مصادر موضوع أهل الصفة
القرآن الكريم.
أحمد بن حنبل: (ت 240هـ) المسند، 6 مجلدات (بدون محل وتاريخ الطبع).
البخاري: محمد بن إسماعيل (ت 256هـ) الصحيح 9 أجزاء في ثلاثة مجلدات، مطبوعات محمد علي صبيح، مصر (بدون تاريخ).
ابن أبي حاتم: أبو عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ) كتاب الجرح التعديل، 7 مجلدات، ط1، مطبعة دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن - الهند (1952-1956م).
حاجي خليفة: مصطفى بن عبد الله (ت 1068هـ) كشف الظنون، مجلدان، تحقيق محمد شرف الدين يالتقايا ورفعت بيلكة الكيلسي المطبعة البهية، استانبول - 1360هـ (1941م).
خليفة بن خياط: (ت 240هـ) التاريخ، تحقيق أكرم ضياء العمري، مطبعة الآداب، النجف (1967م).
أبو داود السجستاني: سليمان بن الأشعث (ت 275هـ) السنن، مجلدان، ط1، بعناية أحمد سعد علي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر- (1371هـ) (1952م).
ابن سعد: محمد (ت 230هـ) الطبقات الكبرى، 8 أجزاء نشر دار بيروت ودار صادر – بيروت (1958م).
السلمي: أبو عبد الرحمن محمد الحسين السلمي النيسابوري (ت 412هـ) طبقات الصوفية، تحقيق نور الدين شريبة.
السمهودي: علي بن عبد الله بن شهاب الدين الحسيني الشافعي (ت 1011هـ) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، مجلدان، مطبعة الآداب والمؤيد، مصر 1326هـ.
ابن سيد الناس: أبو الفتح محمد بن محمد بن عبد الله (ت 734هـ) عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، جزآن، نشر مكتبة القدسي، القاهرة (بدون تاريخ).
الطبري: محمد بن جرير (ت 310هـ) تفسير الطبري، تحقيق محمود محمد شاكر، مطبعة دار المعارف، مصر.
ابن كثير: عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774هـ) تفسير القرآن العظيم، 4 أجزاء، طبع بدار إحياء الكتب العربية بمصر.
ابن ماجة: أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت 275هـ) السنن، مجلدان، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية بمصر، 1953م.(1/1)
مسلم بن الحجاج القشيري: (ت 261هـ) الصحيح، 5 مجلدات، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، ط1، دار إحياء الكتب العربية مصر 1374- 1375هـ.
ابن منظور: جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم بن على (ت 711هـ) لسان العرب، 20 مجلداً، المطبعة الميرية ببولاق، مصر - 1300-1307هـ.
النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن على بن شعيب (ت 303هـ) السنن، 8 أجزاء في أربعة مجلدات، نشر المكتبة التجارية، القاهرة.
أبو نعيم: أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430هـ) حلية الأولياء، 10 مجلدات، ط1، مطبعة السعادة، مصر 1351-1357هـ.
ياقوت: أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي (622هـ) معجم البلدان، 6 مجلدات، تحقيق وستنفلد، لايبزك 1866-1870م.
المراجع الحديثة
أكرم العمري: بحوث في تاريخ السنة المشرفة، مطبعة الإرشاد، بغداد 1967م.
ريكندورف: دائرة المعارف الإسلامية، مجلد 3، ترجمة عباس محمود ورفاقه.
سامي مكي العاني: ديوان كعب بن مالك الأنصاري، مطبعة المعارف بغداد 1966م.
مصادر بحث إعلان دُستُور المدينة
القرآن الكريم.
ابن الأثير: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد (ت606هـ) النهاية في غريب الحديث والأثر، 5 مجلدات، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، نشر عيسى البابي الحلبي القاهرة - 1963م.
أحمد بن حنبل:(ت 240هـ) المسند، 6 مجلدات (بدون محل وتاريخ الطبع).
البخاري: محمد بن إسماعيل (ت 256هـ). الصحيح 9 أجزاء، ط مصطفى البابي الحلبي، القاهرة - وأحياناً ط ليدن وقد ميزتها في الحاشية - 1958م.
البلاذري: أحمد بن يحيى بن جابر (ت 276هـ). أنساب الأشراف، الجزء الأول، تحقيق محمد حميد الله: ط1، مطبعة دار المعارف، مصر - 1959م.
البيهقي: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي (ت 458هـ). كتاب السنن الكبرى، ط1، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن.(1/2)
الترمذي: محمد بن عيسى بن سورة السلمي (ت 279هـ). صحيح الترمذي بشرح ابن العربي المالكي، ط1، المطبعة المصرية بالأزهر- 1931م.
الحاكم: أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري (ت 405هـ) المستدرك على الصحيحين، مكتبة ومطابع النصر الحديثة، الرياض.
ابن حجر العسقلاني: شهاب الدين أحمد بن علي بن حجر (ت 852هـ) تهذيب التهذيب، 12 مجلداً، ط1، مطبعة مجلس دائر المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن 1325-1327هـ.
ابن حزم: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (ت 456هـ) جوامع السيرة، تحقيق الدكتور إحسان عباس والدكتور ناصر الدين الأسد، ط دائرة المعارف المصرية.
الخطيب البغدادي: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت (ت 463هـ) تاريخ بغداد، 14 مجلداً، بعناية محمد حامد الفقي، ط1، مطبعة السعادة مصر 1349هـ، 1931م. تقييد العلم، تحقيق الدكتور يوسف العش دمشق – 1949م.
خليفة بن خياط: (ت 240هـ) التاريخ، تحقيق أكرم ضياء العمري، مطبعة الآداب النجف – 1967م.
أبو داود: سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275هـ). السنن، بعناية الشيخ أحمد سعد علي، ط1، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1952م.
الذهبي: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748هـ) تاريخ الإسلام، طبع منه 6 أجزاء، مطبعة السعادة بمصر 1367-1369هـ.
الزرقاني: شرحه على المواهب اللدنية للقسطلاني، ط1، المطبعة الأزهرية المصرية - 1327هـ.
الزيلعي: الإمام جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الحنفي (ت 762هـ) نصب الراية لأحاديث الهداية، ط1، مطبعة دار المأمون، القاهرة 1357هـ - 1938م.
ابن سعد: محمد (ت 230هـ) الطبقات الكبرى، ط ليدن.
ابن سيد الناس: أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله (ت 734هـ) عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، جزآن نشر مكتبة القدسي القاهرة – (بدون تاريخ).
الشوكاني: محمد بن علي بن محمد (ت 1250هـ). نيل الأوطار، 4 مجلدات، ط3، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر 1352هـ - 1961م.(1/3)
الطبري: محمد بن جرير (ت 310هـ) تاريخ الطبري، 10 مجلدات، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم – مصر.
أبو عبيد: القاسم بن سلام (ت 224هـ) الأموال، تحقيق محمد خليل هراس، ط1، مصر- 1388هـ - 1968م.
ابن القيم: أبو عبد الله محمد (ت 751هـ) زاد المعاد، 4 أجزاء، ط1، مطبعة محمد علي صبيح مصر 1353هـ- 1934م.
ابن كثير: عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ( 774هـ) البداية والنهاية، 14 جزءاً، ط1، مطبعة السعادة، القاهرة 1351هـ - 1932م.
ابن ماجة: محمد بن يزيد (ت 273هـ) السنن، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر دار إحياء الكتب العربية، القاهرة – 1953م.
مالك بن أنس: (ت 179هـ) المدونة الكبرى، 8 مجلدات، مطبعة السعادة، مصر 1323هـ.
مسلم بن الحجاج: (ت 261هـ) صحيح مسلم بشرح النووي، مصر – 1349هـ.
المقدسي: المطهر بن طاهر ( 355هـ) كتاب البدء والتاريخ، 6 أجزاء، بعناية كلمان هوار، باريس 1903م.
المقريزي: تقي الدين أبو العباس أحمد (ت 845هـ) إمتاع الأسماع، تحقيق محمود شاكر، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة – 1941م.
ابن منظور: جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم بن علي (ت 711هـ) لسان العرب، ط دار صادر بيروت.
ابن هشام: أبو محمد عبد الملك (ت 218هـ) السيرة النبوية، 4 مجلدات، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الابياري وعبد الحفيظ شلبي، ط 2، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1375هـ 1955م.
الواقدي: محمد بن عمر (ت 207هـ) كتاب المغازي، 3 أجزاء، تحقيق الدكتور مارسدن جونس مطبعة أوكسفورد 0 1966م.
أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري: (ت 182هـ) الرد على سير الأوزاعي، بتحقيق أبي الوفا الأفغاني، ط1، مصر – 1357هـ.
المراجع الحديثة:
أكرم العمري: بحوث في تاريخ السنة المشرفة، ط1، مطبعة الإرشاد بغداد 1967م.
صالح أحمد العلي: تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد السابع عشر، بغداد – 1969م.(1/4)
فلهاوزن: الدولة العربية وسقوطها، ترجمة يوسف العش، مطبعة الجامعة السورية، دمشق – 1956م.
محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية، ط2، الناشر دار الإرشاد، بيروت 1389-1969م.
محمد عزة دروزة: سيرة الرسول، ط2، الناشر مطبعة عيسى البابي الحلبي مصر – 1965م.
Sarjeant, The Constitution Of medina Islamic Quarterly. VIII/1-2.(1/5)
In The Name Of Allah, The Most Beneficent, The Most
Merciful
Preface
D. Abdullah Ibn Abdullah
Al Zayid
Deputy President
Islamic University
... Verily, praise belongs to Allah. We give Thanks To Him, and we seek blessing and peace for His apostle, whom he had sent as mercy for the worlds.
... Reconstruction of the Islamic history researches, to be in accordance with the Islamic apprehension of the movement of history from the viewpoint of historical interpretation by Muslim experts, is a matter of real importance and risk, because the Muslim researcher is not free that he can make his decissions and explain and evaluate randomly, rather he is completely restricted by canonical ordinances. And if it happens that this muslim researcher is well endowed with the ability of utilizing the methods used by the modernists in their Researches in the Islamic history, this will surely be an intellectual originality which will be the characteristics of the Islamic method of history interpretation.(2/1)
The writer agrees with the author that the introducing of the suggestions and remarks concerning the re - formation of the Islamic history, throughout its successive stages and during a period of fourteen centuries, is a problem of great difficulty but the reconstruction of the first centuries of Islam is verily The Most Critical Because This Truly Represents The Stages of the ideal and comprehensive application of the Islamic teachings. All the accurate and inclusive conclusion and judgements that the researcher reaches depend entirely on how far that researcher is obliged to the Islamic methodology, in its general concept and in adhering to prescribed principles and rules as well as the perfect method, the correctness of the scientific sources and the righteousness of his intellectual grounds.(2/2)
Much gratitude for Allah, may he be praised and glorified, who has made the opportunity attainable to Dr Akram Al - Omari to propose an original way of writing the history of the first centuries of Islam. He adorned his beneficial suggestion with a fruitful intellectual grounds through which he has asserted the fact that Islamic interpretation of historical events originally stemmed out of the Islamic comprehension of the universe, life and mankind. This apprehension was entirely founded on absolute faith in God, the Elevated, His angles, Books, Prophets. The Day of judgement, and in Allah’s fate (Qadar) for good or Evil. Then, Dr Akram Al - Omari focused on the theme of Islamic apprehension of the historical interpretation, clarifying what is meant by the concept of research in Islamic history in accordance with the modernists methodology and presenting the conclusions that he has reached in applying the rules of the Prophetic traditional criticism of the historical narrative. And this, by God, is trend of a real originality, Seriousness and objectiveness, and is worthy of every greatness and respect.(2/3)
The study of the resources, on which the prophetic biography entirely depends and which succeeds the method of the history of the early centuries of Islam, has a radical correlation with the reshaping of the history of the originality and variety of those sources. In this study, the writer also discusses the sources of the purified life of the prophet represented by the holy qu’ran, the books of the Traditions of the prophet, the books of Al – Dalail wal Shamail besides those of special biographies and general historical surveys. More over, the writer concentrated on the supplementary references which are beneficial in the field of the study of the life of the prophet. The study, which the writer had undertaken, is but a true attempt to make those references accurate and to show how these references can be of great usefulness in achieving the desired objectives. In addition, this study included besides what was previously mentioned, a clear hint to the insisting need for an inclusive Islamic metholology in historical criticism and interpretation. Then the researcher introduced an applied study which sticks firmly to the method that he stated on the civilized societies and their chief organizations. By this study, he meant to draw a perfect picture of the main organizations of the Islamic state. The research is so comprehensive and painstaking that it can be regarded as a new and earnest try to use the Islamic procedure in historical works and the use of modern styles in criticism. What makes the research very serious, is the complete dependence of the writer upon the(2/4)
valuable references in general and in his adhering tenaciously to the analysis and deduction after passing the important stages of critique.
The Islamic University willingly undertakes the project of publishing this fruitful treatise, and cordially wishes that researchers wholeheartedly promise to complete writing down Islamic historical serials depending on upright thinking which is founded on objective and systematic critique when dealing with narratives as well as a thorough Islamic comprehension of the universe, life and man as described in the historical explanations, since we badly need a fresh reconstruction of our history in the light of a new sight, which is characterized by being proud of our personality, keeping our distinguished characteristics.
Refusing abandoning our homeland and stripping off our past and heritage. Our present culture should be built on firm pillars of our past, and thus we shall be save from any cultural discontinuity which, by all means, causes misguidence.
In Allah’s hands are means of success.(2/5)
فتح خيبر(1) وبقية المعاقل اليهودية في الحجاز
خيبر واحة زراعية تقع شمال المدينة المنورة، وتبعد عنها بحوالي 165 كم(2) وترتفع عن سطح البحر بنحو 850 م. وهي من أعظم حرار بلاد العرب بعد حرة بني سليم(3) وامتازت خيبر بخصوبة أرضها ووفرة مياهها فاشتهر بكثرة نخيلها.
هذا سوى ما تنتجه من الحبوب والفواكه لذلك كانت توصف بأنها قرية الحجاز ريفاً ومَنَعةً ورجلاً، وكان بها سوق يعرف بسوق النطاة تحميه قبيلة غطفان التي تعتبر خيبر ضمن أراضيها(4).
ونظراً لمكانتها الاقتصادية فقد سكنها العديد من التجار وأصحاب الحرف وكان فيها نشاط واسع للصيرفة.
وكان يسكنها قبل الفتح أخلاطٌ من العرب واليهود، وزاد عدد اليهود فيها بعد إجلاء يهود المدينة في عهد السيرة(5).
ولم يظهر يهود خيبر العداء للمسلمين حتى نزل فيهم زعماء بني النضير، الذين حز في نفوسهم إجلاؤهم عن ديارهم، ولم يكن الإجلاء كافياً لكسر شوكتهم، فقد غادروا المدينة ومعهم النساء والأبناء والأموال وخلفهم القيان يضربن الدفوف والمزامير بزهاء وفخر ما رُئي مثله في حي من الناس في زمانهم(6).
__________
(1) أفدت في حصر الروايات وانتقاء الصحيح منها في هذا المبحث من الرسالة التي أعدها الشيخ عوض أحمد الشهري، وعنوانها (مرويات غزوة خيبر لنيل درجة الماجستير من قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وكنت أحد أعضاء لجنة المناقشة، وهي رسالة نافعة حبذا لو نشرت بعد تنقيحها.
(2) هذا بالنسبة للطريق السفلت، وهو يختلف عن الطريق التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر.
(3) انظر الموسوعة العربية الميسرة 770 وحمد الجاسر: في شمال غرب الجزيرة 217.
(4) حمد الجاسر: في شمال غرب الجزيرة 236 – 237.
(5) حمد الجاسر في شمال غرب الجزيرة 238-239.
(6) ابن هشام: السيرة 3/272.(3/1)
وكان من أبرز زعماء بني النضير الذين نزلوا في خيبر سلام بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب فلما نزلوا دان لهم أهلها(1).
وكان تزعم هؤلاء ليهود خيبر كافياً في جرها إلى الصراع والتصدي للانتقام من المسلمين فقد كان يدفعهم حقد دفين ورغبة قوية في العودة إلى ديارهم داخل المدينة.
وكان أول تحرك قوي ما حدث في غزوة الأحزاب حيث كان لخيبر وعلى رأسها زعماء بني النضير دور كبير في حشد قريش والأعراب ضد المسلمين وتسخير أموالهم في ذلك ثم سعيهم الناجح في إقناع بني قريظة بالغدر والتعاون مع الأحزاب(2).
فلما رد الله الأحزاب عن المدينة خائبين، اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بمعالجة الموقف في خيبر التي صارت مصدر خطر كبير على المسلمين.
ويذكر ابن إسحاق بإسناد فيه راو مجهول أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم كتاباً يدعوهم إلى الإسلام ويذكرهم بما في كتبهم من ذكر بعثته عليه الصلاة والسلام(3). ولم يستجب اليهود بالطبع لدعوته ولم يعتذروا عما فعلوه في تأليب الأحزاب فكان أن عمد الرسول إلى القضاء على زعمائهم الذين لعبوا دوراً في التأليب عليه، ومنهم سلام بن أبي الحقيق الذي وجه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك ومعه رجال من الأنصار فقتلوه.
وقد ساق البخاري قصة قتله مفصلة حيث احتال عبد الله بن عتيك في الدخول إلى بيت داخل حصنه وبين حرسه ورجاله حتى قتله في مخدعه(4). مما يدل على رباطة جأشه وعلو همته وعظم استعداده للتضحية من أجل عقيدته.
__________
(1) ابن هشام: السيرة 3/272.
(2) ابن هشام: السيرة 3/253 وقد نقل ذلك عن أئمة السيرة جامعاً لأسانيدهم وفيها راو مجهول ومعلوله بالإرسال لكنها مما يتساهل فيه من الأخبار ولا يشترط لقبولها بلوغ درجة الصحة الحديثية.
(3) ابن هشام: السيرة 2/195.
(4) فتح الباري، كتاب المغازي، باب قتل أبي رافع 7/340.(3/2)
ولكن القضاء على بعض الزعماء لا يكفي لإِزالة الخطر عن المسلمين، وكانت معاهدة الحديبية التي وقعت سنة ست من الهجرة بين المسلمين وقريش، قد أتاحت الفرصة أمام المسلمين ليتفرغوا لفتح خيبر. وقد ذهب كثير من المفسرين إلى أن الله تعالى وعد المسلمين بفتح خيبر وحيازة غنائمها في سورة الفتح التي نزلت في طريق العودة من الحديبية، وذلك بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً، ومَغَانِم كَثِيرَة يَأخُذُونَها وَكَانَ الله عَزيزاً حَكيِمَا، وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً، وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرا}(1).
تاريخ الغزوة:
__________
(1) الفتح 18 – 21.(3/3)
ذهب ابن إسحاق إلى أنها في المحرم من السنة السابعة، وقال الواقدي إنها في صفر أو ربيع الأول من السنة السابعة بعد العودة من الحديبية إلى المدينة في ذي الحجة سنة ست(1) وذهب الإِمامان الزهري ومالك إلى أنها وقعت في المحرم من السنة السادسة(2) وقد تابع المؤرخون هؤلاء الروّاد في تحديد تاريخ الغزوة فاختلفت أقوالهم تبعاً لذلك، والخلاف بين ابن إسحاق والواقدي يسير أقل من ثلاثة أشهر. وكذلك فإن الخلاف بينهما وبين الإِمامين الزهري ومالك مرجعه إلى الاختلاف في ابتداء السنة الهجرية الأولى فمنهم من احتسب الأشهر التي سبقت ربيع أول بداية التقويم فأسقط سنة من تواريخ الحوادث، ولا بد من التفطن لهذا المر عندما يكون الاختلاف بين كتاب السير في تاريخ الحادث سنة واحدة. وقد رجح الحافظ ابن حجر قول ابن إسحاق على قول الواقدي(3).
الطريق إلى خيبر:
ولما توجه المسلمون بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى خيبر كانوا يكبّرون ويهللون رافعين أصواتهم فطلب منهم أن يرفقوا بأنفسهم قائلاً: "إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم"(4) وهذه الصورة توضح الروح المهيمنة على الجيش الإسلامي ودوافعه الإِيمانية القوية ومعنوياته القتالية العالية وهو يتوجه نحو قلاع وحصون ملئت رجالاً وسلاحاً ومؤونة ومتاعاً، ولكن هل يحول ذلك كله دون المؤمنين وبلوغهم أهدافهم السامية؟.
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/130 والواقدي: المغازي 2/634.
(2) ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق 1/33.
(3) الفتح 7/464.
(4) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 7/470.(3/4)
وقد انفرد الواقدي بتحديد الطريق التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر بصورة مفصلة، والواقدي خبير بمسالك الطرق وتحديد الأماكن التي جرت فيها أحداث السيرة فقد كان يتتبعها ويسأل عنها، ويقف عليها بنفسه، وقد بين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة فسلك ثنية الوداع فزغابة فنقمى فالمستناخ فالوطه فعصر فالصهباء فالخرصة ثم سلك بين الشق والنطاة ثم المنزلة ثم الرجيع حيث انطلق منها لفتح خيبر(1). والملاحظ أن الرجيع تقع شمال شرق خيبر ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد من ذلك أن يفصل خيبر عن الشام وعن حلفائها من غطفان.
وصف فتح خيبر:
وقد افتتح النبي صلى الله عليه وسلم منطقة النطاة أولاً وسقط حصناها ناعم والصعب بيد المسلمين ثم منطقة الشق وسقط حصناها أبي والنزار، والنطاة والشق في الشمال الشرقي من خيبر ثم فتح منطقة الكتيبة وأسقط حصنها المنيع (القموص) وهو حصن ابن أبي الحقيق. ثم افتتح منطقة الوطيح ثم منطقة السلالم وأسقط حصنيها وهذا التسلسل في فتح مناطق خيبر معتمد على وصف الواقدي(2)، ويختلف وصف ابن إسحاق في التقديم والتأخير فهو يتفق مع الواقدي في أن بداية الفتح كانت لحصن ناعم من منطقة النطاة ويختلف في تقديم فتح حصن القموص على حصن الصعب(3).
وتدل الأحاديث الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وصل خيبر قبل انبلاج الفجر وصلى الفجر قربها ثم هاجمها بعد أن بزغت الشمس، وقد فوجئ الفلاحون من يهود الذين خرجوا إلى أعمالهم ومعهم مواشيهم وفؤوسهم ومكاتلهم بوجود المسلمين فقالوا: محمد والخميس!! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "الله أكبر، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين"(4).
__________
(1) مغازي الواقدي 2/639.
(2) مغازي الواقدي 2/639.
(3) سيرة ابن هشام 3/438.
(4) البخاري: الصحيح، كتاب الصلاة 1/478، كتاب الأذان 2/89 ومسلم:
الصحيح، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر 3/426.(3/5)
فلجأ اليهود إلى حصونهم وحاصر المسلمون حصن ناعم، وسعت غطفان إلى نجدة يهود خيبر وكانوا حلفاءهم، ولكنهم لم يشتركوا في القتال فقد خافوا أن يهاجم المسلمون ديارهم، ويقرر الواقدي وصول غطفان إلى حصون خيبر، أما ابن إسحاق فيقرر أنهم عادوا إلى ديارهم قبل وصولهم إلى خيبر. وينفرد الواقدي بأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على غطفان تمر خيبر لسنة مقابل انسحابهم وأنهم رفضوا ذلك ولا يصلح الاعتماد على هذه الرواية لضعف الواقدي مع تفرده بها(1).
وحمل راية المسلمين في حصار ناعم أبو بكر رضي الله عنه لليومين الأولين، ولم يفتح له، وأصاب الناس يومئذ شدة وجهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني دافع اللواء غداً إلى رجل يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح له، فطابت نفوس المسلمين، فلما صلى الفجر في اليوم التالي دعا علياً رضي الله عنه ودفع إليه اللواء فحمله رضي الله عنه في اليوم الثالث فتم الفتح على يديه(2) وتشير رواية إلى أن حامل الراية قبل علي هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدل أبي بكر رضي الله عنه وهي رواية ضعيفة مدارها على ميمون البصري وهو ضعيف(3) وكذلك وردت رواية تفيد أن أبا بكر وعمر وعلياً رضي الله عنهم تعاقبوا في الأيام الثلاثة على حمل الراية، وهي رواية ضعيفة لضعف راويها بريدة بن سفيان(4).
__________
(1) مغازي الواقدي 3/650 وسيرة ابن هشام 3/438.
(2) مسند أحمد 5/353 ومستدرك الحاكم 3/37 ومجمع الزوائد 6/150 وقد حكم عليه الحاكم بصحة الإسناد ووافقه كل من الذهبي والهيثمي.
(3) مسند أحمد 5/358 وكشف الأستار عن زوائد مسند البزار للهيثمي 2/338.
والطبري 2/300 وتقريب التهذيب 2/292.
(4) سيرة ابن هشام 3/445 والطبري: تاريخ 2/300 ومستدرك الحاكم 2/37 وانظر تهذيب التهذيب 1/433.
وأوردها الطبراني (مجمع الزوائد 9/124) والبزار (ابن كثير: السيرة 3/355) من طريق أخرى فيها حكيم بن جبير وهو ضعيف كما في تقريب التهذيب 1/192.(3/6)
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يدعو يهود خيبر إلى الإسلام وما يجب عليهم من حق الله وقال له: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم"(1). مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان حريصاً على غنائم خيبر بل كان همه نشر العقيدة وإزاحة العقبات من طريقها.
ولما سأله على رضي الله عنه يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: "قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"(2).
وقد استشهد في حضار حصن ناعم محمود بن مسلمة الأنصاري، حيث ألقى عليه مرحب رحى من أعلى الحصن(3). وقد بارز علي مرحباً هذا وقتله(4) وكان مرحب من أبطال يهود فأثر مقتله في معنوياتهم.
ووردت عدة روايات تفيد تترس علي رضي الله عنه بباب عظيم كان عند حصن ناعم بعد أن أسقط يهودي ترسه من يده، وكلها روايات ضعيفة.(5) واطراحها لا ينفي قوة علي وشجاعته، فيكفيه ما ثبت في ذلك وهو كثير.
__________
(1) مسلم: الصحيح، كتاب فضائل الصحابة 4/1872.
(2) شرح النووي على مسلم 15/177.
(3) سير ابن هشام 3/438 ومغازي الواقدي 2/645.
(4) مسلم الصحيح، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد 3/1433.
(5) الفتح الرباني للساعاتي 21/120 وسيرة ابن هشام 3/446 - والسيرة لابن كثير 3/359 والإصابة لابن حجر 2/509.(3/7)
وقد استغرق فتح حصن ناعم عشرة أيام(1). وتوجه المسلمون بعده إلى حصن الصعب بن معاذ في منطقة النطاة وكان فيه خمسمائة مقاتل وفيه الطعام والمتاع وكان المسلمون في ضائقة من قلة الطعام، وقد حمل الراية في فتحه الحباب بن المنذر وأبلى بلاء حسناً، وقاوم اليهود مقاومة عنيفة واستغرق الفتح ثلاثة أيام، ثم فتح المسلمون حصن قلعة الزبير وهو آخر حصون النطاة. وقد اجتمع فيه الفارّون من حصن ناعم والصعب وبقية ما فتح من حصون يهود، وكان حصن قلعة الزبير منيعاً مرتفعاً، وقد قطع المسلمون مجرى الماء عنهم واضطروهم إلى النزول للقتال وأصابوا منهم عشرة وفتح الحصن بعد حصار ثلاثة أيام، وانتقل المسلمون من الرجيع إلى المنزلة بعد أن تخلصوا من أهل النطاة وهم أشد اليهود.
ولا شك أن موقف المسلمين قوي كثيراً بعد هزيمة أهل النطاة وحيازتهم أطعمتهم ومتاعهم، بالإِضافة إلى ما أصاب بقية يهود خيبر من رعب لسقوط منطقة النطاة.
وقد توجه المسلون لفتح منطقة الشق وهي تحتوي على عدة حصون منها حصن أبي وحصن النزار، وقد بدأ المسلمون بفتح حصن أبي وجرت مبارزات فردية أمام الحصن أصيب فيها بعض مقاتلة يهود ثم اقتحم المسلمون الحصن وحازوا ما فيه من طعام ومتاع، وتمكن بعض مقاتلة يهود من التحول إلى حصن نزار وتحصنوا فيه وقاتلوا المسلمين بالنبل والحجارة ثم تهاوت مقاومتهم أمام حصار المسلمين حتى فتح الحصن وفر بقية أهل الشق من حصونهم إلى منطقة الكتيبة في الجنوب الغربي من خيبر وتحصنوا في حصن القموص المنيع، وتحصن بعض فلَّهم مع أهل حصني الوطيح والسلالم فحاصرهم المسلمون أربعة عشر يوماً حتى طلبوا الصلح دون أن يقع قتال إذ إن حصن نزار كان آخر حصن جرى فيه قتال وانهارت بعده مقاومة اليهود فاقتصروا على التحصن في حصونهم وانتهى التحصن دائماً بطلب الصلح.
__________
(1) مغازي الواقدي 2/657.(3/8)
ووصف فتح حصون الصعب والزبير ومنطقتي الشق والكتيبة يعتمد على الواقدي(1). الذي انفرد بتقديم صورة واضحة عن أحداث فتح هذه المناطق، وهو إخباري غزير المعلومات رغم ضعفه عند المحدثين، ولكن مثل هذه الأخبار مما يتساهل فيه.
أما روايات ابن إسحاق في وصف خيبر فهي مضطربة وتنقصها الدقة إذا ما طوبقت مع مواقع حصون خيبر.
وقد ذكرت رواية صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر فغلب على النخل والأرض، وألجأهم إلى قصرهم، فصالحوه على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة(2). ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً فإن فعلوه فلا ذمة لهم ولا عهد. فغيبوا مسكاً لحيي بن أخطب، وقد كان قتل قبل خيبر، وكان احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير، فيه جلبهم.
قال: فقال لسعية(3) أين مسك حيي بن أخطب؟.
قال: أذهبته الحروب والنفقات. فوجدوا المسك.
فقتل ابني أبي الحقيق، وسبى نساءهم وذراريهم(4).
ويذكر ابن إسحاق دون إسناد أن الذي أخفى الكنز وسئل عنه هو كنانة بن الربيع(5) ويذكر ابن سعد كنانة وأخوه الربيع(6)، وفي إسناد ابن سعد محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو صدوق سيئ الحفظ جداً(7).
والثابت أن يهود حصن القموص سألوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلح ونكثوا العهد فحاز أموالهم.
أما أهل حصني الوطيح والسلالم فإنهم لما أيقنوا بعدم جدوى المقاومة بعد سقوط النطاة والشق والقموص سألوا النبي صلى الله عليه وسلم "أن يسيرهم وأن يحقن دماءهم ففعل"(8).
__________
(1) مغازي الواقدي 2/259، 670.
(2) أي الذهب والفضة والسلاح والدروع.
(3) عم حيي بن أخطب (عون المعبود 8/241).
(4) أبو داود: السنن، كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في حكم أرض خيبر 3/408.
(5) ابن هشام: السيرة 3/449.
(6) ابن سعد: الطبقات 2/112.
(7) تقريب التهذيب 2/184.
(8) سيرة ابن هشام 3/449.(3/9)
وبذلك سقطت سائر خيبر بيد المسلمين، وسارع أهل فدك في شمال خيبر إلى طلب الصلح وأن يسيرهم ويحقن دماءهم ويخلوا له الأموال فوافق على طلبهم(1) فكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وحاصر المسلمون وادي القرى، وهي مجموعة قرى بين خيبر وتيماء ليالي(2) ثم استسلمت فغنم المسلمون أموالاً كثيرة وتركوا الأرض والنخل بيد اليهود وعاملهم عليها مثل خيبر وصالحت تيماء على مثل صلح خيبر ووادي القرى(3).
وبذلك انهارت سائر المعاقل اليهودية أمام المسلمين. وخبر طلب الصلح من قبل أهل حصني الوطيح والسلالم وأهل فدك أورده ابن إسحاق بسند منقطع لا يصلح للاحتجاج به في أحكام السياسة الشرعية، ويصلح لوصف الوقائع التاريخية فراويه عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم مشهور بمعرفة المغازي.
وقد بلغ قتلى يهود في معارك خيبر ثلاثة وتسعين رجلاً(4). وسبيت نساؤهم وذراريهم، ووقعت في السبي صفية بنت حيي بن أخطب أم المؤمنين رضي الله عنها فأعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها(5).
__________
(1) المصدر السابق.
(2) تاريخ خليفة 85 نقلاً عن ابن إسحاق.
(3) ابن القيم: زاد المعاد 1/405.
(4) مغازي الواقدي 2/699.
(5) صحيح مسلم، كتاب النكاح 2/1045.(3/10)
واستشهد من المسلمين عشرون رجلاً فيما ذكر ابن إسحاق(1)، وأما الواقدي فذكر أنهم خمسة عشر رجلاً(2) وهذا من خذلان الله تعالى ليهود فإن قتلاهم وهم يدافعون في حصون منيعة أكثر بكثير من شهداء المسلمين المهاجمين في ساحات مكشوفة!! وقد صح أن امرأة يهودية أهدت النبي صلى الله عليه وسلم شاة مشوية قد سمتها، وأكثرت السم في الذراع عندما عرفت أنه يحبها، فلما أكل من الذراع أخبره أنه مسموم فلفظ اللقمة، واعترفت المرأة فلم يعاقبها(3). وقد قتلها بعد ذلك عندما مات بشر بن معرور من أثر السم الذي ازدرده مع الطعام(4).
ومما أعان على فتح خيبر تفرغ المسلمين بعد صلح الحديبية لقتال يهود خيبر دون أن تنجدهم قريش، وتخاذل قبيلة غطفان حليفة يهود خيبر عن نجدتهم خوفاً على ديارهم من المسلمين. وقد أصابت الكآبة والغيظ قريشاً لما بلغها خبر انتصار المسلمين على يهود خيبر(5) وهو أمر ما كانت تتوقعه لما هو مشهور من حصانة قلاع اليهود وحصونهم في خيبر وكثرة مقاتليهم وسلاحهم. وكذلك كان صدى فتح خيبر مدوياً في أوساط القبائل العربية الأخرى التي أدهشها الخبر وخذَّلها النصر، فكفكفت من عدائها، وجنحت إلى المسالمة والموادعة، فتفتحت آفاق جديدة أمام انتشار الإِسلام.
عدم إجلاء يهود خيبر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/804 - 805 حيث يذكر قائمة بأسمائهم.
(2) مغازي الواقدي 2/700.
(3) البخاري: الصحيح 5/176 ومسلم: الصحيح 7/14 – 15.
(4) الحاكم: المستدرك 3/220.
وابن هشام: السيرة 2/240 – 241.
(5) مسند أحمد 3/138 وموارد الظمآن 413.(3/11)
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبقى يهود خيبر فيها على أن يعملوا في زراعتها وينفقوا عليها من أموالهم ولهم نصف ثمارها. على أن للمسلمين حق إخراجهم منها متى أرادوا وكان اليهود قد بادروا بعرض ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: نحن أعلم بالأرض منكم فوافق على ذلك بعد أن هَمّ بإخراجهم منها(1).
وهمه بإخراجهم دليل على أنّ خيبر كلها فتحت عنوة لأن من صالح منهم صالح على حقن دمه وإجلائه منها.
فأقاموا فيها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث من قبله رجلاً لتقدير الثمار وقبض حصة المسلمين، وقد بعث عبد الله بن رواحة مرة فقدر الثمار بعشرين ألف وسق من تمر ثم خيرهم بين أخذها حسب تقديره أو تركها له وفق ذلك فقالوا متعجبين من عدالته: هذا الحق وبه تقوم السماوات والأرض قد رضينا أن نأخذه بما قلت(2).
ولكن وردت رواية أخرى صحيحة تفيد أنه قدرها بأربعين ألف وسق فأخذوا التمر وعليهم عشرون ألف وسق(3).
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب معاملة النبي أهل خيبر 7/496 وصحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من التمر والزرع 3/1186، 1187-
وأبو داود: سنن، كتاب البيوع، باب في المساقاة 3/697 ولا يتعارض ذلك مع رواية أخرى في سنن أبي داود، كتاب الخراج باب ما جاء في حكم أرض خيبر 3/412 تقول (فلما صارت الأموال بيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ولم يكن لهم عمال يكفونهم عملها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فعاملهم) إذ يمكن التوفيق بأن اليهود عرضوا ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه رد عليهم بعد أن تأمل في عرضهم ورأى ما فيه من مصلحة للمسلمين فدعاهم وعاملهم.
(2) الفتح الرباني في ترتيب مسند أحمد 21/125 وهو حديث صحيح.
(3) أبو داود سنن، كتاب البيوع، باب الخرص 3/700 وأبو عبيد: الأموال 198.(3/12)
والجمع بين الروايتين الصحيحتين ممكن لأن المراد بالأربعين حصة اليهود والمسلمين، وبالعشرين حصة أحدهما فقط.
أثر فتح خيبر:
ولا شك أن فتح خيبر عاد على المسلمين بالخير الكثير وعزز إمكانياتهم الاقتصادية بدخل سنوي دائم حتى قالت عائشة رضي الله عنها معقبة على فتح خيبر: (الآن نشبع من التمر) وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (ما شبعنا حتى فتحنا خيبر)(1).
ولا شك أن هذه الأقوال كافية لتوضيح ما عاد به فتح خيبر من تعزيز لوضع المسلمين الاقتصادي ولإيضاح حقيقة الوضع الاقتصادي قبل الفتح، ومع شدة حاجة المسلمين قبل خيبر فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفضل إسلام يهود خيبر على كل غنيمة كما يتضح من وصيته لعلي رضي الله عنه، ولم يكن راغباً في إفناء يهود أو إجلائهم لذلك قَبِل الصلح لما عرض عليه يهود حصون القموص والوطيح والسلالم ذلك، كما قَبِل بعد الصلح - الذي وافق بموجبه اليهود على إجلائهم من خيبر - أن يبقيهم في خيبر بناء على طلبهم، وكل ذلك يدل على الروح السمحة والعدالة السامية، كما أن ذلك حقق للدولة الإِسلامية مصالح عليا اقتصادية وعسكرية حيث تمَّت المحافظة على طاقات المسلمين العسكرية ووجهوا إلى الجهاد الدائم من أجل توحيد جزيرة العرب تحت راية الإسلام ولم يتحولوا إلى الفلاحة التي تحتاج إلى إدامة العمل في استصلاح الأرض ورعاية الزرع والنخل مما يستنفد طاقتهم، وكذلك تمت الإِفادة من خبرة وطاقة الفلاحين اليهود للحفاظ على مستوى الإِنتاج الزراعي في خيبر لأنهم يمتلكون خبرة بالأرض وزراعتها، مما يوفر للمسلمين حصة كبيرة يمكن الإِفادة منها في تجهيز الجيوش والقيام بالنفقات الأخرى التي تحتاجها الدولة.
__________
(1) صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 7/495.(3/13)
وقد حاز المسلمون الأموال المنقولة، فكان الرجل يأخذ حاجته من الطعام دون أن يُقسم بين المسلمين أو يخرج منه الخمس إذا كان قليلاً(1). خلافاً لما يذكره الواقدي من كثرته وأنه يكفي المسلمين يأكلون ويعلفون دوابهم شهراً أو أكثر(2).
كيفية توزيع غنائم خيبر:
وقد وردت آية قرآنية توضح أن غنائم خيبر خاصة بمن شهد الحديبية من المسلمين لا يشركهم فيها أحد وهي قوله تعالى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً}(3).
وقد قسم الرسول صلى الله عليه وسلم أرض خيبر إلى نصفين، نصف لما ينزل به من النوائب والوفود ونصف للمسلمين من أهل الحديبية، وبلغ عدد الأسهم كلها ستة وثلاثين سهماً(4) منها ثمانية عشر سهماً، قسمت على أهل الحديبية، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة فيهم ثلاث مائة فارس، فأعطى الفارس سهمين والراجل سهماً(5).
ولم يغب عن فتح خيبر من أصحاب بيعة الحديبية أحد سوى جابر بن عبد الله ومع ذلك أعطي سهماً مثل من حضر ولكن هذه الرواية ضعيفة وردت من طريق ابن إسحاق دون إسناد(6)
__________
(1) الساعاتي: الفتح الرباني بترتيب مسند أحمد 21/125.
وأبو داود: السنن، كتاب الجهاد، باب النهي عن النُّهى إذا كان في الطعام قلة في أرض العدو 3/151 والحاكم: المستدرك 2/134.
(2) مغازي الواقدي 2/665.
(3) سورة الفتح آية 15 وانظر: تفسير الطبري 26/50.
(4) عوض الشهري: مرويات غزوة خيبر ص 195.
(5) سنن أبي داود، كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب ما جاء في حكم أرض خيبر 3/413 والحاكم: المستدرك 2/131 وصححه وأقره الذهبي.
(6) سير ابن هشام 3/467.(3/14)
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أهل السفينة من مهاجرة الحبشة الذين عادوا منها إلى المدينة ووصلوا خيبر بعد الفتح من غنائم خيبر، وكانوا ثلاثمائة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً بقيادة جعفر بن أبي طالب، ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح سواهم(1).
وربما يرجع استثناؤهم إلى أنهم حبسهم العذر عن شهود بيعة الحديبية، ولولا ذلك لشهدوها. ولعله استرضى أصحاب الحق من الغانمين في الإِسهام لهم، كما أعطى أبا هريرة وبعض الدوسيين من الغنائم برضا الغانمين حيث قدموا عليه بعد فتح خيبر، ولم يشتركوا في القتال(2).
نماذج من المجاهدين:
وقد صح أن أعرابياً شهد فتح خيبر أراد النبي صلى الله عليه وسلم أثناء المعركة أن يقسم له قسماً وكان غائباً، فلما حضر أعطوه ما قسم له فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمي هاهنا - وأشار إلى حلقه - بسهم فأدخل الجنة. قال: إن تصدق الله يصدقك. قال: فلبثوا قليلاً. ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فكفنه النبي صلى الله عليه وسلم بجبته وصلى عليه ودعا له، فكان مما قال: (اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك فقتل شهيداً، وأنا عليه شهيد)(3).
__________
(1) صحيح البخاري كتاب فرض الخمس 6/237 وصحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة 4/1946.
(2) عمر بن شبة: تاريخ المدينة 105.
(3) مصنف عبد الرزاق 5/276.(3/15)
ألا إن هذه الرواية شاهد قوي على ما يبلغه الإِيمان من نفس أعرابي ألفَ حياة الغزو والسلب والنهب في الجاهلية فإذا به لا يقبل ثمناً لجهاده إلا الجنة فكيف يبلغ الإِيمان إذاً من نفوس الصفوة من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، أيقال إنهم فتحوا ديار يهود طمعاً في أرض ومال؟ أيتهمون بأن التعصب الديني دفعهم لطرد يهود وهم الذين دعوهم للإِسلام قبل القتال وقبلوا أن يعطوهم الأمان بعد الحصار وأبقوهم في خيبر بعد الاستسلام فمكثوا فيها حتى خلافة عمر رضي الله عنه فبدت منهم العداوة والبغضاء وغدروا بالمسلمين فقتلوا منهم رجلاً وفَدَعُوا(1) يدي ورجلي عبد الله بن عمر وهو نائم في سهمه من خيبر. فأجلاهم عمر رضي الله عنه من خيبر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من التمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال.
وهكذا انتهى دور اليهود العسكري والاقتصادي وتفرغ المسلمون لإخضاع قبائل العرب المشركة ولتوحيد جزيرة العرب تحت راية الإِسلام.
__________
(1) الفَدَعُ: عوج في المفاصل كأنها قد فارقت مواضعها، وأكثر ما يكون في رسغ اليد أو القدم (المعجم الوسيط مادة ((فدع))).(3/16)
إعلان دستور المدينة (المعاهدة)
لقد نظم النبي صلى الله عليه وسلم العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتاباً أوردته المصادر التاريخية، واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات، وقد سميت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة، وأطلقت الأبحاث الحديثة عليها لفظة الدستور والوثيقة.
طرق ورود الوثيقة (الصحيفة):
وقد اعتمد الباحثون المعاصرون على الوثيقة كأساس في دراسة تنظيمات الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة(1) ولكن من الضروري جداً التأكد أولاً من مدى صحة الوثيقة قبل أن تبنى عليها الدراسات، خاصة وأن أحد الباحثين يرى أن الوثيقة موضوعة(2).
__________
(1) كتب في الوثيقة كل من الدكتور صالح أحمد العلي في مقالته "تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة" والدكتور عبد العزيز الدوري في كتابه النظم الإسلامية. و SARJEANT, THE CONSTITUTION OF MEDINA, IN ISLAMIC QUARTERLY. VIII/1-2.
... وآخرون ذكرهم الأستاذ محمد حميد الله في كتابه مجموعة الوثائق السياسية ص 41-39.
(2) ذهب إلى هذا الأستاذ يوسف العش في إحدى حواشيه على كتاب الدولة العربية وسقوطها لفلهوزن، ترجمة العش (انظر منه ص 20 حاشية رقم 9).(4/1)
ونظراً لأهمية الوثيقة التشريعية إلى جانب أهميتها التاريخية، فلا بد من تحكيم مقاييس أهل الحديث فيها لبيان درجة قوتها أو ضعفها، وما ينبغي أن يتساهل فيها كما يفعل مع الروايات والأخبار التاريخية الأخرى. إن أقدم من أورد نص الوثيقة كاملاً هو محمد بن إسحاق (ت 151ه) لكنه أوردها دون إسناد(1). وقد صرح بنقلها عنه كل من ابن سيد الناس(2). وابن كثير(3) فوردت عندهما دون إسناد أيضاً، وقد ذكر البيهقي(4) إسناد ابن إسحاق للوثيقة التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون البنود التي تتعلق باليهود لذلك لا يمكن الجزم بأنه أخذها من نفس هذه الطريق أيضاً. وقد ذكر ابن سيد الناس أنَّ ابن أبي خيثمة(5) أورد الكتاب (الوثيقة) فأسنده بهذا الإسناد (حدثنا أحمد بن خباب أبو الوليد حدثنا عيسى بن يوسف حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار فذكر بنحوه - أي بنحو الكتاب الذي أورده ابن إسحاق)(6). ولكن يبدو أن الوثيقة وردت في القسم المفقود من تاريخ ابن أبي خيثمة إذ لا وجود لها فيما وصل إلينا منه. كذلك وردت الوثيقة في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام بإسناد آخر هو (حدثني يحي بن عبد الله بن بكير وعبد الله بن صالح قالا حدثنا الليث بن سعد قال حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بهذا الكتاب…)(7)
__________
(1) ابن هشام: السيرة النبوية 1/501-405.
(2) ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/197-198.
(3) ابن كثير: البداية والنهاية 3/224-226.
(4) السنن الكبرى 8/106 "كتاب الديانات".
(5) هو الحافظ الحجة الإمام أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب النسائي المتوفى 279هـ وقد وصل إلينا السفر الثالث من تاريخه (انظر أكرم ضياء العمري: بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 87-90).
(6) ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/198.
(7) أبو عبيد: الأموال رقم 517.(4/2)
وسرده.
كما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لابن زنجويه من طريق الزهري أيضاً(1).
هذه هي الطرق التي وردت منها الوثيقة بنصها الكامل، والتطابق كبير بين سائر الروايات سوى بعض التقديم والتأخير في العبارات أو اختلاف بعض المفردات أو زيادة بنود قليلة، ولا يؤثر هذا الاختلاف على مضمونها العام.
مدى صحة الوثيقة:
اعتمد عدد من الباحثين المعاصرين على الوثيقة فبنوا عليها دراساتهم، في حين ذهب الأستاذ يوسف العش إلى أن الوثيقة موضوعة فهو يقول: "إنها لم ترد في كتب الفقه والحديث الصحيح رغم أهميتها التشريعية، بل رواها ابن إسحاق بدون إسناد، ونقلها عنه ابن سيد الناس، وأضاف أن كثير بن عبد الله بن عمرو المزني روى هذا الكتاب عن أبيه عن جده، وقد ذكر ابن حبان البستي: أن كثير المزني روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنها إلا على جهة التعجب"(2). ويرى العش أن ابن إسحاق اعتمد على رواية كثير لكنه تعمد حذف الإسناد(3).
__________
(1) يرويها حميد بن زنجويه (ت 247هـ) من طريق عبد الله بن صالح أيضاً بمثل إسناد أبي عبيد (انظر كتاب الأموال لابن زنجويه تحقيق د. شاكر ذيب فياض رقم 750).
(2) انظر عبارة ابن حبان في العسقلاني: تهذيب التهذيب 8/422.
(3) يوسف العش: حاشية رقم (9) ص 20 من كتاب الدولة العربية وسقوطها ترجمة العش.(4/3)
لقد ذهب الأستاذ العش إلى ذلك لأنه تصور أن الوثيقة لم يروها غير ابن إسحاق ولم يعثر على إسناد لها سوى ما ذكره ابن سيد الناس من رواية ابن أبي خيثمة لها من طريق كثير المزني. لكن أبا عبيد القاسم بن سلام أورد الوثيقة من طريق الزهري وهي طريقة مستقلة لا صلة لها بكثير المزني. ونظراً لكون ابن إسحاق من أبرز تلاميذ الزهري، فإن ثمة احتمال لأن يكون قد أورد الوثيقة من طريقه، لولا أن البيهقي ذكر إسناد ابن إسحاق للوثيقة التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون أن تتناول البنود المتعلقة بيهود ولا يمكن الجزم بأن ابن إسحاق أخذ البنود المتعلقة بيهود من هذه الطريق أم من طريق أخرى. فقال البيهقي: "أخبرني أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال حدثني عثمان بن محمد ابن المغيرة بن الأخنس بن شريق قال: أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب كان مقروناً بكتابه الصدقة" والحديث بهذا الإسناد ضعيف لأن عثمان تحمَّلها وجادة وفي الإسناد رجال فيهم ضعف مثل عثمان فهو صدوق له أوهام ويونس بن بكير يخطئ والعطار ضعيف وتحمله للسيرة صحيح. فالرواية على ضعفها صالحة للاعتبار وقد توبعت، وإن هذا النص يهدم الأساس الذي بنى عليه الأستاذ العش رأيه. كما أنه لا يمكن الحكم على الوثيقة بأنها موضوعة لأن كتب الحديث لم ترو نصها كاملاً!! فقد أوردت كتب الحديث مقتطفات كثيرة منها تغطي عدداً كبيراً من بنودها كما سيرد خلال البحث.(4/4)
وبذلك يتبين أن الحكم بوضع الوثيقة مجازفة، ولكن الوثيقة لا ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة، فابن إسحاق في سيرته رواها دون إسناد مما يجعل روايته ضعيفة وأوردها البيهقي من طريق ابن إسحاق أيضا بإسناد فيه سعد بن المنذر وهو مقبول فقط. وابن أبي خيثمة أوردها من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو المزني وهو يروى الموضوعات، وأبو عبيد القاسم بن سلام رواها بإسناد منقطع يقف عند الزهري وهو من صغار التابعين فلا يحتج بمراسيله.
ولكن نصوصاً من الوثيقة وردت في كتب الأحاديث بأسانيد متصلة وبعضها أوردها البخاري ومسلم فهذه النصوص هي من الحديث الصحيح وقد احتج بها الفقهاء وبنوا عليها أحكامهم. كما أن بعضها ورد في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجة والترمذي. وهذه النصوص جاءت من طرق مستقلة عن الطرق التي وردت منها الوثيقة. وإذا كانت الوثيقة بمجموعها لا تصلح للاحتجاج بها في الأحكام الشرعية، سوى ما وردت منها من كتب الحديث الصحيح – فإنها تصلح أساساً للدراسة التاريخية التي لا تتطلب درجة الصحة التي تقتضيها الأحكام الشرعية خاصة وأن الوثيقة وردت من طرق عديدة تتضافر في إكسابها القوة، كما وأن الزهري علم كبير من الرواد الأوائل في كتابة السيرة النبوية. ثم إن أهم كتب السيرة ومصادر التاريخ ذكرت موادعة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود وكتابته بينه وبينهم كتاباً(1). كما ذكرت كتابته كتاباً بين المهاجرين والأنصار أيضاً.
__________
(1) البلاذري: أنساب الأشراف 1/286، 308 والطبري: تاريخ 2/479 المقدسي: كتاب البدء والتاريخ 4/179 وابن حزم: جوامع السيرة ص 95 والمقريزي: إمتاع الأسماع 1/49.
... وابن كثير: البداية والنهاية 4/103-104 نقلاً عن موسى بن عقبة وفيه أن بني قريظة مزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد. والأثر موقوف عليه بدون إسناد. ولكن مجموع الآثار تتقوى ببعضها وتصل إلى درجة الحسن لغيره.(4/5)
كذلك فإن أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها "فنصوصها مكونة من جمل قصيرة بسيطة وغير معقدة التركيب، ويكثر فيها التكرار، وتستعمل كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ثم قل استعمالها فيما بعد حتى أصبحت مغلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة. وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة، أو تخص أحداً بالإطراء أو الذم لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية وغير مزورة"(1). ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة وأساليب كتب النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى يعطيها توثيقاً آخر(2).
تاريخ كتابة الوثيقة:
الراجح أن الوثيقة في الأصل وثيقتان ثم جمع المؤرخون بينهما، إحداهما تتناول موادعة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود والثانية توضح التزامات المسلمين من مهاجرين وأنصار وحقوقهم وواجباتهم.
__________
(1) صالح العلي: تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة ص 4-5.
(2) يراجع للمقارنة كتاب "مجموعة الوثائق السياسية".(4/6)
ويترجح عندي أن وثيقة موادعة اليهود كتبت قبل موقعة بدر الكبرى(1) أما الوثيقة بين المهاجرين والأنصار فكتبت بعد بدر، فقد صرحت المصادر بأن موادعة اليهود تمت أول قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقال أبو عبيد القاسم بن سلام أن الوثيقة "كتبت حدثان مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قبل أن يظهر الإسلام ويقوى وقبل أن يؤمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب"(2). وإنما ظهر الإسلام وقوي بعد معركة بدر الكبرى ويقول البلاذري: "قالوا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قدومه المدينة وادع يهودها وكتب بينه وبينهم كتاباً، واشترط عليهم أن لا يمالئوا عدوه وأن ينصروه على من دهمه، وأن لا يقاتل عن أهل الذمة، فلم يحارب أحداً ولم يُهِجهُ، ولم يبعث سرية حتى أنزل الله عزوجل عليه { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير ٌ} فكان أول لواء عقده لواء حمزة بن عبد المطلب(3).
__________
(1) ذهب الدكتور صالح العلي إلى أنها كتبت بعد بدر أيضاً (تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة ص 6).
(2) الأموال رقم 518.
(3) البلاذري: أنساب الأشراف 1/286.(4/7)
وبذلك يوضح البلاذري أن وثيقة موادعة اليهود كتبت قبل إرسال السرايا الأولى، ومن المعلوم أن سرية حمزة كانت في رمضان سنة 1ه أي قبل غزوة بدر بسنة وأيام(1). ويقول البلاذري في موضع آخر وهو يتحدث عن غزوة بني قينقاع "وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادعته يهود كلها وكتب بينه وبينها كتاباً، فلما أصاب صلى الله عليه وسلم أصحاب بدر وقدم المدينة غانماً موفوراً بغت وقطعت العهد"(2). وهكذا جزم البلاذري بأن موادعة اليهود كانت قبل بدر.
ويقول الطبري: "ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منصرفة من بدر، وكان قد وادع حين قدم المدينة يهودها، على أن لا يعينوا عليه أحداً وأنه إن دهمه بها عدو نصروه، فلما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل ببدر من مشركي قريش أظهروا له الحسد والبغي… وأظهروا نقض العهد"(3) وهكذا يؤيد نص الطبري أن وثيقة موادعة اليهود كانت عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة قبل غزوة بدر.
__________
(1) انظر الطبري:تاريخ 2/402 نقلاً عن الواقدي وأما ابن إسحاق فيرى أن سرية عبيدة بن الحارث أسبق من سرية حمزة ويوضح تقارب وقت إرسالهما وأنه في ربيع الأول سنة اثنتين بعد الهجرة فيكونا قد اتفقا على خروج السرايا الأولى قبل بدر وهو المهم في هذا البحث. (انظر ابن هشام: السيرة النبوية 1/595).
(2) البلاذري: أنساب الأشراف 1/308.
(3) الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/479.(4/8)
وأما ما ورد في سنن أبي داود(1) وهو قوله – بعد ذكر مقتل كعب ابن الأشرف وشكوى يهود والمشركين ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم: (ودعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتاباً ينتهون إلى ما فيه فكتب النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين المسلمين عامة صحيفة) ومن المعلوم أن قتل كعب بن الأشرف جرى بعد بدر الكبرى فإنه يلزمنا التوفيق بينها وبين الروايات التاريخية فإنها أقوى حسب شروط المحدثين من روايات المؤرخين التي سقتها ولكن ما دام بإمكاننا التوفيق فلا داعي لإسقاط سائر الروايات التاريخية إذ لا مانع بعد مقتل كعب أن تُعاد كتابة الصحيفة تأكيداً أو تجديداً لتعود الطمأنينة إلى النفوس بعد هذه الحادثة التي أرعبت يهود والمشركين.
وقد أخرج البيهقي هذه الرواية من غير طريق أبي داود وفيها زيادة هي: "كتبها رسول الله تحت العِذق الذي في دار بنت الحارث فكانت تلك الصحيفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند علي بن أبي طالب"(2).
__________
(1) أبو داود: السنن 3/402.
(2) البيهقي: سنن 9/183.(4/9)
أما الوثيقة بين المهاجرين والأنصار فقد كتبت بعد وثيقة موادعة اليهود في السنة الثانية من الهجرة. فقد ذكر الطبري في حوادث سنة 2ه (وقيل إن في هذه السنة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاقل. فكان معلقاً بسيفه)(1) واسم سيفه هذا ذو الفقار وكان قد غنمه في غزوة بدر(2). وهذه المعاقل التي كانت معلقة بالسيف هي نصوص من الوثيقة بين المهاجرين والأنصار كما تدل رواية ابن سعد: "أخبرنا عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن جابر عن عامر قال: قرأت في جفن سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذي الفقار: "العقل على المؤمنين ولا يترك مفرح في الإسلام ولا يقتل مسلم بكافر"(3). وقد احتفظ علي (رض) فيما بعد بالسيف وفيه الصحيفة وقد سئل علي (رض) عما في الصحيفة مرة من قبل أبي جحيفة(4) وثانية من قبل الاشتر(5) فذكر بعض ما فيها لسائليه إما بالمعنى أو نصاً كما أنه ذكر محتواها مجملاً في إحدى خطبه(6).
__________
(1) الطبري: تاريخ 2/486. وانظر المقريزي: إمتاع الأسماع 1/107.
(2) أحمد: المسند 1/271. وابن سعد الطبقات ج 2قسم 1/17. والطبري 2/478 والذهبي: تاريخ الإسلام 1/290.
(3) ابن سعد: الطبقات 1/172.
(4) البخاري: الصحيح 9/14 والترمذي: صحيح 6/182 وابن ماجة: السنن 2/887 وأحمد: المسند 1/79.
(5) أحمد: المسند 1/119، 122.
(6) البخاري: الصحيح 2/296.(4/10)
ومن ذلك قوله: ما كتبنا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا فمن أحدث حدثاً وآوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل. ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف"(1). كما ذكر أن في الصحيفة أيضاً الجراحات وأسنان الإبل(2) وأضاف مرة "ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده"(3) كما ذكر أن فيها "العقل وفكاك الأسير أيضاً"(4). وقد قرأ أصحاب علي (رض) في الصحيفة المذكورة أن إبراهيم حرم مكة وأني أحرم المدينة ما بين حرتيها وحماها كله لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا لمن أشار بها ولا تقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال(5)
__________
(1) البخاري: (الصحيح (ط ليدن) 2/298-299 وانظر 2/296 منه أيضاً وأبو داود: السنن 2/488 وأحمد: المسند 1/119، 122، 3/242.
(2) البخاري: الصحيح 2/296 وابن ماجة: السنن 2/887.
(3) أحمد: المسند: 1/119 وأخرجه أحمد من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن لا يقتل مسلم بكافر" (المسند 2/178) وانظر عن طرق أخرى للحديث ابن ماجة: السنن 2/887 والبخاري: الصحيح 9/14، 16 (ط مصطفى البابي الحلبي) وصحيح الترمذي شرح ابن العربي 6/182.
(4) البخاري: صحيح 9/14 (ط مصطفى البابي الحلبي) وأحمد: المسند 1/79. وانظر الشوكاني: نيل الأوطار 7/10,
(5) أحمد: المسند 1/119. وانظر 4/141 منه.
... وفي صحيح مسلم بشرح النووي 9/136 عن جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم "إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها…" وكان أهل المدينة في صدر الدولة الأموية يحتفظون بكتاب من أديم خولي فيه ينص النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة المدينة (أحمد: المسند 4/141 والخطيب البغدادي: تقييد العلم ص 72).(4/11)
.
ومن الواضح أن هذه المقتطفات معظمها يطابق - نصاً - ما ورد في الوثيقة، كما أنها تغطي معظم بنود الوثيقة المتعلقة بالتزامات المسلمين من المهاجرين والأنصار تجاه بعضهم،ولكن ليس فيها إشارة إلى البنود المتعلقة بموادعة اليهود، مما يرجح أن الوثيقة في الأصل وثيقتان، وأن الصحيفة التي كانت معلقة بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صارت عند علي (رض) هي نفس الكتاب بين المهاجرين والأنصار.
ومن الجدير بالذكر أن ثمة نصوص تطابق ما في "الصحيفة بين المهاجرين والأنصار" لكنها منسوبة إلى كتب أخرى كتبها النبي صلى الله عليه وسلم. مثل رواية عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كتب إلى أهل اليمن كتاباً، وكان في كتابه "إن من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود، إلا أن يرضى أولياء المقتول"(1) وهذا الكتاب إنما أرسل متأخراً عن وقت كتابة الوثيقة.
__________
(1) الشوكاني: نيل الأوطار 7/61 وانظر مجموعة الوثائق السياسية 186 فهي توضح أن النص من كتابه صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لعمرو بن حزم عامله على اليمن.(4/12)
كما صرحت بعض الروايات بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "لا يقتل مؤمن بكافر"(1) لكن هذه النصوص التي حددت أزمانها بوقت متأخر عن الوقت الذي كتبت فيه الوثيقة لا تصلح دليلاً على أن الوثيقة هي مجموعة من الكتب التي دونت في أوقات متباينة ثم دمجت في الوثيقة(2) إذ لا مانع من أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض البنود الوثيقة في كتبه اللاحقة، وينبغي الانتباه إلى عدم ورود نصوص متعلقة باليهود في الصحيفة التي تناولت المعاقل مما يرجح أن وثيقة موادعة اليهود مستقلة عن الوثيقة بين المهاجرين والأنصار التي تناولت المعاقل. ويؤيد ذلك أيضاً حديث أنس بن مالك (رض) "حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك"(3) ولم يذكر أنس وجود اليهود في هذا الحلف.
وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار أن يعلقوا معاقلهم، وأن يفدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين"(4) ولم يذكر اليهود فيه. ولعل مما يؤيد ذلك أن البيهقي ساق البنود المتعلقة بالمهاجرين والأنصار مبيناً سند ابن إسحاق وليس فيها إشارة ليهود وهي مطابقة لما أورده ابن هشام عن ابن إسحاق.
وهكذا فإن الروايات التي ذكرتها ترجح أن الوثيقة في الأصل وثيقتان إحداهما تتعلق بموادعة اليهود كتبت قبل بدر أول قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، والثانية تتعلق بحلف المهاجرين والأنصار وتحديد التزاماتهم وكتبت بعد بدر، لكن المؤرخين جمعوا بين الوثيقتين.
كتابه (صلى الله عليه وسلم) بين المهاجرين والأنصار واليهود
__________
(1) الشوكاني: نيل الأوطار 7/10.
(2) ذهب إلى هذا الرأي SARJEANT في مقالهTHE CONSTITUTION OF MEDINA
(3) ابن كثير: البداية والنهاية 3/224 وقال قد رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود.
(4) أحمد: المسند 1/371 و 2/204 وعنه ابن كثير: البداية والنهاية 3/224.(4/13)
بسم الله الرحمن الرحيم
نص الوثيقة:(1)
هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل) يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
إنهم أمة واحدة من دون الناس.
المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الحارث (بن الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف.
وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط ين المؤمنين
بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط ين المؤمنين.
وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط ين المؤمنين.
وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل (12 ب) وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جمعاً، ولو كان ولد أحدهم.
ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.
وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
__________
(1) نقلتها من كتاب مجموعة الوثائق السياسية لأنه قارن بين سائر الروايات وأثبت الاختلافات في الحاشية، انظر منه ص 41-47.(4/14)
وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً.
وإن المؤمنين يبيء بعضهم عن بعض بما نال دمائهم في سبيل الله.
وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه. 12ب) وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن.
وإنه من اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل) وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يؤويه، وإن من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
وأنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد.
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.
وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف وأن البر دون الإثم.
وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
وإن بطانة يهود كأنفسهم.
وإنه لا يخرج منهم أحداً إلا بإذن محمد.
(36ب)- وإنه لا ينحجز على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وإن الله على أَبَرِّ هذا.(4/15)
وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
(37 ب)- وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم.
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
وإن بينهم النصر من دهم يثرب.
وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على مؤمنين إلا من حارب في الدين.
(45ب)- على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم..
وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تحليل الوثيقة
إن ما رجحته من تجزئة الوثيقة واعتبارها وثيقتين يجعل الكلام عنها وتحليها يقوم على فصل المواد المتعلقة باليهود عن المواد التي تنظم علاقة المسلمين ببعضهم تحدد واجباتهم وحقوقهم.
وسأبدأ بالكلام عن البنود المتعلقة باليهود لأنها أقدم - حسب ما رجحته - رغم أنها تتأخر بالنسبة لتسلسل البنود في الوثيقة حيث تتقدمها بنود الوثيقة الثانية المتعلقة بالمهاجرين والأنصار.
وثيقة موادعة اليهود:(4/16)
تتضمن وثيقة موادعة اليهود البنود من رقم (24) إلى رقم (47) مما يدل على عدم حدوث التداخل بين بنود الوثيقتين، بل ذكرت بنود كل وثيقة مجتمعة ومتسلسلة ولا يتعارض مع هذا القول ورود البند رقم (16) خلال بنود وثيقة المهاجرين والأنصار مع أنه يتعلق باليهود إذ هو يؤكد على التزام المسلمين بالعد تجاه حلفائهم اليهود، فلا يشترط أن يكون ضمن بنود وثيقة موادعة اليهود.
ويدل أحد بنود الوثيقة (رقم 24) على أن اليهود التزموا بدفع قسط من نفقات الحرب الدفاعية عن المدينة (وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين) وقد ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام إلى أن التزامات اليهود المالية لا تقتصر على الحرب الدفاعية، فهو يرى أن اليهود كانوا يغزون مع المسلمين أيضاً، قال أبو عبيد "ونرى أنه إنما كان سيهم لليهود إذا غزوا مع المسلمين بهذا الشرط الذي شرطه عليهم من النفقة، ولو لا هذا لم يكن لهم في غنائم المسلمين سهم"(1). وذكر أبو عبيد "حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن يزيد بن يزيد بن جابر عن الزهري قال: كان اليهود يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسهم لهم"(2). وهذا الحديث من مراسيل الزهري لا يحتج به، وقد رويت أحاديث أخرى في اشتراك اليهود مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته، وهي بالإضافة إلى ما تقدم:
حديث "استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهود قينقاع، الذي ورد من طريق الحسن بن عمارة، وقد خرجه أبو يوسف(3) والبيهقي، وذكر البيهقي أن الحسن بن عمارة، متروك"(4) ورغم أن الحسن بن عمارة غير متفق على تضعيفه لكن أكثر جهابذة المحدثين يضعفونه حتى حكى السهيلي إجماعهم على ذلك(5).
__________
(1) أبو عبيد: الأموال 296.
(2) أبو عبيد: الأموال 296.
(3) أبو يوسف: الرد على سير الأوزاعي ص 40.
(4) البيهقي: سنن 9/53.
(5) العسقلاني: تهذيب التهذيب 2/304-308.(4/17)
حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه" أخرجه الترمذي(1) من طريق الزهري مرسلاً وقال إنه حديث حسن غريب والقاعدة أن مراسل الزهري لا يحتج بها.
حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو باليهود"(2) وهو من مراسيل الزهري لا يحتج به.
حديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا بناس من اليهود" أخرجه البيهقي(3) وقال هذا منقطع. وهو من مراسيل الزهري أيضاً.
حديث "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة من يهود المدينة غزاهم بهم خيبر" أورده الواقدي(4) وهو ضعيف وعنه البيهقي(5) والزيلعي(6).
حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل معه قوم من اليهود في بعض حروبه فأسهم لهم مع المسلمين" خرجه الخطيب البغدادي(7) عن أبي هريرة (رض)، لكن إسناده ضعيف سقط منه بعض الرواة.
وهكذا يتبين أن سائر الأحاديث المروية عن اشتراك اليهود مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الحروب ضعيفة. وقد وردت أحاديث تدل على منع النبي صلى الله عليه وسلم اليهود من الاشتراك مع المسلمين في الحروب وهي:
__________
(1) الترمذي: سنن 7/49.
(2) الزيلعي: نصب الراية 3/422.
(3) البيهقي: سنن 9/53.
(4) الواقدي: كتاب المغازي 2/684.
(5) البيهقي: سنن 9/53 وقال هذا منقطع وإسناده ضعيف.
(6) الزيلعي: نصب الراية 3/422.
(7) الخطيب: تاريخ بغداد 4/160 قال: "أخبرني الحسن بن علي بن عبد الله المقريء حدثنا أحمد بن الفرج الوراق حدثنا أبو بكر أحمد بن (الردين) قال (الرذين) قريء على رزق الله بن موسى وأنا أسمع قال حدثينا سفيان بن عيينة عن يزيد بن يزيد جابر عن أبي هريرة. ومن الواضح أن يزيد بن يزيد ين جابر لم يلق أبا هريرة فقد ولد يزيد في حدود سنة 77هـ في حين توفي أبو هريرة سنة 57هـ".(4/18)
1- أخرج أبو عبد الله الحاكم(1) حديثاً عن أبي حميد الساعدي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا كتيبة، قال: من هؤلاء؟ قالوا: بنو قينقاع، وهو رهط عبد الله بن سلام، قال: وأسلموا؟ قالوا: لا بل هم على دينهم. قال: قولوا لهم: "فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين".
وقد رواه الحاكم كشاهد لحديث آخر رواه، وفيه "فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين" وقال الحاكم عنه "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقد روى الحديث نفسه على أنه في غزوة أحد، في حين أن رواية الحاكم تذكر أنه في إحدى غزواته دون تحديد للغزوة(2) ولا شك أن التحديد بغزوة أحد خطأ لأن بني قينقاع أجلوا قبل أحد بسنة. وقد أخرجه البيهقي عن أبي حميد الساعدي من طريق الحاكم أيضاً(3). وروى الواقدي وابن سعد أنهم كانوا حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستنصروا بأهل الشرك على أهل الشرك"(4).
2- ذكر ابن إسحاق(5) والإمام سحنون(6) وابن القيم(7) كلهم من طريق الزهري "أن الأنصار قالت يوم أحد ألا نستعين بحلفائنا من يهود" فقال صلى الله عليه وسلم "لا حاجة لنا فيهم".
إن الحديث الأول أصح إسناداً مما سواه، ولكن فيه سعد بن المنذر وهو مقبول عند الحافظ بن حجر ولكن مما يرجح هذا الرأي أن ما ورد في نص الوثيقة عن اشتراك اليهود في نفقات الحرب إنما يقتصر ذلك على الحرب الدفاعية عن المدينة، ولعل البند رقم (44) يوضح ذلك "وإن بينهم النصر على من دهم يثرب".
__________
(1) الحاكم: المستدرك على الصحيحين 2/122.
(2) الزيلعي: نصب الراية 3/423.
(3) البيهقي: سنن 9/37.
(4) الواقدي: كتاب المغازي 1/215-216. وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/27.
(5) سيرة ابن هشام 2/64.
(6) مالك بن أنس: المدونة الكبرى 3/40.
(7) ابن القيم: زاد المعاد 2/92.(4/19)
ولكن لماذا يخرج بعض اليهود لنصرة المسلمين كما في رواية الحاكم؟ إن ذلك يرجع إلى المحالفات التي كانت بين الأوس والخزرج واليهود قبل مجيء الإسلام، فلعل اليهود أرادوا التأكيد على تلك الأحلاف وتقوية ارتباطهم بحلفائهم القدامى للإفادة من هذه الصلة في الوقيعة بين المسلمين وتخذيلهم وغلغلة النفاق بين صفوفهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قطع عليهم الطريق رفض معونتهم ماداموا على الكفر. إن استمرار أثر المحالفات القديمة بين الأوس والخزرج واليهود يتضح من قول الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم في أحد "ألا نستعين بحلفائنا من يهود"؟ كما يتضح من شفاعة عبد الله بن أبي بن سلول كبير المنافقين في بني قينقاع حلفاء قومه الخزرج، ومن محاولة بعض الأوس تخليص حلفائهم يهود بني قريظة من القتل بعد نزولهم على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فحكّم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فحكم بقتلهم وبذلك تبرأ من حلفهم كما تبرأ من قبله عبادة بن الصامت (وهو من بني عوف من الخزرج) من بني قينقاع حين حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد تناولت البنود من رقم (25) إلى (35) تحديد العلاقة مع المتهودين من الأوس والخزرج، وقد نسبتهم البنود إلى عشائرهم العربية، وأقرت حلفهم مع المسلمين، "وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين" وقد وردت العبارة في كتاب الأموال "أمة من المؤمنين" مما جعل أبا عبيد يقول: "فإنما أراد نصرهم المؤمنين ومعاونتهم إياهم على عدوهم بالنفقة التي شرطها عليهم، فأما الدين فليسوا منه في شيء، ألا تراه قد بين ذلك فقال لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم"(1). أما ابن إسحاق فقد قال "مع المؤمنين" وهو أجود، ولعل ما في كتاب الأموال مصحف.
__________
(1) أبو عبيد: الأموال ص 296.(4/20)
وقد كفلت المادة رقم (25) لليهود حريتهم الدينية، كما حددت مسئولية الجرائم وحصرتها في مرتكبها (إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ – أي لا يهلك – إلا نفسه وأهل بيته) فالمجرم ينال عقابه وإن كان من المتعاهدين (لا يحول الكتاب دون ظالم ولا آثم).
وقد منع البند رقم (43) اليهود من إجارة قريش أو نصرها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستهدف التعرض لتجارة قريش التي تمر غربي المدينة في طريقها إلى الشام، فلا بد من أخذ هذا التعهد لئلا تؤدي إجارتهم لتجارة قريش إلى الخلاف بينهم وبين المسلمين. كما منع البند رقم 29 اليهود من الخروج من المدينة إلا بعد استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا القيد على تحركاتهم ربما يستهتدف بالدرجة الأولى منعهم من القيام بنشاط عسكري كالمشاركة في حروب القبائل خارج المدينة(1) مما يؤثر على أمن المدينة واقتصادها، واليهود كمواطنين في الدولة الإسلامية في المدينة يجب أن يخضعوا للنظام العام، كذلك فإن اليهود اعترفوا بموجب البند رقم (42) بوجود سلطة قضائية عليا يرجع إليها سائر سكان المدينة بما فيهم اليهود، لكن اليهود لم يُلْزَموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي دائماً بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية فهم يحتكمون إلى التوراة ويقضي بينهم أحبارهم، ولكن إذا شاءوا فبوسعهم الاحتكام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد خيّر القرآن الكريم النبي صلى الله عليه وسلم بين قبول الحكم فيهم أو ردهم إلى أحبارهم { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ
__________
(1) ذهب إلى ذلك عبد المنعم خان: رسالات نبوية فيما نقله عنه الدكتور صالح العلي في محاضراته (خطية لم تنشر بعد). والدكتور صالح أحمد العلي: تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة ص 16.(4/21)
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(1). ولا شك أن احتكامهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان متأخراً بعد ضعفهم، كما أن سورة المائدة متأخرة النزول.
كما أن المعاهدة امتدت بموجب البند رقم (45) لتشمل حلفاء المسلمين وحلفاء اليهود من القبائل الأخرى، إذ شرطت المادة على كل طرف مصالحة حلفاء الطرف الآخر لكن المسلمين استثنوا قريشاً "إلا من حارب في الدين" لأنهم كانوا في حالة حرب معهم.
وقد اعتبرت منطقة المدينة حرماً بموجب البند رقم (39) "وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة" والحرم هو ما لا يحل انتهاكه، فلا يقتل صيده ولا يقطع شجره، وحرم المدينة بين الحرة الشرقية والحرة الغربية وبين جبل (ثور) في الشمال وجبل عير في الجنوب، ويدخل وادي العقيق في الحرم(2) وبذلك أحلت هذه المادة الأمن داخل المدينة ومنعت الحروب الداخلية.
وثيقة الحلف بين المهاجرين والأنصار:
تبدأ الوثيقة التي كتبت بين المهاجرين والأنصار ببيان الأطراف المتحالفة بين "المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، والتميز بين المؤمنين والمسلمين واضح لأن المعروف أن المؤمن هو من آمن إقراراً باللسان وتصديقاً بالقلب، والمسلم هو من خضع لأحكام الإسلام وأدى فرائضه، ويتميز الصنفان في أهل يثرب فقط لظهور النفاق فيهم بعد غزوة بدر الكبرى، أما المهاجرون فليس فيهم مسلم إلا وهو مؤمن مصدق بقلبه.
__________
(1) سورة المائدة من الآية 42 وانظر عزة دروزة: سيرة الرسول 2/148.
(2) انظر محمد حميد الله: الوثائق السياسية ص 441-442 والنووي: صحيح مسلم بشرح النووي 9/136.(4/22)
ويقرر البند رقم (1) "إنهم أمة واحدة من دون الناس" أمة تربط أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم، ولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف، وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس "من دون الناس" فهذه الروابط تقتصر على المسلمين ولا تشمل غيرهم من اليهود والحلفاء، ولا شك أن تميز الجماعة الدينية كان أمراً مقصوداً يستهدف زيادة تماسكها واعتزازها بذاتها، يتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة بعد أن اتجهت ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس(1) وقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم يميز أتباعه عمن سواهم في أمور كثيرة ويوضح لهم أنه يقصد بذلك مخالفة اليهود، من ذلك: أن اليهود لا يصلون بالخف فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يصلوا بالخف، واليهود لا تصبغ الشيب فصبغ المسلمون شيب رأسهم بالحناء والكتم. واليهود تصوم عاشوراء والنبي صلى الله عليه وسلم يصومه أيضاً ثم اعتزم أواخر حياته أن يصوم تاسوعاء معه مخالفة لهم. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وضع للمسلمين مبدأ مخالفة غيرهم والتميز عليهم فقال: "ومن تشبه بقوم فهو منهم" وقال: "لا تشبهوا باليهود" والأحاديث في ذلك كثيرة وهي تفيد معنى تميّز المسلمين واستعلائهم على غيرهم، ولا ريب أن التشبه والمحاكاة للآخرين يتنافى مع الاعتزاز بالذات والاستعلاء على الكفار(2) ولكن هذا التميز والاستعلاء لا يشكل حاجزاً بين المسلمين وغيرهم، فكيان الجماعة الإسلامية مفتوح وقابل للتوسع ويستطيع الانضمام إليه من يقبل (ايديولوجيته).
__________
(1) خليفة: التاريخ 23-24 وسيرة ابن هشام 1/550.
(2) يعطي ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم فكرة واضحة عن هذا المعنى.(4/23)
وقد ذكرت البنود من (3) إلى (11) الكيانات العشائرية، واعتبرت المهاجرين كتلة واحدة لقلة عددهم، أما الأنصار فنسبتهم إلى عشائرهم، وذكر العشائر لا يعني اعتبارها الأساس الأول للارتباط بين الناس، ولا يعني الإبقاء على العصبية القبلية والعشائرية فقد حرم الإسلام ذلك: "ليس منا من دعا إلى عصبية" وإنما للاستفادة منها في التكافل الاجتماعي، وجعل الإسلام العقيدة هي الأصل الأول الذي يربط بين أتباعه لكنه اعترف بارتباطات أخرى تندرج تحت رابطة العقيدة وتخدم المجتمع وتساهم في بناء التكافل الاجتماعي بين أبنائه، مثل الارتباطات الخاصة بين: أفراد الأسرة الواحدة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات على الآباء والأبناء والأمهات وأفراد العشيرة الواحدة وما يترتب عليهم من حقوق وواجبات كالتضامن في دفع الديات وفكاك الأسرى وإعانة المحتاج منهم؛ وأفراد المحلة الواحدة: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". وأفراد القرية الواحدة: "أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى"؛ وأبناء المدينة الواحدة فلا تخرج زكاة أموالهم من مدينتهم إلا بعد استيفاء حاجات أبنائها.. وهكذا رتب الإسلام على الوحدات الاجتماعية الصغيرة القيام بمهام التكافل الاجتماعي وبذلك سد ثغرات كبيرة، وتأتي الدولة في نهاية المطاف فتسد ما تبقى من ثغرات مما عجز عنه الأفراد.. ولا شك أن ذلك يرفع عبئاً كبيراً عن كاهل الدولة تنوء به الدول الحديثة.
وهكذا فإن إقرار الروابط العشائرية قصد به الاستفادة منها في التكافل الاجتماعي، ولكن لا تناصر في الظلم ولا عصبية وبذلك حوّل الإسلام وجهة الروابط القبلية واستفاد منها بتكييفها وفق أهدافه العليا.(4/24)
إن التكافل الاجتماعي يحتم على العشيرة أن تعين أفرادها، ومن ذلك إذا قتل فرد منها أحداً خطأ، فإنها تدفع دية القتل بالتضامن بين أفرادها، وقد كان ذلك متعارفاً عليه في الجاهلية فأقرته الوثيقة لما فيه من التعاون: "على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى" أي على شأنهم وعادتهم من أحكام الديات(1). وكذلك تعين العشيرة الأسرى من أفرادها بمفاداتهم بالمال. "وهم يفدون عانيهم - أي الأسير - بالمعروف" كما أكدت الوثيقة على المسؤولية الجماعية، واعتبرت سائر المؤمنين مسؤولين عن تحقيق العدل والأمن في مجتمع المدينة. إن أهمية ذلك كبيرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشكل قوة منظمة كالشرطة لتعقب الجناه ومعاقبتهم.
__________
(1) أبو عبيد: الأموال ص 294. وابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/279. وانظر شرح الزرقاني المالكي على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/168. وابن منظور: لسان العرب مادة (عقل).(4/25)
ونظراً لكون الحدود على الجرائم مصدرها الله تعالى لذلك فإن السعي إلى تطبيقها واجب ديني على المؤمنين، وهذا يكسب الأحكام قدسية ويعطيها قوة كبيرة، ويمنع ما ينشأ في نفوس بعض الناس من الرغبة في تحديها والخروج عليها كما يحدث في ظل القوانين الوضعية. إن اهتمام الوثيقة بإبراز دور المؤمنين يتضح من البند رقم (13) والبند رقم (21) حيث ينص البند رقم (13): "وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وإن أيدهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم" فهي تعتمد على المؤمنين على المؤمنين في الأخذ على يد البغاة والمعتدين والمفسدين والمرتشين (1)، ومعنى (دسيعة ظلم) أي طلب عطية من دون حق(2). وتخصيص المتقين بتحمل المسؤولية لأنهم أحرص من سواهم على تنفيذ الشريعة لكمال إيمانهم ولأن من اتصف بأصل الإيمان قد يرتكب الحرام فيبغي ويخالف الحدود فيمنع من ذلك(3).
__________
(1) أبو عبيد: الأموال ص 294. وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/168.
(2) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 2/117. وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية 4/168. وابن منظور: لسان العرب مادة (دسع).
(3) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/168.(4/26)
أما البند رقم (21) فنصه: "ومن اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به" أي أن من قتل بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله فإن القاتل يقاد به ويقتل إلا إذا اختار أهل القتيل أخذ الدية بدل القصاص أو وقع منهم العفو"(1)، وسواء اختار أهله القتل أو الدية فإن المؤمنين كافة – بضمنهم أهل القاتل - يتعاونون في تطبيق الحكم عليه وعدم حمايته مهما بلغت درجة قرابته لهم إذ: "لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يؤويه، وإن من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل". والمحدث كل من أتى حداً من حدود الله عزوجل، فليس لأحد منه من إقامة الحد عليه، ومن آواه فإن الله يلعنه ويغضب عليه ولا يقبل منه التوبة عن فعلته في نصرة المجرمين ولا يقبل منه فدية لذلك(2).
ويقتضي التكافل الاجتماعي بين المؤمنين أن يعينوا المفرح منهم (أي الذي أثقله الدين)(3). إن كان أسيراً بفدائه وإن كان جنى جناية عن خطأ دفعوا الدية عنه كما ينص البند رقم (12) وقد ذهب ابن سعد إلى أن المفرح هو من يكون في القوم لا يعرف له مولى(4). ومن الواضح أن صلة الولاء يترتب عليها العون والمساعدة في الديات وغيرها. فمن لم يكن له عشيرة ينتسب إليها صليبة أو ولاء فإن المؤمنين جميعاً أولياؤه وعليهم مساعدته، فإذا جنى جناية كانت جنايته على بيت المال لأنه لا عاقلة له(5).
__________
(1) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/424. وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/168-169. والشوكاني: نيل الأوطار 7/61.
(2) أبو عبيد: الأموال ص 296.
(3) ابن هشام: السيرة النبوية 1/502. أبو عبيد: الأموال ص 294. وابن الأثير: النهاية 3/424. وابن منظور: لسان العرب مادة (فرح).
(4) ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/486.
(5) ابن منظور: لسان العرب مادة (فرح).(4/27)
لقد أقر البند (12ب) فكرة الحلف ولكنه لم يسمح بالتجاوز على حقوق الولاء التي للسيد على المعتقين من مواليه، فلا يجوز لأحد محالفتهم دون إذن سيدهم، ويتضح من حديث شريف أن الإسلام إنما أقر استمرار الأحلاف القديمة لكنه منع استحداث أحلاف جديدة ونص الحديث: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح قام في الناس خطيباً فقال: "يا أيها الناس إنه ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة ولا حلف في الإسلام"(1).
ويبرز في البند رقم (14) استعلاء المؤمنين على الكافرين: "لا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن" فهذا دليل على أن دم الكافر لا يكافئ دم المؤمن؛ وتأكيد على الترابط الوثيق بين المؤمنين وموالاتهم لبعضهم، وقطع صلات الود والولاء القديمة مع الكفار.
ويقرر البند رقم (17): "إن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم" فمسؤولية إعلان الحرب والسلم لا يقرره الأفراد بل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أعلن الحرب فإن سائر المؤمنين يصبحون في حالة حرب مع الخصم ولا يمكن لفرد منهم مهادنته لأنه مرتبط بالسياسة العامة للمؤمنين(2). كما أن عبء الحرب لا يقع على عشيرة دون أخرى بل إن الجهاد فرض على جميع المؤمنين وهم يتناوبون الخروج في السرايا والغزوات "وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً" بند رقم (18)(3).
__________
(1) رواه أحمد: المسند 1/180 و 2/215 ورواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن صحيح) انظر صحيح الترمذي بشرح ابن العربي المالكي 7/83.
(2) شرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/168.
(3) ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 3/267. وشرح الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني 4/168. وابن منظور: لسان العرب مادة (عقب).(4/28)
وقد أقر البند رقم (15) مبدأ الجوار الذي كان معروفاً قبل الإسلام، وجعل من حق كل مسلم أن يجير، وأن لا يخفر جواره، كما حصر الموالاة بين المؤمنين، والموالاة تقتضي المحبة والنصرة فلا يجوز لمؤمن أن يوالي كافراً: "والمؤمنون بعضهم أولياء بعض" { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}(1). { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}(2).
لكن البند رقم (21) يمنع من بقي على الشرك من الأوس والخزرج من إجارة قريش وتجارتها أو الوقوف أما تصدي المسلمين لها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مصمماً على المضي في سياسة التعرض لتجارة قريش، ولا شك أن المسلمين من الأوس والخزرج وهم الأكثرية الغالبة في عشائرهم هم الذين سيتكفلون بتطبيق هذه المادة بالنسبة للمشركين من أفراد عشائرهم. إن هذا الالتزام سبق أن أخذ تعهد اليهود به أيضاً عند موادعتهم وإن تكرر النص في الوثيقة يؤيد اعتبار الوثيقة تأليفاً بين وثيقتين منفصلتين كما سبق.
ولا مانع من أن ينص في وثيقة الحلف بين المهاجرين والأنصار على معاملة اليهود المحالفين للمسلمين بالمعروف والعدل وعدم التحريض عليهم وإيذائهم، رغم عدم وجود اليهود عند صياغة النصوص، بل إن ذلك يعبر عن ثبات القيم الأخلاقية في السياسة الإسلامية وإنها لا تعرف المخاتلة ولا الطعن من الخلف (بند رقم 16).
وفي ختام بنود الوثيقة المتعلقة بالتحالف بين المهاجرين والأنصار يقرر البند رقم (23) أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المرجع الوحيد في كل خلاف يقع بين المسلمين في المدينة: "وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم".
__________
(1) سورة المائدة من الآية 51.
(2) سورة آل عمران: من الآية 28.(4/29)
نقض يهود المدينة للمعاهدة وإجلاؤهم عنها
لم يلتزم اليهود بالمعاهدة التي أبرمها الرسول صلى الله عليه وسلم معهم بل سرعان ما نقضوها ولم يكتفوا بعدم الوفاء بالتزاماتهم التي حددتها بل وقفوا مواقف عدائية أيضاً، فكان ذلك سبب إجلائهم عن المدينة المنورة، وفيما يلي بيان لأحداث جلائهم وأسبابه الممهدة والمباشرة.
إجلاء بني قينقاع(1) تاريخ الغزوة:
يتفق المؤرخون على أنها وقعت بعد غزوة بدر الكبرى، وقد حدد الزهري تاريخها فذكر أنها كانت في شوال من السنة الثانية من الهجرة. ويضيف الواقدي أنها كانت يوم السبت للنصف من شوال(2).
سبب الغزوة:
تشير كتب السيرة إلى أن يهود بني قينقاع أظهروا الغضب والحسد عندما انتصر المسلمون ببدر، وقد بلغ بهم الأمر إلى حد المجاهرة بالعداء.
__________
(1) أفدت في حصر الروايات وانتفاء الصحيح منها في هذا المبحث من رسالة أعدها بإشرافي الشيخ أكرم حسين على بعنوان (مرويات يهود المدينة) لنيل درجة الماجستير من قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، وهي رسالة نافعة حبذا لو نشرت.
... الطبري: التاريخ 2/479-480 والواقدي: المغازي 1/176.
... وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/28-29.
(2) الطبري: التاريخ 2/479-480.
... والواقدي: المغازي 1/176.
... وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/28-29.(4/30)
ولتصوير الجو النفسي الذي أحاط بجلائهم لا بد من استعراض بعض الأحداث ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن يجمعهم وينصحهم بعد انتصاره ببدر فجمعهم في سوق بني قينقاع، فقال: "يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً. قالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً في قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال: إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا" ولا يخفى ما ردهم من تحدٍّ وتهديد مع أنهم كانوا قد انضموا تحت لواء رئاستة بموجب المعاهدة، وهذه الرواية وردت من طريق ابن إسحاق(1) وقد حسنها الحافظ ابن حجر(2). ولكن في سندها محمد بن محمد مولى زيد بن ثابت، حكم عليه الحافظ نفسه بأنه مجهول(3).
__________
(1) ابن هشام: السيرة 294 وأبو داود: السنن 3/402-403.
(2) فتح الباري 7/332.
(3) التقريب 2/205.(4/31)
وإذا قبلنا تحسين ابن حجر لها فإن ذلك لا يعني أن سبب جلاء بني قينقاع يعود إلى رفضهم قبول الإسلام، ففي هذه المرحلة كان الإسلام يقبل التعايش السلمي معهم ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشترط على أحد من يهود أن يدخل في الإسلام مقابل بقائه في المدينة المنورة بل إن نصوص المعاهدة(1) تؤكد إعطاء اليهود حريتهم الدينية في المدينة المنورة. وإنما يعود سبب الجلاء إلى ما أظهروه من روح عدائية. انتهت إلى الإخلال بالأمن داخل المدينة المنورة، فقد وردت رواية تشير إلى أن أحدهم عقد طرف ثوب امرأة مسلمة في سوق بني قينقاع، فلما قامت انكشفت وصاحت فقام أحد المسلمين فقتل اليهودي وتواثب اليهود فقتلوا المسلم، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع. وهذه الرواية ضعيفة في إسنادها انقطاع بين ابن هشام وعبد الله بن جعفر المخرمي، ثم إنها موقوفة على تابعي صغير مجهول الحال هو أبو عون ولكن يستأنس بها من الناحية التاريخية، فقد أوردتها معظم مصادر السيرة(2) وهي تصور تتابع الأحداث التي أدت إلى إجلاء بني قينقاع، وإن رفضهم الدخول في الإسلام لم يكن سبب جلائهم، بل السبب الحقيقي في ذلك هو إخلالهم بالأمن ومجاهرتهم بالعدوان مما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يقتنع بعدم إمكان العيش معهم بسلام.
الحصار:
__________
(1) راجع مبحث "إعلان دستور المدينة".
(2) ابن هشام: السيرة 2/561 والواقدي: المغازي 1/176-177.
... وابن كثير: البداية والنهاية 4/3-4 وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/295.(4/32)
إن خبر إجلاء بني قينقاع صحيح(1) وقد أورد ابن إسحاق – بروايته عن عاصم بن عمر بن قتادة - والواقدي - دون إسناد - تفاصيل حصار المسلمين لبني قينقاع، وتابعهم المؤرخون وكتاب السيرة في ذلك، ورغم أن هذه التفاصيل لم تثبت صحتها من الناحية الحديثية ولكنها مما يتساهل في نقله عند المحدثين ومما يعتمد عليه وفق مناهج النقد التاريخي التي لا تشترط الإسناد وصحته، ولا يعقل إهمال هذه الأخبار في الدراسات التاريخية إلا إذا تعلقت بالعقيدة أو الشريعة فإنه لا يعتمد في ذلك إلا على الروايات الصحيحة والحسنة التي تنهض للاحتجاج بها، وقد ورد في تفاصيل خبر حصار بني قينقاع أنهم كانوا حلفاء عبد الله بن أبي بن سلول وكانوا أشجع اليهود وكانوا صاغة، فلما أظهروا صريح العداء والبغضاء وخاف النبي صلى الله عليه وسلم خيانتهم، استخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر وعقد لواء أبيض حمله حمزة بن عبد المطلب وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة فاشتد عليهم الحصار ونزلوا على حكم الرسول، على أن له أموالهم، وأن لهم النساء والذرية، فأمر بهم فكتفوا ثم كلّمه فيهم حليفهم عبد الله بن أبي بن سلول وألحّ في ذلك قائلاً: "أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم لك"(2). وأمر بهم أن يجلوا عن المدينة وتولى أمر إجلائهم عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة الأنصاري حيث تم تقسيمها بين الصحابة بعد إخراج الخمس للرسول الله صلى الله عليه وسلم(3)
__________
(1) البخاري: الصحيح 3/11.
(2) كلام عبد الله بن أبي نقله ابن إسحاق عن عاصم بن عمر موقوفا عليه (ابن هشام: السيرة 2/562-563) وعاصم من صغار التابعين، فالرواية ضعيفة حسب اصطلاح المحدثين، وهي مما يُتساهل فيه من الأخبار، وأهميتها في ذكر عدد مقاتلي بني قينقاع.
(3) الواقدي: المغازي 1/176-177 وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/29.(4/33)
.
وقد نزل في إجلاء بني قينقاع قوله تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ - إلى قوله تعالى: { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ}(1) وقد نقل أهل التفسير أن قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(2). نزل في موالاة عبد الله بن أبي ليهود بني قينقاع وفي نفس الوقت أعلن عبادة بن الصامت براءته من حلفائه من يهود مظاهرة لله ولرسوله بقوله: "يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله".
والفرق واضح بين عبد الله بن أبي الذي أشرب قلبه النفاق وبين عبادة بن الصامت الذي صقلته التربية المحمدية، وخلصته من آثار العصبية الجاهلية والأهواء والمصالح الشخصية، فنظر إلى مصلحة العقيدة وقدمها على مصالحه الخاصة، فكان مثلاًً للمؤمن الواعي الملتزم.
مقتل كعب بن الأشرف:
__________
(1) أبو داود: السنن 3/402-403 وابن حجر: فتح الباري 7/332 وحكم على إسناد أبي داود بالحسن رغم أن فيه محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت وهو حكم عليه في التقريب بأنه مجهول وقد انفرد ابن حبان بتوثيقه.
(2) سورة المائدة الآية 51-52 وقد ذكر سبب النزول الطبري في تفسيره 6/274-275 وابن كثير في تفسيره 2/67-69 وفي سند الرواية ضعف لأن عطية بن سعد من رجال إسنادها صدوق يخطئ كثيراً ويدلس ولم يصرح فيها بالسماع، ولكن ابن إسحاق أورد حديثاً مرسلاً في ذلك كما ساق ابن مردويه رواية في ذلك، فربما قويت هذه الروايات ببعضها والله أعلم.(4/34)
ذهب جمهور العلماء إلى أن قتل ابن الأشرف وقع بعد غزوة بدر وقبل غزوة بني النضير، وحدد الواقدي ذلك بدقة فذكر أنه وقع في السنة الثالثة لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهراً من الهجرة النبوية(1). وكعب بن الأشرف، أبوه عربي من طيء وأمه عقيلة بنت أبي الحقيق من بني النضير الذين حالفهم الأب وتزوج منهم، وكان كعب شاعراً يناصب الإسلام العداء(2) وقد غاظه انتصار المسلمين ببدر وساءه الأمر فزار مكة، فكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش(3) ويبكي قتلى المشركين ببدر ثم رجع إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين(4) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، وفصّل البخاري خبر مقتله، وخلاصته أن محمد بن مسلمة الأنصاري أبدى استعداده لتنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، واستأذنه في أن يستخدم الخديعة، فأذن له لأن كعباً صار محارباً مهدور الدم فمضى محمد بن مسلمة إلى كعب وطلب منه أن يقرضه تمراً ليدفعه للرسول مظهراً تذمره منه لما يكلفهم به، فأراد كعب رهينة من النساء أو الأبناء فاعتذر محمد بن مسلمة لما يلحقهم من عار ذلك وعرض عليه أن يرهن عنده السلاح فوافق كعب. فجاءه محمد بن مسلمة ليلاً ومعه صحابي آخر هو أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة ومعهما ثلاثة آخرون من الصحابة، فنادوه فنزل إليهم ومشى معهم فاحتالوا لقتله متظاهرين بشم عطر شعره فأجهزوا عليه بسيوفهم حتى أصيب أحدهم بسيوف أصحابه(5). وقد اشتكت اليهود مقتله، فبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما صدر منه من عداء وهجاء، وفزعت يهود وبقايا المشركين مما حدث
__________
(1) الواقدي: المغازي 1/184.
(2) انظر ابن هشام: السيرة 2/564 وابن حجر: فتح الباري 7/337.
(3) أبو داود: السنن 3/402.
(4) ابن هشام: السيرة 2/564-565 بإسناد ضعيف موقوف على أحد صغار التابعين، لكن ما نقلناه مما يتساهل فيه وتؤيده الروايات الصحيحة الأخرى.
(5) البخاري: الصحيح 5/25-26.(4/35)
وخافوا على أنفسهم، فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كتابة معاهدة بينهم فكتبت صحيفة عامة كما تذكر رواية أبي داود في رواية تصلح للاحتجاج بها لما لها من شواهد ومتابعات(1). ويبدو أن كتابة الصحيفة جاء تأكيداً لما في المعاهدة التي كتبت قبل بدر بين المسلمين واليهود بعد أن أثار مقتل ابن الأشرف مخاوف يهود.
وقد يبدو مقتل ابن الأشرف متسماً بالغدر، ولكن صاحب النظر الفاحص والبصيرة النافذة يدرك أن ابن الأشرف معاهد بموجب الصحيفة التي التزم فيها يهود بني النضير مع الآخرين، وأنه بهجائه للنبي وهو رئيس الدولة بالنسبة لابن الأشرف وبإظهاره التعاطف مع أعداء المسلمين ورثاء قتلاهم وتحريضهم على المسلمين يكون قد نقض العهد وصار محارباً مهدور الدم. وأما استدراجه ممن يثق بهم وقتله بالخديعة فإنه جائز مع المحارب، وقد تم بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم(2) ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ بني النضير بجريرة كعب بن الأشرف واكتفى بقتله جزاء غدره وجدد المعاهدة معهم، ولكن يبدو أن لمقتل كعب أثراً عميقاً في نفوسهم حيث مضوا يكيدون للإسلام رغم تجديدهم المعاهدة، حيث إن الخوف - وليس النوايا الطيبة - هو الذي جرّهم إلى تجديدها كما سيتبين من الأحداث التالية:
إجلاء بني النضير
تاريخ غزوة بني النضير:
وردت روايتان صحيحتا الإسناد تدلان على أن غزوة بني النضير كانت بعد غزوة بدر الكبرى.
الأولى: ما رواه الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب ابن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم(3).
__________
(1) أبو داود: السنن 3/402. والبيهقي: دلائل النبوة 2/462-464.
... والهيثمي: مجمع الزوائد 6/195-196، وانظر: ابن إسحاق: السيرة 199-200 بإسناد حسن.
(2) انظر الطحاوي: مشكل الآثار 1/78-79.
(3) عبد الرزاق: المصنف 5/357.
... وأبو داود: السنن 2/139-140. كتاب الخراج والفيء والإمارة.(4/36)
الثانية: ما رواه عروة عن عائشة(1) فرغم أن البيهقي قال إن ذكر عائشة غير محفوظ، ولكن الذهبي صححها ويبدو لي أنها من قبيل زيادة الثقة المقبولة، ولم يذكر غير البيهقي علة الإرسال فيها، كما وردت رواية مرسلة عن عروة بأنها كانت على رأس ستة أشهر من بدر(2).
ونقل البيهقي رواية أخرى عن عروة أنها كان في محرم سنة ثلاث(3) وهي توافق الأولى لأن بدراً كانت في 17 رمضان سنة 2ه ونقل ذلك عن موسى بن عقبة أيضاً(4)، وعروة تابعي كبير، وموسى تابعي صغير والإسناد إليهما فيه من لم أعثر على ترجمته ولولا ذلك لقويت الرواية إلى مرتبة الحسن.
أما ابن إسحاق فذكر أنها كانت في سنة أربع من الهجرة(5) وذكر الواقدي وابن سعد دون إسناد أنها كانت في شهر ربيع الأول على رأس سبعة وثلاثين شهراً من الهجرة(6) ووافقه ابن هشام في أنها كانت في ربيع الأول(7). وقد تابع جل كتاب السيرة ابن إسحاق في تحديد تاريخ الغزوة. وقطع ابن القيم بوهم الزهري أو وقوع الغلط عليه في أنها كانت بعد بدر بستة أشهر، فلا شك عنده أنها بعد أحد وهو بذلك يرجح رواية جماهير أهل السيرة والمغازي(8). ويرى ابن حجر أن ما ذكره عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب أقوى مما ذكره ابن إسحاق من حيث الصحة الحديثية. ولكنه يرى أيضاً أنه إذا ثبت أن سبب إجلاء بني النضير يتعلق بقصة دية القتيلين العامريين يتعين الأخذ بقول ابن إسحاق لأن بئر معونة كانت بعد أحد بالاتفاق(9).
__________
(1) الحاكم: المستدرك 2/483 كتاب التفسير.
(2) عبد الرزاق: المصنف 5/357.
(3) البيهقي: دلائل النبوة 3/446-450. وأبو نعيم: دلائل النبوة 3/176-177.
(4) البيهقي: دلائل النبوة 3/446-450. وأبو نعيم: دلائل النبوة 3/176-177.
(5) ابن هشام: السيرة 3/683. والبخاري: الصحيح 3/11 معلقاً عن ابن إسحاق.
(6) مغازي الواقدي 1/363. وطبقات ابن سعد 3/57.
(7) السيرة: 3/683.
(8) ابن القيم: زاد المعاد 2/110.
(9) الفتح 6/388-389.(4/37)
وقد رويت آثار في تفسير قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(1) وأنها نزلت في شأن يهود بني النضير عندما هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فأنقذه الله بنعمة منه. لكن هذه الآثار فيها ضعف ويمكن أن تعتضد لتصبح بمجموعها صالحة للاحتجاج بها(2). وهي تقوي ما ذهب إليه ابن إسحاق ولكن يبقى السؤال قائماً دون جواب حاسم: متى تمت غزوة بني النضير؟ لم يجزم ابن حجر برأي قاطع في الأمر رغم رجحان الدليل الصحيح عنده وعلق التسليم برأي ابن إسحاق بثبوت تعلق الغزوة بقصة العامريين القتيلين… ويبدو أن استفاضة الروايات على ضعفها في تأييد قول ابن إسحاق، هو السبب في عدم جزم الحافظ، وهو مسلك مع الروايات التاريخية يتسم بالمرونة في تطبيق قواعد مصطلح الحديث وبمراعاة التخصص واحترام أقوال أصحاب المغازي.
سبب غزوة بني النضير:
تذكر المصادر ثلاثة أسباب لهذه الغزوة:
__________
(1) سورة المائدة: الآية 11.
(2) انظر أسانيدها في تفسير الطبري 6/146-137 بأسانيد منها ما فيها الوقف على يزيد ابن رومان ومنها ما فيها ضعف محمد بن حميد الرازي وكثرة خطأ سلمة بن الفضل الأبرشي. ودلائل النبوة لأبي نعيم ص 176-177 بأسانيد فيها ضعف وترقى إلى ابن عباس وعروة ودلائل النبوة للبيهقي 3/446-448 بسنديه إلى عروة ابن الزبير وموسى بن عقبة (موقوفين عليهما).
... وابن كثير التفسير 3/31 نقلاً عن ابن إسحاق ومجاهد وعكرمة.(4/38)
الأول: محاولة بني النضير قتل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر الكبرى وقد سجلت لهم المصادر محاولتين، الأولى بعد كتابة قريش إليهم وتهديدها لهم بالحرب إن لم يقاتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستجاب بنو النضير لهم وعزموا على الغدر، وأرسلوا إلى النبي أن يخرج إليهم في ثلاثين رجلاً من أصحابه، ووعدوا أن يخرجوا بمثلهم من أحبارهم، إلى موضع وسط ليستمعوا منه، فإن صدقوه آمنت يهود، فلما اقتربوا اقترح اليهود أن يجتمع النبي ومعه ثلاثة من أصحابه بثلاثة من أحبارهم فإن أقنعهم آمنت بنو النضير، وقد حمل الثلاثة خناجرهم، لكن امرأة منهم أفشت خبرهم لأخ لها مسلم، فأخبر النبي فرجع ولم يقابلهم، ثم حاصرهم بالكتائب وقاتلهم فنزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما حملت الإبل إلا السلاح فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم. وهذه الرواية إسنادها رجاله ثقات وفيه جهالة اسم الصحابي ولا تضر(1).
__________
(1) عبد الرزاق: المصنف 5/359-360، وانظر فتح الباري 7/331، وسنن أبي داود 2/139-140، كتاب الخراج والفيء والإمارة. والمستدرك للحاكم 2/483 كتاب التفسير.(4/39)
أما المحاولة الثانية فقد رواها ابن إسحاق وتابعه معظم كتاب السيرة الآخرين، وتتلخص بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني النضير ليستعين بهم على دفع دية رجلين معاهدين قتلهما خطأ عمرو بن أمية الضمري في أعقاب حادثة الرجع، فجلس النبي إلى جدار لبني النضير فهموا بإلقاء حجر عليه وقتله فأخبره الوحي بذلك فانصرف عنهم مسرعاً إلى المدينة ثم أمر بحصارهم فنزلوا على الصلح بعد حصار ست ليال، على أن لهم ما حملت الإبل(1) وهذه الرواية موقوفة على يزيد بن رومان وهو من صغار التابعين، لكنها تتقوى مع المتابعة وقد توبعت برواية عروة بن الزبير في مغازي موسى بن عقبة(2)، أما موسى بن عقبة صاحب المغازي فقد ذكر فيها إضافة لما ذكره ابن إسحاق أنه "كانت النضير قد دسوا إلى قريش وحضوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلوهم على العورة"(3).
ورغم أن رواية عبد الرزاق أقوى سنداً من رواية ابن إسحاق، ولكن الأخيرة حظيت بقبول كتاب السيرة، وكلتا الروايتين تعزو حصار المسلمين لبني النضير إلى محاولتهم قتل الرسول الله صلى الله عليه وسلم غدراً، وأما رواية موسى بن عقبة فلم تحدد وقتاً للأعمال التي ارتكبها اليهود ضد المسلمين من الدس والتحريض وتقديم المعلومات لقريش، والمعروف أنهم حرضوا المشركين على قتال المسلمين فكانت غزوة أحد، وأنهم أعانوا أبا سفيان في غزو أطراف المدينة التي أدت إلى مطاردة المسلمين له في غزوة السويق بعد أحد، ومعلوم تلك الأشعار التي أنشدها كعب بن الأشرف النضري في تحريض قريش على حرب المسلمين. فلعل الإشارة إليها في رواية موسى بن عقبة فيكون ما ذكره إشارة إلى سوء العلاقة بين المسلمين وبني النضير وأنها ختمت بمحاولة الغدر التي كانت سبباً مباشراً في حصارهم تقف وراء سلسلة من الأعمال العدائية.
__________
(1) ابن إسحاق: السيرة 3/191.
(2) ابن حجر: فتح الباري 7/331.
(3) ابن حجر: فتح الباري 7/332.(4/40)
إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم لبني النضير بالجلاء
لم ترد رواية صحيحة من الناحية الحديثية تدل على إنذار النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بالجلاء لكن إجلاءهم ثابت في حديث صحيح يرويه عبد الله بن عمر (رض)(1). أما الإنذار فقد ذكره الواقدي وابن سعد - دون إسناد - وفيه أنه طلب منهم الخروج من المدينة خلال عشرة أيام فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، فاستعدوا للخروج لكن عبد الله بن أبي بن سلول حرضهم على التمرد وعدم الخروج ووعدهم النصر، فأعلنوا تمردهم وحاصرهم المسلمون(2) وقد أوردت روايتان – بإسنادين موقوفين على عروة بن الزبير وموسى بن عقبة وفيهما رواة لم أعثر لهم على ترجمة – خبر إنذار النبي لبني النضير بالجلاء(3)، وقد سجلت معظم كتب السيرة خبر الإنذار دون أسانيد(4). ورغم أن موقف المنافقين لم تسجله إلا روايات ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها لكن يكفي لثبوته ما ورد في سورة الحشر التي ثبت بطرق صحيحة أنها نزلت في بني النضير(5).
حصار بني النضير ومعاهدة إجلائهم:
__________
(1) البخاري: صحيح 3/11.
... ومسلم: صحيح 5/159.
(2) مغازي الواقدي 1/363-370 والواقدي متروك وابن إسحاق: سيرة ابن هشام 3/682 بدون إسناد، وطبقات ابن سعد 3/57-58 بدون إسناد، والبيهقي دلائل النبوة 3/446-450 بإسناد فيهما مجاهيل أربعة.
(3) البيهقي: دلائل النبوة 3/446-448، وأبو نعيم: دلائل النبوة 3/176-177. وفي إسناديهما أبو جعفر محمد بن عبد الله البغدادي وأبو علاقة محمد بن عمرو بن خالد ومحمد بن عبد الله بن عتاب والقاسم بن عبد الله بن المغيرة ولم أعثر على تراجمهم، وبقية رجال الإسنادين ممن يحتج به.
(4) تاريخ الطبري 3/334-335، وابن سيد الناس: عيون الأثر 3/48. وابن كثير: البداية والنهاية 3/45 وغيرها.
(5) ابن سيد الناس: عين الأثر 2/49، وابن كثير: التفسير 4/330، والسيوطي: لباب النقول في أسباب النزول 214.(4/41)
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصرهم بالكتائب وقال لهم: "إنكم لا تأمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه"، فأبوا أن يعطوه عهداً، فقاتلهم يومهم ذلك، هو والمسلمون ثم غدا الغد على بني قريظة بالخيل والكتائب، وترك بني النضير ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه فانصرف عنهم وغدا إلى بني نضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أن لهم ما أقلت الإبل إلا الحلقة (1)، فجاءت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم، وأبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم، فيهدمونها فيحملون ما وافقهم من خشبها"(2).
وقد ثبت بنص القرآن(3) والحديث(4) أن النبي صلى الله عليه وسلم حرق وقطع بعض نخل بني النضير خلال الحصار.
__________
(1) الحلقة: السلاح.
(2) عبد الرزاق: المصنف 5/358-361، وأبو داود: السنن 3/404-407، والبيهقي: دلائل النبوة 3/446-448، وانظر فتح الباري 7/331.
(3) سورة الحشر من الآية 5 قوله تعالى: { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله}
(4) صحيح البخاري 3/11، 143، وسنن أبي داود 3/36، وسنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 5/175-158، وسنن ابن ماجة 3/948-949.(4/42)
وتقرر معاهدة الجلاء حقن دماء اليهود، وإجلاءهم عن ديارهم، والسماح لهم بأخذ ما تحمله إبلهم من المتاع والأموال سوى السلاح فيتركونه للمسلمين. ويمكن الجمع بين الروايات الصحيحة التي تذكر أنهم أجلوا إلى الشام(1) وبين ما ذكره ابن سعد(2) من توجههم إلى خيبر بأن زعماءهم مثل حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع وغيرهم ذهبوا إلى خيبر ومعظمهم ذهب إلى الشام، ورواية ابن سعد ضعيفة دون إسناد ولكن تؤيد ذلك الأحداث اللاحقة الثابتة بالمرويات القوية مثل أخبار قتالهم في غزوة خيبر وقتل كنانة وأسر صفية وخبر سلام بن أبي الحقيق، والجمع يكون بالقول بأنهم أجلوا إلى الشام وبعضهم استقر بخيبر. وبذلك قال ابن إسحاق(3). وقد أسلم من بني النضير اثنان فأحرزا أموالهما وهما يامين بن عمر بن كعب وأبو سعد بن وهب(4) أما أموال بني النضير ونخلهم فكانت للرسول خاصة بنص القرآن(5) "فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله"(6). وقد قسم النبي أرضهم بين المهاجرين، وأعطى اثنين من الأنصار فقط هما سهل بن حنيف وأبو دجانة سماك بن خرشة لحاجتهما(7)
__________
(1) عبد الرزاق: المصنف 5/358-361.
(2) ابن سعد: الطبقات 3/58.
(3) ابن هشام: السيرة 3/683 دون إسناد ويؤيد ما في دلائل النبوة 3/446-449 بإسناديه إلى عروة وموسى بن عقبة وفيهما رجال لم أعثر لهم على ترجمة.
(4) ابن هشام: السيرة 3/683 بإسناده إلى عبد الله بن أبي بكر.
(5) الحشر 6 { وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وقد نزلت سورة الحشر في بني النضير (صحيح البخاري 3/141، وصحيح مسلم 8/345).
(6) البخاري: الصحيح 3/143، والشافعي في السنن (الساعاتي: بدائع السنن 3/110).
(7) عبد الرزاق: المصنف 5/358-361، وأبو داود: السنن 3/404-407.
... وانظر ابن حجر: الفتح 7/331. وسيرة ابن هشام 3/683-684.(4/43)
.
وقد أدى إجلاء بني النضير إلى كسر شوكة اليهود والمنافقين في المدينة حيث جددت قريظة المعاهدة مع المسلمين خلال حصار بني النضير وأظهرت رغبتها في المحافظة على العهد حتى كانت غزوة الأحزاب، والمنافقون لم ينجزوا وعدهم لبني النضير بالنصر وتبين ليهود عدم جدوى الاعتماد عليهم.
وقوي كيان الإسلام بالتخلص من بني النضير والإفادة من أراضيهم بإقطاعها للمهاجرين الذين كانوا يعتمدون في سكناهم على أراض وبيوت للأنصار.
تحريض بني النضير للمشركين:
وقد استمر الحقد يعمل في نفوس يهود بني النضير مما دفعهم إلى تحريض المشركين من قريش والأحزاب على مهاجمة المدينة في غزوة الخندق، وقد وردت روايات ضعيفة إما لإرسال أو لانقطاع أو لجهالة(1) أحد الرواة في الإسناد، ولكنها تصلح بمجموعها للاحتجاج وتقوى ببعضها وهي ترقى إلى عروة بن الزبير وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله ابن أبي بكر بن حزم وسعيد بن المسيب وموسى بن عقبة، حيث ذكر بعضهم أسماء بعض هؤلاء المحرضين من بني النضير، ذكرها ابن إسحاق وهم سلام بن أبي الحقيق النضري وكنانة بن أبي الحقيق النضري، وحيي ابن أخطب النضري(2).
إجلاء بني قريظة
تاريخ الغزوة:
__________
(1) سيرة ابن هشام 3/700-701، ومصنف عبد الرزاق 5/368-373، وابن سعد 3/65-66، وابن حجر: فتح الباري 7/412-414.
(2) سيرة ابن هشام 3/700-701.(4/44)
وقعت غزوة بني قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة(1)، عقب غزوة الخندق التي كانت في شوال سنة خمس للهجرة على قول قتادة وعروة بن الزبير وابن إسحاق وعبد الرزاق(2) وقد ذهب الإمام مالك وموسى بن عقبة إلى أن الخندق كانت في شوال سنة أربع، وبه قال ابن حزم وقد استدل الثلاثة بحديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه(3).
وقد بيّن البيهقي إمكان الجمع بين القولين فقال: "ولا اختلاف بينهم في الحقيقة، لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين وقبل استكمال خمس". وقد صرح الزهري بأن الخندق كانت بعد أحد بسنتين، ولا خلاف أن أحداً في شوال سنة ثلاث إلا على قول من ذهب إلى أن أول التاريخ من محرم السنة التالية لسنة الهجرة، ولم يقدروا الشهور الباقية من سنة الهجرة من ربيع الأول إلى آخرها، كما حكاه البيهقي، وبه قال يعقوب بن سفيان الفسوي وقد صرح بأن بدراً في الأولى وأحداً في سنة اثنتين وبدر الموعد في شعبان سنة ثلاث، والخندق في شوال سنة أربع وهذا مخالف لقول الجمهور، فإن المشهور أن عمر رضي الله عنه جعل أول التاريخ من محرم سنة الهجرة، وعن مالك أنه من ربيع الأول سنة الهجرة.
فصارت الأقوال ثلاثة، والصحيح قول الجمهور أن أحداً في شوال سنة ثلاث وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة.
__________
(1) طبقات ابن سعد 3/74، وسيرة ابن هشام 3/715، وتاريخ الرسل والملوك 3/593، وابن سيد الناس: عيون الأثر 3/68.
(2) مصنف عبد الرزاق 5/367، وسيرة ابن هشام 3/699، والهيثمي 6/143، وعزاه للطبراني وقال إن رجاله ثقات.
(3) صحيح البخاري 3/33-73، وانظر قول مالك.(4/45)
أما حديث ابن عمر فقد أجاب عنه جماعة من العلماء منهم البيهقي بأنه عرض يوم أحد وهو في أول الرابعة عشرة، ويوم الأحزاب وهو في أواخر الخامسة عشرة وهو المعقول لأن المشركين لما انصرفوا عن أحد واعدوا المسلمين إلى بدر العام القابل ولم يقع. فقال: فلا يعقل أن يأتوا لحصار المدينة بعد شهرين(1).
سبب الغزوة:
ويرجع سبب الغزوة إلى نقض بني قريظة العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم حيث ثبت ذلك بطرق قابلة بمجموعها للاحتجاج بها، وكان نقضهم للعهد بتحريض من حيي بن أخطب النضري(2) وفي وقت حرج وخطير بالنسبة للمسلمين الذي كان يحاصرهم عشرة آلاف مقاتل من الأحزاب، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الزبير بن العوام(3) لاستطلاع خبرهم ثم أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير(4). لمعرفة صحة ما يشاع من غدر بني قريظة، وقد أكد له هؤلاء صحة الخبر فاشتد الأمر على المسلمين.
وقد فصّل ابن إسحاق خبر غدر بني قريظة ونقضهم العهد دون إسناد وجل كتاب السيرة أوردت ذلك دون إسناد(5).
__________
(1) ابن كثير البداية والنهاية 4/93-94، والسيرة النبوية 3/180-181، وابن القيم: زاد المعاد 388-389، وابن حجر: فتح الباري 7/393.
(2) أورد ذلك عبد الرزاق من مراسيل سعيد بن المسيب وهي أصح المراسيل والرواية صالحة للاحتجاج بها مع المتابعة (المصنف 5/368-373)، وأبو نعيم من مراسيل سعيد أيضاً (دلائل النبوة 3/183).
(3) صحيح البخاري 3/306، وصحيح مسلم 7/138.
(4) ابن هشام: السيرة 3/706 بدون إسناد.
(5) مغازي الواقدي 3/454-459، وتاريخ الرسل والملوك 3/570-573، وابن حزم جوامع السيرة /187-188، وابن عبد البر: الدرر 181-183، وابن سيد الناس: عيون الأثر 3/59-60، وابن كثير: البداية والنهاية 103-104.(4/46)
وذكر موسى بن عقبة دون إسناد أيضاً أن قريظة طلبت من حيي ابن أخطب أن يأخذ لهم تسعين رجلاً من أشراف قريش وغطفان رهائن لئلا يرجعوا عن المدينة قبل القضاء على المسلمين فيها، فوافق حيي على ذلك فأعلنوا نقضهم للصحيفة(1).
وقد أمر الله تعالى نبيه بقتال بني قريظة بعد عودته من الخندق ووضعه السلاح(2) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتوجه إليهم وقد أعلم أصحابه بأن الله تعالى قد أرسل جبريل ليزلزل حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب(3) وأوصاهم أن (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) كما في رواية البخاري(4) - أو الظهر - كما في رواية مسلم(5). وقد حان وقت العصر وبعضهم في الطريق فمنهم من صلى ومنهم من أخر وأقر النبي الطرفين فقد اجتهدوا في مراده من أمره. ومن أخر صلاّها بعد العشاء الآخر كما وضح ابن إسحاق(6).
وقد جمع العلماء بين روايتي البخاري ومسلم بالقول باحتمال أن يكون بعضهم قد صلى الظهر قبل الأمر وبعضهم لم يصلها فأمر من لم يصلها أن لا يصلى الظهر ومن صلاها أن لا يصلى العصر، وقيل باحتمال أن تكون طائفة قد ذهبت بعد طائفة فقيل للأولى الظهر وللثانية العصر(7).
وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى بني قريظة واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم(8) وإن لم يثبت ذلك بحديث صحيح لكنه مما يتساهل في قبوله.
وقد وردت آثار مرسلة تتقوى ببعضها إلى رتبة الحسن لغيره تفيد أنه بعث عليا على المقدمة برايته(9).
__________
(1) ابن كثير: البداية والنهاية 4/103-104.
(2) البخاري: الصحيح 3/24، وأحمد: المسند 6/56، 131، 280.
(3) البخاري: الصحيح 3/24، 144.
(4) البخاري: الصحيح 3/34.
(5) مسلم: الصحيح 5/163.
(6) سيرة ابن هشام 3/716-717 من مراسيل معبد بن كعب بن مالك وهو مقبول من الثالثة.
(7) ابن حجر: فتح الباري 7/408-409.
(8) ابن هشام: السيرة 3/716، وابن سعد 3/74 كلاهما دون إسناد.
(9) سيرة ابن هشام 3/716-717، وفتح الباري 7/413.(4/47)
وانفرد ابن سعد بذكر عدد جيش المسلمين وعدد خيلهم فذكر أنهم كانوا ثلاثة آلاف رجل معهم ستة وثلاثون فرساً(1).
وتختلف الروايات في مدة حصاره لبني قريظة أكان شهراً(2) أم خمساً وعشرين ليلة(3) أم خمسة عشر يوماً(4) أم بضع عشرة ليلة(5) ، وأقوى الأدلة تبين أنه كان خمساً وعشرين ليلة وتميل معظم كتب المغازي إلى ذكر هذه المدة تبعا لرواية إسحاق(6).
نجاح الحصار ومصير بني قريظة:
ولما اشتد الحصار وعظم البلاء على بني قريظة، أرادوا الاستسلام والنزول على أن يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، وقد استشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر من الصحابة – وكان حليفاً لهم – فأشار إلى أن ذلك يعني ذبحهم.
وقد ندم على مشورته هذه وربط نفسه إلى إحدى سواري المسجد النبوي حتى قبلت توبته(7).
أما بنو قريظة فقبلوا النزول على حكم سعد بن معاذ، ورأوا أنه سيرأف بهم بسبب الحلف بينهم وبين قومه الأوس.
__________
(1) ابن سعد 3/74، وابن سيد الناس: عيون الأثر 3/68 دون إسناد.
(2) تاريخ الرسل والملوك 2/583 بلفظ الشك من الراوي بين الشهر الخمس وعشرين ليلة.
(3) الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد 21/81-83 ورواته كلهم ممن يحتج بهم.
... وتاريخ الرسل والملوك 2/583، ومجمع الزوائد للهيثمي 6/136-138.
(4) ابن سعد 3/74 بدون إسناد.
(5) ابن كثير: البداية والنهاية 4/118-119، وفتح الباري 7/413 عن موسى بن عقبة عن الزهري مرسلاً.
(6) تاريخ الرسل والملوك 2/583، وابن حزم: جوامع السيرة 193، وابن عبد البر: الدرر 189، وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/96.
(7) الفتح الرباني لتريب مسند أحمد 21/81-83 بإسناد حسن.(4/48)
فجيء بسعد محمولاً لأنه كان قد أصابه سهم في ذراعه يوم الخندق، فقضى فيهم أن تقتل المقاتلة وأن تسبي النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قضيت بحكم الله(1) وبذلك تبرأ سعد بن معاذ من حلف بني قريظة ولم يقع في نفوس الأوس شيء رغم تحالفهم مع بني قريظة وقرب عهدهم بالإسلام، فسيدهم يعد هو الذي حكم فيهم، وكان عدد مقاتلتهم الذين نفذ فيهم الحكم أربعمائة(2)، ونجا ثلاثة من بني قريظة بدخولهم في الإسلام(3) فأحرزوا أنفسهم وأموالهم وربما نجا ثلاثة آخرون منهم بحصولهم على الأمان من بعض الصحابة أو لما أظهروه من وفاء بالعهد خلال الحصار، فقد وردت أخبار كثيرة في ذلك لكنها لا تبلغ درجة الاحتجاج بها، وقد حبس أسراهم في دار بنت الحارث،(4) ثم نفذ القتل في سوق المدينة حيث حفرت أخاديد وقتلوا فيها بشكل مجموعات(5)، ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة(6) كانت قد قتلت صحابياً هو خلاد بن سويد برحى ألقته عليه.
__________
(1) البخاري: الصحيح 2/120، 3/24-25، ومسلم: الصحيح 5/160-161.
(2) أحمد: السنن 3/350 بإسناد حسن، وذكر ابن حجر الفتح 7/414 الاختلاف في عددهم ما بين أربعمائة، وجمع بين الأقوال بأن الزيادة لأتباع بني قريظة من مواليهم وغيره.
(3) البخاري: الصحيح 3/11، ومسلم: الصحيح 5/159، والثلاثة هم ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد.
(4) وهذه رواية ابن إسحاق (ابن هشام: السيرة 3/721) أما عروة فذكر أنها "دار أسامة ابن زيد" والجمع بينهما أن الأسرى وضعوا في الدارين لكثرتهم.
(5) أحمد: المسند 3/350، والترمذي: السنن 4/144-145.
(6) ابن هشام: السيرة 3/722، وأحمد: المسند 6/277.
... وأبو داود: السنن 2/150 وإسناده حسن لذاته.(4/49)
أما الغلمان غير البالغين فقد أطلق سراحهم(1) – وبعد إنفاذ حكم القتل في مقاتلة بني قريظة شرع في تقسيم أموالهم وذراريهم بين المسلمين(2) وقد فصلت كتب المغازي كيفية تقسيم الأموال والذراري لكن ما ذكرته لا يرقى إلى درجة الاحتجاج به.
وقد اصطفى الرسول صلى الله عليه وسلم ريحانة بنت عمرو بن خنافة من بين السبي لنفسه وهو قول ابن إسحاق وابن سعد وغيرهم كثير وقال الواقدي ومن تابعه إنه تزوجها والأول أرجح.
وقد جنح بعض المؤرخين المعاصرين إلى نفي الروايات المتعلقة بالعقوبات التي واجهتها بنو قريظة وتضعيفها(3)، بزعم أن إثباتها يجرح المشاعر الإنسانية ويخدم الدعاية الصهيونية، وليس الأمر كذلك فإن أوثق المصادر الإسلامية قد أثبتت وقوع ذلك، ولم تكن العقوبة الشديدة إلا جزاء للخيانة العظمى التي ارتكبها بنو قريظة عندما غدرت بالمسلمين وتبرأت من حلفهم بدل أن تشترك معهم في الدفاع عن المدينة المنورة بموجب نصوص المعاهدة بين الطرفين.
ولا زالت الدول تحكم بقتل الخونة المتواطئين مع الأعداء حتى الوقت الحاضر.
وكان جزاء بني قريظة من جنس عملهم حين عرّضوا بخيانتهم أرواح المسلمين للقتل وأموالهم للنهب ونساءهم وذراريهم للسبي، فكان أن عوقبوا بذلك جزاء وفاقاً، وليس من داع للتنصل من حقائق التاريخ وتكذيب الروايات الصحيحة.
__________
(1) ابن هشام: السيرة 3/724، وابن سعد: الطبقات الكبرى 2/76-77.
(2) البخاري: الصحيح 3/11، ومسلم: الصحيح 5/159.
(3) انظر بحث الدكتور وليد عرفات ضمن بحوث مؤتمر السيرة العالمي بقطر.(4/50)
المجتمع المدني في عهد النبوة خصائصه وتنظيماته الأولى
المجتمع المدني قبل الهجرة:
"يثرب" - وهو الاسم القديم للمدينة المنورة - واحة خصبة التربة كثيرة المياه تحيط بها الحرات من جهاتها الأربع وأهما حرة واقم من الشرق وحرة الوبرة في الغرب. وحرة واقم أكثر خصوبة وعمراناً، من حرة الوبرة، ويقع جبل أحد شمالها وجبل عسير في جنوبها الغربي، وتقع فيها عدة وديان أشهرها وادي بطحان ومذينيب ومهزور والعقيق وهي منحدرة من الجنوب إلى الشمال حيث تلتقي عند مجتمع الأسيال من رومة.
وقد ورد اسم يثرب في الكتابات المعينية بما يدل على قدمها(1) ولكن معلوماتنا عن تاريخها الذي يسبق الإسلام قليلة ومشتتة وتبدو أكثر وضوحا كلما اقتربنا من الفترة الإسلامية.
اليهود:
تختلف النظريات حول أصل يهود المدينة المنورة - والحجاز عامة -والمكان الذي هاجروا منه والزمان الذي قدموا فيه، ولكن أقواها يميل إلى أن بداية نزوحهم من الشام في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد بعد أن نجح الرومان في السيطرة على سورية ومصر في القرن الأول.ق.م. وعلى اليهود ودولة الأنباط في القرن الثاني بعد الميلاد، مما أدى باليهود إلى الهجرة إلى شبه جزيرة العرب التي كانت بعيدة عن سيطرة الرومان الذين أفزعوهم.
غير أن هجرة اليهود إلى الحجاز اشتدت بعد فشل التمرد اليهودي ضد الرومان والتي أخمدها الإمبراطور تيتوس في - عام 70م، وقد وصل بعض هؤلاء اليهود المهاجرين إلى يثرب كما وصلت مجموعة أخرى من اليهود إلى يثرب بعد فشل ثورة أخرى قاموا بها في زمن الإمبراطور هادريان بين عامي 132-135م.
وشكل هؤلاء اليهود الجالية اليهودية في المدينة والحجاز(2)
__________
(1) جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام 3/295.
(2) د.جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام6/513-514(بيروت 1968-1971).
د. محمد بيومي مهران، دراسات في تاريخ العرب القديم (نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض 1397ه/1977م ص448-450.(5/1)
.
وقد ارتاد يهود بني النضير وبني قريظة منطقة يثرب واستقروا فيها لخصبها وأهمية موقعها التجاري على طرق القوافل إلى الشام.
وقد استقر يهود بني النضير وقريظة في حرة واقم شرقي يثرب وهي أخصب بقاعها(1). وعرف من أسماء القبائل اليهودية قبل الهجرة أيضاً بنو قينقاع الذين تختلف الآراء في كونهم عرباً تهودوا أو أنهم نزحوا مع النازحين إلى الحجاز وهذا الاختلاف يسري على البطون الأخرى من يهود التي تسميها المصادر العربية ومنهم بنو عكرمة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو الشطيبة وبنو جشم وبنو بهدل وبنو عوف وبنو معاوية وبنو مريد وبنو القصيص وبنو ثعلبة(2).
ولم تذكر المصادر إحصاء لعدد اليهود، ولكن كتب السيرة ذكرت أعداد المقاتلين - وهم عادة الرجال البالغون - من كل قبيلة وهو سبعمائة من بني قينقاع ومثلهم تقريباً من بني النضير وما بين السبعمائة والتسعمائة من بني قريظة(3) فالمقاتلون من يهود القبائل الثلاث يزيدون قليلاً على الألفين، هذا سوى بقية بطون يهود الأخرى الأقل أهمية والتي تسكن في أماكن متناثرة من يثرب أيضاً حيث يذكر السمهودي أنها تزيد على العشرين بطناً(4).
__________
(1) أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول ص 288.
(2) السمهودي: وفاء الوفا 1/112-116. وابن هشام: السيرة 2/259.
(3) ابن هشام: السيرة 2/428- 3/259 (تحقيق محي الدين عبد الحميد).
... وانظر أحمد إبراهيم الشريف ص 294.
(4) وفاء الوفا 1/112.(5/2)
ولا شك أن المجتمع المدني الذي خضع لسيطرة اليهود قبل أن يقوى كيان العرب فيه خضوعاً تاماً اقتصادياً وسياسياً وفكرياً، حيث ترك اليهود بعض طوابعهم عليه كما أنهم تأثروا بالقبائل العربية التي تحيط بيثرب من كل مكان، من ذلك أن اليهود نقلوا من الشام إلى يثرب فكرة بناء الآطام حيث بلغ عددها في يثرب تسعاً وخمسين أطما(1). كما حملوا معهم خبراتهم الزراعية والصناعية مما أثر في ازدهار بساتين يثرب حيث النخيل والأعناب والرمان وبعض الحبوب، كما ظهر الاهتمام بتربية الدواجن والماشية وبرزت صناعات النسيج الذي تحوكه النسوة إلى جانب الأواني المنزلية وبعض الأدوات الأخرى اللازمة للمجتمع الزراعي. وكما أثر اليهود على مجتمع المدينة فقد تأثروا بالعرب من حولهم فظهرت طوابع الحياة القبلية على يهود بما فيها من عصبية وكرم واهتمام بالشعر وتدريب على السلاح. وطغيان النزعة القبلية على يهود جعلهم لا يعيشون ككتلة دينية واحدة بل قبائل متنازعة لم تتمكن من توحيد صفها حتى في عصر السيرة عندما واجهت أحداث الجلاء.
وبالطبع كان على رأس الأعمال الاقتصادية التعامل بالربا والذي يتقنه اليهود في كل مكان. وإن كان الربا معروفاً في مجتمع مكة التجاري أيضاً.
العرب
وقد سكن الأوس والخزرج يثرب التي سبقهم إليها يهود وتملكوا أخضب بقاعها وأعذب مياهها، مما اضطر الأوس والخزرج إلى سكنى الراضي المهجورة من يثرب، وينتمي الأوس والخزرج إلى قبيلة الأزد اليمانية الكبيرة والتي خرجت من اليمن إلى الشمال في فترات مختلفة ربما أقدمها في حدود عام 207م عندما هاجرت خزاعة إلى مكة.
__________
(1) السمهودي: وفاء الوفا 1/116.(5/3)
واختلف المؤرخون في سبب هجرة الأزد، فبعضهم يرجع ذلك إلى انهيار سد مأرب وحدوث سيل العرم وبعضهم يقلل من أثر انهيار السد، ويعزو ذلك إلى الاضطرابات السياسية والتدهور الاقتصادي الذي نجم عن سيطرة الرومان على البحر الأحمر وانتقال تجارة الهند عبره وهو الأرجح لشمول تأثير ذلك على السكان ومنهم الأزد التي كان معظمها يسكن خارج منطقة سد مأرب(1).
وممن هاجر من الأزد الأوس والخزرج الذين استقروا بيثرب إلى جانب يهود.
فسكن الأوس منطقة العوالي بجوار قريظة والنضير، وسكن الخزرج سافلة المدينة حيث جاوروا بني قينقاع، وكانت ديار الأوس أخصب من ديار مما كان له أثر في المنافسة والصراع بين الطرفين(2).
ويحدد سديو تاريخ هجرتهم بعام 300م ثم سيطرتهم على يثرب في عام 492م(3) ولا شك أن ثمة تحولات اقتصادية وسكانية حدثت لصالح العرب وتمثلت في زيادة عددهم وثروتهم(4)
__________
(1) أحمد إبراهيم مكة والمدينة ص 315.
... ومحمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ العرب القديم ص 458-459.
(2) أحمد إبراهيم الشريف
مكة والمدينة ص 337-340.
(3) سديو تاريخ العرب العام، ترجمة عادل زعيتر ص 51.
(4) السمهودي: وفاء الوفا 1/125-126.
... وأحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول 325.(5/4)
ولا يوجد إحصاء لعدد الأوس والخزرج ولكن القبلتين قدمتا أربعة آلاف مقاتل للجيش الإسلامي الذي ذهب لفتح مكة سنة 8ه(1) ولا شك أن هذه التحولات مهدت لسيطرتهم على يثرب التي كانت السيادة فيها ليهود، وقد حاول اليهود الدفاع عن تسلطهم بتفتيت وحدة العرب من أوس وخزرج وإثارة الشقاق بينهم فأفلحوا في إذكاء العداوة وقيام الحروب بين الجانبين، وآخر ذلك يوم بعاث(2) قبل الهجرة بخمس سنوات حيث هزم الأوس الخزرج الذين طالما غلبوهم من قبل لتفوق قواتهم عليهم حتى لجأت الأوس إلى محالفة يهود النضير وقريظة فغلبتهم في بعاث، ولكنهم فطنوا إلى خطورة الإجهاز عليهم وأن ذلك يمكن اليهود من استعادة سيطرتهم على يثرب، لذلك سعوا إلى المصالحة معهم بل إن الجانبين اتفقا على ترشيح رجل من الخزرج هو عبد الله بن أبي بن سلول الذي وقف مع أهله على الحياد في "بعاث" ليكون ملكاً على يثرب مما يدل على تمكن العرب من المحافظة على قوتهم وتفوقهم على يهود بعد يوم بعاث.
ولا شك أن وقائع أيام العرب بين الأوس والخزرج ولدت شعوراً بالمرارة عند الطرفين ورغبة قوية في العيش بهدوء وسلام، وهذا الشعور كان يرافق استقبال يثرب للإسلام حاملاً معه بشائر التآخي والسلام، وقد عبرت السيدة عائشة رضي الله عنها عن أثر الحروب والمنازعات في إقبال أهل المدينة على الإسلام بقولها: "كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فقدم رسول صلى الله عليه وسلم، وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا، قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام"(3).
أثر الإسلام في المجتمع المدني
__________
(1) أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة 348.
(2) ابن الأثير، الكامل 1/660-666، 668-671، 676، 678-680.
(3) صحيح البخاري 5/44 وانظر 5/67 منه أيضاً. وابن هشام السيرة 1/183.(5/5)
لا شك أن لكل حضارة وفكر ودين طابعاً يطبعه وصبغة تصبغه ولوناً يميزه، وعلى قدر أصالة الحضارة وعمقها وشمولها يكون تأثيرها في الإنسان الذي يعيش في إطارها وقد تتشابه الأفكار والمعتقدات ولا تستقل عن بعضها إلا في جوانب معينة كما هو الحال في الفلسفات المادية المهيمنة على عالمنا المعاصر، فإن التحول من واحدة إلى أخرى لا يتطلب تغييراً جذرياً وانقلاباً شاملاً في حياة الإنسان بل يكفي أن تتغير قناعته بمبدأ منها وتزداد بآخر ليتم التحول الفكري إلى المبدأ الجديد.. إن هذا التحول لا يحتاج إلى مجهود كبير إذ ليس له أثر على السلوك اليومي والعادات المتأصلة في النفس فلا ينعكس إذاً على واقع الحياة.
إن هذه الظاهرة لا تنطبق على الإسلام، فهذا الدين منذ ظهوره أحدث انقلاباً جذرياً في حياة الفرد والجماعة بحيث تغير سلوك الأفراد اليومي وعاداتهم المتأصلة تغيراً كلياً، كما تغيرت مقاييسهم وأحكامهم ونظرتهم إلى الكون والحياة والإنسان.. وكذلك تغيرت بنية المجتمع بصورة واضحة فاختفت مظاهر وصور وبرزت معالم وظواهر جديدة..
إن النقلة التي أحدثها الإسلام عميقة وشاملة، ففي عالم العقيدة يمثل طفرة من عبادة الأشياء المحسوسة كالأصنام والأوثان والكواكب التي يرونها ويلمسونها إلى عبادة الله الواحد الذي لَيْسَ كمثله شَيء والذيْ لا تُدرِكُه الأبصَار وَهُو يدركُ الأبصَار. والذي لا يمكن تصوره وتمثله ومعرفة كنهه، بل يعرف بما وصف به نفسه في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين دون تمثيل أو تشبيه ولا نفي أو تعطيل.(5/6)
وهذه طفرة من "العقل البدائي" الذي يتعامل مع المحسوسات إلى "العقل الحضاري" الذي يتمكن من فهم التوحيد والتنزيه لله رب العلمين. وفي سلوك الإنسان اليومي أحدث الإسلام تغييراً جذرياً.. فالنقلة كبيرة بين ما كان عليه في جاهليته وما صار إليه في إسلامه.. لم يعد العربي كما كان متفلتاً من ضوابط القانون في معاملاته وعلاقاته الاجتماعية بل صار منضبطاً بضوابط الشريعة في جزئيات حياته من أخلاق وعادات ونوم واستيقاظ وطعام وشراب وزواج وطلاق وبيع وشراء .. ولا شك أن العادات تتحكم في الإنسان ويصعب عليه التخلص منها واكتساب عادات وصفات جديدة.. لكن ما ولده الإسلام في أنفسهم من إيمان عميق مكنهم من الانخلاع من الشخصية الجاهلية بكل ملامحها واكتساب الشخصية الإسلامية بكل مقوماتها، فاعتادوا على عبادة الله تعالى واتجهوا بكل نشاطهم الاجتماعي والاقتصادي إليه لأن العبادة في الإسلام شاملة لكل نشاط وحركة يقصد بها وجه الله تعالى، والتزموا بأداء الصلاة التي هي عماد الدين يومياً خمس أوقات محددة.. ولا شك أن النفس تكسل وتحاول التنصل من الواجبات والالتزامات لكن المسلم وقد أسلم وجهه لله تعالى تمكن من الاعتياد عليها، قال تعالى مبيناً ما تحتاجه الصلاة من صبر: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}(1).
__________
(1) سورة طه من الآية 132.(5/7)
وكذلك الأمر بالنسبة للصوم بما فيه من خرق لعادات الإنسان اليومية في تناول الطعام والشراب يحتاج إلى إرادة قوية وعزيمة مؤمنة. والتخلي عن جزء مما يملك الإنسان من مال كل سنة لأداء الزكاة يحتاج إلى التخلص من الحرص والشح فلا بد أن يكون حب المسلم لله أعظم من حبه للمال ليخرج زكاته، ولذلك فإن كثيراً من المرتدين في خلافة الصدّيق رضي الله عنه أعلنوا استعدادهم للبقاء على إسلامهم إذا أعفوا من الزكاة. وإلى جانب الاعتياد على الأوامر الجديدة وحمل النفس عليها كان لا بد للمسلم أن يتخلص من كثير من العادات المتأصلة كشرب الخمر والأنكحة الجاهلية التي أبطلها الإسلام والربا الذي كان يقوم عليه اقتصاد مكة وغيرها. إن المسلمين تخلصوا من هذه العادات وغيرها استجابة لأمر الله تعالى.. فلما نزل قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}(1) خرجت الأنصار بدنان الخمر إلى الأزقة وأراقوها وقالوا: "انتهينا ربنا انتهينا ربنا" وشرب الخمر الذي أقلعوا عنه كان عادة متأصلة في حياة الفرد والمجتمع، والخمر الذي أراقوه كان مالاً ضحوا به تسليماً لله رب العالمين.
__________
(1) سورة المائدة 91، 92.(5/8)
ولم يكن العربي ليخضع لدولة وإنما كانت الوحدة السياسية والاجتماعية هي القبيلة، وكانت الدويلات التي نشأت في أنحاء من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام بوقت طويل قد اندثرت وطغت البداوة والقبلية بما فيها من عصبية وتنازع وصراع وتفكك في سائر شبه الجزيرة، فلما جاء الإسلام أرسى مفهوم الدولة وربط سائر القبائل والأفراد بها، فقامت دولة المدينة المنورة على أساس فكري بحت وتوسعت لتوحيد شبه الجزيرة العربية لأول مرة في تاريخها تحت راية الإسلام، فكانت هذه نقلة في تاريخ شبه الجزيرة العربية السياسي.
وهكذا فإن الإسلام أحدث تغييراً جذرياً في حياة الفرد والمجتمع في المدينة المنورة لما تميز به من عمق وشمول وقدرة على التأثير حتى صبغ الحياة بكل جوانبها بصبغته { صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً}(1).
وسوف نتلمس آثار هذا التغيير الشامل في المباحث التالية:
الهجرة وأثرها في التكوين الاجتماعي لسكان المدينة
قدم المهاجرون إلى المدينة المنورة - كما أُطلق على يثرب في الإسلام - وكانوا في البدء من عشائر مختلفة من قريش، ثم استمرت الهجرة وصار حقاً على المسلمين الجدد في أرجاء الجزيرة أن يهاجروا إليها وظل الأمر كذلك حتى أوقفت الهجرة رسمياً بعد فتح مكة عام ثمان للهجرة.
والهجرة حدث عظيم استحق أن يكون بداية العام الهجري الجديد عند المسلمين منذ أن وضع الخليفة عمر بن الخطاب التقويم الهجري.
__________
(1) سورة البقرة من الآية 138.(5/9)
فالهجرة كانت دليلاً على الإخلاص والتفاني في سبيل العقيدة، فقد فارق المهاجرون وطنهم ومالهم وأهليهم ومعارفهم استجابة لنداء الله ورسوله. ولما اعترضت قريش سبيل صهيب الرومي بحجة أنه جمع أمواله من عمله بمكة ولم يكن ذا مال قبل قدومه مكة، ترك لهم أمواله وهاجر بنفسه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ربح صهيب(1). ومنع المشركون أبا سلمة رضي الله عنه من الهجرة بزوجته وابنه فلم يمنعه ذلك من الهجرة وحيداً تاركاً زوجته وكفله وقد ظلت زوجته أم سلمة تخرج كل غداة بالأبطح تبكي حتى تمسي نحو سنة، حتى تمكنت من الهجرة بابنها ولحقت بزوجها(2). وهكذا فإن الهجرة اقترنت بظروف صعبة كانت تمحيصاً لإيمان المؤمنين واختباراً لقوة عقيدتهم، واستعلاء إيمانهم على الأعراض والمصالح والعلائق الدنيوية.
وقد دلت أحداث الهجرة على سلامة التربية المحمدية للصحابة رضوان الله عليهم، فقد صاروا مؤهلين للاستخلاف في الأرض وتحكيم شرع الله والقيام بأمره والجهاد في سبيله وهم يقبلون على بناء دولة المدينة المنورة بعد أن كانوا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس.
وقد اختار الله تعالى المدينة لهجرة المسلمين لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قد أُريت دار هجرتكم، أُريت سبخة ذات نخل بين لابتين" رواه البخاري ومسلم(3).
__________
(1) الحاكم المستدرك 3/398 وقال صحيح على شرط مسلم.
(2) انظر الإصابة 8/222.
(3) صحيح البخاري 7/186 وصحيح مسلم 7/57.(5/10)
وتأخر الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة وأخر معه أبا بكر الصديق رضي الله عنه حتى أذن الله تعالى له بالهجرة. قالت عائشة رضي الله عنها: وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي"، فلما أذن الله لرسوله بالخروج لم يُعْلِمْ أحداً بذلك إلا علياً وأبا بكر وآله، وكان المشركون قد غاظتهم هجرة المسلمين فأتمروا لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(1) وقد خرج الاثنان إلى جبل ثور حيث أويا إلى غار فيه، وتعقبهم المشركون إلى المكان حتى بدت أقدامهم خارج الغار فقال الصديق رضي الله عنه: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما". متفق عليه(2) لكن الله تعالى صرف المشركين عنهما فلم يفطنوا لهما، وخرج الاثنان بعد ثلاثة أيام في طريقهما إلى المدينة(3) يقطعان الصحراء ورسول الله قد بلغ الثالثة والخمسين وأبو بكر بلغ الحادية والخمسين، لكن القلوب الموصولة بالله تعالى لا يعيقها شيء عن بلوغ القصد وتحقيق أهداف الرسالة، ورسالة الإسلام جاءت تنظم أمور العبادات والمعاملات فهي دستور للحياة لابد لتطبيقه من أرض وأمة تقام فيها أحكام الله تعالى التي اكتمل تشريعها فيما نزل في المدينة المنورة من قرآن وما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو علمه أو أمر به من سنّة… وهي تعطي صورة لأمثل دولة ضمت أمثل مجتمع ظهرت في تاريخ البشر وهي النموذج الذي ينبغي على المسلمين في كل زمان ومكان أن يحتذوه ليكفلوا لأنفسهم سعادة الدارين
__________
(1) سورة الأنفال الآية: 30.
(2) صحيح البخاري 7/217 وصحيح مسلم 7/109.
(3) أحمد: المسند رقم 351 وانظر ابن كثير: البداية والنهاية 3/187-188.(5/11)
ويبتعدوا عن الشقاء والحياة الضنكى والضياع وسط ركام الجاهلية الذي يزحف عليهم من كل مكان ولا منجى لهم إلا بالعودة إلى الله تعالى والاقتداء بهدي رسوله.
وقد تأخرت هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى هاجر معظم القادرين على الهجرة من أصحابه الذين استجابوا للأمر بالهجرة، واستمر الحث على الهجرة وبيان فضل المهاجرين بنزول الآيات القرآنية واستمر معها تدفق المسلمين الجدد من كل مكان، فقد كانت الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة بحاجة إلى المهاجرين من المؤمنين ليتوطد سلطان الإسلام فيها إذ يغالبه اليهود والمشركون والمنافقون، وتحيط به قوى الأعراب المشركين من حول المدينة، ويترصده كفار قريش الذين أقضّت الهجرة مضاجعهم فمضوا يخططون للإجهاز على كيان الإسلام الفتي ودولته الناشئة، لذلك تتابعت الآيات في الأمر بالهجرة وبيان فضلها وعظيم أجرها حتى وعد الله تعالى المهاجرين بمنعهم وتمكينهم من مراغمة أعدائهم والتوسعة عليهم في أرزاقهم، قال تعالى: { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ}(1). أي أن الذي يخرج بنية الهجرة فيموت في الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر. وقال تعالى: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}(2) فهنا أقسم تعالى أن يرزق المهاجرين في سبيله رزقاً حسناً سواء قتلوا في الجهاد أو ماتوا على فرشهم في غير جهاد.
__________
(1) سورة النساء من الآية 100.
(2) سورة الحج 58.(5/12)
وقد منع القرآن الكريم المسلمين القادرين على الهجرة من الإقامة مع المشركين قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُواكُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً، إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً} النساء 97، 98، 99.
وذلك لأن الإقامة مع المشركين فيها تكثير سوادهم وانتفاعهم بالمسلمين في صناعاتهم وزروعهم بل ربما اضطروهم للمشاركة معهم في حربهم ضد المسلمين كما وقع في غزوة بدر الكبرى، بالإضافة إلى تعرضهم للفتنة من قبل الكفار لصرفهم عن دينهم، ولا يخفى ما في بعدهم عن دولة الإسلام من منع استفادة المسلمين منهم في حربهم ومصالحهم وتكثير سوادهم، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله" رواه أبو داود.
وقد تأخر بعض المسلمين بمكة عن الهجرة تحت ضغوط أزواجهم وأولادهم فلما هاجروا من بعد ورأوا الذين سبقوهم من المهاجرين قد تفقهوا في الدين هموا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم وكان ذلك سبباً في نزول الآية الكريمة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}(1).
__________
(1) سورة التغابن من الآية 14 والحديث أخرجه الترمذي سنن 4/202. وقال هذا حديث حسن صحيح، والحاكم: المستدرك 2/490. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الحافظ الذهبي.(5/13)
ويتضح من ذلك كله أن الهجرة كانت فرضاً في أول الإسلام على من أسلم حتى إذا كانت غزوة الأحزاب سنة خمس للهجرة وتبينت قدرة الدولة الإسلامية على الدفاع عن نفسها وحماية كيانها أمام قوى الأحزاب مجتمعين لم تعد بحاجة إلى مهاجرين جدد، فقد تغيرت خطة الدولة الإسلامية من الدفاع إلى الهجوم وعبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا".
وكذلك ضاقت المدينة بسكانها المتزايدين وما يحتاجونه من القوت والمسكن، فطلب الرسول الكريم من بعض المهاجرين بعد الخندق العودة إلى ديارهم قائلا: "هجرتكم في رحالكم" إذ لم تعد ثمة حاجة لإقامتهم في المدينة بل صار بقاؤهم في قبائلهم أجدى لقيامهم بالدعوة إلى الإسلام خارج المدينة وتوسيع انتشار الإسلام.
ولكن ذلك لا يعتبر وقفاً رسمياً للهجرة، بل إن إعلان وقف الهجرة كان بعد فتح مكة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا"، أخرجه البخاري. وبهذا سقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدوّ، لكن الهجرة باقة الحكم في حق من أسلم في دار الكفر ولم يأمن الفتنة على دينه مع قدرته على الخروج منها.
لقد أدت الهجرة المستمرة إلى تنوع سكان المدينة المنورة فلم يعودوا يقتصرون على الأوس والخزرج ويهود بل نزل معهم المهاجرون من قريش وقبائل العرب الأخرى.. والمجتمع المدني الجديد أرسيت قواعدُه وشُيّد بنيانُه على أساس روابط العقيدة التي استعلت على ارتباطات القبيلة وعصبيتها وسائر الروابط الأخرى، وبرزت فكرة الأمة الواحدة كما سيتضح عند دراسة دستور المدينة المنورة، وتقسيمات السكان صار أساسها عقدياً وصاروا يقسمون إلى ثلاث مجموعات هي: المؤمنون والمنافقون واليهود.(5/14)
ولا شك أن تدفق المهاجرين إلى المدينة ولَّدَ مشاكل اقتصادية واجتماعية، كان لابد من مواجهتها بقرار حاسم، فكان أن شُرِّع نظام المؤاخاة.
نظام المؤاخاة في عهد النبوة
اعتبر الإسلام المؤمنين كلهم إخوة فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، وأوجب عليهم الموالاة لبعضهم والتناصر في الحق بينهم، لكن موضوع هذا البحث هو المؤاخاة الخاصة التي شرعت وترتبت عليها حقوق وواجبات أخص من الحقوق والواجبات العامة بين المؤمنين كافة.
ويشير البلاذري إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المسلمين في مكة قبل الهجرة على الحق والمواساة، فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي بكر وعمر، وبين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال الحبشي، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وطلحة بن عبيد الله، وبينه وبين علي بن أبي طالب(1).
ويعتبر البلاذري (ت 276ه) أقدم من أشار إلى المؤاخاة المكية، وقد تابعه في ذلك ابن عبد البر (ت 463ه) دون أن يصرح بالنقل عنه(2)، كما تابعهما ابن سيد الناس دون التصريح بالنقل عن أحدهما(3). وقد أخرج الحاكم في المستدرك من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر: "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف وعثمان".
وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن أبي الشعثاء عن ابن عباس: "آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير وابن مسعود"(4).
__________
(1) البلاذري: أنساب الأشراف 1/270.
(2) الدرر في اختصار المغازي والسير 100.
(3) عيون الأثر 1/199.
(4) ابن حجر: فتح الباري 7/271.(5/15)
ومال كل من ابن القيم وابن كثير إلى عدم وقوع المؤاخاة بمكة، فقال ابن القيم: "وقد قيل أنه - أي النبي صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها علياً أخاً لنفسه، والثبت الأول(1)، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار"(2) أما ابن كثير فقد ذكر أن من العلماء من ينكر هذه المؤاخاة لنفس العلة التي ذكرها ابن القيم(3).
ومما يرجح ما ذهب إليه ابن القيم وابن كثير أن كتب السيرة الأولى المختصة لم تشر إلى وقوع المؤاخاة بمكة، كما أن البلاذري وهو المصدر الوحيد القديم الذي أشار إليها ساق الخبر بلفظ (قالوا) دون إسناد مما يضعف الرواية، كما أن البلاذري نفسه ضعفه النقاد. وعلى فرض صحة وقوع هذه المؤاخاة بمكة فإنها تقتصر على المؤازرة والنصيحة بين المتآخين دون أن تترتب عليها حقوق التوارث.
المؤاخاة في المدينة:
__________
(1) يعني المؤاخاة في المدينة.
(2) زاد المعاد 2/79 وقد سبقه شيخه ابن تيمية فنفى وقوع المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصاً مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي، لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضاً، ولتأليف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاة النبي لأحدٍ منهم ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري (ابن تيمية: منهاج السنة النبوية (4/96-97) وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: "وهذا رد للنص بالقياس وإغفال عن حكمة المؤاخاة، لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة والقوى، فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى وبهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم لعلي لأنه هو الذي كان يقوم به من عهد الصبا من قبل البعثة واستمر، وكذا مؤاخاة حمزة وزيد بن حارثة لأن زيدا مولاهم فقد ثبت أخوتهما وهما من المهاجرين (الفتح 7/271).
(3) السيرة النبوية لابن كثير 2/324.(5/16)
وقد واجه المهاجرون من مكة إلى المدينة مشاكل متنوعة، اقتصادية واجتماعية وصحية، فمن المعروف أن المهاجرين تركوا أهليهم ومعظم ثرواتهم بمكة، كما أن مهارتهم كانت في التجارة التي تمرست بها قريش، ولم تكن في الزراعة والصناعة وهما يشكلان أساسين مهمين في اقتصاديات المدينة، وبما أن التجارة تحتاج إلى رأس المال فإن المهاجرين لم يتمكنوا من شق طريقهم في المجتمع الجديد بسهولة، وكانت مشكلة معيشتهم وسكناهم تواجه الدولة الناشئة، كما أن علائق المهاجرين بالمجتمع الجديد كانت حديثة، فقد ترك المهاجرون أهليهم ومعارفهم بمكة وانبتت صلتهم بهم مما ولَّد إحساساً بالوحشة والحنين إلى بلدتهم "مكة". إضافة إلى اختلاف مناخ مكة عن المدينة وإصابة المهاجرين بالحمى، وهكذا كان وضع المهاجرين بحاجة إلى علاج سريع وحل مؤقت واستثنائي، ولم يبخل الأنصار بشيء من العون بل أبدوا من التضحية وضروب الإيثار ما استحق التخليد في كتاب الله العزيز { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. وقد بلغ كرم الأنصار حداً عالياً عندما اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقسم نخلهم بينهم وبين المهاجرين لأن النخل مصدر معيشة الكثيرين منهم، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من الأنصار أن يقوموا بإدارة بساتين النخيل ويحتفظوا بها لأنفسهم على أن يشركوا المهاجرين في التمر(1). ولا نعرف إذا كانت الشركة في التمر محددة بنظام كالمناصفة أو المقصود قيام الأنصار بإعالة المهاجرين في تلك المرحلة. ويبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يشغل المهاجرين بالزراعة فهو يحتاجهم لمهام الدعوة والجهاد. كما أن المهاجرين (لا يعرفون العمل) كما عبر الرسول صلى الله عليه وسلم مما يؤدي إلى خفض الإنتاج الزراعي(2) الذي تحتاجه المدينة.
__________
(1) البخاري: الصحيح 5/39.
(2) المصدر السابق 3/329.(5/17)
كما وهبت الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل فضل في خططها، وقالوا له: إن شئت فخذ منا منازلنا. فقال لهم خيراً، وابتنى لأصحابه في أراض وهبتها لهم الأنصار وأراض ليست ملكاً لأحد(1).
وقد أثرت هذه المعاملة الكريمة في نفوس المهاجرين فلهجت ألسنتهم بكرم الأنصار.عن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلاً من كثير، لقد كفونا المؤونة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: "لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم"(2).
تشريع نظام المؤاخاة:
ورغم بذل الأنصار وكرمهم فإن الحاجة إلى إيجاد نظام يكفل للمهاجرين المعيشة الكريمة بقانون ظلت قائمة، خاصة وأن أنفة "المهاجرون" ومكانتهم تقتضي معالجة أحوالهم بتشريع يبعد عنهم أي شعور بأنهم عالة على "الأنصار" فكان أن شرع نظام المؤاخاة، ولا تختلف الراويات في تاريخ تشريعه إلا اختلافاً يسيراً، فهي تجمع على أن المؤاخاة وقعت في السنة الأولى الهجرية، وتختلف إن كان ذلك بعد بناء المسجد في المدينة أو خلال بنائه(3).ويحدد ابن عبد البر تاريخ تشريعه بعد الهجرة بخمسة أشهر(4). أما ابن سعد فقد ذكر أن المؤاخاة بعد الهجرة وقبل غزوة بدر الكبرى(5) دون تحديد دقيق لتاريخ تشريعها.
وكان إعلان هذا التشريع في دار أنس بن مالك كما صرحت الروايات(6)
__________
(1) البلاذري: أنساب الأشراف 1/270.
(2) ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/200 وابن كثير: السيرة النبوية 2/328.
(3) ابن عبد البر: الدرر في اختصار المغازي والسير 96، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/200.
(4) ابن عبد البر: الدرر 96.
(5) ابن سعد: الطبقات ج 1 قسم 2/9.
(6) ابن سعد: الطبقات ج 1 قسم 2/9.
... وابن القيم: زاد المعاد 2/79، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/200 وابن كثير: السيرة النبوية 2/324.(5/18)
، ووقعت المؤاخاة بين طرفين هما المهاجرون والأنصار، فآخى الرسول صلى الله عليه وسلم، بين كل مهاجر وأنصاري اثنين اثنين.
وقد شملت المؤاخاة تسعين رجلاً خمسة وأربعين من المهاجرين وخمسة وأربعين من الأنصار، ويقال إنه لم يبق من المهاجرين أحد إلا آخى بينه وبين أنصاري(1). وتتفق المصادر على أن المؤاخاة التي جرت في المدينة كانت بين المهاجرين والأنصار، لكن ابن سعد يذكر أن ثمة مؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم وقعت في المدينة إلى جانب المؤاخاة بينهم وبين الأنصار، ولم يذكر أية تفصيلات أخرى توضح هدف المؤاخاة بين المهاجرين أنفسهم، وما يترتب عليها، ولم تكترث بقية المصادر لهذه الإشارة أو تعقب عليها(2).
وقد ترتب على تشريع نظام المؤاخاة حقوق خاصة بين المتآخيَيْن كالمواساة بين الاثنين، والمواساة ليست محددة بأمور معينة بل مطلقة لتعني كل أوجه العون على مواجهة أعباء الحياة سواء كان عوناً مادياً أو رعاية ونصيحة وتزاوراً ومحبة. كما ترتب على المؤاخاة أن يتوارث المتآخين دون ذوي أرحامهم، مما يرقى بالعلاقات بين المتآخين إلى مستوى أعمق وأعلى من أخوة الدم(3).
__________
(1) البلاذري: أنساب الأشراف 1/270، وابن سعد: الطبقات ج 1 قسم 2/9.
(2) ابن سعد: الطبقات ج 1 قسم 2/9.
(3) البخاري: الصحيح 3/119 و6/55-56 و8/190-191
... ومسلم: الصحيح 4/1960، وابن سعد: الطبقات ج 1 قسم 2/9
... والبلاذري: أنساب الأشراف 1/270، وابن عبد البر: الدرر 96
... وابن القيم: زاد المعاد 2/79، وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/200.(5/19)
وقد طابت نفوس الأنصار بما سيبذلونه لإخوانهم المهاجرين من عون، وتصور بعض الروايات عمق التزامهم بنظام المؤاخاة وتفانيهم في تنفيذه، ومن النماذج الفريدة لهذه المؤاخاة ما حدث بين سعد بن الربيع "الأنصاري" وعبد الرحمن بن عوف "المهاجر"، حيث قال له سعد: إن لي مالاً فهو بيني وبينك شطران، ولي امرأتان فانظر أيهما أحب إليك فأنا أطلقها فإذا حلت فتزوجها. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك. دلوني على السوق. فلم يرجع حتى رجع بسمن وأقط قد أفضله. قال: ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ أثر صفرة فقال: مهيم؟ فقلت: تزوجت امرأة من الأنصار. فقال أولم ولو بشاة(1).
ولا شك أن المرء يقف مبهوراً أمام هذه الصورة الرائعة من الأخوة المتينة والإيثار المتبادل الذي لا نشهد له مثيلاً في تواريخ الأمم الأخرى.
وليس موقف ابن عوف في أنفته وكرم خلقه وعدم استغلاله لأخيه بأقل روعة من إيثار ابن الربيع. فقد تمكن - وهو التاجر الماهر - من شق طريقه في الحياة الجديدة وبعد مدة يسيرة تمكن من الزواج ودفع المهر نواة من ذهب(2). ثم بورك له في عمله ونمت ثروته ليصبح من كبار أغنياء المسلمين، فقد أبى إلا أن يكون صاحب اليد العليا التي تعطي ولا تأخذ.
إلغاء التوارث بين المتآخين:
لا شك أن التوارث بين المتآخين كان لمعالجة ظروف استثنائية مرت بها الدولة الناشئة. فلما ألف المهاجرون جو المدينة وعرفوا مسالك الرزق فيها، وأصابوا من غنائم بدر الكبرى ما كفاهم، رجع التوارث إلى وضعه الطبيعي المنسجم مع الفطرة البشرية على أساس صلة الرحم، وأبطل التوارث بين المتآخين(3)
__________
(1) النسائي: سنن 6/137.
(2) البخاري: الصحيح 5/39.
(3) ابن سعد: الطبقات ج 1 قسم 2/9.
... والبلاذري: أنساب الأشراف 1/270، 271. وابن القيم: زاد المعاد 2/79.
... وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/200.(5/20)
، وذلك بنص القرآن الكريم فقال تعالى: { وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله}(1).
فهذه الآيات نسخت التوارث بموجب نظام المؤاخاة، ويرى ابن عباس أن آية { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}، {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُم} نسخت التوارث بالمؤاخاة، فالموالي في رأيه هم الورثة بالرحم {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُم} هم المهاجرون الذين كانوا يرثون بالمؤاخاة. وذكر ابن عباس أن ما ألغي من نظام المؤاخاة هو الإرث أما "النصر والرفادة والنصيحة" فباقية، ويمكن أن يوصى ببعض الميراث بين المتآخين(2)، ودون وصية لا يرث. وإلى هذا المعنى ذهب الإمام النووي فقال: "أما ما يتعلق بالإرث فيستحب فيه المخالفة عند جماهير العلماء، وأما المؤاخاة في الإسلام والمحالفة علىطاعة الله تعالى والتناصر في الدين والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق فباق لم ينسخ"(3).
وينفرد ابن سعد بنقل رواية بإسناده إلى عروة بن الزبير تذكر أن إلغاء التوارث بين المتآخين ونزول آية { وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} كان بعد غزوة أحد(4) التي وقعت في شوال سنة 3ه.
__________
(1) سورة الأنفال من الآية 75. وانظر تفسيرها في الشوكاني: فتح القدير 2/330-331. وعن سبب نزول هذه الآية انظر مسند الطيالسي 2/19 والهيثمي: مجمع الزوائد 7/28 وقال رجاله رجال الصحيح.
(2) البخاري: الصحيح 3/119 و6/55-56 و8/190-191.
(3) صحيح مسلم 4/1960 الحاشية.
(4) السيوطي: لباب النقول في أسباب النزول ص 260 نقلاً عن ابن سعد، والشوكاني: فتح القدير 2/330-331 وقال: "أخرجه ابن سعد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه".(5/21)
ومن الغريب أن ابن حجر(1) ذكر المؤاخاة بين الحتات التميمي ومعاوية بن أبي سفيان وأن الحتات مات في خلافة معاوية فورثه بالأخوة مكتفياً في التعليق على الخبر بإبداء تعجبه لأن للحتات بنين يرثونه(2) دون أن يشير إلى إبطال التوارث بالمؤاخاة أصلاً منذ السنة الثانية الهجرية ولا يصح مثل هذا الخبر إلا أن يكون الحتات قد أوصى لمعاوية بشيء من ميراثه لا كله.
استمرار المؤاخاة دون توارث:
ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم استمر يؤاخي بين أصحابه مؤاخاة مواساة وتعاون وتناصح دون أن يترتب على ذلك حق التوارث بين المتآخين. وهكذا وردت أخبار تفيد أنه آخى بين أبي الدرداء وسلمان الفارسي(3) مع أن سلمان أسلم بين أحد والخندق مما جعل الواقدي والبلاذري ينكران ذلك(4). وكذلك انكر ابن كثير مؤاخاة جعفر بن أبي طالب لمعاذ بن جبل لأن جعفراً قدم في فتح خيبر أول سنة 7ه(5). ومثل ذلك مؤاخاة الحتات مع معاوية بن أبي سفيان(6) لأن معاوية أسلم بعد فتح مكة سنة 8ه. وإذا اعتبرنا المؤاخاة مستمرة إلا ما يتعلق بحق التوارث الذي أبطل بعد بدر، فلا موجب لهذا الاعتراض والإنكار الذي أبداه المؤرخون تجاه هذه الروايات.
__________
(1) نقل ابن حجر ذلك عن ابن عبد البر الذي اعتمد بدوره على ابن إسحاق وابن هشام وابن الكلبي.
(2) ابن حجر: الإصابة قسم 2ص30.
(3) البخاري: الصحيح 5/88 و3/47.
(4) البلاذري: أنساب الأشراف 1/271.
(5) ابن كثير: السيرة النبوية 2/326.
(6) ابن حجر: الإصابة قسم 2ص 30.(5/22)
وكذلك إذا قبلنا وقوع مؤاخاة دون إرث قبل وبعد تشريع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فإن ذلك سوف يفسر الالتباس الذي وقع فيه ابن إسحاق عندما أورد في قائمة المتآخين خبر مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي ومؤاخاة حمزة لزيد بن حارثة وكلهم مهاجرون في حين أن سائر الأسماء الأخرى التي وردت في قائمته توضح أن المؤاخاة كانت بين مهاجري وأنصاري(1). وقد عقب ابن كثير على مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي ومؤاخاة حمزة لزيد بأنه لا معنى لهذه المؤاخاة إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل مصلحة علي إلى غيره فإنه كان ممن ينفق عليه الرسول من صغرة. وإلا أن يكون حمزة قد التزم بمصالح مولاهم زيد بن حارثة فآخاه بهذا الاعتبار.
ولكن هذا التعليل الذي قدمه ابن كثير غير مقبول لأن المصادر ذكرت مؤاخاة حمزة بن عبد المطلب لكلثوم بن الهدم أو غيره، كما ذكرت مؤاخاة زيد بن حارثة لأسيد بن حضير(2).
كما أن المؤاخاة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعلي تقتضي التوارث، والنبي لا يورث كما جاء في الحديث، كما أن البلاذري ذكر مؤاخاة علي لسهل بن حنيف(3)، وكذلك فإن البلاذري ذكر وقوع مؤاخاة بين النبي وعلي وحمزة وزيد بمكة(4).
ونخلص من ذلك إلى أن هذه المؤاخاة بين النبي وعليّ وبين حمزة وزيد إذا كانت قد وقعت - فإنها مؤاخاة تقتضي المؤازرة والرفقة دون حقوق التوارث وأنها جرت في غير الوقت الذي أعلن فيه نظام المؤاخاة في دار أنس بن مالك.
__________
(1) ابن هشام: السيرة 1/504-507.
(2) البلاذري: أنساب الأشراف 1/270.
(3) البلاذري: أنساب الأشراف 1/270.
(4) المصدر السابق 1/270. وقد ورد خبر مؤاخاة حمزة لزيد في مسند أحمد 1/230.(5/23)
وأخيراً فإن المؤاخاة التي شرعت بين المؤمنين باقية لم تنسخ سوى ما يترتب عليها من توارث فإنه منسوخ، وبوسع المؤمنين في كل عصر أن يتآخوا بينهم على المواساة والارتفاق والنصيحة، ويترتب على مؤاخاتهم حقوق أخص من المؤاخاة العامة بين المؤمنين.
إن استجابة المسلمين لأوامر الله تعالى تظهر في انخلاعهم عن علاقاتهم الاجتماعية والمكانية إذا اقتضت ذلك مصلحة العقيدة.
آصرة العقيدة هي أساس الارتباط بين الناس
ولا شك أن الروابط التي تجمع بين الناس مختلفة، وهم يجتمعون بشكل قبائل وشعوب وأوطان وقوميات، وقد يجتمع أبناء القوميات المختلفة تحت لواء واحد بسبب الدين أو المصالح المشتركة. وتعتبر آصرة القربى أو الدم والانتماء إلى أصل عرقي من أقدم الروابط التي كونت المجتمعات البشرية. ويوم أن ظهر الإسلام كانت تجمعات الناس تظهر بشكل قبائل كما في جزيرة العرب وأماكن أخرى، وقوميات كما في بلاد فارس، ومجتمعات دينية كما في الإمبراطورية البيزنطية. وقد جعل الإسلام رابطة العقيدة هي الأساس الأول في ارتباط الناس وتآلفهم وإن أقرّ بعض الأواصر الأخرى إذا انضوت تحت هذا الأصل مثل الأرحام التي حث الإسلام على وصلها. ورتب على ذلك الأحكام المتعلقة بالتكافل الاجتماعي والإرث ومثل صلة الجوار وما يترتب عليها من حقوق الجار ومثل الصلة بين أفراد العشيرة وما يترتب عليها من تضامن في الديات ومثل الصلة بين أبناء المدينة وجعلهم أولى من سواهم بزكاة أغنيائهم.. لكن هذه الصلات ينبغي أن تنضوي تحت آصرة العقيدة فإذا خالفتها وأضرت بها لم يبق لها أي اعتبار، فأساس الارتباط في الإسلام هو العقيدة التي قد تقتضي مصلحتها التفريق بين المرء وأبيه أو ابنه أو زوجته أو عشيرته.. وهكذا قاتل أبو عبيدة رضي الله عنه أباه - وهو يمجد الأصنام - فقتله عندما التقى به في معركة بدر الكبرى. ورأى أبو حذيفة رضي الله عنه أباه المشرك ويُسْحَبُ ليرمى في القليب ببدر دون أن ينكر(5/24)
قلبه ذلك(1).
قال ابن إسحاق(2): وحدثني ابن وهب أخو بني عبد الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم بين أصحابه وقال: "استوصوا بهم خيراً". وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسرى.
قال أبو عزيز: مرّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني فقال: أشدد يديك به فإن أمه ذات متاع لعلّها تفديه منك..
قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث ولما قال أخوه مصعب لأبي اليسر - وهو الذي أسره ما قال. قال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب إنه أخي دونك.
روى الترمذي(3) بإسناد قال عنه حسن صحيح وهو: حدثنا ابن أبي عمر أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: كنا في غزاة - قال سفيان يرون أنها غزوة بني المصطلق - فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار.. وفيه فسمع ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فقال: أو قد فعلوها؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وقال غير عمرو: فقال له ابنه عبد الله بن عبد الله: "والله لا تنقلب حتى تقرّ أنك الذليل ورسوله صلى الله عليه وسلم العزيز ففعل".
وقد كان عبد الله بن عبد الله بن أبي باراً بأبيه هياباً له(4) لكن مصلحة العقيدة هي المعتبرة عنده أولاً فلما رأى أباه يؤذي المسلمين عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتله ويأتيه برأسه(5).
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/75.
(2) انظر ابن كثير: البداية والنهاية 3/306-307.
(3) الترمذي: سنن 5/90 كتاب التفسير.
(4) مسند الحميدي 2/520.
(5) الهيثمي: مجمع الزوائد 9/318.(5/25)
وقد أوضح القرآن الكريم ذلك فيما قصه عن نوح عليه السلام وابنه {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين}(1)
وهكذا بيّن الحق سبحانه أن ابن نوح وإن كان من أهله باعتبار القرابة لكنه لم يعد من أهله لما فارق الحق وكفر بالله ولم يتبع نوحا نبي الله. وصرح القرآن الكريم بعلة انقطاع الآصرة بين نوح وابنه بقوله: (إنه عمل غير صالح). فإذا كانت القرابة من الدرجة الأولى تنبتُّ عندما تصطدم بالعقيدة فالأحرى أن تنبتّ صلات الدم والعرق والوطن واللون إذا اصطدمت بمصلحة العقيدة.
وقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة}(2) وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنصارى حتى لو كانوا آباءهم وإخوانهم أو أبناءهم وصف من يفعل ذلك من المؤمنين بالظلم مما يدل على أن موالاة المؤمنين للكافرين من أعظم الذنوب قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(3).
__________
(1) سورة هود آية 45، 46.
(2) سورة الحجرات 10.
(3) سورة التوبة 23.(5/26)
وقد وضع القرآن الكريم مصالح المسلم وعلاقاته الدنيوية كلها في كفة ووضع حب الله ورسوله والجهاد في سبيل العقيدة في كفة أخرى، وحذر المؤمنين وتوعدهم إن هم غلَّبوا مصالحهم وعلاقاتهم الاجتماعية على مصلحة العقيدة قال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(1). وقد نزلت هذه الآيات من سورة التوبة في الحض على الهجرة إلى المدينة المنورة للدفاع عن الدولة الإسلامية التي نشأت فيها.. وقد نجح الصحابة الكرام في امتحان العقيدة.. ففارقوا الأهل والأموال والمساكن التي يحبونها وهاجروا إلى الله ورسوله والجهاد في سبيله.
وخلاصة القول أن المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعا عقدياً يرتبط بالإسلام، ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله وللمؤمنين. وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاها إذ يتصل بوحدة العقيدة والفكر والروح فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم. وهذا المجتمع مفتوح لمن أراد أن ينتمي إليه مهما كان لونه أو جنسه على أن ينخلع من صفاته الجاهلية ويكتسب الشخصية الإسلامية ليتمتع بسائر حقوق المسلمين.
الحب أساس بنية المجتمع المدني
وقد أقام الإسلام المجتمع المدني على أساس الحب والتكافل، كما في الحديث الشريف "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم مثل الجسد الواحد إذا شتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" فالتواد الرحمة والتواصل أساس العلاقة بين أفراد المجتمع كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم حاكمهم ومحكومهم.
__________
(1) سورة التوبة 24.(5/27)
وقد تكفلت تعاليم الإسلام بتدعيم الحب وإشاعته في المجتمع، ففي الحديث نبوي "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" فيعيش المؤمنون بعيداً عن الأثرة والاستغلال وهم يتعاونون في مواجهة أعباء الحياة فمن (كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته) كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي والإمام أحمد (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي وأبو داود.
وعلاقات المؤمنين قائمة على الاحترام المتبادل فلا يستعلي غني على فقير ولا حاكم على محكوم ولا قوي على ضعيف "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" "رواه الإمام مسلم".
وقد تفتر العلاقة بين المسلم وأخيه أو تنقطع ساعة غضب لكن انقطاعها لا يستمر فوق ثلاث ليال "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" كما في الصحيحين.
وتدعم أسس الحب بالصلة والصدقة (تهادوا تحابوا) ويضع الغني أمواله في خدمة المجتمع وسد الثغرات التي تظهر في بنائه الاقتصادي بسبب التفاوت في توزيع الثروة فيخرج زكاة أمواله فريضة من الله ويواسي المحتاجين بأمواله حتى أنهم ليفرحون إذا كثرت ثروته إذ تعود عليهم بالخير والمواساة.(5/28)
أخرج الإمام البخاري 6/31 كتاب التفسير) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. فلما نزلت: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}(1) قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله، إن الله يقول: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إليّ (بيرحاء) وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك مال رايح(2)، ذلك مال رايح، وقد سمعت ما قلت وإني أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه".
وكان أغنياء الصحابة يعرفون أنهم مستخلفون على المال الذي اكتسبوه، فإذا وجدوا ثغرة تعجز الدولة عن سدها أو لا تنتبه لها بذلوا أموالهم في سدها.. وقد ثبت في التاريخ أن عثمان رضي الله عنه تصدق بقافلة ضخمة - ألف بعير تحمل البر والزيت والزبيب - على فقراء المسلمين عندما حلت الضائقة الاقتصادية بالمدينة المنورة في خلافة الصديق رضي الله عنه وقد عرض عليه التجار خمسة أضعاف ثمنها ربحاً فقال: أعطيت أكثر من ذلك. فقالوا: من الذي أعطاك وما سبقنا إليك أحد، ونحن تجار المدينة؟ قال: إن الله أعطاني عشرة أمثالها ثم قسمها بين الفقراء المسلمين.
__________
(1) آل عمران آية 92.
(2) أي أن أجرها يروح ويغدو عليه (فتح الباري 3/326).(5/29)
ومثل هذا كثير في سير المسلمين من سلفنا الصالح لذلك لم تظهر الروح الطبقية ولم يحدث الصراع الطبقي… ولم يتكتل الناس وفق مصالحهم الاقتصادية لحرب من فوقهم أو تحتهم.. إن المجتمع الإسلامي لم يشهد صراع الطبقات ولا يعرف استعلاء غني على فقير ولا حاكم على محكوم ولم يعترف ابتداء باختلاف البشر تبعاً لالوانهم وأعراقهم أو دمائهم، فالمسلمون سواسية كأسنان المشط لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.. والمجتمع الإسلامي مفتوح أمام الجميع ففرص الارتقاء والكسب متكافئة أمام أفراده، والعلاقات الاجتماعية متكافئة أيضاً فلم يحدث أن منع فقير من الزواج بغنية أو حجب ضعيف عن الترقي إلى أرفع مناصب الدولة وأعلى مراكز القيادة والتوجيه في المجتمع، فليست هناك طبقية يصطدم رقي الفرد بسقوفها ولو قدر للمجتمع الإسلامي أن يستمر في تقدمه العلمي والحضاري ويمسك بزمام البشرية اليوم لظهرت مزايا الإسلام في بناء مجتمع متراص على أساس الحب والتكافل وليس الحقد والصراع الذي ليس وراء إلا الدمار.
وإذا كان هذا هو موقف أغنياء المسلمين في المجتمع المدني فما هو موقف ضعفائهم وفقرائهم؟.
الأغنياء والفقراء يجاهدون في صف واحد
لقد وقف الأغنياء والفقراء يجاهدون في صف واحد: فالعقيدة الإسلامية منعت ظهور الصراع الطبقي في المجتمع الإسلامي وآخت بين الأغنياء والفقراء ووحدت والصف الداخلي لمواجهة متطلبات الجهاد وهذه صورة من المجتمع المدني توضح كيف عاشت مجموعة من أفقر المسلمين في عصر السيرة.
قال تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِه عَلِيم}(1).
__________
(1) البقرة آية 273.(5/30)
ذكر ابن سعد في طبقاتة(1) بإسناده إلى محمد بن كعب القرضي أن هذه الآية نزلت في أهل الصفة وذكر الطبري(2) في تفسيره بأسانيده عن مجاهد والسدي أنها نزلت في فقراء المهاجرين.
وفيما يلي أعرض لصورة من حياة الفقراء في المجتمع الإسلامي الأول وهو أهل الصفة.
أهل الصفة
فقراء المهاجرين:
أعقب هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة المنورة ظهور مشكلة تتعلق بمعيشة المهاجرين الذين تركوا بيوتهم وأموالهم متاعهم بمكة فراراً بدينهم من طغيان المشركين.
ولا شك أن بعض المهاجرين لم يستطيعوا العمل حال قدومهم إلى المدينة لأن الطابع الزراعي يغلب على اقتصاد المدينة وليست للمهاجرين خبرة زراعية فمجتمع مكة تجاري، كما أنهم لا يملكون أرضاً زراعية في المدينة وليست لديهم رؤوس أموال فقد تركوا أموالهم بمكة. وقد وضع الأنصار إمكانياتهم في خدمة المهاجرين لكن بعض المهاجرين بقي محتاجاً إلى المأوى.
واستمر تدفق المهاجرين إلى المدينة خاصة قبل موقعة الخندق حيث كان الكثير منهم يستقرون في المدينة كما طرقت الوفود الكثير المدينة، ومنهم من لم يكن على معرفة بأحد من أهل المدينة فكان هؤلاء الغرباء بحاجة إلى مأوى دائم أو مدة إقامتهم.
ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم فكر في إيجاد المأوى للفقراء المقيمين والوفود الطارقين.
الصفة
__________
(1) الطبقات الكبرى 1/255.
(2) تفسير الطبري 5/291 (ط محمود محمد شاكر).(5/31)
وحانت الفرصة عندما تم تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة وذلك بعد ستة عشر شهراً من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة(1) حيث بقي حائط القبلة الأولى في مؤخر المسجد النبوي، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فظلل أو سقف وأطلق عليه اسم الصفة أو الظلة(2) ولم يكن لها ما يستر جوانبها(3).
ويذكر ابن جبير في رحلته أن الصفة دار في آخر قباء يسكنها أهل الصفة، وتأول السمهودي ذلك بأن من ذكر من أهل الصفة اتخذوا تلك الدار فيما بعد فاشتهرت بذلك، أي أن المكان الذي ذكره ابن حجر نسب إلى أهل الصفة ولم ينسبوا هم إليه، لأن نسبتهم كانت إلى صفة المسجد النبوي بالمدينة.
ولا نعرف سعة الصفة، ولكن يبدو أنها كانت تتسع لعدد كبير حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدمها في وليمة حضرها ثلاثمائة شخص، وإن كان بعضهم قد جلس في حجرة من حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الملاصقة للمسجد(4).
سكان الصفة
__________
(1) خليفة: التاريخ ج 1 ص 23 وينقل روايات أخرى تذكر أن ذلك كان بعد تسعة أشهر أو عشرة أو سبعة عشر شهراً أو سنتين. وفي صحيح البخاري كتاب الصلاة – باب التوجه نحو القبلة 1/104 أنه كان بعد ستة عشر أو سبعة عشر شهراً.
(2) السمهودي: وفاء الوفا 1/321. ياقوت: معجم البلدان (ظلة) ابن منظور لسان العرب مادة (صفف). ويلاحظ أن كلمة (صفة) لم يقتصر استعمالها على صفة المسجد بل أطلقت على المكان المسقوف منذ الفترة المبكرة فهناك صفة النساء في المسجد النبوي بالمدينة (النسائي: سنن 8/77 وأبو داود: سنن 2/448) وهناك صفة زمزم بمكة (البخاري: الصحيح: 2/44 والنسائي: سنن 3/135) كما أطلقت الصفة على المكان المظلل في بيوت الناس أيضاً (البخاري: الصحيح/1/215).
(3) ريكندوف: دائرة المعارف الإسلامية ص 105.
(4) مسلم: الصحيح - كتاب النكاح - حديث رقم (94).(5/32)
أول من نزل الصفة المهاجرون(1)، لذلك نسبت إليهم فقيل صفة المهاجرين(2). وكذلك كان ينزل بها الغرباء من الوفود التي كانت تقدم على النبي صلى الله عليه وسلم معلنة إسلامها وطاعتها(3) وكان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له عريف نزل عليه، وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة(4). فكان أبو هريرة رضي الله عنه عريف من سكن الصفة من القاطنين ومن نزلها من الطارقين، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد دعوتهم عهد إلى أبي هريرة فدعاهم لمعرفته بهم وبمنازلهم ومراتبهم في العبادة والمجاهدة(5). وإلى جانب المهاجرين والغرباء نزل بعض الأنصار في الصفة حباً لحياة الزهد والفقر رغم استغنائهم عن ذلك ووجود دار لهم في المدينة، ومنهم كعب بن مالك الأنصاري(6) وحنظلة بن أبي عامر الأنصاري (غسيل الملائكة) وحارثة بن النعمان الأنصاري وغيرهم.
__________
(1) السمهودي: وفاء الوفا 1/323.
(2) أبو داود: السنن- كتاب الحروف 2/361.
(3) البخاري: الصحيح - كتاب الصلاة - باب نوم الرجال في المساجد.
وابن ماجة: السنن - كتاب الصيد - باب الضب.
(4) أحمد: المسند 3/487 وأبو نعيم: الحلية 1/339/374 والسمهودي وفاء الوفا 1/323. والعريف: النقيب أو القيم بأمور القبلية أو الجماعة (لسان العرب مادة "عرف").
(5) أبو نعيم: الحلية 1/376.
(6) ابن أبي حاتم ج 3 ق 2 ص 160.
وانظر سامي مكي العاني: ديوان كعب بن مالك الأنصاري ص 77 حيث ينفي صحة نسبته إليهم لأنه أنصاري وأهل الصفة مهاجرون فقراء. ولكن لعله أحب حياة الفقر والزهد فخالطهم وساكنهم مع وجود دار له في المدينة، وقد أورد أبو نعيم في الحلية (1/355، 356) أسماء بعض الأنصار من أهل الصفة.(5/33)
ولأن أهل الصفة كانوا أخلاطاً من قبائل شتى سماهم النبي صلى الله عليه وسلم (الأوفاض) وقيل في سبب هذه التسميةأيضاً أن كل واحد منهم كان معه وفضة: وهي مثل الكنانة الصغيرة يلقي فيها طعامه، لكن القول الأول أجود(1).
عددهم وأسماؤهم:
كان عددهم يختلف باختلاف الأوقات، فهم يزيدون إذا قدمت الوفود إلى المدينة ويقلون إذا قل الطارقون من الغرباء، على أن عدد المقيمين منهم في الظروف العادية كان في حدود السبعين رجلاً(2). وقد يزيد عددهم كثيراً حتى أن سعد بن عبادة كان يستضيف وحده ثمانين منهم فضلاً عن الآخرين الذين يتوزعهم الصحابة(3).
ويذكر السمهودي أن أبا نعيم سرد أسماءهم في الحلية فزادوا على المائة(4).
لكن عدد من سماهم أبو نعيم اثنان وخمسون فقط منهم خمسة نفى أبو نعيم أن يكونوا من أهل الصفة. وأبو نعيم وحده الذي يقدم إلينا قائمة طويلة بأسماء المشهورين من أهل الصفة، وهو ينقل من مصدر أسبق لا يصرح باسمه، ولعله الكتاب الذي صنفه أبو عبد الرحمن السلمي (ت 412ه) في أهل الصفة(5).
وفيما يلي قائمة بأسماء أهل الصفة كما ذكرها أبو نعيم(6) مضافاً إليهم من ذكرتهم بقية المصادر ممن لم يذكرهم أبو نعيم:
أبو هريرة رضي الله عنه حيث نسب نفسه إليهم(7).
أبو ذر الغفاري رضي الله عنه حيث نسب نفسه إليهم(8).
__________
(1) أحمد: المسند 6/391. أبو نعيم: الحلية 1/339.
وابن منظور: لسان العرب مادة (وفض).
(2) أبو نعيم: الحلية 1/339، 341.
(3) المصدر السابق 1/341.
(4) السمهودي: وفاء الوفا 1/321.
(5) حاجي خليفة: كشف الظنون 1/286 وابن حجر: الإصابة قسم 1/601 وسماه أصحاب الصفة وقسم 6/550.
(6) أبو نعيم: الحلية 1/348 فما بعد.
(7) البخاري: الصحيح– كتاب البيوع – باب (1) وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/256. وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/317 وابن حجر: الإصابة ترجمة رقم 5505.
(8) ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/317 وابن سعد الطبقات 1/256.(5/34)
واثلة بن الأسقع(1).
قيس بن طهفة الغفاري، حيث نسب نفسه إليهم(2).
كعب بن مالك الأنصاري(3).
سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي.
سلمان الفارسي رضي الله عنه.
أسماء بن حارثة بن سعيد الأسلمي.
حنظلة بن أبي عامر الأنصاري (غسيل الملائكة).
حازم بن حرملة.
حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري.
حذيفة بن أسيد أبو سريحة الأنصاري.
حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وهو من المهاجرين حالف الأنصار فعد في جملتهم.
جارية بن جميل بن شبة بن قرط.
جعيل بن سراقة الضمري.
جرهد بن خويلد (وقيل بن رزاح) الأسلمي(4).
رفاعة أبو لبابة الأنصاري، وقيل اسمه بشير بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف.
عبد الله ذوالبجادين.
دكين بن سعيد المزني وقيل الخثعمي(5).
خبيب بن يساف عنبة.
خريم بن أوس الطائي.
خريم بن فاتك الأسدي.
خنيس بن حذافة السهمي.
خباب بن الأرت.
الحكم بن عمير الثمالي.
حرملة بن إياس، وقيل هو حرملة بن عبد الله العنبري.
زيد بن الخطاب.
عبد الله بن مسعود.
الطفاوي الدوسي.
طلحة بن عمرو النضري.
صفوان بن بيضاء الفهري.
صهيب بن سنان الرومي.
شداد بن أسيد.
شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
السائب بن خلاد.
سالم بن عمير من الأوس من بني ثعلبة بن عمرو بن عوف.
سالم بن عبيد الأشجعي.
سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
سالم مولى أبي حذيفة.
أبو رزين.
الأغر المزني.
بلال بن رباح.
البراء بن مالك الأنصاري.
ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثابت بن وديعة الأنصاري.
__________
(1) ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/317.
(2) ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/256.
ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/317، وابن حجر: الإصابة ترجمة رقم 4300.
(3) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل ج 3 ق2 ص 160.
(4) أبو داود: السنن - كتاب الحمام - باب النهي عن التعري 2/363.
... وأحمد: المسند 3/479.
(5) وقال أبو نعيم: الحلية 1/365 (لا أعلم لاستيطانه الصفة ونزولها أثراً صحيحاً) ولم يجزم بنفي نسبته إليهم.(5/35)
ثقيفة بن عمرو بن شميط الأسدي.
سعد بن مالك أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.
العرباض بن سارية(1).
غرفة الأزدي(2).
عبد الرحمن بن قرط(3).
عباد بن خالد الغفاري(4).
وقد أورد أبو نعيم أسماء رجال ذكروا في أهل الصفة، ونفى نسبتهم إليها وهم(5).
سعد ن أبي وقاص، وقد اعتمد من نسبه إليهم على قول سعد رضي الله عنه فينا نزلت { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} والآية مكية – كما في تفسير ابن كثير – ولم تنزل في أهل الصفة.
حبيب بن زيد بن عاصم الأنصاري النجاري: وهو من أهل (العقبة) فوقع تصحيف فصارت (الصفة).
أبو أيوب الأنصاري: وهو من أهل (العقبة) فصحفت.
حجاج بن عمرو المازني الأنصاري.
ثابت بن الضحاك الأنصاري.
انقطاعهم للعلم والعبادة والجهاد.
ينقطع أهل الصفة للعلم ويعتكفون في المسجد للعبادة ويألفون الفقر والزهد، فكانوا في خلوتهم يصلون ويقرأون القرآن ويتدارسون آياته ويذكرون الله تعالى، ويتعلم بعضهم الكتابة حتى أهدى أحدهم قوسه لعبادة بن الصامت رضي الله عنه لأنه كان يعلمهم القرآن والكتابة(6)، واشتهر بعضهم بالعلم وحفظ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي هريرة رضي الله عنه الذي عرف بكثرة تحديثه، وحذيفة بن اليمان الذي اهتم بأحاديث الفتن.
__________
(1) السراج: حديثه، حديث رقم 78 وابن حجر: الإصابة ترجمة رقم 5505.
(2) الإصابة: ترجمة رقم 6913.
(3) الإصابة: ترجمة رقم 5190.
(4) الإصابة: ترجمة رقم 4463.
(5) انظر عنهم على التعاقب الحلية 1/368، 355، 361، 357، 351.
(6) أبو داود: السنن 2/237 وابن ماجة: السنن 2/730.(5/36)
لكن انقطاع أهل الصفة للعلم والعبادة لم يعزلهم عن المشاركة في أحداث المجتمع والإسهام في الجهاد، بل كان منهم الشهداء ببدر مثل صفوان بن بيضاء وزيد بن الخطاب وخريم بن فاتك الأسدي وخبيب بن يساف وسالم بن عمير وحارثة بن النعمان الأنصاري(1)، ومنهم من استشهد بأحد مثل حنظلة الغسيل(2)، ومنهم من شهد الحديبية مثل جرهد بن خويلد وأبو سريحة الغفاري(3)، ومنهم من استشهد بخيبر مثل ثقف بن عمرو(4)،ومن هم من استشهد بتبوك مثل عبد الله ذوالبجادين(5) ومنهم من استشهد باليمامة مثل سالم مولى أبي حذيفة وزيد بن الخطاب(6)، نعم هكذا كانوا رهباناً في الليل فرساناً في النهار.
ملابسهم:
لم يكن لأهل الصفة من الملابس ما يقيهم من البرد أو يسترهم ستراً كاملاً، فليست عندهم أردية(7). وما لأحد منهم ثوب تام(8) فكانوا يربطون في أعناقهم الأكسية أو البرد(9)، أو يأتزرون بالأزر(10)، أو الكساء، فمنهم من تغطي منهم ما يبلغ نصف الساقين وأحياناً قد لا يبلغ الركبتين، وتذكر المصادر أنهم كانوا يلبسون الحَوْتِكية(11) وهي عمَّة يُتعمم بها(12).
__________
(1) انظر عنهم على التعاقب الحلية 1/373، 367، 363، 364، 371، 356.
(2) المصدر السابق 1/375.
(3) المصدر السابق 1/353، 355.
(4) المصدر السابق 1/352.
(5) المصدر السابق 1/365
(6) المصدر السابق 1/367، 370.
(7) ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/255، وأبو نعيم: الحلية 1/377، وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/317.
(8) الحلية 1/341.
(9) الحلية 1/377.
(10) البخاري: الصحيح 1/114، وابن سعد: الطبقات 1/255.
(11) أحمد: المسند 4/128.
(12) لسان العرب مادة "حتك".(5/37)
والخنف وهي برد شبه اليمانية تعمل من نوع غليظ من أردأ الكتان(1)، وكانوا يخجلون من الظهور بملابسهم أحياناً لأنها لا تسترهم ستراً كاملاً(2)، وسرعان ما كانت تتسخ ملابسهم فجوانب الصفة مكشوفة للهواء والتراب حتى اتخذ العرق من جلودهم طوقاً من الوسخ والغبار(3).
طعامهم:
كان جل طعامهم التمر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجري لكل رجلين منهم مداً من تمر في كل يوم، وقد اشتكوا من أكل التمر وقالوا إنه أحرق بطونهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يوفر لهم طعاماً غيره فصبّرهم وواساهم(4)، وكان كثيراً ما يدعوهم إلى تناول الطعام في بيته، لكنه لم يتمكن من تقديم الطعام الجيد لهم فلم يكن يوسع على نفسه وأهله بالنفقة، ففي بعض المرات سقاهم لبناً، ومرة أطعمهم جشيشة (طحين ولحم أو تمر مطبوخ) ومرة أخرى حيسة (طعام من التمر والدقيق والسمن) وثالثة شعير محمص، لكنهم نالوا في إحدى المرات الثريد(5)، وكان عليه الصلاة والسلام يعتذر إليهم إذا لم يكن الطعام جيداً، فقد قدم لهم مرة صفحة فيها صنيع من شعير، وقال: "والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام ليس شيئاً ترونه"(6).
__________
(1) أحمد: المسند 3/487، والحلية 1/374، والسمهودي: وفاء الوفا 1/323.
(2) الحلية 1/342.
(3) المصدر السابق 1/341.
(4) أحمد: المسند 3/487، وأبو نعيم: الحلية 1/339، 374، والسمهودي: وفاء الوفا 1/323.
(5) البخاري: الصحيح 8/68، 119، وأحمد: المسند 2/515، 3/490، وابن سعد 1/256، والحلية 1/373-374، والسمهودي: وفاء الوفا 1/323.
(6) ابن سعد: الطبقات 1/256.(5/38)
ولا شك أنهم كانوا ينالون طعاماً أجود عندما يضيفهم أحد أغنياء الصحابة في داره وكثيراً ما كانوا يفعلون(1)، ولكنهم في كثير من الأحيان ما كانوا يحصلون على ما يسد رمقهم، فأثر فيهم ذلك فكانوا يخرون في الصلاة لما بهم من الجوع حتى يقول الأعراب إن هؤلاء مجانين. وكان أبو هريرة رضي الله عنه يصرع بين المنبر وحجرة عائشة رضي الله عنه لما به من الجوع(2), لكن قلة طعامهم ما كانت لتؤدي بهم إلى الشره والمغالبة على الطعام، بل كانت حقوق الأخوة وآدابها تحكم علاقاتهم ببعضهم، وقد حكى أبو هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا إذا اجتمعوا على أكل التمر وأكل أحدهم تمرتين معاً قال لأصحابه (إني قد قرنت فأقرنوا) لئلا ينال من التمر أكثر منهم(3).
لقد قنعوا بالقليل من الطعام والخشن من الثياب، وعافت نفوسهم القصور لينقطعوا إلى العبادة والعلم والمجاهدة، فكانوا أمثلة للزهد والترفع عن الدنيا.
رعاية النبي والصحابة لأهل الصفة:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهد أهل الصفة بنفسه، فيزورهم ويتفقد أحوالهم ويعود مرضاهم(4) كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم ويذكرهم ويقص عليهم ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته وذكر الله والتطلع إلى الآخرة ويشجعهم على احتقار الدنيا وعدم تمني الحصول على متاعها(5) وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها(6)
__________
(1) البخاري: الصحيح - كتاب المواقيت - باب السمر مع الضيف والأهل، والحلية 1/341.
(2) الحلية 1/339-378.
(3) المصدر السابق 1/339-340.
(4) المصدر السابق 1/375.
(5) أحمد: المسند 4/8. وأبو نعيم: الحلية 1/340، 341.
... والسمهودي: وفاء الوفا 1/322.
(6) البخاري: الصحيح - رقاق - باب (14) وأحمد: المسند 2/515.
... وأبو نعيم: الحلية 1/377، 339 والسمهودي: وفاء الوفا 1/322.(5/39)
وكثيراً ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات أزواجه رضي الله عنه(1) ولم يكن يغفل عنهم مطلقاً، بل كانت حالتهم ماثلة أمامه، وقد طلب من بنته فاطمة رضي الله عنه أن تتصدق عليهم لما ولدت الحسن رضي الله عنه بوزن شعره من الفضة(2). وقد جاءه مرة سبي فسألته ابنته فاطمة رضي الله عنه خادماً لأنها تعبت من كثرة أعمالها وكلت فأجابها (عليه الصلاة والسلام) "أخدمكما وأدع أهل الصفة تطوى" وأوضح لها أنه سيبيع السبي وينفقه على أهل الصفة، ويبدو أنها سألته أيضاً أن يعطيها مالاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد زار علياً رضي الله عنه فوجد أن فراشهما قصير لا يغطيهما فعلمهما كلمات في الدعاء وآثر إعطاء أهل الصفة عليهما وقال: "لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تلوى بطونهم من الجوع"(3) وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالتصدق على أهل الصفة(4) فجعلوا يصلونهم بما استطاعوا من خير(5) فكان أغنياء قريش يبعثون بالطعام إليهم(6) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوزع أهل الصفة بين أصحابه بعد صلاة العشاء ليتعشوا عندهم، ويقول: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث وإن أربع فخامس أو سادس(7) فيأخذ الصحابة بعضهم ومن بقي منهم يصحبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى داره فيتعشون معه"(8).
__________
(1) البخاري: الصحيح - رقاق باب (14) – واستئذان باب (14) وأحمد المسند 2/515، 3/429، 490.
... وابن ماجة: سنن – كتاب المساجد والجماعات – باب النوم في المسجد وأبو نعيم: الحلية 1/338-339 والسمهودي: وفاء الوفا 1/322-323.
(2) البيهقي: سن 9/304.
(3) أحمد: المسند 1/79، 106.
(4) المصدر السابق 6/391 والحلية 1/399.
(5) الحلية 1/340.
(6) الحلية 1/378.
(7) البخاري: الصحيح - كتاب المواقيت - باب السهر مع الضيف والأهل.
(8) المصدر السابق وابن سعد: الطبقات 1/255 والحلية 1/338، 341، 373.(5/40)
ويبدو أن الأمر كان كذلك في بداية الهجرة، فلما جاء الله بالغنى لم تعد هناك حاجة لتوزيعهم على دور الصحابة(1).
وقد استثارت حالة أهل الصفة سبعين من الأنصار يقال لهم القراء - وهم الذين استشهدوا يوم بئر معونة - فكانوا يقرأون القرآن ويتدارسون بالليل ويتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه بالمسجد ويحتطبون فيبيعون ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء(2) وقد اقترح محمد بن مسلمة الأنصاري وآخرون من الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج كل واحد منهم قنوا(3) من بستانه حين ينضج التمر لأهل الصفة والفقراء فوافق على ذلك، ووضع في المسجد حبلاً بين ساريتين فأخذ الناس يعلقون الأقناء على الحبل، فربما اجتمعت عشرين قنوا وأكثر.
وكان معذ بن جبل رضي الله عنه يقوم على حراسة الأقناء. وتشير رواية أخرى إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أشار على الناس بالتصدق بقنو من ثمار بساتينهم ليرفع الله تعلى عنهم عاهة أصابت ثمارهم ففعلوا(4).
وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل علق قنوا فيه حشف وأراد أن يكون التصدق بأطيب من ذلك(5). ويشير نص أورده السمهودي إلى استمرار عادة تعليق الأقناء في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة - على الأقل - خلال القرن الثاني الهجري(6).
الآيات التي قيل إنها نزلت في أهل الصفة:
__________
(1) ابن سعد: الطبقات 1/255.
(2) مسلم: الصحيح - كتاب الإمارة - حديث رقم (147). وأحمد المسند 3/270. وابن سعد: الطبقات الكبرى 3/514.
(3) القنو: العذق بما فيه من الرطب وجمعه أقناء (لسان العرب - مادة "قنا").
(4) السمهودي: وفاء الوفا 1/324-325.
(5) المصدر السابق 1/325 والحشف: اليابس الفاسد من التمر (لسان العرب مادة "حشف").
(6) المصدر السابق أيضاً 1/324.(5/41)
قوله تعالى: { وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ}(1) فقد ذكر الطبري وأبو نعيم بسندها إلى عمرو بن حريث وغيره: إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب الصفة. لكن الآية مكية فلا تصح أن تكون فيهم(2).
وقوله تعالى: { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ}(3).
فقد ذكر ابن سعد إلى ابن كعب القرظي قال: هم أصحاب الصفة(4) وذكر الطبري بأسانيده عن مجاهد والسدي أنها في فقراء المهاجرين(5).
قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه}(6) وقد ذكر ابن كثير أنها مكية لا يمكن نزولها في أهل الصفة(7)، وإلى ذلك تذهب بعض روايات الطبري(8).
وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}(9) لكنها مكية لا يمكن نزولها في أهل الصفة.
__________
(1) الشورى آية 26.
(2) الطبري: تفسير (ط مصطفى البابي الحلبي) ج 25 ص 30 والحلية 1/338.
(3) البقرة آية 273.
(4) الطبقات الكبرى 1/255.
(5) الطبري: تفسير 5/591 (ط محمود محمد شاكر).
(6) الأنعام من الآية 52.
(7) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/135.
(8) الطبري: تفسير 11/376 (ط محمود محمد شاكر).
(9) الكهف من الآية 28.(5/42)
قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}(1) فذكر أبو نعيم أنها نزلت في أهل الصفة(2). لكن الروايات التي يوردها كل من الطبري وابن كثير لا تنص على ذلك، وأغلبها تنص على أن الآية نزلت في السبعة البكائين من بني مزينة(3).
المؤرخون لأهل الصفة:
أقدم من عقد فصلاً في أهل الصفة هو محمد بن سعد (ت 230ه) وسائر ما ذكره مأخوذ عن الواقدي، ومع ذلك فلا نجد تلك النصوص في كتاب المغازي للواقدي (طبعة مارسدن) فلعلها من كتابه الآخر (الطبقات) وهو مفقود(4) وينقل عنه ابن سعد كثيراً في الطبقات الكبرى(5).
لكن أقدم من علمته أفرد كتاباً في أهل الصفة هو أبو عبد الرحمن محمد الحسين السلمي النيسابوري (ت 412ه) في كتابه (تاريخ أهل الصفة)(6) وهو مفقود لعله المصدر الذي نقل عنه أبو نعيم كثيراً في الفصل الذي عقده لأهل الصفة من كتابه حلية الأولياء وإن لم يصرح باسمه، لكنه صرح بالنقل عنه في موضع آخر من كتابه(7)، وقد وصفه بأنه مرتب على حروف المعجم وأن فيه "أسماء جماعة عرفوا من أهل القبلة نسبوا إلى أهل الصفة وهو تصحيف من بعض النقلة"(8).
__________
(1) التوبة من الآية 91.
(2) الحلية 1/371-372.
(3) انظر الطبري: تفسير 14/421-423 (ط محمود محمد شاكر).
... وابن كثير: تفسير 2/381-382.
(4) أكرم ضياء العمري: بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 53.
(5) المصدر السابق ص 56.
(6) حاجي خليفة: كشف الظنون 1/286 لكنه سماه "تاريخ أهل الصفة" ولعله تحريف (انظر مقدمة كتاب طبقات الصوفية للسلمي بقلم نور الدين شريبة ج 1 ص34).
(7) أبو نعيم: الحلية 8/25.
(8) المصدر السابق 1/347.(5/43)
ومن المتأخرين ألف تقي الدين السُّبكي (ت 756ه) كتاباً عنهم سماه: (التحفة في الكلام على أهل الصفة)(1)، كما عقد السمهودي مقالاً عن أهل الصفة جمع فيه الروايات المشتتة في كتب الحديث والتاريخ والجغرافية ومعاجم اللغة.
رحم الله القوامين الصوامين المجاهدين الزاهدين أهل الصفة وصدق الله العظيم { لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}
فأنّى هذا النموذج مما يحدثه الفقراء المدقعون في المجتمعات الجاهلية من تكوين العصابات التي تتولى أعمال السرقة والقتل وأنواع العدوان الذي يفقد المجتمعات الاستقرار والإحساس بالأمن.. ألا أنه الفرق بين تربية محمد صلى الله عليه وسلم والتربية الجاهلية… والفرق بين نظام الله والنظم البشرية.
والآن أعرض لصورة من الارتباط القوي الذي أوجده الإسلام عملياً في المدينة المنورة حيث تظهر صورة المجتمع الإسلامي بأزهى وأكمل حالاتها ومنها نتبين لماذا لا يحدث الصراع الطبقي في المجتمع الإسلامي ولماذا يقف الأغنياء والفقراء في صف واحد لدعم رسالة الإسلام، إنها الأخوة بين المؤمنين والتكافل بينهم كما يظهران في تشريع دستور دولة المدينة المنورة.
__________
(1) ريكندورف دائرة المعارف الإسلامية 106.(5/44)
مقدمة المؤلف
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى
آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
هذه دراسة كتبتها في أناة، ونقحتها على مهل، وحاولت فيها تطبيق منهج النقد علي الروايات التاريخية، وأحسب أن المحاولة نافعة بفضل الله وتوفيقه، ويحتاج الأمر إلى التفرغ لإكمال حلقات السيرة النبوية وعصر الراشدين على غرارها. وعسى أن يتحقق ذلك قريبا إن شاء الله تعالى، وأملي كبير في نقد هذه التجربة وتقويمها من قبل الباحثين المعنيين بدراسات التاريخ الإسلامي للإفادة من آرائهم في هذا الشأن لأننا لازلنا في أول الطريق نحو تطبيق منهج المحدثين في نقد الروايات التاريخية وهو أمر عسير يحتاج إلى استيعاب دقيق لمصطلح الحديث ومرونة في التعامل مع الروايات التاريخية وفقه. وقد وجهت عددا من الرسائل التي سجلت في قسم الدراسات العليا لنيل درجتي (الماجستير والدكتوراه) نحو نقد المرويات التي احتوتها كتب الحديث والمغازي والتواريخ عن السيرة النبوية، وذلك بهدف توثيق معلوماتنا عن حياة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. وقد أنجزت بعض هذه الرسائل وبعضها الآخر في الطريق إلى الإنجاز، وفي تصوري أن هذا المشروع الذي ينفذه قسم الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة منذ ست سنوات يعتبر أعظم إنجاز في توثيق دراسات السيرة النبوية حتى الآن، رغم ما يكتنف التجارب الأولى من قصور في العادة، وأملي كبير في أن نتمكن من تطوير هذا لإنجاز ليتم عرض السيرة النبوية عرضا كاملا من جوانبها المختلفة متعمدا على التوثيق للروايات والتصور الإسلامي للدوافع والسمات، والله من وراء القصد وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
د/أكرم ضياء العمري المدينة المنورة - الجامعة الإسلامية
مقدمة في منهج كتابة تاريخ صدر الإسلام
ومصادر السيرة النبوية
منهج كتابة تاريخ صدر الإسلام(6/1)
من الثغرات التي انتبه لها المفكرون المسلمون في بداية الستينات من هذا القرن قضية إعادة صياغة التاريخ الإسلامي وفق التصور الإسلامي لحركة التاريخ من ناحية التفسير التاريخي، ووفق مناهج المحدثين من ناحية البحث في التاريخ الإسلامي… ولاشك أن تقديم المقترحات والملاحظات حول إعادة صياغة التاريخ الإسلامي خلال أربعة عشر قرنا في غاية الصعوبة، لطول الفترة الزمنية من ناحية، ولتنوع المصادر واختلافها من حيث التنظيم وطرق العرض واختلاف الجوانب التي تستحق التركيز عليها في كل حقبة، وظهور انحراف عن الإسلام في الحياة السياسية منذ فترة مبكرة ثم انحرافات أخرى في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتربوية في الفترات المتأخرة، ثم انحراف أخطر عن العقيدة والشريعة في القرن العشرين، مما يؤثر في تفسير دوافع حركة "التاريخ الإسلامي"0
ولذلك سأقصر كلامي على إعادة صياغة تاريخ صدر الإسلام ويشمل على السيرة النبوية المطهرة وعصر الراشدين حيث يقوى تأثير العقيدة في دوافع سلوك المسلمين من ناحية، كما أن المصادر تتشابه من ناحية التزامها بسوق الروايات تتقدمها الأسانيد على طريقة المحدثين في الغالب، وكذلك لخطورة تاريخ صدر الإسلام حيث يمثل التطبيق الصحيح لتعاليم الإسلام الكاملة الشاملة، فهو الصورة النموذجية والمثال الذي نسعى بمجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة للوصول إليه، وسأتعرض لبعض ملامح التصور الإسلامي للتفسير التاريخي، ثم أتعرض لمنهج البحث التاريخي وفق قواعد مصطلح الحديث مع تمهيد لذلك ببيان الحاجة إلى كتابة تأريخنا بأقلام إسلامية.
إن تاريخ الأمم الأخرى كتب بأقلام أبنائها وإن أسهم فيه غيرهم، والأصل أن نحمل - نحن المسلمين - مسؤولية كتابة تاريخنا بأيدينا، وأن نعرف بحضارتنا ومبادئنا وقيمنا وفق فهمنا لها، وإن أسهم الآخرون في الكتابة معنا فإنها مشاركة محدودة وليست هي الأصل في تصورنا لتاريخنا ولا في عرضنا له أمام أنظار العالم.(6/2)
إن ما حدث هو عكس ما ينبغي، حيث إن التخلف الحضاري للعالم الإسلامي ينعكس على تقويمه لتاريخه. إن البعض من المعنيين بالتاريخ ما بين ناكصين عن الإسلام كارهين لتاريخه معتقدين أنه سبب التأخر الحضاري في ديار الإسلام وهم يحملونه حتى مسؤولية الهزائم العسكرية أمام يهود، وهؤلاء يؤمنون بضرورة أحداث فجوة بين الماضي والحاضر وعزل الأجيال الإسلامية الجديدة عن الإسلام وتراثه الأدبي، أو كسالى احترفوا الكتابة التاريخية فهم يسودون الصحف البيضاء بما يترجمونه من كتب المستشرقين التي يجدون فيها مادة للتدريس والكتابة لا تكلفهم عناء البحث والتدقيق والتأليف، ولا يبالون بعد ذلك بالسموم التي ينفثونها في المجتمع الإسلامي.
إن مما ساعد على ذلك تخلف الحركة الفكرية في العالم الإسلامي وعدم مواكبتها للحركة الفكرية العالمية، وذلك مرتبط بما حدث من تباين حضاري بين الشرق والغرب منذ عهد النهضة في أوربا، فقلما تجد دراسة تاريخية جادة كتبت من قبل المسلمين في القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، فلا غرابة إذا ما كانت معظم الدراسات التاريخية التي قام بها المسلمون في تلك الفترة صدى وانعكاسا لآراء وأفكار المستشرقين.
أما المؤمنون بالإسلام، العاملون على توثيق صلة الأجيال الجديدة به، فهم يحملون عبئا ضخما ومسؤولية كبيرة في هذا الميدان، لأنهم وحدهم القادرون على التصور الصحيح للتاريخ الإسلامي والمجتمع الإسلامي، ويتذوقون طعم الإيمان ويحسون بأثره على سلوكهم مما يمكنهم من فهم دوافع حركة الفرد المسلم والمجتمع المسلم وبالتالي حركة التاريخ الإسلامي.(6/3)
إن التفسير الإسلامي منبثق من تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان، فهو يقوم على الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، وهو لا يخرج عن دائرة المعتقدات الإسلامية، وهو مبني على فهم دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي الأول مما يجعل حركة التأريخ الإسلامي ذات طابع متميز عن حركة التاريخ العالمي لأثر الوحي الإلهي فيه. وهو ليس تفسيرا تبريريا بل تبرز فيه خصائص الإيمان المستعلي على ما سواه. كما أنه ليس تفسيرا ماديا يحصر المؤثرات على حركة التاريخ البشري في العوامل المادية كتبدل وسائل الإنتاج - كما في الفكر الماركسي، أو التفسيرات المعتمدة على أثر البيئة الخارجية (من مناخ وجغرافية واقتصاد …). كما في الفكر المادي الغربي، بل هو يوضح دور الإنسان ومسئوليته عن التغير الاجتماعي والتاريخي في إطار المشيئة الإلهية. وكذلك فإنه ليس عنصريا يركز على دور شعب بعينه، بل يقوم دور الشعوب الإسلامية وفق حجمها وعطائها الحقيقي. كما أنه ليس طائفياً يوجه التاريخ لخدمة مذهب معين أو طائفة على حساب الحقائق التاريخية. وكل هذه الملامح تحتاج إلى تفصيل كثير لا مجال له في هذا الكتاب، لكنني سأفصل بعض هذه الملامح، فقط، وأرجئ تفصيل بقية الملامح إلى وقت آخر إن شاء الله تعالى.
ملا مح التصور الإسلامي للتفسير التاريخي(6/4)
1- مراعاة الحقائق التي قررها القرآن الكريم: مثلاّ (الأصل في عقائد البشر التوحيد لا الشرك) الأصل في عقيدة البشر التوحيد من لدن آدم عليه السلام، ثم طرأ عليهم الشرك { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} أي كانوا أمة واحدة على التوحيد، فلما تركوه وانحرفوا عنه أرسل الله تعالى الأنبياء ليردوهم إليه. هذا ما قرره القرآن الكريم، فإذا راجعنا كتب التاريخ القديم، وجدنا أن المؤرخ المنتسب للإسلام يقرر ما يخالف القرآن حيث يذكر أن الأصل عبادة الحيوان والكواكب والقوى الطبيعية، ثم نتيجة ارتقاء العقل البشري وصل إلى التوحيد.. وهم يعتبرون الفرعون "أخناتون" أقدم الموحدين لأنه دعا إلى عبادة الشمس وحدها دون بقية المعبودات عند المصريين. إن هذا التقرير يرجع إلى أمرين:
الأول: إنكار الوحي والنبوة حيث اعتبر ظهور العقائد الدينية وتطورها من تعدد الآلهة إلى التوحيد مجهوداً بشرياً نتيجة الارتقاء العقلي والثقافي.
الثاني: التأثر بنظرية داروين وتطبيق نظرية النشوء والارتقاء في مجال العقيدة الدينية.(6/5)
إن المطلوب من المؤرخ المسلم أن يستوعب كليات التصور القرآني للتاريخ البشري ويلتزم به في الكتابة التاريخية، ولو ظهرت بعض النظريات التي تخالف بعض هذه الكليات فليتهم هذه النظريات ما دامت لم تصبح حقائق قطعية، ومعظم استنتاجات التاريخ القديم ترتكز على علم الآثار والحفريات، وهي تعطي معلومات مشتتة لا تكفي لتغطية الفجوات الكبيرة في التاريخ البشري القديم، وإذا كان المؤرخ غير المسلم لا يستطيع التصور إلا من خلال الآثار المادية التي تزوده بالمعلومات. فإن المؤرخ المسلم يستند إلى القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكتاب الإلهي الوحيد الذي لم ينله التحريف والتبديل وهي نعمة عظيمة أنعمها الله تعالى على المسلمين بحفظ كتابه يتلونه - كما أنزل - في كل عصر، مطمئنة نفوسهم إلى أنه "كلام الله" مما له أعمق الأثر في نفوسهم وعقولهم وسلوكهم وشخصيتهم وطبيعة مجتمعهم وحضارتهم، وهو أمر لم يتحقق لأمة أخرى غير الأمة الإسلامية.
2- تفسير دوافع السلوك عند المسلمين في صدر الإسلام: إن دوافع السلوك في المجتمع الإسلامي الذي تهيمن عليه العقيدة تتأثر كثيراً بالتطلع إلى ما عند الله… إلى الجزاء الأخروي، وصفوة المؤمنين لا يشركون دوافع أخرى في سلوكهم، إذ لابد من إخلاص النية لله تعالى في كل أعمال المسلم سواء كانت جهاداً بالنفس أو نشاطا اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا، فنشاط المسلم في كل مجالات الحياة يدور حول محور - إرضاء الله تعالى - ويعرف المسلم أنه إذا أشرك في نيته فإنه يحبط عمله كما في الحديث الشريف "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له وابتغى به وجهه" وإذا كان هذا التصور يتحكم في الكثير من المسلمين الواعين اليوم فكيف كان أثر ذلك في جيل الصحابة والتابعين والأتباع - وهم خير القرون - إذاً؟.(6/6)
إن معرفة أثر الإسلام في تربية أتباعه في صدر الإسلام وتزكية أرواحهم وتثقيف عقولهم وإخلاص عقيدتهم وتوجههم إلى الله وحده بالعبادة والمجاهدة، يجعل من البدهي التسليم بأن الدافع لهم في مشاركتهم في الفتوح ونشر الإسلام والتمكين له وتنظيم المناطق المفتوحة والاجتهاد في حل المشاكل والأقضية المستجدة وفق تعاليم الإسلام، لم يكن دافعا دنيوياً ولا رغبة في التسلط والاستحواذ ولا طمعاً في خيرات البلاد المفتوحة ولا فراراً من شظف الحياة في الصحراء كما يقول كايتاني وغيره من المستشرقين.
روى الطبري أن ربعي بن عامر دخل على رستم قائد الفرس في مجلسه فسأله: ما جاء بكم ؟ فقال: "الله ابتعثنا ، والله جاء بنا، لنخرج من شاء من عبادة العباد… إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، و من جور الأديان إلى عدل الإسلام ، فأرسلنا بدينه إلى خلقه ، لندعوهم إليه"، إن ما قاله ربعي بن عامر ممثل المسلمين للفرس لم يكن يعبر عن شعور فردي، وإنما كان يمثل الفكرة المهيمنة على قيادة المسلمين ومعظمهم جندها المجاهدين، ولا يمنع هذا القول من مشاركة بعض الأعراب في الجهاد ممن تحفزهم العوامل المادية إلى جانب الرغبة في الجهاد، لكن هؤلاء لا يمثلون قيادة الحركة ولا روحها الموجهة، وإنما أقرر ذلك لأن المجتمع المسلم مجتمع بشري فيه الصفوة الخيرة التي تلتزم المثل العليا وتخلص النية لله وتجعل كل همها كسب رضاه، وفيه طبقات دونها تأخذ نفسها بالحد الأدنى الذي يحقق لها صفة الإسلام.(6/7)
وينبغي أن يتقرر بوضوح كامل أن تفسير حركة التاريخ الإسلامي في صدر الإسلام لا يمكن أن يقوم به إلا المسلم الذي يردد كل يوم قول الحق تعالى لنبيه { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت}(1). والذي تفاعل قلبه وشعوره مع القرآن والسنة وأحسَّ بأثرهما في صياغة شخصيته وتحديد دوافع سلوكه. ومن هنا جاءت التفسير الغربية والإستشراقية قاصرة عن فهم دوافع السلوك عند المسلين في صدر الإسلام، فمثلا عندما يعرض المستشرق الأب (لامانس) لحادثة سقيفة بني ساعدة - وهي سابقة رائعة لتطبيق الشورى الإسلامية، حيث اقتنعت الأكثرية برأي الأقلية - فإن صور المؤامرات في البلاط الفرنسي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تشوه رؤيته لأحداث السقيفة، فيطلع علينا بصورة مشوهة عندما يقرر تآمر أبي بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم) واتفاقهم على انتزاع الخلافة والتعاقب عليها فيما بينهم في سقيفة بني ساعدة.
إن الدراسات الاستشراقية وهي كثيرة جدا ومتباينة من حيث المستوى والدقة العلمية والبعد عن التعصب الديني والقومي، لكنها على العموم تصدر عن مفكرين عاشوا في بيئة بعيدة عن الإسلام لها حضارتها وفلسفاتها ومقاييسها وأذواقها، فيصعب عليهم تذوق الإسلام وبالتالي يتعذر عليهم فهم دوافع سلوك المسلم في حركته الفردية والجماعية، وهم يقيسون على التاريخ الأوربي في تفسيرهم لحركة التاريخ الإسلامي رغم اختلاف طبيعة التاريخين، ولا نغفل عن كون الأوروبيين عموما ينظرون إلى العلم من خلال موقفهم المتفوق عسكريا وتكنولوجيا، فهم ينسبون كل مأثرة لأنفسهم وكل منقصة لسواهم. وعندما أرّخ توينبي لحضارات العالم أعطى الحضارة الإسلامية مساحة ضيقة لا تتناسب مع حجمها ودورها الحقيقي في التاريخ العالمي.
__________
(1) الأنعام آية 162-163.(6/8)
إن أعظم قصور يواجه الدراسات الاستشراقية هو عجزها عن التصور السليم للإسلام وروحه وأثره في المجتمع الإسلامي وحركته التاريخية، وهو قصور كبير يمنع إمكان الاعتماد على هذه الدراسات خاصة في عصر السيرة والراشدين حيث تتطابق النظرية الإسلامية مع الواقع التاريخي.
3- تقويم الحضارة يرتبط بمدى ملاءمتها لعبادة الله: إن المؤرِّخ المسلم لا يحكم على المستوى الذي تبلغه أية حضارة من خلال منجزاتها المادية فقط، وإنما ينظر إلى مدى تحقيقها للهدف الأساسي الذي وضعه "الخالق" عزوجل ل "خلقه"، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}. فالحضارة الإسلامية في نظر المسلم هي التي تهيئ الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمادية الملائمة لتوجه الإنسان نحو توحيد الله وإفراده بالعبودية والتزام تعاليمه في كل ألوان النشاط الذي يمارسه، دون أن تعيقه المؤسسات والأجهزة القائمة في المجتمع أو توقعه في التناقض بين "عقيدته" و"سلوكه" ودون أن تضغط عليه لتحرفه عن التزامه أمام رب العالمين. لذلك مهما تقدمت الحضارة في العلوم والمعارف والآداب والفنون، ومهما تفننت في ريازة الدور والقصور وفي الأثاث واللباس والطعام.. وفي تيسير الحياة المادية الرخية للإنسان، أقول مهما وصلت الحضارة في التقدم المادي فإنها تبقى في نظر المؤرخ المسلم "متخلفة" و"قاصرة" ما دامت لا تهيئ الظروف الملائمة لعبادة الله والوفاء بالالتزام بشرعه. والحضارة الإسلامية نفسها مرت بمراحل تاريخية مختلفة.. ولاشك أن التضخم في منجزاتها المادية لم يكن في صدر الإسلام بل كان في القرنين الثالث والرابع الهجريين، لذلك فإن المؤرخ الغربي آدم ميتز يرى أن عصر صدر الإسلام يمثل أوج الحضارة لأنه أكثر ملائمة لعبادة الله وتوحيده، وسلوك المسلمين في صدر الإسلام أكثر التزاما بتعاليم الشريعة من سلوك المسلمين في القرن الرابع الهجري، وهذا ما أشار إليه(6/9)
الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في حديثه: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
إن هذا المنطق والتصور يبدوان غريبين بالنسبة للمؤرخين غير المسلمين لأنهم يخضعون في مقاييسهم لقيم الحضارة الغربية، أما المؤرخ المسلم فإن الأمر يبدو بدهيا أمامه لأنه تمكن من تمزيق طوق القيم والمقاييس والتصورات المنبثقة عن الحضارة المادية الغربية ولم يتم ذلك إلا بعد الوعي الإسلامي الذي ظهرت آثاره في العالم الإسلامي المعاصر.. ومن آثاره التفلت من كماشة الحضارة الغربية والاستعلاء بالإيمان والإسلام عليها والشعور بالذات والاستقلال الروحي والفكري.. وهو أمر يمثل الخطوة الصحيحة على طريق الحضارة إن شاء الله.(6/10)
4- رفض منطق "التبرير" كأساس لتفسير تاريخ صدر الإسلام. إن هذا المنطق أثر للقهر النفسي والفكري الذي أحدثه الغزو الفكري في عقولنا ومن ذلك الأسلوب الاعتذاري الذي يستخدمه بعض المؤرخين المسلمين المعاصرين في الكلام عن الجهاد في الإسلام وحركة الفتوح الإسلامية واعتبارها دفاعا عن حدود شبه جزيرة العرب أمام تحركات الفرس والروم، بل إن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم لم تسلم من هذا الأسلوب التبريري وجعلها دفاعا عن دولة المدينة المنورة (دراسة العلامة محمد شلبي النعماني عن السيرة مثلا فهو على فضله وقع في هذا الخطأ). بل إن بعض المؤرخين المسلمين ذهب إلى نفي روايات صحيحة عندما عجز عن التبرير الذي يريده، فقد نفى أحد الكتاب روايات ابن إسحاق حول قتل مقاتلة بني قريظة، وهي ثابتة في كتب الحديث والسيرة والتاريخ. وكأنه يشك في عدالة قتلهم، فالتفسير الإسلامي إذاً ليس دفاعياً تبريرياً بل ينطلق من اعتقاد أن الإسلام حق وما عداه باطل، وإن ما شرعه الإسلام من الجهاد وغيره حق لا يحتاج إلى اعتذار أو تبرير، حتى لو بدا ذلك غريبا أمام الذهنية المهيمنة على الناس في القرن العشرين، لأننا لا نطوع "الإسلام وتاريخه" لأذواق الناس واتجاهاتهم الفكرية في "عصر معين"، فما يحبذه الناس في عصر قد ينكرونه في عصر آخر، وما يحسبه أبناء بلدة حسناً يراه سواهم منكراً، والحكم لله ولشرعه وليس لأذواق الناس وأهوائهم والله غالب على أمره.(6/11)
5- استعمال المصطلحات الشرعية في الكتابة التاريخية: إن استعمال المصطلحات الشرعية ضروري عند كتابة التاريخ الإسلامي من خلال التصور الإسلامي النابع من القرآن الكريم والسنة المطهرة، لأن هذه المصطلحات ذات دلالة واضحة ومحددة ولأنها معايير شرعية لها قيمتها في وزن الأشخاص والأحداث. والقرآن الكريم قسم الناس إلى "المؤمن" و"الكافر" و"المنافق" ولكل من الثلاثة صفات محددة ثابتة ودقيقة لا تقبل التلاعب فيها. فما ينبغي أن نحيد عن هذا التقسيم إلى مصطلحات نبتت في أوساط غير إسلامية كوصف الإنسان بأنه "يميني" أو "يساري" أو غير ذلك من النعوت غير الشرعية والتي ليست محددة بصورة دقيقة ثابتة. وكذلك فإن الحكم على الأعمال والمنجزات الحضارية ينبغي أن تستخدم فيه المصطلحات الشرعية وهي "الخير" و"الشر" و"الحق" و"الباطل" و"العدل" و"الظلم" كما حددها الشرع ولا تستخدم معايير الفكر الغربي "كالتقدمية والرجعية".
لقد انجرَّ بعض الكتاب المسلمين إلى استخدام مصطلحات وألفاظ ليست في "القاموس الإسلامي" وفي ذلك يكمن خطر الذوبان في الفكر الجاهلي والضياع وسط مصطلحاته الكثيرة التي تفقدنا ذاتيتنا المستقلة.
إن استعمال المصطلحات الشرعية عند إعادة صياغة التاريخ الإسلامي ضروري جداً للحفاظ على استقلال التصور والمنهج الإسلامي وإبراز هويته بالإضافة إلى أن المصطلحات الشرعية أوضح وأدق من المصطلحات الغربية.
والآن ما هو المقصود بالبحث في التاريخ الإسلامي وفق مناهج المحدثين؟.(6/12)
المقصود أن للمحدثين مناهج وطرقاً في نقد الأحاديث ومعرفة الصحيح من الضعيف، والمطلوب تطبيق هذه المناهج في نقد الروايات التاريخية المتعلقة بتاريخ صدر الإسلام، لأن هذه الروايات التاريخية تشبه الأحاديث من حيث وجود الأسانيد التي تتقدم المتون مما يمكن الناقد من معرفة الرواة المتعاقبين الذين نقلوا الخبر أو الرواية خلفاً عن سلف. وتستمد المعلومات عن الرواة من كتب علم الرجال التي تختص ببيان أحوال الرواة، فمثلا شرط الصحيح من الحديث هو أن يرويه العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، فشرط الرواية التاريخية الصحيحة أن كل رواتها المتعاقبين إلى - شاهد العيان - متدينون تدينا صحيحاً وعندهم ملكة الحفظ والتي تمنع وقوعهم في الأوهام والتخليط وتؤدي إلى ضبطهم للرواية سواء في صدورهم أو كتبهم، يضاف إلى ذلك أن تكون الرواية متفقة مع الروايات الأخرى التي يرويها رواة يتمتعون بتوثيق أكثر، أما إذا خالفتها فهي شاذة مرجوحة، وكذلك أن لا يكون في الرواية التاريخية علة خفية قادحة بصحتها كالتدليس الخفي أو الإرسال الخفي أو الاضطراب في معلومات المتن. وإذا كانت الروايات التاريخية لا ترقى إلى درجة الصحة الحديثية وفق الشروط المتقدمة، فإنه ينظر إلى تعدد طرقها بجمع ما يتعلق بالمسألة التاريخية الواحدة والنظر في اتفاقها أو اختلافها، فإن تعددت مخارج الرواية الواحدة، فإنها تقوى خاصة عند استحالة اجتماع الرواة الذين رووها واتفاقهم على الكذب.
ولكن ينبغي ملاحظة منهج المحدثين عند التعامل مع الرواية التاريخية، فهم يتساهلون في رواية الأخبار التاريخية، كما نلاحظ عند ثقات المؤرخين مثل محمد بن إسحاق وخليفة بن خياط والطبري حيث يكثرون من الأخبار المرسلة والمنقطعة. كما أن الطبري يكثر النقل عن رواة في غاية الضعف مثل هشام بن الكلبي وسيف بن عمر التميمي ونصر ابن مزاحم وغيرهم.(6/13)
ولا شك أن عدم تمحيص المؤرخين للأخبار كما فعلوا في الحديث، واكتفاؤهم بإلقاء العهدة على الرواة المذكورين في أسانيد الروايات ألقى عبئاً كبيراً على " المؤرخ المعاصر المسلم " لأنه يحتاج إلى بذل جهد ضخم للوصول إلى الروايات الصحيحة بعد فهم وتطبيق منهج المحدثين، وهو أمر لم يعد سهلا ميسوراً كما كان بالنسبة لخليفة بن خياط أو الطبري بسبب تضلعهم في مناهج المحدثين وطريق سبرهم للروايات وتمييزها، وعلى أية حال فنحن لا نبخس قدامى المؤرخين حقهم وفضلهم فقد جمعوا لنا المادة الأولية بالأسانيد التي تمكننا من الحكم عليها ولو بعد جهد وعناء.
والآن ماذا بعد سبر الروايات وتمييز صحيحها من سقيمها؟.
المطلوب اعتماد الروايات الصحيحة وتقديمها ثم الحسنة ثم ما يعتضد من الضعيف لبناء الصورة التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام… وعند التعارض يقدم الأقوى دائمًا.. أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى أو تعضد فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة على أن لا تتعلق بجانب عقدي أو شرعي، لأن القاعدة "التشدد فيما يتعلق بالعقيدة أو الشريعة"، ولا يخفى أن عصر السيرة النبوية والخلافة الراشدة مليء بالسوابق الفقهية، والخلفاء الراشدون كانوا يجتهدون في تسيير دقة الحياة وفق تعاليم الإسلام، فهم موضع اقتداء ومتابعة فيما استنبطوا من أحكام ونظم لأقضية استجدت بعد توسع الدولة الإسلامية على أثر الفتوح.
أما الروايات التاريخية المتعلقة بالعمران كتخطيط المدن وريازة الأبنية وشق الترع.. أو المتعلقة بوصف ميادين القتال وأخبار المجاهدين الدالة على شجاعتهم وتضحيتهم فلا بأس من التساهل فيها.(6/14)
وما دمنا قد قبلنا هذا "المبدأ" فإنه يمكن الإفادة بصورة واسعة من كتب الحديث في دراسة عصر السيرة النبوية والخلافة الراشدة، لأن كتب الحديث خُدمت أكثر من كتب السيرة والتاريخ من قبل النقاد، فمثلاً قد تميز صحيحا البخاري ومسلم وعرف أن كل ما فيهما صحيح بعد الدراسات النقدية التي قام بها حفاظ كبار قدامى ودارسون معاصرون، وحتى الأحرف اليسيرة المنتقدة فيهما صمدت أمام النقد لأن أصولها معروفة ولم ينفرد بها البخاري ومسلم. وما دام الأمر كذلك فيمكن إذا اعتماد ما أورده البخاري ومسلم من روايات تتعلق بالسيرة والراشدين، ثم النظر في روايات السنن الأربعة وموطأ مالك التي لقيت سبراً وتمحيصاً أيضاً رغم أنها لا ترقى إلى درجة الصحيحين ولا تخلو من الضعيف.
إن كتب الحديث تحوي قدراً كبيراً من أخبار السيرة وإن كانت لا تغطي كل أحداثها، ومن هنا تبرز أهمية النقد الحديثي لروايات كتب السيرة والتاريخ… فكبار المحدثين أمثال الحافظ ابن سيد الناس في كتابه (عيون الأثر في المغازي والشمائل والسير) والحافظ الذهبي في كتابه (تاريخ الإسلام) عندما كتبا السيرة النبوية اعتمدا على الكتب الستة (البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة) لكنهما لم يتمكنا من الاستغناء عن كتب السيرة والتاريخ.(6/15)
ولا بد هنا من إيضاح حقيقة هامة قد يؤدي إغفالها إلى شكنا في صحة تصورنا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحة معلوماتنا عن الخلفاء الراشدين المهديين. وهذه الحقيقة هي أن كتب الحديث تدعم ما أوردته كتب السيرة والتاريخ في معظم الجوانب المتعلقة بالسيرة، وخاصة سيرتي محمد بن إسحاق بن يسار (ت 151ه) وموسى بن عقبة (ت 140ه) والأولى وصلت إلينا بعنوان (سيرة ابن هشام) الذي قام بتهذيبها.. وقد خصصتُ (سيرة ابن إسحاق) لأن السيرة التي تقابلها هي (مغازي الواقدي) الذي رماه المحدثون بالوضع وضعفوه رغم تصريحهم بغزارة مادته في السيرة.. والحق أن الدراسة لمغازي الواقدي تكشف عن صحة ما يقوله المحدثون فكثير من الرواة الذين يسوق الواقدي الروايات بواسطتهم لا نجد لهم تراجم في كتب علم الرجال.
وهناك اتجاه خاطئ عند بعض المستشرقين تابعهم فيه بعض مؤرخينا يُعلي من شأن مغازي الواقدي ويقدمها على سيرة ابن هشام … والحق أن سيرة ابن إسحاق أدق وأوثق وتتطابق معلوماتها مع معلومات كتب الحديث في كثير من الجوانب. إن الفرق بين كتب الحديث وكتب السيرة يتمثل في كون كتب السيرة تسوق كثيراً من الروايات بأسانيد مرسلة ومنقطعة، وتوجد هذه الروايات في كتب الحديث متصلة مسندة مما يوثق معلومات كتب السيرة. ولكن لاشك أنه ستتم بعض الإضافات والتعديلات إذا اعتمدنا على كتب الحديث إلى جانب كتب السيرة والتاريخ، وإذا طبقنا قواعد النقد الحديثية " على الرواية التاريخية ". وفيما يلي بعض النتائج التي سنحصل بسبب تطبيق هذا المنهج، والتي اتضحت لي من دراساتي الخاصة بهذا الموضوع.
1- زيادة اليقين بصحة معلوماتنا عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والتي تقدمها كتب السيرة المعتمدة وخاصة (سيرة ابن إسحاق).
وهذا من رحمة الله بعباده أن حفظ لهم سيرة نبيه ليتمكنوا من الاقتداء به.(6/16)
2- إضافة معلومات تكمل جوانب حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الشاملة لأمور الدين والدنيا، وهذه الإضافات التي تقدمها كتب الحديث مهمة لأن كتب التاريخ والسيرة المختصة اقتصرت على المغازي دون تفاصيل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والإدارية في عصر السيرة.
3- توضيح بعض الجوانب التي اختلف فيها المؤرخون والمحدثون، مثلاً "غزوة بني المصطلق" يذكر البخاري في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم داهمهم على غرة أما كتب السيرة فتذكر أنه أنذرهم وأنهم تأهبوا لقتاله وقاتلوه على ماء المريسيع.
ففي مثل هذه الحال نحتاج إلى فهم موقف الإسلام من إنذار العدو وسوف نطالع ثلاثة آراء للعلماء:
الأول: يقول بعدم الوجوب مطلقا وهو رأي حكاه المازري والقاضي عياض.
الثاني: يقول بالوجوب مطلقاً. وإلى هذا الرأي ذهب الإمام مالك وآخرون.
الثالث: يقول بالوجوب بالنسبة لمن لم تبلغهم الدعوة وعدم الوجوب بالنسبة لمن بلغتهم. وإلى هذا الرأي ذهب الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وأتباعهم وهو الراجح(1).
وبما أن بني المصطلق ممن بلغتهم الدعوة فإن رواية الإمام البخاري في مهاجمة الرسول صلى الله عليه وسلم لبني المصطلق على غرة منسجمة مع هذا الرأي الراجح، ولا داعي إلى ترجيح رواية ابن إسحاق وبقية كتّاب السيرة عليها بحجة أنها أكمل وأن رواية البخاري تخالف النص القرآني:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}.(2)
__________
(1) راجع نيل الأوطار للشوكاني 7/262.
(2) سورة الأنفال: الآية 58.(6/17)
4- التعديل في بعض الموضوعات المتعلقة بالسيرة والتي لم تهضمها الدراسات المعاصرة المعتمدة على كتب السيرة والتواريخ فقط مثلاً "نظام المؤاخات" و"الوثيقة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم كدستور للمدينة أول الهجرة"…. ولكن ينبغي أن لا نبالغ في حجم التعديل الذي سيحدث في صورة السيرة كما تظهر عند كتّاب السيرة القدامى وكما عرفها المسلمون في خلال الأربعة عشر قرناً الماضية، فإن الدراسة والمقارنة تكشف عن التطابق بين كتب الحديث وكتب السيرة في كثير من الأسس والتفاصيل معاً، وهذا من حفظ الله تعالى لسيرة نبيه لتبقى مناراً يقتدي بها المسلمون في كل عصر ومصر. فكان أن هيأ لها جهابذة المحدثين من طبقة التابعين وتلاميذهم لكتابتها في وقت مبكر مستقين أخبارها من الصحابة الذين كانوا شهود عيان ومشاركين في الأحداث، فلم يقع انقطاع بين الأحداث والتدوين يؤدي إلى الضياع أو التحريف أوالتهويل، وعندما نستعرض أصحاب كتب السيرة نجد معظمهم من المحدثين وليسوا من الأدباء أو القصاصين ولذلك أهميته، فهم معروفون بالتوثيق، ولهم مناهج نقدية واضحة. وأساليبهم جدية بعيدة عن المبالغة والحشو والخيال.
ضرورة المرونة في تطبيق قواعد
المحدثين في نطاق التاريخ الإسلامي العام
لاشك أن اشتراط الصحة الحديثية في كل رواية تاريخية نريد قبولها في تعسف، لأن ما تنطبق عليه هذه الشروط لا يكفي لتغطية العصور المختلفة للتاريخ الإسلامي، مما يولد فجوات في تاريخنا، وإذا قارنا ذلك بتواريخ العالم فإنها كثيراً ما تعتمد على روايات مفردة أو مؤرخين مجهولين، بالإضافة إلى ذلك فهي مليئة بالفجوات.. لذلك يكفي في الفترات اللاحقة التوثق من عدالة المؤرخ وضبطه لقبول ما يسجله مع استخدام قواعد النقد الحديثي في الترجيح عند التعارض بين المؤرخين.(6/18)
إن اشتراط الأمانة والثقة والدين في المؤرخ ضروري لقبول شهادته على الرجال والأمم وتقويم دورهم التاريخي، إن مراحل التاريخ الإسلامي كلها بحاجة إلى إعادة تقويمها من وجهة النظر الإسلامية، وقد تبين مدى تغير الصورة التاريخية لفترة ما من تاريخنا عندما يتناولها بالبحث كتاب مسلمون منصفون كما حدث في إعادة تقويم الدولة العثمانية وفتح ملفها من جديد. ويبدو لي أن التغير الذي سيحدث في تصورنا للتاريخ الأموي والعباسي وما بعدهما من حلقات حتى تاريخنا المعاصر سيكون كبيرا جداً.. وسيكشف عن مدى الزيف والتحريف الذي أصاب تاريخنا..
ولا يسعني إلا أن أدعو المؤرخين المسلمين إلى تقديم دراسات مفصلة تكشف عن ملامح التفسير الإسلامي للتاريخ وعن أبعاد المنهج النقدي الذي تعامل وفقه روايات التاريخ الإسلامي، كما وأحذر شبابنا من الاعتماد في فهم أحداث التاريخ الإسلامي وتصور عظماء رجاله على روايات تسوقها كتب التاريخ والأخبار دون تمحيص، مما يعطي صوراً مشوهة لأحداث التاريخ الإسلامي لتأثر الإخباريين الذي اعتمدهم الطبري وغيره من المؤرخين بالأهواء المختلفة والاتجاهات المذهبية والسياسية المتباينة التي طبعت رواياتهم عن عصر الراشدين وما بعده من عصور الأمويين والعباسيين، وأنه لا بد من محاولة جادة لإعادة صياغة التاريخ الإسلامي بأقلام إسلامية تؤمن بالله وبرسوله وتحس بدور الإسلام وأثره في تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا.
دراسة في مصادر السيرة النبوية(6/19)
تعتمد دراسة السيرة النبوية على مصادر متنوعة، منها الأصلية ومنها التكميلية. فمن المصادر الأصلية في دراسة السيرة القرآن الكريم والحديث الشريف وكتب الدلائل والشمائل وكتب السيرة المختصة والتواريخ العامة، أما المصادر التكميلية فهي لا تختص بالسيرة أو التاريخ، بل تتناول موضوعات أخرى لكنها تفيد في حقل دراسة السيرة، مثل كتب الأدب ودواوين الشعر وكتب الرجال والتراجم وكتب الجغرافية التاريخية وكتب الفقه وكتب الأنساب ومعاجم اللغة..الخ .
ولا شك أن استيعاب هذه المصادر عند دراسة السيرة يعطي (أكمل صورة ممكنة) وهي صورة واضحة فيها كثير من التفاصيل.
وسأحاول إعطاء فكرة عن هذه المصادر وقيمتها وكيفية استعمالها، وأول ما ينبغي أن يلتفت إليه الباحث أن هذه المصادر تتباين قوة وضعفاً و أصالة ووضعاً، لذلك لا ينبغي أن توضع في مصاف واحد و تعامل على السواء، فلا يمكن معارضة آية قرآنية أو حديث صحيح برواية من كتب التاريخ أو الأدب(1)
__________
(1) ممن وقع في هذا الخطأ أبو رية في كتابه (أضواء على السنة المحمدية) وانظر التنبيه عليه في (مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ص 293-294).
... وانتقد جواد علي كلا من المستشرقين شبرنكر وكايتاني لاعتمادهما على الشاذ والغريب والضعيف والروايات المتأخرة وتقديمهما ذلك على الروايات المعتبرة في دراستيهما للسيرة بغية إثارة التشكيك فيها (جواد علي: تاريخ العرب في الإسلام، السيرة النبوية ص 9-11).(6/20)
، فلا بد إذاً من تقويم هذه المصادر ووضعها في الموضع الذي تستحق. ويقف القرآن الكريم في مقدمة مصادر السيرة(1)، والقرآن هو كلام الله تعالى المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لفظاً ومعنىً بطريق الوحي، ويتضمن بيان العقيدة الإسلامية والشريعة الإسلامية، وترد فيه آيات الأحكام ذات الأهمية الكبيرة في بيان النظم الإسلامية ونشأتها فهي تلقي ضوءاً على التشريعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عمل بمقتضاها النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة الدولة الإسلامية الأولى.
وفي القرآن الكريم ذكر لبعض الأحداث التاريخية في عصر السيرة مثل بدر، أحد، الخندق، حنين(2)، حيث يصور الظروف والأجواء العامة التي وقعت فيها الغزوات والأحداث الأخرى الهامة، وخاصة الأبعاد النفسية مما لا نستطيع الحصول عليه - بالدقة والصدق التي ترد في القرآن الكريم - من المصادر الأخرى.
وكذلك نجد فيه تصويراً دقيقاً للصراع الفكري والمادي بين المسلمين واليهود في الحجاز(3) وبإشارة القرآن الكريم إلى الأمم الماضية وسَّع النظرة التاريخية عند المسلمين فشملت دراساتهم التاريخية الأنبياء السابقين والأمم الماضية، وبتطرقه إلى أحداث خارج شبه الجزيرة العربية كالصراع بين الروم والفرس جعلهم يهتمون بالتاريخ العالمي فيسجلون أخبار الروم والفرس والترك والأحباش وغيرها(4).
__________
(1) حلل محمد عزت دروزة الآيات القرآنية المتعلقة بالسيرة في كتابه "سيرة الرسول".
(2) نجد تفصيلاً عن بدر في سورة الأنفال، وعن أحد في سورة آل عمران، وعن الخندق في سورة الأحزاب، وعن حنين في سورة التوبة، كما أشارت آيات في سور أخرى إلى هذه الغزوات.
(3) انظر عن الصراع الفكري سورة البقرة، وعن الصراع المادي سورة الحشر والأحزاب مثلا.
(4) الدوري: نشأة علم التاريخ عند العرب ص 18، 51.(6/21)
ولكن ينبغي أن لا نتوقع ورود تفاصيل عن الأحداث التاريخية في القرآن الكريم لأنه ليس كتاباً في التاريخ بل هو دستور للحياة، ثم إن هناك صعوبة في معرفة أسباب ووقت نزول كثير من الآيات، إما لعدم ورود روايات في ذلك أو لتضارب الروايات الواردة(1) مما يحتاج إلى تحقيق لتمييز الروايات الصحيحة أولاً ثم إزالة التعارض إن وجد بعد ذلك.
وينبغي التفطن إلى أن الإفادة التامة من القرآن الكريم لا تتم إلا بالرجوع إلى كتب التفسير الموثقة، وخاصة التفسير بالمأثور مثل تفسير الطبري وتفسير ابن كثير، وينبغي أيضاً الرجوع إلى كتب الناسخ والمنسوخ، وكتب أسباب النزول وغيرها مما يتصل بالقرآن وعلومه.
إن بعض المؤرخين المعاصرين يأنفون من الرجوع إلى هذه المؤلفات، ويعتمدون على ذوقهم في فهم أساليب اللغة ومعانيها مما يؤدي بهم إلى الوقوع في أخطاء كبيرة، مثل تفسير المستشرقين لقوله تعالى: [هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم] حيث ذهبوا إلى أن الأمية هنا تعني الجهل بالدين لا الكتابة، في حين أن القرآن الكريم وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (النبي الأمي) ولا يعقل أن يكون النبي جاهلاً بالدين(2)!!!
إن النزاهة العلمية تقتضي الرجوع إلى كتب التفسير الموثقة وإعطاء النصوص القرآنية معانيها الصحيحة المرادة، وليس تأويلها تبعاً للهوى رغبة في دعم رأي أو مذهب، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله: "من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار"(3).
__________
(1) صالح العلي: محاضرات في تاريخ العرب قبل الإسلام (فصل المصادر).
(2) صبحي الصالح: علوم الحديث ص 15-16.
(3) مقدمة تفسير ابن كثير.(6/22)
أما عن أهمية الحديث في دراسة السيرة المطهرة، فإن الأحاديث توضح العقائد والآداب الإسلامية، وتبين أحاديث الأحكام النواحي العبادية والتشريعية من صوم وصلاة وحج وزكاة ونظم سياسية ومالية وإدارية، ولا يمكن تكامل تصور الإسلام إلا بمعرفة الحديث، ولكل هذه الجوانب التي تناولتها الأحاديث صلة بالحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والإدارية في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وما تلاه، لأن المسلمين التزموا - بتطبيق: "السنة" في حياتهم إلى حد كبير.
وكذلك فإن بعض مصنفات الحديث تخصص قسماً للمغازي والسير مثل صحيح البخاري(1).
ولاشك أن مادة السيرة في كتب الحديث موثقة يجب الاعتماد عليها وتقديمها على روايات كتب المغازي والتواريخ العامة، وخاصةً إذا أوردتها كتب الحديث الصحيحة لأنها ثمرة جهود جباّرة قدمها المحدثون عند تمحيص الحديث ونقده سنداً ومتناً، وهذا التدقيق والنقد الذي حظي به الحديث لم تحظ به الكتب التاريخية، ولكن ينبغي التفطن إلى أن كتب الحديث - بحكم عدم تخصصها - لا تورد تفاصيل المغازي وأحداث السيرة بل تقتصر على بعض ذلك، مما ينضوي تحت شرط المؤلف أو وقعت له روايته، ومن ثم فإنها لا تعطي صورة كاملة لما حدث وينبغي إكمال الصورة من كتب السيرة المختصة، وإلا فقد يؤدي ذلك إلى لبس كبير(2).
__________
(1) انظر كتاب المغازي في الجزء الخامس منه.
(2) ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجم بني المصطلق وهم غارون (أي بغتة دون إنذار) وهو يخالف منهجه صلى الله عليه وسلم المتمثل بالآية الكريمة {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} وكتب السيرة توضح أنه أنذر بني المصطلق، فلو اقتصرنا على رواية الصحيحين دون أن نتبين حكم الإسلام في إنذار العدو لوقعنا في خطأ ولبس (انظر محمد الغزالي فقه السيرة، ط4 ص 10، 308).(6/23)
ولكن بسبب ترتيب الأحاديث في كتب الحديث إما على الرواة من الصحابة مثل كتب ا لمسانيد ومن أجلِّها مسند الإمام أحمد بن حنبل أو على المواضيع مثل الكتب الستة، دون مراعاة عنصر الزمن في كلا الترتيبين، لذلك تبرز أمام الباحث صعوبة تحديد الأحاديث زمنياً، على أن كتب السير والتاريخ المرتبة على السنين تسد هذا النقص في كثير من الحالات. إن أقدم كتب الحديث الشاملة التي وصلت إلينا هي موطأ مالك وصحيحا البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ومسند الدار مي ومسند أحمد بن حنبل(1).
أما كتب الدلائل والشمائل، فهي تتناول المعجزات والدلائل التي تبين صدق النبي صلى الله عليه وسلم.
ورغم أن كتب الحديث اشتملت على أبواب في علامات النبوة وآياتها ودلائلها(2) وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أقدم من أفردها محمد بن يوسف الفريابي (ت 212ه) وهو محدث ثقة ثبت في كتابه (دلائل النبوة)، ثم علي بن محمد المدائني (ت 215ه) في كتابه (آيات النبي)(3)، وداود بن علي الأصبهاني (ت 270ه) في كتابه (أعلام النبوة) وابن قتيبة (ت 276ه) في مؤلفه (أعلام رسول الله) وابن أبي حاتم (ت 327ه) في كتابه (أعلام النبوة)، وأبو بكر بن أبي الدنيا (ت 281ه)، وأبو عبد الله بن مندة (ت 395ه) وأبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت 430ه)، وقد طبع مختصر منه، وفيه روايات كثيرة ضعيفة. والقاضي عبد الجبار المعتزلي (ت 415ه) في كتابه (تثبيت دلائل النبوة) وهو مطبوع.
وأبو العباس جعفر بن محمد المستغفري (ت 432 ه).
__________
(1) يعطي كتاب (مفتاح كنوز السنة) لفنسنك فكرة عن كمية الأحاديث المهمة المتعلقة بموضوعات السيرة كما يعين كتاب (المعجم المفهرس في ألفاظ الحديث النبوي) لفنسنك وجماعة من المستشرقين على تخريج أحاديث السيرة.
(2) صحيح البخاري 2/140 ط. بولاق، وصحيح مسلم وغيرهما من الكتب.
(3) ابن النديم: الفهرست 113.(6/24)
وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 ه) وكتابه مطبوع، ويضم أحاديث صحيحة وحسنة وأخرى ضعيفة وموضوعة، وقد امتدح الحافظ الذهبي هذا الكتاب(1).
وأبو الحسن علي بن محمد الماوردي (ت 450ه) وكتابه مطبوع.
وأبو القاسم إسماعيل الأصفهاني (ت 535ه).
وعمر بن علي بن الملقن (ت 804 ه) في كتابه (خصائص أفضل المخلوقين) وأخيرا جلال الدين السيوطي (ت 911ه) في كتابه (الخصائص الكبرى) وهو مطبوع ويتناول السيرة والدلائل والشمائل.
وكتب الخصائص كثيرة فاقتصرت على بعضها، وليست هذه القائمة مشتملة على سائر ما ألِّف فهناك مؤلفات أخرى في هذا الموضوع.
أما كتب الشمائل فتتناول أخلاق وآداب وصفات النبي صلى الله عليه وسلم، وأقدم من أفردها: داود بن علي الأصبهاني (ت 270ه) في كتابه (صفة أخلاق النبي) كما ذكر ابن النديم(2) والحافظ الترمذي (ت 279ه) في كتاب (الشمائل النبوية والخصائص المصطفوية) وهو مطبوع.
ثم أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن حيان الأصبهاني (ت 369ه) في كتابه (أخلاق النبي وآدابه) وهو مطبوع.
ثم أبو سعيد عبد الملك بن محمد النيسابوري (ت 406 ه) في كتاب (شرف المصطفى). ثم أبو العباس المستغفري (ت 432ه) في كتاب (شمائل النبي).
ثم القاضي عياض (ت 544ه) بعنوان (كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى) وهو مطبوع أيضاً، وهو كتاب جامع.
وخرج أحاديثه الحافظ السيوطي (ت 911ه) في كتابه (مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا) وهو مطبوع.
وشرحه عدد من العلماء منهم علي القاري (ت 1014ه) في (شرح الشفا) مطبوع، والخفاجي (ت 1069ه) في كتابه (نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض)، ثم صنف الحافظ ابن كثير (ت 774ه) كتابه (شمائل الرسول) وهو مطبوع.
__________
(1) سير أعلام النبلاء: 6/116.
(2) الفهرست: 272.(6/25)
أما كتب السيرة المختصة فإنها تلي من حيث الدقة القرآن الكريم والحديث الشريف، ومما يعطيها قيمة علمية كبيرة أن أوائلها كتبت في وقت مبكر جداً، وعلى وجه التحديد في جيل التابعين حيث كان الصحابة موجودين فلم ينكروا على كتَّاب السيرة مما يدل على إقرارهم لما كتبوه، والصحابة على علم دقيق وواسع بالسيرة لأنهم عاشوا أحداثها وشاركوا فيها، وكانت محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وتعلقهم به ورغبتهم في اتباعه وأخذهم بسنته في الأحكام سبباً في ذيوع أخبار السيرة ومذاكرتهم فيها وحفظهم لها، فهي التطبيق العملي لتعاليم الإسلام.
وكذلك فإن التبكير في كتابة السيرة قلل إلى حد كبير من احتمال تعرضها للتحريف أو للمبالغة والتهويل أو للضياع.
ولقد كتبت عدة دراسات حديثية عن رواد كتابة السيرة من التابعين ومن تلاهم(1)
__________
(1) من الدراسات الشاملة في تاريخ كتابة السيرة:
هوروفتس: المغازي الأولى مؤلفوها.
مارغوليوس: دراسات عن المؤرخين العرب.
عبد العزيز الدوري: نشأة علم التاريخ عند العرب.
صالح العلي: فصل ضمن كتابه (محاضرات في تاريخ العرب قبل الإسلام).
جواد علي: فصل في بداية كتابه (تاريخ العرب في الإسلام، السيرة النبوية).
سيدة إسماعيل كاشف: دراسة في مصادر التاريخ الإسلامي.
مارسدن جونس: مقدمته لكتاب (مغازي الواقدي).
حسين نصار: نشأة التدوين التاريخي عند العرب.
وكتبت بحوث خاصة بواحدة من رواد المغازي مثل مقال الدوري (دراسة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومؤلفها ابن إسحاق) ودراسة Fuck عن محمد بن إسحاق (بالإنكليزية) ومقال خالد العسلي عن علي المدائني ومقال أكرم العمري عن موسى بن عقبة، والحاجة شديدة إلى القيام ببحوث دقيقة أخرى تتناول بقية رواد المغازي.(6/26)
، ولكنها لم تهتم ببيان حالهم من الجرح والتعديل ولم تقوّم مؤلفاتهم من زاوية حديثية ووفق قواعد مصطلح الحديث وهم: أبان بن عثمان بن عفان (101-105) وهو محدث ثقة من التابعين. عروة بن الزبير بن العوام(1) (توفي 94ه)، وهو محدث ثقة من التابعين ويعد أحد الفقهاء السبعة المشهورين في المدينة.
عامر بن شراحيل الشعبي (ت 103ه) محدث ثقة، له كتاب المغازي(2).
عاصم بن عمر بن قتادة (ت 119ه) وهو محدث ثقة.
محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت 124ه) وهو من كبار المحدثين في عصره وثقه جهابذة علماء الجرح والتعديل، وهو أول من استخدم طريقة جمع الأسانيد ليكتمل السياق وتتصل الأحداث دون أن تقطعها الأسانيد، وقد انتقد على الزهري تلفيقه الحديث عن عدة من شيوخه دون أن يفرد حديث كل واحد منهم عن الآخر، لكن هذا الانتقاد الذي حكاه القاضي عياض عن القدامى رده كبار العلماء مثل النووي والعراقي، حيث أوضحا أن عمله جائز ما دام قد بيّن ذلك وما دام الجميع ثقات (انظر النووي شرح صحيح مسلم 5/628، والعراقي: طرح التثريب 8/47).
يزيد بن رومان الأسدي المدني (ت 130ه) تابعي ثقة، ألف في المغازي معتمداً على عروة والزهري، يروي عنه ابن إسحاق(3).
عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم (ت 135ه) وهو محدث ثقة من التابعين.
موسى بن عقبة (ت 140ه) وهو محدث ثقة من تلاميذ الزهري، وقد أثنى الإمام مالك على كتابه في المغازي وقال إنه أصح المغازي(4).
وقال يحي بن معين: "كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب"(5).
وقال الإمام الشافعي: "وليس في المغازي أصح من كتاب موسى بن عقبة مع صغره وخلوه من أكثر ما يُذكر في كتب غيره"(6).
__________
(1) جمع الأستاذ الدكتور محمد مصطفى الأعظمي مرويات عروة ونشرها مؤخرا.
(2) الخطيب: تاريخ بغداد 12/230.
(3) ابن حجر: تهذيب التهذيب 9/225.
(4) سير إعلام النبلاء 6/115.
(5) المصدر السابق 6/117.
(6) الخطيب: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 225.(6/27)
وقال الذهبي: "وأما مغازي موسى بن عقبة، فهي في مجلد ليس بالكبير سمعناها وغالبها صحيح ومرسل جيد، لكنها مختصرة تحتاج إلى زيادة بيان وتتمة"(1).
محمد بن عبد الرحمن بن نوفل (ت 131ه) في كتابه "المغازي"(2).
سليمان بن طرخان التيمي (ت 143ه) وهو محدث ثقة من التابعين.
معمر بن راشد (ت 153ه) وهو محدث ثقة من تلاميذ الزهري أيضاً.
"كان من أوعية العلم مع الصدق والتحري والورع والجلالة وحسن التصنيف"(3).
محمد بن إسحق (ت 151ه) من تلاميذ الزهري، إمام في المغازي لكن مروياته لا ترقى إلى درجة الصحيح بل الحسن بشرط أن يصرح بالتحديث لأنه مدلس، وتحتوي سيرته على الحسن والضعيف معاً، وقد قال ابن عدي: "وقد فتشت أحاديثه فلم أجد في أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ أو يهم كما يخطئ غيره، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة وهو لا بأس به".
وهذه الشهادة عظيمة الأهمية لا لمكانة ابن عدي ولتشدده في التوثيق فقط،بل لأنها مبنية على سبر الروايات وليس على نقل أقوال النقاد القدامى فقط والتي تدور حول اتهام ابن إسحاق بالقدر وبالتشيع وبالتدليس(4). ومرة باحتمال كذبه في الرواية عن فاطمة زوجة هشام بن عروة بن الزبير، ولم يثبت كذبه فقد رد على الاتهام عدد من الأئمة النقاد منهم الإمام أحمد بن حنبل، وقال الحافظ الذهبي: "لا ريب أن ابن إسحاق كثر وطول بأنساب مستوفاة، اختصارها أملح، وبأشعار غير طائلة حذفها أرجح، وبآثار لم تصحح، مع أنه فاته شيء كثير من الصحيح لم يكن عنده، فكتابه محتاج إلى تنقيح وتصحيح، ورواية ما فاته"(5).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 6/115-116.
(2) أنساب الأشراف 1/112، 351.
(3) سير أعلام النبلاء 7/6.
(4) المصدر السابق 7/139.
(5) سير أعلام النبلاء 6/116.(6/28)
وقد أجاد الحافظ الذهبي في بيان مرتبة حديثه فقال عنه: "له ارتفاع بحسبه ولا سيما في السير، وأما في أحاديث الأحكام فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذ فيه فإنه يعد منكرا"(1). وجاء في (طرح التثريب شرح التقريب8/72): "المشهور قبول حديث ابن إسحاق إلا أنه مدلس فإذا صرح بالتحديث كان حديثه مقبولاً". ولا يعني ذلك توثيق سائر مرويات كتابه في السيرة، فقد أورد فيها روايات منكرة ومنقطعة كما قال عنه الحافظ الذهبي في(ميزان الاعتدال3/469): "صالح الحديث ما له عندي ذنب إلا ما قد حشاه في السيرة من الأشياء المنكرة والمنقطعة".
أبو معشر السندي (ت 171ه) وهو بصير في المغازي ضعيف في الحديث، لكن ضعفه نسبي يكتب معه حديثه، لا سيما حديثه عن محمد بن كعب ومحمد بن قيس تمشيا مع رأي الطبقة المتوسطة من النقاد، لأن منهج المحدثين الأخذ بقول الطبقة المتوسطة في التجريح إذا تعارض مع قول الطبقة المتشددة(2).
وعبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن حزم المدني (ت 176ه) محدث ثقة في كتابه "المغازي"(3).
يحي بن سعيد الأموي (ت 194ه) محدث ثقة صنف المغازي.
الوليد بن مسلم الدمشقي (ت 196ه) محدث ثقة.
ويونس بن بكير (ت 199ه) وهو أحد رواة سيرة ابن إسحاق وله زيادات على المغازي كما ذكر الحافظ ابن حجر(4).
__________
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء 7/141.
(2) راجع ابن حبان: المجروحين 3/60، والتاريخ الكبير للبخاري 8/114، وتاريخ بغداد للخطيب 13/427، والذهبي: سير أعلام النبلاء 7/435-440، وابن حجر: تهذيب التهذيب 10/420-421.
(3) ابن النديم: الفهرست 282.
(4) الإصابة 1/242.(6/29)
محمد بن عمر الواقدي (ت 207ه) وهو ضعيف عند المحدثين مع غزارة مادته العلمية، ولا تصلح مروياته للاحتجاج بها فيما يتعلق بالعقيدة والشريعة، ولكنها تنفع في وصف تفاصيل الأحداث مما لا يتصل بالعقيدة والشريعة، والملاحظ في استقراء مغازيه أنه يسوق روايات كثيرة، من طرق فيها رجال لا نجد لهم تراجم في كتب علم الرجال، وأما الروايات التي ينقلها ابن سعد عن الواقدي فيبدو أنه انتقاها، حيث نجد تراجم رجال الإسناد في كتب علم الرجال، ومعنى ذلك أن أسانيد الواقدي فيها رجال ليست لهم رواية في الحديث، لذلك لم تترجم لهم كتب الرجال، أو أنهم مختلقون وضع أسماءهم الواقدي أو بعض شيوخه.
ومن هنا يتضح سبب اتهام المحدثين النقاد له بالكذب والوضع وحكمهم عليه بأنه متروك، ولاشك أن جمع مرويات الراوي ودراستها والحكم عليه من خلالها كان منهج كثير من الأئمة النقاد في الحكم على الرواة المكثرين.
محمد بن عائذ الدمشقي (ت 234ه) محدث ثقة. وقد قرأ الحافظ ابن حجر جزأ منتقى من مغازيه كما ذكر في – المعجم المفهرس ورقة 27أ.
علي بن محمد المدائني (ت 225ه) ذكر ابن عدي أنه ليس بالقوي في الحديث، وترجم له العسقلاني في لسان الميزان-وهو كتاب يختص بتراجم الضعفاء-مما يدل على عدم توثيقه له في الحديث، ولكن ورد في ترجمته ما يدل على صدقه في الأخبار. ويمتاز المدائني بتناوله موضوعات من السيرة أفردها في مصنف، وهي مهمة في دراسة الجوانب الاجتماعية والاقتصادية للسيرة.
وعبد الله بن محمد بن نفيل الحراني (ت 234ه) له كتاب المغازي وهو ثقة حافظ.
وصالح بن إسحق الجرمي النحوي (ت 225ه) "كان جليلا في الحديث والأخبار، وله كتاب في السيرة عجيب(1).
وإسماعيل بن جميع (ت 277ه) في كتابه (أخبار النبي ومغازيه وسراياه(2).
وأحمد بن الحارث الخراز (ت 258ه) في كتابه (مغازي النبي وسراياه وأزواجه).
__________
(1) الخطيب: تاريخ بغداد 9/314.
(2) الفهرست لابن النديم 112.(6/30)
وعبد الملك بن محمد الرقاشي البصري (ت 276ه) في كتابه (المغازي) وهو صدوق يخطئ.
وإبراهيم بن إسماعيل العنبري الطوسي (ت 280ه) في كتابه (المغازي).
وإسماعيل بن إسحاق القاضي (ت 282ه) في كتابه (المغازي).
وقد ذكرت كتب التراجم أسماء عدد من التابعين وأتباعهم ومن تلاهم ووصفتهم بالعلم بالسيرة والاهتمام بها، مثل أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي (ت 127ه) ويعقوب بن عتبة بن المغيرة المدني (ت128ه) وداود بن الحسين الأموي (ت 135ه)، وعبد الرحمن بن عبد العزيز الحنيفي (ت 162ه).
ومحمد بن صالح بن دينار (ت 168ه).
وعبد الله بن جعفر المخرمي المدني (ت 170ه).
وهؤلاء لم تصرح المصادر بتأليفهم كتبا في السيرة بل أشارت إلى عنايتهم واهتمامهم بالتحديث بها(1).
لذلك لم أثبتهم ضمن أسماء المؤلفين في السيرة واكتفيت بهذه الإشارة إليهم.
هؤلاء هم الرواد الأوائل في كتابة السيرة، ويتضح من توثيق نقاد الحديث لأكثرهم ما تميزوا به من العدالة والضبط، وهما شرطان عند العلماء لتوثيق الرواة، فلئن كانوا قد وثقوا عند المحدثين رغم دقة شروطهم في التوثيق، ورغم نظرتهم لهم على أنهم محدثون مادتهم الأحاديث وليسوا إخباريين مادتهم الأخبار(2)، والنقاد يتشددون في مادة الحديث كثيرا ويتساهلون في قبول الأخبار فإن هذا التوثيق يعطي كتاباتهم في السيرة قيمة علمية كبيرة.
لقد حفظ الله تعالى سيرة نبيه صلى الله عليه وسلم من الضياع والتحريف والمبالغة والتهويل بأن هيأ لها جهابذة المحدثين ليعنوا بها ويدونوا أصولها الأولى قبل أن تتناولها أقلام المؤرخين والقصاصين، وهذه ميزة لمصادر السيرة لم تتوفر لغيرها من كتب التاريخ والأخبار.
__________
(1) انظر: تراجمهم في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/2/260، وتاريخ بغداد 12/230، وتهذيب التهذيب 8/63-67، و 5/172، و 6/388، و 11/293، وتاريخ التراث العربي 2/456.
(2) أكرم العمري: مقدمة تاريخ خليفة بن خياط ص 24-25.(6/31)
ميزة لكون المحدثين ثقات مأمونين في الرواية، وميزة لكونهم علماء لهم مناهج واضحة في نقد الروايات سندا ومتنا، ولهم أسلوب يتسم بالجدية والبعد عن الحشو والمبالغة.
وحقا فإن مصنفات هؤلاء الأعلام الذين ذكرتهم في السيرة معظمها مفقود، لكن المصادر التالية التي وصلت إلينا اعتمدت على مصنفاتهم فنقلت عنها كثيرا بالأسانيد، وقد ظلت مادة المصنفات الأولى هي الأساس في المصنفات المتأخرة، ليس في المادة فقط بل في طريقة العرض أيضا، ومن أبرز المصادر التي وصلت إلينا في السيرة:
(سيرة ابن هشام): وهي تهذيب لسيرة ابن إسحق، حيث حذف ابن هشام منها كثيرا من الإسرائيليات والأشعار المنتحلة وأضاف إليها معلومات في اللغة والأنساب، مما جعلها - بعد التهذيب - تنال رضى جمهور العلماء، فليس من مؤلف بعده إلا كان عيالا عليه. والحق أن الصورة التي تعطيها مغازيه عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تقترب إلى حد كبير من ما أوردته كتب الحديث الصحيحة مما يعطي سيرته توثيقا كبيرا. وقد شرح سيرة ابن هشام الحافظ السهيلي (ت 581ه) في كتابه "الروض الأنف" وهو مطبوع.
ومنها (مغازي الواقدي) لمحمد بن عمر الواقدي (ت 207ه) ويقدم أحيانا إضافات على سيرة ابن إسحاق(1)، ويبدي رأيه في الروايات ويرجح بينها(2)، ويعترف العلماء بغزارة مادته في السيرة، لكن المحدثين ضعفوه(3).
فقال النسائي: "يضع الحديث"، واتهمه بالوضع الإمام الشافعي وأبو داود وأبو حاتم وقال عنه الإمام أحمد: كذاب.
وقال ابن عدي: "أحاديثه غير محفوظة، والبلاء منه".
وقال ابن حجر: "متروك مع سعة علمه"(4).
__________
(1) مارسدن جونس: مقدمة مغازي الواقدي ص 34.
... والدوري: نشأة علم التاريخ عند العرب ص 31.
(2) مارسدن: مقدمة مغازي الواقدي ص 34.
(3) انظر ترجمته في (الخطيب: تاريخ بغداد 3/21).
(4) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب: لابن حجر العسقلاني، وفي تقريب التهذيب له أيضاً.(6/32)
وقد دافع عنه ابن سيد الناس بما لا طائل تحته بعد أن فسر النقاد جرحهم له.
ومنها (الطبقات الكبرى) لمحمد بن سعد (ت 230ه) حيث خصص المجلدين الأولين من كتابه للسيرة، وابن سعد ثقة يتحرى في كثير من رواياته كما يقول الخطيب البغدادي والعسقلاني، لكنه ينقل عن الضعفاء مثل الواقدي الذي أكثر من النقل عنه حتى اتهمه ابن النديم بسرقة مصنفاته، لكن التدقيق يثبت أن ابن سعد مؤلف له منهجه وأنه يكثر النقل عن الواقدي كما يكثر عن شيوخ آخرين يبرز بينهم عفان بن مسلم وعبيد الله بن موسى والفضل بن دكين والثلاثة من ثقات المحدثين(1).
ومنها (تاريخ خليفة بن خياط) المتوفى 240ه، وهو محدث ثقة من شيوخ الإمام البخاري في "الصحيح"، وكتابه تاريخ عام تناول في بدايته أحداث السيرة باقتضاب معتمدا على ابن إسحاق بالدرجة الأولى(2).
ومنها (أنساب الأشراف) لأحمد بن يحي بن جابر البلاذري (ت 279ه) وهو تاريخ عام مرتب على النسب، وقد خصص البلاذري القسم الأول منه للسيرة، وينظر المحدثون إلى البلاذري نظرة تضعيف، فقد أورد العسقلاني ترجمته في كتابه عن الضعفاء(لسان الميزان).
ومنها (تاريخ الرسل والملوك) لمحمد بن جرير الطبري (ت 310ه) حيث خصص قسما من تاريخه للسيرة، والطبري ثقة واعتمد على ابن إسحاق بالدرجة الأولى، ومنهج الطبري أنه لا يهتم بنقد الروايات التي يوردها من حيث الصحة والضعف بل يسوقها بأسانيدها تاركا للقارئ مهمة التحقيق والترجيح(3).
__________
(1) أكرم العمري: بحوث في تاريخ السنة المشرفة ص 56-57.
(2) أكرم العمري: مقدمة تاريخ خليفة بن خياط ص 26-27.
(3) الطبري: تاريخ الرسل والملوك (ط أبي الفضل إبراهيم) 1/8.(6/33)
ومنها (الدرر في اختصار المغازي والسير) لابن عبد البر القرطبي (ت 463ه) وهو من أعلام المحدثين في عصره، وقد اعتمد على سيرة ابن إسحاق وسيرة موسى بن عقبة وتاريخ ابن أبي خيثمة إضافة إلى كتب الحديث(1)، ولم يصرح بالنقل عن الواقدي إلا في موضع واحد(2)، لكنه أشار إلى روايته لمغازيه(3)، وقد صرح بمتابعة ابن إسحاق في البناء العام لكتابه(4)، ولم يتقيد بذكر الإسناد كثيرا.
ومنها (جوامع السيرة) لابن حزم الظاهري (ت 456ه) وقد تخلى عن طريقة ذكر الأسانيد، ولم يشر إلى مصادره(5)، ورجح بين الروايات وأثبت في كتابه ما اختاره وحقق في تواريخ الأحداث(6) وغلبت عليه طريقة التلخيص فجرد السيرة من الأشعار والقصص(7).
ومنها (الكامل في التاريخ) لابن الأثير الجزري (ت 632ه)، وهو مؤرخ ثقة وكتابه تاريخ عام خصص قسما منه للسيرة.
ومنها (عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير) لابن سيد الناس (ت 734ه) وهو محدث ثقة، وثقه الذهبي وابن كثير، وقد أكثر فيه النقل عن كتب الحديث إلى جانب كتب المغازي التي سبقته، وقد ذكر مصادره في مقدمة كتابه.
ومنها (زاد المعاد في هدي خير العباد) لابن القيم (ت 751ه) وهو من أعلام العلماء في عصره، وكتابه نفيس في الشمائل والآداب والفقه والمغازي، فهو مزيج من ذلك كله.
__________
(1) شوقي ضيف: مقدمة كتاب الدرر ص 8.
(2) ابن عبد البر: الدرر ص 39.
(3) ابن عبد البر: الدرر، ص 276.
(4) المصدر السابق ص 29، وانظر شوقي ضيف: مقدمته للدرر ص 12.
(5) لكنه صرح بالنقل عن خليفة بن خياط في ثلاثة مواضع، وعن تاريخ أبي حسان الزيادي في ثلاثة مواضع أيضاً، وعن الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر في موضع واحد، ورأى محققو كتابه أنه نقل عن الدرر كثيراً بتصرف وقطع بذلك شوقي ضيف (راجع جوامع السيرة، المقدمة ص 8 والدرر: المقدمة ص 15).
(6) جوامع السيرة، مقدمة ص 10.
(7) المصدر نفسه ص 13.(6/34)
ومنها (السيرة النبوية) للحافظ الذهبي (ت 748ه)، وهو مؤلف ثقة يمتلك عقلية ناقدة جيدة وخاصة في استخدام قواعد المحدثين التي يعتبر من أهل الاستقراء التام فيها، وقد اقتصر على نقد بعض الروايات في كتابه هذا.
ومنها (البداية والنهاية) للحافظ ابن كثير (ت 774ه) وهو تاريخ عام خصص قسما منه للسيرة، وابن كثير من الأئمة الثقات المتحققين وثقه الذهبي والعسقلاني وابن العماد الحنبلي.
ومنها (إمتاع الأسماع) للمقريزي، وهو ثقة، وقصد الاختصار وتخلى عن ذكر الإسناد، وقال السخاوي عن (الإمتاع): "فيه الكثير مما ينتقد"(1).
ومنها (المواهب اللدنية بالمنح المحمدية) لأحمد بن محمد القسطلاني (ت 923ه).
ومنها (شرح المواهب اللدنية) لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني (ت 1122ه).
والمواهب وشرحه من الكتب الجامعة في الشمائل والسيرة.
ومنها (السيرة الحلبية) لبرهان الدين الحلبي (ت 841ه) فيه حشو وقصص إسرائيلي(2). وقد حذف أسانيد الروايات واكتفى بذكر راوي الخبر وشرح بعض الغريب وإضافة تعليقات أخرى.
ومنها (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد) لمحمد بن يوسف الدمشقي الشامي (ت 942ه) انتخبها من أكثر من 300 كتاب.
__________
(1) السخاوي: الإعلان بالتوبيخ (ملحق علم التاريخ عند المسلمين) لروزنتال ص 30.
(2) جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام، السيرة النبوية ص 10.(6/35)
هذا أهم ما وصل إلينا من مصادر السيرة، وهي كما ذكرت تلي من حيث الدقة القرآن الكريم والحديث الشريف، ولكن هذا لا يعني أن كل ما أوردته كتب السيرة له نفس القيمة من حيث الصحة، بل ولا يشترط أن يكون كله صحيحاً، بل فيه الصحيح والضعيف، وينبغي عند دراسة السيرة الاعتماد على الصحيح أولاً ثم استكمال الصورة بما هو حسن أو مقارب للحسن، ولا يلجأ إلى الضعيف فيما له أثر في العقائد أو التشريع، ولا بأس من الأخذ به-عند مالا نجد غيره من الروايات القوية -فيما سوى ذلك من أخبار تتعلق بالحث على مكارم الأخلاق أو وصف لعمران أو صناعات أو زروع، أو ما شاكل ذلك.
وهذا المنهج اتبعه أهل الحديث أنفسهم، قال عبد الرحمن بن مهدي (ت 197ه) "إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال"(1).
إن السيرة بحاجة إلى تمحيص أسانيدها ومتونها تبعا لقواعد المحدثين في نقد الحديث، ومما يعين على ذلك أن سائر مصادر السيرة المهمة قد أوردت الروايات تتقدمها الأسانيد، وأن معظم رواة السيرة من المحدثين الذين ترجمت لهم كتب الرجال وأوضحت حالهم وبينت ما قيل فيهم من جرح و تعديل.
إن عدم استعمال البعض لهذا المنهج يرجع إلى ما في ذلك من صعوبة وجهد في معرفة الرجال وأحوالهم والتفتيش عنهم، وفي إتقان علوم الحديث والتمرس على تطبيقها في النقد التاريخي، لكن آخرين قد يتجاهلون هذا المنهج ويغمطونه حقه بالتقليل من جدواه والتشكيك من قيمته وتوسيع بعض المآخذ عليه.
__________
(1) فتح المغيث 1/284.(6/36)
إن هؤلاء - لاشك - يجهلون حقيقته - وقد أوضح أسد رستم - وهو رجل نصراني لا يتعصب لدين-قيمة مناهج المحدثين في النقد مثبتا لهم سابقتهم وإبداعهم، وذلك في كتابه (مصطلح التاريخ)، إنه لابد من اتباع هذا المنهج في النقد عند دراسة السيرة، بل ودراسة التاريخ الإسلامي عامة، فلئن كان التدقيق في حقل السيرة أهم وأولى لتعلقها بالعقيدة والشريعة وصياغة الشخصية الإسلامية، فإن الحاجة إلى استعمال هذا المنهج في دراسة تاريخ الراشدين والأمويين والعباسيين شديدة لتأثير الأهواء على الإخباريين واختلاط الحق بالباطل اختلاطا يصعب تمييزه إلا على المتضلعين بالرجال ومعرفة جرحهم وتعديلهم وميولهم وعقائدهم. إن كتب التاريخ مزيج من مقتطفات أوردها إخباريون ذوو اتجاهات سياسية ومذهبية متباينة، فلو أريد إعطاء صورة عن العصر الأموي مثلا من خلال مرويات أبي مخنف فقط، فإنها تكون مغايرة كثيرا للصورة التي تكونها مرويات عوانة بن الحكم أو أبي اليقظان النسابة وحدها.
مصادر أخرى تكميلية:
وتأتي المصادر التكميلية بعد القرآن الكريم والحديث الشريف وكتب السيرة المختصة من حيث الدقة والأهمية، وهي تكمل معالم الصورة، وتملأ بعض الثغرات التي ظلت باقية بعد استيفاء المصادر الأصلية.
فكتب الأدب تلقي ضوءاً على الحياة الثقافية ومستوى المعيشة وأنواع الملابس والأطعمة والعادات وغير ذلك من جوانب الحياة في عصر السيرة، والشعر خاصة يعتبر وثيقة تاريخية مهمة حيث يعكس الحياة العقلية والاجتماعية ويصور المعارك ويبرز البطولات، ويكفي هنا الإشارة إلى دور كل من حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة في تصوير بعض أحداث السيرة، ولكن ينبغي الانتباه إلى أن كتب الأدب تعني بالشاذ والغريب والطريف فتدونه أكثر من عنايتها بأحداث الحياة الرتيبة، ومن هنا نتبين خطورة تعميم ما فيها.(6/37)
وكتب معرفة الصحابة تترجم للجيل الذي عاش أحداث السيرة، فتقدم معلومات تاريخية موثقة، وإن كانت مشتتة وقليلة، بعضها يتناول أنسابهم وبعضها يتناول أخبارهم، وبقية كتب التراجم والرجال (إضافة لكتب معرفة الصحابة) تفيد في التعريف برجال أسانيد كتب السيرة مما له أثر كبير في دراسة موارد تلك الكتب وفي التمكن من نقد أسانيدها.
وكتب الجغرافية التاريخية تلقي ضوءاً على تضاريس الجزيرة العربية التي دارت فيها أحداث السيرة وتبين مستوى المعيشة وحاصلاتها الزراعية وتحدد المسافات بين الأماكن وتوضح توزيع العشائر.
وهكذا، فإن المصادر التكميلية تساعد على استكمال دراسة جوانب السيرة وإجلاء تفاصيلها ودقائقها.
(وبعد): فهذه نظرة عجلى في مصادر السيرة، ولا يسعني في الختام إلا الإشارة إلى حاجتنا الملحة إلى مناهج شاملة في النقد التاريخي والتفسير التاريخي، حيث ستظل الدراسات التاريخية الإسلامية قاصرة وعاجزة عن التعبير-بصدق وعلمية- عن سيرة أمتنا التاريخية ما لم تتكامل مناهج النقد والتفسير التاريخيين.
لقد قدم الفكر الأوروبي مجموعة كبيرة من الدراسات عن طبيعة التاريخ ومناهج نقده وتفسيره، بعضها مترجم إلى العربية(1)، ولكن هذه الدراسات تعكس وجهة النظر الغربية وهي نابعة من فلسفة الحياة الأوروبية، وطبيعة التاريخ الأوروبي ومشاكل دراسته، كما أن تطبيقاتها مأخوذة منه، ونحن بحاجة إلى دراسات-في مستواها-تنبع من عقيدتنا وتتكيف لتاريخنا ولا تنظر إليه من خلال زاوية النظر الغربية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض العرب المسلمين كتبوا دراسات أولية(2)
__________
(1) مثل كولنود: فكرة التاريخ.
ادورد كار: ما هو التاريخ؟.
أ.ل.راوس: التاريخ أثره وفائدته.
فردريك انجلز: التفسير الاشتراكي للتاريخ.
لانجلوا وسينيبوس: النقد التاريخي.
آرنست كاسيرر: في المعرفة التاريخية.
جوزيف هورس: قيمة التاريخ.
ايمري نف: المؤرخون وروح الشعر.
(2) سيد قطب: في التاريخ فكرة ومنهاج.
فتحي عثمان: أضواء على التاريخ الإسلامي.
عبد الرحمن الحجي: نظرات في دراسة التاريخ الإسلامي.
عماد الدين الخليل: التفسير الإسلامي للتاريخ.
عبد الحميد صديقي: تفسير التاريخ.(6/38)
، وطرحوا مقترحات مفيدة بهذا الصدد، لكنها لا تعدو ذلك ولا تكون منهجا كاملا للبحث ولا نظرية شاملة لتفسير التاريخ الإسلامي من المنطلقات الإسلامية الصحيحة.(6/39)