مناهج تدوين السيرة النبوية
( عرض ومناقشة )
د . عبد الله بن ضيف الله الرحيلي
أستاذ مشارك بجامعة طيبة بالمدينة المنورة
اختلفت أنظار عددٍ من الباحثين في السيرة النبوية - فيما يتصل بالتثبت في تلقي السيرة وتدوينها ، وبطريقته - على النحو التالي :
1- فمنهم من يَجْمع كل ما يُرْوى دون التمييز بين الثابت وغير الثابت ، وهذا هو الغالب على ما أُلّف في السيرة ، وبعض هؤلاء فعل ذلك استناداً إلى السند الذي يسوق به الروايات التي يوردها ، إذْ يَرَى أن السند كافٍ عنده لبيان حال الرواية صحةً وضعفاً . وهذا المسلك عليه مؤاخذات سيأتي بيانها .
2- ومنهم من يتبنى الدعوة إلى الاعتماد على الصحيح وفق منهج المحدثين ، ومن ذلك :
- المحاولة التي ظهرت في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، بتوجيه بعض الرسائل العلمية لجمع الروايات الثابتة المتعلقة بغزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
- ومحاولةٌ قام بها محمد بن رزق الطرهوني في كتاب سماه : ( صحيح السيرة النبوية )(2) .
وإنما عدَدْتُ هذه الدراسات - المذكورة آنفاً - في ضمن هذا الاتجاه ليس تزكية مطلقةً لها ، ولا تفريقاً بينها وبين الاتجاه الآتي بعْدُ ، أعني الاتجاه الثالث ، وإنما بحسب ما أشارت إليه هذه الدراسات في عناوينها ، ولم أَسْبرها كلها فيما يتعلق بمدى مطابقة مضمونها لعناوينها ، أو مناقضته ، بخلاف ما ذكرتُه عن الاتجاه الثالث في هذا الأمر .
__________
(1) انظر مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من هذه المؤلفات ، كـ(مرويات غزوة بدر) ، و (مرويات غزوة بني المصطلق) و (مرويات غزوة تبوك) ، وغيرها من الرسائل ، ويُمْكن الوقوف على عناوينها فيما نقلتُه في حاشيةٍ طويلة عن د. أكرم العمري ، في عرض الاتجاه الثالث مِن اتجاهات أخْذ السيرة النبويّة .
(2) صدر منه الجزء الأول والجزء الثاني ، القاهرة ، ط. الأولى ، الجزء الأول1410هـ ، والثاني1414هـ .(1/1)
إلا أن هذه المحاولات تحتاج إلى مراجعةٍ دقيقةٍ وتقويم ، وتحريرٍ للمنهج الذي بموجبه يكون الحكم على الروايات بالتصحيح أو التضعيف .
3- ومنهم من دعا إلى الأخذ بمنهج المحدِّثين في نقد الروايات مع تسامحٍ كبير من حيث المبدأ - في نظري - ومن هذا ما ذهب إليه د. أكرم ضياء العمري في كتابه
( المجتمع المدني في عهد النبوة ... ) وفي كتابه : ( السيرة النبوية الصحيحة )(1) .
4- ومنهم مَن حَرصَ على التثبت ، ولكن دون منهجٍ واضحٍ يَتّفِقُ ومنهجَ المحدِّثين في التثبت ، متَّجِهاً إلى الاعتماد على المصادر الموثوقة ، بدَلاً من الروايات الموثوقة - وإن كان المقصود هو صحة الروايات - وذلك على غير منهجٍ سديد لتحديد المصادر الموثوقة .
5- ومنهم من ضاق بمنهج المحدثين في نقد الروايات فأَعْرَضَ عنه واختار - في الغالب - بديلاً عنه - في نظره - وهو النظر العقليّ في مضمون الروايات في ضوء القرآن والثابت من السنة ومقاصد الشريعة وأهدافها العامة .
ويمثِّل هذا الاتجاه الشيخ محمد الغزالي ، رحمه الله ، في كتابه : ( فقه السيرة ) وفي غيره من كتبه(2) .
__________
(1) المجتمع المدني في عهد النبوة ، خصائصه وتنظيماته الأولى ، محاولة لتطبيق قواعد المحدِّثين في نقد الروايات التاريخية ) ، ط. 1 ، المدينة المنورة ، المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية ، 1403هـ -1983م ، ( السيرة النبوية الصحيحة ، محاولة لتطبيق قواعد المحدّثين في نقد روايات السيرة النبوية ) ، ط . المدينة المنورة ، مكتبة العلوم والحكم ، 1412هـ -1992م .
(2) يُنظر : فقه السيرة ، للغزالي ، ص9-13 ، ط. 5 ، القاهرة ، دار الكتب الحديثة ، 1965م ، وكتابه : ( السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ) ، ط. 6 ، القاهرة ، دار الشروق ، 1989م .(1/2)
وفيما يلي نقْدٌ للمنتَقَدِ -في نظري- من هذه الآراء والاتجاهات في ضوء منهج تلقّي السيرة والشمائل النبوية المتعيّن الأخذ به ، ونُقولٌ كذلك لبيان هذه الآراء عن أصحابها القائلين بها ، والله هو الموفق .
جَمْعُ كل ما يُرْوى في السيرة والشمائل دون تمييزٍ بين الثابت وغير الثابت ، وسأتحدث عن هذا الاتجاه في فرعين :
الفرع الأول : عَرْض هذا الاتجاه :
بدأ العلم في الإسلام معتمِداً على الرواية ، فجاء نقْلُ هذا الدين معتمِداً على الرواية بالسند ، ونشأتْ علوم الإسلام في ظل هذا المنهج ، سواءٌ في ذلك نقْل القرآن الكريم ، أو حديث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، أو سيرته وشمائله ، أو التاريخ بعامّة ، أو علوم الإسلام الأخرى ، كالعقيدة والفقه والتفسير إلى آخر ما هنالك من هذه العلوم .
وأساس علوم الإسلام كلها الذي عليه بُنيتْ ومنه استُمدّتْ هو الكتاب والسنّة ، ومعلوم مدى تدقيق الأمّة في نقلهما واشتراط السند المقبول وفق الأُصول المتّبعة في ذلك .
ولكن التأليف المستقل عنهما ، من حيث التصنيف الموضوعيّ فحسب ؛ كالتأليف في السيرة والشمائل ، والعقيدة والتفسير ، والفقه ، والحوادث التاريخيّة ، التُزِمَ فيه بالسند أيضاً في أول الأمر ، لكن لم يكن على مستوى منهج المحدِّثين -في تقويم السند ونقده - فلم يُعْنَ المؤلفون في السيرة - غالباً - بتمحيص السند ونقْده وفق منهج المحدِّثين ، على الرغم من أن عدداً منهم كانوا محدّثين .
والتزام المؤلفين الأوائل بالسند مهم في باب التوثيق لأسباب ، منها ما يأتي :
1- إمكانية دراسة هذه الأسانيد التي هي وثائق لا تفقد قيمتها بمرور الزمن ، وتقويمها متى شاء المتخصص ذلك .
2- قرب المَصْدر المنقول عنه ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقِصَرِ السند ، الأمر الذي يقلّل من احتمالات ضعف الرواية أو أسباب ردها .
3- غلبة حال الثقة على أهل تلك الفترة ، وقلة الضعف فيهم أو نُدْرته .(1/3)
ومِن هنا تأتي أهمية تلك المصادر الأولى للسيرة النبوية ، التي سارت على التزام السند ، وإن لم تُطبّق عليه منهج المحدِّثين النقديّ كاملاً .
وقد كان هذا هو المتّبع عند المؤلفين المتقدّمين في السيرة ، مثل : عروة ، والزهريّ ، وابن هشام ، وابن إسحاق ، وسواهم ممن أسهم في كتابة السيرة النبوية في تلك الفترة ، بل وامتدّ هذا النمط من الكتابة في السيرة إلى قرونٍ متأخرة من عصور الإسلام ، تجاوزت عصر التدوين - الذي يمكن أن نحدّده بنهاية الشطر الأول من القرن الرابع تقريباً - .
ولكن ثمة فرقٌ ، أو فروقٌ ، بين عدد ممن مشى على هذا الاتجاه في كتابة السيرة ، ولا سيما بين المتقدمين والمتأخرين ، ومن تلك الفروق بين ما أَلّفه المتقدمون وما أَلّفه المتأخرون ما يلي :
1- كثرة الروايات الموضوعة والضعيفة ضعفاً شديداً التي توردها كثير من المؤلفات المتأخرة ، ولا سيما المطوَّلة منها ، حتى أصبح الحق مختلطاً بالباطل في عدد من هذه المؤلفات ، وأصبح من العسير الاعتماد على هذه الكتب دون تمحيص لرواياتها وفق منهج سديد ، وقلة ذلك في الكتب المتقدمة .
2- اختلاف مقاصد أولئك المؤلفين في التأليف ، فمنهم مَن كَتب السيرة للاعتماد على ما أورده من روايات السيرة - وهذا أكثرُ شيوعاً في المتأخرين - ومِن هذه المؤلفات : ( سُبُل الهُدى والرشاد في سيرة خير العباد )(1) ، للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي ، المتوفى سنة 942هـ .
__________
(1) طُبِع في القاهرة ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، بتحقيق د .مصطفى عبد الواحد ، في الفترة من 1392هـ-1972م إلى1402هـ-1981م . في اثني عشر جزءاً .(1/4)
قلتُ : ولا يَغَرّنّك عنوانُ هذا الكتاب؛ فإنّ فيه كثيراً مِن الأخبار والروايات الملصقة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهي ليست مِن سيرته ، بل نُجِلُّ عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لقد عَقَدَ المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب أَلفَ باب ، وحَشَدَ فيه مِن الروايات الكثير الكثير المخلوط بالغث والسمين ، وهنا تأتي أهمّيّة التثبت في تمحيص هذه الروايات ، وأهمّيّة هذا المنهج . وغيرُ القادر على هذا التمحيص والتمييز عليه أن يبتعد ويُحاذر .
ومنهم مَن أورد ما أورده لمجرّد الجمع ليس إلا - وهذا أكثرُ شيوعاً في المتقدمين - وهُنا ربما كان أحدهم يرى أنه يَسُوغ له في هذه الحال أن يذكر الروايات الواهية إلى جانب الروايات الصحيحة في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد يُعنى أحدهم بانتقاء الروايات إلى حدٍّ ما .
3- كَونُ المؤلفات الأُولى في السيرة من هذا النوع من التأليف أقرب إلى صحة الروايات؛ لقرْبها من الثقة من حيث قرْب الزمان من زمان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وقِصَر السند ، وغَلَبة الثقة على أهله ، وهو الأمر الذي لا يتوافر بهذه الصورة في المؤلفات المتأخرة .
وهذا كله يدعو المتلقّي للسيرة إلى ضرورة ملاحظة هذا الأمر وهذه الفوارق بين مصادر السيرة؛ لكيلا يخلط بين ما هو من السيرة وما ليس منها ، أو يَخلط بين المصدر غير المعتمد في الجملة بالمصدر الأكثر ثقةً .
الفرع الثاني : نقْدُ هذا الاتجاه :
هذا المسلك في منهج كتابة السيرة الذي اكتفى من التوثيق بذكْر السند - على الرغم من فوائده من جهة ، وأعذار أصحابه من جهة أُخرى - عليه مؤخذات ، منها :
1- تجاهُلُ مبدأ نقْد الروايات الذي لا يُغْني عنه إيراد سند الرواية فقط .(1/5)
2- الإيهام واللبس الذي جرّه ذكْر سند الرواية للمتأخرين ، حين ظنَّ كثير منهم أنّ ذِكْر السند يَعني صحة الرواية؛ لبعدهم عن حال أسلافهم الصالحين في عصور الإسلام الأُولى ، الذين كان يَكْثر فيهم مَن يعرف حال الرواية صحةً وضعفاً بمجرد معرفة سندها ، إن لم يكن أغلبهم كذلك .
3- إنه لم يشفع السندُ -في أمْر الثقة- للمؤلفات التي التزمت به إلى جانِب إيرادها للروايات الموضوعة والواهية .
على أنّ هذا النوع من المؤلفات في السيرة ، قد كان مما حَفِظَ اللهُ به سيرةَ رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذْ كان مجرّد كتابة هذه الروايات بأسانيدها - أيّاً كانت درجتها - نوعاً مِن التوثيق الذي لا بُدَّ منه في مرحلةٍ مِن مراحل النقد والتمحيص لروايات السيرة .
إن ذكر الروايات المكذوبة - مثلاً - بأسانيدها مِن أهمّ ما يَحتاجه المُحدِّث لتمحيص الروايات ، ولبيان أن المكذوب مكذوب ، وأنّ مِن الأدلة على ذلك سندَهُ ورواتَهُ .
على أنّ في بعض مَن سَلَكَ هذا المسلك مِن المؤلفين في السيرة - قديماً وحديثاً - مَن عُنِيَ ، في كثير من الأحيان ، بالحكم على الروايات ، وبيان ما في الرواية مِن أسباب الضعف . ومِن هؤلاء-على سبيل المثال-الإمام الذهبيّ ، والإمام ابن كثير ، وسِواهما ممن كان لا يَنسى في كثيرٍ مِن الأحيان هذا الجانب عند إيراده للرواية .
4- ضخامة الجهد المطلوب الآن - بسبب هذا النوع من كتابة السيرة والشمائل - لإقناع الناس بأن هذا الذي كَتَبه الكاتبون فيه سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشمائله ، وفيه ما أُلْصِقَ بسيرته وشمائله - صلى الله عليه وسلم - ، إلصاقاً ، وليس هو منها .(1/6)
وإن من المؤسف حقاً أن نرى بعض المثقفين ، بل وبعض الدارسين لتخصص التاريخ - فضلاً عن عامة الناس - يَمْترون في هذه الحقيقة ، بل ويُجادِلون فيها ؛ فلا يُفَرِّقون بين سندٍ وسندٍ ، ولا بين روايةٍ ورواية ، ولا يؤمنون بمنهج النقد عند المحدِّثين ولزوم تطبيقه في مجال روايات السيرة والشمائل النبوية والتاريخ .
ويتبيّن من خلال ما سبق أن هذا المنهج - على الرغم مما فيه مِن جوانب إيجابية - ليس هو المنهج المرتجى لكتابة السيرة النبوية ، وأنه منهجٌ قد اشتمل على نفعٍ وعلى ضررٍ في آنٍ واحد ؛ ولهذا فإنّ قراءة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشمائله من خلال هذا المنهج يَخْلطها بغيرها ، ويصوِّرها على غير حقيقتها .
الدعوة إلى الأخذ بالصحيح وفق منهج المحدثين
هذا الاتجاه هو الأصل في تلقّي الدين والعلم ، وهو الذي كان عليه الأمر مِن حيث العموم ، بصفةٍ عمليّةٍ ، منذ جاء هذا الدين ؛ قبلَ أن تُؤلَّف فيه المؤلفات مستقلَّةً ، وحَدَث التسامح - عملياً - في التثبت في مجال السيرة والشمائل النبوية بعدَ ذلك شيئاً فشيئاً .
ولكنّ التثبت هذا وفق منهج المحدّثين لم تتجه له كتب السيرة والشمائل المستقلة بصورةٍ دقيقةٍ ، منذ عهد الإسلام الأول حتى اليوم ، إلا بصفةِ التجزئة التي شملت أغلب جوانب السيرة مفرّقة .
فالسيرة والشمائل المحمديّة محفوظةٌ إِذَنْ ، وإن لم تتجه كتب المتخصصين فيها إلى منهج المحدِّثين بصفةٍ دقيقةٍ منذ البداية .
على أنّ كتابتهم للسيرة والشمائل النبوية جاءت حاملةً - في أغلب الأحوال بالنسبة للمتقدمين خاصة - للسمات القابلة لتطبيق منهج المحدِّثين في التثبت ، وأهم تلك السمات الرواية بالسند ، الأمر الذي جَعَل مادة تلك المؤلفات قابلة للنقد والتمحيص وفق منهج المحدِّثين .(1/7)
لقد ظل هذا الاتجاه المتثبت وفق منهج المحدثين في تلقي السيرة والشمائل النبوية دعواتٍ وأمنيات يُفصِحُ عنها المخلِصون طوال هذا التاريخ ما بين فترةٍ وأُخرى ، والمحاولاتُ تَتْرَى ما بين مصيبٍ ومخطئ في الاتجاه ، ولم يتحقق الأمل المرجوّ بَعْدُ .
ومما يَلْفت النظر أنه على الرغم من وضوح الواجب ومُضِيّ هذا الزمن الطويل ، لا يزال بعض الناس - بل بعض المتخصصين في السيرة النبوية والتاريخ اليوم - يمترون في وجوب هذا الواجب ، بل في صحته وسلامة الاتجاه إليه !!
إن أُولئك المعارضين لتطبيق منهج المحدثين يُعارِضون ، غالباً ، في شيءٍ لم يَعْرفوه! .
ووافق أولئك أو لم يوفِقوا ، فإننا والمسلمون بعامة في ارتقاب ظهور أعمالٍ علميةٍ تجمَعُ السيرة والشمائل النبوية ، بقدر الإمكان . أمّا أن يكون ذلك بصورةٍ كاملة وافيةٍ فليس في الإمكان ، وذلك نظراً لطبيعة هذا الموضوع ، ولخضوعه لجانب الفقه لدى مَن يكتب السيرة ومَن يتلقّاها ، ولكن الأساس العامّ الذي يفي بأغلب الموضوع هو المطلوب . والله حافظٌ دينه ، والحمد لله رب العالمين(1) .
__________
(1) عَلّق أحد الإخوة الفضلاء على النتيجة التي خلصتُ إليها بأنها غير صحيحة ، ففيها تعميم لا أساس له ، أليس من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عاداته التي لم نُتعبد بها كالنوم والأكل والشرب وقضاء الحاجة وكونه ركب حماراً أو لبس عمامة أو شرب اللبن وأكل اللحم ، هل جميع هذه الأمور محفوظة بحفظ الله!!؟ ألم ينكر الصحابة على عبد الله بن عمر تتبعه مواضع نزول وارتحال ومكان النوم والبول للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إن أخرجت هذه من سيرته فبأي دليل؟ أفدنا ، وإن أبقيتها فما الدليل على أننا متعبدون بها ؟" .
والجواب هو : إن هذه الأمور هي مِن سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، سواء لَزِم الاقتداء به فيها ، أو لم يَلزم شرعاً؛ ولاشك في أنها مِن السيرة؛ وذلك للتلازم بين الرسالة والرسول ، ولهذا كان وضوح سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهمّاً للرسالة ووضوحِها ، وكان حفْظ سيرته جزءاً مِن حِفْظ الرسالة-بغضّ النظر عن كون ذلك الأمر مِن الأمور الجِبِلِّيّة ، أو مِن الأمور الشرعية؛ لأن القاعدة هي : إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - موضِع القدوة والأُسوة ، ويُستثنَى مِن ذلك ما دلّ الدليل على إخراجه مِن هذه القاعدة ، كبعض الأمور الجِبِلِّيّة ، والأمور الخاصة التي هي مِن الخصائص النبوية . وأمّا إنكار مَن أنكر على عبد الله بن عمر فهو في قضية الفهم : هل هذا من مَواَطِن الأسوة في الرسول ، أو هو مِن الأمور الجِبِلِّية العاديّة ، لا الشرعية؛ فهو ، إِذَنْ ، خلافٌ في مدى إدراج ذلك في السيرة ، لا خِلافاً في مبدأ التثبت ، كما ترى؛ ولهذا فليس كلُّ أمْرٍ مِن السيرة يُسْتنبَط منه سُنّةٌ .(1/8)
الدعوة إلى الأخذ بمنهج المحدّثين مع تسامحٍ يَخْرجُ به عن معناه ، وسأتحدث عنه في فرعين :
الفرع الأول : عَرْض هذا الاتجاه :
يقول الدكتور أكرم العُمَري : (( لقد قمت بتدريس السيرة النبوية عشرين سنة في كلية الآداب بجامعة بغداد أولاً ثم في الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وقد دونت محاضراتي لطلبة الجامعتين ، ونقحتها مراراً ، ونشرت بعض الموضوعات منها(1) . على أمل أن أعيد النظر فيها لإعدادها للنشر كاملة ، ثم واتتني الفرصة لإعادة كتابة قسم السيرة منها بعد أن أشرفت على رسائل العديد من طلبة الدراسات العليا لمرحلتي الماجستير والدكتوراه في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وقد وجهت تلك الرسائل إلى نقد مرويات السيرة النبوية وتحكيم مناهج النقد عند المحدثين فيها . فكانت محاولة ضخمة طبقت فيها تلك القواعد على سائر الروايات التي أوردتها كتبُ الحديث والتاريخ والتراجم والأدب عن السيرة ، وتقع هذه الرسائل في أكثر من ستة آلاف صفحة (فولسكاب) ، وقد استغرق تنفيذ هذا المشروع أكثر من عشر سنوات (1976-1988م) ، ويعتبر أعظم إنجاز في توثيق مرويات السيرة النبوية رغم ما يكتنف التجارب الأُولى من قصور في العادة(2) ،
__________
(1) عَلّق د. العُمري على هذا بقوله : (( منها ( أول دستور أعلنه الإسلام ) - دراسة في كتابه - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار واليهود في المدينة- نشر في مجلة كلية الإمام الأعظم سنة 1972هـ .
و ( أهل الصفة ) نشر في مجلة الدراسات الإسلامية 1968م .
و ( موسى بن عقبة ، أحد رواد المغازي الأوائل ) نشر في مجلة كلية الدراسات الإسلامية 1967م .
و ( نظرة في مصادر السيرة النبوية ) نشر في مجلة كلية الدراسات الإسلامية ببغداد 1970م )) ، صحيح السيرة ، 1/23 ، الحاشية .
(2) قال د. أكرم العُمري عن هذه الدراسات : (( نوقش من هذه الرسائل ما يلي :
1- مرويات غزوة بني المصطلق ( رسالة ماجستير ) ، للدكتور إبراهيم القريبي ، أعدها بإشرافي ، ونشرها المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .
2- مرويات غزوة حنين وفتح الطائف ( أطروحة دكتوراه ) ، أعدها بإشرافي الدكتور إبراهيم القريبي ، ويقوم المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بنشرها حالياً .
3- مرويات غزوة أحد ( رسالة ماجستير ) ، أعدها بإشرافي الدكتور حسين الباكري .
4- مرويات فتح مكة ( رسالة ماجستير ) ، أعدها بإشرافي محسن الدوم - رحمه الله - . ... ... =
= 5- مرويات السيرة في العهد المكي إلى نهاية حادث الإسراء والمعراج (رسالة ماجستير) ، أعدها بإشرافي عادل عبد الغفور .
6- أمهات المؤمنين ( أطروحة دكتوراه ) ، أعدها بإشرافي الدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف .
7- مغازي موسى بن عقبة ( رسالة ماجستير ) ، أعدها محمد باقشيش بإشرافي .
8- مرويات تاريخ يهود المدينة ( رسالة ماجستير ) ، أعدها الدكتور أكرم حسين علي بإشرافي .
9- السرايا والبعوث في عصر السيرة النبوية ( رسالة ماجستير ) ، يعدها بريك محمد بإشرافي .
10- مرويات صلح الحديبية ، ( رسالة ماجستير ) ، أعدها الدكتور حافظ محمد الحكمي ، بإشراف الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد .
11- مرويات غزوة بدر ، ( رسالة ماجستير ) ، أعدها الدكتور أحمد العليمي ، بإشراف الدكتور السيد الحكيم .
12- مرويات غزوة خيبر ، (رسالة ماجستير) ، أعدها الدكتور عوض الشهري ، بإشراف الدكتور السيد الحكيم .
13- أحاديث الهجرة ، (رسالة ماجستير) ، أعدها الدكتور سليمان السعود ، بإشراف الدكتور السيد الحكيم .
14- مرويات غزوة تبوك ، (رسالة ماجستير) ، أعدها عبد القادر السندي ، بإشراف الدكتور محمد خليل هراس ، بجامعة أم القرى بمكة المكرمة .
15- السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إسحاق في العهد المكي ( أطروحة دكتوراه ) ، أعدها الدكتور سليمان العودة ، بإشراف الدكتور عبد الله بن يوسف الشبل ، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .
16- مرويات غزوة الخندق ، أعدها الدكتور إبراهيم محمد عمير ، بإشراف الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد )) . صحيح السيرة ، 1/23-24 ، الحاشية .(1/9)
وأملي كبير في أن يتمكن الباحثون من تطوير هذا الإنجاز والإفادة منه ليتم إعادة تحليل السيرة وعرضها من جوانبها المختلفة بالاعتماد على الروايات الموثقة ووفق التصور الإسلامي الصحيح للأحداث والدوافع والسمات .
لقد أغنت هذه الرسائل الجامعية تجربتي في كتابة السيرة ، ومكنتني من الاستقراء الشامل من جديد لسائر مرويات السيرة مع الموازنة بينها والتأمل فيها خلال عشر سنوات انصرمت . ومازال العديد من الرسائل يكتب في السيرة بإشرافي .
وإنني آمل أن يفيد المعنيون بكتابة السيرة النبوية من هذه الرسائل الجامعية في تقديم دراسات تحليلية نافعة ، وهو الجانب الذي مازال بحاجة إلى عناية كبيرة من قبل الكتاب المتمرسين ، وأصحاب الأقلام الراسخين ، والمفكرين الناضجين ، وذلك خدمة للسيرة النبوية ، وتعميقاً للمعاني السامية التي تحتاجها الأجيال الصاعدة بدرجة لا تقل عن الضرورات من وسائل المعيشة التي تسعى تكنولوجيا العصر إلى تهيئتها للإنسان ؛ إذ إنما يمتاز الإنسان بروحه وعقله وهما ينموان بالمعاني التي تغذيهما كما يغذي الطعام الجسد ، وإلا فإن إنسان الغد سيتحول إلى جسد بلا روح .
إن التخلف في مستوى النتاج الفكري الإسلامي لن يؤدي إلا إلى رضاع الأجيال من لبان العقول الغربية التي تشبعت عبر قرون طويلة بجفاف المادية القاتلة ، والبُعد عن الله تعالى ، والتمرد على القيم الروحية ، والانقياد للفكر الوضعي الحائر . وإن ما صارت إليه المجتمعات الغربية المعاصرة من أخطار اجتماعية وخلقية هو نتاج الشجرة المسمومة التي غذتها الأفكار العلمانية فلابُدَّ أن يسعى مفكرونا لتجنيب أجيالنا أن تمر في نفس الأطوار الاجتماعية التي مرت بها أوروبا ... وخير سلاح أن ترضع الأجيال المعاصرة من لبان الإسلام وفكره ؛ فهو خير سبيل للوقاية من أخطار المادية القاتلة .(1/10)
وأملي كبير في نقد هذه التجربة وتقويمها من قبل العلماء المدققين والباحثين المعنيين بدراسات السيرة والتاريخ الإسلامي ، للإفادة من آرائهم في هذا الشأن ؛ إذ مازلنا في أول الطريق نحو تطبيق منهج المحدثين في نقد الروايات التاريخية في القرون الأولى ، وهو أمر عسير يحتاج إلى استيعاب دقيق لمصطلح الحديث ، ومرونة في التعامل وفقه مع الرواية التاريخية ))(1) .
بعد هذا النقل عن د. العُمري ، الموضِّح لفكرته ، وهدفها ، وجهوده المشكورة في هذا المجال ، أُشيرُ إلى أنّ ما اتّبَعَهُ العُمري من منهجٍ في كتابة السيرة النبوية الصحيحة ، ودعا إليه طلاّبه ؛ منهجٌ مقدَّرٌ ، ولكن لي عليه بعض الملاحظات المنهجيّة ، أرى بموجبها أنه قد أخطأ منهج المحدّثين مِن حيث أراد الدعوة إليه - جزاه الله خيراً - .
يقول د .أكرم - بعد أن عقد عنواناً نصُّه : (( ضرورة المرونة في تطبيق قواعد المحدّثين في نطاق التاريخ الإسلاميّ العامّ )) - :
(( لا شك أن اشتراط الصحة الحديثية في كل رواية تاريخية نريد قبولها فيه تعسف ؛ لأن ما تنطبق عليه هذه الشروط لا يكفي لتغطية العصور المختلفة للتاريخ الإسلامي ، مما يولد فجوات في تاريخنا ، وإذا قارنّا ذلك بتواريخ العالم فإنها كثيراً ما تعتمد على روايات مفردة أو مؤرخين مجهولين ، بالإضافة إلى ذلك فهي مليئة بالفجوات . لذلك يكفي في الفترات اللاحقة التوثق من عدالة المؤرخ وضبطه لقبول ما يسجله مع استخدام قواعد النقد الحديثي في الترجيح عند التعارض بين المؤرخين .
إن اشتراط الأمانة والثقة والدين في المؤرخ ضروري لقبول شهادته على الرجال والأمم ، وتقويم دورهم التاريخي .
__________
(1) السيرة النبوية الصحيحة : 1/23-25 .(1/11)
إن مراحل التاريخ الإسلامي كلها بحاجة إلى إعادة تقويمها من وجهة النظر الإسلامية ، وقد تبين مدى تغير الصورة التاريخية لفترةٍ ما من تاريخنا عندما يتناولها بالبحث كتّاب مسلمون منصفون ، كما حَدَثَ في إعادة تقويم الدولة العثمانية وفتْح ملفها من جديد ، ويبدو لي أن التغير الذي سيحدث في تصورنا للتاريخ الأمويّ والعباسيّ وما بعدهما من حلقات حتى تاريخنا المعاصر سيكون كبيراً جداً وسيكشف عن مدى الزيف والتحريف الذي أصاب تاريخنا ...
ولا يسعني إلا أن أدعو المؤرخين المسلمين إلى تقديم دراسات مفصلة تكشف عن ملامح التفسير الإسلامي للتاريخ ، وعن أبعاد المنهج النقدي الذي تُعامل وَفْقه روايات التاريخ الإسلامي ، كما وأحذّر شبابنا من الاعتماد في فهم أحداث التاريخ الإسلامي وتصور عظماء رجاله على روايات تسوقها كتب التاريخ والأخبار دون تمحيص ، مما يعطي صوراً مشوهة لأحداث التاريخ الإسلامي لتأثُّرِ الإخباريين الذين اعتمدهم الطبري وغيره من المؤرخين بالأهواء المختلفة ، والاتجاهات المذهبية والسياسات المتباينة ، التي طبعت رواياتهم عن عصر الراشدين وما بعده من عصور الأُمويين والعباسيين ، وأنه لابد من محاولة جادة لإعادة صياغة التاريخ الإسلامي بأقلام إسلامية تؤمن بالله وبرسوله وتحس بدور الإسلام وأثره في تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا ))(1) .
وقال د .أكرم العُمري بعد أن أورد مصادر السيرة النبوية ، وهي في الواقع فيها المُعْتدّ به في الجملة ، وفيها غير المُعْتدِّ به ، وفي كلا النوعين ما يصحُّ وما لا يصحُّ من الروايات - :
((
__________
(1) السيرة النبوية الصحيحة : 1/45-46 ، وهو كذلك في ( المجتمع المدني في عهد النبوّة ) للعُمري : 30-31 .(1/12)
هذا أهم ما وصل إلينا من مصادر السيرة ، وهي كما ذكرت تلي - من حيث الدقة - القرآن الكريم والحديث الشريف ، ولكن هذا لا يعني أن كل ما أوردتْه كتب السيرة له نفس القيمة من حيث الصحة ، بل ولا يُشترط أن يكون كله صحيحاً ، بل فيه الصحيح والضعيف ، وينبغي عند دراسة السيرة الاعتماد على الصحيح أولاً ثم استكمال الصورة بما هو حسن أو مقارب للحسن ، ولا يُلْجأ إلى الضعيف فيما له أثر في العقائد أو التشريع ، ولا بأس من الأخذ به -عندما لا نجد غيره من الروايات القوية - فيما سوى ذلك من أخبارٍ تتعلق بالحث على مكارم الأخلاق أو وصفٍ لعمران أو صناعات أو زروع ، أو ما شاكل ذلك .
وهذا المنهج اتبعه أهل الحديث أنفسهم ، قال عبد الرحمن بن مهدي (ت197هـ) : (( إذا روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحلال والحرام والأحكام شدّدنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال ، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال ))(1) .
(( إن السيرة بحاجة إلى تمحيص أسانيدها ومتونها تبعاً لقواعد المحدثين في نقد الحديث ، ومما يعين على ذلك أن سائر مصادر السيرة المهمة قد أوردت الروايات تتقدمها الأسانيد ، وأن معظم رواة السيرة من المحدِّثين الذين ترجمتْ لهم كتب الرجال وأوضحت حالهم وبينت ما قيل فيهم من جرح وتعديل ))(2) .
الفرع الثاني : النقد والتعليق على هذا الاتجاه :
سأورد فيما يلي المقاطع من كلام د. العُمري التي هي موضع التعليق ، ثم أُعلِّق على المقطع بما فيه من النظر :
1- قوله : (( لا شك أن اشتراط الصحة الحديثية في كل رواية تاريخية نريد قبولها فيه تعسف )) .
__________
(1) فتح المغيث ، للسخاوي :1/284 .
(2) السيرة النبوية الصحيحة ، للعمري : 1/69-70 ، وهو كذلك في ( المجتمع المدني في عهد النبوّة ) : 50 .(1/13)
يقال فيه : هذا حُكْمٌ يحتاج إلى دليل . ثم ما معنى الدعوة إلى الأخذ بمنهج المحدثين في نقْد الروايات إلى جانب هذا الحكم أو هذه الدعوى ، ثم بعد هذا لماذا يكون على عنوان الكتاب : (( محاولةٌ لتطبيق قواعد المحدّثين في نقد الروايات التاريخية )) . إنّ هذه مسألةٌ كبيرة في المنهج تحتاج إلى إصلاح ، ومنهج العمل ، في كثيرٍ مِن الأحيان ، يكون أهم مِن العمل؛ إذْ به يُقْبَل ، وبه يُرَدُّ! .
2- قوله : (( لأن ما تنطبق عليه هذه الشروط لا يكفي لتغطية العصور المختلفة للتاريخ الإسلامي ، مما يولِّد فجوات في تاريخنا )) .
يقال فيه : هذا هو الدليل على ذلك الرأي الذي أصدره د. العمري - وفقه الله تعالى - على مسألة الاعتراض على تطبيق منهج المحدثين ، كما هو؟ وهو أمرٌ - كما هو واضح - لا يصح أن يكون سبباً ، أو دليلاً ، للمصير إلى إسقاط منهج المحدثين في نقد الروايات في التاريخ ، ولا سيّما تاريخ النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - .
ثم متى كانت الحاجة دليلاً صحيحاً لإثباتِ أن الرواية صحيحةٌ(1) ؟!
__________
(1) عَلّق أحد الإخوة الفضلاء على تعليقي على كلام العمري فقال : (( نقدك للدكتور العمري مجانب للصواب لأمرين : الأول : إن منهج العمل عنده هو محاولة واجتهاد ، ثم هي قواعد وليست منهجاً ولا يلزم أن تكون القاعدة منهجاً إلا إذا كانت مطردة ولم يشذ منها شيء والواقع خلاف ذلك فلكثرة الشذوذ والاستثناءات سماها العلماء (قواعد) ، لا منهجاً .
والأمر الثاني : إن كلمة الحاجة لم ترد في كلام العمري الذي نقلته عنه البتة ، فأنت ألزمته بما لا يلزم وقوّلته ما لم يقله )) .
والجواب عن هذا هو : المحاولة والاجتهاد لا يمنعان مِن الاستدراك والتصويب ، ومِن المعلوم أن الرأي يُخطِئ ويُصيب . أما التفريق بين القواعد والمنهج فلست على هذا الرأي؛ وذلك أن الذي أراه هو أن القاعدة تُمَثِّل جانباً مِن المنهج ، ولو كان لها شواذ ، وما يقال في القاعدة في هذا يقال في المنهج ، إذ قد يكون للمنهج شواذّ ، وليست العبرة بالألفاظ ، وإنما بالمعاني . والمقصود بالقاعدة وبالمنهج : ما يَلْتزمه الإنسان في هذا الباب ، أو في أمْرٍ ما . أما أن لفظة الحاجة لم تَرِد في كلام العمري فَنَعَم ، لكنه قالها معنىً ، حيث قال : (( ولا بأس من الأخذ به- أي بالضعيف -عندما لا نجد غيره من الروايات القوية ....)) . على أنه بقراءة كلام العمري بعد هذه الملحوظة ظهر لي أن كلامه ليس على إطلاقه ، وإنما قيّده بأن يكون الأخذ بالضعيف في تلك المجالات التي ذكرها قبْل وبعد هذا الكلام ، وأنا لا أُخالف في هذا الرأي ، ولكن على أن يكون في صورةِ قاعدةٍ مُطّردة ، لا في صورة قاعدة مصلحيّة؛ فنأخذ به في ظرفٍ مِن ظروف الحاجة ، ونَرُدّه حينما نستغني عنه! .(1/14)
3- قوله : (( وإذا قارنّا ذلك بتواريخ العالم فإنها كثيراً ما تعتمد على روايات مفردة أو مؤرخين مجهولين ، بالإضافة إلى ذلك فهي مليئة بالفجوات )) .
يقال فيه : لا بأس أن نقارن ، ولكن بشرط أن لا تكون المقارنة لقياس تاريخنا على تاريخ العالم ، أو قياس منهج كتابة تاريخنا على مناهج كتابة تواريخ العالم .
4- قوله : (( لذلك يكفي في الفترات اللاحقة التوثق من عدالة المؤرخ وضبطه لقبول ما يسجله )) .
يقال فيه : هذا التعليل نتيجةٌ للمقارنة السابقة التي أشرت إلى مغبّتها ، فلا يَصِحُّ هذا التعليل . ثم كيف تكفي عدالةُ المؤرخ وضبطه لقبول ما يسجله؟! هذه قضيّةٌ كبيرةٌ في المنهج ، وقد عَبّرَ عنها د .العمري أكثرَ مِن مرّة في حديثه عن مصادر السيرة ، وحديثه عن منهج كتابة السيرة؛ فاتّجهَ إليها منهجه ، وهي منطلَقٌ غير سديدٍ في حكمِ منهج المحدثين؛ إذْ في حكمِ منهجهم لا تُغني عدالة المؤرخ ولا توثيق الكتاب بصفةٍ عامّةٍ عن توثيق الراوي وتوثيق الرواية ، وشتّان بين هذا وهذا ، والخلطُ بين الأمرين خروجٌ عن منهج المحدثين ، واختلالٌ في منهج التثبت - إن بقيتْ بقيّةٌ للتثبت بعدَ هذا - !
5- قوله : (( مع استخدام قواعد النقد الحديثي في الترجيح عند التعارض بين المؤرخين )) .
يقال فيه : المصير - بعد هذا التخفف من شروط المحدثين - إلى الدعوة إلى استخدام منهجهم في الترجيح عند التعارض بين المؤرخين ، يكاد يُساوي إلغاء العمل بمنهجهم ، بل إنّ الأمر كذلك ؛ لأن منهج المحدثين الذي ابتكروه - بناءً على أصولٍ شرعيّة - لم يبتكروه لينحصر العمل به في هذه المساحة الضيقة .
6- قوله : (( إن اشتراط الأمانة والثقة والدين في المؤرخ ضروري لقبول شهادته على الرجال و الأمم )) .
يقال فيه : لو كان هذا يكفي ، لوجب قبول كل ما أورده الإمام الطبري في تاريخه - مثلاً - أو ما أورده ابن كثير في تاريخه ؛ لأنهما إمامان في أعلى درجات الثقة .(1/15)
ولو كان الأمر كذلك لما كان في هذه الفكرة التي يدعو إليها د. العمري جديدٌ ، لأن معناها - والحالة هذه - إبقاء ما كان على ما كان مِن الروايات التي تَتَابعُ عليها هذه المصادر التاريخية .
ثم إنَّ ذِكْر المؤرخ لأمرٍ ما في تاريخه ، ليس شهادةً دائماً ، وإنما هو - في أغلب الأحوال - روايةٌ . والرواية تختلف عن الشهادة ، لا بل إن المؤرخ في الغالب يَنقل روايةَ غيره ، لا روايته هو ؛ لأنه ليس بوسعه أن يَحْضُرَ كلَّ الوقائع وكلَّ ما يُخْبِرُ عنه ... إلى آخر ما هنالك من الأسباب .
وهذه الكتب بالرغم من ثقة كاتبيها فإنها تحتوي ما يصح وما لا يصح ، ومعلوم أن أهل التاريخ ينقل بعضهم عن بعض .
وقد يقول قائل : نكتفي بشهادة المؤرخ الذي يشترط الصحة فيما ينقله .
قلنا : إِذَنْ رجعنا إلى نقطة الخلاف ، بل وضيقنا على أنفسنا ، بأن جعلنا حكم هذا المؤرخ على الأخبار هو المعتمد دون غيره .
ثم معلوم أن الرواية يَتجوّز فيها الناس -غالباً- بخلاف الشهادة . ولو كان ما يكتبه المؤرخ في كتابه شهادةً لما ترددنا في قبول شهادة الإمام الطبري وأمثاله . ولكن يبدو لي أن د . العمري -وفقه الله-قد لا يكون أراد بهذه العبارة حقيقةَ معناها ، لأنه ربما استخدم التعبير الأدبي ، فإن كان الأمر كذلك فإنه ينبغي ، في مقام التأصيل العلمي ، أن يتحاشى الإنسان التعبير الأدبي حينما يكون على حساب التأصيل العلمي . والله الموفق .
وبهذا يتبين أنّ المؤرخ :
- إذا روى بالسند فهو ناقلٌ ، والعهدة على غيره .
- وإذا أَخبر فهو ناقلُ الخبر ، والعهدة عليه .
- وإذا حَلّل الخبر والواقعة فهو محلِّل ، لا مُخْبِر ، ولا ناقل ، وفرْق بين الخبر وتحليل الخبر ، وأنه إنما يكون شاهداً حينما يكون مُخْبِراً . والواجب التفريق بين هذه المهامِّ في كتاباتنا ؛ وأن لا نَخْلِط الأمور .
7- قوله : (( وتقويم دورهم التاريخي )) .(1/16)
يقال فيه : التقويم أمرٌ آخر غير أمرِ الرواية ، وينبغي عدم الخلْط بين الأمرين ، والكلام هنا - في أصله - كلامٌ عن مسألة الرواية . أمّا مسألة التقويم فإنها ليست هي العمل الأساس الذي عُنيتْ به كتب التاريخ ، وإنما الذي تصدّت له هو الرواية التاريخية ، ونقْلُ أخبار الأمم والرجال وحوادث التاريخ . هذا على الرغم مِن أهمّيةِ كلٍّ مِن الرواية والتقويم ، لكن ، الكلام هنا عن التمييز بينهما بصورةٍ جليّة ، لا تَقبل الخلط والغموض .
8- قوله : (( إن مراحل التاريخ الإسلامي كلها بحاجة إلى إعادة تقويمها من وجهة النظر الإسلامية )) .
يقال فيه : إنّ هذا العموم في هذه الدعوة لا يَخصُّ باب الرواية في مجال التاريخ الإسلامي ؛ لأن التقويم إما أن يكون تقويم الروايات ، أو تقويم الآراء؛ فهذا العموم في الدعوة إلى إعادةِ تقويمِ مراحل التاريخ الإسلامي كلها من وجْهة النظر الإسلامية قد ينصرف أكثر ما ينصرف إلى تفسير التاريخ وفهمه ، وربما كان هذا هو مقصود د .العمري-بدليل المواضع الأخرى المشابهة التي أشرتُ إليها في كلامه - . فإن كان ذلك كذلك فهو خلطٌ بين أمورٍ لا يَصِحُّ أن يُخْلط بينها ، ولا سيما في مثل هذه البحوث العلميّة ، وخاصةً في هذا المجال المتعلق برواية تاريخ حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
9- قوله : (( ولا يسعني إلا أن أدعو المؤرخين المسلمين إلى تقديم دراسات مفصلة تكشف عن ملامح التفسير الإسلامي للتاريخ ، وعن أبعاد المنهج النقدي الذي تُعامل وَفْقه روايات التاريخ الإسلامي ، كما وأحذّر شبابنا من الاعتماد في فهم أحداث التاريخ الإسلامي وتصور عظماء رجاله على روايات تسوقها كتب التاريخ والأخبار دون تمحيص )) .(1/17)
يقال فيه : هذا التحذير مِن فهم أحداث التاريخ الإسلامي بحسب ما تسوقه كتب التاريخ والأخبار دون تمحيص ، أمرٌ جيّدٌ ، ولكننا بحاجةٍ إلى إرساء البحث على قواعد المحدِّثين كما هي ، وإقناع المتخصصين في التاريخ بهذا أوّلاً ؛ فنكون قد أتينا الأمر مِن بابه ، وإلا لم نصنع شيئاً كبيراً . ثم إنّ هذه الدعوة إلى التمحيص تكون دعوةً ضائعةً حينما تأتي وَفْق اجتهادٍ في معيار المحدِّثين في نقْد الروايات وتَصَرُّفٍ فيه يَخْرج به عن معناه ووظيفته! .
ولست أدري ما هذا المنهج الذي ينبغي أن تُمَحّص في ضوئه الروايات ، إنْ لم يكن هو منهج المحدِّثين! .
10- قوله : (( هذا أهم ما وصل إلينا من مصادر السيرة ، وهي كما ذكرت تلي من حيث الدقة القرآن الكريم والحديث الشريف ... )) .
يقال فيه : هذا ليس مُسَلَّماً به ، وليس صحيحاً قطعاً .
وأين كتب التاريخ ونحوها من القرآن كلام الله تعالى ، المحفوظ بحفظ الله تعالى؟!
وأين منهجُ النقل هذا مِن منهج النقل ذاك؟!
وأين غير الصحيح ، أو الذي لا يُعْلم صحيحه من سقيمه ، من الذي عُلِمتْ صحته قطعاً؟!
ولست أدري كيف أَدَّى الرأي بالدكتور العمري - أثابه الله تعالى - إلى القول بهذا القول العجيب .
إنني أُقَدّرُ عمله ونيَّته ، وأدعو له بالقبول لهذا العمل عند الله تعالى - لا عند الناس فحسبُ - ولكن هذا شيءٌ ، وصوابُ الخطوة وتسديدها شيءٌ آخر ؛ وذلك لخطورة المنهج ؛ لكونه له ما بعده فيما يتعلق بسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشمائله ، وقضيّة واجبنا تجاه حِفْظ هذا الدين .
وقوله بعد هذا : (( ولكن هذا لا يعني أن كل ما أوردتْه كتب السيرة له نفس القيمة من حيث الصحة ، بل ولا يُشترط أن يكون كله صحيحاً ، بل فيه الصحيح والضعيف )) .
يقال فيه : وهذا مِن أهمّ الفوارق بين كتاب الله تعالى ، الذي سوّيتَ بينه وبينها في صفة الاحتجاج ، وكذلك بالنسبة للثابت مِن روايات الحديث! .(1/18)
وكيف يستقيم أن نسوِّيَ بين المصدر الذي فيه ثابتُ الروايات فقط ، بل الثابت قطعاً ، وبين المصدر المشتمل على ما يصحّ وما لا يصِحّ؟! .
11- قوله : (( وينبغي عند دراسة السيرة الاعتماد على الصحيح أولاً ثم استكمال الصورة بما هو حسن )) .
يقال فيه : الصحيح والحسن في منهج المحدثين كلاهما في درجةِ واحدة من حيث الاحتجاج ووجوب العمل ؛ فلماذا هذا التفريق بينهما ؟!
ولسنا في حاجةٍ إلى الموازنة بين الصحيح والحسن إلا في حالةٍ واحدةٍ ، وهي حال التعارض بينهما ، وهي حال لا يُلْجأُ فيها مباشرةً إلى إسقاط القويّ بالأقوى ، بل ينظر ؛ فإن تبيّن أنه تعارضٌ مِن وجْهٍ ما لجأنا إلى الجمع؛ لأن الغالب أن القاعدة في هذا كالقاعدة في حال التعارض - في الظاهر بين حديثين صحيحين ، أو بين آيةٍ وحديث . والقاعدة أنه لا تَعارُضَ في الحقيقة بين نصوص الدِّين .
12- قوله : (( أو مقارب للحسن )) .
يقال فيه : ما قارب الحسن عندهم هو مِن قبيل الضعيف ، ولا يَصْلح للاحتجاج به ؛ فكيف ترفعه إلى درجة المحتجّ به! ليس هذا منهج المحدِّثين . ثمّ ما ضابطُ هذه المقارَبة ؟
ولا يَنْقض هذا ما قلتُهُ في حكْم ما جاء مِن روايات السيرة بغير سندٍ؛ لأننا اشترطنا هناك شروطاً نتحاشى بها مَغَبَّة ما لم يَثبت مِن الروايات ، كما يَقضه ما ذكرتُهُ في حكْم الحديث الضعيف ، وهو أنه إذا كان ضعفاً محتَمَلاً فإنه قابلٌ للاستئناس به ، والاستشهاد به . . .
13- قوله : (( ولا يُلْجأ إلى الضعيف فيما له أثر في العقائد أو التشريع )) .
يقال فيه : بل المنهج الصحيح يقضي بأن لا يُلْجأُ إلى الضعيف مطلقاً ، على ما هو الراجح مِن منهج المحدثين في ذلك .
- على أنّ مِن المآخذ على إطلاق هذا القول هو مسألة التعميم في هذا الحكم ، وعدم تحديد الضعيف ما هو؟! على الرغم مِن أنّ الضعيف عند المحدثين درجاتٌ ، وليس درجةً واحدةً ، ويَختلف حكمه عندهم تبعاً لذلك .(1/19)
- ومِن المآخذ على هذا القول عَدَمُ صحة هذين القيدين المذكورَيْنِ للأخذ بالحديث الضعيف بقوله : (( ولا يُلْجأُ إلى الضعيف فيما له أثرٌ في العقائد أو التشريع )) .
وذلك لأن السيرة ، كلُّ ما فيها متعلِّقٌ بتطبيق أحكام الشريعة وتبليغها؛ فلا مكان فيها لهذا الشرط ، وسيرة النبي ، - صلى الله عليه وسلم - ، وشمائله إنما هي تعبيرٌ عن إيمانه ، وعقيدته ، وأخلاقه .
14- قوله : (( ولا بأس من الأخذ به - أي الضعيف - عندما لا نجد غيره من الروايات القوية - فيما سوى ذلك من أخبارٍ تتعلق بالحث على مكارم الأخلاق أو وصفٍ لعمران أو صناعات أو زروع ، أو ما شاكل ذلك )) .
يقال فيه : كيف يكون الخبرُ إذا وجدنا غيره يكون حراماً ، وإذا لم نَجِد غيره يُصْبح حلالاً ؟! ، أو يكون صحيحاً ، وإلا فيُصْبح غير صحيح ؟!
إنّ الدليل إما أن يكون صحيحاً في ذاته ، أو غير صحيح . أمّا أن يكون مرّةً صحيحاً ومرّةً غير صحيح وهو هو شيءٌ واحدٌ ، فلا . والحاجة ليست مقياساً للصحة وعدمها ، وينبغي أن يكون سيرنا على المنهج ، لا على ظروف الحاجة وعدمها! .
على أنّ في وجود الحاجة هذه في الغالب نظراً ، بعد شمول البحث لمختلف مصادر السيرة واستيعابها ، مما قد أَشرتُ إليه في موضعه من هذا البحث ، ولاسيما في موضوع : ( السيرة والشمائل في القرآن الكريم ) ، و ( السيرة والشمائل في الحديث ) .
15- قوله : (( وهذا المنهج اتَّبَعه أهل الحديث أنفسهم ، قال عبد الرحمن بن مهدي (ت197هـ) : (( إذا روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحلال والحرام والأحكام شدّدنا في الأسانيد وانتقدنا في الرجال ، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال )) .(1/20)
يقال فيه : إن هذا القول المنقول عن عبد الرحمن بن مهدي ، أو غيره ، قد حُمِل بهذا على معنىً ليس هو المراد به ، وذلك حيث حُمِل على أن المراد بالشدة والتساهل المذكورين ، شدةٌ تَخْرج بالموضوع عن منهج المحدِّثين ، وتساهلٌ يَخْرج بالموضوع عن منهج المحدِّثين كذلك !
وليس هذا هو المراد ، وإنما المراد به شدةٌ نسبيّةٌ ، لا تَخْرج عن المنهج ، وتساهلٌ نسبيٌّ كذلك ، لا يَخْرج عن المنهج .
وإذا لم يُفهَم هذا القول على وجهه-هذا-فإنّ معناه إلغاء منهج المحدِّثين! .
وهل يَصِحّ إلغاء منهجِ أُمّةٍ بكلمةٍ ، عُرِف وجْهها أو لم يُعْرَف؟!(1) .
16- قوله : (( إن السيرة بحاجة إلى تمحيص أسانيدها ومتونها تبعاً لقواعد المحدثين في نقد الحديث )) .
يقال فيه : هذا الكلام يُناقضه السابق في الصفحة نفسها ، وفي ما نقلته عنه من : 1/23-25 ، من السيرة الصحيحة ، كما هو واضحٌ من النقاط التي علّقتُها على النص السابق؛ فيصبح هذا الكلام-في نظري- لا مضمون له .
ومما سبق : يتبيّن لنا أن هذا المنهج في كتابة السيرة النبوية ليس هو المنهج المرتجى المنضبط بمنهج المحدِّثين ، وهذا بغضّ النظر عن الجهود الكبيرة المبذولة فيه ، والنافعة ولا شك ، ولكن هذه الجوانب الإيجابية ليست كافية ، قطعاً ، لجعْل هذا المنهج هو المنهج المطلوب لجمْع سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقديمها للناس صافيةً كما هي .
الحرص على التثبت من غير تحديدٍ دقيقٍ لمنهج المحدثين ، وسأتناول الحديث عن هذا الاتجاه في توطئةٍ ، وفرعين :
__________
(1) ويُنظَر النقاط الأُولى في التعليق على الاتجاه الخامس مِن اتجاهات تلقّي السيرة ، الآتي .(1/21)
كثيرةٌ هي المحاولات الرامية إلى كتابة السيرة والشمائل النبويّة بهدفِ التثبت فيها ، ولكن ، ليس كل تلك المحاولات أصابت الهدف ، بل منها ما أخطأَ الطريق - مِن حيث لا يُريد ذلك الخطأَ مَن تَوَجَّهَ له - ولا بأس ؛ إذْ ليست العِصمةُ شرطاً لكل مَن تَوَجَّهَ للعمل النبيل .
ومِن تلك المحاولات : هذا الاتجاه ، الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وهو ما كان الاتجاه فيه مُنْصَبّاً على توثيق المصدر ، بدلاً من توثيق الرواية . وهذا سبَبُهُ تلك الرغبة في التثبت مِن سيرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، لكن ، على غير إلمامٍ بمنهج المحدثين .
لقد دَعَتْ فكرة التثبت في تلقّي السيرة والشمائل النبوية بعضَ الخَيِّرِينَ إلى التنفيذ لها ، ولكن ، على غير منهجٍ متخصصٍ مُحَدَّدٍ وَفْقَ منهج المحدِّثين ، فساقَهم هذا إلى أن يختاروا التثبت في السيرة بناءً على الرجوع إلى المصادر المعتَمَدة ، في نظرهم ، ظنّاً منهم بأنّ هناك مصادرَ معتَمدة في السيرة ، شاملة لها ، وأن الأخذ مِن هذه المصادر يَكفي في التثبت ! وليس الأمر كذلك ، كما سيتضح مِن الملاحظات على هذا الاتجاه ، الآتية بعد قليل .
ومِن هذه الدراسات ما قام به د. مهدي رزق الله أحمد ، في كتابه : ( السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية دراسة تحليلية"(1) .
وفيما يلي حديثٌ عن هذا الاتجاه - مُمَثَّلاً في هذه الدراسة التي كُتِبتْ وَفْقَه - في فرعين :
الفرع الأول : بَيْنَ يَدَي النقد والتعليق :
__________
(1) الرياض ، مركز الملك فيصل ، ط الأولى 1412هـ -1992م .(1/22)
كتاب : ( السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية دراسة تحليلية ) ، واحدٌ مما رأيته من هذه الكتب المتّجِهةِ إلى التثبت في السيرة ، وبعد مطالعةِ منهجه ، الموضَّح في بدايته ، تَبَدَّتْ لي بعض الملاحظات المنهجيّة على منهجه ، وبدا لي أنّ مِن المهمّ بيانها هنا في مَعْرضِ النظر في مناهج المؤلفات في السيرة؛ كي يكتمل الحديث عن مختلف المناهج الشائعة في الناس اليوم؛ وكي تستبين الطريق .
هذا مع شكرنا لكل رغبة في الخير ، ولكل خطوةٍ تتلمس الطريق الصحيح للوصول إلى الخير . ولكن هذا شيء ، وتسديد الطريق شيء آخر .
نسأل الله التوفيق والسداد لنا ولكل عاملِ مخلص .
وجهد المؤلف والناشر مشكور ومقدّر ، والله - عز وجل - يجزي الجميع خير الجزاء .
والحقُّ أنّ الإنسان ، وهو يَعْرِضُ لهذه الجهود في هذا الميدان المبارك ، كأنما يتحدّث عن نفسه ، أو إنما يتحدث عن نفسه؛ لأنه يتحدث عن جهد أخيه ، وإنما يَحْمله على هذا النقد والتقويم قَصْدُ النصيحة والتسديد وحِفْظِ الدين وسيرة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - ، حَفِظَنا الله وإياكم أيها المخلِصون ، الباحثون عن الحق والداعون إليه . ولا ضَيْرَ إنْ أخطأنا ، ولا ضَيْرَ إنْ نقدْنا الخطأَ؛ فنحن جميعاً ، إن شاء الله تعالى ، في هذا الطريق ، بين الأجر والأجرين ما سَلِمَتْ لنا النيّةُ وبَذَلْنا الوُسعَ . والله سميعٌ عليم .
الفرع الثاني : الملاحظات على هذا الاتجاه :
فيما يلي حديثٌ عن الملاحظات على هذا الاتجاه ، ممثَّلاً في الملاحظات على الكتاب المذكور آنفاً ، وذلك وَفْق العنصرين التاليين :
أوّلاً : الملاحظات على العنوان :(1/23)
عنوان الكتاب ، هو : ( السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ....) ، عليه مؤاخذات ، ومن ذلك أن هناك فرقاً - في منهج نقد الروايات ومنهج التثبت - بين أصالة المصْدر وبين ثبوت الرواية ، أو بين توثيق المصدر وتوثيق الرواية . فأصالة المصدر وتوثيقه ليس مِن لازمه صحة كل رواية تَرِدُ فيه؛ فإن الكتاب الموثوق قد تَرِدُ فيه روايةٌ ما لا تصح ، والكتاب غير الموثوق - في الجملة - لا يعني بالضرورة عدم صحة أي رواية يوردها ، فقد تأتي روايةٌ صحيحة في مصدر غير موثوق أو غير أصيل .
إننا في حاجةٍ إلى نقْدِ الرواية أو الروايات الواردة في المصْدر ، كما أننا في حاجةٍ إلى نقْدِ المصْدر أيضاً .
وهذه سِمَةٌ تكاد تكون خاصة بكتب الرواية وَفْق منهج المحدثين ، أو هي غالبةٌ فيها .
والخلط في فهم هذه الحقيقة ، المقتضية التمييز بين توثيق المصدر وتوثيق الرواية ، فيما يتعلق بكتب الرواية ، يُعدُّ خلطاً في المنهج ، ينبني عليه خللٌ وخلطٌ في منهج تلقّي الروايات والمصادر ، تنقلب فيه الحقيقة ، وتصبح أمراً لا يُمْكن الوصول إليه بهذا المنهج بحالٍ من الأحوال .
ثانياً : الملاحظات على المنهج :
قال مؤلف الكتاب : (( وإذا لم أجد الصحيح ذكرت مرويات ضعيفة ، فيما لا يتعلق بالعقيدة والأحكام ، ونبهت على ذلك ، لأن بعض العلماء يجوّز رواية الحديث الضعيف فيما دون المسائل العقدية والأحكام الفقهية ))(1) .
هذا الكلام ، أو هذا المنهج ، عليه ثلاث مؤاخذات أساسية :
الأُولى : قوله : (( ذكرت مرويات ضعيفة )) دون تحديدٍ لنوع الضعيف هذا ودرجته : فإن الضعف درجات ، ومنه ما لا يَثْبت ولا ينجبر بحالٍ ، بخلاف الروايات الضعيفة ضعفاً محتملاً يَجْبره تعدد الطرق إذا جاءت على وجْهٍ يَصْلح جابراً لذلك الضعف .
__________
(1) ص :12 .(1/24)
الثانية : قوله : (( هو فيما لا يتعلق بالعقيدة والأحكام )) ؛ غير مقبول ؛ لأن الحقيقة أن هذا لا يُمْكِنُ تطبيقه في أغلب الأحوال ، وإنما هو مجرد كلامٍ نظريّ مخالف للواقع - أعني واقع السيرة والشمائل النبوية - ذلك أن روايات السيرة بالذات متعلقة أصلاً بالتشريع ، وقد قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } (1)؛ فكل شيء يَثْبت لنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو مجال للبحث فيه عن موطن الأُسوة والقدوة ، سواء كان في العقيدة أو في التشريع ، ولا نستطيع أن نَفْصل شيئاً من الروايات الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيدة والأحكام؛ لأن التلازم قائم بين الرسالة والرسول(2) .
__________
(1) الأحزاب : 21 .
(2) عَلَّق أحد الإخوة الفضلاء على هذا بقوله : (( اعتقادك بأن العمل بالحديث الضعيف فيما لا يتعلق بالعقيدة والأحكام مجرد كلام نظري ومخالف للواقع ، أيّ واقع تريد؟ وهل هو متفق عليه عند علماء السلف؟ إذا كان رأيك في هذا أنه كلام نظري أرى الواقع الذي تنشده واقعاً خيالياً حيث الواقع العلمي عند السلف والخلف يخالفه ، أليست الأحكام تتفاوت درجتها من حيث العمل والأجر والزمان والمكان ، فالكذب حرام مطلقاً فهل الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل الكذب على غيره؟ والنطق بالشهادة أليس أفضل الأعمال والصلاة المفروضة أوجب من غيرها؟ والسنن الرواتب أفضل من غيرها من السنن وهكذا" . وأنا أقول في هذا-مع دعائي له بالتوفيق والسداد - : مبدأ التثبت ثابتٌ في الدِّين ، وثابتٌ تأكيده عليه ، وليس في الإسلام أيّ دليل - فيما أعلم - يَدلُّ على أنّ الأحكام يُتَطَلّب فيها ثبوت الأدلة بحسب درجات الطلب الشرعي فيها؛ فالسنّة ثبت بأقل مما يَثْبت به الفرض! ..كلاّ ، بل الواجب التثبت مطلقاً؛ لأن الكلّ دِينٌ؛ ولا يَصِح أن يُنْسب إليه ما لم يَثبت بدليلٍ تقوم به الحجة الشرعية؛ ومعلوم أن السنّة لم يَثْبت أنها سنّة إلا بدليل يُخوِّل لنا نسبتها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ فالأصول والفروع مِن الأحكام الشرعية كلها في هذا الأمر على حدٍّ سواءٍ .
وإذا تَبَيَّن أن هذا التثبت في هذا المجال ، وفي سِواه ، مِن الدِّين فقد تَبَيَّن أن تَطَلُّبَه ، والدعوة إليه ، ليس أمراً خياليّاً .(1/25)
الثالثة : قوله : (( لأن بعض العلماء يجوّز )) ؛ فهذا استدلال مردود بعدّة أمور(1) :
- منها : الخلط الحاصل في فهْم المراد بهذا القول عند الأئمة القائلين به ، المنقول عنهم .
- ومنها : الحاجة إلى الترجيح بين الرأيين عند افتراض التعارض ، فما الذي يَفْعله مَن يَسلك هذا المنهج لِيَصِلَ إلى الترجيح بين القولين المتعارضين؟ .
- ومنها : ضرورة التمييز بين الضعيف المردود الذي لا ينجبر على كل حال ، والضعيف ضعفاً محتَمَلاً يُمكن أن يجبره تعدد الطرق بشروطه المعتدّ بها عند المحدّثين ، وليس هذا موضع تفصيل هذا القول .
قوله : (( وإذا قلت عن الرواية إنها معلقة أو بدون إسناد فهذا يعني أن هذه الرواية ضعيفة أو ضعيفة جداً ))(2) .
يتعين هنا التنبيه إلى أن منهج المحدّثين يفرّق بين الرواية المعلّقة في الصحيحين أو في أحدهما ، وبين المعلّقة في سواهما . فالأخيرة مردودة؛ لانقطاع السند . أما ما في الصحيحين أو أحدهما فمستثنى من هذا الحكم -على تفصيلٍ وتفريق بين المعلّق فيهما بصيغة الجزم والمعلّق بصيغة التمريض- وقرروا بأن المعلّق في الصحيحين بصيغة الجزم حديثٌ صحيح . وأما بصيغة التمريض فقد يكون صحيحاً وقد لا يكون صحيحاً .
والمقام لا يتسع لتفصيل حكم الحديث المعلق ، ( ويمكن الرجوع إليه في ( هدي الساري ) ، لابن حجر : الفصل الرابع )(3) .
قوله : (( رأيت أن يعتمد هذا الكتاب في معلوماته على أوثق المصادر وعلى رأسها كتاب الله تعالى ، ثم كتب التفسير والحديث والمغازي والسير ))(4) .
يقال عنه : وما الجديد في منهج الكتاب إِذَنْ؟! أليست هكذا هي كتب السيرة قَبْله ؟!
__________
(1) ويُنظر أيضاً النقطة قبل الأخيرة في التعليق على الاتجاه الثالث مِن اتجاهات تلقّي السيرة .
(2) ص :13 .
(3) وقد فصّل فيه القول ، وأوضح الحكمَ فيه على وجْه الإجمال والتفصيل .
(4) ص :13-14 .(1/26)
إن هذا الكلام فيه خلطٌ في تصوّر المصدر الموثوق . وقد أدى هذا الخلط إلى توثيق كتب التفسير مطلقاً ، بل عدّها في أوثق المصادر!! ومَنْ قال بأن كتب التفسير كلها موثوق؟!! ومَنْ مِن الأئمة قال بأن ما جاء في كتابٍ من كتب التفسير من الروايات فهو صحيح؟! .
وأدى هذا الخلط أيضاً إلى توثيق كتب المغازي والسير ، بل عدِّها في أوثق المصادر!! ومَنْ مِنَ الأئمة قال بأن كتب المغازي والسير كلها كذلك ؟! .
بل مَن قال بأن كتاباً واحداً منها كلُّ ما فيه صحيح ؟! .
ثم قد خفي على المؤلف - وفقه الله - التنبه إلى ما ذكرته من قَبْلُ من ضرورة التفريق - في منهج التثبت - بين توثيق المصدر وبين توثيق الرواية .
وإذا كان هذا هو منهج الكتاب ، أو أي كتاب في السيرة ، فإن ما بعده معروف؛ لأن المقدمة - في الاستدلال والمنهج - توصل إلى النتيجة وتُعَرِّف بها .
إن تحديد المنهج هو الأساس الذي ينبني عليه قبول العمل أو ردّه ، صحته أو عدم صحته ، في باب نقد الروايات وانتقائها وتمييز ما يُقْبَلُ منها وما يُردُّ ، وما بُنِي على قاعدة باطلة أو غير صحيحة فهو كذلك مثلها ، وأَعني المنهج ، أمّا الكتاب ففيه فوائد ، ولا شك ، ولكن ، الحديث هنا عن تقويم منهجه في توثيق الروايات .
إن منهج كتابة السيرة النبوية والشمائل النبوية ، ومنهج تلقّيها ، يجب أن يكونا مبنيين على منهج المحدّثين في نقْد الروايات .
وهذا يستلزم تخصّصَ الباحث أو الكاتب في معرفة منهج المحدّثين ، وتَخَصُّصَ مَن تؤخذ عنه السيرة النبوية في ذلك المنهج .(1/27)
وهذا يستلزم أيضاً معرفةَ المتخصص بمنهج المحدّثين معرفةً مُحَرَّرة يُميِّز فيها بين الآراء المتَّسِقة مع المنهج ، والآراء الشاذة ، والقواعد المعتَمَدَةِ في منهجهم ، والقواعد المعلومة الفساد عند جمهور المحدّثين ، ويستلزم كذلك أن يكتمل له الإلمام النظريّ بالمنهج ، والإلمام العمليّ التطبيقيّ ، المتَّسِقان مع أصول المنهج ، لا مع مجرّد الأقوال والآراء الفردية .
ويوم أن تُكتَب السيرة النبوية بهذا المنهج ، ويتوافر في الكتابة الركنان الأساسان لتلقّيها وفهمها ، وهما :
1- التثبت من صحة الرواية والنقل .
2- التثبت في فهم الرواية الصحيحة فهماً صحيحاً ، والتثبت في الاستنباطِ منها والاستدلالِ بها ، استنباطاً أو استدلالاً صحيحاً .
يوم أن تُكتب السيرة بهذا المنهج يتحقق لنا الأمل المفقود ، والهدف المنشود ، الواجبُ علينا نحن المسلمين السعي في تحقيقه تجاه سيرة أعظم شخصية عرفها التاريخ ، سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، صاحبِ أصح سيرة ، وأوضح سيرة ، وأعظم سيرة .
فهل نقوم بواجبنا تجاه السيرة النبوية ، ونخلِّصها مما أساء به إليها الناس من الزيادة والنقص ، والتشويه والتحريف -المسلمون وغير المسلمين ، والمحبون والمبغضون ، والمادحون والمنتقصون بالباطل على حدٍ سواء-مِن حيث يُريدون ، ومِن حيث لا يُريدون ؟! اللهم وفقنا لذلك .
الاتّجاه المُعْرِض عن منهج المحدّثين ، وسأتناول الحديث عنه في فرعين :
الفرع الأول : عرْضُ هذا الاتجاه :(1/28)
يقول الشيخ محمد الغزالي ، رحمه الله : (( قد يختلف علماء السنة في تصحيح حديث أو تضعيفه ، وقد يرى الشيخ ناصر(1) - بعد تمحيص للأسانيد - أن الحديث ضعيف ، وللرجل من رسوخ قدمه في السنّة ما يعطيه هذا الحق ، أو قد يكون الحديث ضعيفاً عند جمهرة المحدثين ، لكني أنا قد أنظر لمتن الحديث فأجد معناه متفقاً كل الاتفاق مع آية من كتاب الله ، أو أثر مِن سنّةٍ صحيحة فلا أرى حرجاً من روايته ، ولا أخشى ضيراً من كتابته .
إذ هو لم يأت بجديد في ميدان الأحكام والفضائل ، ولم يَزِدْ أن يكون شرحاً لما تقرر من قبل في الأصول المتيقنة .
خذ مثلاً أول حديث حكم الأستاذ بتضعيفه : ( أحبوا الله لما يَغْذُوكم به من نعمه ، وأحبوني بحب الله )(2) .
قد يرى الأستاذ المحدّث أن تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم لا تعويل عليهما في قبول هذا الحديث ، وله ذلك .
بَيْدَ أني لم أجدْ في المطالبة بحب الله ورسوله ما يَحْملني على التوقف فيه ولذلك أثبتُّه وأنا مطمئن(3) .
وفي الوقت الذي فسحت فيه مكاناً لهذا الأثر - على ما به - صددت عن إثبات رواية البخاري ومسلم مثلاً للطريقة التي تمّتْ بها غزوة بني المصطلق .
فإن رواية الصحيحين تُشْعر بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - باغت القوم وهم غارّون ما عُرضت عليهم دعوة الإسلام ، ولا بدا من جانبهم نكوص ، ولا عُرف من أحوالهم ما يُقلق !
وقتالٌ يبدؤه المسلمون على هذا النحو مستنكَر في منطق الإسلام ، مستَبعَد في سيرة رسوله .
ومن ثم رفضتُ الاقتناع بأن الحرب قامت وانتهت على هذا النحو .
__________
(1) يقصد الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، رحمه الله تعالى .
(2) البخاري ، 3789 ، المناقب ، وأخرجه غيره ، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي .
(3) وهل لا يوجد في حبّ الله ورسوله إلا هذا الحديث ؟!(1/29)
وسكنتْ نفسي إلى السياق الذي رواه ابن جرير . . .فهو - على ضعفه الذي كشفه الأستاذ الشيخ ناصر - يتفق مع قواعد الإسلام المتيقنة ، أنه لا عدوان إلا على الظالمين .
أما الغارّون الوادعون فإن اجتياحهم لا مساغ له .
وحديث الصحيحين في هذا لا موضع له إلا أن يكون وصفاً لمرحلة ثانية من القتال ، بأن يكون أخْذ القوم عن غرة جاء بعد ما وقعت الخصومة بينهم وبين المسلمين ، وأمسى كلا الفريقين يبيّت للآخر ، ويستعدّ للنيل منه .
فانتهز المسلمون فرصة من عدوهم -والحرب خدعة- وأمكنهم الغلب عليهم وهم غارّون .
وفي هذه الحالة لابد من التمهيد لرواية البخاري ومسلم ، بكلام يشبه ما نقله ابن جرير ووهنه فيه الشيخ ناصر .
ولست بدعاً في تلك الخطة التي اخترتها فإنّ أغلب العلماء جرى على مثلها في مواجهة الروايات الضعيفة والصحيحة على سواء .
وقرروا أن الحديث الضعيف يعمل به مادام ملتئماً مع الأصول العامة ، والقواعد الجامعة .
وهذه الأصول والقواعد مستفادة - بداهة - من الكتاب والسنة .
وعلى ضوء هذا النظر المنصف حكيتُ استشارة رسول الله عليه الصلاة والسلام للحباب في موقعة بدر - وإن وهّن المحدّثون سندها - لأنها تدور في نطاق الفضائل التي أمر بها الله ورسوله ، وليس في سَوْقها ما يُحذَرُ قط .
ذلك بالنسبة إلى الأحاديث الضعاف .
أما الصحاح فإنّ في تفاوت دلالتها مجالاً رحباً للترجيح والرد . كما يعلم أُستاذ الحديث .
وما من إمام فقيه إلا رد بعض ما صح ، إيثاراً لما ظهر أنه أصح .
ومعاذ الله أن نَشْغب على السنة ، فهي الأصل الثانى للإسلام يقيناً .
بَيدَ أني إذا اتبعت السنن فعرفتها أنها - في جملتها - تتفق مع القرآن الكريم في أنه لا حرب إلا بعد دعوة وَإعذار وتعريف مُشْرق لا تبقى معه شائبةُ غموضٍ ، فكيف أقبل ما يوهم غير هذا ؟(1/30)
الله جل شأنه يأمر نبيه في القرآن الكريم : { قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ } (1) .
بعد هذا الإعلام الذي يستوي في الإحاطة به الداعون والمدعوون ، وبعد أن سار الخلفاء في معاركهم على هذا النحو من توضيح للدعوة ، وإتاحة الفرصة للناس كي يقبلوا أو يرفضوا .
بعد هذا لا أرى أن يُلْزمني أحد بقبول ما رواه الشيخان (عن عبد الله بن عون ، قال : كتبت إلى نافع رحمه الله أسأله عن الدعاء قبل القتال . فكتب إليّ إنما كان ذلك في أول الإسلام(!) وقد أغار عليه الصلاة والسلام على بني المصطلق وهم غارّون ، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم ، وأصاب يومئذٍ جويرية . . قال : حدثني عبد الله بن عمر ، وكان في ذلك الجيش ) !!
وكما تجاوزت هذا الحديث ، تجاوزت عن مثله أن رسول - صلى الله عليه وسلم - خطب أصحابه وأعلمهم بالفتن وأصحابها إلى قيام الساعة(2) .
فقد صح من كتاب الله وسنة رسوله أنه - عليه الصلاة والسلام - لا يعلم الغيوب على هذا النحو المفصّل الشامل العجيب
آثرتُ هذا المنهج في كتابة السيرة ، فقبلت الأثر الذي يستقيم متنه مع ما صح من قواعد وأحكام ، وإن وهَى سنده ...
وأعرضت عن أحاديث أخرى توصف بالصحة لأنها -في فهمي لدين الله ، وسياسة الدعوة - لم تنسجم مع السياق العام ...
ولا أرى مكاناً لبسط وجهة نظري في أمور كثيرة خالفت فيها الأستاذ المحدث .
ولكني أرى المكان متسعاً لتسجيل تعقيباته كلها على ما أوردتُ من نصوص ، فإني عظيم الحفاوة بهذا الاستبحار العلمي ، وهو يمثل وجهة نظر محترَمة في تمحيص القضايا الدينية .
__________
(1) الأنبياء : 108-109
(2) قال هذا مع أن الحديث في البخاري ، 6604 ، ومسلم ، 2891 من حديث حذيفة - رضي الله عنه - .(1/31)
أعتقد أن من حق القارئ عليّ أن يعرف رأي أحد المحققين المتشددين في المرويات التي أحصيتها هنا ، سواء خالفته أم وافقته .
وشكَر الله له جهده في المحافظة على تراث النبوة ، وهدانا جميعاً إلى سواء السبيل ))(1) .
هذا هو الاتجاه الخامس مِن مناهج تَلَقِّي السيرة والشمائل النبوية ، كما شرحه الشيخ الغزالي الذي طبَّقّه في كتابه : ( فقه السيرة ) ؛ وهو واضحٌ ، فلا يحتاج إلى زيادة إيضاح . وسأعلّق عليه ، لبيان ما عليه مِن مآخذ ، في الأسطر التالية .
الفرع الثاني : النقدُ والتعليق على هذا الاتجاه :
سأسوقُ فيما يأتي مقاطعَ مِن النقل السابق عن الشيخ محمد الغزالي ، وأُعَلّق عليها بما أراه مِن ملاحظاتٍ على هذا الاتجاه في منهج تلقّي السيرة ، والله مِن وراء القصد ، هو حسبنا ونعم الوكيل :
- يقول الشيخ محمد الغزالي : (( قد يختلف علماء السنة في تصحيح حديث أو تضعيفه ، وقد يرى الشيخ ناصر - بعد تمحيص للأسانيد - أن الحديث ضعيف ، وللرجل من رسوخ قدمه في السنة ما يعطيه هذا الحق ، أو قد يكون الحديث ضعيفاً عند جمهرة المحدثين ، لكني أنا قد أنظر لمتن الحديث فأجد معناه متفقاً كل الاتفاق مع آية من كتاب الله ، أو أثر من سنة صحيحة فلا أرى حرجاً من روايته ، ولا أخشى ضيراً من كتابته )) .
يقال فيه : المفروض أن تتحرج من عَزْوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايته على أنه قاله؛ لأن نسبته إليه لم تثبت . أما من حيث المعنى فلك أن تقول كلاماً حتى من إنشائك ، لكن لا تَعْزه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وما أعجبَ هذا الذي يقول! إنّ هذا يؤكّد القناعة بأن صحة النية ، لا تُغني عن صحة المنهجِ ، وسلامةِ الطريق لتحقيق تلك النية الصحيحة في عالم الواقع ، بما يتفق مع صحة النية والغاية والقصد .
والمأخذ على قوله هذا هو الخلْط بين الرأي والرواية .
__________
(1) فقه السيرة ، لمحمد الغزالي ، 9-13 .(1/32)
إنّ الخلْط بين الرأي والرواية هو الذي يُوقِعُ في مثل هذه المقولة وفي مثل هذا الرأي ، إنّ هناك فرقاً بين أن يقول القائل : (( لا أرى حرجاً من روايته )) ، وبين أن يقول : لا أرى حرجاً من اعتقاده أو العمل به؛ إذْ يُشترط للمقولة الأولى صحة ذلك الكلام روايةً؛ ليزول الحرج من روايته ، ولا يُشترط للمقولة الأخرى صحة الرواية بها في ذلك الموضع ، وإنما يُشترط قيام الدليل على المضمون؛ وذلك للفرق بين أن يروي الإنسان الرواية ، وبين أن يعتقد معنىً من المعاني أو يَعْملَ به!
إنه عندما تختلط على الباحث هذه المعاني سوف يُخطئ الحق والصواب ولا شك ، وقد يَضلُّ ويُضلُّ ، من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر ، وما أكثرَ الناس اليوم الذين لا يُفرّقون بين هذه الوجهة وتلك ، نسأل الله تعالى التوفيق والسداد .
- قوله : (( . . إذ هو لم يأت بجديد في ميدان الأحكام والفضائل ، ولم يزد أن يكون شرحاً لما تقرر من قبل في الأصول المتيقنة .
خذ مثلاً أول حديث حكم الأستاذ بتضعيفه : ( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبوني بحب الله ) .
قد يرى الأستاذ المحدث أن تحسين الترمذيّ وتصحيح الحاكم لا تعويل عليهما في قبول هذا الحديث ، وله ذلك .
بَيْدَ أني لم أجد في المطالبة بحب الله ورسوله ما يَحْملني على التوقف فيه ولذلك أثبتُّه وأنا مطمئن )) .
وجوابه هو : مِن حيث المعنى لك ذلك ، كما هو الشأن في أيّ أمْرٍ ، إذا قام الدليل عليه عندك ، وينبغي أن تَطْمئن . لكن كلام المحدّثين إنما هو في مدى صحّة عَزْوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ! إنّ الخلط بين هذين الأَمْرَين هو الذي يُوقِعُ في الأَمَرَّين !
ولعل القارئ الكريم قد انكشف له ما في هذا القول من الغرابة والخروج عن منهج التثبت في الرواية - منهج المحدِّثين - وذلك من خلال ما أوردتُهُ عليه من مآخذ وما سأورده .(1/33)
- ومما يُنْتَقد من مفردات هذا القول الذي هو مَوضِعُ الدراسة : قوله : (( وفي الوقت الذي فسحت فيه مكاناً لهذا الأثر - على ما به - صددت عن إثبات رواية البخاري ومسلم مثلاً للطريقة التي تمّتْ بها غزوة بني المطلق )) .
وجوابه أن يقال له : قد أخطأتَ بهذا الردّ للحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطأً بيّناً؛ لأن الحديث إذا صحّ وجبَ قبوله .
وليس معنى قبوله أن نحْمِله على معنى غير صحيح .
ولا يصحُّ أن نتصوّر أن يأتي حديثٌ صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنىً باطلٍ ، ومن ظَنَّ ذلك فقد ظَنَّ بالله ورسوله ظّنَّ السوء ، هذا من جهةٍ ، ومن جهةٍ أخرى يكون بهذا الظن قد عكس الواقع يقيناً !
- وتعليله هذا الصنيع الخطأ - وإن كان اجتهاداً منه - بقوله : (( فإن رواية الصحيحين تُشْعر بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - باغت القوم وهم غارّون ما عُرضت عليهم دعوة الإسلام ، ولا بدا من جانبهم نكوص ، ولا عُرف من أحوالهم ما يُقلق !
وقتالٌ يبدؤه المسلمون على هذا النحو مستنكَر في منطق الإسلام ، مستَبعَد في سيرة رسوله )).
يقال فيه : بل رواية الحديث لا تُشْعر بذلك . ولكن وضْع الحديث الصحيح في غير موضعه الصحيح هو الذي يؤدي بفاعله إلى ردّ الحديث الصحيح! .
- قوله : (( ومن ثم رفضت الاقتناع بأن الحرب قامت وانتهت على هذا النحو )) .
هذا التعليل يُؤكِّدُ العلّة العليلة لهذا الرأي عند القائل به ، ويُوضِّحُ - بصورة ظاهرة - أنه إنما أوقَعَهُ في رَدِّ الحديث الصحيح سوء فهْمه له على غير وَجْهه؛ فتَوهَّمَ منه معنى باطلاً ؛ فردّه !
ويقال فيه أيضاً : ليس في الروايات هذا الذي تستنكره .
أرأيت كيف وقع في هذا الخطأ مرتين :
أُوْلاهما : غياب القاعدة السابقة عنه حين سَبَقَ إلى وهْمه أن الحديث الصحيح يُمْكن أن يَحْمل معنىً باطلاً !(1/34)
وثانيتهما : فهْمُهُ للحديث على ذلك الفهم المخطئ! وكِلا الأمرين مردود . أقول هذا بغضِّ النظر عن نيّة المتكلّم ؛ إذْ ليس من شرْط رَدِّ الخطأ والبراءة منه ، أو التنبيه عليه ، أن يكون الخطأ متعمَّداً ، بل الخطأ مردود لأنه خطأ ، وأمّا نيّات الناس فَنَكِلها إلى عالمِها والخبيرِ بها سبحانه ، والأصل حُسْنُ الظن بالمسلم حتى يَثْبُت غيره ، ولاسيما في مثل هذه المجالات العلمية والدعوية ، والله المستعان .
- إنّ قوله : (( فإن رواية الصحيحين تشعر بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - باغت القوم وهم غارّون ما عُرضت عليهم دعوة الإسلام ... )) الخ ، غير سديد ، ويقال له : - كما سبق - بل لا تُشْعِرُ بذلك . ولكن وضْعُ الحديث الصحيح في غير موضعه الصحيح ، أو على غير معناه الصحيح ، هو الذي يؤدي بفاعله إلى ردِّ الحديث الصحيح ! وليس في الرواية هذا الباطل الذي يَسْتنكره .
والواجب أن نُفرِّقَ بين فهْمنا للحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبين دلالته ومعناه ، إذْ فهْمنا يُمْكن أن يتطرّق إليه الخطأ والزلل ، وأما الحديث الصحيح فلا ، ولذا فإن من الواجب على المسلم أن يَجتهد في أنْ يَحْمي الأحاديث النبوية من سوء فهْمه هو ، وأنّ عليه -كلما استشكل حديثاً صحيحاً- أنْ يتّهم نفسه لا الحديث!
وكلُّ مَنْ عنده عقلٌ- فضلاً عن الدين - عَلِمَ أنه أَوْلى بالخطأ من رسول ربِّ العالمين - صلى الله عليه وسلم - !
كما يجب أن نفرّق بين معنى الحديث الصحيح وبين فهْم أحدِ رواته ، لأن القاعدة في هذا هي هي ؛ ومن هنا فنحن نُفرِّقُ بين رأيِ نافعٍ - راوي هذا الحديث عن عبد الله بن عمر - وبين روايته ؛ لأن رأيه قد يَرِدُ عليه الخطأ ، بخلاف الحديث ، وكذا الحال بالنسبة للصحابي راوي الحديث .(1/35)
ومما أوقع صاحب هذا المذهب في مذهبه عَدَمُ تفريقه بين رأي نافع - رحمه الله - أو عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وبين روايته ؛ ولهذا تراه يقول : (( وحديث الصحيحين في هذا لا موضع له . . .)) !!
- ويقول : (( بعد هذا لا أرى أن يلزمني أحد بقبول ما رواه الشيخان عن عبد الله بن عون ، قال : كتبت إلى نافع رحمه الله أسأله عن الدعاء قبل القتال(1) . فكتب إليّ إنما كان ذلك في أول الإسلام! . وقد أغار عليه الصلاة والسلام على بني المصطلق وهم غارّون ، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم ، وأصاب يومئذٍ جويرية . . قال : حدثني عبد الله بن عمر ، وكان في ذلك الجيش!! )) .
يقال فيه : هكذا يتوهّم الإنسان أوهاماً ثم يَرُدُّ على أوهامه !
إنه لا يصح لنا أن نردّ الحديث الثابت ، تَبَعاً لفهمٍ مخطئٍ سَبَقَ إليه ظنُّ راوٍ فاضلٍ غير معصوم من الخطأ - صحابياً أو تابعياً أو ممن دونهم - ولا مبرر لنا في ردّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عُذْرَ؛ لأنه لا يُتْرَكُ الحديث إلا لحديثٍ مثله ، كما أوْضحه الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى(2) ، وهذا مِن فوائد الأخذ بالقواعد المنهجية الصحيحة في فقه النصوص الشرعية ، ومِن فوائد التفريق بين الرأي والرواية ، سواءٌ في مبدأِ الأخذ بالحديث وتَلَقِّيه ، أو في منهجيّةِ فهْمه! .
- قوله : (( ولست بدعاً في تلك الخطة التي اخترتها فإنّ أغلب العلماء جرى على مثلها في مواجهة الروايات الضعيفة والصحيحة على سواء .
وقرروا أن الحديث الضعيف يعمل به مادام ملتئماً مع الأصول العامة ، والقواعد الجامعة .
وهذه الأصول والقواعد مستفادة - بداهة - من الكتاب والسنة )) .
__________
(1) أي دعوة الكفار إلى الإسلام قبل أن يُقاتَلوا .
(2) يُنظر : "اختلاف الحديث" ، للإمام محمد بن إدريس الشافعي ، ص59 .(1/36)
يقال فيه : بل بِدْعٌ . ومَنْ هم أغلب العلماء الذين جَرَوْا على هذا؟ هَلاّ ذكرتهم ؟! . الحقُّ أن الأئمة ، ومَنْ دونهم من المسلمين ، قد أجمعوا على التسليم لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعَدَمِ معارضته بمعارض . أما قضية الفهم ومنهجية الفهم فأمرٌ آخر .
- قوله : (( وعلى ضوء هذا النظر المنصف حكيتُ استشارة رسول الله عليه الصلاة والسلام للحباب في موقعة بدر - وإن وهّن المحدّثون سندها - لأنها تدور في نطاق الفضائل التي أمر بها الله ورسوله ، وليس في سَوْقها ما يُحذَرُ قط . ذلك بالنسبة إلى الأحاديث الضعاف )) .
يقال فيه : ولكن المسألة مسألة تاريخ ورواية ، وليست رأياً أو فضائل !
وهل كل فضيلة يصح أن ننسبها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغضّ النظر عن ثبوتها ؟! لقد كان بعض وضّاعي الحديث يستجيزون مثل هذا ، ويقولون : نكذب له ولا نكذب عليه!! .
- قوله : (( أما الصحاح فإنّ في تفاوت دلالتها مجالاً رحباً للترجيح والرد . كما يعلم أُستاذ الحديث )) .
يقال فيه : إنّ هذا خروجٌ عن نقطة الخلاف بيننا ، وهي : الإعراض عن الحديث الصحيح . أما مسألة فقه الحديث - بعد التسليم له إذا صحَّ - فهي مسألةٌ أخرى ، ولا حرج فيها إذا التزم المرء بالمنهجية السديدة فأخذ بما يؤدي إليه البحث والنظر . ولكنّ في قوله : (( للترجيح والردّ )) مغالطة؛ لأن ردّ الحديث الصحيح لا يَسُوغ بحالٍ ، وإنما النظر والترجيح يكون في باب الرواية؛ من حيث الثبوت وعدمه ، أو يكون النظر والترجيح من حيث الرأي والدلالة .
- قوله : (( وما من إمام فقيه إلا رد بعض ما صح ، إيثاراً لما ظهر أنه أصح )) .(1/37)
يقال فيه : مسألة الترجيح بين الأدلة أمرٌ سائغ ، إذا كانت بأدلة سليمة ، سواء أكانت في مقام ثبوت الرواية ، أي التصحيح والتضعيف ، أم في مقام دلالة الدليل وفقهه ، وهذا أمرٌ آخر غير ما يريد الشيخ الغزالي إثباته ، وهو تسويغ ترك الحديث الصحيح . والواجب الأخذ بكل ما ثبت ، بما في ذلك الصحيح والأصح معاً .
إنّ هناك فرقاً بين ردّ الحديث جملةً ، واتخاذ ذلك قاعدةً منهجية ، أو اتّخاذ قاعدة منهجية لذلك ، وبين الاجتهاد الشرعيّ السائغ الذي بمقتضاه يَحْكم المجتهد لبعض الأدلة على دليل آخر أو أدلةٍ؛ وذلك لظهور نسْخٍ له ، أو تقييدٍ ، أو تخصيصِ عامٍّ؛ فهذه نتيجةٌ تأتي ثمرةً لمنهجِ التسليم للأدلة الشرعية كلها ، لا ثمرةً للقبول والرفض .
- قوله : (( ومعاذ الله أن نَشْغب على السنة ، فهي الأصل الثاني للإسلام يقيناً )) .
يقال فيه : هذا الذي فعلته ، بهذا المسلك الذي انتهجته ، هو شَغَبٌ على السنَّة ، وإن لم تُرِدْه ، ولكنه في الواقع قد حَصَلَ . ومما أوقع الشيخ في هذا الأمر الخَطِير أسلوبه في التعبير وأسلوبه في بحث هذا الموضوع ، حيث يواجهه الحديث الصحيح الذي لا يستوعبه؛ فيتّجه إلى مناقشته والردّ عليه ، بدلاً من مناقشةِ فهمه هو للحديث الصحيح الذي لم يتوصل إلى معناه المراد به ، أو التثبتِ مِن فهْمِهِ له! .
- قوله : (( بَيدَ أني إذا اتبعت السنن فعرفتها أنها -في جملتها- تتفق مع القرآن الكريم في أنه لا حرب إلا بعد دعوة وَإعذار وتعريف مُشْرق لا تبقى معه شائبةُ غموضٍ ، فكيف أقبل ما يوهم غير هذا ؟ )) .
يقال فيه : الأقرب أن تتهم فهمك . وهذا التعارض إنما هو في تصور الشيخ ، لا في الرواية والأحكام الشرعية .(1/38)
- قوله : (( بعد هذا لا أرى أن يُلْزمني أحد بقبول ما رواه الشيخان (عن عبد الله بن عون ، قال : كتبت إلى نافع رحمه الله أسأله عن الدعاء قبل القتال . فكتب إليّ إنما كان ذلك في أول الإسلام(!) وقد أغار عليه الصلاة والسلام على بني المصطلق وهم غارّون ، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم ، وأصاب يومئذٍ جويرية . . قال : حدثني عبد الله بن عمر ، وكان في ذلك الجيش !! )) .
يقال فيه : إنما يذكر فهمه هو ، رحمه الله ، والمنهجية السديدة في فقه النصوص ، تقضي بالتفريق بين الرأي والرواية حينما تشتمل الرواية على رأيٍ ، للراوي أو لِسِواه .
- قوله : (( وكما تجاوزت هذا الحديث ، تجاوزت عن مثله أن رسول - صلى الله عليه وسلم - خطب أصحابه وأعلمهم بالفتن وأصحابها إلى قيام الساعة ...
فقد صح من كتاب الله وسنة رسوله أنه - عليه الصلاة والسلام - لا يعلم الغيوب على هذا النحو المفصّل الشامل العجيب )) .
يقال فيه : أمّا أنه صحيحٌ ، فنَعَمْ ؛ فقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما . وأمّا أن عقلك لا يستوعبه ، فنَعَمْ ، ولكن ، لا ينبغي أن يكون ذلك عذراً لك ، أو سبباً لردّ الحديث . على أنه ينبغي التفريق بين حالتين : حالة عدم قدرة العقل على إدراكِ أمْرٍ ما . وحالة إدراك العقل أن في أمرٍ ما خللاً . فالثانية لا يمكن أن تكون مع حديثٍ صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو مع آيةٍ مِن كتاب الله عز وجل .
- قوله : (( آثرتُ هذا المنهج في كتابة السيرة ، فقبلت الأثر الذي يستقيم متنه مع ما صح من قواعد وأحكام ، وإن وهَى سنده . .
وأعرضت عن أحاديث أخرى توصف بالصحة لأنها - في فهمي لدين الله ، وسياسة الدعوة - لم تنسجم مع السياق العام ... )) .
يقال فيه : هذه مسألةٌ يَدخل فيها المزاج أحياناً ، وقصورُ بعض الأفهام أحياناً ! - ما لم يَكن الحَكَم في تصحيح وتضعيف الروايات منهجاً منضبطاً ، كمنهج المحدِّثين - والله يتولاّنا بعونه وتوفيقه .(1/39)
وختاماً : يتبيّن ، من خلال هذا العرض ، والمناقشة ، لهذا المنهج في كتابة السيرة أنه منهجٌ غير سديد ، وأن معارضته لمنهج المحدِّثين لا تقوم على أدلةٍ صحيحةٍ أو قواعد ثابتة ، وهذا الحكم لا يُسْقِط الجهد المبذول كله ، ولا يَتَنَكَّرُ لمقاصد الشيخ الغزالي الحسنة مِن وراء ذلك الجهد ، والعواطف الإيمانية النابضة ، والتحليلات السديدة في مواطن متعددة من كتابه في السيرة ، وكلها جديرة بأن يُستفاد منها ، لكن ، مع الحذر مما انطوت عليه الدراسة من ذلك الخطأ في المنهج .
بعد هذا العرض والمناقشة للآراء والاتجاهات في منهج تلقي السيرة والشمائل النبوية ، لعلَّه قد اتضح من خلال ذلك ، ومن خلال نتيجة عرضِ كل اتجاه المنهج المطلوب لتلقي السيرة والشمائل
النبوية ، وأنه منهج المحدِّثين بيقينٍ ، وأنَّ أدلَّته هي الأدلَّة الراحجةُ ، والمحجة الواضحةُ ، وأنَّه هو منهج الطمأنينة والتثبت ، وهو الذي عليه نورُ الوحي الإلهي ، وشاهدُ العقل ، وما عداه من المناهج ليس له هذه الصفات ، وإنْ اشتمل على بعض ذلك .
نسأل الله التوفيق والسداد . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
-(1/40)