوانا، حتى لا يبتلعنا ..
فماذا تفعلون أنتم أيها القادة والزعماء ؟!!..
بالإسلام تكتسحون العالم – كما يقول علماء العالم وسياسيوه – فلماذا تترددون ..؟! خذوه لعزتكم، لا تقاوموه فيهلككم الله بعذابه، ولا بد أن ينتصر المؤمنون به … اقرأوا إن شئتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"تكون نبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم تنقضي ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة ما شاء الله لها أن تكون ثم تنقضى ثم يكون ملكاً عضوضاً (وراثياً) ما شاء الله له أن يكون ثم ينقضى ، ثم تكون جبرية (ديكتاتوريات) ما شاء الله لها أن تكون ثم تنقضى ، ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة تعم الأرض".
أيها السادة والقادة في دول العالم الإسلامي، والعرب منهم خاصة:
كونوا أعوان الإسلام لا أعداءه .. يرضى الله عنكم، ويرضي الناس عنكم، وتسعدوا .. وتلتف حولكم شعوبكم لتقودوها نحو أعظم ثورة عالمية عرفها التاريخ.
أيها السادة والقادة:
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو قريشاً لتكون معه، كان يَعِد رجالاتها أن يرثوا بالإسلام الأرض، فأبى من أبى، وماتوا تحت أقدام جيوش العدل المنصورة التي انساحت في الأرض … وخلدهم التاريخ، لكن أين ... في أقذر مكان منه، يلعنهم الناس إلى يوم الدين، وعذاب جهنم أشد وأنكى …
ووعدنا رسول الله أن يعم ديننا الأرض، وسيعم بدون شك.
فلا تكونوا مع من سيكتبهم التاريخ من الملعونين أبد الدهر، بل كونوا مع المنصورين الخالدين.
والله غالب على أمره … ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
طرابلس في 15/8/1974
أنظروا كيف يحقدون !!..(1/76)
إن المتتبع لتاريخ العلاقات ما بين الغرب وشعوب الإسلام، يلاحظ حقداً مريراً يملأ صدر الغرب حتى درجة الجنون، يصاحب هذا الحقد خوف رهيب من الإسلام إلى أبعد نقطة في النفسية الأوروبية.
هذا الحقد، وذلك الخوف، لا شأن لنا بهما إن كانا مجرد إحساس نفسي شخصي، أما إذا كانا من أهم العوامل التي تبلور مواقف الحضارة الغربية من الشعوب الإسلامية، سياسياً، واقتصادياً، وحتى هذه الساعة، فإن موقفنا يتغير بشكل حاسم.
سوف تشهد لنا أقوال قادتهم أن للغرب، والحضارة الغربية بكل فروعها القومية، وألوانها السياسية موقفاً تجاه الإسلام لا يتغير، إنها تحاول تدمير الإسلام، وإنهاء وجود شعوبه دون رحمة.
حاولوا تدمير الإسلام في الحروب الصليبية الرهيبة ففشلت جيوشهم التي هاجمت بلاد الإسلام بالملايين، فعادوا يخططون من جديد لينهضوا .. ثم ليعودوا إلينا، بجيوش حديثة، وفكر جديد .. وهدفهم تدمير الإسلام من جديد ..
كان جنديهم ينادى بأعلى صوته، حين كان يلبس بذة الحرب قادماً لاستعمار بلاد الإسلام:
أماه …
أتمى صلاتك .. لا تكبى ..
بل اضحكي وتأملي ..
أنا ذاهب إلى طرابلس …
فرحاً مسروراً ..
سأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة …
سأحارب الديانة الإسلامية …
سأقاتل بكل قوتي لحمو القرآن ….( القومية والغزو الفكري – ص 208.)
* * *
وانتصرت جيوش الحقد هذه على أمة الإسلام التي قادها أسوأ قادةٍ عرفهم التاريخ … اضطهدوا أممهم حتى سحقوها ..
انتصرت جيوش الغرب بعد أن ذلل لها هؤلاء الحكام السبيل …
فماذا فعلت هذه الجيوش؟..
استباحت الأمة كلها، هدمت المساجد، أو حولتها إلى كنائس، ثم أحرقت مكتبات المسلمين .. ثم أحرقت الشعوب نفسها.
لنقرأ ما كتبه كتّابهم أنفسهم حول ما فعلوه أو يفعلونه بالمسلمين، ولن نستعرض هنا إلا بعض النماذج فقط .. من أنحاء مختلفة من عالمنا الإسلامي المستباح:
1-في الأندلس :
تقول الدكتورة سيجريد هونكه:
في 2 يناير 1492 م رفع الكاردينال (دبيدر) الصليب على الحمراء، القلعة الملكية للأسرة الناصرية، فكان إعلاناً بانتهاء حكم المسلمين على أسبانيا.
وبانتهاء هذا الحكم ضاعت تلك الحضارة العظيمة التي بسطت سلطانها على أوربا طوال العصور الوسطى، وقد احترمت المسيحية المنتصرة اتفاقاتها مع المسلمين لفترة وجيزة، ثم باشرت عملية القضاء على المسلمين وحضارتهم وثقافتهم.
لقد حُرِّم الإسلام على المسلمين، وفرض عليهم تركه، كما حُرِّم عليهم استخدام اللغة العربية، والأسماء العربية، وارتداء اللباس العربي، ومن يخالف ذلك كان يحرق حيًّا بعد أن يعذّب أشد العذاب. ( القومية– ص 174. )
وهكذا انتهى وجود الملايين من المسلمين في الأندلس فلم يبق في أسبانيا مسلم واحد يُظهر دينه.
لكن كيف كانوا يعذبون؟!!.. هل سمعت بدواوين التفتيش .. إن لم تكن قد سمعت فتعال أعرفك عليها.
بعد مرور أربعة قرون على سقوط الأندلس، أرسل نابليون حملته إلى أسبانيا وأصدر مرسوماً سنة 1808 م بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الأسبانية.
تحدث أحد الضباط الفرنسيين فقال:
"أخذنا حملة لتفتيش أحد الأديرة التي سمعنا أن فيها ديوان تفتيش، وكادت جهودنا تذهب سدى ونحن نحاول العثور على قاعات التعذيب، إننا فحصنا الدير وممراته وأقبيته كلها. فلم نجد شيئاً يدل على وجود ديوان للتفتيش. فعزمنا على الخروج من الدير يائسين، كان الرهبان أثناء التفتيش يقسمون ويؤكدون أن ما شاع عن ديرهم ليس إلا تهماً باطلة، وأنشأ زعيمهم يؤكد لنا براءته وبراءة أتباعه بصوت خافت وهو خاشع الرأس، توشك عيناه أن تطفر بالدموع، فأعطيت الأوامر للجنود بالاستعداد لمغادرة الدير، لكن اللفتنانت "دي ليل" استمهلني قائلاً: أيسمح لي الكولونيل أن أخبره أن مهمتنا لم تنته حتى الآن؟!!. قلت له: فتشنا الدير كله، ولم نكتشف شيئاً مريباً. فماذا تريد يا لفتنانت؟!.. قال: إنني أرغب أن أفحص أرضية هذه الغرف فإن قلبي يحدثني بأن السر تحتها.
عند ذلك نظر الرهبان إلينا نظرات قلقة، فأذنت للضابط بالبحث، فأمر الجنود أن يرفعوا السجاجيد الفاخرة عن الأرض، ثم أمرهم أن يصبوا الماء بكثرة في أرض كل غرفة على حدة – وكنا نرقب الماء – فإذا بالأرض قد ابتلعته في إحدى الغرف. فصفق الضابط "دي ليل" من شدة فرحه، وقال ها هو الباب، انظروا، فنظرنا فإذا بالباب قد انكشف، كان قطعة من أرض الغرفة، يُفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة وضعت إلى جانب رجل مكتب رئيس الدير.
أخذ الجنود يكسرون الباب بقحوف البنادق، فاصفرت وجوه الرهبان، وعلتها الغبرة.
وفُتح الباب، فظهر لنا سلم يؤدي إلى باطن الأرض، فأسرعت إلى شمعة كبيرة يزيد طولها على متر، كانت تضئ أمام صورة أحد رؤساء محاكم التفتيش السابقين، ولما هممت بالنزول، وضع راهب يسوعى يده على كتفي متلطفاً، وقال لي: يابني: لا تحمل هذه الشمعة بيدك الملوثة بدم القتال، إنها شمعة مقدسة.(1/77)
قلت له، يا هذا إنه لا يليق بيدي أن تتنجس بلمس شمعتكم الملطخة بدم الأبرياء، وسنرى من النجس فينا، ومن القاتل السفاك!؟!.
وهبطت على درج السلم يتبعني سائر الضباط والجنود، شاهرين سيوفهم حتى وصلنا إلى آخر الدرج، فإذا نحن في غرفة كبيرة مرعبة، وهي عندهم قاعة المحكمة، في وسطها عمود من الرخام، به حلقة حديدية ضخمة، وربطت بها سلاسل من أجل تقييد المحاكمين بها.
وأمام هذا العمود كانت المصطبة التي يجلس عليها رئيس ديوان التفتيش والقضاة لمحاكمة الأبرياء. ثم توجهنا إلى غرف التعذيب وتمزيق الأجسام البشرية التي امتدت على مسافات كبيرة تحت الأرض.
رأيت فيها ما يستفز نفسي، ويدعوني إلى القشعريرة والتقزز طوال حياتي.
رأينا غرفاً صغيرةً في حجم جسم الإنسان، بعضها عمودي وبعضها أفقي، فيبقى سجين الغرف العمودية واقفاً على رجليه مدة سجنه حتى يموت، ويبقى سجين الغرف الأفقية ممداً بها حتى الموت، وتبقى الجثث في السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم، وتأكله الديدان، ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من جثث الموتى فتحوا نافذة صغيرة إلى الفضاء الخارجي.
وقد عثرنا في هذه الغرف على هياكل بشرية ما زالت في أغلالها.
كان السجناء رجالاً ونساءً، تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة عشرة والسبعين، وقد استطعنا إنقاذ عدد من السجناء الأحياء، وتحطيم أغلالهم ، وهم في الرمق الأخير من الحياة.
كان بعضهم قد أصابه الجنون من كثرة ما صبوا عليه من عذاب، وكان السجناء جميعاً عرايا، حتى اضطر جنودنا إلى أن يخلعوا أرديتهم ويستروا بها بعض السجناء.
أخرجنا السجناء إلى النور تدريجياً حتى لا تذهب أبصارهم، كانوا يبكون فرحاً، وهم يقبّلون أيدي الجنود وأرجلهم الذين أنقذوهم من العذاب الرهيب، وأعادوهم إلى الحياة، كان مشهداً يبكي الصخور.
ثم انتقلنا إلى غرف أخرى، فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشري، كانوا يبدؤون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيا، حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم، هكذا كانوا يفعلون بالسجناء الأبرياء المساكين،
ثم عثرنا على صندوقٍ في حجم جسم رأس الإنسان تماماً، يوضع فيه رأس الذي يريدون تعذيبه بعد أن يربطوا يديه ورجليه بالسلاسل والأغلال حتى لا يستطيع الحركة، وفي أعلى الصندوق ثقب تتقاطر منه نقط الماء البارد على رأس المسكين بانتظام، في كل دقيقة نقطة، وقد جُنّ الكثيرون من هذا اللون من العذاب، ويبقى المعذب على حاله تلك حتى يموت.
وآلة أخرى للتعذيب على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة.
كانوا يلقون الشاب المعذب في هذا التابوت، ثم يطبقون بابه بسكاكينه وخناجره. فإذا أغلق مزق جسم المعذب المسكين، وقطعه إرباً إرباً.
كما عثرنا على آلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب ثم تشد ليخرج اللسان معها، ليقص قطعة قطعة، وكلاليب تغرس في أثداء النساء وتسحب بعنفٍ حتى تتقطع الأثداء أو تبتر بالسكاكين.
وعثرنا على سياط من الحديد الشائك يُضرب بها المعذبون وهم عراة حتى تتفتت عظامهم، وتتناثر لحومهم( (محاكم التفتيش للدكتور علي مظهر. نقلا عن كتاب التعصب والتسامح للأستاذ محمد الغزالي. صفحات 311-318 باختصار.).
هذا العذاب كان موجهاً ضد الطوائف المخالفة من المسيحيين فماذا كانوا يفعلون بالمسلمين؟؟ … أشد وأنكى لا شك.
* * *
2- دواوين التفتيش في البلاد الإسلامية :
ويبدو أن دواوين التفتيش هذه قد انتقلت إلى بقاع العالم الإسلامي، ليسلطها حكام مجرمون فجرة على شعوبهم. فقد ذكر لي شاهد عيان بعض أنواع التعذيب التي كانت تنفذ في أحد البلدان الإسلامية ضد مجموعة من العلماء المجاهدين فقال:
بعد يوم من التعذيب الشديد ساقنا الزبانية بالبسياط إلى زنزاناتنا، وأمرنا الجلادون أن نستعد ليوم آخر شديد.. صباح اليوم التالي أمرنا الجلادون أن نخرج فوراً، كنا نستجمع كل قوتنا في أقدامنا الواهنة هرباً من السياط التي كانت تنزل علينا من حرس كان عددهم أكبر منا.
وأخيراً أوقفونا في سهل صحراوي، تحت أشعة الشمس اللاهبة، حول كومةٍ من الفحم الجيري، كان يعمل الحرس جاهدين لإشعاله، وقرب النار مصلبة خشبية تستند إلى ثلاثة أرجل.
اشتعلت كومة الفحم الحجري حتى احمرت، فجأة سمعنا شتائم تأتي من بعيد، التفتنا فوجدنا خمسة من الحرس يقودون شاباً عرفه بعضنا، كان اسمه "جاويد خان إمامي" أحد علماء ذلك البلد.
امتلأ الأفق بنباح كلاب مجنونة، رأينا عشرة من الحرس يقودون كلبين، يبلغ ارتفاع كل واحد منهما متراً، علمنا بعد ذلك أنهما قد حرما من الطعام منذ يومين.
اقترب الحرس بالشاب جاويد من كومة النار الحمراء .. وعيونه مغمضة بحزام سميك.(1/78)
كنا نتفرج .. أكثر من مائة سجين، ومعنا أكثر من مائة وخمسين من الحرس، معهم البنادق والرشاشات. فجأة اقترب من الشاب جاويد عشرة من الحراس، أجلسوه على الأرض، ووضعوا في حضنه مثلثاً خشبياً، ربطوه إليه ربطاً محكماً، بحيث يبقى قاعداً، لا يستطيع أن يتمدد، ثم حملوه جميعاً، وأجلسوه على الجمر الأحمر، فصرخ صرخة هائلة، ثم أغمى عليه.
سقط منا أكثر من نصفنا مغمى عليهم .. كانوا يصرخون متألمين .. وعمت رائحة شواء لحم جاويد المنطقة كلها، ومن حسن حظي أنني بكيت بكاء مراً. لكنني لم أصب بالإغماء .. لأرى بقية القصة التي هي أفظع من أولها.
حُمل الشاب، وفكت قيوده وهو غائب عن وعيه، وصلب على المصلبة الخشبية، وربط بها بإحكام، واقترب الجلادون بالكلبين الجائعين، وفكوا القيود عن أفواههما، وتركوهما يأكلان لحم ظهر جاويد المشوى. بدأت أشعر بالانهيار، وجننت عندما سمعت صرخة خافتة تصدر عن جاويد .. إنه لازال حياً والكلاب تأكل لحمه فقدت وعيي بعدها ..
لم أفق إلا وأنا أصرخ في زنزانتى كالمجنون .. دون أن أشعر .. جاويد .. جاويد.. أكلتك الكلاب يا جاويد .. جاويد … كان إخواني في الزنزانة قد ربطوني وأحاطوا رأسي وفمي بالأربطة حتى لا يسمع الجلادون صوتي فيكون مصيري كمصير جاويد، أو كمصير شاهان خاني الذي أصيب بالهستيريا مثلي، فأصبح يصرخ جاويد .. جاويد .. فأخذه الجلادون ووضعوا فوقه نصف برميل مملوء بالرمل، ثم سحبوه على الأسلاك الشائكة التي ربطوها صفاً أفقياً، فمات بعد أن تقطع لحمه ألف قطعة، وهو يصرخ: الله أكبر .. الله أكبر .. لابد أن ندوسكم أيها الظالمون.
وأخيراً أغمى عليّ.
فتحت عيوني .. فوجئت أنني في أحد المشافى ، وفوجئت أكثر من ذلك بسفير بلدي يقف فوق رأسي، قال لي: كيف حالك .. يبدو أنك ستشفى إن شاء الله. لو لم تكن غريباً عن هذه البلاد لما استطعت إخراجك .. فاجأني سائلاً: لكن بالله عليك، قل لي، من هو هذا جاويد الذي كنت تصرخ باسمه. أخبرته بكل شيء، فامتقع لونه حتى خشيت أن يغمى عليه.
لم نكمل حديثنا إلا والشرطة تسأل عني .. اقترب من سريري ضابط بوليس، وسلمني أمراً بمغادرة البلاد فوراً. ولم تنجح تدخلات السفير في ضرورة إبقائي حتى أشفى، حملوني ووضعوني في باخرة أوصلتني إلى ميناء بلدي، كنت بثياب المستشفى، ليس معي أي وثيقة تثبت شخصيتي، اتصلت بأهلي تليفونيا، فلما حضرا لم يعرفوني لأول وهلة، حملوني إلى أول مستشفى، بقيت فيه ثلاثة أشهر في بكاء مستمر، ثم شفاني الله …
وأنهى المسكين حديث قائلاً:
بقى أن تعرف أن مدير السجون يهودي، والمسؤول عن التعذيب خبير ألماني نازي، أطلقت تلك الحكومة في ذلك البلد الإسلامي يده يفعل في علماء المسلمين كيف يشاء.
* * *
3- ومن الحبشة أمثلة أخرى:
استولت الحبشة على أرتيريا المسلمة بتأييد من فرنسا وانكلترا .. فماذا فعلت فيها؟!!..
صادرت معظم أراضيها، وأسلمتها لإقطاعيين من الحبشة، كان الإقطاعي والكاهن مخولين بقتل أي مسلم دون الرجوع إلى السلطة، فكان الإقطاعي أو الكاهن يشنق فلاحيه أو يعذبهم في الوقت الذي يريد …
فُتحت للفلاحين المسلمين سجون جماعية رهيبة، يجلد فيها الفلاحون بسياطٍ تزن أكثر من عشر كيلوا غرامات، وبعد إنزال أفظع أنواع العذاب بهم كانوا يلقون في زنزانات بعد أن تربط أيديهم بأرجلهم، ويتركون هكذا لعشر سنين أو أكثر، عندما كانوا يخرجون من السجون كانوا لا يستطيعون الوقوف، لأن ظهورهم قد أخذت شكل القوس.
كل ذلك كان قبل استلام هيلاسيلاسي السلطة في الحبشة، فلما أصبح إمبراطور الحبشة وضع خطة لإنهاء المسلمين خلال خمسة عشر عاماً، وتباهى بخطته هذه أمام الكونغرس الأمريكى.
سن تشريعات لإذلال المسلمين منها أن عليهم أن يركعوا لموظفى الدولة وإلا يقتلوا.
أمر أن تستباح دماؤهم لأقل سبب، فقد وجد شرطى قتيلاً قرب قرية مسلمة، فأرسلت الحكومة كتيبة كاملة قتلت أهل القرية كلهم وأحرقتهم مع قريتهم، ثم تبين أن القاتل هو صديق المقتول، الذي اعتدى على زوجته حاول أحد العلماء واسمه الشيخ عبد القادر أن يثور على هذه الإبادة فجمع الرجال، واختفى في الغابات، فجمعت الحكومة أطفالهم ونساءهم وشيوخهم في أكواخٍ من الحشيش والقصب، وسكبت عليهم البنزين وأحرقتهم جميعاً.
ومن قبضت عليه من الثوار كانت تعذبه عذاباً رهيباً قبل قتله، من ذلك إطفاء السجائر في عينيه وأذنيه، وهتك عرض بناته وزوجته وأخواته أمام عينيه، ودق خصيتيه بأعقاب البنادق .. وجره على الأسلاك الشائكة حتى يتفتت، وإلقاؤه جريحاً قبل أن يموت لتأكله الحيوانات الجارحة، بعد أن تربطه بالسلاسل حتى لا يقاوم.
أصدر هيلاسيلاسى أمراً بإغلاق مدارس المسلمين وأمر بفتح مدارس مسيحية وأجبر المسلمين على إدخال أبنائهم فيها ليصبحوا مسيحيين.(1/79)
عين حُكاماً فجرة على مقاطعات أرتيريا منهم واحد عينه على مقاطعة جَمَة، ابتدأ عمله بأن أصدر أمراً أن لا يقطف الفلاحون ثمار أراضيهم إلا بعد موافقته، وكان لا يسمح بقطافها إلا بعد أن تتلف، وأخيراً صادر 90% من الأراضي، أخذ هو نصفها وأعطى الإمبراطور نصفها. ونهب جميع ممتلكات الفلاحين المسلمين..
أمرهم أن يبنوا كنيسة كبرى في الإقليم فبنوها .. ثم أمرهم أن يعمروا كنسية عند مدخل كل قرية أو بلدة ولم يكتف بذلك بل بنى دوراً للعاهرات حول المساجد ومعها الحانات التي كان يسكر فيها الجنود، ثم يدخلون إلى المساجد ليبولوا بها ويتغوطوا ، وليراقصوا العاهرات فيها وهم سكارى .
كما فرض على الفلاحين أن يبيعوا أبقارهم لشركة أنكودا اليهودية .
كافأه الإمبراطور على أعماله هذه بأن عينه وزيراً للداخلية .
كانت حكومة الإمبراطور تلاحق كل مثقف مسلم. لتزجه في السجن حتى الموت، أو تجبره على مغادرة البلاد حتى يبقى شعب أرتيريا المسلم مستعبداً جاهلاً. وغير ذلك كثير( كفاح دين للأستاذ محمد الغزالي، صفحات 60 - 80.
4- ومن بنغلاديش :
قتل الجيش الهندي الذي كان يقوده يهود عشرة آلاف عالمٍ مسلم بعد انتصاره على جيش باكستان عام 1971 وقتل مائة ألف من طلبة المعاهد الإسلامية ، وموظفي الدولة ، وسجن خمسين ألف من العلماء وأساتذة الجامعات وقتل ربع مليون مسلم هندي هاجروا من الهند إلى باكستان قبل الحرب وسلب الجيش الهندي ما قيمته ( 30 ) مليار روبية من باكستان الشرقية التي سقطت من أموال الناس والدولة ( مأسات بنكلاديش ( محمد خليل الله ) صفحات : 7 ، 19 ، 20 ، 22 ، 23 ) .
ولن نتعرض هنا لأشكال التعذيب التي صبها الجيش الهندي على المسلمين العزل في ما دعي بعد ذلك ببنغلاديش .
***
والأمثلة من كل مكان من العالم الإسلامي، يكاد الصدر يتفجر ضيقاً من تذكرها ..
لكنها بداية الخلاص إن شاء الله .. إنها سياط اليقظة التي ستُذهب نوم القرون، وتُخرج من تحت الأرض سكان القبور.
وما ذلك على الله بعزيز.
نتساءل أخيراً:
هل مواقف الغرب وأتباعه التي رأيناها هي مواقف عاطفية استثنائية ؟!..
لا .. إنها مواقف مقررة مسبقاً في فكر الغرب وعقول قادته .. يمارسها الغربيون وأتباعهم عن تصميم واقتناع كامل، وبإرادة واعية تماماً … وعن عمدٍ ..
ولماذا ذلك كله … ؟!!…
هذا ما سنبينه بوضوح في هذه الدراسة التي سنبنيها على أقوال قادة الغرب فقط .. دون أن نُدخل فيها أي اجتهاد أو استنتاج لتسهل الحجة، ويظهر الحق، ويستنير طريق المضللين الذين يمارسون بأيديهم إبادة مقومات القوة في أممهم ليسهلوا على العدو الكبير المتربص التهامها.
وما أفظعها من مهمة يمارسها العملاء .. حين يدمرون أممهم، ثم يدفعونها في فم الغول الاستعماري البشع … ليلتهمها … فيارب متى ينتبهون … ؟!!..
* * *
موقف الغرب من الإسلام
الحروب الصليبية مستمرة:
يبنى الغرب علاقاته معنا على أساس أن الحروب الصليبية لا تزال مستمرة بيننا وبينه:
1-فسياسة أمريكا معنا تخطط على هذا الأسس :
يقول أيوجين روستو رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية ومساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس جونسون لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967م يقول:
"يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية". لقد كان الصراع محتدماً ما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، بصور مختلفة. ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي .
ويتابع :
إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي، بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها. إن روستو يحدد أن هدف الاستعمار في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام إسرائيل، هو جزء من هذا المخطط، وأن ذلك ليس إلا استمراراً للحروب الصليبية. ( معركة المصير – صفحات 87-94. )
2- والحرب الصليبية الثامنة قادها اللنبى :
يقول باترسون سمث في كتابه "حياة المسيح الشعبية" باءت الحروب الصليبية بالفشل، لكن حادثاً خطيراً وقع بعد ذلك، حينما بعثت انكلترا بحملتها الصليبية الثامنة، ففازت هذه المرة، إن حملة اللنبى على القدس أثناء الحرب العالمية الأولى هي الحملة الصليبية الثامنة، والأخيرة. ( مجلة الطليعة القاهرية، مقال وليم سليمان، عدد ديسمبر عام 1966 – صفحة 84.)
لذلك نشرت الصحف البريطانية صور اللنبى وكتبت تحتها عبارته المشهورة التي قالها عندما فتح القدس:
اليوم انتهت الحروب الصليبية.(1/80)
ونشرت هذه الصحف خبراً آخر يبين أن هذا الموقف ليس موقف اللنبى وحده بل موقف السياسة الإنكليزية كلها، قالت الصحف :
هنأ لويد جورج وزير الخارجية البريطاني الجنرال اللنبى في البرلمان البريطاني، لإحرازه النصر في آخر حملة من الحروب الصليبية، التي سماها لويد جورج الحرب الصليبية الثامنة.
3- والفرنسيون أيضاً صليبيون:
فالجنرال غورو عندما تغلب على جيش ميسلون خارج دمشق توجه فوراً إلى قبر صلاح الدين الأيوبي عند الجامع الأموي، وركله بقدمه وقال له:
"ها قد عدنا يا صلاح الدين".( القومية والغزو الفكري – ص 84. )
ويؤكد صليبية الفرنسيين ما قاله مسيو بيدو وزير خارجية فرنسا عندما زاره بعض البرلمانيين الفرنسيين وطلبوا منه وضع حد للمعركة الدائرة في مراكش أجابهم:
"إنها معركة بين الهلال والصليب".( مأساة مراكش – روم رولاند – ص 310.)
4- وحزب الكتائب وشمعون يعتبرون أن حرب لبنان هي حرب صليبية :
صفحة من جريدة العمل في خدمة لبنان يشرف على سياستها بيير الجميل كما هو مكتوب في الصفحة .
5- وقالوا عام 1967م بعد سقوط القدس:
قال راندولف تشرشل:
لقد كان إخراج القدس من سيطرة الإسلام حلم المسيحيين واليهود على السواء، إن سرور المسيحيين لا يقل عن سرور اليهود. إن القدس قد خرجت من أيدي المسلمين، وقد أصدر الكنيست اليهودي ثلاثة قرارات بضمها إلى القدس اليهودية ولن تعود إلى المسلمين في أية مفاوضات مقبلة ما بين المسلمين واليهود. ( راندولف تشرشل، حرب الأيام الستة – ص 129 من الترجمة العربية.)
6- والصهاينة أيضاً:
عندما دخلت قوات إسرائيل القدس عام 1967 تجمهر الجنود حول حائط المبكى، وأخذوا يهتفون مع موشى دايان:
هذا يوم بيوم خيبر … يالثارات خيبر.
وتابعوا هتافهم:
حطوا المشمش عالتفاح، دين محمد ولى وراح ..
وهتفوا أيضاً:
محمد مات .. خلف بنات ..
كل ذلك دعا الشاعر محمد الفيتورى إلى تنظيم قصيدته الرائعة مخاطباً نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم:
يا سيدي ..
عليك أفضل الصلاة والسلام ..
من أمة مُضاعة ..
تقذفها حضارة الخراب والظلام ..
يا سيدي … منذ ردمنا البحر بالسدود ..
وانتصبت ما بيننا وبينك الحدود ..
متنا ..
وداست فوقنا ماشية اليهود.. ( الشعب والأرض – ج1- ص 34 – ودرس من النكبة الثانية – ص 76.).
6- واستغلت إسرائيل صليبية الغرب :
خرج أعوانها بمظاهرات قبل حرب الـ 1967 تحمل لافتات في باريس، سار تحت هذه اللافتات جان بول سارتر، كتبت على هذه اللافتات، وعلى جميع صناديق التبرعات لإسرائيل جملة واحدة من كلمتين، هما:
"قاتلوا المسلمين"
فالتهب الحماس الصليبي الغربي، وتبرع الفرنسيون بألف مليون فرنك خلال أربعة أيام فقط … كما طبعت إسرائيل بطاقات معايدات كتبت عليها "هزيمة الهلال". بيعت بالملايين … لتقوية الصهاينة الذين يواصلون رسالة الصليبية الأوروبية في المنطقة، وهي محاربة الإسلام وتدمير المسلمين ( طريق المسلمين إلى الثورة الصناعية – ص 20 -21.).
***
الجدَار الصلب
نتساءل هنا:
هل يشن الغرب حرباً صليبيةً على العالم الإسلامي استجابةً لظروف تاريخية التحم فيها الإسلام مع المسيحية، وانتزع من المسيحية أممها وعواصمها ؟؟
أم أن هناك عوامل أخرى تدفع الغرب إلى شن حروبه الصليبية ضد عالم الإسلام ؟ …
يبدو من تصريحات قادة الغرب أنهم يشنون الحرب على الإسلام لعوامل أخرى …
إنهم يرونه الجدار الصلب الذي يقف في وجه سيطرتهم على العالم واستغلالهم له :
1-فهم يرونه الجدار الوحيد أمام الاستعمار :
يقول لورنس براون:
"إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربى"( التبشير والاستعمار – ص 104. ).
ويقول غلادستون رئيس وزراء بريطانيا سابقاً :
ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربة السيطرة على الشرق . ( الإسلام على مفترق الطرق، لمحمد أسد – ص 39.)
ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر في ذكرى مرور مائة سنة على استعمار الجزائر:
إننا لن ننتصر على الجزائريين ما داموا يقرؤون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم( ( المنار – عدد 9/11/1962.).
2-ويرون أن الإسلام هو الجدار الذي يقف في وجه انتشار النفوذ الشيوعي :
في افتتاحية عدد 22 أيار عام 1952من جريدة "كيزيل أوزباخستان" الجريدة اليومية للحزب الشيوعي الأورباخستاني ذكر المحرر ما يلي:
من المستحيل تثبيت الشيوعية قبل سحق الإسلام نهائياً. ( الإسلام والتنمية الاقتصادية – جاك أوسترى - 56.)
3-ويرون أنه الجدار الذي يحول دون انتشار المسيحية وتمكن الاستعمار من العالم الإسلامي :
يقول أحد المبشرين :
إن القوة الكامنة في الإسلام هي التي وقفت سداً منيعاً في وجه انتشار المسيحية ، وهي التي أخضعت البلاد التي كانت خاضعة للنصرانية( جذور البلاء – ص 201.).
ويقول أشعياء بومان في مقالة نشرها في مجلة العالم الإسلامي التبشيرية:(1/81)
لم يتفق قط أن شعباً مسيحياً دخل في الإسلام ثم عاد نصرانياً. (التبشير والاستعمار للخالدين وفورخ – ص 131 – الطبعة الرابعة. )
4-ويرون أن الإسلام هو الخطر الوحيد أمام استقرار الصهيونية وإسرائيل :
يقول بن غوريون، رئيس وزراء إسرائيل سابقاً :
إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد. ( (جريدة الكفاح الإسلامي لعام 1955 – عدد الأسبوع الثاني من نيسان.)
وحدّث ضابط عربي كبير وقع أسيراً في أيدي اليهود عام 1948 أن قائد الجيش اليهودي دعاه إلى مكتبه قبيل إطلاق سراحه، وتلطف معه في الحديث.
سأله الضابط المصري : هل أستطيع أن أسأل لماذا لم تهاجموا قرية صور باهر ؟0
وصور باهر قرية قريبة من القدس.
أطرق القائد الإسرائيلي إطراقة طويلة ثم قال: أجيبك بصراحة، إننا لم نهاجم صور باهر لأن فيها قوة كبيرة من المتطوعين المسلمين المتعصبين.
دهش الضابط المصرى، وسأل فوراً: وماذا في ذلك، لقد هجمتم على مواقع أخرى فيها قوات أكثر .. وفي ظروف أصعب ؟!.
أجابه القائد الإٍسرائيلي: إن ما تقوله صحيح، لكننا وجدنا أن هؤلاء المتطوعين من المسلمين المتعصبين يختلفون عن غيرهم من المقاتلين النظاميين، يختلفون تماماً، فالقتال عندهم ليس وظيفة يمارسونها وفق الأوامر الصادرة إليهم، بل هو هواية يندفعون إليها بحماس وشغف جنوني، وهم في ذلك يشبهون جنودنا الذين يقاتلون عن عقيدة راسخة لحماية إسرائيل.
ولكن هناك فارقاً عظيماً بين جنودنا وهؤلاء المتطوعين المسلمين. إن جنودنا يقاتلون لتأسيس وطن يعيشون فيه، أما الجنود المتطوعون من المسلمين فهم يقاتلون ليموتوا، إنهم يطلبون الموت بشغف أقرب إلى الجنون، ويندفعون إليه كأنهم الشياطين، إن الهجوم على أمثال هؤلاء مخاطرة كبيرة، يشبه الهجوم على غابة مملوءة بالوحوش، ونحن لا نحب مثل هذه المغامرة المخيفة، ثم إن الهجوم عليهم قد يثير علينا المناطق الأخرى فيعملون مثل عملهم، فيفسدوا علينا كل شيء، ويتحقق لهم ما يريدون.
دهش الضابط المصرى لإجابة القائد الإسرئيلي، لكنه تابع سؤاله ليعرف منه السبب الحقيقي الذي يخيف اليهود من هؤلاء المتطوعين المسلمين.
قال له: قل لي برأيك الصريح، ما الذي أصاب هؤلاء حتى أحبوا الموت، وتحولوا إلى قوة ماردة تتحدى كل شيءٍ معقول؟!!.
أجابه الإسرائيلي بعفوية: إنه الدين الإسلامي يا سيادة الضابط. ثم تلعثم، وحاول أن يخفى إجابته، فقال:
إن هؤلاء لم تتح لهم الفرصة كما أتيحت لك، كي يدرسوا الأمور دراسة واعية تفتح عيونهم على حقائق الحياة، وتحررهم من الخرافة وشعوذات المتاجرين بالدين، إنهم لا يزالون ضحايا تعساء لوعد الإسلام لهم بالجنة التي تنتظرهم بعد الموت.
وتابع مسترسلاً: إن هؤلاء المتعصبين من المسلمين هم عقدة العقد في طريق السلام الذي يجب أن نتعاون عليه وهم الخطر الكبير على كل جهد يبذل لإقامة علاقات سليمة واعية بيننا وبينكم.
وتابع مستدركاً، وكأنه يستفز الضابط المصرى ضد هؤلاء المسلمين، تصور يا سيدي أن خطر هؤلاء ليس مقتصراً علينا وحدنا، بل هو خطر عليكم أنتم أيضاً. إذ أن أوضاع بلادكم لن تستقر حتى يزول هؤلاء، وتنقطع صرخاتهم المنادية بالجهاد والاستشهاد في سبيل الله، هذا المنطق الذي يخالف رقى القرن العشرين، قرن العلم وهيئة الأمم والرأي العام العالمي، وحقوق الإنسان.
واختتم القائد الإسرائيلي حديثه بقوله:
يا سيادة الضابط، أنا سعيد بلقائك، وسعيد بهذا الحديث الصريح معك، وأتمنى أن نلتقى لقاءً قادماً، لنتعاون في جو أخوى لا يعكره علينا المتعصبون من المسلمين المهووسين بالجهاد وحب الاستشهاد في سبيل الله. ( مجلة المسلمين – العدد الأول من المجلد الثامن – شهر تموز عام 1963، مع بعض الاختصار بما يناسب المقام، مع رجائنا عفو الكاتب وإخوانه.)
5-ويرون أن بقاء اسرائيل مرهون بازالة المتمسكين بالإسلام :
يقول الكاتب الصهيوني (( إيرل بوغر )) في كتابه العهد والسيف الذي صدر عام 1965 ما نصه بالحرف :
(( ان المبدأ الذي قام عليه وجود اسرائيل منذ البداية هو أن العرب لا بد أن يبادروا ذات يوم إلى التعاون معها ، ولكي يصبح هذا التعاون ممكناً فيجب القضاء على جميع العناصر التي تغذي شعور العداء ضد اسرائيل في العالم العربي ، وهي عناصر رجعية تتمثل في رجال الدين والمشائخ ( الاسلام في معترك الحاضري ص 28 ( عمر بهاء الدين الأميري – طبعة دار الفتح ، بيروت عام 1968 .) .
6- ويقول اسحاق رابين غداة فوز جيمي كارتر برئاسة الولايات المتحدة ، ونقلت قوله جميع وكالات الأنباء :
ان مشكلة الشعب اليهودي هي أن الدين الإسلامي ما زال في دور العدوان والتوسع ، وليس مستعدا لمواجهة الحول وان وقتا طويلا سيمضي قبل أن يترك الإسلام سيفه ( العدد ( 324 ) من مجلة المجتمع الكويتية / 9 نوفمبر 1976 .) .
***
العدو الوحيد
إنهم لا يرون الإسلام جداراً في وجه مطامعهم فقط، بل يعتقدون جازمين أنه الخطر الوحيد عليهم في بلادهم.(1/82)
1-يقول لورانس براون :
كان قادتنا يخوفننا بشعوب مختلفة، لكننا بعد الاختبار لم نجد مبرراً لمثل تلك المخاوف.
كانوا يخوفنا بالخطر اليهودي، والخطر الياباني الأصفر، والخطر البلشفي.
لكنه تبين لنا أن اليهود هم أصدقاؤنا، والبلاشفة الشيوعيون حلفاؤنا، أما اليابانيون، فإن هناك دولاً ديمقراطية كبيرة تتكفل بمقاومتهم.
لكننا وجدنا أن الخطر الحقيقي علينا موجود في الإسلام، وفي قدرته على التوسع والاخضاع، وفي حيويته المدهشة. ( المجلد الثامن صحفة 10، لورانس بروان نقلاً عن التبشير والاستعمار، صفحة 184. )
2-ونكرر هنا قول غلادستون :
ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين، فلن تستطع أوربة السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان. ( الإسلام على مفترق الطرق – ص 39.)
3-ويقول المستشرق غاردنر:
إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوربة. ( التبشير والاستعمار – ص 36 – طبعة رابعة.)
4-ويقول هانوتر وزير خارجية فرنسا سابقاً:
لا يوجد مكان على سطح الأرض إلا واجتاز الإسلام حدوده وانتشر فيه، فهو الدين الوحيد الذي يميل الناس إلى اعتناقه بشدة تفوق كل دين آخر. ( الفكر الإسلامي الحديث، وصلته بالاستعمار الغربي، ص 18.)
5- ويقول البر مشادر:
من يدري؟! ربما يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الغرب مهددة بالمسلمين، يهبطون إليها من السماء، لغزو العالم مرة ثانية، وفي الوقت المناسب.
ويتابع: لست متنبئاً، لكن الأمارات الدالة على هذه الاحتمالات كثيرة .. ولن تقوى الذرة ولا الصواريخ على وقف تيارها.
إن المسلم قد استيقظ، وأخذ يصرخ، ها أنذا، إنني لم أمت، ولن أقبل بعد اليوم أن أكون أداة تسيرها العواصم الكبرى ومخابراتها. ( لم هذا الرعب كله من الإسلام – للأستاذ جودت سعيد.)
6- ويقول أشعيا بومان في مقال نشره في مجلة العالم الإسلامي التبشيرية:
إن شيئاً من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي من الإسلام، لهذا الخوف أسباب، منها أن الإسلام منذ ظهر في مكة لم يضعف عددياً، بل إن أتباعه يزدادون باستمرار، من أسباب الخوف أن هذا الدين من أركانه الجهاد. ( التبشير والاستعمار - 131.)
7- ويقول أنطوني ناتنج في كتابه "العرب"
منذ أن جمع محمد صلى الله عليه وسلم أنصاره في مطلع القرن السابع الميلادي، وبدأ أول خطوات الانتشار الإسلامي، فإن على العالم الغربي أن يحسب حساب الإسلام كقوة دائمة، وصلبة، تواجهنا عبر المتوسط. ( وليم بولك. الولايات المتحدة والعالم الغربي – والفقومية والغزو الفكر ص 42.)
8- وصرح سالازار في مؤتمر صحفي قائلاً:
إن الخطر الحقيقي على حضارتنا هو الذي يمكن أن يُحدثه المسلمون حين يغيرون نظام العالم.
فلما سأله أحد الصحفيين: لكن المسلمين مشغولون بخلافاتهم ونزاعاتهم ، أجابه: أخشى أن يخرج منهم من يوجه خلافهم إلينا. ( جند الله ص 22.)
9- ويقول مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952:
ليست الشيوعية خطراً على أوربة فيما يبدو لي، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً وعنيفاً هو الخطر الإسلامي، فالمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص بهم. ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم جديد، دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية، فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع، انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الثمين، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الحضارة الغربية، ويقذفون برسالتنا إلى متاحف التاريخ.
وقد حاولنا نحن الفرنسيين خلال حكمنا الطويل للجزائر أن نتغلب على شخصية الشعب المسلمة، فكان الإخفاق الكامل نتيجة مجهوداتنا الكبيرة الضخمة.
إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافاً تاماً، فهو حائر، وهو قلق، وهو كاره لانحطاطه وتخلفه، وراغب رغبةً يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن، وحرية أوفر …
فلنعط هذا العالم الإسلامي ما يشاء، ولنقو في نفسه الرغبة في عدم الإنتاج الصناعي، والفني ، حتى لا ينهض، فإذا عجزنا عن تحقيق هذا الهدف، بإبقاء المسلم متخلفاً، وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه، فقد بؤنا بإخفاق خطير، وأصبح خطر العالم العربي،وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً ينتهي به الغرب،وتنتهي معه وظيفته الحضارية كقائد للعالم . ( مجلة روز اليوسف في عددها الصادر بتاريخ 29/6/1963.)
10- ويقول مورو بيرجر في كتابه "العالم العربي المعاصر":
إن الخوف من العرب، واهتمامنا بالأمة العربية، ليس ناتجاً عن وجود البترول بغزارة عند العرب، بل بسبب الإسلام .
يجب محاربة الإسلام، للحيلولة دون وحدة العرب، التي تؤدي إلى قوة العرب، لأن قوة العرب تتصاحب دائماً مع قوة الإسلام وعزته وانتشاره.(1/83)
إن الإسلام يفزعنا عندما نراه ينتشر بيسر في القارة الأفريقية. ( الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي – ص 19.)
11- ويقول هانوتو وزير خارجية فرنسا :
رغم انتصارنا على أمة الإسلام وقهرها، فإن الخطر لا يزال موجوداً من انتفاض المقهورين الذين أتعبتهم النكبات التي أنزلناها بهم لأن همتهم لم تخمد بعد… ( الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي – ص 19. ) .
12- بعد استقلال الجزائر ألقى أحد كبار المستشرقين محاضرة في مدريد عنوانها: لماذا كنا نحاول البقاء في الجزائر.
أجاب على هذا السؤال بشرح مستفيض ملخصه :
إننا لم نكن نسخر النصف مليون جندي من أجل نبيذ الجزائر أو صحاريها .. أو زيتونها ..
إننا كنا نعتبر أنفسنا سور أوربا الذي يقف في وجه زحف إسلامي محتمل يقوم به الجزائريون وإخوانهم من المسلمين عبر المتوسط، ليستعيدوا الأندلس التي فقدوها، وليدخلوا معنا في قلب فرنسا بمعركة بواتيه جديدة ينتصرون فيها، ويكتسحون أوربا الواهنة، ويكملون ما كانوا قد عزموا عليه
أثناء حلم الأمويين بتحويل المتوسط إلى بحيرة إسلامية خالصة.
من أجل ذلك كنا نحارب في الجزائر. ( جريدة الأيام – سنة 1963.)
13- في أول الشهر الحادي عشر من عام 1974 ذكرت إذاعة لندن مساء زيارة وزير خارجية فرنسا سوفانيارك لاسرائيل . واجتماعه بقياداتها ، بعد أن اجتمع في بيروت برئيس منظمة التحرير الفلسطينية. ما جرى في آخر اجتماع عقد بين القادة الاسرائيليين وسوفانيارك ، وانتقاداتهم للسياسة الفرنسية لأنها تقف إلى جانب العرب ضد اسرائيل ، وتؤيد الفلسطينيين ، وهاجموا سوفانيارك شخصيا لأنه اجتمع بياسر عرفات . عندها غضب وزير الخارجية الفرنسية وصرخ في وجوههم : إما أن تعترفوا بمنظمة التحرير ، أو أن يعلن العرب كلهم عليكم الجهاد ..
والعجب أن اذاعة لندن لم تعد إلى اذاعة هذا الخبر مرة أخرى ، كما أن جميع اذاعات العرب لم تذكره .
ففرنسا حين تتحرك إلى جانب العرب لا تتحرك إلا خوفاً من أن يثير عداء العالم الغربي للعرب روح الجهاد في المسلمين ، فيعلنوه ويشنوا حربا على الحضارة الغربية تؤدي إلى دمار الغرب ويقظة المسلمين وهذا وحده كاف أن يدفع فرنسا إلى مهادنتهم ودعوة الآخرين لمهادنتهم !!! .
14- قالت اذاعة لندن صباح 10/4/1976 بمناسبة افتتاح مهرجان العالم الإسلامي في لندن :
ان الشعور العام السائد في الغرب أن المسيحية اذا لم تغير موقفها من الإسلام بحيث تتعاون معه للقضاء على الشر في العالم ، لا أن تعتبر الإسلام مصدرا من مصادر الشر ، إن لم تفعل ذلك فان المستقبل لا يؤذن بخير بالنسبة للمسيحية والعالم .
* * *
دمروا الإسلام
كيف يعملون إذن :
ليس أمامهم إلا حل واحد هو تدمير الإسلام:
1-"ها قد هبت النصرانية والموسوية لمقاتلة المحمدية. وهما تأملان أن تتمكنا من تدمير عدوتهما".( استعباد الإسلام – ص 44.)
2-يقول غاردنر:
إن الحروب الصليبية لم تكن لإنقاذ القدس، إنها كانت لتدمير الإسلام. ( التبشير والاستعمار ص 115 – جذور البلاء ص 201.)
3-ونشيد جيوش الاستعمار كان يقول:
أنا ذاهب لسحق الأمة الملعونة،
لأحارب الديانة الإسلامية،
ولأمحو القرآن بكل قوتى.
4-وشعار "قاتلوا المسلمين" الذي وزعته إسرائيل في أوربا عند حرب الـ 67، لقى تجاوباً لا نظير له في دول الغرب كلها …
5-يقول فيليب فونداسي:
إن من الضروري لفرنسا أن تقاوم الإسلام في هذا العالم وأن تنتهج سياسة عدائية للإسلام، وأن تحاول على الأقل إيقاف انتشاره. ( الاستعمار الفرنسي في أفريقيا السوداء، تأليف فيليب فونداسى – ص 2.)
6- يقول المستشرق الفرنسي كيمون في كتابه "باثولوجيا الإسلام":
"إن الديانة المحمدية جذام تفشى بين الناس، وأخذ يفتك بهم فتكاً ذريعاً، بل هو مرض مريع، وشلل عام، وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل، ولا يوقظه من الخمول والكسل إلا ليدفعه إلى سفك الدماء، والإدمان على معاقرة الخمور، وارتكاب جميع القبائح. وما قبر محمد إلا عمود كهربائي يبعث الجنون في رؤوس المسلمين، فيأتون بمظاهر الصرع والذهول العقلي إلى ما لا نهاية، ويعتادون على عادات تنقلب إلى طباع أصيلة، ككراهة لحم الخنزير، والخمر والموسيقي.
إن الإسلام كله قائم على القسوة والفجور في اللذات.
ويتابع هذا المستشرق المجنون:
اعتقد أن من الواجب إبادة خُمس المسلمين، والحكم على الباقين بالأشغال الشاقة، وتدمير الكعبة، ووضع قبر محمد وجثته في متحف اللوفر. ( الاتجاهات الوطنية ج1 – ص 321 ، وتاريخ الإمام ج2- ص 409، والفكر الإسلامي الحديث ص 51، والقومية والغزو الفكري – ص 192.)
ويبدو أن قائد الجيوش الإنكليزية في حملة السودان قد طبق هذه الوصية، فهجم على قبر المهدى الذي سبق له أن حرر السودان وقتل القائد الإنكليزي غوردون، هجم القائد الإنكليزي على قبر المهدي، ونبشه، ثم قطع رأسه وأرسله إلى عاهر إنكليزي وطلب إليه أن يجعله مطفأة لسجائره. ( القومية والغزو الفكري، ص 222.)(1/84)
6-صرَّح الكاردينال بور ، كاردينال برلين لمجلة تابلت الانكليزية الكاثوليكية يوم سقوط القدس عام 1967 بعد أن رعى صلاة المسيحيين مع اليهود في كنيس يهودي لأول مرة في تاريخ المسيحية قال : إن المسيحيين لا بد لهم من التعاون مع اليهود للقضاء على الإسلام وتخليص الأرض المقدسة . ( نشرة التعايش المشبوه – ص 4 )
8- قال لويس التاسع ملك فرنسا الذي أسر في دار ابن لقمان بالمنصورة ، في وثيقة محفوظة في دار الوثائق القومية في باريس :
إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال حرب وانما يمكن الانتصار عليهم بواسطة السياسة باتباع ما يلي :
- إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين ، واذا حدثت فليعمل على توسيع شقتها ما أمكن حتى يكون هذا الخلاف عاملاً في اضعاف المسلمين .
-عدم يمكين البلاد الإسلامية والعربية أن يقوم فيها حكم صالح .
-إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والنساء ، حتى تنفصل القاعدة عن القمة .
-الحيلولة دون قيام جيش مؤمن بحق وطنه عليه ، يضحي في سبيل مبادئه .
-العمل على الحيلولة دون قيام وحدة عربية في المنطقة .
-العمل على قيام دولة غربية في المنطقة العربية تمتد ما بين غزة جنوباً ، انطاكية شمالاً ، ثم تتجه شرقاً ، وتمتد حتى تصل إلى الغرب ( العدد 2106 آخر ساعة ، 5 آذار 1975 من خطبة أمير الحاج المصري لعام 1975 الوزير أحمد كمال وزير الري المصري ) .
* * *
خططهم لتدمير الإسلام
بعد فشل الحروب الصليبية الأولى التي استمرت قرنين كاملين في القضاء على الإسلام، قاموا بدراسة واعية لكيفية القضاء على الإسلام وأمته، وبدؤوا منذ قرنين يسعون بكل قوة للقضاء على الإسلام.
كانت خطواتهم كما يلي:
أولاً: القضاء على حكم الإسلامي :
بإنهاء الخلافة الإسلامية المتمثلة بالدولة العثمانية، التي كانت رغم بعد حكمها عن روح الإسلام، إلا أن الأعداء كانوا يخشون أن تتحول هذه الخلافة من خلافة شكلية إلى خلافة حقيقية تهددهم بالخطر.
كانت فرصتهم الذهبية التي مهدوا لها طوال قرن ونصف هي سقوط تركيا مع حليفتها ألمانيا خاسرة في الحرب العالمية الأولى.
دخلت الجيوش الإنكليزية واليونانية، والإيطالية، والفرنسية أراضي الدولة العثمانية، وسيطرت على جميع أراضيها، ومنها العاصمة استانبول.
ولما ابتدأت مفاوضات مؤتمر لوزان لعقد صلح بين المتحاربين اشترطت إنكلترا على تركيا أنها لن تنسحب من أراضيها إلا بعد تنفيذ الشروط التالية:
أ - إلغاء الخلافة الإسلامية، وطرد الخليفة من تركيا ومصادرة أمواله.
ب - أن تتعهد تركيا بإخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخلافة.
ج- أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام.
د – أن تختار لها دستوراً مدنياً بدلاً من دستورها المستمد من أحكام الإسلام. ( الأرض والشعب – ص 46 – مجلد أول.)
فنفذ كمال أتاتورك الشروط السابقة، فانسحبت الدول المحتلة من تركيا.
ولما وقف كرزون وزير خارجية إنكلترا في مجلس العموم البريطاني يستعرض ما جرى مع تركيا، احتج بعض النواب الإنكليز بعنف على كرزون، واستغربوا كيف اعترفت إنكلترا باستقلال تركيا، التي يمكن أن تجمع حولها الدول الإسلامية مرة أخرى وتهجم على الغرب.
فأجاب كرزون: لقد قضينا على تركيا، التي لن تقوم لها قائمة بعد اليوم .. لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين: الإسلام والخلافة.
فصفق النواب الإنكليز كلهم وسكتت المعارضة . (كيف هدمت الخلافة ص190)
ثانياً: القضاء على القرآن ومحوه:
لأنهم كما سبق أن قلنا يعتبرون القرآن هو المصدر الأساسي لقوة المسلمين، وبقاؤه بين أيديهم حياً يؤدي إلى عودتهم إلى قوتهم وحضارتهم.
1- يقول غلادستون: ما دام هذا القرآن موجوداً، فلن تستطيع أوربة السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان. ( الإسلام على مفترق الطرق – ص 39. )
2-ويقول المبشر وليم جيفورد بالكراف:
متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه. ( جذور البلاء – ص 201.)
3-ويقول المبشر تاكلي:
يجب أن نستخدم القرآن، وهو أمضى سلاح في الإسلام، ضد الإسلام نفسه، حتى نقضى عليه تماماً، يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح في القرآن ليس جديداً، وأن الجديد فيه ليس صحيحاً. (التبشير والاستعمار – ص 40 (طبعة رابعة). )
4-ويقول الحاكم الفرنسي في الجزائر بمناسبة مرور مائة عام على احتلالها: يجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم .. ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم، حتى ننتصر عليهم. ( المنار عدد 9/11/1962.)
وقد أثار هذا المعنى حادثةً طريفةً جرت في فرنسا، وهي إنها من أجل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر قامت بتجربة عملية، قامت بانتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية، وألبستهن الثياب الفرنسية، ولقنتهن الثقافة الفرنسية، وعلمتهن اللغة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تماماً.(1/85)
وبعد أحد عشر عاماً من الجهود هيأت لهن حفلة تخرج رائعة دعى إليها الوزراء والمفكرون والصحفيون … ولما ابتدأت الحفلة، فوجيء الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري …
فثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت: ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً !!! ؟؟
أجاب لاكوست، وزير المستعمرات الفرنسى: وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟!!.( جريدة الأيام – عدد 7780، الصادر بتاريخ 6 كانون أول 1962..)
ثالثاً: تدمير أخلاق المسلمين، وعقولهم، وصلتهم بالله، وإطلاق شهواتهم:
1-يقول مرماديوك باكتول:
إن المسلمين يمكنهم أن ينشروا حضارتهم في العالم الآن بنفس السرعة التي نشروها بها سابقاً.
بشرط أن يرجعوا إلى الأخلاق التي كانوا عليها حين قاموا بدورهم الأول، لأن هذا العالم الخاوي لا يستطيع الصمود أمام روح حضارتهم. ( جند الله - ص 22.)
2-يقول صموئيل زويمر رئيس جمعيات التبشير في مؤتمر القدس للمبشرين المنعقد عام 1935 م:
إن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست في إدخال المسلمين في المسيحية، فإن في هذا هداية لهم وتكريماً ، إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله ، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، ولذلك تكونون بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية ، لقد هيأتم جميع العقول في الممالك الإسلامية لقبول السير في الطريق الذي سعيتم له ، ألا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، أخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية، وبالتالي جاء النشء الإسلامي مطابقاً لما أراده له الاستعمار، لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة، والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب، حتى أصبحت الشهوات هدفه في الحياة، فهو إن تعلم فللحصول على الشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات .. إنه يجود بكل شيء للوصول إلى الشهوات، أيها المبشرون: إن مهمتكم تتم على أكمل الوجوه. ( جذور البلاء – ص 275. )
3-ويقول صموئيل زويمر نفسه في كتاب الغارة على العالم الإسلامي :
إن للتبشير بالنسبة للحضارة الغربية مزيتان، مزية هدم ، ومزية بناء
أما الهدم فنعني به انتزاع المسلم من دينه، ولو بدفعه إلى الإلحاد ..
وأما البناء فنعني به تنصير المسلم إن أمكن ليقف مع الحضارة الغربية ضد قومه. ( الغارة على العالم الإسلامي – ص11. )
4-ويقولون إن أهم الأساليب للوصول إلى تدمير أخلاق المسلم وشخصيته يمكن أن يتم بنشر التعليم العلماني.
أ- يقول المبشر تكلى:
يجب أن نشجع إنشاء المدارس على النمط الغربي العلماني، لأن كثيراً من المسلمين قد زعزع اعتقادهم بالإسلام والقرآن حينما درسوا الكتب المدرسية الغربية وتعلموا اللغات الأجنبية. ( التبشير والاستعمار – ص 88.)
ب- ويقول زويمر: مادام المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية فلا بد أن ننشيء لهم المدارس العلمانية، ونسهل التحاقهم بها، هذه المدارس التي تساعدنا على القضاء على الروح الإسلامية عند الطلاب. ( الغارة على العالم الإسلامي – ص 82.)
ج- يقول جب: لقد فقد الإسلام سيطرته على حياة المسلمين الاجتماعية، وأخذت دائرة نفوذه تضيق شيئاً فشيئاً حتى انحصرت في طقوس محددة، وقد تم معظم هذا التطور تدريجياً عن غير وعي وانتباه، وقد مضى هذا التطور الآن إلى مدى بعيد، ولم يعد من الممكن الرجوع فيه، لكن نجاح هذا التطور يتوقف إلى حدٍ بعيدٍ على القادة والزعماء في العالم الإسلامي، وعلى الشباب منهم خاصة. كل ذلك كان نتيجة النشاط التعليمي والثقافي العلماني. ( الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر – ج2 – ص 204 – 206، تأليف محمد حسين.)
رابعاً: القضاء على وحدة المسلمين:
1- يقول القس سيمون:
إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد التملص من السيطرة الأوربية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحوّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية. ( كيف هدمت الخلافة – ص 190.)
2-ويقول المبشر لورنس براون:
إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية، أمكن أن يصبحوا لعنةً على العالم وخطراً، أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين، فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير. ( جذور البلاء – ص 202.)
ويكمل حديثه:
يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير.
3- ويقول أرنولد توينبى في كتابه الإسلام والغرب والمستقبل: ( الإسلام والغرب والمستقبل – ص 73.)
إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ.(1/86)
4- وقد فرح غابرائيل هانوتو وزير خارجية فرنسا حينما انحل رباط تونس الشديد بالبلاد الإسلامية، وتفلتت روابطه مع مكة، ومع ماضيه الإسلامي، حين فرض عليه الفرنسيون فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية. ( هانوتو – ص 21.)
5- من أخطر ما نذكره من أخبار حول هذه النقطة هو ما يلي:
في سنة 1907 عقد مؤتمر أوربى كبير ، ضم أضخم نخبة من المفكرين والسياسيين الأوربيين برئاسة وزير خارجية بريطانيا الذي قال في خطاب الافتتاح:
إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء، والواجب يقضى علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار حضارتنا.
واستمر المؤتمر شهراً من الدراسة والنقاش.
واستعرض المؤتمرون الأخطار الخارجية التي يمكن أن تقضى على الحضارة الغربية الآفلة، فوجدوا أن المسلمين هم أعظم خطر يهدد أوربة.
فقرر المؤتمرون وضع خطة تقضي ببذل جهودهم كلها لمنع إيجاد أي اتحاد أو اتفاق بين دول الشرق الأوسط، لأن الشرق الأوسط المسلم المتحد يشكل الخطر الوحيد على مستقبل أوربة.
وأخيراً قرروا إنشاء قومية غربية معادية للعرب والمسلمين شرقي قناة السويس، ليبقى العرب متفرقين.
وبذا أرست بريطانيا أسس التعاون والتحالف مع الصهيونية العالمية التي كانت تدعو إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين. ( المؤامرة ومعركة المصير – ص 25. )
خامساً: تشكيك المسلمين بدينهم:
في كتاب مؤتمر العاملين المسيحيين بين المسلمين يقول:
إن المسلمين يدّعون أن في الإسلام ما يلبى كل حاجة اجتماعية في البشر، فعلينا نحن المبشرين أن نقاوم الإسلام بالأسلحة الفكرية والروحية. ( التبشير والاستعمار – ص 191. )
تنفيذاً لذلك وضعت كتب المستشرقين المتربصين بالإسلام، التي لا تجد فيها إلا الطعن بالإسلام، والتشكيك بمبادئه، والغمز بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
سادساً: إبقاء العرب ضعفاء:
يعتقد الغربيون أن العرب هم مفتاح الأمة الإسلامية يقول مورو بيرجر في كتابه "العالم العربي":
لقد ثبت تاريخياً أن قوة العرب تعني قوة الإسلام فليدمر العرب ليدمروا بتدميرهم الإسلام.
سابعاً: إنشاء ديكتاتوريات سياسية في العالم الإسلامي:
يقول المستشرق و. ك. سميث الأمريكي، والخبير بشؤون الباكستان:
إذا أعطى المسلمون الحرية في العالم الإسلامي، وعاشوا في ظل أنظمة ديمقراطية، فإن الإسلام ينتصر في هذه البلاد، وبالديكتاتوريات وحدها يمكن الحيلولة بين الشعوب الإسلامية ودينها.
وينصح رئيس تحرير مجلة تايم في كتابه "سفر آسيا" الحكومة الأمريكية أن تنشئ في البلاد الإسلامية ديكتاتوريات عسكرية للحيلولة دون عودة الإسلام إلى السيطرة على الأمة الإسلامية، وبالتالي الانتصار على الغرب وحضارته واستعماره. ( جند الله – ص 29.)
لكنهم لا ينسوا أن يعطوا هذه الشعوب فترات راحة حتى لا تتفجر.
يقول هانوتو وزير خارجية فرنسا:
إن الخطر لا يزال موجوداً في أفكار المقهورين الذين أتعبتهم النكبات التي أنزلناها بهم، لكنها لم تثبط من عزائهم. (الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي - 19. )
ثامناً: إبعاد المسلمين عن تحصيل القوة الصناعية ومحاولة إبقائهم مستهلكين لسلع الغرب:
يقول أحد المسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952 إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً عنيفاً هو الخطر الإسلامي … (ويتابع):
فلنعط هذا العالم ما يشاء، ولنقو في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني ، فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخطة، وتحرر العملاق من عقدة عجزه الفني والصناعي، أصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة، خطراً داهماً ينتهي به الغرب ، وينتهي معه دوره القيادي في العالم. ( جند الله – ص22.)
تاسعاً: سعيهم المستمر لإبعاد القادة المسلمين الأقوياء عن استلام الحكم في دول العالم الإسلامي حتى لا ينهضوا بالإسلام:
1- يقول المستشرق البريطاني مونتجومري وات في جريدة التايمز اللندنية، في آذار من عام 1968:
إذا وجد القائد المناسب، الذي يتكلم الكلام المناسب عن الإسلام، فإن من الممكن لهذا الدين أن يظهر كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى.( الحلول المستوردة – ص 11.)
2- ويقول جب:
إن الحركات الإسلامية تتطور عادة بصورة مذهلة، تدعو إلى الدهشة، فهي تنفجر انفجاراً مفاجئاً قبل أن يتبين المراقبون من أماراتها ما يدعوهم إلى الاسترابة في أمرها، فالحركات الإسلامية لا ينقصها إلا وجود الزعامة، لا ينقصها إلا ظهور صلاح الدين جديد. ( الاتجاهات الحديثة في الإسلام – ص365، (عن الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) ج2 – ص 206. )
3-وقد سبق أن ذكرنا قول بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل السابق:
" إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد".
4-كما ذكرنا قول سالازار، ديكتاتور البرتغال السابق:
أخشى أن يظهر من بينهم رجل يوجه خلافاتهم إلينا.
عاشراً: إفساد المرأة، وإشاعة الانحراف الجنسي:
1-تقول المبشرة آن ميليغان:(1/87)
لقد استطعنا أن نجمع في صفوف كلية البنات في القاهرة بنات آباؤهن باشاوات وبكوات، ولا يوجد مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ المسيحى، وبالتالي ليس هناك من طريق أقرب إلى تقويض حصن الإسلام من هذه المدرسة. ( التبشير والاستعمار - 87.)
ماذا يعنون بذلك ؟ إنهم يعنون أنهم بإخراج المرأة المسلمة من دينها يخرج الجيل الذي تربيه ويخرج معها زوجها وأخوها أيضاً وتصبح أداة تدمير قوية لجميع قيم المجتمع الإسلامي الذي يحاولون تدميره وإلغاء دوره الحضاري من العالم .
2- حكى قادم من الضفة الغربية أن السلطات الصهيونية تدعو الشباب العربي بحملات منظمة وهادئة إلى الاختلاط باليهوديات وخصوصاً على شاطئ البحر وتتعمد اليهوديات دعوة هؤلاء الشباب إلى الزنا بهن، وأن السلطات اليهودية تلاحق جميع الشباب الذين يرفضون هذه العروض، بحجة أنهم من المنتمين للحركات الفدائية ، كما أنها لا تُدخل إلى الضفة الغربية إلا الأفلام الجنسية الخليعة جداً، وكذلك تفتح على مقربة من المعامل الكبيرة التي يعمل فيها العمال العرب الفلسطينيون دوراً للدعارة مجانية تقريباً، كل ذلك من أجل تدمير أخلاق أولئك الشباب، لضمان عدم انضمامهم إلى حركات المقاومة في الأرض المحتلة.
* * *
هل هناك تغيير في موقف الغرب تجاه الإسلام وأهله ؟! ..
ظهرت في السنوات الأربع ألأخيرة بعض المواقف في الغرب تتميز بروح الأعتدال ، وتدعو إلى التأمل . سنستعرض هذه المواقف ، ثم نحلل ما تعنيه ..
1-أذاعت إذاعة صوت العرب الخبر التالي :
قررت الحكومة الفرنسية ما يلي :
أ -منح الديانة الإسلامية فترة إذاعية في إذاعتها .
ب -فتح مساجد في المشافي والسجون الفرنسية .
ت -منح العمال المسلمين إجازات بمناسبة الأعياد الإسلامية .
2-أقيم في لندن في نيسان 1976 مهرجان اسمه مهرجان العالم الإسلامي .
حدد المدير العام للمهرجان بول كيلر أهداف المهرجان كما يلي :
إن الإنسان في الغرب يعاني فراغاً ثقافياً وروحياً ، ومن هنا كان رحيله المستمر إلى الشرق على صورة موجات (( هيبية )) باحثاً عن ثقافة جديدة يواجه بها أزمته الروحية التي يعاني منها .
يقول مدير المهرجان :
أنا أعتقد أن العصر الذي نعيش فيه هو عصر الاتجاه إلى حضارة الشرق ، والإسلام بصورة خاصة لم يتجه إليه الغرب ، وهو أغنى حضارة بالقيم الروحية . فقلت لماذا لا نقيم هذا الاتصال الثقافي والحضاري مع الإسلام ، وخاصة وأن الدول الإسلامية بدأت تفرض نفسها على العالم بشتى الصور .. لذلك فكرنا بإقامة مهرجان العالم الإسلامي .
ويقول : يجب اقتلاع التعصب ضد الحضارة الإسلامية ، ونحن نتوقع أن يساهم المهرجان بهذه العملية .
ويقول : إن الغاية من المهرجان هي إيصال القيم الإسلامية إلى جماهير الشعب البريطاني ، واننا نتوقع أن يجري نقاش واسع حول القيم الإسلامية أثناء فترة المهرجان ، وهي فترة طويلة – ثلاثة أشهر – وهكذا تتهيأ الفرصة لشرح القيم الإسلامية بصورة وافية ، وان الفرصة التي ستتاح لعلماء المسلمين والمختصين لشرح الحضارة الإسلامية وإبرازها ، ومحاولة مد الجسور بين الشرق والغرب ستكون كبيرة
وهذه هي المناسبة الحقيقية لا زالة الشبهات التي فرضت على الحضارة الإسلامية من مجموعة من المتعصبين المسيحيين واليهود ، وقصة تعدد الزوجات في الإسلام واحدة من تلك القصص التي تشرح للرأي العام البريطاني من قبل ( مجلة الأسبوع العربي ، العدد 868 الاثنين 9 آذار 1976 .) .
3- في دراسة نشرها في عام 1976 المستشرق الصهيوني الانكليزي المشهور برنارد لويس تحت عنوان (( عودة الإسلام )) وبعد مقدمات تحليلية واسعة للحركات الإسلامية في العالم الإسلامي يقول :
مما تقدم تبرز نتائج عامة محددة : فالإسلام لا يزال الشكل الأكثر فعالية في الرأي العام في دول العالم الإسلامي ، وهو يشكل اللون الأساسي لجماهير ، وتزداد فعاليته كلما كانت أنظمة الحكم أكثر شعبية . أي قائمة على أساس اعطاء الحرية للشعوب ، ويمكن للمرء أن يدرك الفرق الواضح بين أنظمة الحكم الحالية ، وبين القيادات السياسية ذات الثقافة الغربية التي أبعدت عن الحكم . والتي حكمت حتى عشرات قليلة مضت من السنين .
وكلمات التصقت الحكومات أكثر بعامة الناس ، حتى ولو كانت يسارية ، فانها تصبح أكثر إسلامية . ولقد بنيت مساجد في ظل أحد أنظمة الحكم في منطقة المواجهة مع اسرائيل خلال ثلاث سنوات أكثر مما بني في السنوات الثلاثين التي سبقتها .
إن الإسلام قوي جدا ، إلا أنه لا يزال قوة غير موجهَّة في ميدان السياسة الداخلية .
وهو يبرز كعامل أساسي محتمل في السياسة الدولية ، وقد جرت محاولات كثيرة في سبيل سياسة تضامن إسلامي أو جامعة إسلامية للدول الإسلامية الا أنها أخفقت كلها في تحقيق تقدم نحو إقامة هذا التضامن . وان أحد الأسباب المهمة هو عجز الذين قاموا بهذه المحاولات في اقناع الشعوب الإسلامية بجدية ما يريدون .(1/88)
ولا يزال المجال مفتوحا لبروز قيادات أكثر اقناعا وان هناك أدلة كافية في كل الدول الإسلامية قائمة فعلا تدل على الشوق العميق الذي تكنه الشعوب الإسلامية لمثل هذه القيادة ، والاستعداد العظيم للتجاوب معها
إن غياب القيادة العصرية المثقفة ، القيادة التي تخدم الإسلام بما يقتضيه العصر من تنظيم وعلم . ان غياب هذه القيادة قد قيَّد حركة الإسلام كقوة منتصرة ، ومنع غيابُ القيادة العصرية المثقفة الحركات الإسلامية من أن تكون منافساً خطيرا على السلطة في العالم الإسلامي . لكن هذه الحركات يمكن أن تتحول إلى قوى سياسية محلية هائلة اذا تهيأ لها النوع الصحيح من القيادة ( صفحة 48 من مجلة commentary عام 1976 .) .
نقول ماذا تعني هذه المواقف ، وهذه الأقوال ؟! هل هي بداية تحوُّل غربي تجاه الإسلام .. أم أنها مكر من نوع جديد !!!
إنما – فيما نعتقد – طلاء لون به الغرب وجهه بعد أن برزت قوى العالم الإسلامي الاقتصادية والسياسية بشكل ضخم .
إن القوة الاقتصادية التي برزت لدول النفط قد أقضت مضاجع العالم الغربي ، فان كان تقرير البنك الدولي صادقاً ، وبأن السعودية وحدها سوف تملك عام 1980 نصف النقد المتداول في العالم ، فان هذا خطر واضح .
واذا أضفنا إلى ذلك الموقع الاستراتيجي العجيب للعالم الإسلامي ، اذ أن جميع مضائق العالم الاساسية فيه ومعظم السهول الخصبة الرخيصة فيه ، وجميع البحار الدافئة والتي تخترقها طرق العالم فيه ، وإن عدد سكانه يشكل ثلث سكان العالم .. وهم معظم المستهلكين لبضائع الغرب ، فرواج الصناعة الغربية كله قائم عليهم ، والمواد الأولية متوفرة فيه بشكل هائل ، كما أن لسكانه أثرا هائلا في جميع شعوب العالم فإننا بذلك ندرك مدى الشعور بالخطر الذي دفع الغرب إلى ما سبق أن فعله .
إذا كان برنارد لويس ذلك الصهيوني المستشرق قد اقتنع أن الإسلام في طريقه إلى العودة إلى العالم كقوة مهيمنة ،فكأنه يقول للغربيين انتبهوا..المسلمون قادمون ..دمروهم قبل أن يكسروا قمقمهم ..
وما الدليل على ما نقول !؟! إن الدليل الواضح هو حرب الصومال التي تشبه إلى حد كبير حرب بنغلادش فالشيوعيون يقدمون الأسلحة والجنود للحبشة والغربيون – أمريكا – وانكلترا – وفرنسا – وألمانيا تمتنع عن تقديم الدعم للصومال ببيعها السلاح ... فهو تآمر مكشوف من كلا الطرفين الشيوعي والرأسمالي لانقاذ الحبشة المسيحية الصليبية . ولو كان ذلك على حساب الشعبين المسلمين الارتيري والصومالي .
هذا يدل بوضوح على أن الغرب لا زال كما كان .. وإن ما يقوم به من أعمال تنبئ عن مهادنة الإسلام ما هي الا محاولات للتغرير بالمسلمين ... فلننتبه بشدة .
فان الغرب لا زال حريصا على شرب دمائهم وابتلاع امكاناتهم . ان آخر ما قام به ضدهم هو قتل ألف مسلم في مسجد مدينة ريرداد باقليم أوجادين الصومالي ، حين فتح الأحباش نيران رشاشاتهم الروسية ( مجلة الاعتصام المصرية تشرين أول 1977 .) على المصلين فأبادوا منهم ألفاً دفعة واحدة . ولم تتحرك لهذه الفعله الوحشية دولة من دول الغرب كله ... فهل في هذا ما يدل ... ؟!! إنه أكبر دليل ...
يجب أن نكسر ما يقيدنا .. ونعود إلى العالم سادة له ، نحرر من ظلم الجبارين .. والله غالب أمره .
أخيراً
يا ويح أعدائنا ما أقذرهم، إنهم يفرضون علينا أن نحقد عليهم حين يرقصون على أشلائنا بعد أن يمزقوها ويطحنوها ويطعموها للكلاب.
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقادة أعدائه حين فتح مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وهم الذين ذبحوا أهله وأصحابه …
وترك صلاح الدين الصليبيين في القدس بعد أن فتحها دون أن يذبحهم كما ذبحوا أهله وإخوانه.
لكننا نتساءل:
إن أحقاد هؤلاء وما فعلوه بأمة الإسلام من ذبح، هل ستمكننا من العطف عليهم مرة أخرى حين ننتصر ؟؟! ولابد أن ننتصر، لأن الله قدر هذا وانتهى، هل سنبادلهم حقداً بحقد، وذبحاً بذبح، ودماً بدم ؟؟!!
إن الله سمح لنا بذلك، لكنه قال { فمن عفى وأصلح فأجره على الله } ، إننا لا نستطيع إلا أن نقول لهم يومنا ذلك : اذهبوا أحراراً حيث شئتم في ظل عدل أمة الإسلام – الذي لا حد له – والحمد لله رب العالمين والصلاة على نبيه محمد وآله ومن سار على درب الجهاد الذي خطّه إلى يوم الدين .
3/1978
********************
إن جميع الأنبياء والمرسلين قد أوذوا من قبل أقوامهم ومن قبل غيرهم:
قال تعالى : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) [الأحقاف/35] }(1/89)
وعَنْ أَبِى عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ عَنْ عَمَّتِهِ فَاطِمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَعُودُهُ فِى نِسَاءٍ فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَشَفَاكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ » رواه أحمد في مسنده وهو صحيح
وعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً قَالَ « الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِى دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِىَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِى عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ». قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
الصبر في القرآن الكريم
الإيمان نصفان: صبر وشكر،ولما كان كذلك كان حريا بالمؤمن أن يعرفهما ويتمسك بهما، و أن لا يعدل عنهما، وأن يجعل سيره إلى ربه بينهما ومن هنا كان حديثنا عن الصبر في القرآن الكريم فقد جعله الله جوادا لا يكبو وصارما لا ينبو وجندا لا يهزم،وحصنا لا يهدم. فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، والعسر مع اليسر، وهو أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد ومحله من الظفر كمحل الرأس من الجسد، والحديث عن مكانته وفضيلته آتية بإذن الله الإشارة إليه. فلا تستعجلها قبل أوانها وقبل الشروع في المقصود نبين المسائل التي سيدور عليها حديثنا وهي:
- مقدمات في تعريفه وضرورته وحكمه ودرجاته.
- فضله.
- مجالاته.
- الوسائل المعينة عليه.
- نماذج من الصابرين.
1- المقدمات :
أ – تعريفه:
الصبر لغة: الحبس والكف، قال تعالى: ((واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي...)) الآية، أي احبس نفسك معهم.
واصطلاحاً: حبس النفس على فعل شيء أو تركه ابتغاء وجه الله قال تعالى: ((والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم)).
وقد أشرنا في التعريف إلى أنواع الصبر الثلاثة والباعث عليه.
أما أنواعه فهي: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة. ففي قولنا (على فعل شيء) دخل فيه الأول، وفي قولنا (أو تركه) دخل فيه النوعان الثاني والثالث: أما دخول الثاني فظاهر لأنه حبس للنفس على ترك معصية الله، وأما دخول الثالث فلأنه حبس للنفس عن الجزع والتسخط عند ورود الأقدار المؤلمة.
أما الباعث عليه: فهو في قولنا ((ابتغاء وجه الله)) قال تعالى ((ولربك فاصبر)) فالصبر الذي لا يكون باعثه وجه الله لا أجر فيه وليس بمحمود، وقد أثنى الله في كتابه على أولي الألباب الذين من أوصافهم ماذكره بقوله: ((والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية)).
وهذا النص يشير إلى حقيقة هامة جداً وهي أن صبغة الأخلاق ربانية فيه ليست أخلاقاً وضعية أو مادية وإنما ربانية سواء من جهة مصدر الإلزام بها أو من جهة الباعث على فعلها، فالعبد لا يفعلها تحت رقابة بشرية حين تغيب ينفلت منها، بل يفعلها كل حين وعلى كل حال لأن الرقابة ربانية، والباعث إرادة وجه الله تعالى.
ب – أهميته:
الصبر: أبرز الأخلاق الوارد ذكرها في القرآن حتى لقد زادت مواضع ذكره فيه عن مائة موضع، وما ذلك إلا لدوران كل الأخلاق عليه، وصدورها منه، فكلما قلبت خلقاً أو فضيلة وجدت أساسها وركيزتها الصبر، فالعفة: صبر عن شهوة الفرج والعين المحرمة، وشرف النفس: صبر عن شهوة البطن، وكتمان السر: صبر عن إظهار مالا يحسن إظهاره من الكلام، والزهد: صبر عن فضول العيش، والقناعة: صبر على القدر الكافي من الدنيا، والحلم: صبر عن إجابة داعي الغضب، والوقار: صبر عن إجابة داعي العجلة والطيش، والشجاعة: صبر عن داعي الفرار والهرب، والعفو: صبر عن إجابة داعي الانتقام، والجود: صبر عن إجابة داعي البخل، والكيس: صبر عن إجابة داعي العجز والكسل وهذا يدلك على ارتباط مقامات الدين كلها بالصبر، لكن اختلفت الأسماء واتحد المعنى، والذكي من ينظر إلى المعاني والحقائق أولاً ثم يجيل بصره إلى الأسامي فإن المعاني هي الأصول والألفاظ توابع، ومن طلب الأصول من التوابع زل. ومن هنا ندرك كيف علق القرآن الفلاح على الصبر وحده ((وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً)) ((أولئك يجزون الغرفة بما صبروا، ويلقون فيها تحية وسلاماً)) ((سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)).(1/90)
وترجع عناية القرآن البالغة بالصبر إلى ماله من قيمة كبيرة في الحياتين الدنيا والأخرى، فليس هو من الفضائل الثانوية، بل من الضرورات اللازمة التي لا انفكاك للإنسان عنها، فلا نجاح في الدنيا ولا نصر ولا تمكين إلا بالصبر، ولا فلاح في الآخرة ولا فوز ولا نجاة إلا بالصبر، فلولا صبر الزارع والدارس والمقاتل وغيرهم ماظفروا بمقاصدهم:
وقلّ من جدّ في أمر يحاوله *** واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
وقال آخر:
لا تيأسن وإن طالت مطالبة *** إذا استعنت بصبر أو ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته *** ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
ولئن كان الأمر كذلك في الدنيا، فهو في الآخرة أشد وأوكد، يقول أبو طالب المكي: "اعلم أن الصبر سبب دخول الجنة، وسبب النجاة من النار لأنه جاء في الخبر "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"، فيحتاج المؤمن إلى صبر على المكاره ليدخل الجنة، وإلى صبر عن الشهوات لينجو من النار". وقال: "اعلم أن كثرة معاصي العباد في شيئين: قلة الصبر عما يحبون، وقلة الصبر على مايكرهون".
وإذا كان هذا شأن الصبر مع كل الناس، فأهل الإيمان أشد الناس حاجة إليه لأنهم يتعرضون للبلاء والأذى والفتن ((ألم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين))، وقال: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء، وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب))، وكان التأكيد أشد في قوله: ((لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور))، لقد بينت الآية أن قوى الكفر على ما بينها من اختلاف متحدة ضد الإسلام، وقرنت لبيان موقف المؤمنين بين الصبر والتقوى فلا يكتفوا بالصبر وحده حتى يضيفوا إليه تقواهم لله بتعففهم عن مقابلة الخصم بمثل أسلحته الدنيئة فلا يواجه الدس بالدس لأن المؤمنين تحكمهم قيمهم الأخلاقية في السلم والحرب والرخاء والشدة. ثم وصفت الآية الأذى المسموع بأنه كثير، فلا بد أن يوطن المسلمون أنفسهم على سماع الافتراء والزور والتلفيق والبهتان من عدوهم حتى يأتي نصر الله.
ورسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أشد أهل الإيمان حاجة إلى الصبر لأنهم الذين يقومون أساساً بالدعوة ويجابهون الأمم بالتغيير وهم حين يقومون بذلك يكون الواحد منهم فرداً في مواجهة أمة تعانده وتكذبه وتعاديه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"، وكلما كان القوم أشد عناداً وأكثر إغراقاً في الضلال كانت حاجة نبيهم إلى الصبر أكثر كأولي العزم مثلاً، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام.
لقد كانت أوامر الرب سبحانه لمحمد عليه الصلاة والسلام بالصبر كثيرة في القرآن وما ذاك إلا لأنها دعوة شاملة تواجه أمم الأرض كلها فخصومها كثيرون وحاجة إمام الدعوة إلى الصبر أعظم لقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم صنوف الأذى البدني والنفسي والمالي والاجتماعي والدعائي وغيره، وقاوم ذلك كله بالصبر الذي أمره به الله في عشرين موضعاً في القرآن كلها إبان العهد المكي لأنه عهد البلاء والفتنة والضعف وتسلط الكافر، وكان مما قاله الله له: ((تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك. ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين))، ((واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون... الآية)). ((واصبر لحكم ربك، فإنك بأعيننا، وسبح بحمد ربك حين تقوم)). فأمر بالصبر لحكمه وهو سبحانه لا يحكم إلا بالحق والعدل، وقال له ((فإنك بأعيننا)) فصيغة الجمع لزيادة التثبيت والتأنيس، وقال الله لموسى: ((ولتصنع على عيني)) ومن كان بعين الله ومرأى منه فلن يضيع ولن يغلب، ثم أمر بالتسبيح كما أمره به في جملة آيات على أعقاب أمره بالصبر، ولعل السر فيه أن التسبيح يعطى الإنسان شحنة روحية تحلو بها مرارة الصبر، ويحمل التسبيح بحمد الله معنيين جليلين لابد أن يرعاهما من ابتلي:
1- تنزيه الله تعالى أن يفعل عبثاً، بل كل فعله موافق للحكمة التامة، فبلاؤه لحكمة.
2- أن له تعالى في كل محنة منحة وفي كل بلية نعماء ينبغي أن تذكر فتشكر وتحمد وهذا هو سر اقتران التسبيح بالحمد هنا. وفي قوله (ربك) إيذان بكمال التربية ومزيد العناية.
ج – حكمه:
الصبر من حيث الجملة واجب، ويدل لذلك:
أ - أمر الله به في غير ما آية قال تعالى: ((استعينوا بالصبر والصلاة)) ((اصبروا وصابروا)).
ب - نهيه عن ضده كما في قوله ((فلا تولوهم الأدبار)) وقوله ((ولا تبطلوا أعمالكم)) ((ولا تهنوا ولا تحزنوا)) ((فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم)).(1/91)
ج - أن الله رتب عليه خيري الدنيا والآخرة وما كان كذلك كان تحصيله واجباً، أما من حيث التفصيل فحكمه بحسب المصبور عنه أو عليه، فهو واجب على الواجبات وواجب عن المحرمات، وهو مستحب عن المكروهات، ومكروه عن المستحبات، ومستحب على المستحبات، ومكروه على المكروهات، ومما يدل على أن الصبر قد لا يكون لازماً قوله تعالى ((وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين))، فالصبر عن مقابلة السيئة بمثلها ليس واجباً بل مندوباً إليه.
وقد أمر الله المؤمنين بالصبر والمصابرة والمرابطة فقال: ((ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون))، وصيغة المصابرة تفيد المفاعلة من الجانبين، والمعنى هنا: مغالبة الأعداء في الصبر، فإذا كنا نصبر على حقنا، فإن المشركين يصبرون على باطلهم؛ فلا بد أن نغلبهم بمصابرتنا، ثم أمرنا بالمرابطة على تلك المصابرة والثبات عليها لنحقق موعود الله ونظفر بالفلاح، فانتقلت الآية بالأمر من الأدنى إلى الأعلى فالصبر مع نفسك، والمصابرة بينك وبين عدوك والمرابطة: الثبات وإعداد العدة، وكما أن الرباط لزوم الثغر لئلا يهجم منه العدو فكذلك الرباط أيضاً لزوم ثغر القلب لئلا يهجم منه الشيطان فيملكه أو يخربه أو يناله بأذى. وعليه فقد يصبر العبد ولا يصابر، وقد يصابر ولا يرابط، وقد يصبر ويصابر ويرابط من غير تعبد بالتقوى، فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله بالتقوى.
د – درجاته:
الصبر نوعان، بدني ونفسي وكل منهما قسمان: اختياري واضطراري، فصارت أربعة:
أ - بدني اختياري، كتعاطي الأعمال الشاقة.
ب - بدني اضطراري كالصبر على ألم الضرب.
ج - نفسي اختياري كصبر النفس عن فعل مالا يحسن فعله شرعاً ولا عقلاً.
د - نفسي اضطراري كصبر النفس عن فقدان محبوبها الذي حيل بينها وبينه.
والبهائم تشارك الإنسان في النوعين الاضطراريين لكنه يتميز عليها بالنوعين الاختياريين، والصبر الاختياري أكمل من الاضطراري، فإن الاضطراري يشترك فيه الناس ويتأتى ممن لا يتأتى منه الصبر الاختياري، ولذلك كان صبر يوسف على مطاوعة امرأة العزيز وصبره على ما ناله من السجن أعظم من صبره على ما ناله من إخوته لما ألقوه في الجب وفرقوا بينه وبين أبويه، وباعوه بيع العبد، ومن الصبر الاختياري صبره على العز والتمكين الذي أورثه الله إياه فجعله مسخراً لطاعة الله ولم ينقله ذلك إلى الكبر والبطر، وكذلك كان صبر نوح والخليل وموسى الكليم والمسيح ومحمد صلى الله عليه وسلم فإن صبرهم كان على الدعوة إلى الله ومجاهدة أعداء الله ولهذا سموا أولي العزم، وأمر الله رسوله أن يصبر كصبرهم ((فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل)) ونهاه عن أن يتشبه بصاحب الحوت حيث لم يصبر فخرج مغاضباً قبل أن يؤذن له ((فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت)) ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على أولي العزم حتى ردوها إلى خيرهم وأفضلهم وأصبرهم.
واعلم أن الصبر المتعلق بالتكليف وهو صبر إما على الطاعة أو عن المعصية أفضل من الصبر على مر القدر فإن هذا الأخير يأتي به البر والفاجر والمؤمن والكافر فلابد لكل أحد من الصبر على القدر اختياراً أو اضطراراً، أما الصبر على الأوامر وعن النواهي فهو صبر أتباع الرسل، والصبر على الأوامر أفضل من الصبر عن النواهي لأن فعل المأمور أحب إلى الله من ترك المحظور والصبر على أحب الأمرين أفضل وأعلى
2- فضائل الصبر في القرآن الكريم:
حديث القرآن عن فضائل الصبر كثير جداً، وهذه العجالة لا تستوعب كل ما ورد في ذلك لكن نجتزىء منه بما يلي:
1- علق الله الفلاح به في قوله: ((ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)).
2- الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره: ((أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا)) وقال: ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)).
3- تعليق الإمامة في الدين به وباليقين: ((وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا، وكانوا بآياتنا يوقنون)).
4- ظفرهم بمعية الله لهم : ((إن الله مع الصابرين)).
5- أنه جمع لهم ثلاثة أمور لم تجمع لغيرهم: ((أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون)).
6- أنه جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به : ((واستعينوا بالصبر والصلاة)).
7- أنه علق النصر بالصبر والتقوى فقال: ((بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين)).
8- أنه تعالى جعل الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره فما استجن العبد بأعظم منهما: ((وإن تصبروا وتتقوا لايضركم كيدهم شيئاً)).
9- أن الملائكة تسلم في الجنة على المؤمنين بصبرهم ((والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)).
10- أنه سبحانه رتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح فقال: ((إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير)).(1/92)
11- أنه سبحانه جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور: أي مما يعزم من الأمور التي إنما يعزم على أجلها وأشرفها: ((ولمن صبر وغفر إن ذلك من عزم الأمور)).
12- أنه سبحانه جعل محبته للصابرين: ((والله يحب الصابرين)).
13- أنه تعالى قال عن خصال الخير: إنه لا يلقاها إلا الصابرون: ((وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)).
14- أنه سبحانه أخبر أنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار الشكور: ((إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور)).
15- أنه سبحانه أثنى على عبده أيوب أجل الثناء وأجمله لصبره فقال: ((إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب))، فمن لم يصبر فبئس العبد هو.
16- أنه حكم بالخسران التام على كل من لم يؤمن ويعمل الصالحات ولم يكن من أهل الحق والصبر: ((والعصر، إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا... السورة)).
قال الإمام الشافعي:"لو فكر الناس كلهم في هذه الآية لوسعتهم، وذلك أن العبد كماله في تكميل قوتيه: قوة العلم، وقوة العمل، وهما: الإيمان والعمل الصالح وكما هو محتاج لتكميل نفسه فهو محتاج لتكميل غيره، وهو التواصي بالحق، وقاعدة ذلك وساقه إنما يقوم بالصبر".
17- أنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الذين قامت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرهم فقال تعالى: ((ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، أولئك أصحاب الميمنة)).
18- أنه تبارك وتعالى قرن الصبر بمقامات الإيمان وأركان الإسلام وقيم الإسلام ومثله العليا، فقرنه بالصلاة ((واستعينوا بالصبر والصلاة)) وقرنه بالأعمال الصالحة عموماً ((إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات))، وجعله قرين التقوى ((إنه من يتق ويصبر))، وقرين الشكر ((إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور))، وقرين الحق ((وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر))، وقرين المرحمة ((وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة))، وقرين اليقين ((لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون))، وقرين التوكل ((نعم أجر العاملين))، ((الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون))، وقرين التسبيح والاستغفار ((فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار))، وقرنه بالجهاد ((ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين)).
19- إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم ((ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون)).
وبعد، فهذا غيض من فيض في باب فضائل الصبر ولولا الإطالة لاسترسلنا في ذكر تلك الفضائل والمنازل، ولعل فيما ذكر عبرة ودافع على الصبر فالله المستعان.
3- مجالات الصبر في القرآن الكريم:
أ - الصبر على بلاء الدنيا:
لقد أخبرنا الله تعالى بطبيعة الحياة الدنيا، وأنها خلقت ممزوجة بالبلاء والفتن فقال: ((لقد خلقنا الإنسان في كبد)) أي مشقة وعناء، وأقسم على ذلك بقوله: ((ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون،)) وإذا أطلق الصبر فلا يكاد ينصرف إلى غيره عند كثير من الناس.
ب - الصبر على مشتهيات النفس:
وهو ما يسمى بالسراء فإن الصبر عليها أشد من الصبر على الضراء، قال بعضهم: البلاء يصبر عليه المؤمن والعافية لا يصبر عليها إلا صِدِّيق، وقال عبد الرحمن بن عوف: "ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر". إن المؤمن مطالب بأن لا يطلق لنفسه العنان في الجري وراء شهواتها لئلا يخرجه ذلك إلى البطر والطغيان وإهمال حق الله تعالى فيما آتاه وبسط له، قال تعالى: ((ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون))، ويمكن أن نجمل حاجة الإنسان إلى الصبر في هذا النوع بأربعة أمور :
1- أن لا يركن إليها، ولا يغتر بها، ولا تحمله على البطر والأشر والفرح المذموم الذي لا يحب الله أهله.
2- أن لا ينهمك في نيلها ويبالغ في استقصائها، فإنها تنقلب إلى أضدادها، فمن بالغ في الأكل والشرب والجماع انقلب ذلك إلى ضده، وحرم الأكل والشرب والجماع.
3- أن يصبر على أداء حق الله تعالى فيها، ولا يضيعه فيسلبها.
4- أن يصبر عن صرفها في الحرام، فلا يمكن نفسه من كل ما تريده منها، فإنها توقعه في الحرام، فإن احترز كل الاحتراز أوقعته في المكروه، ولا يصبر على السراء إلا الصديقون وإنما كان الصبر على السراء شديداً لأنه مقرون بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عند حضوره.(1/93)
ومما يدخل في هذا النوع من الصبر، الصبر عن التطلع إلى مابيد الآخرين من الدنيا، والصبر عن الاغترار بما ينعمون به من مال وبنين قال تعالى: ((أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون)) وقد نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: ((ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه، ورزق ربك خير وأبقى))، فالمؤمن من يعتز بنعمة الهداية ويعلم أنما هم فيه من الدنيا ظل زائل وعارية مستردة ولا يبالي بمظاهر الفخامة التي يتبجح بها الطغاة، لقد قال الذين يريدون الحياة الدنيا لما رأوا قارون في زينته ((يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون، إنه لذو حظ عظيم))، أما أهل العلم والإيمان فقالوا: ((ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون)).
ج - الصبر على طاعة الله تعالى:
إن الصبر على طاعة الله أعظم مجالات الصبر وهو لذلك أشدها على النفوس وقد جاءت صيغة الأمر بالصبر على الطاعة مغايرة لغيرها فقال تعالى: ((رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته، هل تعلم له سمياً))، وقال: ((وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها، لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى))، فاستخدم صيغة الافتعال وهو يدل على المبالغة في الفعل إذ زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وما ذاك إلا لمشقة مجاهدة النفوس على القيام بحق العبودية في كل الأحوال. واعلم أن الصبر على الطاعة له ثلاث أحوال:
1- قبل الطاعة، بتصحيح النية والصبر على شوائب الرياء، وعقد العزم على الوفاء ولعل هذا يظهر سر تقديم الصبر على العمل الصالح في قوله: ((إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير)).
2- حال الطاعة بأن لا يغفل عن الله فيها، ولا يتكاسل عن تحقيق آدابها وسننها، ولعله المراد بقوله: ((نعم أجر العاملين، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)) صبروا إلى تمام العمل.
3- بعد الفراغ منها فيصبر على عدم افشائها والمراءاة والإعجاب بها، وترك ما يبطلها قال تعالى: ((ولا تبطلوا أعمالكم))، وقال: ((لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)).
د - الصبر على مشاق الدعوة إلى الله:
غير خاف عليك ضرورة صبر الداعية على ما يلاقيه في دعوته، فإنه يأتي الناس بما لا يشتهونه ولا يألفونه، وبما يخالف ما وجدوا عليه آباءهم، فلذلك يقاومون الدعوة بكل ما أوتوا من قوة، ويوصلون الأذى بالداعية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
- إن اعراضهم عن الدعوة يحتاج إلى صبر كصبر نوح الذي بقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وحكى الله عنه قوله: ((رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكباراً... الآية)).
- وما يحيكه المغرضون من مؤامرات الكيد التي تؤذي الداعية في أهله ونفسه وماله تحتاج إلى صبر، وهذا ما أكده الله تعالى بقوله: ((لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً، وإن تصبروا وتتقوا، فإن ذلك من عزم الأمور))، وقد أمر الله رسوله بقوله: ((واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً))، وقد أجمع الأنبياء على رد أذى أقوامهم بالصبر ((ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون))، ((ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله))، وسحرة فرعون لما وقر الإيمان في قلوبهم قابلوا تهديده بالقتل والصلب بقولهم ((إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، ربنا أفرغ علينا صبراً، وتوفنا مسلمين)).
- إن طول الطريق، واستبطاء النصر يحتاج إلى صبر، وصبر حار شديد ولذا خوطب المؤمنون في القرآن بقوله تعالى: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب))، وقوله: ((حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين)).
هـ الصبر حين البأس :
أي الصبر في الحرب وعند لقاء العدو والتحام الصفوف، فالصبر ثَمّ شرط للنصر، والفرار كبيرة، وقد أثنى الله تعالى على الصابرين في ساعة القتال فقال في آية البر: ((والصابرين في البأساء)) أي الفقر ((والضراء)) أي المرض، وحين البأس، ((أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)) ويوجبه على عباده بقوله: ((ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا، إن الله مع الصابرين)).(1/94)
وعندما تضطرب أمور المعركة، وينفرط عقدها تكون الحاجة إلى الصبر أعظم وأشد كما حدث في أحد حين انكشف المسلمون وشاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل، انجفل فريق من المسلمين منهزمين، وصبر آخرون فنزل من القرآن إشادة بمن صبروا، وإنكار على أولئك: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين)) ثم لا يعذرهم في فرارهم وانهزامهم ((وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين)) إلى أن قال: ((وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)).
وقد حدثنا عن الثلة المؤمنة مع طالوت عندما انتصرت لما اعتصمت بالصبر، وقد اختبر طالوت من معه بقوله: ((إن الله مبتليكم بنهر..)) ((فصبر ثلة مؤمنة على ترك الشرب من النهر إلا غرفة باليد)) ((فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه، قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله، كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين، ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا: ربنا أفرغ علينا صبراً، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين))، لقد سألوا الله حين اللقاء صبراً وأوعبوا، فقالوا ((أفرغ))، إذ هم بحاجة إلى صبر كثير، وكانت النتيجة ((فهزموهم بإذن الله، وقتل داود جالوت.. )).
و - الصبر في مجال العلاقات الإنسانية:
لا تستقيم الحياة مع الناس إلا بالصبر بدءاً بأقرب من يعاشرك وهي الزوجة وانتهاءً بأبعد الناس عنك، وقد قال الله تعالى مبيناً ما ينبغي أن يتحلى به الزوج من صبر في مواجهة مشاكل الزوجية: ((وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً))، أي فاصبروا فعاقبة الصبر حميدة، ويوصي الله عباده بالصبر على ما يلاقونه من الناس من ضر، وأن لا يقابلوا السيئة بمثلها فيقول: ((ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)).
ومما يُنظم في هذا العقد صبر التلميذ على التعلم والمعلم، وهذا ما حدثنا عنه في القرآن عندما ذهب موسى إلى الخضر ليعلمه مما علمه الله، قال له الخضر إما لأن الله أخبره بالحقيقة أو تهييجاً على الصبر -قال: ((إنك لن تستطيع معي صبراً، وكيف تصبر على مالم تحط به خبراً))، فتعهد موسى بالصبر - قال: ((ستجدني إن شاء الله صابراً))...
4- الأسباب المعينة على الصبر:
أ - المعرفة بطبيعة الحياة الدنيا:
إن من عرف طبيعة الدنيا وما جبلت عليه من الكدر والمشقة والعناء هان عليه ما يبتلى به فيها لأنه وقع في أمر يتوقعه، والشيء من معدنه لا يستغرب، وقد عرفنا الله بهذه الحقيقة فقال: ((لقد خلقنا الإنسان في كبد))، أي في مشقة وعناء، وقال: ((ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه))، وبين جل جلاله أنها لا تدوم على حال بل يوم لك ويوم عليك ((إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس)).
إن من لا يعرف هذه الحقيقة سيفاجأ بوقائع الأحداث تصب على رأسه صباً فيظن أنه الوحيد من بين بني الإنسان الذي يصاب بذلك لشؤمه وسوء حظه، ولذلك يبادر بعضهم بالإجهاز على نفسه بالانتحار، لأنه ما علم أن لكل فرحة ترحة وما كان ضحك إلا كان بعده بكاء، وما ملئ بيت حبرة إلا ملىء عبرة، وما عبت دار من السرور إلا عبت من الحزن، "وأنه لو فتش العالم لم ير فيه إلا مبتلى: إما بفوات محبوب أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أساءت دهراً، وإن متعت قليلاً، منعت طويلاً...".
ب - معرفتك بأنك وما بيدك ملك لله تعالى ومرجعك إليه:
قال تعالى: ((ومابكم من نعمة فمن الله))، وقد علمنا في كتاب ربنا أن نقول عند حلول المصائب: ((إنا لله وإنا إليه راجعون))، يقول ابن القيم: "وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب، وأنفعه له في عاجلته وآجلته، فإنها تتضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته:
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل، وقد جعل عند العبد عارية. وأيضاً، فإنه محفوف بعدمين، عدم قبله، وعدم بعده حتى يكون ملكه حقيقة، ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده، ولا يبقى عليه وجوده، فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي.(1/95)
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولابد أن يخلف الدنيا وراء ظهره. ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بدايته ونهايته، فكيف يفرح بموجود ويأسى على مفقود؟ ففكره في مبدئه ومعاده أعظم علاج هذا الداء« ولذلك يقال عند تعزية المصاب (إن لله ماأخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى). وقد أدركت أم سليم هذا المعنى عندما توفي ابنها، فلما جاء أبوه (أبو طلحة) يسأل عنه قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح (تعني الموت، وقد ظن أنها تريد النوم لمجيء العافية) وكانت قد هيأت نفسها لزوجها فتعرضت له فأصاب منها فلما أراد الخروج لصلاة الفجر، قالت له: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوماً أعاروا أهل بيت عارية، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، إن العارية مؤداة إلى أهلها، فقالت: إن الله أعارنا فلاناً ثم أخذه منه فاسترجع... إلى آخر القصة.
ج - اليقين بحسن الجزاء عند الله تعالى:
أن مما يرغب الإنسان في العمل، ويزيده ثباتاً فيه علمه بحسن جزائه في الآخرة ولا نجد في القرآن شيئاً ضخم جزاؤه وعظم أجره مثل الصبر فيقول نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ويقول مبيناً أن الصابرين يجزون بأحسن ماعملوا: ((ما عندكم ينفد وما عند الله باق، ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون))، ويصرح بأن أجرهم غير معدود ولا محدود فيقول: ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب))، وقد ذُكِّر المؤمنون بهذه الحقيقة في الكلمة التي أمروا أن يقولوها عند حلول المصائب: ((إنا لله وإنا إليه راجعون))، فيتذكرون أنهم سيرجعون إلى الله فيجزيهم على عملهم وصبرهم أحسن الجزاء وأوفاه.
يقول أبو طالب المكي: "وأصل قلة الصبر: ضعف اليقين بحسن جزاء من صبرت له، لأنه لو قوي يقينه، كان الآجل من الوعد عاجلاً إذا كان الواعد صادقاً، فيحسن صبره لقوة الثقة بالعطاء...".
د - الثقة بحصول الفرج:
إن يقين العبد بأن النصر مقرون بالصبر وأن الفرج آت بعد الكرب وأن مع العسر يسراً يقويه على الصبر على ما يلاقيه، وقد كثرت الآيات الدالة على هذا المعنى لما له من أثر في مزيد التحمل والثبات، قال تعالى: ((فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا))، قال بعضهم: "لن يغلب عسر يسرين" يقصد بذلك أن العسر ورد معرفة في الموضعين والمعرفة إذا كررت في الجملة لا تفيد التعدد بخلاف النكرة وهي التي ورد به اليسر في الموضعين، فإذا قلت: جاء الرجل وأكرمت الرجل، كان الرجل في المواطنين واحداً، وإذا قلت: جاء رجلٌ وأكرمت رجلاً، كان المقصود رجلين. وقد جعل العسر في الآيتين مع العسر لا بعده أو عقبه لينبه إلى قرب تحققه بعده حتى كأنه معه ولينبه أيضاً إلى أن كل عسر مقرون بيسر وأكثر فما من مصيبة يبتلى بها عبد إلا ولله فيه إلطاف بأن لم يجعلها على نحو أعظم أو أكبر أو أطول مما هي عليه.
وقد تكرر في القرآن الأمر بالصبر مقروناً بالتذكير بأن وعد الله حق لا يتخلف أبداً قال تعالى: ((وعد الله لا يخلف الله الميعاد))، وقال: ((فاصبر إن وعد الله حق، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)).
إن اشتداد الأزمة في سنن الله تعني قرب انبلاج الفجر وظهور طلائع النصر كما قيل:
اشتدي أزمةُ تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
ولهذا نجد يعقوب يكون أمله في العثور على يوسف أشد عندما أخذ ابنه الثاني فيقول: ((فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً))، وقال لأبنائه ((يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)).
هـ - الاستعانة بالله:
مما يعين المبتلى على الصبر أن يستعين بالله تعالى ويلجأ إلى حماه فيشعر بمعيته سبحانه وأنه في حمايته ورعايته، ومن كان في حمى ربه فلن يضام ولذا قال موسى لقومه بعد أن هددهم فرعون بما هددهم به ((استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)).
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
ولعل حاجة الصابرين إلى الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه هي بعض أسرار اقتران الصبر بالتوكل على الله في آيات كثيرة كقوله ((نعم أجر العاملين، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون))، وقوله عن رسله: ((ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون)).
و - الاقتداء بأهل الصبر:(1/96)
إن التأمل في سير الصابرين يعطي الإنسان شحنة دافعة على الصبر، ومن هنا ندرك سر حرص القرآن المكي على ذكر صبر الأنبياء على ما لاقوه من أممهم وهذا ما صرح الله به في قوله: ((وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين))، وقال الله: ((ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات الله، ولقد جاءك من نبإي المرسلين)) [الأنعام/34]، وجاء الأمر صريحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالصابرين قبله: ((فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ولا تستعجل لهم))، وحين نزل البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم التذكير ببلاء من كان قبلهم: ((أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين))، وقال لهم: ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب)).
ز - الإيمان بقدر الله:
إن إيمان العبد بقدر الله النافذ واستسلامه له أكبر عون على تجشم مصاعب المصائب، وعلم العبد بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه برد من اليقين يصب على فؤاده، قال تعالى: ((ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير، لكيلا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم))، وركون المؤمن إلى قدر الله في مثل هذا المقام واحتجاجه به أمر لا غبار عليه لأنه إحالة على القدر فيما لا اختيار للعبد فيه.
واعلم أن الجزع والهلع والتبرم والضيق لايرد من قدر الله شيئاً فلابد من الصبر أول الأمر لئلا يحرم العبد من المثوبة ولئن لم يصبر أول الصدمة فسيصبر بعد ذاك رغم أنفه ولا أجر له، قال حكيم: "العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد السبعة أيام". إن المبالغة في التشكي والتبرم لا يغير من الواقع شيئاً بل يزيد النفس هماً وكمداً ولهذا قال الله لرسوله: ((قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون، فإنهم لا يكذبوك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله، ولقد جاءك من نبأ المرسلين. وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين)) [الأنعام/33-35]، فأزال الوحشة عن قلب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول آية بأن تكذيبهم ليس للرسول وإنما هو لله تعالى، ثم عزاه في الثانية وسلاه بما حدث لرسل الله فصبروا، ثم قال له: إن شق عليك إعراضهم وذهبت نفسك عليهم حسرات وضاق صدرك فليس لك إلا الصبر، وإلا فافعل ما بدا لك فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض تهرب منه أو سلماً في السماء، تصعد عليه فدونك فافعل. [1]
الآفات المعيقة عن الصبر:
1- الاستعجال: النفس موكولة بحب العاجل ((خلق الإنسان من عجل))، فإذا أبطأ على الإنسان ما يريد نفد صبره وضاق صدره واستعجل قطف الثمرة قبل أوانها فلا هو ظفر بثمرة طيبة ولا هو أتم المسير، ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:((فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ولا تستعجل لهم))، أي العذاب فإن له يوماً موعوداً.
لقد باءت بعض الدعوات بالفشل ولم تؤت ثمرتها المرجوة بعلة الاستعجال، ولو أنهم صبروا لكان خيراً لهم، ثار بعضهم على الطغيان ولما يقم على ساقه ويشتد عوده وتكتمل آلته وتنضج دعوته وتمتد قاعدته فقضي على الدعوة ووئد الداعية وذهب الاثنان في خبر كان. والحديث عن الاستعجال أطول من هذا ولكن في الإشارة للبيب ما يغني عن العبارة.
2- الغضب: قد يرى الداعية من المدعوين مالا يليق فيستفزه الغضب فيدفعه إلى مالا يحسن به مما يسيء إلى الدعوة ويلصق بجبين حاملها وصمة عار تبقى الدهر كله، ولهذا حذر الله رسوله من مغبة الغضب بأن لا يقع فيما وقع فيه يونس فقال: فاصبر لحكم ربك، ولا تكن كصاحب الحوت لقد فرغ صبره فضاق صدره فغادرهم غاضباً قبل أن يأذن الله له ظناً منه أن الله لن يضيق عليه فضيق الله عليه بأن جعله في بطن الحوت: ((وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين))، فتاب الله عليه: ((فاستجبنا له ونجيناه من الغم)).(1/97)
3- اليأس : أعظم عوائق الصبر وهو الذي حذر يعقوب أبناءه من الوقوع فيه مع تكرار البحث عن يوسف وأخيه: ((يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون))، وهو الذي حرص القرآن على دفعه عن أنفس المؤمنين فبذر الأمل في صدورهم: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين، إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس))، وقال لهم: ((ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون، والله معكم ولن يتركم أعمالكم))، إن إضاءة شعلة الأمل دواء اليأس وهذا ما ذكرت به الآيات المؤمنين وهو ما ذكر به موسى قومه فقال: ((استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين))، ولما شكا خباب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلاقيه من أذى قريش قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكره مصاب الصالحين في الأمم قبله: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
5- نماذج للصابرين:
لقد ضُرب لنا في القرآن نماذج رائعة تجسدت فيهم حقيقة الصبر، واستحقوا أن يذكروا بصبرهم فيقتدى بهم الصابرون، وسنختار في هذه العجالة ثلاثة منها يتمثل في كل واحد منها لون من الصبر.
أ - الصبر على طاعة الله:
في قصة إبراهيم وإسماعيل التي حكاها الله لنا بقوله عن إبراهيم: ((وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين، رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي، قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين...)).
من أيهما تعجب من الأب الذي رأى في المنام أنه يذبح ابنه أم من الابن الذي يستسلم لأمر الله طواعية واختياراً، لقد كان الابن وحيد إبراهيم ولم يأته إلا على كبر فما ظنك بتعلق الأب بابنه، إنه تعلق لا يوصف، ولكن تعلقه بالله أعظم وطاعته لله فوق كل ذلك، لقد حطم إبراهيم كل نداءات الأرض لما جاء الأمر من السماء، وضرب للناس أروع الأمثال في الطاعة، ولقد كان الوحي في هذه المرة رؤيا فلم يتأولها إبراهيم لصالحه بدافع من غريزة الأبوة، ولكنه امتثل وعرض على ابنه ما رأى عرضاً في غاية الإيجاز والسهولة ولكنه يتضمن أمراً في غاية الخطورة، ولم يكن الابن صغيراً بحيث لم ير الأب من جدواه ما يجعله شديد التعلق به والاعتماد عليه، ولكنه بلغ مع أبيه السعي فاصبح فتى مفتول العضلات، قوي الساعد، وكانت إجابة الابن محيرة حقاً، لقد حسم الموقف بجملتين قالهما لأبيه خلدهما التاريخ له، وكانتا سبباً في تدوين اسمه في الصابرين: ((وإسماعيل وإدريس وذا الكفل،كل من الصابرين))، قال إسماعيل: ((يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين))، أي لا تأخذ رأيي ولا تنتظر مشورتي بل نفذ ما أمرت به، ثم لا ينسى أن يستمد العون من الله على حاله بالصبر فهو لا يعتمد على قوته وشدة جلده بل يسأله من ربه، وصدقا وأسلم الوالد ولده، وتله أبوه للجبين، وتهيأ للذبح وجاءت البشرى عند ذاك بعد أن حقق الابتلاء ثمرته ((وناديناه أن ياإبراهيم... الآيات)).
ب - الصبر عن معصية الله:
وأبرز الأمثلة وأشدها وضوحاً صبر يوسف عليه السلام على مراودة امرأة العزيز، لقد كان الصبر ظهير يوسف في محنته التي ابتلي بها اضطراراً واختياراً وكشف عن هذا حين عثر إخوته عليه فقال: ((أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين))، لقد رفض كل العروض والإغراءات وخرج من الفتنة بإيمانه وصبره، وكان صبره هذا أرقى من صبر أبيه يعقوب على الفراق وأرقى من صبر أيوب على ما بلي به لأن صبرهما كان اضطرارياً لا حيلة لهما في رفعه ولا دفعه بينما كان صبر يوسف اختياراً وحين تملك فلم يتكبر ولم يطغ صبراً اختيارياً، يقول ابن القيم نقلاً عن شيخه ابن تيميه رحمهما الله: "كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا، ومحاربة للنفس، ولاسيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة:
1- فإنه كان شاباً، وداعية الشباب إليها قوية.
2- وعزباً ليس معه ما يعوضه ويرد شهوته.
3- وغريباً، والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي فيه بين أصحابه ومعارفه وأهله.
4- ومملوكاً، والمملوك أيضاً ليس وازعه كوازع الحر.
5- والمرأة جميلة وذات منصب، وهي سيدته.(1/98)
6- وقد غاب الرقيب.
7- وهي الداعية إلى نفسها والحريصة على ذلك أشد الحرص.
8- وتوعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار.
ومع هذه الدواعي كلها صبر اختيارياً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه" ا هـ .
لقد ضحى بدنياه من أجل دينه، وبحريته من أجل عقيدته، وقال قولته المشهورة: ((رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين)).
ولما أفرج عنه من السجن الطويل واستدعي لمقابلة الملك، لم يستفزه هذا الخبر بل طلب التحقيق في القضية حتى تظهر براءته على الملأ وحدث ذلك فعلاً وعند ذلك ازداد إعجاب الملك به فقال: ((ائتوني به استخلصه لنفسي))، وكان في المرة الأولى قال ((ائتوني به))، فقط ((فلما كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين)).
ج - الصبر على أقدار الله المؤلمة:
إن أشهر من يقرن اسمه بهذا اللون من الصبر نبي الله أيوب عليه السلام، لقد أصابه ضر عظيم في بدنه وأهله وماله فصبر، فخلد ذكره في القرآن فقال الله تعالى: ((واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب، وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث، إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب))، لقد ذكر له من ألوان التكريم وأوسمة الشرف ما هو جدير بمثله لعظيم صبره، فأولهما تكريمه بتخليد ذكره ومباهاة الله به عند رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وثانيه: تكريمه بقوله ((عبدنا))، حيث أضافه إليه، والعبودية من أشرف أوصاف الإنسان التي يتحلى بها، وثالثها: عندما استجاب نداءه وكشف ضره ووهب له أهله ومثلهم معهم، ورابعها: حينما جعل له مخرجاً من يمين حلفه على امرأته فكرمت وكرم بما يخلصه من مأزق الحنث، وكانت خاتمة ذلك هذا الوسام من الشرف العريض ((إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب))، فوصفه بالصبر حتى قرن الصبر بأيوب فلا يذكر إلا وهو معه، ثم قال: نعم العبد فكانت شهادة من الله بتمام عبوديته، ثم ختم ذلك بقوله إنه أواب، والأواب: المبالغ في شدة رجوعه إلى الله تعالى.
وقد ذكر الله تعالى صبره في موطن آخر فقال: ((وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر، وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين، وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين))، لقد كان نداء أيوب في ضرائه غاية في اللطف والأدب ولذا كانت الإجابة آية في التمام والكمال، لقد نادى ربه ولم يسأله شيئاً بعينه من الأهل والعافية وذكر ربه بما هو أهله وبما اتصف به ((إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين))، فاستجاب له دعاءه فكشف عنه الضر ورد عليه الأهل ومثلهم معهم وجعله ذكرى للعابدين وإماماً من الصابرين.
جعلني الله وإياك منهم وحشرنا معهم وآجرنا بأجرهم إنه ولي ذلك والقادر عليه...
----------------
الصبر.. عنوان الإيمان ودليل الثقة بالله
د. الحسيني أبو فرحة
من أبرز الأخلاق التي عني بها القرآن الكريم وحث عليها “الصبر”، وقد ورد ذكره في القرآن الكريم أكثر من غيره من الأخلاق الإسلامية.
وقد ذكر الصبر في القرآن على ستة عشر نوعا، منها الأمر به مثل قوله تعالى “يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا”، ومنها النهي عن ضده كقوله تعالى: “فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم”، ومنها الثناء على أهله مثل “الصابرين والصادقين والقانتين”.
درجات الصبر
والصبر في القرآن ثلاث درجات: الأولى: الصبر عن المعصية بتركها، الثانية: الصبر على أداء الطاعات بالمحافظة على أدائها كاملة غير منقوصة، الثالثة: الصبر على البلاء بعدم السخط والجزع، مع الرضا بقدر الله عز وجل.
وثمرات الصبر كما يقول الدكتور الحسيني أبو فرحة لا تحصى عددا، وقد ذكر القرآن الكريم طرفا منها، وذكرت السنة طرفا آخر، والسنة هي شارحة القرآن، وهى جزء من وحي السماء الذي أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه أوحي إليه معناها فقط، وعبر عن المعني الموحى به إليه بألفاظ من عنده.
فما نص عليه القرآن من ثمرات الصبر أنه يعين على أداء الطاعات، قال تعالى: “فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون”.
والذكر والشكر وعدم الكفر طاعات، ثم قال سبحانه: “يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين”، فعقب الأمر بالذكر والشكر والنهي عن الكفر، أمر بالاستعانة بالصبر والصلاة.
تحمل البلاء
والصبر كذلك يثمر تحمل البلاء الذي ينزل بالإنسان، فيزلزل بنيان غير الصابر، وقد يقضي عليه بالأمراض المختلفة من شلل وجنون، وقد يؤدي البلاء الذي ينزل بغير الصابر إلى الانتحار وكل ذلك شائع بين غير الصابرين.(1/99)
أما المسلم الذي يصبر على البلاء، فهو في أمان من هذه البلايا، ثقة منه بالله وواسع رحمته، وعظيم مثوبته على ما نزل به من بلاء، وعظيم ما عند الله من خير للصابرين في دنياهم وأخراهم، يقول الله تعالى مشيرا إلى ذلك كله: “ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون”.
فقد جمعت هذه الآيات بين الخوف وهو متعدد الأشكال والألوان، فهو يتسع للخوف من الأعداء، والخوف من الأمراض، والخوف من المجهول، وغير ذلك وبين الجوع وخطره معروف، والكثير من الناس في زمننا هذا وفي غيره من الأزمان يموتون من الجوع، ويتعذب الكثيرون من الجوع إن لم ينته بهم إلى الموت، ونقص المال بالخسارة في التجارة والصناعة والآفات في الزراعة معروف، ونقص الأنفس بفقد الأحبة بالموت، وفقد بعض أعضاء الجسم وقواه بالمرض، كل ذلك واقع وشائع بين الناس.
ثم تذكر هذه الآيات أن علاج جميع الحالات السابقة التي تنزل بالإنسان فتزلزل بنيانه وقد تقضي عليه، هو الصبر، فمن صبر ظفر، والله سبحانه وتعالى يقول بعد ذكره ما يمتحن به عباده من ألوان البلاء: “وبشر الصابرين” بشارة يثمرها الصبر، والبشارة تقاس بالمبشر بها، وبشارة من الله الملك الحق المبين الذي لا تنفد خزائنه، دونها كل بشارة من مخلوق، ولو كان ملكا متوجا، هذا مع قوله سبحانه: “إن الله مع الصابرين”.
فمعية الله تذهب بالحزن من القلوب وتذهب بالخوف منها كذلك، وتملأ القلوب أمنا وأمانا واطمئنانا.
والصابر إذا نزلت به مصيبة عبر عن صبره الذي وقر في قلبه بقوله: “إنا لله وإنا إليه راجعون”.
ومع تلك العقيدة التي يمتلئ بها قلب المسلم الصابر بأن الكل خلق الله وأن كل مخلوق لابد راجع إلى مولاه، مع تلك العقيدة يمتلئ قلب المؤمن رضا عن قضاء الله وقدره، فلله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بمقدار.
ويذكر الله سبحانه في تلك الآيات أن الصابرين يفوزون بثلاث ثمرات: أولاها: أنهم عليهم صلوات من ربهم، أي غفران من الله لهم وثناء عليهم.
ثانيها: أنهم عليهم رحمة من ربهم، وهي ما يكون مع المصيبة من لطف الله بهم.
ثالثها: أنهم مهتدون إلى الحق والصواب فيما ينبغي عمله في أوقات الشدائد فلا يستحوذ الجزع على نفوسهم ولا يذهب البلاء بالأمل من قلوبهم.
ومن ثمرات الصبر محبة الله للصابرين، قال تعالى “وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين”.
---------------
صبر المجاهدين
لئن كانت شرعتنا الحنيفة أوصت عموم المؤمنين ، بامتثال قيمة الصبر ، والتحلي به فيما حزبهم من أمور ؛ كالصبر على المأمور والمحذور والمقدور ، فإنها اختصت جحافل المجاهدين بأحوال من الصبر المستبين ، فكان أن أوصتهم بالصبر : قبل نشوب المعركة واحتدام الصراع ، وبالصبر في خضم النزال والقراع، وبالصبر عقب جولة جهادية صار غبارها الى انقشاع .
فهذه أحوال ومقامات من الصبر ينعقد بنواصيها حكم بالغة نيرة ، وثمرات
طيبة خيرة .
أما الصبر قبل نشوب المعركة فأثبته قوله تعالى لسيد المجاهدين صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين ، بنص قرآني مبين . (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم). [ سورة الأحقاف آية35 ]
فالوصية بالصبر في هذه الآية الكريمة حملت للمجاهدين بين طيّاتها لمسة تربوية بارعة ، مؤداها أنها تضبط مشاعرهم ، وتهذب عواطفهم ، وتمحص مواقفهم ، وتصفي نواياهم وطواياهم وسرائرهم ؛ فصولاتهم وجولاتهم الجهادية لاتتأتى من باب ردود الأفعال ، إنما من جهة إرضاء الكبير المتعال ، فهي ليست رهينة حظوظ النفس ، إنما من الظلام تقتص ، تلقنهم ومن شايعهم ومشى ممشاهم أعظم درس ، فدماؤها وأرواحها في سبيل الله ترخص ، إعلاء لراية التوحيد ، وتخضيدا لشوكة الشرك العنيد .
واذكر للدعاة في فلسطين حقبة زمنية ، انحازوا فيها إلى تربية النشئ على التوحيد وصبغتهم بصبغة الكتاب والسنة ، فكان أن تطاولت عليهم الألسنة ، فانبرى فريق يزاود عليهم ، وراح يتمطى أن شهر في وجه يهود الأسنة ، مروجين أن الدعاة بصنيعهم هذا إنما تثاقلوا عن دروب الجهاد والاستشهاد ، ونأوا بأنفسهم عن نصرة العباد ، وتخاذلوا عن تحرير البلاد …!!
فما لبثت هذه الأصوات أن خمدت ، حينما أتى على الناس زمان تناحر فيه حملة السلاح ، وأثخنوا فيما بينهم الجراح ، فتبين حينها أن العقيدة هي التي توحد السواعد وليست البندقية ، وثبت أنه ليست القضية الهرولة إلى حمل البندقية ، إنما هي النفوس الأبية التقية ، التي ينبغي صناعتها وإشباعها بالمبادئ النقية ، وإفعامها بالقيم القوية ، لتغدو لدماء شهدائها وفية ، ويظل شعارها المنية لا الدنية ، فمهما ادلهمت(1/100)
الخطوب ، ونزلت في ساحتها الكروب ، فنجم مبادئها وقيمها وثوابتها لن يسير إلى أفول وغروب .. وهذا ما كان للجيل المجاهد في فلسطين .
وأما الصبر في خضم المعركة فبينه قوله تعالى
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) [ سورة آل عمران آية 200 ]
وقوله (ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) [ سورة الأنفال الآيتان45، 46 ] .
فما حملته هذه الآيات الكريمة بين ثناياها من دعوة المجاهدين إلى التجلد وتجشم المشاق ، واستعذاب المنايا في سبيل الملك الخلاق ، وطلبها من مظانها بلا وجل ولا إشفاق ، من شأنه أن يفرج كربتهم ، وينهي -باذن الله –غربتهم ، في حين يخضد لأهل الزيغ والفساد شوكتهم ، وقد قدمت غزوة حنين للبشرية في هذا الصدد أسمى عظة ، صاغتها ثلة مجاهدة بصبر لحظة.
من هنا : فعلى المجاهدين في فلسطين في أتون معركتهم المقدسة التي يذودون فيها عن حياض الأمة ومقدساتها وحرماتها .. عليهم ألا يقيلوا ولا يستقيلوا عن درب قدموا فيه من الدماء والأشلاء ما يعد ضريبة لا يستخف بها ولا يستهان على طريق نيل الحرية وتحقيق الاستقلال .
وعليهم أن يتفطنوا دوما أن كوكبة الشهداء الذين قضوا نحبهم وجادوا من قبل ومن بعد بأرواحهم إنما شيدوا منار هدى يهتدي به الحيارى ، فلا يليق بالجموع التي أتت بعدهم إلا أن تحذو حذوهم ، وتواصل زحفهم ، دونما أن تحيد أو تتمارى .. نعوذ بالله من الحور بعد الكور .
وأشد أحوال الصبر ومقاماته لدى المجاهدين : الصبر عقب المعركة ؛ إثر انقشاع جولة ، والفراغ من صولة، كشف ذلك قوله تعالى : (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم )[ سورة محمد آية 31 ]، فأخر الصبر عن الجهاد لأن المقصود بالمجاهدين هنا : المقيمون عليه ، وبالصابرين : الثابتون عليه – على الجهاد - ، ولأوائه دونما انخزال أو انخذال .
ذلك أن غبار المعركة سوف ينجلي عن دماء تنزف ، وأشلاء تتناثر ، وأرواح تزهق ، من فلذات الأكباد ، وقادة الجهاد ، وصناع الاستشهاد ، فضلا عما تخلفه وراءها من نساء ثكالى ، وأطفال يتامى ، وأبنية تتهاوى ، ومقدرات وثروات وخيرات ومزروعات ترى العدو بإتلافها يتغاوى ..!!
فهذا كله يتطلب من المجاهدين ومن آزرهم ، ومن أهل فلسطين ومن ساندهم ، استنفار جهود كثيفة ، واستفراغ طاقات حثيثة ، بغية تضميد الجرح ، وبلسمة القرح، لكيلا يتوانى أحد عن الزحف نحو التحرير ، وانتزاع حق الحرية وتقرير المصير .
ومتطلبات هذه المرحلة تنوء بالعصبة أولي القوة ، إلا من رحم ربك ، فبث فيه العزيمة والهمة .
لذا تجد القرآن الكريم قد أعلى من شأن رواد هذه المرحلة ، وأولاهم عناية
فائقة ، وتوجيهات سامقة ، ففي مثل هذه المرحلة وما شاكلها نزل قوله تعالى " من المؤمنينَ رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا [ سورة الأحزاب آية 23 ] .
ذلك أن التبديل والتغيير إنما يزينة المرجفون شياطين الإنس والجن أجمعون حينما يثخن الجسد بالجراح ، وتتناثر الأشلاء في الساح ، وتسيل بالدم البطاح .. عندها تتكثف جهودهم المذمومة ، وتنشط مساعيهم المحمومة ، وتتعالى صيحاتهم المسمومة ، لغزو النفوس بسوء الظنون ، واحرّقلباه !! فلهم في ذلك دروب وفنون .
-----------------
صبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) عائض بن عبد الله القرني
الحمد لله ربِ العالمين.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
الحمد للهِ حمدا حمدا، والشكرُ لله شكرا شكرا، الحمد لله عبوديةً واعترافا، الحمد لله استخزاءً وذلة.
والصلاةُ والسلام على معلمِ البشرية، وهادي الإنسانية، ومزعزعِ كيان الوثنية، صلى الله وسلم على محمدٍ ما اتصل مرءأ بنظر، وما اتصلت أذنُ بخبر، وما هتفَ ورقُ على شجر، وما نزل مطر، وما تلعلعَ الظلُ على الشجر، وعلى آله وصحبِه وسلمَ تسليما كثيرا.
أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أن محمدا عبدُه ورسولُه، أشهدُ أن لا غله غلا اللهث على رغمِ أنفِ من تكبر وكفر، وعلى رغمِ من جحد واستكبر، وعلى رغمِ من بعدَ وتنكر.
أيها المسلمون:
بشرى لنا معشرُ الإسلامِ إن لنا ....... من العنايةِ ركنا غير منهدمِ
لما دعا اللهُ داعينا لطاعتِه ............ بأكرمِ الرسلِ كنا أكرم الأممِ
أخوك عيسى دعا ميتا فقامَ له .........وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
مولاي صلي وسلم ما أردتَ على ... نزيلِ عرشكَ خير الرسل كلهمِ(1/101)
لا يزالُ الحديثُ عن جانبٍ من جوانبِ عظمتِه (صلى اللهُ عليه وسلم)، وعظمتُه تبهرُ العقول، وتخلبُ الألباب، وتحيرُ الأفكار، إنهُ عظيمُ لأنَه عظيم، وإنه صادقُ لأنَه صادق، بنى رسالةً أرسى من الجبال، وأسسَ مبادئ أعمقُ من التاريخ، وبنى جدارا لا يخترقَه الصوت، إنه (صلى اللهُ عليه وسلم) حيثما توجهتَ في عظمتِه وجدتَ عظمتَه، فهيا بنا إلى جانبِ الصبرِ في حياتِه (صلى اللهُ عليه وسلم).
ذكرَ الصبرُ في القرآنِ في أكثرِ من تسعينَ موضعا، مرةً يمدحُ اللهُ الصابرين، ومرةً يخبرُ اللهُ بثوابِ الصابرين، ومرةً يذكرُ اللهُ عز وجل نتائجَ الصابرين، يقولُ لرسولِه (صلى اللهُ عليه وسلم): فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا رأيتَ الباطلَ يتحدى، وإذا رأيت الطغيانَ يتعدى: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا قل مالُكَ وكثرَ فقرُكَ وعوزُك وتجمعتَ همومُك وغمومُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا قتلَ أصحابُك وقل أصحابُك وتفرقَ أنصارُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا كثُرَ عليك الأعداء، وتكالبَ عليك البُغضاء وتجمعت عليكَ الجاهليةُ الشنعاء: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا وضعوا في طريقِك العقبات، وصنفوا لك المشكلات، وتهددوكَ بالسيئاتِ وأقبحَ الفعلات: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
إذا مات أبناؤكَ وبناتُك وتفرق أقرباءُك وأحباؤكَ: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
فكانَ مثالا للصبرِ عليه السلام، سكنَ في مكةَ فعاداهُ الأقرباءُ والأحباء، ونبذَه الأعمامُ والعمومةَ، وقاتلَه القريبُ قبل البعيد فكانَ من أصبرِ الناس، أفتقرَ وأشتكى، ووضع الحجرَ على بطنِه من الجوع وظمأَ فكان من أصبرِ الناس.
مات أبنَه بين يديه وعمرُه سنتان، فكان ينظرُ إلى أبنِه الحبيبِ القريبِ من القلبِ، ودموعُ المصطفى (صلى الله عليه وسلام) الحارةُ تتساقطُ كالجُمانِ أو كالدرِ على خدِ أبنِه وهو من أصبرُ الناسِ يقول: تدمع العين، ويحزنُ القلب، ولا نقولُ إلا ما يرضي ربَنا، وإنا بفراقِك يا إبراهيمُ لمحزونون.
مات خديجةُ زوجتُه وامرأتُه العاقلةُ الرشيدة، العاقلةُ الحازمةُ المرباةُ في بيتِ النبوة، التي كانت تؤيدُه وتنصُره، ماتت وقت الأزمات، ماتت في العصرِ المكي يوم تألبت عليه الجاهليةُ، وقد كانت رضي اللهُ عنها ساعدَه الأيمن.
يشتكي إليه من كثرةِ الأعداء، ومن الخوفِ على نفسِه فتقول: كلا واللهِ لا يخزيكَ اللهُ أبدا، إنك لتصلُ الرحم، وتحملُ الكلَ، وتعينُ الملهوفَ، وتطعمُ الضيفَ، كلا واللهِ لا يخزيكَ اللهُ أبدا. فتموتُ في عام الحزنِ فيكونُ من أصبرِ الناسِ لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تجمع عليه كفارُ مكةَ، أقاربُه وأعمامُه، نصبوا له كمينا ليقتلوه ويغتالوه، فدخلَ دارَه، وأتى خمسونَ من شبابِ قريش، كلُ شابٍ معَه سيفُ يقطرُ دما وحقدا وحسدا وموتا، فلما طوقوا دارَه كان من أصبرِ الناس، خرج من الدارِ وهم في نعاسٍ وسباتٍ فحثا على رؤوسِهم الترابَ لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
ولما حثا الترابَ على رؤوسِهم كانوا نياما قد تساقطت سيوفُهم من أياديهم، والرسول عليه الصلاة والسلامُ يتلو عليهم: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ.
خرج إلى غارِ ثورٍ ليختفي من الأعداء، فتولبَ عليه الأعداءُ وتجمعوا على سطحِ الغار، ونزلوا في ميمنةِ الغار، وأحاطوا بميسرةِ الغار، وطوقوا الغار وأرادوا أن يدخلُوه فسخرَ اللهُ عنكبوتا وحماما فعشعشت تلكَ، وباضت تلك:
ظنوا الحمامَ وظنوا العنكبوتَ على .... خيرِ البريةِ لم تنسج ولم تحمِ
عنايةُ الله أغنت عن مضاعفةٍ ........ من الدروع وعن عالي من الأُطمِ
فما دخلوا الغار، يقولُ أبو بكر رضي الله عنه وهو في الغارِ مع المصطفى (صلى اللهُ عليه وسلم): يا رسولَ الله واللهِ لو نظرَ أحدُهم إلى موطني قدمِه لرآنا.
فيتبسمُ عليه الصلاةُ والسلام، يتبسمُ الزعيمُ العالميُ، والقائدُ الرباني، الواثقُ بنصرِ اللهِ ويقول: يا أبا بكر، ما ظنُك باثنين اللهُ ثالثُهما؟ ويقول: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
وهي دستورُ للحياة، إذا جعت وظمئت فقل: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
إذا مات أبناؤكَ وبناتُكَ فقل: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.
وإذا أرصدت في طريقِك الكوارثَ والمشكلات ِفقال: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا.(1/102)
فكان عليه الصلاةُ والسلامُ من أصبرِ الناس، ويخرجُ من الغار، والكفارُ لا يدرونَ أنه كانَ في الغار، فينسلُ إلى المدينةِ وليتَهم تركوه، بل يعلنونَ عن جائزةٍ عالميةٍ لمن وجدَه، جائزةَ العارِ والدمارِ وقلةِ الحياءِ والمروءة، مئةُ ناقةٍ حمراء لمن جاء به حيا أو ميتا، فيلاحقُوه سراقةُ أبن مالكٍ بالرمحِ والسيف، فيراهُ (صلى اللهُ عليه وسلم) وهو يمشي على الصحراءِ جائعا ظمئنا قد فارقَ زوجتَه فارق بناتِه، فارق بيتَه، فارق جيرانَه وأعمامَه وعمومتَه، ليس له حرسُ ولا جنود، لا رعايةُ ولا موكب، وسراقةُ يلحقوه بالسيف.
فيقولُ أبو بكرٍ:يا رسولَ الله والله لقد اقتربَ منا.
فيتبسمُ عليه الصلاة والسلام مرةً ثانيةً لأنَه يعلم عليه الصلاةُ والسلامُ أن رسالتَه سوف تبقى ويموتُ الكفار، وسوف تبقى دعوتُه حيةً ويموتُ المجرمون، وسوف تنتصرُ مبادئُه وتنهزمُ الجاهليةُ. فيقول: يا أبا بكرٍ ما ظنكَ باثنين اللهُ ثالثَهما.
ويقتربُ سراقةُ ويدعُ عليه المصطفى (صلى اللهُ عليه وسلم) فتسيخُ أقدامُ فرسِه ويسقط، فيقومُ ويركب ويقترب فيدعُ عليه المصطفى (صلى اللهُ عليه وسلم) فيسقط، ثم يقولُ:
يا رسولَ الله أعطني الأمان، الآن هو يطلبُ الأمان وأن يحقنَ المصطفى دمَه، وهو بسيفٍ والمصطفى بلا سيف، فرَ من الموتِ وفي الموتِ وقع. فيعطيهِ المصطفى (صلى اللهُ عليه وسلم) أمانَه.
يا حافظَ الآمالِ أنت ...... حفظتني ونصرتني
وعدى الظلومُ علي ....... كي يجتاحني فنصرتَني
فأنقادَ لي متخشعا ..........لما رآك منعتني
يصلُ (صلى اللهُ عليه وسلم) إلى المدينة، ويشاركُ في معركةِ بدر، فيجوعُ حتى يجعلَ الحجرَ على بطنِه:
يا أهل الموائدَ الشهية، يا أهل التخمِ والمرطبات، والمشهياتِ والملابس، رسولُ الإنسانيةَ، وأستاذُ البشرية يجوع حتى ما يجدُ دقل التمرِ وحشف التمر: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تموتُ بناتُه الثلاث هذه تلو الأخرى، تمتُ الأولى فيغسلُها ويكفنُها ويدفنُها ويعودُ من المقبرَةِ وهو يتبسم: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
وبعد أيامٍ تموتُ الثانية فيغسلُها ويكفنُها ويدفنُها ويعودُ من المقبرَةِ وهو يتبسم: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تموتُ الثالثةَ فيغسلُها ويكفنُها ويدفنُها ويعودُ من المقبرَةِ وهو يتبسم: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يموتُ أبنُه إبراهيم، فيغسلُه ويكفنُه ويدفنُه ويعودُ من المقبرةِ وهو يتبسم: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
عجبا من قلبِك الفذ الكبير. لأن اللهَ يقول لَه: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يشاركُ في معركةِ أحد، فيهزَمُ أصحابُه، ويقتلُ من قرابتِه ومن سادةِ أصحابِه، ومن خيارِ مقربيه سبعونَ رجلا أولُهم حمزة رضي اللهُ عنه، عمُه سيفُه الذي بيمينِه، أسدُ اللهِ في أرضِه، سيدُ الشهداءِ في الجنة، ثم يقفُ (صلى اللهُ عليه وسلم) على القتلى، وينظرُ إلى حمزةَ وهو مقتولُ مقطعُ، وينظرُ إلى سعدَ أبنُ الربيعِ وهو ممزق، وأنسُ ابنُ النظر وغيرهم من أولئك النفر فتدمعُ عيناه، وتسيلُ دموعُه الحارة على لحيتِه الشريفة، ولكن يتبسم لأن الله قال له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
ويعودُ عليه الصلاةُ والسلام فيرسلُ قادتَه إلى مؤتةَ في أرض الأردنَ ليقاتلواُ الروم، فيقتلُ الثلاثةُ القوادُ في ساعةٍ واحدة، زيدُ أبنُ حارثة، وجعفرُ الطيار أبين عمه، وعبدُ الله أبن رواحه، ويراهم وينظرُ إليهم من مسافةِ مئاتِ الأميال، ويرى أسرتَهم من ذهب تدخلُ الجنةَ، فيتبسمَ وهو يبكي لأن اللهَ قال له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يتجمعُ عليه المنافقونَ، والكفارَ، والمشركون، واليهودَ، والنصارى، وإسرائيل ومن وراءَ إسرائيلَ فيحيطون بالمدينة، فيحفرُ (صلى الله عليه وسلم) الخندق، ينزلُ على الخندقِ ويرفعُ الثوب، وعلى بطنِه حجرانِ من الجوع، فيضربُ الصخرةَ بالمعولِ فيبرقُ شذا النارِ في الهواء فيقولُ:
هذه كنوزُ كسرى وقيصر، واللهِ لقد رأيتُ قصورَهما، وإن اللهَ سوف يفتحُها علي.
فيضحكُ المنافقونَ ويقولون: ما يجدُ أحدُنا حفنةً من التمر، ويبشرُنا بقصور كسرى وقيصر.
فيتبسم لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
وبعد خمسٍ وعشرين سنةً تذهبُ جيوشُه وكتائبُه من المدينةِ فتفتح أرض كسرى وقيصر، وما وراء نهر سيحونَ وجيحون، وطاشكند وكابل وسمرقن والسند والهند وأسبانيا، ويقفُ جيشُه على نهر اللوار في شمالِ فرنسا.
لماذا لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
فظلمُ ذوي القربى أشدُ مضمضةً ... على النفسِ من وقعِ الحسامِ المهندِ
يأتيه أبنُ العمَ، فيتفل على الرسولِ عليه الصلاةُ والسلام، يتفل على الرسول، على معلمِ الخير، على هادي البشريةَ، فيتبسم عليه الصلاةُ والسلام ولا يقولُ كلمة، ولا يغضب، ولا يتغيرُ وجهَهُ لأن اللهَ يقولُ له: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.(1/103)
يأتي أبو جهلٍ فيأخذَ ابنةَ المصطفى، طفلةُ وادعةُ أزكى من حمام الحرم، وأطهر من ماء الغمام فيضربُها على وجهِها ضربَه الله، فيتبسم عليه الصلاةُ والسلام ولا يقولُ كلمةً واحدة: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يأتي الأعرابيُ من الصحراء فيجرجرُه ببردتِه، ويسحبَه أمامَ الناس، وهو يتبسمُ (صلى اللهُ عليه وسلم): فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
أي صبرٍ هذا!
إنها واللهِ دروسُ لو وعتَها الأمم لكانت شعوبا من الخيرِ والعدلِ والسلام، لكن أين من يقرأُ سيرتَه، أين من يتعلم معاليه.
يمرُ عليه في بيتِه ثلاثةُ أيامٍ وأربعة فلا يجدُ ما يُشبعُ بطنَه، لا يجدُ التمرَ، لا يحدُ اللبن، لا يجد خبزَ الشعير، وهو راضٍ برزقِ اللهِ وبنعيم الله: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
ينامُ على الحصيرِ، ويؤثرُ الحصيرُ في جنبِه، وينامُ على الترابِ في شدةِ البرد، ولا يجدُ غطاءً: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
بيتَه من طين، إذا مدَ يدَه بلغتِ السقف، وإذا اضطجعَ فرأسُه في جدارٍ وقدميه في جدار لأنَها دنيا حقيرة: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
فرعونُ على منبرِ الذهب، وفي إيوانِ الفضة، ويلبسُ الحرير. وكسرى في عمالةِ الديباج، وفي متاعِ الدررِ والجواهرِ، ومحمدُ (صلى اللهُ عليه وسلم) على التراب: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
أتى جبريلُ بمفاتيحِ خزائنِ الدنيا وسلمها إلى المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وقال له:
أتريدُ أن يحولَ اللهُ لك جبالَ الدنيا ذهبا وفضة؟
فقال لا، بل أشبعُ يوما وأجوعُ يوما حتى ألقى الله.
حضرتَه الوفاة، فقالوا له: أتريدُ الحياة، أتريدُ أن تبقى ونعطيكَ ملكا يقاربُ ملك سليمان عليه السلام؟
قال لا بل الرفيقِ الأعلى، بل الرفيقِ الأعلى.
أي عظمةٍ هذه العظمةُ، أي إشراقٍ هذا الإشراق، أي إبداعٍ هذا الإبداع، أي روعةٍ هذه الروعة.
بشرى لنا معشرُ الإسلامِ إن لنا ... من العنايةِ ركنا غير منهدمِ
لما دعا اللهُ داعينا لطاعتِه ........ بأكرمِ الرسلِ كنا أكرم الأممِ
أقولُ ما تسمعون وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إن هو الغفور الرحيم.
................................
الحمد لله الذي كان بعبادِه خبيرا بصيرا، وتبار الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، وهو الذي جعل الليل والنهارَ خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكورا.
والصلاةُ والسلام على من بعثَه ربُه هاديا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بأذنه وسراجا منيرا، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة.
يقولُ اللهُ سبحانَه وتعالى له: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً.
فأصبر صبرا جميلا........ وَاهجرهم هجرا جميلا.
ما هو الصبرُ الجميل الذي أمر اللهُ رسولَه (صلى الله عليه وسلم) أن يصبرَه؟
الصبرُ الجميل هو الذي لا شكوى فيه، أن تصبرَ ولا تشتكي على أحد، فالشكوى على الله، ولا يرفعُ الضرَ إلا الله، ولا يجيبُ دعاءَ المضطرِ إلا الله، ولا يغنيكَ من الفقرِ إلا الله، ولا يشافيكَ من المرضِ إلا الله، ولا يجبرُ مصيبتَك إلا الله.
فلذلك كان عليه الصلاةُ والسلام لا يشكو همومَه وغمومَه إلا على الله.
دخل عليه أبنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه فوجدَ الرسولُ (صلى اللهث عليه وسلم) مريضا على الفراش، سيدُ البشر، خيرُ من خلقَ الله أصابتهُ الحمى فصرعتُه على الفراش، الحمى مع مشاكلِ الدعوة، مع همومِ الدعوة، مع محاربةِ الأعداء، مع الفقرِ، مع الجوع، مع موتِ الأولادِ والبنات تصيبُه الحمى في جسمِه.
يقول أبن مسعودٍ دخلتُ على الرسولِ (صلى الله عليه وسلم) وهو يوعَكُ وعكا شديدا، أي يرتعدُ على الفراشِ من شدةِ الحمى، فوضعتُ يدِ على جسمِه الشريف، قلت يا رسولَ الله بأبي أنت وأمي، يعني أفديك بأبي وأمي، وصدق رضي اللهُ عنه فقد فدوه بالآباءِ والأمهات:
فدىً لك من يقصرُ عن مداكَ ..... فما شهمُ إذا إلا فِداك
أروحُ وقد ختمتُ على فؤادي .... بحبِك أن يحلَ به سواكَ
إذا اشتبكت دموعُ في خدودٍ ...... تبينَ من بكى ممن تباكى
قلت يا رسولَ الله بأبي أنت وأمي، يعني أفديك بأبي وأمي إنك لتوعَكُ وعكا شديدا.
قال نعم إني لأوعَكُ كما يوعَكُ رجلانِ منكم، أي جمع اللهُ عليه مرضين.
لتُ يا رسول الله ذلك لأن لك الأجرُ مرتين؟
قال أجل.
ما من إنسانٍ يصيبُه مرضُ أو همُ أو غمُ أو حزنُ إلا كفرَ اللهُ به من خطاياه، في صحيحِ البخاري باب: هل يقولُ الرجلُ وا رأساه، هل يتوجع، يعني هل يقولُ آه من المرض؟
دخلت عائشةُ على الحبيبِ (صلى اللهُ عليه وسلم) وبها صداعُ فقالت: وا رأساه!
فقال المصطفى (صلى اللهُ عليه وسلم) وهو في مرضِ الموت: بل أنا وا رأساه، واللهِ لقد هممتُ أن أدعو أباكِ وأخاكِ لأكتبَ لهم كتاب.
لأنَه علم عليه الصلاةُ والسلام أنه سوف يموتُ بعدَ أيام.(1/104)
تأتيه الحمى فتهُزُه هزا عنيفا، وفي مرضِ موتِه مُرضَ مرضا عجيبا، سمعَ الآذان، سمع بلالاُ يطلقُ التكبيرَ من على المنارة، لكن لا يسمعُ بلالاً إلا أهلُ القلوبُ الحية.
قال أجعلوا لي ماءً لأغتسل وأصلي بالناس.
قالوا يا رسولَ الله إنك مريض.
قال أسمعُ الأذان واصلي في البيت.
فوضعوا له قربةً فأغتسل، فلما قام ليذهب إلى المسجدِ أغمي عليه، فجعلوا له ماءً فأغتسل أخرى فأغمي عليه، فجعلوا له الماء ثالثةً فأغمي عليه، ورابعةً وخامسة، وفي الأخيرِ لفظ أنفاسَه وقال ودمعُه تهارقُ على خدِه لأنَه يريدُ الصلاة: وجعلت قرةُ عيني في الصلاة.
كان يقول: أرحنا بها يا بلال، أرحنا بها من همومِ الدنيا، وتعبِ الدنيا، ومشاكلِ الدنيا، ومخالفةِ الدنيا.
وقل لبلالِ العزمِ من قلبِ صادقٍ ... أرحنا بها إن كنت حقا مصليا
توضأ بماء التوبةِ اليومَ مخلصا ..... به ترقى أبوابَ الجنانِ الثمانيا
قال أمروا أبا بكرٍ فليصلي بالناس، فذهب بلالُ إلى أبا بكرٍ وأخبرَه أن يصلي بالناسِ فبكى أبو بكرٍ وقال اللهُ المستعان، إن للهِ وإنا إليه راجعون.
فصبر (صلى اللهُ عليه وسلم) على هذه الأحداث: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
فيا أيها المسلمونَ، يا أصحابَ وأتباع وتلاميذ الرسولِ (صلى الله عليه وسلم)، من أصيبَ منكم بمصيبة فليتعزى بالرسول عليه الصلاةُ والسلام.
إن هذا دينُ العظماء، إنه دينُ العقلاء، إنه دينُ الشرفاء، أهلُ المبادئِ الأصيلة، والأهدافِ الجليلة، والأخلاقِ الجميلة.
يموتُ أبنُكَ: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تمرض زوجتُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تذهب عيناك، أو يصمُ سمعُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
تصابُ بمرضٍ أو حادثٍ: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
يزلزلُ بيتُك أو يدمرُ عقارُك: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً.
كلُ مصيبةٍ تهون إلا مصيبةُ الدين، كلُ مصيبةٍ سهلةٍ إلا يوم يتخلى اللهُ عنكَ فتصبحُ بعيدا عن الله، كلُ شيءٍ سهلُ إلا يومَ يصبحُ الإنسانُ فاجرا متنكرا للمسجد وللمصحفِ ولذكرِ الله، كلُ شيءٍ سهلُ إلا هذا الدين أن لا يفوتُك من قلبِك.
عباد الله، وصلوا وسلموا على من أمرَكم اللهُ بالصلاةِ والسلامِ عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
وقد قال عليه الصلاةُ والسلام: من صلى علي صلاةً واحده، صلى اللهُ عليه بها عشرا.
اللهم صلي على عبدك وحبيبِك محمد، وأعرض عليه صلاتَنا وسلامَنا في هذه الساعةِ المباركة، يا رب العالمين.
وأرضى اللهم عن أصحابِ الأطهار، من المهاجرين والأنصار، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أجمع كلمةَ المسلمين، اللهم وحد صفوفَهم، اللهم خذ بأيدِهم إلى ما تحبُه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم أصلح أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، اللهم وفقِهم لما تحبُه وترضاه، اللهم أخرجهُم من الظلماتِ إلى النور، اللهم أهدِهم سبلَ السلام.
اللهم بعلمِك الغيب، وبقدرتِك على الخلق، أحيينا ما كانت الحياةُ خيرا لنا،وتوفَنا إذا كانت الوفاةُ خيرا لنا.
اللهم إنا نسألكَ خشيتَك في الغيبِ والشهادة، ونسألُكَ كلمةَ الحقِ في الغضبِ والرضاء، ونسألُك القصدَ في الغنى والفقر، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ والشوقَ إلى لقاءِك في غيرِ ضراءَ مضرة، ولا فتنةً مظلة، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنصر كل من جاهدَ لإعلاءِ كلمتِك، ولرفعِ رايتكِ، في برِكَ وبحرِك يا رب العالمين.
ربنا إننا ظلمنا أنفسَنا، وإن لم تغفر لنا وترجمنا لنكونن من الخاسرين
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المر سلين
==========
صبر الرسول صلى الله عليه وسلم
الصبر شعار المرسلين كما دل عليه قول الله تعالى : ( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كُذِّبوا … )(الأنعام/34) ، وقد رغّب الشرع الحنيف في الصبر وحث عليه ، وأثنى على أهله .
ولقد كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أكثر رسل الله دعوة وبلاغًا وجهادًا ، لذا كان أكثرهم إيذاءً وابتلاءً ، منذ بزوغ فجر دعوته إلى أن لحق بربه جل وعلا .
فقد لقى الأذى بمكة من قريش وغيرهم ، وبعد أن هاجر إلى المدينة لقي من المشركين والمنافقين واليهود أذىً شديدًا ، وما كانت تزيده هذه الشدائد والمحن إلا إصرارًا وثباتًا ، بما منَّ الله تعالى عليه من تثبيت قلبه ، وما آتاه الله عز وجل من الصبر ، وفيما يلي نستعرض نماذج من صبره صلى الله عليه وسلم .
صبره في طريق الدعوة إلى الله :
منذ بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته إلى الله ، واجهه المشركون بشتى أنواع الأذى ، من رميه بالسحر والكهانة والشعر والجنون ، إلى إيذائه جسديًا فرموه بالحجارة وشقوا وجهه ، ودبروا قتله ومن ذلك :(1/105)
1- ما أخرجه البخاري رحمه الله تعالى من حديث عروة بن الزبير رحمه الله قال : سألت ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقلت : أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة ، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ـ لعنه الله ـ فوضع ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقًا شديدًا فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله )(غافر/28) .
2- وأخرج البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : " بينا النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرفع رأسه ، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره ، ودعت على من صنع ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ اللهم عليك الملأ من قريش أبا جهل بن هشام ، وعتبة من ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ] أو [ أبي بن خلف ] ـ شك الراوي ـ قال الراوي : فرأيتهم قتلوا يوم بدر ، فألقوا في بئر غير أمية أو أبي تقطعت أوصاله فلم يلق في البئر " .
هكذا عانى صلى الله عليه وسلم من قومه الشدة والأذى وهو صابر محتسب ، فلما أيس من نجاح دعوته في قومه مع ما هم عليه من العداء والإيذاء ،طمع في أن ينصره قوم آخرون من غير قومه ، فعمد إلى الطائف رجاء أن يُؤْوهُ وينصروه على قومه ويمنعوه منهم ، لأنهم : " كانوا أخواله ولم يكن بينه وبينهم عداوة " إلا أنهم ردوا عليه أقبح رد وأشده .
1- فقد أخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : [ لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال : فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال ، فسلم عليّ ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت ؟ ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى وحده لا يشرك به شيئًا "(البخاري ومسلم ) .
وهكذا واجه النبي هذا الإيذاء والجهل بالصبر الجميل ، حتى أنه أبى أن يدعو عليهم .
وقد انتهت هذه المرحلة بمحاولة المشركين قتله صلى الله عليه وسلم كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين )(الأنفال/30) .
ولما هاجر صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة لم يقل صبره عما كان عليه أمره في مكة ، فلئن كان في مكة صابرًا على المشركين فحسب ، فإنه في المدينة قد صبر على مَنْ هم أكثر أذية وعددًا وطوائف ، إنهم المنافقون ، واليهود والمشركون ، فقد كانت كل واحدة من هذه الطوائف تكيد للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته كيدًا وتصطنع له أذية لا تألو جهدًا في ذلك ،وهو يتلقى ذلك كله بقلب راسخ بالإيمان واثق بنصر الله ، ورباطة جأش، لا يتزعزع من حوادث الأعداء وكيد الألداء .
صبره صلى الله عليه وسلم على المنافقين في المدينة :
أما المنافقون فقد كان الصبر عليهم مُرًّا ، إذ لا حيلة له غير الصبر ؛ لأنهم يزعمون الإسلام ، ويظهرون الولاء لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وهم في الحقيقة يبطنون الكفر ويتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الدوائر ، وهم عيون للأعداء الخارجيين يتتبعون عورات المسلمين ، ويخططون للقضاء عليهم ، ولكن ذلك في السر ، إذ لا يعلم ذلك أحد إلا الله تعالى ثم رسوله صلى الله عليه وسلم بإعلام الله تعالى له .
ولطالما كان المسلمون يكتشفون رائحة النفاق من أحدهم ، فيستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم في قتله فيقول عليه الصلاة والسلام : [ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه ](رواه البخاري ومسلم ) .. إن ذلك الصبر لا متنفس فيه ، وهو أشد ما يكون على المرء ، وسأذكر هنا قصة واحدة تبين مدى صبره صلى الله عليه وسلم على أذى المنافقين :(1/106)
فقد أخرج الإمامان البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا عليه إكَاف ، تحته قطيفة فدَكِيَّة ،وأردف وراءه أسامة ، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج ، وذلك قبل وقعة بدر ، حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين وعبدة الأوثان واليهود ، فيهم عبد الله بن أبي ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة رضي الله عنه قال : فلما غشيت المجلس عجاجة الدَّابة ، خمَّر عبد الله بن أبي أنفه ثم قال : لا تغبِّروا علينا ،فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن ، فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء ـ يريد النبي صلى الله عليه وسلم ـ لا أحسن من هذا ، إن كان ما تقول حقًا فلا تؤذنا في مجالسنا ، وارجع إلى رحلك ، فمن جاءك منا فاقصص عليه ، فقال عبد الله بن رواحة : اغشنا في مجالسنا فإنا نحب ذلك ، قال : فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى همّوا أن يتواثبوا ، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم ، ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة ، فقال : أي سعد ، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب ـ يريد عبد الله بن أبي ـ قال كذا وكذا ؟ فقال سعد ـ رضي الله عنه ـ : اعف عنه يا رسول الله واصفح ، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ، ولقد اصطلح أهل هذه البُحيرة أن يتوجوه فيعصِّبوه بالعصابة ـ أي يجعلوه ملكًا عليهم ـ فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك ،فلذلك فعل به ما رأيت ، قال : فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم )(رواه البخاري وسلم ) .
فانظر أي صبر يقدر على مثله أحد بيده القدرة على عقاب مثل هذا القائل غير النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ يتجرأ هذا الجلف على الانتقاص من النبي صلى الله عليه وسلم وهو ذو الجناب العظيم ، ويصده عن دعوته ، وهو المأمور بالبلاغ المبين .
صبره صلى الله عليه وسلم على اليهود :
وأما اليهود فقد كان صبر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم شديدًا ، إذ أنهم أهل خديعة ومكر وحقد دفين ، فإنهم لم يكتفوا بكتم صفاته التي يجدونها في التوراة ، والتي يعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم ، والتي لو بينوها للناس لدخلوا في دين الله أفواجًا من أول دعوته صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الكل كان يسلم لليهود بأنهم أهل كتاب ، وأن لهم علمًا برسل الله ، فلو أنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه من بيان صفاته صلى الله عليه وسلم للناس ، وأشهروا ذلك في المجتمعات ، لما تردد أحد في الاستجابة له صلى الله عليه وسلم .
بيد أنهم غيروا صفاته عليه الصلاة والسلام ، وجحدوا نبوته ، وأغروا به المشركين وقالوا لهم : " إنكم أهدى سبيلاً من محمد وأصحابه " مما كان له أثر عائق في صد الناس عن دين الله تعالى ، ومشجع لهم على عداوة المؤمنين ، كل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم صابر على معاملتهم وعلى خيانتهم وما يتوقعه من غدرهم حتى حكم الله بينه وبينهم ، وذلك في يوم قريظة حين حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه بحكم الله تعالى بأن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ، لما نقضوا العهد الذي بينهم وبينه ، وظاهروا المشركين يوم الأحزاب على قتاله صلى الله عليه وسلم ، وأجلى من أجلّى منهم من بني قينقاع وبني قريظة ، ثم فتح خيبر فأبقى أهلها إلى حين .
صبره صلى الله عليه وسلم على المشركين في العهد المدني :
وأما صبره عليه الصلاة والسلام على المشركين في العهد المدني فلم يكن كصبره عليهم في العهد المكي ، فإن صبره عليهم في هذا العهد كان صبرًا في ميادين القتال والمنازلة ، صبرًا على كلوم الأسنة والرماح والسيوف التي ينفد معها صبر أولي العزم والقوة .
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفد صبره ، ولم ينثن عزمه ، وهو يخوض معركة بعد أخرى ، ويجهز جيشًا تلو آخر ، حتى آتاه الله الفتح المبين والعز والتمكين .
ولقد نال من ذلك أذىً كبيرًا ، حيث كسرت رباعيته ، وشج وجهه الشريف في غزوة أحد وأثخنته الجراح ـ بنفسي هو وأبي وأمي صلى الله عليه وسلم ـ وهو مع ذلك صابر محتسب ، لا يلوي ، ولا يولِّي الأدبار ، كما يفعل كبار الأبطال ، فلم يزد على أن قال : [ كيف يفلح قوم شجُوا نبيهم وكسروا رباعيته ، وهو يدعوهم إلى الله ] فلم يلبث أن أنزل الله عليه : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون )(آل عمران/128)(رواه البخاري ومسلم ) .
يعاتبه الله على ذلك ، ومنه تعلم أن صبره عليه الصلاة والسلام كان مُرادًا لله تعالى لعظم قدره عنده ، لأن الامتحان والبلاء على قدر المنزلة كما جاء في الحديث : [ أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ](الترمذي وقال : حسن صحيح ) .(1/107)
ولعل هذا هو سر تكرار أوامر الله عز وجل له صلى الله عليه وسلم بلزوم الصبر كما في قوله تعالى : ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل )(الأحقاف/35) ، وقوله تعالى : ( واصبر وما صبرك إلا بالله )(النحل/127) ، وقوله سبحانه : ( فاصبر على ما يقولون )(طه/130) وقوله عز شأنه : ( فاصبر إن وعد الله حقٌ )(الروم/60) ، وقوله تقدست أسماؤه : ( واصبر لحُكم ربك فإنك بأعيننا )(الطور /48) ، إلى غير ذلك .
ولقد لبَّى صلى الله عليه وسلم تكليف ربه له بذلك وطبقه أيما تطبيق ، كما علمته من خلال هذه المواقف العظيمة ، المقتطفة من مواقفه الكثيرة في الصبر في كل مجالات الحياة ، إذ لم يكن صبره صلى الله عليه وسلم قاصرًا على عناء الدعوة والجهاد ، بل وعلى لأواء الحياة كذلك .
صبره صلى الله عليه وسلم على لأواء الحياة وشدتها :
فقد جاء عن أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسللم قال : " لقد أخِفتُ في الله ، وما يخاف أحد ، وقد أوذيت في الله ، وما يُؤذى أحد ، ولقد أتت عليَّ ثلاثون ما بين يوم وليلة وما لي طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال " (رواه الترمذي وغيره وهو حسن ) .
وقد روى البخاري -رحمه الله- عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها-أنها قالت لعروة :ابن أختي ،إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت ما كان يعيشكم ؟ قالت :الأسودان ،التمر والماء ، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح ، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه .
صبره صلى الله عليه وسلم على فقد الأولاد :
فقد أخرج ابن سعد عن أنس رضي الله عنه قال : [ رأيت إبراهيم وهو يجود بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : [ تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون ] .
بعد 00 فهذه نماذج من صبره صلى الله عليه وسلم ، وهو من جملة شيمه النبيلة وأخلاقه الكريمة التي أدبه بها ربه تبارك وتعالى .
المراجع
1- حياة الصحابة : " الكاندهلوي " .
2- أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم : " د . أحمد عبد العزيز الحدَّاد " .
3- الرحيق المختوم : " المباركفوري " .
============
صبر النبي عليه الصلاة والسلام على الدعوة
الكاتب: د.عبدالوهاب بن ناصر الطريري
أيها الإخوة والأخوات والأبناء والبنات حياكم الله مع لقاء يتجدد نرحل به مع قلوبنا أرواحنا وجداننا، نرحل به إلى هناك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع رسول الله في دعوته، هذه الدعوة التي كان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ملحمة في الصبر، دأب وطول الأمل واليقين والثبات، هذه المعاني ليست معاني مجردة نذكرها سرداً وعداً لكنها حقائق تشرق من حال النبي صلى الله عليه وسلم.
عندما نتقفى هذه السيرة نفوسنا ظمئة يرويها أن ترد معين السيرة ومعين حال النبي صلى الله عليه وسلم فتتروى من هديه وهداه، نحن أحوج ما نكون إلى أن نورد قلوبنا المكدودة معين سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتجد هناك مستراحها وأنسها، ولذلك استنهض نفوسكم أيها الإخوة والأخوات والأبناء والبنات أن نذهب إلى هناك، نرحل مع خبر تقصه علينا أمنا عائشة.
أمنا تستنطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتستروي خبره فيخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تستقرئه وتسترويه مسيرته مع دعوته، تستروي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تحضره من أحواله وقصته مع الدعوة، تفتح وعي أمنا عائشة رضي الله عنها مع الرسول والرسالة على حوادث وافتها لحداثة سنها وصغر عمرها، أحداث أخر ولذلك كان أشد ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم مما أدركه وعي عائشة يوم أحد وإذا بها تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما قبل يوم احد، فتقول له : يا رسول الله هل مر عليك يوم هو أشد عليك من يوم أحد؟ سؤال من أمنا عائشة وكانت صغيرة السن لكنها عبقرية ذكية ولماحة، هي تعلم ماذا لقيه النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، في يوم أحد شج جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، كسرت رباعيته، غاصت حلقتان من حلقات المغفر في وجنتيه صلى الله عليه وسلم.
صرع أصحابه حوله، وقف على جثمان عمه حمزة أحب الناس إليه وخيرة أهل بيته، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جثمانه وقد بقر بطنه، واستخرجت أحشائه، ومثل به، فوقف صلى الله عليه وسلم كاسفاً حزيناً على هذا الجثمان الطاهر وهو يقول: لن أصاب بعد اليوم بمثل مصيبتي فيك.(1/108)
كل هذا أصاب النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، فهل أصاب النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أشد من ذلك؟ يا رسول الله هل أصابك ما هو أشد عليك مما أصابك يوم أحد، سؤال أمنا عائشة فما كان الجواب، ماذا كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنما تنكأ جراحاً غائرة في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد لقيت من قومك أذاً شديداً كأنما كان سؤال عائشة يسترجع ذكريات مضى عليها زمن طمرتها السنين، فإذا بعائشة تستثيرها وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يجيب وكأنما عادت هذه المشاهد حية أمام ناظريه صلى الله عليه وسلم، لقد لقيت من قومك أذاً كثيراً يعني نعم، مر عليّ ما هو أشد من يوم أحد فما الذي كان أشد من يوم أحد، ما الذي كان أشد من جرح في الجبين وكسر السن وأن تغار حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأن يرى أصحابه يصرعون حوله وأن يقف على جثمان عمه حمزة مشوهاً ممثلاً به، ما هو أشد من ذلك أشد من ذلك ما سيرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد من ذلك يوم عرضت دعوتي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال، ما هو خبر هذه الدعوة وخبر هذا العرض، نحتاج أن نذكر ما لم يذكر ونظهر المضمر، فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أزيد من عشر سنين قبل الهجرة وهو يدعو قريشاً ويصبر لها ويصابرها عشر سنين في دعوة وثبات وصبر على الأذى، حتى جرأ سفهاء قريش وملؤها على أنواع من أذى النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً بعد موت عمه أبي طالب، جرؤوا عليه جراءة شديدة فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد طول الصدود وكثرة الجحود، إذا به يبحث عن تربة يلقي فيها بذرة دعوته لعله يستنبت هذه الدعوة في أرض أخرى فتنمو فيها وتورق.
خرج من مكة إلى الطائف عله أن يجد في الطائف أذاناً صاغية تستجيب لدعوته وتتبع رسالته وتحمل هديه وهداه ودينه، خرج من مكة ماشياً إلى الطائف يقطع طريقاً يزيد الآن على مائة كيلو من الطريق المعروف الآن بطريق السيل، وكان يسمى أولا وادي نخلة، طريق وادي نخلة الذي هو طريق السيل الآن ووادي نخلة هو الذي يسمى الآن الزيمة، قطعه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه مولاه زيد ابن حارثة مشياً على الأقدام في وقت الصيف القائض، حتى وصل إلى الطائف وبقي هناك عشرة أيام يعرض فيها دينه ويبلغ رسالته، يغشاهم في نواديهم ويغشاهم في مجتمعاتهم يقرأ عليهم القرآن حتى قال بعض أهل الطائف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطائف يقرأ والسماء والطارق فحفظتها وأنا مشرك وقرأتها وأنا مسلم.
عشرة أيام قضاها النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجه إلا بالصدود والإعراض فلما خشي ملأ أهل الطائف من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستميل الناس إليه أغروا به سفهائهم فردوا عليه أقبح الرد، حتى قال له بعضهم أما وجد الله غيرك رسولاً فيرسله إلينا، فلما أغروا به سفهائهم فواجهوه بأقبح الرد إذا به صلى الله عليه وسلم وهو يواجه بهذا الصدود وهذا الإعراض يرجع حزيناً مكلوم الفؤاد مغموم النفس، وهو الذي خرج من مكة بعد أن جحده قوم أهل الملأ فيها وجرؤوا عليه بالأذى أملاً أن يجد في الطائف مستنبتاًً لدعوته فيصد بهذا الصدود ويقابل بهذا الجحود، فإذا به صلى الله عليه وسلم وهو الحامل لهم رسالته يغتم لذلك أشد الغم، ويحزن لذلك أشد الحزن، وتتراكب الهموم على القلب الكريم الطيب فلا يتنفس ولا ينفس عن ذلك إلا بدعوات يصدع بها السماء "اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبة حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".
دعاء مكروب مغموم يصدع السماء، ثم ينقلب النبي صلى الله عليه وسلم بعد عشر ليال طوال قضاها في الدعوة والمصابرة يرجع إلى مكة لكن كيف كان الرجوع، ويسير في الطريق ولكن كيف كان المسير، كيف قطع الطريق من الطائف عائداً إلى مكة، مكة التي خرج منها وبمرأى وبمسمع من أهلها يرونه ويعلمون إلى أين سيذهب وما هي قضيته وما هو هدفه في ذهابه إلى الطائف، وسيرجع إليهم وقد سبقته إليهم أخبار أهل الطائف معه، فكيف سيدخل إلى بلد وكيف سيلقى قومه وهم الذين كانوا جرؤوا عليه فكيف سيكون حاله بعد أن يرجع إليهم، ولذلك عاد مكروباً مغموماً فإلى أي درجة بلغ غمه وعلى أي حال كان حزنه.
يصف ذلك فيقول "فلم استفق إلا وأنا في قرن الثعالب"، قرن الثعالب هو السيل الكبير يبعد عن الطائف ستة وأربعين كيلو قطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشياً، ولكنه كان في حال من الاستغراق مع غمه وهمه وحزنه لأجل دعوته بحيث أنه لم يستفق ولم يشعر بما حوله إلا وهو في قرن.
=================
( صبر الرسول على الأذى )
عناصر الموضوع :(1/109)
1. أهمية دراسة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
2. صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى الكفار
3. صور أخرى من صبر النبي على الأذى يقتدى به فيها
صبر الرسول على الأذى:
لم تقم دعوة الإسلام، ولم تبلغ ما بلغت إلا بعد تضحيات جسيمة، وتحمل صنوف من الأذى، وأول من واجه ذلك وصبر عليه هو إمام هذه الدعوة صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك للمسلم أسوة في مواجهة المشاكل والأذى الذي يعترضه خلال الدعوة إلى دينه.
أهمية دراسة شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. عباد الله: إن دراسة شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور المهمة للمسلم الذي يريد أن يطبق قول الله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] ويريد أن يسير على تأثرٍ من نور هذه الآية: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]. وشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جوانب كثيرة من العظمة؛ تلك الجوانب التي لا بد للداعية إلى الله، ومن يريد أن يتربى على طريق الإسلام أن يدرسها دراسة متأنية.
عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبره على الاستهزاء:
ونحن نستعرض في هذا المقام جانباً من جوانب عظمة شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله على نورٍ من ربه، ويصبر على الأذى في سبيل هذه الدعوة، وصبره صلى الله عليه وسلم على الأذى يتمثل في أحداث كثيرة تمَّت في حياته صلى الله عليه وسلم؛ من مواجهته للكفار والمشركين والمنافقين، وفي عامٍ واحد وهو العام العاشر من البعثة يتوفى الله تعالى خديجة رضي الله عنها ويموت أبو طالب ، فيطمع كفار قريش في أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكونوا يطمعون قبل ذلك، وأذية الكفار لرسول الله صلى الله عليه وسلم تتمثل في جوانب كثيرة: أولاً: الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [الأنبياء:36] أن يهزأ المبطل بالمحق، وأن يسخر السفيه بالعاقل، تلك والله أذية كبيرة تقع كالصخر على صدر الذي يتعرض لهذا النوع من الأذى، رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أنه على الحق وهم يستهزئون به: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً [الفرقان:41] يستهزئون بشخصيته صلى الله عليه وسلم، ولكنه يصبر على هذا الأذى وهو يتفكر في قول الله تعالى يسري عن شخصه صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام:10]. لقد دارت دائرة السوء عليهم، وهذا الاستهزاء الذي استهزءوا به قد أصبح وبالاً عليهم.
للدعاة في النبي صلى الله عليه وسلم أسوة في الصبر على الاستهزاء:(1/110)
واليوم يقف الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر موقفاً حرجاً أمام السهام التي توجه إليه من المستهزئين وهم يستهزئون بشخصيته، أو يستهزئون بمظهره، أو يستهزئون بالأفكار التي يحملها، إنه يتأسى بموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصبر على هذا الاستهزاء. ولقد صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على شتى الاتهامات؛ فقد اتهموه بأنه يقول الشعر، وأن هذا القرآن إنما هو شعر، وأنهم أيضاً شعراء ولو شاءوا أن يأتوا بمثل شعره لأتوا، يريدون أن يحولوا هذا القرآن عن المجرى العظيم والقالب الذي نزل به؛ لكي يقولوا للناس: نحن نستطيع أن نصنع مثله قال تعالى: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ [الأنبياء:5] وقالوا: أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:36] وقال الله عنهم: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور:30] إنهم ينتظرون نهايته، وينتظرون موته حتى تدفن دعوته في مهدها، ولا تقوم لها قائمة، ولكن الله سبحانه وتعالى تولى الرد عليهم، وتثبيت نبيه صلى الله عليه وسلم: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ [الحاقة:38-41]، وقال عز وجل: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69]. وكل عارف باللغة العربية؛ بنثرها وشعرها يعرف أن هذا القرآن ليس على وزن الشعر، وليس شعراً كالذي يقوله الشعراء. واليوم يقف الدعاة إلى الله عزوجل أمام المستهزئين وهم يرمونهم بتهم مثل هذه، فليس لهم والله إلا الصبر عليها، والرد على هذه الشبهات التي تطلق على الشريعة وأفكار الدين، منتهجين نهج القرآن في الرد عليها. وأوذي عليه السلام باتهامه بالسحر، قال تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ [يونس:2].. وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص:4].. وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً [الفرقان:8] ولكن الله رد عليهم فقال: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:52] لماذا يريد الجاهليون أن يصموا شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر؟ لأنهم رأوا أن لهذا القرآن الذي يتلوه صلى الله عليه وسلم أثراً عظيماً على نفوس الناس؛ إنه يجذب الأنظار، ويأخذ بمجاميع القلوب ( إن عليه لطلاوة، وإن له لحلاوة ) فهم يريدون أن يصرفوا أذهان الناس عن سبب هذا التأثير؛ وسبب هذا التأثير أن القرآن كلام الله، سبب هذا التأثير أنه نزل من عند الله الذي خلق النفس، ويعلم ما يؤثر بهذه النفس، وما تتأثر به هذه النفس، إنهم يريدون أن يصرفوا سبب التأثير إلى السحر الذي يؤثر -كذلك- في الناس؛ إنها والله دعاية إعلامية يريدون أن يلبسوا بها على الناس الذين يتأثرون بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقف الدعاة إلى الله عزوجل اليوم أمام أولئك الشاتمين الذين يريدون أن يلبسوا الحق بالباطل، ويريدون أن يصرفوا الناس عن تأثير القرآن والسنة، إنهم يستخدمون وسائل شتى من التهويس والتهويل، وصرف أنظار الناس عن هذا القرآن، وعن الوحي، وعن التأثر بالشريعة، فيستخدمون لذلك وسائل شتى. إن على دعاة الإسلام أن يجابهوا هذه المواقف، وأن يُجَلُّوا للناس أثر القرآن والسنة، وأن يُروا الناس بأبصار قلوبهم قبل أبصار عيونهم أن هذا القرآن وهذه السنة ذات أثر على الناس، مخاطبة الناس بالقرآن والسنة، وربطهم بها مباشرة من الواجبات اليوم، حتى يحصل ذلك التأثير. وصبر صلى الله عليه وسلم على اتهامه بالجنون: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6] وقالوا: أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات:36].. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدخان:14]. ليس أصعب على صاحب الإيمان، والعقل الراجح، والرأي السديد، والفكر الصائب، من أن يتهم في عقله، وأن يوصف بالجنون. وتولى الله الرد على هذه الفرية مثبتاً رسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ:46] وقال عز وجل: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:22]، وقال سبحانه وتعالى: نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:1-2]. واليوم عندما يحاول(1/111)
الداعية إلى الله أن يبين للناس الحق، ويرجعهم إليه، وأن يبين لهم الميزان الصحيح، ويزيل عنهم الغشاوة التي رانت على قلوبهم، والحجاب الذي غطى أبصارهم، ويريد أن يرجعهم إلى الشريعة وإلى الدين، يقولون له: أأنت مجنون؟!! كيف تريدنا أن نرجع إلى ذلك الواقع وأنت ترى الغرب والشرق، وترى القوى العظمى، والواقع المستحكم، ثم تريد أن تنقلنا إلى عصر يطبق فيه الإسلام (100%)؟ هذا مستحيل! كن واقعياً، دع هذه الخيالات جانباً، إنك تحلم! وعند ذلك يجب أن يجابه الداعية إلى الله هذه السهام بواقعية الإسلام، وأن يثبت للناس أنه يمكن أن يطبق الإسلام، وأن أفكار الإسلام ليست جنوناً ولا هوساً، رغم تلك الاتهامات الباطلة التي يتهم بها أعداء الإسلام المتمسكين بشرع الله، إنهم يرمونهم كما رمى الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم -قدوة هذا الداعية- رموه أول مرة بالجنون والهوس واختلال العقل، إنهم كذلك اليوم يرمون من تمسك بالدين بالسفه، والجنون، والهوس، والوسوسة... إلى آخر تلك التهم، إنهم يتصورون أن تحكيم الله في الشرع والواقع يؤدي إلى جنوح الإنسان عن طريقة التفكير الصحيحة، وعن الواقعية، إن واقعهم فاسد، ولذلك يتصورون أنه واقع صحيح من شدة ضغطه عليهم، ومن تشبعهم بأفكار هذا الواقع، ويتصورون أن تحكيم الإسلام في القوانين والمظاهر، والعبادات والعقائد؛ أنه جنون وهوس؛ لأنهم لا يعقلون، فعقولهم لا تتحمل عظمة تلك التكاليف، ولا يتصورون كيف يمكن أن تطبق هذه التكاليف في ظل الظلمات الجاهلية التي يرزحون اليوم تحت نيرها؛ ولأنهم لا يستطيعون أن يتصوروا الواقع كيف يكون إسلامياً؛ يتهمون من ينادي بالعودة إلى الواقع الإسلامي الصحيح بالجنون، ولا يمكن أن تتصور عقولهم كيف يمكن أن يطبق الإسلام (100%)؟ وهذه نقطة خطيرة أيها الأخوة.
صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى الكفار:
صبره على أنواع التهم في عقله وعرضه:(1/112)
وقد صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتهام كفار قريش له بالتكذيب: وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص:4].. إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان:4].. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الشورى:24] يقولون هذا من جهة في مناسبات كثيرة، ومواقف متعددة، وهم في مناسبة أخرى وفي موقف آخر يعلمون ويعترفون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بكذاب. وفي صحيح البخاري لما سأل هرقل أبا سفيان في بداية مقابلته له، قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فهذا هرقل جاءته لحظات من التجرد والإنصاف، ولقد هم أن يدخل هذا الدين لولا جشع الملك وحب الرئاسة، وخوفه من زوال سلطانه، فرجع إلى الكفر، ولكنه قد رأى الحق بأم عينيه. قال أبو سفيان : لا. ثم قال له في آخر مقابلته: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرت أن لا، وأعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله؛ أي: أنت تقول أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما عهدت منه الكذب على الناس قبل البعثة، فعلمتُ أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله، والكذب على الله أصعب وأشد من الكذب على الناس، فعلم أنه صادق. ولقد تولى القرآن الرد على هذه المزاعم فقال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13] أي: إذا زعمتم أنه كذاب فهاتوا عشر سور مثل سور القرآن: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [هود:13] لكي تألفوا هذه السور؛ من سائر عظماء الشعراء وأهل النثر والبلاغة: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [هود:13]. ثم تنزل القرآن في الرد عليهم إلى ما هو أدنى من ذلك، فقال الله عزوجل: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس:38] عظم التحدي ونقص المقدار، فظهر التحدي أعظم: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه [يونس:38] فعجزوا، ولما حاول الكذابون أن يأتوا بسورة واحدة مثل سور القرآن؛ أتوا بأشياء مضحكة ليس هذا مجال سردها: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ [هود:35]، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ [السجدة:3]. ويسري القرآن عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويثبت الله به قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34]. واليوم عندما يقف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أمام الناس، ويدعوهم إلى الله، ويبين لهم أحكام الدين؛ ويبين لهم الحلال والحرام، يقولون له: أنت كذاب، لا يمكن أن يكون في القرآن كذا، لا يمكن أن يكون في السنة كذا، لا يمكن أن يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بكذا، هذا الذي تدعون إليه ليس بدين، أنت تكذب على الدين، أنت جئت بدين جديد، ليس هذا الدين الذي نعرفه، لقد رأينا الدين من آبائنا وأجدادنا، ولقد رأينا الدين سنين عديدة ما رأينا فيه مثل هذا الذي تدعو إليه، فيتهمونه بالكذب على الشريعة، وهم قد أتوا من قبل جهلهم؛ فلجهلهم رموه بالكذب، وأتوا من قبل تقليدهم لآبائهم وأجدادهم، وعدم اتباع الحق، وأتوا من اتباع أهوائهم؛ لأنك عندما تخبرهم بالحق الذي يخالف أهوائهم؛ إذا كان الحق واضحاً يقولون: أنت كذاب .. فعليك أن تصبر كما صبر رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم.
صبر النبي صلى الله عليه وسلم على تلقي الأذى في جسده:(1/113)
ولقد صبر عليه الصلاة والسلام على أذى المشركين في جسده صبراً عظيماً، روى البخاري رحمه الله عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد شيءٍ صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة؛ إذ أقبل عقبة بن أبي معيط وهو من الكفار، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً). عقبة بن أبي معيط يلوي الثوب حول رقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي: (ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، فأخذ بمنكبه ودفع عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [غافر:28]). آذوه في بدنه صلى الله عليه وسلم، ولهذا أمثلة سنذكرها إن شاء الله. في معركة أحد ماذا حصل للنبي صلى الله عليه وسلم؟ الذي حصل له أيها الأخوة: أنه أُدمي حتى سال الدم من وجهه، وقد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب في أحد فسال الدم على وجهه، رجع إلى المدينة ولا زال النزف في وجهه عليه الصلاة والسلام، فقام علي رضي الله عنه على رأسه، و فاطمة تأخذ من الإناء في يد علي فتغسل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء، ولكن الجرح لم يرق، فأخذت حصيراً فأحرقته ووضعت رماده على جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتماسك الجرح قليلاً حتى وقف الدم).
للدعاة في رسول الله أسوة في الصبر على الأذى:
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذى في جسده، واليوم يعاني المتمسكون بشرع الله عز وجل أصناف العذاب، وألوان الأذى في سبيل الله، فيضربون بالسياط، ويسحلون بالشوارع، ويجرون على جلودهم فوق الحجارة والشوك، كما وقع بالنفر الأول من الصابرين الصادقين، وأدنى من ذلك تقع صور من العذاب في داخل البيوت، هل رأيتم أباً تصل به الدناءة والخسة أن يضرب ولده؛ لأنه امتنع عن المنكرات؟! هل رأيتم أباً تصل به الخسة والدناءة أن يقفل الباب على ابنه حتى لا يذهب لصلاة الفجر؟! يقفل باب البيت بالمفتاح ويأخذ معه المفاتيح حتى لا يخرج الولد إلى صلاة الفجر. هل رأيتم خسة ودناءةً مثل أن يأتي أحد الآباء بمزيل للشعر فيضعه على لحية ولده وهو نائم حتى تسقط لحيته عداءً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن ألوان الإيذاء أيها الأخوة تتعاقب، ويتفنن أعداء الله في إذاقة عباد الله العذاب أصنافاً وألواناً، فليس الحل في ذلك إلا الصبر على هذا الأذى في سبيل الله، ولقد سعى أعداء الله لإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلده، فقال الله عزوجل: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:76] تآمروا على إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلده، وخططوا لذلك حتى اضطر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخروج، فتهددهم الله بهذه الآية: وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً وفعلاً ما لبثوا في مكة بعد إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم منها إلا قليلاً، فأذاقهم الله العذاب في معركة بدر وغيرها من المواقع حتى فتح الله مكة ، ودخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم منصوراً. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم واجعلنا من الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، اللهم ثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
صور أخرى من صبر النبي على الأذى يقتدى به فيها:(1/114)
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، خاتم الرسل، وأحب خلق الله إلى الله، وخليل الله الذي اصطفاه الله على العالمين، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وصبر على الأذى في سبيل الله حتى كان مثالاً حياً بسيرته بين أظهرنا اليوم؛ كأنا نرى تلك السيرة، وتلك الأحداث التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم. عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت) الرسول صلى الله عليه وسلم ما وجد ولياً ولا نصيراً، يريد من كفار قريش أن يجيبوه وينصروه فلا يجد. (فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي). هذه الألفاظ أيها الأخوة تصور محنة الداعية التي يعيشها حينما يعرض الناس عنه، محنة الداعية التي يعيشها حينما يرفضه كل الناس، حين يطرده جميع الناس، عندما يوصدون الأبواب في وجهه، ولا يرضون بالحق الذي يقول به، ويعرضون عنه. (فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب) وهو موضع قريب من مكة. الرسول صلى الله عليه وسلم هام على وجهه من الغم، وما أفاق إلى نفسه ليعرف إلى أين يسير إلا في قرن الثعالب ، وليس ذلك لأجل إفلاس، ولا لذهاب تجارة، ولا لخسارة في صفقة، ولا لفقد وظيفة، كلا. (فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين -أي: الجبلين العظيمين اللذين تقع بينهما مكة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً). وعندما يكون الظلم من الأقرباء يكون وقعه شديداً على النفس.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند(1/115)
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي بطون قريش: (يا بني عدي ... حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر في الأمر، فجاء أبو لهب وقريش فاجتمعوا -ورسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا- فقال عليه السلام: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن الوادي تريد أن تغير عليكم -جيش قريب من مكة يريد أن يغير عليكم- أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم. ما جربنا عليك كذباً، قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم.. ألهذا جمعتنا). و أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، داعية إلى الله يقوم يجمع الناس يأتون إليه، يهددهم بعذاب الله عز وجل ويدعوهم إلى الله، فيقوم له واحد من الحاضرين فيقول له: تباً لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟ واليوم تعقد مجتمعات للدعوة إلى الله، وقد يجمع داعية إلى الله الناس في بيته، أو يذهب إليهم في بيوتهم فينصحهم وينذرهم عذاب الله ، فتنطلق ألسنة المستهزئين به، إنه يتذكر والموقف هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد وصل الأمر إلى أن ادعوا أنهم أحق من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق وصلة الرحم، فهذا أبو جهل لعنه الله وقف يوم بدر يبتهل إلى الله ويقول: اللهم أقطعنا للرحم -يعني الرسول صلى الله عليه وسلم- وأتانا بما لم نعرف فأحنه الغداة. يوم بدر يقف أبو جهل لعنه الله يدعو الله أن يهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قطع الرحم، وأتاهم بما لم يعرفوا، فأنزل الله عز وجل: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال:19] كما في الصحيح المسند من أسباب النزول . ولقد اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في إنجابه، فعن ابن عباس قال: (لما قدم كعب بن الأشرف مكة -وكان كعب بن الأشرف يهودياً- قالت له قريش: أنت خير أهل المدينة وسيدهم -وكان هذا قبل الهجرة- قال: نعم. قالوا ألا ترى إلى هذا الصنبور ..). يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخدام الألفاظ المشينة؛ ألفاظ السب، وانتقائها من قاموس السباب والشتائم لإلصاقها بالدعاة إلى الله قضية قديمة؛ ليست حديثةً ولا وليدة هذا العصر. والصنبور في لغة العرب: هو الرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له ولا عقب، ولا ناصر ينصره، قالوا: (ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السدانة، وأهل السقاية، قال: أنتم خير منه. فأنزل الله عز وجل: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر:3]) أي: إن شانئك وسابك يا محمد هو الأبتر الذي لا عقب له. وأخيراً هذا الموقف الذي تحكيه لنا آية الأنفال: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال:30] إن عقد المؤتمرات لإجهاض الدعوة، والمؤامرات على دعاة الإسلام، وإلحاق الأذى بهم قضية قديمة. وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال:30] لقد اجتمعوا في حجر إسماعيل بجانب الكعبة في مكة ؛ يدبرون ويخططون لثلاثة أشياء: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ومعنى: يثبتوك: يقيدوك ويحبسوك حتى لا تقوم بالدعوة. أَوْ يَقْتُلُوكَ ويضيع دمك بين القبائل. أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكة ويطردوك حتى لا تكون بينهم. روى ابن حبان في صحيحه و الحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك يا بنيه؟ قالت: يا أبت! ما لي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاقدون باللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، لو قد رأوك لقاموا إليك ليقتلوك، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك، فقال: يا بنيه! ائتيني بوضوئي، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلى المسجد، فلما رأوه قالوا: إنما هو ذا، فطأطئوا رءوسهم، وسقطت أذقانهم من بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم -أعماهم الله- فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها وقال: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلاً منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافراً). قال ابن كثير رحمه الله: قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ولا أعرف له علة. ولو استطردنا أيها الأخوة في ذكر ألوان الأذى التي صبر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لطالت بنا المجالس والأوقات، ولكن إنما هي تذكرة نذكر بها أنفسنا ونسليها ونحن نواجه اليوم أعداء الله، ونواجه مخططاتهم، واتهاماتهم، وسبابهم، وفسوقهم، وأذاهم، وحملاتهم علينا. إن الإنسان ليزداد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإكباراً له عليه الصلاة والسلام وإجلالاً؛ حين يرى في سيرته صلى الله عليه وسلم من صبره على الأذى، ومن تحمله ذلك في سبيل الله لأجل شيء واحد: أن يبلغ(1/116)
رسالة الله إلى الناس، أن يبلغ الناس دين الإسلام؛ هذا هو الهدف، هذا هو الغرض من الحياة، وإلا فإن الحياة بغير هذا الغرض حياة بهيمية. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك، اللهم واجعلنا من دعاتك وجندك، اللهم وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم وآتنا الحجة على من عادانا، اللهم وانصرنا على من بغى علينا، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. اللهم وصلِّ على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم صلاةً تامَّة ما بدا الليل والنهار، اللهم صلَّ عليه صلاة تامة ما غربت شمس وما شرقت. اللهم اجعلنا من أهل شفاعته، اللهم أوردنا حوضه، اللهم وارزقنا مرافقته في الجنة.
****************
وبين سبحانه وتعالى أن العاقبة للمتقين :
قال تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) [هود/49] }
وقال تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) [الصافات/171-182] }
المنصورون في ميزان الله..
محمد بولوز-الوسط التونسية:
النصر من الله كما الرزق الذي هو منة وعطاء منه عز وجل ومع ذلك يتحرك عباده لنيله والظفر به،من خلال ركوب أسبابه وإتيان مقدماته.فالله يريد من عباده الإتيان بأسباب النصر اختبارا وابتلاء،قال تعالى:" ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم"والمتتبع لأسباب النصر في كتاب الله،يجدها مجملة في نصر دين الله،وما ذكر من غير هذا لا يعدو أن يكون تفصيلا لهذا الأصل العظيم.
فنصرة دين الله من أعظم أسباب النصر:قال تعالى:" يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"وقال أيضا:" ياأيها الذين آمنوا كونوا أنصارا لله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين" وقال سبحانه:" الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز"
ونصر الله ونصر دينه يكمن في الإيمان به والعمل له سبحانه من غير شريك والتزام بدينه وشرعه ودعوة إليه واجتهاد في إقامته في النفس والأسرة والمجتمع والعالم ، حتى يظهره الله على الدين كله،ومن الدين عندنا في الإسلام،الدفاع عن النفس والعشيرة والأهل والعرض والمال والوطن.. ومن مات دون شيء من ذلك فهو في سبيل الله، ويحسب عند المسلمين في عداد الشهداء،وهو عند الله بحسب ما معه من المقاصد والنيات.
والمنصورون هم من تحققوا بالإيمان الصادق والتوحيد الخالص والعمل الصالح والتوكل على الله وحده، والاعتماد عليه سبحانه وتحلوا بالصبر والثبات وذكروا الله كثيراً، ووحدوا كلمتهم وجمعوا صفهم وأعدوا ما يقدرون عليه من العدة وما يستطيعونه من أسباب، وأفرزوا من بين صفوفهم القيادة المؤمنة القوية وآمنوا بالجهاد عقيدة وممارسة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر،وتسلحوا باليقين في نصر الله والثقة بوعده،والتزموا الدعاء والاستغاثة بالله والاستنصار به سبحانه..(1/117)
قال تعالى في شأن الإيمان والتوحيد والعمل الصالح:" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون"وفي شأن تعظيم مقام الله والخوف من وعيده:" ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد" وفي شأن العبادة والصلاح:"ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون"وبين سبحانه أن النصر من ثمار التجارة الرابحة مع الله:قال تعالى:" ياأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم،تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون،يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين"
وأنه بالجهاد وتحريض المومنين يكف بأس الكافرين:
قال تعالى:" فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا"وقال تعالى:" أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير"
وقال عز وجل في الصبر والتقوى:" بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين"وقال أيضا:" فاصبر إن العاقبة للمتقين" فالصابرون في ميزان الله يغلبون ضعفهم:
قال تعالى:" الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين"والنصر يأتي الصابرين عقب اشتداد المحن:قال تعالى:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب"
قال ابن مسعود وغيره "البأساء" الفقر "والضراء" السقم "وزلزلوا" خوفوا من الأعداء زلزالا شديدا وامتحنوا امتحانا عظيما.
وفي الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت قال: قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا فقال "إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه" ثم قال "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون"
وقال الله تعالى "ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" وقد حصل شيء من هذا مع الصحابة رضي الله عنهم يوم الأحزاب كما قال الله تعالى "إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا" الآيات.
وجاء في الحديث الصحيح لما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه قال: نعم. قال: فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال: سجالا يدال علينا وندال عليه. قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة.
وفي الحديث أيضا عن أبي رزين "عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيثه فينظر إليهم قانطين فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب" .
وعلمنا الإسلام أن مبادءة المعتدين مع الاستعداد والتوكل من أسباب النصر:قال تعالى:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين"
وعلمنا أن الولاء لله ولرسوله وللمومنين من أسباب النصر:قال تعالى:" ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون"وعلمنا في قصة طالوت كيف ينبغي اختيار القيادة المؤمنة القوية،وأمرنا بحسن الإعداد بقوله"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..."الآية،وبتوحيد الصفوف بقوله "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا.."
والمؤمن بعد إتيان ما يستطيع من أسباب النصر وشروطه يلجأ إلى الله ويستغيث بمدده وعونه:(1/118)
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:" لا إله إلا الله وحده أعز جنده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده"وفي غزوة بدر ما جاء في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:" لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاث مائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آت ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد فيالأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبوبكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين فأمده الله بالملائكة..."
ونهانا عز وجل عن إتيان ما ينافي النصر ويجلب الهزيمة من عوامل الفشل والجبن والتنازع والصراع والعصيان وابتغاء الدنيا دون الآخرة يفهم ذلك من قوله تعالى:" ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ماتحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين"
وحذرنا من الركون إلى الأسباب الدنيوية وحدها أو التعويل على مجرد الكثرة العددية قال تعالى:" لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين "
ونبهنا إلى أنه لا ناصر لمن خذله الله،بما قد يأتيه من استبعاد لدين الله في معركته مع
أعدائه وتخلفه عن نصره وإقامته،فيستحق بذلك الخسارة والخذلان ;قال تعالى:"إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون"
3 سبتمبر 2006-10 شعبان 1427 ه
===============
مقامات الابتلاء.. ومفارز التمحيص
اللواء الدكتور - فيصل بن جعفر بالي
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى خلق البشر، وابتلاهم بالحسنة والسيئة، وبالخير والشر؛ كما قال سبحانه : وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون (168) {الأعراف: 168}، وقال عز وجل: ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون 35 {الأنبياء: 35}، وقال تعالى: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون 2 ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين 3 {العنكبوت: 2، 3}.
وها هنا أمران مهمان لايفطن لهما كثير من الناس وهما:
الأول: أنه كلما قوي إيمان المؤمنين، ويقينهم بربهم، وصدقهم معه، وإخلاصهم له؛ عظم بلاؤهم، واشتدت محنتهم؛ ليبلوا الله تعالى إيمانهم، ويختبر صدقهم؛ كما قال النبي {: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه" (صحيح الجامع 993).
الثاني: أنه كلما اشتد البلاء، وعظمت المحنة بالمؤمنين الصادقين الثابتين فإن فرجهم يكون قريباً، وتلك سنة كونية قدرها الله سبحانه كما قال عز وجل: فإن مع العسر يسرا 5 إن مع العسر يسرا 6 {الشرح: 5، 6}.
وتأمل معي أخي القارئ هذه الآية العظيمة التي تجمع بين هذين الأمرين وهي قول الله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى" يقول الرسول والذين آمنوا معه متى" نصر الله ألا إن نصر الله قريب 214 {البقرة: 214}.
فانظر ماذا حصل لهذا النبي عليه السلام، ومن معه من المؤمنين من عظيم المحن والابتلاء، فأصيبوا بالبأساء والضراء، وزلزلوا حتى إنهم تساءلوا: متى نصر الله ؟! قال الطبري رحمه الله تعالى: "أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسوله تدخلون الجنة، ولم يصيبكم مثل ما أصاب من قبلكم من أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتبتلوا بما ابتلوا واختبروا به من البأساء وهي: شدة الحاجة والفاقة، والضراء وهي: العلل والأوصاب، ولم تزلزلوا زلزالهم، يعني: ولم يصيبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهد حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا؟! ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريب، وأنه معليهم على عدوهم، ومظهرهم عليه؛ فنجزلهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا" أه (جامع البيان 341/2).
لقد أفادت هذه الآية العظيمة أن الأنبياء وأتباعهم سيجري عليهم من البلاء والمحنة، وتسلط الكافرين والمنافقين عليهم وعلى دينهم ما يزلزلهم ويؤذيهم؛ ولكنهم في الوقت نفسه واثقون بنصر الله تعالى ووعده؛ ولذلك تساءلوا: متى نصر الله؟!(1/119)
كما أفادت الآية أنه إذا عظم البلاء، واشتدت المحن اقترب النصر؛ فعند سؤالهم متى نصر الله؟! كان الجواب: ألا إن نصر الله قريب!!
إن المسلم وهو ينظر إلى الأوضاع الدولية المعاصرة، وما أصاب المسلمين من ضعف وهوان واستئساد أعدائهم عليهم، وطمعهم في بلدانهم وثرواتهم، وقتلهم لإخوانهم، وتشريدهم، وأذيتهم، والسعي الحثيث لتغيير دينهم وعقيدتهم، والاعتداء على نبيهم محمد {، ووصفه بالإرهاب، وسفك الدماء، وغيرها من الأوصاف المنفرة، وادعاء أن القرآن مصدر الإرهاب، وغير ذلك من التهم الجاهزة التي صار يلقيها كل من يريد الطعن في الإسلام، أو يريد أن ينال الشهرة الإعلامية على حساب الإسلام وشريعته من كفار ومنافقين؛ مع ضعف المسلمين وعجزهم عن الدفاع عن دينهم وعقيدتهم. إن من يرى ذلك كله ليوقن بأن دائرة المحن والابتلاءات باتت تضيق بالمسلمين كل يوم؛ لتستخرج الصادق في إسلامه من الكاذب، والمؤمن من المنافق؛ مصداقاً لقول الله سبحانه: ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين 10 وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين 11 {العنكبوت: 10، 11}. وقوله سبحانه: وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين 141 أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين 142 {آل عمران: 141، 142}.
فهنيئاً والله لمن ثبت على دينه مع شدة الابتلاءات والمحن، ويا خسارة من أخرجته الفتن والمحن والابتلاءات من دينه فبدل وغير أمر الله تعالى؛ إرضاء للبشر، وويل لمن حاول الحفاظ على دنياه بخسارة دينه؛ فذلك الذي لن تسلم له دنياه ولا آخرته نسأل الله تعالى السلامة والعافية، كما نسأله الثبات على الحق.
إنه يجب على المسلمين في هذه الظروف العصيبة، وتجاه هذه الأحداث العظيمة أن يعوا أصولاً مهمة قررها ديننا هي من أسباب الثبات على الحق في حال الفتن والمحن ومن هذه الأصول:
أولاً: أنه لا يحصل شيء في الكون إلا بتقدير الله تعالى وتدبيره، وأنه تبارك وتعالى يعز من يشاء ويذل من يشاء؛ كما قال سبحانه: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على" كل شيء قدير 26 {آل عمران: 26}.
فهو سبحانه قادر على أن ينتشل المسلمين من حضيض الذلة والمهانة، ويرفعهم إلى مراقي العزة والكرامة، وقد جعل سبحانه وتعالى سبيل ذلك الموصل إليه: التمسك بشريعته، كما أنه سبحانه قادر على أن يدحر المنافقين والكافرين، وينكس راياتهم، ويحبط مخططاتهم، ويبطل كيدهم، ويردهم على أعقابهم خاسرين؛ إذ إنه عز جاره على كل شيء قدير، والأمر كله بيده، ولا يخرج شيء عن تدبيره سبحانه وتعالى، ولما تناطحت القوتان الرومانية والفارسية في أول الإسلام، وأخبر الله تعالى عن غلبة الروم على فارس عقب على ذلك بقوله سبحانه: لله الأمر من قبل ومن بعد 4 {الروم: 4}، فالأمر لله تعالى قبل هزيمة فارس وبعدها، وقبل غلبة الروم وبعدها، ومن أراد النصر فعليه أن يطلبه ممن يملكه وهو الله سبحانه؛ وذلك بطاعته واجتناب معصيته.
ثانياً: أن ما يملكه الأعداء من أسلحة الدمار الشامل التي يخوفوننا بها لا تخيفنا، ولا تذلنا وتخضعنا لإرادتهم إذا كانت على حساب ديننا وسيادتنا؛ لأن هذه الأسلحة المدمرة هي أسلحة ردع، وإذا ما استخدمت عادت بالضرر على الضارب والمضروب في الغالب، ومن المعلوم أن الكافر والمنافق يخاف الموت، ويريد الحياة كما قال الله تعالى: ولتجدنهم أحرص الناس على" حياة 96 {البقرة: 96} وأخبر أنهم يفرون من الموت وهو ملاقيهم.
وسبب خوفهم من الموت أنهم لايرجون إلا الدنيا فحسب، ولايرجون الآخرة التي يرجوها المسلم، ويأمل فيها، فليس لهم إلا فرصة واحدة لا يمكن أن يغامروا بها بخلاف المؤمن الذي يرى أن فرصته الكبرى هي في الآخرة وليست في الدنيا. ومن مقررات مذهب أهل السنة والجماعة: أن من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، موقناً بها قلبه فمآله إلى الجنة برحمة الله تعالى ولو كان من أهل الكبائر؛ فمم يخاف المؤمن؟!
إن ذلك لا يعني بطبيعة الحال أن نتمنى لقاء عدونا مع عدم تكافؤ القوى، ولا أن ننشد ضربهم للمسلمين بأسلحة الدمار الشامل؛ فذلك مخالف لقول النبي {: "لا تتمنوا لقاء العدو وأسألوا الله العافية" (رواه البخاري 109/6 ومسلم 1742) ولكننا في الوقت نفسه لن نتخلى عن ديننا لأنهم يخوفوننا بما يملكونه من سلاح وعتاد.(1/120)
ثالثاً: أنه لن يقضي على الإسلام بعامة، وستكون الغلبة في النهاية لأهل الحق على أهل الباطل؛ كما قال الله تعالى: فاصبر إن العاقبة للمتقين 49 {هود: 49} وهم الذين سيرثون الأرض في نهاية المطاف؛ كما قال سبحانه: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون 105 {الأنبياء: 105} ومهما عظمت المؤامرات، وكثرت الدسائس والمكائد على الإسلام والمسلمين، ومهما كانت قوة الكافرين والمنافقين فإن الله تعالى حافظ دينه بحفظ طائفة مؤمنة يقومون بالحق ويبلغونه للناس؛ كما قال النبي {: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لايضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" (رواه البخاري 249/13 ومسلم 1921).
فإذا كانت الجنة مآل من قضى من المسلمين في حروب شاملة، أو كوارث مفزعة، أو غيرها، وكان دين الإسلام محفوظاً إلى قيام الساعة فمم يخاف المسلمون؟!
إن فهم هذه الأصول العظيمة التي قررها ديننا هو مكمن القوة لنا، وصمام الأمان الذي يجعلنا لا نبدل ديننا مهما كان حجم التحديات والتهديدات، ولو كان ثمن ذلك خسارة دنيانا، فلأن نخسر دنيانا ويبقى لنا ديننا الذي هو ثمن فوزنا في الآخرة خير لنا من التخلي عن ديننا الذي ستكون نتيجته خسارة الدنيا والآخرة.
أسأل الله تعالى أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وأن يردهم على أعقابهم خاسرين. كما أسأله تبارك وتعالى أن يوفق ولاة أمرنا إلى ما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وأن يعينهم على ما يضطلعون به من مهمات، وما يواجهونه من تحديات، وأن يثبتهم على الحق، ويقويهم عليه، ويجعلهم قرة عين للمسلمين، إنه سميع مجيب، وبالإجابة جدير. والحمدلله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
==================
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين
{ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم لهم المنصورون . وإن جندنا لهم الغالبون } . .
والوعد واقع وكلمة الله قائمة . ولقد استقرت جذور العقيدة في الأرض؛ وقام بناء الإيمان ، على الرغم من جميع العوائق ، وعلى الرغم من تكذيب المكذبين ، وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين . ولقد ذهبت عقائد المشركين والكفار . وذهبت سطوتهم ودولتهم؛ وبقيت العقائد التي جاء بها الرسل . تسيطر على قلوب الناس وعقولهم ، وتكيف تصوراتهم وأفهامهم . وما تزال على الرغم من كل شيء هي أظهر وأبقى ما يسيطر على البشر في أنحاء الأرض . وكل المحاولات التي بذلت لمحو العقائد الإلهية التي جاء بها الرسل ، وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى قد باءت بالفشل . باءت بالفشل حتى في الأرض التي نبعت منها .
وحقت كلمة الله لعباده المرسلين . إنهم لهم المنصورون وإن جنده لهم الغالبون .
هذه بصفة عامة . وهي ظاهرة ملحوظة . في جميع بقاع الأرض . في جميع العصور .
وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله ، يخلص فيها الجند ، ويتجرد لها الدعاة . إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل . ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار ، وقوى الدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة ، وهي إن هي إلا معارك تختلف نتائجها . ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله . والذي لا يخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه . الوعد بالنصر والغلبة والتمكين .
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية . سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة؛ وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان؛ وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء . . ولكنها مرهونة بتقدير الله ، يحققها حين يشاء . ولقد تبطئ آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة . ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة ، ولا يدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين!
ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله . ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى . فيكون ما يريده الله . ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون . . ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة؛ وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة . وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام . وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام .
ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك ، وتدور عليهم الدائرة ، ويقسو عليهم الابتلاء؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أكبر . ولأن الله يهيء الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع ، وفي خط أطول ، وفي أثر أدوم .
لقد سبقت كلمة الله ، ومضت إرادته بوعده ، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد :(1/121)
{ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون } .
وعند إعلان هذا الوعد القاطع ، وهذه الكلمة السابقة ، يأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنهم ، ويدعهم لوعد الله وكلمته ، ويترقب ليبصرهم وقد حقت عليهم الكلمة ، ويدعهم ليبصروا ويروا رأى العين كيف تكون :
{ فتول عنهم حتى حين . وأبصرهم فسوف يبصرون . أفبعذابنا يستعجلون؟ فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين . وتول عنهم حتى حين . وأبصر فسوف يبصرون } . .
فتول عنهم ، وأعرض ولا تحفلهم؛ ودعهم لليوم الذي تراهم فيه ويرون هم ما ينتهي إليه وعد الله فيك وفيهم .
============
المحنة في حياة الدعوة والداعية
تكاد تكون المحنة من الظواهر الملازمة للحركة الإسلامية قديمًا وحديثًا؛ فالإسلام دعوة على مظاهر الحياة الجاهلية في كل صورها وأشكالها .. وهذه الخاصة التي يمتاز بها الإسلام، جعلت الحركة الإسلامية أكثر تعرضًا للمحن، وبالتالي جعلت المحنة لديها ذات مفهوم خاص لا يشاركها فيه سواها من الحركات الحزبية والسياسية .
المحنة تربية وتمحيص: فالمحنة من أهم عوامل التكوين والاختيار في الإسلام .. وقد لا يكون للتكوين النظري قيمة ما لم تشترك فيه عوامل الشدة والبلاء. والإيمان نفسه بحاجة إلى المحنة؛ لسبر غوره وإدراك مداه، فالإيمان القوي الراسخ هو الذي يصمد في ساعة العسرة . أما الإيمان السقيم العليل فسرعان ما تكشفه المحن وتصدعه، وصدق الله تعالى حيث يقول:} وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ(10)وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ(11) { [سورة العنكبوت] .
صور من محن الأولين :
قضت سنة الله .. أن يكون الحق في صراع أبدي مع الباطل:} وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19) { [سورة الجن] ... } يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8) {[سورة الصف] . ومنذ ولد الخير ووجد الشر، والصراع عنيف ومخيف بينهما، والحقيقة التي تتكرر باستمرار هي أن الحق دائمًا في انتصار، وأن الباطل دائمًا في انتحار :} وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ(173) {[سورة الصافات].
المحنة في حياة إبراهيم عليه السلام : لم تكن المحنة التي تعرض لها خليل الرحمن إلا إحدى حلقات الصراع، الممتدة عبر القرون .. والتي تؤكد على الزمن غلبة أهل الحق وهزيمة أهل الباطل.
نشأ إبراهيم عليه السلام في مجتمع جاهلي، وأبت الفطرة السليمة مجاراة التيار، والانسياق مع الرأي العام، وصمم إبراهيم صلى الله عليه وسلم على التصدي للجاهلية.
وتبدأ المحنة في حياة هذا الفرد.. فرد يمتطي صهوة الحق وحيدًا .. ويعلن على الملأ إيمانه بالله وكفره بما يعبدون من دونه .. } قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ(77) {[سورة الشعراء].
ويجدر بالداعية أن يقف هنا مليًا، يستشعر عظمة الإيمان الذي اعتمر به قلب إبراهيم .. إنه وحيد ليس وراءه جماعة ولا أنصار، ومنبوذ حتى من ذوي القرابة والوالدين .
وتشتد المحنة على إبراهيم، ويلقى في النار .. والرسول الممتحن يصغي إلى نداء الله، وهو في حمأة اللهب المستعر:} يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ(70)وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ(71) {[سورة الأنبياء].
وتمضي قصة المحنة التي تعرض لها أبو الأنبياء ترسم لأهل الحق صورًا شتى من صور الرجولة والبطولة.(1/122)
المحنة في حياة موسى عليه السلام : وحياة موسى عليه السلام لم تكن غير سلسلة من المآسي والآلام، بل إن المحنة رافقت موسى رضيعًا تتقاذفه الأمواج، وشبت معه فتى يانعًا هاربًا من بطش فرعون .. وزاد حياته محنة على محنة تعرضه لنقمة فرعون من جهة، ولإيذاء قومه وسفههم من جهة أخرى.. ويمضي موسى في طريقه حاملاً كل التبعات .. وفي فترة من فترات الضعف البشري يُحس موسى بالوجل والخوف يختلجان في صدره وهو في قلب المعركة .. ولكن السماء سرعان ما تتداركه بالمدد:} فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى(67)قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى(68)وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69) {[سورة طه] ويخرج موسى من هذه التجارب أصلب عودًا وأشد صمودًا.
المحنة في حياة عيسى عليه السلام :مما لا ريب فيه أن عيسى عليه السلام كان يتمتع بطاقة ضخمة من الصبر والاحتمال .. ومما زاد في قسوة الظروف التي أحاطت به وبنشأته، أنه واجه في ماضي مولده ألوان الشكوك .. كما واجه في حاضر دعوته ضروب العنت والتمرد .. ويكفي لكي نقدر مدى ما وصل إليه العنف والتمرد أن نعرف أن المعجزات التي بلغت على يدي عيسى حدًا كبيرًا لم يكن لها ذلك الأثر المنتظر في استمالة النفوس وتأليف القلوب.. ولكن عيسى عليه السلام .. كان يؤمن بأنه رسول .. وأن عليه البلاغ المبين. وكان طيب النفس حليمًا .
حاول اليهود أن يخفقوا من أثر دعوته وأن يخفوا عن الناس أمره .. ولما أعيت الحيلة أهل الباطل .. ائتمروا به ليقتلوه .. أما عيسى روح الله .. فقد كانت عين الله تحرسه وترعاه .. فلما همّ القوم بما دفعهم إليه حقدهم الأسود..
وقع تحت أيديهم رجل شديد الشبه به، فقتلوه وهم يحسبون أنهم قتلوا عيسى:} وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا(157)بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(158) {[سورة النساء].
محنة الإسلام في عهد النبوة :
كان الإسلام ثورة على الجاهلية من أول يوم .. ثورة استهدفت نسف القواعد التي قام عليها المجتمع الجاهلي، فليس من طبيعة الإسلام أن يهادن الأوضاع الخربة، أو يعمد إلى ترميمها وإصلاحها، وإنما يعتمد سياسة الهدم والبناء .. هدم الجاهلية بكل مرافقها، وبناء الحياة الإسلامية بجميع مقتضياتها. وإذا كانت هذه طبيعة الدعوة التي نهض بها النبي صلى الله عليه وسلم، فبديهي أن تستأسد قوى الجاهلية وتستميت في الدفاع عن كيانها المهدد بالنسف والدمار.
حرب الأعصاب : تفنن أهل الجاهلية في حرب النبي صلى الله عليه وسلم، وابتكروا كل جديد لضرب الإسلام، وحشدوا كل قواهم لعرقلة المسيرة القرآنية، فعمدوا أولاً: إلى أسلوب نفسي خسيس يستهدف تدمير أعصاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والقضاء على روحه المعنوية العالية، وشنوا لذلك حملات عنيفة من السخرية والاستهزاء عرض لها القرآن الكريم في أكثر من موضع:} وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا(90)أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91)أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(92)أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ ...(93) {[سورة الإسراء].
وعندما فشلت هذه الأساليب الرخيصة عمد المشركون إلى اختلاق الشائعات والتهم على رسول الله، وبثوها في كل الأوساط؛ ليضعفوا الثقة به وليصدوا عن سبيل الله:} وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46) {[سورة إبراهيم]. وكانت المحنة على ضراوتها وقسوتها لا تزيده صلى الله عليه وسلم إلا صلابة وتصميمًا ..
تعرض وإيذاء ومحاولات اغتيال : ولما يئسوا من الحرب النفسية، وحرب الأعصاب، وحرب الشائعات .. لجأوا إلى الحرب الحسية ينالون بها من دعاة الإسلام..(1/123)
ويجتمع سادة قريش يومًا في (الحجر) ويذكرون محمدًا وتحديه السافر لمقدساتهم .. فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ سَفَّهَ أَحْلَامَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ لَهُ أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ - فيجيبهم نبي الهدى بكل ثقة واعتزاز- فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ نَعَمْ أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ]رواه أحمد. يقولها بكل صراحة ويعلنها بملء فيه .. لقد أصابه منهم في ذلك اليوم ما أصابه .. وأدركهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد كادوا يجهزون عليه .. فانبرى يدافع عنه ويقول:"أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ".. ولما أوقع في أيدي المشركين، وأعجزتهم الحيلة تداعوا إلى مؤتمر عقدوه في دار الندوة. ولما وضعوا خطتهم، وحزبوا أمرهم؛ كشف الله مكرهم ورد كيدهم:} وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30) {[سورة الأنفال].
المحنة في حياة الصحابة : وفي عهد النبوة تعرض دعاة الإسلام لأبشع صنوف الإيذاء والتعذيب، ولم تقتصر المحنة على نفر دون نفر أو طبقة دون أخرى، بل لقد بلغت الجميع: النساء والرجال، الصغار والكبار، العبيد والأحرار.
محنة بلال: كان أمية بن خلف يخرج بلالاً إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يتهدده قائلاً: إنك ستظل هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، أو تعبد اللات والعزى، وكان بلال رضي الله عنه يردد:"أَحَدٌ أَحَدٌ".
محنة آل ياسر : وكان بنو مخزوم يخرجون "آل ياسر" جميعًا يعذبونهم برمضاء مكة.
أما ياسر- الأب- فلم يقو على تحمل العذاب لكبر سنه؛ فمات لتوه، وأما سمية – الأم- فقد أغلظت القول لأبي جهل فطعنها عدو الله بحربة في أحشائها، فكانت أول شهيدة في الإسلام .. } وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169)فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(170)يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ(171) {[سورة آل عمران].
نموذج من شهداء الإسلام في عصر النبوة : لكم شهدت أيام الإسلام في عصر النبوة من أبطال صناديد، شرفوا التاريخ، ويكفي أن نختار منهم:خبيب بن عدي؛ لندرك أي أثر كان للعقيدة في نفوس هؤلاء: اعتقل خبيب وكان في طريقه من المدينة إلى عضل والقارة؛ ليقوم بمهام الدعوة التي كلفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساقه المجرمون إلى مكة وباعوه لحجر بن أبي إهاب التميمي ليقتله بأبيه الذي قتل في غزوة بدر الكبرى.
وفي اليوم المحدد لقتله أخرجه المشركون إلى التنعيم ليصلبوه، فقال لهم:" إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا " قالوا: دونك فاركع .. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم، فقال:" أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعًا من الموت لاستكثرت من الصلاة". وعندما رُفع خبيب على الخشبة قال له المشركون: ارجع عن الإسلام نخلي سبيلك. فقال:" لا والله ما أحب أن أرجع عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعًا.. إن قتلي في الله لقليل .. اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، اللهم إنه ليس هاهنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلغه أنت السلام".. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت بين صحبه في المدينة، فأخذته غيبة ثم قال:[هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُنِي مِنْ خُبَيْبٍ الَسَلَامَ] رواه الطبراني في معجمه الكبير-بنحوه-.
واقترب من خبيب أربعون رجلاً من المشركين، بأيديهم الرماح، وقالوا: هذا الذي قتل آباءكم في بدر. فقال خبيب:" اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك .. فأبلغه الغداة ما يُصنع بنا".
وعندما أخذت الرماح تمزق جسده، استدار إلى الكعبة وقال:" الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي ارتضى لنفسه ونبيه وللمؤمنين".. واستمر أعداء الله يمزقون جسد خبيب برماحهم وهو لايفتر يردد:"لا إله إلا الله محمد رسول الله" حتى لفظ نفسه الأخير، وفاضت روحه الزكية الطاهرة إلى الملأ الأعلى .(1/124)
المحنة في عصر التابعين : ويأتي عصر التابعين .. ويطالعنا التاريخ بألوان شتى من محن الإسلام .. ففي هذه المرحلة تتكاتف لهدم الإسلام معاول الأبناء والأعداء، ففي عام 75 هـ يتولى الحجاج بن يوسف الحكم في العراق. ويشهد هذا البلد الإسلامي في عهده أيامًا سوداء . ومن سنة الله في خلقه أنه يهيء للطغاة رجالاً لا يهابون الطغيان .. يصنعهم على عينه . ويهبهم الجرأة فيه، وكان سعيد بن جبير أحد هؤلاء الذين خلصوا من حظ أنفسهم..
وعندما صمم الحجاج على قتله والخلاص منه أرسل جنودًا بطلبه فجاءوا به، وأدخلوه عليه، ثم ذبحوه على النطع ـ رحمه الله ـ، وعاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة ثم مات .
المحنة بين الأمس واليوم :
هكذا تبدت معالم الصراع بين الحق والباطل على مدار التاريخ، إنها صورة واحدة ذات أشكال متعددة .. تتغير فيها الأزمان، والأشخاص وتبقى الحقيقة هي هي .. إنه استعلاء الإيمان في كل زمان .. واعتزاز الحق في كل عصر.
أصحاب العقيدة يدفعون الثمن : وتشتد المحنة في حياة الدعوة .. وتئول قيادة الأمة إلى حكام طغاة، يسومون المؤمنين سوء العذاب .. وحق على دعوة الإسلام أن تدفع الثمن . وتدفعه بسخاء: دماء وضحايا وشهداء .
كيف نواجه المحن ؟
إن الحركة الإسلامية إذ تواجه اليوم ما تواجه من تحديات وضغوط ينبغي أن:
تنطلق على هدي: فلا تتحكم في سيرها الانفعالات، أو تميد بها العواطف والطفرات.
مدعوة لمواجهة هذه الحرب السافرة على الإسلام وأهله: بالصياغة الحسنة لشبابها ورجالها، وبالإعداد الكامل، ثم بالتخطيط الواعي لكل خطوة من خطاها .
أن تغرس في نفوس عناصرها ودعاتها روح البذل والتضحية، وتستأصل من نفوسهم عوامل الضعف والخوف والانهزام .
إن الحركة الإسلامية مدعوة: لتضع في تقديرها وحسابها في مجالات التربية والتكوين ثقل المسئولية، وضخامة التبعة التي تنتظرها وتنتظر أفرادها؛ فتسلك بهم كل ما من شأنه أن يعدهم لحياة المجاهدة والمرابطة والكفاح .. وتنأى عما يخلد بهم إلى الأرض ويعودهم حياة الدعة والخنوع .
=============
بوابة النصر
الحمد لله القوي الجبار، المتين القهار، والصلاة والسلام على سيِّد الأنبياء الأخيار، وعلى آله وصحبه الأطهار، ومن تبعهم من الصالحين الأبرار، أما بعد،،،
في ظلام الليل الذي يعقبه نور الصباح.. وفي نزول القطر بعد إقفار الأرض.. وفي أحوال كثيرات..وبما في تضاعيف التأريخ المُشْرِق لهذه الأمة من بواعث النصر، ومُحْييات التمكين؛ نزداد يقيناً، واقتناعاً بما في أُفق الدنيا من لوائح المبشرات، وحينها ؛ نعم في ذلك الحين ينبثق نور بوابة النصر..فَيَلِجُ منها من ذاق مرارة السطوة الظالمة، ويدخل منها من تفطرت كبده قهراً على تكالب سُرَّاق المشاعر، فإلى أولئك أقول: عليكم بما في ثنايا الموضوع فإنها أعمدة تلك البوابة، وعليكم باغتنام سويعات النصر فإن الفجر لاح، وحذار من مُغْلِقَاتِ البوابة فهي كثيرة محبوبة .
أولاً: أعمدة النصر:
1- الإيمان بالله والنصر: قال تعالى:{...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[47]}[سورة الروم]. وقال تعالى:{ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...[51]}[سورة غافر].
في هاتين الآيتين قضى الله أن نصره وتأييده إنما هولعباده المؤمنين.. نعم؛ إن النصر، والتمكين حقٌ لكل مؤمن بالله، لكل من عَمَرَ قلبه بالإيمان الصادق، والإسلام الخالص، والانقياد التام لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إن تحلي العباد بالإيمان بالله برهان كبير على أنهم هم المنصورون، وأنهم هم الجند الغالبون:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[173]}[سورة الصافات].
وكما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[56]}[سورة المائدة].
فمتى أتى المؤمنون بإيمان تام كامل؛ كان لهم نصر تام كامل، وإن أتوا بإيمان دون الكمال، وقاصر عن التمام؛ فإن النصر لهم بحسب ذلك .
وحين نلحظ تأريخنا الحافل بالانتصارات الخالدة التي أقضت مضاجع أهل الكفر، وأذناب الضلال، والتي أقرَّت عيون أهل الإيمان والتوحيد؛ نجد أن أغلبها راجع إلى الإيمان قوة وضعفاً:
فهذا يوم الفرقان، يوم بدر: نصر الله عباده المؤمنين نصرًا أصبح شجى في حلوق المشركين زماناً، وكان من أعمدة النصر في تلك الغزاة أن قَوِيَتْ قلوب المؤمنين إيماناً بالله تعالى.
وفي التأريخ المشرق لهذه الأمة المنصورة، والمُخَلَّدَة إلى قيام الساعة صورٌ كثيرة جداً لوقائع نصر مبين للمؤمنين .
فهذا عمود من أعمدة النصر على الأمة أن تأتي به إن كانت تطمح بالنصر، وترمق بعين الشوق إلى التمكين في الأرض، أما إن كانت تريد نصراً بلا إيمان فما هي وطالب السمك في الصحراء إلا سواء .(1/125)
إن الله أخبرنا بأنه حافظ دينه فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[9]}[سورة الحجر]. وأخبر أن البقاء لدينه فقال:{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوكَرِهَ الْكَافِرُونَ[8]}[سورة الصف]. وهل نور الله تعالى إلا الإيمان والدين، ونصرته له نصرة لعباده القائمين بهذا الدين، والمُتَحَلِّيْنَ بهذا الإيمان . فلا مجال حينئذٍ لمداهمة اليأس قلوبَ الصالحين، بل الدربُ مستنير، وواضح لا يعمى إلا على عُمْيِ القلوب والأبصار .
فالله تعالى وَعَدَ ووعْدُهُ حق وصدق ولابد لذلك الوعد من يوم يتحقق فيه الوفاء، وليس الوفاء فحسب بل تمام الوفاء وكماله، وهوقريب إذ وَعْدُ الكريم لا يقبل المماطلات، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد .
فما هوإلا الصبر القليل، والاستعانة بالله، والتوكل عليه، وأساس ذاك كله اليقين بموعود الله، والحذر من تسرُّب الشك في موعوده .
2- العبودية لله والنصر:
قال تعالى :{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ[171]إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ[172]}[سورة الصافات]. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105]}[سورة الأنبياء]. ففي هذا النص القرآني عمود من أعمدة النصر، الذي يَمُنُّ به الرب على من تعبَّد له حق التعبُّد. واَلْحَظْ بتمعُّنٍ وتدبر:{ لِعِبَادِنَا} و{ عِبَادِيَ} تجد في ثناياها خالص التجرد بالعبودية لله، فلما جردوا التعبد لله وأخلصوه له؛ فلم يجعلوا في قلوبهم ميلاً-و لو قليلاً- لغيره أثابهم منه فتحاً ونصراً وتمكيناً .
ولذا نرى أن الأمة قد يَتَخَلَّفُ عنها النصر بسبب تعلُّقها بغير الله، وهذا من صُوَر صرف التعبُّد لغير الله، فلا عجبَ أن تخلَّف النصر عنّا، وحلَّت الهزيمة بنا، فما استنكف أحد عن التذلل لله، واتبع نفسَه ذليلة غير الله إلا زاده الله وهناً وخسارة .
وللعبودية في ساعات الشدة أثر بالغ في قرب الفرج، وبُدُو أمارات النصر:
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبَه أمرٌ فزَعَ إلى الصلاة، وجعل خير العبادة ما كان في زمن الهَرْجِ.
وحاله يوم بدر أكبر شاهد على ذلك؛ فقد جأر بالدعاء، واشتدَّ تضرُّعُه لربه وتذلله بين يديه، سائله أن يُعَجِّلَ بنصره الذي وَعَدَه إياه .
وهذه هي التي يُسْتَجْلَبُ بها نصر الله، وبدونها؛ وحين تخلُّفها وعدم الإتيان بما أراده الله؛ فهيهات أن ينصر من أعرض عن دينه، ولم يتبع هداه الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، واتبع ما أجلب به الكفار من حياة قِوَامُها على الرذيلة، والمعصية، بل ترك الشريعة كلها .
فعمود النصر التجرد لله بالعبودية؛ التي هي: تمام الذل له، وكمال المحبة له، ومنتهى الانقياد والاستسلام لدينه وشرعه. فمتى قامت الأمة بالتعبُّد لله والتذلل بين يديه؛ أضاء لها نور النصر واضحًا جليًا، تبصره قلوب الصالحين من أولياء الله العابدين، وتعمى عنه بل تُحرَمُه قلوب وأبصار من تعبَّد لغير الله . وكلما كان تعبُّد الأمة لله أتم كان نصر الله لها أكمل وأقرب 3- نُصْرَةُ الله والنصر: قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ...[7]}[سورة محمد]. نصر الله حليفُ قومٍ ينصرون الله ودينه، ويرفعون راية شريعته شامخة في أُفقِ العلياء .
أما من يخذل شريعته حين ضعفها؛ فليس له من نصر الله شيء. وما انتصر من انتصر من الصالحين إلا بسبب ما قاموا به من نصرةٍ لدين الله وشريعته . فمن قام ناصراً بلده، أو قومه، أو مبدأه ومذهبه المخالف لدين الله؛ فهو مخذول .
ومن قام ناصراً- ولو وَحْدَه-ُ دين الله؛ فهو المنصور لا غيره، وهو المؤيد لا سواه، وهو الموعود بالتمكين .
فلتقم الأمةُ الطالبةُ نَصْرَ الله بنصرة دين الله، وإعلائه على الأديان كما أعلاه الله، حتى تنال موعود الله لها بالنصر، والتمكين في الأرض .
ومن نُصْرَة الله تعالى:
1- تحقيق الولاء والبراء.. فلا مداهنة في دين الله، ومحاباة لمخلوق أيَّاً كان، فدين الله فَرَّقَ بين المسلم والكافر، ولو كانا في القرابة بالمكان الذي لا يفرَّق بينهما فيه .
2- تطهير الأرض من المنكرات والموبقات ؛ التي ما فتيء أصحابها يجاهرون بها مطلع النهار ومغربه، ويحاربون الله ليل نهار.
3- القيام حمايةً لدين الله من أن يَمَسَّه دَنِيٌّ بسوء، أو أن يَقْصِدَه سافل بنقيصة .
4- حراسة محارم الله وحفظها من أن يتعرَّض لها من سلبه الله العفاف والحشمة .
فمن قام بنُصْرَة الله ودينه؛ حَظِيَ بالنصر من الله، وظَفِرَ بالغلبة على عدوِّه .(1/126)
4- النصر من الله تعالى: قال تعالى:{...وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ...[13]}[سورة آل عمران]. وقال:{...وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...[126]}[سورة آل عمران]. وقال:{بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[150] }[سورة آل عمران]. وقال:{ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ...[160]}[سورة آل عمران].
فالنصر مِنْ الله ، وهو المانُّ به على عباده المؤمنين، فلا قُدُرَاتِهم، ولا عُدَدِهم جالبة لهم نصراً على عدوهم، ولا اعتداد بكل أسلحة المؤمنين إذا لم يُرِد الله لهم نصراً على عدوهم .
فلو كان النصر آتياً بقوى العباد؛ لما غلب المسلمون الضعفاء ظاهرًا أُمَمَ الكفر التي ملكت من آلات القتال ما الله به عليم . فمتى رجيَ المؤمنون النصر من غير الله فيا خيبتهم، ويا شؤم حالهم .
وحين ترى أحوال المسلمين في المعارك التي انهزموا بها ترى أن من أهم الأسباب: تعلُّقُ النفوس في طلب النصر بغير الله، ولنعتبر بغزوة حنين، فإن الهزيمة التي حصلت لهم إنما هي بسبب اغترارهم بقوة أنفسهم حيث قالوا:'لن نغلب اليوم من قِلَّة'.
قال ابن القيِّم رحمه الله في سرَدِه الفوائدَ المأخوذةَ من تلك الغزوة:'واقتضت حكمته سبحانه أن أذاق المسلمين أولاً مرارة الهزيمة والكسرة مع كثرة عددهم وعُددهم، وقوة شوكتهم، …، وليبيِّن سبحانه لمن قال:'لن نغلب اليوم من قلَّة' أن النصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصره فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه سبحانه هو الذي تولى نصر رسوله ودينه، لا كثرتكم التي أعجبتكم فلم تغنِ عنكم شيئاً، فوليتم مدبرين'[زاد المعاد [ 3/477]].
وهذا الذي حصل إنما هو من طائفة عُمِرَتْ قلوبهم بالتوكل على الله، والتعلُّق به، لكن لما انصرف القلب انصرافاً قليلاً عن الله؛ عُوقبوا بما ذكر الله بقوله:{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا...[25]}[سورة التوبة]. فكيف الحال بمن بعدهم ممن انصرفت قلوبهم لغير الله انصرافًا كُلِّيًا، والله المستعان؟!
ثانيًا:مبشرات النصر:
1- البشارة بظهور الدين: قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[33]}[سورة التوبة]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ[105]}[سورة الأنبياء]. وقال تعالى:{ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[21]}[سورة المجادلة].
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ]رواه أحمد.
فهذه نصوص قاطعة بأن الغالب هو دين الله، والواعد بذلك هو الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ والله لا يخلف الميعاد؛ فكيف إذا كان الميعاد نَصْر دينه، فمهما طال مُقامُ الكافر، ومهما استطال شرُّه وضرُّه، ومهما كِيْدَ بالمسلمين، ومهما نُّكِّلَ بهم؛ فإن الغلبة لدين الله، وَعْدَاً من الله حقاً وصدقاً.. وهذا سيحدث لا محالة، فلا نستعجلَّنَّ الأمور، ولا نسابق الأحداث .
2- الطائفة الظاهرة: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ]رواه البخاري ومسلم. فهذه الطائفة قائمة إلى قيام الساعة، والنصرة لهم، والتأييد الإلهي معهم، وهذه الفرقة المنصورة من بواعث الأمل في نصرة الدين، ومن بشائر الرفعة لدين الله، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى أنها دائمة وموجودة إلى قيام الساعة .
ولكنه ضعف اليقين بموعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتعلُّق القلوب بالماديَّات والظواهر، وأساس ذلك كله ضعف الإيمان بالغيبيات التي هي أصل الإيمان.
فهل يجوز بعد هذا أن ييأس المسلمون من اكتناف نصر الله تعالى لعباده المؤمنين؟! وهل يجوز أن تُعَظَّمَ قوة الكفر وجبروته؟! وهل يجوز لنا أن نتخاذل عن البذل لدين الله.. ولو بأقلِّ القليل؟! وهل يجوز أن نعتقد خطأً أن هذه الطائفة لن تقوم، أو أنها قامت ولن تعود؟! أسئلة تفتقر إلى أجوبة فعلية لا قولية .(1/127)
3- الوعد الإلهي الحق: قال تعالى:{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...[55]}[سورة النور]. وهذا الوعد قد تحقق في زمانه صلى الله عليه وسلم، وسيتحقق بعده حتى قيام الساعة،
فمتى توافرت الأوصاف التي ذكرها الله في هذه الآية في قوم؛ كانوا أحق بالتمكين من غيرهم مهما كانوا .
فحتى نظفر بالتمكين من الله لنعقد العزم على تطبيق شريعته في أحوال الناس اليومية، والسياسية، والاجتماعية .
عندها سننال النصر من الله بكل تأكيد ويقين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
4- المدينتان المُنْتَظَرَتان: قَالَ أَبُو قَبِيلٍ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي وَسُئِلَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا- يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ-] رواه أحمد والدارمي.
ومما يزيد في البشارة أن هذه المدينة قد فتحت على يد السلطان محمد الفاتح العثماني التركماني ؛ ولكن ليس هو الفتح المذكور في الأحاديث؛ لأن الفتح الذي في الأحاديث يكون بعد الملحمة الكبرى، وقبل خروج الدجال بيسير. [انظر: اتحاف الجماعة للتويجري [ 1/404 ]].
ولفتح القسطنطينية الفتح الحق علامة واردة في أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، معروفة مشهورة، وهي :
عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ يَثْرِبَ وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ- ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ الَّذِي حَدَّثَهُ أَوْ مَنْكِبِهِ ثُمَّ قَالَ- إِنَّ هَذَا لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا أَوْ كَمَا أَنَّكَ قَاعِدٌ- يَعْنِي مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ-]رواه أبوداود وأحمد.
فإذا كان أن الفتح الذي حصل على يد محمد الفاتح ليس هوالفتح الوارد في الحديث فإنا لعلى يقين بقرب فتحين عظيمين لمدينتين كبيرتين، وهذا قريب، ووَعْدُ الله نافذ، ومُتحقق بإذنه تعالى .
5- المعركة الفاصلة: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ]رواه البخاري ومسلم. وهذه المعركة هي الفاصلة بين المسلمين واليهود، وهي التي يُظْهِر فيها الله عباده المؤمنين، وينصرهم على اليهود بعدما ذاقوا منهم الأذى والنكال . ولم تأتِ بعد هذه المعركة وإنا على انتظارها، وهي آتيةٌ لا محالة إن شاء الله .
6-محمد المنتظر: مما ثبت في السنة، واعتقده السلف الصالح، ودانوا لله به: ثبوت المهدي، وأنه سيخرج في آخر الزمان .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي] رواه أبوداود والترمذي وأحمد. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا لَا يَعُدُّهُ عَدَدًا]رواه مسلم.
وأخباره متواترة تواتراً لا يعتريه شك .
وفي خروجه يكثر الخير، قال ابن كثير رحمه الله:'في زمانه تكون الثمار كثيرة، والزروع غزيرة، والمال وافر والسلطان قاهر، والدين قائم، والعدو راغم، والخير في أيامه دائم' [النهاية في الفتن والملاحم [1/31 ]].
فهذا المهدي [ محمد بن عبد الله ] المنتظر لم يخرج بعدُ، وبخروجه يقوم الدين، ويرتفع الحق، ويخمد الباطل، وتتبدد كل قوة علت من قوى الباطل، وكل ما هو آت قريب، فصبر جميل.
ثالثًا:ساعات النصر:
1- اليأس والنصر: قال تعالى:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]}[سورة البقرة].(1/128)
وقال تعالى:{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ[110]}[سورة يوسف]. فهذه صورة يَحِلُّ فيها اليأس على قلب العبد، ويُخَيِّم القنوط على نفوس الصالحين،
وإنها لصورة من أشد الصور، وأخطرها على نفوس المسلمين، فالنصر ينزل على العباد 'عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه'[تفسير ابن كثير [ 2/497 ]]. و'إنها لساعة رهيبة، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل،وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود، وتمرُّ الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا القليل، وتكرُّ الأعوام والباطل في قوته، وكثرة أهله، والمؤمنون في عُدَّتِهم القليلة، وقوتهم الضئيلة'[ في ظلال القرآن [ 4/2035].
وإنا والله لنفرح بمثل هذه الساعة-لا لذاتها معاذ الله- ولكن لما فيها من بشائر النصر القريب، وأمارات ظهور الفجر الواعد ..نعم.. إنها ساعة فيها يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلَّق بها الناس، وسنة الله أن في مثل هذه الظروف التي يفقد المؤمنون فيها صبرهم، وتتكالب عليهم الشدائد من كل حَدْبٍ وصوب، وينالهم من أهل الشر والباطل كل أذى وسُخرية من ضعف قوتهم، وهوانهم على الناس؛ يلمح المؤمنون نور النصر يلوح، وشمسه تشرق في تمام الوضوح، فيزول عن القلب ما خَيَّمَ عليه من حُجُب وشوائب، وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم فيها تبيان لهذا.. فاعتبرها .
2- المظلوم والنصر: الظلم شيمة من ابتلاه الله بالكبر والغطرسة، ومن هذا شأنه كان حريَّاً بأن يناله من الله عقاب لتقرَّ عين المظلوم بنكاية الله بالظالم، ونكاله به، فجعل الله دعوة المظلوم تسلك طريقها في السماء، وتكفل الله بنصرها ولو بعد حين، ووَعْدُ الله حق، وهذه بشارة عُظمى، إن نصر الله قريب، هذا كله في عموم الناس المسلم والكافر، فكيف إذا كان المظلوم أمة مسلمة لله، والظالم لها كافر لا يؤمن بالله رباً، ولا بمحمد نبياً، ولا بالإسلام ديناً، فأقول إن الأمر غاية في اليقين أن نصر الله قريب جداً .
وهذه ساعة من أهم ساعات الانتصار والغلبة أن يتمكن العدو من المسلمين، ويتحزبون عليهم من كل جانب من فوقهم، ومن تحتهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم..{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[39]}[سورة الحج]. فما على المؤمنين حال تلك الساعة إلا الجأر بالدعاء، والابتهال والتضرع بين يدي الله أن يُعجِّل بنصرهم، وأن يَخْذِل عدوَّهم[ ويُحِلَّ عليهم غضبه وسخطه..وموعود الله قريب للمظلوم، والويل للظالم من عقاب الله .
رابعًا:حُجُبُ النَّصْرِ:
1-حجاب الكفر:قال الله:{ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ[56]}[سورة آل عمران]. وقال تعالى:{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ...[12]}[سورة آل عمران]. وقال تعالى:{ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ[44]سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ[45]}[سورة القمر]. هذه آيات أنزلها الله في كتابه قضى فيها أن الكفر لن يغلب الإسلام مهما كانت له من القوى، ومهما ملك من العُدَد والعَدَد، ولقد صدق الله وَعْدَه، فنصر عبده، وأعز جُنْدَه، وهزم الأحزاب وَحْدَه.. فمهما قامت حروب ومعارك بين المسلمين والكفار؛ فإن الغالب هم المسلمون، والهزيمة لاحقة بالكفار ؛ وعد صادق من الله.. الكافرون سينفقون ما لديهم من أموال ورجال في حروب طاحنة مع المسلمين، ثم تكون عليهم حسرة، ثم يُغْلَبُوْن على أيدي المسلمين .
وإن انتصر الكفار على المسلمين فهو نصر مؤقَّتٌ لا يدوم؛ وهيهات له أن يدوم، والله قد كتب الغلبة لدينه ورسله وأوليائه الصالحين، والله لا يؤيد بنصره أُمة قامت على كفر به، وصد عن سبيله .
2- حجاب الظلم:قال تعالى:{...وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[270]}[سورة البقرة]. وقال تعالى:{...وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ[8]}[سورة الشورى]. نعم ؛ إن الله لا ينصر الظالم على المظلوم بل اقتضت حكمته أنه ينصر المظلوم على الظالم مهما كان المظلوم والظالم .
وما أكثر الظلم في المسلمين؛ والذي بسببه حُرِمْنا النصر على أعدائنا، فالظلم يمنع النصر كما في هذه الآيات وكما في حديث دعوة المظلوم وأنه ليس بينها وبين الله حجاب، والله تعالى قد وعد بأنه سينصرها ولوبعد حين .
فمتى طُهِّرَت الأمة من الظلم بجميع أنواعه وصوره؛ فإن نصر الله آتٍ، ووعده متحقق سواء في ذلك قرب الزمن أو بعده .(1/129)
3- حجاب النفاق: قال الله تعالى:{...إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا[145]}[سورة النساء]. بيَّن الله في هذه الآية أن نصرَه محرومٌ منه كل منافق دخيل في صفوف المسلمين، بل محروم منه كل من قرَّب المنافقين وأنالهم منه مكاناً مرموقاً، وجاهاً رفيعاً..إن النفاق ما وُجِدَ في قوم إلا أحلَّهم دار البوار، ومنعهم الخير والنصر، وما وُجِدَ المنافقون في أرض إلا مَكَّنُوا منها العدو على المسلمين، وأذلُّوا الصالحين من عباد الله.
فإذا ما طهُرَت الأرض، وسَلِمَت الأمة من هؤلاء 'المتلونين' استحقت النصر من الله على عدوها، وكان لها الظفر بالعدو.
وما مُنِعَ المسلمون النصر يوماً قط إلا بسبب ما كان منهم من تقريب لهؤلاء المنافقين، وحبٍّ لهم، ومجالسة معهم، وتمام وُدٍّ لهم.. إن النفاق في هذه الأزمان قد طال ريشه بين المسلمين، ودام مُقامُه بينهم، ونال أهلُه من المسلمين كل ما يريدونه، بل نال الصالحين المُبيِّنين حالهم وضلالهم الأذى منهم ومن أسيادهم. وحين تلتفت الأمة إلى هؤلاء المجرمين، وتبدأ بهم، وتنكِّل بهم؛ تنعم بعد ذلك بنصر من الله مؤزَّرٌ، وبإيفاء الله وعده لهم .
خاتمة البوابة:
في ختام الولوج من هذه البوابة العريقة..وفي نهاية المرور بها..آمل أن أكون قد وُفِّقْتُ بوضع النقاط على حروفها، وأن أكون قد بعثت ما مات من آمالٍ كبار في نفوس قومي، وأسأل الله تعالى أن يُحيي ما مات من آمالنا، وأن ينصر دينه، وكتابه، وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وعباده الله الصالحين
من رسالة:'بوابة النصر' للشيخ/ عبد الله بن سليمان العبد الله
=================
حقيقة الانتصار
تقديم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(1) [سورة آل عمران: الآية: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)(2) [سورة النساء، الآية: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)(3) [سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71].
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة، في النار.
وبعد:
فقد تأملت في واقع الدعوة اليوم، وما مرت به في خلال هذا العصر من محن وابتلاءات، ورأيت أن الأمة تعيش يقظة مباركة، وصحوة ناهضة، والدعاة يجوبون الآفاق، والجماعات الإسلامية انتشرت في البلدان، حتى وصلت إلى أوربا وأمريكا، وقامت حركات جهادية في بعض بلاد المسلمين كأفغانستان وفلسطين وأرتيريا والفلبين وغيرها.
ولكن لحظت أن هناك مفاهيم غائبة عن فهم كثير من المسلمين، مع أن القرآن الكريم قد بينها، بل وفصلها، ورأيت أن كثيرا من أسباب الخلل في واقع الدعوة والدعاة، يعود لغياب هذه الحقائق.
ومن هذه المفاهيم مفهوم "حقيقة الانتصار"، حيث إن خفاءه أوقع في خلل كبير، ومن ذلك: الاستعجال، والتنازل، واليأس والقنوط ثم العزلة، وهذه أمور لها آثارها السلبية على المنهج وعلى الأمة.
من أجل ذلك كله عزمت على بيان هذه الحقيقة الغائبة، ودراستها في ضوء القرآن الكريم.
وأسأل الله التوفيق والسداد والإعانة.
أهمية الموضوع
تبرز أهمية الموضوع وسببه من خلال الفهم الخاطئ لمعنى حقيقة انتصار الداعية، والخلط فيه بين معنى انتصار الداعية وبين انتصار الدعوة، وظهور الدين، حيث نتج عن هذا الفهم وهذا الخلط عدة أمور -سلبية- أهمها:
1- تصور كثير من الناس أن هذا الداعية لم ينتصر ولم ينجح في دعوته؛ لأنه لم يتمكن من تحقيق الأهداف التي يدعو إليها، ويسعى لتحقيقها، مما يؤدي إلى التشكيك في منهجه، وانصراف بعض المدعوين عنه.
2- استعجال النتائج وتحقيق الأهداف.(1/130)
مِن قِبَل كثير من الدعاة، فإن بعض الدعاة إذا بدأ في دعوته فإنه يرسم منهجًا جيدًا يسير من خلاله لتحقيق أهدافه، ولكن إذا مضى زمن ولم يتحقق شيء من ذلك، أو تحقق شيء يرى أنه لا يساوي الجهود المبذولة، فيقوم بتعديل منهجه السليم إلى منهج خاطئ يستعجل فيه الثمار، وذلك ناتج عن تصوره الخاطئ في فهم حقيقة ما يجب عليه، وإنه إذا لم تتحقق أهدافه فإنه لم يقم بما أوجبه الله عليه، غافلا عن الفرق بين الأمرين، أو جاهلا لذلك.
3- الانحراف عن المنهج.
وذلك أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فالداعية ملزم بأن يلتزم بمنهج أهل السنة والجماعة، وهو ما كان عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصحابته.
بل هو ما ورد في الحديث الصحيح: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ " (4).
وهو ما نفهمه من قوله -تعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(5) [سورة الأنعام الآية: 153].
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين وجوب الالتزام بمنهج الكتاب والسنَّة.
فبعض الجماعات والدعاة، حرصًا منهم على نصر الإسلام، وتصورا منهم أن ظهور الدين وزوال الكفر والفساد مقياسا لنجاح دعوتهم، وأمام ضغط الظالمين ومساوماتهم، واستعجال الأتباع وعدم صبرهم، يسعى هؤلاء للحصول على بعض المكاسب نصرة لهذا الدين ودفاعا عنه، ولكن هذا الأمر قد يقتضي التنازل عن بعض أصول الإسلام، وهنا يأتي الداعية إلى محاولة تطبيق قاعدة المصالح والمفاسد، فينحرف عن المنهج وهو لا يدري، ويستسلم لمساومات الأعداء وألاعيبهم.
4- اليأس والقنوط ثم الاعتزال.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 102.
(2) - سورة النساء آية: 1.
(3) - سورة الأحزاب آية: 70-71.
(4) - أخرجه أحمد: 4/126، 127 وأبو داود (4607) وابن ماجة (43) والترمذي (2676) وقال هذا حديث حسن صحيح.
(5) - سورة الأنعام آية: 153.
طريق الدعوة طريق طويل وشاق، مليء بالعقبات والمحن والابتلاءات، وقليل من الدعاة من يجتاز هذا الطريق وهو ثابت على دعوته، ملتزم بمنهجه.
وكثير من الدعاة عندما يسير في الطريق ثم يجد أن الأعوام تمضي وهو لم يحقق شيئا مما يدعو إليه، ويحاول إعادة الكرة مرة بعد أخرى، ولا يرى أثرا مباشرا لدعوته، تبدأ عنده الشكوك والأوهام، فمرة: يتهم نفسه، وأخرى قومه، وثالثة: أتباعه ومؤيديه، ثم يصل في النهاية إلى أن هؤلاء القوم لا تنفع معهم دعوة، ولا يستجيبوا لداع أو نذير، ويقول لنفسه: كفاني ما كفانيا، وعليك بخاصة نفسك والسلام، و(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)(1) - [سورة البقرة، الآية: 272] يفهمها فهما خاطئا- و(لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)(2) [سورة المائدة، الآية: 105] يضعها في غير موضعها.
وهنا ييئس من قومه، ويقنط من هداية الله لهم، ثم يعتزل الدعوة ويترك القوم وشأنهم.
ومنشأ هذه النتيجة التي وصل إليها عدم إدراكه واستيعابه لحقيقة الانتصار، وأنه قد يكون صبره على قومه مع عدم استجابتهم أعظم له أجرا، وذخرا ونصرا، مما لو آمنوا بما يدعو إليه واتبعوه.
هذه الآثار -وغيرها- التي نتجت في أغلب أحوالها عن الخلط في مفهوم الانتصار، وعدم قدرة كثير من الدعاة التفريق بين انتصار الدين وبين انتصار الداعية.
ومما سبق تتضح أهمية هذا الموضوع، وحاجة الدعاة وطلاب العلم إلى تجليته وبيانه، وبخاصة أن القرآن الكريم، قد وردت فيه آيات كثيرة، تقرر مفهوم الانتصار، ومهمة الداعية، والفرق بين المهمة وبين النتيجة والأثر.
وفي الصفحات التالية تقرير لهذه الحقيقة وتجلية لها، ومن الله نستمد العون والتأييد.
مفهوم النصر وحقيقته
قال الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(3) [سورة غافر، الآية: 51].
وقال -سبحانه-: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(4) [سورة الروم، الآية: 47]. وقال: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)(5) [سورة محمد، الآية: 7]. وقال -جل ذكره-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)(6) [سورة الحج، الآية: 40]. وقال: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(7) [سورة الصافات، الآيات: 171 - 173].
هذه الآيات وأمثالها تدل على انتصار الداعية، سواء أكان رسولا أو أحد المؤمنين، وهذا الانتصار يكون في الحياة الدنيا قبل الآخرة.(1/131)
والذي علمناه من القرآن والسنة، أن من الأنبياء من قتله أعداؤه ومثّلوا به، كيحيى وشعياء وأمثالهما، ومنهم من هم بقتله قومه، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيا بنفسه، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقا لقومه، وعيسى الذي رفع إلى السماء، إذ أراد قومه قتله، ونجد من المؤمنين من يسام سوء العذاب، وفيهم من يلقى في الأخدود، وفيهم من يستشهد، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا؟ (8) وقد طُردوا أو قتلوا أو عذبوا؟
نحن نعلم يقينا، أن وعد الله لا يتخلف أبدا، ومنشأ السؤال والإشكال أننا قصرنا النظر على نوع واحد من أنواعه، وهو النصر الظاهر وانتصار الدين، ولا يلزم أن يكون هذا هو النصر الذي وعد الله به أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين.
والله قد وعدهم بالنصر، وهو متحقق لا شك في ذلك، ولا مرية، وذلك في الحياة الدنيا قبل الآخرة، لأن الله -سبحانه- قال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(9) [غافر الآية: 51]. ومن أصدق من الله قيلا.
وتجلية لهذه القضية، وبيانا لهذا الجانب لا بد من إيضاح معنى النصر، وأنه أشمل مما يتبادر إلى أذهاننا، ويسبق إلى أفهامنا إن النصر له وجوه عدة، وصور متنوعة أهمها ما يلي:
__________
(1) - سورة البقرة آية: 272.
(2) - سورة المائدة آية: 105.
(3) - سورة غافر آية: 51.
(4) - سورة الروم آية: 47.
(5) - سورة محمد آية: 7.
(6) - سورة الحج آية: 40.
(7) - سورة الصافات آية: 171-173.
(8) - انظر تفسير الطبري 24/74 وفي ظلال القرآن 5/3085.
(9) - سورة غافر آية: 51.
1- أن النصر قد يكون بالغلبة المباشرة والقهر للأعداء على أيدي هؤلاء الأنبياء والرسل، كما حصل لداود وسليمان، عليهما السلام (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)(1) [سورة البقرة، الآية: 251]. (وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) (2) [سورة الأنبياء، الآية: 79]. (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)(3) [سورة البقرة، الآية: 102]. (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)(4) [سورة ص، الآية: 35].
وكذلك موسى، عليه السلام، نصره الله على فرعون وقومه، وأظهر الدين في حياته، (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)(5) [سورة الأعراف، 137]. (فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)(6) [البقرة، الآية: 50].
ونبينا محمد، صلى الله عليه وسلم نصره الله نصرا مؤزرا، وأهلك أعداءه في بدر، وما بعدها حتى ظهر دين الله، وقامت دوله الإسلام. (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)(7) [سورة الفتح، الآية: 1]. (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً)(8) [سورة النصر، الآيتان: 1- 2].
وهذا النوع من الانتصار هو النصر الظاهر، وهو أول ما يتبادر إلى الأذهان عند إطلاق كلمة النصر، للأسباب التالية:
أ- لأنه نصر ظاهر يراه الناس ويحسون به.
ب- أنه هو الانتصار الذي يجمع بين انتصار الدين وظهوره وانتصار الداعية.
ج - أنه محبب إلى النفوس، وهو النصر العاجل، "والنفس مولعة بحب العاجل" ولذلك قال -سبحانه-: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ )(9) [سورة، الصف: 13].
2- أن النصر قد يكون بإهلاك هؤلاء المكذبين، ونجاة الأنبياء والمرسلين، ومن آمن معهم، كما حدث لنوح، عليه السلام، حيث نجاه الله وأهلك قومه، )فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ)(10) [سورة القمر، الآيات: 10-14].
وكذلك قوم هود، (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ)(11) [سورة الأعراف، الآية: 72].
وقوم صالح، (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)(12) [سورة الأعراف، الآية: 78].
وقوم لوط، (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(13) [سورة الأعراف، الآية: 84].
وقوم شعيب، (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(14) [سورة الشعراء، الآية: 189]. إن أخذ المجرمين بالعذاب الأليم نصر عظيم للداعية، وكبت للمكذبين والمرجفين، والله يمهل ولا يهمل أبدا:(1/132)
(فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(15) [سورة العنكبوت، الآية: 40].
3- قد يكون الانتصار بانتقام الله من أعدائهم، ومكذبيهم، بعد وفاة هؤلاء الأنبياء والرسل، كما حدث مع من قتل يحيى، -عليه السلام- وشعياء، ومن حاول قتل عيسى، عليه السلام، قال الإمام الطبري في تفسير الآية:
__________
(1) - سورة البقرة آية: 251.
(2) - سورة الأنبياء آية: 79.
(3) - سورة البقرة آية: 102.
(4) - سورة ص آية: 35.
(5) - سورة الأعراف آية: 137.
(6) - سورة البقرة آية: 50.
(7) - سورة الفتح آية: 1.
(8) - سورة النصر آية: 1-2.
(9) - سورة الصف آية: 13.
(10) - سورة القمر آية: 10-11-12-13-14.
(11) - سورة الأعراف آية: 72.
(12) - سورة الأعراف آية: 78.
(13) - سورة الأعراف آية: 84.
(14) - سورة الشعراء آية: 189.
(15) - سورة العنكبوت آية: 40.
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(1) [سورة غافر، الآية: 51] "إما بإعلائنا لهم على من كذبنا.. أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه، بتسليطنا على قتلته من سلطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته، وكفعلنا بقتلة يحيى من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتله له، وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم (2) " وهذا يدخل تحت قوله -تعالى-: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ)(3) [سورة محمد، الآية: 4]. أي: لانتقم.
4- أن ما يتصوره الناس هزيمة قد يكون هو النصر الحقيقي، كالقتل، والسجن والطرد والأذى.
أليس قتل الداعية شهادة في سبيل الله. (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(4) [سورة آل عمران، الآية: 169]. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(5) [سورة يس، الآيتان: 26، 27].
(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)(6) [سورة التوبة، الآية: 52]. فقتل الداعية انتصار للداعية من عدة جوانب، أهمها:
(أ) الشهادة، وهي من أعظم أنواع الانتصار، (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)(7) [سورة آل عمران، الآيتان: 169، 170].
(ب) انتصار المنهج وظهوره، كما حدث لعبد الله الغلام عندما قتله الملك، فقال قوم: "آمنا بالله رب الغلام" (8).
ونجد في العصر الحاضر سيد قطب -رحمه الله- كان قتله انتصارا لمنهجه الذي عاش من أجله، ومات في سبيله، حتى قال أحد الشيوعيين وهو في سجنه: إنني أتمنى أن أقتل كما قتل سيد وينتشر مبدئي وكتبي كما انتشرت كتب سيد قطب.
بل إننا وجدنا مطابع النصارى في لبنان تسارع إلى طباعة ونشر كتب سيد -يرحمه الله- كالظلال، والمعالم، وخصائص التصور الإسلامي، لما تدره من أرباح هائلة، نظرا لكثرة القراء والمستفيدين.
وهذا ما قصده سيد عندما قال: إن كلماتنا وأقوالنا تظل جثثا هامدة حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء عاشت وانتفضت بين الأحياء.
(ج) الذكر الطيب بعد وفاته، قال إبراهيم، عليه السلام، (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(9) [سورة الشعراء، الآية: 84 ]. والمقتول في سبيل الله له ذكر طيب عند المؤمنين، وهذا أمر مشاهد ومحسوس.
وكذلك الطرد والإخراج، قد يكون انتصارا للداعية، حين يتصور كثير من الناس أن هذا هزيمة له، ولذا فإن الله -جل وعلا- قال عن رسوله، صلى الله عليه وسلم حين أخرجته قريش من مكة. (إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ)(10) [سورة التوبة، الآية: 40].
ولا شك أن خروجه من مكة كان انتصارا من عدة أوجه، أهمها:
(1) أن الله نجاه من المشركين، وحماه منهم، وأعماهم عنه، حيث أرادوا قتله.
(ب) أن الدعوة انتقلت إلى بيئة أخرى تحميها وتؤازرها بدل أن كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم محاربا مطاردا، وأصحابه يعذبون ويقتلون، ولا يتمكنون من إظهار عبادتهم لله كما حدث لهم في المدينة.
(ج) قيام دولة الإسلام في المدينة، وانطلاقة الجهاد بعد ذلك، ثم بدء دخول الناس في دين الله أفواجا.
وكذلك نجد أن هجرة الصحابة للحبشة كانت انتصارا لهم، وكبتا لأعدائهم، ولذلك لاحقتهم قريش إلى هنالك، ولكنهم عادوا خائبين حيث حماهم النجاشي، بل أسلم ودخل في دين الله !!(1/133)
وقل مثل ذلك عن السجن والتعذيب والأذى، فإن انطلاقة الداعية قد تكون بداية من سجنه أو إيذائه.
فهذا داعية اتهم في عرضه من قبل أعدائه، وتصور كثير من الناس أن هذا الداعية قد انتهى، ولن يكون له شأن بعد اليوم، ولكن كانت هذه التهمة انطلاقة كبرى لهذا الداعية، من عدة أوجه:
(1) انتصر على نفسه حيث عرف أن رهبة السجن أكبر من حقيقته، حيث أدخل السجن مرتين، فأصبحت لديه مناعة من الخوف أو الرهبة من غير الله.
(ب) تكشف له الباطل، وعرف زيف بعض من كان يتلبس بالحق تمويها وخداعا.
(جـ) عرف صديقه من عدوه، وكما قال الشاعر:
جزى الله الشدائد عني كل خير ... عرفت بها صديقي من عدوي
__________
(1) - سورة غافر آية: 51.
(2) - تفسير الطبري 24/74.
(3) - سورة محمد آية: 4.
(4) - سورة آل عمران آية: 169.
(5) - سورة يس آية: 26-27.
(6) - سورة التوبة آية: 52.
(7) - سورة آل عمران آية: 169-170.
(8) - قطعة من قصة أصحاب الأخدود أخرجها مسلم (3005) من حديث صهيب.
(9) - سورة الشعراء آية: 84.
(10) - سورة التوبة آية: 40.
(د) زاد عدد طلابه ومحبيه، وكثر المستمعون للحق الذي يدعو إليه، فأصبحوا عشرات الآلاف بل ويزيدون.
(هـ) كبت الله أعداءه وخصومه، وتجرعوا كأس الهزيمة وهم ينظرون.
أليس هذا هو الانتصار في الحياة الدنيا قبل الآخرة؟! (وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(1) [سورة المنافقون، الآية: 8]. وقبل أن نغادر هذا النوع من أنواع الانتصار، لا بد من الوقوف أمام حقيقة تخفى على الكثيرين، وهي نوع من أنواع انتصار الداعية، ذلك أن الداعية عندما يقتل أو يسجن أو يؤذى أو يطرد فإن خصمه قد ذاق ألوان الأذى المعنوي والعذاب النفسي قبل أن يقدم على ما أقدم عليه، بل وأحيانا بعد أن يفعل فعلته، فإنه لا يجد للراحة مكانا، ولا للسعادة طعما، ولذا فإن الحجاج بن يوسف عند ما قتل سعيد بن جبير، ذاق ألوان العذاب النفسي حتى كان لا يهنأ بنوم، ويقوم من فراشه فزعا ويقول: ما لي ولسعيد، حتى مات وهو في همه وغمه.
ولهذا جاء القرآن معبرا عن هذه الحقيقة، كما في سورة آل عمران، فقال -سبحانه-: (وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(2) [سورة آل عمران، الآيتان: 119، 120].
وقال -سبحانه-: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً)(3) [سورة الأحزاب، الآية: 25].
بينما نجد الداعية يعيش في سعادة وهناء، قال الإمام الطبري في قوله -تعالى-: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(4) [سورة الصافات، الآيات: 171 - 173] قال: كان بعض أهل العربية يتأول ذلك، ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين بالسعادة (5) وهذا -أيضا- معنى حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم " عجبا لأمر المؤمن أن أمره كله خير -وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن- إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " (6).
ولذلك قال شيخ الإسلام معبرا عن هذه الحقيقة: ماذا ينقم مني أعدائي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، قتلي شهادة، ونفي سياحة، وسجني خلوة.
وهو ما عناه أحد الزهاد عندما قال: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من اللذة والنعيم لجالدونا عليه بالسيوف.
وهنا ندرك من المنتصر ومن المنهزم، وأن الانتصار والهزيمة أبعد معنى مما يراه الناس في الظاهر، بل هناك حقائق قد لا تدرك بالعيون، وصدق من قال:
اصبر على مضض الحسو
فالنار تأكل نفسها ... د فإن صبرك قاتله
إن لم تجد ما تأكله
5- أن ثبات الداعية على مبدئه، هو انتصار باهر، وفوز ساحق، حيث يعلو على الشهوات والشبهات، ويجتاز العقبات بشجاعة وثبات، بل إنه لا يمكن أن يتحقق الانتصار الظاهر إلا بعد تحقق هذا الانتصار، فإبراهيم، عليه السلام، وهو يلقى في النار كان في قمة انتصار، (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(7) [سورة الصافات، الآيتان: 97، 98].
والإمام أحمد -رحمه الله- عندما ثبت على مبدئه في محنة القول بخلق القرآن، ورفض الاستجابة لجميع الضغوط ومحاولات التراجع كان في قمة انتصاره.
وأصحاب الأخدود وهم يلقون في النار، ولا يقبلون المساومة على دينهم، ويفضلون الموت في سبيل الله كانوا هم المنتصرين، (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(8) [سورة البروج، الآية:8].(1/134)
ونجد هذا المعنى من معاني الانتصار في الحديث الذي رواه خباب عندما جاء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وقال له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ قال: " كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق بأثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه " (9) الحديث.
فبين، صلى الله عليه وسلم أن الانتصار هو الثبات على الدين، وعدم التراجع مهما كانت العقبات والمعوقات.
__________
(1) - سورة المنافقون آية: 8.
(2) - سورة آل عمران آية: 119-120.
(3) - سورة الأحزاب آية: 25.
(4) - سورة الصافات آية: 171-172-173.
(5) - تفسير الطبري 23/114.
(6) - أخرجه مسلم (3999).
(7) - سورة الصافات آية: 97-98.
(8) - سورة البروج آية: 8.
(9) - أخرجه البخاري (3612).
6 -أن النصر قد يكون بقوة الحجة، وصحة البرهان، قال الإمام الطبري في قوله تعالى: )وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(1) [سورة الصافات، الآيتان: 171، 172]. يقول -تعالى ذكره- ولقد سبق منا القول لرسلنا أنهم لهم المنصورون، أي مضى بهذا منا القضاء والحكم في أم الكتاب، وهو أنهم لهم النصرة والغلبة بالحجج.
قال السدي: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)(2) بالحجج. (3)
وقال الطبري في قوله -تعالى-: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ)(4) أي فجعلنا قوم إبراهيم الأذلين حجة، وغلبنا إبراهيم عليهم بالحجة. (5).
وكذلك نجد هذا المعنى في قوله - تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)(6) [سورة الأنعام، الآية: 83]. والرفع هو الانتصار.
وكذلك في سورة البقرة بعد أن ذكر الله محاجة الذي كفر لإبراهيم في ربه، قال الله -تعالى- (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)(7) [سورة البقرة، الآية: 258]. والبهت هو الهزيمة، أي انهزم الكافر وانتصر إبراهيم بالحجة والبرهان.
إذن فانتصار الداعية بقوة حجته هو انتصار حقيقي، بل هو وسيلة من أهم وسائل انتصار الدين وظهوره.
7- أن انتصار الداعية، غير محصور في زمان أو مكان، فزمانه الحياة الدنيا ثم الآخرة، ومكانه أرض الله الواسعة.
ولذا فقد يضطهد الداعية في مكان وينتصر في مكان آخر، كما حدث لنبينا محمد، صلى الله عليه وسلم فقد اضطهد في مكة، ثم انتصر في المدينة أولا ثم في مكة ثانيا.
وموسى، عليه السلام، اضطهد في أرض فرعون وانتصر بعد ذلك في مكان آخر، وقد يضطهد الداعية في زمان، ثم ينتصر في زمان آخر. كما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية، فمات في سجنه -رحمه الله- ولكن انتصرت دعوته أعظم الانتصار بعد عدة قرون من وفاته ولا تزال.
وهذا أمر معلوم ومشاهد، فكم من داعية هزم في مكان وانتصر في مكان آخر، وأوذي في زمان وانتصر في زمان آخر، سواء في حياته أو بعد وفاته.
8- أخيرا، فإن النصر قد يكون بالمنع، أي بحماية الداعية ومنع أعدائه من الوصول إليه، قال -سبحانه-: (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ)(8) [سورة البقرة، الآية: 48]. أي يمنعون (9)
وقال- جل وعلا-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ)(10) [سورة الحجر، الآية: 94، 95].
قال الإمام الطبري في معنى هذه الآية: فاصدع بأمر الله، ولا تخف شيئا سوى الله، فإن الله كافيك من ناصبك وآذاك، كما كفاك المستهزئين. (11).
وقال -سبحانه-: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(12) [سورة المائدة، الآية: 67].
هذه بعض أوجه النصر، بل أهم أنواع النصر، ولو تأملنا في هذه الأوجه ثم نظرنا إلى سيرة الأنبياء والرسل، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، لوجدنا أن كل واحد منهم قد تحقق له نوع من هذه الأنواع أو أكثر من نوع، كما حدث لنبينا محمد، صلى الله عليه وسلم فقد انتصر بظهور الدين وتمامه، وانتصر بإهلاك من كذبه في بدر وما بعدها، وانتصر، وهو يخرج من مكة، وانتصر بالحجة والبرهان، وانتصر بالمنع من الأعداء، وانتصر في مكان غير بلده، وانتصر بالثبات على دين الله والصدع بكلمة الحق، (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)(13) [سورة الإسراء، الآية: 74].
ويتفاوت الأنبياء والرسل، عليهم السلام، في الانتصارات التي حققوها، ولكن وعد الله قد تحقق لهم (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(14) [سورة الصافات، الآيات:171، 172، 173].
وكذلك كل مؤمن صادق فسيتحقق له الانتصار، سواء في حياته أم بعد مماته تحقيقا لوعد الله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(15) [سورة غافر، الآية: 51].(1/135)
ومن خلال ما سبق يتضح لنا المفهوم الشامل للانتصار، وأنه لا يجوز لنا أن نحدد نوع الانتصار الذي نريده.
__________
(1) - سورة الصافات آية: 171-172.
(2) - سورة الصافات آية: 172.
(3) - تفسير الطبري 23/114.
(4) - سورة الصافات آية: 98.
(5) - تفسير الطبري 23/75.
(6) - سورة الأنعام آية: 83.
(7) - سورة البقرة آية: 258.
(8) - سورة البقرة آية: 48.
(9) - انظر تفسير الطبري 1/269 وهو قول لابن عباس.
(10) - سورة الحجر آية: 94-95.
(11) - تفسير الطبري 14/69.
(12) - سورة المائدة آية: 67.
(13) - سورة الإسراء آية: 74.
(14) - سورة الصافات آية: 171-172-173.
(15) - سورة غافر آية: 51.
فالأمر لله من قبل ومن بعد، ولسنا سوى عبيد له، سبحانه، نسعى لتحقيق عبوديته، ومن كمال العبودية أن نعلم ونوقن يقينا جازما لا شك فيه أن وعد الله متحقق لا محالة، ولكننا قد لا ندرك حقيقة هذا الأمر لحكمة يعلمها الله، وقد يتأخر النصر ابتلاء وامتحانا، وصدق الله العظيم: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(1) [سورة الروم، الآية: 47].
ما مهمتنا ؟
من أجل أن نفقه حقيقة الانتصار لا بد من أن نعرف المهمة التي كلفنا الله بها فبمقدار القيام بهذه المهمة يتحقق الانتصار.
هل مهمتنا أن نقوم بهداية الناس؟ أو مهمتنا أن نسعى ونجد في دعوة الناس للهداية والإيمان؟.
هل مهمتنا أن نجبر الناس على الإيمان؟ أو مهمتنا أن نبين لهم الطريق إلى الإيمان؟ إن مهمة الأنبياء والرسل والدعاة تتلخص في كلمة واحدة، إنها: البلاغ.
بل إن مسئوليتهم محصورة في هذا الجانب وحده.
والآيات في هذا كثيرة، جاءت مقررة لهذه الحقيقة، التي تغيب عن أذهان كثير من الدعاة والمصلحين.
ونقف قليلا مع بعض هذه الآيات: قال -سبحانه-: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(2) [سورة النحل، الآية: 35]. وقال: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(3) [سورة النور، الآية: 54]. وقال في سورة الشورى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ)(4) [سورة الشورى الآية: 48]. وفي سورة أخرى: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(5) [سورة التغابن، الآية: 12] وفي المائدة: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(6) [سورة المائدة، الآية: 92].
قال الإمام الطبري في قوله -تعالى-: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ)(7) [سورة آل عمران، الآية: 20]. إن أدبروا معرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام، وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، فإنما أنت رسول مبلغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي، وأداء ما كلفتك من طاعتي (8).
وقال ابن عاشور في الآية نفسها: وإن تولوا وأعرضوا عن قولك لهم: آسلمتم، فليس عليك من إعراضهم تبعة، فإنما عليك البلاغ، فقوله: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ)(9) وقع موقع جواب الشرط، وهو في المعنى علة الجواب، فوقوعه موقع الجواب إيجاز بديع، أي لا تحزن، ولا تظنن أن عدم اهتدائهم، وخيبتك في تحصيل إسلامهم، كان لتقصير منك، إذ لم تبعث إلا للتبليغ، لا لتحصيل اهتداء المبلغ إليهم (10).
ومن أجل تأكيد هذه الحقيقة، وهي أن مهمة الأنبياء والرسل هي البلاغ، جاءت آيات أخرى تبين أن هداية الناس ليست لا للأنبياء ولا للرسل ولا لغيرهم، قال -سبحانه-: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(11) [سورة يونس، الآية: 99]. وقال -جل وعلا -: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)(12) [سورة القصص، الآية: 56]. وقال: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)(13) [سورة الكهف، الآية: 6]. ومثلها: )(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)(14) [سورة الشعراء، الآية: 3].
وفي سورة أخرى: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)(15) [سورة فاطر، الآية: 8].
وتتحدد مهمتنا بقول الحق -وهو البلاغ- كما في هذه الآية: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(16) [سورة الكهف، الآية: 29].
ونختم هذه الآيات بهاتين الآيتين: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)(17) [سورة الأنعام، الآية: 35].(1/136)
أما آية الذاريات فجاءت مؤكدة المعنى بأسلوب آخر: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(18) [سورة الذاريات، الآيتان: 54، 55].
__________
(1) - سورة الروم آية: 47.
(2) - سورة النحل آية: 35.
(3) - سورة النور آية: 54.
(4) - سورة الشورى آية: 48.
(5) - سورة التغابن آية: 12.
(6) - سورة المائدة آية: 92.
(7) - سورة آل عمران آية: 20.
(8) - انظر تفسير الطبري 3/215.
(9) - سورة آل عمران آية: 20.
(10) - التحرير والتنوير 3/205.
(11) - سورة يونس آية: 99.
(12) - سورة القصص آية: 56.
(13) - سورة الكهف آية: 6.
(14) - سورة الشعراء آية: 3.
(15) - سورة فاطر آية: 8.
(16) - سورة الكهف آية: 29.
(17) - سورة الأنعام آية: 35.
(18) - سورة الذاريات آية: 54-55.
هذه بعض الآيات التي وردت في كتاب الله محددة مهمة الأنبياء والرسل والدعاة، ونافية أي مهمة أخرى قد يتصور الدعاة أنها من مسئوليتهم، وهي ليست كذلك.
إن مهمتنا هي البلاغ، وليس الإكراه، والسعي لهداية الناس، وليس تحقيق هدايتهم، واتخاذ الخطوات والسبل المشروعة لتغيير الواقع السيئ، لا تغيير الواقع.
إننا عندما ندرك هذه الحقائق، ونتعامل معها، نفهم حقيقة النصر الذي نسعى للفوز به، ونعلم من المنتصر ومن المهزوم، وعندما تغيب هذه الأسس والأصول والمنطلقات قد يحيد الداعية عن الطريق، ويخشى أن يكون ممن قال الله فيه: )قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (1) [ سورة الكهف، الآيتان: 103، 104] وإن كانت هاتان الآيتان في الكفار، فإن معناهما قد يشمل في بعض مدلوله أولئك.
أمثلة من القرآن
تأصيلا لهذا المفهوم، ومزيد بيان لهذه القضية، سأختار أمثلة من كتاب الله، تقصّ سير الأنبياء والمرسلين وبعض الدعاة من الأمم السابقة، حيث يتضح من خلال هذه القصص، المنهج الذي سلكه أولئك، والنتائج التي حققوها، ليكون عبرة ونبراسًا لنا ومن يأتي بعدنا.
وسأعرض كل قصة بالقدر الذي أرى أنه يحقق الغرض من إيرادها، مقتصرًا على أبرز هذه القصص، وأقربها صلة بموضوعنا.
1- قصة نوح
ذكر الله -سبحانه وتعالى- نوحا، عليه السلام، في تسع وعشرين سورة من سور القرآن، وقد جاء في بعضها في أكثر من موضع، ومنها سورة نزلت بكاملها في نوح وقومه، وهي سورة نوح.
إن قصة نوح مع قومه قصة عظيمة مليئة، بالدروس والعبر، ومما يكسبها أهمية خاصة ما تميزت به، ومن ذلك:
(أ) أن نوح، عليه السلام، أول رسول إلى البشر، وكل أول له خصوصيته وميزته.
(ب) طول المدة التي قضاها في قومه، حيث مكث (950) سنة.
(جـ) أن نوحا، عليه السلام، من أولي العزم من الرسل.
(د) كثرة وروده في القرآن، حيث ورد (43) مرة. في (29) سورة من سور القرآن، أي في ربع سور القرآن - تقريبا (2).
وسأذكر بعض الآيات التي وردت تقص علينا سيرة نوح مع قومه، ثم أقف بعض الوقفات حولها:
قال -سبحانه وتعالى- في سورة الأعراف: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(3) [سورة الأعراف، الآية: 59].
هذا جوهر دعوة نوح، حيث دعاهم إلى عبادة الله وتوحيده، وحذرهم من مغبة مخالفته.
وتأتي مرحلة أخرى يواجه فيها قومه بعد استكبارهم وعدم استجابتهم، قال -سبحانه- في سورة يونس: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ)(4) [سورة يونس، الآية: 71].
وتأتي أطول قصة لنوح مع قومه في سورة هود، حيث حاجهم وجادلهم وبين لهم طريق الهداية، حتى قالوا: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(5) [سورة هود، الآية: 32].
ثم يبين الله له النهاية في هؤلاء (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)(6) [سورة هود، الآيتان: 36، 37].
ونقف بعض الوقفات المهمة حول قصة نوح، مما له ارتباط بموضوعنا:
1- كم لبث نوح في قومه؟ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً)(7) [سورة العنكبوت، الآية: 14].(1/137)
2- ما هي الأساليب التي اتخذها نوح لتبيلغ رسالة ربه؟ لقد اتخذ كل وسيلة مشروعة في محاولة لهدايتهم وتعبيدهم لله؛ (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً)(8) [سورة نوح، الآيات: 5-9].
3- ماذا كانت النتيجة من هؤلاء؟:
__________
(1) - سورة الكهف آية: 103-104.
(2) - لأن سور القرآن (114)، و (29) ربع (116).
(3) - سورة الأعراف آية: 59.
(4) - سورة يونس آية: 71.
(5) - سورة هود آية: 32.
(6) - سورة هود آية: 36-37.
(7) - سورة العنكبوت آية: 14.
(8) - سورة نوح آية: 5-6-7-8-9.
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ)(1) [سورة الشعراء، الآية: 111] ثم قالوا: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)(2) سورة [الشعراء، الآية: 116].
4- من آمن مع نوح؟ لم يؤمن معه إلا قليل، حتى إن زوجته لم تؤمن به، وكذلك أحد أبنائه، ولنقرأ هذه الآيات:
(قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)(3) [سورة هود، الآية: 40].
(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)(4) [سورة هود، الآية: 45.] (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ )(5) [سورة هود، الآية: 46].
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)(6) [سورة التحريم، الآية: 10].
5- وأخيرا ماذا قال نوح، عليه السلام؟ (قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(7) [سورة الشعراء، الآيتان: 117، 118]. (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)(8) [سورة القمر، الآية: 10]. (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً)(9) [سورة نوح، الآيتان: 26، 27].
6- وتحقق الانتصار لنوح بعد هذه الرحلة الشاقة العسيرة: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(10) [سورة القمر، الآيات: 10-15].
هذه قصة نوح، ومع هذه السنوات التي قضاها، بل القرون، حيث لبث قرابة عشرة قرون، ماذا كانت النتيجة؟
(أ) لم يؤمن من قومه إلا قليل، قيل: إنهم ثلاثة عشر بنوح، عليه السلام، قال ابن إسحاق: نوح وبنوه الثلاثة، سام، وحام، ويافث، وأزواجهم، وستة أناس ممن كان آمن به (11).
(ب) لم تؤمن زوجته ولا أحد أبنائه كما سبق، وهم أقرب الناس إليه.
(جـ) ومع ذلك، فإنه يعد منتصرا، بل إنه حقق أعظم الانتصارات، ويتمثل ذلك فيما يلي:
1- صبره وثباته طوال هذه القرون، وعدم ميله إلى محاولات قومه -وحاشاه من ذلك- أو تأثره باستهزائهم وسخريتهم (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)(12) [سورة هود، الآية: 38].
2- حماية الله له من كيدهم ومؤامراتهم: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ)(13) [سورة الشعراء، الآية: 116].
3- إهلاك قومه الذين كذبوه بالغرق، (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ)(14) [سورة الأعراف، الآية: 64].
4- نجاة نوح ومن آمن معه، (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ )(15) [سورة الأعراف، الآية: 64]. (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)(16) [سورة القمر، الآيتان: 13، 14].(1/138)
5- إن قصة انتصار نوح وإهلاك قومه أصبح آية يعتبر بها، وجعل الله لنوح لسان صدق في الآخرين (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(17) [سورة القمر، الآية: 15].
__________
(1) - سورة الشعراء آية: 111.
(2) - سورة الشعراء آية: 116.
(3) - سورة هود آية: 40.
(4) - سورة هود آية: 45.
(5) - سورة هود آية: 46.
(6) - سورة التحريم آية: 10.
(7) - سورة الشعراء آية: 117-118.
(8) - سورة القمر آية: 10.
(9) - سورة نوح آية: 26-27.
(10) - سورة القمر آية: 10-11-12-13-14-15.
(11) - انظر تفسير الطبري 8/215.
(12) - سورة هود آية: 38.
(13) - سورة الشعراء آية: 116.
(14) - سورة الأعراف آية: 64.
(15) - سورة الأعراف آية: 64.
(16) - سورة القمر آية: 13-14.
(17) - سورة القمر آية: 15.
(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً)(1) [سورة الإسراء، الآية: 3]. (سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ)(2) [سورة الصافات، الآية: 79]. (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 33].
وهكذا تتضح حقيقة النصر، من خلال قصة نوح وقومه.
وقبل أن أتجاوز قصة نوح، عليه السلام، وقفت عند آية وردت في سورة نوح، حيث، قال: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً)(4) [سورة نوح، الآية: 27].
وبما أنه لم يكن في الأرض يومئذ إلا قوم نوح، وقد كفروا بالله، وتمردوا على رسوله، سوى فئة قليلة هي التي آمنت به، فإن الله -سبحانه- أهلك جميع من في الأرض، يومئذ سوى نوح ومن آمن معه، حماية للمنهج الذي ذكر نوح أنه معرض للزوال إن بقي هؤلاء، فأهلك هؤلاء على كثرتهم من أجل عدد من البشر يحملون الحق ويذودون عنه. والدليل على أنه لم يبق سوى من يحمل رسالة التوحيد أن الله -تعالى- قال: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)(5) [سورة الإسراء، الآية 3]. قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: وذلك أن كل من على الأرض من بني آدم فهم من ذرية من حمله الله مع نوح في السفينة.
قال قتادة: والناس كلهم ذرية من أنجى الله في تلك السفينة.
قال مجاهد: بنوه ونساؤهم ونوح (6).
وقيل هم ثلاثة عشر، رجالا ونساء (7).
قال -سبحانه-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ)(8) [سورة نوح، الآية: 58]. إن الانتصار وهو انتصار المنهج لا الأفراد، والعبرة ليست بكثرة المؤمنين والمستجيبين للحق، وإنما في المنهج الذي يحمله أولئك سواء أقلوا أم كثروا، ولذا فإن بضعة نفر أو يزيدون، ولا يتجاوزون ثلاثة عشر فردا يحملون الإسلام ويحققون معنى العبودية، يهلك أهل الأرض جميعا حماية لهؤلاء وللمنهج الذي يمثلونه ويحملونه، ما دام أن هناك خطرا يهدد بزوالهم، ومن ثم زوال المنهج الذي يحملونه: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً)(9) [سورة نوح، الآية: 27].
ولهذا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم في بدر وهو يناجي ربه: " اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض... " (10) الحديث. واستجاب الله لمحمد، صلى الله عليه وسلم ونصره في بدر وما بعدها، كما استجاب لنوح، عليه السلام، من قبله.
ومن علامات انتصار دين الإسلام، أنه لن تستطيع قوة في الأرض أن تهلك جميع المؤمنين كما كان يخشى في عهد نوح أو في أول الرسالة -كما سبق-، لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم بين هذا كما ورد في الحديث الصحيح: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " (11).
2- أصحاب القرية(1/139)
وهي القصة التي ذكرها الله في سورة (يس)، ولنقرأ هذه الآيات: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)(12) [سورة يس، الآيات: 13-18]. قرية واحدة، وهي قرية أنطاكية كما ذكر المفسرون، يرسل إليها رسولان، وعندما لم يؤمن بهما أهل هذه القرية، يرسل الله ثالثا، ومع ذلك فيبقى هؤلاء على إصرارهم وكفرهم، وما زادهم إرسال الرسول الثالث إلا عتوا ونفورا، بل هددوا برجم هؤلاء الرسل وقتلهم: (لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)(13) [سورة يس، الآية: 18].
__________
(1) - سورة الإسراء آية: 3.
(2) - سورة الصافات آية: 79.
(3) - سورة آل عمران آية: 33.
(4) - سورة نوح آية: 27.
(5) - سورة الإسراء آية: 3.
(6) - انظر تفسير الطبري 15/19.
(7) - انظر تفسير الطبري 8/215.
(8) - سورة مريم آية: 58.
(9) - سورة نوح آية: 27.
(10) - أخرجه مسلم (1763).
(11) - أخرجه البخاري (3641)، ومسلم (1037).
(12) - سورة يس آية: 13-14-15-16-17-18.
(13) - سورة يس آية: 18.
وهل انتهت القصة عند هذا الحد، بل جاءهم رجل رابع، وهو من بني جلدتهم وناصح لهم، (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)(1) [سورة يس، الآية: 20]. ويستمر في حواره معهم ودعوتهم، وهذه المرة لم يهددوه، كما هددوا من قبله بل قتلوه عندما خالفهم، وهذا شأن الطغاة فإنهم لا يتحملون أن يخالفهم أحد من بني قومهم أو حاشيتهم.
وهكذا ثلاثة رسل وداعية من أهل هذه القرية لقرية واحدة، ومع ذلك لم يستجيبوا للدعاة، ولم يكتفوا بعدم الاستجابة، بل هددوا الرسل -وقيل قتلوهم- وقتلوا الداعية الرابع.
إن مقاييس الأرض تظهر أن هؤلاء الرسل لم ينتصروا ولم يحققوا أهدافهم، وأن هذا الداعية استعجل في الكشف عن هويته وإيمانه، ولذلك لقي جزاءه؟ هكذا يقوم الحدث في نظر من لم يفهم حقيقة الانتصار، ولا معنى الهزيمة.
أما منطق الحق، ومنهج النبوة، فيعلن أن هؤلاء قد نصروا نصرا مؤزرا، وأن أصحاب القرية هم الخاسرون، ويتمثل النصر في الحقائق التالية:
1- أن هؤلاء الرسل قد بلغوا رسالة الله، ولم يستسلموا لشبه أهل القرية أولا، وتهديدهم ثانيا، وهذه هي مهمتهم: (وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(2) [سورة يس، الآية: 17]. ومن أدى ما عليه فقد انتصر وفاز ونجح.
2- إيمان رجل من أهل القرية بهم، وتأييده لهم علانية، يعد نصرا وانتصارا له ولهم، ولذلك كان رد أهل القرية عنيفا تجاهه، لأنهم شعروا بخذلانه لهم، وخذلانهم نصر لأولئك الرسل.
3- أن قتل هذا الداعية نصر له ولمنهجه (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)(3) [سورة التوبة: 52]. ولذلك، (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ)(4) [سورة يس، الآية: 26]. فتمنى أن يعلن عن فوزه وانتصاره، (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(5) [سورة يس، الآيتان: 26، 27].
4- وتتويجا لانتصارات هؤلاء الرسل وهذا الداعية، جاءت النهاية المحققة: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)(6) [سورة يس، الآيتان: 28، 29].
إن الدعاة في أمس الحاجة إلى أن يقفوا مع قصة أصحاب القرية، ويتدبروا أبعادها ونهاياتها.
ثلاثة رسل، وداعية مخلص صادق لقرية واحدة، ومع ذلك فلم يؤمنوا، وعدم إيمانهم لم يفت في عضد هؤلاء الرسل، ولم يمنع هذا الداعية من قول كلمة الحق، دون استعجال أو تنازل أو يأس.
بل إن هذا الداعية، كما ورد عند الطبري، كان يقول أثناء قتل قومه له: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، بل إننا نلمس من قوله (يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)(7) أنه لا يقول هذا تشفيا ولا من أجل إغاظتهم، ولكن من أجل هدايتهم، لأنهم إذا علموا أنه كان على الحق وقد قالوا للرسل: (وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)(8) [سورة يس، الآية: 15]. كان أرجى لهدايتهم.(1/140)
وهذا من حرصه على هداية قومه، وهكذا يكون الداعية، محبا لهداية الناس، لا يحمل الحقد ولا الضغينة، وهذا هو الانتصار على النفس الذي يسبق الانتصار الظاهر، ومن حرم الانتصار على نفسه، فلن ينتصرعلى غيره.
3- أصحاب الأخدود
قال الله - تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(9) [سورة البروج، الآية: 4-8].
قصة أصحاب الأخدود قصة عجيبة، تصور لنا معنى من معاني الانتصار الذي نتحدث عنه، وتبين أن استجابة الناس، أو ظهور الدين ليس هو المقياس الوحيد للانتصار، بل إن ثبات الداعية وانتصار المنهج هو قمة الانتصار.
ولأهمية هذه القصة، فسأذكرها بتمامها، كما أوردها العلامة ابن كثير -رحمه الله- حيث قال في تفسير هذه الآيات:
__________
(1) - سورة يس آية: 20.
(2) - سورة يس آية: 17.
(3) - سورة التوبة آية: 52.
(4) - سورة يس آية: 26.
(5) - سورة يس آية: 26-27.
(6) - سورة يس آية: 28-29.
(7) - سورة يس آية: 26.
(8) - سورة يس آية: 15.
(9) - سورة البروج آية: 4-5-6-7-8.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: " كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبر سني، وحضر أجلي، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاما كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، قال: فأخذ حجرا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك، فقال: أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي.
فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم (1) وكان للملك جليس فعمي، فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: اشفني، فقال ما أنا أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان، من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي. فقال: أنا؟ قال: لا، ربي وربك الله، قال: أولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال: أي بني: بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص، وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أحدا، إنما يشفي الله عز وجل قال: أنا؟ قال: لا، قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه -أيضا- بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى بالراهب، فقال ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، فقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه، فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون. وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك، فقال: كفانيهم الله -تعالى- فبعث به مع نفر في قرقور، فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك، فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله -تعالى- ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي، ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السهم في كبد قوسه، ئم رماه، وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام.
فقيل للملك أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك، قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدد فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها، قال: فكانوا يتعادون ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنما تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق " (2).(1/141)
هذه قصة أصحاب الأخدود بطولها، وقد أوردتها لأهميتها، وقد أعجبت بما قاله سيد قطب -رحمه الله- حول هذه القصة مبينا حقيقة الانتصار فيها، ولذا سأذكر بعض ما قاله، ثم أضيف ما أراه حولها مما له صلة بموضوعنا:
وكان مما قال -رحمه الله-: (3)
"في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان، وأن هذا الإيمان الذي بلغ تلك الذروة العالية، في نفوس الفئة الخيرة الكريمة الثابتة المستعلية، لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان".
في حساب الأرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة.
حساب الأرض يجيك في الصدر شيء أمام هذه الخاتمة الأسيفة.
ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيئا آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى.
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام، ومن متاع وحرمان، ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.
__________
(1) - بإذن الله.
(2) - رواه مسلم (3005) من حديث صهيب رضي الله عنه [73 - (3005) كتاب الزهد].
(3) - سأختار من كلامه ما له صلة بهذا الموضوع.
إن الناس جميعا يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس لا ينتصرون -جميعا- هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق، إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده، تشارك الناس في الموت، وتنفرد دون -كثير من- الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس -أيضا- إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال.
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون أنفسهم، وكم كانت البشرية كلها تخسر، كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح، بعد سيطرتهم على الأجساد.
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(1) [سورة البروج، الآية: 8]. حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله، في كل أرض، وفي كل جيل.
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة، وليست شيئا آخر على الإطلاق وإن خصوهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة (2)
وبعد هذه الدروس التي استخلصها سيد قطب من هذه القصة، أقف عدة وقفات حولها:
1- ثبات الراهب والأعمى، وتخلي الأعمى عن جميع متع الحياة الدنيا في مقابل أن يظفر بعقيدته، إن الراهب قد انتصر في معركة بقائه أو بقاء عقيدته، فاختار أن تبقى العقيدة ولو خسر حياته.
أما الأعمى فقد انتصر مرتين، انتصر عندما تخلى عن مكانته عند الملك مع ما في ذلك من جاه ومكانة، وانتصر عندما تخلى عن حياته في مقابل عقيدته.
إن الراهب والأعمى قد خلدا لنا معاني عظيمة من معاني الانتصار الحقيقي، بعيدا عن التأويل والتبرير الذي يغطي فيه كثير من الناس ضعفهم وخورهم بستار يوهمون فيه الآخرين أنهم إنما فعلوا ذلك من أجل الدين، ولو صدقوا لعلموا أن انتصار الدين بأن يفعلوا ما فعله الراهب والأعمى.
2- عجيب أمر هذا الغلام! لماذا دل الملك على مقتله، ولماذا -مادام أن الله قد منعه من الملك- لم يؤثر البقاء ليبلغ رسالة ربه، ويدل الناس على الدين الحق، ويبقي على حياته سالما.
هذا سؤال قد يتبادر إلى الأذهان:
والمفهوم التي لم تعرف حقيقة الانتصار. إن الغلام قد أدرك -بتوفيق من الله- أن كلمة في لحظة حاسمة صادقة، تفعل ما لا تفعله آلاف الكلمات في عشرات السنين.
إن الحياة مواقف، يتميز فيها الصادق من غيره، وقد سنحت فرصة عظيمة لا يجوز تفويتها، ولا يليق تبرير ضياعها، وكما قيل: "إذا هبت رياحك فاغتنمها" وقد هبت رياح هذا الغلام، وهل رياحه إلا تبليغ رسالة ربه، ولو دفع حياته ثمنا رخيصا في سبيل الله؟
إنه انتصار الفهم، وانتصار الإرادة، وانتصار العقيدة عندما تتحول في صدر صاحبها إلى قوة مؤثرة، وحياة صادقة، وليست على هامش حياته وسلوكه وتفكيره، إن هذا الغلام قد انتصر عدة مرات في معركة واحدة، وموقف واحد:
انتصر بقوة فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته، وإخراج أمته ومجتمعه من الظلمات إلى النور.
وانتصر بقدرته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، متخطيا جميع العقبات، ومستعليا على الشهوات وحظوظ النفس ومتاع الحياة الدنيا.
وانتصر على هذا الملك الغبي، الذي أعمى الله بصيرته، فأخرب ملكه بيده، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
إن الناس قد يتعجبون لأن الغلام قد دل الملك على مقتله، ولكنهم لا يدركون أن الملك قد قتل نفسه بيده لا بيد غيره، فأيهما أولى بالعجب والتعجب؟(1/142)
إن الغلام أقدم وهو يعي حقيقة ما يفعل: أما الملك فأعمته سكرة الملك وشهوة السلطان عن أن يدرك ما خطط له هذا الغلام، في هذه المعركة الفاصلة التي مات فيها فرد وحيت أمة.
وانتصر الغلام عندما تحقق ما كان يتصوره ويتوقعه وقدم نفسه من أجله، فآمن الناس وقالوا: آمنا بالله رب الغلام.
إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ، وسلامة التقدير، نجاح باهر، وفوز ظاهر.
وانتصر الغلام عندما فاز بالشهادة في سبيل الله، فكل الناس يموتون، ولكن القليل منهم من يستشهدون.
وانتصر أخيرا عندما خلد الله ذكره قدوة لمن بعده، وذكرا حسنا على لسان المؤمنين، حيث جعل الله له لسان صدق في الآخرين.
3- وتتويجا لهذه الانتصارات المتلاحقة:
تأتي نهاية القصة، عندما آمن الناس برب الغلام، آمنوا بالله وحده وكفروا بالطاغوت، وهنا جن جنون الملك، وفقد صوابه، فاستخدم كل ما يملك من وسائل الإرهاب والتخويف، في محاولة يائسة، للإبقاء على هيبته وسلطانه وتعبيد الناس له.
__________
(1) - سورة البروج آية: 8.
(2) - انظر معالم في الطريق فصل: هذا هو الطريق ص 173.
ثم يحفر أخاديده، ويوقد نيرانه، ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء المؤمنين في النار، وتأتي المفاجأة المذهلة، بدل أن يضعف من يضعف، ويهرب من يهرب، لا تسجل الرواية أن أحدا منهم تراجع أو جبن أو هرب، بل نجد الإقدام والشجاعة، وذلك بالتدافع إلى النار، وكأن الغلام قد بث فيهم الشجاعة، والثبات وها هم يجدون في اللحاق به، وكأنهم يتلذذون في تقديم أرواحهم فداء لدينهم، تموت الأجسام وتحيا الأرواح عند خالقها: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 169].
من لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والموت واحد
والحالة الفريدة التي وردت في الرواية، هي تلك المرأة التي خافت على رضيعها، ولكنها نسيت أنها قد أرضعته الإيمان والشجاعة والإقدام مع اللبن الذي كان يشربه، فطلب منها التقدم، فأقدمت.
أي أمة تلك، وأي قوم أولئك، مع الزمن الطويل الذي عاشوه في الظلام، والسنوات التي استعبدهم فيها هذا الملك، ومع قصر المدة التي عرفوا فيها الإيمان، فقد عرفوا المنهج حق المعرفة، وكأنهم عاشوا فيه كما عاش الراهب طول عمره، أو تربوا عليه كما تربى الغلام في صباه.
إنه الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب، ولامس الأرواح يفعل العجب.
لقد رأينا في قصة الراهب والأعمى ثم الغلام انتصارا فرديا.
ولكننا في قصة أولئك المؤمنين نرى انتصارا جماعيا، قل أن يحدث له في التاريخ مثيلا.
إنه صفاء العقيدة، ووضوح المنهج، وسلامة الطريق، وفهم حقيقة الانتصار.
4- وقبل أن نغادر هذه القصة، يرد سؤال في الأذهان:
ماذا حل بهذا الملك وحاشيته وجنده؟
وهل ذهبت دماء هؤلاء المؤمنين وأرواحهم دون انتقام من الله لمن قتلهم؟
إننا لا نجد في القرآن ولا في السنة أي ذكر لهؤلاء الظلمة، وماذا كان مصيرهم في الدنيا، ولله في ذلك حكمة قد تخفى علينا.
نعم وردت آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)(2) [سورة البروج الآية: 10].
قال الحسن البصري: "انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة" (3).
إن هذه النهاية تحقق معنى من معاني الانتصار، من المنتصر؟ الذي نصر عقيدته ودين ربه، وحرق بضع دقائق، ثم انتقل إلى جنات النعيم، أو ذلك الذي تمتع بأيام في الحياة الدنيا ثم مآله -إن لم يتب- إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق؟.
هل هناك مقارنة بين الحريق الأول، والحريق الثاني، حريق الدنيا، وحريق الآخرة؟ إنها نقلة بعيدة، وبون شاسع، أما المؤمنون الذين حرقوا في الدنيا، فـ (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)(4) [سورة البروج الآية: 11] وتعلن النتيجة التي لا مراء فيها، ولا جدال:
(ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)(5) أليس هذا هو الانتصار؟.
أحاديث في الانتصار
وردت بعض الأحاديث عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم نجد فيها دلالة لحقيقة الانتصار، وإزالة لما يتوهم من معنى الهزيمة.
وسأذكر أربعة أحاديث، وأقف مع كل حديث مبينا وجه الاستدلال فيه.
1-الحديث الأول
أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " عرضت علي الأمم فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل: هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير، قال هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب " (6) الحديث.(1/143)
وفي رواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خرج علينا النبي، صلى الله عليه وسلم يوما فقال: " عرضت علي الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد... " (7) الحديث.
وفي رواية لمسلم، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم... " (8) (9) الحديث.
وقد ورد الحديث بروايات أخرى في معنى هذه الروايات.
وتبرز صلة هذا الحديث في موضوعنا من خلال ما يلي:
1- ورد في الحديث، أن الرسول، صلى الله عليه وسلم نظر إلى سواد كثير، وفي رواية: سواد عظيم، ثم رأى سوادا كثيرا -آخر- سد الأفق.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 169.
(2) - سورة البروج آية: 10.
(3) - تفسير ابن كثير4/496.
(4) - سورة البروج آية: 11.
(5) - سورة البروج آية: 11.
(6) - أخرجه البخاري (6541).
(7) - أخرجه البخاري (5752).
(8) - الرهيط: قال النووي هم بضم الراء تصغير الرهط. وهي الجماعة دون العشرة. مسلم بشرح النووي 3/53.
(9) - أخرجه مسلم (220).
والسواد الأول هم ممن آمن بموسى، عليه السلام، والسواد الآخر هم أمة محمد، صلى الله عليه وسلم وهذا يمثل نوعا من أنواع الانتصار الظاهر، حيث انتشر الدين وآمن الناس، حتى بلغوا هذا المبلغ، وهو النوع الأول من أنواع الانتصار التي أشرت إليها سابقا، ومثل ذلك النبي الذين يمر ومعه الأمة.
2- ورد في الحديث، أن النبي يمر معه العشرة، والنبي ومعه الخمسة، والنبي يمر وحده، وفي رواية: فجعل النبي يمر معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد.
ونحن لا نشك في انتصار الأنبياء والرسل كما أخبرنا الله -جل وعلا- بذلك فقال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(1) [سورة غافر، الآية: 51]. وغيرها من الآيات التي سبق ذكرها.
وها نحن نجد النبي يأتي يوم القيامة، ومعه العشرة، والآخر معه الخمسة، وثالث ومعه الرجلان، ورابع ومعه رجل واحد، والخامس وليس معه أحد.
والأمر الذي يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن النبي الذي معه العشرة والخمسة والرهيط قد لا يكونون قد آمنوا به واتبعوه في حياته، بل قد يكون بعضهم بعد وفاته، لأن الذين رآهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم من أمته ليسوا الذين آمنوا به في حياته صلى الله عليه وسلم فقط، بل منهم من آمن به في حياته، ومنهم من آمن به بعد وفاته إلى قيام الساعة، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف عن غيره من الأنبياء بأنه خاتمهم وآخرهم.
وبهذا نفهم أن الانتصار ليس بكثرة الأتباع فحسب، وقبول الناس واستجابتهم، هذا نوع من أنواع الانتصار كما سبق، وبخاصة إذا كان الأتباع على المنهج الحق، وإلا فلا عبرة بالكثرة والقلة.
والمعادلة التي نخرج منها، والحقيقة التي نظفر بها، أن النبي -كل نبي- لا شك في انتصاره في الحياة الدنيا قبل الآخرة، وها نحن نجد عددا من الأنبياء ليس معهم إلا أفرادا، بل بعضهم ليس معه أحد.
فالنتيجة أن هناك أنواعًا أخرى من الانتصار، أشمل مما قد يتبادر إلى أذهان كثير من الناس، وبعض الدعاة. إن إدراكنا لهذه الحقيقة وتعاملنا معها هو نوع من الانتصار الذي نبحث عنه بل هو أول الخطوات لتحقيق الانتصار.
2- الحديث الثاني
عن خباب بن الأَرَتْ ( قال: " شكونا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: إلا تستنصر لنا، أو تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يبعده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله -تعالى- هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون " (2).
ولنقف هذه الوقفات:
1- خبّاب ( جاء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم يطلب منه الدعاء بالنصر - هكذا أطلق خباب، وهو يريد النصر الظاهر، برفع العذاب والأذى الذي كانت قريش تصبه على رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصحابته.
فنقله رسول الله، صلى الله عليه وسلم نقلة أخرى مبينا له معنى آخر من معاني الانتصار، وهو الثبات على دين الله، وتحمل المشاق والعقبات، حتى لو ذهبت روح المسلم فداء لدينه وعقيدته.
2- ثم يذكر له رسول الله، صلى الله عليه وسلم النصر الظاهر وأنه متحقق، ويقسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولكنه لا يتحقق إلا بعد الثبات والصبر.
3- ونجد أن ما ذكره رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأقسم على حصوله وهو إتمام هذا الدين -وهو نوع من الانتصار- قد لا يتحقق في حياة الداعية، فمسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت حدث بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.(1/144)
فعلى الداعية أن يعي هذا الأمر، وأن انتصار الدين لا يتعلق بشخصه.
4- " ولكنكم تستعجلون " صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم إن حرص كثير من الدعاة على انتصار هذا الدين قد يؤدي بهم إلى ارتكاب ما يعوقه، وهو الاستعجال، إنهم يريدون أن يروا النتائج في حياتهم، بل في أول حياتهم -أحيانا- وهذا لم يتحقق لكثير من الأنبياء والرسل.
ويعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النصر يحتاج إلى الصبر والثبات والتفاؤل مع عدم العجلة.
ويعلمنا أن النصر أشمل مما قد يتبادر إلى أذهاننا.
فليس النصر مقصورا على النصر الظاهر، والنصر الظاهر لا يلزم أن يتحقق في حياة الداعية.
3- الحديث الثالث
عن أبي هريرة ( قال، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم
أن الله عز وجل قال: " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب " (3). الحديث.
__________
(1) - سورة غافر آية: 51.
(2) - أخرجه البخاري (3612).
(3) - أخرجه البخاري (6502).
والشاهد من هذا الحديث القدسي، أن المؤمن إذا أيقن أن الله معه، ويجب أن يوقن بذلك، ومن كان وليا لله فإن الله معه، وإذا الله كان معه، يعلن الحرب على من آذاه أو عاداه، فيستلزم ذلك أن يؤمن إيمانا لا شك فيه أن الله سينصره، لأن المعركة لم تعد بين الداعية وعدوه، وإنما هي حرب من الله على هذا المعادي، وبدهي أن نعلم من المنتصر ومن الخاسر؟ !!.
ومادام الأمر كذلك، فإن الله -جل وعلا- هو الذي يقدر نوع الانتصار وزمانه ومكانه، ولا يخضع هذا لرؤيتنا القاصرة، أو رغباتنا المحدودة، أو اجتهاداتنا البشرية.
وما علينا إلا أن نعلم يقينًا أن المعركة محسومة من أولها، معروفة نتائجها قبل بدايتها، وأن نتعامل بإيجاب مع هذا اليقين، فلا نستعجل ولا نيأس، ولا نتصرف تصرفا قد يكون سببا لحرماننا من النصر الذي لا شك فيه: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(1) [سورة الروم، الآية: 47].
4- الحديث الرابع
عن عثمان بن عفان ( قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم إذا مر بهم وهم يعذبون يقول: " صبرا، آل ياسر فإن موعدكم الجنة " (2).
إن الصبر نوع من أعظم أنواع الانتصار، فبالصبر يسمو الإنسان على رغباته ويعلو على متع الحياة الدنيا.
والصبر سمة الرجال الأخيار (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(3).
إنه بالصبر ينتصر على نفسه أولا، وينتصر على عدوه، ثانيا، وينصر مبدأه ثالثا. إننا عندما نذكر انتصار الإسلام في مراحله الأولى نتذكر آل ياسر: ياسر وسمية وعمار.
إن هذا البيت بصبره وجهاده، وتقديم حياته فداء لهذا الدين، ممن وضع اللبنات الأولى لعزة هذا الدين وظهوره.
لقد انتصروا على ذواتهم أولا، وعلى المشركين ثانيا، ونصروا الإسلام ثالثا.
ثم لهم الجنة بعد ذلك، (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)(4) [سورة آل عمران، الآية: 185]. (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)(5) [سورة البروج الآية: 11].
وأجد أنّ قصة الصحابي الجليل عمير بن الحمام في بدر قصة تسجل انتصارًا باهرًا للداعية، فالوقوف عندها واستخلاص ما فيها من دورس وعبر يعطي دلالة على ما نحن بصدده.
سورة العصر و حقيقة النصر:
قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم". (6).
فما علاقة هذه السورة بحقيقة الانتصار؟
إن هذه السورة ترسم منهج النصر بصورة واضحة جلية، وتصحح الفهم الخاطئ بحصر قضية الانتصار بصورة واحدة أو نوع منفرد.
كيف ذلك؟
يقسم الله - سبحانه وتعالى- أن كل إنسان في خسر، أي خسارة وهلاك وبوار، إلا من استثنى بعد ذلك.
والمستثنى من الخاسرين، هو الفائز والرابح والمنتصر.
فلننظر في شروط الانتصار
1- الإيمان، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)(7).
2- عمل الصالحات، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)(8).
3- التواصي بالحق، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ)(9).
4- التواصي بالصبر، (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(10).
هذه شروط النصر، فمن استكملها فقد خرج من الخسران ونجا، وبالتالي فقد انتصر وفاز وأفلح.
وهنا -بعد تقرير هذه القضية- نأتي للدلالة على فهم حقيقة الانتصار في هذه السورة.
فالله -سبحانه وتعالى- لم يذكر من شروط الانتصار تحقق النتائج، واهتداء الناس واستجابتهم.
إذن النصر ليس محصورا في تلك السورة فقط، والله -سبحانه- حكم بانتصار المسلم ونجاته من الخسران إذا استكمل الشروط الأربعة، وليس منها أن يستجيب الناس له، أو أن تتحقق الأهداف التي يسعى إليها، فهذا الأمر ليس له، وليس من لوازم النصر، وهذا رحمة من الله وفضل (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(11) [سورة البقرة، الآية: 105].
بل قد استوقفني في هذه السورة أمران مهمان، لهما علاقة في رسم منهج الانتصار، وهما:
1- التواصي بالحق، لأن الإنسان قد يضعف أو يزل أو ينحرف، فيحتاج إلى من يوصيه بالمنهج، محافظة عليه وصيانة له، فكم من إنسان يتصور أنه على الحق، وهو قد حاد عنه، واتبع السبل من حيث لا يدري، ومع ذلك يقول:(1/145)
لماذا لم أنتصر، وما سر تأخر النصر؟ (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(12) [سورة آل عمران، الآية: 165].
فالتواصي بالحق سبيل لتحقق النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين، وعاصم من الانحراف عن صراط الله المستقيم.
2- التواصي بالصبر:
ولا يمكن أن يتحقق النصر لمستعجل الشيء قبل أوانه، ولا لليائس والقانط من رحمة الله.
والتواصي بالصبر يمنع من الاستعجال، ويبعد اليأس والقنوط.
__________
(1) - سورة الروم آية: 47.
(2) - رواه الحاكم 3/388 - 389 وصححه الألباني في فقه السيرة (107).
(3) - سورة ص آية: 30.
(4) - سورة آل عمران آية: 185.
(5) - سورة البروج آية: 11.
(6) - تفسير ابن كثير 4/547.
(7) - سورة العصر آية: 3.
(8) - سورة آية: 3.
(9) - سورة العصر آية: 3.
(10) - سورة العصر آية: 3.
(11) - سورة البقرة آية: 105.
(12) - سورة آل عمران آية: 165.
ومن هنا فإن المؤمن إذا التزم بالحق وتمسك به وسار عليه ولم يحد عنه، ثم صبر وصابر غير مستعجل ولا يائس، فإن النصر متحقق له لا محالة (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً)(1) [سورة النساء، الآية: 122]. بل إن التزام الحق والصبر، هو النصر الذي لا يتحقق نصر دونه.
أسباب تأخر النصر الظاهر
النفس مجبولة على حبّ العاجل، وتحقق النصر الظاهر لدين الله أمر محبب إلى النفس كيف لا، وهو ظهور دين الله وقمع الباطل وأهله، ولذلك قال -سبحانه-: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(2) [سورة الصف، الآية: 13].
ونحن مأمورون بالسعي لإقامة دين الله (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)(3) [سورة البقرة، الآية: 193].
وكثير من الناس -وأخص الدعاة منهم- يستبطئون تحقق النصر، وقد يسبب لهم هذا الأمر شيئا من اليأس أو الانحراف عن المنهج، ويغفلون عن الأسباب التي تؤخر النصر الظاهر، مع أن معرفة هذه الأسباب أمر مهم، وله آثاره الإيجابية على حياة الدعاة والمدعوين والأتباع، وذلك أن هذه الأسباب على نوعين:
1- أسباب سلبية، والمعرفة بها سبيل إلى تلافيها وإزالتها.
2- أسباب إيجابية، وفقهها وإدراكها عامل مؤثر في ثبات الداعية على المنهج الرباني، سواء تحقق النصر عاجلا أو آجلا.
وسأقف مع أبرز الأسباب التي تكون عاملا مؤثرا في تأخير النصر أو عدم وقوعه في حياة الداعية أو على يديه، وسأختصر فيها حسب مقتضى المقام:
1- تخلف بعض أسباب النصر المشروعة:
وذلك أن للنصر أسبابًا، فإذا تخلّفتْ هذه الأسباب أو بعضها تخلف النصر؛ لأن السبب عند الأصوليين، هو ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته، وإن كان لا يلزم من وجود السبب هنا وجود النصر لمانع آخر، ولكن يلزم من عدمه العدم.
فمثلا: نجد من أسباب النصر المشروعة الإعداد للمعركة لأن الله -تعالى- يقول:
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)(4) [سورة الأنفال، الآية: 60]. فعدم الأخذ بالأسباب سبب من أسباب الهزيمة أو تأخر النصر.
10- قد يكون انتصار الداعية بعد وفاته أعظم من انتصاره في حياته، لأن المراد هو انتصار المنهج، أما الأشخاص فإن الله قد تكفل بإثابتهم وإكرامهم، جزاء دعوتهم وصدقهم، ولذلك جاءت الآيات تبين هذا الأمر:
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(5) [سورة آل عمران، الآية: 169]. (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(6) [سورة يس، الآية: 26، 27]. (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(7) [سورة النحل، الآية: 32]. (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ)(8) [سورة فصلت، الآية: 30، 31]. إلى غير ذلك من الآيات.
وكم من داعية لم ينتصر الدين في حياته، ولكنه انتصر أعظم الانتصار بعد مماته، فهذا عبد الله الغلام، وسبق بيان قصته، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية مات في سجنه، ولكن منهجه انتصر انتصارا باهرا بعد عدة قرون من وفاته.
وسيد قطب سجن ثم قتل، ولكن مؤلفاته انتشرت أكبر الانتشار بعد قتله!!.. وهكذا.
__________
(1) - سورة النساء آية: 122.
(2) - سورة الصف آية: 13.
(3) - سورة البقرة آية: 193.
(4) - سورة الأنفال آية: 60.
(5) - سورة آل عمران آية: 169.
(6) - سورة يس آية: 26-27.
(7) - سورة النحل آية: 32.(1/146)
(8) - سورة فصلت آية: 30-31.
11- أن تأخر النصر فيه ابتلاء وتمحيص للدعاة، وفيه من العبر والدروس ما يفيد اللاحقون منه فوائد جمة. قال -تعالى-: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)(1) [سورة البقرة، الآية: 214]. وقال: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(2) [سورة العنكبوت، الآية 1 - 3]. والآيات كثيرة معلومة.
وبعد:
فهذه أبرز أسباب تأخر النصر الظاهر حسب ما تبين لي، وقد تتكشف لنا أسباب تأخر النصر، وقد لا تتكشف.
والذي يجب أن نعتقده أن علينا فعل الأسباب الشرعية، سعيا لنصرة دين الله، أما تحقق النصر فليس لنا بل هو لله (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 126].
والنصر لن يتحقق إلا إذا حان موعده في علم الله لا في تقديرنا القاصر.
ولن يتحقق النصر إلا بعد الإيمان الجازم بوعد الله، (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)(4) [سورة الروم، الآية: 47].
أما من عنده شك وريبة فلا يستحق النصر (5).
2- قد يكون سبب تأخر النصر حدوث مانع من الموانع، والمانع هو: ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته. والموانع كثيرة جدا، كالظلم والركون للكفار والمعاصي وغيرها. وموانع النصر هي أسباب الهزيمة، ولذلك نجد في غزوة أحد لما بدت علامات النصر ثم وقعت المخالفة من الرماة لأمر الرسول، صلى الله عليه وسلم حلت الهزيمة، كما قال - تعالى-: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(6) [سورة آل عمران، الآية: 165]. قال محمد بن إسحاق وابن جرير والربيع بن أنس والسدي. (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(7) أي بسبب عصيانكم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم حين أمركم ألا تبرحوا مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة. (8).
وفي حنين لماذا تأخر النصر، يقول - سبحانه-: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ)(9).
حيث ذكر الله - سبحانه- أن قول أحد المسلمين لن نغلب اليوم من قلة، وكان عددهم (12) ألفا (10) مانعا من موانع النصر، لأن الله - سبحانه- وكلهم إلى كثرتهم فلم تنفعهم شيئا، ثم تحقق النصر بعد ذلك عندما زال هذا المانع حيث ثبت أن الكثرة وحدها لا تجلب النصر، وإنما الاعتماد على الله -سبحانه- بعد الأخذ بالأسباب.
ومن خلال ما سبق يتضح أهمية مراعاة الأسباب، والحرص على تحصيلها، مع تلافي الموانع واجتنابها.
3- الانحراف عن المنهج
الانحراف عن المنهج مانع من الموانع، ولكن أفردته لأهمية التنبيه عليه، فقد تتبعت بالاستقراء واقع كثير من الجماعات الإسلامية والحركات الجهادية المعاصرة، وبحثت عن سر عدم انتصارها وتحقق ما تعلنه من أهداف خيرة نبيلة، حيث إن تلك الجماعات تسعى لنصرة دين الله، وتحكيم شرعه، فوجدت إن من أبرز الأسباب -حسب ما ظهر لي- انحرافها عن المنهج الصحيح -منهج أهل السنة والجماعة- في ثوابتها أو وسائلها.
وقد يكون الانحراف يسيرا -في نظر البعض- ولكنه خطير جدا ومؤثر في تحقيق النصر.
فمن ذلك التساهل في قضية العقيدة وعدم اعتبارها من الأولويات التي تتميز بها تلك الجماعة.
وكذلك تمييع مفهوم الولاء والبراء، والركون إلى الظالمين ومداهنتهم.
ومن ذلك تأصيل الحزبية، مما يؤدي إلى تفريق كلمة المسلمين، وتنافر القلوب. وكذلك اعتبار أن الغاية تبرر الوسيلة، وهلم جرا.
إن تحرير الأصول والثوابت، وتنقيتها مما قد يشوبها، أمر جوهري وأساس في سلامة منهج الدعوة وصدق التوجه.
وكذلك عرض كل وسيلة من الوسائل على القواعد والأصول الشرعية، حماية لها من الانحراف تحت ضغط الواقع وحجية المصلحة المتوهمة.
4- عدم نضوج الأمة، وضعف استعدادها إن دين الله عظيم، ويحتاج إلى أمة قد تربّت على هذا الدين زمنا حتى تتمكن من حمله وتبليغه للناس.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 214.
(2) - سورة العنكبوت آية: 1-3.
(3) - سورة آل عمران آية: 126.
(4) - سورة الروم آية: 47.
(5) - انظر في ظلال القرآن تفسير سورة الحج 4/2427 ففيه كلام قيم حول بعض ما ذكر.
(6) - سورة آل عمران آية: 165.
(7) - سورة آل عمران آية: 165.
(8) - انظر تفسير ابن كثير 1/425.
(9) - سورة التوبة آية: 25.(1/147)
(10) - انظر تفسير الطبري 10/100 وتفسير ابن كثير 2/343.
أمة قد اجتازت المشقة والعقبات قبل أن تحصل على النصر، بل من أجل الحصول عليه.
ئم إن قيام هذا الدين يحتاج إلى طاقات ضخمة، كثيرة العدد، متعددة المواهب والتخصصات، وهذا الأمر يحتاج إلى زمن ليس باليسير، فإعداد الرجال وتربيتهم من أشق المهمات وأصعبها.
ولذلك نجد أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم بقي ثلاثة عشر عاما يربي الرجال واحدا واحدا، ويهيئ الأمة جماعة جماعة، استعدادا لحمل الرسالة والذود عنها.
فقوم في دار الأرقم، وآخرون يهاجرون إلى الحبشة، ومرة يحصر الجمع في شعب أبي طالب، ثم تأتي الهجرة إلى المدينة.
كل هذا وغيره هيأ هذه الأمة لحمل الرسالة حتى كمل الدين وفتح الله على المسلمين فتحا عظيما.
ومما سبق يتضح أن هذا الأمر يحتاج إلى زمن لتمامه، واكتمال بنائه، وهو سبب من أسباب تأخر النصر وظهور دين الله مهيمنا على البشر.
5- عدم إدراك قيمة النصر:
إن مجيء النصر سريعا دون كبير مشقة ولا عناء، يجعل الأمة المنتصرة لا تعرف قيمة هذا الانتصار، ومن ثم لا تبذل من الجهود للمحافظة عليه ما يستحقه وما يحتاج إليه.
وسأضرب مثلين يوضحان هذه الحقيقة:
(1) الرجل الذي عاش في الفقر ثم جد واجتهد في تحصيل المال حتى أصبح غنيا، نجد أنه يحافظ على هذا المال محافظة عجيبة، ويبذل كل الوسائل الممكنة للذود عنه وحمايته.
وذلك لأنه ذاق طعم الفقر ومذلته، ثم إنه تعب في جمع هذا المال وتنميته، فليس من السهولة أن يفرط فيه، ويكره أن يعود للفقر بعد أن أخرجه الله منه، كما يكره أن يعود للكفر بعد إذ أنقذه الله منه.
أما أولاده وورثته، فتجد أن الكثير منهم لا يولي هذا المال ما يستحقه من عناية واهتمام، بل قد يعبث فيه حتى يصبح فقيرا.
وذلك أنه لم يعرف قيمة هذا المال، ولم يتعب في جمعه وكسبه، ولم يذق طعم الفقر كما ذاقه مورثه.
(ب) قيام الدول وسقوطها:
مما يلحظ بالاستقراء والتتبع أن الدول تكون إبان قيامها قوية مهابة، وتجد أن الأمراء والخلفاء يبذلون جهودا مضاعفة للمحافظة على الدولة، وتلافي جميع أسباب ضعفها.
ثم تأتي أجيال لم تساهم في قيام الدولة، وورثت الملك كما يرث الوارث المال، وهنا ينشغلون عن الدولة بمكاسبها، ويغفلون عن تبعاتها، وتبدأ الدولة في الضعف والتفكك حتى قد يئول الأمر إلى سقوطها.
ولذا فإن مجيء النصر دون تعب أو عناء قد يكون سبباً في عدم استمراره، وصعوبة المحافظة عليه، ومن هنا فقد تقتضي حكمة الله أن يتأخر النصر حتى يستوي الأمر ويوجد الرجال الذين يعرفون قيمة النصر، والثمن الذي يستحقه.
6- قد يكون في علم الله -جل وعلا- أن هؤلاء لو انتصروا لن يقوموا بتكاليف الانتصار، (1) من إقامة حكم الله في الأرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. وذلك أن الانتصار ليس مرادا لذاته، وإنما لما يتحقق منه، وهو إخماد الفتنة، وأن يكون الدين كله لله.
وهذا مما يفهم من قوله -تعالى-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(2) [سورة الحج، الآية: 40، 41]. وقد لا نعلم نحن سبب ذلك ولكن الله يعلمه.
وذلك أن هناك فئة من الناس تثبت في حالة الشدة والعناء، وتصمد في حالة المواجهة والبلاء ولكنها تضعف وتتقهقر في حالة النعم والرخاء والأمن.
وقوم هذه حالهم لا يستحقون النصر، والله أعلم بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
7- من أسباب تأخر النصر أن الباطل الذي يحاربه الدعاة لم ينكشف زيفه للناس تماما، فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه، ممن هم ليسوا على هذا الباطل، ولا يقرونه لو اكتشفوا حقيقته.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك قصة المنافقين، فكثير من الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يكونوا يعرفون عددا من أقطاب النفاق، بل إنهم يحسنون الظن بهم، ولذلك وجدنا من يدافع عنهم، حتى إن بعض كبار الصحابة من الأنصار كانوا يدافعون عن عبد الله بن أُبَيٍّ، لعدم معرفتهم بما كان عليه من الباطل وبخاصة في أول العهد المدني.
ولما جاء زيد بن أرقم وأخبر عن مقولة عبد الله بن أبي بن سلول في غزوة بني المصطلق، قال عمر بن الخطاب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم مر عباد بن بشر فليقتله، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم " فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا!! ولكن أذن بالرحيل "
إذن المنافقون في نظر كثير من الناس أصحاب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم لأن حقيقتهم لم تنكشف للناس، وحقيقتهم، (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(3) [سورة المنافقون، الآية: 4].
__________
(1) - هذا السبب يختلف عن الذي قبله فتأمل.
(2) - سورة الحج آية: 40-41.(1/148)
(3) - سورة المنافقون آية: 4.
ولذلك قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم لعمر في نهاية المطاف لما تكشفت حقيقة هؤلاء عند كثير من المسلمين: " كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم تقتله لقتلته قال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري "
فهذا الحديث يصور معنى هذا السبب الذي ذكرته أدقّ تصوير وبيان.
والدخول في معركة مع قوم لم تنكشف حقيقة أمرهم تماما، له آثاره السلبية على الأمة المسلمة، إذ أن بعض المسلمين سيقف في صف أولئك، كما وقف بعض الصحابة مع المنافقين.
كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة في قصة الإفك وجاء فيه:
" فقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت: فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري ( فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا بأمرك، قالت: فقام سعد بن عبادة -وهو سيد الخزرج- وكان رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك، ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير -وهو ابن عم سعد بن معاذ- فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
فثار الحيان، الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله، صلى الله عليه وسلم على المنبر، فلم يزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا، وسكت رسول الله، صلى الله عليه وسلم... " " الحديث (1).
وقد لا يقف بعض المسلمين مع هؤلاء، ولكن سيكون وقوفهم مع الدعاة ضعيفا ومترددا، لأنهم لم يتيقنوا أن هؤلاء على الباطل، مما يؤثر على المعركة التي يخوضها المسلمون ضد أعدائهم، وقد يؤدي إلى فرقة المسلمين وتأخر النصر.
8- ومن أسباب تأخر النصر، أن البيئة المحَارَبَة قد تكون غير صالحة بعد لاستقبال الحق والخير والعدل، مما يقتضي أمورًا تهيئها لذلك قبل الدخول معها في معركة، ومن ذلك بذل جميع الوسائل الشرعية لبيان أن هؤلاء القوم -المحاربين- على الباطل، ومحاولة إقناعهم ودعوتهم وبيان حقيقة الإسلام، وفساد ما هم عليه من باطل.
فإن هذا الأمر إن لم يكن سببًا في هدايتهم قبل المعركة فإنه وسيلة لمعرفة الحق، ومن ثم القبول به بعد المعركة، ولذا فإن الدعوة إلى الإسلام تسبق الدخول في المعركة.
9- ومن أسباب عدم الاستجابة لدين الله(2) أن عوامل النصر قد تتوافر بالنسبة للداعية، لكن هناك موانع تتعلق بالمدعوين - كالأمر السابق- ومن ذلك عدم تقدير الله هداية هؤلاء القوم، حيث كتب عليهم الضلالة، قال -سبحانه-: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً)(3) [سورة الرعد، الآية: 31]. وقال: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)(4) [سورة النحل، الآية: 36]. وقال -جل وعلا-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ)(5) [سورة المائدة، الآية: 41]. إلى غير ذلك من الآيات (6).
التنازل من أجل الانتصار
مما لفت نظري في واقع كثير من الدعاة والجماعات الإسلامية المعاصرة أنها قد تستبطئ النصر، وحرصا منها على دين الله، وتأثرا بكثرة الانتقادات التي توجه لها، لماذا لم تحقق أهدافها بالرغم مما تبذله من جهود، وما مضى من زمن، فإنها من أجل ذلك كله ولغيره من الأسباب قد تقدم بعض التنازلات للحصول على بعض المكاسب للدعوة.
وقد تنوعت صور هذه التنازلات وتعددت، وهم بين مقل ومكثر.
ولأن من أبرز أسباب هذا الأمر -كما ذكرت- هو الحرص لتحقيق الانتصار لدين الله، أو للدعاة وللجماعات (7) ولارتباطه الوثيق في موضوعنا، حيث أشرت إلى ذلك في أول هذا البحث.
فإنني سأقف وقفة مناسبة مع هذه القضية وسأحاول بيانها بإيجاز، نظرا لأن هذا الأمر يستحق بحثا مستقلا مفصلا، ولا أستطيع أن أقوم بذلك من خلال هذا البحث، ولعل الله أن يقيض له من يجليه.
__________
(1) - أخرجه البخاري (4141) ومسلم (2770).
(2) - واستجابة الناس انتصار لدين الله، حتى لو لم يكن هناك معركة وقتال "إذا جاء نصر الله والفتح".
(3) - سورة الرعد آية: 31.
(4) - سورة النحل آية: 36.
(5) - سورة المائدة آية: 41.
(6) - وانظر تفسير الطبري 30/331 تفسير سورة الكافرون لتجد كلاما جيدا.
(7) - وانتصار الداعية انتصار لدين الله، كما أن انتصار الدين نصر للداعية.(1/149)
وقد ذهبت أتأمل ما ورد في ذلك في كتاب الله -في ضوء منهجي في هذه الرسالة- فوقفت أمام ثلاث قضايا وردت في القرآن الكريم، عالجها القرآن، ورسم لنا من خلالها منهجا نسير عليه دون زلل أو خلل.
وسأذكر كل قضية، وأسلوب معالجتها، ثم أذكر في النهاية خلاصة ما توصلت إليه حول هذا الأمر، وأسأل الله التوفيق والسداد.
القضية الأولى: سبب نزول سورة الكافرون:
قال الإمام الطبري: حدثني محمد بن موسى الخرشي قال: ثنا أبو خلف، قال: ثنا داود، عن عكرمة عن ابن عباس، " أن قريشا وعدوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا، فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك ولنا فيها صلاح، قال: ما هي، قالوا: تعبد آلهتنا سنة، اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي، فجاء الوحي من اللوح المحفوظ " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " السورة، وأنزل الله: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) إلى قوله: (فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) " (1) [سورة الزمر، الآية: 64، 65، 66].
وقال الطبري: أيضا -حدثني يعقوب، قال حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني سعيد بن ميناء مولى البختري، قال: " لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خير مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت منه بحظك، فأنزل الله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) " [سورة الكافرون، الآية: 1]. حتى انقضت السورة (2).
إننا نجد في هذه الأسباب أن قريشا طلبت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم أن يتنازل لها، وتتنازل له حتى يلتقيا حول نقطة واحدة.
وقد يقول قائل: لو أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وافقهم على ذلك، وطلب منهم أن يبدأوا بعبادة الله أولا، فإنهم إذا عرفوا الإسلام لن يرجعوا عنه، وفي هذا تحقيق مكسب كبير للإسلام، وتحقيق انتصار، ورفع للبلاء الذي يلاقيه المسلمون.
والجواب أن الله قد حسم هذه القضية، (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)(3) وفي آخرها (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(4) [سورة الكافرون، الآية:6].
فالقضية قضية مبدأ، غير قابلة للمساومة ولا لتنازل قيد أنملة، فهذه مسألة من مسائل العقيدة، بل هي العقيدة نفسها.
ودفعا لأي احتمال أو طمع في هؤلاء قال -سبحانه-: (وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)(5) مرتين، فهو تأكيد حاسم، وخبر جازم من عند علام الغيوب، أنهم لن يعبدوا الله أبدا، لا في الحاضر، ولا في المستقبل، وكأن بعد إيمانهم كبعد استجابة الرسول، صلى الله عليه وسلم لمطلبهم، وهكذا كان، قال الإمام الطبري:
(وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)(6) فيما تستقبلون أبدا "ما أعبد" أنا الآن، وفيما أستقبل، وإنما قيل ذلك كذلك، لأن الخطاب من الله كان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه، فأمر نبيه، صلى الله عليه وسلم أن يؤيسهم من الذي طمعوا فيه، وحدثوا به أنفسهم، وإن ذلك غير كائن منه ولا منهم في وقت من الأوقات، وآيس نبي الله، صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم، ومن أن يفلحوا أبدا، فكانوا كذلك لم يفلحوا، ولم ينجحوا إلى أن قتل بعضهم يوم بدر بالسيف، وهلك بعض قبل ذلك كافرا، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاءت به الآثار.(7)
إن التأمل في هذه القضية، وكيف حسمها القرآن، يعطي من الدورس ما نحن بأمس الحاجة إليه، بل يرسم منهجا واضحا جليا في كيفية مواجهة أساليب كثير من أعداء الإسلام حاضرا ومستقبلا.
القضية الثانية: سبب نزول قوله -تعالى-: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)(8) [سورة الأنعام، الآية: 52].
__________
(1) - تفسير الطبري 3/331.
(2) - تفسير الطبري 30/331.
(3) - سورة الكافرون آية: 2.
(4) - سورة الكافرون آية: 6.
(5) - سورة الكافرون آية: 3.
(6) - سورة الكافرون آية: 3.
(7) - تفسير الطبري 3/331.
(8) - سورة الأنعام آية: 52.
قال الطبري -مسندا إلى ابن مسعود، قال: " مر الملأ من قريش بالنبي، صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد: أرضيت بهؤلاء من قومك، هؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا، أنحن نكون تبعا لهؤلاء، اطردهم عنك، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك، فنزلت هذه الآية: " وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ " " (1).(1/150)
وفي رواية أخرى قال الطبري -مسند إلى مجاهد- قال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)(2) بلال وابن أم عبد كانا يجالسان محمدا، صلى الله عليه وسلم فقالت قريش محقرتهما: لولاهما وأمثالهما لجالسناه، فنهي عن طردهم (3).
وفي رواية قال الطبري: حدثني القاسم، قال: ثنا حسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ)(4) الآية.
قال: " جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحرث بن نوفل، وقرضة بن عيد عمرو بن نوفل في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وخلفاءنا، فإنما هم عبيدنا، وعسفاؤنا، كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له، قال: فأتى أبو طالب النبي، صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، وإلام يصيرون من قولهم، فأنزل الله تعالى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) [سورة الأنعام، الآية: 51، 52].
فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر عن مقالته، فأنزل الله - تعالى-: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) " (5) [سورة الأنعام، الآية: 54].
وفي رواية أخرى للطبري عن خباب قال فيها:
فقال كفار قريش: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، ثم نزل قوله -تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(6)(7) [سورة الأنعام، الآية:52].
وقد وردت أحاديث أخرى، ولا يخلو بعضها من ضعف ولكن، يقوي بعضها بعضا فترتقي بمجموعها إلى درجة الحسن لغيره، ومعناها متقارب، وكلها تذكر سببا واحدا للنزول، ولكن في بعض هذه الروايات زيادات على بعض، ويؤكد هذه الروايات الحديث التالي:
من أصح ما ورد في هذا ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، عن إسرائيل، عن المقدام بن شريح، عن أبيه عن سعد هو ابن أبي وقاص، قال: " كنا مع النبي، صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي، صلى الله عليه وسلم اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا، قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله، صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل " وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ " " الآية (8)
وذكر ابن كثير في قوله -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ)(9) الآية، إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من الرسول، صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه، كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود، وليفرد أولئك بمجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك فقال: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(10) الآية، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء فقال: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ)(11) الآية (12) [سورة الكهف، الآية: 28].
إن الوقوف مع سبب نزول هاتين الآيتين يضع حدا لكثير من الاجتهادات التي يقدم عليها كثير من الدعاة والجماعات، وهم -ولا شك- يقدمون عليها حرصا على دينهم، ورغبة في انتصار الدين وظهوره، وتحقيقا لبعض الأهداف التي يسعون إليها.
ولكن الغاية -مهما كانت شريفة- فإنها لا تبرر الوسيلة.
تصوروا القضية هكذا:
__________
(1) - تفسير الطبري 7/ 200.
(2) - سورة الأنعام آية: 52.
(3) - انظر تفسير الطبري 7/202.
(4) - سورة الأنعام آية: 51.
(5) - انظر تفسير الطبري7/202 وهذا الحديث مرسل.
(6) - سورة الأنعام آية: 52.
(7) - انظر تفسير الطبري 7/201 وفي سنده السدي وهو ضعيف.
(8) - أخرجه مسلم (2413)، وانظر تفسير ابن كثير 3/80.
(9) - سورة الكهف آية: 28.
(10) - سورة الأنعام آية: 52.
(11) - سورة الكهف آية: 28.
(12) - انظر تفسير ابن كثير 3/80.(1/151)
لو أن جماعة من الجماعات الإسلامية، التي توجد في دول كافرة، وتسعى جاهدة للدعوة إلى دين الله، ونشر رسالة الإسلام، قالت لها تلك الدولة: نحن مستعدون للتفاوض معكم من أجل النظر في الاعتراف بكم، للدخول في الانتخابات مثلا، أو للحصول على بعض الامتيازات للدعوة، ولكن نشترط عليكم أن تبعدوا فلانا وفلانا من قيادتكم، وآخرين من جماعتكم، فإننا لا نعترف بجماعة فيها هؤلاء، والجماعة لا تنقم على هؤلاء الدعاة شيئا في أمر دينهم وعقيدتهم، ولم تكن تفكر في ذلك قبل هذا الطلب، ولكن الدولة لا تريدهم احتقارا لهم.
فيا ترى هل تصمد تلك الجماعة، وترفض الموضوع جملة وتفصيلا وتقول: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(1) [سورة البروج، الآية: 8]. أو تبدأ مناقشة ما يسمى بالمصلحة؟ وماذا يضير لو أبعد هؤلاء من أجل مصلحة الدعوة، وتحقيقا للمكتسبات المتوقعة، إلى غير ذلك من التبريرات؟ أظن. - بحكم معرفتي بواقع بعض الجماعات -أنها ستستجيب لهذه المساومات، وقد استجابت لأقل من ذلك.
بينما حسم القرآن هذه القضية منذ العهد المكي، ورسم لنا منهجا لا لبس فيه ولا غموض (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)(2) [سورة الأنعام، الآية: 52].
إنه أمر مخيف جدا، رسول الله، صلى الله عليه وسلم أفضل البشر، وإمام المرسلين، لو فعل هذا، وهو لن يفعله إلا من أجل مصلحة الدعوة، ورسالة الإسلام، لو فعله -وحاشاه من ذلك- سيكون من الظالمين.
ويبين لنا المنهج الذي نسلكه في مثل هذه الطلبات والمساومات، عندما تبدو لنا قضية المصلحة: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(3) [سورة الكهف، الآية: 29]. الآية.
هذا واجبنا، وتلك مسئوليتنا، أن نقول الحق، أما هل يؤمن الناس أو يكفروا فليس لنا (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً)(4) إن القضية عندما تتعلق بالمبادئ فلا مجال للمفاوضة ولا للتنازل، والمسألة محسومة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(5) [سورة الكافرون، الآية: 6].
القضية الثالثة: ما ورد في سورة الفتح: قال ابن كثير: نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام، فيقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا، ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك: على تكره من جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب (
وقد وردت قصة الصلح في روايات عديدة، منها في الصحيحين وغيرهما. وهي قصة طويلة سأقتصرعلى جزء يسير منها مما له صلة بموضوعنا، وهو مما ثبت في الصحيح.
1- جاء في صحيح البخاري: " فدعا النبي، صلى الله عليه وسلم الكاتب (6) فقال النبي، صلى الله عليه وسلم اكتب: ( فقال سهيل (7) أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم، كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا ( فقال النبي، صلى الله عليه وسلم اكتب: باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله " (8).
2- ومما جاء في الصلح: " وإنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنها فتدخلها بأصحابك " (9).
3- وجاء -أيضا-: " على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليه، ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه " (10).
هذا بعض ما ورد في الصلح، ولذلك فإن عمر لما بلغه عزم الرسول، صلى الله عليه وسلم على عقد الصلح ولم يبق إلا الكتاب غضب غضبا شديدا وذهب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، أولسنا بالمسلمين، أوليسوا بالمشركين؟ " قال صلى الله عليه وسلم بلى، قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا؟ فقال، صلى الله عليه وسلم أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني " (11)
__________
(1) - سورة البروج آية: 8.
(2) - سورة الأنعام آية: 52.
(3) - سورة الكهف آية: 29.
(4) - سورة الرعد آية: 31.
(5) - سورة الكافرون آية: 6.
(6) - وهو علي بن أبي طالب.
(7) - سهيل بن عمرو رئيس المفاوضين من قريش.
(8) - أخرجه البخاري (2731، 2732).
(9) - مسند الإمام أحمد 4/330 وانظر تفسير ابن كثير 4/196.
(10) - مسند الإمام أحمد 4/330 وانظر تفسير ابن كثير 4/196.
(11) - انظر المصدر السابق وتفسير ابن كثير 4/196.(1/152)
إن هذا الصلح الذي اعتبره عمر ( دنية في دينه، ومع ما قد يبدو لأول وهلة من صعوبة القبول في بعض الشروط التي كتبت، وبخاصة في نظر المتحمس، هذا الصلح بشروطه سماه الله فتحا مبينا، قال ابن مسعود: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية.
وقال جابر: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية. وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء ( قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، وفي مسند أحمد: فقال النبي، صلى الله عليه وسلم " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) " [سورة الفتح، الآية: 1].
وفي رواية أخرى لأحمد عن أنس ( قال: نزلت على النبي، صلى الله عليه وسلم (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)(1) [سورة الفتح، الآية: 2]. مرجعه من الحديبية، قال النبي، صلى الله عليه وسلم " لقد نزلت على الليلة آية أحب إلي مما على الأرض، ثم قرأها، صلى الله عليه وسلم " (2).
إننا نجد في هذه القضية أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم وافقهم على عدة أمور أهمها:
1- أن يكتب باسمك اللهم، بدلا من بسم الله الرحمن الرحيم.
2- أن يكتب: محمد بن عبد الله، بدلا من: محمد رسول الله.
3- أن يؤخر دخول مكة إلى العام القادم.
4- أن يرد من جاء من المشركين مسلما دون إذن وليه، مع أنهم لن يردوا من جاء إليهم مشركا. بل إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال للصحابة عندما احتج بعضهم على هذه الشروط: " لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " رواه البخاري (3).
ولو دققنا النظر في هذه الأمور التي أجابهم إليها رسول الله، لوجدنا أنها لا تتعلق بالعقيدة ولا بالمبدأ، وفرق كبير بينها وبين ما سبق في سورة (الكافرون). وسورة (الأنعام)، وليس فيها اعتراف بالباطل أو إقرار له.
كيف وقد سمى الله هذا الصلح: (فَتْحاً مُبِيناً)(4) ولنقف مع هذه المطالب الأربعة، وقفة يسيرة موجزة، تبين ذلك.
فكتابة "باسمك اللهم" ليس فيها محذور شرعي، فلو أن مسلما قال: باسمك اللهم، وهو لا يعتقد تأويل أو نفي اسم الرحمن الرحيم ولا صفته، فإنه لا يأثم.
وأما: كتابة محمد بن عبد الله، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله، وقد نفى، صلى الله عليه وسلم أي احتمال قد يتطرق إلى الأذهان، فقال لهم: " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني " فإذا انتفى اللبس جاز الأمر.
وأما رجوعهم هذا العام إلى العام المقبل، فهذه قضية مصلحية تقدر بقدرها، بل إن فيها عدم استجابة للعواطف الجياشة إذا كان سيترتب على هذه الاستجابة مفسدة.
وكم من التصرفات يقوم بها بعض الناس استجابة لعاطفة غير منضبطة تسبب مفاسد عظيمة، قد لا تقدر المفسدة أثناء العاطفة.
وقضية إعادة من جاء مسلما إلى المشركين. قد تبدو مجحفة، وهذه هي النظرة العجلى، أما النظرة المتأنية والبعيدة، والتي تتجاوز مصلحة الأفراد إلى مصلحة الأمة، بل هي في مصلحة الأفراد أنفسهم، فلا يلزم أن يقبلهم المسلمون فأرض الله واسعة، يدل على ذلك قوله، صلى الله عليه وسلم لأبي جندل: " يا أبا جندل: اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا " الحديث. (5).
وقوله لأبي بصير لما جاءه في المدينة: " ويل أمة مسعر حرب لو كان معه أحد " (6).
وهكذا كان فقد كان ردهما بداية فتح عظيم للمسلمين.
وبعد:
هذه هي القضايا التي ذكرت أنني سأبين منهج القرآن فيها، وقد فعلت، وهنا آتي لخلاصة الموضوع ونتيجته، فأقول:
إن مفهوم التنازل قد اختلط على كثير من الدعاة والجماعات، وكل منهم يتمسك بدليل يناسبه، دون نظرة شمولية، فنحن بين إفراط وتفريط، والموضوع يحتاج -كما ذكرت سابقا- إلى دراسة شاملة مؤصلة، تجمع فيها الأدلة، وتعرض الوقائع والأحوال، مما يساعد على حسم الموضوع وبيانه.
ومن خلال ما سبق فقد اتضح لي ما يلي:
أولا: لا يجوز التنازل عن أمر يتعلق بأصل من أصول الإسلام، أو مبدأ من مبادئه، أو حكم من أحكامه التي حسمها الكتاب والسنة، أو أجمع عليها المسلمون.
ثانيا: أما مسائل الاجتهاد، ووسائل الدعوة ومراحلها، والسياسات الشرعية، فتراعى فيها القواعد، الشرعية الكلية العامة، كقاعدة، درء المفاسد وجلب المصالح، وقاعدة سد الذرائع، وقواعد وأصول: المصالح المرسلة والاستحسان، وغيرها من القواعد المعروفة.
وذلك لا يكون إلا من العلماء المتبحرين، الذين يسوغ لهم الاجتهاد.
__________
(1) - سورة الفتح آية: 2.
(2) - انظر مسند الإمام أحمد. وتفسير ابن كثير 4/182.
(3) - أخرجه البخاري (2731، 2732).
(4) - سورة الفتح آية: 1.
(5) - رواه أحمد 4/325 انظر تفسير ابن كثير 4/197.
(6) - رواه أبو داود (2765)، وانظر تفسير ابن كثير 4/199.(1/153)
وأخيرا أقول: إن حرصنا على نصر دين الله، وشدة محبتنا لظهوره على الدين كله يجب ألا تكون مخرجة لنا عن الالتزام بالمنهج الشرعي، فإن الغاية لا تبرر الوسيلة.
صور النصر العاجل والآجل في القرآن
جاء النصر في القرآن على عدة صور، أشرت إليها سابقا، ولكن أحببت أن أذكرها مجتمعة باختصار؛ لتكون واضحة أمام الدعاة، ولئلا يتعجلوا وعد الله، فكل شيء عنده بمقدار، فلا يعجله حرص حريص، ولا يردّه كره كاره، وهو العليم الحكيم.
1 -من الأنبياء من أذاه قومه، فنصره الله عليهم، فأهلكهم وأقام الدين في حياته، كموسى ومحمد، عليهما أفضل الصلاة والسلام.
2- ومنهم من ولاه الله الملك - وهذا نصر عظيم- كداود وسليمان، عليهما السلام.
3- ومنهم من أذاه قومه ولم يؤمنوا به، سوى قليل منهم فنجاه الله ومن معه، وأهلك عدوه، ثم لم يبين لنا القرآن ماذا حدث للنبي بعد ذلك، أي: هل آمن به قوم آخرون، أو بقي على من آمن معه ومن آمن من ذرياتهم، كنوح وهود وصالح ولوط.
4-ومنهم من قتله قومه، أو حاولوا قتله، فانتقم الله له بعد حين، كيحيى وعيسى، ومن أرسل لأصحاب القرية (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)(1) [سورة يس، الآية: 29].
5- ومنهم من يئس من قومه فتركهم، فعاقبه الله، ثم عفا عنه، ولما عاد إليهم، نصره الله نصرا مؤزرا، وظهر الدين وهو يونس (2).
6- ومن الدعاة من قتله قومه فآمن به بعض قومه فقتلوا وحرّقوا، ولكن لا نعلم ماذا حل بهؤلاء القتلة، سوى أن الله دعاهم للتوبة، وتوعدهم إن لم يتوبوا بعذاب جهنم وعذاب الحريق في الآخرة.
وهؤلاء هم أصحاب الأخدود (3)
ولا يعنى هذا أنهم لم ينصروا في الدنيا، فقد بينت أوجه النصر عند ذكر قصتهم.
إن استحضار هذه الصور في ذهن الداعية عامل مساعد في تخطي الصعاب، وتجاوز العقبات الحسية والمعنوية، وتزيد من إيمان الداعية بربه في تحقق موعوده، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(4) [سورة يوسف، الآية: 21].
وقفة مع قصة يونس عليه السلام.
قال الله -سبحانه وتعالى-: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)(5) [سورة القلم، الآية: 48]. لقد وردت قصة يونس، عليه السلام، في القرآن في عدة مواضع، منها في سورة الأنبياء:
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(6) [سورة الأنبياء، الآية: 87].
وأطول قصة له وردت في الصافات (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)(7) [سورة الصافات، الآيات: 139-148]. ووردت في سورة القلم: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)(8) [سورة القلم، الآيات: 48 - 50]. قد وردت قصة يونس بروايات متعددة، واختلف المفسرون حول سبب تركه لقومه، ومعنى قوله -تعالى-: (إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً)(9) على قولين:
1- قيل ذهب مغاضبا لربه.
2- قيل ذهب مغاضبا لقومه.
وقد روى الطبري عن ابن عباس والضحاك أنه ذهب مغاضبا لقومه.
وروى عن الشعبي، وسعيد بن أبي الحسن، وسعيد بن جبير أنه ذهب مغاضبا لربه.
وقد رجّح الإمام الطبري بعد ذكر عدة روايات، أنه ذهب مغاضبا لربه، فقال:
وهذا القول -أعني قول من قال إنه ذهب مغاضبا لربه- أشبه بتأويل الآية، وذلك لدلالة قوله: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)(10) على ذلك، على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبي من الأنبياء ربه، واستعظاما له، وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم مما أنكروا. (11)
__________
(1) - سورة يس آية: 29.
(2) - هناك خلاف حول سبب تركه لقومه سيأتي بيانه بعد صفحات.
(3) - انظر كتاب معالم في الطريق ص180، وفي ظلال القرآن تفسير سورة البروج 6/3873.
(4) - سورة يوسف آية: 21.
(5) - سورة القلم آية: 48.
(6) - سورة الأنبياء آية: 87.
(7) - سورة الصافات آية: 139.
(8) - سورة القلم آية: 48-50.
(9) - سورة الأنبياء آية: 87.
(10) - سورة الأنبياء آية: 87.(1/154)
(11) - انظر تفصيل ذلك في تفسير الطبري 17/76.
والذي يعنينا -هنا- أن يونس، عليه السلام، سواء كان قد ذهب مغاضبا لربه أو لقومه، فإنه قد استعجل الأمر، ولم يصبر كما قال -تعالى- لمحمد، صلى الله عليه وسلم (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)(1) فإنه لم يصبر، وسواء كان، عليه السلام، استعجل إيمانهم أو استعجل العذاب لهم (2) لأنهم قد كذبوه، والإيمان انتصار، وتعذيب المكذبين انتصار للداعية، فإنه قد استعجل الانتصار، عليه السلام، ولذلك عاقبه الله، بأن ابتلعه الحوت، وهو مليم، أي: مذنب.
ولكن الله عفا عنه وكفر له بعد أن نادى في الظلمات واعترف بذنبه، عليه السلام، بل اجتباه ربه فجعله من الصالحين.
فلما رجع إلى قومه بأمر من الله، آمنوا كلهم، (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)(3) [سورة الصافات، الآيتان: 147، 148]. وهذا من أعظم الانتصار.
قال الإمام الطبري في تفسير قوله -تعالى-: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)(4) [سورة القلم، الآية: 48]. يقول -تعالى- ذكره لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم فاصبر يا محمد لقضاء ربك وحكمه فيك، وفي هؤلاء المشركين، بما أتيتهم به من القرآن وهذا الدين، وامض لما أمرك به ربك، ولا يثنينك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه تكذيبهم إياك وأذاهم لك.
(وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)(5) قال قتادة: لا تعجل كما عجل، ولا تغضب كما غضب، "وهو مذموم" أي: مذنب أو مليم.
قال الطبري: أي لا تكن كصاحب الحوت فيعاقبك ربك على تركك تبليغ ذلك، كما حبس يونس في بطن الحوت (6).
إنه أمر عظيم حري بالدعاة أن يفقهوه.
وقفات مهمة
أولا: إذا فهم الداعية حقيقة الانتصار، فإن هذا لا يعني أن يتساهل الداعية في أمر الدعوة، وفي السعي الحثيث لإزالة المنكرات، والجد في محاولة هداية الناس، وذلك أن الشيطان قد يوسوس له فيقول:
أنت مهمتك البلاغ، أما النتائج فليست لك -وهذا حق- فإذن لماذا تحزن أو تتعب نفسك فيما ليس لك. ثم يوسوس له أن هؤلاء الناس لا خير فيهم، ويكفي أنك بيّنت مرة أو مرتين، أو ثلاثا، فإذا لم يستجيبوا فإنك معذور، ولا داعي للاستمرار والإصرار، لأن جهودك ضائعة، ولو استفدت من وقتك في غير هذا الأمر لكان أحسن.
ثم يبدأ الداعية يتراخى شيئا فشيئا، حتى يترك الدعوة وينعزل عن الناس وشأنهم وليس هذا هو المراد، ولكن إدراك حقيقة الانتصار يزيد من حماس الداعية -مع الانضباط- سعيا وراء تحقيق هذا المطلب الذي عز مناله، سواء أكان انتصارا ظاهرا لدين الله، أو كان انتصارا للداعية نفسه -كما سبق تفصيله-.
وعلى الداعية أن يحزن ويفرح، ولكن لا بد أن يكون حزنه وفرحه إيجابيا فعالا.
فحزنه يزيد من حرصه وإصراره على إنقاذ أمته، وهداية قومه، وتعبيد الناس لله جل وعلا.
وفرحه يقوي عزيمته ويشد من أزره للمضي قدما في تحقيق أهدافه متلذذا بنشوة الانتصار وحب الخير للناس.
ثانيا: كل داعية يجب أن يرسم لنفسه منهجا يسير عليه ويحدد أهدافا يسعى لتحقيقها، يستمد ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مراعيا حاجة المجتمع الذي يعيش فيه، والواقع الذي يعاصره ولكن بعض الدعاة عندما يسير زمنا في دعوته، ثم يرى ما تحقق على يديه، فيلحظ أنه لم تتحقق الأهداف التي رسمها، ولكن تحقق جزء منها، يشعر أنه فشل في مهمته، وخسر في دعوته، فييئس ثم يتوقف.
وهذا أمر خطير، فإذا كان بعض الأنبياء لم يتحقق على أيديهم هداية رجل واحد، ومع ذلك لم يشكوا في دعوتهم أو يتوقفوا في طريقهم، فكيف برجل ليس نبيا، ومع ذلك حقق بعض ما يدعو إليه؟! ولذلك فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي: " فوالله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " (7). يدل علي أن هداية رجل واحد انتصار عظيم للداعية، فكيف يكون الداعية مثاليا، إما كل شيء، أو لا شيء؟!
ولذلك فإن كلمة سيد -رحمه الله- "خذوا الإسلام جملة أو دعوه". تحتاج إلى تفصيل، ولا تؤخذ على إطلاقها، فبعض وجوه معانيها حق، وهناك وجوه أخرى فسرت بها هذه الكلمة، يستشهد بها بعض الدعاة، مما يخالف المنهج الصحيح.
__________
(1) - سورة القلم آية: 48.
(2) - انظر تفسير الطبري 17/76 وما بعدها.
(3) - سورة الصافات آية: 147-148.
(4) - سورة القلم آية: 48.
(5) - سورة القلم آية: 48.
(6) - انظر تفسير الطبري 29/44.
(7) - أخرجه البخاري (2942) مسلم، (2406).(1/155)
ثالثا: من أهم أنواع الانتصار هو الانتصار على النفس بل لا يمكن أن يتحقق له أي نوع من أنواع النصر إلا إذا انتصر على نفسه وشهواتها (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(1) [سورة آل عمران، الآية: 165]. (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(2) [سورة النازعات، الآيتان: 40، 41]. (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)(3) [سورة النساء، الآية:79]. (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(4) [سورة المائدة، الآية: 30]. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(5) [سورة الرعد، الآية: 11]. إلى غير ذلك من الآيات.
ومن هنا فإذا تأخر النصر فلنبدأ في بحثنا عن سبب ذلك من أنفسنا، فمِن مأمنه يؤتى الحذر.
الخاتمة
وبعد أن عشنا (6) مع هذا الموضوع وعايشناه، نصل إلى خاتمة المطاف فأقول:
مما سبق اتضح لنا أن حقيقة انتصار الداعية تتمثل فيما يلي:
1- التجرد لله والإخلاص له (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)(7) [سورة الأنعام، الآيتان: 162، 163]. وقال سبحاله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(8) [سورة البينة، الآية: 5]. والعمل الذي لا يصاحبه الإخلاص حري بالرد وعدم القبول.
2- سلامة المنهج، وهو أن يكون وفق ما كان عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، وهو منهج الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله، قال -سبحانه-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(9) وقال صلى الله عليه وسلم " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " وقال: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي " (10).
3- الالتزام التام بما يدعو إليه والثبات على الطريق حتى يلقى الله، قال -سبحانه-: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(11) [سورة الزخرف، الآية: 43]. وقال: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)(12) [سورة لقمان، الآية: 22]. وقال: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)(13) [سورة البقرة، الآيتان: 44، 45]. فالثبات على الطريق، من أقوى عوامل النصر وعلاماته.
بل إن صاحب الباطل إذا ثبت على باطله فغالبا ما ينتصر (14) فكيف بمن هو على الحق المبين؟.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 165.
(2) - سورة النازعات آية: 40-41.
(3) - سورة النساء آية: 79.
(4) - سورة المائدة آية: 30.
(5) - سورة الرعد آية: 11.
(6) - أنا والقراء.
(7) - سورة الأنعام آية: 162-163.
(8) - سورة البينة آية: 5.
(9) - سورة الأنعام آية: 153.
(10) - رواه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني في صحيح الجامع رقمه 2937.
(11) - سورة الزخرف آية: 43.
(12) - سورة لقمان آية: 22.
(13) - سورة البقرة آية: 44-45.
(14) - أي يحقق أهدافه في الدنيا.
4- الصدع بالحق، وعدم المداهنة أو الخوف من غير الله قال-تعالى-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ)(1) [سورة الحجر، الآيتان: 94، 95]. وقال: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(2) [سورة الكهف، الآية: 29]. وقال -سبحانه- (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(3) [سورة المائدة، الآية: 67]. وقال: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ)(4) [سورة آل عمران، الآية:187]. وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)(5) [سورة المائدة، الآية: 8]. إلى غير ذلك من الآيات التي توجب الصدع بالحق والدعوة إليه.(1/156)
5- الصبر وعدم اليأس والإيقان الجازم بوعد الله ونصره لعباده (6) قال -سبحانه-: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)(7) [سورة الصافات، الآيات: 171، 172، 173]. وقال: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)(8) [سورة غافر، الآية: 51]. وقال: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)(9) [سورة يونس، الآية: 110]. وقال: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(10) [سورة يوسف، الآية: 87]. وقال: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)(11) [سورة الأحقاف، الآية: 35]. وقال: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)(12) [سورة القلم، الآية: 48]. وقال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)(13).
(وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(14) [سورة الروم، الآية: 60]. وقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)(15) [سورة السجدة، الآية: 24]. وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(16) [سورة آل عمران، الآية: 200].
فإذا تحققت هذه المقومات، جاء النصر، فوعد الله لا يتخلف أبدا، بل إن تحقق هذه الأركان في فرد أو جماعة نصر عظيم، وما يأتي بعد ذلك من نصر هو أثر من آثار هذا الانتصار.
__________
(1) - سورة الحجر آية: 94-95.
(2) - سورة الكهف آية: 29.
(3) - سورة المائدة آية: 67.
(4) - سورة آل عمران آية: 187.
(5) - سورة المائدة آية: 8.
(6) - ذكر الطبري وابن كثير أن ابن جريج قال إن موسى عليه السلام -لما دعا على فرعون بقوله: (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم). قال الله تعالى: (قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون). [سورة يونس، الآية: 89.] قال ابن جريج: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، قبل أن يهلكه الله بالغرق. انظر تفسير الطبري 11/161 وتفسير ابن كثير 2/429.
(7) - سورة الصافات آية: 171-172-173.
(8) - سورة غافر آية: 51.
(9) - سورة يوسف آية: 110.
(10) - سورة يوسف آية: 87.
(11) - سورة الأحقاف آية: 35.
(12) - سورة القلم آية: 48.
(13) - سورة الروم آية: 60.
(14) - سورة الروم آية: 60.
(15) - سورة السجدة آية: 24.
(16) - سورة آل عمران آية: 200.
وختاما: نقول: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(1) [سورة البقرة، الآية: 250]. (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(2) [سورة آل عمران، الآية: 8]. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(3) [سورة آل عمران، الآية: 147]. (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(4) [سورة البقرة، الآية: 286].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 250.
(2) - سورة آل عمران آية: 8.
(3) - سورة آل عمران آية: 147.
(4) - سورة البقرة آية: 286.
====================
مواصفات جيل التمكين
د. أحمد بلوافي
1 - بين يدي الموضوع:
عند العودة إلى كتاب الله نجد أن كلمة مكَّن ومشتقاتها وردت في ما يقرب من العشرين آية (16 آية)، اثنتا عشرة آية منها دار مدلول الكلمة فيها حول المعنى الذي نريده؛ وهو أن يجعل الله سبحانه الممكن لهم خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة عليهم ولهم تخضع البلاد والعباد، وتصلح في حال تولي المؤمنين[1][1] .(1/157)
ومن شأن هذا الأمر أن يسمح للممكن لهم أن تكون لهم اليد الطولي وبسط نفوذهم على من يقع تحت إمرتهم أو إشرافهم، فيستطيعوا من خلال ذلك الموقع فرض أنظمتهم وسن قوانينهم فيسايرهم في ذلك أمماً طوعاً أو كرهاً من يقع تحت دائرة تأثيرهم.
ومن خلال استعراض الآيات في كتاب الله يتضح هذا الأمر بكل جلاء، ويمكن تقسيم هذا الاستعراض إلى أربعة أقسام:
1 - التمكن لنبي الله يوسف عليه السلام، قال تعالى: ]وكذلك مكنا ليوسف في الأرض[ [يوسف: 21]، وقال عز من قائل: ]وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين[ [يوسف: 56].
2 - التمكين لذي القرنين، قال تعالى: ]ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكراً، إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً[ [الكهف: 84]، وقال سبحانه: ]قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينه ردماً[ [الكهف: 95].
3 – التمكين للذين كفروا، نذكر منه على سبيل المثال بعض الآيات، قال سبحانه وتعالى في سورة الأعراف، الآية العاشرة بعد أن أقسم جل وعلا أنه سيسأل المرسلين والأقوام الذين أرسلوا فيهم: ]ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون[، وقال في سورة الأنعام [6]: ]ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين[، وقال سبحانه في سورة القصص [57]: ]وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء[، وغير ذلك من الآيات.
4 - التمكين للمؤمنين أو الوعد لهم بذلك، قال سبحانه عن أصحاب موسى عليه السلام: ]وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها[ [الأعراف: 137]، وقال في سورة القصص [5 – 6]: ]ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونُمكن لهم في الأرض[، وقال لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والذين يأتوا من بعدهم: ]وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأمر كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً[ [النور: 55]، وقال في سورة الحج [41]: ]الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور[.
هذه معظم المواطن التي وردت فيها كلمة مكَّن ومشتقاتها وتلك هي معانيها وكلها تدور، كما ذكرنا سابقاً، حول إمامة الناس والتولي عليهم وإخضاعهم لسلطة ونفوذ الأقوام الممكن لهم. ولنا كلمة أو وقفة حول الوعد بالتمكين للمؤمنين حيث أنه عند استعراض الآيات التي يتعلق أمر التمكين فيها للمؤمنين نجد أن الله يتحدث على ما بعد التمكين وما يجب أن يكون عليه أمر الفئة المُمَكَّن لها، وهو الأمر الخطير، وذلك لأن النفوس في حال النصر والتمكين والظفر برقاب الناس قد يخالط سويداء قلوبها ما يجعلها تتكبر على الخلق وتنتقم منهم، فاقتضى المقام التنبيه على ذلك، كما قال موسى عليه السلام لقومه المستضعفين: ]عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون[، وتذكير المؤمنين أن تمكينهم يختلف عن تمكين غيرهم، فهم يمثلون مبدأ ورسالة سماوية وليس منهجاً أرضياً، وهم فوق ذلك مؤتمنون عليها، فهذا الذي ائتمنهم - وهو الله جل جلاله - يقول لهم: هذا هو الحال الذي أطلب منكم أن تكونوا عليه عند حصول التمكين لكم.
ونحن نتطلع إلى ذلك اليوم الذي يعز الله فيه الإسلام وجنده، ويخذل الشرك وأهله، يجب علينا أن نضع هذه المعاني نصب أعيننا حتى نزيل العوائق التي تحول بين هذا الواقع المشرق المضيء وبين واقع الذل والهوان الذي نتجرع كؤوسه كل يوم.
2 - بين الوعد والتهديد:
وعد الله الذين آمنوا بالنصر والتمكين ثم الظفر بأعدائهم في آيات كثيرة من كتابه العزيز، والله لا يخلف وعده، فإذا ما تخلف هذا الوعد وتأخر فعلى المؤمنين أن يراجعوا مسيرتهم وأن يتهموا أنفسهم ليكتشفوا المثالب والأخطاء التي وقعوا فيها حتى يتجنبوها، ويجب عليهم أن يقتلعوها من جذورها حتى لا تألفها النفوس وتعتاد على العيش في مستنقعها الآسن [كما هو واقعنا اليوم فإلى الله المشتكى].
فالحق جل في علاه يقول: ]إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد[، ]وكان حقاً علينا نصر المؤمنين[، ]والعاقبة للمتقين[، ]واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفين في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره[، ]وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب[، وغير ذلك مما هو مبسوط في كتاب الله، أو مبين في سنة رسوله عليه السلام.
هذا الرب الرحيم الودود الذي قطع على نفسه هذا الوعد، هو الذي هدد من يتقاعس أو يتوانى أو يرتد عن نصرة هذا الدين بالاستبدال في حال الإقدام على هذه الأمور الذميمة.(1/158)
فقال في سورة المائدة [54]: ]يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم – إلى قوله – والله واسع عليم[.
وقال في سورة التوبة: ]قل إن كان آباؤكم – إلى قوله – والله لا يهدي القوم الفاسقين[، وقال: ]يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله – إلى قوله – والله على كل شيء قدير[.
وقال في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: ]ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني - إلى قوله - ثم لا يكونوا أمثالكم[، قال القرطبي: "أي في الجهاد وطرق الخير".
وبالعودة إلى أسباب النزول وبعض ما تضمنته هذه الآيات من أحكام نجد ما يلي:
1 - ذكر المفسرون عند آيات سورة المائدة بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين ما سيقع في هذه الأمة من ارتداد بعض الطوائف عن الإسلام، وذلك لأن هذه الآية كانت من أواخر ما نزل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حول هذه الآية وما قبلها في سورة المائدة: "فالمخاطبون بالنهي عن موالاة اليهود والنصارى هم المخاطبون بآية الردة، ومعلوم أن هذا يتناول جميع قرون الأمة، وهو سبحانه لما نهى عن موالاة الكفار، وبين أن من تولاهم من المخاطبين فإنه منهم؛ بين أن من تولاهم وارتد عن دين الإسلام لا يضر الإسلام شيئاً، بل سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، فيتولون المؤمنين دون الكفار، ويجاهدون في سبيل الله؛ لا يخافون لومة لائم - إلى أن قال - فهؤلاء الذين لم يدخلوا في الإسلام، وأولئك الذين خرجوا منه بعد الدخول فيه؛ لا يضرون الإسلام شيئاً، بل يقيم الله من يؤمن بما جاء به رسوله وينصر دينه إلى قيام الساعة" [من وسائل دفع الغربة، ص 63 - 64].
2 - آيات سورة التوبة، جاءت عقب النهي عن موالاة الآباء والإخوة الكفار وختم ذلك بقوله: ]والله لا يهدي القوم الفاسقين[، يقول الألوسي رحمه الله: "أي الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين وتقديم محبة من ذكر على محبة الله عز وجل ورسوله..." اهـ.
3 – ]يستبدل قوماً غيركم[، "وصفهم بالمغايرة لهم لتأكيد الوعيد والتشديد في التهديد بالدلالة على المغايرة الوصفية والذاتية المستلزمة للاستئصال، أي قوماً مطيعين، مؤثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامكم وهم أبناء فارس كما قال سعيد بن جبير، أو أهل اليمن، كما روي عن أبي روق، أو ما يعم الفريقين كما اختاره بعض المحققين" [نفس المرجع: ص 133].
4 - آية التوبة: ]يا أيها الذين آمنوا مالكم...[، قال ابن عطية: "ولا اختلاف بين العلماء في أن هذه الآية نزلت عتاباً على تخلف من تخلف عن غزوة تبوك..." اهـ.
يتبين من خلال الجمع بين هذه النصوص؛ نصوص الوعد ونصوص التهديد أن أمر التمكين والظفر بالأعداء لا يستحقه كل من انضوى تحت مسمى الإيمان وهو مع ذلك راكد لا تهز كيانه ولا تحرك مشاعره ووجدانه نداءات الوحي ومتطلبات الإيمان. كلا، إن هذا الأمر لا يستحقه إلا من تخلى عن الصفات الذميمة التي ذكرها الله في معرض التهديد، واتصف بالصفات الإيجابية التي ذكرت في تلك الآيات أو في غيرها، وإليك أخي الكريم بيان موجز لبعض تلك الصفات التي نسأل الله أن يوفقنا لامتثالها في حياتنا وفي أنفسنا حتى يغير الله ما بنا من واقع الذل والهوان.
3 - بعض المواصفات: يصعب حصر تلك الصفات وتناولها بشيء من التفصيل في مثل هذا الحيز المتاح، وما سيرد ذكره هو على سبيل المثال ومما استدعى المقام الإشارة إليه لأهميته وتذكير أنفسنا به.
أ - أولى هذه المواصفات: أنه جيل يحب الله ويحبه الله.
قال تعالى: ]فسوف يأتي الله بقوم يحبهم الله ويحبونهم[، وهذه أول صفة ذكرها الله في معرض تهديد من ارتد عن الإسلام، وبالعودة إلى الآيات التي ذكرناها سابقاً نجد أن هذه الصفة من أهم الخصال التي يجب أن يتحلى بها يريد أن يحقق الله على يديه أمر إعزاز الإسلام والمسلمين.
فتقديم محاب الله ورسوله على الأمور التي جبل الإنسان على محبتها مثل المال والولد والزوج والعشيرة أو النفس أو غيرهما دلالة كذلك على صدق هذه المحبة ومحك لاختبار دعوى من يتشدق بها. ]ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً[ لماذا؟ ]إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً[.
ولهذا نقل عن السلف قولهم أن قوماً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعوا محبة الله فاختبرهم الله جل وعلا بقوله في سورة آل عمران: ]قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله[ [آل عمران: 31]، وتسمى هذه الآية آية المحنة لامتحانها القلوب في ادعائها هذا.
ومحبة الله عبده رضاه عنه وتيسير الخير له، ومحبة العبد ربه انفعال النفس نحو تعظيمه والأنس بذكره وامتثال أمره والدفاع عن دينه [ابن عاشور: 236].(1/159)
وإننا في هذه الأيام وفي هذه الديار لفي أشد الحاجة إلى تذكير هذه المعاني والعمل بمقتضاها وترك ما ينافيها وذلك بعرض أعمالنا وأقوالنا على المحجة البيضاء التي تركنا عليها خير الورى.
وسنعيش لحظات مع بعض المعاني والآثار التي أوردها ابن القيم رحمه الله في كتابه الرائع (مدارج السالكين) وذلك بتناول الأمور التالية:
1 - أهمية المحبة: وهي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
وهي سمة هذه الطائفة المسافرين إلى ربهم، الذين ركبوا جناح السفر إليه، ثم لم يفارقوه إلى حين اللقاء، وهم الذين قعدوا على الحقائق، وقعد من سواهم على الرسوم.
وهي عنوان طريقتهم ودليلها، فإن العنوان يدل على الكتاب، والمحبة تدل على صدق الطالب، وأنه من أهل الطريق.
كما إنها "معقد النسبة" أي النسبة التي بين الرب وبين العبد، فإنه لا نسبة بين الله وبين العبد إلا محض العبودية من العبد والربوبية من الرب، وليس في العبد شيء من الربوبية، ولا في الرب شيء من العبودية، فالعبد عبد من كل وجه، والرب تعالى هو الإله الحق من كل وجه.
ومعقد نسبة العبودية هو المحبة، فالعبودية معقودة بها، بحيث متى انحلت المحبة انحلت العبودية، والله أعلم.
وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبداً واصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائماً إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله - يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة - : أن المرء مع من أحب، فيالها من نعمة على المحبين سابغة.
ومضى يقول رحمه الله:
فلو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان، ولتعطلت منازل السير إلى الله، فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل، فإذا خلا منها فهو ميت لا روح فيه، ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها، بل هي حقيقة الإخلاص، بل هي نفس الإسلام، فإنه الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله، فمن لا محبة له لا إسلام له ألبتة، بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، فإن "الإله" هو الذي يألهه العباد حباً وذلاً، وخوفاً ورجاء، وتعظيماً وطاعة له. بمعنى "مألوه" وهو الذي تألهه القلوب، أي تحبه وتذل له.
2 – حقيقتها: لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادّعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة ]قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله[ [آل عمران: 31].
فتأخر الخلق كلهم، وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية: ]يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائمة[ [المائدة: 54].
فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم. فهلموا إلى بيعة ]إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة[ [التوبة: 111].
فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع، عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأناً، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي، من غير ثبوت خيار، وقالوا: "والله لا نقيلك ولا نستقيلك".
فلما تم العقد، وسلموا المبيع، قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت، وأضعافها معاً: ]ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله[ [آل عمران: 169، 170].
إذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب، أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى.
ومن أجمع ما قيل فيها: ما ذكره أبو بكر الكتاني، قال: جرت مسألة في المحبة بمكة أعزها الله تعالى - أيام الموسم - فتلكم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سناً، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي، فأطرق رأسه، ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله.(1/160)
فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جزاك الله ياتاج العارفين.
3 - الأسباب الجالبة لها: في الأسباب الجالبة للمحبة، والموجبة لها. عشرة:
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب، والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة.
السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه، ونعمه الباطنه والظاهرة، فإنها داعية إلى محبته.
السابع: وهو من أعجبها - انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما تنتقى أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيداً لحالك، ومنفعة لغيرك.
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
فمن هذه الأسباب العشرة: وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب، وملاك ذلك كله أمران: استعداد الروح لهذا الشأن، وانفتاح عين البصيرة، وبالله التوفيق.
4 - بعض الآثار في تبيين حقيقتها وأهميتها: ففي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر - بعد إذ أنقذه الله منه - كما يكره أن يلقى في النار"[2][2] .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد أذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه"[3][3] ، وفي الصحيحين عنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله العبد دعا جبريل، فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض"[4][4] . وذكر في البغض عكس ذلك.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنهما في حديث أمير السرية الذي كان يقرأ ]قل هو الله أحد[ لأصحابه في كل صلاة، وقال: لأنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخبروه أن الله يحبه"[5][5] .
والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين، وذكر ما يحبه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم، كقوله تعالى: ]والله يحب الصابرين[ [آل عمران: 146]، ]والله يحب المحسنين[ [آل عمران: 134]، ]إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين[ [البقرة: 222]، ]إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص[ [الصف: 4]، ]فإنه الله يحب المتقين[ [آل عمران: 76].
وقوله في ضد ذلك: ]والله لا يحب الفساد[ [البقرة: 205]، ]إن الله لا يحب كل مختال فخور[ [لقمان: 18]، ]والله لا يحب الظالمين[ [آل عمران: 57، 140]، ]إن الله لا يحب من كان مختالاً كفوراً[ [النساء: 36].
وكم في السنة: "أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا"، و "إن الله يحب كذا وكذا"، وكقوله: "أحب الأعمال إلى الله: الصلاة على أول وقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله"[6][6] ، و "أحب الأعمال إلى الله: الإيمان بالله، ثم الجهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور"[7][7] ، و "أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه"[8][8] ، وقوله: "إن الله يحب أن يؤخذ برخصه"[9][9] .
وبعد؛ لقد حاولنا الطواف والوقوف على بعض المعاني والآثار التي تبين حقيقة وأهمية محبة العبد لله ومحبة الله للعبد، فعلينا أن نلزم تلك الحدود وأن لا نتعداها أو نبخسها حقها، وعلينا فوق ذلك أن نعرض أعمالنا وأقوالنا على هذه الموازين الثابتة لننظر هل نحن فعلاً صادقون في دعوانا أننا نحب الله؟ فإذا كانت إجابتنا إيجاباً حمدنا الله على ذلك وشمرنا على ساعد الجد والاجتهاد لطلب المزيد. وإذا كانت غير ذلك فما علينا إلا أن نسارع إلى تدارك ما فاتنا من نقص حتى لا نكون سبباً في هلاك أنفسنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ونكون سبباً في زيادة بلايانا ورزايانا بما كسبت أيدينا من معاص وآثام.(1/161)
ب - ثاني هذه المواصفات: أنه جيل مجاهد لا تأخذه في الله لومة لائم: قال تعالى: ]يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائمة[، وقال جل شأنه: ]إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن – إلى قوله – ذلك هو الفوز العظيم[ [التوبة: 111].
والحديث عن الجهاد وأثره في إعزاز أمة الإسلام يطول، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الأحاديث الصحيحة أن الأمة سيصيبها الذل والصغار إن هي تركت هذه الشعيرة العظيمة وأنه لا يُرفع عنها لباس الهوان هذا إلا العودة الصادقة إلى ممارسة هذه الشعيرة وتربية الأجيال على معانيها وطلب معاليها.
يقول سيد رحمه الله معلقاً على آيتي 38 و 39 من سورة التوبة: "والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده؛ فهو كذلك عذاب الدنيا، عذاب الذلة التي تصيب القاعدين واستغلالها للمعادين، وهم كذلك يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون من الكفاح والجهاد، ويقدمون على مذابح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرام لو قدموا لها الغداء، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب عليها الذل فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء" اهـ.
وقد مثل جيل الصحابة رضوان الله عليهم النموذج الفذ في تطبيق متطلبات الجهاد والشوق إلى ما عند الله، وهذا الأمر له صلة بما قبله، وذلك لأن هذا الجيل أحب الله وأحب لقاءه، فكان يبحث عن أيسر السبل التي توصله إلى محبوبة، فوجد في حب الشهادة والاستشهاد وامتطاء صهوة جوادها الوسيلة المثلى لتحقيق هذا المبتغى.
فكانت تحيتهم هذه نقيض ما قاله من كانوا مع موسى عليه السلام: ]اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون[، بل قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون".
ولا يتسع المقام إلى العيش مع صور من تلك البطولات فعلى المرء أن يطلبها من مظانها وأن يستلذ بالاطلاع عليها ويجعل ذلك جزءاً من برنامجه التربوي حتى تعلو همته، وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يعلمون أبناءهم مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعلمونهم السورة من القرآن.
وقبل أن نترك هذه الخصلة لابد أن نشير إلى أن للجهاد أحكاماً وضوابطاً ليس هذا مجال التفصيل فيها، كما أن له أخلاقاً تبين المجاهد الصادق من غيره. فمن أخلاق المجاهدين الرحمة والشفقة بالناس والأخذ بأيديهم إلى طريق الحق وليس من أخلاقهم التعالى والتكبر واحتقار جهد الآخرين والنظر إليهم بعين الازدراء والسخرية.
فقد كان الصحابة أكبر المجاهدين وأفضل المضحين ولكنهم مع ذلك كانوا ]رحماء بينهم[ و ]أشد على الكفار[، ]أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين[، أما الذين يزايدون ببعض بطولاتهم ويتشدقون بذلك، فعليهم أن يراجعوا مسيرتهم ويعرضوها على نقاء السيرة التي تركها رجال خير القرون. فهؤلاء الأفذاذ على ما بذلوه من تضحية وجهاد وعلم وعمل كانوا دائماً يخافون من أن تحبط أعمالهم وكانوا دائماً يحتقرون تلك الأعمال مقابل ما أعده الله لهم من جنات النعيم.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل أمين سر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه هل ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في عداد المنافقين الذين أسر له بهم؟ وهذا التابعي بن أبي مليكة يقول: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد، كلهم يخشى النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول أن إيمانه على مستوى إيمان ميكائيل وجبرائيل، وغير ذلك من الآثار كثير، التي تبين تواضع القوم وانكسار قلوبهم وإخباتها لربها، على عكس كثير ممن رفعوا شعار هذه الفريضة في هذا الزمان أو تصدوا لأعمال دعوية أخرى تتطلب الشجاعة والإقدام فتباهوا على الناس بها وازدروا أعمال غيرهم الصائبة.
وذكر هذه المسألة والتركيز عليها من شأنه أن يجعلنا دائماً - مهما قدسنا من أعمال وتضحيات - في مراجعة دائمة لسيرنا ومسيرتنا وذلك حتى نتدارك عوامل الخلل والنقص والمواطن التي أتى أعداؤنا إلينا منها، ومن ذلك نذكر القضايا التالية:
1 - التشرذم، فلا يعقل في عصر تكالبت علينا فيه الأمم قاطبة والأعداء بجميع أصنافهم أن ينفرد بأمر المواجهة فئة من الناس غير واضعة في حسابها هذه المعادلة، مع ما أوجبه الله سبحانه وتعالى من ضرورة تراص الصفوف والتصاقها ببعضها في ساحات الوغى ]إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص[.
2 - معرفة أحكام الجهاد ومعالمه حتى نسير في كل خطوة نخطوها على بينة من أمرنا، فالله تعبدنا بما شرع لنا هو لا بما شرعت لنا أنفسنا وأهواؤها.
3 - معرفة الراية التي نقاتل تحتها، وهي الراية التي تكون كلمة الله تحت لوائها هي العليا وليس القتال من أجل القومية أو الحزب أو الجماعة أو الحمية والشجاعة وإنما من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا.(1/162)
ج - ثالث هذه الصفات: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين: قال تعالى: ]محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم[، وقال: ]واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين[، ]ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك[، نعم هكذا كان حال الرعيل الأول، وذلك كان حال معلمهم معهم، وهكذا يجب أن يكون حال من يريد اقتفاء أثرهم وتحقيق الثمرة التي حققوها، من خفض الجناح ولين الجانب عندما يتعلق الأمر بالمؤمنين وبالشدة والعزة والإباء عندما يتعلق الأمر بأعداء الله المحاربين.
يقول ابن عاشور عند آية سورة المائدة: "فالمراد هنا بالذل بمعنى لين الجانب وتوطئة الكنف، وهو شدة الرحمة والسعي للنفع، ولذلك علق به قوله ]على المؤمنين[... والأعز جمع العزيز، فهو المتصف بالعزة وهو القوة والاستقلال... وفي [أي الجمع بين صفتي الذلة والعزة] إيماء إلى أن صفاتهم تسيرها آراؤهم الحصيفة [المنقادة للشرع] فليسوا مندفعين إلى فعل ما إلا عن بصيرة، وليسوا ممن تنبعث أخلاقه عن سجية واحدة بأن يكون ليناً في كل حال، وهذا هو معنى الخلق الأقوم، وهو الذي يكون في كل حال بما يلائم ذلك الحال، قال [الشاعر]:
حليم إذا ما الحلم زين أهله مع الحلم في عين العدو مهيب" اهـ.
وهذا الذي ذكره الله في هذا الموضع من ضرورة وإيجاب التصرف في كل حال ومع كل قوم بما يناسب المقام شبيه بقوله سبحانه في سورة هود: ]فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا[، وهي الآية التي شيبت النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك المفسرون.
قال الألوسي عند نفس الآية [آية سورة المائدة]: "]أذلة على المؤمنين[ عاطفين عليهم متذللين لهم... وكان الظاهر أن يقال: أذلة للمؤمنين كما يقال تذلل له، ولا يقال: تذلل عليه للمنافاة بين التذلل والعلو لكنه عدي بعلى لتضمينه معنى العطف والحنو المتعدي بها، وقل: للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم، ولعل المراد بذلك أنه استعيرت (على) لمعنى اللام ليؤذن بأنهم غلبوا غيرهم من المؤمنين في التواضع حتى علوهم بهذه الصفة..." اهـ.
قال الشاعر:
ملأ السنابل تنحني لخشوع والفارغات رؤوسهن شوامخ
إن الإيمان إذا سكن في القلب واستجابت لذلك الجوارح تحول المؤمن إلى شجرة طيبة ريحها وثمرها يسقي من ماء غير آسن وأصلها ثابت وفرعها في السماء.
يقول صاحب زبدة التفسير: "أي يظهرون العطف والحنو والتواضع للمؤمنين، ويظهرون الشدة والغلظة والترفع على الكافرين، ويجمعون بين المجاهدة في سبيل الله، وعدم خوف الملامة في الدين، بل هم متصلبون لا يبالون بما يفعله أعداء الحق وحزب الشيطان، من الازدراء بأهل الدين، وقلب محاسنهم مساوئ، ومناقبهم مثالب، حسداً وبغضاً وكراهة للحق وأهله" اهـ.
قال ابن كثير رحمه الله عند نفس الآية [آية سورة المائدة]: "وهذه صفات المؤمنين الكُهَّل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه متعززاً على عدوه كقوله تعالى: ]أشداء على الكفار رحماء بينهم[ ومن علامة حب الله تعالى للمؤمنين أن يكون لين الجانب متواضعاً لإخوانه المؤمنين، متسربلاً بالعزة حيال الكافرين والمنافقين" اهـ.
وهذا ما تضافرت نصوص الوحي لتثبيته في قلوب الناس وليكون من يريد تحقيق أمر التمكين على يديه مثالاً يحتذى في تطبيق هذه الأخلاق الرائعة والعمل بها، ولقد خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لو كان غليظ القلب شديداً مع أصحابه لانفضوا من حوله: ]ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك[.
الفظ: الغليظ السيء الخلق.
انفضوا: تفرقوا.
ونذكر هنا بعضاً من النصوص وأقوال أهل العلم التي تحث المؤمنين على هذه الأخلاق:
1 - بعض النصوص: قال الله تعالى: ]وعباد الرحمن الذين يمشون في الأرض هوناً[ [الفرقان: 61]، أي سكينة ووقاراً متواضعين، غير أشرين، ولا مرحين ولا متكبرين، قال الحسن: علماء حلماء، وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلموا.
و "الهون" بالفتح في اللغة: الرفق واللين. والهون بالضم: الهوان، فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان، والمضموم: صفة أهل الكفران، وجزاؤهم من الله النيران.
وقال تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين[ [المائدة: 54].
لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة "على" تضميناً لمعاني هذه الأفعال، فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول، فالمؤمن ذلول، كما في الحديث: "المؤمن كالجمل الذلول، والمنافق والفاسق ذليل"[10][10] وأربعة يعشقهم الذل أشد العشق: الكذاب، والنمام، والبخيل، والجبار.(1/163)
وقوله: ]أعزة على الكافرين[ هو من عزة القوة والمنعة والغلبة. قال عطاء رضي الله عنه: للمؤمنين كالوالد لولده، وعلى الكافرين كالسبع على فريسته، كما قال في الآية الأخرى ]أشداء على الكفار رحماء بينهم[ [الفتح: 29].
وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أوحى إلي: أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد"[11][11] .
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"[12][12].
وفي حديث احتجاج الجنة والنار: "أن النار قالت: مالي لا يدخلني غلا الجبارون، والمتكبرون؟ وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم" وهو في الصحيح[13][13] .
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: العزة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني عذبته"[14][14] .
2 - هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك:
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر على الصبيان فيسلم عليهم[15][15] .
وكانت الأمة تأخذ بيده صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت[16][16].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل لعق أصابعه الثلاث[17][17] .
وكان صلى الله عليه وسلم يكون في بيته في خدمة أهله[18][18] ولم يكن ينتقم لنفسه قط[19][19] .
وكان صلى الله عليه وسلم يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله[20][20] .
ويعلف البعير ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشى مع الأرملة واليتيم في حاجتهما[21][21]، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه، ولو إلى أيسر شيء[22][22] .
وكان صلى الله عليه وسلم هي المؤنة، لين الخلق، كريم الطبع، جميل المعاشرة، طلق الوجه بساماً، متواضعاً من غير ذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب، رحيماً بكل مسلم، خافض الجناح للمؤمنين، لين الجانب لهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بمن يحرم على النار؟ - أو تحرم عليه النار - تحرم على كل قريب هين لين سهل" رواه الترمذي، وقال حديث حسن[23][23] .
وقال: "لو دعيت إلى ذراع - أو كراع - لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع - أو كراع - لقبلت" رواه البخاري[24][24] .
3 - حقيقة الذل والتواضع:
سئل الفضيل بن عياض عن التواضع؟ فقال: يخضع للحق، وينقاد له. ويقبله ممن قاله.
وقال الجنيد بن محمد: هو خفض الجناح، ولين الجانب.
وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان، والعز في التواضع، فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء من النار.
وقال إبراهيم بن شيبان: الشرف في التواضع، والعز في التقوى، والحرية في القناعة.
وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: "يا أمر المؤمنين؛ لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها".
وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارة مرة، فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره، ويقول: طَرِّقوا للأمير.
ومر الحسن على صبيان معهم كسر خبز، فاستضافوه، فنزل فأكل معهم، ثم حملهم إلى منزله، فأطعمهم وكساهم، وقال: اليد لهم، لأنهم لا يجدون شيئاً غير ما أطعموني، ونحن نجد أكثر ممنه.
ويذكر أن أبا ذر رضي الله عنه عير بلالاً رضي الله عنه بسواده، ثم ندم، فألقى بنفسه، فحلف: لا رفعت رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه، فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال.
وروح التواضع: أن يتواضع العبد لصولة الحق. بأن يتلقى سلطان الحق بالخضوع له، والذل، والانقياد، والدخول تحت رقة، بحيث يكون الحق متصرفاً فيه تصرف المالك في مملوكه، فبهذا يحصل للعبد خلق التواضع، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الكبر بضده، فقال: "الكبر بطر الحق، وغمص الناس"[25][25] . فبطر الحق: رده وجحده، والدفع في صدره، كدفع الصائل، و "غمص الناس" احتقارهم، وازدراؤهم، ومتى احتقرهم وازدراهم: دفع حقوقهم، وجحدها، واستهان بها.
ولما كان لصاحب الحق مقالة وصولة: كانت النفوس المتكبرة لا تقر له بالصولة على تلك الصولة التي فيها، ولا سيما النفوس المبطلة، فتصول على صولة الحق بكبرها وباطلها، فكان حقيقة التواضع: خضوع العبد لصولة الحق، وانقياده لها، فلا يقابلها بصولته عليها.
وجمال التواضع إنما يكون بأن ترضى بما رضي الحق به لنفسه عبداً من المسلمين أخاً، وأن لا ترد على عدوك حقاً، وأن تقبل من المعتذر معاذيره.
فإذا كان الله قد رضي أخاك المسلم عبداً، أفلا ترضى أنت به أخاً؟ فعدم رضاك به أخاً: عين الكبر، وأي قبيح أقبح من تكبر العبد على عبد مثله، لا يرضى بأخوته، والله راض بعبوديته؟.(1/164)
ولا تصح لك درجة "التواضع" حتى تقبل الحق ممن تحب وممن تبغض فتقبله من عدوك كما تقبله من وليك، وإذا لم ترد عليه حقه، فكيف تمنعه حقاً له قبلك؟ بل حقيقة "التواضع" أنه إذا جاءك قبلته منه، وإذا كان له عليك حق أديته إليه، فلا تمنعك عداوته من قبول حقه، ولا من إيتائه إياه.
وكذلك من أساء إليك ثم جاء يعتذر عن إساءته فإن "التواضع" يوجب عليك قبول معذرته، حقاً كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله تعالى، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين الذين تخلفوا عنه في الغزو، فلما قدم جاءوا يعتذرون إليه، فقبل أعذارهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى[26][26] .
وعلامة الكبر والتواضع: أنك إذا رأيت الخلل في عذره لا توقفه عليه ولا تحاجه، وقل: يمكن أن يكون الأمر كما تقول، ولو قضي شيء لكان، والمقدور ولا مدفع له، ونحو ذلك.
وتمام التواضع: أن لا يرى العابد لنفسه حقاً على الله لأجل عمله، فإنه في عبودية وفقر محض، وذل وانكسار، فمتى رأى لنفسه على الله حقاً: فسدت عبوديته، وصارت معلولة وخيف منها المقت. ولا ينافي هذا ما أحقه سبحانه على نفسه، من إثابة عابديه وإكرامهم، فإن ذلك حق أحقه على نفسه بمحض كرمه وبره وجوده وإحسانه، لا باستحقاق العبيد، وأنهم أوجبوه عليه بأعمالهم.
هذه جملة من المعاني التي تبين حقيقة خفض الجانب والوضع الذي يجب أن يكون عليه المؤمن حيال إخوانه، ونقيض ذلك ينسحب على معاملة غير المعلم على أن لا تتعدى حدود الشرع فنفرق بين المحارب والمعاهد المسالم فنلتزم في كل حالة حسب ما يطلب الشارع سبحانه ولا خيار لنا في ذلك، وهذا الموضوع يطول التفصيل فيه فاعقل هذا الإجمال واعمل به وإذا أردت التفصيل فاطلبه من مظانه.
وعلينا بعد هذا الإيضاح والتبيان أن نعرض حالنا كأفراد وجماعات على هذا الميزان الدقيق: فهل هو موافق أم مخالف لتلك الآثار والمعاني الجميلة؟.
د – رابع هذه الصفات: صابر وثابت على المبدأ مهما ادلهمت الخطوب: قال عز من قائل: ]واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل[، وقال: ]وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون[ [الأعراف: 137].
اقتضت حكمة الله جل في علاه أن يكون هناك تدافع بين الناس وذلك لوجود الخير والشر والحق والباطل، ومن خلال هذه المدافعة تتمايز الصفوف، قال جل في علاه: ]ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين[، ]ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز[، وهذه الآية الأخيرة جاءت بعد أن بين الله سبحانه وتعالى أنه يدافع عن الذين آمنوا وأنه أذن لهم القتال لهم قال في محكم كتابه: ]إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور. أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير[ لماذا قيل لهم هذا ونزل لهم هذا التشريع؟ لأنهم أخرجوا من ديارهم بغير حق: ]الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله[.
فبين سياق هذه الآيات المحكمات وترتيبها أن هناك فريق مظلوم يجب عليه أن يدفع هذا الظلم الذي حصل له وهو فريق الحق، وأن هناك فريق معتد ظالم متكبر وهو فريق الباطل يجب أن يردع وأن يوقف عند حده.
إن هذا الوضع وهذه السنة بالنسبة للمؤمنين تتطلب منهم عدة أكبر من عدة عدوهم، فكان من الله أن أرشدهم إلى ذلك قائلاً: ]يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون[، المصابرة: وهي مقابلة صبر الآخرين والتغلب عليه. وحديثنا عن الصبر يتناول الجوانب الآتية:
1 - الصبر في القرآن:
قال الإمام أحمد رحمه الله: الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعاً.
وهو واجب بإجماع الأمة، وهو نصف الإيمان ، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر.
وهو مذكور في القرآن على ستة عشر نوعاً.
الأول: الأمر به: نحو قوله تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة[ [البقرة: 153]، وقوله: ]واستعينوا بالصبر والصلاة[ [البقرة: 45]، وقوله: ]اصبروا وصابروا[ [آل عمران: 200]، وقوله: ]واصبر وما صبرك إلا بالله[ [النحل: 127].
الثاني: النهي عن ضده كقوله: ]فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل به[ [الأحقاف: 35]، وقوله: ]فلا تولوهم الأدبار[ [الأنفال: 15]، فإن تولية الأدبار ترك للصبر والمصابرة، وقوله: ]ولا تبطلوا أعمالكم[ [محمد: 33]، فإن ابطالها ترك الصبر على إتمامها، وقوله: ]ولا تهنوا ولا تحزنوا[ [آل عمران: 139]، فإن الوهن من عدم الصبر.
الثالث: الثناء على أهله، كقوله تعالى: ]الصابرين والصادقين[ [آل عمران: 17]، وقوله: ]والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون[ [البقرة: 177]، وهو كير في القرآن.
الرابع: إيجابه سبحانه محبته لهم، كقوله: ]والله يحب الصابرين[ [البقرة: 146].(1/165)
الخامس: إيجاب معيته لهم، وهي معية خاصة، تتضمن حفظهم ونصرهم، وتأييدهم، ليست معية عامة، وهي معية العلم، والإحاطة، كقوله: ]واصبروا إن الله مع الصابرين[ [الأنفال: 46]، وقوله: ]والله مع الصابرين[ [البقرة: 249، الأنفال: 66].
السادس: إخباره بأن الصبر خير لأصحابه، كقوله: ]ولئن صبرتم لهو خير للصابرين[ [النحل: 126]، وقوله: ]وأن تصبروا خير لكم[ [النساء: 25].
السابع: إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم، كقوله تعالى: ]ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون[ [النحل: 96].
الثامن: إيجابه سبحانه الجزاء لهم بغير حساب، كقوله تعالى: ]إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب[ [الزمر: 10].
التاسع: إطلاق البشرى لأهل الصبر، كقوله تعالى: ]ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين[ [البقرة: 155].
العاشر: ضمان النصر والمدد لهم، كقوله تعالى: ]بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين[ [آل عمران: 125]، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن النصر مع الصبر"[27][27] .
الحادي عشر: الإخبار منه تعالى بأن أهل الصبر هم أهل العزائم، كقوله تعالى: ]ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور[ [الشورى: 43].
الثاني عشر: الإخبار أنه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة إلا أهل الصبر، كقوله تعالى: ]ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرين[ [القصص: 80]، وقوله: ]وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم[ [فصلت: 35].
الثالث عشر: الإخبار أنه إنما ينتفع بالآيات والعبر أهل الصبر، كقوله تعالى لموسى: ]أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور[ [إبراهيم: 5]، وقوله في أهل سبأ: ]فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور[ [سبأ: 19]، وقوله في سورة الشورى: ]ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور[ [الشورى: 32، 33].
الرابع عشر: الإخبار بأن الفوز المطلوب المحبوب، والنجاة من المكروه المرهوب، ودخول الجنة، إنما نالوه بالصبر، كقوله تعالى: ]والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار[ [الرعد: 23، 24].
الخامس عشر: أنه يورث صاحبه درجة الإمامة، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: بالصبر واليقين تنال الإمام في الدين، ثم تلا قوله تعالى: ]وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون[ [السجدة: 24].
السادس عشر: اقترانه بمقامات الإسلام، والإيمان، كما قرنه الله سبحانه باليقين وبالإيمان، وبالتقوى والتوكل، وبالشكر والعمل الصالح والرحمة.
ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له، وقال عمرو بن الخطاب رضي الله عنه: "خير عيش أدركناه بالصبر" وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "أنه ضياء"[28][28] ، وقال: "من يتصبر يصبره الله"[29][29] .
وفي الحديث الصحيح: "عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كل له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر، فكان خير له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له"[30][30] .
وأمر الأنصار رضي الله عنهم، بأن يصبروا على الأثرة التي يلقونها بعده، حتى يلقوه على الحوض[31][31] .
وأمر عند ملاقاة العدو بالصبر، وأمر بالصبر عند المعصية، وأخبر "أنه إنما يكون عند الصدمة الأولى"[32][32] .
وأمر صلى الله عليه وسلم المصاب بأنفع الأمور له، وهو الصبر والاحتساب، فإن ذلك يخفف مصيبته، ويوفر أجره، والجزع والتسخط والتشكي يزيد في المصيبة، ويذهب الأجر.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصبر خير كله، فقال: "ما أعطي أحد عطاء خيراً له وأوسع من الصبر"[33][33] .
2 - معنى الصبر وأنواعه:
و الصبر في اللغة: الحبس والكف، ومنه قتل فلان صبراً: إذا أمسك وحبس، ومنه قول تعالى: ]واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه[ [الكهف: 28]، أي احبس نفسك معهم.
فالصبر: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش.
وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله.
3 - مراتب الصبر:
وهو على ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله.
فالأول: الاستعانة به، ورؤيته أنه هو المصبر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه، كما قال تعالى: ]واصبر وما صبرك إلا بالله[ [النحل: 127]، يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر.
والثاني: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه، لا لإظهار قوة النفس، والاستحماد إلى الخلق، وغير ذلك من الأعراض.(1/166)
والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه، ومع أحكامه الدينية، صابراً نفسه معها، سائراً بسيرها، مقيماً بإقامتها، يتوجه معها أين توجهت ركائبها، وينزل معها أين استقلت مضاربها.
وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه.
وقال ابن عيينة في قوله تعلى: ]وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا[ [السجدة: 24]، قال: "أخذوا برأس الأمر فجعلم رؤساء".
تنبيه هام:
والشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر، فإن يعقوب عليه السلام وعد بالصبر الجميل، والنبي إذا وعد لا يخلف، ثم قال: ]إنما أشكو بثي وحزني إلى الله[ [يوسف: 86]، وكذلك أيوب أخبر الله عنه: أنه وجده صابراً مع قوله: ]مسني الضر وأنت أرحم الراحمين[ [الأنبياء: 83].
وإنما ينافى الصبر شكوى الله، لا الشكوى إلى الله، كما رأى بعضهم رجلاً يشكو إلى آخر فاقة وضرورة فقال: يا هذا، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟ ثم أنشد:
وإذا عرتك بلية فاصبر لها صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
4 - الصبر في المحن وكيف نحصله:
أما الصبر في المحن على أذى الظالمين، وعند النوازل فإن العبد يستجلبه ويستعين عليه بثلاث أشياء:
أحدها: "ملاحظة حسن الجزاء" وعلى حسب ملاحظته والوثوق به ومطالعته يخف حمل البلاء، لشهود العوض، وهذا كما يخف على كل متحمل مشقة عظيمة حملها، لما يلاحظه من لذة عاقبتها وظفره بها، ولولا ذلك لتعطلت مصالح الدنيا والآخرة، وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة، فالنفس موكلة بحب العاجل، وإنما خاصة العقل: تلمح العواقب، ومطالعة الغايات.
وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من رافق الراحة، حصل على المشقة وقت الراحة في دار الراحة، فإنه على قدر التعب تكون الراحة.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكريم الكرائم
ويكبر في عين الصغير صغيرها وتصغر في عين العظيم العظائم
والقصد: أن ملاحظة حسن العاقبة تعين على الصبر فيما تتحمله باختيارك وغير اختيارك.
والثاني: انتظار الفرج.
أي: راحته ونسيمه ولذته، فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفف حمل المشقة، ولا سيما عند قوة الرجاء، أو القطع بالفرج، فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرح ونسيمه وراحته: ما هو من خفي الألطاف، وما هو فرج معجل، وبه - يفهم معنى اسمه "اللطيف".
والثالث: تهوين البلية، بأمرين:
أحدهما: أن يعد نعم الله وأياديه عنده، فإذا عجز عن عدها، وأيس من حصرها، هان عليه ماهو فيه من البلاء، ورآه - بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه - كقطرة من بحر.
الثاني: تذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه، فهذا يتعلق بالماضي، وتعداد أيادي المنن: يتعلق بالحال، وملاحظة حسن الجزاء، وانتظار الجزاء، وانتظار روح الفرج: يتعلق بالمستقبل، وأحدهما في الدنيا، والثاني يوم الجزاء.
وفي ختام الحديث عن الصبر نقول: "فعلى وهج النار الملتهبة نار الفتنة بجمع أنواعها تتميز معادن الناس، فينقسمون إلى مؤمنين صابرين، وإلى مدعين أو منافقين، وينقسم المؤمنون إلى طبقات كثيرة؛ بحسب شدة صبرهم وقوة احتمالهم" اهـ [سلسلة رسائل الغرباء (3) ص 201].
ثم نضيف: "فالمراحل التي تمر بها حياة المؤمنين المجاهدين؛ من العلماء والدعاة؛ ممن صدقوا في دعوى الإيمان، واستحقوا أن يمنحهم الله قيادة البشرية بالإسلام؛ هي: الابتلاء، ثم الصبر، ثم العاقبة" [نفس المصدر، ص 205].
فاعقل أخي المؤمن هذه المراحل والزمها وتعقبها في سير الأولين لتكون على بينة مما نقول واعلم: أن النصر مع الصبر، وأنه لا يتسع الأمر إذا إذا ضاق، وأنه بعد العسر يسراً.
قال تعالى: ]ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا ميل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين[ [الأنعام: 24]uuu
----------------
[1][1] - نقلاً عن ابن كثير، مع تصرف يسير.
[2][2] - رواه البخاري (21)، ومسلم (43).
[3][3] - تقدم تخريجه.
[4][4] - رواه البخاري (7485)، ومسلم (3637)، ومالك 2/953، والترمذي 3160 عن أبي هريرة.
[5][5] - أخرجه البخاري (7375)، ومسلم (813).
[6][6] – رواه البخاري ومسلم.
[7][7] – رواه البخاري.
[8][8] –رواه البخاري.
[9][9] – صحيح رواه أحمد وابن حبان عن ابن عمر.
[10][10] - روي بلفظ "إنما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما انقيد انقاد" رواه أحمد 4/126، وابن ماجه (43)، والحاكم 1/96 عن العرباض بن سارية في حديث طويل وإسناده قوي.
[11][11] - رواه مسلم (2865)، وأبو داود (3895)، وابن ماجة (4179)، وله شواهد عن أنس عند البخاري في الأدب المفرد (426)، وابن ماجة (4214).
[12][12] - رواه مسلم (91)، والبغوي (3587).(1/167)
[13][13] - رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846)، والترمذي (2564) عن أبي هريرة.
[14][14] - رواه مسلم (2620)، والبغوي (3592) عن أبي هريرة.
[15][15] - رواه البخاري عن أنس.
[16][16] - صحيح، علقه البخاري ووصله أبو داود وغيره عن أنس.
[17][17] - رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس.
[18][18] - أخرجه البخاري عن الأسود.
[19][19] - أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة.
[20][20] - صحيح، رواه أحمد وابن حبان عن عائشة.
[21][21] - صحيح، رواه النسائي والحاكم عن ابن أبي أوفى.
[22][22] - كما في حديث "الأمة" المتقدم تخريجه وغيره من الأحاديث.
[23][23] - صحيح، أخرجه الترمذي (2490)، وأحمد 1/415، وابن حبان (1096) عن ابن مسعود ورجاله ثقات غير عبد الله بن عمر الأودي لم يوثقه غير ابن حبان، وله شواهد يتقوى بها من حديث معيقب وحديث أبي هريرة وحديث أنس وانظر "مجمع الزوائد" 4/75.
[24][24] - برقم (5178) عن أبي هريرة، وآخر الترمذي (1338) عن أنس.
[25][25] - رواه مسلم (91)، وأبو داود (4091)، والترمذي (1999) عن عبد الله بن مسعود، ورواه أبو داود (4092) عن أبي هريرة بسند صحيح.
[26][26] - أنظر البخاري (4418).
[27][27] - حسن، رواه أحمد 1/307 ، والحاكم 3/541 و 542، عن ابن عباس.
[28][28] - روان مسلم (223)، والنسائي 5/5، وأحمد 5/342، عن أبي مالك الأشعري.
[29][29] - رواه البخاري (6470)، ومسلم (1053)، وأبو داود (1644)، والترمذي (2024)، عن أبي سعيد.
[30][30] - رواه مسلم (2999)، والدارمي 2/318، وأحمد 6/16، من حديث صهيب.
[31][31] - رواه البخاري (3792) و (7057)، ومسلم (1845) عن أسيد بن حضير.
[32][32] - رواه البخاري (1302)، ومسلم (626) (15) عن أنس بن مالك.
[33][33] - تقدم تخريجه.
*******************
وبين تعالى أن أعداء الرسل مغلوبون مقهورون مهما ملكوا من قوة ومن عتاد ومكر :
قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) [آل عمران/10-12] }
إن هذه الآيات واردة في صدد خطاب بني إسرائيل ، وتهديدهم بمصير الكفار قبلهم وبعدهم . وفيها لفتة لطيفة عميقة الدلالة كذلك . . فهو يذكرهم فيها بمصير آل فرعون . . وكان الله سبحانه قد أهلك آل فرعون وأنجى بني إسرائيل . ولكن هذا لا يمنحهم حقاً خاصاً إذا هم ضلوا وكفروا ، ولا يعصمهم أن يوصموا بالكفر إذا هم انحرفوا ، وأن ينالوا جزاء الكافرين في الدنيا والآخرة كما نال آل فرعون الذين أنجاهم الله منهم!
كذلك يذكرهم مصارع قريش في بدر - وهم كفار - ليقول لهم : إن سنة الله لا تتخلف .
وإنه لا يعصمهم عاصم من أن يحق عليهم ما حق على قريش . فالعلة هي الكفر . وليس لأحد على الله دالة ، ولا له شفاعة إلا بالإيمان الصحيح!
{ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ، وأولئك هم وقود النار } . .
والأموال والأولاد مظنة حماية ووقاية؛ ولكنهما لا يغنيان شيئاً في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه ، لأنه لا إخلاف لميعاد الله . وهم فيه : { وقود النار } . . بهذا التعبير الذي يسلبهم كل خصائص « الإنسان » ومميزاته ، ويصورهم في صورة الحطب والخشب وسائر « وقود النار » . .
لا بل إن الأموال والأولاد ، ومعهما الجاه والسلطان ، لا تغني شياً في الدنيا :
{ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا ، فأخذهم الله بذنوبهم ، والله شديد العقاب } . .
وهو مثل مضى في التاريخ مكروراً ، وقصة الله في هذا الكتاب تفصيلاً : وهو يمثل سنة الله في المكذبين بآياته ، يجريها حيث يشاء . فلا أمان إذن ولا ضمان لمكذب بآيات الله .
وإذن فالذين كفروا وكذبوا بدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وآيات الكتاب الذي نزله عليه بالحق ، معرضون لهذا المصير في الدنيا والآخرة سواء . . ومن ثم يلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينذرهم هذا المصير في الدارين ، وأن يضرب لهم المثل بيوم بدر القريب ، فلعلهم نسوا مثل فرعون والذين من قبله في التكذيب والأخذ الشديد :
{ قل للذين كفروا : ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين . والله يؤيد بنصره من يشاء . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } . .(1/168)
وقوله تعالى : { يرونهم مثليهم رأي العين } يحتمل تفسيرين : فإما أن يكون ضمير « يرون » راجعاً إلى الكفار ، وضمير « هم » راجعاً إلى المسلمين ، ويكون المعنى أن الكفار على كثرتهم كانوا يرون المسلمين القليلين { مثليهم } . . وكان هذا من تدبير الله حيث خيل للمشركين أن المسلمين كثرة وهم قلة ، فتزلزلت قلوبهم وأقدامهم .
وإما أن يكون العكس ، ويكون المعنى أن المسلمين كانوا يرون المشركين { مثليهم } هم - في حين أن المشركين كانوا ثلاثة أمثالهم - ومع هذا ثبتوا وانتصروا .
والمهم هو رجع النصر إلى تأييد الله وتدبيره . . وفي هذا تخذيل للذين كفروا وتهديد . كما أن فيه تثبيتا للذين آمنوا وتهوينا من شأن أعدائهم فلا يرهبونهم . . وكان الموقف - كما ذكرنا في التمهيد للسورة - يقتضي هذا وذاك . . وكان القرآن يعمل هنا وهناك . .
وما يزال القرآن يعمل بحقيقته الكبيرة . وبما يتضمنه من مثل هذه الحقيقة . . إن وعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله ، قائم في كل لحظة .
ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة - ولو قل عددها - قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة لم تنسخ ، وسنة ماضية لم تتوقف
وليس على الفئة المؤمنة إلا أن تطمئن إلى هذه الحقيقة؛ وتثق في ذلك الوعد؛ وتأخذ للأمر عدته التي في طوقها كاملة؛ وتصبر حتى يأذن الله؛ ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد المغيب في علم الله ، المدبر بحكمته ، المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة .
{ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } . .
ولا بد من بصر ينظر وبصير تتدبر ، لتبرز العبرة ، وتعيها القلوب . وإلا فالعبرة تمر في كل لحظة في الليل والنهار!
***************
ولكن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا باتباع منهجه الذي أكرمه الله تعالى به حتى نفوز بسعادة الدارين ، ففيه العزة والكرامة والحياة وكل خير لنا في الدارين:
قال تعالى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) [النساء/65] }
ومرة أخرى نجدنا أمام شرط الإيمان وحدّ الإسلام . يقرره الله سبحانه بنفسه . ويقسم عليه بذاته . فلا يبقى بعد ذلك قول لقائل في تحديد شرط الإيمان وحد الإسلام ، ولا تأويل لمؤول .
اللهم إلا مماحكة لا تستحق الاحترام . . وهي أن هذا القول مرهون بزمان ، وموقوف على طائفة من الناس! وهذا قول من لا يدرك من الإسلام شيئاً؛ ولا يفقه من التعبير القرآني قليلاً ولا كثيراً . فهذه حقيقة كلية من حقائق الإسلام؛ جاءت في صورة قسم مؤكد؛ مطلقة من كل قيد . . وليس هناك مجال للوهم أو الإيهام بأن تحكيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو تحكيم شخصه . إنما هو تحكيم شريعته ومنهجه . وإلا لم يبق لشريعة الله وسنة رسوله مكان بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - وذلك قول أشد المرتدين ارتداداً على عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وهو الذي قاتلهم عليه قتال المرتدين . بل قاتلهم على ما هو دونه بكثير . وهو مجرد عدم الطاعة لله ورسوله ، في حكم الزكاة؛ وعدم قبول حكم رسول الله فيها ، بعد الوفاة!
وإذا كان يكفي لإثبات « الإسلام » أن يتحاكم الناس إلى شريعة الله وحكم رسوله . . فانه لا يكفي في « الإيمان » هذا ، ما لم يصحبه الرضى النفسي ، والقبول القلبي ، وإسلام القلب والجنان ، في اطمئنان!
هذا هو الإسلام .
وهذا هو الإيمان . . فلتنظر نفس أين هي من الإسلام؛ وأين هي من الإيمان! قبل ادعاء الإسلام وادعاء الإيمان!
****************
ولا بد من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء :
قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) [آل عمران/31، 32] }
وهذه الآية فيها وجوب محبة الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها، فقال { قل إن كنتم تحبون الله } أي: ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوى، بل لا بد من الصدق فيها، وعلامة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى، وأحبه الله وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محبا لله تعالى، لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله، وما نقص من ذلك نقص.
************************
القول اللبيب في الذب عن الحبيب ( صلى الله عليه وسلم )(1/169)
استمعت إلى بعضهم ( ...) وهم يهونون مما يحدث حولهم ، بل ويتحدثون وكأن ما حدثً أمراً عادياً ، مما دعاني إلى الكتابة.
فحب الله و رسوله موجود في قلب كل مؤمن لا يمكنه دفع ذلك من قلبه إذا كان مؤمناً ، و تظهر علامات حبه لله و لرسوله إذا أخذ أحد يسب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، و يطعن عليه ، أو يسب الله و يذكره بما لا يليق به ، فالمؤمن يغضب لذلك أعظم مما يغضب لو سب أبوه و أمه.
الذب عن الدين فرض واجب
فقد جاء في ( إيضاح الدليل ) أن : الذب عن الدين لمن تمكن منه فرض واجب ، والرد على أهل البدع أمر لازب ، مع أنه لا يقدر على الحمل على الاعتقاد إلا الرب الذي بيده تصاريف قلوب العباد ، وغاية المنتصب لإقامة الدليل بيان إبطال حجج أهل التشبيه والتعطيل ، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء.
(إيضاح الدليل 1/89)
المحاربة باللسان والكلمة
وبعد إن الرسومات الكاريكاتورية التي رسمت قاصدة الإساءة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هي نوع من الحرب ، فقد جاء في ( الصارم المسلول ) :
الوجه الخامس : أن المحاربة نوعان : محاربة باليد ، و محاربة باللسان . و المحاربة باللسان في باب الدين : قد تكون أنكى من المحاربة باليد . ولذلك كان النبي (عليه الصلاة و السلام ) يقتل من كان يحاربه باللسان ، مع استبقائه بعض من حاربه باليد.د
خصوصاً محاربة الرسول( عليه الصلاة و السلام ) بعد موته فإنها إنما تكون باللسان ، و كذلك الإفساد قد يكون باليد ، و قد يكون باللسان ، و ما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد ، كما أن ما يصلحه اللسان من الأديان أضعاف ما تصلحه اليد. فثبت أن محاربة الله و رسوله باللسان أشد ، و السعي في الأرض لفساد الدين باللسان أوكد فهذا الساب لله ولرسوله أولى باسم المحارب المفسد من قاطع الطريق.
( الصارم المسلول 1/389)
وبذلك تدخل هذه الرسومات الكاريكاتورية في باب المحاربة باللسان ، لأنها عبارة عن توجيه لمجموعة من الأفكار حول الإهانة لشخص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبذلك تكون هذه الرسومات أشد من الحرب باليد والآلة. بل وأنكى من الحرب باللسان لأنها تعبيرات واضحة ظاهرة لا تحتاج إلى تفسير أو بيان شرح .
من هنا نتناول هذا الموضوع من وجهتين ، ونتبعه بفصل في الصبر :
(أ) الوجهة الأولى : الدفاع عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).
(ب) الوجهة الثانية : قتل من سب أو أساء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم) .
(ج) فصل في الصبر والنصر .
(أ) الدفاع عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
يجب علينا الدفاع عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، والذي يؤكد ذلك ويبينه أشد التأكيد ما يلي :
أولاً ـ المولى (عز وجل) يدافع عن النبي ( صلى الله عليه سلم )
1ـ خندق من نار
عن أبي هريرة( رضىي الله عنه ) قال : قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته [ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته ] قال : فما فجأهم إلا أنه يتقي بيده وينكص على عقبيه ، فأتوه فقالوا : ما لك يا أبا الحكم ؟ قال : إن بيني وبينه لخندقاً من نار ، وهولاً ، وأجنحة . قال أبو المعتمر : فأنزل الله جل وعلا : { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } إلى { فليدع ناديه } . قال : قومه { سندع الزبانية } ، قال الملائكة : { لا تطعه } ثم أمره بما أمره من السجود في آخر السورة ، قال : فبلغني عن المعتمر في هذا الحديث ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا).( صحيح ابن حبان 14/525)
2ـ الله يرسل ملك الجبال ليدافع عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم)
عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت لرسول (الله صلى الله عليه وسلم ) : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ؛ فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل (عليه السلام ) فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمر بما شئت فيهم ، قال ( صلى الله عليه وسلم) : فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ، ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك إن شئت أطبق عليهم الأخشبين ) فقال رسول ( الله صلى الله عليه وسلم) : ( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاًً).( صحيح ابن حبان 14/516)
3ـ والله يعصمك من الناس(1/170)
عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة ، وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله( صلى الله عليه وسلم) [ الله يمنعني منك ضع السيف ] فوضعه فأنزل الله عز وجل : { والله يعصمك من الناس }
ثانياً ً ـ القرآن الكريم يدافع عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
1 ـ الشدة والعنف مع أهل مكة
جاء حديث القرآن الكريم إلى أهل مكة في كثير من المواقف وخطابهم بالشدة والعنف ؛ فذلك لما مردوا عليه من أذى الرسول ( صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ، والكيد لهم حتى أخرجوهم من أوطانهم ، ولم يكتفوا بذلك بل أرسلوا إليهم الأذى في مهاجرهم ، وكان القرآن في حملته عليهم وعلى أمثالهم بالقول بعيداً عن كل معاني السباب والإقذاع متذرعاً بالحكمة والأدب الكامل في الإرشاد والإقناع ، حاثاً على الصبر والعفو والإحسان. ( مناهل العرفان 1/ 149)
2ـ قول الله عز وجل : {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ }
يقول تعالى ذكره ( إنا كفيناك المستهزئين ) يا محمد الذين يستهزئون بك ويسخرون منك فاصدع بأمر الله ولا تخف شيئا سوى الله فإن الله كافيك من ناصيك وآذاك كما كفاك المستهزئين وكان رؤساء المستهزئين قوما من قريش معروفين، ودعا عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) .
عن ابن عباس (رضي الله عنهما) في قول الله عز وجل : {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } ( الحجر/95 ) قال المستهزئون : الوليد بن المغيرة ، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب ، وأبو زمعة من بني أسد بن عبد العزى ، والحارث بن عيطل السهمي ، والعاص بن وائل ، فأتاه جبريل (عليه السلام ) شكاهم إلى رسول ( الله صلى الله عليه وسلم) فأراه الوليد أبا عمرو بن المغيرة فأومأ جبريل إلى أبجله ، فقال : ما صنعت ؟ قال : كفيته . ثم أراه الأسود بن المطلب ، فأومئ جبريل إلى عينيه ، فقال : ما صنعت . قال : كفيته . ثم أراه الأسود بن عبد يغوث الزهري ، فأومأ إلى رأسه ، فقال: ما صنعت ؟ قال : كفتيه . ومر به العاص بن وائل ، فأومأ إلى أخمصه ، فقال : ما صنعت ؟ قال : كفيته . فأما الوليد بن المغيرة ، فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً له فأصاب أبجله فقطعها ، وأومأ الأسود بن المطلب فعمي ، فمنهم من يقول عمي هكذا، ومنهم من يقول نزل تحت سمرة ، فجعل يقول : يا بني ألا تدفعون عني قد قتلت ، فجعلوا يقولون : ما نرى شيئاً . وجعل يقول : يا بني ألا تمنعون عني قد هلكت ها هو ذا أطعن بالشوك في عيني. فجعلوا يقولون : ما نرى شيئا . فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه . وأما الأسود بن عبد يغوث الزهري فخرج في رأسه قروح فمات منها ، وأما الحارث بن عيطل فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها، وأما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يوماً إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت منها فمات منها ، وقال غيره فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته.(سنن البيهقي الكبرى 9/ 8)
3ـ الدفاع عن عرض الرسول ( صلى الله عليه وسلم) في حادثة الإفك
إنها محنة تناولت بيت الرسول ( صلى الله عليه وسلم) في أحب نسائه إليه ، وهي الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر ( رضي الله عنهما ) فيما يسمى بحادثة الإفك ، وقد كانت تلك الحادثة حلقة من سلسلة فنون الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) من أعداء الدين ، وكان من لطف الله تعالى بنبيه وبالمؤمنين أن كشف زيفها وبطلانها ، وسجلها في قرآن يتلى إلى يوم الدين ، لتكون مواقف يتأسى بها المؤمنون عندما يتعرضون في حياتهم لمثل هذا العداء ، فقد انقطع الوحي ،وبقيت الدروس لتكون عبرة وعظة للأجيال المتعاقبة .(1/171)
ومجمل القصة كما جاء في الصحيحين : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) كان إذا أراد أن يخرج للسفر ، أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها ، فلما كانت غزوة بني المصطلق خرج سهم عائشة (رضي الله عنها) فخرجت معه ( صلى الله عليه وسلم)، فلما رجعوا من الغزوة ، نزل الجيش في بعض المنازل ليلاً ، فخرجت عائشة ( رضي الله عنها) لحاجتها ، فانفرط عقدها ، فأخذت تجمعه ، بينما تحرك الجيش ، وهم يظنون أنها في الهودج فلما رجعت لم تجد أحداً ، فظنت أنهم سيفتقدونها ويرجعون في طلبها ، فقعدت مكانها ، وغلبتها عيناها فنامت ، وكان صفوان بن المعطل (رضي الله عنه) من وراء الجيش ، فلما رأها عرفها ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فاستيقظت على استرجاعه ، فأناخ راحلته ، وقربها إليها ، فركبتها ، ولم يكلمها كلمة واحدة ، ثم سار بها يقودها حتى قدم بها وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة ، فلما رأى الناس ذلك تكلم كل منهم بشاكلته ، وما يليق به ، واتهم المنافقون عائشة ( رضي الله عنها ) في عرضها الشريف ، وأخذوا يلوكون الحديث ويشيعونه حتى انتشر في المدينة كلها ، وقد مكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) مدة لا يوحى إليه في شأن عائشة بشيء ، حتى اشتد الأمر عليه( صلى الله عليه وسلم) واستشار بعض أصحابه فأشار عليه بعضهم بطلاقها ، وبينما الفتنة في أوجها ، والمحنة في أشدها إذ جاء فرج الله ـ تعالى ـ فشهد الله تعالى ببراءة عائشة ( رضي الله عنها ) في قرآن يتلى إلى يوم القيامة .
{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } (النور/10ـ 18)
وقوله تعالى ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم) نزلت في الذين قذفوا عائشة (رضي الله عنها) فأخبر الله أن ذلك كذب ، و( الإفك) هو الكذب ، ونال النبي ( صلى الله عليه وسلم) وأبا بكر وجماعة من المسلمين غم شديد وأذى وحزن. ( والذي تولى كبره ) روي أنه : عبد الله بن أبي بن سلول ، وكان منافقاً و( كبره ) هو عظمه ، وإن عظم ما كان فيه لأنهم كانوا يجتمعون عنده وبرأيه وأمره كانوا يشيعون ذلك ويظهرونه وكان هو يقصد بذلك أذى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) .(أحكام القرآن 5/ 161)
4ـ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً }(الأحزاب/57) قوله { لعنهم الله في الدنيا والآخرة } يقول تعالى ذكره : أبعدهم الله من رحمته في الدنيا والآخرة وأعد لهم في الآخرة عذابا يهينهم فيه بالخلود فيه.
5ـ التحذير من أذى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وذلك في أغراض سورة الصف ، حيث أن من أغراض هذه السورة الكريمة :
ـ التحذير من إخلاف الوعد والالتزام بواجبات الدين.
ـ التحريض على الجهاد في سبيل الله والثبات فيه وصدق الإيمان.
ـ الثبات في نصرة الدين.
ـ الإئتساء بالصادقين مثل الحواريين.
ـ التحذير من أذى الرسول (صلى الله عليه وسلم) .
ـ الوعد على إخلاص الإيمان والجهاد بحسن مثوبة الآخرة والنصر والفتح.( التحرير والتنوير 1/4398)
6ـ سورة القلم
في هذه السورة ، عدد الله (عز وجل ) لزعماء المشركين مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة مذمات كثيرة ، وتوعدهم بعذاب الآخرة ، وببلايا في الدنيا ، بأن ضرب لهم مثلاً بمن غرهم عزهم وثراؤهم فأزال الله ذلك عنهم وأباد نعمتهم ، ووعظهم بأن ما هم فيه من النعمة استدراج وإملاء جزاء كيدهم . وأنهم لا معذرة لهم فيما قابلوا به دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) من طغيانهم.( التحرير والتنوير 1/4512)
6ـ ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون )
وقوله : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما أنت بنعمة ربك بمجنون ، مكذباً بذلك مشركي قريش الذين قالوا له : إنك مجنون.
7ـ ذم امرأة أبي لهب(1/172)
( وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد) أعقب ذم أبي لهب ووعيده بمثل ذلك لامرأته لأنها كانت تشاركه في أذى النبي (صلى الله عليه وسلم) وتعينه عليه.( الترغيب والترهيب 4/928)
8 ـ نسلك بهم سبيل أسلافهم
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }(الأنعام/10 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم) مسلياً عنه بوعيده المستهزئين به عقوبة ما يلقى منهم من أذى الاستهزاء به والاستخفاف في ذات الله : هون عليك يا محمد ما أنت لاق من هؤلاء المستهزئين بك المستخفين بحقك فيّ وفي طاعتي ، وامض لما أمرتك به من الدعاء إلى توحيدي والإقرار بي والإذعان لطاعتي ، فإنهم إن تمادوا في غيهم وأصروا على المقام على كفرهم ، نسلك بهم سبيل أسلافهم من سائر الأمم من غيرهم ، من تعجيل النقمة لهم وحلول المثلات بهم، فقد استهزأت أمم من قبلك برسل أرسلتهم إليهم بمثل الذي أرسلتك به إلى قومك وفعلوا مثل ما فعل قومك بك { فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون } يعني بقوله : فحاق فنزل وأحاط بالذين هزئوا من رسلهم { ما كانوا به يستهزئون } يقول : العذاب الذي كانوا يهزأون به وينكرون أن يكون واقعاً بهم على ما أنذرتهم رسلهم وعن السدي : { فحاق بالذين سخروا منهم } من الرسل { ما كانوا به يستهزئون } يقول : وقع بهم العذاب الذي استهزأوا به.( تفسير الطبري 1/ 153)
وبعد فهذه طائفة مختصرة لدفاع القرآن الكريم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم) ، وهناك من الآيات في مثل ذلك الكثير ، ولكنني أردت أن أوضح أمثلة واضحة وصريحة في الدفاع ، حتى يستيقظ المؤمن ويعلم أن الدفاع عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واجب ، وأن الدفاع عنه ( صلى الله عليه وسلم ) ُذكر في القرآن الكريم ، وعلى كل مسلم ومؤمن أن يدافع عن حبيبه ( صلى الله عليه وسلم ) بما استطاع .
ثالثاً ـ النبي ( صلى الله عليه وسلم )
1ـ الرسول يأمر خمسة رهط من قومه للدفاع عنه وعن المسلمين
عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً، وكان يهجو رسول ( الله صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ويحرض عليهم كفار قريش في شعره ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قدم إلى المدينة وهي أخلاط منهم : المسلمون الذين يجمعهم دعوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وفيهم المشركون الذين يعبدون الأوثان ، ومنهم اليهود ، ومنهم أهل الحلقة والحصون وهم حلفاء الحيين الأوس والخزرج .
فأراد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين قدم استصلاحهم وموادعتهم ، وكان الرجل يكون مسلماً وأبوه مشركا ، والرجل يكون مسلماً وأخوه مشركاً ، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) يؤذون النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه أشد الأذى .
وأمر الله نبيه (صلى الله عليه وسلم)والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم ، ففيهم أنزل الله تعالى { لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } وفيهم أنزل الله تعالى { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا } إلى قوله { حتى يأتي الله بأمره } فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن [ أذى ] رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) وأذى المسلمين ، أمر رسول ( الله صلى الله عليه وسلم ) سعد بن معاذ ، و محمد بن مسلمة الأنصاري ، ثم الحارثي ، و أبا عيسى بن حبر الأنصاري ، و الحارث بن أخي سعد بن معاذ ، في خمسة رهط ، فأتوه عشية في مجلسه بالعوالي فلما رآهم كعب بن الأشرف أنكر شأنهم ، وكان يذعر منهم ، وقال لهم : ما جاء بكم ؟ قالوا جاء بنا حاجة إليك ، قال : فليدنو إلي بعضكم ليحدثني بها فدنا إليه بعضهم ، فقال : قد جئناك لنبيعك أدراعاً لنا لنستنفق أثمانها ، فقال : والله لئن فعلتم لقد جهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل ، فواعدهم أن يأتوه عشاء حين يهدي عنه الناس ، فجاؤوه ، فناداه رجل منهم فقام ليخرج إليهم ، فقالت امرأته : ما طرقوك ساعتهم هذه بشيء مما تحب ، قال : بلى إنهم قد حدثوني حديثهم فخرج إليهم ، فأعتنقه محمد بن مسلمة وقال لأصحابه : لا يسبقكم وإن قتلتموني وإياه جميعاً ، فطعنه بعضهم بالسيف في خاصرته .
فلما قتلوه فزعت اليهود ، ومن كان معهم من المشركين ، فغدوا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين أصبحوا فقالوا : قد طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا ، فقتل غيلة ، فذكر لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الذي كان يقول في أشعاره ويؤذيهم به ، فدعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكتب بينه وبينهم وبين المسلمين عامة صحيفة فيها جامع أمر الناس فكتبها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) .( المعجم الكبير 19/76)
ومنه أيضاً(1/173)
عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك : أن كعب بن الاشرف اليهودي كان شاعراً وكان يهجو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ويحرض عليهم فقال ( صلى الله عليه وسلم ): ( من لكعب ؟) فلما أبى أن ينزع عن أذى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأذى المسلمين أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) سعد بن معاذ و محمد بن مسلمة و أبا عيسى بن الحارث ابن أخي سعد بن معاذ في خمسة ، فأتوا كعبا فذكر مثله.( المعجم الكبير 19/78) .
2ـ محاصرة من شتم الرسول ( صلى الله عليه وسلم)
لما خرج المسلمون إلى بني قريظة أعطى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الراية علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، ونهض علي وطائفة معه حتى أتوا بني قريظة ونازلوهم ؛ فسمعوا سب الرسول الله ( صلى الله عليه وسلم) فانصرف علي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) فقال له : يا رسول الله لا تبلغ إليهم وعرض له ، فقال له : أظنك سمعت منهم شتمي ، لو رأوني لكفوا عن ذلك. ونهص إليهم فلما رأوه أمسكوا . فقال لهم : نقضتم العهد يا إخوة القرود ، أخواكم الله وأنزل بكم نقمته . فقالوا : ما كنت جاهلاً يا محمد فلا تجهل علينا . ونزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة. ( تفسير القرطبي 14/16)
رابعاً ـ قريشيون يدافعون عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
أبو طالب ينهي عن أذى الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
قال تعالى {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }( الأنعام/26 ) عن ابن عباس يقول : نزلت في أبي طالب كان ينهى عن محمد أن يؤذى وينأى عما جاء به أن يؤمن به ، وعن القاسم بن مخيمرة قال : كان أبو طالب ينهى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا يصدقه ، قال ابن بشر : كان أبو طالب ينهى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يؤذى ولا يصدق به كان ينهى عن أذى محمد وينأى عما جاء به أن يتبعه.(تفسير الطبري 5/171) و(معاني القرآن 2/411)
خامساً ـ الأنصار يدافعون عن النبي ( صلى الله عليه وسلم)
قال تعالى يعدد نعمه على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه : { ألم يجدك يتيما فآوى } وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه ، وقيل بعد أن ولد عليه السلام، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين ، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين ، فكفله عمه أبو طالب ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره ويوقره ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره ، هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان ، وكل ذلك بقدر الله وحسن تدبيره إلى أن توفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل ، فأقدم عليه سفهاء قريش وجهالهم فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج ، كما أجرى الله سنته على الوجه الأتم الأكمل فلما وصل إليهم آووه ونصروه وحاطوه وقاتلوا بين يديه ،( رضي الله عنهم أجمعين ) وكل هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به.(تفسير بن كثير 4/674)
سادساً ً ـ صور من دفاع الصحابة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
1ـ أبو بكر يدافع عن رسول الله
عن عبد الله بن عمرو قال: قلت : ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما كانت تظهر من عداوته ؟ قال : قد حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم في الحجر فذكروا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط ، سفه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، أو كما قالوا .
فبيناهم في ذلك إذ طلع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) فأقبل يمشي حتى استلم الركن فمر بهم طائفاً بالبيت فلما أن مر بهم غمزوه ببعض القول قال : وعرفت ذلك في وجهه ثم مضى (صلى الله عليه وسلم) فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجهه ، ثم مضى ( صلى الله عليه وسلم) فمر بهم الثالثة غمزوه بمثلها ، ثم قال : ( أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح ) قال : فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا لكأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك يتوقاه بأحسن ما يجيب من القول ، حتى إنه ليقول : انصرف يا أبا القاسم انصرف راشداً فوالله ما كنت جهولاً فانصرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .(1/174)
حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه ، وبينا هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به يقولون له : أنت الذي تقول كذا وكذا ، لما كان يبلغهم عنه من عيب آلهتهم ودينهم، قال : ( نعم أنا الذي أقول ذلك ) قال : فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه ، وقال : وقام أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه) دونه يقول وهو يبكي : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ؟ ثم انصرفوا عنه فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا بلغت منه قط. ( صحيح ابن حبان 14/516)
عن عروة بن الزبير قال : سألت عبد الله بن عمرو بن العاص قال قلت حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال أقبل عقبة بن أبي معيط ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم) يصلي عند الكعبة فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً ، فأقبل أبو بكر ( رضي الله عنه) فأخذ بمنكبيه فدفعه عن رسول ( الله صلى الله عليه وسلم) فقال { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم } أخرجه البخاري في الصحيح من حديث الأوزاعي.(سنن البيهقي الكبرى 9/7)
2ـ حمزة ابن عبد المطلب يضرب أبا جهل لأنه شتم النبي (صلى الله عليه وسلم)
عن ابن إسحاق قال : حدثني رجل من أسلم و كان واعية أن أبا جهل اعترض لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند الصفا فأذاه و شتمه ، و قال فيه ما يكره من العيب لدينه، و التضعيف له ، فلم يكلمه رسول الله ( صلى الله عليه و سلم) .
و مولاة لعبد الله بن جدعان التميمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك ،ثم انصرف عنه ، فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم ، و لم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحاً قوسه راجعاً من قنص له ، و كان إذا فعل ذلك لم يمر على نادي قريش و أشدها شكيمة ، و كان يومئذ مشركاً على دين قومه ، فجاءته المولاة و قد قام رسول الله ( صلى الله عليه و سلم) ليرجع إلى بيته فقالت له : يا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم آنفاً ، و جده ها هنا فآذاه و شتمه ، و بلغ ما يكره ثم انصرف عنه فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس ، و لم يكلم محمد ، فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله من كرامته فخرج سريعاً لا يقف على أحد كما كان يصنع يريد الطواف بالبيت معتمداً لأبي جهل أن يقع به فلما دخل المسجد نظر إليه جالساً ، في القوم فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه على رأسه ضربة مملوءة ، و قامت رجال من قريش من بني مخزوم لينصروا أبا جهل ، فقالوا : ما نراك يا حمزة إلا صبأت . فقال حمزة : و ما يمنعني و قد استبان لي ذلك منه أنا أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أن الذي يقول حق فوالله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين. فقال أبا جهل : دعوا أبا عمارة : لقد سببت ابن أخيه سبًا قبيحاً .
و مر حمزة على إسلامه و تابع يخفف رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) فلما أسلم حمزة علمت قريش أن رسول الله ( صلى الله عليه و سلم) قد عزموا و امتنع و أن حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما كانوا يتناولونه و ينالون منه ، فقال في ذلك سعد حين ضرب أبا جهل فذكر رجزا غير مستقر أوله : ذق أبا جهل بما غشيت ، قال ثم رجع حمزة إلى بيته فأتاه الشيطان فقال : أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابىء و تركت دين آبائك للموت خير لك مما صنعت ، فأقبل على حمزة شبه فقال : ما صنعت اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي و إلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجاً فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان ، حتى أصبح فغدا على رسول الله ( صلى الله عليه و سلم) فقال : ابن أخي إني وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه و أقامه مثلي على ما لا أدري ما هو أرشد هو أم غي شديد فحدثني حديثاً فقد استشهيت يا ابن أخي أن تحدثني فأقبل رسول الله (صلى الله عليه و سلم) فذكره و وعظه و خوفه و بشره فألقى الله في نفسه الإيمان ، كما قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم) . فقال : أشهد أنك لصادق شهادة المصدق و المعارف فأظهر يا ابن أخي دينك فوالله ما أحب أن لي ما ألمعت الشمس و أني على ديني الأول. قال : فكان حمزة ممن أعز الله به الدين.
(المستدرك 3/ 213) ( رقم 4878 ) و(المعجم الكبير 3/139) و(مجمع الزوائد 9/ 433)
سابعاً ـ صورة من دفاع آل البيت عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم)
فاطمة تدافع عن الرسول( صلى الله عليه وسلم)(1/175)
عن عبد الله هو بن مسعود (رضي الله عنه) قال : بينما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائم يصلي عند الكعبة وجميع قريش في مجالسهم ينظرون ، إذ قال قائل منهم ألا تنظرون إلى هذا المرائي ، أيكم يقوم إلى جزور أبي فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه ، فانبعث أشقاها فجاء به فلما سجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وضعه بين كتفيه ، وثبت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ساجدا وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض من الضحك ، فانطلق منطلق إلى فاطمة ( رضي الله عنها) ــ وهي جويرية ــ فأقبلت تسعى حتى ألقته عنه وأقبلت عليهم تسبهم فلما قضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الصلاة قال اللهم عليك بقريش ثلاثًا، ثم سمى اللهم عليك بعمرو بن هشام وبعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد ، قال عبد الله : والله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر يسحبون إلى قليب بدر ، ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأتبع أصحاب القليب لعنة . ( رواه البخاري في الصحيح عن أحمد بن إسحاق عن عبيد الله بن موسى وأخرجه هو ومسلم من وجه آخر عن أبي إسحاق) (سنن البيهقي الكبرى 9/7)
وصور ، ونماذج الدفاع عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كثيرة ، ومتعددة في كل تقسيم من التقسيمات سابقة الذكر ، ولكنني أردت أن أقف على نماذج سريعة ، تبين الهدف المنشود ، من أن الدفاع عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أمر واجب ، وقد حدث أثناء حياته ( صلى الله عليه وسلم ) فمن واجبنا الآن الذب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ).
(ب) : قتل من سب أو أساء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
1ـ أن الذمي إذا سب الرسول أو سب الله أو عاب الإسلام علانية فقد نكث يمينه و طعن في ديننا لأنه لا خلاف بين المسلمين أنه يعاقب على ذلك و يؤدب عليه فعلم أنه لم يعاهد عليه لأنا لو عاهدناه عليه ثم فعله لم تجز عقوبته و إذا كنا قد عاهدناه على أن لا يطعن في ديننا ثم يطعن في ديننا فقد نكث في دينه من بعد عهده و طعن في ديننا فيجب قتله بنص الآية( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله )الصارم المسلول 1/16
2ـ عن خليد أن رجلا سب عمر بن عبد العزيز فكتب عمر : إنه لا يقتل إلا من سب رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) و لكن اجلده على رأسه أسواطاً ، و لولا أني أعلم أن ذلك خير له لم أفعل .( الصارم المسلول 1/ 213)
3ـ أن عيب ديننا و شتم نبينا مجاهدة لنا و محاربة فكان نقضا للعهد كالمجاهدة و المحاربة بالأولى. يبين ذلك أن الله سبحانه قال في كتابه : { و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل الله } [ التوبة : 41 ] و الجهاد بالنفس يكون باللسان كما يكون باليد بل قد يكون أقوى منه قال النبي ( صلى الله عليه و سلم )[ جاهدوا المشركين بأيديكم و ألسنتكم و أموالكم ] (رواه النسائي و غيره)
4ـ و كان [ صلى الله عليه و سلم ] يقول لحسان بن ثابت : [ أهجهم و هاجهم ] [ و كان ينصب له منبر في المسجد ينافح عن رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) بشعره و هجائه للمشركين ] و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم أيده بروح القدس ] و قال : [ إن جبرئيل معك ما دمت تنافح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ] و قال : [ هي أنكى فيهم من النبل[.
5ـ و إذا كان شأن الجهاد باللسان هذا الشأن في شتم المشركين و هجائهم و إظهار دين الله و الدعاء إليه ، علم أن من شتم دين الله و رسوله و أظهر ذلك و ذكر كتاب الله بالسوء علانية فقد جاهد المسلمين و حاربهم و ذلك نفض للعهد.
6ـ أنّا و إن أقررناهم على ما يعتقدونه من الكفر و الشرك فهو كإقرارنا لهم على ما يضمرونه لنا من العداوة و إرادة السوء بنا و تمني الغوائل لنا فإننا نحن نعلم أنهم يعتقدون خلاف ديننا و يريدون سفك دمائنا و علو دينهم و يسعون في ذلك لو قدروا عليه فهذا القدر أقررناهم عليه فإذا عملوا بموجب هذه الإرادة ـ بأن حاربونا و قاتلونا ـ نقضوا العهد كذلك إذا عملوا بموجب تلك العقيدة ـ من إظهار السب لله و لكتابه و لدينه و لرسوله ـ نقضوا العهد إذ لا فرق بين العمل بموجب الإرادة و موجب الاعتقاد.
7ـ أن مطلق العهد الذي بيننا و بينهم يقتضي أن يكفوا و يمسكوا عن إظهار الطعن في ديننا و شتم رسولنا كما يقتضي الإمساك عن دمائنا و محاربتنا لأن معنى العهد أن كل واحد من المتعاهدين يؤمن الآخر مما يحذره منه قبل العهد و من المعلوم أنا نحذر منهم إظهار كلمة الكفر و سب الرسول و شتمه كما نحذر إظهار المحاربة بل أولى لأنا نسفك الدماء و نبذل الأمول في تعزير الرسول و توقيره و رفع ذكره و إظهار شرفه و علو قدره وهم جميعا يعلمون هذا من ديننا فالمظهر منهم لسبه ناقض للعهد فاعل لما كنا نحذره و نقاتله عليه قبل العهد و هذا واضح.الصارم المسلول 1/213(1/176)
8ـ أن إظهار سب الرسول طعن في دين المسلمين و إضرار بهم و مجرد التكلم بدينهم ليس فيه إضرار بالمسلمين فصار إظهار سب الرسول بمنزلة المحاربة يعاقبون عليها و إن كانت دون الشرك .
9ـ متى أظهروا الكفر الذي هو طعن في دين الله نقضوا به العهد بخلاف كفر لا يطعنون به في ديننا و هذا لأن العهد إنما اقتضى أن يقولوا و يفعلوا بينهم ما شاءوا مما لا يضر المسلمين فأما أن يظهروا كلمة الكفر أو أن يؤذوا المسلمين فلم يعاهدوا عليه البتة .
10ـ قال أبو عبد الله في رواية حنبل : [ كل من ذكر شيئا يعرض بذكر الرب تبارك و تعالى فعليه القتل مسلما كان أم كافرا و هذا مذهب أهل المدينة ، و قال جعفر بن محمد : سمعت أبا عبد الله يسأل عن يهودي مر بمؤذن و هو يؤذن فقال له : كذبت فقال : يقتل لأنه شتم[.
11ـ عن عمر ( رضي الله عنه ) أنه قال بمحضر من المهاجرين و الأنصار للنصراني الذي قال : إن الله لا يضل أحداً ، قال : إنا لم نعطك ما أعطيناك على أن تدخل علينا في ديننا فوالذي نفسي بيده لئن عدت لأخذن الذي فيه عيناك.
12ـ و جميع ما ذكرناه من الآيات و الاعتبار يجيئ أيضا في ذلك فإن الجهاد واجب حتى تكون كلمة الله هي العليا و حتى يكون الدين كله لله و حتى يظهر دين الله على الدين كله. الصارم المسلول 1/256
14ـ يتعين قتل من نقض العهد بسب الرسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) وحده ، كما قد ذكره القاضي أبو يعلى و كما ذكره طائفة من أصحاب الشافعي و كما نص عليه عامة الذين ذكروه في نواقض العهد و ذكروا أن الإمام يتخير فيمن نقض العهد على سبيل الإجمال فإنهم ذكروا في مواضع أخر انه يقتل من غير تخيير.
15ـ إنه يقتل لأن سب رسول الله صلى الله عليه و سلم موجب للقتل حدا من الحدود كما لو نقض العهد بزنا أو قطع طريق فإنه يقام عليه حد ذلك فيقتل إن أوجب القتل بل قد يقتل الذمي حدا من الحدود و إن لم ينتقض عهده كما لو قتل ذميا آخر أو زنى بذمية فإنه يستوفى منه القود و حد الزنا وعهده باق و مذهب مالك يمكن أن يوجه على هذا المأخذ إن كان فيهم من يقول لم ينتقض عهده.الصارم المسلول 1/287
16ـ والدليل ،الآيات الدالة على وجوب قتل الطاعن في الدين.الصارم المسلول 1/288
17ـ قوله ( صلى الله عليه و سلم ) إن كان ثابتا [ من سب نبيا قتل و من سب أصحابه جلد ] فأوجب القتل عينا على كل ساب و لم يخير بينه و بين غيره .
18ـ أن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) دعا الناس إلى قتل ابن الأشرف لأنه كان يؤذي الله و رسوله و كذلك كان يأمر بقتل من يسبه أو يهجوه إلا من عفا عنه بعد القدرة .
و أمره ( صلى الله عليه و سلم ) للإيجاب فعلم وجوب قتل الساب و إن لم يجب قتل غيره من المحاربين و كذلك كانت سيرته لم يعلم أنه ترك قتل أحد من السابين بعد القدرة عليه إلا من تاب أو كان من المنافقين و هذا يصلح أن يكون امتثالا للأمر بالجهاد و إقامة الحدود فيكون على الإيجاب يؤيد أن في ترك قتله تركاً لنصر الله و رسوله و ذلك غير جائز.
19ـ أقاويل الصحابة فإنها نصوص في تعين قتله مثل قول عمر رضي الله عنه [ من سب الله أو سب أحدا من الأنبياء فاقتلوه ] فأمر بقتله عينا و مثل قول ابن عباس رضي الله عنه [ أيما معاهد عاند فسب الله أو سب أحدا من الأنبياء أو جهر به فقد نقض العهد فاقتلوه ] فأمر بقتل المعاهد إذا سب عينا .
و مثل قول أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) يما كتب به إلى المهاجر في المرأة التي سبت النبي صلى الله عليه و سلم [ لولا ما قد سبقتني فيها لأمرتك بقتلها لأن حد الأنبياء لا يشبه الحدود فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد و معاهد فهو محارب غادر ] فبين أن الواجب كان قتلها عينا لولا فوات ذلك و لم يجعل فيه خيرة إلى الأمام و لا سيما والسابة امرأة و ذلك وحده دليل .
و مثل قول ابن عمر في الراهب الذي بلغه أنه يسب النبي ( صلى الله عليه و سلم) : [ لو سمعته لقتلته ] و لو كان كالأسير الذي يخير فيه الإمام لم يجز لابن عمر اختيار قتله و هذا الدليل واضح.
20 ـ أن ناقض العهد بسب النبي ( صلى الله عليه و سلم ) و نحوه حاله أغلظ من حال الحربي الأصلي و خروجه عما عاهدنا عليه بالطعن في الدين و أذى الله ورسوله و مثل هذا يجب أن يعاقب عقوبة تزجر أمثاله عن مثل حاله .
و الدليل عليه قوله سبحانه و تعالى : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة و هم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون } [ الأنفال : 57 ] فأمر الله رسوله إذا صادف الناكثين للعهد في الحرب أن يشرد بهم غيرهم من الكفار بأن يفعل بهم ما يتفرق به أولئك و قال تعالى : { ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدأوكم أول مرة } [ التوبة : 13 ] فحض على قتال من نكث اليمين و هم بإخراج الرسول و بدأ بنقض العهد .(1/177)
21ـ و معلوم أن من سب الرسول ( صلى الله عليه و سلم ) فقد فعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول و بدأنا أول مرة ثم قال تعالى : { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديهم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف صدور قوم مؤمنين و يذهب غيظ قلوبهم } [ التوبة : 15 ] فعلم أن تعذيب هؤلاء و إخزاءهم و نصر المؤمنين عليهم و شفاء صدورهم بالإنتقام منهم و ذهاب غيظ قلوبهم مما أذوهم به أمر مقصود للشارع مطلوب في الدين و معلوم أن هذا المقصود لا يحصل ممن سب النبي ( صلى الله عليه و سلم ) و آذى الله تعالى و رسوله و عباده المؤمنين إلا بقتله لا يحصل بمجرد استرقاقه و لا بالمن عليه و المفاداة به.
22ـ و كذلك أيضا تنكيل غيره من الكفار الذين قد يريدون إظهار السب لا يحصل على سبيل التمام إلا بذلك و لا يعارض هذا من نقض العهد في طائفة ممتنعة إذا أسرنا واحدا منهم لأن قتال أولئك و الظهور عليهم يحصل هذا المقصود بخلاف من كان في أيدينا قبل السب و بعده فإن لم يحدث فيه قتلاً لم يحصل هذا المقصود.الصارم المسلول 1/392
23 ـ أن الذمي إذا سب النبي ( صلى الله عليه و سلم) فقد صدر منه فعل تضمن أمرين أحدهما : انتقاض العهد الذي بيننا و بينه الثاني : جنايته على عرض رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) و انتهاكه حرمته و إيذاء الله و رسوله و المؤمنين و طعنه في الدين و هذا معنى زائد على مجرد كونه كافرا قد نقض العهد ونظير ذلك أن ينقضه بالزنا بمسلمة أو بقطع الطريق على المسلمين و قتلهم و أخذ أموالهم أو بقتل مسلم فإن فعله ـ مع كونه نقضا للعهد ـ قد تضمن جناية آخرى فإن الزنا و قطع الطريق و القتل من حيث هو هو جناية منفصلة عن نقض العهد له عقوبة تخصه في الدنيا و الآخرة زائدة على مجرد عقوبة التكذيب بنبوية ، و الدليل عليه قوله سبحانه و تعالى : { إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا } [ الأحزاب : 57 ] فعلق اللعنة في الدنيا و الآخرة و العذاب المهين بنفس أذى الله و رسوله فعلم أنه موجب ذلك و كذلك قوله تعالى : { و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } [ التوبة : 12 ] .
24 ـ يوضح ذلك أن النبي ( صلى الله عليه و سلم ) لما دخل مكة آمن الناس الذين كانوا يقاتلونه قبل ذلك و الذين نقضوا العهد الذي كان بينه و بينهم و خانوه ، إلا نفرا منهم القينتان اللتان كانتا تغنيان بهجائه و سارة مولاة بني عبد المطلب التي كانت تؤذيه بمكة.
فإذا كان قد أمر بقتل التي كانت تهجوه من النساء ـ مع أن قتل المرأة لا يجوز إلا إذا قاتلت و هو (صلى الله عليه و سلم) قد آمن جميع أهل مكة من كان قد قاتل و نقض العهد من الرجال و النساء ـ علم بذلك أن الهجاء جناية زائدة على مجرد القتال و الحراب ، لأن التفريق بين المتماثلين لا يقع من النبي ( صلى الله عليه و سلم ) كما أنه بقتل ابن خطل لأنه كان قد قتل مسلماً و لأنه كان مرتداً و لأنه كان يأمر بهجائه و كل واحد من القتل و الردة و الأمر بهجائه جناية زائدة على مجرد الكفر و الحراب.
26 ـ و مما يبين ذلك أنه قد كان أمر بقتل من كان يؤذيه بعد فتح مكة ـ مثل ابن الزبعرى و كعب بن زهير و الحويرث بن نقيد و ابن خطل و غيرهم ـ مع أمانه لسائر أهل البلد وكذلك أهدر دم أبي سفيان بن الحارث و امتنع من إدخاله عليه و إدخال عبد الله بن أبي أمية لما كانا يقعان في عرضه ـ و قتل ابن أبي معيط و النضر بن الحارث دون غيرهما من الأسرى و سمى من يبذل نفسه في قتله ناصراً لله و رسوله و كان بندب إلى قتل من يؤذيه و يقول : [ من يكفني عدوي[ .
27 ـ السب جناية زائدة على الكفر .
28ـ السب جناية لها موقع يزيد على سائر الجنايات بحيث يستحق صاحبها من العقوبة مالا يستحقه غيره و إن كان كافراً حربياً مبالغاً في محاربة المسليمين و أن وجوب الانتصار ممن كان هذه حالة كان مؤكداً في الدين و السعي في إهدار دمه من أفضل الأعمال و أوجبها و أحقها بالمسارعة إليه و ابتغاء رضوان الله تعالى فيه و أبلغ الجهاد الذي كتبه الله على عباده و فرضه عليهم .
29 ـ و من تأمل الذين أهدر النبي ( صلى الله عليه و سلم ) دماؤهم يوم الفتح و اشتد غضبه عليهم حتى قتل بعضهم في نفس الحرم و أعرض عن بعضهم و انتظر قتل بعضهم وجد لهم جرائم زائدة على الكفر و الحراب من ردة و قتل و نحو ذلك و جرم أكثرهم إنما كان من سب رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) و أذاه بألسنتهم فأي دليل أوضح من هذا على أن سبه و هجاءه جناية زائدة على الكفر و الحراب ، لا يدخل في ضمن الكفر كما يدخل سائر المعاصي في ضمن الكفر و على أن المعاهدين إذا نقضوا العهد و فيهم من سب النبي ( صلى الله عليه و سلم ) كان للسب عقوبة زائدة على عقوبة مجرد نقض العهد.الصارم المسلول 1/292(1/178)
30 ـ الرسول له نعت البشرية و نعت الرسالة كما قال : { سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } [ الاسراء : 93 ] فمن حيث هو بشر له أحكام البشر و من حيث هو رسول قد ميزه الله سبحانه و فضله بما خصه به . فسبه موجب للعقوبة من حيث هو بشر كغيره من المؤمنين ، و موجب العقوبة من حيث هو رسول بما خصه الله به ، لكن إنما أوجب القتل من حيث هو رسول فقط ؛ لأن السب المتعلق بالبشرية لا يوجب قتلاً وسبه من حيث هو رسول حق الله فقط ، فإذا أسلم الساب انقطع حكم السب المتعلق برسالته كما انقطع حكم السب المتعلق بالمرسل ، فسقط القتل الذي هو موجب ذلك السب و يبقى حق بشريته من هذا السب و حق البشرية إنما موجب جلد ثمانين.1/341 الصارم المسلول
31ـ قال تعالى : ( وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ) يقول تعالى وإن نكث المشركون الذين عاهدتموهم على مدة معينة أيمانهم أي عهودهم ومواثيقهم { وطعنوا في دينكم } أي عابوه وانتقصوه ومن ههنا أخذ قتل من سب الرسول صلوات الله وسلامه عليه أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بنقص ولهذا قال : { فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } أي يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال وقد قال قتادة وغيره : أئمة الكفر كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف وعدد رجالا.تفسير ابن كثير 2/447
(ج) فصل في الصبر والنصر .
1ـ الصبر على الأذى والاستمرار في الدعوة
(واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد( صلى الله عليه وسلم ) : واصبر يا محمد على ما أصابك من أذى في الله { وما صبرك إلا بالله } يقول : وما صبرك إن صبرت إلا بمعونة الله وتوفيقه إياك لذلك { ولا تحزن عليهم } يقول : ولا تحزن على هؤلاء المشركين الذين يكذبونك وينكرون ما جئتهم به في آن ولوا عنك وأعرضوا عما أتيتهم به من النصيحة { ولا تك في ضيق مما يمكرون } يقول : ولا يضيق صدرك بما يقولون من الجهل ونسبتهم ما جئتهم به إلى أنه سحر أو شعر أو كهانة { مما يمكرون } : مما يحتالون بالخدع في الصد عن سبيل الله ومن أراد الإيمان بك والتصديق بما أنزل الله إليك.تفسير الطبري 7/ 666
2ـ قال تعالى : (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود )
يقول تعالى ذكره مسليا نبيه محمداً (صلى الله عليه وسلم) عما يناله من أذى المشركين بالله وحاضاً له على الصبر على ما يلحقه منهم من السب والتكذيب : وإن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون بالله على ما أتيتهم به من الحق والبرهان وما تعدهم من العذاب على كفرهم بالله فذلك سنة إخوانهم من الأمم الخالية المكذبة رسل الله المشركة بالله ومنهاجهم من قبلهم فلا يصدنك ذلك فإن العذاب المهين من ورائهم ونصري إياك وأتباعك عليهم آتيهم من وراء ذلك كما آتى عذاب على أسلافهم من الأمم الذين من قبلهم بعد الإمهال إلى بلوغ الآجال فقد كذبت قبلهم : يعني مشركي قريش قوم نوح وقوم عاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وهم قوم شعيب : يقول : كذب كل هؤلاء رسلهم وكذب موسى فقيل : وكذب موسى ولم يقل : وقوم موسى لأن قوم موسى بنو إسرائيل وكانت قد استجابت له ولم تكذبه وإنما كذبه فرعون من القبط وقد قيل : إنما قيل ذلك كذلك لأنه ولد فيهم كما ولد في أهل مكة.
وقوله : { فأمليت للكافرين } يقول : فأمهلت لأهل الكفر بالله من هذه الأمم فلم أعاجلهم بالنقمة والعذاب { ثم أخذتهم } يقول : ثم أحللت بهم العقاب بعد الإملاء { فكيف كان نكير } يقول : فانظر يا محمد كيف كان تغييري ما كان بهم من نعمة وتنكري لهم عما كنت عليه من الإحسان إليهم ألم أبدلهم بالكثرة قلة وبالحياة موتا وهلاكا وبالعمارة خرابا ؟ يقول : فكذلك فعلي بمكذبيك من قريش وإن أمليت لهم إلى آجالهم فإني منجزك وعدي فيهم كما أنجزت غيرك من رسلي وعدي في أممهم فأهلكناهم وأنجيتهم من بين أظهرهم.تفسير الطبري 9/167
3ـ قال تعالى ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون )
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مثبته على المضي لما قلده من عبء الرسالة وثقل أحمال النبوة ( صلى الله عليه وسلم ) وآمره بالائتسام في العزم على النفوذ لذلك بأولي العزم من قبله من رسله الذين صبروا على عظيم ما لقوا فيه من قومهم من المكاره ونالهم فيه منهم من الأذى والشدائد { فاصبر } يا محمد على ما أصابك في الله من أذى مكذبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم بالإنذار { كما صبر أولو العزم } على القيام بأمر الله والانتهاء إلى طاعته من رسله الذين لم ينههم عن النفوذ لأمره ما نالهم فيه من شدة.(1/179)
عن ابن جبير في قوله { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } قال : سماه الله من شدته العزم ، وقوله { ولا تستعجل لهم } يقول : ولا تستعجل عليهم بالعذاب يقول : لا تعجل بمسألتك ربك ذلك لهم فإن ذلك نازل بهم لا محالة { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } يقول : كأنهم يوم يرون عذاب الله الذي يعدهم أنه منزل بهم لم يلبثوا في الدنيا ساعة من نهار لأنه ينسيهم شدة ما ينزل شدة ما ينزل بهم من عذابه قدر ما كانوا في الدنيا لبثوا ومبلغ ما فيها مكثوا من السنين و الشهور كما قال جل ثناؤه { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين } ( المؤمنون : 112 – 113)تفسير الطبري 11/302
4ـ قال تعالى ( وإن لك لأجرا غير ممنون)
وقوله : { وإن لك لأجرا غير ممنون } يقول تعالى ذكره : وإن لك يا محمد لثوابا من الله عظيما على صبرك على أذى المشركين إياك غير منقوص ولا مقطوع.تفسير الطبري 12/179
5 ـ قال تعالى ( فاصبر صبرا جميلا )
قوله { فاصبر صبرا جميلا } يقول تعالى ذكره : فاصبر صبرا جميلا يعني : صبرا لا جزع فيه يقول له : اصبر على أذى هؤلاء المشركين لك ولايثنيك ما تلقى منهم من المكروه عن تبليغ ما أمرك ربك أن تبلغهم من الرسالة تفسير الطبري 12/228
6ـ قال تعالى ( إلا تنصروه فقد نصره الله )
يقول تعالى : { إلا تنصروه } أي تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره { إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين } أي عام الهجرة لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه فخرج منهم هارباً بصحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة فجعل أبو بكر ( رضي الله عنه ) يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منهم أذى فجعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يسكنه ويثبته ويقول : [ يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ] كما قال الإمام أحمد عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ونحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال : فقال : [ يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ] ولهذا قال تعالى : { فأنزل الله سكينته عليه } أي تأييده ونصره عليه أي على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أشهر القولين وقيل على أبي بكر ، وروي عن ابن عباس وغيره قالوا : لأن الرسول( صلى الله عليه وسلم ) لم تزل معه سكينة وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ولهذا قال : { وأيده بجنود لم تروها } أي الملائكة { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا } قال ابن عباس يعني بكلمة الذين كفروا الشرك وكلمة الله هي لا إله إلا الله .تفسير بن كثير 2/472
7ـ قال عز وجل : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } قال قتادة والسدي وغيرهما ما يقال لك من التكذيب إلا كما قد قيل للرسل من قبلك فكما كذبت كذبوا وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر أنت على أذى قومك.تفسير ابن كثير 4/130
8ـ يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه : { لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } أي لم توصلون الأذى إلي وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة وفي هذا تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم وأمر له بالصبر ولهذا قال [ رحمة الله على موسى : لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ] وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أو يوصلوا إليه أذى كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها } وقوله تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به أزاغ الله قلوبهم عن الهدى وأسكنها الشك والحيرة والخذلان كما قال تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون }.تفسير ابن كثير 4/ 461
وعلى هذا فإن الذب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واجب ، حيث أن الله ـ عز وجل دافع عن رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وكذلك القرآن الكريم ، وبعض القريشيين ، والصحابة أجمعين والأنصار والمهاجرين ،والتابعين ، وآل البيت ، كل دافع عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ). وعلينا اتباع سيرتهم العطرة.
http://www.alfaseeh.com/vb/showthread.php?p=55427
=========================
توجيهات للدُعاة
أيها الداعية :
وظيفتك عالية ، وغالية ، فأنت سائر في طريق المرسلين .
الإخلاص أولاً ، والاتباع ثانيا ...سر على منهج الرسل ) قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة ).
عليك بحسن الأسلوب في الدعوة ، واختيار الأمر المناسب من الأقوال ، والأعمال ، والأوقات.(1/180)
ثم عليك بحسن الكلام ، فلا تغلظ في دعوتك ، بل كن هيّناً سهلاً وفي قصة موسى لما ذهب لفرعون ، قال الله له ولأخيه هارون ) فقولا له قولاً ليّناً لعله يتذكر أو يخشى ( والكلمة القوية القاسية ليس لها قبول ، فلماذا تقولها؟
مع أنك تستطيع أن تقول بدلها كلمة أخرى أحسن منها ...
ثم عليك بمجاهدة النفس على هذه الدعوة ، واصبر على ما تواجهه) واصبر على ما أصابك (
أخي الداعية
قد يصيبك الفتور ، وهذا ليس بغريب , ولكن انتبه ، لا تجعل الفتور يأخذ فترة طويلة من وقتك .
عليك بالتزود من الصلاة ، والصيام والقرآن، وطلب العلم ، وغيرها من الأعمال الصالحة كما قال الله تعالى ) واستعينوا بالصبر والصلاة ( فالعبادات زادُ كبير في طريق الدعاة
أخي الداعية
الوقت الوقت ، حافظ عليه ، فهو رأس مالك ، فاجعله كله لله
وأوصيك أخي :
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها ، وأعطها من الأعمال الصالحة ، وحاسبها .
ثم عليك بأهلك ، فادعهم إلى الله ) وأنذر عشيرتك الأقربين (
أخي الكريم
لا تنتظر نتيجة دعوتك ، ولا تنتظر أن يأتيك المدعو ويقول لك جزاك الله خيرا ً
ولاتكن ممن ينتظر ثناء الناس على دعوته
أو ممن يريد من الناس أن يغيروا منكراتهم بين يوم وليلة ، لا ، لا لا تنتظر ذلك .
ولا أي شيءٍ من ذلك , ألم تعلم بأنه سيأتي ( نبي ) يوم القيامة ، وليس معه أحد . فلماذا أنت تنتظر … ؟
ولماذا تتوقف عن الدعوة بحجة : أن الناس مازالوا على منكراتهم ؟
ولماذا تركت الدروس والأعمال الدعوية ..؟
هل أنت ( تهدي قلوبهم ) ( إن عليك إلا البلاغ )
أخي المبارك
إن كنت تعمل وتكدح وتتعب , فاعلم أن الأعداء يعملون ويكدحون
) إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون (
أيها الموفق
لابد من كسب قلب المدعو ، حتى يحبك ، فإن أحبك أحب ما تقول
فأحسن للناس وذلك بالخلق الحسن وبذل المال للمحتاج وبذل الوقت لحل مشاكل الناس .
وداوم على الابتسامة فهي مفتاح القلوب وتواضع للخلق ، وسترى حب الناس لك .
وقفة
لا بد لك أيها الداعية من معرفة حال المدعو , ومدى علمه ، وعقله ، وفهمه ، ونفسيته , وبالتجربة فإن معرفة ذلك من أكبر أسباب نجاح الدعوة
إشارة
استخدم أسلوب ( العمل ) أحياناً , فالتأثير بالقدوة أبلغ في النفوس من الكلام المجرد , ولا مانع من الدعوة بالكلام .
ولكن ممارسة التنويع مهم ،مثال : لو أردت دعوة الناس لصيام الأثنين والخميس , فلو
أنك داومت على صيامهما لتأثر الناس بك حتى لو لم تقل لهم صوموا , ولا يمنع أيضاً من أن تخبرهم بفضائل الصيام
همسة
عليك بأسلوب (القصة) لأن القصة لها لذة في الاستماع , والقرآن مليء بذلك ) فاقصص القَصص لعلهم يتفكرون ( , ولكن لا تحدث الناس إلا بالقصص الحقيقية ، ولا تكذب.
خاطرة
داوم على مطالعة سيرة الأنبياء وأخبارهم لترى فقه الدعوة , وترى صبرهم ، وإخلاصهم ) لقد كان في قصصهم عبرة .(
عبرة
قد ينالك أذى في نفسك أو في أهلك ، أو في دعوتك ، وهذا ليس بغريب , فهذا طريق الأنبياء ) وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين .(
همسة
انتبه لأفعالك ، فالناس ينظرون إليك ، يلاحظون أفعالك , واعلم أن الناس يعتقدون أنك ( قدوة) فلا تكن مثالا ًسيئاً للدعاة .
أخي الداعية
تزود من العلم ، وواظب على مطالعة الكتب ، وخاصة كتاب الله ، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم , فالعلم من أعظم الضروريات للدعاة , والناس عندهم أسئلة ومشكلات يريدون منك إجابة عليها
فكيف تجيب إذا لم يكن لديك العلم الكافي ؟؟
انتبه
لا تكن ( موسميا ً) ولا ( حماسياً ) , فإن بعض الدعاة يتحمس للدعوة لأجل شريط سمعه ، أو قصة , ولكن هذا الحماس يتوقف بعد أيام لا , إننا نريد دعوة مستمرة , دعوة لها منطلقات صحيحة ، دعوة مدروسة ، دعوة باقية ما بقي العمر.
أخي الكريم
أوصيك أن يكون نَفَسَك طويل فكن بعيد النظرة ، واسع الأفق ، فلا تستعجل , لا تستعجل ثمرة الدعوة ,لا تستعجل زوال المنكرات , لا تستعجل العذاب الذي ينزل بالكافرين ) فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم (
وصية لك
نريد الغضب لله ، لا للهوى ، لا لحظ النفس ، ونبيك صلى الله عليه وسلم كان يغضب لله فقط ، ولم يكن ينتصر لنفسه ,وما أصعب ذلك في وقت الغضب .
همسة خاصة
تعرّف إلى أعداءك ، وتعرّف على مكائدهم ، وصفاتهم ,واعلم بأنهم يدرسون الصحوة دراسة قوية ، ثم يُصدرون عقب ذلك الأعمال المدمّرة ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون( .
يا أيها (الداعية) ألم تقرأ هذه الآية ) يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ( هذا نداء من الله للمؤمنين ، أن ينصروا دين الله ، أن ينصروا الدعوة , فما شعورك عندما تقرأ هذه الآية ؟ وهل استجبت لدعوة الله
وقفة
قد يضيق صدرك من كيد الأعداء ، وانتشار الفساد ، وجهود العلمانيين , فما عليك منهم ولكن عليك بالتقوى والصبر ) وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً (
إشارة(1/181)
لا تكن ممن يسب الواقع ويتأفف دائما ً، ويتضجر في كل حين
نعم .. نحن نريد العمل , نعم إن الواقع مرير وكلنا يعرف ذلك
والأعداء يعملون ولا ننتظر منهم أن يتوقف كيدهم نريد بكل صراحة ( عملاً قوياً ) عملاً من منطلق الحكمة ,والذي يوقد شمعة خير من الذي يسب الظلام
الابتلاء
لا بد لك أيها الداعية من أن تتجرع كأس ( الابتلاء ) وتشرب من ماءه , لا بد ، شئت أم أبيت إن لم يكن اليوم فقد يكون غداً ، فإن لم يكن غدا ًفبعد شهر ، أو سنة أو سنوات ،لا بد ومن هو النبي الذي لم ينله أذى ؟ من الذي سلم من كلام الناس ) ولقد كُذّبت رُسلٌ من قبلك) ) ولقد استهزئ برسل من قبلك( (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين (
آيات كثيرة دلت على هذا الأصل العظيم
فما عليك إلا التزود بالتقوى والصبر ، والاستعداد لمواجهة عاصفة الابتلاء ومن كان مع الله كان الله معه , ومن أراد الآخرة ، فليصبروالدنيا قليلة , والآخرة هي دار القرار . فاصبر ......نعم ….. الصبر زادك ، الصبر على كل شيء ،
أمامك الصبر على انتشار الباطل والفساد ......
أمامك الصبر على تأخر استجابة الناس لك ...
أمامك الصبر على خذلان أهل الحق للحق ..
أمامك الصبر على كلام الناس فيك ، وسخريتهم .. نعم . نعم .. الصبر . الصبر.. أمامك الصبر على ترك زخرف الحياة الدنيا
أمامك الصبر على فتنة الشهرة والثناء والمدح
أمامك الصبر على : القتل في سبيل الله .. أمامك الصبر على السجن لأجل كلمة الحق .. الصبر .. الصبر ..هو زاد الأنبياء كلهم نعم .. كلهم .. ) فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ( فهذا نوح لم يؤمن معه إلا قليل ، فهل كان زاده إلا الصبر .
وهذا يوسف ( يُسجن )
وهذا عيسى أرادوا قتله
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يتعرض لأنواع الأذى والقتل
وهذا عمر ( قُتل ) وعثمان ( قتل ) وعلي ( قُتل )
وهذا خبيب بن عدي يوضع على المشنقة
وهذا أحمد بن حنبل يُجلد ثم يُسجن
وهذا مالك بن أنس يُطافُ به على البعير وهو يجلد
وهذا ابن تيمية يُسجن - حتى مات في السجن
هذه سيرة الأنبياء والدعاة إلى الله ، (فهل كان زادهم .. ) فمانصيب الصبر عندك ؟
همسة من محب
لاتكن كالشمعة تضيء للناس وتحرق نفسها
اجعل من وقتك شيء لمحاسبة النفس ومراجعة أعمالك
لترى ما قدمت ولكي تنظر في منهجك وطريقتك
وهل صدر منك خطأ لكي تتوب منه
لا بد من مراجعة أعمالكم أيها الدعاة
إشارة على الطريق
أخي الداعية
ينبغي لك أن تستشير العلماء والدعاة في أعمالك الدعوية) وشاورهم في الأمر ( وبالتجربة فإن الإقدام على بعض الأعمال بدون استشارة العلماء والدعاة يكون سببا ًفي الوقوع في الأخطاء .
وقفة
حاول أن تغرس ( هم الإسلام ) في نفوس الناس بقدر ما تستطيع
لأن وجود ذلك في نفوسهم يدفعهم للبذل والتضحية
أيها الداعية
عليك بالزهد ، نعم ، عليك بالزهد في كل ما في هذه الحياة
الزهد في زخرف الحياة ومتاعها ، الزهد في ثناء الناس ومدحهم
الزهد في الرئاسة والمناصب ، الزهد في المراكب الفاخرة
والقصور الشامخة ، ألم تتأمل في سيرة إمام الزاهدين صلى الله عليه وسلم فماذا كان يركب ؟
وماذا كان في بيته ؟
ولا تفهم من ذلك ترك التجمل والزينة المعتدلة لا ، المقصود ( رفض الدنيا عن قلبك )
=================
وشيجة العقيدة هي الأساس الذي يجب أن يتجمع عليه الناس
إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين ، وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم .
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب؛ وليست وشيجة الأرض والوطن ، وليست وشيجة القوم والعشيرة ، وليست وشيجة اللون واللغة ، وليست وشيجة الجنس والعنصر ، وليست وشيجة الحرفة والطبقة . . إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد؛ كما قال الله سبحانه وتعالى لعبده نوح عليه السلام وهو يقول : { رب إن ابني من أهلي } . . { يا نوح إنه ليس من أهلك } ثم بين له لماذا يكون ابنه . . ليس من أهله . . { إنه عمل غير صالح } . . إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح : { فلا تسألن ما ليس لك به علم } فأنت تحسب أنه من أهلك ، ولكن هذا الحسبان خاطئ . أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك ، ولو كان هو ابنك من صلبك!
وهذا هو الْمَعْلَم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط ، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة . . . إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب؛ وآناً هي الأرض والوطن ، وآناً هي القوم والعشيرة ، وآناً هي اللون واللغة ، وآناً هي الجنس والعنصر ، وآناً هي الحرفة والطبقة! تجعلها آناً هي المصالح المشتركة ، أو التاريخ المشترك . أو المصير المشترك . . وكلها تصورات جاهلية على تفرقها أو تجمعها تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي!(1/182)
والمنهج الرباني القويم ممثلاً في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير . . والْمَعْلَم الواضح البارز في مفرق الطريق . .
وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فما يكون بين الولد والوالد ، ضرب أمثاله لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى ، ليقرر من وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها .
* ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم عليه السلام وأبيه وقومه كذلك :
{ واذكر في الكتاب إبراهيم ، إنه كان صديقاً نبياً . إذ قال لأبيه : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً؟ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك ، فاتبعني أهدك صراطاً سوياً . يا أبت لا تعبد الشيطان ، إن الشيطان كان للرحمن عصياً . يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً . . قال : أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته لأرجمنك! واهجرني ملياً . قال سلام عليك سأستغفر لك ربي ، إنه كان بي حفياً ، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي ، عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً . فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبياً؛ ووهبنا لهم من رحمتنا ، وجعلنا لهم لسان صدق عليا } [ مريم : 41 50 ] .
* وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه الله سبحانه ولقنه ، وهو يعطيه عهده وميثاقه . ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه :
{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ، فأتمهن ، قال : إني جاعلك للناس إماما ، قال : ومن ذريتي؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين . . } { وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر . قال : ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } [ البقرة : 124 126 ]
* وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه ، وذلك فيما كان بين نوح وامرأته ، و لوط وامرأته . وفي الجانب الآخر ما كان بين امرأة فرعون و فرعون :
{ ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين ، فخانتاهما ، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ، وقيل : ادخلا النار مع الداخلين } { وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون ، إذ قالت : رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ، ونجني من فرعون وعمله ، ونجني من القوم الظالمين } [ التحريم : 10 11 ]
* وضربَ لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم ، ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم . وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم . وما كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم . . .
{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ، إذ قالوا لقومهم : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله ، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده . . . } [ الممتحنة : 4 ] .
{ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً؟ إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا : ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشداً ، فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً ، ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً ، نحن نقص عليك نبأهم بالحق ، إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا : ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذن شططاً . هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة . لولا يأتون عليهم بسلطان بين! فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً؟ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم [ الكهف : 9 16 ] .
وبهذه الأمثلة التي ضربها الله للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين . الذين سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان ، وضحت معالم الطريق لهذه الأمة؛ وقام هذا المَعْلَم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم ، ولا يقوم على سواها . وطالبها ربها بالإستقامة على الطريق في حسم ووضوح يتمثلان في مواقف كثيرة ، وفي توجيهات من القرآن كثيرة . . هذه نماذج منها . .(1/183)
{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، أولئك حزب الله ، ألا إن حزب الله هم المفلحون } [ المجادلة : 22 ] { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ، إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل } [ الممتحنة : 1 ]
{ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم ، والله بما تعملون بصير ، قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه . . . الخ } [ الممتحنة : 3 4 ] { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } [ التوبة : 23 ] .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [ المائدة : 51 ] .
وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي؛ وفي طبيعة بنائه وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديماً وحديثاً إلى آخر الزمان . ولم يعد هناك مجال للجمع بين « الإسلام » وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها الله للأمة المختارة .
والذين يدعون صفة الإسلام ، ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة ، إما أنهم لا يعرفون الإسلام؛ وإما أنهم يرفضونه . والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها ، بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلاً!
وندع هذه القاعدة وقد صارت واضحة تماماً لننظر في جوانب من حكمة الله في إقامة المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة . .
* إن العقيدة تمثل أعلى خصائص « الإنسان » التي تفرقه من عالم البهيمة؛ لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنساناً في هذه الصورة وحتى أشد الملحدين إلحاداً وأكثر الماديين مادية ، قد انتبهوا أخيراً إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقاً أساسياً عن الحيوان .
ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية هي آصرة التجمع . لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم . ولا تكون آصرة التجمع عنصراً يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم! من مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة ، وسياج الحظيرة! ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصر واللون واللغة . . فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة . وليس هناك إلا شؤون العقل و القلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة!
* كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم . . هو عنصر الاختيار والإرادة ، فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد؛ وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختاراً؛ ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والإقتصادي والخلقي الذي يريد بكامل حريته أن يتمذهب به ويعيش . .
ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه . كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها ، ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها . . إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية! . . إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض ، ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي؛ إنما هي تفرض عليه فرضاً سواء أحب أم كره! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معاً أو حتى في الدنيا وحدها بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضاً لم يكن مختاراً ولا مريداً؛ وبذلك تسلب إنسانيته مقوماً من أخص مقوماتها؛ وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان؛ بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق!
ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية ، والمحافظة على الكرامة التي وهبها الله له متمشية مع تلك الخصائص؛ يجعل الإسلام العقيدة التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي؛ والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية .
وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية ، التي لا يد له فيها ، ولا يملك كذلك تغييرها باختياره ، هي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته .(1/184)
* ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى أن ينشئ مجتمعاً إنسانياً عالمياً مفتوحاً؛ يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي؛ لا يصدهم عنه صاد ، ولا يقوم في وجوههم حاجز ، ولا تقف دونه حدود مصطنعة ، خارجة عن خصائص الإنسان العليا . وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية ، وتجتمع في صعيد واحد ، لتنشىء « حضارة إنسانية » تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية؛ و لا تغلق دون كفاية واحدة ، بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض . . .
« ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية؛ ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها ، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة ، والحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز » خصائص الإنسان « في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها ، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان . . كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والألوان واللغات ، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها ، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت ، وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة . وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة ، تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة ، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان . »
« لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق : العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونيسي والإفريقي . . . إلى آخر الأقوام والأجناس . . . وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية . ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما » عربية « إنما كانت دائماً » إسلامية « ولم تكن يوماً ما » قومية « إنما كانت دائماً » إسلامية « و لم تكن يوماً ما » قومية « إنما كانت دائماً » عقيدية « .
» ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة ، وبآصرة الحب . وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة . فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم ، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم ، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية فى بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة ، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد ، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق .
وهذا ما لم يجتمع قط لأى تجمع آخر على مدار التاريخ!
« لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً . فقد جمعت بالفعل أجناساً متعددة ، ولغات متعددة ، وألواناً متعددة ، وأمزجة متعددة . ولكن هذا كله لم يقم على » آصرة إنسانية « ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة . . لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية؛ وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني بصفة عامة وعبودية سائر الأجناس الأخرى . ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي؛ ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي . »
« كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى . . تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً . . ولكنه كان كالتجمع الروماني ، الذي هو وريثه! تجمعاً قومياً استغلالياً ، يقوم على أساس سيادة القومية الانجليزية ، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية . . ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها . . الإمبراطورية الإسبانية والبرتغالية في وقت ما ، والإمبراطورية الفرنسية . . كلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر ، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون . ولكنها لم تقمه على قاعدة » إنسانية « عامة ، إنما أقامته على القاعدة » الطبقية « . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم . . هذا تجمع قاعدة طبقة » الأشراف « وذلك تجمع على قاعدة طبقة » الصعاليك « ( البروليتريا ) ؛ والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني . . فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها . باعتبار أن » المطالب الأساسية « للإنسان هي » الطعام والمسكن والجنس « وهي مطالب الحيوان الأولية وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!! »(1/185)
« لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني . . وما يزال متفرداً . . والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر ، يقوم على أية قاعدة أخرى ، من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة . . إلى آخر هذا النتن السخيف ، هم أعداء » الإنسان « حقاً! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله؛ ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع باقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق » .
* ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين ، الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته؛ وهم الذين يقول الله تعالى فيهم :
{ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين ، وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس . . ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه؛ وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله؛ ولاستغلالهم كذالك و استغلال مقدراتهم وديارهم وأموالهم . . لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها؛ وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد ، أصناماً تعبد من دون الله ، اسمها تارة « الوطن » واسمها تارة « القوم » واسمها تارة « الجنس » . وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ تارة باسم « الشعوبية » وتارة باسم « الجنسية الطورانية » وتارة باسم « القومية العربية » وتارة بأسماء شتى ، تحملها جبهات شتى ، تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة ، المنظم بأحكام الشريعة . . إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية ، وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة؛ وإلى أن أصبحت تلك « الأصنام » مقدسات يعتبر المنكر لها خارجاً على دين قومه! أو خائناً لمصالح بلده!!!
وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ . . كان هو المعسكر اليهودي الخبيث ، الذي جرب سلاح « القومية » في تحطيم التجمع المسيحي ، و تحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية . . وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي؛ ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود!
وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع الإسلامي بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي . . ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله . كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الإستعمار الأوروبي الصليبي . وما يزالون . . حتى يأذن الله بتحطيم تلك الأصنام الخبيثة الملعونة؛ ليقوم التجمع الإسلامي من جديد ، على أساسه المتين الفريد . .
* وأخيراً فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم . ذلك أن الدينونة لله وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم .
يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد ، وألا تتعدد « المقدسات »! ويجب ان يكون هناك شعار واحد ، وألا تتعدد « الشعارات » ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات . .
إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى؛ كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صوراً متعددة؛ وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون الله أياً كانت أسماؤها .
وأياً كانت مراسمها .
وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية ، ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان . . وما إليها . . يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها . وهو يدعوهم إلى الله وحده ، وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه!
لذلك قسم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري . . أمة المسلمين من أتباع الرسل كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون . .(1/186)
وعندما أراد الله أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون ، عرفها لهم في صورة أتباع الرسل كل في زمانه وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة : { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } ولم يقل للعرب : إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء! ولا قال لليهود : إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء! ولا قال لسلمان الفارسي : إن أمتك هي فارس! ولا لصهيب الرومي : إن أمتك هي الرومان! ولا لبلال الحبشي : إن أمتك هي الحبشة! إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش : إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقاً على أيام موسى وهارون ، وإبراهيم ، ولوط ، ونوح ، وداود وسليمان ، وأيوب ، وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون ، وزكريا ويحيى ، ومريم . . كما جاء في سورة الأنبياء : [ آيات 48 91 ] .
هذه هي أمة « المسلمين » في تعريف الله سبحانه . . فمن شاء له طريقاً غير طريق الله فليسلكه . ولكن ليقل : إنه ليس من المسلمين! أما نحن الذين اسلمنا لله ، فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا الله . والله يقص الحق وهو خير الفاصلين . .
وحسبنا هذا القدر مع إلهامات قصة نوح في هذه القضية الأساسية في هذا الدين .
ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان الله سبحانه :
إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح عليه السلام ، تذكر بعض الروايات انهم اثنا عشر ، هم كانوا حصيلة دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عاماً كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن . .
إن هذه الحفنة وهي ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون؛ وأن يجري لها ذلك الطوفان الذي يغمر كل شيء وكل حي في المعمور وقتها من الأرض!
وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك ، وبذرة العمران فيها والإستخلاف من جديد
. . وهذا أمر خطير . .
إن طلائع البعث الإسلامي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها؛ والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة؛ كما تعاني من الأذى والمطاردة والتعذيب والتنكيل .
إن هذه الطلائع ينبغي أن تقف طويلاً أمام هذا الأمر الخطير ، وأمام دلالته التي تستحق التدبر والتفكير!
إن وجود البذرة المسلمة في الأرض شيء عظيم في ميزان الله تعالى . . شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية وأرضها وعمرانها ومنشآتها وقواها ومدخراتها جميعاً؛ كما يستحق منه سبحانه ان يكلأ هذه البذرة ويرعاها حتى تسلم وتنجو وترث الأرض وتعمرها من جديد!
لقد كان نوح عليه السلام يصنع الفلك بأعين الله ووحيه ، كما قال تعالى : { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } . .
وعندما لجأ نوح إلى ربه والقوم يطاردونه ويزجرونه ويفترونه عليه كما قال الله تعالى في سورة القمر :
{ كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر . فدعا ربه أني مغلوب فانتصر } عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه { مغلوب } ويدعو ربه أن « ينتصر » هو وقد غُلب رسوله . . عندئذ أطلق الله القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب :
{ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر } وبينما كانت تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوى الكوني الرائع الموهوب . . كان الله سبحانه بذاته العلية مع عبده المغلوب :
{ وحملناه على ذات ألواح ودسر . تجري بأعيننا . . جزاء لمن كان كفر . . } هذه هي الصورة الهائلة التي يجب أن تقف طلائع البعث الإسلامي في كل مكان وفي كل زمان أمامها حين تطاردها الجاهلية؛ وحين « تغلبها » الجاهليه!
إنها تستحق أن يسخر الله لها القوى الكونية الهائلة . . وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان . فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى! { وما يعلم جنود ربك إلا هو } وإنه ليس عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها؛ وإلا أن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه؛ وإلا أن تصبر حتى يأتي الله بأمره ، وإلا أن تثق أن وليها القدير لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء . وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه ، إلا فترة الإعداد والابتلاء؛ وأنها متى اجتازت هذه الفترة فإن الله سيصنع لها وسيصنع بها في الأرض ما يشاء .
وهذه هي عبرة الحادث الكوني العظيم . .
إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى إفراد الله سبحانه بالربوبية . كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية فيظن أن الله تاركه لهذه القوى و هو عبده الذي يستنصر به فيدعوه : { أني مغلوب فانتصر } إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة و لا متقاربة . . إن الجاهلية تملك قواها . . و لكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله(1/187)
و الله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية - حينما يشاء و كيفما يشاء وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب!
وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله . . ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً؛ قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله . ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلا اثني عشر مسلماً . . ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى الهائلة ، والتدمير على البشرية الضالة جميعاً ، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة تعمرها من جديد وتستخلف فيها . .
إن عصر الخوارق لم يمض! فالخوارق تتم في كل لحظة وفق مشيئة الله الطليقة ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطاَ أخرى ، تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها . وقد تدِق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها؛ ولكن الموصولين بالله يرون يد الله دائماً ، ويلابسون آثارها المبدعة .
والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملاً ، بكل ما في طاقتهم من جهد؛ ثم يدَعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة . وعندما يُغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين وأن يجأروا إليه كما جأر عبده الصالح نوح : { فدعا ربه أني مغلوب ، فانتصر } ثم ينتظروا فرج الله القريب . وانتظار الفرج من الله عبادة؛ فهم على هذا الانتظار مأجورون .
ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهاداً كبيراً . . إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن؛ ومن ثم يتذوقونه ويدركونه؛ لأنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطاباً مباشراً به ، كما خوطبت به الجماعة المسلمة الأولى ، فتذوقته وأدركته وتحركت به . .
. . والحمد لله في الأولى والآخرة . .( الظلال)
===================
وحي القلم من سيرة النبي الأكرم لى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب " يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء من عباده وهم يجادلون في الله ، وهو شديد المحال ، له دعوة الحق ، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال "
وأصلي وأسلم على منهاج الكمال ، ومعراج الجلال والجمال ، وبهجة نفوس المتقين ، وراحة صدور الصالحين ، ومرجع العلماء الربانيين ، وقرة عيون الموحدين ، سيدنا نحند النبي الأمين ، سيدنا وسيد الأولين ولآخرين ، وإمام الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله المطهرين ، وصحبة الكرام الطيبين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وارزقنا اللهم حبه وحبهم ، وطريقة وهديهم ، وشفاعته وصحبتهم .
وبعد /…..
كنت اودَّ أن أكتب هذه الورقات بماء الذهب على صفائح الفضة فإني أحتسب عند الله تعالى أجرها ، وأدّخر في عظيم خزائنة ثوابها ، يحدوني فيها الحُبُّ الصادقُ للنبي الكريم ، ومنهجه القويم ، وصراطه المستقيم ، عسى أن تكون لي عملاً صالحاً أتوسل به إلى الله أنْ يغفر خطيئتي وذنبي ، ويصلح سريرتي وقلبي ، ويستَلَّ سخيمتي ويستر عيبي ، ويقبل توتبتي ، ويعفو عن حَوْبني ، ويرحم والديَّ ، ويحسن إليهما ، كما ربياني صغيراً ، ويُحْسنَ إلى أستاذي ، ومشايخي ، وإخواني ، ورحمي ، ويجعل لي من زوجي وذريتي قُرَّة عينٍ ، ويرفع بما يجب من أخلاق الصادقين عنده درجتي . إنه ولي حليم ، وعلىّ كريم .
وفي هذه المقدمة للمجلد الثالث من الموسوعة التي نرجو الله أن ينفع بها ، وهو المجلد الخاص بالسيرة النبيوية نبدأ بترجمة موجزة لإمام المتقين محمد r .
وهذا أوان الشروع في المقصود :
ترجمة موجزة لإمام المتقين محمد r
أكتبها من رأس القلم ، يمليها الخاطر المُحِبْ :
هو إمام المتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم بن عبد الله بن عبد المطلب ( وهو شيبة الحمد ) ، بن هاشم ( وهو : عمرو ) ، بن عبد مناف ( وهو المغيرة ) ، ابن قصيّ ( وهو : زيد ) ، بن كلاب ، بن مرة ، بن كعب ، بن لؤي ، بن غالب ابن فهر ، بن مالك ، بن النضير ، بن كنانة ، بن خزيمة ، بن مدركة ( وهو : عامر ) بن إلياس ، بن مضر ، بن نزار ، بن معد ، بن عدنان .
وهذا النسب هو ما يقفه عنده الحفاظ الأيقاظ ، وما بعده إلى إبراهيم ، له إلى آدم من خبط العشواء ، وركوب الماء .
ولد صلى الله عليه وسلم في عام نصر الله فيه نفسه ، وأظهر بعض بأسه ، ورفع سوط عذابه ليدفع عن بيته ومحرابه ، وأرى العرب والعجم آية من آياته المبينة ، إذ أرسل على عدده " أبرهة " أسلحته القاضية ، وسيوفة الماضية ، فجعلتهم – كعصفٍ مأكول ؛ إذ ما تصنع طيور كالعصافير ، وأحجار كالمسامير ، في جيش جرار ، وجند مغوار .(1/188)
إنَّ بأس الله وحده ، وبطش الله وحده ، ولا والله ليس كما قال عبد المطلب : إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدالك فليس لكم في هذا الأمرشيئ ، وأني المشركين يعبدون الأوثان في جو في بيت الله الرحمن أن ينصره ؟
لقد قال الله للناس جمعياً يومئذ ( من كان يريد العزة فإن العزة لله جميعا ) وأعلمهم أنه ناصر نفسه ، وإن تولى الناس ، وأن المفلح من قيد نفسه في ديوان المدافعين ، وماهو بشئ ، ولكن " الله يدافع " .
وهنالك زلزل إيوان كسرى ، وهدمت جنباته ، وأخمدت النيران ، إشارة إلى انهدام الباطل ، وانطفاء ناره ( وقل جاء الحق وذهق الباطل ) ، ( كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ) .
وهنالك وُلِدَ محمد صلى الله عليه وسلم – يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأول من هذا العام المشهود – هذا ما بقوله أصحاب السير وفي هذه الليلة المكية المباركة كان يهدد المدينة يراقبون الموقف ، فها هو يهودي يصرخ بأعلى صوته : يا معشر يهود : قالوا : ويلك : مالك ؛ قال : طلع الليلة نجم أحمد الذي وُلِدَ به .
أبواه : عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم – أشرف العرب قاطبة
وأمه : آمنه بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة – من قريش " فرسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف ولدا آدم حباً ، وأفضلهم نسباً ، من قبل أبيه وأمه ، صلى الله عليه وسلم ، وشرف وكرم ، ومجد وعظم "
وكانت رضاعته في " بني سعد " وكان اليتيم من حظ " حليمة " فكتب اسمها في التاريخ ، بينما نسيت أسماء صواحباتها اللاتي ترجعن بأبناء الأحياء .
كانت أزهد الناس فيه ،فلما أخذته قالت " فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير ، حتى مضت سنتاه ، وفصلته ، فجاءت إلى مكة تحتال لكي تتركه خديجة معها ؛ " لو تركت بني عندي حتى يغلظ ؛ فإني أخشى عليه وبأ مكة " ، قالت فلم نزل بها – أي بأمه – حتى ردته معنا .
تقول : أخشى عليه وبأ مكة . وهي لم يدر في خلوها أن هو الذي سيزيل وبأ مكة ، ووبأ العالم كله :
[ وما أرسلناك إلى رحمة للعالمين ]
وهناك شق صدره المبارك ، واستخرج قلبه الطيب ، فطهر من السوء ، وغسل بالثلج ، ( ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ) وكفله جده ثم عمه ، وظهرت معه الكرامه الربانية حيثما حل ، وأينما سار ، وأدرك بعض متفر سمي الأحبار وارهبان أن ( محمد ) صاحبهم الذي ذكر في كتابهم ، منهم " بحيرا" الراهب الذي كان يقطن صومعته على مشارف الشام " إليه انتهى علم النصرانية في زمانه " وهو الذي قال لأبي طالب حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه يهود ، فوالله لو رأوه وعرفوا منه عرفت ببغنه وشراً ؛ فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم " .
وتواردت بشارات الأحبار والرهبان ، وأخبار الجان والكهان عن مبعث النبي المصطفى ، والزكي المرتضى صلى الله عليه وسلم ، حتى عرفها كثير من الناس في الوقت الذي تزوج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخديجة بنت خويلد بن أسد ابن عبد العزى بن قصي بن كلاب – أوسط نساء قريش نسباً ، وأعظمهن شرفاً .
وحبب إليه الخلاء ، فكان يذهب الليالي ذوات العدد ، يتخنث في غار حراء " على مبعدة ثلاثة أميال من مكة ، ينفض عند أوساخ الجاهلية ، ويخلو بربه ، فليت شعري : ماذا كان يقول رسول الله في هذه الليالي ؟ وماذا كانت مشاعره ؟ وكيف كان يناجي حبيبه وطبيبه ؟
الذي نعلمه أن ربه كان راضيا عن هذه المناجاة ، ومثنياً على هذه المشاعر ، فقد كان محمد صلى الله عليه وسلم موفقاً في كل أمر يدخل فيه ، مباركاً في كل موضع يطؤه ؛ يدل على ذلك حلف الفضول ، وحرب الفجار ، ووضع الحجر الأسود ، وغير ذلك من المواطن التي تدل على التسديد من الله والتأييد .
ثم ختم هذا الرضا ، وهذا التأييد ، بمفتاح الهدى على التأييد ، وهو :
[ اقرأ باسم ربك الذي خلق ]
وكان ذلك في ليلة السابع والعشرين من رمضان – وهي ليلة القدر – التي هي خير من ألف شهر رزقنا الله خيرها .
وبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، وأشرف على مكة نور بعثته :
[ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من
اتبعه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور ]
وآمنت خديجة ، وجدد ورقة بن نوفل إيمانه .. وورقة بن نوفل هو ابن عم خديجة ، نوفل أخو خويلد . وكان رجلاً قرأ الكتب النصراني ، وكتب الانجيل بالعبرانية ، وعرف محمداً صلى الله عليه وسلم قبل أن يراه وآمن به قبل أن يبعث ، ثم لما أخبره النبي بخبر الملك إذ جاءه بشره ورقة بأن ذلك هو الناموس الذي كان يأتي لموسى ، وقال :
" ليتني كنت جذعاً إذ يخرجك قوماً ، والله لأنصرنك نصراً عزيزاً مؤزراً " ثم آمن على بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وزيد بن حادثة ، رضي الله عنهم جميعا .(1/189)
وكان على بن أبي طالب ابن عم رسول الله ، وكان عند رسول الله في بيته ، وأما زيد بن حادثة فكان عبداً رقيقاً عند خديجة ، وأما أبو بكر فكان رجلاً عاقلاً من " تيم " ، وكان تاجراً ، فلما أسلم أظهر إسلامه ودعا إلى الله ورسوله وأسلم بدعوته رجال كثيرون منهم عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله .
فهؤلاء خمسة ، وقبلهم الثلاثة : على ، وزيد ، وأبو بكر . قال ابن هشام " فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام ، فصلوا وصدقوا " رضي الله عنهم جميعا .
ثم أسلم الناس ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجهر بالدعوة ، ولما سمعت قريش عيبت النبي آلهتهم وتسفيه دينهم ناصبة العداء ، وتربص به ، وحدب عليه عمه أبو طالب ، ومنعه وقام دونه ، طيلة حياته ، فلم يصلو إليه صلوات الله عليه بأذى .
أما بقية القبائل فقد هبت على من قبلهم من أصحابه رضوان الله عليهم يعذبونهم ويفتنونهم ، ومنع الله نبيه بعمه أبي طالب ، ونزلت آيات الصبر ، والتعزية ، مواكبة لمعركة الحق والباطل ؛
فاصدع بما تؤمر ، وأعرض عن المشركين ، إنا كفيناك المستهزئين ، الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر فسوف يعلمون ، ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ، فسبح بحمدك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين .
[فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، ولا تستعجل لهم ، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ، بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون]
[ ألم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهو لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذي صدقوا وليعلمن الكاذبين . أم حسب الذي يعملون السيئات أن يسبقونا . ساء ما يحكمون . من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت . وهو السميع العليم ]
[ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ، و لقد جاء آل فرعون النذر .كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم اخذ عزيز مقتدر.أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزّبر .ام يقولون نحن جميع منتصر ,سيهزم الجمع ويولون الدبر,بل الساعة موعدهم ,والساعة أدهي وأمر ] وغير ذلك من الآيات.
وفي وسط لدادة قريش وأذاهم للنبي صلي الله عله وسلم- اسلم بعض كبارها ,ومنهم حمزة بن عبد المطلب ,وعمر بنالخطاب.
واشتد ازر المستضعفين قليلا" باسلامهما ,فجهر عبدالله بن مسعود بالقرآن في مكة ,وكان اول من جهر بالقرآن _ رضي الله عنه _ اذ قام في الضّحي عندالمقام حيث اجتماع قريش في انديتها فرفع صوته يقرأ :
بسم الله الرحمن الرحيم
"الرحمن.علّم القرآن "
ثم استقبل قريشا" يقرأها . فتأملوه وقالوا :ماذا قال ابن أم عبد ؟ قالوا انه يتلو بعض ما جاء به محمد .
فقاموا اليه يضربون في وجهه , وجعل هو يقرأ وهم يضربونه ,وهو يقرأ,حتي بلغ من سورة الرحمن ما شاء الله له أن يبلغ ,ثم انصرف الي المسلمين وآثارالضرب في وجهه , فقال أصحاب النبي _صلي الله عليه وسلم _ "هذا الذي خشينا عليك " .قال :"ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن ."
ولعل هذه الحادثه جعلت سادة قريش يتسللون سرا لسماع قراءة الرسول_صلي الله عليه وسلم _ بالليل وكان قد فرض عليه قرآن الليل ,فخرج أبو سفيان , وأبو جهل بن هشام ,والأخنس بن شريف الثقفي ،وخرجالوليد بن المغيرة ، وجاء عامر بن الطفيل الشاعر العاقل .
وكلما بلغ النبي شاواً من الدعوة قابلته قريش بمزيد من الأذى ، فأذن الله بهجرة الحبشة ، فياهر نفر من الصحابة ، ومكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، واشتد أذى قريش للنبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب ثم موت خديجة رضي الله عنها ، خصوصاً من أعداء الله تعالى : أبي لهب ، وعقبة بن أبي معيط ، وعدي بن حمراء ، وابن الأصداء الهذلي وكان معهم الحكم بن العاصي بن وائل – لكنه أسلم بعد .
وظهرت هنا أخلاق النبي وأصحابه ، من شدة الصبر ، وشدة الاستمساك بالحق ، ورد السيئة بالحسنة ، والتعالي على الأحداث الصغار انتظاراً للأحداث الكبار .
وكان أول الأحداث الكبار حادثة الإسراء والمعراج ، الإسراء الرباني ليدل على أن هذا الرجل فوق العادة ، وأن هذا الدين فوق العادة ، وأن نصر الله فوق العادة ؛ وليزيد الثقة في نفوس المسلمين بربهم ونبيهم و بدينهم ،وليجدد عزيمة رسوله المبارك الكريم برحلة تنسيه هموم القوم ، نعم : لقد رجع النبي صلوات الله عليه من هذه الرحلة كيوم ولدته أمه . كيف لا ؟ وقد صعد الي الملك فوق سماواته "وهو بالأفق الأعلي . ثم دنا فتدلي ، فأوحي الي عبده ما أوحي ،ما كذب الفؤاد ما رأي ،أفتمارونه علي ما يري ،ولقد رآه نزلة أخري ،عند سدرة المنتهي ،عندها جنة المأوي ، إذ يغشي السدرة ما يغشي ، ما زاغ البصر و ما طغي ، لقد رأي من آيات ربه الكبري ، أفرأيتم اللات والعزي ، ومناة الثالثة الأخري ."(1/190)
وليت شعري ! أين تقع اللات والعزّى في هذا الملك ؟ انها الرحلات الايمانية التي يعاين فيها النبي الكريم مشاهد الملك ، حتي اذا وقف أبو سفيان في عز المعمعة يقول :
[ اعل هبل ]
أجابه الموفّق علي الفور :
[ الله أعلي وأجلّ. ]
واشتد ساعد رسول الله في الدعوة ، حتي لقد بعث الله له الجن يدعوهم ويبايعهم .. تري من أين جاءوا ؟ لقد جاءوه من ( نصيبين ) ؟ وأين نصيبين ؟ إنها هناك في أقصى الشمال الشرقي _علي طريق القوافل بين الموصل والشام _ يعني بين العراق .وقد كان !
بدأت دعوة النبي للقبائل ، يقف علي منازلهم ،ويستقبلهم في طريق الحج، ويعرض عليهم الإسلام ، وخلفه عدو الله عبد العزي_لاعزّ له _ أبو لهب بن عبد المطلب ،يرد عليه دعوته :
أتي كنده في منازلهم فدعاهم إلي الله فأبوا عليه .
وأتي ابني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله فأبوا عليه .
وأتي بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردّا" منهم .
ومع ذلك فهو يسير في طريق البلاغ حتما أذن الله بالفتح ، وجاء الأنصار _ وهم الخزرج ،وذلك في السنة الحادية عشرة للنبوة .أتمها الله ونفع بها .إذ لقيهم رسول الله_صلي الله عليه وسلم _ في الموسم فدعاهم فأجابوا ورجعوا إلي أهلهم فدعوهم ، فلم يبق بيت من الأنصار إلا دخله خبر الإسلام ، وفيه ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حتى إذا كان العام المقبل بايعة اثنا عشر رجلاً من الأنصار بالعقبة ، وهي موضع على بعد ميلين من مكة ، ومنها ترمى جمرة العقبة ، وكان من المبالغين عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي ردى حديث البيعة .
وبعث معهم رسول الله مصعب بن عمير ليعلهم الإسلام ويقرئهم القرآن ، وكان مصعب فتى قريش ، رضي بالإسلام عزاً عن عز قومه ، فرضي به وأعزه ، استشهده يوم أحد ، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم نساءه من الحور العين بجواره فرضي الله عنه .
وكانت بيعة العقبة الثانية إذ بايع النبي سبعون رجلاً وامرأ تان .ثم كان الحدث الكبير ، والتحول الخطير في حياة المسلمين – لا ، بل حياة الإسلام ، وهو الهجرة ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرج الذين كفروا ثاني اثنين )
كل الناس إذا مشت – وقريش منهم – تتلفت أسفل ، ولكن في هذا الموضع يتلفتون أعلى ، يمسحون الآفاق بأعينهم وضالتهم تحت أقدامهم .
متى يدرك الناس أن السمع والبصر عبد ذليل من عباد الله ، فإذا شاء الله قلبه كيف شاء ؟ ما أغلى هذه الضالة تدري ما جعل المشركون لمن يأتى بها ؟ وبه كل واحد منهما . ولكنهما أنفس على الله من هذا الثمن ؟ بل من كل الأرض .( هو الذي يراك حين تقوم ، وتقلبك في الساجدين ) .
كان أبو بكر يكثر الالتفات ، ورسول الله لا يلتفت . إنه اليقين ، إنه الفرق بين – والموقف واحد ، والمعطيات واحدة – بين الرسول وغير الرسول .
وتخمد نار الطلب فيخرج المعصوم وصاحبه متوجهين إلى المدينة ( الناقة مأمورة " لأن راكبها مأمور . حتى بركت في موضع ما عند بني النجار – أخوال جده عبد المطلب . وفي هذا الموضع بني المسجد النبوي المبارك .
هذه أحلى أيام شهدتها المدينة المنورة ، ليت مثلها يعودلها بالإسلام ، وظفرة ، والغلبة على أعداء محمد ، الذين داسوا بأقدامهم جزيرة العرب بعد أن طهرها النبي منهم . قال أنس بن مالك :
" شهدته يوم علينا المدينة ،فمارأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من اليوم الذي دخل المدينة علينا ،وشهدته يوم مات ، فما رأيت يوماً قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات "
سعيد أنت أيهذا القلم إذ أكتب هذه السيرة .. ومحبور أنت أيها المداد .
هنا بني المسجد ، من بالطوب اللبن . قيل له : ألا تسقفه ؟ فقال :
" عريش كعريش موسى "
وهنا بنى صلى الله عليه وسلم بعائشة في بيته الذي بني له شرقي المسجد ، وكان بناؤه بها في شوال من السنة الأولى للهجرة ، مخالفة لعادة بعض الناس في كراهة البناء في شوال .
وماكان أعظم بركاته على المدينة ، وخلها وهي وبيئة ، فمرض بعض المهاجرين منهم أبو بكر وبلال ، فقال رسول الله عليه وسلم :
" اللهم صححها ، وبارك لنا في صاعها وقدها ، واثقل حماها إلى الجحفة " واستجاب الله . هذا هو الفأل ، لا فأل اليهود الذين ( وإذا أصابتهم مصيبة قالوا : هذه من عندك )
وفي مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المديتة زيدت صلاة الحضر فصارت أربع ركعات .
وبدأت الكفالة الاجتماعية بمشروع ( أهل الصفة )
وفي السنة الأولى توفى البراء بن معرور ، وهو الصحابي الذي صلى للكعبة قبل أن تحول القبلة .
وبدأ أيضاً العمل السياسي مع اليهود بالموادعة – التي نقضوها بعد – لعنهم الله . وفي هذه السنة أسلم كاشف زيوف اليهود عبد الله بن سلام ، وقصة إسلامه مشهورة .
ثم حولت القبلة – في السنة الثانية – إلى القبلة التي ( يرضاها ) النبي لنفسه ولأمته ( فلنولنيك قبلة ترضاها )(1/191)
إن تحول دولة وشريعة ، ذلك أن شريعة موسى هي آخر الشرائع ، ودولة بني إسرائيل هي آخر الدول القائمة على أساس ديني ، وهذا إشعار بتحويل الشريعة ، بنسخ القديم ، وتحول الدولة إلى دولة محمد صلى الله عليه وسلم ، إنه الإظهار الرباني لهذا الدين ، وبيان أن شريعة موسى ، ودولة موسى على رغم تقدير رسول الله له – شريعة ودولة لم تعد تصلح الآن .
وتحولت القبلة ، فتحولت معها بعض القلوب ، أو قل ظهر ما بها من حولٍ نعم : هي قلوب حولاء ، لكنها تخفى هذا الحول – حتى إذا جاء الاختبار لم تصبر علىالإخفاء ..
[ سيقول السفهاء من الناس ماولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، قل لله المشرق والمغرب ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ، وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقيبه ، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ، وما كان الله ليضيع إيمانكم ، إن الله بالناس لرؤوف رحيم ]
قال الكافرون : كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا .
وقال اليهود : ماولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها .
وقال المنافقون : إن كانت الأولى حقا فقد تركها ، وإن كانت الثانية هي الحق ، فقد كان على الباطل .
إنها معركة اللافتات والشعرات الإسلامية في مواجهة رسول الله ( وإن كانت كبيرة إلا على الذين هدى الله )
آمنا بالله ورسوله .
كانت هذه الشعارات حرباً نفسية يروجها اليهود والمنافقون استعداداً للحرب العلنية العسكرية بينما كانت قريش تعد العدة للمواجهة أيضاً ( إنهم يكيدون كيدا ، وأكيد كيداً )
وعقد أول لواء للمسلمين في السنة الأولى للهجرة –أصبح للمستضعفين ألوية – أصبح المستضعفون غزاة – الله أكبر ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم ) وهذا اللواء هو ( لواء حمزة بن عبد المطلب ) وكانت مهمته اعتراض عير لقريش قادمة من الشام ، فيها أبو جهل – بالقباحة الاسم والمسمى – وثمانون من المشركين – وكان مجدي موادعاً للفريقين .
بدأت العدة منذ للحظات الأولى للاستقرار بالمدينة ، فقد تلت هذا البعث عدة سرايا ، منها سرية عبيدة بن الحرث وسرية سعد بن أبي وقاص وغزوة الأيواء – التي شهدها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ، فاعترض عيداً لقريش وبني ضمرة ، فوادعه بنو ضمرة ، ورجع ولم يلق كيداً .
إن الإعداد للقاء القوم ، والمناولات المتكررة للتدرب ولإخافة العدد ، يستمر بغزوة بواط ، ثم غزوة العشيرة ، ثم بعث عبد الله بن جحش ثم غزوة سفوان وهي ( بدر الصغرى ) ولكن شتان شتان بينهما .. إنهما ما تشابهتا إلا في الاسم والموضف … وكانت بدر الصغرى في جمادي الآخرة ثم بعث عبد الله بن جحش في رجب ..
ثم جاء رمضان .. وكانت غزوة " بدر الكبرى " حيث اختار الله للمسلمين النفير على العير ، وخفهم بطلب الانتصار لله لا الانتصار لأنفسهم ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ) .
وظهرن بشائر الرحمة الربانية والجند سائرون في الرمل ، فأنزل الله بالليل مطراً واحداً صلب الرمل ، وثبت الأقدام ، فعلمت القلوب أن هذا بشارة النصر ، وسار النبي صلى الله عليه وسلم يشير على مواضع بينهما ، فيقول : " هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان إن شاء الله " فلما كانت المعركة ما تعدى واحد من الصرعى موضع إشارته صلى الله عليه وسلم " الله أكبر – إنها النبوة "
وجاءت قريش بخيلائها وفخرها لتحارب الله ورسوله والمؤمنين ، واستخدم النبي صلوات الله عليه أول الأسلحة وأمضاها ، قام ورفع يديه متضرعاً إلى الله حتى سقط رداؤه .
" اللهم أنجز ما وعدتني ، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك "
هذا الذي معه من الدعوة يتضرع ، فكيف بنا ؟
فأجابة الله عز وجل ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) فأصبح عدد المسلمين المقاتلين ألفاً وثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً ، وعدد المشركين ألفاً ، فأسرع المسلمون في القتل ، قال ابن هشام :
" ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى بدر من الأيام ، وكانوا يكونون فيما سواه عدداً ومدداً ، لا يضربون "
وأثار أبو جهل – قبح الله اسمه ورسمه – الحرب ، يا يعازه لعامري الحضرمي وبدأت الحرب بمبارزة بين الأسود بن عبد الأسد المخزومي وأسد الله حمزة وشتان بين ( عبد الأسد ) وبين ( الأسد ) نفسه ، فلم تمض لحظات حتى رأى المشركون صاحبهم مكوما في الحوض مقتولاً .
وبعدها مبارزة جماعية بين ثلاثة أسنمة من الكفار وثلاثة أسنمة من المسلمين ، أما أسنمة قريش فهم : عتبة ابن ربيعة وأخوة شيبه وابن الوليد وأما المسلمون فهم : حمزة بن عبد المطلب وعلى بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث .
وما هي إلا لحظات حتى قيل الثلاثة النتني المشركون بسيوف الحق التي كانت بأيدي المطهرين المسلمي ،(1/192)
وتزاحف الناس ، واستخدم النبي سلاماً جد
يداً لا يعرف الكفار استخدامه ، أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وقال : شاهت الوجوه ، ثم ألقاها عليهم ، وقال لأصحابه : شدوا
فكانت الهزيمة ، وقتلت صناديد قريش ، وأسرت أشرافهم . وكان فيمن قتل فرعون هذه الأمة أبو جهل قبحه الله تعالى ، وفيمن أسر أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ليس كل الناس يحسنون استخدام الأسلحة ..
ثم حدثت غزوة بني سليم بعد قدوم النبي من بدر بسبع ليال ، ثم غزوة السويق ، ثم غزوة بني قينقاع ، إذ نقض يهود العهد الذي عاهدوه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان بنو قينقاع أول يهود نقضوا العهد الله ورسوله فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمة فشفع فيهم عبد الله بن سلام فأطلقهم له . ثم كانت غزوة أحد .
وفيها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال للسنة الثانية للقاء الكفار وهم نحو ثلاثة آلاف رجل ، وكان المسلمون ألفاً – كان فيهم عبد الله بن أبي بن سلول ومن ثلث العسكر ، فاتخذل بهم في الطريق ورجع ، وبقي سبعمائة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتقوا بالمشركين وهم ثلاثة آلاف ، وهزموهم وركبوا أكتافهم ، وولوا مدبرين قهرهم الله ، ولكن الرماة لما رأوا ذلك استعجلوا الغنيمة وخالفوا أمر قائدهم بل قائد الدنيا والآخرة ، فانكشف ظهر المسلمين ، فالتف فرسان المشركين حتى أحاطوا وانكشف النبي صلوات اللع عليه ، بعد استشهاد سبعين من أصحابه رضي الله عنهم ، فخلص إليه أعداء الله فكسروا رباعية وجرحوه جراحات ، وظهرت كوا من الصحابة يومئذ وترجم ما في قلوبهم من حب رسول الله وفوائد ، فقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى عليه وسلم حتى قتل ، قتله قمئة الليثي – انظر إلى الاسم وقذاريه . وقام زياد بن السكن في خمسة نفر من الأنصار يقاتلون دون رسول الله ، حتى قتلوا جميعا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ترس دون رسول الله أبو دجانة بجسمه ، فكان يقع في ظهره النبل فلا يتحرك حماية لرسول الله صلى عليه وسلم وظلوا مدافعين عن صلوات الله عليه (لايرغبون بأنفسهم عن نفسه ) لا والله ، فهي أعلى نفس علينا ، وأعز نفس في قلوبنا بآبائنا هو وأمهاتنا ، صلوات الله وسلامه عليه ، وهم يردون له بعض فضله ، ويكافئونه ببعض جميلة ، أليس هو الذي هداهم الله ، من العمى إلى البصيرة ، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور ، وأحيا قلوبهم بعد موت ، وشرح صدورهم بعد كفر وغم :
( أفمن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن هو مثله في الظلمات ليس بخارج منها )
ولا والله ما يكون منهم إلا هذا الذي صنعوا ، وهم الذين أضافهم الله إلى نفسه فقال لهم ( ياعبادي إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) فخرجوا للهجرة ، وشرفهم بمعيشة نبيه فقال ( محمد رسول الله والذين معه ) ، وهم معادن الخير ، وينابيع التقوى ، وجرثومة الفداء والبذل .
وفي هذه الغزوة قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن خلف رأس الكفر قتله بطعنة واحدة في عنقه تدأد أبها عن فرسه هذا الفرس منكوب أن يركبه مثل الحمار – كان أبي بن خلف يعلف هذا الفرس اثني عشر رطلاً من الذرة يومياً ليقتل عليه رسول الله عليه وسلم :
( يريدون ………. ويأبى الله )
ولم تنته الغزوة ، فهناك ( حمراء الأسد ) ، حيث أراد القرشيون أن يرجعوا لكي يجهزوا على الجيش المسلم ، ويستأصلوا ، بقيصتهم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنادي في الناس بالمسير إليهم ، واستحاب له المسلمون رغم القرح وما أصابهم من جراء أحد ، فساروا معه حتى بلغوا ( حمراء الأسد ) ، وهي على بعد ليلتين من المدينة ، فلما بلغ ذلك أبا سفيان هرع راجعاً إلى مكة .
وكثرت الغزوات مع اليهود بأحيائهم المختلفة والعرب المشركين بطونهم وقبائلهم المتعددة حتى جاءت سنة خمس للهجرة ، ووقعت غزوة الأحزاب .
وكان سببها اشعال اليهود للفتنة ، وتحريض المشركين في مكة وغيرها على المسلمين ، وتعاهدت أحزاب المشركين واليهود معاً لغزو المدينة ، غزو خارجي من مكة والقبائل ، وغزو داخلي يتمثل في الحرب النفسية والتسهيلات العسكرية من اليهود ، مع جبن وتقاعس من المنافقين وحاصرت الجيوش المدينة شهراً ، فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهنا كان السلاح الفتاك – سلاح الريح ( يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنوداً لم تروها ) وتفرق أمر القوم بإذن الله ورحلوا عن المدينة تصفر الريح في آذانهم ، ويضرب الرمل إلياتهم وأعجازهم .(1/193)
ورجع المسلمون إلى المدينة فوضع النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه ، فجاءه جبريل عليه السلام وقال له : كيف تضع سلاحك ، والملائكة لم تضع أسلحتها ؟ - انهض إلى هؤلاء – يعنى بني قريظة ، وكانت اليهود وقد نقضت العهد ، وتواطأت مع المشركين ، فنادى رسول الله صلى اله عليه وسلم بعبئ الجيش لقتال بني قريظة ، وسارع المسلمون إلى الزحف على إخوان القردة والخنازير بني قريظة فحاصروهم خمساً وعشرين ليلة حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكمم فيهم سعد بن معاذ فقضى أن تقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتبسى النساء والذراري . وهذا – لعمر الله – هو حكم الله فيهم ألهمه الفارس البطل ، والتقى النقي سعد بن معاذ . ثم كان في هذه السنة أيضاً ما كان صلح رسول الله لأهل مكة عند الحديبية وأعلم أن صلح الحديبية كان بوحي من الله لرسوله ، ولم يكن لأحد فيه خيار ، لأن ناقة النبي حين انطلاقة نحو مكة ، بركت في موضع يقال له " ثنية المرار " فقال الصحابة : " خلات القصواء " فقال صلوات الله عليه : ما خلات القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " ثم قال : " والذي نفس محمد بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " ثم عدل عن سيره حتى بلغ الحديبية . وقال بعدها " إني رسول الله ، ولا أعصيه "
وبعد المفاوضات اتفقوا على الصلح الذي كتبه سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكانت شروط الصلح أن يخلى بين النبي والبيت وفي العام المقبل – وأن يرجع لقريش من جاءه مسلماً وصار في أثناء ذلك غيظ من المسلمين لشروط الصلح ولعدم إكمال رحلة الحج ، لكن أراح الله الصدور وشفى النفوس بحمكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنحروا الهدي ، وذهبوا إلى المدينة .
بسم الله الرحمن الرحيم
فلم يستقر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة إلا شهرا وبعض شهر وخرج إلى خيبر في المحرم للسنة السابقة وكان يهود خيبر من اليهود الذين نقضوا العهد مع الله ورسوله ، فحاصرهم رسول الله صلى عليه وسلم ، وظل يفتح الله له الحصون ، ويسير له الأموال ، ويورثه الأرضين ، حتى أتوا آخر حصونهم وهما : الوطيح والسلام فحاصرهم رسول الله بضع عشرة ليلة .
وبرز مرحب اليهودي يطلب المبارزة – وكان مبارزاً – فبرز له عامر ابن الأكوع – وقيل : كعب بن مالك – فتبارزا فقتله عامر – رضي الله عنه .
ولما اشتد الحصار وأيقنوا بالهلكة سألوه الصلح ، فصالحهم على حقن الدماء وأن يخرجوا من " خبير " ويتركوا الصفراء والبيضاء والحلقة إلا ثوباً على ظهر إنسان ، إلا أنهم رجوه أن يبقوا في الأرض فيزرعوها على شطر ما يخرج من غلتها فأذن لهم في ذلك على أنه إن شاء أن يخرجهم .
واستمرت السيوف مشهرة لعز دين الله ، ونشر لا إله إلا الله ، وتأديب الناكثين ، وتخويف الكفار والمنافقين ، ما بين غزوة وسرية وبعث ، حتى كان ذو القعدة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتمر عمرة القضاء ، بدلاً من عمرة العام الماضي التي أحصر عنها ورجع من الحديبية ، وترك قول الله تعالى:
" لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون ، فعلم مالم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريبا "
وفي جمادىالأولى من السنة الثامنة كانت سرية مؤتة ، ومن المؤرخين من يسميها غزوة مؤتة ، وذلك لعلة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عد نفسه الفئة التي تحيز لها المقاتلون . والله أعلم .
وقد كانت هذه السرية تأديبية ، ولم يكن المقصود بها الغزو ، وإنما المناورة وإثبات القوة ، وقد علمت الروم يومئذ قوة المسلمين وحنكة قوادهم ، ولما رجع الجيش إلى المدينة بعد جراحاتهم وشهدائهم وبلائهم الحسن استقبلهم رسول اللهخ صلى الله عليه وسلم .
ثم جاء رمضان ، ومع رمضان جاء الفتح :
ونقض مشركو قريش العهد ، وظاهروا " بكراً " على قبيلة خزاعة في عددها عليها ، وكانت الفرصة للفتح وعد الله به وتشوق إليه المسلمون :
عد منا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
يبارين الأسنة مصعدان على أكتافها الأسل الظماء
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا وكان الفتح ،وانكشف الغطاء
وإلا ، فاصبروا الجلاد يوم يعز الله فيه من يشاء(1/194)
وقد أعز الله في هذا اليوم آناف المسلمين ، وأذل آناف الكافرين وكان في أيام الفتح الأعاجيب ، قوم صهرهم الإسلام في بوتقته ، وتوقد فيهم قيام الليل وصيام النهار وعفة العمر ذكاء ، فلا ينكقون إلا عن قسطاس ، ولا ينصرفون إلا عن قصد ، فإذا انتشقوا الحسام ، وأشهر والصمصام ، وأمسكوا الأعنة ، وأشرعوا الأسنة ، فهم حينئذ الوحوش الضواري في البراري ، والضراغم الضياغم في الملاحم ، في المفاوضات محدثون بخباء ، ومفاوضون علماء أذكياء – أين منهم أخباء القوم في تفاوضهم ، وألبادهم في تعارضيهم ، فإذا ساروا فسير الغازي الحذر ، المحارب المكر ،حتى إذا التقت الأجساد ، وهلعت الآساد ، واقتلعت القلوب والأكباد ، وقعقعت السيوف ن وشعشعتالحتوف ، فهم يومئذ همو :
حتى إذا ازور الفوارس وانحنت أصلاب أهل الخبرة الأكفاء
وارتاعت الأبطال من خوف الردى وأتى الشجاع بلكنة ووعاء
لم تلق غير المسلمين تثبتا أنعم بهم من رفقة ولواء
أظفرها الله بالعدد بعد طول مناجزة ، وأدخلهم مكة بعد طول اغتراب ، وأصبح أمان الرجل الشديد من قريش أن يغلق عليه داره كالنساء ، وأسلم الصناديد ، وحطمت الأوثان ، وظهر أمر الله وهم كارهون .
ثم بدأت معركة هدم الأصنام في الكعبة وحولها ، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره وبعث عمرو بن العاص في شهر رمضان إلى " سواع " وهو صنم لهذيل ، فهدمه ، وأسلم سادن لله تعالى وقوالب البعوث لتطهير الجزيرة من الأصنام ، فهدم سعد بن زيد من بني عبد الأشهل " مناة " وهدم خالد بن الوليد " العزةى " ..
ثم أرادت هوازن حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علمت بفتحة مكة ، وعزموا الأمر إلى هذا الضلال المبين ، فخرج لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفوا عند وادي حنين ، وكان المسلمون كثرة ، وكانت هوازن في عدتها ، فهجم المشركون هجمة رجل واحد ، وحملوا على المسلمين ، فانكشفوا – وكانوا يظنون ألن يغلبوا مادامو كثرة ، وقد رأوا من قبل أن النصر لا يكون بالكثرة ، فوقع بهم ذلك ابتلاء من الله وتنبيهاً لهم إلى حقائق لا ينبغى أن تغيب .
ولكن رسول الله ثبت حين انكشاف المسلمين ، ودعاهم ثانية فاستجاب الصحابة والتفوا حول النبي الكريم صلوات الله عليه ، وشهر رسول الله صلى عليه وسلم سلاحاً من الألأسلحة الغريبة على القوم ، التي ما يصنعون شيئا في ردها ، قال العباس : " ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات ، فرمى وجوه القوم ، ثم قال : انهزموا ورب محمد . قال : فما هوإلا أن رماهم ، فمازلت أرى حدهم كليلا ، وأمرهم مدبراً وانهزم المشركون ، وسبى منهم المسلمون وغنموا ، كان السبي ستة آلاف رأس ،واالإبل : أربعة وعشرين ألفاً ، والغنم أربعين ألف شاة ، والفضة أربعة آلاف أوقية .
ثم جاءت غزوة تبوك سنة تسع ، وهي غزوة العشرة حيث كان الناس في عشرة وجدب ، وهي الغزوة التي سماها باسمها قبل الخروج إليها ، وهذه الغزوة هي التي غزا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الروم ) .
وفيها من عجائب النفاق ، وكيفية الانزلاق عن مواطن الجد ، والإباق من مواقف الشد ، والاعتذار عن الجهاد بالأعذار ، ما فيها من العجب العجاب وفيها من حرص الصحابة الأطهار على رضا نبيهم ونصرة دينهم ما يوصف من عظمته إلا بسرد حكايته ، وهي طويلة ، وإنما قصدنا أوجز الإيجاز ، والإيناس بسيرة سيد الناس .
ثم فيها من معجزات رسول الله ما يقر العين وبثلج الصدور ويثبت القدم .
وانتهت الغزوة بظفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مسير مرير ، وطريق شاق وعسير ، وجلاد وجهاد ، وقلع أكباد وأوتاد ، ورجع ظافراً بمصالحة أهل أيلة له ، وكذلك مصالحة أهل " دومة الجندل " له على الجزية وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فاستقبلته الناس والنساء والجواري والصبيان ، يغنو وغنت الجواري:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وهذا هو الصحيح ، أن هذا النشيد كان فقول النبي صلى الله عليه وسلم من " تبوك " وليس مقدمة المدينة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة لم يدخلها من " ثنية الوداع " والله أعلم .
وكانت غزوة تبوك آخر غزوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيها نزلت سورة براءة أو ( الفاضحة ) أو ( المبعثرة ) التي كشفت من سرائر المنافقين وخبايا قلوبهم .(1/195)
وفي سنة تسع أيضاً جاءت الوفود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلن إسلام القبائل ، وما مطمع طامع في حرب الله تعالى ، وهذا نوره بلغ الأصقاع ، وأضاء البقاع ، وهذا بأس أخذه قلع الأوتاد ، وخلع الجبابرة الشداد ؟ وما البقاء على دين أعوج أعرج كان له نفع في الدنيا حين كانت الكعبة بيت الأصنام ، فيها وصورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام ، أما وقد سقط الشرك ، وحبط الإفك ، ودخلت قريش الإسلام ، وأسلمت هوازن ثم ثقيف ، ولم يبق للعرب بؤرة جاهلية يرجعون إليها ، فعرفى من لم يكن منهم قد عرف ألا طاقة لهم بحرب الله ورسوله ، فجاءت الوفود تباعاً إليه صلوات الله عليه وقد تميم ، وسيدهم عطارد بن حاجب التميمي ، ووفد طيئ وسيدهم زيد الخيل ، ووفد عبد القيس ومقدمهم الجارود العبدي ، ووفد بني حنيفة ، وكان فيهم مسيلمة الكذاب غير أن تخلف في رحالهم ، فلما رجعوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وزعم أن يوحى إليه ، وقتل اللعين في خلافة الصديق رضي الله عنه .
وسمي هذا العام مالم الوفود .
ثم في هذه السنة في ذي العقدة حج أبو بكر بالناس ، أشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم البدن وقلدها بيده ، ووضعها مع أبي بكر .
ثم كانت حجة الوداع سنة عشر ، وهي الحجة الوحيدة التي حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الناس مناسكهم ومعالمهم ، وتبرأ من كل الجاهلية ، ووضعها تحت قدميه ، ورجع إلى المدينة فأرسل البعوث والرسل مخاطباً للملوك في الجزيرة وفارس والروم يدعوهم إلى الإسلام .
وكان آخر بعوثه صلوات الله عليه هو بعث أسامة ، الذي جهزة قبل موتة صلوات الله عليه بأيام ، فأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض " فلسطين " ولكن توفي رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يبعث البعث وبعثه أبوبكر الصديق ، وكان هذا العمل أول أعماله المباركات ، ودل ذلك على امتداد هدي محمد في أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين .
وفي ضحى الاثنين الثالث عشر من ربيع الأول إحدى عشرة للهجرة لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ، واختار جواره ، بعد أن استعد لهذا اللقاء الكريم أحسن عدة ، وترك في الأمة كتاب الله وسنته نوراً وهدىً يهدي إلى سواء السبيل ، وترك صحابته وآل بيته أوتاد الأرض ، وحفظة الوحي ، وعلماء الشريعة ، فاضت روحه المطهرة إلى بارئها ، واستمرت سيرته تعطر الدنيا وتنسير الآفاق .
وصلى الله عليه وآله وسلم كثيراً .
وكان تسطيره يا مجلسين اثنين :
الأول : من الساعة الثانية عشرة والنصف ليلة الخميس الثالث والعشرين من شعبان المكرم عام 1414 حتى الساعة التاسعة والنصف صباح الخميس .
والثاني : من الساعة الثانية ظهر الخميس حتى الساعة الخامسة وخمس وعشرين دقيقة مغرب شمس هذا اليوم الطيب من أيام الله تعالى .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتب
أبو عبد الله القاضي
في 22 من شعبان 1414 هـ / 3/4/ 1994 م
====================
الثوابت الأساسية في الإسلام
يتناول الدرس الأصول أو الثوابت التي بني عليها الإسلام موضحا أدلة هذه الثوابت وأهميتها من القرآن والسنة وأقوال العلماء وموضحا الواجبات التي تتفرع عن هذه الأصول ويبين موقف المسلم منها. ثم يذكر عقب كل أصل الفرق التي خالفت هذا الأصل ومدى ونوعية المخالفة لهذا الأصل حتى يحذر منها المسلم والداعية إلى الله.
الأصل الأول : القرآن الكريم : القرآن الكريم كتاب الله المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم آخر رسل الله إلى أهل الأرض، وهو الذي تحدى الله به العرب البلغاء أن يأتوا بسورة من مثل سوره، فعجزوا، وكان ذلك من أكبر الأدلة على أنه من عند الله، وليس من عند البشر؛ لأن البشر لا يعجز بعضهم أن يأتي بما يأتي به بعضهم، فما من شاعر إلا وعورض بمثله وأشعر منه، ولا من خطيب إلا وجاء من هو أخطب منه، ولا عالم إلا قد جاء من يفوقه. وكذلك الشأن في كل ما يحسنه البشر يستحيل أن يأتي أحد منهم بما يعجز البشر كلهم في كل عصورهم، قال الله تعالى متحدياً المكذبين برسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم :
} وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[23]فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ[24]{ 'سورة البقرة' .(1/196)
?وهذا الكتاب الكريم مع بيان الرسول صلى الله عليه وسلم هما مصدرا التشريع، قال الله تعالى:} وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[89]{ 'سورة النحل' وقال فيه أيضاً:} حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[3]{ 'سورة المائدة' .
?وهذا الكتاب الكريم أنزله الله موضحاً ومبيناً به السبيل إليه، فهو بصيرة وفرقان، يفرق بين الشرك والتوحيد، والحق والباطل، وما أحله الله وما حرّمه، وما يرضاه الله وما يسخطه، وفرق الله به أيضاً بين أوليائه وأعدائه، وأوضح سبيل كل فريق منهم، وقد جعله الله ميسراً سهلاً للتذكر والاعتبار والتعلم، فقال سبحانه وتعالى:} وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ[17]{ 'سورة القمر'.
وقال تعالى:} كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[29]{ 'سورة ص' .
وقال تعالى:} أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[24]{ 'سورة محمد'. وقال:} أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[82]{ 'سورة النساء' .
?وقد حذر الله سبحانه وتعالى من الإعراض عنه، قال تعالى:} كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا[99]مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا[100]خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا[101]{ 'سورة طه' وقال تعالى في شأن إعراض المنافقين عنه:}وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا[61]{ 'سورة النساء' .
?وقد أمر الله نبيه الكريم أن يحكم كتاب الله في الصغير والكبير، قال تعالى:} وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[48]وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ[49]{ 'سورة المائدة'
ولما كان القرآن الكريم بهذه المثابة والمنزلة؛ فإن الله سبحانه وتعالى أتم نعمته على أمة الإسلام بأن كفل له الحفظ والرفعة والمجد، فلا تناله يد بتحريف، أو تبديل، أو نقص، أو زيادة، قال تعالى:} إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[9]{ 'سورة الحجر' . وقال:} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ[41]لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[42]{ 'سورة الحجر' .
فهو كتاب ممتنع على التغيير والتبديل... وفي الحديث الصحيح:'...وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ...' رواه مسلم وأحمد. فلو اجتمعت بحار الأرض على محو القرآن من الأرض لما حصل ذلك، ولو اجتمع كل جبابرة الأرض وكفارها وفجارها على أن يبدلوا القرآن ما استطاعوا ذلك.
وهذه القضية أعني حفظ القرآن وبقاءه، وأنه مصدر الحكم والتشريع؛ هي قضية الإسلام الأولى والكبرى.
الأصل الثاني: السنة النبوية:(1/197)
سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي: ما أُثِر ونقل من أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفته صلى الله عليه وسلم. وما نقل إليناً نقلاً صحيحاً منها يجب علينا تصديقه واعتقاده، والعمل به؛ لأن القرآن أمرنا بذلك، وقد تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب العمل بسنته، قال تعالى:} وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا[7] {'سورة الحشر'. وقال تعالى:} فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[65] {'سورة النساء'. وقال تعالى:} مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ[80] {'سورة النساء' . وقال تعالى:} فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[63] {'سورة النور' .. والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً.
?والسنة- في جانب منها- تفسير وبيان لكتاب الله تعالى، كما قال جل وعلا:} وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[44] {'سورة النحل' . وقال تعالى:} إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ[17]فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ[18]ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ[19] {'سورة القيامة' أي: إن الله سبحانه وتعالى تكفل أن يجمع القرآن في صدر الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينسى منه إلا ما شاء الله أن ينسيه:} سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى[6]إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ...[7] { 'سورة الأعلى' ثم إن على الله أن يبينه لرسوله صلى الله عليه وسلم ليعمل به، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن للناس كما أمره الله سبحانه وتعالى، وقد أثنى الله عليه فقال:} وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى[3]إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[4] {'سورة النجم' .
فالسنة في نهاية الأمر عائدة إلى الله؛ لأنه سبحانه هو الذي أوحى بها لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأرشده إلى ما قال، وهداه فيما فعل:} إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ[105] {'سورة النساء' .
?وكل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم هي في مجال التأسي والقدوة؛ فإن خير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، فجميع ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في طعامه وشرابه ولباسه، ونومه وقيامه، وصحبته، ومعاشرته، وطرائق حياته ومعيشته، كل ذلك كان على أتم الهدى وأسمى ما يتأدب به المتأدبون، ويفعله الحكماء العالمون.
والخلاصة أنه ليس شيءٌ من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم يخرج عن التأسي والاقتداء حتى في أموره الجبلية الحياتية. وأما في أعماله التشريعية، فإنه يجب الأخذ بسنته؛ لأنها تشريع من الله سبحانه وتعالى.
المخالفون لهذا الأصل: الطاعنون في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم: شهد تاريخ الإسلام كثيراً من الفرق الضالة، والعقائد الباطلة، ممن ردوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها، أو بعضها تحت دعاوٍ كثيرة، وشبهٍ متباينة:
فمنهم : الخوارج: الذين قالوا بكفر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجنده، وقالوا: بأن علياً رضي الله عنه كان مسلماً قبل قتال الخوارج بالنهروان، ثم كفر بعد قتالهم، وكفروا الحَكَمَيْنِ وسائر المسلمين بعد ذلك، وبنوا على تكفير الصحابة بعد الفتنة؛ ردَّ روايتهم، وردّوا رواية جميع من وكل على السلاطين من بني أمية وغيرهم.
ومنهم : المعتزلة والمتكلمون: الذين ردوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي سموها بالآحاد، وقالوا: لا نقبل إلا بالمتواتر، الذي يستحيل تواطؤ من رووه على الكذب.
ومنهم: بعض المنافقين الذين اتبعوا المستشرقين من أعداء الإسلام: الذين شككوا في ثبوت سنة النبي صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً.
ومنهم: من رد السنة الثابتة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت دعاوى: أنها لا توافق العقل، أو أنها كانت لجيل غير جيلنا، ولعصر غير عصرنا، ومنهم من يقول: يجب أن نأخذ روح السنة وأهدافها الثابتة دون أحكامها التفصيلية العملية.
? ولا شك : أن كل من رد سنة ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم راغباً عنها فقد كفر بذلك، لقيام الأدلة القطعية على وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم مخالفة أمره.
? ولا شك أيضاً: أن الله سبحانه وتعالى يستحيل أن يتعبد الناس بشيء لم يبلغهم.
? ولا شك أيضاً: أنه لو ضاعت السنة؛ لضاع القرآن؛ لأن السنة شارحته ومبينته، إذ كيف يمكن التحقق من أعداد الصلوات، وأعداد الركعات، وهيئة الصلاة، ونصاب الزكاة، والأموال التي تجب فيها، وكذلك كثير من أحكام الصوم والحج لولا السنة.(1/198)
ولو كان الصحابة الذين رووا السنة مطعونين، لكان القرآن كذلك مشكوكاً فيه؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم هم الذين دونوه وحفظوه، وجمعوه في مصحف واحد بعد رسول الله، ونشروه في الأرض، ونقلوه لمن بعدهم، فلو كانوا غير مؤتمنين؛ لكان القرآن مكذوباً، ولذلك أجمع المسلمون أن جرح الصحابة جرح للدين، وهدم عدالة الصحابة هدم للقرآن والسنة معاً، وليس للسنة وحدها.
ولذلك قال الإمام أبو زرعة: 'إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاعلم أنه زنديق، وذلك: أن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة' 'الإصابة لابن حجر 1/18' .
?ولا شك أيضاً: أن رد بعض السنة إذا كان صحيحاً ثابتاً حسب ضوابط النقل التي أجمع عليها أهل الإسلام فيما سموه مصطلح الحديث وعلموه وهو قبول نقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه إذا خلا من الشذوذ والعلة؛ ردها بزعم أنها تخالف العقل أو ردها بالهوى.. لا شك أن رد بعض السنة الثابتة بذلك هو هدم للسنة كلها؛ لأنه هدم للأصول التي على أساسها تعرف السنة الصحيحة الثابتة مما افتراه أهل الكذب، ونسبوه إلى رسول صلى الله عليه وسلم، أو مما غلط فيه بعض الرواة .
والعقل لا يمكن أن يكون مقياساً للقبول والرد، لأن ما يراه زيد من الناس معقولاً قد يراه غيره أنه غير معقول إلا في الأمور الحسية القطعية. ولا توجد سنة صحيحة ثابتة حسب أصول النقل تخالف شيئاً من المعقول المقطوع به، ولذلك كان الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لضاعت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضياعها يعني ضياع القرآن كذلك، وضياع الدين كله.
والحمد لله الذي حفظ لنا كتابه وسنة رسوله الكريم التي هي الحكمة كما قال تعالى:} هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[2]{ 'سورة الجمعة'. وقال تعالى لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم:} وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا[34]{ 'سورة الأحزاب'. فآيات الله هي: القرآن. والحكمة هي: سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويستحيل أن تضيع الحكمة التي امتن الله بها على عباده المؤمنين، قال تعالى:} لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[164]{ 'سورة آل عمران'.
أَفَتَرَى الله سبحانه وتعالى يتكفل بحفظ القرآن، فيقول جل وعلا:} إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[9]{ 'سورة الحجر' . ولا يحفظ الحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يبين به القرآن ويشرحه ويفسره، وما هو تطبيقه وتأويله؟! إن هذا مستحيل.
? ولا شك أن الناظر في علم الإسناد، وكيف وضع علماء السنة ضوابط النقد للرجال، وكيف تتبعوهم وأحصوهم، وكيف ضبطوا هذا العلم ضبطاً فائقاً، وكيف أن الله سبحانه وتعالى قد هيأ له جهابذة من الرجال كانت لهم ملكات عظمية في الحفظ والملاحظة والدقة مع الدين والتقى مما مكنهم من تمييز ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما حاول الزنادقة والملحدون، وأهل الأهواء أن يدخلوه على الإسلام مما هو ليس منه في شيء.. وهذه معجزة من معجزات هذا الدين... فكما حفظ الله القرآن الكريم بأسباب عظيمة توافرت وتضافرت على حفظه من أن يتطرق إليه أدنى خلل، حفظ الله كذلك سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رد مجمل على كل من الفرق التي شككت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسنا في مقام الرد على كل شبهة من شبهاتهم الكثيرة، فإن هذا مكانه المطولات.
? وأما الذين ردوا بعض السنة الثابتة حسب مصطلحات أهل الحديث تحت دعوى أنها تخالف معقولهم، فإننا نقول لهم: إن ما تزعمونه من مخالفة عقولكم، يخالفكم فيه غيركم ممن يرون أن هذا يوافق العقل الصحيح، فأي العقول يعتمد عليه، ويقدم على الآخر؟! ولو ظن مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بما يخالف العقل الصحيح لكفر. ولا شك أن هدم قواعد الإسناد التي وضعها أهل الحديث لتمييز السنة الصحيحة من الضعيفة هدم للسنة كلها.
?وأما من قال بأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتفسيره للقرآن كان مناسباً لجيل الصحابة، وأنه غير معقول لأجيالنا، فهو كافر بالله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى:} وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا[64]{ 'سورة مريم' والقرآن والسنة حجة الله على الناس ما بقيت الدنيا:(1/199)
}وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ[19]{ 'سورة الأنعام' فكل من تبلغه النذارة في شرق الأرض وغربها، وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد حياته؛ فقد أقيمت عليه الحجة، وإقامة الحجة بهذا القرآن المنزل، وبالسنة التي هي وحي كذلك من الله.
?وقد سلم الله سبحانه وتعالى أهل السنة والجماعة من الانحراف عن هذا الأصل العظيم، وهو الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عملاً واعتقاداً، كما قال سبحانه وتعالى:} إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا...[51]{ 'سورة النور'.
فهم سامعون، مذعنون لحكم الله، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ومطبقون لقوله تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[59]{ 'سورة النساء'.
فالرد إلى الله هو: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسول الله: هو الرد إلى سنته. فلو كانت سنته قد ضاعت؛ لما كان للرد إليها من معنى، ولو كان بعضها قد ضاع؛ لذهب الكثير مما يجب التحاكم والرد إليه. فالحمد لله الذي حفظ لنا كتابه الكريم، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وجزى الله خيراً أعلام الإسلام، وعلماء الحديث على جهودهم المباركة في حفظ سنة رسول صلى الله عليه وسلم وتدوينها.
الأصل الثالث: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
اختار الله لصحبة نبيه الخاتم، والإيمان به خير أصحاب الأنبياء ديناً وجهاداً، وعلماً وتقوى، فكانوا أنصاره والمجاهدين في سبيل الله، قدموا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأذلَّ الله بهم دول الكفر كلها في سنوات قليلة، ومكن لهم في الأرض، ونشر بهم الإسلام في عامة المعمورة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وتحولت شعوب كثيرة إلى الإسلام في زمن قياسي، ولم يحدث هذا لنبي قبل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى:} هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ[62]وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[63]{ 'سورة الأنفال'.
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على إيمانهم وجهادهم وإحسانهم في آيات كثيرة من كتابه، منها:
قوله تعالى:} ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ[285]{ 'سورة البقرة'. فشهد لهم بالإيمان مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال:} مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[29] {'سورة الفتح'. وهذه الآية من أعظم المدح والشهادة لهم بالإيمان وإخلاص الدين لله، وأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، وأنهم أهل طاعة وصلاة، وأنهم ممدوحون بذلك في التوراة والإنجيل، وأن أوائلهم هم بذرة الدين، ونبتة الإسلام التي كبرت وتفرعت حتى أصبحت شجرة الإسلام قوية باسقةً تستعصي على الرياح:} يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ {.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:} لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا[18]وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا[19]{ 'سورة الفتح'. وهذه الآية نزلت في غزوة الحديبية، وكان الصحابة فيها ألفاً وأربعمائة رجل.(1/200)
وقال تعالى:} لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[117]{ 'سورة التوبة'. وهذه الآية نزلت في غزوة تبوك وكانوا ثلاثين ألفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونزل على الرسول وهو في حجة الوداع في أعظم حشد تجمع له، وكانوا أكثر من مائة ألف قول الله تبارك وتعالى:} الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[3]{ 'سورة المائدة'. فهؤلاء الأصحاب الأطهار الأبرار سادة هذه الأمة وعنوان مجدها، وسر خلودها، ونموذجها الفريد في الإيمان والجهاد والعمل الصالح، وهم أسوة الأمة وقدوتها، ومنبعها الذي لا ينضب من المُثُل والعطاء والخير.. ولكل منهم من المناقب والفضل والسابقة ما هو محل القدوة والأسوة، ففيهم الذي انفق ماله كله في سبيل الله، وفيهم الذي قتل أباه في الله، وفيهم الذي آثر ضيفه على نفسه، وأهله وعياله، حتى عجب الرب من صنيعه من فوق سبع سمواته، وفيهم الأبطال الصناديد فرسان الحروب، وفيهم رهبان الليل، فرسان النهار، وكلهم قد تحمل في سبيل الله ما لم تتحمله الجبال، وكلهم كان يفتدي الرسول بأبويه ونفسه وماله، وقد عظموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبوه كما لم يُعظَّم عظيم قط أو يحب، ولم ينصر أتباع رسول رسولهم كما نصر أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم محمداً صلى الله عليه وسلم.. ومناقبهم وفضائلهم أكثر من أن تحصر.
موقف المؤمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
ومن أجل هذا الفضل والإيمان والإحسان الذي كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ أوجب الله على كل مسلم يأتي بعدهم:
أن يعترف بفضلهم وأن يدعو الله لهم بالمغفرة:} وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[10]{ 'سورة الحشر'.
وأن يحبهم ويواليهم:} إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ[55]وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[56]{ 'سورة المائدة'.
وأن يعترف أنه لم يصبح مسلماً إلا بفضل جهادهم وفتوحهم:و' لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ' رواه أبوداود والترمذي وأحمد .
وأن يأتسي بهم في جهادهم وصبرهم: كما أرشدنا الله إلى ذلك حيث قال سبحانه في بيان صبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وصبرهم في غزوة الخندق:} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[21]وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[22]مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[23]{ 'سورة الأحزاب'.(1/201)
وفي هذه الآيات رفع الله من شأن نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصادقين، وأبان الصورة العظيمة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة العصيبة من الصبر والإيمان والتوكل، وثبت مع رسول الله: أهل الإيمان واليقين، الذين وصفهم الله بقوله:} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...[23]{ 'سورة الأحزاب'. وقد عاهدوه على نصر رسوله، والموت في سبيله. وما ذكر الله لنا هذا إلا ليكون هؤلاء الأصحاب الأطهار الأقوياء في الدين قدوة لنا وأسوة، وأن نحبهم ونجلهم، ونثني على جهادهم وصبرهم. ... ... ... الصحابة أسوة في العلم كما هم أسوة في الجهاد: ولا شك أنهم كانوا في العلم واليقين والفهم الصحيح للدين كما كانوا في الجهاد والبذل.. فكما أثنى الله على جهادهم وصبرهم، أثنى على إيمانهم وإحسانهم وعبادتهم، ولا غرو فقد كانوا هم الفوج الأول الذي تلقى التعليم والتربية من فم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت القدوة المثلى، والمثل الكامل ماثلاً أمامهم ليس بينهم واسطة. فهذا رسول الله الإنسان الكامل، والقدوة المثلى أمامهم، يتلو عليهم الكتاب ويبينه لهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويربيهم بالأسوة والموعظة الحسنة، ولفت النظر، والهجر والزجر أحياناً، ولا يقر أحداً منهم على باطل، ويختار فريقاً منهم فيوجب عليهم ما ليس واجباً على العامة؛ ليحوزوا قَصَبَ السَّبْق، ويكونوا مثلاً لمن وراءهم كما أخذ على بعضهم ألا يسأل الناس شيئاً فكان إذا وقع السوط منه وهو على بعيره لا يسأل أحداً أن يناوله إياه، وكل ذلك ليخرج منهم جيلاً يكون مثلاً لكل الأجيال في العلم والعمل والجهاد والصبر.
وبث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما يحتاجونه من علم كما قَالَ أَبُو ذَرٍّ:' لَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَتَقَلَّبُ فِي السَّمَاءِ طَائِرٌ إِلَّا ذَكَّرَنَا مِنْهُ عِلْمًا' رواه أحمد .
ومن أجل ذلك كله كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الجيل المثالي الذي يجب أن تحتذيه كل أجيال الأمة في الإيمانوالجهاد، والعمل والعلم، وأن يقدم تفسيرهم للكتاب والسنة على كل تفسير، وأن كل ما جاء مخالفاً لما قالوه فليس من الهدى والدين، فما لم يعرفه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين فلا شك أنه ليس ديناً.
ولا شك أن أفضلهم بإطلاق هو أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وفضلهم كترتيبهم في الخلافة.
الأصل الرابع: الموالاة بين المسلم والمسلم:
فكل مسلم أخ لكل مسلم تجب عليه موالاته، ولا يجوز له أن يعتدي على دمه، أو ماله، أو عرضه.
وهذا الأصل دلت عليه مئات النصوص من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، منها:
قوله تعالى:} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ...[10]{ 'سورة الحجرات'. وأكثر الآيات في سورة الحجرات.
وقوله تعالى:} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ...[103]{ 'سورة آل عمران'. وما تلى ذلك من الآيات من سورة آل عمران.
وقوله تعالى:} إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ[55]وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[56]{ 'سورة المائدة'.
وأما الحديث فكثيرة جداً، فمنها:
قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: '...فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا...' رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: 'لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ' رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد .(1/202)
ومنها: تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتل من نطق بالشهادتين ولو كان ظاهر حاله لا يدل على صدقه، كما عَنَّفَ النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد لما قتل رجلاً كان قد قتل عدة رجال من المسلمين فاتبعه أسامة فَلَمَّا رَفَعَ عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ' قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا فَقَالَ:' أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ' ' فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ' قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي قَالَ:' وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ' فَجَعَلَ لَا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ:' كَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ' رواه البخاري ومسلم- وبعضهم يزيد على بعض وينقص في روايته- . والنصوص في حرمة المسلم على أخيه المسلم كثيرة جداً.
ومنها:إيجاب مجموعة من المعروف يجب على المسلم أن يقدمها لأخيه المسلم دون أخذ أجر على ذلك بل من حق المسلم على أخيه المسلم كرد السلام وإلقائه، وتشميت العاطس وعيادة المريض، واتباع الجنازة، وإجابة الدعوة، وإبرار المقسم، وكذلك التطوع بالشهادة دون أن يأخذ على ذلك أجراً.
هذا مع وجوب نصره ظالماً برده عن الظلم، ومظلوماً في السعي لرفع الظلم عنه. كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:'انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا' رواه البخاري والترمذي وأحمد .
ومن فروع هذا الأصل- أعني أخوة المسلم لأخيه المسلم- : تحريم كل ما يدعو إلى فرقة بين المسلمين، ويفرق جماعتهم، ويمزق صفوفهم. فقد جاء الإسلام بتحريم كل عصبية، ولو كانت لاسم شريف، وفئة كريمة، كما أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من دعا إلى تعصب الأنصار ضد المهاجرين، والمهاجرين ضد الأنصار فقال:' مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ...دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ' رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد .
فكل العصبيات في الدين مذمومة سواء كانت لفئة أو قبيلة، أو جماعة، أو وطن، أو إقليم، أو عالم، وقد ذم علماء الإسلام من تعصب لمذهب من المذاهب الفقهية؛ لأن هذا يؤدي- وقد أدى- إلى فرقة بين المسلمين، حتى إنه أدى أحياناً إلى الفرقة في الصلاة، فكان بعضهم لا يصلي الجماعة خلف المخالف في المذهب، وكذلك في الزواج، والقضاء والمدارس، حتى جاء وقت كانت المذاهب الفقهية المدونة كأنها شرائع مستقلة. فكل عصبية تؤدي إلى فرقة في الدين فهي مذمومة.
والواجب على أهل الإسلام جميعاً: التمسك بأصل الموالاة في الدين، وترك كل خلاف يؤدي إلى الفرقة بين المسلم والمسلم. ففي الخلاف الديني يجب الرد إلى كلام الله، وكلام رسوله، واتباع أهل العلم الذين هم أولو الأمر، والتمسك بجماعة أهل الإسلام، وإجماعهم، وعدم إخراج المسلم من الإسلام بمعصية لا تبلغ الكفر ولا تبدعه ولا تكفره، وأن يوالى كل مسلم يشهد ألا إله إلا الله ولا يعاديه 'إلا' بقدر معصيته، ولا يعاقب 'إلا' بقدر بدعته مع موالاته في أصل الدين، وإبقائه في جماعة المسلمين، وإعطائه ما للمسلم من حق في حرمة دمه وماله وعرضه، ووجوب نصره، ومحبته، وموالاته.
المخالفون في أصل الولاء:
الخوارج : الذين خرجوا على المسلمين بالسيف، واستحلوا دماءهم وأموالهم بالمعصية، واعتقدوا خلود المسلم الموحد في النار إذا ارتكب كبيرة من الكبائر، وهؤلاء شر الفرق.
أهل التأويل والتعطيل الباطل: الذين اخترعوا منهجاً في أسماء الله وصفاته يقوم على نفي وتحريف كل ما وصف الله به مما زعموا أن إثباته يوجب المماثلة لخلقه، وقد قالوا بكفر من لم يعتقد معتقدهم، وينزه الله حسب زعمهم وتأويلهم.
المتنطعون المتشددون الجراحون : الذين أخرجوا المسلم من الإسلام بمجرد أن يقع في خطأ بتأويل أو اجتهاد، والذين يتتبعون سقطات العلماء، ولا يغفرون زلة، ولا يعذرون جاهلاً ولا ناسياً، ولا متأولاً، ويأخذون المسلم بلازم قوله.
المجتمعون على عصبية : يوالون عليها ويعادون عليها أيا كانت هذه العصبية من مذهب فقهي، أو جماعة دعوية، أو هوية سياسية، أو دولة إقليمية.
كل صاحب هوى وبدعة : ينصر هواه، ويوالي من يوافقه في بدعته، ويحارب من يخالفه، ولا يرجع في خلافه إلى كلام الله ورسوله.
المختلفون بسبب هذه الدنيا الفانية: ويوالون عليها ويعادون عليها، ويقتلون في سبيلها، فيقطعون الأرحام، ويهدمون أخوة الإسلام، ويسفكون الدم الحرام، ويفرقون أمة الإسلام، وكل ذلك بسبب هذا الحطام!!!
الأصل الخامس: البراءة من الكفار:(1/203)
أرسل الله سبحانه وتعالى رسله إلى أهل الأرض مبشرين ومنذرين، وشاء الله سبحانه وتعالى أن ينقسم الناس إزاء دعوة رسله إلى مؤمن وكافر. وأن يظل هذا الخلاف ما بقيت الدنيا.
ومن أجل سنة الله هذه في خلقه وعباده، فإنه أرسل الرسل مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار، وداعين إلى الله يبينون الطريق والصراط إليه، وأمر الله الرسل وأتباعهم أن يجاهدوا الكفار بأنفسهم وأموالهم وألسنتهم. وأن يوالي أهل الإيمان بعضهم بعضاً، وأن يعادي أهل الإيمان أهل الكفران، فلا يحبوهم، ولايركنوا إليهم، حتى ولو كان المؤمن وحيداً في هذه الأرض كما ضرب الله لأتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً بإبراهيم عليه السلام ولم يكن مؤمن في الأرض غيره وزوجه سارة، ولم يؤمن به غير لوط ابن أخيه، قال تعالى:} قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ...[4]{ 'سورة الممتحنة'.
ولذلك أوجب الله على أهل الإسلام مفارقة ما عليه آباؤهم وأهلهم من الكفر، ومعاداتهم في الدين،
قال تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا ءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[23] {'سورة التوبة'.
وأوجب كذلك سبحانه وتعالى معاداة الناس جميعاً ممن اتبع غير دين الإسلام، ولو كانوا أكثر عدداً، وأعظم قوة، كما قال تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[51]{ 'سورة المائدة'.
وجعل الله سبحانه وتعالى موالاة ونصرة المسلم للكافر على المسلم كفراً به سبحانه وتعالى، كما قال تعالى:} لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ[28]قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[29]{'سورة آل عمران'.
وأمر الله سبحانه وتعالى أهل الإسلام أن يلزموا صراط الله المستقيم، وشريعة الله الإسلام التي اختصهم بها، ولا يخلطوا دينهم بغيره في عقيدة أو عبادة، وألا يتشبهوا بأعداء الله. قال تعالى:} قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ[1]لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ[2]وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[3]وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ[4]وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[5]لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[6]{ 'سورة الكافرون'.
وقال صلى الله عليه وسلم: :'بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ - وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ' رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم2831.
وبَعْثُ النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف هو تكليفه بقتال الكفار حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: 'أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ' متفق عليه .
وفي أهل الكتاب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم ليسلموا، أو يدفعوا الجزية، كما قال سبحانه وتعالى: }قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[29]{ 'سورة التوبة'.(1/204)
وهذه هي البراءة من الكفار، والفصل الكامل بين ديننا ودينهم، وطريق أهل الإسلام وطريقهم، والحذر من اتخاذهم أولياء، بل ولا بطانة وأعواناً، كما قال تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[118] {'سورة آل عمران'. هذه البراءة وما يتبعها من العداوة في الدين، ومخالفة أصحاب الجحيم، والحذر من اتخاذهم بطانة... الخ أصل من أصول الإسلام، وقد خالفته طوائف كثيرة؛ فكان من هذه المخالفة الشر والفساد الكبير الذي حذر الله منه. كما قال تعالى:} إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ[73]{ 'سورة الأنفال' والضمير في:} تَفْعَلُوهُ { راجع إلى ما أمر الله به من وجوب موالاة المسلمين بعضهم بعضاً، ووجوب الحذر من موالاة الكفار.
المخالفون لهذا الأصل:
الفرق الباطنية من أهل النفاق والكفر الذين كانوا في كل أدوار تاريخهم عوناً للكفار على المسلمين، وإلباً على أولياء الله من الصالحين، وعوناً لليهود والنصارى والمغول الكافرين على المسلمين.
المنافقون المستغربون، الذين فتنوا بما عليه الغرب الكافر في علومه وثقافاته وعاداته وطرائق معيشته؛ فحاولوا التوفيق -في زعمهم- بين الإسلام وبين الحضارة الغربية:} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا[61]{ 'سورة النساء'.
ويتعللون دائماً بموافقتهم لأعداء الإسلام قائلين:} إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا[62]{'سورة النساء'.
الأصل السادس: أمة الإسلام هي خير أمة أخرجت للناس:
من أصول الإسلام التي يجب علي كل مسلم اعتقادها، ويكفر من قال بنقضيها: الاعتقاد أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير أمة من أمم الهداية أخرجت للناس، قال تعالى:} كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ[110]{ 'سورة آل عمران'.
وهذه الخيرية والفضل كان لأسباب كثيرة:
منها: كرم الأصل، ونفاسة الجرثومة، وطيب المعدن كما قال صلى الله عليه وسلم: 'النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا ... ' رواه مسلم . وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: 'خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ يَتَسَمَّنُونَ وَيُحِبُّونَ السِّمَنَ يُعْطُونَ الشَّهَادَةَ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلُوهَا' رواه الترمذي وأحمد والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 3294.
ومن أجل ذلك كانت أمانتهم وصدقهم وشجاعتهم منطلقاً لحمل رسالة الإسلام بصدق وإخلاص، وتفان وشجاعة، فكانوا كما قال تعالى:} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[23] {'سورة الأحزاب'.
وقال سبحانه وتعالى في مدحهم:} مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[29] {'سورة الفتح'. ولا يوجد في أمة من أمم الهداية ما وجد في هذه الأمة من العلماء والعباد، والمجاهدين، والشهداء والزهاد.
ومنها: أنهم أطول الأمم عمراً في الدعوة إلى الله وهداية الناس، وبقاء الحق فيهم ما بقيت الدنيا، فلا تزال طائفة منهم على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يقاتل آخرهم الدجال.
ولأجل ذلك جعلهم الله سبحانه وتعالى أمة وسطاً عدولاً قال تعالى:} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...[143] {'سورة البقرة'.(1/205)
فهم شهداء الله في أرضه من شهدوا له بالصلاح؛ نال الجنة، ومن شهدوا عليه بالشر؛ كانت النار مصيره . بل يشهدون لكل نبي على أمته بما أنزل الله إليهم من القرآن.
ولأجل هذه المهمة العظيمة، وهذه الخيرية المطلقة على كل أمم الأرض فإن الله اختصهم بأنواع كثيرة من رحمته، منها:
أن العبادات التي كلفوا بها قليلة، ولكن جعل الله لهم من الأجر ضعف ما أعطى الأمم السابقة كما قال تعالى:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[28]{ 'سورة الحديد'.
وقال صلى الله عليه وسلم:'مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ثُمَّ أَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مِنْ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ بِقِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ قَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً قَالَ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ قَالُوا لَا قَالَ فَذَاكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ شِئْتُ' رواه البخاري.
وقد حفظ لهم القرآن من التغيير والتبديل، وحفظ لهم سنة نبيهم، ولم يمت رسول الله ويتركهم إلا وقد أسس الدين، وأتم الله به النعمة، وكملت الشريعة، وتركهم على مثل المحجة، ومكن الله لهم في الأرض فأصبحت الجزيرة العربية كلها خاضعة للدين. وهذا بخلاف جميع الرسل قبل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن موسى عليه السلام مات وقومه ما زالوا في التيه. وعيسى عليه السلام رفعه الله إلى السماء، وتلامذته خائفون مختفون من أعدائهم.
والخصائص والفضائل التي اختصت بها هذه الأمة كثيرة جداً... من أجل ذلك يجب اعتقاد هذا الفضل لأمة الإسلام، وتعظيم أصحاب رسول الله الذين هم خلاصة الأمة، ونقاوتها، وأهل السبق والسابقة فيها وهذا من عقائد الإسلام الراسخة.
خاتمة: والخلاصة أن من ثوابت الإسلام وأصوله الأصيلة: الاعتقاد بكمال القرآن وحفظه، وأنه لا يوجد قرآن غيره بأيدي أحد من الناس، ووجوب التحاكم إلى هذا القرآن في الصغير والكبير، وتحكيمه في حياة الأمة، ووضعه حيث وضعه الله سبحانه من الحكم به في جميع شئوننا.
وكذلك حجية السنة وأنها بمنزلة القرآن اعتقاداً وعملاً }مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...[80]{ 'سورة النساء'.
والإيمان بعدالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمانتهم في نقل القرآن والسنة، وأنهم النموذج الذي يجب أن يحتذى في الدين والجهاد والصبر، وكذلك في فهم الدين اعتقاداً، وعملاً.
والاعتقاد بفضل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وإنزالهم منزلتهم، وأنهم كانوا مع القرآن لم يفارقوه .
ووجوب الموالاة بين أهل الإسلام جميعاً، ووجوب المعاداة والبراءة من الكفار جميعاً ولو كانوا من الآباء والأخوان .
واعتقاد فضل هذه الأمة الإسلامية على جميع أمم الهداية، وأنهم حملة رسالة الله الخاتمة إلى أهل الأرض جميعاً. ووجوب قيامهم بما كلفهم الله به:} كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...[110]{ 'سورة آل عمران'.
وعالمية رسالة الإسلام، وأنه الدين الذي يجب أن يكون دين الناس جميعاً، وأن البشر جميعاً يجب إن يخضعوا له كما قال تعالى:} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ...[39]{ 'سورة الأنفال'. وقوله تعالى:} قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا... [158]{ 'سورة الأعراف'.
وأن غاية الرسالة المحمدية هي تعبيد الناس لله سبحانه وتعالى. وأن هذه هي مهمة الرسل جميعاً قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم:} وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ... [36]{ 'سورة النحل'.
وأن الإسلام جاء ليهذب النفوس، ويزكيها بالإيمان والعمل الصالح والخلق الكريم: 'إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ' رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد. وأن على دعاة الإسلام أن يعملوا لبناء هذا الإنسان الصالح، والمسلم الكريم، والنموذج الذي يحتذى به كما جاءت أوصافه في الكتاب والسنة.
وكذلك وجوب الاعتقاد بشرف اللغة العربية؛ لنزول القرآن بها، وأنها لسان الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، وجعل هذه العربية هي اللغة الأولى لكل مسلم في الأرض؛ لأنه لا تتم عبادته في صلاته إلا بها، ولا يفهم الإسلام فهماً كاملاً إلا بجمعها، ومعرفتها بعلومها البالغة اثنى عشر علماً، أهمها ورأسها:'علم النحو'.(1/206)
وكذلك اعتقاد أنه لا عصمة لأحد من خطأ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الاجتهاد حق بل واجب على كل من استكمل آلته من علماء الإسلام؛ لأنه لا بصيرة، ولا عمل بالكتاب والسنة والدين إلا باجتهاد أهل العلم، الذين ينزلون آيات القرآن منازلها، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مواقعها، هذا مع وجوب حفظ تراث أهل العلم وجهودهم في تبويبه وتأصيله، وفقهه وتعليمه، وألا تكون مذاهب العلماء بمثابة شرائع مستقلة لأهل الإسلام حتى لا يتفرقوا في الدين.
من مقال:' الثوابت الأساسية في الإسلام'.... للشيخ/ عبد الرحمن عبد الخالق
================ ... ...
من مواقف قريش المضادة للدعوة الإسلامية في مكة
الخميس 13 شوال 1425هـ - 25نوفمبر 2004 م مفكرة الإسلام :
تحتاج الأمة، وهي تتلمس طريقها نحو النهضة إلى ما يسمى:' بالحس التاريخي' تعي فيه ذاتها وتحقق أصالتها، وأي أمة خلت من هذا الحس التاريخي؛ هي أمة تابعة مقلدة لاهثة، لا تعي ذاتها وبالتالي لا تملك ذاتها، ومصيرها يكون إلى زوال.
ودراسة الدعوة الإسلامية في مراحلها الأولى طريق إلى إيجاد الحس التاريخي في هذه الأمة، وإنعاشه وبلورته إلى عمل فعّال في استثارة كوامن الطاقات الإسلامية وتجميعها وتوجيهها نحو الخير والعطاء. وقد واجهت الدعوة الإسلامية من اللحظة الأولى لظهورها الوثنية وتزعمتها قريش، وبشكل خاص بعد أن اعتَنق الدعوة كثير من أهل الفضل منهم، ووقفوا في سبيلها بمختلف الوسائل، ومن هذه الوسائل:
1- اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بمختلف التهم ليبعدوا الناس عنه: فكانوا يقولون:'هذا أساطير الأولين', قال تعالى:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا[5]}[سورة الفرقان]. ونعتوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالكاهن حيناً، والكاذب المفتري حيناً، والمتعلم المقتبس من غيره حيناً, وظلوا يكرّرون ذلك حتى آخر العهد المكي, قال تعالى:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ[4]}[سورة ص]. وقال سبحانه:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا[4]}[سورة الفرقان]. ووصفوا القرآن بالسحر، قال تعالى:{...وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ[43]}[سورة سبأ].
2- اتبعوا أسلوب الحِجاج، فكانوا يحاجّون الرسول صلى الله عليه وسلم: وهو أسلوب أهل الكتاب،
ومن قوله سبحانه وتعالى يبيّن أسلوبهم في الحجاج:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ[148]}[سورة الأنعام]. وقوله تعالى:{ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [24] وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[25]}[سورة الجاثية].
3- مطالبة الرسول بالمعجزات وتحدّيه: فقد طالبوه بالمعجزات والآيات برهاناً على صدق دعواه، قال سبحانه:{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا[90]أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا[91]أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا[92]أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا[92]}[سورة الإسراء].(1/207)
4- محاولة استمالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإقناعه بالعدول عن الدعوة: فقد عرض عليه زعماء قريش الملك والمال والنساء، أرسلوا إليه عتبة بن ربيعة سيد قومه، فذهب إليه وهو يصلي في المسجد فقال له: 'يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت، من خيارنا حسباً ونسباً، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها: إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطبيب, وبذلنا فيه أحوالنا حتى نبرئك منه...'إلخ القصة.
فهكذا كان زعماء قريش يحاولون إقناع محمد صلى الله عليه وسلم بالعدول عن الدعوة، أو التنازل عن شيء منها مقابل تنازلهم عن أشياء، فكان قوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[9]}[سورة القلم]. فثبت الرسول أصحابه في الموقف الذي لا يحتمل مساومة، ولا تعدداً.
5- أسلوب التعذيب: لما رأى زعماء قريش إصرار الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتشار الإسلام؛ توجهوا إلى مقاومة الإسلام عن طريق تعذيب العبيد والضعفاء من المسلمين؛ ليعودوا إلى الشرك، وليحولوا دون إسلام المزيد، فكان من صور هذا التعذيب: أن يعرّى صدر المسلم، ويطرح فوق الرمال المتوهجة من شدة حرارة الشمس، ويوضع على أجسادهم الصخور الثقيلة، ويمنع عنهم الماء والطعام، وتقيّد أيديهم وأرجلهم بقيود الحديد، ويجلدون بالسياط جلدًا شديدًا، فزهقت أرواح بعضهم.
ومن بين الذين تعرضوا لمثل هذا العذاب: ياسر وزوجته سمية، وابنهما عمار، وبلال بن رباح, وخباب بن الأرت، فكان المشركون يخرجون ياسراً وزوٍجة وابنه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء ويعذبونهم بحرّها، فيمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: [صَبْرًا آَلَ يَاسِرٍ فَإنَّ مَوْعِدَكُمْ الجَنَّةُ] رواه الحاكم والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي في شعب الإيمان. وقد مات ياسر وهو يعذّب، وأما زوجه فقد طعنها أبو جهل بحربة فقتلها.
وقد ضرب المسلمون مثلاً خالدًا للتمسّك بالعقيدة، وتحمّل أنواع الأذى، والتضحية بالنفس، وكان بعضُ المسلمين الأغنياء -وخاصة أبا بكر- يشترون الأرقاء المضطهدين من مالكيهم، وينقذونهم.
ثم خطا المشركون خطوة أخرى في التعذيب: فأخذوا يعتدون على المسلمين جميعًا ودون تمييز حتى شمل الاعتداء ذوي الثراء والوجاهة والقوة: كأبي بكر، وعثمان، والزبير، وطلحة، وأبي عبيدة، وعثمان بن مظعون، فقد شدّ نوفل بن خويلد وكان يسمى [أسد قريش] أبا بكر وطلحة القرشيين بحبل واحد، فسميا القرينين, وعذب أبو أحيحة ابنه خالد بن سعيد بن العاص، فكان يضربه بقراعة في يده حتى يكسرها على رأسه، ثم يأمر بحبسه ويضيّق عليه، ويجيعه ويعطشه، حتى لقد مكث في حر ّمكة ثلاثاً ما ذاق ماءً.
ونتيجة لتعرض المسلمين جميعاً للعذاب أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة في السنة الخامسة من بعثته.
6- تهديد الرسول صلى الله عليه وسلم بالكف عن دعواه، والعدوان عليه: حين باءت أساليب مقاومة كفار قريش بالفشل؛ لجأوا إلى عمه أبي طالب، وقال زعماؤهم: 'يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، فإما أن تكفّه عنا، وإما أن تخلّي بيننا وبينه'. فردّهم أبو طالب ردّاً جميلاً دون أن يتوقف صلى الله عليه وسلم عن نشاطه، أو يتهاون في الدعوة.
فعاودوا الكرة، وخاطبوا أبا طالب بلهجة المتوعد المهدد، وأنهم لن يصبروا على هذا الحال، وخيرّوه بين أن يمنعه عمّا يقول، أو ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الطرفين، فعظم الأمر على أبي طالب فكلّم محمداً صلى الله عليه وسلم بما جاء به إليه قومه وقال له:
'يا ابن أخي، إن قومك جاءوني وقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر مالا أطيق'. فكان ردّ المبلّغ الداعية إلى الحقّ الذي يحمل نفساً أبيّة لا تعرف الذل، ولا تنحني للوهن، ينظر إلى خصمه من علٍ؛ لأنه يستمد القوة من عزيز حكيم، ينظر إلى زخارف الدنيا وكأنها أوراق الخريف تتطاير في الهواء، ويحتقر أبهة المشرك وعظمته، يستعلي على الدنيا بإيمانه، فهو على الحق وان لقي العنت الشديد, قال صلى الله عليه وسلم: [مَا أَنَا بِأَقْدِرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ لَكُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنَ تُشْعِلُوا لِي مِنْهَا شُعْلَةً - يَعْنِي الشَّمْسَ- ] رواه أبويعلى وابن عساكر. فطمأنه أبو طالب ووعده الاستمرار في حمايته.(1/208)
فعاد زعماء قريش إلى أبي طالب يعرضون عليه عمارة بن الوليد أوسم شباب قريش ليسلموه إليه على أن يسلمهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فردهم ساخراً بقوله: 'بئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه!!'. فاتجه بعضهم إلى إنزال الأذى بالرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، ومن الذين اشتدوا في إيذائه صلى الله عليه وسلم: أبو جهل، وأبو لهب عمه، وأم جميل زوجة أبي لهب، وعقبة بن أبي معيط، ولكنّ إسلام حمزة، ثم عمر بن الخطاب كفّ القرشيين عن بعض ما كانوا ينالون به الرسول صلى الله عليه وسلم من أذى خوفاً منهما. وفي أثناء ذلك استمر القرآن الكريم يردّد مشاهد الشدة والعنف مع المشركين يندّد بهم، وينذرهم بسوء المصير، ويصبّر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ويعدهم بالنصر والتأييد، وحسن العاقبة.
7- أسلوب المقاطعة: إزداد حنق المشركين من قريش إزاء صبر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين على الأذى والتعذيب وإصرارهم في المضي بالدعوة، وإزاء فشو الإسلام في القبائل، فاجتمعوا وائتمروا، وقرروا مقاطعة المسلمين وبني هاشم دون أبي لهب، فلا يتزوجون منهم ولا يزوّجونهم، ولا يبيعون لهم شيئاً، ولا يشترون منهم، وتعاهدوا وتواثقوا على ذلك، وعلقوا صحيفة المقاطعة بالكعبة. فاضطر بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى النزوح إلى شعب أبي طالب شرقي مكة، وقطعت عنهم قريش كل أنواع المؤن، ولم يكن يتاح لهم الاختلاط بغيرهم من الناس إلا في الأشهر الحرم حين يفد العرب إلى مكة لزيارة البيت الحرام, وبلغ بهم الجهد حدّاً لا يطاق، فذاقوا الجوع والحرمان حوالي ثلاث سنوات لا يصل إليهم القوت إلا خفية.
وأخيراً أخذت الحمية والرأفة نفراً من القرشيين منهم: هشام بن عمرو بن الحارث العامري, وزهير بن أمية بن المغيرة المخزومي, والمطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف, وأبو البختري ابن هشام, والأسود بن عبد المطلب بن أسد, وتعاهدوا على نقض الصحيفة رغم اعتراض أبي جهل, وخرجوا إلى بني هاشم، وبني عبد المطلب، وطلبوا منهم العودة إلى منازلهم وشقوا الصحيفة، فوجدوا الأرض قد أكلتها إلا ما كان من: 'باسمك اللهم, وهي فاتحة ما كانت تكتب قريش'.
8- القتل أو الحبس أو النفي:اجتمع مشركوا قريش في دار الندوة، فتشاوروا في أمر الدعوة الإسلامية، ففكروا في ثلاث وسائل، وهي: حبسه صلى الله عليه وسلم، أو اغتياله، أو نفيه، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[30]}[سورة الأنفال]. واتفق رأيهم أخيراً على قتله شريطة اشتراك شبان من مختلف بيوتات قريش؛ حتى يتوزع دمه فلا يستطيع آله المطالبة بدمه.
علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فخرج من داره ليلاً بعد أن ترك عليًا ليقوم بتأدية الأمانات، وشق طريقه مع صاحبه أبي بكر- رضي الله عنه- إلى المدينة المنورة لتتشرف باستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبدأ الدعوة مرحلة جديدة مليئة بالكفاح والنضال والجهاد.
من:'من مراحل الدعوة الإسلامية في مكة' للدكتور/ جميل عبد الله المصري
==============
وقال تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) [الأحزاب/6] }
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين, والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وبعد:
ربما تعقيبا على موضوع اختي الكريمة في المنتدى عن زوجات الرسول صلى الله عليه و سلم ..اورد هذا المقال الذي يتحدث عن اسباب زيجات النبي الكريم المتعددة و اهمية هذه الزيجات للدعوة و العبر الالهية منها حيث يحاول أعداء الإسلام (منذ بزوغ فجره وحتى اليوم ) باستماتة النيل منه والطعن فيه باستغلال تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ..
زعموا أن نبي الإسلام كان منصرفا إلى إشباع شهوته بالتقلب في أحضان تسع نساء !! (قالها يهود يثرب) .. فرد عليهم القرآن الكريم ردا بليغا وبين أنهم فعلوا ذلك حسدا للرسول صلى الله عليه وسلم ، على الرغم من أن داود وسليمان (عليهما السلام) آتاهما الله الملك وكان لهما من الزوجات والجواري أضعاف ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم : (أحب الملك سليمان نساء غريبة كثيرة...) (سفر الملوك الأول 1:11), (وكانت له سبع مائة من النساء السيدات وثلاث مائة من السرارى فأمالت نساؤه قلبه) (سفر الملوك الأول3:11). (وهل هذا كلام يليق بنبى من أنبياء الله عليهم أفضل الصلاة والسلام أجمعين؟!)(1/209)
ومازالون يتطاولون على المقام الشريف والسُنّة المطهرة، كيدا منهم لهذا الدين، والله يحفظه (رغم أنوفهم) إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
وهناك آخرون لا يعلمون بواعث تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ..
ومن يطالع السيرة العطرة سوف يكتشف بسهولة أن بعض هذه الزيجات كان في المقام الأول تلبية لدوافع إنسانية، والبعض الآخر كان لتأليف القلوب، وتطييب النفوس، وتمهيد الأرض للدعوة المباركة بالمصاهرة وجبر الخاطر ..
ثم هناك حقه الطبيعي صلى الله عليه وسلم في الزواج، لأنه بشر، وليس ملَكاً .. والزواج هو شريعة كل أنبياء الله (حتى من لم يتزوج منهم مثل عيسى ويحيى عليهما السلام ), ولا يوجد نص في الكتاب المقدس يحظر تعدد الزوجات, فنجد أن لإبراهيم وإسرائيل (يعقوب) وداود وسليمان (عليهم السلام أجمعين) أكثر من زوجة, ولم توجه كلمة لوم واحدة فى الكتاب المقدس لهذه الحالات الواضحة من حالات تعدد الأزواج!
***
ولنبدأ بأول زوجات المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهى السيدة (خديجة بنت خويلد) رضي الله عنها وأرضاها, فقد تزوجت في الجاهلية من هند بن النباش التميمى (وكنيته أبو هالة) .. وبعد موته تزوجت (عتيق بن عابد المخزومى) .. ثم مات عنها عتيق .. وكانت من أرفع بيوت قريش وأوسطها نسبا وحسبا. وكان لها مال ترسل رجالا من قومها يتاجرون لها فيه .. ولما سمعت بأمانة محمد عليه الصلاة والسلام أرسلت إليه ليتاجر لها في مالها في رحلة الشام، على أن تعطيه ضعف ما كانت تعطى غيره من الأجر .
ورحل صلى الله عليه وسلم بمالها مع غلامها (ميسرة) إلى الشام، فباع واشترى وعاد إلى مكة بأضعاف ما كانت خديجة تربحه من قبل .. وأعطته السيدة خديجة ضعف الأجر المتفق عليه .. وأخبرها غلامها ميسرة بما رأى فى محمد صلى الله عليه وسلم من شمائل كريمة, وفكر راجح, ومنطق صادق, ونهج أمين ..
فازدادت إعجابا به، وأرسلت إليه صديقتها (نفيسة بنت أمية) تعرض عليه الزواج من خديجة التي كان عمرها في ذلك الوقت أربعين سنة .. فوافق عليه الصلاة والسلام، وكان عمره وقت أن تزوجها خمسا وعشرين سنة .
وولدت له السيدة خديجة كل أولاده وبناته باستثناء إبراهيم ولده من مارية القبطية (الجارية التي أهداها المقوقس إلى النبي ..) ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم أخرى حتى ماتت السيدة خديجة عن خمس وستين سنة، بينما كان عليه الصلاة والسلام قد تخطى الخمسين سنة ..
والآن نتساءل: إذا كان نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم قد عاش بلا زواج حتى سن الخامسة والعشرين .. ولم يكن أهل مكة يقولون عنه إلا كل الخير، وكانوا يلقبونه بالصادق الأمين .. وكانت طهارته وعفته مضرب الأمثال (باعتراف أعتى المشركين وأشدهم عداوة له وحقدا عليه) .. وإذا كان تزوج بعد ذلك من السيدة خديجة (وهى أكبر منه سنا بخمس عشرة سنة)، وظل مكتفيا بها زوجة وحيدة حتى بعد أن تجاوزت الستين .. فأين ما يزعمون من حبه للشهوات واستكثاره من النساء ؟!!
لقد كان عليه الصلاة والسلام في تلك الفترة في ريعان شبابه، ولم يكن قد شغل بعد بأعباء الدعوة المباركة، وتبعاتها الثقيلة، ولو كان (كما يزعم أعداء الإسلام) من ذوى الشهوة الطاغية لتزوج من شاء من النساء ، وقد كان تعدد الزوجات والجواري شائعا قبل الإسلام بلا قيد أو عدد محدد .. وما كان ذلك عيبا ولا محظورا .. فلماذا لم يفعل صلى الله عليه وسلم ؟!
أليس هذا دليلا على أنه صلى الله عليه وسلم قد عدد زوجاته فيما بعد لأسباب أخرى أسمى وأرفع قدرا من مجرد إشباع الشهوة، رغم أن هذا الإشباع بالزواج ليس عيبا ولا شائنا للزوج ؟!
ثم هناك نقطة أخرى (قبل أن ننتقل إلى باقي الزوجات). لقد كان عليه الصلاة والسلام يذكر السيدة خديجة بكل الخير والوفاء بعد موتها .. وحتى بعد أن صار له تسع نسوة .. كان يغضب إذا أساء أحد إلى ذكراها العطرة، ولو كانت عائشة أحب زوجاته إليه.. ويذكر عليه الصلاة والسلام (في كل مناسبة) معروف خديجة وفضلها عليه وعلى الدعوة الغراء، ولم ينسها رغم أنها كانت عجوزا ورزق بعدها بزوجات أصغر سنا، وربما أكثر جمالا ..
هل مثل هذا الزوج يقال عنه إنه يضع الشهوة الجنسية في المقام الأول ؟!! هل يظن مثل هذا الظن المريض بمن وصفه رب العزة بأنه على خلق عظيم؟! : (وإنك لعلى خلق عظيم) (سورة ق: 4).
***
ونأتي الآن إلى ظروف زواجه صلى الله عليه وسلم بثانية زوجاته السيدة (سودة بنت زمعة) رضي الله عنها, فقد كانت متزوجة في الجاهلية بـ(السكران بن عمرو بن عبد شمس)، وهو ابن عمها، وأسلما بمكة وخرجا مهاجرين إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية .. ثم قدما من الحبشة، ومات السكران بمكة، و ترملت زوجته السيدة سودة، فلما انقضت عدتها أرسل لها النبي صلى الله عليه وسلم فخطبها وتزوجها بمكة، وهاجرت معه إلى المدينة .(1/210)
وكانت رضي الله عنها قد كبرت سنها، وبعد فترة من زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بها تنازلت عن ليلتها للسيدة عائشة، وقالت كما جاء في إحدى الروايات: يا رسول الله، والله ما بي حب الرجال (تقصد أنها مسنة وليست بها حاجة إلى الرجال) ولكني أرجو أن أبعث في أزواجك يوم القيامة. وقبل منها النبي صلى الله عليه وسلم تنازلها للسيدة عائشة، وأبقى عليها زوجة في عصمته حتى موته صلى الله عليه وسلم ..
فهل يكون اقترانه عليه الصلاة والسلام بعجوز أخرى دليلا على ما يذهب إليه أعداء الله ورسوله من أن تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم كان للشهوة أو حب النساء ؟!! أو أنها مواساة منه عليه الصلاة والسلام لأرملة مسلمة لم يعد لها عائل بعد موت رجلها، وليس لها مال أو شباب أو جمال يدفع غيره صلى الله عليه وسلم للزواج منها ؟!!
والله .. إن مثل هذه الزيجة التي لا يطمع فيها أحد لهي بعض أعبائه عليه الصلاة والسلام ، وواجب ثقيل ألزم به نفسه الشريفة النبيلة صلى الله عليه وسلم .
ومن سواه يواسى الأرملة المحزونة؟ من سواه يجبر المكسور، ويفك الأسير، ويعين على شدائد الدهر، وهو الذي أرسله ربه رحمة للعالمين ؟!!
***
وأما السيدة (عائشة بنت الصِدّيق أبى بكر) رضي الله عنهما, فهي الزوجة الثالثة لنبي الهدى صلى الله عليه وسلم .. ومن الطبيعي أن يرتبط الداعية بالرجال الذين يقوم على أكتافهم البناء الشاهق، وتنتشر الدعوة بهم، ومن خلالهم إلى سائر إرجاء المعمورة .. وخير الروابط بين النبي وكبار أصحابه هو الرباط المقدس (الزواج) .. ولهذا تزوج عليه الصلاة والسلام من السيدة عائشة، وكانت صغيرة السن .. كما تزوج أيضا لذات السبب من السيدة (حفصة بنت عمر بن الخطاب) رضي الله عنهما ..
وهناك سبب ثان لزواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة حفصة ، فقد كانت متزوجة قبله من (خنيس بن حذافة السهمي) الذي أسلم معها وهاجر بها إلى المدينة فمات عنها (عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة أحد) متأثرا بإصابته في الغزوة، وعندما انقضت عدتها عرض عمر على أبى بكر الصديق أن يزوجه ابنته حفصة، فسكت أبو بكر، مما أغضب عمر (رضي الله عنهم أجمعين) وكان عمر قد عرضها قبل ذلك على عثمان بن عفان فلم يوافق كذلك، مما أسخط عمر عليه كما سخط على صاحبه، فجاء عمر يشكوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ..
وطيّب صلى الله عليه وسلم خاطره وتزوجها تكريما لعُمَر، كما كرم أبا بكر من قبل وتزوج بابنته عائشة .. وكان الباعث لأبى بكر على عدم قبول الزواج من حفصة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها لنفسه، وما كان الصديق ليفشى سر رسول الله، أو يتزوج بمن عزم صلى الله عليه وسلم على الزواج منها ..
ومن المعروف أن السيدة حفصة رضي الله عنها لم تكن جميلة مثل عائشة أو صفية، لكنها كانت صوّامة قوّامة تحب الله ورسوله.
فهل يكون الزواج في حالة السيدة عائشة والسيدة حفصة استكثارا من النساء، أو جريا وراء الشهوات؟!! أم هي ضرورات الدعوة، وجبر الخاطر، وتوكيد الروابط بين المصطفى صلى الله عليه وسلم وكبار رجال الدعوة الوليدة والرأفة بزوجة شهيد (مثل حفصة) لم يكن لها من الجمال أو المال ما يغرى غيره عليه الصلاة والسلام بالزواج منها ؟!!
إنه الرحمة المهداة، والنعمة المسداة, عليه الصلاة والسلام ..
***
هناك أيضا ظروف زواج الرسول الأمين من السيدة (زينب بنت خزيمة) الملقبة بـ(أم المساكين) رضي الله عنها, فقد كانت زوجة لابن عم النبى صلى الله عليه وسلم (عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف) رضي الله عنه, الذي استشهد في يوم بدر و تركها وحيدة لا عائل لها ..
فهل يكون جزاء الصحابي وابن العم الشهيد أن تترك أرملته وحدها ؟!! ومن يصل الرحم، ويجازى الشهيد، ويخلفه في أهله بكل البر والخير والرحمة سوى الصادق الأمين خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم ؟!!
وهل مثل هذه الزيجة يكمن خلفها أي مطمع حسي أو غيره ؟! أم أنها واجب وعبء إضافي على عاتق المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟!! وقد ماتت (رضي الله عنها) بعد زواجها من الرسول بعدة أشهر .
***
وكذلك جاء زواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة (أم سلمة) رضي الله عنها, واسمها (هند بنت سهيل بن المغيرة المخزومى) .. وقد أصيب زوجها (أبو سلمة) رضي الله عنه يوم أحد (هو عبد الله بن عبد الأسد - وكان أ خًا للنبى صلى الله عليه وسلم من الرضاعة)، ثم برئ الجرح بعدها بشهر .. وخرج رضي الله عنه في (سرية قطن) ثم رجع منها بعد شهر آخر، وانتقض الجرح عليه فتسبب في استشهاده (رضي الله عنه) وخلف وراءه السيدة أم سلمة وكثرة من الأطفال ..(1/211)
فلما انقضت عدتها أرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم يخطبها ، فاعتذرت بأنها تقدمت في السن، وأنها ذات أطفال، وأنها شديدة الغيرة، فرد عليها النبى صلى الله عليه وسلم : ((أما ما ذكرت من غيرتك فيذهبها الله .. وأما ما ذكرت من سنك فأنا أكبر منك سنا ... وأما ما ذكرت من أيتامك فعلى الله وعلى رسوله)) . [أي أن عيالها سوف يرعاهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم]، وهذا أهم أهداف هذه الزيجة المباركة، أي كفالة هؤلاء الأيتام، فضلا عن رعاية الصحابية الجليلة بعد أن أصبحت أرملة ..
وأخيرا جاءت هذه الزيجة تكريما للزوج أبى سلمة نفسه بعد استشهاده، برعاية أرملته وأطفاله، وصلة لرحمه، فهو ابن عمة الرسول صلى الله عليه وسلم .. فأين اتباع الشهوة في مثل هذا الارتباط بأرملة تجاوزت الخمسين وذات أطفال ؟!!
***
وأما زواجه صلى الله عليه وسلم بالسيدة (أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان بن حرب) رضي الله عنها, فله قصة توضح الهدف منه، والمقصد النبيل الذي تحقق به .. فقد كانت أم حبيبة زوجة لـ(عبيد الله بن جحش بن خزيمة)، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية .. وهناك فُتِن عبيد الله وارتد عن الإسلام (والعياذ بالله) وثبتت السيدة أم حبيبة رضي الله عنها على دينها رغم الغربة والوحشة والوحدة .. ولم تكن تستطيع الرجوع إلى مكة حيث كان أبوها أبو سفيان أحد زعماء قريش يضطهد الرسول وأصحابه أشد الاضطهاد ، فلو رجعت أم حبيبة لتعرضت للفتنة في دينها بدورها .. وكان لا بد من تكريمها وتعويضها عن الزوج الذي ارتد، ثم مات بالحبشة ..
وهكذا أرسل النبى صلى الله عليه وسلم إلى (النجاشي) ملك الحبشة (وكان قد أسلم) طالبا منه أن يعقد له على أم حبيبة .. وبالفعل زوجه النجاشي إياها، وأرسلها إليه بالمدينة بعد هجرته صلى الله عليه وسلم معززة مكرمة ..
ولما بلغ أبا سفيان خبر زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ابنته أم حبيبة شعر بالسعادة، وقال عن زوج ابنته مبتهجا (والذي كان ما يزال عدوا له ولدينه) : (( هو الفحل لا يقرع أنفه )) (وهو مثل عربي مأخوذ مما يفعله العرب حين يردون الفحل المريض أو الذي به عيب عن تلقيح إناث الإبل بضربه على أنفه برمح أو عصا .. بينما يتركون الفحل الأصيل ليلقح الإناث بغير ضرب) .. أي أن مثل النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد صهره، فهو كفء كريم تفخر كل قبيلة بمصاهرته وتزويجه بناتها.
قال أبو سفيان بن حرب ذلك على الرغم من أنه كان ما يزال مشركا عدوا للإسلام، ولكنه لا يخدع نفسه كأب تزوجت ابنته بأعظم وأشرف الرجال ..
وشاء الله جلت قدرته أن تدور الأيام، ويأتي أبو سفيان إلى المدينة محاولا إثناء النبي صلى الله عليه وسلم عن غزو مكة بعد أن نقض المشركين عهودهم معه، واعتدوا على حلفائه من قبيلة (خزاعة)، وقتلوهم في البلد الحرام في الشهر الحرام .
ولم يجد أبو سفيان ملجأ بعد أن رفض كبار الصحابة التوسط له عند النبي صلى الله عليه وسلم سوى بيت ابنته وفوجئ أبو سفيان بابنته تطوى عنه الفراش في ضيق واشمئزاز .. فسألها: والله يا بنية ما أدرى هل رغبت بالفراش عنى أم رغبت بي عنه ؟!! فردت عليه بحسم : (( بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك )) ..
يا الله .. إنها العقيدة الراسخة كالجبال في قلب زوجة المصطفى صلى الله عليه وسلم، تواجه بها أباها الذي خرجت من صلبه .. وذلك هو الإيمان الحق الذي يجعل الله ورسوله أحب إلى المسلم الصادق من أمه وأبيه وابنه وأخيه .
هل كان من المطلوب من الرسول أن يترك مثل هذه السيدة العظيمة للضياع بين زوج مرتد وأب كان كافراً ؟!! ومن سواه صلى الله عليه وسلم أولى بأن يكرم مثواها، ويجزيها على ثباتها وصبرها وجهادها في سبيل عقيدتها ورسالتها ؟!! ومن يكون مناسبا لابنة سيد قريش سوى سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم ؟!!
***
ونأتي إلى قصة زواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة (زينب بنت جحش الأسدى) رضي الله عنها, وهى ابنة عمته (أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف) .. أي أنها من أعرق وأشرف بيوت قريش وأرفعها نسبا وأما .. وكانت فيما يروون فائقة الجمال ..
وعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم يخطبها ظن أهلها أنه يريدها لنفسه، ثم فوجئوا به يطلبها لـ(زيد بن حارثة) .. كان زيد رضي الله عنه, عبدا في الجاهلية، وانتهي به المطاف عند الصادق الأمين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي أكرم مثواه، وبلغ من تأثير عطفه وحنانه على زيد أن زيد فضّله على أبيه وعمه (لمّا خيّره بين البقاء معه أو اللحاق بأبيه وعمه عندما عثرا عليه، وجاءا من ديارهما في طلبه .. وهنا أشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم أن زيد ابني أرثه ويرثني ... وذلك قبل تحريم التبني ) فرضي أبوه بذلك.(1/212)
وعلى الرغم من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعتق زيدا وتبناه، ثم أبطل الإسلام التبني فاسترد زيد اسمه الأول (وحريته من قبل)، فإن آل جحش رفضوا أن يزوجوه ابنتهم وهى من فتيات قريش المعدودات اللاتي يتنافس خيرة شباب العرب للفوز بهن ..
ولكن الله تعالى شاء أن يمضى هذا الزواج لحكمة كبرى، بل لعدة مقاصد: أولها أن يهدم التفاخر بالأنساب، ويثبت القاعدة الخالدة الراشدة (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وليس أغناكم أو أعرقكم نسبا أو أفضلكم حسبا ..
ولهذا نزل قول الله تعالى : (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) (الأحزاب: 36).
وفور نزول هذه الآية الكريمة عرف عبد الله بن جحش وأخته زينب رضي الله عنهما أنه لا محيد لهم عن طاعة الله ورسوله، فقال عبد الله لابن خاله محمد صلى الله عليه وسلم: ((مرني بما شئت)) فزوجها صلى الله عليه وسلم من زيد بن حارثة ..
وعلى الرغم من إتمام الزواج ظلت زينب تستعصي على زيد، وتشمخ عليه بنسبها وحسبها، حتى ضاق(رضي الله عنه) بها ذرعا، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في تطليقها لاستحالة العشرة بينهما، فأمره النبي أن يتقى الله ويمسك عليه زوجه فلا يطلقها ..
في ذلك الوقت أطلع الله تعالى رسوله على ما سوف يحدث، وهو أن زيد سيطلق زينب، ثم يزوجها الله من رسوله الأمين، ليهدم بذلك قاعدة التبني التي سادت في الجاهلية، إذ الأعدل والأصوب هو أن يُدعى كل ابن لأبيه الحقيقي، وليس لذلك الذي تبناه .. وإذا كان الإسلام يحرم إلى الأبد زواج الأب من امرأة ابنه، فالأمر ليس كذلك في حالة الابن بالتبني إذ هو ليس ابنا حقيقيا، وما ينبغي أن يكون .
ونزل قول الله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتقِ الله وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا) (الأحزاب: 37).
وأفضل تفسير لهذه الآية الكريمة وأقربه إلى ما يليق بمقام النبوة الشريف النبيل، وما هو مقطوع به من عصمة الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) ما قاله الإمام على بن الحسين بن على بن أبى طالب، (الملقب بزين العابدين رضي الله عنه) ..
روى على بن الحسين: (( أن النبي صلى الله عليه و سلم كان قد أُوحي إليه أن زيدا سوف يطلق زينب، وأن الله سيزوج رسوله إياها .. فلما شكا زيد للنبي صلى الله عليه وسلم ما يلقى من أذى زوجته، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: (اتق الله وأمسك عليك زوجك) .. وهو صلى الله عليه و سلم يعلم أنه سيفارقها، ثم يتزوجها هو من بعده، وهذا ( العلم ) هو ما أخفاه صلى الله عليه وسلم في نفسه، ولم يرد أن يأمره بطلاقها .. فعاتبه الله تعالى على هذا القدر من خشية الناس في شيء قد أباحه الله له، وقوله لزيد (( أمسك عليك زوجك ))، مع علمه بأنه يطلقها، وأعلمه سبحانه أن الله أحق بالخشية في كل حال )) .قال علماؤنا رحمهم الله : (( وهذا القول أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين، مثل الزهري وبكر بن علاء القشيرى وأبو بكر بن العربي وغيرهم. ورفض الإمام ابن كثير (رضي الله عنه) كل رواية أخرى لا تناسب عصمة الرسول ومقام النبوة الرفيع، إذ هي من الموضوع وما لا يصح سنده ولا معناه.
ويعلق الإمام القرطبى على تلك الرواية الجاهلية التي تفسر قوله تعالى للرسول: (وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) بأنه صلى الله عليه وسلم أخفى في نفسه هوى لزينب، بقوله: (( هذا القول يصدر عن جاهل بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، أو مستخف بحرمته صلى الله عليه وسلم )) ..
وقال الحكيم الترمذي في ((نوادر الأصول)) : (على بن الحسين جاء بهذا التفسير السليم للآية من خزانة العلم جوهرة من الجواهر ، ودرا من الدرر، فإنه إنما عتب الله عليه أنه أعلمك أن هذه ستكون من أزواجك، فكيف قال بعد ذلك لزيد ( أمسك عليك زوجك )، وأخذتك خشية الناس أن يقولوا: تزوج امرأة ابنه، و( والله أحق أن تخشاه ) ..
وقال النحاس: قال بعض العلماء: ليس هذا خطيئة من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يؤمر بالتوبة أو بالاستغفار منه، وقد يكون الشئ ليس خطيئة، ولكن غيره أحسن منه، وقد أخفى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك في نفسه خشية أن يفتن الناس.(1/213)
والخلاصة أنه عليه الصلاة والسلام تزوج السيدة زينب بنت جحش بعد طلاقها من زيد بن حارثة بأمر من الله الذي تولى سبحانه تزويجها له مباشرة، ليهدم بذلك قاعدة التبني إلى الأبد، وحتى لا يكون هناك حرج على الآباء في الزواج من مطلقات الأدعياء، لأنهم ليسوا أبناءهم .. وقد كانت السيدة زينب ابنة عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وربيت تحت رعايته، ولو كان له فيها مأرب لتزوجها منذ البداية، ولم يزوجها بنفسه لزيد من قبل ..
ومن أقوى ما قيل في تفنيد مزاعم المنافقين حول هذه الآية ما قاله فضيلة الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله) قال: إنهم يقولون إن الذي يخفيه النبي في نفسه ويخشى فيه الناس دون الناس هو ميله إلى زينب. أي أن الله (بزعمهم) يعتب عليه عدم التصريح بهذا الميل !! ونقول: هل الأصل الأخلاقي أن الرجل إذا أحب امرأة أن يشهر بها بين الناس ؟ وخاصة إذا كان ذا عاطفة منحرفة جعلته يحب امرأة رجل آخر ؟!!
هل يلوم الله رجلا لأنه أحب امرأة آخر فكتم هذا الحب في نفسه ؟! وهل كان يرفع درجته لو أنه صاغ فيها قصائد غزل ؟!! هذا والله هو السفه! وهذا السفه هو ما يريد بعض المغفلين أن يفسر به القرآن !!
إن الله لا يعاتب أحداً على كتمان حب طائش .. والذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه تأذّيه من هذا الزواج المفروض، وتراخيه في تنفيذ أمر الله به، وخوفه من كلام الناس عندما يجدون نظام التبني (كما ألفوه) قد انهار .
وقد أفهم الله رسوله أن أمره سبحانه لا يجوز أن يعطله توهم شئ ما، وأنه (إزاء التكليف الأعلى) لا مفر له من السمع والطاعة، شأن من سبقه من المرسلين، وأعقب الآية السابعة والثلاثين هذه بآيات أخرى تؤكد هذا المعنى :
(ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا . الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا) (الأحزاب: 38-39).
ويضيف الشيخ الغزالي: ((إنك حين تثبت قلب رجل تقول له: لا تخش إلا الله، إنك لا تقول له ذلك وهو بصدد ارتكاب معصية .. إنما تقول له ذلك وهو يبدأ القيام بعمل فاضل كبير يخالف التقاليد الموروثة، وظاهر في هذه الآيات كلها أن الله لا يجرئ نبيه على حب امرأة، إنما يجرئه على إبطال عادة سيئة يتمسك الناس بها، عادة التبني، ويراد منه كذلك أن ينزل على حكمها، لذلك يقول الله تعالى بعد ذلك مباشرة، وهو يهدم نظام التبني: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيءٍ عليما) (الأحزاب: 40).
***
أما السيدة (صفية بنت حيى بن أخطب) زعيم اليهود، فقد وقعت في الأسر بعد فتح خيبر، وكان أبوها وأخوها وزوجها قد قتلوا في المعركة .. ورفقا ورحمة بها خيرها الرسول صلى الله عليه وسلم بين إطلاق سراحها وإلحاقها بقومها إن أرادت البقاء على يهوديتها، وبين الزواج منه إن أسلمت، فقالت له: ((يا رسول الله ، لقد هويت الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعوني .. وخيرتني بين الكفر والإسلام، فالله ورسوله أحب إلى من العتق ومن الرجوع إلى قومي)) .. فتزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعل تحريرها من الأسر هو مهرها.
ومن الواضح أنه كان من الضروري ألا يتزوج ابنة ملك اليهود سوى من يفوق أباها منزلة ومكانة، وهو سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم .. وليس معقولا ولا مقبولا أن تترك هذه المسكينة بعد ما كانت فيه من عز ورفاهية ورفعة لمن قد يسئ معاملتها، أو يضرب وجهها ..
ويؤيد هذه الرؤية رواية (دحية الكلبي) رضي الله عنه فقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أعطني جارية من سبى يهود . فقال عليه الصلاة والسلام له: ((اذهب فخذ جارية))، فذهب دحية فأخذ صفية .. فرآها الصحابة فقالوا : ((يا رسول الله، إنها سيدة بنى قريظة وبنى النضير، ما تصلح إلا لك)) .. فتزوجها صلى الله عليه وسلم لذلك السبب.
***
وذات الأمر كان دافعا للنبي صلى الله عليه وسلم للزواج من السيدة (جويرية بنت الحارث بن ضرار) زعيم بنى المصطلق .. فقد حارب أبوها المسلمين، ولحقت به هزيمة منكرة كادت تتسبب في فناء قبيلته أو إذلالهم أبد الدهر .. فقد سقط المئات من بنى المصطلق أسرى، ومنهم السيدة جويرية بنت الحارث رضى الله عنها .. وجاءت إليه فقالت : ((يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه .. وقد أصابني من الأمر ما قد علمت [تقصد الأسر والذل] فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبني على تسع أواق، فأعِنى في فكاكي [تطلب معاونته صلى الله عليه وسلم في دفع المتفق عليه لتحريرها من الأسر] فقال لها صلى الله عليه وسلم : أو خير من ذلك؟ فسألته: ما هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم أؤدي عنك كتابك وأتزوجك.. فقالت: نعم يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((قد فعلت))(1/214)
.. وخرج الخبر إلى الصحابة فقالوا : أصهار رسول الله (يقصدون بنى المصطلق) في الأسر .. فجعل الناس يطلقون سراح من عندهم من أسرى بنى المصطلق، حتى تحرروا جميعا.
تقول السيدة عائشة (رضي الله عنها) ((أعتق بتزويج جويرية من النبي أهل مائة بيت، فلا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها)) .. وقد أسلم قومها جميعا بعد ذلك وحسن إسلامهم .
وهكذا كانت هذه الزيجة بركة وخيرا للإسلام والمسلمين من كل الوجوه، ولم تكن للاستكثار من النساء كما يظن الجهلة ويشيع المنافقون والمستشرقون !!
ولو كان الأمر حبا للنساء استكثاراً من الحسناوات لما نزل بعد ذلك أمر من الله للنبى صلى الله عليه وسلم يحظر عليه الزواج بعد من ذكرنا، ولظل الرسول صلى الله عليه وسلم حرا يتزوج من شاء، ويطلق من لا يريد .. ومات صلى الله عليه وسلم عن تسع زوجات (وكانت السيدتان خديجة وزينب بنت خزيمة قد توفيتا في حياته) وكان لهن نعم الزوج والعشير .. وصدق فيه قول رب العزة: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (الأنبياء: 107).
=====================
شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
أكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم بفضائل جمّة ، وصفات عدة، فأحسن خلْقَه وأتم خُلقه، حتى وصفه تعالى بقوله:{ وإنك لعلى خلق عظيم } (القلم:4)، ومنحه جل وعلا فضائل عديدة، وخصائص كثيرة، تميز بها صلى الله عليه وسلم عن غيره، فضلاً عن مكانة النبوة التي هي أشرف المراتب، ونتناول في الأسطر التالية شيئاً من فضائله صلى الله عليه وسلم:
فمنها أنه خليل الرحمن فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا إني أبرأ إلى كل خل من خله، ولو كنت متخذاً خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلا، إن صاحبكم خليل الله ) رواه مسلم . وهذه الفضيلة لم تثبت لأحد غير نبينا وإبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام.
ومن فضائله أنه شهيد وبشير، فعن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً، فصلى على أهل أُحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: ( إني فرط لكم - أي سابقكم - ، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها ) متفق عليه.
ومن فضائله أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، قال تعالى: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } (الأحزاب:6).
قال الشوكاني في تفسيره "فتح القدير" : "فإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لشيء، ودعتهم أنفسهم إلى غيره، وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه، ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه ، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم، ويقدموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم، وتطلبه خواطرهم".
ومن فضائله صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد بني آدم، فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة، فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة، وقال أنا سيد القوم يوم القيامة ) متفق عليه.
وهو صلى الله عليه وسلم أمان لأمته، حيث جاء في الحديث الصحيح ( النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ) رواه مسلم .
ومن فضائله صلى الله عليه وسلم أنه أول من تنشق عنه الأرض، وأول من يشفع ، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع ) رواه مسلم ، وهو صاحب المقام المحمود ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما ( إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا - أي جالسين على ركبهم -، كل أمة تتبع نبيها، يقولون يا فلان اشفع، يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود ) رواه البخاري .
تلك هي بعض فضائل نبينا الكريم، ورسولنا العظيم، الذي اختاره الله ليكون خاتم الرسل المكرمين ورحمة للخلق أجمعين، نسأل الله أن يجمعنا به، ويدخلنا مُدخله، وألا يحرمنا شفاعته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم . ...
=================
حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم
د : أبو صهيب الرهواني
</TD< tr>
على اثر الاعتداء على رسولنا العظيم ثارت مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تعبر عن سخطها ورفضها لهذا السلوك العدواني الظالم وهي ثورة ناتجة في أساسها عن حب المسلمين لنبيهم الكريم وهو شيء محمود إلا أن هذا الحب عند تمحيصه والتأمل في حقيقته يتبين أنه لا يرقى الى المستوى المطلوب وهو ما سنحاول بيانه من خلال هذه الصفحات التالية :
أولا : وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم(1/215)
لكن دعونا في البداية نبين أن محبة النبي ليست كسائر المحبة لأي شخص نعم إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم عبادة عظيمة نعبد بها الله عز و جل وقربة نتقرب بها من خلالها إليه و أصل عظيم من أصول الدين ودعامة أساسية من دعائم الإيمان كما قال تعالى "{النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}،وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين". [البخاري]
وفي الصحيح أيضاً أن عمر رضي اللّه عنه: يا رسول اللّه، واللّه لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال صلى اللّه عليه وسلم: "لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال: يا رسول اللّه واللّه لأنت أحب إليَّ من كل شيء حتى من نفسي، فقال صلى اللّه عليه وسلم: "الآن يا عمر "
إذن فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم ليست أمرا ثانويا أو أمرا مخير فيه إن شاء المرء أحبه وإن شاء لم يحبه بل هي واجب على كل مسلم وهي من صميم الإيمان ولابد لهذا الحب أن يكون أقوى من أي حب ولو كان حب المرء لنفسه .
لماذا نحب النبي ؟
ثانيا -بواعث محبة النبي صلى الله عليه وسلم
1- موافقة مراد الله تعالى في محبته
لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أحب الخلق الى الله تعالى فقد اتخذه خليلا وأثنى عليه مالم يثن على غيره كان لزاما على كل مسلم أن يحب ما يحب الله وذلك من تمام محبته سبحانه
2- مقتضى الإيمان
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينا أن من مقتضى الإيمان حب النبي صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره "والذي نفسي بيده لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين". [البخاري]
3- مميزات النبي صلى الله عليه وسلم :
فرسول الله صلى الله عليه وسلم أ شرف الناس وأكرم الناس وأطهر الناس وأعظم الناس في كل شيء وهذه كلها دواعي لأن يكون صلى الله عليه وسلم أحب الناس .
4- شدة محبته لأمته وشفقته عليها ورحمته بها
كما وصفه ربه " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم،" ولذلك أرجأ استجابة دعوته شفاعة لأمته غدا يوم القيامة
5- بذل جهده الكبير في دعوة أمته
وإخراج الناس من الظلمات الى النور
ثالثا : دلائل محبته صلى الله عليه وسلم ومظاهر تعظيمه
1- تقديم النبي صلى الله عليه وسلم على كل أحد
قال تعالى " {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم"
وقال سبحانه " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين" فعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم أن لايقدم عليه أشيء مهما كان شأنه .
2- سلوك الأدب معه صلى الله عليه وسلم
ويتحقق بالأمور التالية :
* الثناء عليه والصلاة والسلام عليه لقوله تعالى ""إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"
* التأدب عند ذكره بأن لا يذكره مجرد الاسم بل مقرونا بالنبوة أو الرسالة كما قال تعالى ""لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا"قال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى قولوا يا رسول الله، في رفق ولين، ولا تقولوا يا محمد بتجهم. وقال قتادة: أمرهم أن يشرفوه ويفخموه.
* الأدب في مسجده وكذا عند قبره وترك اللغط ورفع الصوت
* توقير حديثه والتأدب عند سماعه وعند دراسته كما كن يفعل سلف الأمة وعلماءها في إجلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان مالك إذا أراد أن يجلس (أي للتحديث) توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، وتطيّب، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقّر به حديث رسول الله.
و كان سعيد بن المسيب وهو مريض يقول أقعدوني فإني أعظم أن أحدث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع"
3: تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به
وهذا من أصول الإيمان وركائزه ومن الشواهد في هذا الباب ما ناله ابو بكر من لقب الصديق فعن عروة، عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت:
لما أسري بالنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس.فمن كان آمنوا به وصدقوه وسمعوا بذلك إلى أبي بكر -رضي الله تعالى عنه-، فقالوا:هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال:أو قال ذلك؟قالوا: نعم.قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق.
قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح.
قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة.فلذلك سمي أبو بكر الصديق.هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
4 : اتباعه صلى الله عليه وسلم وطاعته والاهتداء بهديه(1/216)
فطاعة الرسول هي المثال الحي والصادق لمحبته ولهذا قال تعالى ""قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم"
والاقتداء به صلى الله عليه وسلم من أكبر العلامات على حبه :
قال تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا"
فالمؤمن الذي يحب النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يقلده في كل شيء في العبادة وفي الأخلاق وفي السلوك وفي المعاملات وفي الآداب كما كان شأن الصحابة الكرام فعن نافع قال لو نظرت الى ابن عمر في اتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقلت هذا مجنون ومما يروى عنه في هذا الباب
5: الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم
إن الدفاع عن رسول الله ونصرته علامة من علامات المحبة والإجلال .
وقد سطر الصحابة أروع الأمثلة وأصدق الأعمال في الدفاع رسول الله وفدائه بالأموال والأولاد والأنفس في المنشط والمكره .كما قال تعالى " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون"
والدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أنواع نذكر منها :
1- نصرة دعوته ورسالته بكل ما يملك المرء من مال ونفس ....
2- الدفاع عن سنته صلى الله عليه وسلم :بحفظها وتنقيحها وحمايتها ورد الشبهات عنها .
3- نشر سنته صلى الله عليه وسلم وتبليغها خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بذلك في أحاديث كثيرة كقوله" فليبلغ الشاهد الغائب " وقوله "بلغوا عني ولو آية "
رابعا "حال الصحابة في محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم
لقد أحب الصحابة الكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا ليس له نظير وصل الى درجة أن افتدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم وآباءهم :
نماذج مختلفة
* من الشباب : علي ابن أبي طالب ونومه في فراش النبي صلى الله عليه وسلم
ليلة أن أراد المشركون قتله
وسئل علي بن أبي طالب كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : كان والله أحب إلينا من أموالنا واولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ
* من الرجال :
قصة قتل زيد بن الدثنة ،. قال ابن إسحاق : اجتمع رهط من قريش ، فيهم أبو سفيان بن حرب ؛ فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل : أنشدك الله يا زيد ، أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه ، وأنك في أهلك ؟ قال : (4/ 126) والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه ، وأني جالس في أهلي . قال : يقول أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدٍ محمدا
* أخرج الطبراني وحسنه عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت انك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم...} الآية".
* من النساء :
أخرج ابن إسحاق: عن سعد بن أبي وقاص قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها، وأخوها، وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد، فلما نعوا لها قالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرونيه حتى أنظر إليه.
قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.
خامسا :جزاء محبة النبي
روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
أَنَّ أَعْرَابِيَّا قَالَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَتَىَ السَّاعَةُ ؟
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟"قَالَ: حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ.قَالَ: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". قال أنس فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء ما فرحوا به. فنحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نستطيع أن نعمل كعمله فإذا كنا معه فحسبنا.
==================
النبيُّ العظيم والرحمة المهداة بين وفاء المؤمنين وإيذاء المشركين
FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT=" ...
غلاف الجندى المسلم العدد 123 ...
www.alnahwi.com
أنعم الله تبارك وتعالى على هذه الأمة نبي الهدى { الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، فهو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، وهو خاتم النبيين، وسيد المرسلين، ومحبته واجبة على الخلق أجمعين، وقد نصره وأحبه كل مؤمن تقي، وخذله وآذاه كل منافق ومشرك، والكاتب ينفع الله به - أبان في هذا المقال هذه الصور بشكل دقيق وبيان لطيف.
1- ثناء من الله سبحانه وتعالى على رسوله الكريم { :(1/217)
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ( 45 ) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ( 46 ) وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ( 47 ) ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى" بالله وكيلا ( 48 ) {الأحزاب: 45 - 48}.
مهما كتب الصادقون من ثناء على النبيّ العظيم، سيد المرسلين محمد {، ومهما ألَّفوا من كتب وقدَّموا من دراسات عن عظمة النبيِّ الخاتم، ومهما نظَم الشعراء من قصائد في مديح النبيّ المصطفى، فلن يبلغ ذلك كله ما أثنى به الله على رسوله الذي اصطفاه وبعثه رحمة للعالمين. وحَسْبك هذا الوصف الذي تعرضه الآيات الكريمة أعلاه، يخاطب بها الله سبحانه وتعالى رسوله ونبيّه، فيبيّن له حقيقة المهمة التي بُعث بها: شاهداً على أُمَّتِكَ وقد بلَّغتَهم وأقمتَ عليهم الحجَّة وعلى الناس كافَّة، ومبشراً للمؤمنين بالجنَّة والفضل العظيم من الله، ونذيراً للكافرين من عذاب النار يوم القيامة، وداعياً يبلِّغ رسالة ربِّه، الرسالةَ الخاتمة، إلى الناس كافة، رسالة ظاهرة مشرقة كالشمس بصدقها وحجتها وآياتها. ولا تطع الذين أدبروا عن الهدى، ولا تبالِ بأذاهم وامضِ متوكلاً على الله، على خطّة جليَّة، ونهج قويم، وصراط مستقيم، لا يعطله إيذاء المجرمين !
وتتوالى الآيات الكريمة تعرض عظمة النبيّ الذي اصطفاه الله واختاره وبعثه بالهدى ودين الحق، تعرض وتحيط بجوانب عظمته في بيان معجز وعرض حق . ولا نستطيع هنا أن نورد الآيات كلها في هذا الصدد، ولكننا نأخذ قبسات تشير وتدلُّ : وإنك لعلى" خلق عظيم 4 {القلم: 4}.
وما أعظم هذا الثناء من ربِّ العالمين، يبرز فيه سبحانه وتعالى أهمية الخُلُق في دين الله، ومنزلته في حياة الناس، ودوره في الوفاء بالأمانة والعهد، والتبليغ والتعهد. ولتكون نبراساً للخَلْقِ كلِِّهم، للبشريَّة كلِّها، حتى يتمسكوا بهذا المبدأ العظيم، ويتأسَّوا بخُلُق الرسول {:
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا 21 {الأحزاب: 21}.
ويرفع الله منزلة النبي { بين المؤمنين وبين الخلق جميعاً، حتى يكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وزوجاته أمهاتهم :
النبي أولى" بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى" ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى" أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا 6 {الأحزاب: 6}.
وهذه المنزلة العالية والصفات السامية تجتمع في رجل أمّيٍّ لا يقرأ ولا يكتب، وبعثه الله بهذه المعجزة العظيمة ليدحض الله بها أقوال المفترين ومزاعم المضلّين:
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون 158 {الأعراف: 158}.
وأمر الله المؤمنين باحترام الرسول { بأسلوب الحديث وعدم رفع الصوت وعدم تقديم الرأي بين يديه، وجعل الله الإخلال بذلك مبطلاً لأعمالهم. إنه إجلال للنبوة ولمنزلتها العالية :
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم 1 يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون 2 {الحجرات: 1، 2}.
وحَسْبك من ثناء الله على رسوله { أن اختاره واصطفاه من خلقه، ليحمل هذه الرسالة العظيمة، وجعل طاعة الرسول من طاعة الله، ومعصيته من معصية الله سبحانه وتعالى، وإيذاءه يجلب غضب الله ولعنته :
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون 20 ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون 21 {الأنفال: 20، 21}.
قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين 54 {النور: 54}.
من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى" فما أرسلناك عليهم حفيظا 80 {النساء: 80}.
إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا 57 {الأحزاب: 57}.
وأيّ ثناء أعظم من أن يجعل الله طاعة رسوله { من طاعته، قاعدة إيمانيَّة رئيسة يلتزم بها المؤمنون أبد الدهر . ولتكون طاعة الله ورسوله هي القاعدة الجامعة للمؤمنين صفاً واحداً ما التزموا ذلك !
ويظلُّ الثناء على رسوله { ثناءً ممتداً أبد الدهر، كلما تلا مؤمن كتاب الله، يردّد مع التلاوة ثناء الله على رسوله {، كما يقول الشاعر :
حَسْبُكَ المَدْحُ أَنْ تكون عَلَى خُلْ
قٍ عَظيمٍ يُتْلَى بِهِ الكِتابُ المُجيدُ
كُلُّ آيٍ مِنَ الكِتابِ وَذِكْرٍ
هُوَ ذِكْرٌعلى الزَّمَانِ جَدِيدُ(1)
2- عناية الله ورعايته، وتثبيته وحمايته :(1/218)
ولا يقف الأمر عند ثناء الله على رسوله النبي المصطفى فحسب، ولكن مع هذا الثناء تمتد رعاية الله سبحانه وتعالى رعاية حانية، تحنو على الرسول الكريم وهو يشقُّ سبيله بين صخور وعقبات، وشدَّة إيذاء وعظيم ابتلاء. ويمتدُّ مع الرعاية والحنو توجيهٌ وتثبيتٌ ومددٌ بالوحي والملائكة والنور الذي أُنْزل، كلُّ ذلك ليبعث في نفسه الطمأنينة، وفي قلبه الثبات والعزيمة، ومع مسيرته الصبر والثقة والاستبشار. ولنتدبَّر بعض القبسات من كتاب الله تضيء لنا هذه الحقائق :
وتوكل على العزيز الرحيم 217 الذي يراك حين تقوم 218 وتقلبك في الساجدين 219 إنه هو السميع العليم 220 {الشعراء: 217 - 220}.
وتمضي هذه الرعاية في كلِّ أحوال الرسول {، وهو يتلقَّى الإيذاء الشديد من قريش، والعدوان والمطاردة، والكيد والتآمر والمكر من اليهود ومن قريش ومن الأحزاب كلها، حين تجمَّعت والتقت على حربه :
واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم 48 ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم 49 {الطور: 48، 49}.
وتمتد هذه الرعاية الحانية إلى التوجيه والتثبيت في مواقف الشدَّة والكيد والمكر، مع كلِّ مرحلة من مراحل الدعوة :
وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل 85 إن ربك هو الخلاق العليم 86 ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم 87 لا تمدن عينيك إلى" ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين 88 وقل إني أنا النذير المبين 89 {الحجر: 85 - 89}.
نعم ! وقل إني أنا النذير المبين ! إعلان حاسم للرسالة، سيعقبه الإيذاء والاستهزاء من المشركين . فيأمره الله بالمضيّ دون أن يأبه بالمشركين ولا بإيذائهم، فهو ماضٍ على نهج قويم وصراط مستقيم، وقد تعهَّد الله بأن يكفيه المستهزئين:
فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين 94 إنا كفيناك المستهزئين 95 الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون 96 {الحجر: 94 - 96}.
ويشتدُّ الإيذاء على رسول الله {، ويشتدُّ المكر والكيد، وتظلُّ رعاية الله لنبيّه حانية ممتدة، حتى إذا حاولوا أن يفتنوا الرسول { عن الذي أوحى به الله إليه، كانت الرعاية الربَّانيَّة حانية توجِّه وتثبّت وتنصر :
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا 73 ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا 74 إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا 75 {الإسراء: 73 - 75} .
وكما يمتدُّ مكر المشركين والكيد برسول الله {، تمتدُّ عناية الله برسوله وحمايته له:
وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا 76 سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا 77 {الإسراء: 76، 77}.
تثبيت ويقين يتنزَّل على رسول الله {، وإنذار شديد للكافرين يذهب بمكرهم وكيدهم: ... وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ! سينزل بهم عذاب الله! وكذلك تدَّبَّرْ هذه الآيات التالية لترى عظمة الرعاية وجلال الحنو وقوة التثبيت :
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين 30 {الأنفال: 30}.
وكذلك :
وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال 46 فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو \نتقام 47 {إبراهيم: 46، 47}.
ولقد ثبت رسول الله {، ومضى في دعوته بين كيد الكافرين ومكر المشركين، وبين رعاية الله وحمايته حتى من المستهزئين: إنا كفيناك المستهزئين ! واستمع إلى قوله سبحانه وتعالى يمدُّ الرعاية لرسوله الكريم:
فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد \هتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم 137 {البقرة: 137}.
نعم ! فسيكفيكهم الله ! وقد كفاه المستهزئين والماكرين، فأخذهم الله بهلاك من عنده، ويمتدُّ وعد الله هذا إلى أبد الآبدين على سنن لله ثابتة وقضاء نافذ وقدر غالب وحكمة بالغة.(1/219)
ولو راجعنا السيرة لوجدنا أن المستهزئين كانوا كثيرين. فأما " أبو لهب " فقد بشره الله بالهلاك في الدنيا والخلود في النار بالآخرة. فأصيب أبو لهب بمرض مات فيه شر ميتة، ولم يقدروا على تغسيله لشدَّة الرائحة الكريهة التي كانت تخرج من جسده الذي ينسلخ ويتساقط. وأبو جهل قتل في بدر، والنضر ابن الحارث أُسِرَ في بدر وأمر الرسول { بضرب عنقه. والأسود بن يغوث أصابته السموم ومرض الأكلة، فامتلأ جسمه قيحاً فمات شرَّ ميتة. والحارث بن قيس السهمي مات بالذبحة. وأُبيّ بن خلف وأميَّة بن خلف كانا من أشدِّ من آذى رسول الله { وعداوة له واستهزاء به، فهلك أمية في بدر وأُبيّ في أُحد. وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة هلك على يد حمزة رضي الله عنه. والعاص بن وائل السهمي، فقد هلك هذا المشرك في مكة بلدغة حيَّة في رجله فانتفخت رجله حتى مات. وكذلك نَبِيْه ومُنَبِّه ابنا الحجاج السَّهميَّان، والأسود بن المطلب ابن أسد، وطعيمة بن عديّ بن نوفل، ومالك بن الطلاطلة بن عمرو بن غبشان، وركانة بن عبد يزيد، والوليد ابن المغيرة(2). وحشد من اليهود والمشركين، ردَّ الله استهزاءَهم ومكرهم على أنفسهم وباؤوا بخسران في الدنيا والآخرة. وذهب ذكرهم وطُوي، وظلَّ محمد{ يشرق مع الدهر ذكراً حميداً في السماء وحميداً في الدنيا:
أَيُّها المصطفى! تَفَرَّدْتَ في الخَلْ
قِ نَبِيّاً عُلاَك أُفْقٌ فَرِيدُ
أَنْتَ مَعْنَى الوَفَاءِ: ذِكْرُكَ في الأَرْ
ضِ حميدٌ وفي السَّماءِ حَميدُ(3)
وظلَّ أعداء محمد { هم أعداء الدين الحق، ظلُّوا ممتدّين مع الزمن يكيدون ويستهزئون، ويُرَدُّ كيدهم إلى نحورهم، وهم دائماً : الكافرون والمشركون والمنافقون واليهود وفريق من النصارى، حيث ما زال منهم من يؤمن بهذا الدين :
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى" بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون 112 {الأنعام: 112}.
إنها سنَّة من سنن الله !
ولقد اجتمعت هذه الخصائص والسمات الفريدة في محمد { وهو يشقُّ طريقه بين أعداء مجرمين وبين عناية من ربِّ العالمين، ولكنه مع كلِّ ذلك ظلَّ رحمةً للعالمين، رحمةً بأصحابه المؤمنين ورحمةً للبشريَّة على مرِّ القرون، ما دام المؤمنون يُبلِّغون رسالة ربِّهم إلى الناس كافَّة، ليخرجوهم من الظلمات إلى النور:
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين 107 {الأنبياء: 107}.
يهدي به الله من \تبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم 16 {المائدة: 16}.
3- ثناء الشعراء المؤمنين على مرِّ العصور :
وقد عرف المؤمنون رسولهم ونبيُّهم محمداً {، وأصبح حُبّه جزءاً رئيساً من الإيمان، ليكون حُبُّ الله ورسوله الحبَّ الأكبر في حياة المؤمن، ومنه ينبع كلُّ حبٍّ في الحياة الدنيا . ومن هذا الحب الصادق انطلق الشعراء المسلمون يمدحون رسول الله { بقصائدهم الغنيَّة بالبيان والصدق والوفاء .
ولعلَّ أول من بدأ بمدح رسول الله { من الشعراء الأعشى الكبير ميمون ابن قيس في قصيدته التي مطلعها(4):
ألم تَغْتمِضْ عيناك ليلة أرمدا
وعادك ما عاد السليم المسهَّدا
وقد نظم القصيدة حين عزم على أن يسلم، وتوجَّه إلى النبيّ { بهذه القصيدة، فصدَّته قريش لما خافت من أثر شعره في العرب، إذ كان يُسمَّى صنَّاجة العرب . ونجحت قريش في صدَّه فعاد إلى قريته، وفي طريق عودته رمى به بعيره إلى الأرض فمات، وذلك سنة 629م .
وقصة كعب بن زهير بن أبي سلمى رضي الله عنه، حين هجا الرسول {، ثمَّ تاب وتوجّه إلى الرسول الكريم بقصيدته الرائعة، وأعلن توبته بين يدي الرسول {، ثمَّ ألقى قصيدته التي مطلعها(4):
بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ
مُتيمّ إثرها لم يُفْدَ مكبول
وإني لأعدُّ هذه القصيدة من روائع الأدب العالمي . وإني لا أرى كما يرى الكثيرون أنَّ مطلعها غزل وتشبيب كعادة العرب في الجاهلية، ولكني أرى أنَّ كعباً يصف فيها رحلته من الجاهلية التي كان قد عشقها ثمَّ فارقها (بانت سعاد) إلى الإسلام والإيمان الذي دخل قلبه وملك حبّه (أمْستْ سعاد بأرضٍ لا يبلّغها: إلا العتاق النجيبات المراسيل).
ثمَّ تتدافع الشعراء من أصحاب رسول الله { يمدحون نبيّهم ورسولهم، ويدافعون عنه ويدفعون عنه أذى قريش وشعرائها . وكان من شعراء الصحابة عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين . ولكن حسان بن ثابت كان أطولهم باعاً وأشدهم إيذاءً لقريش .
وكان وصف أم معبد لرسول الله { حين مرَّ بخيمتها :(1/220)
" رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبْه ثُعلة، ولم تُزْرِ به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي ضوئه صحل، وفي عنقه سطع، أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلَّم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق لا نزر ولا هذر ....الخ"(5). وقد وصفه عليٌّ بن أبي طالب في بيان رائع، وكذلك أنس بن مالك، وأبو جحيفة، والبراء، وجابر بن سمرة، وأبو هريرة، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
وقد توالى الشعراء المسلمون على مرِّ العصور يدفعون لآلئ قرائحهم وغنيّ بيانهم في مدح رسول الله {، حتى لا يكاد يخلو عصر من أحد منهم. وجاء الشعراء في العصر الحديث يبدعون في هذا المديح. وكان أولهم محمود سامي باشا البارودي في قصيدته: "كشف الغمة في مدح سيد الأمة" في أربعمائة وسبعة وأربعين بيتاً، وكذلك أحمد محرَّم في ديوانه مجد الإسلام، وشوقي في قصيدتيه البائية والهمزية، وعمر أبو ريشة في مقدمة ملحمته، وعدنان النحوي في قصيدته رسول الهدى في سبعة وأربعين بيتاً .
ولقد بيّنَّا في هذه الصفحات كيف أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أثنى على عبده النبيّ الخاتم أعلى ثناء، وكيف مدحه عدد من أصحابه الشعراء وأخرسوا سفهاء قريش، وكيف وصفته أم معبد، وهي لم تره إلا مرّة واحدة ولفترة قصيرة، ولكنه أثر النبوّة المشرق الذي يؤثر في النفوس، ويزداد تأثيره كلما صفت النفوس وزادت إيماناً. وأشرنا كذلك كيف وصفه بعض الصحابة كذلك وصفاً جامعاً يهزُّ النفوس.
4- النبيّ العظيم يصف نسبه ومنزلته عند الله:
وبالإضافة إلى ذلك كله، فقد عرَّفنا رسول الله { بنسبه وكيف اختاره الله من خير قرون بني آدم قرناً فقرنا . فلننظر في قبسات من الأحاديث الشريفة حول ذلك :
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي { قال : "بُعثتُ من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى كنتُ من القرن الذي كنتُ منه"(6).
عنه أيضاً عن الرسول { أنه قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشقُّ عنه القبر، وأول شافع وأول مشفّع"(7) وفي رواية أخرى عنه أيضاً في حديث طويل: "أنا سيد الناس يوم القيامة. وهل تدرون بِمَ ذلك ؟! يجمع الله الأولين والآخرين ....."(8).
وعن المطلب بن أبي وداعة عن العباس عن الرسول { أنه قال: "..أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين، فجعلني في خيرهم فرقة، وخلق القبائل، فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً، فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً، وخيركم نفساً"(9).
والأحاديث الشريفة كثيرة حول هذا الموضوع، حيث يظهر فضل الله على خلقه جميعاً أن بعث فيهم محمداً { على أحسن هيئة خَلْقاً وخُلُقاً، وأحسنهم منبتاً .
5- الشعراء غير المسلمين يمدحون الرسول { :
ولم يقتصر مديح الرسول { على المسلمين، فقد قام عدد من الشعراء النصارى يمدحون رسول الله { بقصائد غنيَّة تلمس فيها وضوح العاطفة وحقيقة الإكبار . ويبقى السؤال: فلماذا لم يسلموا ؟! ومن هؤلاء: "إلياس قنصل"، والشاعر القروي "رشيد سليم الخوري"، و"رشيد أيوب"، و"رياض المعلوف"، و"إلياس طعمة" الذي أسلم وجعل اسمه بعد إسلامه "وليد طعمة"! وكذلك سعيد جرجس العيسى الذي مدح رسول الله بقصيدة جميلة، والذي ذكر عيسى عليه السلام ومريم عليها السلام كما هما في القرآن الكريم، وأشاد بالتوحيد كما هو في كتاب الله . وقد دعوته ليعلن إسلامه، ولكنّه توفّي قبل أن أتلقَّى منه خبراً .
6- الرسول { في الكتب المنزلة :
ولدينا في كتاب الله القول الحق بأنَّ اسم محمد { ثابت في التوراة والإنجيل :
وإذ قال عيسى \بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي \سمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين 6 {الصف: 6}.
ولم يقف الأمر عند عيسى عليه السلام وحده، وإنما امتدَّ إلى جميع الرسل، حيث أخذ الله عهداً منهم جميعاً أن يؤمنوا بالنبيّ الخاتم وينصروه :
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على" ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين 81 {آل عمران: 81}.(1/221)
ولقد كتب عدد من الباحثين في التوراة والإنجيل وبيّنوا أنَّ اسم محمد وارد في التوراة والإنجيل بالأسلوب واللغة التي دُوِّن فيهما هذان الكتابان، مع ما أصابهما من التحريف . فيذكر البروفسور عبد الأحد داود في كتابه: " محمد في الكتاب المقدس " نماذج متعددة عن ذكر محمد {، ففي الإصحاح الثاني من سفر حَجّي، تأتي الترجمة هكذا: " ويأتي مشتهى كل الأمم "! " وعندما أرسل الله خادمه النبيّ حجّي ليسري عن هؤلاء المحزونين على تدمير الهيكل، ومعه الرسالة الهامة: ولسوف أزلزل كل الأمم وسوف يأتي حِمَدا (Himada) لكل الأمم " ! وبالعبريّة: " في يافو حِمْداث كول هاجو بيم "، وترجمتها الحرفية كما سبق ذكره(10). ويورد نصّاً آخر : " .... حتى يأتي شيلوه ويكون له خضوع الشعوب " ! ويفسّر كلمة " شيلوه " بالشخص الذي تخصّه، ويذكر المؤلف نصوصاً أخرى كثيرة ليُثْبتَ رأيه .
ويذكر المستشار محمد عزت الطهطاوي في كتابه: " محمد { نبيّ الإسلام: في التوراة والإنجيل والقرآن "، وأمثلة كثيرة عن ورود اسم النبيّ الخاتم بألفاظ متعددة . ويذكر في الباب الأول نصوصاً من البشارات في "العهد القديم " . ويحقق في كلِّ نصٍّ ليُثْبتَ الإشارة والبشارة بمجيء محمد {. ويأخذ النصوص من أسفار: التكوين، التثنية، المزامير، وأشعياء، وميخا، وحبقوق، وحَجّي، ملاخي . ويأتي بنصوص من الإشارات والبشارات في بعض كتب العهد الجديد، وهي الأناجيل الأربعة: " متى ومرقص، ولوقا ويوحنا"(11).
فبالرغم مما جرى في العهدين القديم والجديد من تحريف، فقد بقيت نصوص كثيرة تشير إلى أنَّ الله سيبعث بعد موسى وعيسى عليهما السلام النبيّ الذي تخضع له الشعوب أو الذي تنتظره الشعوب .
7- كتب ودراسات تشيد بذكر النبي العظيم محمد {:
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ من الثناء على النبيّ العظيم، المصطفى، ولكن كثيراً من الناس، من مسلمين وغير مسلمين، كتبوا عن محمد {، بعد أن درسوا سيرته، فخشعوا أمام هذه السيرة العظيمة المتفرِّدة . فقد كتب كثيرون قديماً وحديثاً عن الرسول { دراسات عامة من عظمته وتفرّده، أو عن جانب من جوانب عظمته، بحيث يصعب حصر الذين كتبوا في ذلك، يضاف إلى ذلك المقالات الواسعة التي لا تقع تحت حصر. وكلها تدور بين الثناء والكشف عن أسرار عظمته، أو للدفاع والردِّ على المجرمين المبطلين الذين يؤذون الله ورسوله. ولكننا نشير إلى ثلاثة كتب رئيسة، هي : السيرة النبوية لابن هشام، الشمائل المحمدية للترمذي، وزاد المعاد لابن القيم.
ومن غير المسلمين من عبَّر عن رأيه في عظمة الرسول { بكلمات أو جمل تعبّر عن جلاء قناعته بعظمة النبي الكريم . ونذكر بعض أسماء من عبَّروا عن آرائهم، فالقائمة طويلة تتجاوز خمسين اسماً، كان من بينهم: بيرنارد شو، توماس كارلايل، ه . جي . ويلز جوستاف لوبون، بلانشيه، الفونس لا مارتين، تولستوي، سير وليم موير في كتابه : حياة محمد ({)، غاندي، ... وكثيرون !
ونأخذ نصَّاً واحداً للعالم الهندي د . ت . ل . فسواني، حيث يقول: " إليك يا محمد وأنا الخادم الحقير أقدّم إجلالي بخضوع وتكريم . إليك أطأطئ رأسي!، إنك لنبيٌّ حقاً من الله . قوّتك العظيمة كانت مستمدَّة من عالم الغيب الأزلي!"(12).
من هذا العرض السريع نرى بجلاء أنه لا يوجد لدى البشرية كلها من نال من الثناء والإجلال في جميع العصور ومن مختلف الاتجاهات ما ناله نبيُّ الرحمة محمد {. فمن مِن الناس، مثلاً كُتبَ في الثناء عليه شعر تجاوز ألفاً وخمسمائة صفحةً، خلاف النثر والكتب والمؤلفات . ولا بدَّ أن نؤكِّد أنَّ أعظم ثناء ناله هو من الله سبحانه وتعالى .
8- الرسول { في قلوب المؤمنين:
وسيظلُّ ذكرُ الرسول { مقترناً بذكر الله الذي لا إله إلا هو، وسيظلُّ حبّ الله ورسوله الحبّ الأكبر في قلوب المؤمنين، منه ينبع كل حبٍّ في الحياة الدنيا، وسيظلُّ العهد الأول مع الله سبحانه وتعالى، منه ينبع كلُّ عهد في الحياة الدنيا ويرتبط به، وسيظلُّ الولاء الأكبر هو لله سبحانه وتعالى، منه تنبع كلُّ موالاة في الحياة الدنيا، لتبني أُخوّة الإيمان بين المؤمنين جميعاً كما أمر الله ورسوله .
وهذا الإيمان الذي يدعو إليه الكتاب والسنة هو الذي يجمع المؤمنين أمة مسلمة واحدة، ممتدّة مع الدهر، يهابها أعداء الله ما التزم المؤمنون التزاماً صادقاً برسالتهم، وما داموا صفَّاً واحداً كما أمر الله، وما داموا يحملون رسالة الله يبلِّغونها إلى الناس كافَّة !
9- هل دين الله واحد أم أديان؟:
إن دين الله واحد للرسل جميعاً وهو الإسلام . فلقد كان الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله إلى عباده، والذين خُتموا بمحمد { فليس عند الله إلا دين واحد هو الإسلام . ولا يُعقل أن يكون هنالك أديانٌ سماوية توحيدية، كما يزعم الكثيرون، وكما يردِّد ذلك بعض المسلمين .فذلك تناقض واضح بين كلمة أديان وكلمة سماوية توحيدية .(1/222)
وهل يُعقل أن يبعث الله لعباده بأديان مختلفة يتصارع الناس عليها، وهو الله الذي يريد لعباده جميعاً الإيمان الواحد الصادق، والذي جعل الجنَّة مأوى الصادقين والنار مأوى المكذّبين ! فلا بدَّ أن يكون الدين عند الله واحداً، وأن يبعث جميع الأنبياء والمرسلين بدين واحد، حتى لا يناقض نبيٌّ نبيَّاً، فيختلط الأمر على الناس .
ونحن المسلمين نؤمن بالأنبياء والرسل جميعاً، وبالكتب المنزلة قبل تحريفها جميعاً . وأيّ إخلال بذلك هو إخلال بالإيمان والتوحيد . فلا نؤذي نبيّاً ورسولاً، ولا نفرّق بين أحد منهم :
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير 285 {البقرة: 285}.
10- إيذاء رسول الله { يجلب لعنة الله وغضبه :
فالاجتراء على نبيٍّ من الأنبياء اجتراء على الله، وإيذاء النبيّ هو إيذاء لله، يُنزل الله به غضبه ولعناته :
إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا 57 {الأحزاب: 57}.
ولقد وجد أهل الكتاب صادق الرعاية والرحمة في ظلال حكم الله ورسوله، حكم الكتاب والسنَّة، ولقد أحسن محمد { إليهم إحساناً كبيراً، وكذلك فعل المؤمنون .
فما بال بعض النصارى، أو المنتسبين إلى دين عيسى عليه السلام، بعد أن حرَّفوه وبدَّلوا وغيَّروا، ما بالهم يحملون الأحقاد على الإسلام والمسلمين، وعلى رسول الله {. فلا تكاد تهدأ فتنة حتى تثور فتنة. وقد نبَّأنا الله في كتابه الحكيم أنه قد جعل لكل نبيّ عدوّاً من المجرمين، من شياطين الإنس والجن . وقد بدأت العداوة لمحمد { من لحظة ابتعاثه من قريش وبعد ذلك من اليهود، ثمَّ امتدَّ الحقد مع الزمن حتى تولَّى كبر ذلك: المشركون والكافرون والمنافقون والظالمون من أهل الكتاب في إيذاء بعد إيذاء عبر التاريخ، حتى الحروب الصليبية، وحتى ظلمهم وعدوانهم على مسلمي الأندلس، و كلما واتت فرصة لذلك !
وجاءت الحادثة الأخيرة عندما نشرت إحدى صحف الدنمارك صوراً مهينة ومؤذية لرسول الله {. واعتبرت الدولة أنَّ هذا من باب حريّة الرأي!، وكأنَّها اعتبرت الناس بلا عقول حتى يصدّقوا أنَّ هذا من باب حريّة الرأي . وإن كان الأمر كذلك فعلى دولة الدنمارك أن تراجع قوانينها، وأن تتعلَّم من الإسلام، ومن محمد {، حدود حريّة الرأي، وأدب الرأي، وحقوق الإنسان . ثمَّ تولّت صحيفة نرويجية نشر تلك الصور أيضاً، وفي بلادهم جميعاً مسلمون أقاموا عشرات السنين، ما قدَّموا إلا الخير والإحسان .
لم يكن الأمر مصادفة أو زلّة رسَّام! فلقد أرسل المحرّر الثقافي في الجريدة دعواتٍ إلى أربعين رسَّاماً يدعوهم إلى رسم النبيّ {، فأجاب الدعوة اثنا عشر رساماً فقط. وكانت ملكة الدنمارك " مارغاريت " الثانية، قد اعتبرت أنَّ الإسلام يمثّل تهديداً على المستويين المحلي والدولي، وحثَّت حكومتها على عدم التسامح مع المسلمين والإسلام! ودون مبالاة لما قد تثير هذه السياسة من غضب خارجي! إنها لغة التهديد والإثارة بكل الاعتبارات اللغوية والسياسية والرسمية. ويرفض رئيس وزراء الدنمارك مقابلة السفراء المسلمين الرسميين في بلده . وتتولى أجهزة الدولة والصحافة صياغة المسوِّغات لهذا العمل، فكانت الأعذار أقبح من الذنب . عدوان إثر عدوان . وكان أوقح ما في هذه الأساليب قول الصحيفة: "إننا لا نعتذر عن عمل هو جزء طبيعي من النشاط الإعلامي....". الصحيفة الدنماركية هي صحيفة " يولاند بوستن "، والصحيفة النرويجية هي: "مغازينات"! وكذلك امتدَّت الهجمة على الإسلام بإعادة إذاعة هذه الصور الكاذبة في صحف فرنسا وإسبانيا وألمانيا وسويسرا. وربما تمتدُّ الهجمة إلى أبعد من ذلك .
ولا ننسى ذلك المخرج الهولندي الذي أخرج فيلماً مسيئاً إلى الرسول الكريم وإلى الإسلام، والذي أثار ضجّة كبيرة . ولا ننسى كذلك قضية المؤسسة التي أصدرت كتاباً أسمته " الفرقان " تزوّر فيه جملاً وكلمات تحريفاً لآيات الله في القرآن الكريم، وطعناً في الإسلام والإيمان والتوحيد . يضاف إلى ذلك جهود الحركات التنصيرية في العالم الإسلامي، وما تقوم به من محاولات لصرف المسلمين عن دينهم، وتشويه صورة الإسلام، وإثارة الفتن !
إنَّ هذا كلّه ليدلّ دلالة واضحة على أنَّ القوم يمضون على نهج وخطة وليس على عمل ارتجالي . ولا بدَّ للمسلمين أن يجابهوا ذلك بعمل منهجي مدروس يجمع جهود الأمة كلها.
11- واجب المؤمنين أمام هذا الاعتداء والنصيحة الواجبة :
القضيّة قديمة، بدأت، كما تذكر بعض الصحف، قبل ثلاثة أشهر، واشتدَّ التفاعل ضدّ هذه الإهانة الكبيرة منذ أسبوع أو أسبوعين . وإن كان قد بدأت محاولات هادئة لا تتناسب مع عظم الجريمة . إنها حقاً جريمة، وجريمة كبيرة في ميزان الإسلام . أين المسلمون ؟! وأين المليار من المسلمين ؟!
أُمة الحقِّ ! ما دهاكِ فأصْبح
تِ شظايا تطايرتْ في النجادِ(1/223)
كلما رُمْتِ ملتقيً كُنتِ في السا
حةِ أوهى من حفنة من رمادِ(13)
لقد هان المسلمون في الأرض، وأصبحوا غثاءً كغثاء السيل، كما جاء في حديث رسول الله { يرويه ثوبان رضي الله عنه : (يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تتداعى الأكلة على قصعتها " . فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال: بل أنتم كثير . ولكنكم غثاء كغثاء السيل . ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن " فقال قائل : يا رسول الله ! وما الوهن ؟! قال : حبُّ الدنيا وكراهية الموت!)(14).
منذ سنين طويلة، حين أصدرتُ كتابي : " دور المنهاج الرباني في الدعوة الإسلامية "، ذكرتُ هذا الحديث الشريف، متوقعاً أن حالة المسلمين ستتحسَّن مع الأيَّام ومع ضجيج الشعارات، وكثرة المؤتمرات، وتزاحم الكتب والمقالات، وتزاحم الدعاة هنا وهناك، وبعد هذه السنين أرى أننا ما زلنا غثاءً كغثاء السيل .
وأول سبب أجده لهوان المسلمين هو تمزّقهم أقطاراً ومصالح وأهواءً، وشيعاً وأحزاباً، يخالفون بذلك ما أمرهم الله به ورسوله {:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على" شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون 103 {آل عمران: 103}.
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم 105 {آل عمران: 105}.
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون 159 {الأنعام: 159}.
وآيات كريمة أخرى تنذر المسلمين إن تفرّقوا إنذاراً شديداً. وحسبك هذا الإنذار في الآية السابقة: وأولئك لهم عذاب عظيم !
وأهم سبب لهذا التمزّق والهوان، هو عدم التزام الإسلام التزاماً أميناً، وعدم التزام الكتاب والسنَّة التزاماً أميناً، وبذلك عدم طاعة الله ورسوله:
وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين 46 {الأنفال: 46}.
ولا بدَّ على ضوء ذلك أن توضع قاعدة عمليّة نابعة من قواعد الإيمان والتوحيد ومن منهاج الله، ومن مدرسة محمد {، قاعدة تثبّت مسؤوليات الفرد المسلم ودوره، ودور الأسرة في البناء والتعهد، ودور كل مؤسسة في الأمة المسلمة، وتبين قواعد التربية والبناء، والأهداف والصراط المستقيم الذي يوصل إلى الأهداف، ليكون الدرب ربانياً، والأهداف ربانية . لقد تناثرت الأهداف، وتباعدت الدروب، وقد جعل الله لعباده المؤمنين درباً واحداً
واحداً يجمعهم، ولغيرهم سبلاً شتَّى:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون 153 {الأنعام: 153}.
إنَّ الغرب ماضٍ في حربه ضدَّ الإسلام والمسلمين بصورة خفيّة، وإنَّ عداءهم هذا امتدَّ حتى اليوم لم يتوقّف، وإنَّ عمل الصحيفة الدنمركية لم يتوقف في الدنمارك، فسرعان ما تبنته النرويج، ثمَّ فرنسا، ثمَّ أخذت عواطف بعض الناس في تلك الدول تتأجج ضدّ المسلمين . ولم يكن ذلك ليتمَّ لولا الدعاية السيئة التي أشاعتها أجهزة الإعلام ضدَّ المسلمين .
والأمر العجيب أن الدول الغربية كلها لا تنظر في جرائم إسرائيل في فلسطين، ولا في انتهاكها لحقوق الإنسان، ولا في عدم التزامها بقرارات هيئة الأمم المتحدة!، ولا في ما تملكه من أسلحة نووية، أو أسلحة دمار شامل. كلُّ ما تفعله إسرائيل من جرائم يغضون الطرف عنه، ويغضون الطرف عما ترتكب الدول الغربية نفسها من جرائم بحق الشعوب، في تاريخ طويل مليء بالمجازر والتدمير .
إنها قصة التاريخ الممتدّ منذ أن بُعِثَ محمد {، بدأت عداوة المشركين لرسول الله { دون أن يؤذيهم أو يعتدي عليهم . دعاهم إلى الله الذي لا إله إلا هو، دعوة سلم وخير. فلم يُجْدِ السلم ولا الخير، وإنما بادروا بالإيذاء والعدوان . وكذلك اليهود الذين عاملهم الرسول أطيب معاملة قابلوا ذلك بالغدر والحرب والفتن . ومنذ ذلك العهد حتى اليوم فإنَّ الحرب ضدّ الإسلام لم تتوقف، ولن تتوقف . فإنها ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، يمحص به عباده لتقوم عليهم الحجة يوم القيامة أو تقوم لهم .
وإنا إذ نُحَيِّي النفوس المؤمنة التي غضبت لرسول الله {، والنفوس المؤمنة التي تداعت إلى النصرة بوسائل متعددة، فكلنا مع نصرة الله ورسوله.
لذلك فإنا ننصح بأن يراجع المسلمون أنفسهم لينظروا في واقعهم، ويروا كم يُرضون الله بما هم عليه، وبما يفعلون . ومن أهم مسؤوليات المسلمين أن يبلِّغوا رسالة الله ودين الإسلام إلى الناس كافَّة . فهل بلَّغ أحد هذا الدين إلى رئيس وزراء الدنمارك أو غيره من رجال الدولة، أو رؤساء الدول الأخرى، حتى نعذر أنفسنا بين يدي الله يوم القيامة .
مع أهمية ردود آفعال المسلمين التي عمَّت العالم الإسلامي إلا أن هذا وحده لا يكفي .فلا بدِّ من معالجة أخطائنا وتقصيرنا بحقِّ هذا الدين العظيم ونبيِّه العظيم .(1/224)
فإن أدرك المسلمون جوانب الخلل في واقعنا اليوم، فليبادروا إلى إصلاح كل خلل يغضب الله، وإلى صدق التوبة والإنابة، عسى أن يكون الله معنا فيما نجابه من أحداث، لن نقوى على مجابهتها دون نصر يتنزَّل من عند الله:
وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون 31 {النور: 31}.
ومن خلال ذلك فلا بدَّ أن يقف المسلمون في العالم الإسلامي كله وقفة واحدة، لردِّ هذا الاعتداء، فهو اعتداء على كلِّ مسلم في الأرض، ولإِشعار هؤلاء أنَّ المسلمين ما زالوا أقوياء يفدون دينهم بكل شيء .
وهنا نقف أمام خيارين: إمَّا أن نطيع الله ورسوله، وننصر ديننا فننال رحمة الله وعونه، وإما أن نتهاون في هذا الأمر، فَيُنْزِل الله غضبه علينا . وإنها مسؤولية جميع مستويات الأمة المسلمة كلها ابتداءً من الفرد المسلم، على خطة إيمانيَّة واعية ونهج مدروس شامل، يعالج الواقع ويبني المستقبل بإذن الله .
الهوامش:
(1) ديوان مهرجان القصيد لصاحب المقال .
(2) أبو بكر الجزائري : " هذا الحبيب محمد "يا محب" ص : 112-119 .
(3) ديوان مهرجان القصيد مرجع سابق .
(4) ديوان الأعشى : دار صادر بيروت . ص : (45) .
(4) د . محمود حسن زيني : قصيدة البردة ص : (76) .
(5) البداية والنهاية 29/3، زاد المعاد لابن القيم : 2-54 . صفي الرحمن المباركفوري : الرحيق المختوم : ص : (189) . تحفة الرسائل : اختيار مؤسسة الوقف الإسلامي : من صفات الرسول { الخلقية والخلقية : ص : 2 .
(6) صحيح البخاري رقم: (3481).
(7) صحيح مسلم رقم: (5893).
(8) صحيح البخاري رقم: (3270) ومسلم رقم: (433).
(9) أخرجه أحمد (345/1)، (172/5) صحيح الجامع (1466).
(9) أحمد(345/1) صحيح الجامع (1472).
(10) البرفسور عبد الأحد داود : " محمد ({) في الكتاب المقدس " ص : ( 50-51) .
(11) المستشار محمد عزّت الطهطاوي : محمد { نبي الإسلام " ص : ( 11-30 )، ص : (31-56) .
(12) أحمد بن حَجَر آل بو طامي آل بن علي : " الإسلام والرسول { " في نظر منصفي الشرق والغرب . ص : (129-198) .
(13) د . عدنان النحوي : ملحمة أرض الرسالات . ص : (134) .
(14) أبو داود : 31-5-4297 الجامع الصغير وزيادته رقم : (8138).
==================
الأدب مع أمهات المؤمنين :
- ورد الثناء في الكتاب والسنة على الصحابة من أهل بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – ذكورا وإناثا ، وأوضح الله بأن أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – في مرتبة علية ومنزلة رفيعة قال تعالى { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ }
- ففي هذه الآية فضيلة عظيمة ومنقبة رفيعة لجميع أزواجه عليه الصلاة والسلام .
- وأوجب الله لهن حكم الأمومة على كل مؤمن ما لهن من شرف صحبة النبي – صلى الله عليه وسلم - .
- قال القرطبي – رحمه الله - :" شرّف الله أزواج نبيه – صلى الله عليه وسلم – بأن جعلهن أمهات المؤمنين أي : وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال ، وحجبهن – رضي الله عنهن – بخلاف الأمهات " ( التفسير 14/123 ) .
- قال ابن كثير – رحمه الله - :" وقوله وأزواجه أمهاتهم أي في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع " ( التفسير 5/425) .
- والذي دفعني للكلام عن أمهات المؤمنين – رضي الله عنهن أجمعين – ما يلي :
- أولا ً : امتثالا لقول النبي ووصية النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في صحيح مسلم :" وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله. واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال "وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي". فقال له حصين: ومن أهل بيته؟ يا زيد! أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته. ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال: وهم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم " .
- ونساء النبي من آل بيته قال تعالى ] إنما يريد ليذهب عنكم [ .
- لذلك أقر المجلسي بأن السياق هو في شأن أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال في بحار الأنوار 35/24 :" فلعل آية التطهير أيضا وضعوها في موضع زعموا أنها تناسبه أو أدخلوها في سياق مخاطبة الزوجات لبعض مصالحهم الدنيوية وقد ظهر من الأخبار عدم ارتباطهن بقصتهن فالاعتماد في هذا على النظم والترتيب ظاهر البطلان ولو سلم عدم التغيير في الترتيب فنقول سيأتي أخبار مستفيضة بأنه سقط في القرآن آيات كثيرة فلعله سقط مما قبل الآية وما بعدها آيات لو ثبتت لم يفت الربط الظاهري " .
- والأهل في اللغة تطلق على الزوجة قال تعالى { وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً } وبإجماع المفسرين أنه كان مع موسى زوجته .(1/225)
- وقالت هاجر زوج إبراهيم { قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد }
- وقال النبي - :" أيها الناس من يعذرني في رجل قد بلغ أذاه في أهلي " .
- وكذلك جاء عن عائشة - رضي الله عنها أنها قالت :" ما شبع آل رسول الله e - من خبز بر " أخرجه الإمامان البخاري ومسلم وقول عائشة ما شبع آل رسول الله . تريد نفسها وأزواج النبي - .
- والسبب الثاني : قوله – صلى الله عليه وسلم - :" المرء مع من أحب " مسلم .
- والسبب الثالث :" كما قال الصديق - رضي الله عنه – ارقبوا محمداً في أهل بيته " رواه البخاري ، ولقول الصديق :" والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحب إلي من أن اصل قرابتي " البخاري .
- ومن مناقبهن :
- أنهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة إيثاراً منهن لذلك على الدنيا وزينتها فأعد الله لهن على ذلك ثواباً جزيلاً وأجراً عظيما قال تعالى{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً }
- ففي البخاري بإسناده إلى عائشة – رضي الله عنها – قالت :" لما أُمر رسول الله بتخيير أزواجه بدأ بي فقال :" إني ذاكر لك أمرا، ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك. قالت: قد أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك، ثم قال: " إن الله قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً (28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } قلت: أفي هذا أستأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خير نساءه، فقلن مثل ما قالت عائشة " ( البخاري 2336) .
- ومن مناقبهن العامة :
- أن الله تعالى أخبر عباده أن ثوابهن على الطاعة والعمل الصالح ضعف أجر غيرهن ، قال تعالى { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } .
- ففي هذه الآية أن التي تطيع الله ورسوله منهن وتعمل صالحاً فإن الله يعطيها ضعف ثواب غيرها من سائر نساء المسلمين ، وأعد الله لها في الآخرة عيشاً هنيئاً في الجنان .
- قال الحافظ ابن كثير :" { نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } أي : في الجنة فإنهن في منازل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في أعاى عليين فوق منازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش " .
- ومن مناقبهن :
- ومن المناقب التي شرفهن بها رب العالمين وأخبر بها عباده في كتابه العزيز أنهن لسن كأحد من النساء في الفضل والشرف وعلو المنزلة قال تعالى { يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً }
- فقد بين المولى جل وعلا في هذه الآية أنه لا يلحقهن من نساء الناس في الشرف والفضل ، كما بين أن هذا الفضل إنما يتم لهن بشرط التتقوى لما منحهن الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ونزول القرآن في حقهن
- ومن مناقبهن :
- أن الله أخبر أنه طهرهن من الرجس تطهيراً قال تعالى { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }
- والسؤال الذي يطرح نفسه هل قولنا أن أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم - مجاملة من الله ؟ هل هذه محاباة من الله لرسوله ؟
- هل هن اللاتي فرضن هذه الأمومة على المؤمنين بسبب قربهن من رسول الله ؟
- والحق : أنهن لم يتطلعن يوما من الأيام للحصول على هذه الميزات بسبب ارتباطهن بالرسول الكريم بصلة الزواج .
- ولكن الله وحده هو الذي من عليهن بهذا الفضل وفرض هذه الأمومة وقررها على جميع المؤمنين قال تعالى { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } .
- وفي هذه الآية يتقرر شيئين :
- الأول : أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ولا يكمل إيمان العبد حتى يكون الرسول – صلى الله عليه وسلم – أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه .(1/226)
- الثاني : أن زوجات النبي – رضي الله عنهن – هن أمهات للمؤمنين .
- فهذه الأمومة التي يقررها القرآن لزوجات النبي – صلى الله عليه وسلم – ويعممها على جميع المؤمنين ، تفرض على من شرفوا بهذه الأمومة واجبات والتزامات يجب أن تؤدى .
- ولكن قبل الخوض في بيان هذه الحقوق فإننا يجب أن نؤكد بأن هذا الفضل وذلك التكريم لهن – رضي الله عنهن – لم يكن ليستقر تاجاً فوق رؤسهن إلا بعد أن نجحن فيما اختبرن به من أوامر .
- وسنتكلم عن بعض الاختبارات ليتبين لنا بوضوح وجلاء أنهن – رضي الله عنهن – كن جديرات بهذا التكريم وأهلا لهذا الفضل .
- فأول هذه الاختبارات ما جاء في قوله تعالى { يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيماً }
- وهذا الاختبار الصعب شكين إليه خشونة العيش وقلة حظهن من متاع الدنيا فماذا حدث ؟
- في البخاري (5107) :" عن عائشة رضي الله عنها قالت:
ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم، منذ قدم المدينة، من طعام البُرِّ ثلاث ليال تباعاً، حتى قبض " .
- وفي البخاري عن أمنا عائشة – رضي الله عنها – قالت :" كان فراش رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أَدَمٍ وحشوُه من ليف " .
- وفي البخاري قال قتادة كنا نأتي أنس بن مالك – رضي الله عنه - :" وخبّازه قائم فقال : كلوا فما أعلم النبي – صلى الله عليه وسلم – رأى رغيفا مرقّقاً حتى لحق بالله " .
- وفي البخاري عن عائشة – رضي الله عنها قالت لابن أختها عروة بن الزبير :" إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة وما أوقدت في أبيات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ناراً فقلت : ما كان عيشكم قالت : الأسودان التمر والماء " .
- لذلك لما دخلت حفصة – رضي الله عنها – على عمر عندما كان خليفة للمؤمنين ، فتراه في شدة العيش والزهد في الملبس والمطعم فتقول له :" إن الله أكثر من الخير ، وأوسع عليك من الرزق ، فلو أكلت طعاماً أطيب من ذلك ، ولبست ثياباً ألين من ثوبك ؟ قال : سأخصمك إلى نفسك ، فذكر أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما كان يلقى من شدة العيش ، فلم يزل يذكرها ما كان فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما كان يلقى من شدة العيش ، فلم يزل يذكرها ما كان فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكانت معه حتى أبكاها " ( خبر صحيح أخرجه ابن المبارك في الزهد 201 ) .
- اعتزلهن النبي – صلى الله عليه وسلم – شهرا كاملا حتى تهامس المسلمون أنه طلق أزواجه ثم جاء الاختبار الصعب من الله عز وجل بين العيش مع رسول الله على هذه الحال وبين تطليقهن وتسريحهن .
- فما كان منهن – رضي الله عنهن – إلا أن اخترن العيش مع النبي – صلى الله عليه وسلم – مع خشونة العيش وقلة حظهن من متاع الدنيا ابتغاء ما عند الله وحب لله ولرسوله .
- ثم جاء الاختبار الثاني :
- وليس بأقل مما سبق ، وهو أنه إذا ارتكبت إحداهن ذنبا أو إثما فإن عقابها مضاعف ، وإن آمنّ واتقين الله ورسوله وخشعن لله تعالى وخضعن لرسوله فإن الله يؤتيهن أجرهن مضاعفاً .
- قال تعالى { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما } .
- فما كان منهن إلا التسليم والإقرار بذلك .
==================
أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم
للشيخ عبد المحسن العباد
المدرس في الجامعة
الحمد لله حمداً كثيراً طيبا مبارك فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده سبحانه ولا نحصي ثناء عليه أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فارتضى له الإسلام دينا، وجعل القرآن له خلقا، أمتن عليه بالصفات الفاضلة، ثم أثنى عليه قائلا: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.ونشهد أن لا إ له إلا الله وحده لا شريك له، له الخلق والأمر وبيده الخير وهو على كل شيء قدير، يعطي من يشاء بفضله ويمنع من يشاء بعدله، قسم بينهم أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم فجعل نصيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من الرزق كفافا ومن الأخلاق أكملها وأحسنها وأوفاها، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.(1/227)
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه بعثه الله إلى أهل المعمورة ليجدد به صلة السماء بالأرض، فأنزل عليه الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، ختم به الرسل وختم بكتابه الكتب وجعله معجزته الخالدة، فهدى الناس به إلى الصراط المستقيم وحذرهم السبل التي تنتهي بهم إلى الجحيم، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، ومن وحشة القلوب وتقلباتها في أنواع المعبودات إلى انسها وثباتها على عبادة فاطر السموات والأرض، قد أعظم الله عليه المنة وأتم به وعليه النعمة إذ بعثه ليتم مكارم الأخلاق. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الذين اختارهم الله لصحبته ونشر سنته، فجعلهم طليعة الخيار، وصفوة الأبرار، وعلى من سلك سبيلهم وسار على منوالهم مترسما خطاهم، مقتفيا آثارهم، عامر القلب بحبهم، رطب اللسان بذكرهم بالجميل اللائق بهم بالثناء عليهم بما هم أهله والدعاء لهم بما علمنا الله في قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
أما بعد: فموضوع هذه المحاضرة موضوع حبيب إلى النفوس المؤمنة هو (أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها) وكيف لا يكون حبيبا إلى النفوس الحديث عن أخلاق نبي بعثة الله رحمة للعالمين، نبي لا نكون مؤمنين حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا ووالدينا والناس أجمعين، نبي لا يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعا لما جاء به صلى الله عليه وسلم، نبي رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من ذكره عنده فلم يصل عليه صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه واتباعه إلى يوم الدين. وهذا الموضوع العظيم الذي اخترته وآثرت الحديث فيه اعتذر مقدما عن تقصيري في توفيته حقه واعتقد أن توفيته حقه على الحقيقة نادر إن لم يكن متعذرا لكن كما يقولون .. ما لا يدرك كثيرة لا يترك قليلة.
نعم إن جهد المقل أعرضه في هذه السوق التي أتاحت لي رئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أن أساهم فيها، وأسأل الله العظيم رب كل شئ ومليكه أن يوفقنا جميعا للتأدب بآداب هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وأن يحينا على دين الإسلام الذي ارتضاه لنا دينا حتى يتوفانا عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا به. وقبل الشروع في نفس الموضوع أرى أن أتحدث بين يديه إجمالا عن شدة الحاجة إلى بعثته صلى الله عليه وسلم، واختيار الله له واعتزاز المشركين على ذلك، والامتنان على الناس ببعثته، وضرب أمثلة للأمور والخصال التي حصلت بين يدي بعثته توطئة وتمهيدا لها.
شدة الحاجة إلى بعثته صلى الله عليه وسلم:
ما أكثر نعم الله على عباده وما أحوجهم دائما وأبداً إلى شكره سبحانه على هذه النعم التي أمتن عليهم بها في قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} وقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وأعظم نعمة أنعم بها على هذه الأمة أن بعث فيها رسولها الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ليرشد إلى كل نافع في الحاضر والمستقبل، ويحذر من كل ضار في العاجل والآجل، أرسله على حين فترة من الرسل، واند راس من الكتب في وقت انتشرت فيه الضلالة وعمت فيه الجهالة وبلغت البشرية منتهى الانحطاط في العقائد والعادات والأخلاق فانتشلهم به من هوة الضلالة ورفعهم إلى صرح العلم والهداية، فأزاح به عن النفوس تعلقها بغير خالقها وفاطرها سبحانه وتعالى، ووجهها إليه بقلبها وقالبها حتى لا يكون فيها محل لغيره سبحانه، بل تكون معمورة بحبة وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه تستسلم لأوامره، وترعوي عن زواجره ونواهيه. شيء من أمراض القلوب التي انتشرت قبيل بعثته صلى الله عليه وسلم، وكيف عالجها صلوات الله وسلامه عليه. خلق الله الإنسان مركبا من شيئين بدون وروح، وجعل لكل منهما ما يغذيه وينميه، وأرشد إلى طرق العلاج التي يعالج بها كل منهما عندما يطرأ عليه مرض أو سقم فقد أغدق نعمه على عباده وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}. أما الروح فقد استحكمت أمراضها قبل بعثته صلوات الله وسلامه عليه حتى كانت من قبيل الأموات فأحياها الله بما بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}. وأرشد سبحانه إلى أن شفاء أمراضها وجلاء أسقامها إنما هو بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ}.(1/228)
نعم لقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم في مجتمع انتشرت فيه الأمراض القلبية على اختلافها وتنوعها وأعظم هذه الأمراض على الإطلاق تعلق القلوب بغير الله وصرف خالص حقه سبحانه إلى غيره من مخلوقاته، فعالج صلى الله عليه وسلم هذا المرض الخطير والداء العضال باستئصاله وتطهير القلوب من أدرانه أولا، ثم شغلها وعمارتها بحب الله وخوفه ورجائه وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له لكونه سبحانه المتفرد بالخلق والإيجاد، فهو بحق المستحق لأن يعبد وحده لا يعبد معه غيره كائنا ما كان، وقد لقي صلوات الله وسلامه عليه من المشركين في هذا السبيل ألوانا مختلفة من الإيذاء، فصبر حتى ظفر بنصر الله وتأييده وكانت العاقبة له صلى الله عليه وسلم وأنصاره والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين والعاقبة للمتقين والعاقبة للتقوى، ولقي أيضا منهم ألوانا من المعارضة والتعنت أوضحها الله في كتابه العزيز في سورة الحجر والإسراء وغيرها من سور القرآن ومن ذلك ما ذكره الله عنهم في سورة ص {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}. وقد حملهم على هذه المقالة الكبر والحسد، ومثل هذه المقالة التي حكاها الله عن كفار قريش ما ذكره الله سبحانه في سورة القمر عن قوم صالح بقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} وأبرز الطرق التي عالج بها صلى الله عليه وسلم ذلك الداء الذي هو أعظم الأدواء على الإطلاق إلزام الكفار بأن يفردوا الله في العبادة لما كانوا معترفين بانفراده سبحانه بالربوبية، وأكتفي بالتمثيل لذلك بما ذكره الله سبحانه في سورة النمل من الآيات التي أوضحت تلك الطريقة غاية الإيضاح وذلك قوله سبحانه: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. وبما ذكره الله سبحانه في سورة الحج من التصوير العجيب والتمثيل البليغ لعجز المعبودات التي أشركوها مع الله حيث قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ..}.
ومن الأمراض التي عالجها صلى الله عليه وسلم بحكمته الظلم والجور، وازدراء المساكين، والتفاخر بالأحساب والأنساب. فنشر فيهم العدل، وعمهم الاطمئنان والاستقرار، وصار مقياس الفضل بينهم تقوى الله بدلا من اعتبار ذلك بالحسب والنسب، وقد أعلنها صلى الله عليه وسلم صريحة في حجة الوداع في أعظم جمع شاهده عليه الصلاة والسلام حيث قال: "ألا لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، الناس لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله اتقاكم" أو كما قال. ولما بلغه صلى الله عليه وسلم شأن المخزومية التي سرقت أمر بقطع يدها فراجعه أسامه بن زيد فأنكر صلى الله عليه وسلم عليه ذلك وقال صلى الله عليه وسلم المقالة التي برهن بها عن مدى تحقيق العدالة: "و أيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". وقد أشار صلى الله عليه وسلم في جوابه لأسامة ابن زيد بأن العدول عن العدل سبب هلاك الأمم المتقدمة حيث قال: "إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.."(1/229)
ولما قسم صلى الله عليه وسلم غنائم حنين وأكثر العطاء للمؤلفة قلوبهم وجد الأنصار رضي الله عنهم في أنفسهم شيئا إذا لم يصبهم ما أصاب الناس، فأتى إليهم صلى الله عليه وسلم وقال: "ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم بي، وعالة فأغناكم الله بي" وقد ذكرهم الله سبحانه في كتابه العزيز بهذه النعمة وأنها من أعظم النعم عليهم فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}. وقال سبحانه: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
هذه بعض الأمراض التي انتشرت قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، منّ الله سبحانه وتعالى على البشرية بإرسال رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لينقلها من ذل عبادة المخلوق إلى عز طاعة الخالق جل وعلا، ومن الظلم والجور وسفك الدماء إلى ساحة العدل والأمن والاطمئنان، من الفرقة والاختلاف إلى الاجتماع والائتلاف، من التعاون على الإثم والعدوان إلى التعاون على البر والتقوى، من الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الغش والخيانة إلى النصح والأمانة، من الجزع والهلع والاعتراض على قضاء الله إلى الصبر والثبات والرضى بما قدره الله وقضاه، وفي الجملة: من كل ضار عاجلا وآجلا إلى كل نافع في الحال والمآل. وقد أرشد الله سبحانه إلى شكره على ذلك بعبادته وحده لا شريك له في قوله سبحانه: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}.
اختيار الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:(1/230)
يقول الله سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}. هذه الآية الكريمة تدل على أن الله سبحانه وتعالى منفرد بالخلق يقول للشيء الذي أراده كن فيكون، وتدل أيضا على أن تلك المخلوقات التي أوجدها من العدم لم يسوها أختار منها ما شاء وله الحكمة البالغة فخصه بالتفضيل، فقد اختار من أرضه مكة حرسها الله فجعلها مقر بيته الحرام من دخله كان آمنا وصرف قلوب الناس إليه وأوجب على المستطيع منهم حجة، وحرم صيده، وقطع شجره، وضاعف الأعمال الصالحة فيه، وحذر من الخروج عن طاعته سبحانه وأشار إلى عقوبة إرادة السوء في الحرم بقوله سبحانه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. ويلي ذلك مهاجر رسوله صلى الله عليه وسلم هذه المدينة المباركة حرم رسول الله صلى عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". واختار سبحانه من الشهور شهر رمضان ففضله على سائر الشهور، واختار منه ليلة القدر ففضلها على سائر الليالي، واختار من الأيام يوم عرفه فجعله أفضل الأيام، واختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة فجعله أفضلها، وأختار من الملائكة جبريل وإسرافيل وميكائيل فوكلهم بأسباب الحياة، واختار من البشر أنبياءه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ففضلهم على غيرهم وجعل أفضلهم أولي العزم منهم، واختار الخليلين إبراهيم ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهما فجعلهما أفضلهم، وجعل محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الخليلين، وأمته خير الأمم فهو عليه الصلاة والسلام إمام المتقين وسيد المرسلين وخليل رب العالمين وخاتم النبيين، أقام الله به الحجة على الثقلين الجن والإنس، وأول قبر ينشق عند النفخ في الصور قبره، ولا يدخل الجنة أحد قبله، واختصه سبحانه بالمقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون وهو الشفاعة العظمى في فصل القضاء التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل كل واحد يقول نفسي نفسي أذهبوا إلى غيري حتى تنتهي إليه صلوات الله وسلامه عليه فيقول: "أنا لها" ثم يشفع فيشفعه الله وصدق الله العظيم حيث يقول: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. وقد أشار سبحانه في كتابة العزيز إلى اختياره من يشاء بقوله سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}. وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" فهو صلى الله عليه وسلم بنص هذا الحديث الشريف خلاصة خلاصة خلاصة باعتبار شرف النسب كما كان خلاصة باعتبار الفضل وعلو المنزلة عند الله.
اعتراض المشركين على اختيار الله له صلى الله عليه وسلم(1/231)
ولما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ليهديهم به إلى الصراط المستقيم قابله المشركون بما يستطيعونه من الأذى والمناوأة وتأليب الناس عليه وتحذيرهم منه، فوصفوه بأشنع الأوصاف فقالوا: "أنه ساحر" وقالوا: "أخرى أنه كاهن" وقالوا: "مجنون" هذا وهم أعلم الناس بماضيه المشرق الوضاء، ولكن الذي حملهم على ذلك الكبر والحسد. فقد أخبر الله عنهم في كتابه العزيز أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما جاءهم نذير مازا دهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. وقال سبحانه وتعالى مخبرا عنهم: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}. إلى أن قال مشيرا إلى حسدهم له صلوات الله وسلامه عليه: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}. وقال سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ}. ثم قال مخبرا عن اعتراضهم على الله في اختياره لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}. فأنكر عليهم ذلك وبين أن الأمر أمره، والخلق خلقه، والفضل فضله يؤتيه من يشاء فهو أعلم حيث يجعل رسالته فقال سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً}. ونظير هذا قوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}. وقال سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ - إلى أن قال- قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُم}. وقال: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} وقد روى الحاكم بسند على شرط الشيخين أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به" فأنزل الله {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}. وروي أن الأخنس بن شريق دخل على أبي جهل فقال: "يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا" فقال أبو جهل: "ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهبت بنو قصي بالسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش"، وقال: "تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي ينزل عليه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه، والله لا نؤمن به ولا نصدقه". وهكذا يبلغ الكبر والحسد بهؤلاء القوم الذين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، حملهم ذلك على تجاهل الحقيقة وإبداء خلاف المستقر في القلوب، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم متبعين في ذلك إمامهم في الضلال والحسد إبليس اللعين حيث فسق عن أمر ربه له بالسجود لآدم كبرا وحسدا استنادا منه لعنة الله على أنه أفضل منه على زعمه، لكونه خلق من نار وآدم عليه الصلاة والسلام خلق من طين..
امتنان الله سبحانه على الثقلين برسالته صلى الله عليه وسلم(1/232)
من رحمة الله سبحانه بعباده أن أرسل فيهم رسله يبشرون وينذرون كلما ذهب نبي خلفه نبي حتى ختمهم نبي الرحمة محمدا صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك يقول سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَة}. ولقد اختار منهم سيدهم وإمامهم فجعله خاتم النبيين واختصه بخصائص ومزايا لم يشاركه فيها أحد منهم، كما اختص أمته بخصائص ليست لغيرهم من الأمم السالفة، ومن تلك المزايا التي أمتاز بها على غيره من المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين أن بعثه إلى الأسود والأحمر بل إلى الجن والإنس جميعا كما قال الله سبحانه عن الجن الذين استمعوا لقراءته صلى الله عليه وسلم ثم ولوا إلى قومهم منذرين: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}. وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي -فذكر من بينها- وكان النبي يبعث إلى قومه خاص وبعثت إلى الناس عامة". وفي ذلك يقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} ويقول: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}. وقد أوضح ذلك صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحة حيث قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار.." قال سعيد بن جبير رحمه الله مصداق ذلك في كتاب الله عز وجل قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}. ولا شك أن أعظم نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض هي إرسال هذا النبي الكريم الذي أكمل الله به الدين وجعله حجة على الناس أجمعين. وقد أخبر الله في كتابه العزيز عن إبراهيم بأدعية من بينها: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.وقد أجاب الله دعائه فبعث في الأمين وفي غيرهم محمدا صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وتلك النعمة العظمى والمنة الجسيمة نوه الله بها في معرض الثناء على نفسه سبحانه في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. ومنها قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}. ومنها قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ}. ومنها قوله سبحانه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}. وإنما كان إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الناس أعظم منة أمتن بها على عباده لأن في ذلك تخليص من وفقه الله وهداه منهم من العذاب السرمدي بسبب الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والابتعاد عن الشرك الذي لا يغفره الله كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. وقال: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
التمهيد لبعثته صلى الله عليه وسلم(1/233)
ومن حكمة الله وفضله أن هيأ لنبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه جميع أسباب الشرف والرفعة وعلو المنزلة، ووفر فيه جميع الخصال التي تؤهله للقيام بأعباء الرسالة العظمى التي اصطفاه واختاره لها صلوات الله وسلامه عليه، وفيما يلي أذكر على سبيل المثال بعض تلك الأسباب والخصال وأبين كيف كانت توطئة وتقدمة لبعثته صلى الله عليه وسلم:
أولا: أن الله سبحانه جعله عريق النسب، كريم المنبت، اصطفاه من أشرف قبائل العرب قبيلة قريش التي شهد لها غيرها بالسيادة والقيادة، وهذه سنة الله في رسله كما جاء ذلك في سؤال هرقل ملك الروم لأبي سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف نسبه فيكم" قال أبو سفيان: "هو فينا ذو نسب" ثم قال هرقل عند ذلك: "الرسل تبعث في نسب قومها" وإنما كانت هذه سنة الله في رسله ليسد على أعدائهم باب القدح فيهم والتنقيص لهم، فلا يجد أعداؤهم سبيلا إلى إلصاق العيوب بهم.
ثانيا: أنه صلى الله عليه وسلم نشأ فقيرا يتيما في كفالة جده عبد المطلب ثم عمه أبي طالب وذلك من أسباب التواضع والتحلي بالصفات الحميدة والبعد عن الصفات الذميمة كالكبر والظلم وغير ذلك، وقد ذكر الله ذلك منوها بتفضله على نبيه صلى الله عليه وسلم بإيوائه وإغنائه وهدايته حيث قال سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}. ثم أرشده إلى شكر هذه النعمة بأن يعطف على اليتامى والمساكين ويتحدث بنعمة الله عليه قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}. وهذه تربية إلهية لنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ذكرها الله في كتابه العزيز تنبيها لعباده المؤمنين بأن يحملوا أنفسهم على تلك الصفات الحميدة وغيرها شكرا لله سبحانه على توفيقه لهم بالهداية بعد الضلالة، والغنى بعد الفقر، وغير ذلك من نعمه عليهم، والمعنى لا تقهر ولا تنهر الفقير فقد كنت فقيرا تكره أن تنهر، ولا شك أن تذكير الإنسان بنعمة الله عليه من أقوى الأسباب في الإقدام على الخير والأحجام عن الشر لمن وفقه الله..
ثالثا: إن الله سبحانه وتعالى نشأه نشأة صالحة، وأنبته نباتا حسنا متحليا بكل خلق كريم بعيدا عن كل وصف ذميم، شهد له بذلك موالوه ومعادوه، ولكن من لم يشأ الله هدايته تعامى عن هذا كله وأظهر خلاف ما يبطنه كبرا وحسدا، وفي توفيق الله لنبيه صلى الله عليه وسلم للاتصاف بالصفات النبيلة والسلامة من الأخلاق الرذيلة قطع لألسنة أعدائه وإسكات لهم عن أن يعيروه بأدنى عيب، أو يصفوه بشيء من النقص، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يغدر قال: "لا" ولم يستطع مع شدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت أن يقول أكثر من قوله بعد نفي الغدر عنه: "ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها" قال: "ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة". وقد تحرز من الكذب خوفا من ملك الروم فأعداؤه صلى الله عليه وسلم لا يستطيعون وصفه حقيقة بوصف معيب، أما الكذب والافتراء عليه صلى الله عليه وسلم فقد قالوا عنه: "أنه ساحر" وقالوا عنه: "شاعر" وقالوا عنه: "أنه كاهن" وغير ذلك، وقد صانه الله سبحانه من ذلك الذي الصقوه به ومن كل عيب، وأنكر على المشركين افتراءهم وكذبهم عليه وأخبر بأنه من ذلك براء فقال سبحانه: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. وقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً}.(1/234)
رابعا: أنه صلى الله عليه وسلم نشأ أميا بين أميين لا يقرأ ولا يكتب، ثم جاء من الله بهذا القرآن الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وفي نشأته صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة قطع للطريق التي ينفذ منها الكفار إلى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.. فيما جاء به عن الله وأنه من أساطير الأولين قرأها أو كتبها لو كان كذلك، وقد أوضح الله ذلك بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}. ثم أشار إلى حصول الريبة من أعدائه لو كان قارئا كاتبا بقوله: {إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}. وتلك الطريق التي قطعت عليهم بجعله صلى الله عليه وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب سلكوها كذبا وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمهم التام ببعده صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا إنما يعلمه بشر ويأبى الله إلا إن يتم نوره ويظهر دينه فيجيبهم بأن لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا الذي جاءهم به لسان عربي مبين. ولهذا نجد الله سبحانه وتعالى عند إنكاره على قومه صلى الله عليه وسلم ما يقومون به من المعارضة والمناوأة له صلى الله عليه وسلم يلفت أنظارهم إلى ماضيه المشرق الوضاء، ويذكرهم بعلمهم ومعرفتهم التامة لحركاته وسكناته ومدخله ومخرجه فيقول سبحانه: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} ويقول: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. ثم إنه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأنه ليس له إلا التبليغ عن الله، وأنه لو شاء الله ما حصلت منه صلى الله عليه وسلم تلاوة ولا حصل لهم علم بذلك فقال: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ}. ثم ذكرهم بماضيه قبل إنزال القرآن عليه وما اتصفت به من جميل الصفات، وأنه قد بقي فيهم قبل أن يبعثه الله أربعين سنة ملازما لأسباب الرفعة بعيدا عن أسباب الضعة والهوان فقال: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ}. أنكر عليهم وصفهم له بالكذب والافتراء مع أنهم أعلم الناس به، وأن ذلك مخالف للفطر والعقول السليمة فقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}. ثم أخبر بأنه لا أحد أشد ظلما وأكبر جريمة من أثنين المفتري على الله والمكذب بما جاء عن الله فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ..}.
خامسا: ومن الأمور التي حصلت بين يدي بعثته صلى الله عليه وسلم توطئة وتمهيدا لها الرؤيا الصالحة في النوم؛ فكان صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح كما ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره.
سادسا: أنه صلى الله عليه وسلم رعى الغنم بمكة وفي ذلك تمهيد وتهيئة لإرساله إلى الناس كافة ليرشدهم إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وتحذيرهم مما يعود عليهم بالأضرار العاجلة والآجلة، وإنما كان رعية الغنم بمكة توطئة وتقدمة لبعثته صلى الله عليه وسلم لأن هذا العمل مدعاة إلى التحلي بجميل الصفات كالتواضع والسكينة والوقار مع مافيه من اشتغال الراعي بالرعية وبذله الأسباب التي تؤدي إلى سلامتها وقوتها فيعتني بها ويرتاد لها المراعي الخصبة ويبتعد بها عن الأراضي المجدبة، ويحميها من الذئاب، ويسلك بها الطرق السهلة ويحيد بها عن السبل ذات الشدة والوعورة، وهذه سنة الله في رسله كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامة عليه ولله الحكمة البالغة في ذلك، فمزاولة مثل هذا العمل فيه ترويض للنفس وتهيئة لها للقيام بأعباء الرسالة، فهو بلا شك درس عملي لرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم يكسبهم مرونة وخبرة لينتقلوا من تربية الحيوان إلى تربية بني الإنسان..
أخلاقه صلى الله عليه وسلم
تعريف الخلق:
الخلق بضم اللام وسكونها الدين والطبع والسجية قاله ابن الأثير في غريب الحديث: "وفي الاصطلاح يطلق إطلاقين أحدهما أعم من الثاني فيطلق على الصفة التي تقوم بالنفس على سبيل الرسوخ ويستحق الموصوف بها المدح أو الذم، ويطلق على التمسك بأحكام الشرع وآدابه فعلا وتركا، ومن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: لأشج عبد القيس: "إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة قال يا رسول الله أخلقين – تخلقت بهما أم جبلت عليهما قال "بل جبلت عليهما" قال: "الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله" ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق" وقول عائشة رضي الله عنها في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} كان خلقه القرآن.(1/235)
هذا تعريف الخلق في اللغة والاصطلاح. ننتقل بعده إلى الحديث عن أخلاقه الفاضلة وسجاياه الحميدة في جميع مراحل حياته صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا أجتمع فيه من أوصاف المدح والثناء ما تفرق في غيره، قد صانه الله سبحانه وحفظه من أدنى وصف يعاب صاحبه كل ذلك حصل له من ربه فضلا ومنه قطعا لألسنة أعدائه الذين يتربصون به ويقفون في طريق دعوته مؤذين له محذرين منه أحب شيء إليهم تحصيل شيء يعيبونه به وأنى لهم ذلك.
فقد نشأ صلى الله عليه وسلم في أول أمره إلى آخرة لحظة من لحظاته متحليا بكل خلق كريم، مبتعدا عن كل وصف ذميم، فهو أعلم الناس وأنصحهم وأفصحهم لسانا، وأقواهم بيانا، وأكثرهم حياء، يضرب به المثل في الأمانة والصدق والعفاف. أدبه الله فأحسن تأديبه فكان أرجح الناس عقلا، وأكثرهم أدبا، وأوفرهم حلما، وأكملهم قوة وشجاعة وشفقة، وأكرمهم نفسا، وأعلاهم منزلة، وبالجملة كل خلق محمود يليق بالإنسان فله صلى الله عليه وسلم منه القسط الأكبر والحظ الأوفر، وكل وصف مذموم فهو أسلم الناس منه وأبعدهم عنه شهد له بذلك العدو والصديق.
وفيما يلي أورد بعض الشهادات التي شهد له بها الموالون له والمعادون الدالة دلالة بينة على تمسكه بالأخلاق الحسنة قبل أن يبعثه الله تعالى وذلك معلوم من الدين بالضرورة:
1- شهادة خديجة رضي الله عنها:
لما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في غار حراء لأول مرة ورجع إلى خديجة أخبرها الخبر وقال: "لقد خشيت على نفسي". فقالت له رضي الله عنها: "كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق".رواه البخاري.
2- شهادة كفار قريش عند بنائهم الكعبة:
ولما قامت قريش ببناء الكعبة قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، واتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم الباب، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحوا جميعا وقالوا جاء الأمين جاء محمد. وقد كانوا يلقبونه بلقب الأمين لما يعلمونه من أمانته صلوات الله وسلامه عليه...
3- شهادة كفار قريش بصدقه صلى الله عليه وسلم:
ثبت في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي – لبطون قريش – حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي" قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " فقال: أبو لهب: "تبا لك ألهذا جمعتنا.."
4- شهادة أبي جهل بصدقه صلى الله عليه وسلم:
تقديم الحديث الذي رواه الحاكم بسند على شرط الشيخين أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لا نكذبك لكن نكذب ما جئت به". فأنزل الله {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.
ولما قال له الأخنس بن شريق: "يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟" فقال: "ويحك والله إن محمدا صادق وما كذب محمد قط" الخ..
5- شهادة أبي سفيان بين يدي هرقل ملك الروم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ووفائه:(1/236)
فقد روى البخاري في صحيحة عن ابن عباس رضي الله عنه أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا ذهبوا إلى الشام لأجل التجارة في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادا فيها أبا سفيان وكفار قريش .فأتوه بإيليا فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: "أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي" فقال: "أبو سفيان فقلت أنا أقربهم نسبا" فقال: "أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال: لترجمانه قل لهم أني سائل عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه. فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليّ كذبا لكذبت عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: "كيف نسبه فيكم" قلت: "هو فينا ذو نسب" قال: "فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله" قلت: "لا" قال: "فهل كان من آبائه من ملك" قلت: "لا" قال: "فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفائهم" فقلت: "بل ضعفاؤهم" قال: "أيزيدون أم ينقصون" قلت: "بل يزيدون" قال: "فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه" قلت: "لا" قال: "فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال" قلت: "لا" قال: "فهل يغدر" قلت: "لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة" قال: "فهل قاتلتموه" قلت: "نعم" قال: "فكيف كان قتالكم إياه" قلت: "الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه" قال: "بماذا يأمركم" قلت: "يقول أعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة" فقال: "للترجمان قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذالك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله قط؟ فذكرت أن لا، قلت فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان في آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا قلت فلو كان من آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، قلت لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم إتباع الرسل وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون
وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بماذا يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به إليه مع دحية بن خليفة الكلبي – فقرأه قال أبو سفيان فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات فأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام..
ففي هذه القضية آيات بينان ودلالات واضحات على نبوته صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم صادق فيما جاء به ومحل الشاهد من القصة شهادة أبي سفيان بن حرب وهو من أشد أعدائه في ذلك الوقت على – اتصاف الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله بالصدق وأنهم لا يتهمونه بالكذب وبالوفاء وأنه لا يغدر.
6- شهادة السائب المخزومي له صلى الله عليه وسلم بحسن المعاملة والرفق قبل النبوة:
روى أبو داود وغيره أن السائب المخزومي كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال: "مرحبا بأخي وشريكي لا تداري ولا تماري، وفي لفظ أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تداريني ولا تماريني، وفي لفظ شريكي ونعم الشريك كنت لا تداري ولا تماري".
7- شهادة عبد الله بن سلام رضي الله عنه بصدقه صلى الله عليه وسلم:
روى أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: "لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كنت ممن أنجفل فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب فسمعته يقول: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ".
8- شهادة مكرز بن حفص بن الأحنف له صلى الله عليه وسلم بالوفاء في جميع مراحل حياته:(1/237)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية قد أبرم صلحا بينه وبين قريش على أن يرجع ويعتمر من العام المقبل، ومن الشروط التي اشترطتها قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل مكة بسلاح الراكب فقط (السيوف مغمدة) فلما قدم صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء استعد بالخيل والسلاح لا ليدخل بها الحرم وإنما لتكون في متناول يده لو نكثت قريش، وعندما قرب صلى الله عليه وسلم من الحرم بعث بها إلى يأجح. وكان خبر ذلك السلاح قد بلغ قريشا فبعثت مكرز بن حفص في نفر من قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت لهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر". فقال صلى الله عليه وسلم: "وقد بعثنا به إلى يأجح" فقال مكرز: "بهذا عرفناك بالبر والوفاء".
(أخلاقه صلى الله عليه وسلم في القرآن)
تفضل الله تعالى على خليله محمد صلى الله عليه وسلم بتوفيقه للاتصاف بمكارم الأخلاق وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ثم أثنى عليه ونوه بذكر ما يتحلى به من جميل الصفات في آيات كثيرة من كتاب الله العزيز أقتصر على إيراد بعضها من ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فقد أخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة عما كان عليه المصطفى من أخلاق فاضلة ووصف خلقه صلى الله عليه وسلم بأنه عظيم، وأكد ذلك بثلاثة أشياء بالأقسام عليه بالقلم وما يسطرون، وتصديره بأن، وإدخال اللام على الخبر، وكلها من أدوات تأكيد الكلام، وذلك الخلق العظيم الذي كان صلى الله عليه وسلم ورد تفسيره عن السلف الصالح بعبارات متقاربة، ففسره ابن عباس رضي الله عنه بأن الدين العظيم وهو دين الإسلام وبهذا التفسير فسره أيضا مجاهد والسدي والربيع بن أنس والضحاك وغيرهم، وفسره الحسن بأنه آداب القرآن، وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنه أنها سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن" ومعنى ذلك أن امتثال ماأمره الله به واجتناب ما نهاه عنه في القرآن وصار له خلقا وسجيه، وقد أشارت عائشة رضي الله عنها إلى ما يوضح هذا المعنى في حديث آخر متفق على صحته وهو أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه سبحانك اللهم وبحمدك اللهم أغفر لي يتأول القرآن" أي كان يدعوا بهذا الدعاء امتثالا لما أمره الله به في سورة النصر في قوله:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه..}.
وقد نوه سبحانه بما جبل نبيه عليه صلى الله عليه وسلم من الرحمة والرأفة بالمؤمنين والحرص على ما ينفعهم في دينهم وأخراهم، والتألم من كل ما يشق عليهم بقوله سبحانه ممتنا على المؤمنين بإرساله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ والأغلال }، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}.وأشار سبحانه إلى ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من اللطف والرفق بأمته بقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك}. أما ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من النصح والأمانة والقيام بأداء الرسالة على الوجه الذي أراده الله فقد ذكره سبحانه
بقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}. ويقول تعالى يعني محمدا صلى الله عليه وسلم: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} وفيها قراءتان -بالظاء - والمراد به المتهم، وبالضاد والمراد به البخيل، وكلا هذين منفي عنه صلى الله عليه وسلم فليس هو - متهم بكتمان ما أرسله الله به وليس ببخيل بما أنزل الله عليه بل يبذله لكل أحد-.
أخلاقه صلى الله عليه وسلم في سنته وأقوال صحابته رضي الله عنهم:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله بالرسالة العظمى في الذروة العليا من الأخلاق الحسنة صدقا وأمانة وكرما وحلما وشجاعة وعفة وقناعة وغير ذلك من الصفات التي يحظى بالإجلال والإكبار من حصل على واحدة منها فضلا عمن جمعت له وتوفرت فيه.(1/238)
ولما بعثه الله سبحانه بالنور والهدى إلى الثقلين الجن والإنس زاده الله قوة في هذه الخصال الحميدة إلى قوته حتى بلغ الحد الأعلى الذي يمكن أن يصل إليه إنسان مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إنما بعثت لأتم صالح الأخلاق" وقد نوه الله سبحانه بتفضله وامتنانه على نبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}. وقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً}.
وقد اختار سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أصحابا هم خير هذه الأمة المحمدية التي هي خير الأمم، وقفوا حياتهم في سبيل تبليغ دعوته وحفظ سنته تحقيقا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ورثوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما جاء به من الحق ورثوه لمن جاء بعدهم حتى هيأ الله له رجالا قاموا بتدوينه منهم بل على رأسهم الإمامان الجليلان البخاري ومسلم وغيريهما من المحدثين فقد أفنوا أعمارهم جزاهم الله خيرا الجزاء في تقييد تلك الدور الثمينة التي ورثوها عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة السلاسل الذهبية المتصلة بأمثال مالك ونافع وشعبة وأحمد وعلي بن المديني وغيرهم من خيار هذه الأمة وهذه الدرر الثمينة التي توارثوها ونعم الإرث هي تشمل أقواله صلى الله عليه سلم وأفعاله وتقريرا ته وبيان خلقه وأخلاقه ولهذا يعرف المحدثون الحديث بأنه ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أو خلقي.
ولقد اعتنى هؤلاء الورثة الكرام بتدوين ما جاءهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم، وبما يتعلق بأخلاقه ومزاياه على سبيل الخصوص، فمنهم من أفرد ذلك بالتأليف، ومنهم من عقد له أبوابا خاصة ضمن المؤلفات العامة أورد فيها ما يتصل بخوفه صلى الله عليه وسلم ورجائه وخشيته لربه، وجوده وكرمه وإيثاره وحياته ووفائه وصدقة وأمانته وإخلاصه وشكره وصبره وحلمه وكثرة احتماله، ورفقه بأمته وحرصه على التيسير عليها، وعفوه وشجاعته وتواضعه وعدله وزهده وقناعته، وصلته لرحمه، وكثرة تبسمه، وعفته وغيرته، إلى غير ذلك من آحاد حسن خلقه صلى الله عليه وسلم.
تفصيل القول في أخلاقه صلى الله عليه وسلم:
وهذه الأخلاق التي أشرنا على بعض آحادها يحتاج تفصيلها وبسط القول فيها إلى عدة محاضرات. أما المحاضرة الواحدة فلا تكفي إلا للإشارة على بعض تلك الأخلاق والمزايا الحميدة التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، فأجدني مضطرا إلى الاقتضاب والإيجاز حسب الإمكان..
1-جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم:(1/239)
وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه في خلق الجود والكرم مبلغا لم يبلغه غيره، ووصل فيه إلى الغاية التي ينتهي عندها الكمال الإنساني. ومن توفيق الله له صلى الله عليه وسلم أن جعل جوده يتضاعف في الأزمنة الفاضلة يقول ابن عباس رضي الله عنه في الحديث الصحيح: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة". جاد بنفسه في سبيل الله فكسرت رباعيته وشج وجهه وسال الدم منه صلوات الله وسلامه عليه. والجود بالنفس أقصى غاية الجود؛ وجاد بجاهه ومن أمثلة ذلك شفاعته صلى الله عليه وسلم لمغيث زوج بريرة رضي الله عنهما لما عتقت واختارت فراقه أشار عليها أن تبقى في عصمته رحمة منه صلى الله عليه وسلم بزوجها مغيث. وأخص الأمثلة في ذلك ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من شفاعته في أهل الموقف التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل فتنتهي إليه فيقول أنا لها صلى الله عليه وسلم وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل نبي دعوة مستجابة قد دعا بها فاستجيب له، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" وجاد صلى الله عليه وسلم بما أعطاه الله من المال فما سئل صلى الله عليه وسلم شيئا من الدنيا قط فقال لا ولقد جاءت إليه صلى الله عليه وسلم امرأة ببردة منسوجة فقالت نسجتها بيدي لأكسوكها فأخذها صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها ولبسها فقل رجل من الصحابة: "أكسينها يا رسول الله". فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم"
فدخل منزله فطواها وبعث بها إليه فقال له بعض الصحابة: "ما أحسنت، لبسها رسول الله عليه وسلم محتاجا إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلا". فقال: "إني والله ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفني" قال سهل بن سعد رضي الله عنه: "فكانت كفنه"، هذا مثل من أمثال اتصافه صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق الكريم فهل بعد هذا كرم يصدر من مخلوق؟ وهل وراء هذا الإيثار إيثار؟. ولقد وصف الله الأنصار في كتابه العزيز بصفة الإيثار في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. وهذه الصفة الكريمة التي اتصفوا بها أسوتهم فيها وفي غيرها من مكارم الأخلاق سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام يقول سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. ولما رجع من حنين التف حوله الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فوقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أعطوني ردائي فلو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا ..".
وجوده صلى الله عليه وسلم في العطاء لبعض الناس إنما هو لتأليفهم على الإسلام، فكثيرا ما كان يخص حديثي العهد بالإسلام بوافر العطاء دون من تمكن الإيمان في نفوسهم. ففي غزوة حنين أعطى أكابر قريش المئات من الإبل ومنهم صفوان بن أمية فقد روى مسلم في صحيحة أنه قال: "لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليّ فما برح يعطيني حتى إنه من أحب الناس إلي", وروى أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: "ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر". وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيرا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل تلك الغنم الكثيرة التي لكثرتها ملأت ما بين جبلين وماذا كانت نتيجة هذا الإعطاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لقد كانت حصول الغرض الذي من أجله أعطاه وهي أنه أصبح داعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد كان بدافع من نفسه رسولا لرسول الله إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام ويبين لهم كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبذل المال في سبيل نصرة الإسلام والدعوة إليه والترغيب فيه، ينفق مال الله الذي آتاه في سبيل الله حتى توفاه الله ودرعه مرهونة في دين عليه صلوات الله وسلامه عليه.
======================
توجيهه وتربيته وتعليمه لأصحابه
وعلى الرغم من انشغال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد ومجالدة الشرك وأهله، إلا أنه كان دائماً مع أصحابه مخالطاً ومعايشاً ومُرَبِّياً وموجِّهًا، ومعلِّماً لهم على اختلاف أحوالهم وأعمارهم، ولا يترك موطناً من مواطن الزلل أو جانباً من جوانب الخطأ إلا وأصلحه وبينه، ولا موطناً من مواطن الخير إلا حثّهم عليه ورغبهم فيه.
فكان يؤاكل أصحابه فربما حضر الطعام معه الأعرابي حديث عهد بالإسلام، أو الغلام والجارية ممن لا يعرف آداب الطعام والشراب فيأخذ صلى الله عليه وسلم بأيديهم ويعلّمهم ويربِّيهم.(1/240)
روى أحمد عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: (( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ بِطَعَامٍ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ كَأَنَّمَا يُطْرَدُ فَذَهَبَ يَتَنَاوَلُ فَأَخَذَ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ وَجَاءَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا تُطْرَدُ فَأَهْوَتْ فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الشَّيْطَانَ لَمَّا أَعْيَيْتُمُوهُ جَاءَ بِالْأَعْرَابِيِّ وَالْجَارِيَةِ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ إِذَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، بِسْمِ اللَّهِ كُلُوا )).
وروى البخاري ومسلم عن عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: (( كُنْتُ غُلامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا غُلامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ )).
وكان يبرز للناس كلِّهم ويبايع الوفود بنفسه ولا ينيب عنه أحداً من أصحابه، ولا يكتفي برئيس الوفد بل يبايعهم واحداً واحداً، وأحياناً يجيء الرهط من الناس ليبايعوه على الإسلام فيرى في أحدهم مظهراً من مظاهر الشرك من بقايا الجاهلية فيأبى أن يبايعه حتى يزيله.
روى الإمام أحمد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ: (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَهْطٌ فَبَايَعَ تِسْعَةً وَأَمْسَكَ عَنْ وَاحِدٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايَعْتَ تِسْعَةً وَتَرَكْتَ هَذَا قَالَ: إِنَّ عَلَيْهِ تَمِيمَةً فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَقَطَعَهَا فَبَايَعَهُ وَقَالَ: مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ )).
وقد أخذ بهذا المنهج صحابته الكرام رضي الله عنهم
فقد روى أحمد عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَتْ: (( كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ فَانْتَهَى إِلَى الْبَابِ تَنَحْنَحَ وَبَزَقَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَهْجُمَ مِنَّا عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ قَالَتْ: وَإِنَّهُ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَتَنَحْنَحَ قَالَتْ: وَعِنْدِي عَجُوزٌ تَرْقِينِي مِنَ الْحُمْرَةِ فَأَدْخَلْتُهَا تَحْتَ السَّرِيرِ فَدَخَلَ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِي فَرَأَى فِي عُنُقِي خَيْطًا قَالَ: مَا هَذَا الْخَيْطُ قَالَتْ: قُلْتُ خَيْطٌ أُرْقِيَ لِي فِيهِ قَالَتْ: فَأَخَذَهُ فَقَطَعَهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آلَ عَبْدِ اللَّهِ لأَغْنِيَاءُ عَنِ الشِّرْكِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ قَالَتْ: فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ تَقُولُ هَذَا وَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ فَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِيهَا وَكَانَ إِذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ عَمَلُ الشَّيْطَانِ كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ فَإِذَا رَقَيْتِهَا كَفَّ عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لا شِفَاءَ إِلا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا )).
وكان صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه ويلاعب أطفالهم
روى مسلم عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَكَانَ لِي أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ: كَانَ فَطِيمًا قَالَ: فَكَانَ إِذَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَآهُ قَالَ: أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ قَالَ: فَكَانَ يَلْعَبُ بِهِ )).
أما خدمه ومواليه فلم يكن يكلّفهم من العمل ما لا يطيقون، ولم يبكتهم يوماً ما أو ينهرهم فضلاً من أن يضربهم، بل إنهم لم يسمعوا منه مجرّد التأفّف عليهم.
ففي صحيح مسلم قَالَ أَنَسٌ: (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَذْهَبُ وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ: يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ قَالَ: قُلْتُ نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ هَلا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا )).(1/241)
وربما قام صلى الله عليه وسلم بالتعليم وهو على حمار مردفاً لأحد أصحابه وذلك بتكرار النداء وفي هذا إثارة انتباه السامع.
يقول معاذ بن جبل: (( كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ: يَا مُعَاذُ قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. ثم سار ساعةً، فقال: يامعاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعةً فقال: يامعاذ بن جبل، قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ قَالَ: لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا))(1)
وقد اختار صلى الله عليه وسلم معاذاً لينوب عنه في دعوة أهل اليمن ورسم له منهج الدعوة وبماذا يبدأ به الناس فقال له: (( إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ))(2)
وكان صحابته يرجعون إليه في كل شيء حتى في مخالفات الأطفال، فيتعامل معها صلى الله عليه وسلم بأسلوب تربوي عظيم بما يتناسب مع سنّ الصغير ومرحلة الطفولة.
روى أبو داود عن أَبِي رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ قَالَ: (( كُنْتُ غُلامًا أَرْمِي نَخْلَ الْأَنْصَارِ فَأُتِيَ بِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا غُلامُ لِمَ تَرْمِي النَّخْلَ قَالَ: آكُلُ قَالَ: فَلا تَرْمِ النَّخْلَ وَكُلْ مِمَّا يَسْقُطُ فِي أَسْفَلِهَا ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَشْبِعْ بَطْنَهُ )).
وفي رواية للترمذي قال: (( أشبعك الله وأرواك )).
يصف الصحابة رضوان الله عليهم مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم لهم في جميع حياتهم حضرها وسفرها، وتفقده لأحوالهم الخاصّة والعامّة، فيقول أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: (( إِنَّا وَاللَّهِ قَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَكَانَ يَعُودُ مَرْضَانَا وَيَتْبَعُ جَنَائِزَنَا وَيَغْزُو مَعَنَا وَيُوَاسِينَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ))(3)
وقد اختار صلى الله عليه وسلم من أساليب التعليم أحسنها وأفضلها، وأوقعها في نفس المخاطب وأقربها إلى فهمه وعقله، وأشدّ تثبيتًا في نفسه، وأكثرها إيضاحاً: فتارةً يؤكّد لهم التعليم بالقسم، وتارةً بالتكرار، وأخرى بالنداء، وأحياناً بإبهام الشيء لحمل السامع على استكشافه والسؤال عنه كما في حديث أبي هريرة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (( اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ ))(4)
وأحياناً يعلّمهم بأسلوب الشرح والبيان والتوضيح، وترتيب النتائج على مقدماتها كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ ))(5)
وأحياناً يأتي تعليمه بالمناسبات العارضة كما في قصّة الرجل الذي حلف بغير الله، كما روى سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ (( أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لاَ وَالْكَعْبَةِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لاَ يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ )). قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.(1/242)
وروى الإمام أحمد عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ: (( سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلاً يَقُولُ: وَالْكَعْبَةِ فَقَالَ: لاَ تَحْلِفْ بِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ وَأَشْرَكَ )).
وأحياناً يأتيه الأعرابي الجافي فيغلظ للرسول الله صلى الله عليه وسلم القول، وربما يستطيل بيده على طبيعة الأعراب من العنف والجفاء، فيبتسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجيبه إلى طلبه بحسن خلق وسموّ معاملة.
روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: (( كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً قَالَ أَنَسٌ: فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ )).
وفي رواية لمسلم: (( ثُمَّ جَبَذَهُ إِلَيْهِ جَبْذَةً رَجَعَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ الْأَعْرَابِيِّ )). وَفِي حَدِيثِ هَمَّامٍ: (( فَجَاذَبَهُ حَتَّى انْشَقَّ الْبُرْدُ وَحَتَّى بَقِيَتْ حَاشِيَتُهُ فِي عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم )).
ولكنّه، لما رأى رجلاً لبس سواراً من نحاس يقي به مرضاً يأخذ في العضد، غضب عليه وزجره ونهره.
فعن عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ: (( أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبْصَرَ عَلَى عَضُدِ رَجُلٍ حَلْقَةً، أُرَاهُ قَالَ مِنْ صُفْرٍ فَقَالَ: وَيْحَكَ مَا هَذِهِ قَالَ: مِنَ الْوَاهِنَةِ قَالَ: أَمَا إِنَّهَا لا تَزِيدُكَ إِلا وَهْنًا انْبِذْهَا عَنْكَ فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِيَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا ))(6)
فهناك لم يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، أمّا هنا ولمّا رأى مظهراً من مظاهر الشرك غضب لله عز وجل، حيث أنه صلى الله عليه وسلم بعث بتكميل أديان الخلق بنبذ الوثنيّات والتعلّق بالمخلوقين، وعلى تكميل عقولهم بنبذ الخرافات والخزعبلات، والجدّ في الأمور النافعة المرقّية للعقول، المزكّية للنفوس، المُصْلِحَة للأحوال كلها دينها ودنياها(7)
وربما لحقه الأطفال فأركبهم معه على بغلته.
فعن إِيَاسٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (( لَقَدْ قُدْتُ بِنَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاءَ حَتَّى أَدْخَلْتُهُمْ حُجْرَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا قُدَّامَهُ وَهَذَا خَلْفَهُ))(8)
بل ربما نزل وترك الخطبة من المنبر وحمل الأطفال ثم أتمّ خطبته
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ قَال: (( سَمِعْتُ أَبِي بُرَيْدَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُنَا إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمِنْبَرِ فَحَمَلَهُمَا وَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} فَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا))(9)
وإذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكر انتدب له رجلاً من صاحبته؛ ليقوم بإزالته، فقد روى لنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه بمهمّة وهي تسوية القبور بالأرض وعدم رفعها، وطمس التماثيل والصور.
روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ قَالَ: (( قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم أَنْ لا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلا طَمَسْتَهُ وَلا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهُ ))، وفي رواية َقَالَ: (( وَلا صُورَةً إِلا طَمَسْتَهَا )).
ولم يكن رسول الله يخصّ أحداً من أقاربه بعلم دون الناس.
ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: (( سُئِلَ عَلِيٌّ أَخَصَّكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَيْءٍ لَمْ يَعُمَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً إِلَّا مَا كَانَ فِي قِرَابِ سَيْفِي هَذَا قَالَ: فَأَخْرَجَ صَحِيفَةً مَكْتُوبٌ فِيهَا لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا )).
وكان يرسل البنيات الصغيرات لِيَلْعَبْنَ مع عائشة رضي الله عنها.(1/243)
عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (( كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي ))(10)
وكان صلى الله عليه وسلم لا ينفكّ عن التعليم والتوجيه في حال الصحة والمرض فقد كان بعض نسائه يقصصن عليه بعض القصص وهو في مرضه، لعلّ ذلك من أجل تسليته
ففي البخاري ومسلم عن عَائِشَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (( لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَتْ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: أُولَئِكِ إِذَا مَاتَ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّورَةَ أُولَئِكِ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ )).
فعلى الرغم من مرضه صلى الله عليه وسلم استدرك على نسائه وبيّن ضلال أولئك النصارى حيث اتخذوا المساجد على قبور الصالحين وصوّروا صوراً فيها.
وقد تعامل مع أخطاء الأعراب الجفاة بالحكمة والتأني مع الحلم والصبر عليهم والصفح عنهم، وحسن توجيههم وإرشادهم وتربيتهم، مع غاية الرحمة والرأفة بهم.
فعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: (( بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا تُزْرِمُوهُ (أي لاتقطعوا عليه بولته) دَعُوهُ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ ))(11)
وكان لطيفاً رحيماً رقيقاً في معاملته لأصحابه وفي تعامله مع أخطائهم.
يصف لنا ذلك معاوية بن الحكم السلمي فيقول - كما في صحيح مسلم - عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: (( بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلا ضَرَبَنِي وَلا شَتَمَنِي قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلامِ وَإِنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأْتُونَ الْكُهَّانَ قَالَ: فَلا تَأْتِهِمْ قَالَ: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ قَالَ: ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلا يَصُدَّنَّهُمْ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ: فَلا يَصُدَّنَّكُمْ، قَالَ: قُلْتُ وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ قَالَ: كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ قَالَ: وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا أُعْتِقُهَا قَالَ: ائْتِنِي بِهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ اللَّهُ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ قَالَ: مَنْ أَنَا قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ )).(1/244)
وقد أكّد رسول الله صلى الله عليه وسلم نهيه عن إتيان الكهان في موطن آخر فقالَ: (( مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ))(12)
وقد بلغ من رأفته ورحمته أن يصعد الصبيّ على ظهره وهو ساجد يصلي بالناس فيطيل السجود كراهة أن يعجّل الصبيّ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (( خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِحْدَى صَلاتَيِ الْعِشَاءِ وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاةِ فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلاتِهِ سَجْدَةً أَطَالَهَا قَالَ أَبِي: فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ ))(13)
روى النسائي عَنْ أَبِي قَتَادَةَ: (( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا وَإِذَا قَامَ رَفَعَهَا )).
بل إن رأفته ورحمته بالناس حملته على تخفيف الصلاة بسبب بكاء صبيّ مراعاةً لحال أمه.
عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (( إِنِّي لادْخُلُ فِي الصَّلاةِ وَإِنِّي أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي مِمَّا أَعْلَمُ لِوَجْدِ أُمِّهِ بِبُكَائِهِ ))(14)
في السَّنَة التي مات بها ابن النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم
يقول الْمُغِيرَةُ ابْنُ شُعْبَةَ: (( انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ النَّاسُ: انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ )).
فبدّد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع الأوهام والخرافات المنتشرة في الجاهلية.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يملك عينيه من شدّة الرحمة
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (( دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عبد الرحمنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلا نَقُولُ إِلا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ ))(15)
--------------------
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) البخاري ومسلم.
(3) رواه أحمد.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه النسائي.
(6) رواه أحمد وابن ماجة.
(7) القول السديد ص 37.
(8) رواه مسلم.
(9) رواه الترمذي وحسنه.
(10) رواه البخاري.
(11) رواه البخاري ومسلم.
(12) رواه أحمد عن أبي هريرة.
(13) رواه النسائي.
(14) رواه ابن ماجة.
(15) رواه البخاري.
=================
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أحباب وأتباع هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
قال تعالى :{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) }
جمعه وفهرسه وقدم له
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود(1/245)
في الخامس من شهر شعبان لعام 1427 هـ الموافق 30 /8/2006 م
الفهرس العام :
وهذا الذي حدث سببه بالدرجة الأولى حقد وحسد أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأتباعه . ... 8
وسببه الثاني ضعف المسلمين وتشرذمهم في الأرض ، والضعيف لا يلتفت إليه أحد : ... 17
الوهن وباء خطير ومرض قاتل ... 17
والله تعالى قد بين أن أهل الكتاب يعلمون علم اليقين أن محمدا (( صلى الله عليه وسلم )) هو خاتم الأنبياء والمرسلين . ... 23
ودعاهم إلى كلمة سواء فأبوا : ... 32
استفتاحهم على الكفار قبل الإسلام ثم كفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد مجيئه ... 34
وقد أعلنوا الحرب على الإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي سمعوا بالإسلام ، ونبي الإسلام (( محمد صلى الله عليه وسلم )) ... 40
وحرم علينا ربنا سبحانه وتعالى طاعتهم والاستماع لأراجيفهم : ... 79
وحرم سبحانه وتعالى توليهم : ... 85
وأمر سبحانه وتعالى بقتالهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون : ... 134
وحرم علينا الدعوة إلى السلم ونحن الأعلون : ... 139
وحرم أسرهم حتى نثخن فيهم ونقضي على قوتهم : ... 142
لقد بين سبحانه وتعالى أنهم لن يرضوا عنه ولا عنا حتى نتبع ملتهم : ... 152
تاريخ أهل الكتاب مع الأمة الإسلامية ... 153
قادة الغرب يقولون دمّروا الإسلام أبيدوا أهله (2) ... 158
هل هناك تغيير في موقف الغرب تجاه الإسلام وأهله ؟! .. ... 189
إن جميع الأنبياء والمرسلين قد أوذوا من قبل أقوامهم ومن قبل غيرهم: ... 194
قال تعالى : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) [الأحقاف/35] } ... 194
الصبر في القرآن الكريم ... 194
الصبر.. عنوان الإيمان ودليل الثقة بالله ... 215
صبر المجاهدين ... 218
صبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) عائض بن عبد الله القرني ... 221
وبين سبحانه وتعالى أن العاقبة للمتقين : ... 250
المنصورون في ميزان الله.. ... 251
مقامات الابتلاء.. ومفارز التمحيص ... 255
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ... 259
المحنة في حياة الدعوة والداعية ... 261
بوابة النصر ... 267
حقيقة الانتصار ... 278
مواصفات جيل التمكين ... 347
وبين تعالى أن أعداء الرسل مغلوبون مقهورون مهما ملكوا من قوة ومن عتاد ومكر : ... 373
ولكن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا باتباع منهجه الذي أكرمه الله تعالى به حتى نفوز بسعادة الدارين ، ففيه العزة والكرامة والحياة وكل خير لنا في الدارين: ... 375
ولا بد من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء : ... 376
القول اللبيب في الذب عن الحبيب ( صلى الله عليه وسلم ) ... 377
توجيهات للدُعاة ... 400
وشيجة العقيدة هي الأساس الذي يجب أن يتجمع عليه الناس ... 406
وحي القلم من سيرة النبي الأكرم لى الله عليه وسلم ... 418
الثوابت الأساسية في الإسلام ... 437
من مواقف قريش المضادة للدعوة الإسلامية في مكة ... 457
أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم ... 506
توجيهه وتربيته وتعليمه لأصحابه ... 528(1/246)
فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم ومناقبه وحقوقه(1)
مقدمة هامة
الباب الأول- الشمائل المحمدية
1.هذا النبي الذي سخروا منه..
قالوا فيه ما قالوا، والناس أعداء ما جهلوا.. ألا فليعرفوه، ولينظروا في أخلاقه، وأوصافه، فشفاء الجهل العلم (1).
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
أعظم رجل في التاريخ: محمد عبد الله صلى الله عليه وسلم.
ومن حسن تقدير الله لهذه الأمة أن جعله رسولها، فلها الفخر بهذا الشرف.. ومن المؤسف:
- أن من الناس من لا يستشعر عظمته.
- ومنهم من لا يكترث بحقوقه الواجبة على الأمة، من: محبة، واتباع، وأدب.
- وقد أهمل تعليم الصغار صفاته الخُلُقية والخَلْقية؛ فأطفالنا ينشئون وهم لا يعرفون عن نبيهم إلا: اسمه وشيئا من نسبه، وهجرته من مكة إلى المدينة. أما صفاته البدنية، وأخلاقه، ومقامه، وحقوقه، وجوانب سيرته فلا خبر لهم بها. وهذا تقصير منا..!!
نحن نحتاج إلى أن نتعرف على كل صغيرة وكبيرة في حياته، من لدن مولده إلى وفاته.. ينبغي أن ننظر إليه: مربيا، وقدوة، وقائدا، ورسولا، وسيدا ذا مقام رفيع، وقلب رحيم، ونفس زكية، وأدب جم، وصبر جميل. من حقه علينا أن ندرس كل جوانب حياته، ونعلم أطفالنا وأزواجنا وأهلينا: من هو رسول الله ؟.
وأداء لبعض هذا الحق، سنخصص هذا الحديث عن صفاته عليه السلام الخَلقية والخُلقية:
* * *
إنه محمد بن عبد الله ؛ ومحمد معناه: المحمود في كل صفاته.
أخرج البخاري في التاريخ الصغير عن أبي طالب:
وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد
وقد كان اسمه أحمد كما جاءت تسميته في الكتب السابقة، قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام:
- {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}.
وتسميته محمدًا وقعت في القرآن؛ سمي محمدا:
- لأن ربه حمده قبل أن يحمده الناس، وفي الآخرة يحمد ربه فيشفعه فيحمده الناس.
- ولأنه خص بسورة الحمد، وبلواء الحمد، وبالمقام المحمود.
- وشرع له الحمد بعد الأكل، والشرب، والدعاء، وبعد القدوم من السفر.
وسميت أمته الحمادين، فجمعت له معاني الحمد وأنواعه...
* * *
وأما عن صفاته الخَلقية:
- فهو أبيض، ليس شديد البياض أمهقا، بل مشربا بحمرة، والعرب تسمي الأسمر سمرة خفيفة أبيضا مشرب بحمرة، قال أبو طالب:
وأبيضُ يستسقى الغمام بوجهه *** ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأرامل
- ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد.
- بعيد ما بين المنكبين.
- شديد سواد الشعر، ليس بالجعد القطط؛ وهو الشعر الذي يلتف على بعضه، ولا بالسبط؛ وهو الشعر المسترسل الناعم شديد النعومة، وإنما بين ذلك، يبلغ شحمة أذنيه، وقيل: "منكبيه".. يفرقها فرقتين من وسط الرأس، وفي شعر رأسه ولحيته شعيرات بيض لا تبلغ العشرون.
- مليح، وجهه مثل القمر في استدارته وجماله، ومثل الشمس في إشراقه، إذا سر يستنير ويتهلل وتنفرج أساريره.
- واسع الفم، والعرب تمدح بذلك وتذم بصغر الفم، جميل العينين قال جابر: "أشكل العينين" رواه مسلم قيل أشكل العينين: "أي طويل شق العينين"، وقيل: "حمرة في بياض العينين".
- يداه رحبتان كبيرتان واسعتان لينة الملمس كالحرير، يقول أنس: "ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم". متفق عليه
- قدماه غليظتان لينة الملمس، فكان يجمع في بدنه وأطرافه بين لين الملمس وقوة العظام.
- يداه باردتان، لهما رائحة المسك، يقول أبو جحيفة: "قام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بهما وجوههم، فأخذت بيده فوضعتهما على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك"رواه البخاري.
* وعن جابر بن سمرة: "مسح رسول الله خدي فوجدت ليده بردا أو ريحا كأنما أخرجها من جؤنة عطار"مسلم كان عرقه أطيب من ريح المسك، قال أنس: " كأن عرقه اللؤلؤ " مسلم.
* ويقول وائل بن حجر: " لقد كنت أصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يمس جلدي جلده، فأتعرقه بعد في يدي وإنه لأطيب رائحة من المسك". الطبراني والبيقهي.
- وجمعت أم سليم من عرق النبي صلى الله عليه وسلم فجعلته في طيبها.
- وعن أنس: " كان رسول الله صلى الله إذا مر في طريق من طرق المدينة وجد منه رائحة المسك فيقال: مر رسول الله ". أبو يعلى والبزار بإسناد صحيح.
- قال أنس: " ما شممت عنبرا قط، ولا مسكا، ولا شيئا أطيب من ريح رسول الله" رواه مسلم
- ساقاه بيضاء، تبرقان لمعانا.
- إبطه أبيض، من تعاهده نفسه بالنظافة والتجمل.
- إذا مشى يسرع، كأنما ينحدر من أعلى، لا يستطيع أحد أن يلحق به.
* * *
أما عن صفاته الخُلقية:
- فقد كان أجود الناس، أجود بالخير من الريح المرسلة.
- ما عرض عليه أمران إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما.
- أشد حياء من العذراء في خدرها.
- ما عاب طعاما قط؛ إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
- إذا تكلم تكلم ثلاثا، بتمهل، لا يسرع ولا يسترسل، لو عد العاد حديثه لأحصاه.
- لا يحب النميمة ويقول لأصحابه: " لا يبلغني أحد عن أحد شيئا، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".(2/1)
- أشجع الناس، وأحسنهم خلقا، قال أنس: "خدمت رسول الله عشر سنين، والله ما قال لي: أفا قط. ولا لشيء فعلته: لم فعلت كذا ؟، وهلا فعلت كذا؟". مسلم
- ما عاب شيئا قط.
- ما سئل شيئا فقال: "لا". يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
- يحلم على الجاهل، ويصبر على الأذى.
- يتبسم في وجه محدثه، ويأخذ بيده، ولا ينزعها قبله.
- يقبل على من يحدثه، حتى يظن أنه أحب الناس إليه.
- يسلم على الأطفال ويداعبهم.
- يجيب دعوة: الحر، والعبد، والأمة، والمسكين، ويعود المرضى.
- ما التقم أحد أذنه، يريد كلامه، فينحّي رأسه قبله.
- يبدأ من لقيه بالسلام.
- خير الناس لأهله يصبر عليهم، ويغض الطرف عن أخطائهم، ويعينهم في أمور البيت، يخصف نعله، ويخيط ثوبه.
- يأتيه الصغير، فيأخذ بيده يريد أن يحدثه في أمر، فيذهب معه حيث شاء.
- يجالس الفقراء.
- يجلس حيث انتهى به المجلس.
- يكره أن يقوم له أحد، كما ينهى عن الغلو في مدحه.
- وقاره عجب، لا يضحك إلا تبسما، ولا يتكلم إلا عند الحاجة، بكلام يعد يحوي جوامع الكلم، حسن السمت.
- إذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه.
- لم يكن فاحشا، ولا متفحشا، ولا سخابا، بالأسواق، ولا لعانا، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح.
- لا يقابل أحدا بشيء يكرهه، وإنما يقول: (ما بال أقوام ).
- لا يغضب ولا ينتقم لنفسه، إلا إذا انتهكت حرمات الله تعالى، فينتقم لله.
- ما ضرب بيمينه قط إلا في سبيل الله.
- لا تأخذه النشوة والكبر عن النصر:
* دخل في فتح مكة إلى الحرم خاشعا مستكينا، ذقنه يكاد يمس ظهر راحلته من الذلة لله تعالى والشكر له.. لم يدخل متكبرا، متجبرا، مفتخرا، شامتا.
* وقف أمامه رجل وهو يطوف بالبيت، فأخذته رعدة، وهو يظنه كملك من ملوك الأرض، فقال له رسول الله: "هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة ".
- كان زاهدا في الدنيا:
* يضطجع على الحصير، ويرضى باليسير، وسادته من أدم حشوها ليف.
* يمر الشهر وليس له طعام إلا التمر.. يتلوى من الجوع ما يجد ما يملأ بطنه، فما شبع ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى فارق الدنيا.
- كان رحيما بأمته، أعطاه الله دعوة مستجابة، فادخرها لأمته يوم القيامة شفاعة، قال:
* ( لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا ) [البخاري]؛ ولذا قال تعالى عنه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}
* * *
نحن اليوم في غاية الحاجة إلى تدارس سيرته، ولو مرة في الأسبوع:
نجلس في البيت مع الزوجة والأبناء.. نقرأ إحدى كتب السير المعتمدة مثل:
- تهذيب سيرة ابن هشام.
- البداية والنهاية لابن كثير.
- الشمائل المحمدية للترمذي.
- فقه السيرة للغزالي.
- السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري.
وغيرها.. لابد أن نحرص على مثل هذه الحلقات في بيوتنا، إن أردنا أن نتزكى ونربي أبناءنا وأزواجنا، فهذه من أحسن وسائل التربية، وهو السلاح الذي نواجه به الغثاء الذي يتصدر وسائل الإعلام:
- فبه نحفظ أبناءنا من الانسلاخ، والانسياق وراء زخارف: الكفر، والفسق، والشهوات.
- وبه نغرس في قلوبهم محبة رسول الله، والفخر به،
- والتعلق بسنته، وتقليده في العادات والعبادات.
فمن غير المعقول أن تكون سيرة هذا الرجل العظيم، الذي ما حفظ لنا القرآن والسنة والتاريخ سيرة إنسان، مثلما حفظ سيرته، بين أيدينا ثم نهمله وننصرف عنه!.
إن ذلك لغفلة معيبة..!!.
[مراجع: فتح الباري 6/544ـ 578، مسلم الفضائل، البداية والنهاية].
000000000000000000000000
(1) المقصود بهم هنا: الصحف الدنمركية. التي نالت من مقام النبي صلى الله عليه وسلم شخصه بالرسومات، تنقصا، وسخرية.
---------------
2.نبذة يسيرة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم
محمد بن إبراهيم التويجري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد اختلف بنو إسرائيل. وحرفوا وبدلوا في عقيدتهم وشريعتهم فانطمس الحق وظهر الباطل وانتشر الظلم والفساد واحتاجت الأمة إلى دين يحق الحق ويمحق الباطل ويهدي الناس إلى الصراط المستقيم فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} النحل/64.
أرسل الله جميع الأنبياء والرسل للدعوة إلى عبادة الله وحده، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور فأولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} النحل/36.
وآخر الأنبياء والرسل هو محمد صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده قال تعالى: {ما كان محمداً أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} الأحزاب/40.(2/2)
وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة كما قال سبحانه: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ًونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون} سبأ/28.
وقد أنزل الله على رسوله القرآن يهدي به الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد} إبراهيم/1.
وقد ولد الرسول محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي بمكة عام الفيل الذي جاء أصحابه لهدم الكعبة فأبادهم الله وتوفي أبوه وهو في بطن أمه ولما ولد محمد أرضعته حليمة السعدية ثم زار أخواله في المدينة مع أمه آمنة بنت وهب وفي طريق العودة إلى مكة توفيت أمه بالأبواء وعمره ست سنين ثم كفله جده عبد المطلب فمات وعمر محمد ثمان سنين ثم كفله عمه أبو طالب يرعاه ويكرمه ويدافع عنه أكثر من أربعين سنة وتوفي أبو طالب ولم يؤمن بدين محمد خشية أن تعيره قريش بترك دين آبائه.
وكان محمد في صغره يرعى الغنم لأهل مكة ثم سافر إلى الشام بتجارة لخديجة بنت خويلد وربحت التجارة وأعجبت خديجة بخلقه وصدقه وأمانته فتزوجها وعمره خمس وعشرون سنة وعمرها أربعون سنة ولم يتزوج عليها حتى ماتت.
وقد أنبت الله محمداً صلى الله عليه وسلم نباتاً حسناً وأدبه فأحسن تأديبه ورباه وعلمه حتى كان أحسن قومه خَلقاً وخُلقاً وأعظمهم مروءة وأوسعهم حلماً وأصدقهم حديثاً وأحفظهم أمانة حتى سماه قومه بالأمين.
ثم حُبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء الأيام والليالي يتعبد فيه ويدعو ربه وأبغض الأوثان والخمور والرذائل فلم يلتفت إليها في حياته.
ولما بلغ محمداً صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة شارك قريشاً في بناء الكعبة لما جرفتها السيول فلما تنازعوا في وضع الحجر الأسود حكموه في الأمر فدعا بثوب فوضع الحجر فيه ثم أمر رؤساء القبائل أن يأخذوا بأطرافه فرفعوه جميعاً ثم أخذه محمد فوضعه في مكانه وبنى عليه فرضي الجميع وانقطع النزاع.
وكان لأهل الجاهلية صفات حميدة كالكرم والوفاء والشجاعة وفيهم بقايا من دين إبراهيم كتعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة وإهداء البدن وإلى جانب هذا كانت لهم صفات وعادات ذميمة كالزنا، وشرب الخمور وأكل الربا وقتل البنات والظلم، وعبادة الأصنام.
وأول من غير دين إبراهيم ودعا إلى عبادة الأصنام عمرو بن لحي الخزاعي فقد جلب الأصنام إلى مكة وغيرها ودعا الناس إلى عبادتها ومنها ود، وسواع، ويغوث، ويعوق, ونسرا.
ثم اتخذ العرب أصناماً أخرى ومنها صنم مناة بقديد واللات بالطائف والعزى بوادي نخلة وهبل في جوف الكعبة وأصنام حول الكعبة وأصنام في بيوتهم واحتكم الناس إلى الكهان والعرافين والسحرة.
ولما انتشر الشرك والفساد بهذه الصورة بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون سنة يدعو الناس إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام فأنكرت عليه قريش ذلك وقالت: {أجعل الآلهة ألهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} ص/5.
وظلت هذه الأصنام تعبد من دون الله حتى بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالتوحيد فكسرها وهدمها هو وأصحابه رضوان الله عليهم فظهر الحق وزهق الباطل: {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً} الإسراء/81.
وأول ما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء الذي كان يتعبد فيه حيث جاءه جبريل فأمره أن يقرأ فقال الرسول ما أنا بقارئ فكرر عليه وفي الثالثة قال له: {اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم} العلق/1-2-3.
فرجع الرسول، وفؤاده يرجف، ودخل على زوجته خديجة ثم أخبرها وقال لقد خشيت على نفسي فطمأنته وقالت: (والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق) ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر فلما أخبره بشره وقال له هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى وأوصاه بالصبر إذا آذاه قومه وأخرجوه.
ثم فتر الوحي مدة فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم فبينما هو يمشي يوماً إذ رأى الملك مرة أخرى بين السماء والأرض فرجع إلى منزله وتدثر فأنزل الله عليه: (يا أيها المدثر، قم فأنذر) المدثر/1-2، ثم تتابع الوحي بعد ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم.
أقام النبي في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعوا إلى عبادة الله وحده سراً ثم جهراً حيث أمره الله أن يصدع بالحق فدعاهم بلين ولطف من غير قتال فأنذر عشيرته الأقربين ثم أنذر قومه ثم أنذر من حولهم ثم أنذر العرب قاطبة ثم أنذر العالمين. ثم قال سبحانه: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) الحجر/94.(2/3)
وقد آمن بالرسول قلة من الأغنياء والأشراف والضعفاء والفقراء والعبيد رجالاً ونساءً وأوذي الجميع في دينهم فعُذِّبَ بعضهم وقتل بعضهم، وهاجر بعضهم إلى الحبشة فراراً من أذى قريش وأوذي معهم الرسول صلى الله عليه وسلم فصبر حتى أظهر الله دينه.
ولما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم خمسين سنة ومضى عشر سنوات من بعثته مات عمه أبو طالب الذي كان يحميه من أذى قريش ثم ماتت من بعده زوجته خديجة التي كانت تؤنسه فاشتد عليه البلاء من قومه وتجرؤا عليه وآذوه بصنوف الأذى وهو صابر محتسب. صلوات الله وسلامه عليه.
ولما اشتد عليه البلاء وتجرأت عليه قريش خرج إلى الطائف ودعا أهلها إلى الإسلام فلم يجيبوه، بل آذوه ورموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، فرجع إلى مكة وظل يدعوا الناس إلى الإسلام في الحج وغيره.
ثم أسرى الله برسوله ليلا ًمن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكباً على البراق بصحبة جبريل، فنزل وصلى بالأنبياء ثم عرج به إلى السماء الدنيا فرأى فيها آدم، وأرواح السعداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن شماله ثم عرج به إلى السماء الثانية فرأى فيها عيسى ويحيى ثم إلى الثالثة فرأى فيها يوسف ثم إلى الرابعة فرأى فيها إدريس ثم إلى الخامسة فرأى فيها هارون ثم إلى السادسة فرأى فيها موسى ثم إلى السابعة فرأى فيها إبراهيم ثم رفع إلى سدرة المنتهى ثم كلمه ربه فأكرمه وفرض عليه وعلى أمته خمسين في اليوم والليلة ثم خففها إلى خمس في العمل وخمسين في الأجر واستقرت الصلاة خمس صلوات في اليوم والليلة إكراماً منه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى مكة قبل الصبح فقص عليهم ما جرى له فصدقه المؤمنون وكذبه الكافرون: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} الإسراء/1.
ثم هيأ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ينصره فالتقى في موسم الحج برهط من المدينة من الخزرج فأسلموا ثم رجعوا إلى المدينة، ونشروا فيها الإسلام فلما كان العام المقبل صاروا بضعة عشر فالتقى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم فلما انصرفوا بعث معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام فأسلم على يديه خلق كثير، منهم زعماء الأوس سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير.
فلما كان العام المقبل وجاء موسم الحج خرج منهم ما يزيد على سبعين رجلاً من الأوس والخزرج فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أن هجره وآذاه أهل مكة، فواعدهم الرسول في إحدى ليالي التشريق عند العقبة فلما مضى ثلث الليل خرجوا للميعاد فوجدوا الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس ولم يؤمن إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه فتكلم العباس، والرسول، والقوم بكلام حسن ثم بايعهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يهاجر إليهم في المدينة على أن يمنعوه، وينصروه ويدافعوا عنه، ولهم الجنة فبايعوه واحداً, واحدا ً, ثم انصرفوا ثم علمت بهم قريش فخرجوا في طلبهم، ولكن الله نجاهم منهم، وبقي الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة إلى حين: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} الحج/40.
ثم أمر الرسول أصحابه بالهجرة إلى المدينة فهاجروا أرسالاً إلا من حبسه المشركون ولم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله وأبو بكر وعلي فلما أحس المشركون بهجرة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة خافوا أن يلحق بهم فيشتد أمره فتآمروا على قتله فأخبر جبريل رسول الله بذلك فأمر الرسول علياً أن يبيت في فراشه، ويرد الودائع التي كانت عند الرسول صلى الله عليه وسلم لأهلها وبات المشركون عند باب الرسول ليقتلوه إذا خرج فخرج من بينهم وذهب إلى بيت أبي بكر بعد أن أنقذه الله من مكرهم وأنزل الله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} الأنفال/30.
ثم عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة إلى المدينة، فخرج هو وأبو بكر إلى غار ثور ومكثا فيه ثلاث ليال واستأجرا عبد الله بن أبي أريقط وكان مشركاً ليدلهما على الطريق، وسلماه راحلتيهما فذعرت قريش لما جرى وطلبتهما في كل مكان، ولكن الله حفظ رسوله فلما سكن الطلب عنهما، ارتحلا إلى المدينة فلما أيست منهما قريش بذلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما مائتين من الإبل فجد الناس في الطلب وفي الطريق إلى المدينة، علم بهما سراقة بن مالك وكان مشركاً فأرادهما فدعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فساخت قوائم فرسه في الأرض فعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ممنوع، وطلب من الرسول أن يدعوا له ولا يضره فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم، فرجع سراقة، ورد الناس عنهما ثم أسلم بعد فتح مكة.(2/4)
فلما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كبر المسلمون فرحاً بقدومه واستقبله الرجال والنساء والأطفال فرحين مستبشرين فنزل بقباء وبنى هو والمسلمون مسجد قباء وأقام بها بضع عشرة ليلة ثم ركب يوم الجمعة فصلاها في بني سالم بن عوف ثم ركب ناقته ودخل المدينة والناس محيطون به، آخذون بزمام ناقته لينزل عندهم، فيقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم دعوها فإنها مأمورة فسارت حتى بركت في موضع مسجده اليوم.
وهيأ الله لرسوله أن ينزل على أخواله قرب المسجد فسكن في منزل أبي أيوب الأنصاري، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتي بأهله وبناته وأهل أبي بكر من مكة فجاءوا بهم إلى المدينة.
ثم شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بناء مسجده في المكان الذي بركت فيه الناقة وجعل قبلته إلى بيت المقدس وجعل عمده الجذوع وسقفه الجريد ثم حولت القبلة إلى الكعبة بعد بضعة عشر شهراً من مقدمه المدينة.
ثم آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ووادع الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود وكتب بينه وبينهم كتاباً على السلم والدفاع عن المدينة وأسلم حبر اليهود عبد الله بن سلام وأبى عامة اليهود إلا الكفر وفي تلك السنة تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها.
وفي السنة الثانية شرع الأذان وصرف الله القبلة إلى الكعبة، وفرض صوم رمضان.
ولما استقر الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وأيده الله بنصره والتف المهاجرون والأنصار حوله واجتمعت القلوب عليه عند ذلك رماه المشركون، واليهود والمنافقون عن قوس واحدة فآذوه وافتروا عليه وبارزوه بالمحاربة والله يأمره بالصبر والعفو والصفح فلما اشتد ظلمهم وتفاقم شرهم، أذن الله للمسلمين بالقتال، فنزل قوله تعالى: {أذن للذين يُقاتِلون بأنهم ظُلموا وإنَّ الله على نصرهم لقدير} الحج/39.
ثم فرض الّله على المسلمين قتال من قاتلهم فقال: {وقاتلوا في سبيل الّله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الّله لا يحب المعتدين} البقرة/190.
ثم فرض الله عليهم قتال المشركين كافة فقال: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} التوبة/36.
فقام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله ورد كيد المعتدين ودفع الظلم عن المظلومين وأيده الله بنصره، حتى صار الدين كله لله فقاتل المشركين في بدر في السنة الثانية من الهجرة في رمضان فنصره الله عليهم وفرق جموعهم وفي السنة الثالثة غدر يهود بني قينقاع فقتلوا أحد المسلمين فأجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدينة إلى الشام ثم ثأرت قريش لقتلاها في بدر، فعسكرت حول أحد في شوال من السنة الثالثة ودارت المعركة وعصى الرماة أمر الرسول، فلم يتم النصر للمسلمين وانصرف المشركون إلى مكة ولم يدخلوا المدينة.
ثم غدر يهود بني النضير وهموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بإلقاء الحجر عليه فنجاه الله، ثم حاصرهم في السنة الرابعة وأجلاهم إلى خيبر.
وفي السنة الخامسة غزا الرسول صلى الله عليه وسلم بني المصطلق لرد عدوانهم، فانتصر عليهم وغنم الأموال والسبايا ثم سعى زعماء اليهود في تأليب الأحزاب على المسلمين للقضاء على الإسلام في عقر داره. فاجتمع حول المدينة المشركون والأحباش وغطفان اليهود ثم أحبط الله كيدهم ونصر رسوله والمؤمنين: {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً} الأحزاب/25.
ثم حاصر الرسول صلى الله عليه وسلم يهود بني قريظة لغدرهم، ونقضهم العهد فنصره الله عليهم فقتل الرجال وسبى الذرية وغنم الأموال.
وفي السنة السادسة عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على زيارة البيت والطواف به فصده المشركون عنه، فصالحهم في الحديبية على وقف القتال عشر سنين، يأمن فيها الناس ويختارون ما يريدون فدخل الناس في دين الله أفواجاً.
وفي السنة السابعة غزا الرسول خيبر للقضاء على زعماء اليهود الذين آذوا المسلمين، فحاصرهم ونصره الله عليهم وغنم الأموال والأرض وكاتب ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام.
وفي السنة الثامنة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً بقيادة زيد بن حارثه لتأديب المعتدين ولكن الروم جمعوا جيشاً عظيماً فقتلوا قواد المسلمين وأنجى الله بقية المسلمين من شرهم.
ثم غدر كفار مكة فنقضوا العهد فتوجه إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بجيش عظيم وفتح مكة، وطهر بيته العتيق من الأصنام، وولاية الكفار.
ثم كانت غزوة حنين في شوال من السنة الثامنة لرد عدوان ثقيف وهوازن فهزمهم الله وغنم المسلمون مغانم كثيرة ثم واصل الرسول صلى الله عليه وسلم مسيره إلى الطائف وحاصرها، ولم يأذن الله بفتحها فدعا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم وانصرف، فأسلموا فيما بعد ثم رجع ووزع الغنائم، ثم اعتمر هو وأصحابه ثم خرجوا إلى المدينة.(2/5)
وفي السنة التاسعة كانت غزوة تبوك في زمان عسرة وشدة وحر شديد فسار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك لرد كيد الروم فعسكر هناك، ولم يلق كيداً وصالح بعض القبائل، وغنم ثم رجع إلى المدينة وهذه آخر غزوة غزاها عليه الصلاة والسلام وجاءت في تلك السنة وفود القبائل تريد الدخول في الإسلام ومنها وفد تميم ووفد طيء ووفد عبد القيس، ووفد بني حنيفة وكلهم أسلموا ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يحج بالناس في تلك السنة وبعث معه علياً رضي الله عنه وأمره أن يقرأ على الناس سورة براءة للبراءة من المشركين وأمره أن ينادي في الناس فقال علي يوم النحر: {يا أيها الناس لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدته}.
وفي السنة العاشرة عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على الحج، ودعا الناس إلى ذلك فحج معه من المدينة وغيرها خلقٌ كثير فأحرم من ذي الحليفة، ووصل إلى مكة في ذي الحجة وطاف وسعى وعلم الناس مناسكهم وخطب الناس بعرفات خطبة عظيمة جامعة، قرر فيها الأحكام الإسلامية العادلة فقال: (أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، أيها الناس إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون، قالوا نشهد أنك قد بلَّغت، وأديت، ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد، اللهم اشهد ثلاث مرات).
ولما أكمل الله هذا الدين، وتقررت أصوله، نزل عليه وهو بعرفات: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} المائدة/3.
وتسمى هذه الحجة حجة الوداع لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ودع فيها الناس، ولم يحج بعدها ثم رجع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من حجه إلى المدينة.
وفي السنة الحادية عشرة في شهر صفر بدأ المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم ولما اشتد عليه الوجع أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يصلى بالناس وفي ربيع الأول، زاد عليه المرض فقبض صلوات الله وسلامه عليه ضحى يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة فحزن المسلمون لذلك حزناً شديداً ثم غُسل وصلى عليه المسلمون يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء ودفن في بيت عائشة والرسول قد مات ودينه باق إلى يوم القيامة.
ثم اختار المسلمون صاحبه في الغار ورفيقه في الهجرة أبا بكر رضي الله عنه خليفة لهم ثم تولى الخلافة من بعده عمر ثم عثمان ثم علي وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون المهديون رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد امتنّ الله على رسوله محمد بنعم عظيمة وأوصاه بالأخلاق الكريمة كما قال سبحانه: {ألم يجدك يتيماً فآوى، ووجدك ضالاً فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى، فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث} الضحى/6-11.
وقد أكرم الله رسوله بأخلاق عظيمة لم تجتمع لأحدٍٍ غيره حتى أثنى عليه ربه بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} القلم/4.
وبهذه الأخلاق الكريمة، والصفات الحميدة، استطاع عليه السلام أن يجمع النفوس ويؤلف القلوب بإذن ربه: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين} آل عمران/159.
وقد أرسل الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وأنزل عليه القرآن وأمره بالدعوة إلى الله كما قال سبحانه: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} الأحزاب/46.
وقد فضل الله رسوله محمداً على غيره من الأنبياء بست فضائل كما قال صلى الله عليه وسلم: ((فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الناس كافة، وختم بي النبيون)). رواه مسلم/523.
فيجب على جميع الناس الإيمان به، واتباع شرعه، ليدخلوا جنة ربهم: {ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم} النساء/13.(2/6)
وقد أثنى الله على من يؤمن بالرسول من أهل الكتاب وبشرهم بالأجر مرتين كما قال سبحانه: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين، أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون} القصص/52 -54. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران... إلخ)).
ومن لم يؤمن بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، والكافر جزاؤه النار كما قال سبحانه: {ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً} الفتح/13، وقال عليه الصلاة والسلام: ((والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النار)). رواه مسلم/154.
و الرسول صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم إلا ما علمه الله ولا يعلم الغيب ولا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً كما قال سبحانه: {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلاَّ نذير وبشير لقوم يؤمنون} الأعراف/188.
وقد أرسله الله بالإسلام ليظهره على الدين كله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً} الفتح/28.
ومهمة الرسول هي إبلاغ ما أرسل به، والهداية بيد الله: {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ} الشورى/48.
ولما للرسول صلى الله عليه وسلم من فضل عظيم على البشرية، بدعوتها إلى هذا الدين وإخراجها من الظلمات إلى النور، فقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمرنا بالصلاة عليه في حالات كثيرة فقال سبحانه: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} الأحزاب/21.
وقد جاهد النبي عليه الصلاة والسلام في سبيل نشر هذا الدين وجاهد أصحابه معه فعلينا الاقتداء به واتباع سنته والسير على هديه كما قال سبحانه: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} الأحزاب/21.
والإسلام دين الفطرة والعدل دين ارتضاه الله للناس كافة وهو يشتمل على أصول وفروع وآداب وأخلاق وعبادات ومعاملات ولن تسعد الأمة إلا باتباعه والعمل به ولن يقبل الله من الناس غيره كما قال سبحانه: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} آل عمران/85.
اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
من كتاب أصول الدين الإسلامي للشيخ محمد بن إبراهيم التويجر
---------------
3.من هو الكريم إذا عُدّ الكرماء؟؟
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
إذا أراد بعض الناس أن يضرب مثلا للكرم فإنه يذكر حاتم الطائي.
فيقول بعضهم: كرم حاتمي !!
أو أكرم من حاتم !!
وفي الشجاعة يُضرب المثل بعنتر أو بغيره من شُجعان العرب.
وفي الحِلم يُضرب المثل بالأحنف أو بخاله قيس بن عاصم.
وهكذا...
ولكن دعونا نرى:
من هو الكريم؟
ومن هو الشجاع؟
ومن هو الحليم؟
إن هذه الصفات وغيرها من كريم الخصال وحميد السجايا قد جمعها الله – عز وجل – لصفوة خلقه
جمعها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فلقد وُصِف – عليه الصلاة والسلام – بأنه يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
قال أنس – رضي الله عنه –:
ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلا أعطاه. قال: وجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يُعطي عطاء لا يخشى الفاقة. رواه مسلم.
وأعطى صفوان بن أمية يوم حُنين مائة من النعم، ثم مائة، ثم مائة. رواه مسلم.
فمن أعطى مثل هذا العطاء؟؟
ومن يستطيع مثل ذلك العطاء والسخاء والجود والكرم؟؟؟
بل مَن يُدانيه؟؟؟
إن من يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة لا يُمكن أن يُعطي مثل ذلك العطاء.
ولو أعطى مثل ذلك العطاء، فلديه الكثير
أما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيُعطي العطاء الجزيل، وربما بات طاوياً جائعاً.
فهذا الذي أخذ بمعاقد الكرم فانفرد به، وحاز قصب السبق فيه بل في كل خلق فاضل كريم
فلا أحد يقترب منه أو يُدانيه في ذلك كله.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الرِّيحِ المرسَلَة، وكان أجود ما يكون في رمضان. كما في الصحيحين من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما –.
وقَدِمَ عليه سبعون ألف درهم، فقام يَقْسمُها فما ردَّ سائلاً حتى فرغ منها صلى الله عليه وسلم. رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.(2/7)
وأخبر جبير بن مطعم أنه كان يسير هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مَقْفَلَهُ من حنين، فَعَلِقه الناس يسألونه حتى اضطروه إلى سمُرة، فخطفت رداءه، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعطوني ردائي. لو كان لي عدد هذه العِضَاه نَعَماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا. رواه البخاري.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم الشُّجاع الذي يتقدّم الشجعان إذا احمرّت الحَدَق، وادلهمّت الخطوب
أنت الشّجاع إذا الأبطال ذاهلة *** والهُنْدُوانيُّ في الأعناق والُّلمَمِ
قال البراء رضي الله عنه: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منّا للذي يحاذي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم
وقال عليّ رضي الله عنه: كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه. رواه أحمد وغيره.
أما البراء رضي الله عنه فهو الملقّب بالمَهْلَكَة، وأما عليٌّ رضي الله عنه فشجاعتُه أشهرُ من أن تُذْكَر.
ومع ذلك يتّقون برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
ومع ذلك كان الشجاع منهم الذي يُحاذي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال رجل للبراء بن عازب – رضي الله عنهما –: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ قال: لكن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يَفِر. متفق عليه.
وقال – رضي الله عنه –: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأشجع الناس، وأجود الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة، وهو يقول: لم تراعوا. لم تراعوا. قال: وجدناه بحراً، أو إنه لبحر. (يعني الفرس) متفق عليه.
كان صلى الله عليه وسلم حليم على مَنْ سَفِه عليه، أتته قريش بعد طول عناء وأذى، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
شَدّ أعربيٌّ بُردَه حتى أثّر في عاتقه، ثم أغلظ له القول بأن قال له: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك ! فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك ثم أمر له بعطاء. متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه.
هو مَنْ جمع خصال الخير وكريم الشمائل، وَصَفَه ربّه بأنه {بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
قال الحسن البصري في قوله عز وجل: {فبما رحمةٍ من الله لِنْتَ لهم} قال: هذا خُلُقُ محمد صلى الله عليه وسلم نَعَتَه الله عز وجل.
كان علي رضي الله عنه إذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان أجودَ الناس كفّاً، وأشرَحهم صدرا، وأصدق الناس لهجة، وألْيَنهم عريكة، وأكرمهم عِشرة، من رآه بديهةً هابَه، ومن خالطه معرفةً أحبَّه، يقول ناعِتُه: لم أرَ قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي في شُعب الإيمان.
تلك قَطْرِةٌ من بحرِ صفاتِه، وإشارةٌ لمن ألقى السَّمْعَ، وتذكِرةٌ للمُحِبّ.
فهذه أخلاقه فأين المحبُّون؟
هذه من أخلاقه عليه الصلاة والسلام فأين المقتدون؟
فهل أبقى لحاتم طي مِن كرم؟
وهل أبقى لعنتر من شجاعة؟
وهل أبقى لقيس مِن حِلم؟
صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
---------------
4.من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأكرمهم وأتقاهم، عن أنس رضي الله عنه قال" كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا" - الحديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي.
وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم) - رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.
قال تعالى مادحاً وواصفاً خُلق نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم {وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم 4].
قالت عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام، قالت: (كان خلقه القرآن) صحيح مسلم.
فهذه الكلمة العظيمة من عائشة رضي الله عنها ترشدنا إلى أن أخلاقه عليه الصلاة والسلام هي اتباع القرآن، وهي الاستقامة على ما في القرآن من أوامر ونواهي، وهي التخلق بالأخلاق التي مدحها القرآن العظيم وأثنى على أهلها والبعد عن كل خلق ذمه القرآن.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمراً ونهياً سجيةً له وخلقاً.... فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه، هذا ما جبله الله عليه من الخُلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خُلقٍ جميل.اهـ.(2/8)
عن عطاء رضي الله عنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا) رواه البخاري.
ما المقصود بحُسن الخلق؟
عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((البر حسن الخلق..)) رواه مسلم [رقم: 2553]
قال الشيخ ابن عثيمين في شرح الحديث السابع والعشرون في الأربعين النووية:
حسن الخلق أي حسن الخلق مع الله، وحسن الخلق مع عباد الله، فأما حسن الخلق مع الله فان تتلقي أحكامه الشرعية بالرضا والتسليم، وأن لا يكون في نفسك حرج منها ولا تضيق بها ذرعا، فإذا أمرك الله بالصلاة والزكاة والصيام وغيرها فإنك تقابل هذا بصدر منشرح.
أما حسن الخلق مع الناس فقد سبق أنه: كف الأذى والصبر على الأذى، وطلاقة الوجه وغيره.
على الرغم من حُسن خلقه حيث كان يدعو الله بأن يحسّن أخلاقه ويتعوذ من سوء الأخلاق عليه الصلاة والسلام.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم كما أحسنت خلقي فأحسن خلقي) رواه أحمد ورواته ثقات.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق)) رواه أبو داود والنسائي.
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله:
كان صلى الله خير الناس وخيرهم لأهله وخيرهم لأمته من طيب كلامه وحُسن معاشرة زوجته بالإكرام والاحترام، حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)) سنن الترمذي.
وكان من كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أهله وزوجه أنه كان يُحسن إليهم ويرأف بهم ويتلطّف إليهم ويتودّد إليهم، فكان يمازح أهله ويلاطفهم ويداعبهم، وكان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يرقّق اسم عائشة ـ رضي الله عنها ـ كأن يقول لها: (يا عائش)، ويقول لها: (يا حميراء) ويُكرمها بأن يناديها باسم أبيها بأن يقول لها: (يا ابنة الصديق) وما ذلك إلا تودداً وتقرباً وتلطفاً إليها واحتراماً وتقديراً لأهلها.
كان يعين أهله ويساعدهم في أمورهم ويكون في حاجتهم، وكانت عائشة تغتسل معه صلى الله عليه وسلم من إناءٍ واحد، فيقول لها: ((دعي لي))، وتقول له: دع لي. رواه مسلم.
وكان يُسَرِّبُ إلى عائشة بناتِ الأنصار يلعبن معها . وكان إذا هويت شيئاً لا محذورَ فيه تابعها عليه، وكانت إذا شربت من الإِناء أخذه، فوضع فمه في موضع فمها وشرب، وكان إذا تعرقت عَرقاً - وهو العَظْمُ الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتكئ في حَجِها، ويقرأ القرآن ورأسه في حَجرِها، وربما كانت حائضاً، وكان يأمرها وهي حائض فَتَتَّزِرُ ثم يُباشرها، وكان يقبلها وهو صائم، وكان من لطفه وحسن خُلُقه مع أهله أنه يمكِّنها من اللعب.
(عن الأسود قال:سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قال: كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة) رواه مسلم والترمذي.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم - رواه أحمد.
قال صلى الله عليه وسلم "إن من أعظم الأمور أجرًا النفقة على الأهل" رواه مسلم.
عن عائشة رضي الله عنها قالت "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: اقدموا فتقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا فتقدموا، ثم قال لي: تعالي أسابقك فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول هذا بتلك" رواه أحمد.
(وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم وضع ركبته لتضع عليها زوجه صفية رضي الله عنها رجلها حتى تركب على بعيرها) رواه البخاري.
ومن دلائل شدة احترامه وحبه لزوجته خديجة رضي الله عنها، إن كان ليذبح الشاة ثم يهديها إلى خلائلها (صديقاتها)، وذلك بعد مماتها وقد أقرت عائشة رضي الله عنها بأنها كانت تغير من هذا المسلك منه - رواه البخاري.
عدل النبي صلى الله عليه وسلم:
كان عدله صلى الله عليه وسلم وإقامته شرع الله تعالى ولو على أقرب الأقربين.
قال تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} (النساء:135)
كان يعدل بين نسائه صلى الله عليه وسلم ويتحمل ما قد يقع من بعضهن من غيرة كما كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ غيورة.(2/9)
فعن أم سلمة ـ رضي الله عنها أنها ـ أتت بطعامٍ في صحفةٍ لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة... ومعها فِهرٌ ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة وهو يقول: ((كلوا، غارت أُمكم)) مرتين. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أُم سلمة وأعطى صحفة أُم سلمة عائشة. رواه النسائي وصححه الألباني.
قال عليه الصلاة والسلام في قصة المرأة المخزومية التي سرقت: (( والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد , لقطعت يدها) ) .
كلام النبي صلى الله عليه وسلم:
كان إذا تكلم تكلم بكلام فَصْلٍ مبين، يعده العاد ليس بسريع لا يُحفظ، ولا بكلام منقطع لا يُدركُه السامع، بل هديه فيه أكمل الهديِّ،كما وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فصل يتحفظه من جلس إليه) متفق عليه.
وكان عليه الصلاة والسلام لا يتكلم فيما لا يَعنيه، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا كرِه الشيء : عُرِفَ في وجهه.
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال:
وعن انس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم - رواه البخاري واللفظ له ومسلم.
كان صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي فيسرع في الصلاة مخافة أن تفتتن أمه.
وكان صلى الله عليه وسلم يحمل ابنة ابنته وهو يصلي بالناس إذا قام حملها وإذا سجد وضعها وجاء الحسن والحسين وهما ابنا بنته وهو يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما حتى ووضعهما بين يديه ثم قال صدق الله ورسوله {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال:28) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما.
خلقه صلى الله عليه وسلم في معاملة الصبيان فإنه كان إذا مر بالصبيان سلم عليهم وهم صغار وكان يحمل ابنته أمامه وكان يحمل أبنه ابنته أمامه بنت زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس وكان ينزل من الخطبة ليحمل الحسن والحسين ويضعهما بين يديه.
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع الخدم:
ومع هذه الشجاعة العظيمة كان لطيفا رحيماً فلم يكن فاحشاً ولا متفحشا ولا صخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح.
عن أنس رضي الله عنه قال" خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال أف قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا" - رواه الشيخان وأبو داود و الترمذي.
عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما له ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله.
وفي رواية ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله - رواه مالك والشيخان وأبو داود.
عن عائشة رضي الله عنها قالت "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه وما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم".
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)
وعندما قيل له: ادع على المشركين قال صلى الله عليه وسلم: ((إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة)) - رواه مسلم.
قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم إنما أنا بشر، فأيُّ المسلمين سببته أو لعنته، فاجعلها له زكاة و أجراً)) رواه مسلم .
كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم من وليَ من أمرِ أمتي شيئاً، فشقَّ عليهم، فاشقُق عليه، و من ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفق بهم، فارفق به)).
قال صلى الله عليه وسلم: ((هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم)) رواه البخاري.
قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ..} (آل عمران:159)
وقال صلى الله عليه وسلم في فضل الرحمة: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) رواه الترمذي وصححه الألباني .
وقال صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة الذين أخبر عنهم بقوله: ((أهل الجنة ثلاثة وذكر منهم ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)) رواه مسلم.
عفو النبي صلى الله عليه وسلم:(2/10)
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقًا، فأرسلني يومًا لحاجة، فقلت له: والله لا أذهب. وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به صلى الله عليه وسلم، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال: ((يا أنس أذهبت حيث أمرتك؟)) قلت: نعم، أنا أذهب يا رسول الله – فذهبت) رواه مسلم وأبو داود.
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَه مَه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزرموه، دعوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن)) قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه. رواه مسلم
تواضعه صلى الله عليه وسلم:
وكان صلى الله عليه وسلم يجيب دعوتهم دعوة الحر والعبد والغني والفقير ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر.
وكان صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين، يتخلق ويتمثل بقوله تعالى: {تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ} [القصص: 83].
فكان أبعد الناس عن الكبر، كيف لا وهو الذي يقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله)) رواه البخاري.
كيف لا وهو الذي كان يقول صلى الله عليه وسلم: ((آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد)) رواه أبو يعلى وحسنه الألباني.
كيف لا وهو القائل بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم: ((لو أُهدي إليَّ كراعٌ لقبلتُ ولو دُعيت عليه لأجبت)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
كيف لا وهو الذي كان صلى الله عليه وسلم يحذر من الكبر أيما تحذير فقال: ((لا يدخل في الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر)) رواه مسلم
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه كان يجيب الدعوة ولو إلى خبز الشعير ويقبل الهدية.
عن أنس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب - رواه الترمذي في الشمائل.
[الإهالة السنخة: أي الدهن الجامد المتغير الريح من طوال المكث].
مجلسه صلى الله عليه وسلم:
كان يجلِس على الأرض، وعلى الحصير، والبِساط.
عن أنس رضي الله عنه قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده، ولا يصرف وجهه من وجهه حتى يكون الرجل هو يصرفه، ولم ير مقدمًا ركبتيه بين يدي جليس له" - رواه أبو داود والترمذي بلفظه.
عن أبي أمامة الباهلي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئًا على عصا، فقمنا إليه، فقال لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضًا - رواه أبو داود أبن ماجة وإسناده حسن.
زهده صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة خيره الله تعالى بين أن يكون ملكا نبيا أو يكون عبدا نبيا فاختار أن يكون عبدا نبيا.
كان ينامُ على الفراش تارة، وعلى النِّطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة بين رِمَالهِ، وتارة على كِساء أسود .
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير مزمول بالشريط وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف ودخل عمر وناس من الصحابة فانحرف النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عمر أثر الشريط في جنبه فبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر قال: ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى فقال يا عمر: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة قال: بلى قال: هو كذلك).
وكان من زهده صلى الله عليه وسلم وقلة ما بيده أن النار لا توقد في بيته في الثلاثة أهلة في شهرين .
عن عروة رضي الله عنه قال: عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تقول: والله يا ابن أختي كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهله في شهرين ما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قلت: يا خالة فما كان عيشكم؟ قالت: الأسودان ـ التمر والماء ـ) متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءاً، وكان أكثر خبزهم الشعير) رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
عبادته:
كان عليه الصلاة والسلام أعبد الناس، و من كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه كان عبداً لله شكوراً.(2/11)
فإن من تمام كريم الأخلاق هو التأدب مع الله رب العالمين وذلك بأن يعرف العبد حقّ ربه سبحانه وتعالى عليه فيسعى لتأدية ما أوجب الله عز وجل عليه من الفرائض ثم يتمم ذلك بما يسّر الله تعالى له من النوافل، وكلما بلغ العبد درجةً مرتفعةً عاليةً في العلم والفضل والتقى كلما عرف حق الله تعالى عليه فسارع إلى تأديته والتقرب إليه عز وجل بالنوافل.
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العالمين في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه أن الله تعالى قال: ((... وما يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه...)) رواه البخاري.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يعرف حق ربه عز وجل عليه وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر على الرغم من ذلك كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ ويسجد فيدعو ويسبح ويدعو ويثني على الله تبارك وتعالى ويخشع لله عز وجل حتى يُسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل.
فعن عبدالله بن الشخير ـ رضي الله عنه ـ قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء) رواه أبو داود وصححه الألباني.
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) رواه البخاري.
وكان من تمثله صلى الله عليه وسلم للقرآن أنه يذكر الله تعالى كثيراً، قال عز وجل: {....وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب 35].
وقال تعالى: {... فَاذْكُرُونِيَ أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة 152].
ومن تخلقه صلى الله عليه وسلم بأخلاق القرآن وآدابه تنفيذاً لأمر ربه عز وجل أنه كان يحب ذكر الله ويأمر به ويحث عليه، قال صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقول سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس)) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، مثل الحي والميت)) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله)) أخرجه الطبراني بسندٍ حسن.
كان عليه الصلاة والسلام أكثر الناس دعاءً، وكان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ((اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)) متفق عليه.
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته: ((اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل)) رواه النسائي وصححه الألباني.
دعوته:
كانت دعوته عليه الصلاة والسلام شملت جميع الخلق، كان رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أكثر رسل الله دعوة وبلاغًا وجهادًا، لذا كان أكثرهم إيذاءً وابتلاءً، منذ بزوغ فجر دعوته إلى أن لحق بربه جل وعلا .
وقد ذكر كتاب زاد المعاد حيث قال أن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام كانت على مراتب:
المرتبة الأولى : النبوة . الثانية : إنذار عشيرته الأقربين . الثالثة : إنذار قومه . الرابعة : إنذار قومٍ ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة . الخامسة : إنذارُ جميع مَنْ بلغته دعوته من الجن والإِنس إلى آخر الدّهر .
وقد قال الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
وهذا أيضا من أخلاقه عليه الصلاة والسلام، ومن أخلاق أهل العلم جميعا، أهل العلم والبصيرة أهل العلم والإيمان أهل العلم والتقوى.
ومن ذلك شفقته بمن يخطئ أو من يخالف الحق وكان يُحسن إليه ويعلمه بأحسن أسلوب، بألطف عبارة وأحسن إشارة، من ذلك لما جاءه الفتى يستأذنه في الزنى.(2/12)
فعن أبي أُمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: إن فتىً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه فقال له: ((ادنه))، فدنا منه قريباً، قال: ((أتحبّه لأمّك؟)) قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم)) قال: ((أفتحبه لابنتك؟)) قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: ((ولا الناس جميعاً يحبونه لبناتهم)) قال: ((أفتحبه لأختك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ((ولا الناس جميعاً يحبونه لأخواتهم)). قال: ((أفتحبه لعمتك؟)) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ((ولا الناس جميعاً يحبونه لعماتهم)). قال: ((أفتحبه لخالتك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ((ولا الناس جميعاً يحبونه لخالاتهم)) قال: فوضع يده عليه، وقال: ((اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصّن فرجه)) فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. رواه أحمد.
وقد انتهج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في دعوته ولطيف أسلوبه للناس كلهم حتى شملت الكافرين، فكان من سبب ذلك أن أسلم ودخل في دين الله تعالى أفواجٌ من الناس بالمعاملة الحسنة والأسلوب الأمثل، كان يتمثل في ذلك صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: {ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...} [ النحل:12].
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أُسيء إليه يدفع بالتي هي أحسن يتمثل ويتخلق بقوله تعالى: {... ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقّاهَا إِلاّ الّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقّاهَآ إِلاّ ذُو حَظّ عَظِيم} [فصلت 34-35].
مزاح النبي صلى الله عليه وسلم:
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يمازح العجوز، فقد سألته امرأة عجوز قالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا أُم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز)) فولت تبكي، فقال: ((أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: {إِنّآ أَنشَأْنَاهُنّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً})) [ الواقعة 35 – 37 ] رواه الترمذي في الشمائل وحسنه الألباني.
وكان جُلُّ ضحكه التبسم، بل كلُّه التبسم، فكان نهايةُ ضحكِه أن تبدوَ نواجِذُه .
كرم النبي صلى الله عليه وسلم:
من كرمه صلى الله عليه وسلم أنه جاءه رجل يطلب البردة التي هي عليه فأعطاه إياها صلى الله عليه وسلم
صبر النبي صلى الله عليه وسلم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبر على الأذى فيما يتعلق بحق نفسه وأما إذا كان لله تعالى فإنه يمتثل فيه أمر الله من الشدة.. وهذه الشدة مع الكفار والمنتهكين لحدود الله خير رادع لهم وفيها تحقيق للأمن والأمان..
قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} الفتح:29
ومن صبر النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه عندما اشتد الأذى به جاءه ملك الجبال يقول: يا محمد إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا، والأخشبان: جبلا مكة أبو قبيس وقعيقعان.
فقد أخرج ابن سعد عن أنس رضي الله عنه قال: رأيت إبراهيم وهو يجود بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون)).
تعاون النبي صلى الله عليه وسلم:
قال عليه الصلاة والسلام : ((مَنْ اسْتطاع منكم أَنْ يَنْفَعَ أَخاه فَلْيَنْفَعْه) ) .
عن ابن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي له حاجته. رواه النسائي والحاكم.
نصيحة لنفسي ولأخوتي:
قال تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً *ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً} [سورة النساء:69-70].
وقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} [سورة الأحزاب:21].
فأكمل المؤمنين إيماناً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأعظمهم اتباعا، له وأسعدهم بالاجتماع – معه: المتخلقون بأخلاقه المتمسكون بسنته وهديه، قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)).
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من خياركم أحسنكم خلقا)).(2/13)
قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن؛ وإن الله يبغض الفاحش البذيء)). وفي رواية: ((وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لأهله)). وفي رواية: ((لنسائهم)). وروي عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقا)).
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن هذه الأخلاق من الله تعالى؛ فمن أراد الله به خيراً منحه خلقا حسنا)). وروي عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد)).
00000000000000
بعض المصادر:
* مجموع فتاوى ومقالات_الجزء الرابع – للشيخ ابن باز رحمه الله
http://www.binbaz.org.sa/default.asp
* موقع الشيخ ابن عثيمين رحمه الله
http://www.ibnothaimeen.com
شرح الشيخ للحديث: السابع والعشرون – الأربع النووية
كتاب: زاد المعاد
---------------
5.ملخص لمائة خصلة انفرد بها صلى الله عليه وسلم عن بقية الأنبياء السابقين عليهم السلام
للدكتور /خليل إبراهيم ملا خاطر
أستاذ مشارك في المعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة النبوية
لخصها إبراهيم الحدادي
ما أكرمه الله تعالى به لذاته في الدنيا:
1. أخذ الله له العهد على جميع الأنبياء، صلى الله عليه وسلم.
2. كان عند أهل الكتاب علم تام به صلى الله عليه وسلم.
3. كان نبيا وآدم منجدل في طينته صلى الله عليه وسلم.
4. هو أول المسلمين صلى الله عليه وسلم.
5. هو خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
6. هو نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.
7. هو أولى بالأنبياء من أممهم صلى الله عليه وسلم.
8. هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم صلى الله عليه وسلم.
9. كونه منة يمتن الله بها على عباده.
10. كونه خيرة الخلق، وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
11. طاعته ومبايعته هي عين طاعة الله ومبايعته.
12. الإيمان به مقرون بالإيمان بالله تعالى.
13. هو رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم.
14. هو أمنة لأمته صلى الله عليه وسلم.
15. عموم رسالته صلى الله عليه وسلم.
16. تكفل المولى بحفظه وعصمته صلى الله عليه وسلم.
17. التكفل بحفظ دينه صلى الله عليه وسلم.
18. القسم بحياته صلى الله عليه وسلم.
19. القسم ببلده صلى الله عليه وسلم.
20. القسم له صلى الله عليه وسلم.
21. لم يناده باسمه صلى الله عليه وسلم.
22. ذكر في أول من ذكر من الأنبياء.
23. النهي عن مناداته باسمه صلى الله عليه وسلم.
24. لا يرفع صوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم.
25. تقديم الصدقة بين يدي مناجاتهم له ( ثم نسخ ذلك ).
26. جعله الله نورا صلى الله عليه وسلم.
27. فرض بعض شرعه في السماء صلى الله عليه وسلم.
28. تولى الإجابة عنه صلى الله عليه وسلم.
29. استمرار الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم.
30. الإسراء والمعراج به صلى الله عليه وسلم.
31. معجزاته صلى الله عليه وسلم.
32. غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر صلى الله عليه وسلم.
33. تأخير دعوته المستجابة ليوم القيامة صلى الله عليه وسلم.
34. أعطي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
35. أعطي مفاتيح خزائن الأرض صلى الله عليه وسلم.
36. إسلام قرينه من الجن صلى الله عليه وسلم.
37. نصره بالرعب مسيرة شهر صلى الله عليه وسلم.
38. شهادة الله وملائكته له صلى الله عليه وسلم.
39. إمامته بالأنبياء في بيت المقدس صلى الله عليه وسلم.
40. قرنه خير قرون بني آدم صلى الله عليه وسلم.
41. ما بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة صلى الله عليه وسلم.
42. أعطي انشقاق القمر صلى الله عليه وسلم.
43. يرى من وراء ظهره صلى الله عليه وسلم.
44. رؤيته في المنام حق صلى الله عليه وسلم.
45. عرض الأنبياء مع أممهم عليه صلى الله عليه وسلم.
46. جعل خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم.
47. اطلاعه على المغيبات صلى الله عليه وسلم.
ما أكرمه الله تعالى به في الآخرة:
48- وصفه بالشهادة صلى الله عليه وسلم.
49- ما أعطي من الشفاعات صلى الله عليه وسلم.
50- هو أول من يبعث صلى الله عليه وسلم.
51-هو إمام الأنبياء وخطيبهم صلى الله عليه وسلم.
52- كل الأنبياء تحت لوائه صلى الله عليه وسلم.
53- هو أول من يجوز على الصراط صلى الله عليه وسلم.
54- هو أول من يقرع باب الجنة صلى الله عليه وسلم.
55- هو أول من يدخل الجنة صلى الله عليه وسلم.
56-إعطاؤه الوسيلة والفضيلة صلى الله عليه وسلم.( الوسيلة : اعلى منزلة في الجنة ).
57-إعطاؤه المقام المحمود صلى الله عليه وسلم.( وهي الشفاعة العظمى ).
58- إعطاؤه الكوثر صلى الله عليه وسلم.( وهو نهر في الجنة ).
59- إعطاؤه لواء الحمد صلى الله عليه وسلم.
60-يكون له كرسي عن يمين العرش صلى الله عليه وسلم.
61-هو أكثر الأنبياء تبعا صلى الله عليه وسلم.
62- هو سيد الأولين والآخرين يوم القيامة صلى الله عليه وسلم.(2/14)
63- هو أول شافع ومشفع صلى الله عليه وسلم.
64- هو مبشر الناس يوم يفزع إليه الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
65- ما يوحى إليه في سجوده تحت العرش مما لم يفتح على غيره من قبل ومن بعد صلى الله عليه وسلم.
66- منبره على حوضه صلى الله عليه وسلم.
ما أكرمه الله به في أمته في الدنيا:
67- جعلت خير الأمم.
68- سماهم الله تعالى المسلمين، وخصهم بالإسلام.
69- أكمل الله لها الدين، وأتم عليها النعمة.
70- ما حطه الله لها عنها من الاصر والاغلال.
71- صلاة المسيح خلف إمام المسلمين.
72- أحلت لها الغنائم.
73- جعلت صفوفها كصفوف الملائكة.
74- التيمم والصلاة على الأرض.
75- خصهم بيوم الجمعة.
76- خصهم بساعة الإجابة يوم الجمعة.
77- خصهم بليلة القدر.
78- هذه الأمة هي شهداء الله في الأرض.
79- مثلها في الكتب السابقة ( ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ).
80- لن تهلك بجوع، ولا يسلط عليها عدو من غيرها فيستأصلها.
81- خصت بصلاة العشاء.
82- تؤمن بجميع الأنبياء.
83- حفظها من التنقص في حق ربها عز وجل.
84- لا تزال طائفة منها على الحق منصورة.
ما أكرمه الله تعالى به في أمته في الآخرة:
85- هي شاهدة للأنبياء على أممهم.
86- هي أول من يجتاز الصراط.
87- هي أول من يدخل الجنة،وهي محرمة على الناس حتى تدخلها.
88- انفرادها بدخول الباب الأيمن من الجنة.
89- سيفديها بغير من الأمم.
90- تأتي غرا محجلين من آثار الوضوء.
91- هي أكثر أهل الجنة.
92- سيرضي الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها.
93- زيادة الثواب مع قلة العمل.
94- كلها تدخل الجنة إلا من أبى بمعصيته لله ورسوله للحديث الذي رواه البخاري.
95- كثرة الشفاعات في أمته.
96- تمني الكفار لو كانوا مسلمين.
97- هم الآخرون في الدنيا السابقون يوم القيامة.
98- دخول العدد الكثير منها الجنة بغير حساب.
99- لها علامة تعرف بها ربها عز وجل وهو الساق.
100- فيها سادات أهل الجنة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المرجع كتاب /تذكير المسلمين باتباع سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم
المؤلف /عبد الله بن جار الله
---------------
6.محمد خاتم المرسلين
د. عبد المعطي الدالاتي
هل أشرح العنوان؟!..
أخاف على إشراقه أن يُمَس!.. وأغار على جماله أن يُنتقَص!..
وأعترف أني – في نفسي – قد حاولت، واستنجد ت بمفردات اللغة فما نجحت، فيا حيرة القلم، ويا عجمة البيان!
وإذا ما عجزت عن بلوغ النجم في ذ راه، فلن أعجز عن الإشارة إلى النجم في سُراه، ورُبَّ كلمة يبارك الله بها فنقرأ فيها فحوى كتاب، وكم بارك الله بالسطور التي لا تُرى!
أخي الذي تقرأ معي هذه الكلمات: ألست معي في أنّ من عرف محمداً، عرف كل خير وحق وجمال؟ وظفر بكون معنوي كامل قائم بهذا الإنسان الأعظم؟
ومن شك فليدرس حياته كلها – أقول كلها – بقلب منصف، وعقل مفتوح، فلن يبصر فيها إلا ما تهوى العلا، ولن يجد فيها إلا كرا ئم ا لمعا ني، وطهر ا لسيرة والسريرة.
أرأيت العطر!! ألا يغنيك استنشاقه في لحظة عن وصفه في كتاب!؟
فإنك ما إن تقرأ كلامه حتى يتصل بك تيار الروح العظيمة التي أودَعت بعض عظمتها في أحاديثها، فإذا بالقلب يزكو، والنفس تطيب، وإذا بأنوار النبوة تمحو عن النفس حجاب الظلمات!
هكذا يخترق كلام النبوة حُجب النفس بعد أن اخترق حجب الزمان.
محظوظون أولئك الذين استطاعوا الرقي إلى عالم النبي، لأنهم سيشعرون في فضاءات عظمته أنهم عظماء، فالحياة في ظلال الرسول حياة … وإذا كانت حياة الجسم في الروح، فإن حياة الروح في سنة و سيرة وحياة الحبيب المصطفى …
لا يمكن الإحاطة بجوانب عظمة النبي محمد إلا إذا أمكن الإحاطة بجميع أطواء الكون، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عالَماً في فرد، فكان بهذا فرداً في العالم..
النبوة إشراق سماوي على الإنسانية، ليقوّمها في سيرها، ويجذبها نحو الكمال..
والنبي من الأنبياء هو الإنسان الكامل الذي يبعثه الله تعالى لتهتدي به خُطا العقل الإنساني في التاريخ..
لقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام النور الذي أشرق في تاريخ الإنسان، ففيهم تحس صدق النور، وسر الروعة، ولطف الجمال الظاهر والباطن …
في طهر سيرتهم، ونقاء سريرتهم، وعطر أفكارهم، ويقظة أفئد تهم، وفي كل حركاتهم وسكَناتهم تلمس إعجاز النبوة العجيب.. أ ليس الله قد اصطنعهم على عينه، واختارهم ليبلغوا رسالته؟!
لقد كان الأنبياء هم البدء، ولا بد للبدء من تكملة، والتكملة بدأت في يوم حراء، غرّة أيام الدهر، ففيه تنزلت أنوار الوحي على من استحق بزّة الخاتمية فكان خاتم الأنبياء، ومن ذا يستحق أن يُختم به الوحي الإلهي غير الصادق الأمين؟!(2/15)
الصادق الذي ما كذب مرة قط، لا على نفسه، ولا على الناس، ولا على ربه … ومن منا يستطيع أن يكون صادقاً في أقواله وأفعاله ومشاعره ومواقفه مدى الحياة؟! اللهم لا يطيق هذا سوى الأنبياء … والأمين الذي كان أميناً في كل شيء وكان قبل كل شيء أميناً على عقول الناس، وأفكار الناس.
كسفت الشمس يوم توفي ولده إبراهيم، فقالوا: "كُسفت الشمس لموت إبراهيم" لم يستغل رسول الإنسانية الأمين ضعف الناس فيتخذ من هذه الحادثة الاستثنائية دليلاً على صدق نبوته.. فنبوته حق، والحق قوي بذاته، والطبيعة لا تتدخل في أحزان الإنسان، فجاء البيان النبوي الصادق:" إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تكسفان لموت أحد" وهيهات أن يقبل الرسول لأصحابه أن يكون الجهل سبباً للإيمان …
لم يشغله حزنه الكبير على وفاة طفله الصغير، عن تصحيح مفهوم خاطئ عند الناس.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أميناً في تبليغ الرسالة كلها، فلم يُخف من القرآن المنزل عليه آية، ولو لم يكن نبياً لما وجد نا في القرآن سورة (مريم) و(آل عمران).. لو لم يكن نبياً لكتم آياتٍ كثيرةً من مثل هذه الآية الكريمة: {وإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلى نِسَاء الْعَالَمِينَ}. "على نساء العالمين"! هكذا بهذا الإطلاق الذي رفع السيدة مريم إلى أعلى الآفاق! أي صدق؟! وأية دلالة على مصدر هذا القرآن وصدق النبي الأمين؟! ولو لم يكن رسولاً من الله ما أظهر هذا القول في هذا المجال بحال..
إن نبوّة محمد هي نبوّة صدق وأمانة وإيمان، إنها نبوة تدعو إلى فهم ووعي وهداية، هداية بالتفكر والتأمل والنظر، فالتفكير يوجب الإسلام والإسلام يوجب التفكير … فلا يُخشى على الإسلام من حرية الفكر، بل يخشى عليه من اعتقال الفكر.
إنها نبوة مبشرة منذرة {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
لا إغراء في هذه النبوة ولا مساومة {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}، وإن من لا يُصدق هذه ا لنبوة فلن يصدق أي خبر عن الإيمان أو الوجود، ومن لا ينتفع بعقله وضميره للإيمان بهذه النبوة فلن تنفعه كل المعجزات.
لقد كان القرآن معجزة الإسلام الأولى، وكان الرسول بذاته وأخلاقه وسيرته وانتشار دعوته معجزة الإسلام الثانية، وحُقّ للنفس التي تجمعت فيها نهايات الفضيلة الإنسانية العليا أن تكون معجزة الإنسانية الخالدة.
يقول أستاذ الفلسفة راما راو: (إن إلقاء نظرة على شخصية محمد تسمح لنا بالاطلاع على عدد كبير من المشاهد: فهناك محمد الرسول، ومحمد المجاهد، ومحمد الحاكم، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملجأ الأيتام، ومحمد محرر العبيد، ومحمد حامي المرأة، ومحمد القاضي، ومحمد العابد لله.. كل هذه الأدوار الرائعة تجعل منه أسوة للإنسانية)..
ويقول الزيات: "لما بُعث الرسول الكريم بَعث الحرية من قبرها، وأطلق العقول من أسرها، وجعل التنافس في ا لخير، والتعاون على البر، ثم وصل بين القلوب بالمؤاخاة، وعدل بين الحقوق بالمساواة.. حتى شعر الضعيف أن جند الله قوّته، والفقير أن بيت المال ثروته!! والوحيد أن المؤمنين جميعاً إخوته..".
" من كتاب ربحت محمدا ولم أخسر المسيح "
---------------
7.ماذا يُحب الحبيب؟
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
أكمل خلق الله هو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام.
فماذا كان صلى الله عليه وسلم يُحب؟
لنحاول التعرّف على بعض ما يُحب لنحبّ ما أحب صلى الله عليه وسلم.
قال أنس رضي الله عنه: إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام، فقرّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزاً ومرقا فيه دباء وقديد، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة. قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ. رواه البخاري ومسلم.
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيباً أحب الطِّيب والجنس اللطيف.
قال عليه الصلاة والسلام: حُبب إليّ من الدنيا النساء والطيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة. رواه الإمام أحمد والنسائي.
وحُبه صلى الله عليه وسلم للطيب معروف حتى إنه لا يردّ الطيب.
وكان لا يرد الطيب، كما قاله أنس، والحديث في صحيح البخاري.
وكان يتطيّب لإحرامه، وإذا حلّ من إحرامه، كما حكته عنه عائشة رضي الله عنها، والحديث في الصحيحين.
قالت عائشة رضي الله عنها: كنت أطيب النبي صلى الله عليه وسلم عند إحرامه بأطيب ما أجد. رواه البخاري.
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طيباً أحب الطيّبات والطيبين.
سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة فقيل: من الرجال؟ فقال: أبوها. قيل: ثم من؟ قال: عمر بن الخطاب، فعدّ رجالا.(2/16)
فما كره الطيب أو النساء إلا منكوس الفطرة !
وما على العنبر الفوّاح من حرج = أن مات من شمِّه الزبّال والجُعلُ !!
وأحب صلى الله عليه وسلم الصلاة، حتى إنه ليجد فيها راحة نفسه، وقرّة عينه.
فقد كان عليه الصلاة والسلام يقول لبلال: يا بلال أرحنا بالصلاة. رواه الإمام أحمد وأبو داود.
بل إن الكفار علموا بهذا الشعور فقالوا يوم قابلوا جيش النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد. رواه مسلم.
وشُرعت يومها صلاة الخوف.
فهذا الشعور بمحبة الصلاة علِم به حتى الكفار !
ومن أحب شيئا أكثر من ذِكره، وعُرِف به.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواء والعسل. رواه البخاري ومسلم.
وكان صلى الله عليه وسلم يحب الزبد والتمر. رواه أبو داود.
وما هذه إلا أمثلة لا يُراد بها الحصر.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه:
هل نجد الشعور الذي وجده أنس بن مالك رضي الله عنه الذي أحب ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعاً لمحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه.
---------------
8.صلى الله عليه وسلم
سلمان بن فهد العودة
لم يكتب لأحدٍ من البشر من الأثر والخلود والعظمة ما كتب لصاحب النسب الشريف - صلى الله عليه وسلم-.
ولقد دونت في سيرته الكتب، ودبجت في مديحه القصائد، وعمرت بذكره المجالس، وبقيت عظمته قمة سامقة لا تطالها الظنون.
تقلبت به صروف الحياة من قوة وضعف، وغنى وفقر، وكثرة وقلة، ونصر وهزيمة، وظعن وإقامة، وجوع وشبع، وحزن وسرور، فكان قدوة في ذلك كله، وحقق عبودية الموقف لربه كما ينبغي له.
ظل في مكة ثلاث عشرة سنة، وما آمن معه إلا قليل، فما تذمّر ولا ضجر، وجاءه أصحابه يشتكون إليه ويسألونه الدعاء والاستنصار فحلف على نصر الدين وتمام الأمر، وأنكر عليهم أنهم يستعجلون، فكان الأمر كما وعد، علماً من أعلام نبوته، ونصراً لأمر الله، لا للأشخاص.
وكان من نصره أن تأتيه وفود العرب من كل ناحية مبايعة على الإسلام والطاعة فما تغير ولا تكبّر، ولا انتصر لنفسه من قوم حاربوه وآذوه وعاندوا دينه.
كما كان يقول أبو سفيان بن الحارث:
لعمرك إني يوم أحمل راية *** لتغلب خيل اللات خيل محمدِ
لكالمدلج الحيران أظلم ليله *** فهذا أواني حين أهدى وأهتدي
هداني هادٍ غير نفسي ودلني *** على الله من طردته كل مطرد
وما حملت من ناقة فوق ظهرها *** أبر وأوفى ذمة من محمد
فاستل العداوات، ومحا السخائم، وألّف القلوب، وأعاد اللُّحمة، وعرف عدوُّه قبل صديقه أنها النبوة، وأنه لم يكن صاحب طموح شخصي ولا باني مجد ذاتي، وإن كان الطموح والمجد لبعض جنوده.
تعجب من عفويته وقلة تكلفه في سائر أمره، واحتفاظ شخصيته بهدوئها وطبيعتها وتوازنها مهما تقلبت عليها الأحوال، واختلفت عليها الطرائق.
قل إنسان إلا وله طبعه الخاص الذي يبين في بعض الحال ويستتر في بعض، ويترتب عليه استرواح لقوم دون آخرين، ويحكم العديد من مواقفه وتصرفاته حاشاه -صلى الله عليه وسلم-.
فهو يُقْبِل بوجهه على كل جليس، ويخاطب كل قوم بلغتهم، ويحدثهم بما يعرفون، ويعاملهم بغاية اللطف والرحمة والإشفاق، إلا أن يكونوا محاربين حملوا السلاح في وجه الحق، وأجلبوا لإطفاء نوره وحجب ضيائه.
كل طعام تيسر من الحلال فهو طعامه، وكل فراش أتيح فهو وطاؤه، وكل فرد أقبل فهو جليسه.
ما تكلف مفقوداً، ولا رد موجوداً، ولا عاب طعاماً، ولا تجنب شيئاً قط لطيبه، لا طعاماً ولا شراباً ولا فراشاً ولا كساءً، بل كان يحب الطيب، ولكن لا يتكلفه.
سيرته صفحة مكشوفة يعرفها محبوه وشانئوه، ولقد نقل لنا الرواة دقيق وصف بدنه، وقسمات وجهه، وصفة شعره، وكم شيبة في رأسه ولحيته، وطريقة حديثه، وحركة يده، كما نقلوا تفصيل شأنه في مأكله، ومشربه، ومركبه، وسفره، وإقامته، وعبادته، ورضاه، وغضبه، حتى دخلوا في ذكر حاله مع أزواجه أمهات المؤمنين في المعاشرة، والغسل، والقسم، والنفقة، والمداعبة، والمغاضبة، والجد، والمزاح، وفصلوا في خصوصيات الحياة وضروراتها.
ولعمر الله إن القارئ لسيرته اليوم ليعرف من تفصيل أمره ما لا يعرفه الناس عن متبوعيهم من الأحياء، ومالا يعرفه الصديق عن صديقه، ولا الزوج عن زوجه، ولا كان أهل الكتاب يعرفونه شيئاً يقاربه أو يدانيه عن أنبيائهم وهم أحياء ؛ وذلك لتكون سيرته موضع القدوة والأسوة في كل الأحوال، ولكل الناس.
فالرئيس والمدير والعالم والتاجر والزوج والأب والمعلم والغني والفقير...
كلهم يجدون في سيرته الهداية التامة على تنوع أحوالهم وتفاوت طرائقهم.
والفرد الواحد لا يخرج عن محل القدوة به -صلى الله عليه وسلم- مهما تقلبت به الحال، ومهما ركب من الأطوار، فهو القدوة والأسوة في ذلك كله.(2/17)
وإنك لتقرأ سيرة علم من الأعلام فتندهش من جوانب العظمة في شخصيته فإذا تأملت صلاحيتها للأسوة علمت أنها تصلح لهذا العلم في صفته وطبعه وتكوينه، ولكنها قد لا تصلح لغيره.
ولقد يرى الإنسان في أحوال السالفين من الجلد على العبادة، أو على العلم، أو على الزهد ما يشعر أنه أبعد ما يكون عن تحقيقه حتى يقول لنفسه:
لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ
فإذا قرأ سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحس بقرب التناول وسهولة المأخذ، وواقعية الاتباع.
حتى لقد وقع من بعض أصحابه ما وقع فقال لهم: ((أنا أخشاكم لله، وأتقاكم له، وأعلمكم بما أتقى)).
وقال: ((اكلفوا من العمل ما تطيقون)).
وقال: ((إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا)).
ولهذا كان خير ما يربى عليه السالكون مدارسة سيرته وهديه وتقليب النظر فيها وإدمان مطالعتها واستحضار معناها وسرها، وأخذها بكليتها دون اجتزاء أو اعتساف.
إن الله -عز وتعالى- لم يجعل لأحد وراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا المنصب الشريف: منصب القدوة والأسوة ؛ لأنه جمع هدى السابقين الذين أمر أن يقتدي بهم " فبهداهم اقتده " إلى ما خصه الله -تعالى- وخيَّره به من صفات الكمال ونعوت الجمال، ولهذا قال -سبحانه-: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}.
إن حياته -صلى الله عليه وسلم- وحياة خلفائه الراشدين هي المذكرة التفسيرية والترجمة العلمية لنصوص الشريعة.
ومن الخير أن تظل هذه السيرة بواقعيتها وصدقها محفوظة من تزيد الرواة، ومبالغات النقلة التي ربما حولتها إلى ملحمة أسطورية تعتمد على الخوارق والمعجزات، وبهذا يتخفف الناس من مقاربتها واتباعها ليكتفوا بقراءتها مع هزِّ الرؤوس وسكب الدموع وقشعريرة البدن.
إن الآيات التي تأتي مع الأنبياء حق، لكنها الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، والقاعدة هي الجريان مع السنن الكونية كما هي.
وكثيرون من المسلمين، وربما من خاصتهم يستهويهم التأسي بالأحوال العملية الظاهرة في السلوك والعبادة وغيرها، فيقتدون به -صلى الله عليه وسلم- في صلاته: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، وحجّه ((خذوا عني مناسككم)) وسنن اللباس والدخول والخروج …
وهذا جزء من الاتباع المشروع، بيد أنه ليس كله، ولا أهم ما فيه، فإن اتباع الهدي النبوي في المعاملة مع الله تعالى، والتجرد والإخلاص، ومراقبة النفس، وتحقيق المعاني المشروعة من الحب والخوف والرجاء أولى بالعناية وأحق بالرعاية، وإن كان ميدان التنافس في هذا ضعيفاً ؛ لأن الناس يتنافسون –عادة- فيما يكون مكسبة للحمد والثناء من الأمور الظاهرة التي يراها الناس، ولا يجدون الشيء ذاته في الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلا الله، وربما تحرى امرؤ صفة نبوية في عبادة أو عمل واعتنى بها وتكلف تمثلها فوق المشروع، دون أن يكلف نفسه عناء التأمل في سر هذه الصفة وحكمتها وأثرها في النفس.
وهذه المسائل، حتى التعبدية منها ؛ ما شرعت إلا لمنافع الناس ومصالحهم العاجلة والآجلة، وليست قيمتها في ذاتها فحسب، بل في الأثر الذي ينتج عنها فيراه صاحبه ويراه الآخرون.
وإنه لخليق بكل مسلم أن يجعل له ورداً من سيرة المصطفى -عليه السلام-، إن كان ناشئاً فمثل (بطل الأبطال) لعزام، وإن كان شاباً فمثل (الشمائل المحمدية) لابن كثير أو الترمذي، و (الفصول) لابن كثير، أو (مختصر السيرة) أو (الرحيق المختوم) أو (تهذيب سيرة ابن هشام) وإن كان شيخاً فمثل (سيرة ابن هشام) أو (ابن كثير) وإن كان متضلعاً بالمطولات فمثل (سبل الهدى والرشاد) وكتاب (نضرة النعيم).
رزقنا الله حب نبيه وحسن اتباعه ظاهراً وباطناً وحشرنا في زمرته مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
---------------
9.خصائص النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم
ماجد المبارك
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم عبده ورسوله أما بعد.
فموضوعي هذا عن خصائص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذلك أن معرفة ما يتعلق به واجب علينا وأن نعرف له حقه وأن نعرف له منزلته وقدره. وذلك كله داخل في إيماننا بنبينا محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم.
فخصائصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم هي ما اختصه الله عز وجل بها وفضله على سائر الأنبياء والمرسلين والخلق. ومعرفة هذه الخصائص تزيدنا في معرفة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتجعلنا نحبه ويزداد إيماننا به فنزداد له تبجيلاً ونزداد له شوقا. ومن خصائصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم منها:(2/18)
ما اختص بها في ذاته في الدنيا. ومنها ما اختص بها في ذاته في الآخرة.
ومنها ما اختصت به أمته في الدنيا ومنها ما اختصت به أمته في الآخرة.
قال تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً} [النساء: 113] وقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} [البقرة: 253].
التفضيل الأول صريح في المفاضلة، والثاني في تضعيف المفاضلة بدرجات وقد فضل الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم من وجوه. ومن هذه الخصائص خصيصة عجيبة وهي:
1- أن الله عز وجل أخذ الميثاق على جميع الأنبياء والمرسلين من آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام أنه إذا ظهر النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عهده وبعث أن يؤمن به ويتبعه ولا تمنعه نبوته أن يتابع نبينا محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم. وكل نبي أخذ العهد والميثاق على أمته أنه لو بعث محمد بن عبدالله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يتابعوه ولا يتابعوا نبيهم. والدليل قال الله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} [آل عمران: 81].
2- أنه ساد الكل، قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) [رواه ابن حبان] والسيّدُ من اتصف بالصفات العليّة، والأخلاق السنيّة. وهذا مشعرّ بأنه أفضل منهم في الدارين، أمّا في الدنيا فلما اتصف به من الأخلاق العظيمة. وأمّا في الآخرة فلأن الجزاء مرتبُ على الأخلاق والأوصاف، فإذا كان أفضلهم في الدنيا في المناقب والصفات، كان أفضلهم في الآخرة في المراتب والدرجات. وإنما قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) ليخبر أمتُه عن منزلته من ربه عزّ وجل، ولّما كان ذكر مناقب النفس إنما تذكر افتخاراً في الغالب، أراد صلى الله عليه وسلم أن يقطع وهم من توهم من الجهلة أن يذكر ذلك افتخاراً قال: ((ولا فخر)).
3- ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر)).
4- ومنها أن الله تعالى أخبره بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال الله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} الآيه [الفتح: 1، 2]. ولم ينقل أنه أخبر أحداً من الأنبياء بمثل ذلك، بل الظاهر أنه لم يخبرهم، لأن كل واحد منهم إذا طُلبَتْ منهم الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصابها وقال: ((نفسي نفسي)) ولو علم كل واحد منهم بغفران خطيئته لم يُوْجل منها في ذلك المقام، وإذا استشفعت الخلائق بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام قال: ((أنا لها)).
5- ومنها إيثاره صلى الله عليه وسلم على نفسه، إذ جعل لكل نبي دعوة مستجابة، فكل منهم تعجل دعوته في الدنيا، واختبأ هو صلى الله عليه وسلم دعوته شفاعة لأمته.
6- ومنها أن الله تعالى أقسم بحياته صلى الله عليه وسلم فقال: ((لعمرك إنهم في سكرتهم يعمهون)) [الحجر: 72]. والإقسام بحياة المقسم بحياته يدل على شرف حياته وعزتها عند المقُسم بها ن وأن حياته صلى الله عليه وسلم لجديرة أن يقسم بها من البركة العامة والخاصة، ولم يثبت هذا لغيره صلى الله عليه وسلم.
7- ومنها أن الله تعالى وقره ففي ندائه، فناداه بأحب أسمائه واسني أوصافه فقال: {يا أيها النبي} [الأنفال: 64، 65، 70 ومواضع أخرى]، {يا أيها الرسول} [المائدة: 41، 67] وهذه الخصيصة لم تثبت لغيره، بل ثبت أن كلاً منهم نودي باسمه، فقال تعالي: {يا آدم اسكن} [البقرة: 35]، {يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك} [المائدة: 110]، {يا موسى إني أنا الله} [القصص: 30]، {يا نوح اهبط بسلام} [هود: 48]، {يا داود إنا جعلناك خليفة ً في الأرض} [ص: 29] {يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا} [الصافات: 105]، {يا لوط أنا رُ سُلُ ربك} [هود: 81]، {يا زكريا إنا نبشرك} [مريم: 7]، {يا يحيى خذ الكتاب} [مريم: 12] ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دَعى أحد عبيده بأفضل ما وجد يهم من الأوصاف العليّة والأخلاق السنيّة، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام لا يُشعر بوصف من الأوصاف، ولا بخلق من الأخلاق، أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم. وهذا معلومٌ بالعرف أن من دُعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كل ذلك مبالغة في تعظيمه واحترامه.
8- ومنها أن معجزة كل نبي تصرمت وانقرضت، ومعجزة سيد الأولين والآخرين وهي القرآن العظيم باقية إلى يوم الدين.
9- ومنها تسليم الحجر عليه وحنين الجذع إليه ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك.(2/19)
10- ومنها أنه وجد في معجزاته ما هو أظهر ففي الإعجاز من معجزات غيره، كتفجير الماء من بين أصابعه فإنه أبلغ في خرق العادة من تفجيره من الحجر، لأن جنس الأحجار مما يتفجر منه الماء، وكانت معجزته بانفجار الماء من بين أصابعه أبلغ من انفجار الحجر لموسى عليه السلام.
11 - ومنها أن الله تعالى يكتب لكل نبي من الأنبياء من الأجر بقدر أعمال أمته وأحوالها وأقوالها، وأمتُه شطر أهل الجنة، وقد أخبر الله تعالى أن أمته خير أمة أخرجت للناس وإنما كانوا خير الأمم لما اتصفوا به من المعارف.
12- ومنها أن الله أرسل كل نبي إلى قومه خاصة وأرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس ولكل نبي من الأنبياء ثواب تبليغه إلى أمته، ولنبينا صلى الله عليه وسلم ثواب التبليغ إلى كل من أرسل إليه، تارة لمباشرة الإبلاغ، وتارة بالنسبة إليه ولذلك تمنن عليه بقوله تعالى: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً} [الفرقان: 51]، ووجه التمنن: أنه لو بعث في كل قرية نذيراً لما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أجر إنذاره لأهل قريته.
13- ومنها أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام بالطور، وبالوادي المقدس، وكلم نبينا صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى.
14- ومنها أنه قال: ((نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق، ونحن أول من يدخل الجنة)) [أخرجه مسلم].
15- ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يرغب إليه الخلق كلهم يوم القيامة، حتى إبراهيم.
16- ومنها أنه قال: ((الوسيلة منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله تعالى، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة)) [أخرجه مسلم].
17- ومنها أنه يدخل من أمته إلى الجنة سبعون ألفا بغير حساب، ولم يثبت ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم.
18- ومنها: الكوثر الذي أعطيه ففي الجنة، والحوض الذي أعطيه في الموقف.
19- ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((نحن الآخرون السابقون)) الآخرون زماناً، السابقون بالمناقب والفضائل.
20- ومنها أنه أحلت له الغنائم ولم تحل لأحد قبله. وجعلت صفوف أمته كصفوف الملائكة، وجعلت له الأرض مسجداً، وترابها طهوراً. وهذه الخصائص تدل على علو مرتبته، والرفق بأمته.
21- ومنها أن الله تعالى أثنى على خلقه فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4]، واستعظام العظماء للشيء يدل على إيغاله في العظمة، فما الظن باستعظام أعظم العظماء؟.
22- ومنها أن الله تعالى كلمه بأنواع الوحي وهي ثلاثة أحدها: الرؤيا الصادقة. والثاني: الكلام من غير واسطة. والثالث: مع جبريل صلى الله عليه وسلم. وزاد الألباني النفث في الروع.
23- ومنها أن كتابة صلى الله عليه وسلم مشتمل على ما اشتمل عليه التوراة والإنجيل والزبور، وفضل بالمفصل.
24- ومنها أن أمته أقل عملاً ممن قبلهم، وأكثر أجراً كما جاء في الحديث الصحيح
25- ومنها أن الله عز وجل عرض عليه مفاتيح كنوز الأرض وخيرة أن يكون ملكاً أو نياً عبداً، فاستشار جبريل عليه السلام. فأشار إليه أن تواضع.
26- ومنها أن الله تعالى أرسله (رحمة ً للعالمين)، فأمهل عصاه أمته ولم يعاجلهم إبقاء عليهم، بخلاف من تقدمه من الأنبياء إنهم لما كذبوا عُوجل مكذبهم.
وأما أخلاقه صلى الله عليه وسلم في حلمه وعفوه وصفحه وصبره وشكره ولينه في الله، وانه لم يغضب لنفسه، وأنه جاء بإتمام مكارم الأخلاق، وما نقل من خشوعه وخضوعه وتبتله وتواضعه ففي مأكله، وملبسة، ومشربه، ومسكنه ن وجميل عشرته، وكريم خليقته، وحسن سجيته، ونصحه لأمته وحرصه على إيمان عشيرته، وقيامه بأعباء رسالته في نصرة دين الله، وإعلاء كلمته، وما لقيه من أذى قومه وغيرهم في وطنه وغربته بعض هذه المناقب موجودة في كتاب الله وكتب شمائله. ومنها كتاب الشمائل للترمذي.
27- أما لينه ففي قوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159].
28- وأما شدته على الكافرين، ورحمته على المؤمنين ففي قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29].
29- وأما حرصه على إيمان أمته، ورأفته بالمؤمنين، وشفقته على الكافة ففي قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عندتم حريص عليكم} [التوبة: 128] أني يُشق عليه ما يشق عليكم، {حريص عليكم}، أي إيمانكم {بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
30- وأما نصحه في أداء رسالته ففي قوله تعالى: {فتول عنهم فما أنت بملوم} [الذاريات: 54] أي فما أنت بملوم لأنك بلغتهم فأبرأت ذمتك.
31- ومنها أن الله تعالى أمته منزل العدول من الحكام، فإن الله تعالى إذا حكم بين العباد فجحدت الأمم بتبليغ الرسالة أحضر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون على الناس بأن رسلهم أبلغتهم وهذه الخصيصة لم تثبت لأحد من الأنبياء.
32- ومثلها عصمة أمته بأنها لا تجتمع على ضلالة في فرع ولا في أصل.(2/20)
33- ومثلها حفظ كتابه، قل لو اجتمع والآخرون على أن يزيدوا فيه كلمة، أو ينقصوا منه لعجزوا عن ذلك، ولا يخفى ما وقع من التبديل في التوراة والإنجيل.
34- ومنها أنه بعث بجوامع الكلم، واختصر له الحديث اختصاراً وفاق العرب في فصاحته وبلاغته.
كما قال عليه الصلاة والسلام: ((أعطيت فواتح الكلم، وجوامعه وخواتمه)) [في الصحيحين].
هذا ما يسره الله لي من جمع لبعض خصائص أفضل المخلوقين ونسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا لإتباع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سننه وطريقته وجميع أخلاقه الظاهرة والباطنة وأن يجعلنا من حزبه وأنصاره ومن أهل حوضه. إن الله على كل شيء قدير و بالإجابة جدير ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
* * *
المراجع:
الخاصية الأولى من شريط الشيخ محمد بن صالح المنجد في شريط بعنوان خصائص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بقية الخصائص فهي من كتاب [بداية السول في تفضيل الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم] للعلامة [العز بن عبدالسلام ـ رحمه الله] تحقيق حجة الحديث [محمد بن ناصر الدين الألباني ـ رحمه الله].
---------------
10.حريص عليكم...
عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
وصفه ربُّه بذلك:
فقال: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}
هذا من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن.
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} يشق عليه ما يشقّ عليكم، وما يُسبب لكم العَنت، وهو الحرج والمشقّة.
{حَرِيصٌ عَلَيْكُم}
وسبب ذلك الحرص رحمته بالمؤمنين ورأفته بهم.
وقد جاء في وصفه صلى الله عليه وسلم:
{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}
ولعلي أستعرض شيئا من حرصه عليه الصلاة والسلام على أمته.
فمن صور حرصه صلى الله عليه وسلم:
حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته يوم القيامة:
قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض – ثم ذكر مجيئهم إلى الأنبياء – فقال: فيأتونني فأقول أنا لها، فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول: يا رب أمتي أمتي...))الحديث. رواه البخاري ومسلم.
ودعوى الأنبياء يومئذٍ: (اللهم سلّم سلّم).
قال أبو عبدالرحمن السلمي – في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.
قال – رحمه الله –:
انظر هل وصف الله عز وجل أحدا من عباده بهذا الوصف من الشفقة والرحمة التي وصف بها حبيبه صلى الله عليه وسلم؟ ألا تراه في القيامة إذا اشتغل الناس بأنفسهم كيف يدع نفسه ويقول: أمتي أمتي. يرجع إلى الشفقة عليهم. اهـ.
حرصه على هداية أمته:
قال عليه الصلاة والسلام لما تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} وقول عيسى عليه السلام: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فرفع يديه وقال: ((اللهم أمتي أمتي)) وبكى، فقال الله عز وجل: ((يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم، فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)). رواه مسلم.
حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الناس أجمع:
كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار. رواه البخاري.
مع أنه غلام يهودي، ولم يعد خادما للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه الحرص على هداية الخلق.
حرصه صلى الله عليه وسلم على عدم المشقّة عليهم في التكاليف:
في الصلاة:
لما فُرضت الصلاة على أمته خمسين صلاة، استشار موسى عليه الصلاة والسلام، فقال موسى: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم.
فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُراجع ربّه حتى خفف الله عن هذه الأمة فصارت خمس صلوات.
ولما أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل وحتى نام أهل المسجد ثم خرج فصلى فقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي. رواه مسلم(2/21)
ولما صلى في رمضان، وصلى رجال بصلاته، ترك القيام في الليلة الثالثة أو الرابعة، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها. متفق عليه.
في الحج:
لما قال عليه الصلاة والسلام: ((أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا))، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم)) ثم قال: ((ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه)). رواه مسلم.
في السنن:
قال صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة)). رواه البخاري ومسلم.
شفقته بنساء أمته:
قال عليه الصلاة والسلام: ((إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي، فأتجوّز في صلاتي كراهية أن أشق على أمِّه)). رواه البخاري.
حرصه على مراعاة نفسيات أصحابه:
قال عليه الصلاة والسلام: ((لولا أن أشق على المؤمنين ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني، ولا تطيب أنفسهم أن يقعدوا بعدي)). رواه البخاري ومسلم.
حرصه صلى الله عليه وسلم على شباب أمته:
حدّث مالك بن الحويرث رضي الله عنه فقال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رقيقا - فظن أنا قد اشتقنا أهلنا، فسألنا عن من تركنا من أهلنا، فأخبرناه، فقال: ((ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم)). متفق عليه.
فاللهم صلِّ وسلّم وزد وأنعم على عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبيّاً عن أمته.
اللهم احشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه، واسقنا من يده الشريفة.
---------------
11.{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر}
عبدالله البصري
أما بَعدُ، فأُوصِيكُم ـ أيها الناسُ ـ ونفسي بتقوى اللهِ ـ جل وعلا ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجعَل لَّكُم نُورًا تَمشُونَ بِهِ وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
أيها المسلمون، ومِن فَضلِ اللهِ ـ جل وعلا ـ ورحمتِهِ بِعِبادِهِ، أَنْ بَعَثَ إِلَيهِم رُسُلَهُ يخُرجِونهم مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} وكان تمامُ هذِهِ النِّعمَةِ وكَمَالهَا، وتَاجَهَا وَوِسَامَ فَخرِها، خَاتمَ الأَنبِيَاءِ وَأَشرَفَ المُرسَلِينَ، وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ مِنَ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، نَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا محمدًا ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ، الذي امتنَّ اللهُ عَلَينَا بِبِعثَتِهِ، وَأَنعَمَ عَلَينَا بِرِسَالَتِهِ، قال ـ سبحانَه ـ: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِم يَتْلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُم رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} وقال ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ: ((إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنبِيَاءِ مِن قَبلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بنى بَيتًا فَأَحسَنَهُ وَأَجمَلَهُ، إِلا مَوضِعَ لَبِنَةٍ مِن زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطوفُونَ بِهِ وَيَعجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلاَّ وَضَعْتَ هذِهِ اللَّبِنَةَ)) قال: ((فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنا خَاتمُ النَّبِيِّينَ)).(2/22)
نَعَمْ ـ أيها المسلمون ـ لقد بَعَثَ اللهُ محمدًا ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ والناسُ في جاهليةٍ جَهلاءَ، يَتِيهُونَ في الضَّلالِ وَالشَّقَاءِ، يَعبُدُونَ الأَصنَامَ ويَستَقسِمُونَ بِالأَزلامِ، قَدِ استَحَلُّوا المَيسِرَ وَالرِّبا، وَعَاقَرُوا الخَمرَ وَالزِّنا، يَئِدُونَ البَنَاتَ وَلا يُوَرِّثُونَ الزَّوجَاتِ، فَفَتَحَ اللهُ بِبِعثَتِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ أَعُينًا عُميًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلفًا، وَهَدَى بِهِ مِنَ العَمَى وَبَصَّرَ بِهِ مِنَ الضَّلالَةِ، فَأَشرَقَتِ الأَرضُ بِنُورِ رَبِّها وَصَلَحَت حَالُها، وَعَرَفَ النَّبيَّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ وَاتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِهِ، مَن أَنَارَ اللهُ بَصِيرَتَهُ وَوَفَّقَهُ وَشَرَحَ صَدرَهُ، بل حتى البَهَائِمُ وَالعَجمَاوَاتُ وَالجَمَادَاتُ، أَقَرَّت بِخَيرِ البرِيَّةِ واعترفت بأزكى البَشَرِيَّةِ، فَهَابَتْهُ وَوَقَّرَتْهُ وَتَأَدَّبَتْ لَه، وَسَلَّمَتْ عَلَيهِ وَحَنَّتْ إِلَيهِ، وَخَضَعَتْ لَه وَبَكَتْ بَينَ يَدَيهِ، وَانقَادَت لَه وَأَطَاعَت أَمرَهُ.
فَعَن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال: أَقبَلْنَا مَعَ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ حتى دَفَعْنَا إلى حائِطٍ في بني النَّجَّارِ، فَإِذَا فِيهِ جملٌ لا يَدخُلُ الحائِطَ أَحَدٌ إِلا شَدَّ عَلَيهِ، فَذَكَرُوا ذلك للنبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ فَأَتَاهُ فَدَعَاهُ، فَجَاءَ وَاضِعًا مِشفَرَهُ عَلَى الأَرضِ حتى بَرَكَ بَينَ يَدَيهِ، فقال: هاتُوا خِطَامًا، فَخَطَمَهُ وَدَفَعَهُ إلى صَاحبِهِ، ثم التَفَتَ فقال: ((ما بَينَ السَّمَاءِ إِلى الأَرضِ أَحَدٌ إِلا يَعلَمُ أَني رَسولُ اللهِ، إِلا عاصِي الجِنِّ وَالإِنسِ)).
وعن عبدِ اللهِ بنِ جعفرٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال: أَردَفَني رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ خَلفَهُ ذَاتَ يَومٍ، فَأَسَرَّ إِليَّ حَدِيثًا لا أُحَدِّثُ بِهِ أَحدًا مِنَ النَّاسِ، وَكانَ أَحَبُّ ما استَتَرَ بِهِ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَو حَائِشَ نخلٍ، قال: فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنصَارِ، فَإِذَا جملٌ، فَلَمَّا رَأَى النبيَّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَينَاهُ، فَأَتَاهُ النبيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتْ، فقال: ((مَن رَبُّ هذا الجمَلِ؟ لِمَن هذا الجملُ؟)) فجاء فتىً مِنَ الأَنصَارِ، فقال: لي يا رَسولَ اللهِ، فقال: ((أَفلا تَتَّقِي اللهَ في هذِهِ البَهِيمَةِ التي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَا إِليَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ)).
وعن عائشةَ ـ رضي اللهُ عنها ـ قالت: كان لآلِ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ وَحْشٌ، فَإِذَا خَرَجَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ لَعِبَ وَاشتَدَّ وَأَقبَلَ وَأَدبَرَ، فَإِذَا أَحَسَّ بِرَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ قَد دَخَلَ رَبَضَ، فَلَم يَتَرَمْرَمْ مَا دَامَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ في البيتِ كَرَاهِيَةَ أَن يُؤْذِيَهُ.
وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال: سِرْنا مَعَ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ حتى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفيَحَ. فَذَهَبَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ يَقضِي حَاجَتَهُ، فَاتَّبَعْتُهُ بِأَدَاوَةٍ مِن مَاءٍ. فَنَظَرَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ فَلَم يَرَ شَيئًا يَستَتِرُ بِهِ. فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الوَادِي. فَانطَلَقَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ إِلى إِحدَاهما، فَأَخَذَ بِغُصنٍ مِن أَغصَانِها. فقال: ((انقَادِي عَلَيَّ بِإِذنِ اللهِ)) فَانقَادَت مَعَهُ كَالبَعِيرِ المَخشُوشِ الذي يُصَانِعُ قَائِدَهُ، حتى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخرَى، فَأَخَذَ بِغُصنٍ مِن أَغصَانِها، فقال: ((انقَادِي عَلَيَّ بِإِذنِ اللهِ)) فَانقَادَت مَعَهُ كذلك. حتى إِذَا كان بِالمَنصَفِ ممَّا بَينَهُمَا، لأَمَ بَينَهُمَا (يَعني جمعَهُمَا) فقال: ((اِلتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذنِ اللهِ)) فَالتَأَمَتَا. قال جابرٌ: فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ (أَيْ أَعدُو وَأَسعَى سَعيًا شَدِيدًا) مَخَافَةَ أَن يُحِسَّ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ بِقُربي فَيَبتَعِدَ، فَجَلَستُ أُحَدِّثُ نَفسِي، فَحَانَت مِنِّي لَفتَةٌ، فَإِذَا أَنا بِرَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ مُقبِلا، وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدِ افتَرَقَتَا، فَقَامَت كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنهُمَا عَلَى سَاقٍ".(2/23)